ِ
تباشير الإنجيل والتوراة بالإسلام
ورسوله محمد
صلى الله عليه وآله وسلم
" طرح حديث وبشارات جديدة هامّة"
.. سترى في هذا البحث الدلالة القاطعة
لبشارات الكتاب المقدس على الإسلام،
واستحالة تفسيرها بغيرذلك..
د. نصراللّه عبدالرحمن أبوطالب
الطبعة الثانية مصححة ومزيدة
بسم الله الرحمن الرحيم
هدف الكتاب
" ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون.."
المدثر آية 31
المحتويات
مقدمة التأليف 9
الفصل الأول: المقدمة
قضية الإيمان وأدلته 15
ثبوت التبشير والإستشهاد به على أهل الكتاب 17
تحريف الكتب 20
تعريف بالكتاب المقدس المعاصر 26
موجز للأحداث الرئيسية بالأرض المقدسة أو مسرح البشارات 28
خريطة لمناطق أحداث البشارات 58
مكانة الخلافة الإسلامية في التأريخ البشري 59
نحن أولى بأنبيائهم وصالحيهم منهم 60
الفصل الثاني: التبشير بمملكة الله القادمة
رؤيا نبوخذنصر بشارة بالإسلام من دانيال 63
الإصحاح السابع من كتاب دانيال بتمامه 69
المسيح عليه السلام يواصل التبشير بمملكة الله القادمه من بعده ولايدّعي لنفسه إقامتها: 91
الحجر الذي رفضه البناءون و مَثَل بستان العنب 95
مَثَلُ العمّال وأجرتهم 98
مَثَلُ اللذين أبوا الدعوة، فتحولت عنهم الى المساكين 103
" مثل المزارع " ومواقف الناس تجاه مملكة الله : 105
مثل الزرع الذي نما قويا 107
مثل الزؤان 107
أمثلة أخرى 109
بشارة الأسابيع السبعين أو النبوة بهدم الهيكل ثمّ مجيء البر الأبدي
وختم النبوة 110
رؤيا مخطوطات البحر الميت الآرامية أو النبوة بفترة البلاء
الشديد حتى قيام مملكة الله 125
الفصل الثالث : التبشير بمجيء وزمان ظهور المختارين
تبشير المسيح عليه السلام بمجيء المختارين ومملكة الله من بعده: 129
- التحذير من الأنبياء الكذبة 130
- وقوع العذاب الشديد الموعود 133(1/1)
كتاب إينوخ (إدريس) يحدّد زمن ظهور المختارين.. رؤيا الأسابيع.. 145
بشارة وصية لاوي بخاتم الأنبياء
خلط وتوضيح
هل المختارين إلا الجيل الأول من المسلمين
ملخص للبشارات الدالة على أن المختارين هم المسلمون ..
الفصل الرابع: التبشير بمجيء الأمّة الصالحة ..أو جيل الصالحون
جيل المؤمنين القادم بتسبيحة جديدة
الأرض المباركة سيرثها الصالحون
بشارة وراثة الأرض من مخطوطات البحر الميت ..
نصوص أخرى لتعليقات أصحاب المخطوطات على بشارة وراثة الأرض من المزامير
دخول الأمة الصالحة إلى القدس..
دخول مَلِكُ الأمة الصالحة مدينة القدس
شوق إلى الأمة الصالحة الوارثة
بشارة مجيء الخلاص والمسيّا من بعد دمار القدس .. من مخطوطات البحر الميت
تنبؤ أصحاب المخطوطات بمعلم الصلاح وبالمختار (المسيا) من بعده كان تبشيرا بيناً بمجيء عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام
ومن المخطوطات: إنتصار المؤمنين على الروم والأمر بفتح أبواب القدس لهم:
وبعد، فهل تكون مملكة الله التي بشر بها الأنبياء إلا الإسلام ودولته؟
شبهة عارضة
الفصل الخامس: الرسالة القادمة ستأتي من أبناء اسماعيل ومن مكة
أبناء إسماعيل عليه السلام وموطن الوحي القادم
أمة عظيمة قادمة من أبناء إسماعيل
ملحق ببشارة أبناء إسماعيل عليه السلام : من كان الذبيح ؟
موطن الرسالة القادمة: فاران ..
الرسالة القادمة منتظرة من منطقتي تيما وفاران
التبشير بالهجرة ومعركة بدر الكبرى
المدينة العاقر وأبناؤها ..
تفسيرُ بولس لبشارة إشعيا السابقة عن العاقر ..
الفصل السادس: النبي المصطفى المنتظر بعد عيسى عليه السلام
البشارة لموسى عليه السلام .. ( التثنية 18 : 15 – 2)
ملحق : أدعياء نبوة المصطفى
انتظار الناس للنبي
ليس عيسى عليه السلام المسيّا المنتظر.. 279
تعجب المؤمنين.. ( يوحنا 7 : 30 )
ليس عيسى عليه السلام المسيّا المنتظر ..(1/2)
ومن برنابا أيضاً : تأكيد آخر بأنّ عيسى عليه السلام ليس المسيّا المنتظر ..
( برنابا 42 : 4 – 12 )
لقب المسيا Masiah:
ومن مخطوطات البحر الميت : تباشير بالمسيا
ومن كتاب إينوخ.. تباشير بالمسيا "سيد ولد آدم" :
المختار ( المصطفى).. المزامير 2 : 1 – 5
بركليتوس القادم أو محمد عليه الصلاة والسلام ..
عبد الله المنتظر ..
بشارة داوود عليه السلام ..
الفصل السابع : الإستبدال
انتقال النبوّة من بيت يهوذا إلى المنتظر ..
صاحب الحكم ..
إشارة يحيى عليه السلام إلى الاستبدال ..
تعقيب من المخطوطات
خصائص أخرى للأمة القادمة
شعب جديد يختاره الله :
أمة جاهلة ستثير حسد اليهود:
أمة جديدة مختارة من بعد عقاب الأمة الملعونة:
المصطفون ( المختارون ) بآخر الزمان:
المنتظر قادم من الأمة الجاهلة:
مجد الله قادم من الشرق:
لغة جديدة للشعوب ضمن مملكة الله
مثال من خطاب الله تعالى بالعربية لبني إسرائيل
الفصل الثامن: تغيير القبلة وبيت الله الأخير ببكة
تحويل قبلة العبادة عن القدس ..
الأرض المقدسة ...
إنه ببكّة ..
مناقشة للفظ صهيون..
بيت الله القادم ( الأخير ) ..
وعد سابق ببيت الله الآمن:
حجّ للأمم حول بيت الله القادم .. إشعيا 60
يوم الفتح..
حجر الزاوية.." من آمن به لن يتزعزع"..
نسيان الأوليات.. وإبصار الأمم لنور التوحيد.. إشعيا 43
صفات أخرى للنبي
عبد الله.. إشعيا 42
نبي الختان.. رحمةً للعالمين.. ملاخي 3
أعظم الأنبياء.. لوقا 7 : 26 – 28
الفصل التاسع : بشارات أخرى
البشارة بالملك الصديق ( ملكي صديقي)
رؤيا المسيا من مخطوطات البحر الميت Messianic Apocalypse
قضية اختفاء أصحاب المخطوطات بظهور عيسى عليه السلام واختفاء النصارى الناصريين بظهور الإسلام
مشاهد أخرى من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم..
النبي الأميّ.. والحوار الأول عند تلقي الوحي..
الملك العادل المنتظر..
مشاهد من كتاب الرؤى:(1/3)
من حزقيال ما يدلّ على أن خاتم الأنبياء ليس من اليهود..
الفصل العاشر: ملاحق للبحث وفيها عدد من البشارات الإضافية الهامّة
الرأي البديل لدى النصارى
العلامات السبع لتمييز النبي الحقّ
مناقشة بقية الإصحاحات من كتاب دانيال
شواهد أخرى لثبات ذكر اسم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالإنجيل والتوراة
وماذا عن أخبار التوراة ببقاء الحكم والنبوة أبدياً لأبناء داود عليه السلام
بشارات إنجيل برنابا..
قضية الزيارة الربانية للأرض في آخر الزمان
التذكير بدور بولس ووجوب الإختيار بين البقاء في مدرسته أو العودة إلى مدرسة المسيح والأنبياء عليهم السلام
الخاتمة
مقدمة التأليف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المصطفى مِن خَلقِهِ وخاتم رسله، وعلى آله الأطهار، ورضي الله عن صحابته المصطَفين الذين أدوا الأمانة ونصحوا الأمة من بعده، أحمده عزّ وجلّ وأستعين به وأستغفره، وأستهديه صراط الذينَ أنعم عليهم من مؤمني هذه الأمة وممن قبلهم، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها..
وبعدُ، فقضية الإيمان هي الأساس في دعوة غير المؤمنين، بل ودعوة المؤمنين، وقد سبق إلى التنبيه إليها أهلُها من الدعاة الذين لا يعلمهم إلا الله عز وجل، وإن كنت لا أملك هنا إلا الإشارة إلى الجهود المعاصرة للشيخ عبد المجيد الزنداني في هذا الميدان، بما في ذلك مشروعه الطموح بإنشاء جامعة الإيمان، خدمة لقضايا الإيمان..
وتأتي قضية إثبات حدوث ووجود التبشير البيّن برسول الله صلى الله عليه وسلم من القضايا الهامة ضمن عرض أدلة الإيمان، بل إنّ لها أهمية خاصة في مجال دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام، بل إنّ مجالها وأبعادها لتتجاوز مجال الدعوة إلى غيره من دعم بعض قضايا المسلمين كإثبات أحقيتهم بفلسطين، وبوراثة الأنبياء من بعد بني إسرائيل وغيرها..(1/4)
ولم تردني فكرة تأليف هذا الكتاب إلا عام 1996م، فقد شجعني عليها أستاذي الدكتور إحسان حتحوت حفظه الله ورعاه، وذلك أثناء زيارتي لأمريكا ذلك الصيف، وتسجيلي لمحاضرة بالفيديو في موضوع البشارات بالإنجليزية.. لكنّ اهتمامي بجمع هذه المادة والحديث عنها يمتد منذ صيف عام 1983م، وذلك لما صحبتُ زملاء آخرين وسافرنا من الكويت إلى رواندا بصحبة أستاذنا الدكتور عبد الرحمن السميط كمساهمة محدودة ( لم أشارك للأسف في غيرها) مع جمعية مسلمي إفريقيا.. وطيلة فترة الأربعة عشر عاما ومع تكرار الحديث والمحاضرة في موضوع الكتاب تبلورت المادة وتمددت وصقلت، وما كان في تخطيطي الكتابة في موضوع البشارات، فلمّا شرعت بالكتابة منذ ثلاث سنوات اعتمدتُ على موادّ المحاضرات السابقة، واختلطت علي إضافاتي ولفتاتي التي استنتجها من مراجعة هذه البشارات مباشرة من الكتاب المقدس بلغتيه العربية والإنجليزية (1) مع تلك التي اقتبستها من الكتابات الإسلامية التي قرأتها في هذا الموضوع.. ولهذا قدّمت هذه المقدمة لأعتذر وأذكر استحالة سرد المصادر الإسلامية الأصيلة لهذه المادة.. فقد جمعت مؤلفات كثيرة للباحثين المسلمين القدامى والمعاصرين.. وعرضتها على النصوص المعاصرة للكتاب المقدس حيث لم يخلو ذلك العرض من جهد للتعرف على نصوص مختلفة الى حد كبير في متنها ومواقعها عن تلك التي استشهد بها أباؤنا الأوائل من نسخ الكتاب المقدس المعاصرة لهم.. ولخصت تلك البشارات منذ ما يزيد عن عشر سنوات في محاضرات (للإلقاء الشفوي فقط) بالعربية والإنجليزية تجاوزت المائتي شريحة عرض.. تلك هي كانت نواة هذا الكتاب.. ولم أرجع إلى غيرها من الكتب الإسلامية أثناء كتابة هذا الكتاب إلا فيما ندر..(1/5)
وقد اشتركت هذه الكتابات الإسلامية في معظم البشارات وجوانب التعليق عليها، مما يعني صعوبة تحديد المصدر الأصلي الذي لفتني أول مرة إلى وجود كل البشارة، ومع هذا فقد حرصت ما أمكن أن أذكر ما استطعت من مراجعي الإسلامية الأولى تلك التي قد افتقدت جزءا كبيرا منها عند تأليف هذا الكتاب.. ولا شك بأن أهم هذه الكتب على الإطلاق كان كتاب عبد الأحد داود (ديفد بنيامين سابقاً) رحمه الله، وكتابات الشيخ رفعت الطهطاوي والمهندس أحمد عبدالوهاب حفظهما الله.. وكتابات علماء الإسلام بالعصور السابقة كابن القيم والماوردي والطبري وغيرهم.. وسردتُ معظم ما كنت قد أطلعتُ عليه من مراجع ضمن سرد المراجع بخاتمة هذا الكتاب، أمّا ما أفادني من كتب ظهرت أخيراً أثناء التأليف فقد أوردت أسماءها عند الاستشهاد بشيء منها.. وقد ظلت نواة هذا البحث ومادته كلها بالإنجليزية حتى أربع سنوات مضت عندما طلب مني أستاذنا الفاضل الشيخ عبد المجيد الزنداني أثناء زيارة لليمن صيف عام 1997م أن ألقي محاضرة عن البشارات لطلاب جامعة الإيمان، وكنتُ قد أعطيته في أواخر الثمانينات وهو برابطة العالم الإسلامي تلخيصا للبشارات ليشجع الرابطة على الاهتمام بتطوير البحث به، فعند طلبه ذاك ترجمت خلال أسبوعين المادة من ما يزيد على مائتي شريحة عرض من الإنجليزية إلى العربية، وألقيت محاضرة، تمّ بعد ذلك توزيعها.. فأذكر ذلك للشيخ حفظه الله، إذ كانت تلك الترجمة هي ما نقلت هذا البحث إلى العربية وسمحت بإخراجه بالعربية على الأقل.. أذكر ذلك للشيخ واذكر له أنه - فيما أذكر- أنه كان أول من قرأتُ وسمعتُ له حديثا عن قضية البشارات..(1/6)
ويظلّ في هذا البحث هنا تجديد واسع في طريقة طرحه وسرده.. وكلّ ما أوردته من اقتباسات عن المخطوطات أو الكتب الدينية من غير الكتاب المقدس فهي جديدة على المكتبة الإسلامية، ويدخل في ذلك جميع إستشهادات مخطوطات البحر الميت والبشارات المأخوذة من الكتب المقدسة غير المعترف بقداستها حالياً، وقد كانت بالماضي مقدسة على الأقل عند بعض طوائف أهل الكتاب، بما في ذلك بشارة الأسابيع وبشارة وصية لاوي، فقد أخذتها من مصادرها الغربية مباشرة.. وأضفت كذلك مجموعة من البشارات الجديدة من الكتاب المقدس مباشرة أهمها بشارات السبعين أسبوعا، وبعض الأمثلة على مجيء مملكة الله، والحديث عن ظهور المختارين (2) وغيرها.. هذا إضافة إلى عدد لا يحصى من جوانب جديدة في تحليل وربط وشرح البشارات المعروفة سلفا لدى المسلمين.. وأرى أنّ قضية البشارات أصبحت حقاً ساطعاً لا يملك المخالفون ردّه ولا إنكاره.. ولم نعد نحتاج إلي أي تكلف في تأويل النصوص وتفسيرها، بل هو الخصم صار عليه أن يبحث عن مخرج لرد كل بشارة.. وسيجد القارئ هاهنا من البشارات ما لم يكن يتخيل وجوده، وما يكاد أن يقف له شعر رأسه (3)، وينتفض لوجوده كل أجزائه.. إنه الحق ساطعًا.. سيرى كيف تروي الآثار الباقية مما ينسب من كتب ورسائل إلى الأنبياء إدريس وموسى وداود واشعيا ودانيال وهوشع وزكريا ويحى وعيسى وغيرهم، سيرى القارئ كيف تبشر آثارهم هذه - بيّنةً ساطعةً- بالرسول صلى الله عليه وسلم.. وسيلمس القارئ - لهذا البحث - ويتبلور لديه فهم وحدة دين الله منذ عهد آدم ومرورا بأنبياء بني إسرائيل عليهم السلام حتى ظهور خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام..(1/7)
وقد أبعدتُ عن هذا البحث مجموعة مما استشهد به بعض علماؤنا المسلمين كبشارات، وذلك لعدم قناعتي بقوة حجتها.. بل رأيت دلالتها ضعيفة - وأحيانا غير صحيحة - ولا يصلح الاحتجاج بها.. وما أوردته من بشارات لهو أكثر بكثير عمّا نحتاجه لإقامة الحجة على غير المسلمين.. وبالمقابل فقد أوردت في هذا البحث عددا من البشارات الجديدة من كتب العهد القديم غير القانونية ككتاب اخنوخ وكتب الوصايا ( وصية لاوي) وكتاب اليوبيلات وكتاب عزرا الرابع وغيرها، ومن بعض الكتب غير القانونية المسيحية كانجيل كانجيل توماس وانجيل الطفولة، ومن مخطوطات البحر الميت.. رغم عدم اعتراف معظم أهل الكتاب المعاصرين بقدسية هذه الكتب.. فقد أوردتُها لقوة حجتها.. ولأنّها من تراثهم الذي لم يقع بين أيدي المسلمين حتى يمكنهم افتراض أن المسلمين قد بدّلوه، ويبدو مع ذلك لبعض أجزائه أصولا من تعاليم الأنبياء وتباشيرهم.. هذا إضافة إلى أن حذف هذه الكتب أو الإيمان بها من قبل النصارى بالذات لم يتم إلا على ما تهواه إحدى الجماعات النصرانية.. وحرصت في هذا المؤلف ما استطعت على طرح قضية البشارات ضمن إطارها الأعمّ في دعوة أهل الكتاب..(1/8)
وقد قسمت البحث بعد هذه المقدمة إلى فصول مترابطة.. فأولها مقدمة تتحدث عن موقع البشارات ضمن أدلة الإيمان، وعن تاريخ بني إسرائيل كتمهيد لدراسة البشارات المختلفة وفهمها، إضافة إلى التطرق إلى قضايا أخرى كثبوت تحريف الكتب، ثم يبدأ بعد ذلك في الفصل الثاني عرض البشارات بالحديث عن مجيء مملكة الله وتبشير الأنبياء بها، مع إثبات - مستشهدا بنقول وشروح لكتابات كتابية- أن مملكة الله التي بشر بها الأنبياء ما كانت إلا دولة الإسلام ومملكته، مع الإشارة إلى أن ظهورها كان في الزمن المتوقع لمملكة الله، ثم يأتي الحديث عن الأمة المختارة، والزمن المتوقع لظهورهم وظهور المصطفى، والتبشير به، ثم يعقب ذلك سرد للبشارات المتحدثة عن وراثة أرض فلسطين، والأمة الوارثة، وينتقل الاستعراض بعد ذلك إلى البشارات المتعلقة بأبناء إسماعيل والبشارات المتعلقة بظهور الوحي من موطن سكن إسماعيل، واستبدال بني إسرائيل بأمة هي بلا شك أمة الإسلام، وينتقل الحديث مرة أخرى إلى تلك البشارات المتعلقة برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وبالإسلام وببعض معالمه كالحج وتغيير القبلة وغيرها.. ويُختم هذا الكتاب بعدد من الأبحاث الهامة المتعلقة بقضايا البشارات.. بما في ذلك قضية إنجيل برنابا وبشاراته..(1/9)
وأختم هذه المقدمة بالتنبيه إلى أنّ هذا كتابُ دعوة لأهل الكتاب بالذات، أسهبت في بعض جوانبه، وسعيت لربطه بما يتصل بموضوعه من قضايا دعوة النصارى واليهود لعلّ الحق يتراءى لهم، فتسطع شمسه بعد ذلك في قلوبهم، وغاية هذا العرض في الواقع لا تعدوا قوله تعالى:”.. ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيماناً ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون" المدثر آية31.. إنّ فيه دعوة لغير المؤمنين ليؤمنوا، وفيه للمؤمنين قوة لإيمانهم وتثبيتا بإذن الله.. وأعتذر للقاريء الكريم لإضطراري لتكرار جوانب من الشرح والتعليق عند شرح البشارات، ولعل السبب في ذلك حرصي على الإبقاء على كل بشارة كوحدة متكاملة ما أمكن، ويشكل هذا الكتاب في الحقيقة مادة لعدد آخر من الأبحاث الهامة، بما في ذلك قضايا إثبات أحقيّة المسلمين بأرض فلسطين، وأن التوراة تشهد لهم بذلك، وهو - أي الكتاب- مادة لدعوة اليهود وغزوهم حضاريا وثقافيا، ومادة لاستعراض أحداث بني إسرائيل ليأخذ المسلمون العبرة منها، ومادة للدعوة إلي الإسلام بين المسلمين وغيرهم.(1/10)
وأودّ تنبيه القاريء الكريم أنّه على الرغم من أنّ هذا كتاب دعوة.. كُتب بلغة متدينة، إلا أنّ الطرح به طرح عقلاني، منطقي قائم على الحجة والبرهان.. وهو ما سيجده القاريء محور الطرح وأساس العرض خلال أبواب الكتاب المختلفة.. وينبغي هنا التنبيه بعدم قدسية مخطوطات البحر الميت وكثير من كتب أهل الكتاب، بل والتذكير بثبات التحريف البالغ الذي أتى على الكتاب المقدس، وما يلحق به من كتب ورسائل..وليس معنى الإستشهاد بالبشارات الموجودة بها هو الإيمان بكل مابها.. لكنّ ثبات التبشير بالإسلام ورسوله في هذه الكتابات يحمل دلالة واضحة على أصولها أو بعضها النبوية الربانية الصحيحة.. ونحن نستنكر هنا كذلك التفسير المادي الملحد لتأريخ بني إسرائيل.. ونُقِرُّ لبني إسرائيل بأنّهم كانوا المختارين المفضلين، وبأنّ ما أصابهم من كوارث إنما كان عقوبة إلهية على تقصيرهم وإساءاتهم..
وقبل الإنتهاء من هذه المقدمة ألفت نظر القاريء إلى أنّ التسلسل في قراءة هذا الكتاب بدءا من فصله الثاني عن مملكة الله، ثمّ الإنتقال إلى ما يليه من فصول سيساعد على إستيعاب الكتاب وفهم مواضيعه المرتبطة ببعضها.. وهو أجدى كثيرا من الإنتقاء في قراءته..
وأختم هذه المقدمة كذلك بشكر كل من ابني عبدالرحمن ووالدته لمساهمتهم القيمة في المراجعة النهائية لهذا الكتاب، كما أشكر أخي الدكتور عصام أحمد حسن لإرشاداته ودوره في إعداد هذه المادة للطباعة وتنسيقها... والله عز وجل أسأل ألا يحرمني ووالديّ من أجره وفضله.. فإني إلى نعمه بالدنيا والآخرة فقير.. وله تعالى من الشاكرين..
ربيع الثاني 1423هـ
مايو 2002 م
هوامش مقدمة التأليف
((1/11)
1) معظم نصوص الكتاب المقدس العربية مأخوذة من: الكتاب المقدس أي كتب العهد القديم والعهد الجديد، إصدار جمعيات الكتاب المقدس المتحدة، طبعة 1966م، وأخذ بعضها من الكتاب المقدس، طبعة دار المشرق الثالثة 1994، ومن الكتاب المقدس كتاب الحياة: ترجمة تفسيرية، الطبعة الرابعة 1992م.. وأخذت النصوص بالإنجليزية من:
Good News Bible by the United Bible Societies
Holy Bible: New International Version
Holy Bible Revised Standard Version, 1972
(2) اطلعت مؤخرا على عرض لقضية ظهور المختارين في مصدر أو مصدرين لا أذكرهما حاليا، ولم يكونا مصدرا لي فيما كتبت ها هنا.
(3) أخذت هذه العبارة من تعليق لأحد الكتاب الغربيين على بشارة بالمسيح عليه السلام بمخطوطات البحر الميت.
الفصل الأول
المُقدِّمة..
القضايا المناقشة بالمقدمة:
? قضية الإيمان وأدلته
? ثبوت التبشير والاستشهاد به على أهل الكتاب
? تحريف الكتب
? موجز للأحداث الرئيسية بالأرض المقدسة أو مسرح البشارات
? مكانة الخلافة الإسلامية في التأريخ البشري
? نحن أولى بأنبيائهم وصالحيهم منهم
قضية الإيمان وأدلته:(1/12)
لا يفيد للإيمان آية ولا دليل ولا حجة ولا بينة مهما وضحت أو سطعت بقوة دلالتها وعمق برهانها إلا أن يأذن الله عز وجل بالإيمان لمن ظهرت له الآيات وينشرح لها صدره ويرّق لها فؤاده.. ويذعن لها عقله.. ولن يعجز أي إنسان بما آتاه الله من قدرة على الجدال أن يجد لنفسه مخرجا ليرد به آية تهدد تعصبه أو هواه أو مصالحه وارتباطاته.. وقد ذكر الله عز وجل هؤلاء الذين حتى لو رأوا قطعا من السماء تهوي على رؤوسهم لقالوا إنما هي قطع سحاب مركوم.. ( ولو أنّنا نزلنا عليهم الملائكة وكلمهم الموتى ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله، ولكن أكثرهم يجهلون ) الأنعام آية 111، وقديما وجد الأولون في الريح دليلا ينتصرون به لدعواهم أن الأرض يحملها ثور، فهو يزفر عليها من حين لآخر.. صم بكم عمي فهم لا يهتدون..ويظنون أنفسهم مهتدين، وقد اهتدوا ولكن إلى الانتصار لأهوائهم والمحافظة على علائقهم..
وأدلة الأيمان! ما أكثرها؟.. ومَن يحصيها ! فإنها لا تُحصى.. ولو ذهبنا نحصيها لملأنا فعلا مجلدات ولا يوقفنا إلا جهلنا أو قلة صبرنا..ومع كثرتها، فما أقل المؤمنون!.."، وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين" يوسف آية 103.. وما أكثر العميّ !.. " وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون" يوسف 105..
وموضوع البشارات بالرسول صلى الله عليه وسلم لا يعدو أن يكون فصلا صغيرا من كتاب أدلة الإيمان.. ولا يسعني المجال هنا إلى تفصيل أدلة الإيمان ولا استعراضها، وإنما أذكّر القارئ ببعض عناوينها.. قبل أن نمضي في هذا الكتاب لنستعرض فصل البشارات..(1/13)
فما أكثر أدلة الإيمان بالله عز وجل.. فكل ما في الكون آية تدل على أنه الخالقُ.. ونشأة الكون من عدم قد أثبتها العلم المعاصر حين اكتشف اتساع الكون المطرّد.. وأثبت أنه اتسع في الواقع من لاشيء.. أو من العدم.. وهي آية.. وصنع الكون وإتقانه بعد ذلك وتدبير شئونه آية.. وإرادة الاختيار فيه آية.. وظواهر الإبداع والجمال والعناية والهداية والدقة آيات بينات.. والحياة آية.. والإنسان آية.. وصفات الخالق العليم الخبير الحي القيوم يقرأها كل لبيب أراد أن يقرأ آية الخلق من حوله.. والرسل بعد ذلك على الله آية..(1/14)
وأدلة الإيمان برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم لا تسعها مجلدات.. فدراسة سيرته وشخصيته ومواقفه تشهد أن كل هذه لا يمكن أن تكون إلا لصادق أمين ولنبي أمين.. كيف وقد بلغت أخلاقه القمة التي لم يصلها أحد, كيف وقد نزل عليه التأييد الرباني في كل مواقفه، وأثبت ذلك بالقرآن وصدقه المؤمنون فازدادوا له حبا وفداء, وصدقه الكفار وما كذبوه حين كانوا ما يزالون على كفرهم ثم آمنوا فكان إيمانهم بعد كفرهم تمام إقرارهم بصدق ما سجله القرآن من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم.. إن في ذلك لآيات لا تكاد أن تحصى .. كيف تعرض عليه الدنيا والملك وهو ما زال ضعيفا مطاردا لا أمل له بكسبها فيرفضها.. كيف ولما جاءته الدنيا والأموال التي لا تحصى ما احتفظ لنفسه بشيء منها بل وزعها وما أبقى لنفسه إلا الحجر يربط به بطنه عند الجوع.. حتى أهل بيته لم يصبروا وطلبوا التوسعة، وأثبت ذلك بالقرآن الكريم حين أُمر النبيّ بالقرآن أن يُخيّر نساءَه بين بيوت آبائهن أو الصبر معه فجاء قوله تعالى " يأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلا، وإن كنتنّ تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما".. وخيّرهنّ فاخترن جميعا الصبر معه على ضيق المعيشة، وقد كان قادرا أن يوسعها على نفسه وأهل بيته لو شاء.. ولولا أنها النبوة لقبل العرض بالدنيا وهو بمكة ضعيفا، ولتمتع بها أو بشيء منها حين جاءته الدنيا وهو الحكم والقائد لدولة الإسلام بالمدينة.. وفي ذلك آيات.. وفي أخلاقه آيات، وإلا فكيف يشدّه الأعرابي من رقبته حتى تحمّر، فلا يلتفت إليه إلا مبتسماً.. إنها ردة الفعل الأولى غير المتكلفة تأتي بابتسامة الحبّ لمخاصميه والشفقة عليهم.. اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.. وإن في القرآن لآيات كثيرة..(1/15)
في تحديه وفي إعجازه البلاغي والغيبي عن الماضي والمستقبل وفي إعجازه العلمي والتربوي والتشريعي آيات وآيات.. وكل منها كتاب.. وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم آيات كثيرة..في قوة بيانه على أميته صلى الله عليه وسلم.. وفي إعجازه الغيبي بالنبوات الكثيرة التي تحققت.. وفي إعجازه العلمي وإعجازه التشريعي وحكمته البالغة آيات بينات.. وفي معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم من غير القرآن وهي كثيرة وثابتة آيات بينات أخرى.. ومعجزاته من غير القرآن تظلّ أثبت توثيقا وتاريخا أثبتُ بكثير جدا مما ينسبه أهل الكتاب إلى أنبيائهم عليهم السلام من معجزات.. وفي هذا الدين جملة وتفصيلا آيات للموقنين.. وتأتي البشارات هنا آية أخرى ضمن أدلة الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم..
وآمن الذين آمنوا بآية كثيرا ما كانت واحدة.. فمنهم من عرف الرسول صلى الله عليه وسلم قديما أو حديثا فآمن به بتلك الآية.. ومنهم من قرأ القرآن فآمن لتلك الآية ( القرآن).. وكفر أكثر من كفر وقد عرضت عليه الآيات الكثيرة المتتالية فكان الأصم الأبكم الأعمى.. فأنى له أن يؤمن وهو لا يعقل ولا يعي، ولو عرض عليه ما عرض..!(1/16)
ولو فكر القارئ الكريم فيما بين يديه من بشارات برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم نستعرضها من الكتاب المقدس لأدرك أن واحدة منها فقط كافية لأن يؤمن عليها أهل الكتاب.. وقد آمن لمثلها منهم أناس كثيرون.. كيف وكتبهم المقدسة هذه بأيديهم يحرفونها كيفما يشأون بعيدا عن الإسلام الذي يكرهون.. ويظل بها رغما عن أنفسهم ورغما عن تحريفهم بشارات بينات برسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.. وهي لاتصل إلى أيدي المسلمين ولا إلى أقلامهم حتى يدخلوا فيها ذكرا لرسولهم أو دينهم.. سيجد القارئ نفسه أمام قدر عظيم ما كان ليخطر على باله أنه ما زال موجودا بالتوراة وأسفار الأنبياء والأناجيل.. وهي واضحة لا تحتاج إلى تكلف ولا تصحيف.. آية للذين يريدون أن يعبدوا الله بحقّ، على الحقّ الذي أراده هو عز وجلّ واختاره لعباده لا على الذي تهواه أنفسهم !
ألا فلا يستقل القارئ دلالة بشارة واحده.. إنّ الاحتمال الرياضي لمصادفة تحقق بشارة واحدة فقط في نبي الإسلام أو في غيره لضئيل جدا.. وكم قد مرّ على البشر من دعيٍّ للنبوة وما تحقق في أحد منهم شيء.. وكم مرت من أجيال من قبله ومن بعده.. فكيف إذا تحققت بشاراتان.. بل وثلاث.. بل وعشر.. بل وخمسون.. بل وأكثر.. إنّ الشك ينتهي ليحل مكانه اليقين.. كيف وقد جاء بعقيدة التوحيد والنور المبين الذي تحدث عنه الأنبياء وبالمعجزات، وأوتي النصر المبين وانتشر دينه في أنحاء الأرض، وثبت أن كل ما قاله وهو الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب ولم يُرى يحمل ورقة ولا قلما ( وأثبت ذلك في القرآن، وصدّقه الناس) ثبت أن كل ما قاله عن دينه وعن مستقبله وعن الأولين من قبله وعن ظواهر في الحياة ثبت أن ذلك كله حق تام.. إن حجة الله على الناس قد قامت فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر!
ثبوت التبشير والاستشهاد به على أهل الكتاب:(1/17)
تمّ في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام الاستشهاد على اليهود والنصارى بوجود التبشير برسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل وحُججوا بذلك، بل وجاءت الآيات القرآنية تشهد بتمام معرفتهم برسول الله محمد عليه الصلاة والسلام، وأن كفرهم به ما هو إلا غيرة وحسدا من عند أنفسهم، بل ونصت الآيات على أنهم - الذين سكنوا يثرب منهم- كانوا ينتظرونه ويتحدون العرب حولهم به، فلما جاءهم بما يتوقعون كفروا به، فقط لأنه لم يكن يهوديا.. وقد آمن منهم – من اليهود والنصارى – كثير في زمن الرسول ومن بعده، وشهدوا بأن التبشير به قد تمّ، وبأن علماؤهم قد عرفوه كما يعرفون أبناءهم.. ولولا ذلك لما آمنوا والقرآن ينص في مواضع كثيرة على معرفتهم التامة برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.. وكان بذلك إسلام اليهود والنصارى في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام ومن بعده دليلا قائما في حد ذاته على أن التبشير برسول الإسلام قد تمّ..
وكيف يمكن لرسول الله محمد عليه الصلاة والسلام أن يعلن أن التبشير به قد تمّ في كتبهم لولا أنّ ذلك حقّ.. ما كان ليتجرأ على هذا الإعلان الذي يمكن أن يُكذّّب فيه بسهولة من قبل كل اليهود والنصارى لولا أنّه من عند الله الذي يعلم أنّه الحقّ.. وتمّ إثبات كل هذا الإحتجاج على أهل الكتاب في آيات عديدة من الكتاب وأحاديث كثيرة من السنة وتأريخ الصحابة ومن بعدهم.. فمن الآيات القرآنية أورد ما يلي:
- “ ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فلعنة الله على الكافرين" البقرة 89(1/18)
- “ واكتب لنا في هذه الدنيا حسنةً وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون. الذين يتبعون الرسول النبي الأميّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون" الأعراف الآيات 156- 157
- وعن بعض قساوسة النصارى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: " وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين. وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا مع القوم الصالحين" المائدة 83-84.
- “ وإذ قال عيسى ابن مريم يابني إسرائيل إنّي رسول الله إليكم ومصدقا لما بين يديّ من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد" الصف الآية 6
- " وإنه لفي زبر الأولين. أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل" الشعراء 196-197.
- “ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين، فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون، أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون، قل آمنا بالله وما أُنزل إلينا وما أُنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون، ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين" آل عمران 81- 85
- " ويقول الذين كفروا لست مرسلاً، قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومَن عنده علم الكتاب" الرعد الآية43.(1/19)
- " قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين" الأحقاف 10.
وجاء في الأحاديث النبوية التصريح الكامل بحدوث التبشير برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أمثلة ذلك ما يلي:
جاء في مستدرك الحاكم عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك فقال: دعوة أبي إبراهيم و بشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاءت له بصرى من أرض الشام. وهو مما صححه الحاكم.
وجاء في صحيح ابن حبان: عن العرباض بن سارية الفزاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إني عند الله مكتوب بخاتم النبيين، وإنّ آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم بأول ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني أنه خرج منها نور أضاءت لها منه قصور الشام).
وجاء مثل ذلك في مستدرك الحاكم عن عرباض بن سارية رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إني عبد الله و خاتم النبيين و أبي منجدل في طينته و سأخبركم عن ذلك أنا دعوة أبي إبراهيم و بشارة عيسى و رؤيا أمي آمنة التي رأت و كذلك أمهات النبيين يرين و أن أم رسول الله صلى الله عليه و سلم رأت حين وضعته له نوراً أضاءت لها قصور الشام ثم تلا: " يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً و مبشراً و نذيراً . و داعياً إلى الله بإذنه و سراجاً منيراً “ الأحزاب 45- 46...(1/20)
ولا أحصي ما أثبته لنا رواة الأحاديث والسيرة النبوية من أحداث متعلقة بقضية ثبات التبشير برسول الله إلا أن في قصة إسلام سلمان الفارسي وهي مشهورة ومعروفة، وصاحبها شخصية تاريخية ومعروفة كأحد أعلام الفتح الإسلامي، وهو الذي ترك بلاده وقدم يثرب انتظارا للرسول صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه منطلقا من ذكره في الكتاب المقدس وكتابات وأقوال علماء النصرانية.. إنّ في قصة إسلام سلمان الفارسي وإسلام كعب الأحبار وعبد الله بن سلام وغيرهم، بل وفي إسلام أمم اليهود والنصارى دليلا على وجود هذه البشارات برسول الله صلى الله عليه وسلم.. إذ كثيرا ما صرح هؤلاء وغيرهم بأن إسلامهم كان لانطباق البشارات بالكتاب المقدس على رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ولست في حاجة لأن أؤكد للقارئ أن ذلك ما سيراه هو أيضا مع قراءة هذا الكتاب.. ويبقى للقارئ أن يتأمل هل يمكن أن يكون انطباق البشارات هذا على الرسول صلى الله عليه وسلم مصادفة أم أنّ ذلك هو عين المستحيل خاصة إذا أُخذ بالاعتبار اجتماع هذا العدد الكبير من البشارات.. ثمّ توافق تعاليم رسالة الإسلام سامية راقية مع الروح الأصيلة لتعاليم الأنبياء من قبل.. قد جاءت على يد النبي الأمي الذي لم يُرَ قط يحمل قلما ولا ورقة، بل وأَشهدَ على أميّته كل من عاصره من الكفار والمؤمنين.. ثمّ إذا تأمل القارئ وجود البشارت بكتب الأديان الأخرى كما سنرى بالخاتمة.. بل وتحقُّق النصر الهائل خلال سنوات بسيطة حتى بلغ الإسلام أطراف المعمورة على يد جماعة من الأعراب الذين لم يعرفوا أنفسهم إلا خاضعين لغيرهم، أميّون لا يعلمون من أخبار الأمم وثقافاتها شيئاً فأصبحوا أساتذة العالم ومربيه، وتسابقت الأمم المفتوحة للإقتداء بهم وحبهم.. لأيقن أن كل هذه البشارات وانطباقها على محمد بن عبدالله رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، وتحقق النصر المبين له لهو ترتيب مسبق من ربّ العالمين، وليس للصدفة فيه من سبيل..(1/21)
" إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا" النجم آية 28...
تحريف الكتب:
لا يسعني في هذا التأليف إلا التعرض لقضية تحريف الأسفار والكتب المنسوبة إلى الأنبياء، رغم حرصي على عدم إثارة أهل الكتاب، ولو أنّه في الواقع لا يسع أي عاقل - سواء أكان يهوديا أو نصرانيا- إلا الإقرار بتعرض الكتاب المقدس لتحريف كبير.. كيف ومؤلفوه واللذين تناقلوه عبر قرون طويلة مجهولون، بل كيف وقد ثبت أن نسخه ضاعت تماما وأنها لم تكتب إلا من بعد من نسبت إليهم بقرون كثيرة، ويستوي في ذلك الأسفار المنسوبة إلى موسى عليه السلام وتلك المنسوبة إلى بقية الأنبياء كداود ودانيال وغيرهم، وكذلك الرسائل والأناجيل النصرانية والتي لم تعرف إلا بعد قرون عديدة من بعد المسيح عليه السلام، ومن بعد كتابتها في عهد قسطنطين.. وسيرى القارئ بعض التفصيل لدور قسطنطين في تحريف الأسفار المسيحية عند الحديث عن البشارة الثانية في هذا الكتاب.. وكيف ينكرون تحريف الأسفار ونسخها المختلفة متناقضة.. والتناقض بين أجزائها – ضمن النسخة الواحدة – بيّن وظاهر.. وتناقضها مع كثير من المسلمات العقلية بيّن وواضح.. كيف والكتاب المقدس يقرّ في جوانبه بأنه قد حُوّل إلى كذبةٍ على الله عزّ وجلّ.. بل كيف يزعم أحد أن الكتاب المقدس هو كلام الله، في الوقت الذي لا تزعم النصوص نفسها لنفسها إلا أنها لشخص عاصر الأحداث وحكاها، وذلك أوضح ما يكون في كتب النصارى التي تنسب إلى تلامذة المسيح لا إليه، ومع أن التلاميذ ليسوا بأنبياء ولا رسل فإنه حتى لا سند ولا دليل على صحة نسبة الكتب والرسائل إلى من نسبت إليهم من التلاميذ، فالكلام المكتوب في هذه الأسفار واضح أنه لكاتبه وليس لله أو لرسول من رسله، إلا في مواضع قليلة يبدو وكأن المتحدث فيها قد يكون الله عز وجل أو الرسول الذي ينسب إليه السفر أو غيره..(1/22)
فهي رسائل لا يدّعي كاتبوها أنها كلام الله أو رسوله، وهي مع ذلك مقطوعة السند ومجهولة الكاتب والناقل ومتضادة فيما بينها، وفيما بينها وما تنسبه طوائف أخرى منهم لنفس التلاميذ.. وكيف يزعمون أن هذه النصوص هي من الوحي وهم يختارون منها ويدعون ما يشاءون بلا وحي ولا نبي يرشدهم لذلك (1)، فكيف إذا كان الذي اختار لهم وكتب لهم العقيدة وثني كقسطنطين ( دخل في المسيحية عند مرض وفاته فقط) كما هو ثابت عند عامّة المؤرخين، بل ومنها ما كُتب في فترات نصَّت نفس النصوص على غياب الأنبياء والوحي خلالها ثم يأتي بعضهم لاعتبارها من الوحي الإلهي كما هو الحال في كتابي المكابيين، بل وكيف يزعمون أنها كلام الله وهم ما زالوا ينقحونها في كل طبعة وفي كل عام، فهل تتنزّل الملائكة على كل دار طباعة ولكل طبعة جديدة بوحي جديد حتى يزعمون أن هذه النصوص بما يحدثون فيها هي كلام الله عز وجلّ.. ولا يسعني هنا استعراض الأدلة على وقوع التحريف فهي لا تكاد تحصى، وإنما أكتفي بإيراد أدلة العهد القديم نفسه على التحريف، مع الإشارة إلى بعض جوانب هذا التحريف وعلاقته بموضوع هذا الكتاب..(1/23)
جاء في إرميا 23: 36 " أما وحي الرب فلا تذكروه بعد لأن كلمة كل إنسان تكون وحيه إذ قد حرفتم كلام الإله الحي رب الجنود إلهنا.." وفي إرميا 8:8 "أما شعبي فلم يعرفوا قضاء الرب، كيف تقولون نحن حكماء وشريعة الرب معنا، حقا إنه إلى الكذب حولها قلم الكتبة الكاذب.."، وفي ارميا 7: 8" هاأنتم اتكلتم على أقوال الكذب، ولكن من غير جدوى" وفي ذلك إشارة إلى افتراءاتهم على الله ورسله واتكالهم على هذا الكذب بعد ذلك.. وفي موضع آخر " ها قد رفضوا كلمة الرب فأي حكمة لهم “، وفي ارميا 36: 32 أن ارميا أملى على باروخ سفره الذي أحرقه الملك يهويقيم ملك يهوذا، فزاد عليه كلام كثير مثله.. وفي المزمور65: 4- 5: "ماذا يصنعه بي البشر، اليوم كله يحرفون كلامي، على كل أفكارهم بالشرّ".. وفي رسالة بطرس الثانية 3: 16 : " كما في الرسائل كلها أيضا متكلما فيها عن هذه الأمور، التي فيها أشياء عسرة الفهم يُحرّفها غير العلماء وغير الثابتين كباقي الكتب أيضا لهلاك أنفسهم".. وفي اشعيا 29: 16 " ويل للذين يتعمقون ليكتموا رأيهم عن الربّ فتصير أعمالهم في الظلمة.. يالتحريفكم"""(1/24)
وجاء بالقرآن الكريم إشارات متعددة إلى تحريف بني إسرائيل لكلام الله ووحيه على أنبيائه، ومن ذلك قوله تعالى " أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثمّ يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون.. فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون" البقرة: آية 75 و79.. وقال تعالى: ( بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين ) البقرة 90، وقال تعالى: ( لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) الحديد 29، وقال تعالى: ( أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون) البقرة 87.
وفي الحديث الثابت عن رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم ما يوضح هذا التحريف ومنه ( رواية البخاري) قوله عليه الصلاة والسلام: " إن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيّروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلا".(1/25)
وكيف ينكرون التحريف وفي ما ينسبونه إلى الوحي الإلهي إساءات متكررة إلى ذات الله عز وجل، فينسبون إلى الخالق الحزن والندم ( التكوين 6: 5-6، صموئيل الأول 15: 10)، والراحة من الجهد ( التكوين 2: 1-2)، والاستيقاظ كاستيقاظ النائم ( المزامير 78: 65)، وينتقصون من علمه للغيب، ويتحدثون عن الله الخالق كما لو أنهم يتحدثون عن البشر المخلوق، وينسبون إلى أنبياء الله كل كبائر السرقة والزنا ( بما فيها الزنا بالمحرمات الذي أمرت شريعة موسى عليه السلام بقتل من ارتكبه، بل بقتل من زنا حتى بغير المحارم، لاويين 20: 11- 20، تثنية 22: 21، يوحنا 8: 3-5)، والتعري وسوء الخلق وعبادة غير الله وارتكاب المجازر وظلم الناس ( انظر مثلا افتراءاتهم في قصة زنا بنات لوط عليه السلام بأبيهما كما يزعمون في التكوين 19: 30- 37، وفي قصة زنا يهوذا - وهو من الأسباط الصالحين- بثامار زوجة أحد أولاده المتوفين، ولولا أنّها أثبتت أنه كان هو الزاني بها لأُحرقت بالنار عقوبة على جريمتها (التكوين 38: 6- 27)، وولدت له من هذا الزنا توأم أحدهما هو فارص جدّ داود عليه السلام! وفيما ينسبونه لداود عليه السلام من الزنا بزوجة أحد قواده، ثمّ تآمره على قتله بعد ذلك (صموئيل الثاني 11 بأكمله عن هذه القصة)، وقصص أخرى من الزنا بالمحارم!، وماينسبونه لداود ولشاول ( طالوت) عليه السلام من احتيال وسفك دماء الكهنة الصالحين والأبرياء من النساء والأطفال والرّضع ( صموئيل 21: 11-19، 18: 27، 27: 11-12 ومواضع أخرى كثيرة)، وسكر نوح عليه السلام وتعريه أمام أولاده بالتكوين 9: 21-22، واستغلال يعقوب لأخيه لأخذ حقه بالبركة بالتكوين ( 25: 27- 33)، ومصارعة يعقوب لربه ( التكوين 32: 24- 29) وغيرها من الكثير من الافتراءات..).(1/26)
ولقد نفى القرآن الكريم صراحة ما افتروه على هارون عليه السلام ( الخروج 32: 1- 6) من أنه أمر بصنع العجل وعبادته، وعن سليمان عليه السلام من أنه كفر بالله وعبد غير الله كما زعموا بأسفار الأنبياء، كما أستغرب عليهم زعمهم أنهم أبناء الله (2) وأحباؤه مما يبين أن هذا الزعم هو من ضمن ما افتروه وركنوا إليه ثم هلكوا بسببه.. ونفى القرآن الكريم أن يكون موسى قد رأى الله عزوجل جهرة ( الأعراف 143)، أو أن يكون التعب قد مس الله عزوجل من خلق السماوات والأرض، قد أمر كفار مكة بالتعري ( الأعراف 28) بينما ينسب الكتاب المنسوب لإشعيا ( 20: 2-3) أنّ الله أمره بالتعري، فتعرى ومشى بين الناس حافيا عارياً لثلاث سنوات وهو نبي.. كما ثبت في نسخ الإنجيل الحالية إنكار المسيح ادعاءَهم – وهو ادعاء أدخلوه على نصوص أسفار العهد القديم – بأن المسيا أو المصطفى المنتظر هو من أبناء داود عليه السلام في إشارة ساطعة على تعمّد تحريفهم للتوراة وأسفار الأنبياء.. ولا تكاد تحصر الشواهد على التحريف، ولدي سرد بعشرات المواضع المتناقضة ضمن صفحات الكتاب المقدس، ويكفي أنّ من النصارى من اعتبر أن الأخطاء بالكتاب المقدس والتناقضات المباشرة تصل إلى خمسين ألف خطأ أو تناقض وذلك كما ذكر ذلك الأستاذ أحمد ديدات حفظه الله تعالى في رسالته عن الكتاب المقدس هل هو كلام الله تعالى.. ومن يقرأ الرسائل السرية ( الأبوكريفا) المقدسة عند بعض الطوائف، سواء اليهودية منها التي وقعت بأيدي مسيحية أو الرسائل المسيحية أصلاً يجد أنها قد حرّفت كثيرا، وأدخلت عليها الكثير من عبارات التثليث وتأليه المسيح عليه السلام، وهو مما يُجمع عليه الباحثون بما فيهم النصارى منهم بأنّه "إدخالات مسيحية".. وذلك من الأمثلة البارزة على الجرأة لتغيير الكتب الدينية وتحريفها..(1/27)
ويبقى هنا أن نؤكد أن القضية الأولى التي استهدفها تحريف الوحي كانت قضية التبشير بخاتم الأنبياء.. فقد ثبت بالأناجيل أن المسيح عيسى عليه السلام قد أثبت لهم أن المصطفى ( المسيا) لن يكون من أبناء داود، أي أنّ ذلك الادعاء بالكتاب المقدس هو من تحريفاتهم.. والقضية في الواقع كما سنرى في هذا الكتاب أنّ التبشير كان بخاتم الأنبياء نبياً من غير اليهود، وبأن النبوة ستخرج من بني إسرائيل إلى بني إسماعيل الذين سيحملون رسالتها إلى أمم الأرض قاطبة، ذلك – أي مثل هذا التبشير_ هو ما أثار مشاعر الغيرة وعصيان الأنبياء والاعتداء عليهم.. ويفسر ما ورد في أعمال الرسل 7: 51 من قتلهم الأنبياء عند تبشيرهم بمجيء المصطفى ( فأي نبي نجا من اضطهادهم وقد قتلوا الذين أنبأوا بمجيء البار..).. والمقصود به المصطفى خاتم الأنبياء، لا عيسى عليه السلام، وإلا فلمَ يقتل اليهود أنبياءهم الذين يبشرونهم بالمصطفى نبيا من بني إسرائيل كعيسى عليه السلام.. وإلى عقوبة الموت لمن بشر بخاتم الأنبياء ( من بني إسماعيل ) هذه أشار كذلك إنجيل برنابا ( الفصل 190: 3)، وقد جاءت إشارات عديدة إلى غيرتهم التي أعمتهم عن اتباع مملكة الله والانضواء تحت لوائها.. وسيرد معنا تذكير بهذا التحريف الذي مسّ كثيرا من البشارات بالمصطفى..
هوامش فصل تحريف الكتب
((1/28)
1) تذكر هيلين اليربي Hellen Ellerbe في كتابها الجانب المظلم من التاريخ المسيحي، طبعة عام 1995 ضمن فصل بعنوان: أساليب سياسية: جعل المسيحية مستساغة للرومان في الفترة 200- 500م، أنّ الكتابات المسيحية قد بُدلت لتكون مقبولة لدى الرومان، وأن عناصر من الوثنية قد أدخلت فيه، وأن أساس تقييم الفرد بعمله قد استبدل بالإقرار بالمعتقد العقدي ( الذي وضع بنيقية، وسنشير إليه لاحقا) وبطاعة رجال الكنيسة.. وتذكر الكاتبة أنه حتى عام 450م كان هناك ما يزيد على مائتي إنجيل مختلف متداول بين الناس، وأن الكنيسة منعت وأحرقت هذه الأناجيل حتى اختفت، وتستشهد باعتراف الموسوعة الكاثوليكية بأن الفكرة القائلة بأن إقرار الأناجيل والرسائل الحالية كان من بداية المسيحية.." بأنها فكرة لا أساس لها تاريخيا"، أو بمعنى آخر أن اختيار الأناجيل الحالية من قبل المجموعة التي احتضنها قسطنطين الوثني لم يكن على أي أساس من المسيح عليه السلام ( إلاّ أساس عقيدة المجموعة نفسها في مقابل غيرها من المجموعات المسيحية التي من أهمها الناصريين)... ومع هذا فقد تعرضت حتى هذه الأناجيل الأربعة -كما تستشهد المؤلفة بشهادات آخرين- فقد تعرضت للتبديل المستمر.. وتعلق على ذلك المؤلفة بأنه بينما تدّعي الكنيسة أن الحقيقة راسخة لا تتبدل، فإنها قد وجدَت في كل مرة سببا لتبديل هذه الحقيقة.. ومثل هذا الحديث عن حرق ما يزيد على مائتي إنجيل مختلف قد ذكره كذلك كثير من الباحثين الآخرين.(1/29)
وسنثبت للقارئ فيما بعد بأن مدرسة عيسى عليه السلام الحق هي مدرسة الناصريين أو المسيحيين اليهود الذين عرفوا المسيح في حياته ولم يبدلوا تعاليمه من بعده، ولم يؤلهوا المسيح، وأنه كانت لهم كتاباتهم الخاصة بهم، ووجودهم المقصور على اليهود النصارى.. ليدرك القارئ مدى الضلال والبعد عن المسيح عليه السلام الذي وقع فيه المسيحيون حين اتبعوا بولس وتلامذته من بعده الذين ظلوا يُطوّرون العقيدة ويعدلونها على مدى قرون من بعد المسيح عليه السلام..
(2) يخاطب اليهود - في صلواتهم - الله عز وجل بالأب، ويزعمون أنهم أبناء الله، بمعنى أحباؤه المميزين لجنسهم لا لعملهم وطاعتهم للأنبياء.. وهو الأمر الذي نفاه عنهم أنبياؤهم.
بعض مراجع فصل تحريف الكتب:
1. المدخل لدراسة التوراة والعهد القديم للدكتور محمد علي البار
2. الله جل جلاله والأنبياء في التوراة والعهد القديم للدكتور محمد علي البار
3. هل الإنجيل كلمة الله لأحمد ديدات
4. التوراة كتاب مقدس أم جمع من الأساطير لليو تاكسل، ترجمة د حسان ميخائيل إسحاق
5. التوراة والأناجيل والقرآن الكريم بمقياس العلم الحديث للدكتور موريس بوكاي
تعريف بالكتاب المقدس المعاصر
لا يتسع المقام هنا إلى تفصيل مواضيع وطبيعة الأسفار المقدسة لدى أهل الكتاب أو نقد نسخها المعاصرة، ولكنني أكتفي هنا بسرد أسماء مجموعات هذه الأسفار كتمهيد للقاريء لأسماء هذه الأسفار التي سيتم الإستشهاد بها كثيرا خلال هذا الكتاب..
يتكون الكتاب المقدس لدى أهل الكتاب من جزئين، هما العهد القديم والعهد الجديد، ولا يؤمن اليهود بطبيعة الحال إلا بالعهد القديم..
ويتكون العهد القديم من:
- أسفار موسى الخمسة المعروفة باسم " التوراة"، وهي أصل التعاليم والشريعة، وتتكون من أسفار التكوين والخروج والأحبار ( اللاويين) والعدد والتثنية.(1/30)
- hلأسفار التاريخية، وبها عرض لبني اسرائيل منذ دخولهم فلسطين إلى الفترة التي تلت عودتهم من السبي البابلي.. وعددها اثناعشر، وهي أسفار يشوع والقضاة وراعوث وصموئيل الأول وصموئيل الثاني والملوك الأول والملوك الثاني وأخبار الأيام الأول والثاني وعزرا ونحميا وأستير.
- أسفار الأناشيد أو الأسفار الشعرية، وتحتوي على مواعظ دينية وأدبية، ويتكون من خمسة أسفار هي: سفر أيوب والمزمور ( الزبور) والأمثال والجامعة من كلام سليمان ونشيد الأناشيد.
- أسفار الأنبياء وهي سبعة عشر سفرا، هي: سفر إشعياء وإرمياء ومراثي إرمياء ودانيال وحزقيال وهوشع ويوئيل وعاموس وعوبديا ويونان ( يونس) وميخا وناحوم وحبقوق وصفنيا وحجي وزكريا وملاخي.(1/31)
- الأسفار غير القانونية أو كما يسميها الكاثوليك الأسفار السرية Apocrypha ( ابوكريفا وتعني الخفية) ، ويستخدم البروتستنت لفظ ابوكريفا لأسفار العهد القديم التي لايقرون بها (1) (وهم لا يقرّون من أسفار العهد القديم إلا ما احتوته التوراة العبرية)، ويسمون الكتب غير القانونية الأخرى بالمنحولة أو المزعومة Pseudoipgrapha بمعنى عدم صحة نسبتها الى من نسبت إليه، وفيها أسفار مقدسة ( منها ما كان مخفيا عن العامة) وأخرى غير معترف بها، وتقسم إلى أسفار يهودية الأصل ( تعرضت إلى تحريف مسيحي)، ورسائل مسيحية المنشأ أصلا، ومن أهم الكتب بالمجموعة الأولى: كتب إخنوخ ( وقد استخرجنا منها في هذا الكتاب بشارة الأسابيع وبشارة المسيا سيد ولد آدم)، وكتاب اليوبيلات، وكتاب الوصايا التي أهمها كتب وصايا الآباء الإثني عشر ( وقد استخرجنا منه بشارة وصية لاوي) ووصية موسى ووصية ابراهيم، وكتاب مزامير سليمان، ورؤيا باروك ( أو باروخ) ورؤيا عزرا ( كتاب عزرا الرابع)، واستشهاد إشعيا، ووحي العرافات، وأسرار اينوخ، والآثار التوراتية، ورؤيا باروخ السريانية، ورؤيا آدم، ووصية آدم، ورؤيا دانيال، ويوسف وأسينيث، وصلاة يعقوب، ورؤيا ابراهيم ورسالة إرميا سفر بعل والتنين وكتب أخرى كثيرة.. ومن كتب المجموعة الثانية ( وهي المسيحية) منها انجيل توما ويعقوب وأناجيل الطفولة والعبرانيين وأناجيل نجع حمادي الغنوصية وغيرها.(1/32)
هذا ويتكون العهد الجديد من الأناجيل وهي إنجيل متى ومرقص ولوقا ويوحنا، ثم من الرسائل: وهي سفر الأعمال ورسالة بولس لأهل رومية، ورسالته الأولى والثانية لأهل كورنيثوس، ورسالته لأهل غلاطية، وإلى أهل إفيسيس، وإلى أهل غلاطية، وإلى أهل فيلبي، وإلى أهل كولوسي، وإلى أهل تسالونيكي الأولى والثانية، وإلى تيموثاوس الأولى والثانية، وإلى تيطس، وفليمون والعبرانيين، ورسالة يعقوب، ورسالة بطرس الأولى والثانية، ورسالة يوحنا الأولى والثانية، ورسالة يهوذا، وسفر الرؤيا.
ـــــــــــــــــــــ
(1) يضيف الكاثوليك أسفار طوبيا ويهوديت وسفر حكمة سليمان وسفر يشوع بن شيراخ وسفر باروخ والمكابيين الأول والثاني.
موجز للأحداث الرئيسية بالأرض المقدسة أو مسرح البشارات:(1/33)
أضع هذا السرد للأحداث والشخصيات الرئيسة بالأرض المباركة ضمن الفترة التي صدرت خلالها البشارات الكثيرة التي سنستعرضها في هذا الكتاب، ليعطي هذا السرد للقاريء تصورا عاما عن التاريخ اليهودي والنصراني بفلسطين وليكون مرجعا للقاريء أثناء نقاش النبوات والبشارات المختلفة، ويشكّل هذا السرد في الواقع ملخصا هاما مستقلا لفهم تاريخ بني إسرائيل، وقد أضفت إلى جانب عمود السرد التاريخي عمودا موازيا للتعليق والملاحظات، أرجو أن يدرك القاري متابعة قراءة كلّ عمود بنفس العمود من الصفحة التالية وليس بالعمود المجاور من نفس الصفحة، وقد وضعت علامة النجمة * على الأسماء التي سيرد ذكرها فيما بعد خلال هذا الكتاب، وسيرى القاريء الكريم أن فهم الأحداث الرئيسة بالتاريخ اليهودي والنصراني هو مفتاح هام لفهم الكثير من النبوات والبشارات المعروضة بهذا الكتاب.. كما أني أتوقع أن يدرك القاريء المسلم أن حجم العبر والعظات التي ينبغي أن يستفيدها المسلمون من خلال دراسة التأريخ اليهودي كبير.. كيف وقَصصهم وقصص أنبيائهم الكرام ليملأ صفحات كتاب الله.. كيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرنا بأننا سنعيد أخطاءهم ونقع في تقليدهم.. ويأذن لنا بالتحديث عنهم لعلنا نتعظ بما وقع عليهم من عقاب!.. ".. وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج".. وأعتذر لقرائي غير المسلمين من الإستطراد في التعليق على الأحداث وتوجيه الحديث في هذا الفصل للمسلمين بهدف تنبيههم لأخذ العبرة من هذه الأحداث.. ولعلهم القراء من غير المسلمين يدركون خلفية مثل هذا الخطاب للمسلمين مع قراءاتهم لفصول هذا الكتاب اللاحقة..
الجدول الزمني لتاريخ بني اسرائيل بفلسطين
الأحداث الرئيسية ... ملاحظات وتعليق
هجرة إبراهيم* عليه السلام من أور بالعراق 2100ق.م(1/34)
خروج بني إسرائيل بقيادة موسى* عليه السلام من مصر عام1250ق.م ... في الأثار الدينية يهودية وإسلامية ما قد يستنتج منه أن هذا الخروج تمّ 1500عام قبل الميلاد
التيه في سيناء لأربعين عاما، بعد رفض بني إسرائيل دخول فلسطين إلا رجلين هما يوشع بن نون* عليه السلام وكالب بن يفنه، واستمرار العصيان في بني إسرائيل من عبادة العجل إلى إيذاء موسى والاحتيال على الشريعة.. ... - كان الجيل الأول أسوأ أجيالهم !(عكس المسلمين) ومع ذلك لم تتعظ الأجيال الأخرى من بعده .. وهذه النظرة هي التي صرح بها انجيل برنابا، وهي متفقة مع مسارعة الجيل الأول من اليهود الذي رأى الآيات التسع التي أيد الله بها موسى، ورأى إنفلاق البحر وإنقاذ الله له، ومع ذلك سارع الى إيذاء موسى، ومعصيته، وعبادة أوثان الأمم الأخرى والمطالبة بمثلها " .. إجعل لنا إلها كما لهم آلهة" الأعراف آية 138، ومثل هذه المسارعة إلى الأوثان هي ما أكدتها التوراة، وسارع الى عبادة العجل، ورفض الجهاد، واشترط رؤية الله، وقام بتحريف الكلم عن مواضعه.. وهو الجيل الذي رأى الآيات، ويعلم يقينا أن موسى هو رسول الله " .. ياقوم لِمَ تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم .." الصف آية 5..
- هذا وقد وردت الإشارة إلى الرجلين الذين أطاعا أمر الجهاد بالقرآن الكريم " .. قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون.."
دخول الأرض المباركة ( أرض كنعان) بقيادة يوشع بن نون* عليه السلام، ووقوع مجازر بشرية ضخمة لأهالي المدن الفلسطينية على أيدي بني اسرائيل على ما ترويه اصحاحات الكتاب المقدس. ... .. هل وقع فعلاً ذلك القتل الهائل وإبادة المدن بكل من فيها من أطفال ونساء ورجال كنعانيين ذلك القتل الذي يذكره الكتاب المقدس الحالي (سفر يشوع) ؟(1/35)
عهد القضاة ... تميز هذا العهد كما هو مذكور بالأسفار الملحقة بالتوراة بمخالفة بني اسرائيل للشريعة وتقليدهم للكنعانيين، بل وبعبادة آلهتهم، ثم عقاب الله لبني إسرائيل بتعبيدهم للموآبيين، ثم توبة بني إسرائيل وانقاذهم بإهود البنيامي، ثم فسقهم وعقابهم بتعبيدهم للكنعانيين، ثم تخليصهم على يد باراق، ثم ضلالهم وعودتهم للأوثان فعقابهم بمديان، فتخليص الله لهم من مديان على يد جدعون، ثم عودتهم بعده لعبادة الأوثان، ثم العقاب بتعبيدهم للفلسطينيين وبني عمون، ثم توبتهم ونصرهم على بني عمون، ثم.. وقامت حروب عدة فيما بين اليهود قتل فيها ما قد يتجاوز المائة ألف كما تذكر الأسفار.. هذا هو مستهل تاريخهم بالأرض المباركة ! وقد تميّز بالمسارعة إلى الكفر والردة..
1157 – 1020 ق م
قيام الحكم الملكي لليهود، مبتدأً بحكم شاول* ( طالوت) المعاصر للنبي صموئيل، وقتل داود عليه السلام لجليات ( جالوت)، وقد كان قبلها فتى مجهول يرعى الغنم، أرسله والده إلى مقر مرابطة جيش شاول ليتفقد إخوته المقاتلين مع شاول، فسمع تحديّ جليات ( جالوت) للإسرائيليين بالمبارزة، فخرج له بمقلاع وخمسة أحجار متوكلاً على الله، فأسقطه بحجر ثمّ اجتز رأسه بالسيف الذي كان يحمله جالوت.. ... - فترة نبوة صموئيل ثم ناثان
- انتقال الحكم بعد استشهاد شاول (طالوت)، واستشهاد ابنه جوناثان في معركة مع الفلسطينيين، ثم اغتيال ابنه اشباول، انتقال الملك بعد ذلك الى داود* عليه السلام بعد بروزه وظهور كفاءته وقدراته.. ... - وفي قيام الحكم الملكي، مبتدأً بحكم شاول (طالوت) جاء قوله تعالى " ..ألم ترَ إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا.." البقرة آية 246.. وأثبت بالقرآن والتوراة و" كتب الأنبياء" الملحقة بالتوراة جبن أكثر اليهود وعصيانهم لأمر الجهاد.. والنبي هنا هو صموئيل عليه السلام.(1/36)
- " وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء"
- مملكة داود* عليه السلام 1020 ق.م، وإتخاذه أورشليم عاصمة لمملكته عليه السلام. ... - كان داود عليه السلام أول من دخل القدس سلماً فيما يبدو من الآثار المتوفرة، وقد كانت حتى ذلك الحين تحت حكم سكانها اليبوسيين وهم من الكنعانيين، وقد جعلها داود عليه السلام عاصمة مملكته، وصار لأورشليم من حينها مكانة خاصة بالفكر اليهودي..
- مملكة سليمان* وبناء المعبد الأول 950 ق.م ... - شوهت صورة داود وسليمان بالعهد القديم بشدة.
- تمثل فترة حكمهما عليهما السلام هذه الفترة العصر الذهبي بتاريخ بني إسرائيل، وفيه تمت حركة عمرانية ضخمة بأورشليم، وتمّ لبني إسرائيل اكتمال مقومات الدولة أو الإمبراطورية.
- بنى سليمان عليه السلام بيتَ اللهِ بأورشليم House of God بطول 180 قدماً وعرض 90 قدما وارتفاع 50 قدماً أو 55 x 27 x 15 متراً .. ( تكاد أن تكون كل المساجد الجامعة بالمدن الإسلامية بأبعاد أطول من هذه الأبعاد التي زعمها اليهود لبيت الله الذي بناه سليمان عليه السلام).
أصبح لبيت الله ( أو المعبد) مكانة مقدسة في نفوس اليهود، وأصبح قيامه خلال القرون التالية رمزا لوجودهم... قد يفهم ذلك من قبل المؤمنين منهم بالقرون الخالية.. ولكنه لدى العلمانيين من يهود هذا العصر لا يعدو إلا أثرا ورمزا قومياً .. ولا ينبغي لمن زعم لنفسه الإيمان منهم الا التسليم بفناء البيت عقوبة مسطرة من الله لديهم.. ولمن يزعم منهم الإيمان دلائل كافية من كتبهم ببيت لله جديد ببقعة جديدة على أيدي المختارين كما سنبين بهذا الكتاب.(1/37)
- انقسام مملكة سليمان عليه السلام إلى مملكة يهوذا Judah بالجنوب (931 ق.م – 586 ق.م، وقد تعاقب عليها 20ملكاً) ومملكة إسرائيل Israel بالشمال ( 931 – 721ق.م، تعاقب عليها 19ملكاً)، واستمرار القتال بينهما لفترة طويلة رغم إحاطة الأعداء بهما، واستعانة بعضهم على بعض بأعدائهم من الخارج، مع تكرر الانقلابات المتتالية على الحكام في كل منهما، وانتهاء حياة معظم الحكام قتلا على أيدي منافسيهم من اليهود أنفسهم. ... - بناء على التوراة المعاصرة فقد انتشرت في هذه الفترة عبادة الأوثان وتقليد الأمم الكافرة، إرضاءً لها أو إعجابا بها، وظهرت الردة عن الدين، وكثر مدّعي النبوة كذبا بين اليهود بشكل سريع ومتكرر. وقد ظهر خلال هذه الفترة حكام مرتدون ظلمة كآحاب وأحزيا قتلوا الأنبياء، وعبدوا الأوثان.. كما ظهر حكام مصلحون، أُيدوا بنصر الله طالما التزموا بدينه وحكموا شريعته. ومن أنبياء هذه الفترة عزريا وميخا* وإيلياء* ( القرن التاسع إلى العاشر ق.م ) ويحزئيل وزكريا بن يهوياداع، وقد قتل الأخير رجما بالحجارة في ساحة الهيكل رغم نبوته.
وتمّ بعد ذلك في هذه الفترة ( الممتدة إلى الأسر البابلي) نشر إشعيا* النبي بالمنشار، وقتل أنبياء آخرين كثيرين فوق أن يحصوا.. ومن الأنبياء الذين ظهروا بعد ذلك في هذه الفترة عاموس وهوشع* واليشع* ( اليسع) في مملكة إسرائيل، واشعيا* وارميا*.. وقد تنبأ كثير منهم بسقوط السامرة ( عاصمة مملكة إسرائيل بالشمال، وهي واقعة شمال غرب نابلس أو شكيم الحالية بستة أميال) كما تنبأوا بسقوط أورشليم ( سيرد الاستشهاد بأمثلة منها).(1/38)
- أصبح لمملكة الشمال قبلتها ومكانها المقدس البديل الخاص بها ( جبل جروزيم بالسامرة). ... - أعادت الأمة الإسلامية في تاريخها الطويل في كل بقاعها نفس مسلسل الإنقلابات والتقاتل على الحكم، والإستعانة بغير المسلمين على إخوانهم، فكان أن ضاعت ديارهم وسيطر عليهم أعداؤهم.. ولن يستطيع أحد إحصاء الأمثلة على ذلك من التاريخ الإسلامي لكثرتها للأسف .. وفي ذلك تصديق ما جاء بالأحاديث الصحيحة عن المصطفى عليه الصلاة والسلام.
هدمُ الآشوريين بقيادة شلمانصر لمملكة إسرائيل الشمالية عام 722 ق م، وتشريد سكانها، واستبدال أهل مملكة الشمال بأمم أخرى من غير اليهود ... - لطالما حذر الأنبياء قومهم من بني إسرائيل من هذا العقاب الشديد ( استئصال مملكة اسرائيل وأسباطها) باستمرار ردتهم عن الدين وفسقهم.(1/39)
- تم نفي العشرة أسباط من بني إسرائيل إلى آشور، وضياعهم بعد ذلك بشكل نهائي، ولم يبق بذلك من أحفاد أسباط بني إسرائيل الإثناعشر سوى سبطي يهوذا وبنيامين، وهما السبطين الذين تشكل منهم يهود المملكة الجنوبية، إلا أنّ أعدادا بسيطة من أحفاد العشرة أسباط يبدو أنها بقيت بفلسطين , قد يكون بعضهم من ضمن ما عرف بعد ذلك بالسامريين.. وإن كان السامريين هؤلاء يُعتبروا من المتهودين من غير بني اسرائيل، من بقايا السومريين الذين جاءوا مع الآشوريين.. أنّ ذلك ليس هو المقصود هنا أنّ ذكر فاران التي بسيناء إنّما جاء عند عبور بني إسرائيل إلى فلسطين بصحبة موسى عليه السلام، وأنّ مواقف ذلك الجيل كانت ممقوتة من الله عزوجلّ، بل إنّ التوراة ( العدد 12: 16، 13: 26) تذكر أنّ تمرد بني إسرائيل على أمر الله تعالى بدخول فلسطين إنما تمّ وهم بصحراء فاران، وعليهم وقع غضب الله تعالى، فكيف يمكن بعد ذلك القول بنزول الوحي عليهم بها، وتمام رضى الله عنهم بفاران ومجيء العشرة آلاف قديس.. فما تمّ مثل هذا الوحي إلا من فاران العربية على خاتم الأنبياء الذي من بني إسماعيل.. جاء بالملوك الثاني إصحاح 17: 18 :" فغضب الرب جداً على إسرائيل، ونحاهم من أمامه ولم يبق إلا سبط يهوذا وحده، ويهوذا أيضا لم يحفظوا وصايا الربّ إلههم بل سلكوا في فرائض إسرائيل التي عملوها فرذل الرب كل نسل إسرائيل وأذلهم.."(1/40)
- لازال اختفاء أسباط بني إسرائيل العشرة لغزا لدى المؤرخين مستعصيا على التفسير.. وقد وُضعت بعض النظريات لكنها ظلت عاجزة عن تفسير سرّ الإختفاء السريع للعشرة أسباط الكبيرة من بني إسرائيل.. ونعلم كمسلمين أن أقواما منهم اختفت لأنّ الله عزوجلّ قد مسخها خلقاً آخر.. جاء في مسند أحمد رحمه الله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بضب، فقال اقلبوه لظهره فقلب لظهره ثم قال اقلبوه لبطنه فقلب لبطنه، فقال تاه سبط ممّن غضب الله عليهم من بني إسرائيل فان يك فهو هذا، فان يك فهو هذا، فان يك فهو هذا".
- كانت مملكة يهوذا بالجنوب أفقر وأضعف من مملكة إسرائيل بالشمال.. وأكثر عرضة للضياع أمام هجمات الفراعنة وإسرائيل .. ولكنها استعانت بأموال المعبد وبدول مجاورة على أعدائها، بما فيهم أعداءها من اليهود بالشمال.. وربما كانت وبشكل عام أقل ردة عن الدين من إسرائيل بالشمال. ... - كثُرت بالتأريخ اليهودي نماذج الحكام الفاسدين والمرتدين، والذين غيروا الدين والتعليم إرضاء لأسيادهم من الوثنيين أو إعجاباً بهم.. وآحاز هنا مجرد مثال من كثيرين مثله.. وللمرء أن يعجب كيف كرر المسلمون هذا الأمر وعطل حكامهم شريعة ربهم وغيروا تعاليم دينهم إرضاء أو إعجابا بأسيادهم الكفار.
- هدم آحاز ملك مملكة يهوذا الأوعية البرونزية بالمعبد، ووضع مكانها معبدا وثنيا آشوريا، إرضاء لسادته الجدد بآشور الذين خلصوه من أعدائه بمملكة الشمال (إسرائيل) وبدولة دمشق الآرامية.. وأدت هذه المداهنة الإختيارية إلى انتشار الوثنية المرتبطة بعبادة الشمس والقمر والنجوم بمملكة يهوذا.(1/41)
حصار سنحاريب Sennacherib الملك الآشوري التام للقدس عام 705 حتى 681 ق م، وسخريته من امكانية إنقاذ الله للمؤمنين، وتضرع النبي اشعيا* و الملك الصالح حزقيا* ، وإهلاك الله جيش سنحاريب، مما كان نصرا بيّنا للمؤمنين. ... - أخرج الملك حزقيا Hezekiah ( وهو ابن آحاز) وقد كان صالحا من قبل هذا الحصار من بيت الله بالقدس أصناما ورموزا كثيرة لعبادة غير الله.
- يعتقد أن حزقيا هو عمانوئيل الذي بشّر اشعيا أباه آحاز بقدومه حين طلب منه الصمود أمام الأعداء ( أراد البعض تأويل عمانوئيل بأنه عيسى عليه السلام).
- وفي هذا النصر آية للمؤمنين.. ولكنّ بعض المؤرخين العلمانيين اعتبره نقمة على اليهود ! فقد كان سببا في توقع أجيالهم التالية نصرا مشابها، وإقدامها على مجابهات لقوى عظمى، لا يُجرِّؤها عليها إلا توقعُ نصر إلهي مثل ذلك الذي تمّ لليهود على سنحاريب.. وذلك لا بأس به من وجهة نظرنا كمؤمنين لولا أن تلك الأجيال التي كانت تتوقع النصر من الله كانت أجيالاً فاسقة، فخذلها الله عزوجلّ وهلكت.. ووقع عليها بذلك عقاب الله الموعود..
- وما أشبه حال المسلمين اليوم بحال اليهود من قبل.. فإنّ النصر الذي تخلف عن اليهود في معظم مواجهاتهم كان بسبب تمردّهم على الشريعة كما ذكر ذلك لهم أنبياؤهم، الذين كثيرا ما حذروهم (كما هو ثابت عن إرميا ويحي وعيسى عليهم السلام وغيرهم): أنهم لن يُنصروا عسكريا على عدوهم بسبب زيغهم.. ولكنّ الغرور بالله رغم زيغهم واستمرائهم للمعاصي تسبب في إقدامهم على حروب تسببت في النهاية في استئصالهم.. فهل يعي المسلمون هذا الزمان كذلك أسباب تخلف نصرالله عنهم أحيانا بعد أن رفض اليهود أن يلتفتوا إليها فكان في ذلك هلاكهم..(1/42)
ارتداد الملك ماناسه ( عام 698 ق م) ابن حزقيا، وإدخاله عبادة بعل ومعبودات أخرى إلي داخل بيت الله بأورشليم ... - حكم مناسه أو منسيّ مملكة يهوذا لمدة خمسة وخمسين عاما، قام فيها بنقض كل الإصلاحات الدينية التي قام بها والده، مع إدخال عبادة بعل، وعشيرة ( ربة الإخصاب!)، وعبادة عشتاروت وغيرها.. كل ذلك تقرباً للدولة العظمى في زمانه دولة آشور، ومحاولة لإظهار عدم التعصب لدين واحد.
إحياء الملك يوشيا ( 638-608 ق م) Josiah للديانة اليهودية مرة أخرى، وتجديده لبيت الله المقدس وإحراقه للأصنام وتحطيمها به وإخراجها من البيت ترابا مهيلا، وقتله الكهنة المرتدين في كل أنحاء البلاد وإخراج أجساد موتاهم من قبورها وإحراقها، وإعلان التوحيد وضرورة التمسك بالكتاب، ولكن هذه العودة إلى الله انتهت باستشهاد صاحبها جوشيا عند قتاله لفرعون مصر، وهو قتال تجاهل فيه الأنبياء الذين عاصروه ولم يستأذن له منهم، ومع هذا فقد أبقى الله له بالتوراة وتأريخ بني إسرائيل ذكرا حسنا من بعده لا ينسى. ... - فترة نبوة حلقيا* Hilkiah
- تنبؤ ارمياء*Jeremiah ابن حلقيا بهدم القدس وأن الله لن يحميهم من البابليين مالم يتخلصوا من الأوثان التي أعيدت من بعد عهد جوشيا، ولكن اليهود صدقوا نبوات راقت لهم من أنبياء كذبة (أدعياء للنبوة)! وعَدوهم بالنصر وبأن الله سينقذهم كما أنقذهم من حصار سنحاريب الآشوري من قبل ( مثل من أمثلة كثيرة كيف يقع اليهود بسبب غرورهم بمنزلتهم عند الله).(1/43)
جاء بعد جوشيا ابنه، وحكم لثلاثة أشهر، ثم وضع فرعون مصر مكانه أخا جوشيا: جيهوياكم Jehoiakim الذي عاث في الأرض فسادا فأرسل الله إليه نبوخذنصر واقتاده مقيدا بالسلاسل إلى بابل عام 597 ق م، ووضع بعده جهوياشن فأفسد، فأهلكه الله بنبوخذنصر الذي أسره في العام التالي، ووضع صدقيا* Zedkiah مكانه ملكا على اليهود فعصى صدقيا النبي إرميا واستهزأ بالرسل، ونكث عهده مع نبوخذنصر ( وقد أنبته كتاب حزقيال على ذلك)، فكان أن عاد نبوخذنصر ونفذ باليهود عقاب عام 586 ق م المشهور، وقد امتد حكم صدقيا لمدة 11 عاما، ثم انتقم الله منه بنبوخذنصر أشد انتقام كما سنرى. ... استسلمت أورشليم لنبوخذنصر* عام 597ق م، فاكتفى بنهب ثروات البيت، وأسر الملك جيهوياكم. ولم يتب اليهود ويسمعوا للنبي ارميا الذي استمر يحذرهم عواقب ردتهم من بعد جوشيا، فكانت عودة نبوخذنصر* في أغسطس 586 ق م.
تغلب نبوخذنصر* على المملكة الجنوبية، فأحرق أورشليم وهدم المعبد الأول 586ق م، بل وهدم كل القصور، وكل بيوت المدينة بيتا بيتا، وقتل أولاد الملك صدقيا أمامه ثم فقأ عينيه، وأخذه مع سبعين ألفا من اليهود أسرى إلى بابل. ... - عقوبة أخرى جديدة للردة والعصيان ( من بعد إبادة مملكة إسرائيل والأسباط العشرة بها).
- مملكة بابل ( 612- 538 ق م) التي قامت باحتلال القدس هذا هي الأولى من الممالك الأربع منذ عصر النبي دانيال عليه السلام التي ستحكم الأرض المباركة قبل قيام مملكة الله ( موضوع الفصل الثاني من هذا الكتاب، وموضوع الإصحاح الثاني والسابع من كتاب دانيال).. وقد جاءت المملكة البابلية ( الكلدانية) على إثر هزيمتها للآشوريين، واستيلائها على عاصمتهم نينوى عام 612 ق م(1/44)
- موقف الأنبياء كإرميا - كما يحكي عنه الكتاب المنسوب إليه- من محاولات مقاومة البابليين هو شبيه بموقف يحي وعيسى عليهما السلام من الثورة على الروم، وذلك بعدم التشجيع عليها لأنّ عقاب الله عزوجلّ قادم لا مجال لدفعه إلا بالتوبة الصادقة..
- فترة نبوة حزقيال*
اليهود في الأسر ببابل ( 586- 538 ق م) وظهور النبيين حزقيال* ودانيال* في بابل ( إرمياء توفى عام 585 ق م بمصر). ... - يهود القدس وفلسطين ظلوا رغم ما أصابهم على عبادة الأصنام ( إصحاحات سفر حزقيال*)، بينما صلح أمر كثير من الأسرى وخفف الله عنهم معاناتهم
- سقوط بابل على أيدي الفرس ( بزعامة سايروس) 539 ق.م ... - هناك رأي مؤيد بأدلة على أن سايروس* هو ذو القرنين عليه السلام.
- دولة الفرس ( 538- 333 ق م) هي المملكة الثانية من الممالك الأربع التي تنبأ بها دانيال عليه السلام اتفاقاً، جاءت على إثر هزيمتها للبابليين والميديين ( الميديين هم فرس كذلك)، واستيلائها على أرض تلك الدولتين، وقد حكمت أرض كنعان لما يزيد عن مائتي عام، وكان فيها تخفيف على اليهود رغم استمرار انقطاع الإستقلال والملك عنهم منذ عام 586 ق م.
- المرسوم بالسماح لليهود بالعودة إلى فلسطين وببناء الهيكل 538 ق.م. ... - فترة نبوة حجي وزكريا ( هو نبي آخر غير زكريا أبي يحي ) عليهم السلام.
- بناء الهيكل الثاني جاء عام520- 515 ق م بناء أبسط كثيرا من البناء الأول ( تمّ البناء الثاني تحت قيادة زربابل، وهو يهودي من نسل داود ولكنه كان في نفس الوقت حاكم اليهود باسم الدولة الفارسية)
- جاء بناء المعبد أبسط من ذلك الذي بناه سليمان عليه السلام، وقد أثار افتتاح المعبد الثاني الذي بدا كأنه لا شيء بجانب الأول ( حجي 2: 3) أثار بكاء الكهنة وكبار الرؤساء الذين عرفوا الهيكل الأول، بينما هتف العامة بهتافات البهجة والفرح ( عزرا 3: 12).(1/45)
إعادة نحميا* عليه السلام لبناء سور المدينة عام 445 ق.م ... - الآرامية محل العبرية لغة للتخاطب في هذه الفترة.
- يرجى من القاريء تذكر هذا العام لعلاقته ببشارة السبعين اسبوعا.
- قيام المعبد الثاني على يد عزرا* ونحميا* 428 ق.م. ... من المتعارف عليه أن كثيرا من الأسفار ألفت بعد عصر عزرا بقرون عديدة.
- إعادة جمع التوراة على يد عزرا ( بناء على المصادر اليهودية) بعد ضياعها، وتثبيت الشريعة بعد نسيانها.
الانتهاء من كتابة أسفار موسى* الخمسة (وهي أعظم العهد القديم وربما أصحه) عام399 ق م. ... كتابة أسفار العهد القديم بعد قرون طويلة ممن تنسب إليهم لهو عامل آخر - إضافة إلي التحريف المتعمد- في تفسير وجود الأخطاء الكثيرة الموجودة بالكتاب المقدس.
سيطرة اليونانيين على فلسطين وسوريا 333 ق.م بقيادة الإسكندر الأكبر* ... - الإمبراطورية اليونانية ( 333- 63 ق م) كانت هي المملكة الثالثة التي حكمت الأرض المباركة من بعد البابليين والفرس.
بداية الانحراف الثقافي والتأثر بالإغريق Hellenism الذي بلغ اقتباس أسماء وعادات وأفكار اليونان الوثنيين ... - انتشار الردة عن تعاليم الأنبياء بين اليهود، وتقليدهم للغربيين المتفوقين مدنيا.. وتولي الكثير منهم لليونانيين الوثنيين..
قال عز وجل : " لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، لبئس ما كانوا يفعلون . ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون. " المائدة 78- 81(1/46)
موت الإسكندر الكبير* ببابل عام 323 ق.م وانقسام مملكته بين قواده العسكريين، ووقوع فلسطين ( عام 301 ق.م) والشام وفينيقيا والساحل تحت سيطرة بطليموس الأول Ptolemy Isoter ( سوتير) المتمركز بمصر. ... تمّ في إصحاح دانيال الثامن ذكر الإسكندر الكبير صراحة باسم ملك اليونان الأول، ومن بعده انقسام مملكته إلى أربع ممالك.. وهو ما أشير إليه في الفصل السابع من كتاب دانيال بنمر له أربعة رؤوس وأربعة أجنحة.
وقوع السامرة وفينيقيا تحت ملك السلوقيين ( حكام سوريا اليونانيين) ثم عودتها إلى البطالمة ( تكرر الاحتلال المتبادل بين البطالمة والسلوقيين للقدس ست مرات على الأقل في هذه الفترة) ... تم تفصيل هذه الأحداث في الإصحاحين الحادي عشر والثاني عشر من كتاب دانيال، وهي لا تعنينا في قضية البشارات.
امتلاك السلوقيين ( يونانيين) لفلسطين وفينيقيا وطرد البطالمة ( يونانيين كذلك) عام 203 –200 ق م، بمساعدة اليهود المتدينين.
تثبيت انطيوخوس AntiochusIII الملك اليوناني بسوريا لسيمون الثاني ( سمعان) المحافظ على حكم اليهود عام 200ق م، وإعطاء المدن اليهودية واليهود معاملة خاصة كأمة تُحكم بالتوراة وذلك في وثيقة خاصة عام 200 ق م، وانتصار دعاة الصلاح والعودة إلى التوراة على دعاة التغريب وتقليد اليونانيين.
هجوم هيليودوس قائد السلوقيين ( تحت حكم الملك السلوقي سليوكاس Seleucus) على القدس عام 180 ق م لاغتصاب أموال الهيكل، واستجابة الله لتضرع المؤمنين تحت زعامة الكاهن Onias أونياس* ابن سيمون، واصابة القائد السلوقي بصرع مشل. ... - جأر الناس رجالا ونساء بالإستغاثة بالله تعالى، فاستجاب لهم ووقع القائد اليوناني مشلولا عند اقترابه من الهيكل.. فكانت بذلك آية أخرى لبني اسرائيل وللمؤمنين من بعدهم.
انتقال الكهانة إلى يوشعJoshua ( الملقب جاسون) أخي أونياس بخيانة وتآمر مع الملك السلوقي سليوكاس، ومقتل أونياس ( الكاهن الصالح) بعد ذلك عام 180 ق. م .(1/47)
محاولة يوشع الكاهن تغريب القدس لتكون حاضرة يونانية، ونجاحه في إقناع انطيوخوس ايبيفانوس ملك اليونانيين السلوقيين لألغاء معاهدة عام 200 ق م التي تعطي لليهود وضعا خاصا ليُحكموا بالتوراة، وقبول عامة اليهود لهذا الإلغاء الذي يعني عدم تمييز مدنهم عن بقية المدن اليونانية، بما في ذلك من تعطيل الشريعة والتوراة. ... عجبا كيف يعيد المسلمون اليوم أخطاء بني إسرائيل ! وكيف يستعين كثير من حكامهم بالكفار من غير المسلمين في حربهم هم أنفسهم على الشريعة وأحكامها.. ذلك هو خبر خاتم الأنبياء !!
إزاحة الملك اليوناني Epiphanes Antiochus انطيوخوس ايبيفانوس* ليوشع عام 172 ق. م ووضع مينيلاوس Menelaus مكانه على الكهانة بعد رشوة الأخير للملك اليوناني، وتغيير الكاهن الجديد لاسم القدس إلى اسم "أنطاكيه اليهودية" إرضاء لليونانيين حكام انطاكيه (الاسم مشتق من اسم الحاكم نفسه). ... الملك اليوناني انطيوخوس ايبيفانوس*هو الطاغية المقصود في دانيال: الإصحاحات الثامن، الحادي عشر والثاني عشر ، وكلمة ايبيفانوس تعني ادعاء للألوهية.
- يلاحظ هنا خذلان السادة اليونانيين لعميلهم يوشع الذي سعى إلى نشر الثقافة اليونانية ونقض الشريعة.. ما أقرب هذا إلى خذلان الكفار مرارا لمن نافقهم بالتاريخ الإسلامي..
استعانة يوشع ( جاسون أو ياسون) بالبطالمة حكام مصر اليونانيين واستعادته معظم القدس بشكل مؤقت عام 170 ق.م، ثم دخول انطوخيوس* للقدس وسلبه للهيكل ومحتوياته، ثم هدمه لأسوار المدينة في السنة التالية، ثم إصداره لمرسوم تحريم الطقوس الدينية بالهيكل وتحريم الراحة يوم السبت، وتحريم الختان واتباع الشريعة، وفرض عقوبة الإعدام للمخالفين. ... - على القاري ملاحظة أن انطوخيوس * عاش ضمن فترة الحكم اليوناني ( المملكة الثالثة)، وليس ضمن فترة الحكم الروماني ( المملكة الرابعة) ، فليس هو المعني بأحداث بشارة دانيال بالإصحاح السابع كما سنفصل فيما بعد.(1/48)
- روما تسيطر على أرض اليونان عام 168 ق م، مع بقاء استقلال الممالك اليونانية بالمشرق.
تدنيس انطوخيوس للبيتAbomination بإقامة نصب من الحجر لآلهة اليونان Zeus Olympios عام 167 ق م ليشترك الناس يهوداً وغير يهود في عبادة واحدة ، وتأييد اليهود المستغربين لذلك.. وتغييره لإسم أورشليم ألى إسم إنطيوخيا/ انطاكية ( اشتقاقا من اسمه) .
هروب يهوديّ اسمه ماتاثياس Mattathias وأولاده الخمسة إلى التلال خارج القدس، وذلك بعد قتله يهودياً قرّب قرباناً لأصنام اليونان وانضمام اليهود الصالحين إليه، في حملة تمرد وحرب عصابات رأسها فيما بعد ابنه جوداس أو يهودا Judas ( الملقب بالمكابي ) عام 166ق.م ... ثورة الحشمونيين ضد اليونانيين 164ق.م قامت غيرةً لله وتوجت بنصر عاجل وعظيم للمؤمنين الضعفاء أمام قوة اليونان الغاشمة..
انتصار جوداس على اليونانيين وأتباعهم من اليهود المستغربين بعد 3 سنوات من الحروب المتتابعة واستعادة القدس في 25 من شهر Kisliv اليهودي ( ثبته اليهود بالنسيئة التي يضيفونها على الشهور القمرية ليوافق أحد أيام ديسمبر) عام 164 ق.م بعد أن خلت من أهلها وعطلت عبادة الله عز وجل في بيت الله بها، واحتفال اليهود به بعد ذلك كعيد التشانوكا السنوي Chanukkah، وقيام حكم الحشمونيين Hasmonean بعد ذلك. ... - كانت حروبا لفئة قليلة من المؤمنين في وجه أعداد كبيرة من الكفار، ولكنها استعانت عليهم بالدعاء والتوبة والصوم قبل المعارك، فنصرها الله عز وجل على قلتها، وأعادت بيت الله وطهرته من أوثان اليونانيين بعد أن بقي سنوات مهجوراً.
- يلاحظ في هذه الحروب شدة اليهود على أعدائهم بذبحهم كل الذكور في عدد كبير من المدن التي سيطروا عليها ( لم يكن معهم نبي في هذه الحروب).(1/49)
استشهاد جوداس ( 160 ق م)، وزعامة أخيه جوناثان للقتال حتى قبض اليونانيون عليه غدرًا وقتلوه عام 142 ق م، ثم توليّ أخيهم سيمون لزعامة حروب التحرير حتى اكتمل الاستقلال في عهده ولكنه استقلال غير مستقر وغير تام.. واستمرار الخيانة من اليهود المستغربين ... - تميزت الفترة باستمرار القتال والغدر المتبادل والثأر بين ملوك اليونان بمصر وسوريا وقادتهم وأبنائهم، وتنافسهم في بعض الفترات لكسب ود اليهود مما أفاد اليهود وثبت حكمهم ولو إلى حين.
-- وفاة الطاغية أنطوخيوس بعد سماعه بانتصارات اليهود، وكانت وفاته بالعراق كسيرا ومهزوما من أعدائه.. تحقيقا لقوله تعالى بسورة البقرة آية114: " ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها، أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين، لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم"
- مقتل سيمون عام 134 ق م على يد زوج ابنته جون هيركانوس John Hyraccanus ، وتتابع قتل الحكام من الحشمونيين من أبناء جوناثان على أيدي إخوانهم وأولادهم، وانحراف الحكم عن الالتزام بالشريعة، ووقوعهم تحت حركة التغريب الإغريقي، هذا رغم تميز هذه الفترة بإجبار غير اليهود مع ذلك على اعتناق اليهودية أو القتل. ... سرعة انحراف المحكومين..وإضاعة هوية المؤمنين إلى حد كبير
انقسام اليهود إلي ثلاث فرق: الصدوقيين Sadducees الموالين للحكام، والفريسين Pharisees، والأسينيين Essen's نهاية القرن الثاني قبل الميلاد وخروج الإسنيين إلي الصحاري حنقاً على التغريب وعدم الالتزام بالشريعة. وقد ظهر بعد ذلك "الغيورون Zealots" وهم الذين آمنوا بقرب قيام مملكة الله عن طريق قتال الرومان، وكانوا المسئولون عن الثورات ضد الرومان في الأعوام 70 و 132م. ... هذه هي المجموعات الدينية الرئيسة في تلك الفترة.(1/50)
قيام الاسكندر الحشموني ( حفيد جوناثان) ( 105 ق.م – 76 ق.م ) بقتل ستة ألف يهودي، ثم شنق ثمانمائة آخرين بعد قتل نساءهم وأطفالهم أمام أعينهم. ... انحراف لا يعقل عن طريق الأجداد الذين أنشأوها دولة دينية
تقاتل أولاد الإسكندر: هيراكانوس الثاني Hyrcanus II مع أخيه اريستبولاس الثاني AristobulusII على الملك، واستعانتهم بقوى خارجية، الأمر الذي انتهى بعد أربع سنوات من الحرب الأهلية بدخول الروم وطرد اليونان من أنطاكيه عام 64 ق.م، ثم دخول القائد الروماني بومبي* Pompey القدس عام 63 ق.م وذبحه 12 الف من اليهود وهدمه لأسوار المدينة. ... - انتهاء فترة شبه الاستقلال ( تحت مرجعية يونانية)، وانتقال اليهود من الحكم اليوناني (المملكة الثالثة) إلي الحكم الروماني (المملكة الرابعة) واضح دور فساد الحكام في إضاعة الحكم الذي أقامه أجدادهم.. فمصيبة اليهود بالروم ( الذين سموهم بالكتيم ) كانت قطعا أشدّ..
تعيين بومبي لهيراكانوس الثاني كاهنا، وهو – أي هيراكانوس- الذي كان قد استدعاه ليستعين به على أخيه اريستبولاس الثاني الذي تمّ أسره الى روما، وتمّ اختيار انتيبارتر(من المتهِّودين الإيدومييين) الذي ساعد في نصرة هيراكانوس والروم، تم اختياره رئيساً للجيش و مستشاراً لهيراكانوس. ... وهذه هي الفترة التي اعتقد الباحثون أن أصحاب مخطوطات البحر الميت كانوا يعنونها عند الحديث عن قتل المعلم الصالح ووقوع عذاب الاستئصال على بني إسرائيل، وقد بينت في كتاب التباشير خطأ هذا الاعتقاد.
- دخل الروم فلسطين بدعوة من كل الفرقاء المتناحرين، وكذلك بدعوة الفريسيين الذين دعوهم ليزيلوا الحكم الملكي ( الحشموني) الذي لم يعتبروه شرعيا لأنه ليس في سلالة الصادوقيين.. فكانت نتيجة هذا التطاحن والتعصب للقشور أن أضاعوا في النهاية كل شيء..(1/51)
- موقف الفريسيين الذين آثروا حكم الرومان الوثنيين على حكم ملكي يهودي قام أصلا على الثورة والجهاد للدين، لمجرد أن الحكام ليسوا من سلالة مُوصَى لها ( ليسو من أبناء صادوق).. هذا الموقف الذي يقدم فيه التمسك بالقشور على الأصول ليس غريبا للأسف على التاريخ الإسلامي.. " ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، كل حزب بما لديهم فرحون" الروم 21-22
- سيطرة انتبارتر Antiparter بمعونة قيصر على فلسطين، وإقصاء الحشمونيين بذلك من الحكم، ووراثة ابنه ( من بعده) هيرود *Herod مع أخيه فاسائيل Phasael للحكم عام 44 ق.م من بعد حادث اغتيال والدهما انتبارتر.. ... - بأسهم بينهم شديد.. لكنّ التاريخ الإسلامي بمجمله للأسف قد أمتلأ كذلك بالصراع على الملك.. عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لتتبعن سنن بني إسرائيل شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخل رجل من بني إسرائيل حجر ضب لا تبعتموه فيه".
- فقدان هيرود وأخيه للحكم لفترة عاد خلالها الحشمونيون ( عام 44 – 37 ق م) تحت دعم البارثيين أو الفرثيين الفرس، وقد قتل فاسائيل خلال هذه الفترة، وفرّ هيرود الى الروم الذين أستعان بهم لإستعادة ملكه، فدخل أورشليم عام 37 ق م بمعونة مارك انطونيو، الذي قتل الملك الحاشموني انتيجوناس بطلب من هيرود!، ووقعت مجزرة عظيمة قتل بها الآلاف من اليهود على أيدي الرومان..
- كان ولاء انتبارتر هو لبومبي، ولكنه حوّل ولاءه بسرعة لخصمه يوليوس قيصر لما أحسّ بانتصار الأخير على بومبي .. وكانت النتيجة أن جعله يوليوس قيصر الحاكم المطلق على اليهود..
- وحافظ هيرود ابن انتبارتر على المُلك باتباع هذه السياسة.. فوالى قتلة يوليوس قيصر ( 44 ق م)، ولما أحس بهزيمتهم على يد مارك انطونيو وأوكتافيان حول ولاءه للأخيرين..(1/52)
- ولما تقاتل فيما بعد مارك أنطونيو وأوكتافيان، حوّل هيرود ولاءه لأوكتافيان المنتصر، رغم صداقته الشخصية قبل ذلك لمارك انطونيو الذي استعاد له ملكه عام 37 ق م، وسارع بنصب معبد لأوكتافيان في ساماريا لعبادته لمّا ادعى الألوهية! بل وسمى ساماريا بلقب أوكتافيان الجديد وهو سيباست Sebaste وهو اللفظ اليوناني للقب أغسطس Augustus ثم بنى له قيصرية عام 22 ق م.(1/53)
- بناء هيرودس معابد لأصنام الإغريق والرومان بالمدن غير اليهودية، وبنائه معبداً للإمبراطور Octavian (الملقب بأغسطس) عند ادعائه الألوهية، وبناء مدينة قيصرية لشرف الإمبراطور المتأله! وبها بنى أيضا معابد رومانية.. ... - استطاع هيرود أن يحقق نهضة عمرانية ومدنية سريعة تحت ظل الإحتلال الروماني.. فقد أرضا الرومان بالتخلي عن سياسة الحشمونيين في إرغام الناس على اعتناق اليهودية، بل تجاوز ذلك الى إرضائهم ببناء المعابد لأوثان اليونان والرومان بالمدن غير اليهودية بمملكته.. وبناء القلاع والمدن بالقاب ملوكهم.. فأصبحت له لديهم مكانة عالية حتى مكنوا له بفلسطين ( باليستيا كما سماها الرومان ) وكرموه بتعيينه رئيساً للألعاب الأوليمبية ! وتمكن بذلك من النهوض بالحياة المدنية لليهود.. ومما أنشأه في أورشليم وحدها قلعة ضخمة سماها أنطونيا نسبة الى مارك انطونيو قبل أن يهزم، وبنى خزانا للمياه، وقصورا له ولأخرين، وكان قصره آية في الجمال، وأصلح الطرق، وأقام بالمدينة مسرحا وحلبة لسباق الخيل، وأعاد بناء أسوار المدينة التي هدمها بومبي، هذا إضافة الى إعادة بناء المعبد عام 19 ق م على أسس وقواعد المعبد الثاني الذي بناه العائدون من الأسر البابلي، من دون أن تنقطع العبادة خلال مدة البناء التي استمرت 18 شهرا، وتقديساً للمكان فقد جعل البناء على أيدي ألف كاهن يهودي دربهم على أعمال البناء والنجارة ! ولم يزد في حجم البنيان الأصلي لكنه زينه بالرخام والذهب حتى أصبح آية في الجمال، حتى قال الريبيون بعد ذلك " بأن من لم يشاهد معبد هيرود لم يشاهد مبنى جميلا في حياته.. ثمّ أنشأ صرحا هائلا للمعبد بمساحة 35 فداناً.. لم تنتهي أعمال بنائه إلا بعد ثمانين عاما بعد ذلك.. أي بعد وفاة هيرود..(1/54)
- قيم نهضة عمرانية ضخمة بأورشليم وإعادة بناء المعبد عام 19 ق م في مشروع ضخم بدأه هيرودس* ( انتهى العمران عام 59 م).. وعلى هذا فالرومان عام 70م هدموا عمرانيا المعبد الثالث وليس الثاني، وإنما أعتبر بناء هيرود من الثاني لأن العبادة لم تنقطع أثناء بنائه! ... - سعة الصرح الهائلة هي التي سمحت بالتجمع الضخم لليهود من المدن المختلفة بأورشليم وبالمعبد للأحتفال بيوم العبور عام 70م، فكان العقاب الأليم على أورشليم شاملا لليهود من كل مكان..
- يفتخر اليهود بحكم هيرود ويعتزون به !! إلا أن المؤمنين قاوموه واعتزلوه رغم انجازاته المدنية الضخمة.. وقليل ما هم ..
.. لا شكّ بأنّ حكم هيرود والرضا عنه كان من ضمن ذنوب كثيرة لا يحصيها إلا الله عزوجلّ تسببت في النهاية بعقاب الله العظيم على اليهود عام 70م.. فهل يستفيد المسلمون من أخطاء من قبلهم..
ظهور جماعات دينية تدعو إلى المفاصلة مع الكفار ( جماعة شامي)، أو إلى تطهير البيت وإلى التآخي (جماعة هيلل Hillel)، أو إلى هجر المجتمع الفاسق (جماعة قمران ) ... - عاشت جماعة قمران في القرنين الثاني والأول قبل الميلاد، ويعتقد أنها إمتداد للأسينيين، وقد انتهت على أيدي الروم عام 70م، إلا أن الأصح أن إختفاءها الفكري والعقدي كان سببه هو إعتناق أتباعها للنصرانية.
إعادة بناء المعبد عام 19 ق م في مشروع ضخم بدأه هيرودس* ( انتهى العمران عام 59 م). ... فالرومان هدموا عمرانيا المعبد الثالث الذي بناه هيرود وليس الثاني، وإن كان " معبد هيرود" يعتبر جزءا من تأريخ المعبد الثاني نتيجة عدم إنقطاع العبادة بالمعبد الثاني أثناء بناء " معبد هيرود"، ولم يعمر المعبد الثالث هذا إلا قليلا !
هذا العمل العظيم تمّ كما ذكرنا من قبل على يد هيرودس رغم خضوعه للروم واضطهاده للصالحين.
قتل هيرودس* لزوجته وثلاثة من أولاده خوفا على ملكه منهم. (لأن زوجته من سلالة الحشمونيين). ... نموذج تكرر مرارا لدى المسلمين !(1/55)
رفع هيرودس* شعار النسر الذهبي (شعار الحكم الروماني) على بوابة المعبد، وقيامه وهو على فراش الموت بقتل من أنزله من المؤمنين الغيورين، ثم قيام الجيش بقيادة ابنه اراكيلوس Arachelaus بعد وفاة هيرودس الأب بقتل ثلاثة آلاف يهودي ( يوم عيد الفصح)، للسيطرة على الثائرين على مقتل الغيورين الذين أنزلوا النسر الذهبي ومعلميهم، ثم خلال خمسة أسابيع أخرى في عيد العنصرة، تمّ شنق ألفين آخرين على يد حاكم سوريا الروماني خلال سفر أراكيلوس إلى روما.. ... نموذج لم يتكرر لدى المسلمين أبدا !
- تقسيم مملكة هيرودس بين أبنائه (يتلقب كل منهم بأمير ربع).(1/56)
- دعوة يحي* عليه السلام عام 26-30م، وإنذاره اليهود بقرب عقاب الله لهم واستئصالهم، ودعوتهم للتوبة والإنابة إلى الله، ثم مقتل يحي عليه السلام وقطع رأسه عليه السلام على يد هيرودس انتيباس وتقديم رأسه في طبق إرضاء لزوجته العاهر هيروديا Herodias التي هي أصلا امرأة أخيه لأبيه فيلبس Herod Philip من قبله، وكان قد أحبها في أثناء رحلة إلى روما، وهي مازالت بعصمة أخيه فيلبُّس، وهي كذلك أبنة أخيه لأبيه ارسطوبولس ( محرّم الزواج بالعمة والخالة وابنة الأخ والأخت كما هو الحال في الشريعة الإسلامية)، وقد اشترطت هيروديا من أنتيباس طلاق زوجته السابقة ابنة ملك بترا، مما تسبب في حرب مع أبي زوجته الأولى ملك بترا الذي شعر بالإهانة وتمكن من الإستيلاء على بعض أراضي أنتيباس، وهجرت هيروديا زوجها الشرعي فيليبس، وانتقلت مع ابنتها سالوم للعيش مع أنتيباس، وسجن أنتيباس من أجلها نبي الله يحي عليه السلام، حين هاجم زواجهما غير الشرعي.. وحدث أن رقصت ابنتها سالوم بعيد ميلاد هيرودس أنتيباس، فابتهج لها أنتباس ووعدها بأن يحقق لها أي طلب تريد، فهمست هيروديا لإبنتها أن تطلب رأس يحي عليه السلام.. فحزن هيرودس ولبّى طلبها رغم تقديره الشديد قبل ذلك ليحي عليه السلام! ( متى 14: 1- 12). ... ? لو تبنى يحيى عليه السلام تفكيرنا لضنّ بنفسه أن تقتل بسبب عاهر وقومه بأشد الحاجة إليه، ولو داهن الحاكم في عهده وفساده كما صنعت الكهانة الرسمية لكان الصمت على فجور الحكام ديناً، ولكن الصدع بالحقّ هو ما اختاره نبي الله يحي عليه السلام..(1/57)
انتهى حكم هيرودس انتيباس بنفيه هو وزوجته هيروديا إلى منطقة جول بفرنسا بعد تجريدهما من أملاكهما وأموالهما، وضمها إلى اقريباس الأول منافس أنتيباس وأخي هيروديا، وكان ذلك من قبل الإمبراطور كاليجولا Caligula لمّا طلب منه أنتيباس إضافة لقب ملك له كما صنع ذلك بأقريباس، ولكن الإمبراطور كان صديقا شخصيا لأقريباس وقد استمع لوشايته على أنتيباس بأنه يتأمر على الروم .. ومن ثمَ نفاه. ... ? ظلّ وما زال حادث قطع رأس نبي الله العظيم يحي عليه السلام عزاء لكل مصائب المؤمنين بعد ذلك.. وبه عزى الصحابة والتابعون أنفسهم في حوادث قتل الحسين وعبد الله بن الزبير رضي اللع عنهما..
إن قتل العلماء على أيدي حكام المسلمين لهو المظهر المقابل في التأريخ الإسلامي لقتل الأنبياء على أيدي بني إسرائيل..
- تُلقي هذه الحادثة بعض الضوء على فتنة النساء في بني إسرائيل، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم : " .. واتقوا النساء فإنّ أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" .. فقد أرضى زوجته العاهر رغم إيمانه بنبوة يحي عليه السلام ( كما يفهم من الإنجيل متى 14: 2) أرضاها بما أضاع ملكه ودنياه ودينه..
دعوة المسيح عيسى* عليه السلام في الأعوام 30-33م. ... أعلن المسيح عيسى عليه السلام أنه آخر الأنبياء إلى بني إسرائيل
تآمر الكاهن الأكبر قيافا* Caiaphas على عيسى عليه السلام، ومحاولة صلبه بإذن من الحاكم الروماني بيلاطس *Pontius Pilate عام 33م. ... ذلك هو الكاهن بمخطوطات البحر الميت الذي سيتآمر على المعلم الفريد(1/58)
بروز يعقوب* Jamesابن خالة المسيح وقيادته للنصارى من بعده عليه السلام، وقد عرف بلقب الصديق وبالرجل الصالح، واشتهر بالتقوى والصلاح والالتزام التام بكل حرف من التوراة، وكانت إمامته شاملة لعامة اليهود.. وقد اختص بشرف دخول البيت ( مرة كل عام) من بين كل الكهنة والعلماء.. وكان لا يُسمح بدخول قلب الهيكل إلا لأصلح رجل، ومرة واحدة بالعام.. وذلك مما يدل على ظهور أمر النصرانية في تلك الفترة بين عامة اليهود. ... تسمى النصارى أتباع يعقوب باسم المساكين ( نفس التسمية التي تبناها أصحاب مخطوطات البحر الميت لأنفسهم).. وريادة يعقوب لليهود ووجاهته بينهم، وهو أمير النصارى من بعد المسيح عليه السلام، يدل على ظهور أمر أتباع عيسى عليه السلام من بعده وسط المجتمع اليهودي، وهو ما يشير إليه القرآن الكريم..
بروز الانحراف العقائدي بين اليهود المستغربين Hellenized Jews الذين تنصروا بعد عيسى عليه السلام وهم من أهالي المناطق خارج القدس، ورجم زعيمهم ستيفن بالحجارة حتى الموت نتيجة تجاوزاته العقائدية، ثم التضييق على أتباعه من اليهود المتنصرين المستغربين الذين اضطروا إلى الهروب من القدس.. وقد اتبع هؤلاء بولس الذي خرج تدريجيا عن الإلتزام والولاء لكنيسة القدس بزعامة يعقوب. ... بداية ضلال النصارى عن تعاليم المسيح التي جاء بها..
بقاء النصارى بالقدس وكلهم كانوا يهودا تحت زعامة يعقوب كجزء من الأمة اليهودية، يشتركون معهم في معابدهم وصلواتهم وأسس عقائدهم..
إنشاء الكنائس بمدن فينيقيا وقبرص وانطاكيه التي فرّ إليها اليهود المستغربون المتنصرون، وانضمام بولس إليهم عام 40م.
دعوة بولس*( 46-64م) لإلغاء التوراة، وشريعة التوراة، والاعتقاد بالمسيح كمخلص، وانتشار دعوته خارج فلسطين لاتفاقها مع روح العقائد الإغريقية الرومانية في ذلك الحين كما يذكر المؤرخون. ثم الانفصام عن النصارى اليهود من اتباع يعقوب(1/59)
أمر الإمبراطور جايس كاليقولا ( 37-41م) عام 41م بنصب تمثال له ببيت الله (المعبد بالقدس) وخروج عشرات الآلاف من اليهود لمنع هذا الأمر، وفشل مشروع الإمبراطور باغتياله بروما.
ظهور أنبياء كذبة كثيوداس* وآخرين في الفترة بين 35- 59م ... حذر منهم المسيح عليه السلام
محاكمة بولس* من قبل نصارى القدس عام 58م، وانتهاء الأمر باعتقال بولس الذي احتمى بجنسيته الرومانية مما استدعى إرساله إلى روما ... - بولس كان النبي الكذاب في نظر نصارى القدس كما ثبت عنهم.
قتل " الرجل الصالح" الصديق يعقوب* برميه من عل، بأمر من الكاهن الأكبر رغم معارضة عدد كبير من الفريسيين واستشهاد ثمانين فريسيا معه عام 62م ... - قتل رغم مكانته العظمى الثابتة بين اليهود ولو كان نبيا لقتلوه ! فما تابوا بعد ما صنعوا بآخر ثلاثة أنبياء إليهم: زكريا ويحي وعيسى عليهم السلام.
انتقال زعامة النصارى اليهود لسيمون* ابن خالة المسيح، وخروجه بهم إلى الصحراء الأردنية تحسبا لقرب هلاك اليهود بالقدس، امتثالا لأوامر المسيح بالهروب من المدينة. ... وبذلك أنقذ الله المؤمنين بطاعتهم لأنبيائه، وتمّ استئصال الأشرار ( بقية اليهود الذين كفروا بعيسى) من الأرض المباركة
هدم المعبد الثاني ( وهو في الواقع الثالث بناءً) على أيدي تيطس* الروماني عام 70م، وقتل مليونا ومائة ألف من اليهود غير مئات الآلاف من الذين ماتوا جوعا، وأسر 93 ألفا انتهى أمر كثير منهم للقتل في المسارح الرومانية متعة للرومان. ... - أحداث متعلقة ببشارة السبعين أسبوعاً، وبالتبشير بمجيء المختارين، انظر التفاصيل بالفصل الثالث(1/60)
كانت بداية حكم تيطس في 67 م، وتمّ تعطيل الذبائح في 6/ 8/ 70 م ( بعد 3سنوات) ... - استمرت الثورة اليهودية بين عامي 66- 73م، وتمّ هدم المعبد ومدينة القدس في منتصف تلك الفترة ( أي عام 70 م)، وتم القضاء على آخر معقل لليهود في مسعدة Masada عام 73 م ( فهي فترة سبع سنوات كان هدم البيت بمنتصفها، وذلك ذو دلالة ببشارة السبعين من كتاب دانيال).
بداية كتابة المشناة على يد يوحنان Yohanan عام 73 م، ثم بقية التلمود على يد أجيال لاحقة.
تغيير اسم أورشليم إلي إيليا كابيتولينا عام 130 م على يد الإمبراطور هادريان*.
ثورة باركوشبا* (مدعي للنبوة)عام (132-135 م) في عهد الإمبراطور هادريان* Hadrian، وفشلها الذريع وقتل خمسمائة وثمانين ألفا من اليهود من غير الذين قتلهم الجوع والمرض، وتشريد البقية الباقية من اليهود، وتحريم الأرض المباركة عليهم، وتغيير أهلها بعد تغيير اسمها، (تم هذا القمع عام 138 م) ... لو أطاع اليهود آخر أنبيائهم ما اتبعوا باركوشبا*، ولكنه كان الوعد الحقّ بطرد اليهود حتى لا يبق منهم بفلسطين أحد
توالي الأباطرة الرومان على حكم فلسطين، وتحريمها على اليهود، واشتهار عشرة منهم باضطهاد النصارى. ... الأباطرة العشرة هم بلا شك العشرة قرون ضمن المملكة الرابعة في دانيال 7
تقسيم ديوكلتيان* Diocletian الإمبراطورية إلى شرقية وغربية، مع اختيار إمبراطور لكل ناحية ونائب له عام 305م، وتمرد النواب بحيث أصبح للإمبراطورية أربعة أباطرة. ... التفاصيل عند الحديث عن قسطنطين في بشارة رؤيا دانيال بالإصحاح السابع
وراثة قسطنطين* للحكم في نصف الإمبراطورية الغربي عام 305 م ( أو 288-337 م) بعد وفاة والده، ثم توحيده للإمبراطورية تحت حكمه بعد تغلبه على الأباطرة الثلاثة الآخرين المنافسين.(1/61)
مجمع نيقية Nicaea عام 325 م تحت زعامة قسطنطين الوثني حينها، وكتابته بنفسه للنص العقائدي ! ثم إعادة كتابة النصوص الدينية ( الأناجيل والرسائل المقدسة لدى المسيحيين)، من بعد إتلاف جميع الرسائل والأناجيل على يدي الإمبراطور ديوكليتيان* من قبله، بحيث لم يحفظ التأريخ أي رسالة مكتملة ( ولا حتى واحدة) مكتوبة من قبل عهد قسطنطين إلا ما سمح قسطنطين نفسه بكتابته على أيدي المجموعة المسيحية التي تبناها. ... يرى باحثون معاصرون أن النصرانية المعاصرة تنتسب إلي قسطنطين أكثر مما هي إلى عيسى عليه السلام..
انقسام الإمبراطورية مرة أخرى إلى شرقية وغربية عام 340م، وتحديد حدودهما عام 364م، وقيام الحروب بينهما، مع توحيدهما عددا من المرات آخرها تحت حكم ثيودسياس (392- 395 م), وتفوق القسطنطينية على روما سكانا وثراء، مع إرثها لكل عادات وامتيازات روما وسكانها.
الذوبان التدريجي للعاصمة الغربية روما تحت غزو القوط الألمان، وتغلغلهم في الجيش ومراكز النفوذ بالدولة الغربية، بمساعدة من حكام القسطنطينية في بعض الأحيان، والسقوط الرسمي لروما كعاصمة غربية للإمبراطورية الرومانية عام 476م، ونقل الألمان لشعار الإمبراطورية للإمبراطور بالقسطنطينية توحيداً للإمبراطورية، وبقائهم رسميا كجزء من الدولة الرومانية، وإن لم تقم للإمبراطور بالقسطنطينية سلطة عليهم بروما. ... لا يصح إطلاقا اعتبار سقوط روما تحت حكم الألمان نهاية للإمبراطورية الرومانية، وكيف وعاصمتها بالقسطنطينية كانت وظلت قائمة منذ أن بنيت عام 324م، وظل حكام الإمبراطورية هم أنفسهم قائمون بالجزء الشرقي منها، وظلت سيادتها على الجزء الغربي باقية نظريا، ثم استعيدت تماما فيما بعد.
الصياغة النهائية للتلمود البابلي 499، إلا أن التلمود لم يأخذ شكله النهائي إلا بعد ذلك بقرون طويلة.
مولد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عام 571م بمكة.(1/62)
استيلاء الفرس على القدس 614 م، ثم استعادة الرومان لها عام 629 م.
هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم سنة 622 هـ.
دخول عمر بن الخطاب أورشليم فاتحا عادلا ومنتصرا متواضعا وراكب على حماره في فبراير عام 638 م، وبناء المسجد الأقصى. ... - تحقق نبوة زكريا*
- وتحقق نبوات قيام مملكة الله (دانيال، الأناجيل).
- وتحقق نبوات وراثة الأرض المباركة
" ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لمّا ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وماكانوا ليؤمنوا، كذلك نجزي القوم المجرمين. ثمّ جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون" يونس: 13-14
بقاء الأمة الإسلامية بفلسطين منذ أن فتحها عمر عام 638 م حتى يومنا هذا، وكانت هي الحاكمة في كل هذه الفترة عدا سنوات الحكم الصليبي وعدا السنوات الأخيرة من بعد 1948 أو 1967 ( للضفة الغربية) فقد صارت محكومة، لكنها ثبتت بالأرض المباركة كأحق الناس بها.. وهي اليوم تملك قلب فلسطين ومواطن الوحي والتاريخ منها رغم جبروت إسرائيل ومكرها.. ... قارن هذا بسكن اليهود لفلسطين مدة 1300 عام كانوا دائما هم المحكومين عدا فترة محدودة جداً كانوا بها حاكمين.. ومع ذلك فقد اعتبرت فلسطين أرضهم في تلك الفترة رغم أن أمما أخرى غيرهم تمتلكها ( سياسيا) على مر الدهر
احتلال الصليبيين للقدس وأجزاء من فلسطين لفترة محدودة نسبيا تحت حكمهم.. ... أقاموا مجازر هائلة بالمسلمين من سكان فلسطين.. وكذلك كان دخول كل أمة لفلسطين عبر التاريخ إلا دخول المسلمين على يد عمر وصلاح الدين..(1/63)
قيام إسرائيل المعاصرة عام 1948 م على أساس علماني لا يحتكم إلى شريعة التوراة ولا يتبعها، ولا يعرف منها إلا ما يستشهد به لتبرير احتلال الأرض المباركة واستباحة أملاك أهلها، وقتلهم وإبادتهم كما صنع اليهود عند إعلان دولتهم، وكما يزعمون أن آباءهم صنعوا عند دخولهم أرض كنعان، وليت ذلك من الوحي الحق، ولو كان فليس ذلك لهم اليوم من الله بعد كفرهم بالأنبياء وإعلان الله غضبه عليهم مالم يتبعوا أنبياءه... ... هل هذه عودة إلى الله.. وقد قيل لهم في التوراة والقرآن: " وإن عدتم عدنا".. أم هي بلا شك عودة إلى الأرض لا إلى الله (1)، في ظل الردة والكفر، لن تكون نهايتها إلا أسوأ من ذي قبلها كما يعلمون ! ألا فلا يظن يهود اليوم أن الله قد رفع عنهم اللعنة التي ثبت وقوعها عليهم وهم اليوم على كفر أشد من آبائهم بالله والأنبياء ! ألا فلا يظنوا أن الله معهم على كفرهم وإجرامهم.. ألا فلا يظن المتدينون منهم أن العودة إلى الله عز وجل يمكن أن تتم بإتباع توراةٍ منسوخة ومحرفة وكفرٍ بأنبيائه عيسى ومحمد المبشر بهما في كتبهم كما سنرى، وأن لهم أن يختاروا من يتبعوا.. فلقد أهلكهم الله من قبل وهم يظنون أنهم متوكلين عليه في مواجهتهم لنبوخذنصر* ولتيطس* وهادريان* وغيرهم، وما أهلكوا إلا لأنهم اتبعوا الأنبياء الكذبة ممن يُرضون أهواءهم.. أفهل يتعظون !! ويتوبون إلى الله ويستغفرونه ويتبعون أنبياءه الحقّ!!
هامش الجدول الزمني
((1/64)
1) جاء في سفر نحميا 1: 8- 10:" إن خنتم عهدي فإني أشتت شملكم بين الشعوب، وإن رجعتم إلي وأطعتم وصاياي ومارستموها، فإني أجمع المنفيين حتى من أقاصي السماوات، وآتي بهم إلى المكان الذي اخترته لأُسكن اسمي فيه"، فالعودة الأولى بعد الأسر البابلي تمت بعد توبة وإنابة وتضرع، وبقيادة أنبياء، وأما هذه التوبة فقد تمت بمكر الليل والنهار من قبل العلمانيين من النصارى واليهود، بعيدا عن التوبة والإنابة فهي عودة تبدو ليجمعوا وليتكدسوا لاستقبال العذاب، كما تم مثل ذلك من قبل، وكما جاء في سفر صفنيا (2: 1- 3): " تكدّسي تكدّسي أيتها الأمة التي لا حياء لها، قبل أن تطردوا كالعصافة العابرة في يوم واحد، قبل أن يحل بكم اضطراب غضب الرب.."
مراجع الموجز التاريخي:
? القرآن الكريم
? الكتاب المقدس
??The Apocrypha, translated by Edgar J Goodspeed, 1959,
??Jerusalem by Karen Armstrong,
??History of the World by J.M. Robert,
??The timetables of History, 3rd Ed. By Bernard Grun,
??A short history of Western Civilization by John B. Harrison, et al
? الله جلّ جلاله والأنبياء في التوراة والعهد القديم للدكتور محمد علي البار
? التاريخ اليهودي العام لصابر طعيمة، 1983م،
? الحضارة البيزنطية للدكتور السيد الباز
مكانة الخلافة الإسلامية في التأريخ البشري:(1/65)
ظلت البشرية أمة واحدة صالحة دهرا من الزمن من بعد آدم عليه السلام.. ويفهم من الكتاب المنسوب إلى إدريس عليه السلام أن تلك الفترة ربما تكون قد تجاوزت الألف عام.. ثم انحرفت البشرية، وتناست تعاليم أبيها آدم عليه السلام، فأرسل الله إليها الرسل متتابعين.. فلم يتبعهم ويهتد إلى الله على أيديهم إلا القليل.. " ثم أرسلنا رسلنا تترا، كلما جاء أمة رسولها كذبوه، فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون" المؤمنون الآية 44.. وظل المؤمنون أقلية رغم العقاب الرباني المتكرر على العصاة.. ولم تخل أمة إلا وقد بعث إليها نبي أو أنبياء.. ولم تهتد أي أمة واحدة بجميعها إلا قوم يونس، ولكنّ اهتداءهم كان لفترة لا تبدو أنها طالت من بعد يونس عليه السلام.. ثم اختار الله عز وجل بني إسرائيل.. أحفاد الأنبياء إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام ليقيموا أمة ربانية مهتدية تكون نموذجا للمؤمنين وشاهدة على الأمم.. واهتدى من قوم موسى أمة عظيمة.. ولكنها ظلت أقلية بين بقية بني إسرائيل مطاردة عبر الزمان.. وعطّل بني إسرائيل الشريعة وعطلوا الكتاب وحرفوه وبدلوا كلام الله الموحى إليهم، وقلدوا الأمم الوثنية من حولهم.. وأفحشوا في ذلك حتى عبدوا غير الله.. واضطهدوا المؤمنين وقتلوا أنبياء الله ورسله، وكانوا أسوأ مثال على المؤمنين، وظلوا - عقابا من الله عليهم- خاضعين لغيرهم من الأمم، محكومين إلا لفترة حكم النبيين داود وسليمان عليهما السلام ثم فترة حكم أبنائهم لعدد محدود من القرون إضافة إلى فترة أخرى قصيرة جدا لم يكن الاستقلال فيها مكتملا أيام المكابيين.. ثم كان عقاب الله عز وجل لهم عقابا متكررا.. وتاب عليهم مراراً.. وظنوا أنهم أبناء الله وأحباؤه دونما شرط العمل الصالح.. ظنوا ذلك واغتروا بعهد الله لإبراهيم الذي يقرأونه في كتبهم، مع أن الوحي والكتب لديهم تمتلئ بعشرات المواضع التي تهددهم بالعقاب إن لم يطيعوا ويصلحوا..(1/66)
ولكن الانحراف ظل ديدنهم.. حتى جاء الحكم الإلهي بنزع النبوة منهم إلى أمة بديلة هي كذلك من نسل إبراهيم عليه السلام.. فكان قيام الأمة الإسلامية بعد ذلك.. أمة وارثة لدعوة الأنبياء جميعا، شاهدة على الناس، أبناؤها من كل الأمم، ودعوتها لكل الأمم.. وقام للمؤمنين أخيرا دولة مهابة ومنزلة ظلت هي الأعلى بين الأمم لما قد يتجاوز الألف عام.. ولأول مرة في تأريخ البشرية من بعد عهد آدم يجتمع هذا القدر من الأمم يعبدون الله ويتبعون الأنبياء بغير خوف ولا اضطهاد.. وانتشرت بيوت الله في كل بقعة وأمها الناس في أمان كامل، وسلام وعدل تام..
.. وحقّ بذلك أن يكون قيام دولة الإسلام وغلبتها للأمم الوثنية التي طالما اضطهدت المؤمنين من قبل، أن يكون هذا القيام مكان تسلية للمؤمنين السابقين وتخفيفا لمعاناتهم، بتبشيرهم بأن المؤمنين هم الغالبون فيما يلي من أيام..
ولكن الوجود البشري على الأرض هو وجود امتحان وابتلاء بالاستخلاف عليها.. ودين الله إنما أُنزل على بشر.. والمسلمون من البشر يسري إليهم الضعف كغيرهم، وقد أعادوا معظم أخطاء بني إسرائيل كما تنبأ لهم بذلك المصطفى عليه الصلاة والسلام، ولكن في نطاق أضيق.. فزال عنهم نصر الله وأسلموا لأعدائهم تأديبا لهم كما أخبر بذلك أيضا المصطفى عليه الصلاة والسلام.. وفقدت كثير من أمم الإسلام استقلالها التام كما فقده بني إسرائيل من قبل، وتحكمت في شئونها أمم كافرة كما وقع على بني إسرائيل من قبل، عقوبة من الله حتى يعود المسلمون إلى دينهم، يأخذونه كاملاً، لا أجزاء يأخذون، وأخرى يدعون.. ونعلم أن المسلمين عائدون إلى الله.. وأنها عودة مباركة سيتوجها نصر شامل للإسلام حتى يدخل كل البيوت على وجه الأرض كما أخبر بذلك أيضاً المصطفى صلى الله عليه وسلم.. وسيتمم نصرهم نزول عيسى عليه السلام حكما عدلا يؤمن به كل أهل الكتاب بعد انتصاره مع المسلمين عليهم. ..(1/67)
ولذا فمكانة رسالة الإسلام وأمته في تأريخ الأمم فريدة.. فالمؤمنون وأتباع الأنبياء مضطهدون إلا فيما ندر في تأريخ البشرية إلا عند قيام الإسلام.. وهو الدين والرسالة العالمية التي يجب على أتباع الأنبياء جميعا اتباعها.. فكان التبشير بها والتهليل لها أمرا طبيعيا..
نحن أولى بأنبيائهم وصالحيهم منهم:
إنّها أمة واحدة منذ آدم حتى آخر مؤمن يعيش على هذه الأرض.. دينها واحد.. ومعتقدها واحد.. والمشرِّع لها واحد.. إنها أمة الصالحين بما فيهم من الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين الذين قاموا على مرّ الزمان يدعون الناس لعبادة الله وحده واتباع شرعه.. ويجد المسلمون الذين يقرأون القرآن هذا المعنى في سورة الأنبياء حيث تأتي الخاتمة بعد استعراض قصص الأنبياء إبراهيم ونوحاً وداود وسليمان وأيوب وذا النون ( يونس) وزكريا ومريم مع ذكر أسماء الأنبياء لوطا وإسحاق ويعقوب وإسماعيل وإدريس وذا الكفل ويحي، تأتي الخاتمة لهذا الاستعراض بالآية الكريمة : " إنّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون" الأنبياء الآية 91، ويتكرر مثل هذا التعليق كذلك بسورة المؤمنين آية 52، فيأتي بعد استعراض قصص الأنبياء نوح وموسى وعيسى وأنبياء بينهم.. فبعد ذلك الاستعراض يأتي قوله تعالى " وإنّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون"..(1/68)
إنها أمة واحدة تعبد الله وتستسلم لأمره وحكمه، وهي تجاهد الضلال والزيغ المتكرر الذي ضلت البشرية تركنُ إليه كل حين، فيقوم الصالحون يقودهم الأنبياء والعلماء بهدايتها وإعادتها إلى الصلاح وهدى الله.. وتمرّ فترات عصيبة على المؤمنين، يُطاردون، ويُنكّل بهم، ويُقتلون، وهم أقلية.. فتأتيهم البشارات المتتالية تحثهم على الصبر، وأن هذه الدنيا فانية، وأنّ العاقبة فيها مع ذلك ستكون للمؤمنين، وأنّّ الله سيقيم لهم دولة غالبة بالأرض، ستكون لها الكلمة الأولى واليد الطولي.. وأنّ المؤمنين سيكونون هم الغالبون السائدون، وسيخزي الله هؤلاء المنحرفين حتى يكونوا هم القليل.. فكان المؤمنون ينظرون إلى من سيأتي بعدهم انه امتداد لهم، وجاء المؤمنون من بعدهم ينظرون إلى الأولين أئمة لهم.. ُيجلّونهم ويحبونهم ولا يميزون بينهم ( لا نفرق بين أحد من رسله)البقرة..(1/69)
وتأتي الأمة اليهودية من بين الأمم مصطفاة من الله تعالى لحمل دينه وتطبيق أوامره.. ولكنها مهددة منذ اللحظة الأولى باللعن والطرد والاستبدال إن لم تلتزم بتعاليم الأنبياء والمرسلين.. ومرّت الأحداث متتالية تُثبت عجز بني إسرائيل عن القيام بدين الله وشريعته، ولم يُجدي معهم، ولم ينفعهم العقاب ولا التهديد.. فقد ظلوا على غيهم، بل ظلوا يُكذبون المرسلين ويقتلون الأنبياء والصالحين.. والأنبياء في هذا ينذرونهم ويذكرونهم، حتى وقع أمر الله عليهم بالطرد من الأرض المباركة وتسليمها لأمة مصطفاة مختارة جديدة.. فصاروا يأمرون صالحيهم بالصبر والثبات ويبشرونهم بأنّ دولة الله ومملكته قادمة عمّا قريب، وبأنها ستحرر كلّ المؤمنين من استعباد الأمم الوثنية لهم، وقد كانوا لقرون طويلة تحت حكم الوثنيين، وتمّ كل ذلك، وطرد اليهود فعلا من الأرض المباركة في الوقت الذي حدده المرسلون كما سنرى، ثم قامت دولة الله (خلافة الإسلام) من أمة من غير اليهود تماما كما ذكر المرسلون، وفي الوقت الذي حددوه كذلك. .. وتحقق بقيامها وعد المرسلين. .. وظلت السائدة بالأرض لأكثر من ألف عام.. وهي اليوم ضعيفة تماما كما أخبر من قبل نبيها محمد صلى الله عليه وسلم. .. ولها جولة قادمة كما أخبر. .. وللباطل جولة.. ثم يكون بعد ذلك أمر الآخرة وانقضاء هذه الفانية.. والله أعلم..
الفصل الثاني
التبشير بمملكة الله القادمة
رؤيا نبوخذنصر بشارة بالإسلام من كتاب دانيال
نص البشارة:
دانيال2: الإصحاح الثاني من كتاب دانيال بتمامه(1/70)
"وفي السنة الثانية من ملك نبوخذنصر (1) حلم نبوخذنصر أحلاماً فانزعجت روحه وطار عنه نومه، فأمر الملك بأن يُستدعى المجوس والسحرة والعرافون والكلدانيون ليخبروا الملك بأحلامه فأتوا ووقفوا أمام الملك... إن لم تنبئوني بالحلم وبتعبيره تُصيَّرون إرباً إرباً... أجاب الكلدانيون قدّام الملك وقالوا ليس على الأرض إنسان يستطيع أن يبين أمر الملك... لأجل ذلك غضب الملك واغتاظ جداً وأمر بإبادة كل حكماء بابل فخرج الأمر وكان الحكماء يُقتلون فطلبوا دانيال (2) وأصحابه ليقتلوهم... حينئذ لدانيال كُشف السر في رؤيا الليل... أجاب دانيال قدّام الملك وقال السر الذي طلبه الملك لا تقدر الحكماء ولا السحرة ولا المجوس ولا المنجمون على أن يبينوه للملك لكن يوجد إله في السماوات كاشف الأسرار وقد عَرَّف الملك نبوخذنصر ما يكون في الأيام الأخيرة... أنت أيها الملك كنت تنظر وإذا بتمثال عظيم هذا التمثال العظيم البهيّ جداً وقف قُبالتك ومنظره هائل رأس هذا التمثال من ذهب جيّد، صدره وذراعاه من فضة، بطنه وفخذاه من نحاس، ساقاه من حديد، قدماه بعضهما من حديد والبعض من خزف، كنت تنظر إلى أن قُطع حجر بغير يدين فضرب التمثال على قدميه اللتين من حديد وخزف فسحقهما فانسحق حينئذٍ الحديد والخزف والنحاس والفضة والذهب معاً وصارت كعصافة البيدر في الصيف فحملتها الريح فلم يوجد لها مكان. أما الحجر الذي ضرب التمثال فصار جبلاً كبيراً وملأ الأرض كلها. هذا هو الحلم فنخبر بتعبيره قدّام ( أي أمام) الملك.(1/71)
أنت أيها الملك ملك الملوك لأن إله السماوات أعطاك مملكة واقتداراً وسلطاناً وفخراً. وحيثما يسكن بنو البشر ووحوش البر وطيور السماء دفعها ليدك وسلّطك عليها جميعاً. فأنت هذا الرأس من ذهب. وبعدك تقوم مملكة أُخرى أصغر منك ومملكة ثالثة أُخرى من نحاس فتتسلّط على كل الأرض. وتكون مملكة رابعة صلبة كالحديد لأن الحديد يدق ويسحق كل شيء وكالحديد الذي يكسر تسحق وتكسر كل هؤلاء. وبما رأيت القدمين والأصابع بعضها من خزف الفخّار والبعض من حديد فالمملكة تكون منقسمة ويكون فيها قوة الحديد من حيث إنك رأيت الحديد مختلطاً بخزف الطين. وأصابع القدمين بعضها من حديد والبعض من خزف فبعض المملكة يكون قوياً والبعض قَصِماً. وبما رأيت الحديد مختلطاً بخزف الطين فإنهم يختلطون بنسل الناس ولكن لا يتلاصق هذا بذاك كما أن الحديد لا يختلط بالخزف. وفي أيام هؤلاء الملوك يقيم إله السماوات مملكة لن تنقرض أبداً، وُملكها لا يُترك لشعب آخر، وتسحق وتفني كل هذه الممالك وهي تثبت إلى الأبد. لأنك رأيت أنه قد قُطع حجر من جبل لا بيدين فسحق الحديد والنحاس والخزف والفضة والذهب. الله العظيم قد عرّف الملك ما سيأتي بعد هذا. الحلم حق وتعبيره يقين.
حينئذ خرّ نبوخذنصر على وجهه وسجد لدانيال وأمر بأن يقدموا له تقدمة وروائح سرور. فأجاب الملك دانيال وقال حقاً إن إلهكم إله الآلهة ورب الملوك وكاشف الأسرار إذ استطعت على كشف هذا السر. حينئذ عظّم الملك دانيال وأعطاه عطايا كثيرة عظيمة وسلطة على كل ولاية بابل وجعله رئيس الشَّحِن على جميع حكماء بابل .."
التعليق:(1/72)
غنيت التوراة وملحقاتها من كتب الأنبياء بالتبشير بالإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم.. وُيعدّ الكتاب المنسوب لدانيال عليه السلام أغنى كتب العهد القديم بالنبؤات.. وقد حوى عدداً من البشارات البينة، لو يفقهها أهل الكتاب..!! نبدأ هنا باستعراض إحداها.. وهي تلك التي أُفرد لها الإصحاح الثاني من كتاب دانيال.. حين رأى ملك بابل نبوخذنصر بالمنام رؤيا، قتل عليها حكماء بابل عند عجزهم عن سردها ثم تفسيرها.. وقد طلب منهم سرد الرؤيا وتفسيرها.. ويتضرع دانيال لإله السماوات عز وجل أن يكشف له الرؤيا وتفسيرها فقد باتت حياته وإخوانه من المؤمنين في خطر.. ويرحمهم الله فيوحي لدانيال بالرؤيا وتفسيرها، فيحكي دانيال للملك رؤياه ويفسرها، فتُنقذ حياتهم، ويمكّن لهم في ارض بابل من بعدها..(1/73)
وتتلخص الرؤيا في أن الملك رأى في منامه تمثالاً كبيراً، صُنع رأسه من ذهب، وصدره وذراعاه من فضة، وبطنه وفخذاه من نحاس، وساقاه من حديد.. واختلط الحديد بالخزف في قدميه.. ثم رأى حجراً قُطع بغير يدين ( أي لم تصنعه يدي إنسان)، فضرب به التمثال على طبقة قدميه.. فسحقها واستحال التمثال كله هباء تذروه الرياح.. واستقرّ الحجر مكانه، فنما حتى صار جبلاً كبيراً، وملأ الأرض كلها.. وفسّر دانيال للملك الرؤيا بأنه ستحكم الأرض أربع ممالك منذ عصره، الذي مثّل له بطبقة الرأس الذهبية، ثم ستلي مملكته ثلاث ممالك أخرى، كل واحدة منها مثلت في التمثال بطبقة من معدن خاص، وتتسلط المملكة الثالثة ( والتي مثلت بطبقة النحاس) على كل الأرض، ولكن المملكة الرابعة هي الأقوى، وستحكم شعوباً كثيرة غير متجانسة كما لا يتجانس الحديد والخزف اللذان مثلت بهما، ويلاحظ أن الخزف لم يظهر بالتمثال إلا في قدميه ولعل في ذلك إشارة لتمثيله للشعوب المحكومة والمستضعفة ضمن المملكة (الحديدية) الرابعة، وفي أيام المملكة الرابعة يقيم إله السماوات مملكته التي ستقضي على المملكة الرابعة ولن تنقرض، بل ستثبت إلى الأبد..(1/74)
ويتفق هنا سجل التاريخ مع تفسير أهل الكتاب في أن الممالك الأربع هي مملكة الكلدانيين أو البابليين (المملكة الأولى) التي كان نبوخذنصر نفسه أحد حكامها، والتي غلب عليها سايروس الفارسي عام 539 قبل الميلاد حين أنشأ المملكة الفارسية ( المملكة الثانية)، ثم أتى الإغريق (المملكة الثالثة) حين نزعوا الأرض من الفرس عام 331 قبل الميلاد، وظلّوا بها حتى انتزعها منهم الرومان عام 63 قبل الميلاد.. وكانت مملكة الرومان بذلك هي المملكة الأخيرة ( الرابعة) التي ينبغي أن تأتي بعدها مملكة الله.. وكل هذه الممالك الأربع ( البابليون ثم الفرس ثم الإغريق ثم الرومان ) استولت على الأرض المباركة بفلسطين وحَكَمتها.. ويجدر هنا الإشارة إلى أن لفظ الأرض قد استخدم هنا ليعني أساساً الأرض المباركة ( فلسطين) وما حولها ممّا وُعد أبناء إبراهيم بحكمه ووراثته حتى قيام الساعة كما يفهم من التوراة (3).. ويؤيد كتاب دانيال نفسه في مواضيع عدة في إصحاحاته الأخرى تفسير الممالك الأربع بالممالك المذكورة أعلاه.. فالأولى فسرتها الرؤيا نفسها أنها دولة الكلدانيين التي منها صاحب الرؤيا ( نبوخذنصر الملك)، والثانية وهي الإمبراطورية المادّية والفارسية، وقد اعتبرتا دولة واحدة كما في الإصحاح الخامس من كتاب دانيال 28:5 حين صورتا بكبش واحد ذو قرنين أحدهما للمادية والآخر للفارسية، فهما دولتان من شعب واحد، ولا خلاف في أن المملكة الثالثة هي دولة الإغريق فقد صورت في الإصحاح السابع كما سيأتي معنا بنمر له أربعة أجنحة يرمز كل جناح منها إلى أحد أجزاء الإمبراطورية بعد انقسامها، كما صورت في الإصحاح الثامن بعنزة لها قرن بارز من بين عينيها يمثل ملكها الأول ( الإسكندر) يبرز بعد انكساره أربعة قرون جديدة تمثل الأجزاء التي انقسمت إليها الإمبراطورية الإغريقية حيث تم التصريح باسمها في الإصحاح الثامن..(1/75)
فاتضح بذلك بشكل تام أن الإمبراطورية الأخيرة ( أي الرابعة) والسابقة لمملكة الله هي إمبراطورية الرومان التي خلفت الإغريق مباشرة في حكم الأرض المباركة حين استولت عليها منهم عام 63ق.م.. ولعل تمثيل دولة الرومان بالخصر والرجلين يُشير إلى إنقسام الدولة لاحقا إلى شرقية وغربية كما يرى بعض الباحثون.. وفي هذا دلالة على أن نهاية دولة الرومان المعتبرة هنا هي بخروجها من الأرض المباركة عام 638- 640 م.. وليس بسقوط الجزء الغربي منها عام 476م.. إذ أن الجزء الشرقي ( وهو الجزء الحاكم للأرض المباركة) ظل ممثلا بالصنم بصورة مستقلة..
إن هنالك إتفاقاً بين الباحثين على اعتبار سنة الإنتقال بين المملكة الثالثة ( اليونانية) والرابعة (الرومية) هو عام 63 ق م، وهو عام دخول الروم إلى أرض سوريا وفلسطين وإسقاطهم لحكم السلوقيين اليونان الحاكمين قبلها للأرض المباركة.. مع أن دولة اليونان بأرض اليونان كانت قد سقطت تحت الحكم الروماني قبل ذلك بأكثر من قرن.. لكنّ ذلك لم يكن له اعتبار لبقاء الحكم بأرض فلسطين تحت حكم دولة منبثقة عن إمبراطورية اليونانيين.. ومثل هذا عودة دولة الفرس إلى الوجود بعد سقوطها الأول تحت الإسكندر المقدوني، لم يعني شيئا بهذه النبوة لإنتهاء دورها في حكم الأرض المباركة منذ عام 331 ق م.. الذي كان هو عام انتزاع اليونان للأرض المباركة من إيدي الفارسيين..(1/76)
ومن هنا، فمنذ عصر قسطنطين انتقلت عاصمة دولة الروم إلى مدينة القسطنطينية ( استانبول).. وظلت تبعية الأرض المباركة للإمبراطور الحاكم بالقسطنطينية.. ولا يعني شيئاً لنبوتنا انفصال الجزء الغربي عن العاصمة أو سقوطه بعد ذلك.. إذ ظلت الأرض المباركة تحت حكم القسطنطينية.. ومع أنّ المسلمين هم مَن أسقط القسطنطينية إلا أنّ التاريخ لإنتهاء الحكم الروماني ( المملكة الرابعة) بهذه النبوة يجب أن يكون عام 638 م الذي هو عام خروج الرمان من حكم الأرض المباركة.. وليس عام 1453 م الذي كان عام استيلاء المسلمين على القسنطينية وإنهاء الإمبراطورية الرومانية.. وإن كان ذلك لا يؤثر على الإستنتاج بأنّ مملكة الله المنتظرة هي دولة الإسلام..
قد يتسآءل البعض فما عبرة الإشارة إلى الجزء الغربي من دولة الرومان بإحدى الرجلين.. والواقع هو إن إنفصال الدولة الرومانية لم يكن ثابتا.. فقد توحدت في عدد من المرات بعد إن كانت أصلا موحدة.. ومن هنا تمّ ذكر الدولة الميدية مع الفارسية.. مع أن الذي أسقط البابلييين هم الفرس.. لكن إنضمام الدولة الميدية بعد ذلك إلى الفارسية، وتوحيدهما في دولة واحدة يُعطي إنطباعا بمشاركة غير مباشرة للميديين في حكم الأرض المباركة.. ومثل هذا كان دور الجزء الغربي الروماني بعد إنفصاله.. ومع هذا فلا يعني بالضرورة تمثيل دولة الرومان بهذه الطبقة الأخيرة من جسد التمثال انها ترمز إلى جزئي الإمبراطورة.. فالتسلسل الزمني هو السبب في ترك المنطقة السفلى من الجسد لتمثل المملكة الرابعة والأخيرة قبل ظهور مملكة الله..
والسؤال هنا بعد كل هذا هو مَن حَكَم الأرض المباركة من بعد الرومان ؟ وهل كان يستحق لقب مملكة الله؟ فإن الرجاء ألاّ تكون دولته دولة وثنية أخرى كالأربع الممالك قبلها، فعندها تبطل النبوة التي تبشر بمملكة تشريعها من عند الله تأتي بعد المملكة الرابعة ( الروم) ؟(1/77)
والإجابة ساطعة باهرة ... مَن غير دولة الإسلام ورث الأرض المباركة وحكمها من بعد الرومان ؟ ومَن غير دولة الإسلام أنهى إمبراطورية الرومان وقضى عليها حتى أصبحت عاصمتها الوحيدة ( القسطنطينية) حينها عاصمةً لدولة الإسلام ؟
... ومَن غير دولة الإسلام دولةً قامت على رسالة سماوية ودعوة للإيمان بالله والاحتكام إلى شرعه؟ من غير دولة الإسلام دولة جاءت بهدى الله الخاتم وبدينه الأخير الباقي إلى يوم القيامة ؟ .. ولو أن دولة الإسلام لم تحمل رسالة من السماء لجاز لليهود والنصارى أن يبحثوا عن تأويل آخر للبشارة ! أمّا وقد جاءت دولة الإسلام برسالة سماوية عالمية، لا تحكم باسم قومية ولا جنس بل بدين منفتح للجميع يستوي فيه العربي والأعجمي فإنها بلا شكّ هي مملكة الله التي بشر بها المرسلون..
وبمجيء دولة الإسلام أسلم سكان الأرض المباركة ومازالوا إلى اليوم.. وسيعمرونها إلى الأبد رغم عودة اليهود إلى أجزاء منها.. فعودة اليهود هذه هي عودة جزئية ومؤقتة كعودة الصليبيين إليها من قبل.. وسيظل المسلمون – وما زالوا - يعمرون بيت المقدس وما حوله حتى قيام الساعة..
ولنا أن نتأمل أنّ الدول الإسلامية المتعاقبة على الأرض المباركة لا تُعدُّ إلاّ دولة وإمبراطورية واحدة ذات خلفية واحدة، وإن تعددت شخصيات حكامّها أو مواطنهم الأصلية.. تماماَ كما اعتبرت البشارة السابقة ( وما ارتبط بها من بشارات أخرى) دولتي الفرس والماديين دولة واحدة لخلفيتهما العرقية المشتركة..(1/78)
ويبقى أن نتساءل كيف وجد اللذين أصروا على الكفر من أهل الكتاب مخرجاً لهم لصرف هذه البشارة عن وجهتها الصحيحة.. لقد اتفق أكثرهم كارهين (4) على التفسير المذكور أعلاه للمالك الأربع، بما فيه أنّ المملكة الرابعة هي مملكة الرومان.. واتفقوا على أنها قد زالت.. وأن المملكة التي ستزيلها هي مملكة الله.. ولمّا كان يلزمهم - على هذا الأساس - الإقرار بأنّ دولة الإسلام التي تلتها والتي أزالتها من الأرض المباركة ( بل ومن الوجود) هي بلا شكّ مملكة الله، فقد زعموا أنه سيكون لدولة الرومان نهوض جديد في آخر الزمان، وذلك لكي تصدق البشارة في أن المملكة التي ستسبق مملكة الله هي مملكة الروم ( الرابعة من زمن البشارة)! ولم ينتبه هؤلاء المتعصبون بذلك أنهم قد نقضوا البشارة حين لم يسلموا لدولة الإسلام، فإن مملكة الله لم تعد بذلك هي المملكة الخامسة من عصر دانيال ؟ ولم يعد لإيراد تسلسل الممالك الأربع المتتالية من بعد دانيال أي معنى إذا تم السكوت بعد بذلك على ما يزيد عن ألف عام من بعد خروج الروم من الأرض المباركة؟؟ وتواصوا به يخدعون أنفسهم بأنهم يؤمنون بالكتاب، إذ يؤمنون بما كتب دانيال أن مملكة الله هي فعلاً التي ستزيل دولة الرومان، ولكنها على زعمهم دولة الرومان القادمة في المستقبل!!.. وصرف القوم بذلك أنفسهم عن الإيمان بآية من آيات الله البينة... وتمّ لهم في الواقع تمييع البشارة وتعطيلها من كل معنى وهدف كان وراء إيرادها...
وقد أرفقت هنا شكلاً للتمثال الذي رأى شبيهه نبوخذنصر يتضح منه إيمان أهل الكتاب بتفسير الممالك الأربع كما أوردتُ أعلاه، ويلاحظ توافق طبقات التمثال الأربع مع الوحوش الأربعة في بشارة إصحاح 7 التي سنناقشها في الفصل التالي، توافقها في تمثيل الممالك الأربع التي ستحكم الأرض المباركة حتى تقوم مملكة الله ( شكل 1 )..(1/79)
ولا يسع المرء المسلم إلاّ أن يعجب غاية العجب كيف عطّل هؤلاء هذه البشارة ؟ وكيف تكلفوا هذا الافتراض بقيام دولة للروم بعد أن زالت وأخرجت من حكم الأرض المباركة منذ ما يقرب من ألف وأربعمائة عام.. إنه العمى عن آيات الله الذي اختاره الكفار لأنفسهم.." فإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً يقولوا سحاب مركوم، فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون.." الطور 45-46.
ــــــــــــ
هوامش رؤيا نبوخذنصر
(1) نبوخذنصر هو أعظم ملوك الإمبراطورية الكلدانية ( 626- 539 ق م)، وقد حكم لمدة 43 عاما، وقد غزا فلسطين عام 603 ق م، ثمّ عام 598 ق م بعد أن ثار عليه الحاكم اليهودي جيهوياكم ( حليف فرعون)، الذي أخذه أسيراً، ووضع مكانه على اليهود جهوياشن فأفسد، فأهلكه الله بنبوخذنصر الذي أسره في العام التالي، ووضع صدقيا Zedkiah مكانه ملكا على اليهود، فعصى صدقيا النبي إرميا واستهزأ بالرسل، وثار عام 588 ق م ضد نبوخذنصر متبعا النبي الكذاب حنانيا، فمات مسجونا لدى نبوخذنصر بعد أن جعله يشاهد مقتل أولاده، وبعد أن فقأ عينيه وسحبه بالسلاسل إلى بابل.. وقد عاصر دانيال ببابل حكم نبوخذنصر.. وخلال حكمه جاءات أعظم البشارات بالفرج بمملكة الله..
(2) دانيال هو أحد أنبياء بني إسرائيل خلال فترة الأسر البابلي، وقد أسر وعمره في حوالي السادسة عشر، وعاش في بابل وحولها حتى توفى عليه السلام وهو في التسعين، ذكره حزقيال في اصحاحه 14:12،20 مع أيوب ونوح كأصلح رجال بني إسرائيل في ذلك الزمان، وورد في التاريخ الإسلامي ما يشير إلى تعرف الصحابة إلى جسده سليما كاملا. ويعتبر اليهود والنصارى كتاب دانيال أهم كتب النبوات لديهم.. وهو بحق كذلك كما سيرى القارئ فيما سيلي من فصول.
((1/80)
3) وإلا فكيف تفهم عبارة طرد الأمة الملعونة من الأرض، وتوريثها للأمة المباركة، المذكورة بالزبور كما سيأتي معنا إلا أنه طرد هذه الأمة ( وهم بني إسرائيل كما سنثبت فيما يلي من بشارات) طردها من الأرض المباركة ( كما وقع فعلاً) وليس من الكرة الأرضية، والمقصود بالأرض المباركة أرض فلسطين.
(4) هنالك محاولات تفسيرية لا كاد أن تُحصى.. كلها عبث واضح الخطأ.. فقد حاول كثيرون إدخال الدولة الآشورية واعتبارها الدولة الأولى، وهو عقم بالتفكير مخالف لنص النبؤة بإعتبار دولة البابليين هي الأولى وليس الدولة التي اندثرت قبلها، وذلك التفسير حتى تكون المملكة اليونانية هي الرابعة.. وحاول آخرون لنفس الغرض اعتبار الدولة الميدية هي الثانية والفارسية هي الثالثة مع أنّ الميدية لم تسقط بنفسها دولة البابليين ولم تحكم الأرض المباركة بصورة مستقلة مباشرة، وإنما من خلال اتحادها اللاحق بدولة الفرس، هذا إضافة إلى الدولة الميدبة- الفارسية قد مُثلت في موضع آخر من كتاب دانيال برمز واحد ( أي أنهما اعنبرتا دولة واحدة).. وحاول بعضهم تقسيم الدولة اليونانية لتعني دولة الإسكندر وحدها المملكة الثالثة وتكون المملكة الرابعة هي دول قادته من بعده.. وفي ذلك تجاهل لموضعين آخرين من كتاب دانيال ستأتي الإشارة إليهما اعتبرا صراحة مملكة الإسكندر والقادة من بعده كمملكة واحدة.. نقلاً عنKeil & Delitzsch Commentary On the Old testament (comments on chapter 7.)
... التبشير الصريح بالإسلام من خلال رؤيا دانيال في الكتاب
المنسوب إليه عليه السلام
أو رؤيا الممالك الأربع
نص البشارة*: الإصحاح السابع من كتاب دانيال بتمامه:(1/81)
" و في السنة الأولى لبيلشاصر ملك بابل رأى دانيال حلما ورؤى رأسه على فراشه . حينئذ كتب الحلم وأخبر برأس الكلام. أجاب دانيال وقال : كنت أرى في رؤياي ليلاً، وإذا بأربع رياح السماء قد هيجت البحر الكبير. وصعد من البحر أربعة حيوانات عظيمة هذا مخالف ذاك .الأول كالأسد، وله جناحا نسر، وكنت أنظر حتى انتتف جناحاه وانتصب عن الأرض وأوقف على رجلين كانسان وأعطى قلب إنسان، وإذا بحيوان آخر ثان شبيه بالدب، فارتفع على جنب واحد، وفي فمه ثلاثة أضلع بين أسنانه فقالوا له هكذا. قم كل لحما كثيرا. وبعد هذا كنت أرى و إذا بآخر مثل النمر وله على ظهره أربعة أجنحة طائر. وكان للحيوان أربعة رؤوس وأعطي سلطانا. بعد هذا كنت أرى في رؤى الليل وإذا بحيوان رابع هائل وقوي وشديد جدا وله أسنان من حديد كبيرة. أكل وسحق وداس الباقي برجليه. وكان مخالفا لكل الحيوانات الذين قبله وله عشرة قرون. كنت متأملا بالقرون وإذا بقرن آخر صغير طلع بينها وقلعت ثلاثة من القرون الأولى من قدامه وإذا بعيون كعيون الإنسان في هذا القرن وفم متكلم بعظائم. وبينما كنت أرى إذ وضعت عروش وجلس القديم الأيام، لباسه أبيض كالثلج وشعر رأسه كالصوف النقي وعرشه لهيب نار وبكراته نار متقدة. نهر نار جرى وخرج من قدامه. ألوف ألوف تخدمه وربوات ربوات وقوف قدامه. فجلس الدّيِّن وفُتحت الأسفار. كنت أنظر حينئذ من أجل صوت الكلمات العظيمة التي بها القرن. كنت أرى إلى أن قُتل الحيوان وهلك جسمه ودفع لوقيد النار. أما باقي الحيوانات فتُنزع عنهم سلطانهم ولكن أعطوا طول حياة إلى زمان ووقت .
كنت أرى في رؤى الليل وإذا مع سحب السماء مثل ابن إنسان ( اللفظه الاراميه بارناشا كالعبرية بن آدم: الكتاب المقدس، دار المشرق، بيروت) أتى وجاء الى القديم الأيام فقربوه قدامه . فأعطي سلطانا ومجدا وملكوتا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لا يزول وملكوته مالا ينقرض.(1/82)
أما أنا دانيال فحزنت روحي في وسط جسمي وأفزعتني رؤى رأسي. فاقتربت إلى واحد من الوقوف وطلبت منه الحقيقة في كل هذا. فأخبرني وعرفني تفسير الأمور. هؤلاء الحيوانات العظيمة التي هي أربعة هي أربعة ملوك ( واضح أن المقصود هو أربعة ممالك) يقومون على الأرض. أما قديسو العلي فيأخون المملكة الى الأبد والى الآبدين. حينئذ رمت الحقيقة من جهة الحيوان الرابع الذي كان مخالفا لكلها وهائلا جدا وأسنانه من حديد وأظافره من نحاس وقد أكل وسحق وداس الباقي برجليه وعن القرون العشرة التي برأسه وعن الآخر الذي طلع فسقطت قدامه ثلاثة وهذا القرن له عيون وفم متكلم بعظائم ومنظره أشد من رفقائه. وكنت أنظر واذا هذا القرن يحارب القديسين فغلبهم حتى جاء القديم الأيام وأعطي الدين لقديسي العلي، وبلغ الوقت فامتلك القديسون المملكة.
فقال هكذا: أما الحيوان الرابع فتكون مملكة رابعة على الأرض مخالفة لسائر الممالك فتأكل الأرض كلها وتدوسها وتسحقها. والقرون العشرة من هذه المملكة هي عشرة ملوك يقومون ويقوم بعدهم آخر وهو مخالف الأولين ويذل ثلاثة ملوك. و يتكلم بكلام ضد العلي ويبلي قديسي العلي ويظن انه يغير الأوقات ( الأعياد festivals بالنسخ الغربية) والسُنّة ( Law الشريعة بالنسخ الغربية) ويسلمون ليده إلى زمان وأزمنة ونصف زمان ( والأصح: إلى زمان وزمانين ونصف زمان في جميع النسخ القياسية وبعض النسخ العربية). فيجلس الدين وينزعون عنه سلطانه ليفنوا ويبيدوا إلى المنتهى. والمملكة والسلطان وعظمة المملكة تحت كل السماء تعطى لشعب قديسي العلي. ملكوته ملكوت أبدي وجميع السلاطين إياه يعبدون ويطيعون. إلى هنا نهاية الأمر. أما دانيال فأفكاري أفزعتني كثيرا وتغيرت علي هيئتي وحفظت الأمر في قلبي."
هذا وقد جاءت خاتمة الرؤيا ( من قبل تفسير الملك لها) بالنسخة الإنجليزية " الكتاب المقدس ذو الأخبار الطيبة The Good News Bible " كما يلي:(1/83)
“During this vision in the night, I saw what looked like a human being. He was approaching me, surrounded by clouds, and he went to the one who had been living forever ad was presented to him. He was given authority, honor, and royal power, so that the people of all nations, races, and languages would serve him. His authority would last for ever, and his kingdom would never end.”
ويمكن ترجمة النص كما يلي: " خلال الرؤيا بالليل، رأيت ماهو مثل كائن إنساني، كان يقترب مني محاطا بالغيوم، ومضى إلى قديم الأيام، وقرِّب إليه، فأعطي السلطان والمجد وقوة الملك، ليكون الناس من مختلف الأمم والأجناس واللغات في خدمته، سلطانه سيستمر للأبد، ومملكته لن تزول أبدا".
ثانياً: التعليق على البشارة:
لو كان لنا أن نضع بشارة بالإسلام في الكتب الأولى تجمع بين صراحة التبشير ثم تسلم بعد ذلك من عبث العابثين من أهل الكتاب وإخفائهم، لما أمكن أن نضع بشارة أقوى ولا أبين من تلك البشارة التي استوعبت صفحات الإصحاح السابع من كتاب دانيال كلها..
يرى دانيال عليه السلام وحوشاً تخرج متتابعة من البحر.. أسد, ثم دبّ, ثم نمر ذو أربعة رؤوس، وأربعة أجنحة.. ثم وحش رابع هائل لم يحدد له اسم.. ويُفسر الملََك ( مفرد الملائكة) لدانيال الرؤيا بأنّ هذه الوحوش تُمثِّل أربع ممالك ستقوم متتابعةً على الأرض بدءاً من زمانه أثناء عصر مملكة الكلدانيين أو البابليين ( فهي المملكة الأولى 612-539 قبل الميلاد) هذه التي تمت خلالها الرؤيا.. والتي تلتها تأريخياً مملكة الفرس/ الماديين ( المملكة الثانية، 539-331 قبل الميلاد) التي قضت على حكم البابليين..(1/84)
ويتضح من تمثيل الثالثة بنمر على ظهره أربعة أجنحة وله أربعة رؤوس أنها دولة الإغريق بلا شك (331 -63 قبل الميلاد)، فهي التي قضت تاريخياً على المملكة الفارسية (الثانية)، وقد صرّح كتاب دانيال نفسه باسمها عندما مُثِّلت في الإصحاح الثامن بعنزة ذات قرن كبير بارز من بين عينيها، ينكسر ويقوم مكانه أربعة قرون أخرى تمثل الأجزاء التي تنقسم إليها مملكة الإغريق من بعد وفاة الإسكندر المقدوني.. وقد مثل لهذه الأجزاء هنا ( بالإصحاح السابع هذا من كتاب دانيال) بالرؤوس والاجنحه الأربع.. وقد عدد المؤرخ اليهودي جوسيفاس ( بالقرن الأول الميلادي) في كتابه Antiquity أسماء القادة والأجزاء التي تملّكوها من الإمبراطورية.. فذكر أن انتيجوناس Antigonus تملك آسيا، وسيطر سيليوسيد Seleucus على بابل والشعوب التي جمعت إليها، وسيطر ليسيماكوسLysimachus على هيليسبونت، وكاساندر Cassander على مقدونيا، وبطليموس Ptolemy على مصر.. يلاحظ أن هذا المؤرخ قد عدّ خمسة أجزاء، وقد عد غيره أجزاء أخري أوصلها البعض إلى ثلاثين جزء إلا أن ذلك لا يؤثر على قضية أن المملكة الثالثة هي مملكة الإغريق ( اليونان)..
ثم تلي دولة الإغريق دولة رابعة هي بلا شك دولة الروم التي قضت على اليونانيين (الإغريق) وتم لها انتزاع الأرض المباركة منها عام 63 ق.م، وظلت حاكمة للأرض المباركة حتى عام 638م، حين انتزعتها منها دولة الإسلام، هذا ولم يُحدّد للحيوان الذي مُثلت به دولة الروم ( الرابعة) اسم، إلاَ أنه وصف بالهول والقوة والشدة، فهو يأكل ويدوس الآخرين برجليه. ويرى دانيال على رأس هذا الحيوان الرابع عشرة قرون.. يفسرها له الملَك بأنها تمثل عشرة ملوك ضمن ملوك هذه المملكة الرابعة..(1/85)
وعلاقة البشارة بهذه الممالك محصورةٌ بحكمها للأرض المباركة.. فمن الواضح أنه قد اشترك في حكم الكرة الأرضية ممالك أخرى كثيرة خلال حكم هذه الممالك الأربع.. فمع أن الروم احتلوا شبه جزيرة اليونان بالقرن الثاني قبل الميلاد إلا أنّهم لم يدخلوا في التاريخ المتعلق بالكتاب المقدس والكتابات الدينية إلا عندما انتزعوا الأرض المباركة من أيدي الحكام اليونانيين عام 63ق.م، ومثل هذا الحديث عن عودة الفرس فلا يتعلق بالبشارة مِن حكم الفرس إلا فترة حكمهم للأرض المباركة وهي الفترة بين عام 539-331 ق.م.. وكذلك الروم.. فما يهمنا هاهنا إلا فترة حكمهم للأرض المباركة بين عامي 63 ق.م إلى 638 م.. ومع هذا فإن المملكة ( دولة الإسلام) التي انتزعت منهم الأرض المباركة هي نفسها التي قضت عليهم تماماً فيما بعد واحتلت عاصمتهم فيما بعد.. فلا مفر من الإقرار بأن المملكة التي تبعت مملكة الروم كانت هي دولة الإسلام.. هذا وأشير هنا مرة أخرى إلى إقرار أغلبية أهل الكتاب على تفسير الممالك الأربع بما ذكرت هنا، وهو نفسه اتفاقا تفسير الممالك الأربع للبشارة السابقة بالإصحاح الثاني من كتاب دانيال.. وقد أشرت في هامش البشارة السابقة ( رقم4) إلى عدد من المحاولات اليائسة لصرف تفسير الممالك الأربع إلى تفسير بديل..(1/86)
ونعود للحديث عن الملوك العشرة ضمن المملكة الرابعة، فلأن الحديث في هذه البشارة هو عن الممالك الأربع التي ستحكم الأرض المباركة بفلسطين وما حولها كما سبق في بشارة رؤيا نبوخذنصر.. فلنا أن نفترض أنّ هؤلاء العشرة من ملوك المملكة الرابعة هم ممّن سيحكم الأرض المباركة من ملوكها.. ثمّ يأتي بعدهم قرن آخر ( ملك آخر) يقلع ثلاثة قرون ( ملوك)، ويختلف تماماً عمن سبقه، فله عينين، وفم متكلم بعظائم، وفسره الملَك ( بفتح اللام ) لدانيال بأنه ملِك (بكسر اللام ) آخر يختلف عن العشرة السابقين له، وأنه سيغلب ثلاثة ملوك، وأنه سيضطهد المؤمنين ويبتليهم، وسيتكلم بكلام ضد العليّ عزّ وجلّ، ويغيّر أعياد المؤمنين، ويغيّر دينهم، وسيظل المؤمنين تحت حكمه لمدة ثلاثة أحقاب زمنية ونصف الحقب إلى أن يظهر قدّيسي العلي ( عباد الله الصالحين كما وصفهم في مواضع أخرى ) فينتزعون الأرض ويقيمون مملكة الله الأبديّة التي يخضع لها سلاطين الأرض.. وتنضوي تحتها شعوب الأرض..(1/87)
ويذكر دانيال أنه رأى في رؤى الليل مع سحب السماء مثل ابن الإنسان ( ابن آدم) وقد رفع إلى قديم الأيام عزّ وجلّ وقرّب إليه، حيث أعطاه السلطان والمجد والمملكة التي سينضوي تحتها كل الناس والأمم والألسن، في سلطان أبدي ومملكة لا تنقرض.. وهي التي ستقضي على المملكة الرابعة.. وهكذا فإن مملكة الله الأخيرة والباقية إلى منتهى الأزمان سينشئها ويقيمها إنسان مختار من أبناء آدم يعرج به إلى السماء ويلتقي فيها بدانيال ويعطى هنالك التأييد والمكانة المرموقة أو المجد، فينشئ مملكة الله التي ستنزع الأرض المباركة من أيدي دولة الروم (المملكة الرابعة), وتنضوي تحت لوائها مختلف شعوب الأرض وألسنتها.. وكذلك كانت دولة الإسلام، وأمته باقيةَ إلى يوم القيامة.. تنضوي تحت لوائها مختلف شعوب الأرض وألسنتها.. قد جاءت من بعد دولة الروم (1) فعلاً وانتزعت منهم حكم الأرض المباركة.. ومن بين كل مَن حكم الارض المباركة بفلسطين لم يُقِم أحدٌ حُكماً باسم الله تعالى غيرَ المسلمين.. فاستحق لذلك حكمهم وحده ان يسمى بمملكة الله.. وهو فقط الذي جاء فعلاً بعد المملكة الرابعة..
ويبقى أن نعود مرة أخرى إلى البشارة لنتعرف على هذا الملك الروماني الخبيث الذي سيأتي بعد عشرة ملوك سابقين عليه ومختلفين عنه، ومن المناسب هنا أن نذكر أنه لم يهتد إلى تفسير هذه الرؤيا سوى عبد الأحد داود رحمه الله وقد كان أستاذاً في علم اللاهوت المسيحي فآمن وأسلم، وألف كتابًا عن البشارات بالرسول صلى الله عليه وسلم.. فاهتدى إلى معرفة هذا الملك الروماني الخبيث صاحب الإفك العظيم على الله عزّ وجلّ.. والذي تحدثت عنه البشارة أعلاه، وألخص فيما يلي صفاته:
1. أنه من ملوك الروم.
2. أنه سيأتي بعد عشرة ملوك سابقين عليه.
3. أن سياسته ستكون مخالفة للعشرة ملوك الذين سبقوه.
4. أنه سيغلب ثلاثة ملوك..
5. أنه سيحارب المؤمنين (2) ويبتلون به..
6. وأنه سيُغيّر أعيادهم festivals.(1/88)
7. وأنّه سيُغير دين المؤمنين وشريعتهم.. وقد ذكر الدين باسم السنة أو الشريعة Law
8. أنّه ذكي وداهية، فالقرن الذي يمثله يتميز بأن له لسان وعيون.
9. أنّه سيتكلم بكلام عظيم ضد الله عزوجلّ.
10. أنّ حكمه سيستمر لمدة ثلاثة أحقاب زمنية ونصف إلى أن تقوم مملكة الله فتنتزع الأرض المباركة من حكمه..
.. إنه قسطنطين الأول بلا شك.. إن المملكة الرابعة هي مملكة الرومان بلا شك.. وهو ما عليه اتفاق المهتمين والمتدينين من أهل الكتاب، يهوداً ونصارى.. كما سبق أن أوضحت خلال عرض بشارة رؤيا نبوخذنصر.. فما بقي إلاّ أن نبحث في التاريخ الروماني عن عشرة ملوك تبعهم ملك يختلف عنهم ويحمل المواصفات المذكورة أعلاه.. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ تلقيب الرسول صلى الله عليه وسلم لملوك الروم بلقب قرون، لهو ممّا يتفق تماما مع تلقيبهم هنا بهذا اللقب (3)..
تذكر كتب التاريخ أسماء العشرة الأباطرة اللذين قاموا بتعذيب النّصارى واضطهادهم، وهم: نيرون, ودوميشان, وتراجان, واوريلياس, وسيبتيمياس سويسرس، ومكسيمن، وديسيوس، وفالريان، وأوريليان، وديوكليتيان, يقول ناشد حنا في كتابه " دانيال آية آية " ( الطبعة الثانية ص 53): ".. ثم في أيام الأباطرة العشرة الذين اضطهدوا المسيحيين اضطهاداً مريراً كما هو مبين في خطاب الروح القدس لكنيسة سميرنا حيث نقرأ: ( هوذا إبليس مزمع أن يلقى بعضا منكم في السجن لكي تجربوا ويكون لكم ضيق عشرة أيام..)" والإشارة إلى هؤلاء العشرة أباطرة الذين حكموا الأرض المباركة مناسبة هنا لموضوع البشارة الذي يستعرض تعاقب الممالك والملوك الظلمة السابقين لمجيء مملكة الله لحكم الأرض المباركة..(1/89)
وقد أورد بعض الباحثين تعداداً للعشرة الأباطرة الذين اضطهدوا المؤمنين مختلفا بعض الشيء.. وضم بعضهم أسماء الأباطرة الذين عاصروا قسطنطين وانتصر عليهم.. وقد كانوا جميعا وثنيين وعرف عنهم عداءهم للنصارى كمن سبقهم.. وأياً كانت أسماء المضطهدين العشرة، فقد تميزت هذه الفترة من حكم الرومان للأرض المباركة بحكم هؤلاء العشرة واستحقوا أن يُشار إليهم في هذه النبوة التي تستعرض الحكم الكافر السابق لظهور مملكة الله..
هذا عرض لأسماء وصور ممثلة للأباطرة الرومان الذين قاموا باضطهاد النصارى كما تتناقلها عدد من المراجع الغربية
Severus ... Aurelius ... 98-117 A.D. ... 81-96 A. D. ... Nero
193 - 211 A.D. ... 161 - 180 A.D. ... 54-68 A.D.
284 - 305 A. D. ... 270 - 275 A. D. ... 253 - 260 A. D. ... 249-251 A. D. ... Maximinius
235-238 A. D.
وقد جاء بعد هؤلاء الأباطرة العشرة ( العشرة قرون) قسطنطينُ (305 -337 م) كحاكم بسياسة مختلفة تماماَ عن سابقيه، فبدلاَ من مواصلة الحرب على النصرانية.. سعى إلى مزجها بالوثنيات أيام عصره وتوحيدها في دين واحد تتبناه الدولة.. توحيداً وتثبيتاً لها كما يذكر المؤرخون..
وكان للإمبراطورية حاكم أو إمبراطور واحد حتى عهد والد قسطنطين حيث قسمت ( عام 285 م) إلى شرقية وغربية، وجعل لكل قسم إمبراطور ونائبه، واستقل النائبان في كلا القسمين فاصبحوا أباطرة.. وأصبحت بذلك الإمبراطورية الرومانية للمرة الأولي بتاريخها تحت حكم أربعة أباطرة.. كل منهم على جزء مستقل.. وجاء قسطنطين إلى الحكم عام 305 م ليجد أمامه ثلاثة أباطرة آخرون، هم فاليريوس ليسنيوس Valarius Licinius، وماكسيمن داناMaximin Dana في الجزء الشرقي من الإمبراطورية، وماكسنتيوسMaxentius بجانبه في الجزء الغربي من الإمبراطورية..(1/90)
اتفق قسطنطين مع ليسنيوس Licinius الذي صاهره وزوّجه أخته قسطنطيه Constantia، وارتبط معه بحلف في ميلانوعام 313م، قبل معركة الأخير مع خصمه ومنافسه بالشرق ماكسيمن دانا Maximin Dana ، فقضى قسطنطين على ماكسنتيوس الذي ينازعه حكم الجزء الغربي في معركة جسر ميلفيان (Milvian Bridge) عام 312 م . ثم ساعد صهره ليسنيوس (Licinius) في التخلص من خصمه ماكسيمن دانا في السنة التالية، ثم تواجه مع ليسنيوس نفسه بعد ذلك في سلسلة من الحروب بدءاً من عام 313 حتى غلبه عام 323 م باستسلام ليسنيوس ومعه ثلاثين ألفاً شريطة الحفاظ على حياته، إلا أنّ قسطنطين غدر به بعد ستة أشهر من استسلامه وقتله عام 324 م، واسترق ابنه الذي كان يوما من الأيام متوجاً مع ابن قسطنطين كخلفاء للأباطرة ( قياصرة).. فقضى قسطنطين بذلك على ثلاثة أباطرة.. يُذكر هنا أن قسطنطين قتل ابنه الأكبر الذي كان مرشحا لخلافته بتهمة تحرشه بزوجة أبيه، ثم قتل زوجته غلياً بالماء وهي حية..
وكان وثنياَ يؤمن بعبادة الشمس Sol Invictus وأنها الإله الأوحد وملأ بشعار ديانته الوثنية هذه كل شعارات الدولة وأعلامها وعملتها، ونصب لها التماثيل في كل ناحية, وتصرف طيلة عمره كله كرئيس كهنة ديانة عبادة الشمس, وسمي عهده بعصر إمبراطورية الشمس Sun emperorship ، وقد تأثر مع ذلك بالنصرانية خلال حياته، إلاّ أن الثابت أنه لم يعمد كمسيحي إلا عند احتضاره عام 337 ربما استغلالاً لضعف مقاومته حين موته كما يرى بعض الباحثين.
وقد سعى قسطنطين بمكر خبيث إلى خلط الأديان وتقريبها وتوحيدها لتكون للدولة ديانة واحدة متجانسة ومتعايشة، ويذكر هنا مؤلفو كتاب:(1/91)
“ The Holy Blood and the Holy Grail” ص 388 من طبعة 1996 م : ( أن قضية الإيمان لدى قسطنطين هي باختصار قضية سياسية, وأي إيمان سيدعم هدف الوحدة فسيُعامل بتلطف), وإذ يبني قسطنطين كنيسة في ناحية من المدينة، ينصب صنماَ لمعبودهم الأم سيبيل وآخر للشمس المعبودة في نواحي أخرى من المدينة، كما صنع بالقسطنطينية عند افتتاحها عام 330 م ( أي بعد مجمع نيقية بسنوات !!).
وحتى تكسب ودّه الكنيسة النصرانية التابعة لمدرسة بولس فقد جارته فيما يريد فاتخذت يوم الشمس sun-day أو الأحد بالعربية، اتخذته يوماَ للراحة الأسبوعية بدلاَ من السبت الذي كان النصارى بخلفية دينهم اليهودية مازالوا يعظمونه (4)، وكان كل يوم من أيام الأسبوع ينسب لكوكب فالسبتSatur-day هو يوم زحل Saturn، والأحد Sun-day هو يوم الشمس Sun، والاثنين Mon-day هو يوم القمر Moon، وكان قسطنطين عام 321 م قد أصدر أمراَ بإغلاق المحاكم في يوم الشمس ( يوم الأحد) واعتبره يوم الراحة الأسبوعية وتبعته في ذلك الكنيسة النصرانية، وقامت الكنيسة فاتخذت من يوم ولادة الشمس ( يوم التحول عن الشتاء بالجزء الشمالي من الكرة الأرضية، أو بدء تطاول النهار بعد بلوغ تقاصره منتهاه) وهو يوم 25 ديسمبر اتخذته يوماً وعيداً لميلاد للمسيح، وقد كان عيداَ للوثنيات التي ألّهت الشمسَ وعبدتها بفارس والروم كما هو ثابت ومعلوم، وجرياَ على الخطى التي وضعها بولس في نفاق أهل الأديان الأخرى والاستعداد لتبديل الدين حتى يرضيهم (5)، وإمعاناَ في نفاق قسطنطين فقد أقرت الكنيسة له أنه المسيح ( المسيا ) المنتظر.. والمخلّص بآخر الزمان بل وصل الأمر ببابا روما ايسوبيوس Eusebius إلى تأليه قسطنطين وأنّ الخالق قد تجسّد فيه.. وينقل مؤلفو كتاب The Messianic Legacy عبارة ايسوبيوس في هذا:(1/92)
“most God-fearing sovereign, to whom alone of those who have yet been since the start of time has the universal All-ruling God Himself given power to purify human life”
ويفسر ذلك Kee كما ينقل عنه المؤلفون أعلاه " بأنه منذ بدء الخلق هو فقط قسطنطين وحده الذي أُعطي القدرة على الخلاص (والإنقاذ)، ونُحِّيَ بذلك المسيح جانباً، أُبعد، بل رسمياً تنكر له، وأصبح المخلص الوحيد للعالم هو قسطنطين" .. وحقّ لمن يقرأ ما كتبه المؤرخون عن تعمد تجاهل عيسى عليه السلام – رغم تأليهه – حق له أن يعتبر قسطنطين عدو المسيح حتى بهذه النظرة السطحية المباشرة.. وفي الواقع فإنّ عددا من الباحثين يرى أنّ قسطنطين وصل بدهائه إلى ما أراده من قبله من الأباطرة الرومان من تأليه أنفسهم، ولكن بطريقة ذكية حيدت القساوسة وأصحاب الديانات المعاصرة من الإعتراض، الذين غضوا النظر عن قراراته بالتأله بطلب تقريب الأضاحي لنفسه (6).(1/93)
وكانت أشد نقاط التغيير بالمسيحية، هي دعوة قسطنطين لمجمع نيقيةNicaea عام 325 م وقد اجتمع عدد كبير من علماء المسيحية ذكر بعض المؤرخين (7) أنه تجاوز الألفين، ولكن قسطنطين تبنى رأي أقلية ( 318 قسيساً) قائلة بتأليه المسيح، وتدخل مباشرة- على وثنيته- في صياغة النص العقدي الذي تبناه مجمع نيقية, وفرضه على كل المسيحيين بالإمبراطورية واعتبر أن كل ما يخالف ذلك هرطقة وردّة بدلاَ من أن يكون مجرد رأي مخالف.. وللدلالة على فظاعة صنيع قسطنطين بالمسيحية كديانة من خلال كتابته الشخصية لنص العقيدة المسيحية أثناء مجمع نيقية أنقلُ (8) هنا ما اقتبسته مؤلفة كتاب الجانب المظلم من تاريخ المسيحية عما كتبه والتر نيق Walter Nnigg في كتابه الهراطقة The Heretics ( النص الأصلي بالهامش): " قسطنطين الذي تعامل مع القضية الدينية فقط من زاوية سياسية قد ضمن الحصول على الإجماع عن طريق طرد كل القساوسة الذين توقع عدم توقيعهم على الإعلان الإيماني الجديد، وتم له بهذه الطريقة الحصول على الوحدة التي أراد. إنّه تماما شيء لم يُسمع به أن عقيدة شاملة تُحدد بناء على سلطان الإمبراطور، الذي كان ما يزال مبتدئا في تلقي تعاليم العقيدة ولم يكن قد قُبِل بعد ضمن طبقة القربان المقدس، كما لم يكن مؤهلا أبدا ليحكم في قضايا الإيمان الخفية، لم يتفوه ولا قسيس واحد ولا بكلمة واحدة ضد هذا الشيء ( العمل) الفظيع" .. وإذا علم القارئ أن هذا النص العقدي الذي كتبه قسطنطين بنفسه للمجتمعين بمجمع نيقية ما زال هو أساس عقيدة الطوائف المسيحية ومرجعها يدرك مدى التحريف الذي أحدثه قسطنطين بالمسيحية.. وقسطنطين على الأصح ما زال وثنياً حتى تلك الفترة..(1/94)
وفي أحسن الأحوال فهو ما زال مبتدئاً كما ترى الكاتبة أعلاه ويرى المؤرخون أنه كان من الصعب تقبُّل المسيحية قائلة بعقيدة عيسى عليه السلام بشراً رسولاً ضمن المزيج الديني الذي يرعاه قسطنطين, وأن عقيدة الإيمان بعيسى إلهاً متجسدا تتناغم تماما مع عقائد الأمم الوثنية السائدة حينها بما فيها عقيدة عبادة الشمس Sol Invictus التي يرعاها قسطنطين.. والتي استوعبت الديانات الأخرى بما فيها المسيحية التي ارتضى لها رجالها أن " تترعرع تحت مظلة عبادة الشمس " وتتعايش مع وثنيتها بل وتقتبس منها الكثير مما جعلها دينًا جديدًا ينتسب في الواقع إلي قسطنطين اكثر مما ينتسب إلى رجاله الأولين..(1/95)
وكان من اخطر ما أقدم عليه إصداره مرسوما في العام التالي لمجمع نيقيه بمصادرة وتدمير كل أعمال وكتابات المناهضين لقرارات نيقيه, ثم إصداره عام 331 م أمرا بإصدار نسخاً جديدة من الكتاب المقدس مما اعتبره مؤلفو المرجع أعلاه " واحداً من أهم القرارات الأحادية التي أثرت على كل التأريخ المسيحي, وأعطت للمسيحيين الأرثوذكس ( أصحاب قرارات نيقيه) المتلقبين بالمتمسكين بالكتاب فرصة لا تضاهى ".. ويذكر هنا أن الإمبراطور ديوكليتيان كان قد أحرق كل ما أمكن الحصول عليه من الكتب المسيحية, ويرى المؤلفون للمرجع أعلاه أن هذا قد أخلا المجال لأصحاب نيقيه للحذف والزيادة في الكتب بما يرونه متفقاً مع عقيدتهم. وحتى لا يقلل القارئ من خطورة هذه الخطوة يذكر المؤلفون أعلاه " أنه من بين الخمسة آلاف نسخة قديمة موجودة للعهد الجديد ( الإنجيل والرسائل المسيحية) لا توجد نسخه واحده سابقة للقرن الرابع الميلادي، وأنّ العهد الجديد في الواقع بصورته الحالية ما هو إلا من منتجات كتبة القرن الرابع الميلادي من خدمة الفكر الأرثوذكسي ( أصحاب نيقيه) ممن لهم أهداف خاصة لحمايتها وتحقيقها عند كتابتهم للعهد الجديد." هذا وقد زاد قسطنطين على ذلك بأن أنشأ نظام البابوية الحالي بروما, وفرض للكنيسة دخلا ثابتا ومركزاً قائما بقصر لاتران بروما..
وفي هذا يذكر مؤلفو كتاب The messianic Legacyو منه اقتسبت كذلك الكثير من الحقائق الواردة أعلاه يقولون : " إن من العدل القول بأن المسيحية التي نعرفها اليوم لم تنبثق من أيام عيسى بل من مجمع نيقيه (9)، ولأن مجمع نيقيه كان جلّه من صنع يديّ قسطنطين، فإنّ المسيحيّة (أي مسيحيّة اليوم ) مدينة له بالفضل".(1/96)
“ It is fair to state that Christianity as we know it today derives ultimately not from Jesus’ time, but from the council of Nicaea . And to the extent that Nicaea was largely Constantine's handiwork, Christianity is indebted to him”
ويشير كذلك إلى مدى التغيير بالعقيدة المسيحية من بعد قسطنطين ما كتبه Burton L. Mack مؤلف كتاب The Lost Gospel إذ كتب: " من بعد قسطنطين، صُوِّر المسيح كمالك للموت، وحاكم للكون"، وكان المؤلف قد ذكر أن صورة المسيح عليه السلام قبل ذلك كانت كمنقذ للشعب وللأمة وكهادٍ لها إلى الدار الآخرة ..
وخلاصة الحديث عن مدى التغيير الذي أحدثه قسطنطين بالمسيحية آخر الأديان السماوية في زمانه هو ما قاله مؤلفو الكتاب السابق ( بأن المسيحية التي نعرفها اليوم، هي في الواقع من وجوه كثيرة أقرب إلى النظم الوثنية العقائدية منها إلى منبعها اليهودي ).(1/97)
ومن هنا فقسطنطين هو الملك الروماني الذي جاء بعد عشرة يختلفون عنه ضمن المملكة الرابعة، وهو الذي هزم ثلاثة أباطرة روم آخرين، وهو الذي غيّر أعياد المؤمنين الأسبوعية والسنوية، وغيّر دينهم، وغير كتبهم, وطارد المؤمنين الصادقين وصادر كتبهم, وهو الذي استغل بدهاء ومكر كما يذكر المؤرخون الدين ليوحد مملكته ويثبت حكمه، وهو الذي تكلم على الله بكلام عظيم حين تبنى القول بأن لله ابناَ، وصاغ بنفسه للنصارى – كما تذكر جميع المصادر- عبارة أن الابن مولود من الأب لكنه مساو له ومؤلف من نفس مادته.. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.. هذه العبارة التي أصبحت جوهر عقيدة كل النصارى ما عدا الموحدين.. بل وادعى له آباء الكنيسة رغم نصرانيتهم أنه المسيا المنتظر بل وادّعوا أنه خالق السماوات والأرض, وأن الله قد تجسد من جديد في صورته (10).. وأي كلام أعظم كفراَ من هذا.. وقد ذكر في كتاب الله العزيز المرسل إلى خاتم الأنبياء أن هذه الكلمات تكاد تتفطر لها السماوات.. فقسطنطين بذلك هو الملك الروماني الذي تكلم ضد العلي عزّ وجلّ..(1/98)
هذا وقد استمرت الأرض المباركة محكومة من قبل قسطنطين وخلفائه بطراز جديد من الحكم الروماني حتى دخلت تماما في ظل الخلافة الإسلامية ( مملكة الله المنتظرة) بعد 334 عاما ميلاديأً أو شمسياً (من عام 305 م حتى 638 م بإدخال أحد العامين، وكان فتح أورشليم عام 638م (11)، أي بعد 346 عاما تماماً من الأعوام القمرية اليهودية أو بعد ثلاثة قرون ونصف قرن ( ثلاثة أزمنة ونصف) من بدء حكم الملك الروماني الخبيث المفصلة صفاته بوضوح بالبشارة أعلاه ... ومن المناسب هنا الإشارة إلى أنه لم يصلنا من تعليق أصحاب مخطوطات البحر الميت (12) على هذه النبوءة سوى فقرة تشير إلى أن مدة حكم هذا "الملك الضال" كما لقبوه ستستمر لخمسة وثلاثين عاما ( فهماً من أخبار النبوءة بأنها ثلاثة فترات زمنية ونصف ) وهو فهم ينطبق أيضاً على مدة حكم قسطنطين المباشرة والتي استمرت لمدة 33 عاما ميلادياً ( من عام 305 م - أو قبل ذلك على ما تذكر بعض المصادر- إلى عام 337 بناءً على حساب المؤرخين ) أو حوالي 34 عاما ( قمرياً ) على التقويم اليهودي أو تزيد، ولا يضير نقص هذه المدة عاماً واحداً أو دونه عما توقعته النبوءة فكثير من هذه المدد الزمنية القديمة لا يصل حسابها إلى درجة اليقين.. وهذا من تمام انطباق صفات الملك الخبيث المذكور بالبشارة على شخصية قسطنطين أن تنطبق على فترة حكمه المباشر أو على فترة الحكم الذي أنشأه على الأرض المباركة بفلسطين مدة ثلاثة أزمنة ونصف سواءً فسر الزمن بعقد أو بقرن..(1/99)
ويحسن الإشارة هنا إلى أن حساب الفروق بين السنوات القمرية والشمسية أسلوب قد اتبعه باحثون متدينون من أهل الكتاب لمعرفة الفترات المقصودة في نبوات التوراة، كما يجدر الذكر بأن المتنبئ نوستراداموس الشهير (13) لدى العقلية السياسية الغربية في هذا الزمان قد تنبأ بأن هذا الملك الروماني المذكور بالبشارة أعلاه – وهو في رأيه كبقية أهل الكتاب أنه لم يأتي بعد - أنه حين يأتي فسيغيّر الأعياد – festivals على ما في نص البشارة- في المستقبل باستحداث يوم العطلة الأسبوعية غير أيام الجمعة والسبت والأحد المعروفة حالياً لدى المسلمين واليهود والنصارى ( Nostradamus: prophecies of present times, by David Pitt Francis, p.153 ) وتوقع أن يكون يوم العطلة الأسبوعية الذي سيستحدثه هذا الملك الخبيث هو يوم الاثنين... ويزداد المرء عجباً كيف عمي القوم عن أن تركهم السبت ليوم الأحد ( يوم الشمس ) مجاراة لعبادة الشمس التي رعاها قسطنطين قد كان هو التغيير المقصود بالنبؤة...
كما أن من المناسب هنا إيراد ما كتبه القس إكرام لمعي في كتابه "الاختراق الصهيوني للمسيحية" ( ص59 دار الشروق الطبعة الثانية 1993م) عن مدة الحكم الذي أقامه قسطنطين بالأرض المباركة إذ كتب "وفي عام 330 أسس الامبراطور قسطنطين الذي جعل المسيحية هي الدين الرسمي للامبراطورية عاصمة جديدة للنصف الشرقي في بيزنطة عرفت بالقسطنطينية، وفي عام 395م انقسمت الامبراطورية الرومانية إلى قسمين: القسم الشرقي وعرف بالامبراطورية البيزنطية، ووضعت فلسطين تحت حكمه لثلاثة قرون ونصف" وهو ما يتفق مع ما فصلت أعلاه وإنما أستشهد به هنا لإثبات إقرار الجميع بمدة هذا الحكم كثلاثة قرون ونصف.
..(1/100)
ولا يقدم النصارى أي تفاسير أخرى مقبولة.. ولعلَ أقوى ما قدم هنا هو القول بأن هذا الملك المفصلة صفاته أعلاه هو انطيوخيوس الرابع Antiochus 175-163 قبل الميلاد, الذي غزا ودنس بيت المقدس، ومنع العبادة بالهيكل وعطل السبت وحرم الختان, والذي تحدث عنه الإصحاح الثامن.. وهذا خلط واضح فانطوخيوس هذا من ملوك المملكة الثالثة ( اليونانية) وليس من ملوك الرومان ( المملكة الرابعة), ولا تنطبق عليه أياً من الصفات التفصيلية الأخرى التي فصلها الإصحاح السابع، والتي رأينا أعلاه كيف انطبقت تماما وبشكل مذهل على قسطنطين .. وصحيح أن الإصحاح الحادي عشر قد تحدث بوضوح عن انطوخيوس ولكن كأحد ملوك اليونان صراحةً, ويعتقد الباحثون أن هذا الإصحاح ( الحادي عشر) لا علاقة له بدانيال الذي عاصر نبوخذنصر، وأن كاتبه كان معاصراً للأحداث أيام انطوخيوس وأنه كان يعتقد أن مملكة الله المنتظرة ستعقب انطوخيوس مباشرة، وأنه كتب هذا الإصحاح أثناء عهد انطوخيوس فجاءت نبواته عن بقية عصر انطوخيوس بالتالي غير صحيحة، مما يضع استفهاما بارزاً عند معظم الباحثين – بما فيهم أكثر المتدينين - حول صحة تأليف الإصحاح الحادي عشر ابتداءً.. وبالتالي فلا علاقة له من حيث شخصية الكاتب ولا من حيث زمن التأليف بالإصحاح السابع.. ووصل إلى هذا الرأي الأخير بعض الباحثين من مثل Edward J Youg في كتابه The Prophecy of Daniel , pp. 276-277 حين رأى انه لا ينبغي محاولة التطبيق بين شخصية عدو المسيح المذكورة في الإصحاح الحادي عشر ( وهي انطيوخيوس اتفاقاً) وشخصية هذا الملك الخبيث المذكور في الإصحاح السابع من دانيال والذي نناقشه هنا، والذي ما زال أهل الكتاب جميعاً من يهود ونصارى ينتظرونه كمقدمة لإنشاء مملكة الله وقدوم المسيا المنتظر..(1/101)
ومن العجب أنهم يؤمنون موافقة لهذه البشارة وللتي قبلها بالإصحاح الثاني من كتاب دانيال أيضاٌ يؤمنون بأن هذا الملك سيكون من ملوك الدولة الرومانية.. ولمّا كانت دولة الروم قد اندثرت ولمّا يأتي هذا الملك في نظرهم، فقد ابتدعوا فكرة أن الدولة الرومانية سيكون لها إحياء بالمستقبل حتى يظهر هذا الملك وتعقُبه عودة المسيح إلى الدنيا مرة أخرى، وقد تهللّ معظم المتعصبين المسيحيين في هذا العصر فرحاً عند إعلان السوق الأوروبية المشتركة The European Economic Community, EEC عام 1957م واعتبروها العلامة الأولى لإحياء دولة الرومان، وانتظروا مجيء الملك المشار إليه أعلاه مع اكتمال انضمام عشرة دول أوروبية إلى الوحدة الأوروبية، لتمثل كل منها قرناً من القرون العشرة بالبشارة وهو تفسير واضح ضلاله، وزاد عدد هذه الدول من ست إلى تسع عام 1973م ثم إلى عشر عام 1981م، ولكن العدد ظلّ يزيد حتى بلغ الخمسة عشر مضيعاً آمال أتباع الظنون من متعصبي أهل الكتاب اللّذين استحبوا العمى على الهدى ... ومنهم من يزعم أنّ دولة الروم لمّا تزول بعد وأنها مازالت قائمة ومتمثلة بنظام البابوية في روما، وواضح أنّ أصحاب هذا الرأي هم من غير الكاثوليك وأنّ ضلال رأيهم لا يقل عن غيرهم، فالنبوة لا تتحدث عن تأريخ الباباوات ولا عن نظام الكهنوت بل تتحدث عن تأريخ القياصرة وحكمهم وقد زال، ولا تتحدث عن تأريخ روما بل عن تأريخ الأرض المقدسة والذين تعاقبوا على حكمها..(1/102)
وأورد للقارئ الكريم هاهنا ضمن استعراضي للآراء البديلة في تفسير نبوة دانيال هذه - بالإصحاح السابع - هذا الجدول مترجما من الإنجليزية من كتابFast Facts on Bible Prophecy، ومثل هذا الجدول أَورده كثير من الكتاب النصارى المعاصرين في كتاباتهم عن نبوات الكتاب المقدس، ويرى القاريء كيف زعم هؤلاء أن دولة الروم انتهت بسقوط روما على أيدي قبائل الألمان عام 476 م، رغم أن التأريخ يثبت أن الذي سقط إنما كان الجزء الغربي منها، وأنه في الواقع لم يسقط نظريا إذ تغلغل الألمان ضمن جيش الدولة الرومانية كأُُُجراء أو مجموعات قتالية، وظلوا يعتبرون أنفسهم تحت سيادة الإمبراطورية الرومانية التي كانت عاصمتها بالقسطنطينية، حتى بعد إسقاطهم رسميا لروما كعاصمة غربية، وكانت وظلت القسطنطينية عاصمة قائمة للإمبراطورية من قبل سقوط روما بقرن أو قرنين، واستطاع حكامها فيما بعد السيطرة على نفوذ الألمان وإخضاعهم الحقيقي للدولة، فكيف يقال أن دولة الروم انتهت عام 476 م وما زالت عاصمتها وجيشها بل وحكامها أنفسهم قائمون عليها، وظلوا كذلك حتى أسقط المسلمون الأتراك عاصمتها الوحيدة بالقسطنطينية عام 1492م، والقضية كلها أن هذا القول ما قيل إلا هربا من القول بأن الدولة التي أسقطت دولة الروم إنما كانت هي دولة الإسلام، ومع ذلك فالبشارة إنما تتحدث عن حكم الأراضي المباركة، وقد كان المسلمون كذلك هم من ورث الأرض المباركة من بعد الروم.. ويرى القارئ من الجدول كيف زعم هؤلاء بأنه سيكون هناك بعث جديد لدولة الروم لتأتي بعده مملكة الله.. فما أضعف حجتهم وما أبين مغالطتهم !!
ترجمة لجدول مشابه بالإنجليزية من كتاب Fast Facts on Bible Prophecy بعنوان التوافق بين دانيال 2 و7
الإصحاح2: رؤيا نبوخذنصر عن الصنم ... تحقق الحدث تاريخيا ... الإصحاح 7: نبوة دانيال عن الأربعة وحوش
الرؤيا التفسير المذكور بالاصحاح ... التفسير المذكور بالاصحاح الرؤيا(1/103)
2: 31 – 35 * 2: 36 - 45
الإمبراطوريات بالعالم ... 7: 15-28 ... 7: 1 - 14
1 ... 2: 38 ... الإمبراطورية البابلية ... 7 :17 ... 1 الأسد بأجنحة من نسر
2 : 32 الرأس ( من ذهب) ... " أنت.. نبوخذنصر" ... 612 – 539 ق م
2 ... 2: 39 ... الميدية- الفارسية ... 7:17 ... 2 7:5 دبّ
2: 32 الصدر والأذرع ... " مملكة دون.." ... 539 – 331 ق م
3 ... 2: 39 ... الإغريقية ... 7:17 ... 3 النمر بأربعة رؤوس وأربعة أجنحة
البطن والأفخاذ (البرونز) ... المملكة الثالثة ... 331 – 63 ق م
4 ... 2:40 ... الروم ... الروم القديمة ... 7: 23 ... 4 7: 7، 19 الوحش الرابع بأسنان حديدية ومخالب برونزية
2 : 33 ... المملكة الرابعة ... 63 ق م– 476م ... المملكة الرابعة
الأرجل من حديد والأقدام من حديد وطين
الروم المنتعشة بالمستقبل ... 7 :24 ... عشرة قرون
عشرة ملوك
: 24 ... 7:8 قرن صغير يتكتم بعظائم
ملك مختلف
2 : 35 ... 2: 44 ... مملكة الله ... 7 : 27 ... 7:9
الجبل العظيم ... مملكة لن تزال ... مملكة دائمة ... العروش ثبتت
* الأرقام المذكورة هي رقم الإصحاح، وأرقام الفقرات منه المتعلقة بموضوع المربع من هذا الجدول.
الشكل التوضيحي الذي أورده John Hagee في كتابه بداية النهاية The Beginning of the End تمّ إضافة الترجمة العربية إليه، واضح فيه تمثيل كل طبقة من طبقات الصنم الوارد في إصحاح دانيال الثاني بمملكة من الممالك الأربع، وهي نفسها ممثلة كذلك بأحد الوحوش الأربعة الواردة في الاصحاح السابع من كتاب دانيال كذلك، ومثل هذا الشكل التوضيحي الذي يربط الإصحاحين الثاني والسابع من دانيال بالممالك الأربع المذكورة أعلاه أورده عدد من المؤلفين الآخرين منهم مؤلفو كتاب Fast Facts on Bible Prophecy المشار إليه أعلاه، وفي هذا تأكيد لقضية إتفاق أهل الكتاب على تفسير الممالك الأربع القادمة قبل مملكة الله.
انتشار الإمبراطورية البابلية 606- 536 ق.م
انتشار الإمبراطورية الفارسية 536- 331 ق.م
انتشار الإمبراطورية الإغريقية 331- 63 ق.م(1/104)
انتشار الإمبراطورية الرومانية 63 ق.م – 638 م، يلاحظ أن المناطق المحيطة بهذه الإمبراطوريات كانت تحت حكم امبراطوريات أخرى، ولكن بشارات كتاب دانيال كانت خاصة بالإمبراطوريات التي ستتعاقب الحكم على الأرض المقدسة.
..ويبقى بعد ذلك أن نتساءل.. هل رتب المسلمون مملكتهم لتأتي بعد الرومان في حكم الأرض المقدسة بفلسطين؟ أم هل رتب المسلمون تأريخ قسطنطين فجاء ضمن الإمبراطورية الرابعة منذ عصر دانيال ومختلفاً عن عشرة أباطرة اضطهدوا المسيحيين جاء هو بعدهم، وجاء بدهاءٍ فريد فغير دين المؤمنين وغير كتبهم وغير أعيادهم الأسبوعية والسنوية تماما كما ذكر بالبشارة.. وهل رتب له المسلمون هزيمة ثلاثة ملوك رومانيين آخرين ؟ وهل أوحوا إليه بالتقول على الله حتى تنطبق عليه أخبار البشارة ؟ ثم هل رتب المسلمون له ولخلفائه حكم الأرض المباركة لثلاثة قرون ونصف ( ثلاثة أحقاب ونصف) قبل أن يرثها المسلمون ؟ وهل أوحوا إلى رسولهم الأمي أثناء ضعفه وتكذيب الناس له في بداية دعوته أن يأتي الناس بما لايسهل تصديقه بخبر معراجه إلى السموات ليلا ( ذكرت ذلك بعض طبعات الكتاب المقدس ) ولقائه ببعض الأنبياء (14) ( ... حتى تنطبق عليه كلمات دانيال انه رفع إلى السماء ليلا واقترب منه ( أي من دانيال (15) ) قبل أن يقدّم إلى قديم الأيام عز وجل. فيعود إلى الأرض لإقامة مملكة الله.(1/105)
ثم كيف رتبوا له ولأنفسهم هذا الإرث السريع للأرض المباركة وما حولها فانطوت تحت مملكتهم الشعوب من مختلف الألسن والأجناس ؟ وما زال المسلمون بالأرض المباركة وإن حَكَم الصليبيون واليهود أجزاء منها لفترات من التاريخ ... إنه لو وُصف قسطنطين بصفة واحدة لكفت لتحديده، فمَن مِن أباطرة الروم مَن يشاركه في أي صفة منها؟ فكيف وقد وصف بعشر صفات لا يشاركه في أي منها أحد؟ إلا في أنهم رومانيين وهي الصفة الأولى التي أسقطت التفسير البديل بأنه أنطوخيوس اليوناني، كيف وقد انتهت دولة الروم، وتعيّن أن نبحث عن هذا الملك الخبيث قد جاء ضمن حكامها الذين قد ذهبوا بذهابها... فهو الملك الروماني، الذي جاء بعد عشرة ملوك قبله، لكنه مختلفا عنهم، وهو الذي تخلص من ثلاثة ملوك آخرين، وهو الذي غير أعياد المؤمنين الأسبوعية والسنوية، وليس في التأريخ من يشاركه في ذلك، وهو الذي غيّر دين المؤمنين وكتبهم، وهو الذي تقوّل على الخالق عزّ وجل بكلام عظيم جداً، وهو الملك الماكر الخبيث الذي استخدم ذكاءه في المكر بالمؤمنين، ومُيّز في النبوة بأنه القرن ذو الفم والعينين الأشد من القرون قبله، وهو الذي اضطهد المؤمنين وطاردهم، وهو الذي استمر الحكم الذي وضعه بالأرض المقدسة مدة ثلاثة قرون ونصف تامة على الحساب القمري المستخدم بالتوراة.. أبعد كل هذا يبقى هناك أي مجال لأي تفسير بديل.. وهل يزيدنا ذكر اسم قسطنطين يقينا بأنه هو الملك المقصود بعد أن اجتمعت كل هذه الصفات ولم يجتمع لأي ملك آخر منها شيء.. وهل يزيدنا يقينا ذكر اسم دولة الإسلام بأنها المملكة المقصودة من بعد الإمبراطورية الرومانية؟ وهل يحتاج القارئ أي توضيح ليعلم أن ابن الإنسان ( ابن آدم) صاحب المعراج السماوي الليلي إنما هو "سيد ولد آدم" محمد صلى الله عليه وسلم الذي أعلن للناس عن معراجه ولقائه بالأنبياء قبل إنشائه لمملكة الله الربانية بسنوات؟(1/106)
إنني أتمنى على قارئي الكريم من غير المسلمين.. أن ينخلع عن كل علائقه المادية وروابطه الأرضية، ليتأمل وحيداً، بعيداً عن المؤثرات الخارجية، ليتأمل في هذه البشارة وبقية بشارات الكتاب لعل الله أن يأذن له برؤية الحق الذي نرى.. ولعله ألا يكون من أولئك الّذين ارتضوا الكفر واطمأنوا على حياتهم الدنيا في ظلاله, وخشوا الإيمان على معايشهم, إنّ هؤلاء قد اختاروا العمى على الهدى ولا تزيدهم الآيات إلا عمىً وضلالة.. ولن يُظلموا بعذابهم في الدنيا والآخرة... وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً يقولوا سحاب مركوم..
هوامش فصل رؤيا دانيال
* يرجى من القارئ الكريم قراءة النص أولاً، ثمّ العودة إليه بشكل متكرر عند قراءة التعليق.
(1) دولة الروم كما أوضحت سابقا هي الدولة التي مثل لها بالحيوان الرابع، ولم يقتصر الدليل على أن دولة الإسلام هي مملكة الله المبشر بها على أنها هي التي خلفت الروم في حكم الأرض المباركة، بل كانت هي الوحيدة بين أمم التأريخ المستحقة لأن تلقب بمملكة الله.
(2) أنظر مثلاً " دانيال آية آية" لناشد حنا، طبعة 1995 ص53
(3) روى جماعة من المحدثين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" فارس نطحة أو نطحتان ثم يفتحها الله ولكن الروم ذات القرون كلما هلك قرن قام قرن آخر"، وروى أبونعيم والطحاوي وغيرهما عن عبدالله بن حوالة: قال قلت: يارسول الله من يستطيع الشام وبها الروم ذات القرون، فقال: والله ليستخلفنكم الله فيها حتى تكون العصابة منهم البيض قمصهم المحلقة أقفاؤهم قياما على الرجل الأسود منكم المحلوق، ما يأمرهم فعلوا"، ومعناه أن الفرد الصحابي الأسود سينقاد له عصابة من هؤلاء الروم يقومون على خدمته.. وقد تحقق ذلك بتمامه.
(4) يبدوا أنّ المسيح عيسى عليه السلام قد خفف عن اليهود بعض الإصر الذي كان عليهم، إلاّ أنه لم يلغِ السبت، وسيرد معنا فيما بعد أدلة على ذلك.
((1/107)
5) سيأتي الحديث عن سياسة بولس، انظر الملحق الخاص بذلك.
(6) " The Church tolerated the cult of the emperor under many forms. It was permitted to speak of the divinity of the emperor, of the sacred palace, the sacred chamber and of the altar of the emperor, without being considered on this account an idolater. From this point of view Constantine's religious change was relatively trifling; it consisted of little more than the renunciation of a formality. For what his predecessors had aimed to attain by the use of all their authority and at the cost of incessant bloodshed, was in truth only the recognition of their own divinity; Constantine gained this end, though he renounced the offering of sacrifices to himself. Some bishops, blinded by the splendour of the court, even went so far as to laud the emperor as an angel of God, as a sacred being, and to prophesy that he would, like the Son of God, reign in heaven. It has consequently been asserted that Constantine favoured Christianity merely from political motives, and he has been regarded as an enlightened despot who made use of religion only to advance his policy." From: New advent web page.
(7) نقل المستشار محمد عزت في كتابه النصرانية والإسلام ( ص 31) عن المؤرخ المسيحي ابن البطريق أن عدد الذين اجتمعوا لمجمع نيقية كان 2048 أسقفا يحملون آراء مختلفة عن المسيح عليه السلام.
(8) The Dark Side of Christian History, by Helen Ellerbe,1995, pages 20 – 21.(1/108)
“ Constantine, who treated religious questions solely from a political point of view, assured unanimity by banishing all the bishops who would not sign the new profession of faith. In this way unity was achieved. It was altogether unheard-of that a universal creed should be instituted solely on the authority of the emperor, who as a catechumen was not even admitted to the mystery of the Eucharist and was totally unempowered to rule on the highest mysteries of the faith. Not a single bishop said a single word against this monstrous thing.
(9) كتب ابن كثير في تفسيره للآية 56 من سورة آل عمران : " .. وقد حكى الله مقالتهم في القرآن، وردّ على كل فريق، فاستمروا على ذلك قريبا من ثلاثمائة سنة، ثمّ نبع لهم ملك من ملوك اليونان يقال له قسطنطين، فدخل في دين النصرانية قيل حيلة ليفسده فإنه كان فيلسوفاً، وقيل جهلا منه، إلا أنه بدل لهم دين المسيح وحرّفه، وزاد فيه ونقص منه، ووضعت له القوانين والأمانة الكبرى للتي هي الخيانة الحقيرة، وأُحل في زمانه الخنزير، وصلّوا إلى المشرق وصوروا له الكنائس والمعابد .. وصار دين المسيح دين قسطنطين.. وبنى لهم المدينة المنسوبة إليه.. " وإنّ المرء ليعجب من دقة ابن كثير هنا على الرغم من خطأه في اعتبار قسطنطين من اليونان، فإنه اعتبره قد بدل دين المسيح حيلة منه ( كما يعتقد بعض الباحثين الغربيين) أو جهلا منه، حتى صار دين المسيح هو ذلك الدين الذي وضعه قسطنطين، وأن النصارى قد خانوا دينهم حين أعطوه حق وضع القوانين، وحين أعطوه الأمانة الكبرى وذلك ربما حين أعتبروه المخلص أو المسيا المنتظر كما نقل ذلك عن ايسوبيوس.
((1/109)
10) هناك عدد من النبوات أشهرها الرؤيا الآرامية ( انظر الفصل الثاني) تتنبأ بمجيء حاكم وثني يدعي أو يدعى له الألوهية بما في ذلك الزعم بأنه تجسد للإله تعالى أو أنه ابن الله.. وأن مملكة الله ستقضي في النهاية على الحكم الذي سيقيمه.. ويرى القارئ أن هذا منطبق تماما على قسطنطين.
(11) The Timetable of History, 3rd edition, p.59
(12) The Dead Sea Scrolls, by Michael Wise, Martin Abegg, J R. & Edward Cook, page 268.
(13) مايكل نوستردامس ( 1503-1566م) طبيب وفلكي فرنسي من أصل يهودي، أشتهر بتنبؤاته عن المستقبل، والتي زاد الإهتمام بها إلى حد الهوس هذا القرن بسبب الإحساس بصحة حدوث بعضها، وله كتاب القرون Centuries الذي سجل به التبنؤات والذي ما زالت أجزاء منه محفوظة.. وتتفرغ حاليا جمعيات غربية في نشر تنبؤاته لتستغلها في التحذير من الصحوة الإسلامية، التي تمثل تمهيدا لقدوم عدو المسيح الذي تنبأ بقدومه مع نهاية الألف الثانية من بعد الميلاد.. ومن الثابت بطلان معظم تنبؤاته، وصحة بعضها قد تكون نتيجة اعتماده على الجن الذين قد يسترقوا السمع، ويوحوا بما سمعوا لأوليائهم من الإنس، وقد أصبح ذلك نادراً من بعد الإسلام، ولكنه لم ينقطع تماماً، والله أعلم، ومن المعلوم أن نوسترادامس كان من أصحاب علم النجوم .. ويرى بعض الباحثين المسلمين أنه اعتمد على مخطوطات اسلامية مفقودة أستقى منا كثيرا من تنبؤاته..
((1/110)
14) جاء في صحيح البخاري: قال أنس ( ضمن حديث طويل عن المعراج) فذكر أنه ( أي الرسول صلى الله عليه وسلم) وجد في السماوات إدريس وموسى وعيسى وإبراهيم ولم يثبت لي كيف منازلهم غير أنه قد ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا وإبراهيم في السادسة وقال أنس فلما مر جبريل بإدريس قال مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح فقلت من هذا قال هذا إدريس ثم مررت بموسى فقال مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح قلت من هذا قال هذا موسى ثم مررت بعيسى فقال مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح قلت من هذا قال عيسى ثم مررت بإبراهيم فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قلت من هذا قال هذا إبراهيم.. ).
(15) استنتج عبد الحق الإسلامي المغربي - من أحبار اليهود الذين أسلموا- في كتابه الحسام الممدود في الرد على اليهود المؤلف بالقرن الثامن الهجري، بتحقيق الدكتور عمر وفيق الداعوق، استنتج رؤية دانيال للرسول محمد صلى الله عليه وسلم من بشارة دانيال بالإصحاح السابع دون أن يتطرق لتفصيل البشارة، وقد أورد عبد الحق النص التوراتي بالعبرية ثم فسره إلى: " ورأيت عند سحائب السماء كابن آدم طالع محمد هو، ووصل إلى الرب الأزلي، وبين يديه تقرب" وذَكر أن اسم محمد صلى الله عليه وسلم ذُكر كذلك في خاتمة البشارة صريحا.. وهو ما ليس موجودا بالنسخ المعاصرة.
المسيح عليه السلام يواصل التبشير بمملكة الله القادمه من بعده ولايدّعي لنفسه إقامتها
أولاً:
تبشير المسيح العام بمملكة الله القادمة كهدف أساسي لبعثته:
..(1/111)
وإذ يبعث الله عيسى عليه السلام في بني اسرائيل خلال المملكة الرابعة- مملكة الروم – المملكة السابقة مباشرة لظهور مملكة الله عزّ وجلّ المبشّر بها من قبل.. فإنّ من الطبيعي أن يُولي المسيح عليه السلام قضية التبشير بها إهتماماً خاصاً في دعوته.. والواقع أن الظاهر من الأناجيل الحاليه أن قضية التبشير هذه بمملكة الله القادمة وإعداد بني اسرائيل للإيمان بها والإنضواء تحت لوائها عند قيامها كانت هي الهدف الأول للمسيح عليه السلام، هذا كما يتضح من الأناجيل الحاليه.. وإن كانت التراجم العربية قد اختارت لفظ ملكوت الله مما يبعدها عن مفهوم المملكة الأرضية، ، ذلك المعنى البين من خلال ما نناقش من بشارات. إلا أن النسخ غير العربية ما زالت تسميها مملكة الله (kingdom of God ) بنفس تسمية دانيال عليه السلام لها.. ويوافق أكثرية من الباحثين بل ومن المتدينين النصارى - إضافة الى اليهود - على أن المقصود بمملكة الله هو مملكة أرضية سيقيمها المسيا ( المصطفى ) المنتظر، بغض النظر عن كون المسيا لم يأت بعد أو أنه هو عيسى عليه السلام في مجيئه الثاني.
..إن كلمة الإنجيل نفسها تعني البشارة ( بالأخبار الطيبة).. فجاء المسيح مبشراً.. وأطلق على من أرسلهم في دعوته مبشرين.. لأنهم جميعاً أرسلوا ليبشروا بالخبر الطيب ... ..والسؤال هو عما كان ذلك الخبر الطيب ؟..(1/112)
لقد كان خبراً طيباً عن دولة الله ومملكته التي تكلم عنها الأنبياء، لقد كان خبراً بأن زمن ظهورها قد اقترب وأنها قد اصبحت وشيكة القيام.. ولِمَ لايكون ذلك الخبر طيباً للناس ولبني اسرائيل.. وهو الخبر للمؤمنين بأن اثقال الماضي وإصره الذي تراكم نتيجة عناد الآباء سيرفع كاملاً.. وهو الخبر بأن متاعب الماضي ومشاكله ستنسى وأن صفحة جديدة وتسبيحة جديدة ستفتح. وهو الخبر بأن دين الله ورحمته ستعم شعوب الأرض كلها من مختلف الألسن والألوان ... وأن المساكين سيرثون الأرض فيقيمون دولة الله ومملكته في الأرض.. وأنه لن يحتكر دين الله ولا تفسير كتبه زمرة أو أقلية متاجرة من الرهبان.. إنه الخبر بأن فضل الله على الناس ورحمته للعالمين قد أوشكت على البزوغ وأنها ستشمل كل الأجناس ..
وفيما يلي نستعرض من الأناجيل الحالية على مآخذنا الكثيرة على صحة ما بها نستعرض كيف حرص المسيح على التبشير بمملكة الله القادمة وضرب لذلك الأمثلة البيّنة الدلالة.. والتي سلم بعضها من الحذف والإخفاء، ربما لعدم تصريحها الكامل برسول الإسلام ورسالته, ولانشك في أن المسيح قد صرح بذلك في مواطن أخرى كما سيمر معنا في حلقات أخرى ..
تحكي الأناجيل المعترف بها لدى النصارى المعاصرين أن عيسى عليه السلام كان يسير بين المدن والقرى يبشر بقدوم مملكة الله.. وكان يرسل حوارييه لنفس المهمة ويوصيهم ألا يتجاوزوا المدن والقرى اليهودية..(1/113)
ويذكر( متى 17:4) انّ المسيح عليه السلام بدأ دعوته أول ما بدأ بعد استشهاد يحيى عليه السلام وبعد ثباته عندما ابتلي هو نفسه بإبليس، بدأ دعوته مبشراً اليهود باقتراب مملكة الله" وبدأ يسوع من ذلك الحين ينادي، فيقول :" توبوا، قد اقترب ملكوت السماوات)، ويعلن بشارة اقتراب مملكة الله في كل مجامع الجليل بل في كل قرى اليهود ومدنهم، فورد في متى 23:4 : " وكان يسير في الجليل كلّه، يعلّم في مجامعهم ويعلن بشارة الملكوت" ويذكر لوقا 1:8 أنه ( كان يسير في كل مدينة وقرية ينادي ويبشر بملكوت الله ( مملكة اللهKingdom of God ) ومعه الإثنا عشر..)، وأنه كان يقول ( قد كمل الزمان واقترب ملكوت (مملكة) الله) مرقص 14:1، وعقّب متّى 5:10 على تعداده لأسماء الحواريين فقال ( هؤلاء الإثنا عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلاً : الى طريق أمم لاتمضوا وإلى مدينة للسامرين لا تدخلوا بل اذهبوا بالحريّ إلى خراف بيت اسرائيل الضالة ( أي شعب إسرائيل ) وفيما انتم ذاهبون اكرزوا قائلين أنه قد اقترب ملكوت السموات ) وأمرهم أن يخبروا باقتراب مملكة الله لكل المدن التي قبلتهم والتي رفضتهم على السواء (لوقا 1:9-10)، وروى لوقا في انجيله ( 43:4) أن المسيح ذكر أن التبشير بمملكة الله هو الهدف من إرساله إلى بني اسرائيل : " فقال لهم : ( يجب عليّ أن أبشر سائر المدن أيضاً بملكوت الله، فإني لهذا أرسلت)، وأخذ يبشر في مجامع اليهودية.".. وأمر أتباعه بأن تكون قضية مملكة الله هي همهم الأول ( متى 6 : 33) ، وأمرهم - كما ذكر في متى 10:6- بالدعاء في صلواتهم بمجئ مملكة الله : " ليقدّس اسمك، ليأت ملكوتك، ليكن ما تشأ في الارض كما في السماء..(1/114)
"، وما زال النصارى حتى اليوم بعد ألفي عام من تبشير المسيح بمملكة الله يدعون في صلواتهم بقدومها، مع أن المسيح بشر بأن قيامها سيكون قريباً، وأن دانيال قد بشر بأنها المملكة القادمة من بعد المملكة الرابعة من عصره ( مملكة الروم).
وكما هو متوقع فقد كانت قضية التبشير بمملكة الله القادمة مما اهتمّ بالقيام به كذلك النبي يحي ( يوحنا المعمدان) عليه السلام، فروى متى في انجيله ( 1:3) فقال " في تلك الايام ظهر يوحنا المعمدان ينادي في برية اليهودية، فيقول:" توبوا، قد اقترب ملكوت السموات" ... ويجمع الباحثون هنا أن اليهود قبيل عصر المسيح وأثناء عصره وبعيده كانوا متوقعين للفرج والنصر الإلهي على الأمم الوثنية وبخاصة على الروم اللذين استعبدوهم. وبلغ هذا التوقع درجة اليقين عند الكثير منهم، ولم لا والبشارات بالمسيا الذي سيأتي في آخر الزمان ويقيم مملكة الله الخالدة كثيرة وتوحي بأن ذلك الحين هو أوانها، واللذين اطلعوا على مخطوطات البحر الميت يدركون درجة يقين أهلها في قرب موعد انتصارهم على الروم وانشائهم لمملكة الله، واللذين درسوا ثورة اليهود على الروم عام 67–70م يدركون مدى ثقتهم العالية بالنصر على الروم، رغم قوة الروم وجبروتهم، وظلّت ثقتهم بأنّ التأييد الالهي سيأتيهم بظهور مفاجئ للمسيا حتى دخل عليهم الرومان صحن الهيكل وبه ستة آلاف من المعتصمين، فما وهنوا وما يأيسوا حتى هدم الهيكل وأحرق.. فكان اليهود في عصر المسيح متلهفين لظهور المصطفى الذي به تختم النبوة، ويعمّ دينه الأرض وتدخل تحت لوائه مختلف الشعوب والألسن.. وجاءهم المسيح كما رأينا هنا فما أتى بهذا النصر ولا زعمه، ولكنه أخبرهم أنه جاء مبشراً به..(1/115)
وعلم اليهود منه أنه آخر الأنبياء اليهم وأن الله سيبعث مملكة الله قريباً ولكن من غيرهم، فأخذهم الغرور وسيطر عليهم الحسد أن يُعطى هذا الفضل لغيرهم، فكفروا بعيسى عليه السلام وسعوا لقتله، من بعد كفر الكثير منهم بيحيى عليه السلام ثم قتله، ومن بعد تحريف آبائهم للبشارات بخاتم الأنبياء بأنّه من أبناء داوُد عليه السلام، وسنستعرض في مواضع قادمة نماذجاً بقيت ( من كثيرٍ لم يسجلّ) تدلّ على تلاعب اليهود بالبشارات لتناسب نبياً من بني اسرائيل، حسداً من عند أنفسهم.. وقبل أن نستأنف تبشير المسيح عليه السلام بمملكة الله القادمه أسجلّ هنا سُخرية المؤرخين _ وهم غربيون بخلفية نصرانية في الغالب – سخريتهم ممن زعم من النصارى أن عيسى عليه السلام قد زعم لنفسه أنه هو المسيا المنتظر المنقذ لليهود.. فإنّ المسيا الذي ينتظره اليهود سينشئ الكتائب المحاربه ويحقق الأنتصارات المتواليه.. ولم يصنع عيسى عليه السلام من ذلك شيئاً.. وهنا يزعم النصارى أنّ ذلك سيكون في مجيئه الثاني، على الرغم أنّ هذا الرأي لم يُروَ عنه صراحة، بل كان يتحدث عن منشيء مملكة الله ( ابن الإنسان أو الباركليت..) كشخص آخر من بعده، وعلى الرغم من أن ألفيّ عام قد مضت تنفي مثل هذا الفهم، خاصة أن المسيح قد أخبر أن مملكة الله قريبة القيام من بعده ..(1/116)
ويظلّ هاهنا التساؤل لماذا أَسلم الله اليهود للرومان يقتلونهم، وهم قد استبسلوا في الدفاع عن بيت الله بأورشليم؟ والإجابة واضحة يعلمها، اليهود أنفسهم، فقد أعلموا عند ما أخذ عليهم الميثاق الغليظ (1) أنّ الله سيلعنهم ويسلمهم الى غيرهم ويشتتهم في الأرض إن عصوا الأنبياء وحرفوا الرسالة، وها قد جاءهم يحيى وعيسى رحمةً أخيرة اليهم، فأنذراهم بأنّ خراب أورشليم واقع لا محالة، وأن تمسكهم بأنّ المسيا من أبناء داوود هو من تحريفهم، وأنّ أمر انتقال النبوة إلى غيرهم قد تمّ، وما عليهم إلا الإتباع والتسليم، وأنّ المطلوب منهم في هذه المرحلة هو انتظار مملكة الله القادمة والدعاء بقرب مجيئها، وأن عليهم عدم مقاومة غزاة أورشليم بل الخروج منها إذا اجتمعت عليها الأمم، فالّذين آمنوا بهما اتبعوا أمرهما ونجاهم الله من الذبح على أيدي الرومان كما ثبت تأريخيا، واللذين أصروا على التكذيب، وأصروا أنّ المسيا سيكون منهم وأنه سيأتي اليهم وقت حصارهم من الرومان، ليقضي على المملكة الرابعة ( القطيم أو الرومان)، وتشبثوا بالبقاء داخل القدس متجاهلين نصائح المسيح عيسى عليه السلام بالخروج من المدينة، فانتظروا نصراً لا يستحقونه.. هؤلاء دفعوا ثمن تكذيبهم الأنبياء باهظاً ...
(1) أنظر التثنية 28: 15-68، وسيرد النص كذلك عند الحديث عن لعن المكذبين من بني اسرائيل، وأنظر كذلك قوله عز وجل في الكتاب العزيز: " ورفغنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا. فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف، بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون الا قليلا، وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما، وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله .."
(2)
ثانياً:
الأمثلة التي ضربها المسيح في تبشيره بمملكة الله القادمة:
((1/117)
1) الحجر الذي رفضه البناءون و مَثَل بستان العنب
النص الإنجيلي (1): متى 21 : 33-45
( اسمعوا مثلا آخر: غرس رب بيت كرما, فسيّجه وحفر فيه معصرة وبنى برجا وآجره بعض الكرامين، ثمّ سافر، فلمّا حان وقت الثمر أرسل خدمه الى الكرّامين ليأخذوا ثمره، فأمسك الكرامون خدمه فضربوا أحدهم وقتلوا غيره ورجموا الآخر. فأرسل أيضاً خدماً آخرين اكثر عدداً من الأولين، ففعلوا بهم مثل ذلك. فأرسل إليهم ابنه آخر الأمر، وقال سيهابون ابني، فلما رأى الكرامون الابن، قال بعضهم لبعض: هوذا الوارث، هلمّ نقتله ونأخذ ميراثه. فأمسكوه وألقوه في خارج الكرم وقتلوه. فماذا يفعل ربّ الكرم بأولئك الكرامين عند عودته؟ قالوا له :"يُهلك هؤلاء الأشرار شرّ هلاك، ويؤجر الكرم كرامين آخرين، يؤدون اليه الثمر في وقته."قال لهم يسوع:"أما قرأتم قطّ في الكتب: " الحجر الذي رذله (رفضه) البناءون هو الذي صار رأس الزاوية، من عند الربّ كان ذلك، وهو عجيب في أعيننا" لذلك أقول لكم : "إنّ ملكوت الله سيُنزع منكم ويُعطى لأمّة تُثمر ثمره، من وقع على هذا الحجر تهشّم، ومن وقع عليه هذا الحجر حطّمه". فلمّا سمع عظماء الكهنة والفريسيون أمثاله، أدركوا أنه يعرِّض بهم في كلامه ، فحاولوا أن يمسكوه، ولكنهم خافوا الجموع لانهم كانوا يُعدونه نبياً ).
وقد أورد هذا المثل كذلك لوقا ( 20: 9- 19) مع اختلاف بسيط.." .. فماذا يفعل بهم صاحب الكرم، يأتي ويهلك هؤلاء الكرامين، ويعطي الكرم لآخرين ، فلما سمعوا قالوا حاشا. فنظر اليهم وقال إذاً ما هو هذا المكتوبُ الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية، كل من يسقط على ذلك الحجر يترضض، ومن سقط هو عليه يسحقه.."
التعليق:(1/118)
فخلاصة هذا المثل عن مملكة الله القادمة على الأرض أنّ مالكاً لبستان من العنب أجّره لأجراء على أن يُوافوه نصيبه عند موسم الحصاد، فلما حان الموسم أرسل لهم عبيده ورسله فأبوا عليهم، ورجموا بعضهم وضربوا آخرين أو قبضوا عليهم أو قتلوهم.. فأرسل المالك رسلاً بعد رسل وعبيداً من عبيده بعد عبيد فصنعوا بهم كما صنعوا بالرسل الأولين، فأرسل لهم ابنه فقبضوا عليه وقتلوه، فقال المسيح عليه السلام لجموع اليهود المجتمعة حوله، فما ترون أن يصنع المالك بهؤلاء الأجراء فقالوا يقتل بالتأكيد هؤلاء الأشرار، ويُعطي البستان لمستأجرين آخرين، فكان تعليق المسيح على ردِّهم عجيباً ولكنّه بيّناً.. قال: ألم تقرأوا بالكتب ( أي التوراة وملحقاتها) أنَّ الحجر الذي رفضه البناؤون لعدم قيمته قد غدا أهم حجارة البناء، وأوضح فقال: لقد صنع ذلك الربّ، وأني أخبركم بأنّ مملكة الله ستؤخذ منكم، وتُعطى لأمّة تنتج ثمارها الصحيحة، وأدرك رؤساء الكهنة اليهود ما يعنيه هذا المثل فغضبوا وأرادوا اعتقال المسيح لولا خوفهم من الجماهير التي كانت تؤمن بالمسيح كنبي.. تلك هي خلاصة هذه البشارة..(1/119)
وواضح أن الأجراء الأشرار هم اليهود (2) الذين استخلفهم الله على الناس وعلى الأرض (المباركة) وأن العبيد الذين رُجموا وقُتلوا همّ رسل الله إلى بني إسرائيل الذين صنع بهم مثل ذلك.. وأن المقصود بآخرهم الذين رَمَزت له الأناجيل بابن الله ( وهو فيما نعتقد من تحريف الكتبة النصارى) أنّه المسيح عيسى عليه السلام، واليهود كأنما همّ قد قتلوه حين سعوا لقتله وصلبه.. وغضب الله على هؤلاء الأشرار من بني إسرائيل مسجّل بالتوراة في مواضيع سنأتي لسرد أمثلة منها فيما بعد، وقتلهم الأنبياءَ أمر معروف وثابت بتأريخهم، فقد قتلوا اشعيا وزكريا ويحيى وغيرهم عليهم السلام وحاولوا قتل إلياس وقتل عيسى المسيح عليهما السلام.. وكفروا بأنبياء كثيرين من قبل، ولكن محاولة قتلهم المسيح كانت قد اعتبرت دائماً القاصمة التي آذنت بعقوبة الإستئصال ( على القارئ مراجعة البشارات المأخوذة من مخطوطات البحر الميت بما فيها بشارة لاوي) ثمّ الإستبدال بأمّة مستخلفة على الأرض غيرهم ( وهو مايتفق تماماً مع ما يقتضيه مثل البستان والأجراء..).. وواضح أنّ المسيح يخبرهم بخبر الصاعقة.. أن الله سيعاقبهم على كفرهم وعصيانهم وأنه هو آخر رسل الله إليهم، وأن مملكة الله ورسالته ستؤخذ منهم وتعطى لأمّة من بعدهم ( ومن بعد عصره) تكون أفضل منهم.. وهو يطلب من المؤمنين به الدخول ضمن مملكة الله إذا قامت.(1/120)
ويبقى هنا تحديد هويةَ هذه الأمّة القادمة لوراثة النبوة من بعد اليهود.. فمن الواضح أنها نفس الأمة التي سترث الأرض من بعد الروم والتي أشار إليها دانيال في نبوءتين واضحتين في كتابه ( الإصحاح الثاني و السابع)، وهو ما أثبتنا بشكل قطعي أنه تبشير بالإسلام ودولته ... وهذا من توافق بشارات المسيح عيسى عليه السلام مع البشارات الأولى، فقد جاء قومه وهم في عصر المملكة الرابعة ( الروم)، وليس بعد عصره وزمانه إلا مملكة الله التي بشر بها َمن قبله من الأنبياء، فشاركهم في التبشير بها، بل واعتبر مهمة التبشير بها غاية رسالته وهدفها.. وتضيف هذه البشارة بعدا آخر في تمييز هوية هذه المملكة ونبيها.. ففي بناء النبوة كان الحجرُ المشارك من بني إسماعيل قد رُفض في ظاهر الأمر إلى الصحراء.. وانعزل بها أبناء بني إسماعيل، وانحرفوا حتى عبدوا الأوثان وخرجوا عن ملة أبيهم إبراهيم.. وإذا بالمسيح يشير إلى أن هذا الحجر في بناء النبوة قد غدا أهم حجر في البناء على الإطلاق، وكان ذلك حين انتقلت إليه مملكة الله من بعد بني إسرائيل وظهر به خاتم الأنبياء.. وقريبا من هذا قول رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم : ( مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحسن بنيانه، و ترك منه موضع لبنة، فطاف به النظار يتعجبون من حسن بنيانه إلا موضع تلك اللبنة، خُتم بي البنيان وختُم بي الرسل ).. ومن يقرأ التوراة المعاصرة يحسّ بانطباع أن هاجر وابنها إسماعيل قد نُفيا إلى الصحراء حتى لا يضايقا سارة عليها السلام. ففي التكوين 15:21 ( أن سارة رأتهم فقالت لإبراهيم أرسل البنت الأمة وابنها بعيدا، إنه لا ينبغي لابن الجارية هذه أن يكون له نصيبا من حظك).. وبظهور خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم بعد المسيح من أبناء إسماعيل فقد غدا حجر ( أو لبنة) بني إسماعيل في بناء النبوة أهم حجر على الإطلاق.. وكان هذا أمراً عجيباً وغير متوقع ٍ..(1/121)
وواضح أن عيسى عليه السلام لم يكن يقصد بالحجر الذي رفض نفسه هو.. إذ كان قد رُفض من اليهود مثله في ذلك مثل من رفض من قبله من أنبيائهم، وليس هنالك ما يدعو لتمييزه بأنه النبي ( الحجر) الذي رفض.. وقد انطوت من خلال المثل صفحته مع اليهود بمحاولتهم قتله وغيابه عن الأحداث من بعدها كما انطوت هذه الرسائل صفحة مَن سبقه من المرسلين الذين قتلهم بنو إسرائيل.. لكن حديثه عليه السلام هنا هو عن نبي من بعده من غير اليهود سيقيم مملكة الله على الأرض من بعد عصره عليه السلام.. ولا نلتفت إلى ما ورد في رسالة بطرس الأولى من أن الحجر رأس الزاوية هو عيسى عليه السلام.. إذ أن هذه الرسائل مجهولة السند، تعرضت للتعديل الذي لا يعلم بمداه إلا الله عزوجل عند إقرارها مع غيرها من الرسائل التي قدسها المسيحيون وعاملوها كأنها من الوحي.. وما هي من الوحي حتى لو صحت نسبتها إلى أصحابها.. فكيف وقد امتلأت بما نراه مخالفاً لكل وصايا الأنبياء التي يؤمن بها أهل الكتاب من القول ببنوة المسيح وعبادته..
وتكون هذه البشارة كسابقاتها قد بشرت بقدوم مملكة الله ونبيها من بعد أيام عيسى عليه السلام التي كانت ضمن عصر الدولة الرومانية.. بشرت بمملكة الله ناشئة من أمة من غير اليهود بعد أن فشل اليهود في الوفاء باستحقاقاتها.. ناشئة على يد نبي من الفرع الذي لم يكن يبدو هاماً في بناء الدعوة فغدا حجر الزاوية منه.. ويدلّ ردّ فعل اليهود وحنقهم على المسيح حين أورد هذا المثل يدل ذلك على تواطئهم لاخفاء الحقائق المتعلقة بقيام مملكة الله من غيرهم, وأن المسيح هاهنا يفضح تواطئهم لتحريف الكتاب وإخفاء حقائق التوراة.. حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحقّ..
ــــــــــــ
هوامش مثل بستان العنب
(1) الكتاب المقدس ، الطبعة الثالثة لبولس باسيم، دار المشرق: بيروت.
((1/122)
2) جاء الإصحاح الخامس من إشعياء بتمثيل مشابه لبني إسرائيل ببستان غُرس فيه عنب، وبذل به الجهد حرثا وسقيا وحماية، ولكن العنب أثمر حصرماً، والحل كان حينها برفع الحماية عنه لتدوسه الماشية وينبت به الشوك، ويستحيل بستانه خرابا.. وكل ذلك وقع ببني إسرائيل من بعد إشعيا.. ويستخدم المسيح عليه السلام في المثل أعلاه بالإنجيل مثلا مشابهاً، إلا أنه ينتهي ببشرى ظهور مملكة الله من أمة بديلة:(1/123)
" لأُنْشِدَنَّ عَنْ حَبِيبِي نَشِيدَ مُحِبِّي لِكَرْمِهِ. كَانَ لِحَبِيبِي كَرْمٌ عَلَى أَكَمَةٍ خَصِبَةٍ. فَنَقَبَهُ وَنَقَّى حِجَارَتَهُ وَغَرَسَهُ كَرْمَ سَوْرَقَ وَبَنَى بُرْجاً فِي وَسَطِهِ وَنَقَرَ فِيهِ أَيْضاً مِعْصَرَةً فَانْتَظَرَ أَنْ يَصْنَعَ عِنَباً فَصَنَعَ عِنَباً رَدِيئاً. وَالآنَ يَا سُكَّانَ أُورُشَلِيمَ وَرِجَالَ يَهُوذَا احْكُمُوا بَيْنِي وَبَيْنَ كَرْمِي. مَاذَا يُصْنَعُ أَيْضاً لِكَرْمِي وَأَنَا لَمْ أَصْنَعْهُ لَهُ؟ لِمَاذَا إِذِ انْتَظَرْتُ أَنْ يَصْنَعَ عِنَباً صَنَعَ عِنَباً رَدِيئاً؟ فَالآنَ أُعَرِّفُكُمْ مَاذَا أَصْنَعُ بِكَرْمِي. أَنْزِعُ سِيَاجَهُ فَيَصِيرُ لِلرَّعْيِ. أَهْدِمُ جُدْرَانَهُ فَيَصِيرُ لِلدَّوْسِ. وَأَجْعَلُهُ خَرَاباً لاَ يُقْضَبُ وَلاَ يُنْقَبُ فَيَطْلَعُ شَوْكٌ وَحَسَكٌ. وَأُوصِي الْغَيْمَ أَنْ لاَ يُمْطِرَ عَلَيْهِ مَطَراً. إِنَّ كَرْمَ رَبِّ الْجُنُودِ هُوَ بَيْتُ إِسْرَائِيلَ وَغَرْسَ لَذَّتِهِ رِجَالُ يَهُوذَا. فَانْتَظَرَ حَقّاً فَإِذَا سَفْكُ دَمٍ وَعَدْلاً فَإِذَا صُرَاخٌ.. لِذَلِكَ سُبِيَ ( أي يُسبى) شَعْبِي لِعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ وَتَصِيرُ شُرَفَاؤُهُ رِجَالَ جُوعٍ وَعَامَّتُهُ يَابِسِينَ مِنَ الْعَطَشِ. لِذَلِكَ وَسَّعَتِ الْهَاوِيَةُ نَفْسَهَا وَفَغَرَتْ فَمَهَا بِلاَ حَدٍّ فَيَنْزِلُ بَهَاؤُهَا وَجُمْهُورُهَا وَضَجِيجُهَا وَالْمُبْتَهِجُ فِيهَا! وَيُذَلُّ الإِنْسَانُ وَيُحَطُّ الرَّجُلُ وَعُيُونُ الْمُسْتَعْلِينَ تُوضَعُ. وَيَتَعَالَى رَبُّ الْجُنُودِ بِالْعَدْلِ وَيَتَقَدَّسُ الإِلَهُ الْقُدُّوسُ بِالْبِرِّ.. وَيْلٌ لِلْقَائِلِينَ لِلشَّرِّ خَيْراً وَلِلْخَيْرِ شَرّاً الْجَاعِلِينَ الظَّلاَمَ نُوراً وَالنُّورَ ظَلاَماً الْجَاعِلِينَ الْمُرَّ حُلْواً وَالْحُلْوَ مُرّاً.(1/124)
وَيْلٌ لِلْحُكَمَاءِ فِي أَعْيُنِ أَنْفُسِهِمْ وَالْفُهَمَاءِ عِنْدَ ذَوَاتِهِمْ. وَيْلٌ لِلأَبْطَالِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ وَلِذَوِي الْقُدْرَةِ عَلَى مَزْجِ الْمُسْكِرِ. الَّذِينَ يُبَرِّرُونَ الشِّرِّيرَ مِنْ أَجْلِ الرَّشْوَةِ. وَأَمَّا حَقُّ الصِّدِّيقِينَ فَيَنْزِعُونَهُ مِنْهُمْ. لِذَلِكَ كَمَا يَأْكُلُ لَهِيبُ النَّارِ الْقَشَّ وَيَهْبِطُ الْحَشِيشُ الْمُلْتَهِبُ يَكُونُ أَصْلُهُمْ كَالْعُفُونَةِ وَيَصْعَدُ زَهْرُهُمْ كَالْغُبَارِ لأَنَّهُمْ رَذَلُوا شَرِيعَةَ رَبِّ الْجُنُودِ وَاسْتَهَانُوا بِكَلاَمِ قُدُّوسِ إِسْرَائِيلَ. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى شَعْبِهِ وَمَدَّ يَدَهُ عَلَيْهِ وَضَرَبَهُ حَتَّى ارْتَعَدَتِ الْجِبَالُ وَصَارَتْ جُثَثُهُمْ كَالزِّبْلِ فِي الأَزِقَّةِ. مَعَ كُلِّ هَذَا لَمْ يَرْتَدَّ غَضَبُهُ بَلْ يَدُهُ مَمْدُودَةٌ بَعْدُ. فَيَرْفَعُ رَايَةً لِلأُمَمِ مِنْ بَعِيدٍ وَيَصْفِرُ لَهُمْ مِنْ أَقْصَى الأَرْضِ فَإِذَا هُمْ بِالْعَجَلَةِ يَأْتُونَ سَرِيعاً. لَيْسَ فِيهِمْ رَازِحٌ وَلاَ عَاثِرٌ. لاَ يَنْعَسُونَ وَلاَ يَنَامُونَ وَلاَ تَنْحَلُّ حُزُمُ أَحْقَائِهِمْ وَلاَ تَنْقَطِعُ سُيُورُ أَحْذِيَتِهِمُِ. الَّذِينَ سِهَامُهُمْ مَسْنُونَةٌ وَجَمِيعُ قِسِيِّهِمْ مَمْدُودَةٌ.. وَيُمْسِكُونَ الْفَرِيسَةَ وَيَسْتَخْلِصُونَهَا وَلاَ مُنْقِذَ. يَهِرُّونَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ كَهَدِيرِ الْبَحْرِ. فَإِنْ نُظِرَ إِلَى الأَرْضِ فَهُوَذَا ظَلاَمُ الضِّيقِ وَالنُّورُ قَدْ أَظْلَمَ بِسُحُبِهَا."
(2) مَثَلُ العمّال وأجرتهم
النص : متى 20 : 1- 16 :
((1/125)
فمثل ملكوت السموات (1) كمثل ربّ بيتٍ خرج عند الفجر ليستأجر عملةً لكرمه. فاتفق مع العملة على دينار في اليوم أرسلهم إلى كرمه. ثم خرج نحو الساعة التاسعة, فرأى عملةً آخرين قائمين في الساحة بطّالين. فقال لهم : (اذهبوا أنتم أيضاً إلى كرمي, وسأعطيكم ما كان عدلاً), فذهبوا. وخرج أيضاً نحو الظهر ثم نحو الثالثة بعد الظهر, ففعل مثل ذلك. وخرج نحو الخامسة بعد الظهر, فلقي أناساً آخرين قائمين هناك, فقال لهم: لماذا قمتم هاهنا طوال النهار بطالين ؟) قالوا له ( لم يستأجرنا أحد).قال لهم ):اذهبوا أنتم أيضاً إلى كرمي). ولما جاء المساء قال صاحب الكرم لوكيله: ( أدع العملة وادفع لهم الأجرة, مبتدئاً بالآخرين منتهياً بالأولين) . فجاء أصحاب الساعة الخامسة بعد الظهر وأخذ كل منهم ديناراً. ثم جاء الأولون, فظنوا أنهم سيأخذون أكثر من هولاء, فأخذ كل منهم أيضاً ديناراً. وكانوا يأخذونه ويقولون متذمرين على رب البيت: " هؤلاء الذين أتوا آخراً لم يعملوا غير ساعة واحدة، فساويتهم بنا نحن الذين احتملنا ثقل النهار وحره الشديد ). فأجاب واحداً منهم: ( ياصديقي, ما ظلمتك, ألم تتفق معي على دينار؟ خذ مالك وانصرف. فهذا الذي أتى آخراً أريد أن أعطيه مثلك: ألا يجوز لي أن أتصرف بمالي كما أشاء ؟ أم عينُك حسوداً لأنِّي كريم ؟) فهكذا يصير الآخرون أولين والأولون آخرين."
التعليق:(1/126)
ويضرب المسيح عليه السلام مثلاً آخر لمملكة الله وأمتها القادمة من بعد بني إسرائيل اللذين يتحدث إليهم كآخر الأنبياء إليهم.. فيشير المسيح هنا إلى تميّيز وتفضيل الأمة القادمة التي ستنشئ مملكة الله عمّا قبلها من الأمم.. فمثلها كمثل عمّال أُستؤجروا للعمل من الساعة الخامسة مساء فعملوا ساعةً واحدة حتى المساء وأُعطوا أجرهم قبل غيرهم، وبأجر مساوٍ لأجر اللذين عملوا من الفجر أو الصباح أو الظهر أو بعد الظهر حتى المساء.. وليس هناك أدنى شك أنه قصد بالمعترضين اليهود، وأن الحديث هنا هو عن غيرتهم وحسدهم للأمة القادمة من بعدهم والتي ستحمل لواء الدعوة إلى الله.. ويمثل حرصهم على التمسك بالنبوة والمكانة لدى الله عز وجلّ وهو حرص لو تبعه عمل واتباع لأوامر الله لكان مقبولاً ولكنه حرص أعتمد على غرورهم بجنسهم وقولهم بأنهم أبناء الله وأحباؤه أو شعبه المختار.. فدفعهم ذلك القول إلى قلة العمل بل وسيئهِ، فعصوا وانحرفوا، وظنوا لانفسهم حظوة ومكانة عند الله عز وجل لا تهدد .. فلما كان الحُكم العادل بنزع النبوة منهم وإعطائها لأمة من بعدهم ( وهو ما أخبرهم به المسيح) غضبوا على ذلك الحكم.. وكفروا بنبوة من أخبرهم وسعوا إلى قتله.. كل هذا منهم اعتراضاً على أمر الله. كيف يُعطى فضل الله ( بالنبوة والإصطفاء (2) ) إلى غيرهم ؟ وكأن الله عزّ وجلّ لا يملك إعطاء هذا الفضل إلا لهم.. فما أقرب موقفهم هذا من موقف إبليس الذي أصرّ على الله أنه فضّله على بني آدم حتى لو استدعى ذلك معصية الخالق نفسه!! والمثل المنسوب الى المسيح عليه السلام اعلاه واضح في تصويره لحسد اليهود واعتراضهم على فضل الله أن يُعطى لغيرهم ممن جاء بعدهم، وهو واضح كذلك في بيانه " أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء " ..(1/127)
فإنّ الأجراء الأولين أُعطوا أجرهم كاملاً وفي موعده، ولم يظلموا، ولكنهم غضبوا معترضين أن يُعطى الأخرين الفضل بالتقديم في العطاء والزيادة في الأجر بالقياس الى جهدهم.. وما كان لهم أن يعترضوا على المالك يُعطي فضله لمن يشاء.. إنّ هذا هو الحسد الذي جعل كهنة اليهود وأتباعهم يتآمرون على المسيح حين أخبرهم بمثل بستان العنب السابق وأن مملكة الله ستنزع منهم وتعطى لأمة أفضل منهم، وحين بيّن لهم أن النبي المصطفى( المسيا annointed ) ليس من أبناء داوود (3) ( والمقصود هو أنه ليس يهودياً).. وهو الذي يفسر قتلَهم الأنبياء من قبلُ كلما بشروا بالمصطفى كما ورد بسفر أعمال الرسل.. فيسعون لقتلهم لمّا يخبروهم بأن المصطفى المنتظر بآخر الزمان ليس يهودياً “ هم قتلوا رسل الله الذين سبق أن بشروا بمجيء العبد الصالح” أعمال الرسل 7 :51 - كما وردت في النص الإنجليزي قال تعالى بالكتاب الحكيم : " أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم وفريقاً تقتلون".. ولم يكن شيئاً لا تهواه أنفسهم كإخبارهم بنزع التفضيل والاصطفاء والنبوة منهم إلى غيرهم.(1/128)
ولمّا ذكر الله عزّ وجل في سورة الجمعة بعثة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم إلى الأميين ( أي العرب، وما أقرب اللفظ الى مصطلح الأمميين اليهودي الذي يعني غير اليهود)، ذكر أن ذلك – أي أمر البعثة – هو من فضل الله يؤتيه من يشاء، وتحدث بعد ذلك مباشرة عن كفر اليهود وغرورهم بأنهم أولياء الله، وهو ما استندوا اليه في رفضهم أن يؤتى فضل الله لغيرهم، وأن تكون النبوة من الأميين، فقال تعالى :"هو الذي بعث في الأميّين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين. وآخرين منهم لمّا يلحقوا بهم، وهو العزيز الحكيم. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. مثل الذين حمّلوا التوراة ثمّ لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا، بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، والله لا يهدي القوم الظالمين. قل يأيها الّذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ..." الجمعة 2-6
..(1/129)
وهو تماماً الحسد الذي ذكره الله عنهم بالقرآن الكريم عند قوله تعالى " ما يودّ اللذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزّل عليكم من خير من ربكم، والله يختص برحمته من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم." البقرة 105، "بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغياً أن ينزِّل الله من فضله على من يشاء من عباده، فباءوا بغضبٍ على غضب وللكافرين عذاب مهين" البقرة 90،.. وقال عنهم " اولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا، أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا، أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل ابراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيماً. فمنهم من آمن به ومنهم من صدّ عنه" النساء آية 54-55.. فدفعهم الحسد والإعتراض على أن يُعطى فضل الله لغيرهم الى أن يكفروا بنبوة المصطفى حين لم يبعث منهم.. وكسبوا غضب الله عليهم زيادةً على غضبه عليهم من قبل نتيجة عصيانهم لانبيائهم وأعتداءاتهم ... وبمثل هذا كذلك يأتي قوله تعالى في سورة الحديد " يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم .(1/130)
لئلا يعلم أهل الكتاب ألاّ يقدرون على شىءٍ من فضل الله، وأنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم "الحديد:28-29، وجاء تعليقاً على تآمر اليهود على المسلمين الإشارة إلى اعتراضهم على فضل الله كسبب لموقفهم هذا من الإسلام، فورد قوله تعالى في سورة آل عمران 72-74 ( وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين أمنوا وجه النهار واكفروا أخره لعلهم يرجعون، ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم، يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم)، وتتكرر الاشارة الى كفر اليهود بالاسلام حسداً وغيرةً من عند انفسهم، فقال تعالى " ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحقّ.." البقرة 109،(1/131)
وبعدُ، فهذا المثل الذي ضربه المسيح عن الأمة المختارة ومملكتها (Kingdom of God ) من بعد بني إسرائيل ومن بعد عصره، واضح في دلالته على أنّ غيظ اليهود وحسدهم أن يعطى هذا الفضل لغيرهم هو سبب رفضهم للإقرار بالنبوة والأحقية الربانية لهذه الأمة (تماما ًكمارفض الأجراء الأولون قرار السيد حسداً من عند أنفسهم )، وواضح كذلك في دلالته على تميّز امة مملكة الله هذه القادمة من بعد المسيح عليه السلام وتفضيلها على غيرها من الأمم بما فيها أمة بني إسرائيل (4).. ولا شكّ في أنّه قاطع الدلالة في تبشيره بأمة الاسلام القادمة من بعد المسيح عليه السلام.. ويجد المرء في القرآن تفصيلا وتوضيحا يزيل أي لبس في المعاني المقصودة بالمثل أعلاه، وممّا يفسر هذا المثل أنّه ثبت عن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم مثلاً مشابها قد يكون هو الأصل في هذا المثل قبل أن يتعرض للتغيير، فروى البخاري وغيره من أهل الصحاح قوله صلى الله عليه والسلام (5) : "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة إنما أصلكم في أصل من خلا من الأمم ما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالاً فقال من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط ، فعملت اليهود إلى نصف النهار على قيراط قيراط. ثم قال من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط. فعملت النصارى الحقيقيين من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط، ثم قال لي من يعمل لي من صلاة العصر، إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين. ألا فأنتم الذين يعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين ". ألا لكم الأجر مرتين "فغضبت اليهود والنصارى فقالوا نحن أكثر عملاً وأقل عطاء، قال الله هل ظلمتكم من حقكم شيئاً فقالوا لا. قال إنه فضلي أعطيه من شئت". فيكاد هذا المثل أن يتطابق مع المثل أعلاه من الإنجيل..(1/132)
إلا أنه أبلغ في انقطاع عمل كل أمة بمجيء التي تليها، وفي إظهار فضل الله على هذه الأمة.. وكلا المثلين يتحدثان عن الأمة القادمة من بعد عيسى عليه السلام والتفضيل الذي حظيت به، وغيرة اليهود ( والنصارى) منها.. ويتضح من ذلك تفسير "فهكذا يصيرالآخرون أولين والأولون آخرين" بانّ المسلمين هم الآخرون زماناً في الدنيا ولكنهم الأولون من بين الأمم الصالحة في دخول الجنة"، ومما يفسر ذلك قوله صلى الله عليه وسلم " إنّ الجنّة حُرِّمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها، وحُرّمت على الأمم حتى تدخلها أمتي" وما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، نحن أول الناس دخولاً الجنة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، و أوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فهذا اليوم الذي هدانا الله له و الناس لنا فيه تبع ، غداً لليهود، وبعد غد للنصارى ". وذلك من فضل الله على أمة الأسلام.. وفضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.. وللمعترضين على أمر الله العذاب المهين.. ولو أنّ المعترضين اتبعوا وصية عيسى ومَن قبله من انبيائهم بالأنضواء ضمن مملكة الإسلام لشملهم الفضل بالإيمان بنبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم ..
هوامش مَثَلُ العمّال وأجرتهم
(1) بالنسخ الإنجليزية مملكة الله Kingdom of God
(2) التعبير عن الاصطفاء بالنبوة والوحي بأنه فضل من الله، وفضل الله يؤتيه من يشاء، هو تعبير متفق تماماً -كما هو بيّن – مع القرآن الكريم والسنة النبوية، وهو من أدلة وحدة مصدر الوحي بالكتب السماوية.
(3) متى 22: 42 ، مرقص 12: 35-37، انظر مناقشة هذه البشارة فيما بعد.
(4) قال تعالى عن أ أمة الإسلام :" كنتم خير أمة أخرجت للناس .." آل عمران 110
((1/133)
5) في اتفاق هذا المثل في محتواه وأهداف ذكره بين ما روي عن المسيح عيسى عليه السلام وما روي عن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم دليل آخر من أدلة وحدة مصدر الوحي بالكتب السماوية.. ونذكّر هنا بثبات أمية رسول الله ثباتا قطعياً لا يقبل التشكيك، وبأنّ الأمر لا يقف عند مجرد إيراد هذا المثل من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يتجاوزه إلى ما لا يُحصى من توافق تعاليم المصطفى مع تعاليم الأنبياء قبله، رغم مخالفة أتباعهم لها، وخفاء تلك التعاليم على عامة اليهود والنصارى، بل يتجاوز ذلك كله إلى تحقق هذا المثل وغيره من الأمثلة المتعلقة بمملكة الله التي وردت بالكتب المنسوبة إلى الأنبياء إلى تحققها عملياً في الأمة التي أنشأها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(3) مَثَلُ اللذين أبوا الدعوة، فتحولت عنهم الى العامّة
النص : متى 22: 1-11
"وسمع ذلك الكلام أحد الجلساء على الطعام فقال له: طوبى لمن يتناول الطعام في ملكوت الله. فقال له: صنع رجلٌ عشاء اً فاخراً، ودعا إليه كثيرمن الناس. ثم أرسل خادمه ساعة العشاء يقول للمدعوين: تعالوا فقد أُعدَّ العشاء. فجعلوا كلهم يعتذرون الواحد بعد الآخر. قال له الأول: قد اشتريت حقلاً فلا بد لي أن أذهب فأراه، أسألك أن تعذرني. وقال آخر: قد اشتريت خمسة فدادين, وأنا ذاهب لأجربها, أسألك أن تعذرني. وقال آخر: قد تزوجت فلا أستطيع المجيء. فرجع الخادم وأخبر سيًده بذلك، فغضب ربّ البيت وقال لخادمه أُخرج على عجل إلى ساحات المدينة وشوارعها, وأتِ إلى هنا بالفقراء والكُسحان والعميان والعرجان فقال الخادم : سيّدي قد أُجري ما أمرت به ولا يزال هناك مكان فارغ. فقال السّيد للخادم: أُخرج إلى الطرق والأماكن المُسّيجة, وأرغم من فيها على الدخول, حتّى يمتلئ بيتي، فإني أقول لكم : لن يذوق عشائي أحد من أُولئك المدعوين”
التعليق:(1/134)
هذه البشارة واضحة الدلالة.. فاليهود قد فُضِّلوا على سائر الشعوب، وميّزهم الله عزّوجلّ بحمل النبوة والكتاب، وأيدهم بالمعجزات ونصرهم على أعدائهم.. فأبوا هذا الكرم من الله عليهم، وذلك حين عصوا المرسلين، ولم يستجيبوا لدعوتهم لهم، رغم تكرر الدعوة لهم والالحاح عليهم لعلهم أن يستجيبوا لخالقهم عزّ وجل ّ.. فكان أمر الله بصرف الدعوة عنهم إلى سائر الشعوب المسكينة التي طالما تفاخر عليها اليهود بتفضيل الله لهم..
هذا الخبر بصرف الدعوة عن اليهود متفق مع تنبؤ المسيح عيسى عليه السلام بقبول الكثير من البشر للهدى بعد رفض اليهود له، على ما أورده متى ( 8: 11- 13) " وأقول لكم إنّ كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع ابراهيم واسحاق ويعقوب في ملكوت السماوات، وأما بنو الملكوت فيطرحون إلى الظلمة الخارجية، هناك يكون البكاء وصرير الأسنان"، وهو متفق مع ما سبق من الإخبار بنزع النبوة عن بني إسرائيل وإعطائها لأمة من بعد المسيح عيسى عليه السلام تعطي أثمارها، ومتفق مع اخبار قدوم مملكة الله وانتزاعها حكم الأرض المباركة من الروم من بعد عيسى عليه السلام، وفيه إشارة واضحة إلى مجئ مَن يحمل الدعوة إلى المدعوين الجدد الذين يُشكِّلون سكان الأرض من غير اليهود.. وقد تمّ ذلك بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعد المسيح عليه السلام..(1/135)
إنّ هذا الخبر لهو إعلان بفشل اليهود في تبني المشروع الرباني بقيام أمة منهم شاهدة على الناس، وهو إعلان بقرار نقل المشروع لأمة من غير اليهود، هي أمة من " مساكين الأمم"، يشترك فيها الأبيض والأسود، والعربي والعجمي، وهي التي تكون منها كل أولئك السكان بفلسطين من غير اليهود! ..وفعلا تمّ نقل المشروع الرباني وفعلا تحققت هذه البشارة فظهرت أمة الإسلام بكتاب جديد ونبي جديد وقبلة جديدة وأرض حرام جديدة وشريعة جديدة.. على يد النبي الأميّ الذي لا يعلم شيئاً عن أخبار الأمم السابقة أو دياناتها.. ولو علم فأنّى له أن يُحقق كلّ تلك النقلة لتعاليم السماء فيُخرج للعالم " خير أمة أُخرجت للناس".. يُقرّ لها بذلك كل منصف إطلع على تاريخها ولم يزوره أو يتحامل عليه.. إنّ في ذلك وحده لآية للناس لو كانوا يعقلون!
ملاحظة:
ولاشك بأن المسيح لم يكن يعني هنا الدعوة التي قام بها بولس للأمميين من غير اليهود من بعد المسيح وسنناقش هذا الأمر في الفصل المتعلق بالمختارين وفي مواضع أخرى من هذا الكتاب.. ويمكن هنا التذكير بأن تلك دعوة لم يأذن بها المسيح عليه السلام، ولم يرض عنها تلاميذه الذين عرفوه، وقد دعت إلى فكرٍ وعقيدة غريبة عن دعوة المسيح، ودعوة الأنبياء من قبله.. وسيأتي الحديث عن بولس ودعوته في مواضع عديدة من هذا الكتاب بما فيها الملحق الخامس.. ثمّ إن المسيح عليه السلام كان يبشر بقيام مملكة الله مملكةً أرضية من بعده ( بالطبع من بعد دولة الروم التي كان يعيش فيها)، وهو مالم يتحقق إلا بقيام الإسلام، ولا يمكن اعتبار تبني قسطنطين للمسيحية قياماً لمملكة الله.. ذلك أن مملكة الله ستهاجم الرومان وتهزمهم ( تراجع بشارات دانيال9،7،2 وكلها تنص على مهاجمة مملكة الله للملكة الرابعة ).. ومن هنا فإنّ الحديثَ هنا واضح في التبشير بدعوة الإسلام العامة لكافة البشر.. من بعد عصيان اليهود لدعوة الله...
((1/136)
4) " مثل المزارع " ومواقف الناس تجاه مملكة الله :
النص: متى 13: 3 - 9، 18- 23
"هوذا الزارع قد خرج ليزرع وبينما هو يزرع, وقع بعض الحبّ على جانب الطريق, فجاءت الطيور فأكلته. ووقع بعضه الآخر على أرض حجرة لم يكن له فيها تراب كثير , فنبت من وقته لأن ترابه لم يكن عميقاً. فلما أشرقت الشمس احترق, ولم يكن له أصل فيبس . ووقع بعضه الآخر على الشوك فارتفع الشوك فخنقه. ووقع بعضه الآخر على الأرض الطيّبة فأثمر, بعضه مائة وبعضه ستين, وبعضه ثلاثين. فمن كان له أُذنان فليسمع" ... " فاسمعوا أنتم مثل الزارع : كل من سمع كلمة الملكوت (Kingdom of God ) ولم يفهمها, يأتي الشرير ويخطف ما زرع في قلبه: فهذا هو الذي زُرع في جانب الطريق. وأمّا الذي زُرع في الأرض الحجرة, فهو الذي يسمع الكلمة ويتقبلها لوقته فرحاً ولكن لا أصل له في نفسه, فلا يثبت على حاله. فإذا حدثت شدّة أو اضطهاد من أجل الكلمة عثر لوقته. وأمّا الذي زُرع في الشوك فهو الذي يسمع الكلمة, ويكون له من همّ الحياة الدنيا وفتنة الغنى ما يخنق الكلمة فلا تخرج ثمراً. وأمّا الذي زرع في الأرض الطيّبة, فهو الذي يسمع الكلمة ويفهمها فيُثمر ويعطي بعضه مائة, وبعضه ستين, وبعضه ثلاثين ".
التعليق:
وإذ يأمر المسيح الناس بالدعاء لمملكة الله حتى يعجّل الله بقيامها الوشيك (1)، ويأمر أتباعه بالصبر على الأوقات العصيبة التي ستمرعليهم حتى قيامها (2).. يذكر هنا اختلاف مواقف الناس ( من اليهود الذين يخاطبهم ) من هذا التبشير بها والحديث عنها.(1/137)
فمثل الناس عند سماع التبشير بمملكة الله كمثل البذر الذي سقط بعضه على جانب الطريق فأكلته الطيور، أو وقع على حجر فلم ينبت منه شجر ثابت أو على شوك فخنقه الشوك أو على ارض طيبة فأثمر شجرها بدرجات متفاوتة.. فكذلك " كل من سمع كلمة الملكوت " أو الحديث عن قيام مملكة الله.. فمنهم من لم يفهمه، ومنهم من فرح بالخبر لكنّه سرعان ما انتقض وعاد إلى موقف اليهود المتعصب الأصيل، ومنهم.. ومنهم من فهمها وآمن بها فأثمرت.. إيماناً ويقيناً.. وكان من ثمرها التمهيد للإسلام وسرعة الدخول فيه لما جاء..
ولعلّ في حديث الرسول صلى الله عليه وسلّم الذي رواه البخاري ومسلم وأحمد وغيرهم ما يتفق مع هذا المعنى من حيث مواقف الناس من التبشير بدولة الإسلام ومن حيث مواقف الناس من كلمة الإسلام ودولته لمّا قامت.. روى ابو موسى فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلّم : مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً, فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير, وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا, وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لاتمسك ماءً ولا تنبته كلأً, فذلك مثل من فقه في دين الله وما بعثني الله به فعلم وعلّم, ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به "، وفي هذا توافق بين تبشير المسيح عليه السلام بمملكة الله وما وقع من الناس من بعده بعد ذلك تجاه هذا التبشير، وما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم مما يؤكد مرة أخرى أن المسيح عليه السلام إنما كان يبشر بالإسلام ودولته عندما كان يبشر بمملكة الله القادمة من بعده ..
ــــــــــــــــــ
(1) متى 6: 10 " .. ليأت ملكوتك " أو كما هو بالإنجليزية مملكتك your kingdom"
(2) كما واضح من حديثه عن الشدة من بعده، ومجيء المختارين، وتقصير الأيام إليهم. متى :24 : 15- 27
(5) مثل الزرع الذي نما قوياً(1/138)
النص : متى 13 : 31-32
" وضرب لهم مثلا آخر، قال "مثل ملكوت ( أو مملكة الله Kingdom of God ) السماوات كمثل حبة خردل أخذها رجل فزرعها في حقله، هي أصغر البذور كلها فإذا نمت كانت أكبر البقول، بل صارت شجرة حتى إنّ طيور السماء تأتي فتعشش في أغصانها"متى 13: 31-32
التعليق:
يضرب المسيح عيسى عليه السلام المثل هنا كيف ستبدأ مملكة الله ضعيفة.. لعلّ ذلك عندما تبدأ ممثلةً بفرد واحد هو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم مستخفياً ومهدداً.. ثمّ تنمو تدريجياً وتقوى حتى تصبح أقوى ممالك الأرض في زمانها.. وتأوي اليها شعوب الأرض من جور حكّامها.. وقد تمّ ذلك للأمة الإسلامية حتى بلغ ملك الأمة الأراضي من أطراف الصين الى أواسط فرنسا، ومن سيبيريا الى أواسط إفريقيا.. والمثل هنا متفق مع ما ذكر في القرآن الكريم من أنّ رسول الإسلام وأصحابه " مثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فأستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزرّاع ليغيظ بهم الكفار" الفتح آية: 29.. فبدأوا بضعف ثمّ استقووا.. وفي هذا دليل آخر غير مباشر من القرآن الكريم على أن حديث المسيح عليه السلام عن مملكة الله القادمة إنما كان حديثاً عن الإسلام وتبشير به..
وشبيه بهذا المثل مثل الخميرة إذا أضيفت الى الدقيق فجعلته ينمو ويتضخم ( متى 13: 33-35 )
(6) مثل الزؤان :
النص : 13: 24- 30، 37- 43(1/139)
وضرب لهم مثلاً آخر قال: مثل ملكوت السماوات ( مملكة السموات kingdom heaven) كمثل رجل زرع زرعاً طيباً في حقله. وبينما الناس نائمون، جاء عدوه فزرع بعده بين القمح زؤاناً وانصرف. فلما نما النبت وأخرج سنبله، ظهر معه الزؤان. فجاء ربَّ البيت خدمُهُ وقالوا له: يا ربّ، ألم تزرع زرعاً طيباً في حقلك؟ فمن أين جاءه الزؤان؟ فقال لهم: أحد الأعداء فعل ذلك. فقال له الخدم: أفتريد أن نذهب فنجمعه؟ فقال: لا، مخافة أن تقلعوا القمح وأنتم تجمعون الزؤان، فدعوهما ينبتان معاً إلى يوم الحصاد، حتى إذا أتى وقت الحصاد، أقول للحصّادين: اجمعوا الزؤان أولاً واربطوه حُزماً ليُحرَق. وأما القمح فاجمعوه وأتوا به إلى أهرائي".
التعليق:(1/140)
كأنمّا المسيح عليه السلام يمضي في تبشيره بمجيء مملكة الله ( أو مملكة السماء) من بعده، ويفصِّل للناس مشاهد من قضايا قيام مملكة الله ومواقف الناس منها.. فيمثِّلها برجلٍ صاحب حقل بذر بذراً طيباً في حقله، فجاء عدُّوه خفيةً في غيابه، فبذر بذور أعشاب ضارّة، نبتت فيما بعد بين شجيرات القمح التي زرعها صاحب الحقل.. واقترح العمّال بالحقل على سيّدهم قلع هذه الأعشاب الضارة، فنهاهم فقد يقتلعوا بذلك بعض الشجيرات الصالحة ( وليس هذا وقت حصادها)، وعليهم أن َيدَعوا القمحَ والعشبَ ينموان معاً حتى وقت الحصاد ... فعند الحصاد سُيقلع العشب الخبيث أولاً ويقذف به إلى النار، ثم بعد ذلك يحصد القمح ويوضع بالمخازن ... وشرح المسيح لأصحابه المثل فذكر أن السيد الذي بذر البذور الطيبة هو ابن الإنسان ( أو ابن آدم ) القادم ... وهذا هو اللقب الذي استخدمه دانيال ( الاصحاح السابع ) للنبي الذي سيعرج به إلى السماء ويقيم مملكة الله من بعد المملكة الرابعة ( دولة الروم ) من زمانه ... ومع أن النصارى يزعمون أنه لقب آخر للمسيح عليه السلام، إلا أن بطلان ذلك واضح ... فالمسيح لم يُنشئ في حياته دولة أو مملكة، ولم يُفهَم من تبشيره بمملكة الله من بعده أنه هو الذي سينشئها، وقد أُخرجت دولة الروم من الأرض المباركة منذ ما يقرب 1400عام فما جاء بعدها إلا دولة الإسلام..(1/141)
وكانت بذلك دولة الإسلام هي الدولة والمملكة التي بشرّ المسيح عليه السلام بقدومها من بعد الروم ... فابن آدم الذي سيقيم مملكة الله لم يكن المسيح بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سبق ولما سيلي من أدلة أخرى في هذا الأمر ... ويمضي المسيح هنا كما يروي الإنجيل فيذكر أن العشب الضار يمثّل الأشرار من أولياء الشيطان، وأن يوم الحصاد هو يوم الآخرة وأن العمال الذين سيقومون بالحصاد هم الملائكة سيقبضون على الأشرار ويقيدونهم ويقذفون بهم إلى النار ... ومع أن المثل قد تعرّض -كما هو واضح- إلى تحريفات إلا أنه يمثل موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من القضية الكبرى التي برزت عند قيام دولة الإسلام بالمدينة ... تلك هي قضية المنافقين ... فقد اندسوا بين الصفوف، وهم بذر إبليس وأعداء الإسلام من الجن والإنس ... وعلمهم الرسول عليه الصلاة والسلام في مواقف كثيرة لا تكاد أن تحصى ... وعرض عليه الصحابة في مرات كثيرة ومواقف متكررة قتل هؤلاء المنافقين أو أفراد منهم واستئصالهم فأبى عليهم ... وتركهم لعل بعضهم أن يهتدي وقد اهتدى بعضهم فعلاً، ولئلا يشاع عن المسلمين انهم يقتلون اتباعهم فينفر الناس من الإسلام، وفي قتل بعض هؤلاء المنافقين فتنة لذويهم من المسلمين، قد تُوهِن في الصف الإسلامي ... فكان الاختيار الحكيم من رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام عدم استئصال هؤلاء المنافقين المندسين بين صفوف المؤمنين وتركهم لعقاب الله الأخروي ... تماماً كما ذكرت البشارة ... فهل ترى – أخي القارئ- لهذا البشارة من تفسير آخر وهي تتحدث عن مملكة الله القادمة من بعد المسيح عليه السلام؟ وإنها لتعني أن مملكة الله على الأرض ستقوم على بشر يتخللهم الضعفاء والمنافقون.. إنها مملكة من بشرلا من ملائكة، ومملكة تقوم على الأرض لا على الجنة أو في الخيال، ويتخللها الضعف ولا تخلو منه وليست معصومة ولامحصنة من المنافقين ولا من الشياطين الذين سينتقم الله منهم بالدار الآخرة..(1/142)
قال الله عزّ وجل في كتابه العزيز ( فاطر 32) عن المسلمين الذين اصطفى من بعد قوم موسى :" ثمّ أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، ذلك هو الفضل الكبير" فمع أنهم المُصطَفون أي المختارين إلا أن الضعفاء والمنافقون قد تخللوهم ابتلاء للمؤمنين، وشهادة ببشرية المصطفين (المختارين)
7 -ومن الأمثلة الأخرى عن مملكة الله مثل الكنز ومثل اللؤلؤة (1)، ففي المثل الأول: تشبيه لمملكة الله بكنز في حقل استحق لأهميته أن يتخلص الفرد من كل ما يملك من مال حتى يوفّر قيمة الحقل المحتوي على هذا الكنز.. فكأن مملكة الله خير من كل ممالك الله السابقة، والذين انضموا إليها عليهم نسيان كل أديانهم وعباداتهم السابقة، فقد نُسخت بالتعاليم الجديدة التي بعث بها خاتم الأنبياء.. وفي الواقع فإنها كنز أُشتري بثمن زهيد نسبيا، إذ أن قيمة الحقل المحتوي على الكنز لم تزد لإحتوائه على الكنز، وكذلك كان الإسلام بسيطا في الإنضمام إليه، لكنه عظيما في قيمته ويغني عن كل دين سواه ولا يجتمع معه.. ولعل القارئ يلمس معي أن معنى مملكة الله قد اتسع ليشمل دين الإسلام نفسه أكثر من مجرد المفهوم السياسي للدولة التي أقامها المسلمون.. وفي مثل اللؤلؤة تكرار لهذا المعنى بأن مملكة الله (ودينه) يغني عن كل مملكة ودين سواه وهو أعظم منها جميعا ..
ــــــــــــــــــــ
(1) نص المثلين من متى 13 : 44- 45، كما يلي: " أيضا يشبه ملكوت السماوات كنزا مخفيا في حقل وجده إنسان فأخفاه ومن فرحه مضى وباع كل ما كان له واشترى ذلك الحقل، أيضا يشبه ملكوت السماوات إنسانا تاجرا يطلب لآليء حسنة، فلما وجد لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن مضى وباع كل ما كان له واشتراها".
بشارة الأسابيع السبعين أو النبوة بهدم الهيكل ثمّ مجيء البر الأبدي وختم النبوة
النص : دانيال 9 : 20-27(1/143)
و بينما كنت أتكلم وأصلي وأعترف بخطيئتي وخطيئة شعبي إسرائيل وألقي تضرعي أمام الرب إلهي لأجل جبل قدس إلهي، بينما أتكلم بالصلاة، إذا بالرجل جبرائيل، الذي رأيته في الرؤيا في البدء، قد طار سريعاً ووافاني في وقت تقدمة المساء. وأتى وتكلم معي وقال: "يا دانيال، إني خرجت الآن لأعلمك فتفهم. عند بدء تضرعاتك، خرجت كلمة، وأتيت أنا لأخبرك بها، لأنك رجل عزيز على الله. فتبين الكلمة وافهم الرؤيا :
إن سبعين أسبوعاً قد حددت
على شعبك وعلى مدينة قدسك
لإفناء المعصية وإزالة الخطيئة
والتكفير عن الإثم والإتيان بالبر الأبدي
وختم الرؤيا والنبوة
ومسح قدوس القدوسين
فاعلم وافهم إنه من صدور الأمر بإعادة بناء أورشليم إلى رئيس مسيح سبعة أسابيع، ثم في اثنين وستين أسبوعاً تعود وتبنى السوق والسور، ولكن في ضيق الأوقات. وبعد الأسابيع الاثنين والستين، يفصل مسيح ولا يكون له ... ويأتي رئيس فيدمر المدينة والقدس. بالطوفان تكون نهايتها، إلى النهاية يكون ما قضي من القتال والتخريب. وفي أسبوع واحد يقطع مع كثيرين عهداً ثابتاً، وفي نصف الأسبوع يبطل الذبيحة والتقدمة، وفي جناح الهيكل تكون شناعة الخراب، إلى أن ينصب الإفناء المقضي على المُخرِّب".
النص بالإنجليزية:
“ .. Therefore consider the word and understand the vision:(1/144)
‘ Seventy weeks of years are decreed concerning your people and your holy city, to finish the transgress-ion, to put an end to sin, and to atone for iniquity, to bring in everlasting righteousness, seal both vision and prophet, and to anoint to a most holy place. Know therefore and understand that from the going forth of the word to restore and build Jerusalem to the coming of an anointed one, a prince, there shall be seven weeks. Then for sixty-two weeks it shall be built again with squares and moat, but in a troubled time. And after the sixty-two weeks an anointed one shall be cut off, and shall have nothing; and the people of the prince who is to come shall destroy the city and the sanctuary. Its end shall come with a flood, and to the end there shall be war; desolations are decreed. And he shall make a strong covenant with many for one week; and for half of the week he shall cause sacrifice and offering to cease; and upon the wing of abominations shall come one who makes desolate, until the decreed end is poured out on the desolator”.
التعليق :(1/145)
هذه من البشارات الهامة لدى أهل الكتاب.. بل هي لديهم أساس تفسير بقية البشارات المتعلقة بقيام مملكة الله ومجيء المسيح عليه السلام ثانية في آخر الزمان.. وإن كانت لا تدلّ على مثل هذا المجيء الثاني للمسيح عليه السلام كما سنرى.. وهذه في الواقع من البشارات التي لم أجد أحداً من الباحثين المسلمين قد سبق اليها أو ناقشها، وهناك صعوبة واضحة سيجدها القاريء في فهم التعليق على هذه البشارة ناشئة عن عرض البشارة لأحداث متوقعة قبل قيام مملكة الله التي كانت البشارة هنا قد استهلت بالتبشير بها وبالبر الأبدي الذي ستقيمه.. ويحمل هذا التعليق بعض التكرار الذي يهدف الى توضيح بعض المفاهيم وتأكيدها..(1/146)
تتحدث هذه النبوة في مقدمتها عن قدوم خاتم الأنبياء وعظيم القديسين الذي به ستختم النبوة والرؤى، وبقدومه ستقوم مملكة الله الأبدية التي بشر بها الأنبياء، وسيقوم البر الأبدي (ويبدو أن المقصود به الدّين الخالد الخاتم) وينتشر بها الصلاح ويُعيّن للناس أقدس بقعة على الأرض، ويُوضع حدٌ للخطيئة و الأثم، ويكفّر عن السيئات ... ولكن أمر ختم النبوة وقيام البر الأبدي هذا ستسبقه أحداث عسيرة تشير النبوة إلى تفصيلها بعد ذلك. فتذكر أنه ستمر سبعون أسبوعاً ( أو سبعون سبعة) من السنين حتى يتم هذا الأمر المذكور أعلاه ... ويرى كثير من الباحثين أنّ سبعون سبعة من السنين لا تعني بالضرورة رقماً محدوداً ... فقد استعملت السبعين بالتوراة للدلالة على العدد الكثير أو الكامل، وروي بالإنجيل أن المسيح أمر اتباعه أن يصفحوا عن الآخرين سبعين سبعة من المرات ... وروي في الواقع عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم قريباً من هذا ، ولعل في قوله تعالى بالكتاب العزيز " إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم" ما قد يستدل به على هذا المعنى والله أعلم ... ومن هنا يرى الكثير أن أهمية هذه البشارة هي بما احتوته من أخبار بغض النظر عن أزمان حدوثها، ويضاف إلى هذا الأمر قضية ثبات التلاعب بالأزمنة من قبل كثير من كتبة التوراة ( 1،3،2)،وهناك نوعاً من الإجماع بين الباحثين على عدم إمكانية التقيد بالفترات الزمنية المذكورة (3).. وإن كانت الدلالة الزمنية إن لم تكن تامّة كما سنرى فقد جاءت في الواقع قريبة جداً مما أًريد التنبؤ به من أحداث ظهور المسيا وخرلب المعبد بأورشليم..(1/147)
وعلى هذا فالبشارة تبشر دانيال وهو ما يزال ببابل بمجيء ما أسمته بالصلاح الأبدي، وختم النبوة واختيار أقدس بقعة على الأرض ... ( وكلها لم تتحقق إلا بالإسلام ورسوله الكريم).. وفي البشارة إخبار لدانيال بأحداث ستحدث قبل ختم النبوة واختيار أقدس بقعة للعبادة، وتشتمل على قطع مختارين ( اثنين) في زمانين مختلفين ( نبيين مصطفين) ثم هدم آخر لبيت الله بأورشليم الذي بشرت البشارة هنا ببنائه ( وكان ما يزال مهدوما وقت صدور البشارة ببابل)، فسيصدر الأمر بإعادة بناء الهيكل والمدينة ( مدينة القدس أو أورشليم)، ويكون ما بين هذا الأمر بالبناء إلى هدم البيت والمدينة مدة سبعين اسبوعا من السنين ( أي 490 عاما)..(1/148)
والفترة الأولى من السبعين اسبوعا التي فصلتها البشارة كانت ما بين زمن الأمر بإعادة بناء الهيكل والمدينة ( مدينة القدس أو أورشليم) وظهور مختار ( مصطفى أو مسيا أو مسيح) أو نبي، وكانت مدتها 49 عاماً ( سبعة أسابيع من السنين).. ومن غير المحدد من هو هذا المختار إلا أن تلك الفترة كانت قد شهدت ظهور مجموعة من الأنبياء.. ثم تمرُّ بعد ذلك فترة 434 عاماً وهي 62 أسبوعاً ( أي 483 عاما أو 69 اسبوعا من تأريخ الأمر بالبناء) يظل خلالها البناء قائماً من بعد بنائه حتى يأتي مختاراً أخرا ( مسيحا أو مصطفىً أو نبياً) يُفصل أو يهلك ويُستأصل ولا يصنع شيئاً ( لعلها تعني أن لا يستفيد قومه من دعوته، وعلى القاريء العودة لقراءة نص البشارة المذكور أعلاه)، وتكون بذلك الفترة الزمنية بين الأمر ببناء المدينة وظهور هذا المختار الثاني الذي لن يصنع شيئاً مدة تسعة وستون أسبوعا من السنين، أي 483 سنة، ولكنها مذكورة على الحساب اليهودي القمري، وهو ما يعادل 476 سنة شمسية على الحساب الميلادي المعاصر (4).. ثم بعد هلاك المسيح ( المختار) (5)، يهجم على المدينة ( أي القدس) شعب ملك أو أمير يقوم بهدم المدينة والهيكل ويتركها خربة مهجورة من أهلها ... ويقوم هذا الملك بعمل عهود مع كثيرين ( يبدو أنّ المقصود كثيرين من اليهود أنفسهم) لمدة سبع سنوات ، ولكنه ينكث عهده، وفي نصف مدة العهد يأمر بوقف الأضاحي، ويدنس البيت، ويهدمه تماماً، ويظل البيت مهجورا وتضل المدينة خراباً حتى تأتي النهاية المقضية سلفاً بهلاك هذا الّذي قام بتخريب المدينة.. وكل هذه الأحداث ستكون سابقة لمجيء الصلاح الأبدي وختم النبوة واختيار أقدس بقعة ( غير القدس بالطبع)...(1/149)
ويلاحظ وجود إشارة الى بناء سوق وفي بعض الروايات سوق وخليج في زمن ضيق قبيل فصل المسيح الثاني، وهو ما فسره بعض الباحثين النصارى ببناء هيرودس الكبير للسوق الكبير بأورشليم ولبنائه لأسوارها الضخمة وشوارعها وحماماتها، كما ذكر ذلك الأب متى المسكين في كتابه تاريخ اسرائيل ( طبعة 1997).. وهو مما يتفق كذلك مع التفسير الذي نقدمه هنا للبشارة..
وعلى هذا فيفهم من النص أن هذه الأحداث ستستغرق سبعون أسبوعاً من السنين أو 490 عاماً، يتبعها بعد ذلك بفترة من الزمن لم تحددها النبوة (6) يتبعها تحقًّقًّ البشارة التي ذكرت بصدر هذه النبؤة.. وعلى هذا فيبدو أن هذه الفترة مسكوت عن مدتها، وهو الفهم الذي يأخذ به عامة الباحثين من النصارى.. ومعرفة هذه الفترة على أي حال أقلّ أهمية للمخاطبين - من بني اسرائيل - من معرفة المدة التي حددت لبني اسرائيل قبل طردهم من الأرض المباركة تمهيدا للأتيان بالأمة المباركة ( الوارثة)، وقيام البر والدّين الأبدي..
ويدل على صحة هذا الفهم تفسير لاوي عليه السلام في وصيته – وبها بشارة عظيمة سنتطرق إلها فيما بعد- بأن فترة السبعين اسبوعا هي فترة تدنيس الكهانة والمذابح المقدسة وتعطيل الشريعة واضطهاد الصالحين والأتقياء ( والأنبياء)، مما يدل على أن الهيكل والمجتمع اليهودي خلال السبعين اسبوعا مازال قائما، وإشارة لاوي الواضحة بأن هذه الفترة ستنتهي بالتآمر لقتل نبي مؤيد بالقدرة الإلهية، ثم بعقاب بني اسرائيل وتشتيتهم بين الأمم.. لهو نفس هذا التفسيرالذي نقدمه هنا تماماً..
ولا شك أن قيام البر الأبدي هذا هو بقيام مملكة الله الأبدية التي بشر بها دانيال نفسه في إصحاحين سابقين في تفصيل عجيب كما فصلنا من قبل، وهذا مما يتفق عليه أهل الكتاب، وقد أثبتنا من قراءة الإصحاحين ومما سيلي من بشارات أنّ التبشير بمملكة الله كان قطعاً تبشيراً بدولة الإسلام وحضارتها.(1/150)
أعود بقارئي الصبور إلى الأحداث المذكورة بالنبوة وأزمنتها.. فقد صدر الأمر ببناء أسوار المدينة، أورشليم، عام 445 قبل الميلاد على يد الملك الفارسي أرتاكسيركس Artaxerxes ، بعد أن رفض ذلك حكام الفرس من قبله بما فيهم قورش Cyrus (7).. وكان هذا الأخير قد أمر ببناء الهيكل قبل ذلك، ولكنه رفض بناء أسوار المدينة، وكذلك صنع الحكام من بعده حتى جاء أرتاكسيركس.. وعلى هذا فالفترة من صدور الأمر ببناء المدينة حتى مجيء المسيح عيسى عليه السلام عام 30 بعد الميلاد هي 475 عاما، أو 482 عاما على الحساب اليهودي ( 360 يوماً بالسنة).. وهذه في الواقع هي فترة التسعة والستون أسبوعا من السنين، أو فترة الـ 483 سنة الفاصلة ( 483 ÷ 7 = 69 اسبوعاً من السنين)– كما ورد بالنبوة- الفاصلة بين صدور الأمر ببناء المدينة حتى مجيء المسيح ( المختار) المذكور بالنبوة انّه سيقطع دون أن يصنع شيئاً أو يحقق نجاحاً بارزاً.. وعلى هذا، فإن هذا المسيح ( المختار) هو المسيح عيسى عليه السلام (8) ... فقد كانت محاولة صلبه في حوالي عام 30 ( أو 32م) على أقوى الأراء، وبعثته قبل ذلك بثلاث سنوات، أي بعد الأمر ببناء المدينة وأسوارها بفترة 475 إلى 477 عام شمسياً أو 483 عاما على الحساب اليهودي، وهي نفس الفترة المذكورة أعلاه.. وهذا التفسير هو الذي يتناقله النصارى (8) وهو الذي وجدته كذلك واضحاً بل صريحاً من قراءة بشارة لاوي التي سيأتي تفصيلها فيما بعد.. وهو كذلك ما يتوافق مع تفسير أهل مخطوطات البحر الميت الذين فسروا المسيح الثاني المذكور في بشارة دانيال هذه بأنه هو نفس النبي الملقب بـ" المبشر" الذي ذكره اشعيا (19) ( يرجى من القاريء مراجعة ذلك ضمن التعليق على بشارة ملكي صديق)..(1/151)
وهذا في الواقع من أجمل التوافق، إذ نعلم جميعا أن النبي المُبشِّر إنما كان عيسى عليه السلام الذي ذكر أن التبشير كان سبب بعثته، والذي سُمي كتابه بالبشارة، ومارس هو التبشير بمملكة الله القادمة من غير اليهود كمهمته الأولى كما يفهم من الأناجيل المعاصرة.. واصحاب المخطوطات يفسرون أن المسيح الذي سيُقطع هو نفسه النبي المبشّر.. ويبقى أن نذكر أنّ القطع هنا لا يعني فصل الرأس فذلك ما لم يتم اجماعا على عيسى عليه السلام، ولن يُعبر عن الصلب بالقطع.. إنما هو قطع مهمته ودعوته بمحاولة قتله.. ولو أراد أحد تأويل القطع بفصل الرأس فإن هذا المسيح ( المسيا) قد يمكن أن يكون يحي عليه السلام، فقد فصل رأسه عليه السلام فعلا عام 27م، وهو نبي مصطفى، وتنطبق بوضوح عليه كل الحسابات الزمنيه المذكورة أعلاه إذ كانت انطلاقة المسيح عيسى عليه السلام بدعوته بعد استشهاد يحي عليه السلام مباشرة.. وتفسير المسيح الثاني بعيسى ( وهو الأرجح، والذي قال به النصارى) أو بيحي عليهما السلام لا يضير هذه البشارة التي تذكر أن المدينة ستهدم وتخرب وتهجر من أهلها من بعد حادث قطع المختار المذكور أعلاه.. في إشارة واضحة لدمار أورشليم عام 70م على يد تيطسTitus الروماني، واخراج اليهود منها وهدم الهيكل بشكل نهائي.... ذلك الدمار الذي جاء بعد عصر المسيح (وعصر يحي) عليهما السلام بأربعين عاما..(1/152)
وقد أعطت النبوة تفصيلا لفترة الاضطراب وتعطيل العبادة بالهيكل، ويذكر تأريخياً (9) أن جيسياس فلوراس Gessius Florus (64-66 AD) هو الذي بدأ الحملة على اليهود والتي انتهت عام70م بعد ما يقرب من سبع سنين بخراب الهيكل وقتل وتشريد اليهود من أورشليم وفلسطين على يد تيطس..وهو – على ما ورد بالأناجيل الحاليه - ما حذر من وقوعه المسيح عيسى عليه السلام، ونصح المؤمنين من بعده بالخروج من القدس اذا احسوا باحاطة الجيوش بها فلا يركنوا الى نصر الهي- لا يستحقه اليهود، وقد عصوا - كما ركن بقية اليهود غروراً فوقع عليهم العذاب.. وأخبر المسيح عيسى عليه السلام بأن هدم اورشليم الآتي هذا قد ذُكر بالكتاب – كتاب دانيال بالذات - من قبل، ويرى الباحثون – ربما جميعاً - أنه إنما يشير الى هذا الموضع من كتاب دانيال.. وذلك على ما ورد صريحاً في انجيل متى:" فاذا رأيتم المخرب الشنيع الذي تكلم عليه النبي دانيال قائما في المكان المقدس.."، وهو– أي المسيح عليه السلام - يحسم بذلك قضية الخلاف حول تفسير بشارة دانيال هذه.. ويدعم الفهم الذي أوردته بأنّ المسيح الثاني المذكور بالنبوة هو عيسى عليه السلام ( أو يحي عليه السلام الذي عاصره)، وأنّ دمار القدس وخرابها وقتل أهلها المراد به بالنبوة هو ذلك الخراب والقتل الذي وقع على اليهود من بعد المسيح بفترة قصيرة.. وإلى هذا التفسير يذهب أكثر الباحثين النصارى، ومن هؤلاء على سبيل المثال روبرت كامبين Robert Van Kampen (10) حيث يقول:(1/153)
The sequence of events revealed in Daniel 9:24-27, then, provides a step by step outline of God’s prophetic timetable. As we have already seen, the prophecy concerning the decree to “restore and rebuild Jerusalem” was fulfilled in 445 BC, and the prophecy concerning the coming of “Messiah the prince” on Palm Sunday was fulfilled 483 years later, just as prophesied. The other events predicted by Gabriel, which were to occur before the final seventieth week would begin in the last days, have been fulfilled with equal precision. Thus the prophecy that the Messiah would be “cut off” was fulfilled in Israel’s rejection of their Messiah and their participation in His crucifixion and death; and the prophecy concerning the destruction of Jerusalem and the sanctuary was fulfilled in 70 AD by Titus, “the prince who is to come” as was predicted by Christ Himself (see Luke 19:41-44; cf 21:12-24).(1/154)
ويمكن أن يترجم ما كتبه روبرت أعلاه كما يلي: " وعلى هذا فتتابع الأحداث الموضح في كتاب دانيال 9 : 24 – 27 يعطي المخطط الزمني الرباني متنبأً به خطوة خطوة، فكما قد رأينا فإن النبوة المتعلقة بإقامة وإعادة بناء أورشليم، قد تحققت عام 445ق.م، بينما تحققت النبوة المتعلقة بمجيء المسيا أو المسيح الأمير 483 عاماً بعد ذلك ( أي عام 30-33م)، تماما كما ذكر بالنبوة، وبقية الأحداث التي تنبأ بها جبريل التي ينبغي أن تحدث قبل الأسبوع السبعين وستحدث في آخر الزمان ( الأيام) هي الأخرى قد تحققت بدقة موازية، فالمسيح الذي سيقطع تحقق في رفض اسرائيل ( الأسرائيليون) لمسيحهم، ومشاركتهم في صلبه وموته، والنبوة بهدم القدس والمعبد تحققت عام 70م على يد تيطس ( الأمير القادم) كما تنبأ بذلك ( أيضاً) المسيح ( عيسى) نفسه بذلك ( لوقا 19: 41- 44، 21: 12- 24)".(1/155)
ونوافق على التفسير الذي ذكره روبرت أعلاه إلا في الصلب فإنه لم يقع، وإن كان جُرمه قد وقع على اليهود كاملا، وفي أن روبرت يغالط قراءَه ونفسه في محاولة صرف البشارة إلى المستقبل، مثله في ذلك مثل بقية كتّاب النصارى الذين افترضوا بعثا جديدا في المستقبل لدولة الروم حتى يتجنبوا القول بأن الإسلام هو مملكة الله القادمة بعد إقرارهم بأن مملكة الله ستأتي بعد دولة الروم.. فبينما يدعي روبرت بأن أحداث الأسبوع الأخير ستقع في المستقبل يقرّ أنها قد وقعت !!.. وفي ذلك استخفاف غير مُتَخيل بعقل القارئ.. وهذه الأحداث هي تلك الأحداث المذكورة في البشارة خلال الإسبوع الأخير أي بعد نهاية فترة الاثنين والستين أسبوعا المسبوقة بسبعة أسابيع ذكرت قبلها ( أي بعد 69 أسبوعا من الأمر ببناء المدينة والهيكل ).. وهي الأحداث المشتملة على فصل مسيح، ودمار شامل للمدينة والمعبد أو الحرم (the city and the sanctuary )... ويرى القاريء الكريم مدى حيرة روبرت هذا وغيره من الكتاب النصارى فهم يزعمون أن هناك فترة مهملة بين نهاية الأسبوع التاسع والستين وبداية الأسبوع السبعين (11).. وأن خراب المدينة والهيكل سيحدث في المستقبل ويتبعه المجيء الثاني للمسيح عيسى عليه السلام، وقيام مملكة الله.. والحقّ الذي - كما رأينا أنهم- لا يملكوا إلا الإقرار به هو أنّ هذه الأحداث قد وقعت كلها كما فسرها روبرت هذا وغيره من النصارى وكما فسرها المسيح عليه السلام نفسه كما تروي الأناجيل بأن خراب أورشليم من بعده سيصيب الجيل المعاصر له، وأنه هو ذلك الخراب الذي عناه دانيال في نبوته هذه، كما ذكر في إنجيل متى كما سأورد فيما يلي..(1/156)
وكما هو واضح من الإشارة إلى فترة السبعين أسبوعا هذه في وصية لاوي ( سيأتي تفصيلها فيما بعد) أنها سابقة لحرق وخراب الهيكل وطرد اليهود من فلسطين في تلك الفترة المعرّفة بأنها ستحدث في أول الأسبوع السابع ( الأسابيع هنالك بالقرون) كما سنفصله فيما يلي من بشارات.. ( وعلى هذا أيضا كان فهم الألوسي رحمه الله في تفسيره (20)).
وتبين من التأريخ أن المخرِّب ( أي الذي سيقوم أو قام بالتخريب) أنّه الروم.. والبشارة تختم بجملة تشير إلى إفناء المخرب ( الروم).. " إلى أن ينصب الإفناء المقضي على المُخرِّب". ..وواضح أنّ ذلك متبوع بقيام البر الأبدي.. وهو ما يتفق مع كل ما سبق من بشارات بمملكة الله وما يتفق تماما مع التأريخ كما فصّلتُ من قبل.. وما ينزع أدنى ريبة من نفوس القراء أن هؤلاء الأنبياء عليهم السلام إنما كانوا يبشرون بالإسلام.. الذي على يديه تمّ طرد الروم..(1/157)
وفي الانجيل المنسوب الى لوقا ( 21: 5-24) يرد النص التالي:" وقال بعضهم في الهيكل انه مزين بالحجارة الحسنة وتحف النذور، فقال- أي عيسى عليه السلام- : هذا الذي تنظرون اليه ستأتي أيام لن يترك منه حجر على حجر من غير أن ينقض... فاذا رأيتم أورشليم قد حاصرتها الجيوش فاعلموا أن خرابها قد اقترب، فمن كان يومئذ في اليهودية فليهرب الى الجبال، ومن كان في وسط المدينة فليخرج منها، ومن كان في الحقول فلا يدخلها، لأن هذه الايام أيام نقمة يتم فيها جميع ما كتب، الويل للحوامل والمرضعات في تلك الايام فستنزل الشدة بهذا البلد وينزل الغضب على هذا الشعب، فيسقطون قتلى بحد السيف ويؤخذون أسرى الى جميع الامم، وتدوس اورشليم أقدام الوثنيين الى أن ينقضي عهد الوثنيين"..وجاء في الانجيل المنسوب الى متى ( 24: 15- 22) : " فاذا رأيتم المخرب الشنيع الذي تكلم عليه النبي دانيال قائما في المكان المقدس –ليفهم القارئ_ فليهرب الى الجبال من كان عندئذ في اليهوديه، ومن كان على السطح فلا ينزل ليأخذ ما في بيته، ومن كان في الحقل فلا يرتد الى الوراء ليأخذ ردائه.. صلوا لئلا يكون هربكم في الشتاء أو في السبت(12).. ولو لم تُقصر تلك الايام لما نجا أحد من البشر ولكن من أجل المختارين ستقصر تلك الايام "
..(1/158)
وواضح أنّ العبارة الاخيرة بنص لوقا أعلاه - وكذلك متى – والمتضمنة لزوال حكم الوثنيين( الرومان) الذين سيقومون بهذا الخراب والقتل من بعد المسيح، المبشرة بمجيء المختارين لإنهاء حكم الوثنيين على الأرض المقدسة أن هذه العبارة تتفق مع صدر نبوة دانيال التي أشار إليها نص متى ( والتي أناقشها هنا، تتفق معها بالتبشير بالبر الابدي والشريعة الخاتمه بعد هذه السبعون اسبوعا من السنين.. وهي بنص لوقا أعلاه متضمنة لاشارة صريحة الى أنّ المقصود هو قيام مملكة الله القادمه ".. اذا رأيتم هذه الامور تحدث فاعلموا أن ملكوت (مملكة اللهkingdom of God ) الله قريب" لوقا34:21..هذا القيام لمملكة الله هو الذي بشر به الانبياء أنّه سيتم من بعد المسيح عليه السلام ومن بعد هدم القدس على ايدي الرومان ( المملكة الرابعة في بشارات دانيال بالاصحاحين الثاني والسابع) هو بلا شكّ قيام مملكة الاسلام.. وهو متفق تماما مع تبشير المسيح عيسى عليه السلام بقيام مملكة الله من بعده.. ويلاحظ القاريء أن المسيح عليه السلام – على ما يرويه متى أعلاه – إنما يقدم تفسيراً للخراب المذكور بدانيال، وأنّ هذا الخراب قد وقع من بعده على أيدي الروم تماما بكل تفاصيله التي أخبر عنها، وهو ما يثبت صحة التفسير الذي أوردت أعلاه..(1/159)
وأشار المسيح عليه السلام - على ما ورد بالأناجيل - إلى أنّ فترة من الزمن عسيرة ستمرّ على المؤمنين من بعد خراب القدس ( وتشريد اليهود وقتلهم) حتى يأتي حكم المختارين، ويطردوا الوثنيين ( الروم) عن الأرض المقدسه.. وقد سكتت بشارة دانيال هنا عن الفترة الزمنية بين خراب الهيكل الى قيام البر الابدي على الرأي المشهور (6).. إلا أنها أشارت كذلك إلى نهاية المخربين ( الروم) في خاتمة النبوة، وواضح أنّ نبوة دانيال ذكرت نهاية المخربين كذلك كتمهيد لقيام البر الأبدي ( أو مملكة الله) الذي افتتحت به هذه النبوة.. كما ذكرتُ أعلاه.. وذكرت النبوة أنّ الله قد حدّد لليهود سبعين اسبوعا من السنين من بعد الأمر ببناء القدس ثانيةً، ليعاجلهم بعد ذلك بالعقاب والخراب.. ثمّ يحكم الوثنيون الأرض المباركة لفترة لم تحدّد ( رجا المسيح كما روي أعلاه أن يقصرها الله).. ثمّ يأتي بعد ذلك الفناء المكتوب ( المقضيّ) على هؤلاء المخربين الوثنيين، وهو فناء المملكة الرابعة ( الروم) السابقة لمملكة الله الذي تحدثت عنه نبؤات دانيال نفسه في الأصحاحين الثاني والسابع، ويقوم بعده البر الأبدي الذي استهلت بذكره هذه النبوة في صدرها.. ويلاحظ أنّ هذه النبوة أنزلت على دانيال أثناء دعائه الرقيق – وهو في أسر بابل - مستغفرا لقومه، وأنّهم بمعاصيهم قد استحقوا اللعنة والعقاب المكتوبان في توراة موسى، ويدعوا الله عزّ وجلّ أن يقبل تضرعاتهم عاجلاً غير آجل برحمته الوافرة لا بعملهم، ويتوسل إلى الله عزّ وجل بأنّ الأمة منسوبة إليه.. فأتاه جبريل عليه السلام بالبشارة والإجابة هذه التي أناقش هنا بأن القدس ستبنى، ولكن قد حدد لشعبه سبعين اسبوعا من السنين فقط بعد بناء مدينتهم، إذ سيقطعوا قرب نهاية فترة السبعين اسبوعاً مسيحاً يرسل إليهم ( وقد سعوا لذلك وكفروا به) فيأتيهم العقاب، ويظل المخرِّب بالمدينة حتى يأتيه الهلاك المكتوب من قبل..(1/160)
وقد علمنا من التأريخ ومن بشارات العهد القديم والجديد ( الانجيل) أن المخرِّب هو الروم، ومذكور أن نهايته (بالأرض المباركه بالذات) ستكون على يد مملكة الله (13)، وهو ماختمت به بشارة دانيال هذه وما أشير إليه في نصوص الانجيل أعلاه.. فكأنّ الوحي إذ يبشر دانيال بالاجابة لدعائه يخبره في نفس الوقت أن قومه سيعيدون الأخطاء نفسها ويتعرضون لعقاب وخراب أشدّ.. ولكن مملكة الله ستكون قريبة من بعد ذلك وتقوم فتقضي على المخربين..(1/161)
ومما يثبت أنّ بشارة البر الأبدي بشارة بالإسلام أنها اشتملت على التبشير به كدين لا ينسخ ( البر الأبدي)، وعلى التبشير بختم النبوة والوحي ( وختم الرؤيا والنبوة seal both vision and prophet,)، ومجيء الصالحين ( Righteous)، واختيار أفضل البشر وسيد المرسلين ( أو قدوس القديسين، والقديسيون هم الصالحون والمرسلون)، واختيار أفضل بقعة على الأرض في إشارة بينة –لا شكّ - إلى تغيير القبلة، كما ورد بالنص الإنجليزي.. "and to anoint a most holy place.." وأن كل ذلك سيكون من بعد المسيح عيسى عليه السلام كما أثبتنا أعلاه.. وواضح أنّ ذلك كله قد تحقق بالإسلام وحده، وبلا منازع.. فأي بقعة مقدسة اختيرت للناس من بعد تشريد اليهود وطردهم من فلسطين، ومن بعد بعثة المسيح عيسى عليه السلام المشار اليها بالنبوة غير مكة المكرمة.. ولا يشك عاقل في أن النص لا يعني الا مكانا جديدا غير القدس التي جاء الوعد بتدميرها.. والتي كانت قد اختيرت أصلا من قبل البشارة.. ومَن سيكون أفضل المرسلين أو قدوس القديسين من بعد بعثة المسيح عليه السلام غير رسول الاسلام محمد صلى الله عليه وسلم.. ومن ادعى ختم النبوة به من بعد المسيح وجاء التأريخ مصدقا له غير رسول الاسلام محمد صلى الله عليه وسلم.. وما الرسالة الخالدة الخاتمة أو الأبدية من بعد المسيح غير الاسلام.. ومن جيل الصالحين غير صحابة رسول الاسلام محمد صلى الله عليه وسلم.. وواضح أن المسيح عيسى عليه السلام لا يمكن أن يكون هو المقصود بهذه البشارة، وهو قد أتى قبل خراب الهيكل والمدينة..وأنه لا معنى ولا وجه للقول بأن هذه الأمور ستتحقق في مجيئه الثاني، فهل درجته كانت ناقصة في مجيئه الأول، ثم هو نفسه أصبح سيد المرسلين في مجيئه الثاني؟ ولماذا عجزت البشارة وقد ذَكَرتهُ أن تشير إلى عودته؟ ما أظن أننا بحاجة إلى إثبات حجتنا، فقد ظهرت ساطعة بنفسها؟ وللناس أن يختاروا لأنفسهم !!(1/162)
وأختم (18) تعليقي على هذه البشارة بأن نص البشارة أعلاه في صدرها ليوحي في الواقع بأن هناك فترة سبعين اسبوعا إلى قيام البر الأبدي.. وبطبيعة الحال هي غير فترة السبعين اسبوعا التي فصّلت أحداثها بالبشارة والتي تنتهي بهدم البيت لا بقيام البر الأبدي.. وهذه الفترة هي التي فهمها أصحاب مخطوطات البحر الميت على أنها مدة هجر القدس وخلوها من أهلها.. وقد عاش أصحاب المخطوطات في الفترة التي تلت بناء الهيكل الثاني بقرون كثيرة، أي أنهم عاشوا قرب نهاية السبعين أسبوعا المفصلة أعلاه والمنتهية بقطع المسيا، وكانت القدس خلالها عامرة بأهلها، ومع ذلك فهم يتحدثون عن فترة سبعين اسبوعا أخرى تلي هدم المدينة وتشريد أهلها المذكورين بنبوة دانيال هذه، وتكون خلالها مدينة أورشليم مهجورة من أهلها.. Desolate ويذكر(14) John Collinsأن أصحاب المخطوطات فسروا مدة هجر المدينة المقدسة (أورشليم) بسبعين سنة المذكورة في إرميا 9 (15) بأنها في الواقع سبعين اسبوعا من السنين أو 490 عاماً موافقة لبشارة دانيال هنا (16).. وفي حزقيال 67 ما يفهم منه أن مدة هجر المدينة (أورشليم) 390 سنة وتزيد أربعين عاما عقوبة على يهوذا.. وهي فترة مختلفة عن الـ 490 عاما المذكورة بهذه البشارة والتي أخذ بها اليهود المتأخرون كأصحاب المخطوطات على أنها مدة هجر أورشليم.. وفي الرقعة 4Q13 من مخطوطات البحر الميت والتي أوردتها في الفصل الأخير من البشارات تحت اسم البشارة بالملك الصديق ( ملكي صديقي)، ذكر لفترة خمسمائة عام ( ايوبيل العاشر) حتى ظهور المسيا ( المصطفى)، وهو ما يتفق مع القول بأن هنالك سبعين اسبوعا ( 490 سنة) حتى قيام البر الأبدي، هي غير السبعين اسبوعا المنتهية بعذاب اليهود عام 70م –135م .. ونعلم أنّ القدس ظلت بدون أهلها الأولين ( أي اليهود) منذ عام 135م حين حرّم عليهم الإقتراب منها حتى عام 638م حين ورثها المسلمون ( أهلها الوارثون) واستوطنوها..(1/163)
أي أنّ مدة هجر المدينة بدون أهلها الممنوحين لها من الله عزوجل كانت 503 سنة.. فما أقربها إلى ما ذُكر بالنبوة ( الـ490 سنة).. وإذا أدرك القاريء أن هناك إختلافات في تأريخ هذه الأحداث يصل إلى عشرات السنين أدرك القاريء قطعا مرة أخرى أنّ الحديث إنما هو عن الإسلام.. وليس هناك حدث آخر أنهى فترة سبعين اسبوعا ( 490 عاماً) من هجر القدس وتدمير معالمها وتبديل اسمها على أيدي الروم (17) غير قيام مملكة الإسلام.. أي ليس هناك حدث بالتأريخ وقع 490 عاما بعد تحريم القدس على اليهود غير قيام دولة الإسلام وهي التي امتلكت القدس وإعادتها للمؤمنين.. وسنثبت - فيما بعد- للقاريء أن المسلمين قد أُورثوا القدس بنص العهد القديم في مواضع متعددة.. وأنهم هم الأمة المباركة الوارثة للأرض المباركة .. ولا يمكن أن يعد احتلال الروم للمدينة إنهاء لهجرها فهم هم مَن دمرها، وقد ظلوا على وثنيتهم بعد تدميرها ثلاثة قرون.. ولم يدخلوا المدينة على نهاية السبعين اسبوعا، ولما دخلوا في النصرانية دخلوها في الواقع بوثنيتهم ..
إضافة توضيحية:(1/164)
هناك ثغرة تكاد تكون وحيدة على هذه البشارة بنصها المذكور أعلاه.. حيث يُلاحظ أن الاسبوع الأخير من السبعين اسبوعا سيبدأ بفصل المسيا وينتهي بخراب الهيكل والمدينة ( أورشليم)، وفي منتصف هذا الإسبوع يتم تعطيل الذبائح.. والثغرة هي أن الفترة الممتدة من قتل يحي أو محاولة صلب المسيح عليهما السلام إلى خراب الهيكل امتدت لأربعين عاما وليس لسبع سنوات.. ومع أن ذلك لا يؤثر على دلالة النبؤة في التبشير بالإسلام، ولا على صحة تفسيرها الذي أثبتنا أدلته في النقاش أعلاه، إلا أنه قد يكون من المفيد الإشارة إلى أن مقتل يعقوب الصديق.. إمام المؤمنين في زمانه والخليفة الأول لابن خالته عيسى عليه السلام.. إن مقتل يعقوب كان قد وقع عام 62-63 م.. أي سبع سنوات قبل خراب الهيكل ( المعبد)، وأن الذبائح والقرابين منع قبولها بالمعبد بعد ثلاث سنوات ونصف من مقتل يعقوب عليه السلام.. وذلك كما أثبته جوسيفياس المعاصر للأحداث.. ويعقوب وإن لم يكن نبيا، لكنه كان أعظم شخصية في زمانه.. أقر له الناس بالإمامة، حتى كان هو الوحيد الذي يسمح له بدخول قدس الأقداس ( قلب المعبد الذي لا يُسمح بدخوله إلا مرة بالعام ولأصلح الناس).. هذا وقد أثبت المؤرخون شعور الناس بأن عقوبة عام 70 م إنما كانت بسبب قتلهم ليقوب.. وهو ما قد يضعنا أمام احتمال تفسير المصطفى المقطوع المذكور بالنبوة بأنه يعقوب عليه السلام..
جدول توضيحي لفترة السبعين اسبوعا ( على التفسيرين بأنها حتى هدم القدس ثم مثلها حتى قيام البر الأبدي) بكتاب دانيال:(1/165)
الحدث ... الأسر البابلي ... الفترة من الأمر ببناء ( تجديد) أورشليم عام 444ق م حتى قطع المسيح الثاني ( يحي أو عيسى عليه السلام) عام 30م أو 33م (وقد كانت مدتها 483 سنة عبرية أو 69 إسبوعاً )وقد جزئت على جزئين كل منهما منتهي بقطع مسيح ... هدم القدس وإحراق وتخريب معبدها وقتل سكانها على أيدي الرومان عام 70م، ثم عام 135م ... فترة هجر المدينة بدون أهلها المختارين وهي ما بين خراب القدس عام 135م إلى أن صبَّ البلاء على المخرّب ( الروم) والذي تم على أيدي المسلمين عام 634م في معركة اليرموك (مدتها 499 سنة)
605-444ق م
الفترة المقابلة من نبوة السبعين اسبوعا ... هذه الفترة لم تدخل بالنبوة لأنها سبقت بناء المدينة وهيكلها ... فترة 49 سنة أو سبعة أسابيع يأتي خلالها مسيح أو نبي ... فترة 434 سنة أو 62 اسبوعا يتبعها قطع مسيح ( أي أن هذا القطع سيتم ضمن الإسبوع السبعين). ... تمت هذه العقوبة على بني اسرائيل أربعين عاما بعد تكذيبهم بالمسيح. انظر كذلك المخطوطات التي ثبت أنّ تنبؤها بهذا الأمر قد سبق هذه الأحداث. ... هدم القدس وتغيير معالمها واسمها وتحريمها على اليهود عام 135م ... مجيء الصلاح الأبدي، وختم النبوة، واختيار أقدس بقعة على الأرض ( لبيت جديد لله) أو اختيار أفضل البشر ..
دانيال 9:25 ... دانيال 9 : 25 ... دانيال 9: 26 ... وكل هذه الأمور المذكورة بالبشارة تحققت بحذافيرها تماما من خلال ظهور الإسلام.485 سنة من بعد عقاب عام 135م ( أي عام 610 م) وتوريثه الأرض المباركة بالمختارين ببعد فترة هجر لها لمدة حوالي خمسمائة عام ( قريبا من سبعين أسبوعا من السبعين) دانيال 9: 27
هوامش بشارة الأسابيع السبعين
( 1 ) Amazing Prophecies of the bible by Timothy J. Dailey , David M. Howard
( 2 ) Dead Sea Scrolls, Michael pp.441
( 3 ) Prophecy by Dewey M. Beegle pp.115
((1/166)
4) هذا باعتبار أن السنة اليهودية هي 360 يوماً، وستكون المدة معادلة لمدة 488 سنة على الحساب القمري ألاسلامي.
(5) الهلاك لا يعني بالضرورة قتلا، وهو شامل للوفاة الطبيعية، وعلى هذا والله أعلم ذكر في القرآن الكريم عن يوسف عليه السلام " حتى إذا هلك.. غافر 34"
(6) .. وفي الواقع فإن صدر النبوة المستهل بالبشارة قد يفهم منه مع ذلك أنّ الفترة إلى البشارة هي أيضاً سبعون أسبوعا، وهي بلا شكّ غير فترة السبعين أسبوعا التي فُصِّلت في بقية النبوة، والتي ستنتهي بقطع المسيح ثم خراب المدينة والهيكل، وهذه هي الفترة التي رجا المسيح عيسى عليه السلام أن يقصّرها الله عزوجل حتى يأتي المختارون ويقوم بالتالي البر الأبدي.. وقد امتدت هي الاخرى الى مايزيد قليلا عن سبعين اسبوعاً من السنين..من عام الهدم 70م أو من سنة تحريم فلسطين على اليهود عام130م الى عام فتح الشام في حوالي 635م.
((1/167)
7) قورش هو الملك الفارسي الذي قضى على حكم البابليين عام 586 ق.م ، وهو الذي كان له الفضل في الأمر ببناء الهيكل عام 538 قبل الميلاد، وواضح أنّ المدة بين القضاء على البابليين والأمر ببناء الهيكل من قبل قورش هي 48 عاماً شمسياً أو 49 عاماً على الحساب اليهودي القمري .. ولكن الذي يفهم من نص البشارة أعلاه هو أن فترة ال49 عاما ( سبعة أسابيع الأولى من السنين ) هي لاحقة لاسابقة للامر ببناء المدينة وأسوارها لا للأمر ببناء الهيكل وحده ..وعلى افتراض الأخذ بأن المقصود هو الأمر ببناء الهيكل، وأن سبعة أسابيع سبقته ( أي من 586 ق م إلى 538 ق م) أو لحقت الأمر، أي حتى عام 490 ق.م فإنه ما ظهر حينها المصطفى أو النبي الذي سيقطع ولا يصنع شيئاً ... وعلى هذا فإن كثير من الباحثين من غير الملحدين يرون أن التاريخ المذكور بالبشارة هو تاريخ الأمر بإعادة بناء المدينة، وهو غير تاريخ الأمر بإعادة بناء الهيكل من قبل قورش عام 538ق م ، وقد رفض حكام الفرس من قورش ومن خلفه بناء أسوار المدينة حتى جاء الملك أرتاكسيركس Artaxerxes الفارسي فأمر بإعادة بناء أسوار المدينة في عام 445 ق.م ، وأمر نحميا بالذهاب للقدس ، وإذا أعيد جمع الفترتين وهما السبعين ( 49عاماً) وهي فترة لاحقة للبناء كما تنص البشارة مع فترة ال62 اسبوعاً (434) من السنون ، فإن هذه المدة هي الفترة (أي 483) من بعد الامر ببناء المدينة الى وقت ظهور المختار واستئصاله ... وعلى هذا فإن المختار الذي سيقطع دون أن يصنع شيئاً أو يحقق نجاحاً بارزاً هو المسيح عيسى عليه السلام، وينبغي هنا الإشارة الى صعوبة التسليم بالدقة التامة للتواريخ أعلاه .. فكلها لم تؤرخ الا بأثر رجعي، ويمتد ذلك هنا الى ما يزيد على ستة قرون.. وأذكر هنا أن geeِِA . M.(1/168)
Jفي كتابه The End of the Age اعتبر ان الأمر ببناء الهيكل كان من قبل قورش ( سايروس) وأن ذلك كان عام 454 ق م ( وليس عام 538 ق م!!) مستندا الى ما حسبه M artin Anstey ولأن قورش قد تنبأ به اشعيا بانياً للهيكل ( اشعيا 45: 28).. ويظل مع هذا الاختلاف في الأرقام أن هناك نوع من الاتفاق في أن فترة الـ 69 أسبوعا تنتهي بحادثة الصلب وأن المسيح الذي سيفصل ولن يحقق شيئا هو عيسى عليه السلام، وقد ذكرت رأيي في أن ذلك ممكن تماما في حق يحي عليه السلام فقد كان مختارا وكان في نفس الزمن المتوقع للمسيا الذي سيقطع، وقد فصل رأسه عليه السلام حقا. أنظر كذلك الفصل القادم عن المختارين ص
(8) يقول M.J.Agee في كتابه The End of the Age, 1991 ص16:" قد بين دانيال أن المسيح لابد أن يأتي قبل هدم أورشليم والمعبد على أيدي الروم عام 70م. إذا لم يكن عيسى هو المسيح، فليس هناك أحد. ولأن سجل سلالة الأنساب قد أحرق، فليس هناك أحد يستطيع اليوم أن يثبت انتسابه إلى الملك داود غير عيسى. إن نسب عيسى قد حفظ بالكتاب المقدس. لايهم كم يلزم أن ننتظر، ليس غيره يمكن أن يكون المسيح، وعلى اليهود الذين ينتظرون مسيحا أن يقدروا هذه الحقيقة" ..في الجزء الأول من كلام هذا الكاتب حجة على اليهود بأن المسيح المعني في بشارة دانيال قد جاء، وانه عيسى ( وقد ذكرت وربما يحي عليه السلام) .. لكنه واضح من دانيال أن المسيح الذي سيهلك ولا يصنع شيئاً ليس هو الذي سيقيم البر الأبدي.. وقد نفى عيسى عليه السلام- كما تروي الأناجيل الحالية- أن يكون المصطفى المنتظر الذي سيكون رسولا لكل الشعوب، والذي سيقيم مملكة الله، نفى أن يكون من أبناء داود، بل وبشر بقيام مملكة الله من خارج اليهود فلا وجه للكاتب أن يتحدث بأن من ينتظره اليهود نبيا ملكا لا يمكن إلا أن يكون عيسى.. فعيسى عليه السلام ما كان كذلك.
(9) Jerusalem\by Karen Armstrong.
((1/169)
10) Robert Van Kampen, The Sign, ed.1992, pp.87- 88.
(11) يتشبث النصارى بأن الرومان لم يبطلوا الذبيحة ويدنسوا الهيكل قبل حرقه وهدمه .. ويرد بأن هذا لا يكفي لردّ الثوابت أعلاه، وبأن هذه الإضافات في خاتمة النبوة في تعريف المخربّين للهيكل قد تكون من خلط الكتبه اللذين يعتقد جمهرة الباحثين أنهم عاصروا أنطوخيوس الذي دنس الهيكل من قبل المسيح... والغريب أنّك تجد النصارى يستشهدون بهذه المواضع من دانيال ومتى ولوقا ليثبتوا للناس أنّ عيسى عليه السلام تنبأ بهلاك اليهود قريباً من بعده..وهذا حقّ .. فإذا جاء الحديث عن النبوات صرفوا هذه المواضع نفسها إلي المستقبل كأنها لم تحدث بلا دليل، إلا الإصرار على الضلال.. وبذلك يضطرون للقول بأن السبعين أسبوعا من السنين لم تنته بعد ! وأن هناك فترة مهملة بين نهاية الأسبوع الـ69 بحادثة الصلب وبين تخريب الهيكل والمدينة بالأسبوع الأخير .. قد بلغت الآن ألفي عام .. وكأنّ الهيكل والمدينة لم يهدما طوال هذه المدة .. وكأن هناك قيمة لبشارة تتنبأ بحدث تحدده بالأسابيع من السنين ثم تغفل عن آلاف السنين قبل حدوثه .. واضحة هي مغالطتهم..انظر كذلك الملحق عن الرؤية البديلة لدى النصارى.
(12) يلاحظ مدى حرص المسيح عليه السلام على احترام السبت، مما يدلّ على أنّه لم يلغيه بل خفف عن اليهود شدّة بعض الأوامر الإلهية التي فرضت أصلا عقوبة عليهم ( وذلك إصرهم). على القارئ أن يقارن مدى تمسك المسيح بالسبت لدرجة التردد في إجازة السفر يوم السبت ولو كان هروباً من القتل على أيدي الكفار..على القارئ أن يقارن وصية المسيح عليه السلام هذه لأتباعه من بعده مع تعطيل السبت تماما وكل تعاليم التوراة على يدي بولس واتباعه من النصارى.
(13) هذا فهم متفق عليه بين أهل الكتاب جميعاً، فالبشارة بالبر الأبدي وختم النبوة هي مع قيام مملكة الله.
(14) John Collins, in Apocalypticism in the Dead Sea Scrolls, p.6.
((1/170)
15) ورد هذا في الواقع في ارميا 25: 11 ، حيث جاء أن الأرض ستظل خربة لمدة سبعين سنة من بعد احتلال نبوخذنصر لها.. وكان هذا عن الفترة المعاصرة للأسر ببابل .. وهو بالتالي غير فترة الخراب – على التفسير الآخر - والتي هي هنا سبعين اسبوعا أو 490 عاما .. وستحدث من بعد حكم البابليين ومن بعد البناء الثاني لا من قبله كما هو الحال في نبوة إرميا ..
(16) المصدر أعلاه ص14.
(17) وقد كان اسم المدينة هو أورشليم أو القدس الذي تذكر التوراة أنه مشتق من اسم الله، فسماها الروم باسم إيليا، وأعاد المسلمون إليها اسمها المبارك: القدس.
(18) هناك رأي تفسيري للبشارة مخالف لما أوردته أعلاه يقوم على الأعتقاد بأن هذه النبوة كتبت بعد أحداث القدس على يد أنطيوخس، أي أنها ليست ربانية في أصلها وليست ببشارة، إنما عرضت كما لو أنها بشارة دجلا على الأجيال التالية .. ويفسر أهل هذا الرأي المسيح الأول بأنه زربابل أو جوشع Zerubbbabel or Joshua، وأن ذلك تم عام 520 ق م، وأن المسيح الثاني الذي فصل كان أونياس الثالث Onias111 عام 171ق. م، ويرد على هذا التفسير قضايا كثيرة منها أن الفترة الفاصلة هي أقل كثيرا عن 490 سنة، وأن المدينة والمعبد لم يدمرا ، وأنما دنس المعبد لوحده، وأن المسيح عيسى عليه السلام قد استشهد بهذه البشارة عند حديثة عن هدم البيت من بعده، وأن القدس لم تهجر مدة سبعين اسبوعا الا من بعد هدمها على أيدي الرومان، ثم كان بعد ذلك مجيء البر الأبدي .. ويضاف إلى ذلك كله أن هذه البشارة كان ( وما زال) لها مكانة خاصة عند المؤمنين بالعهد القديم يجعل من العسير الأعتقاد بأن من وضعها أول مرة كان من الأنبياء الكذبة.. وتظل مشكلة أهل هذا الرأي هو كفرهم بالنبوات والبحث بعد ذلك عن نظريات لتأييد كفرهم .. والله أعلم.
((1/171)
19) تفسير اصحاب المخطوطات المشار إليه جاء في الرقعة 4Q13 وهم يفسرون المقطع من كتاب اشعيا 52: 7 ثم يعلقون عليه متطرقين إلى التعليق على شخصية المسيا الثاني الذي ذكره دانيال بأنه النبي المبشر : " كما تقول التوراة ( أو نصوص الوحي). ما أجمل على الجبال قدمي الرسول وهو يعلن السلام، ويقدم الأخبار الطيبة، ويعلن الخلاص، ويقول لصهيون إلهك هو الذي يحكم ( اشعيا 52: 7). هذا التفسير : " الجبال هي الأنبياء وهم الذين أرسلوا لأعلان الحقيقة عن الله وليتنبؤا لبني اسرائيل، والرسول هو المختار ( أو المسيح) من الأرواح، الذي تكلم عنه دانيال " وبعد اثني وستين اسبوعا فإن مختارا سيقطع" ( دانيال 9: 26) ( هو) الرسول الذي سيأتي بالأخبار الطيبة، ويعلن الخلاص، وهو الذي كتب عنه " وليعلن سنة تفضل الربّ، ويوم انتقام الهنا" وليخفف عمن يحزنون".. انتهى نص الرقعة.. يُرجى من القاريء فيما بعد مراجعة بشارة ملكي صديق والهامش 6 بها لتوضيح الخلط الذي تمّ في البشارات بعيسى عليه السلام والمصطفى خاتم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام...
((1/172)
20) جاء في تفسير الألوسي لمرتي الإفساد التي ذكرت بسورة الإسراء والتي قام بها بنو إسرائيل ووقوع العذاب عليهم بالقتل وهدم المعبد ما يلي: " والذي ذهب إليه اليهود ، أن المبعوث أولا بختنصر، وكان في زمن آرميا عليه السلام، وقد أنذرهم مجيئه صريحا، بعد أن نهاهم عن الفساد وعبادة الأصنام، كما نطق به كتابه، فحبسوه في بئر وجرحوه، وكان تخريبه لبيت المقدس، في السنة التاسعة عشر من حكمه، وبين ذلك وهبوط آدم ثلاثة آلاف وثلثمائة وثماني وثلاثين سنة، وبقي خرابا سبعين سنة، ثم إن أسبيانوس قيصر الروم، وجّه وزيره طيطوس إلى خرابه، فخربه سنة ثلاثة آلاف وثمانمائة وثمانية وعشرين ، فيكون بين البعثين عندهم أربعمائة وتسعون سنة، وتفصيل الكلام في ذلك في كتبهم، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال." والشاهد هنا هو موافقة المفسر بأنّ فترة الـ 490 عاما هي بين العذابين لبني إسرائيل وأنها منتهية إلى الهدم الثاني على يد تيتوس عام 70 م.
... رؤيا مخطوطات البحر الميت الآرامية An Aramaic Apocalypse:
أو النبوة بفترة البلاء الشديد حتى قيام مملكة الله(1/173)
هذه هي الرقعة الوحيدة - فيما يظهر- من المخطوطات المحتوية على لفظ " ابن العلي" أو " ابن الله " وقد أقام النصارى بسببها ضجة كبيرة، وسميت برقعة ابن الله.. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.. ولكن أصح التفسيرات لها هو أنّ الذي سيتسمى بهذا الإسم أو اللقب أو يدعيه لنفسه هو عدو المسيا.. وفي عهده ستضطهد الأمم ويدوس بعضها بعضا.. حتى تقوم مملكة الله ويأتي المختارون.. وكنت قد وضعتها - بهذا البحث- أصلاً ضمن ملحقات الكتاب للردّ على دعوى النصارى بأن هنالك تبشير بالمسيح كإله، ثمّ اخترت بعد إتمام التأليف أن أنقلها الى هذا الموضع من التأليف لتكون شاهدا آخر ضمن شواهد كثيرة - بعضها لم نناقشها بعد - في أن اليهود كانوا يتوقعون بناء على تعاليم تلقونها من أنبيائهم مجيء مملكة الله أو الدين الخاتم والرسالة الربانية العالمية لأمم الأرض من بعد دولة الروم.. وأورد هنا نص هذه النبوة على ما أورده الباحث جيزا فيرم The Geza Vermes، وواضح أن هذا النص ليس مقدسا، ولكنه جاء ضمن كتابات المجموعة المتدينة التي كتبت مخطوطات البحر الميت، ويعكس أثر التعاليم الدينية التي كانت سائدة في تلك الفترة.
والنص هو على ما يلي:(1/174)
... An oppression will come to the earth ... a great massacre in the provinces ... the king of Assyria [and E]gypt ... he will be great on earth ... will make and all will serve ... he will be called ( or: call himself ) [gran]d ... and by his name he will be designated (or: designate himself ). II The son of God he will be proclaimed (or: proclaim himself ) and the son of the Most High they will call him. Like the sparks of the vision, so will be their kingdom. They will reign for years on the earth and they will trample all. People will trample people (cf. Dan. vii, 23) and one province another province vacat until the people of God will arise and all will rest from the sword. Their (the people of God’s) kingdom will be an eternal kingdom (cf. Dan. ii, 27) and all their path will be in truth. They will jud[ge] the earth in truth and all will make peace. The sword will cease from the earth, and all the provinces will pay homage to them. The Great God (cf. Dan. ii, 45) is their helper. He will wage war for them. He will give peoples into their hands and all of them (the peoples) He will cast before them (the people of God). Their dominion will be an eternal dominion (Dan. vii, 14) and all the boundaries of ...
ويمكن ترجمة القطعة أعلاه، وبها أجزاء غير متصلة، كما يلي:(1/175)
" وبابن العلي سينادى، وكمثل الشرر رؤية ستكون مملكته، سيحكمون لسنوات بالأرض، وسيدوسون الناس على الناس، وتقوم الولايات على الولايات حتى يقوم شعب الله وعندها يرتاح الجميع من السيوف، هنالك فإنّ ( شعب) مملكة الله أبدية، وسيكون طريقهم الحق، وسيحكمون الأرض بالحق، ويصنعون سلاما للجميع، ويتوقف السيف ( أي استخدامه بالأرض)، وتبايعهم كل المقاطعات ( أو تدفع لهم المال)، والله العظيم هو عونهم، وهوالذي سيشعل لهم الحروب، ويأتي بالناس الى أيديهم، ويلقي بالناس أمامهم، وسيطرتهم ستكون أبدية وكل حدود الـ .."
التعليق:(1/176)
فأهل المخطوطات في الفترة التي سبقت مذابح الرومان عام 70م، كانوا منتظرين مجيء مملكة الله التي ستنعم الأمم في ظلها بالسلام، وينصر الله أبناءها على أعدائهم في حروب دينية مؤيدة بتأييد الله عزوجل.. كانوا منتظرين قدوم هذه المملكة من بعد فترة اضطهاد وحروب بين الأمم المتصارعة.. تتخللها فترة ملك يدّعي الإلوهية يُبدو أنه نفس الشخص الذي تنبأ به دانيال بأنه سيتكلم ضد الله العلي، والذي سبق من قبل إثبات أنه قسطنطين بلا شك.. وهو كذلك قد ادعي الإلوهية وأنه تجسيد لذات الإله.. وقد ظهر قبله ضمن المملكة الرابعة ( دولة الرومان) كذلك أغسطس الذي ادعى الإلوهية، وطلب من الناس أن يقروا له بها، وكان مجيء المسيح عيسى عليه السلام في فترة مباشرة لإنقضاء حكمه، إلا أن المسيح لم يُقم مملكة الله ولم يُحقق نصرا عسكريا على الكفار.. وفي النص إشارة الى قيام ممالك ( محلية) متعاقبة حتى قيام مملكة الله وهو متفق مع ما ورد عن أنّ المسيح عليه السلام قد أشار الى ذلك بنص مماثل تماما، وهو ما تمّ فعلا حتى قيام الإسلام.. وفي النص تناقض بيّن من حيث الحديث عن إرتفاع السيف عن الأرض وعدم الحاجة إليه، ثم الحديث عن خضوع الأمم وإنشاء الله تعالى للحروب من " شعبه " ضد الكفار.. ولعل الأمر يعني فترة إقامة مملكة الله فتلك فترة ستتخللها حروب لإقامة مملكة الله، ثمّ بعد ذلك يحلّ الأمان بالمناطق المفتوحة.. وهو ما حدث حقا بالتاريخ، ولا ينقصه قيام حروب أهلية ببعض المناطق، فقد كانت محدودة وغير شاملة، ومحصورة بين طبقات الملوك المتنازعين، ومع هذا فهناك مبالغة من اليهود معتادة في تصوير السلام تحت ظل مملكة الله، مع أنها مملكة أرضية على بشر لم يتجاوزوا ضعفهم البشري كما سنفصل في مواضع أخرى ..(1/177)
ولا يخفى على القاريء قوة التوافق بين هذه النبوة والتعاليم المنسوبة بالأناجيل للمسيح عليه السلام، وبالعهد القديم والكتابات الملحقة عن مملكة الله القادمة، وعن الأحداث السابقة عليها خلال فترة من الزمان عصيبة حتى مجيء الفرج بقيام مملكة الله.. وفي الواقع فإنّ بشارة الأسابيع لإينوخ قد تحدثت عن ظهور المختارين بكلام مماثل تماماً بما فيه إنتشار الأمن في عهدهم، وارتفاع السيف.. مما يعني أنّ شعب الله هنا هم نفس المختارين ببشارة الأسابيع، وسيأتي إثبات أنهم كانوا المسلمين، وعلى القاريء مراجعة تلك البشارة.
الفصل الثالث
التبشير بمجيء المختارين والإخبار بزمن ظهورهم
” ثمّ أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، ذلك هو الفضل الكبير"
فاطر الآية 32
” كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله، ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم، منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون“
آل عمران الآية 110
أخبر الأنبياء إدريس وداود وإشعياء وعيسى وآخرين عليهم السلام أخبروا بمجيء المختارين أو المصطفين بآخر الزمان، وبأنهم سيأتون من أبناء إبراهيم أصلا، ثم ينتصرون على الأمم التي ستدخل في دينهم، وأنهم أتباع المصطفى خاتم الأنبياء المنتظر، وأنهم سيحملون اسما جديدا، ويكون لهم بيتٌ لله جديد.. وسيرى القاريء في النبوات بهذا الفصل وفصول تالية تفاصيل ذلك، وكيف أنّ ذلك كله قد تحقق كاملا بمجيء الإسلام.. ومن خلاله وصف المسلمون بأنهم المصطفون أو المختارون .. فكان في ذلك تصديق لأخبار الأنبياء من قبل وإعلان بتحقق بشاراتهم من خلال المسلمين
تبشير المسيح عليه السلام بمجيء المختارين ومملكة الله بعد فترة عصيبة من بعد تخريب الروم للقدس وتشريدهم اليهود
النصوص مذكورة خلال التعليق:(1/178)
رأينا درجة اهتمام المسيح عليه السلام بالتبشير بمملكة الله القادمة من بعده.. وكيف ذكر أنّ التبشير بقدومها هو الغاية من إرساله ( 1).. وأنّها قادمة من أمة أخرى من غير اليهود ( 2)، وأنّه هو آخر الأنبياء إلى بني إسرائيل ( 2)، وأن على الناس الدعاء بالتعجيل بقدومها (3).. ورأينا كيف كان ذلك التبشير هو همه الأول ، فما ترك قرية ولا مدينة بـ"اليهودية" إلا وزارها أو أرسل إليها تلاميذه (5) يبشرون أبناءها بأن مملكة الله التي أخبر عنها الأنبياء من قبلُ قد أصبحت وشيكة.. وكيف حرص على ضرب الأمثلة الذكية عن مملكة الله ليعقلها العالمون، وليفوّت على الجاحدين في زمانه ( ومن بعده) مرامه منها فلا يسهل عليهم مؤاخذته أو إزالتها، ولا يلتفت من بعده أهل الضلال فيزيلوها..
واخبرهم المسيح عليه السلام بأنّه وإن كان قد جاء بشيراً بالبشرى ( الإنجيل أو الإخبارة الطيبة ) بقدوم مملكة الله.. إلا أنه جاء كذلك نذيراً بالسيف والعذاب الذي كتب على بني إسرائيل (6 ).. وأن جيله المعاصر له سيشهد هذا العذاب، وأن على المؤمنين إذا رأوا الجيوش ( ومتى رأيتم أورشليم محاطة بجيوش _ لوقا 21: 20 ) قادمة لحصار أورشليم أن يخرجوا منها، بل ومن كل اليهودية، وأنّ عليهم أن يدعوا الله ألا يكون حصارهم في يوم سبت ( إذ لا يجوز لهم السفر به) ولا في الشتاء ( لشدة برد البراري والجبال التي أمرهم بالفرار إليها).. وأخبرهم ومن قبله يحي عليه السلام ( 7) بأنّ العذاب واقع لا محالة ولا سبيل لمقاومته أو لصدّه .. وما على المؤمنين إلا تجنبه بالفرار منه ..(1/179)
وذكر المسيح عليه السلام بأنّ العذاب القادم على اليهود سيكون شديداً، لم يسبقه ما يماثله.. وأنه سـ"يكون حينئذ ضيق عظيم لم يكن مثله منذ ابتداء العالم إلى الآن ولن يكون" ( متى 24: 21) وأن دمار الهيكل سيكون تاماً ( متى 24: 2) (8).. وأنه من بعد ذلك ستكون هناك فترة عصيبة على المؤمنين.. بها حروب ومجاعات وأوبئة، وتضييق على المؤمنين واضطهاد.. وأن عليهم الصبر والثبات " ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص، ويكرز ببشارة الملكوت هذه في كل المسكونة شهادة لجميع الأمم، ثم يأتي المنتهى" فعليهم الصبر حتى يأتي الفرج بمجيء المختارين وقيام مملكة الله.. وعسى أن يقصر تلك الأزمنة العصيبة ويعجل بمجئ هذا الفرج "ولو لم تُقصر تلك الأيام لما نجا أحد من البشر ولكن من أجل المختارين ستقصر تلك الأيام" .. ولما جاء فرج المؤمنين بعد ذلك بالإسلام نزلت الآيات الكريمة تبشر الذين صبروا من أهل الكتاب بمضاعفة الثواب.. قال تعالى: " الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون. وإذا يُتلى عليهم قالوا آمنا به، إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين. أولئك يُؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم يُنفقون" القصص: 52- 54.
التحذير من الأنبياء الكذبة:(1/180)
واخبرهم المسيح عليه السلام بأنّه سيظهر من بعده أنبياء كذبة حذّر منهم فيما نقل عنه في "إنجيل متى" حذّر منهم مرتين قبل وبعد ذكره لخراب القدس مما يُوحي بظهور هؤلاء الكذبة قبل وبعد خراب القدس، كما أثبت مثل ذلك التأريخ المدون.. كما سنرى.. وأخبر بأن هؤلاء الكذبة سيضلون الناس.. وأن منهم من سيأتي للناس فيتكلم باسم المسيح عليه السلام، أو يدّعي كل واحد منهم أنه المسيا ( المسيح) المنتظر " سيأتون باسمي قائلين أنا هو المسيح".. وأعاد تحذيره منهم بعد حديثه عن خراب القدس.. وأن على المؤمنين بأن لا يصدقوهم وألا ينساقوا وراء ما يظهرونه من معجزات ولو بدت عظيمة.. وألا يصدقوا بظهور المسيا عند سماع الإشاعات بظهوره، فإنّ المسيا الحقّ سيكون ظهوره أمراً ظاهرا بيناً، يمتد من المشرق إلى المغرب (9)، ويجتمع عليه الناس كما تجتمع النسور على الجثة ( متى 24: 22- 28).. وتناقل التحذير من المُضلين الدجالين النصارى جميعا على اختلاف مذاهبهم ( يُرجى مراجعة أمثلة منها ضمن التعليق على رؤيا الأسابيع)..
وكذلك جاءت الأحداث من بعد المسيح عليه السلام تماماً كما أخبر عنها.. فظهر الأنبياء الكذبة من بعده، وأضلوا الناس عن التعاليم التي جاء بها.. بل وأنشأوا ديناً جديداً مخالفا لتعاليم المسيح عليه السلام، باسمه أنشأوه ونشروه رغم مخالفة تلاميذه المخلصين لذلك، وزعم هؤلاء لأنفسهم تلقي الوحي المباشر منه، وأن لهم وحدهم حقّ الحديث باسمه.. وكان بولس أول هؤلاء المتهمون بالكذب على المسيح عليه السلام كما أعلن ذلك أتباع المسيح الذين عرفوه في حياته والذين عرفوا باسم النصارى Nazarenes تاريخيا.. فعلى الرغم من أنّ مؤلفات النصارى اليهود Nazarenes قد طمست وضُيّعت، فإن هناك عدد بسيط بقي من أجزاء من بعض الرسائل المنسوبة إليهم يتضح منها اعتبارهم لبولس نبياً كاذباً.. هذا إضافة الى إتضاح موقفهم كذلك مما كتبه عنهم أعداؤهم والمؤرخون من غيرهم ..(1/181)
والنصارى اليهود Nazarenes هم أتباع المسيح بفلسطين، وقد كان كل أتباعه في عهده يهوداً، وهم أتباع يعقوب James ابن خالة المسيح ( يرى البعض أنه أخو المسيح (10)) الذي عين إماما أو قائدا للنصارى من بعد المسيح عليه السلام مباشرة، بل وأصبح إماما لكل اليهود من بعد عيسى، فكانت أقدس بقعة في قلب الهيكل Holy of the Holies ( لعلها تقابل داخل الكعبة) – وذلك كما نقل إيسنمان وغيره عن مؤرخي القرون المسيحية الأولى ( يعقوب أخو عيسى ص 311و312) فكان هذا المكان المقدس جدا لا يسمح لأحد بدخوله غير يعقوب البار مرة كل عام، مما يدل على مكانته الفريده بين اليهود وعلى ظهور أمر النصارى من بعد عيسى عليه السلام بين اليهود، وهم – أي النصارى أو الناصريين - أتباع بقية تلامذة المسيح وحوارييه، وأتباع ما عرف فيما بعد بكنيسة القدس.. فهم المدرسة الأصيلة التي تلقت عن المسيح مباشرة، وهم أولى الناس بالحديث عن المسيح ودعوته.. وإن كانت المدرسة المسيحية التي اتبعت بولس سعت الى تجاهل يعقوب وتجاوزه الى حد بعيد، كما بين ذلك الباحث إيسنمان في كتابه الضخم عن " يعقوب أخو المسيح" .. وهو مما يشير الى افتراق خط المسيحية المعاصرة عن تعاليم المسيح والأئمة الأوائل من بعده منذ عهد مبكر من بعد المسيح عليه السلام..(1/182)
تذكر هيام ماكوبي Hyam Maccoby (11) أن الكتابات المسماة Psuedo-Clementine هي في الرأي الأرجح للباحثين من كتابات الناصريين Nazarenes في القرن الثاني الميلادي، وفيها : " تمسك شديد بالتوراة وهجوم شديد على من نسَب إلى الحواري بطرس نظرة مخالفة للتوراة (12)، واتهام لشخصية سميت سمعان ماقص يعتقد الباحثين أنها تكنية لبولس بأنه النبي الكذّاب، وأنه نشر الأكاذيب عن بطرس، وأنه لا يعرف شيئاً عن التعاليم الصحيحه للمسيح عيسى "عليه السلام" لأنه لم يقابل المسيح قط في حياته، وأن كل أفكاره عن المسيح مبنية على أحلام مرضية (13).." ويستشهد المؤلف أعلاه باستشهادات أخرى لتوضيح رأي الناصريين عن بولس، ومن ذلك ما ذكره عنهم المؤرخ اليهودي ايبفانيوس في القرن الثاني حين كتب : " انهم أظهروا أنه يوناني .. وأنه ذهب الى أورشليم – حسب قولهم- فأمضى وقتا بها، وتعلق قلبه بغرام بنت الكاهن ( لعله جاملائيل الذي ذكره بأعمال الرسل 22: 3 كأستاذه)، ولأجل ذلك اعتنق اليهودية واختتن. ثم إنه فشل في الحصول على الفتاة، فانفجر غضبه وكتب ضد الختان والتوراة والسبت..". ويذكر مؤلفوا كتاب The Messianic Legacy (14) من مصادر قديمة أخرى أن الناصريين " رفضوا رسائل بولس وسموه بالمرتد عن الشريعة..(1/183)
" وينقل المؤلفون كذلك تسمية الناصريين لبولس بأنه النبي الكذاب ودفاعهم عن بطرس وأنه لم يستجب لأفكار بولس، وينقلون تحذيرهم للنصارى من اتباع أحد غير علماءهم الناصريين، وينقل المؤلفون عن وثيقة أخرى وجدت في مكتبة استانبول إيمان الناصريين بالمسيح كرجل لا إله، والتزامهم بتعاليم التوراة واعتبارهم أتباع بولس بأنهم تركوا دين المسيح واتبعوا عقائد الرومان "، ويذكر فريز صموئيل في كتابه عن انجيل برنابا ( 1998، ص 31) مثل ذلك عن النصارى اليهود ( الأيوبنيين) فذكر أن القس إيريناؤس قال عنهم " إنهم يستخدمون الإنجيل بحسب متى وحده وينكرون الرسول بولس ويعتبرونه المرتد عن الشريعة"، ولكن المؤلف نفسه نقل عن ايوسابيوس ( سبقت الإشارة على دوره في تمجيد قسطنطين) أن الإنجيل الذي اعتمدوا عليه كان الإنجيل بحسب العبرانيين، ونقل عن المصدرين السابقين التزام الأبيونيين بالتوراة والسبت وإيمانهم بالمسيح كبشر، وبأن الخلاص يقوم على إقامة شريعة موسى لا على الإيمان بالمسيح وحده، ويذكر مؤلفوا كتابThe Hiram Key ( سبقت الإشارة اليه) أن جماعة الناصريين هم أحفاد يعقوب خليفة المسيح الأول وأنهم آمنوا بالمسيح كمعلم عظيم وكانسان فان، لاإله، وأنهم ظلوا ينظرون لانفسهم كيهود، و" أنهم كرهوا بولس واعتبروه عدو الحق" ، ومن الألقاب التي أطلقها النصارى اليهود على بولس وذكرها إيسنمان في كتابه يعقوب أخو عيسى (1996، ص 146) : " الكذاب و الذي يكذب" " رجل الأحلام" و" العدو".(1/184)
ومن هنا نرى أن أول الأنبياء الكذبة الذين حذّر منهم المسيح (15) - على الأقل من وجهة نظر " أتباعه الحقيقيين"- تسمية أطلقتها الكاتبة هيام ماكوبي هو في الواقع بولس الذي اتخذ لنفسه هذا الأسم عندما تنصّر وكان قد تسمّى بشاول ( ربما عندما تهوّد) ولا نعلم إن كان له اسما يونانيا قبل ذلك.. فادّعى لنفسه تلقي الوحي من المسيح عليه السلام مباشرة _ بعد أن ألهّه_ وتكلم باسم المسيح متجاوزاً ومناوئاً لتلاميذه الذين عاشوا معه وعرفوه.. ووقع تماماً ما حذّر منه المسيح عليه السلام.. فغيّر بولس دين المسيح (16) وألغى الألتزام بالتوراة والسبت والختان، وألغى ضرورة العمل الصالح لدخول الجنة، وجعل الأمر كله متوقف على الإيمان بالمسيح كربّ ضحى بنفسه تكفيرا عن خطايا البشر.. وانتحل بذلك عقائد الأمم الوثنية وأدخلها بالمسيحية، كما أظهر ذلك عدد كبير من الكتاب والباحثين لا مجال هنا لسرد شواهدهم الكثيرة، وتنكر بذلك للحنيفية والتوحيد الذي جاء به الأنبياء جميعاً، حتى رأى الباحثون في الماضي والحاضر أنه "رمّن النصرانية –المسيحية- ولم ينصر الرومان" (17) أي حول النصرانية الى عقائد الرومان ولم يحول الرومان الى النصرانية.. وأضل بذلك العباد، ووقع ما حذّر منه المسيح، واستحق أتباع المسيحية اليوم التسمية القرآنية لهم بـ" الضالين".. وظهر لأصحاب الألباب سرّ قول المسيح المنقول عنه بالأناجيل الحالية المحرفة :" كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يارب ياربّ أليس باسمك تنبأنا وباسمك أخرجنا الشياطين وباسمك صنعنا قوات كثيرة. فحينئذ أصرّح لهم لإني لم أعرفكم قطّ. اذهبوا عني يا فاعلي الاثم" متى 7: 22 – 23.. وقوله ويفهم من القرآن الكريم كذلك حدوث مثل هذا التبرأ من المسيح ممن ادعوا إتباعه ثم عبدوه.. فهلا يتبع مسيحيوا اليوم نصح المسيح عليه السلام..(1/185)
وهلا يتبعوا مدرسة أصحابه الذين عرفوه وعاشوا معه وثبتوا على تعاليمه من بعده فلم يبدلوها أو يحرفوها، فهم أولى بالإتباع من بولس الذي لم يعرف المسيح في حياته إلا عدوا، والذي بدّل كل تعاليمه من بعده، ونسب إليه عقيدة ما كان ليرضاها.. لقد حق للعاقلين أن يعتبروا بولس واحداً ممن حذر المسيح عليه السلام من اتباعهم.. وعلى القاريء مراجعة الفصل الخاص بالحديث عن بولس بملاحق هذا الكتاب..
وقوع العذاب الشديد الموعود..
"..فأمّا الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة"(1/186)
وتتواصل الأحداث كما أخبر المسيح فيظهر نبيان كاذبان بين اليهود يزعم كل منهما أنه المسيا المنتظر ... ويتبعهما الناس.. وتتأجج الثورة ضد الروم في الأعوام 63 –70م .. وينتظر الناس الفرج الموعود بقيام مملكة الله على يد المسيا وهلاك الروم.. ولم لا فهذه هي المملكة الرابعة ( مملكة الروم) ليس بعدها إلا مملكة الله كما أخبر دانيال.. وتتأجج العواطف.. ويلتهب الحماس فإن وعد الله قد أصبح وشيك التحقق ويتحمس الناس ( اليهود) لقتال الروم.. ولكن ليكن في ذلك هلاكهم.. فانهم عصوا رسل الله اللذين أخبروهم ( كيحي وعيسى وغيرهم من قبلهم) بهلاك اورشليم المحقق.. وبأن مملكة الله القادمة بعد الروم ليست قادمة إلا من أمة أخرى.. وأن عليهم عدم مواجهة الروم بل الفرار منهم.. كتب المؤرخ جوسيفياس في كتابه " الحرب اليهودية الكبرى" ( التي عاصرها كما سنذكر ذلك): " أنّ أهم ما دفع الناس للثورة ضد الرومان هو نبؤة غامضة بكتابهم المقدس بأنّ واحدا من رجالهم سيحكم العالم كاملا".. إنها النبؤات بمملكة الله القادمة التي حرف فهمها اليهود، وجعلها " الغيوريون" مادة لدفع الناس وتحميسهم، واستغلها الدجالون فتسببوا في هلاك قومهم كما سنفصل أدناه.. وفي هذا السياق أستشهد أيضا بالعبارة الواردة بمخطوطات البحر الميت والتي استشهد بها ايسنمان ( الباحث المشهور في مخطوطات البحر الميت) عند التعليق على المحاولات المسيانية ( أي المحاولات لإقامة دولة المسيا المنتظر) المتكررة (18) من أن الكاهن سيمون تنبأ لليهود في كتاب المكابيين الأول 14: 41 وهو من ضمن الكتب المسماة بابوكريفا ويقدسها الكاثوليك، تنبأ لهم بأنه " ولن يتوقف رجال العنف من محاولة أخذ مملكة السماء ( أي مملكة الله) بالقوة" طمعاً أن يأتيهم نبي.. فتلك في الواقع كانت مشكلتهم إصرارهم أن مملكة الله القادمة هي فيهم، وتكذيبهم لمن خالفهم من الأنبياء في ذلك..(1/187)
ويلاحظ هنا أنّ أهل مخطوطات البحر الميت تواصوا على عدم مشاركة الأشرار ( وهو اصطلاح يقصدون به بقية اليهود) في أي مقاومة حتى يأتي يوم العقاب ( الرقعة 1Q S 10: 117-119 ).. وهو يوم عقاب استئصال الأشرار من الأرض المباركة الذي تحدثت عنه المزامير وكتب الأنبياء ..
فهلك اليهود رغم استبسالهم في قتال الروم الوثنيين , هلكوا لأنهم عصوا الله وكفروا برسله لمّا أخبروهم بأن المسيا ومملكة الله سيكونا من أمة أخرى.. وما ذلك إلا لتعطيلهم الشريعة وتمردهم على الأنبياء.. هلكوا لأنهم اتبعوا أنبياء كذبة أرضوا طموحهم بالقول ببقاء النبوة ومملكة الله فيهم.. فكأنهم كأهل اليمامة من اتباع مسيلمة الكذاب اللذين قاتلوا عن مسيلمة قتال الأبطال وقالوا " نبي كاذب منَا خير من نبي صادق من غيرنا " (19) فأهلكهم الله جميعاُ.. لقد جهل عامة اليهود كتاب الله وتعاليمه، وتمنّوا على الله الأماني، قال تعالى بالقرآن الحكيم " ومنهم – أي من اليهود- أميّون لا يعلمون الكتاب إلا أمانيّ، وإن هم إلا يظنون" البقرة 78، وغُرس بعقولهم " نحن أبناء الله وأحباؤه" المائدة 18، وأنّ الله سيبعث إليهم المصطفى المختار ( المسيح أو المسيا) فينتقم لهم من الأمم التي استعبدتهم، ويحكمون به الأرض قاطبة.. تلك أمنية زيّنها لهم علماؤهم، فأهلكوا بها أمتهم..
..(1/188)
لقد وقع على اليهود عذاباُ لا يتخيله أحد .. وذلك أنهم ثاروا على القائد الروماني Gessius Florus وعلى الحُكم الروماني في الفترة بين عامي 64 – 66 م توقعاً منهم بقرب زوال وانهيار الحكم الروماني (20) وهو فهم له جذوره من النبوات المتعلقه بقيام مملكة الله.. فقامت القيادة الرومانية عام 67م بتعيين فسبيان Vespian الذي قضى على مجموعة من جيوب المقاومة حتى عام 70م، حين عُيِّن هو نفسه امبراطورا، فاستخلف ابنه تيطسTitus الذي ضرب الحصار على أورشليم في فبراير عام 70م بشكل مفاجيء في وقت اجتمع بالقدس أثناءه عدة ملايين من اليهود جاءوا للاحتفال بعيد العبورPassover .. وكان قد فر منها المؤمنون النصارى من اليهود ( النصارى) بقيادة سمعان Simeon ابن خالة المسيح عليه السلام، وبقي بها عامة اليهود ومن تحمس لقتال الروم متوقعا قرب قيام مملكة الله وانهيار دولة الروم.. وضرب الروم الحصار على القدس وهي مكتظة بالملايين التي قدمتها للإحتفال بالعيد (21).. وامتد الحصار وطال.. وجاع الناس.. وهلكوا.. وتساقطوا أمواتاً.. حتى عجزوا عن دفن بعضهم البعض.. فقد بلغ الوهن بهم أن يتساقطوا موتى اثناء الدفن.. وملئت البيوت بالجثث.. وأخرج الكثير منها من ابواب المدينة.. وقد ذكر جوسيفاسJosephus (22) في كتابه: الثورة اليهودية الكبرى: حصار وتدمير القدس وهو مؤرخ يهودي عاش أحداث الحصار أن الوديان المحيطة بأورشليم امتلأت بالجثث، وأن تيطس لما رأها في إحدى جولاته حول المدينة رفع يديه الى السماء يعلن أنه لم يكن يخطط لمثل هذا، وأن عدد جثث الموتى التي أحصاها أحد الجنود الرومان أخرجت من الباب الذي كان يراقبه – بأمر القائد الروماني – أن عدد هذه الجثث بلغ مائة وخمسة عشر ألفا وثمانمائة وثمانون جثة أخرجت من المدينة من باب هذا الجندي في الفترة من نيسان الى تموز عام 70م... وأحصى الروم ما يزيد على ستمائة ألف جثة أخرجت من أبواب المدينة مجتمعة..(1/189)
كلهم ماتوا جوعاً، وهم غير من هلك جوعاً داخل المدينة ولم تخرج جثثهم.. وامتلأت بهم البيوت.. فقد كانوا يكوِّمون الجثث داخل البيوت الكبيرة حتى تمتليء فيغلقون عليها الأبواب.. ويكوِّمونها في أكوام بل وجبال من الجثث داخل المدينة وأمام أبوابها.. واشتد الضعف والهلاك بالناس حتى كانوا يتساقطون موتى وهم يحاولون دفن موتاهم.. بل منهم من لبس أكفانه قبل موته استعدادا للموت المشاهد كما يذكر جوسيفاس، وانقطع عن الناس النحيب على الأموات أو الحداد عليهم، إنهم كانوا ينظرون إلى موتاهم بعيون جافة وأفواه فاغرة يرونهم ارتاحوا قبلهم كما وصفهم جوسيفاس، وأشتد الوضع على الناس حتى أكلوا من الزبائل والمجاري وفضلات الحيوانات.. بل أكلوا الأموات.. وذكر المؤرخ اليهودي قصة أم طبخت ابنها وأكلت نصفه وقدمت نصفه لغيرها.. وذكر جوسيفاس مثلا آخر من شدة البلاء الذي وقع على اليهود أن الذين تمكنوا من الهرب، كانوا يأتون الأعراب والسوريين ( يقصد من غير الجيش الروماني) متضرعين فيبقروا هؤلاء الأعراب بطونهم بحثا عن الذهب، فقد اكتشف هؤلاء أن اليهود كانوا يبلعون قطع ذهبهم قبل هروبهم ليهربوها معهم، وذكر الكاتب أنّ الفين من هؤلاء الهاربين بقرت بطونهم في ليلة واحدة بحثاًعن الذهب.. ويعلّق جوسيفاس أن الأمر في الواقع - أو في حقيقته - إنما هو أنّ الله قد مقت هذه الأمة كلها، وقلب كل صنيع وحيلة تقوم بها لإنقاذ نفسها هلاكاً ووبالاً عليها كما هو الحال في محاولة تهريب الذهب.. واستمرت الحرب ودخل الروم أخيراً المدينة والهيكل.. وقذفوا الهيكل ودمروه بالحجارة وكرات النار حتى اشتعل البيت المقدس في حريق شامل كبير، شمل الجبل الذي عليه الهيكل كله، حتى حسبه كل من رأه حريقا شاملا للمدينة كلها .. وأصيب اليهود باليأس والخذلان لما رأوا البيت محترقا..(1/190)
وذبح الروم كل من وقعت أيديهم عليه، دون تمييز لأطفال أو مسنين أو نساء كما نقل جوسيفاس، حتى تغطت الأرض تماما بالجثث، ومشى الناس والجنود على أكوام الجثث، وكان المذبوحين أكثر عددا ممن ذبحهم .. وقتل الروم -كما يحصي الكاتب اليهودي- مليوناّ ومائة ألف، وأسروا سبعة وتسعين ألفا أكثرهم من غير أهل القدس كانوا قد قدموها للأحتفال بالعيد بها.. وأخذوا كل من تجاوز السابعة عشر عبداً للعمل بالمناجم أو ليتسلى عليه الروم في مسارحهم وهو يصارع بشراً أو وحوشاً حتى الموت.. وأحرق الروم الهيكل ودمّروه تماماً حتى ما ترك منه "حجر على حجر " غير جانب من جدار.. ودمرت المدينة تماماً غير بيوت محدودة في أحد جوانبها.. ووقع العذاب على اليهود بأشد ما يمكن أن يصله عذاب.. عذاب لم يحدث من قبله مثله، تماماً كما أنذرهم الأنبياء الكرام كالمسيح ويحي واشعياء وغيرهم ... .وبنفس تفاصيله الدقيقة التي بيّنوها..(1/191)
ولم يتعلم اليهود ولم يتوبوا.. فها قد تحقق فيهم وعد الله بالعذاب والطرد والتشريد بين الأمم.. لم يتوبوا فيتبعوا الأنبياء الحق.. بل ظلوا كافرين برسل الله كالمسيح ويحي.. بل قتلوا بعدهما -عام 62م- ابن خالة المسيح عليه السلام وخليفته الأول يعقوب، الرجل المشهور بلقب العادل والصديق، الرجل الذي كتب عن تقواه وصلاحه من غير المصادر المسيحية ما لم يكتب مثله عن المسيح عليه السلام نفسه (23 )، الرجل الإمام في حياته لكل اليهود ! ألقوه من عل أو ضربوه بعصى على رأسه، ثم رموه بالحجارة – وهو يدعو لهم بالمغفرة والهداية وهم يقتلونه رميا بالحجارة- حتى استشهد رحمه الله (24).. ولو جاءهم أنبياء من بعد المسيح عليه السلام لصنعوا بهم ما أرادوه ( من القتل) بالمسيح عليه السلام.. واتبع اليهود كلًّ نبي كاذب يشبع غرورهم، وأطماعهم بأحقيتهم بمملكة الله وبأن المسيا سيكون منهم من ابناء داوود.. وذلك من تحريفهم للتوراة وكتب الأنبياء .. وهو التحريف الذي فضحه المسيح وإرمياء وغيرهم عليهم السلام.. وهو التحريف الذي دفعت الأمة اليهودية ثمنه ثمناً باهظاً.. فأصرت على مخالفة الأنبياء والأحتجاج على الله عز وجلّ أن يختار لدينه أمة غيرها.. ومكرت أمة اليهود فمكر الله بها والله خير الماكرين .. " يا حسرة على العباد " لو اتبعوا أنبياءهم لكانوا ضمن مملكة الله والأمة المختارة ..(1/192)
لم يتعلم اليهود ولم يتوبوا، فرغم العذاب الذي وقع عليهم عام 70م، بعد أربعين سنة من مغادرة المسيح للأرض عام 30م، أعاد اليهود الخطأ نفسه، وثاروا على الروم يشجعهم نبي كاذب ادّعى أنه المسيا (المصطفى ) المنتظر.. اتبعوه، وقد أنذرهم المسيح ألا يتبعوا مثله، وأن ليس لهم نبي منهم من بعده.. اتبعوا سمعان باركوخبا Simon Barcochebas الذي عينه حاخامهم الأكبر أكيبا يوسف ملكا مسياً عليهم، ولقبه بابن النجم نسبة الى البشارة في سفر العدد 24:17- 18 (25) بالمسيا المنتظر كأنه نجم أو كوكب منير في آخر الزمان، وذلك هو معنى اسمه Bar Kochba وإن كان البعض يعتقد أن اسمه الأصلي غير ذلك،وهو Bar Kosiba (26).. وقام هذا الأخير بحرب عصابات أجبرت الفيلق العاشر الروماني على ترك القدس.. وطرَدَ غير اليهود من المدينة.. ورتب الصفوف وقسم الكتائب، وأحكم الترتيب، ثم ثار على الروم.. وثار معه اليهود يتوقعون النصر والمدد الالهي.. ولم لا فها قد ظهر المصطفى ( المسيا) المنتظر بينهم.. وجاء الروم بقائدهم جوليوس سيكتوس Sextus Julius فاستأصلوا اليهود حيثما وجدوهم، فهدموا خمسين حصنا وأبادوا 985 قرية وقتلوا خمسمائة وثمانين ألفاً من جنود اليهود المقاتلين، ولا يستطيع أحد أن يحصي الذين ماتوا جوعا أو حرقا أو مرضا من كثرتهم كما يروي ذلك المؤرخ ديو كاسيس Dio Cassiusوقُتل المسيا الكذاب.. وظهر لهم بذلك كذبه حتى سموه بابن الكذاب، وأكتمل بذلك الوعد بالطرد والتشريد.. فحرّم على من بقي من اليهود دخول أورشليم.. وجعل الإعدام عقوبة للمخالفين.. بل وحرمت عليهم فلسطين، وشردوا أذلة بين الأمم .. وأعطيت أورشليم اسما جديداً، فسميت أيليا كابيتوليناAelia Capitolina بدلا من اسمها اليهودي أورشليم (27)، وأعطيت سكانا غير سكانها اليهود.. وأسدل الستار على تأريخ اليهود بفلسطين (28) إلا من العودة – غير الربانية – وهي العودة المعاصرة التي سنتحدث عنها فيما بعد..(1/193)
وتمّ بذلك ما أخبر به المسيح عيسى وداود والأنبياء عليهم السلام تماما كما روي في انجيل متى وكتب الأنبياء.. ووقع خراب القدس والهيكل، ذلك الخراب الذي تنبأ دانيال بوقوعه في نهاية السبعين اسبوعا من السنين التي بقيت لبني اسرائيل من بعد عمارة القدس وأسوارها عام 445 قبل الميلاد، وهو الخراب الذي تحدث اصحاب مخطوطات البحر الميت بوقوعه أربعين سنة بعد قطع المعلم الفريد ( وقد كان بعد عيسى عليه السلام بأربعين سنة)، تم ذلك الهلاك باتباع اليهود لأنبياء كذبة وإهلاك الله لهم نتيجة ذلك (29).. وهو تماما ما توعّد به الأنبياءُ بني إسرائيل بوقوعه إذا استمروا في انحرافهم.. ففي إرميا 19: 7-9 ورد ما يعدّ وصفاً دقيقا لما حدث لليهود على أيدي الرومان ( وأجعل تدبير يهوذا وأورشليم في هذا المكان باطلاً، وأسقطهم بالسيف أمام أعدائهم وبأيدي طالبي نفوسهم، وأسلم جثثهم طعاماً لطيور السماء ولبهائم الأرض. وأجعل هذه المدينة خراباً وصفيراً، فكل من يمر بها يدهش ويصفر على جميع ضرباتها. وأطعمهم لحم بنيهم ولحم بناتهم، وكلّ منهم يأكل لحم صاحبه في الشدة والضيق التي يضايقهم بها أعداؤهم وطالبو نفوسهم).. تماماً كما ثبت في شهادة المعاينة مؤرخهم جوسيفاسJosephus.. وفي عاموس 8: 2-10: " قد أتت النهاية لشعبي اسرائيل، فلا أعود أعفوا عنه، فتصير أغاني القصر ولوالاً، في ذلك اليوم يقول السيد الرب وتكثر الجثث، وتلقى في كل مكان بصمت .. وأحوّل أعيادكم نوحاً وجميع أغانيكم مراثيَ، وأُصعد على الأحقاء مسحاً" وقد وقع العذاب وهم مجتمعون بيوم عيدهم فانقلب مناحة، ثمّ صاروا يبكون على أطلالهم في أعيادهم بحائط المبكى.. وألبسوا على أحقائهم لباس الذلّ الذي ميزهم على العصور.. وفي إرميا 9: 14-15 الوعد بالشتات والتعذيب والإذلال، وهو ما حدث فعلاً بعد ذلك.. ((1/194)
لذلك هكذا قال رب القوات، إله إسرائيل: هأنذا أطعم هذا الشعب مرارة وأسقيهم ماء سم، وأشتتهم في الأمم التي لم يعرفوها هم ولا آباؤهم، وأطلق في إثرهم السيف حتى أفنيهم).. وفي لاوي 26: 29 " وأضاعف عذابي سبع مرات أخرى وفقا لخطاياكم، فتأكلون لحم أبنائكم وبناتكم، وأدكّ مذابح مرتفعاتكم، وأحطّم أنصاب شموسكم، وأكوم جثثكم فوق بقايا أصنامكم وتنبذكم نفسي، وأحول مدنكم الى خرائب.."، وفي سفرمراثي إرميا 4: 9 - 10 " كان مصير ضحايا السيف أفضل من مصير ضحايا الجوع.. طهت أيدي الأمهات الحنايا أولادهن ليكونوا طعاما لهن في أثناء دمار ابنة شعبي.." .. وفي مراثي إرميا 2: 19- 20 :".. أطفالك المغشي عليهم من الجوع عند ناصية كل شارع.. أعلى النساء أن يأكلن ثمرة بطونهن، وأطفال حضانتهن".. وفي إشعيا 5: 24-25 " ..لأنهم نبذوا شريعة الله واستهانوا بكلمة قدوس إسرائيل لذلك احتدم غضب الربّ ضد شعبه، فمد يده عليهم وضربهم، فارتعشت الجبال، واصبحت جثث موتاهم كالقاذورات في الشوارع".. ومن الأناجيل المعترف بها ما رواه لوقا أن المسيح عليه السلام لمّا أمر أصحابه بالفرار من أورشليم إذا رأواها محاصرة – كما ذكرت من قبل- قال لهم " فإن هذه الأيام أيام انتقام يتمّ فيها كلّ ما قد كتب، ولكن الويل للحبالى والمرضعات في تلك الأيام، لأن ضيقة عظيمة سوف تقع على الأرض وغضبا شديدا سينزل بهذا الشعب، فيسقطون بحدّ السيف، ويُساقون أسرى الى جميع الأمم، وتبقى أورشليم تدوسها الأمم الى أن تكتمل أزمنة الأمم ( كأنما يشير الى أزمنة الممالك الأربع قبل مملكة الله).. وغني عن القول بأنّ كلّ ذلك قد تحقق عام 70م بحذافيره.
..(1/195)
هذا وقد نُبيء عيسى من الله عز وجلّ مباشرة قبيل رفعه إلى السماء بأنّ الذين كذبوه من بني إسرائيل، سيلقون من بعده العذاب الشديد بالدنيا والآخرة، وأنّ الله سيُظهر أمر الذين اتبعوه من بني إسرائيل على الذين كفروا به .. " إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، ثمّ إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون. فأمّا الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة، ومالهم من ناصرين" آل عمران آية55.. يقول القرطبي رحمه الله في تفسيره لهذه الآية : " فأمّا الذين كفروا: فأمّا الذين جحدوا نبوتك ياعيسى، وخالفوا ملتك وكذبوا بما جئتهم به من الحقّ وقالوا فيك بالباطل .. فإني أعذبهم عذابا شديداً، أمّا في الدنيا فبالقتل والسباء والذلة والمسكنة، وأما في الآخرة فبنار جهنم.."
... وتمّ طرد اليهود من الأرض ( المباركة) تماما كما كتب بالمزامير – سنستعرضه فيما بعد- وغيرها من كتب الأنبياء وأصبحت الأرض المباركة كما أشار المزمور تنتظر الأمة البديلة المباركة ..(1/196)
وكانت الفترة التاليه لخراب القدس هذا فترة عصيبة من الحروب واضطهاد المؤمنين على أيدي الروم الوثنيين في البداية.. ثم على أيدي الروم الذين تنصروا بمسيحية بولس.. فطارد هؤلاء المتنصرون من الروم طاردوا النصارى اليهود والموحدين.. ومضت أيام وأيام.. قصّرها الله كما روى متى عن المسيح عليه السلام.. وجاءت مملكة الله الوارثة للأرض المقدسة كما وعد الله عزوجلّ بالمزامير وكما بشّر بها الأنبياء الكرام.. فكانت رحمة للمؤمنين من بعد صبرهم وثباتهم، بل رحمةً للعالمين جميعا.. واختفى من حينها خبر النصارى من أتباع كنيسة القدس ..اختفى خبرهم كنصارى لإنضمامهم كمسلمين لمملكة الله التي كانوا ينتظرون.. فلما عرفوها ذرفت لذلك دموعهم مما عرفوا من الحق.. وصدق فيهم وأمثالهم قول الله عز وجل بالقرآن الكريم " الذين آتيناهم الكتاب – أي اليهود والنصارى - هم به يؤمنون، وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنّه الحقّ من ربنا، إنّا كنا من قبله مسلمين، أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون .." وقوله عزّ وجلّ: " ..مما عرفوا من الحق.." لقد ظهرت مملكة الله على يد المصطفى ( المسيا) الخاتم للنبوة .. الذي ذكره دانيال، وتم به ختم النبوة واختيار أفضل بقعة على الأرض ( بطبيعة الحال غير القدس التي كانت معلومة حينها) تماما كما تنبأ دانيال.. ظهرت المملكة ضعيفة ممثلة في فرد واحد مطارد.. أعلن نبوته للعالمين جميعا وهو لايكاد يستطيع أن يحمي نفسه.. فأقام دولة الأسلام من أضعف أمة، فأعطيت نصراً على الأمم، وأورثت الأرض من حولها توريثا من الله، وما كان لها أن تنتصر على الأمم لا بقوتها ولا بعتادها.. ولكن الله حقق وعده للمؤمنين.. وأتمّ للناس رحمته.. وحقق في دولة الاسلام بشارات المرسلين من قبل.. وأعطى الكتاب والدين لمختارين أو مصطفين، هم من كل الأجناس تماما كما بشر المسيح عليه السلام..(1/197)
قال الله عزّ وجل في كتابه العزيز عن المسلمين :" ثمّ أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، ذلك هو الفضل الكبير" فاطر 32.
خاطرة في دلالة عذاب الإستئصال :
يجتمع عددا من الملايين من المسلمين بالحرم المكي للتعبد لله خلال العشر الأواخر من رمضان من كل عام، ومثلهم يجتمعون كل عام بعرفات ومواقع الحج الأخرى.. وللمرء أن يتخيلّ ما سيكون تفسيره لو أنّ الله سلط عليهم أعداؤهم الكفار فأبادوا تلك الجموع عن بكرة أبيها، وأزالوا معالم الكعبة والحرم المكي حتى أصبح موقعها مجهولا، وحرموا على المسلمين دخول أرضهم المقدسة بمكة، وغيروا اسمها وسكانها، ولم يقم بعد ذلك للمسلمين حج ولا جمع للتعبد إلا من فئات قليلة كثيرا ما مرت على الأطلال عبر القرون مستخفية مستعبرة.. ألا يرى معي _ أخي القاريء- أن لو قام أحد فاستنتج أنّ مثل هذا العقاب على المسلمين يعني تخلي الله عنهم أنّ مثل هذا الإستنتاج معقول.. فكيف إذا كان هذا العقاب قد أُعلن على ألسنة الأنبياء منذ نشأة الأمة..أُعلن بكل تفاصيله من القتل والجوع والتشريد والإذلال، ومن هدم البيت وحرقه، وطرد أصحابه عن ألأرض المباركة.. بل وحدد زمن وقوع العذاب ( بأربعين عاما بعد ذهاب آخر الرسل إليهم).. بل وأعلن كما رأينا لبني إسرائيل أنه يعني تخلي الله عنهم، وأنّ مملكة الله التي تحتكم إلى شرعه ستظهر من أمة أخرى من غيرهم.. ووقع ذلك كله تماما بكل حذافيره.. وبشكل دقيق لا يكاد يُصدق.. لو أنّ كل ذلك قد وقع حقا على المسلمين حتى مرت عليهم القرون وراء القرون وليس لهم حج ولا قبلة ولا مكة ولا كعبة.. وقد ظهرت أمة من بعدهم تصدق برسولهم وتتبناه كما أخبرهم هو ( تجاوزا) بظهورها بديلا عنهم.. وقامت لها قبلة وكتاب وشريعة..(1/198)
فهل يُعقل بعد ذلك إلا أن نسلّم بأنّ أمر الله ووعيده بالتخلي عن الأمة إلا قد وقع! فهل يُقبل منّا بعد ذلك المكابرة والإصرار بأنّنا الأمة المختارة والشعب المصطفى الذي لن يُستبدل.. وحتى لو ساعدتنا الأمم الكافرة وجمعت شعبنا بعد ألفي عام إلى الأرض المباركة.. فإنّ ذلك لا يُغير شيئا.. فلا الكتاب اتبعنا ولا الشريعة أقمنا، ولا الإيمان نشرنا، بل عامة الأمة علمانية كافرة بالله والأنبياء، وهي أحقّ بعقاب الله من أجيالنا التي وقع عليها العقاب.. ولا شكّ بأنّ هذا جمع جديد ليقع عليه عقاب شديد جديد.. فقد أفسدت شراذم هذا الشعب في الأرض بين الشعوب التي تشتت بينها، ولم تأخذ العبرة مما يقع عليها، ولكأنّ عقاب استئصال جديد هو الأنسب لها بعد هذه القرون تماما كما أخبر بذلك الأنبياء في نصوص الكتاب التي مازال بعضها محفوظا..
وما ذكرته هنا إلا طرفا من الحقيقة.. لكنها تنطق بجرم المكابرين من بني إسرائيل.. وترينا لم استحقوا اللعنة والغضب الإلهي حتى يتوبوا إلى الله ويؤمنوا برسوله الذي جاء مصدقا لما بين أيديهم من الكتاب والشريعة..
ــــــــــــــــــ
هوامش فصل تبشير المسيح بالمختارين
(1) لوقا 4: 43
(2) متى 21 : 33-45
(3) لوقا 11: 3
(5)لوقا 8:1، 4: 43، متى10 :5،
(6) لوقا 12: 49 –52 ، وكذلك 13: 5 ومواضع أخرى كثيرة منذرة بالعذاب القادم من بعده عليه السلام.
(7) متى 3 : 7- 11
(8) ورد التحذير بهدم القدس عقاباً لعصيان اليهود مرارا في مواضع متعددة من التوراة، منها الوعد بحرث أرضية القدس وهدم كل ما عليها كما جاء في ميخا، 3: 12 " لذلك بسببكم ستُحرث صهيون كحقل وتصير أورشليم أطلالاً وجبل البيت مشارف غاب"
((1/199)
9) واضح أن المقصود من "البرق يخرج من المشارق ويظهر إلى المغارب، هكذا يجيء ابن الأنسان، لأنه حيثما تكن الجثة فهناك تجتمع النسور" واضح أن المقصود هنا ظهور أمر ابن الأنسان ( ابن آدم) وهو المسيا الذي سيقيم مملكة الله حيث ورد الاستعمال الخاص للفظ لأول مرة في دانيال اصحاح 7، وكان قد ورد استعمال لفظ "ابن الإنسان" في حزقيال (في مثل اصحاحات 3 و4 ) كمرادف للفظ " ابن آدم "، إلا أن المقصود هنا هو الإستعمال الخاص للفظ والذي يعني المصطفى ( المسيا) المنتظر، والذي ربما كان في الأصل اختصارا لـ" سيد ولد آدم" حتى يصبح لقبا خاصا بسيد البشر، والمقصود هو تحذير النصارى من اتباع أدعياء النبوة الكذبة، وتمييز المسيا (المصطفى) الحق عنهم بظهور أمره وقيام دولته وانتشار دينه من المشرق إلى المغرب.. وأما ما تبع هذه العبارة من القول بأن "تظلم الشمس، والقمر لا يعطي ضوءه والنجوم تسقط من السماء.." فإنها من إضافات كتبة الإنجيل ومتناقليه .. وهم مجهولون.. ومثلها قد تكرر في مواضع عديدة.. ويكفي التذكير بأن العبارة ذاتها قد اختتمت بأن كل هذه الأحداث الكونية سيشهدها جيل المسيح عليه السلام، وهو مالم يحدث ومالم يقله المسيح،فما كان المسيح عليه السلام ليقول إلا حقاً ، إلا إن كان قد قال هذا في موضع الحديث عن الآخرة، ويوم القيامة، وهو الغالب، لكنّ الأمر اختلط على من تناقله، كما اختلط عليه بما سيشهده جيل المسيح، فقد شهد جيله هدم القدس فعلا ولكنه لم يشهد الأحداث الكونية أعلاه ..ومن مثل هذا ما ذكروا بالاناجيل حدوثه عند مولد المسيح وعند حادثة الصلب ..فقد جاء في متى نفسه عند الصلب " وإذا حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين من فوق إلى اسفل، والأرض تزلزلت والصخور تشققت، والقبور تفتحت وقام كثير من أجساد القديسين الراقدين وخرجوا من القبور بعد قيامته ودخلوا المدينة المقدسة وظهروا لكثيرين..(1/200)
" متى27 : 51 –55 وأنه " فكانت ظلمة على الأرض كلها إلى الساعة التاسعة، وأظلمت الشمس، وانشق حجاب الهيكل من وسطه " فهي قطعاً أحداث لم تحدث عند حادثة الصلب، ولاذكرها أحد ٌمن المؤرخين أو الأتباع في كتاباتهم ، فننفي صحة المبالغة الملحقة بمجيء الإنسان كما ننفي صحتها عند الحديث عن حادثة الصلب
(10) ذكر روبرت أيسنمان Eisenman Robert في كتابه: James the brother of Jesus، طبعة 1996م، ص 844، إطلاعه علىمخطوطة قديمة واضح أصالتها تذكر أنّ مريم أم يعقوب هي مريم سالوم وهي زوجة زبدي وأخت مريم أم عيسى عليهما السلام، وهي نفس مريم زوجة كليوفاس.. ويؤيد هذا كثير من الباحثين، ومثل ذلك ذكر المؤلف وروده في الإنجيل المسمى بانجيل الطفولة.. وإن كان الكاتب ليعتبر أن هذه محاولة من الجيل الأول لإثبات عذارة مريم أم المسيح عليه السلام، والواقع أن هذا هو ما يتفق مع ما ورد بانجيل برنابا وهو ما يتفق مع الإنطباع العام بأن أم المسيح لم تتزوج.. وهو الفهم الأقرب لظاهر النص الذي ذكر مريم أم يعقوب في متى 27: 56 والنص في يوحنا 19 : 25الذي ذكر لأم عيسى أخت اسمها كذلك مريم ( زوجة كلوبا)..فكل هذا يؤكد أن مريم أم يعقوب هي غير مريم ام المسيح ( وإلا لكان الأولى تعريفها بأم المسيح لا بأم يعقوب في متى 27: 56) ..أي أنّ المسيح عليه السلام لم يكن له أخوة من أمه، وإنما كان له أبناء خالة منهم يعقوب رحمه الله، ولا يفوتني هنا الإشارة الى وجود طائفة أخرى من النصارى ذكرها المعلقون على انجيل الطفولة ( المصدر مذكور في الهامش ص) تعتقد أن يعقوب هو ابن يوسف النجار من أمهات قبل مريم عليها السلام، إذا سلمنا بأن مريم عليها السلام تزوجت يوسف النجار من بعد ولادتها بالمسيح عليه السلام.
(11) هيام ماكوبي Hyam Maccoby،
The Myth maker : Paul and the invention of Chrestiianity 1987: page 181.
((1/201)
12) كما هو الحال في بعض رسائل بولس ورسالة الأعمال التي كتبها أحد تلاميذه، ومن ذلك نسبة الرؤيا المشهورة بتحليل الخنزير والمأكولات المحرمة الى بطرس ، والتي يرى بعض الباحثين أنه منها براء، وإنما استغل اسمه لإضفاء شرعية مساندة على قضية الخروج على تعاليم التوراة.
(13) إشارة واضحة إلى الرؤيا الشهيرة التي أدعاها بولس،ودخل بها على أتباع المسيح..
(14) Michael Baigent, Richard Leigh & Henry Lincoln, in Messianic Legacy 1986 : pages135- 138.
(12) يلاحظ هنا أن النص للفقرة 14: 41 لم أجده بهذه الصيغة في النسخ المعاصرة من الكتاب المقدس
(15) انظر كذلك تحذيره من الأنبياء الكذبة في متى 7: 15 –20 إضافة الى المواضع من متى ولوقا التي تحدث عن الأحداث القادمة وهدم القدس ومجيء هؤلاء الأنبياء الكذبة. واضح للمسلمين أن نداء المسيح بياربّ من تحريف النص الأصيل للمسيح عليه السلام. وبراءة المسيح يوم القيامة من الذين ادّعوا اتباعه فعبدوه وقد نهاهم عن عبادة غير الله ، متبعين بذلك رأي المضلين، براءة المسيح من هؤلاء ثابتة كذلك في سورة المائدة (115 – 118) كتاب الله الأخير ( القرآن).
(16) تنقل هيام ماكوبي Hyam Maccoby في كتابها :
The Myth maker : Paul and the invention of Chrestiianity 1987: page 181
أن الناصريين في احدى رسائلهم اتهموا بولس بأن مسيحيته كانت رومنة Romanism ، "فبدلا من تحويل الرومان الى المسيحية حوّل المسيحية الى الرومان". وفي الواقع فإن رسائله شاهدة بذلك.
وتنقل هيام ماكوبي بالمصدر ( ص 206) أعلاه قول Julius Wellhausen بأن "عيسى لم يكن مسيحياً" بمفهوم المسيحيه المعاصرة.
((1/202)
17) العبارة أعلاه مأخوذة نصا من كتاب هيام ماكوبي المشار إليه من قبل، ومثل ذلك ما كتبه القاضي عبدالجبار الهمداني ( المتوفي سنة 415 هجرية) في كتابه تثبيت دلائل النبوة " .. لتعلم أن الروم ما تنصرت ولا أجابت المسيح، بل النصارى ترومت وارتدت عن دين المسيح وعطلت أصوله وفروعه وصارت الى ديانة أعدائه".
(18) The Dead sea scrolls and the first Christians, by Robert Eisenman, 1996, p.107
(19) وكذلك اعتبر اليهود عيسى عليه السلام نبياً من غيرهم وإن كان منهم، وذلك لأنه تنبأ لمصلحة أمة أخرى ستتحول اليها النبوة، ولقبوه في تلمودهم ببلعم ( الثاني) Balaam الذي كان متنبأ أو نبيا من غير اليهود وقد كان معاصراً لموسى عليه السلام، وذكر بالتوراة المعاصرة أنه قتل على أيدي اليهود.
تنقل هالة العوري في ( أهل الكهف : قراءة في مخطوطات البحر الميت، ص 356، طبعة 2000م) عن المؤرخ اليهودي يوسيفيوس قوله عن اليهود :" إن ما حرك الشعب للثورة ضد الرومان نبوءة غامضة بالكتاب المقدس، بأن رجلا من بلدهم يحكم العالم برمته" .. وهو ما يتفق مع طرحنا هنا أن مشكلة التحريف والإصرار بأن المصطفى خاتم الأنبياء المرسل للعالمين هو منهم، إن هذا الإصرار كان السبب في هلاكهم !
(20) Karen Armstrong, Jerusalem,1996, p.152.
(21) جمعوا من أنحاء البلاد ليقع عليهم العقاب الشديد، تماما كما ذكر في صفنيا (2: 1- 3) : " تكدّسي تكدّسي أيتها الأمة التي لا حياء لها، قبل أن تطردوا كالعصافة العابرة في يوم واحد، قبل أن يحل بكم اضطراب غضب الرب.." ، ولم ينج من العذاب إلا الذين آمنوا بعيسى وأطاعوه فخرجوا من القدس قبل حلول العذاب.
(22) Josephus, Great Jewish Revolt: Siege And Destruction Of Jerusalem ( 70 AD).
(23) Robert Eisenman, James the Brother of Jesus.
(24) Christopher Knight & Robert Lomas, The Hiram Key , 1997, p. 324- 325
((1/203)
25) لم أستشهد بهذه البشارة ( العدد 24: 17- 18) ضمن البشارات بالمصطفى رغم تعارف أهل المخطوطات على أنها تعني المسيا أو المختار، وذلك لعدم إيرادها أي تفاصيل حول المسيا غير سيطرته على أطراف بلاد كنعان من بني شيث، وموآب وساعير، وللأدعاء بأنه من أبناء يعقوب عليه السلام، فالنبوة قد تخص أحد أنبياء بني اسرائيل الذين ملكوا، أو أن القول بأن المبشر به من أبناء يعقوب هو من جملة تحريفهم المعتاد، والله أعلم، ومن الواضح هنا – خلافا لدعوى النصارى في رسائلهم - أن البشارة لا تعني عيسى عليه السلام، إذلم يملك أو يحكم شيئاً من الأرض..
(26) Robert Eisenman, James the Brother of Jesus, 1966 ed, pp. 255.
(27) اسم أورشليم يعني مدينة السلام أو دار السلام، فكلمة أور تعني قاعدة أو مدينة، إلا أن بعض المؤرخين يعتقد أن اسم أورشليم مشتق من شالِم والتي كانت تطلق على اسم آلهة سورية، ولاندري فلربما أن ذلك كان من اسماء رب العزة بلغات ذلك العصر والله أعلم، خاصة إذا علمنا أن السلام هو فعلا من اسماء الله عزوجل بالعربية، ولعل في هذا تفسيرا للنص التوراتي الذي يشير الى اشتقاق اسم المدينة من اسم الله عزوجل والله أعلم، وبيت المقدس – وهو التسمية العربية للمدينة- يعني المكان الطاهر، والقدس تعني المكان المرتفع أو الطاهر، وايليا – الاسم الروماني - من ايليوس اسم عائلة الإمبراطور، راجع التاريخ اليهودي العام لصابر طعيمة، وتاريخ اورشليم لكارين ارمسترونغ.
((1/204)
28) خاطرة للقاريء المسلم : أَليس مما يخفف من جزعك على مآسي المسلمين المعاصرة وتسلط أعدائهم عليهم ما حلّ باليهود من عذاب لما تمردوا على دين الله، وقد كان بينهم حين نزول العذاب صالحون بل ربما أنبياء كما حدث بالعذاب الأول .. وفي أمتنا كثيرون حرَّموا الحجاب قانوناً وأحلّوا الربا والزنى.. وفي أمتنا كثيرون أحلّوا الكفر ودعوا إليه، وجرّموا من دعا إلى الإسلام ولو من بعيد .. وأطاعت أمم المسلمين الكفار في كل شيء حتى في أنفسهم، وقد حُرّم عليهم في الكتاب ذلك.. ولم يتعظ كثير من المسلمين من أعدائهم الذين ذبحوهم، فتجدهم بعد ذبحهم يطيعون جزاريهم من الكفار، وينبذون إسلامهم ومَن نصرهم من المؤمنين .. ولا نكاد أن نحصي على مستوى أمتنا هجرنا للكتاب والدين والشريعة .. فما حلّ بنا ليس إلا قليل .. والله رحيم خبير .. ولكنّ الخير باقي بإذن الله بهذه الأمة إلى يوم القيامة، وللدين مجاهدين كثر يحرسهم الله، إنّما هذا عبرة لنعتبرها من بني إسرائيل .. وإن كان منا من سيلعن لعنتهم، ويخسف خسفهم ويعذب عذابهم كما أخبرنا الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم .. والأمر لله من قبل ومن بعد، وأسال الله رحمته بنا، وعفوه لنا، وألا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.. وهدايته لأمة محمد صلى الله عليه وسلم نسأل ونرجو..
((1/205)
29) يتكرر بالمخطوطات في مواضيع عديدة الحديث عن عقاب بني اسرائيل وطردهم حتى لا يكاد يبقى منهم أحد ( بالأرض المباركة)، ففي الوثيقة المسماة بوثيقة دمشق ( العمود الأول) نص صريح بإسلام بني اسرائيل لسيف الإنتقام، وذلك كما هو مكتوب من قبل عند ضلال اسرائيل كعجل ضال، و" عندما ظهر المستهزيء الذي غمر اسرائيل بكذبه، وجعلهم يضلون بالصحاريء بدون هدى .. وعندما اختاروا اتباع الأوهام، واعتبروا الصالح زنديقا، وعندما تواطؤا ضد حياة الرجل العادل" .. ومن المعلوم تأريخياً أن كثيرين اعتبروا قتل يعقوب ( وأرجح منه محاولة قتل المسيح عيسى عليه السلام) سببا لهلاك بني اسرائيل على أيدي الروم.. راجع كذلك The Dead Sea Scrolls Ttranslated by Florentino Gracia, 2nd ed. P33.. ، وراجع كذلك الفصل الخاص بتوضيح شخصية المعلم الصالح.
كتاب إينوخ (إدريس) يحدّد زمن ظهور المختارين..
رؤيا الأسابيع ..
النص باللغة الإنجليزبة من بداية الفصل الثالث والتسعين من كتاب اينوخ (1):(1/206)
“ Then after that enoch happened to be recounting from the books. And enoch said, “concerning the children of righteousness, concerning the elect ones of the world, and concerning the plant of truth, I will speak these things, my children,verily I, Enoch, myself, and let you know (about it) according to that which was revealed to me from the heavenly vision, that wich I have learned from the words of the holy angels, and understood from the heavenly tablets.” He then began to recount from the books and said, “I was born the seventh during the first week, during wich time judgment and righteousness continued to endure. After me there shall arise in the second week great and evil things; deceit should grow, and therein the first consummation will take place. But therein (also) a (certain) man shall be saved. After it is ended, injustice shall become greater, and he shall make a law for the sinners.
“Then after that at the completion of the third week a(certain) man shall be elected as the plant of the righteous judgment, and after him one (other) shall emerge as the eternal plant of righteousness.
After that at the completion of the fourth week visions of the old and righteous ones shall be seen; and a law shall be made with a fence, for the generations. “After that in the fifth week, at the completion of glory, a house and kingdom shal be built.(1/207)
After that in the sixth week those who happen to be in it shall all of them be blindfolded, and the hearts of them all shall forget wisdom. Therein, a (certain) man shall ascend. And, at is completion, the house of the kingdom shall be burnt with fire; and therein the whole clan of the chosen root shall be dispersed.
After that in the seventh week an apostate generation shall arise; its deeds shall be many, and all of them criminal. At its completion, there shall be elected the elect ones of the righteousness from the eternal plant of righteousness, to whom shall be given sevenfold instruction concerning all flock”
صورة لأجزاء من رقع مخطوطة إينوخ كما وجدت ضمن مخطوطات البحر الميت (عن مكتبة الكونجرس الأمريكية).
ويمكن ترجمة النص الرئيسي أعلاه لنبوة رؤيا الأسابيع لإينوخ هذه كما يلي:(1/208)
" و بعد ذلك ابتدأ إينوخ يقرأ من الكتب, فقال : فيما يتعلق بأبناء الصلاح, و فيما يخصّ المختارين من العالم, و ما يخص زرعة الحق ( زرعة/شجرة : أي الشجرة أو الزرعة التي منها الخير إلى الأبد), فإني أنا إينوخ بحق سأذكر لكم يا أولادي هذه الأشياء, وأدعكم تعرفون هذه الأمور التي أظهرت لي برؤيا سماوية, وفهمتها من كلمات الملائكة القدسية، وما فهمته من الألواح السماوية"، و بعد ذلك بدأ يقرأ من الكتب وقال : كنت قد ولدت في (الفترة) السابعة من الاسبوع الأول, خلال وقت كانت الحكمة والصلاح مازالتا صامدتين.. وبعدي سيأتي في الأسبوع الثاني أمور عظيمة وشريرة, وسينمو الخداع, وفي خلال ذلك سيتم أول إكمال, ولكن فيه كذلك (ايضا) سينقذ إنسان, و بعد نهايته ( أي نهاية السبوع الثاني), سيزيد الظلم وسيكون هناك حكم للمذنبين, و بعد ذلك عند اكتمال الأسبوع الثالث سيختار رجل (محدد) كزرعة للحكمة الصالحة وبعده سيأتي فرد يكون هو شجرة الصلاح الأبدي. وعند اكتمال الأسبوع الرابع سترى رؤى للصالحين القدامى (الأولين), و سيكون لهم شريعة مصانة للأجيال. و بعد ذلك في الأسبوع الخامس, عند اكتمال البهاء, سيبنى بيت وتقوم مملكة (المقصود بيت الله ومملكه ربانيه), وبعد ذلك في الأسبوع السادس, فإن الناس به سينعمون, وتنسى قلوبهم الحكمة, وعندها فإن إنسانا سيرفع (أي إلى السماء), وعند اكتماله (أي الأسبوع السادس) فإن بيت المملكة سيحرق بالنار, و فيه يتم تشتيت الفرع الذي أختير كاملا.
وبعد ذلك في الأسبوع السابع, سينشأ جيلا مرتدا (ضالا) وسيقوم بأعمال كثيرة لكن كلها شريرة, وعند نهايته ( أي نهاية الأسبوع السابع) سيختار المختارون الصالحون من شجرة الصلاح الأبدية, و لهم ستعطى سبعة اضعاف التعاليم عن كل الأجناس."
نص آخر من موضع آخر من كتاب إينوخ يُلحق بالنبوة أعلاه..(1/209)
ورد في موضع آخر من كتاب إينوخ ( فصل 91) حديثا عن الأحداث بالأسابيع الثلاثة الأخيرة من عمر البشرية، وهي الأسابيع التي يفترض أنها تلت ظهور المختارين بناء على رؤيا الأسابيع المذكورة أعلاه، ولا أذكرها هنا إلا استكمالا للبشارة أعلاه، وإلا فهناك اضطراب واضح بين أحداث الدنيا والآخرة يلمسه القراء، ويغلب أن يكون من تحريف الكتبة أو أخطاء الترجمة، والله أعلم والنص بالأنجليزية كما يلي :
“In those days, injustice shall be cut off from its fountain ... Then the righteous one shall arise from his sleep, and the wise one shall arise ; and he shall be given unto them (the people) , and through him the roots of oppression shall be cut off. Sinners shall be destroyed ; by the sword they shall be cut off (together with) the blasphemers in every place ; and those who design oppression and commit blasphemy shall perish by the knife. Then after that there shall occur the second eight week, the week of rightousness. A sword shall be given to it in order that judgment shall be executed in righteouness on the oppressors, and sinners shall be delivered into the hands of the righteous. At its completion they shall acquire great things through their righteousness. A house shall be built for thr Great King in glory for evermore .
“ Then after that in the ninth week the righteous judgment shall be revealed to the whole world. All the deeds of the sinners shall depart from upon the whole earth, and be written off for eternal destruction; and all people shall direct their sight to the path of uprightness.(1/210)
“ Then, after this matter, on the tenth week in the seventh part, there shall be the eternal judgment. And it shall be executed by the angels of the eternal heaven, the great (judgment) which emanates from all of the angels. The first heaven shall depart and pass away; and all the powers of heaven shall shine forever sevenfold .
“ Then after that there shall be many weeks without number forever; it shall be (a time) of goodness and righteousness, and sin shall no more be heard of forever.”
وأورد فيما يلي ترجمة للنص المستقل أعلاه الذي تحدث عن أحداث الثلاثة الأسابيع الأخيرة:
" .. وفي هذه الأيام سيُستأصل الظلم من جذوره... ويقوم الصالح من نومه ويصعد الحكيم ، ويعطي "هبة" للناس، ومن خلاله تستأصل جذور الاضطهاد، ويدمر الخطاة، ويقطعون بالسيف مع الكفرة في كل مكان، وهؤلاء الذين خططوا للاضطهاد، وقاموا بكلام الكفر سيفنون بالسكين، وبعد ذلك سيأتي الأسبوع الثامن الثاني ( لعله يعني الفترة الثانية من الأسبوع الثامن )، اسبوع الصلاح، سيعطى له (؟) السيف ليقام الحكم بالعدل على الظلمة، ويُسلّم الخطاة الى ايدي الصالحين وفي نهايته سيمتلكون (أي الصالحين ) أموراً عظيمة من خلال صلاحهم، ويُبنى بيتا ً بالمجد الدائم للملك العظيم.
وبعد ذلك في الأسبوع التاسع، يظهر الحكم الصالح لكل العالم، وتختفي من الأرض أفعال المذنبين ، وتكتب للهلاك الأبدي، وتتجه أنظار الناس كلهم صوب طريق الصلاح.(1/211)
وبعد ذلك في الأسبوع العاشر، في الجزء السابع منه، سيكون هناك الحكم الأبدي ( واضح أن المقصود هنا يوم القيامة)، وستقوم به ملائكة السماء الأبدية، الحكم العظيم الذي ستنبعث به كل الملائكة، وستزول السماء الأولى، وتضيء قوات السماء بسبعة أضعاف الى الأبد، ثم بعد ذلك أسابيع كثيرة لا حد لها إلى الأبد( المقصود هنا الخلود الأبدي بالجنّة )، سيكون زماناً للخير والصلاح ولايسمع بخطيئة بعد ذلك إلى الأبد".
نص تعليق جون كولن على بشارة اينوخ:
وجدت تعليق جون كولن على هذه النبوة قبل أن أتحصل على نصها الإنجليزي أعلاه، ولما كان تفسير جون لهذه النبوة يصلح كأساس لفهم النبوة ومناقشتها، فقد أوردت تعليق هذا المؤلف هنا كمقدمة لهذه المناقشة وللإستدلال بها عند تفسير النبوة.. وفيما يلي نص تعليق جون كولن ثم ترجمة تعليقه..
" In the Apocalypse of weeks, Enoch narrates “ that which appeared to me in the heavenly vision, and which I know from the words of the holy angels and understand from the tablets of heaven” (93:2).
He presents a highly schematized overview of history , divided into weeks (presumably weeks of years). Ultimately, ten periods are specified ( followed by many weeks without end “) , but the crucial transition occurs in the seventh week with the election of a group called “ the chosen righteous “. Division of history into both ten and seven periods is well attested in Jewish apocalyptic literatur .(1/212)
The Apocalypse of weeks also claims to find a pattern in history, whereby certain people or groups are chosen for salvation in times when wickedness prevails . In the second week, “ great wickedness will arise ... but in it a man will be saved “ The reference is to Noah”. The third week is marked by the election of Abraham : “a man will be chosen as the plant of righteousness forever .” In the sixth week all are blinded , but “ in it a man will ascend “ (presumably Elijah) . The seventh week is dominated by an apostate generation , but “at its end the chosen righteous from the eternal plant of righteousness” will be chosen . The eighth, ninth, and tenth weeks describe the eschatological finale . A sword will be given to the righteous that judgment may be executed . The righteous will acquire houses , and a new temple will be built . Finally, the world will be written down for destruction, eternal judgment will be executed on the Watchers and a new heaven will replace the old.”
النص ( ترجمة لتعليق جون كولن أعلاه (2) على بشارة إينوخ):(1/213)
نقل جون كولن (2) عن الكتاب المنسوب لإينوخ - والمعروف بأنه إدريس عليه السلام- ما ينسبه لإدريس من حديثه عن مشاهداته أثناء معراجه إلى السماء، فيقول " ذلك ما ظهر لي من الرؤيا السماوية، وهو الذي أعرفه من كلمات الملائكة وأفهمه من الألواح السماوية ( اللوح المحفوظ؟)" .. فيذكر المؤلف جون بعد ذلك: " أن إينوخ أعطى نظرة عامة للتأريخ البشري، وقسمه إلى أسابيع ( أي سُباعيات من وحدات زمنية لم يحددها) كثيرة، حدد منها عشرة أسابيع أو فترات زمنية، أهمها الإسبوع السابع الذي سيتم فيه اختيار " الصالحون المختارون".." ثمّ يستعرض جون الأحداث الرئيسية بالبشارة : " ففي الإسبوع الثاني سينتشر الفساد والشر.. إلا أن رجلا سينقذ، في إشارة الى نوح.. وسيتميز الإسبوع الثالث باختيار ابراهيم "سيختار رجل كمصدر أو شجرة للصلاح الأبدي ( من بعده)، وفي الإسبوع السادس سيكون الجميع عمي ( أي عن الهدى)، وخلاله سيرفع رجل إلى السماء " ويعلق جون أن ذلك قد يعني ايليا"، وسيغلب على الأسبوع السابع جيل المرتدين ولكن في نهايته سيأتي الصالحون المختارون من شجرة الصلاح الأبدي (أي من أبناء ابراهيم ).. وفي خلال الأسابيع الثامن والتاسع والعاشر ستحدث أحداث أخروية، ثم يعطى السيف للصالحين، ويقوم الحساب... وسيكون للصالحين بيوتاً، ومعبداً جديداً سيبنى لهم ثم في النهاية سيكتب العالم للفناء، ويقوم الحساب الأبدي، وتبدل السماء القديمة بجديدة...
التعليق على بشارة الأسابيع:(1/214)
كتاب اينوخ وإن لم يضم الى كتب العهد القديم إلا أنّه من الكتب المعتبرة لدى اليهود والنصارى.. واستشهد بفقرة منه - لا زالت باقية - مؤلف رسالة يهوذا ( 14-15) الواردة ضمن العهد الجديد.. و لعل السبب في عدم ضمه إلى كتب العهد القديم رغم استشهاد الكثير من علماء اليهودية والنصرانية به هو نسبته إلى نبي سابق على أنبياء بني اسرائيل.. ومن المناسب هنا الأشارة الى أن كتاب إينوخ الأول هو من ضمن الكتب المقدسة لدى يهود الفلاشة كما ذكر ذلك الباحث تشارلزوورث في كتابه The Old Testament Pseudoepigrapha, The New Testament,1998th edition, p.25. ..وكان هذا المؤلف قد تسآءل في الكتاب المذكور (ص 74) كيف يمكن للمسيحيين إعتبار كتاب إينوخ من الكتب المنحولة بينما يستشهد به أحد كتابُّ الكتب المقدسة القانونية ككتاب نبوي، واضح أنه كان موجودا من قبل عصر المسيحية؟.. والكتاب – أي كتاب إينوخ_ لم يبقَ منه سوى رقع متفرقة.. منها مجموعة من الرقع التي وجدت ضمن مخطوطات البحر الميت،.. وقد أوردت مصادر متعددة وجود نسخة متكاملة منه باللغة الاثيوبية.. وفي جميع الأحوال فان نسبة هذا الكتاب إلى اينوخ وهو ادريس عليه السلام غير ثابتة في الواقع.. الا أنه يظل من الكتب المنسوبة الى الأنبياء.. والتي يغلب عدم خلوها من التحريف والتصحيف.. وقد اعتبره المؤرخون من كتب الإسينين، ويرى الباحثون (4) أن المسيحيين الأوائل اعتبروا كتاب إينوخ من الكتب المقدسة، ويذكرون استشهاد برنابا به، واعتباره من الوحي السماوي من قبل تارتوليان، وكذلك اعتبره كل من ارينيوس وأوريجين بالكلام المقدس، بل رأى تشارلز بوتر بوجوب عودة كتاب اينوخ الى الكتاب المقدس.. والذي يعنينا هنا هو هذه البشارة البينة بظهور الإسلام والمختارين.. والتي تعارف على وجودها جماعات من أهل الكتاب من مثل أصحاب مخطوطات البحر الميت في فترة سبقت عصر الإسلام بل وسبقت عصر المسيح عيسى عليه السلام..(1/215)
والبشارة التي نستعرضها ننقلها من مخطوطات ثبت أن كتابتها سبقت عصر المسيح عيسى عليه السلام، وظلت محفوظة عن أي تحريف إضافي حتى وجدت في كهوف قمران في عصرنا الحاضر.. ويؤكد صدق وقوع الأحداث المذكورة بها ( كهدم الهيكل ، وحرقه، وتشريد اليهود) من بعد عصر تسجيلها بالمخطوطات في القرن الأول أو الثاني قبل الميلاد، يدل ذلك على أصالة ( ربانية) كلية أو جزئية على الأقل لهذه النبوة.. وفي الواقع فإنّ باحثاً كجون كولن (5) لا يرى في كتاب إينوخ ما يدلّ على أنّه من كتابات أهل مخطوطات البحر الميت وإن كانت كتبهم قد احتوته، لكنها نسبته إلى إدريس عليه السلام، ولكن الكاتب بنظرته العلمانية ينتهي إلى القول بأن كتاب إينوخ قد يمثّل الفترة التحضيرية أوالسابقة لتكوين جماعات البحر الميت.. ومثل هذا القول يكفي منه أنه ينسب كتاب اينوخ الى فترة سابقة على عيسى عليه السلام بمئات كثيرة من السنين ..
وقد جاء بالحديث الصحيح ( صحيح ابن حبان) ما يؤيد أنّ اينوخ عاش قبل نوح عليهما السلام، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله كم الأنبياء قال مائة ألف وعشرون ألفا قلت يا رسول الله كم الرسل من ذلك قال ثلاث مائة وثلاثة عشر جما غفيرا قال قلت يا رسول الله من كان أولهم قال آدم قلت يا رسول الله أنبي مرسل قال نعم خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه قبلا ثم قال يا أبا ذر أربعة سريانيون آدم وشيث وأخنوخ وهو إدريس وهو أول من خط بالقلم ونوح وأربعة من العرب هود وشعيب وصالح ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم.."(1/216)
يذكر ادريس (6) عليه السلام هنا – كما يروى عنه في الكتاب المنسوب إليه - أنه يعيش في الإسبوع الأول من عمر البشرية.. ويذكر أن تلك الفترة الأولى ما زالت فترة صلاح (7)، وأن عمر البشرية على الأرض مقسم إلى عدد من السُباعيات (مجموعات من سبعات) أو ما يسميه هنا بالأسابيع.. ويخصص بالذكر عشرة سباعيات (أو أسابيع) وواضح أنها سباعيات من القرون (أو أكثر) وليست من الأيام أو الأشهر أو حتى من السنين كما زعم الكاتب الغربي جون أعلاه، فإن عشرة سباعيات ( أسابيع ) من السنين لا تكاد ان تصل الى عمر فرد بشري واحد ( إذ ستكون سبعين سنة )، ناهيك عن أن تكون عمر الأجيال كلها.
وسأطلب من القارئ الكريم أن يفترض معي مبدئياً ان كل اسبوع أو سباعية هي مكونة من سبعة قرون، وسنرى كيف أن ذلك يقدم تفسيراً متفقاً مع الأحداث المذكورة بالنبوة، وغيرها..
...(1/217)
وعلى هذا فعمر البشرية اذا حصر في العشر فترات السباعية سيبلغ سبعة الاف سنة، وهو وإن كان يبدو أقل كثيرا من كل حساب متوقع لعمر البشرية إلا أنّه متفق تماما مع تقديرات عمر البشرية التي بنيت على أعمار الأنبياء من التوراة.. وهو ما يؤمن به كثير من اليهود والنصارى (8)، إذ يعتقدون أن عمر البشرية سبعة أيام من أيام الله، كل منها ألف عام ( ذكر بالتوراة والقرآن أن اليوم عند الله بألف سنة مما يعد الناس)، أو ما يعادل عشرة أسابيع من القرون ( أي سبعين قرنا أو سبعة آلاف سنة)، ويعتقدون أن المسيح عيسى عليه السلام جاء بعد أربعة آلاف سنة، وأنه سيعود الى الأرض بعد ألفي عام، أي بعد ستة ألف عام من عمر البشرية ليقيم مملكة الله التي ستعمر ألف عام بعد ذلك إكمالاً لمدة السبعة آلاف عام التي هي مجموع عمر البشرية على الأرض.. وليس هاهنا موضع الردّ على هذا الرأي، إنّما أذكره هنا لتوافقه التام مع تقسيم هذه النبوة - المنسوبة الى إدريس - لعمر البشرية على الأرض.. وعلى أساس هذه النبوة فإن ظهور نوح في الإسبوع الثاني من عمر البشرية يعني أنه ظهر في الفترة بين 700- 1400 عام من بعد نزول آدم.. وفي الحديث النبوي الذي رواه الحاكم في مستدركه ما يفهم منه أن نوح ظهر بعد ألف عام من عصر آدم عليه السلام ( 7&9)... ومن المفترض أنّ هذه النبؤة سابقة على عصر نوح.. والإشارة الى نوح عليه السلام واضحة بهلاك البشر عدا فرد واحد هو ذلك الذي سينقذه الله خلال الإسبوع الثاني وهو ما استنتجه جون كولن في تعليقه أعلاه على هذه النبوة.. ثم تمرّ عصور ويظهر في " نهاية" الفترة الثالثة ابراهيم عليه السلام.. وقد أشير إليه بأنه المختار كشجرة يأتي منها كل الصلاح الأبدي.. وهو ما نعرفه كمسلمين وأهل كتاب بأنه عليه السلام أبو الأنبياء، فكل الأنبياء ( مصدر الصلاح للبشرية) من بعد عصر ابراهيم كانوا من ابنائه.. ومرت فترات بعد ذلك على البشرية ..(1/218)
وأوردَ نص النبوة بعد ذلك بأنه عند نهاية الفترة ( الأسبوع) الرابعة..أي بعد ابراهيم عليه السلام بما يقرب من سبعة قرون، أنه ستحصل رؤى ( أي وحي إلهي) للقديسين والأبرار، وسيعطى لهم قانون ومكان مُسوَّر على مدى الأجيال.. ولا يشك أحد أن المقصود هنا هو الوحي على موسى وعلى مَن بعده من أنبياء بني اسرائيل، وقد كانت هذه الفترة بشكل عام فعلاً في حساب المؤرخين حوالي 600 عام، وواضح أن القانون هو التوراة وأن المكان هو الأرض المباركة بفلسطين.. ثمّ تنص النبوة أنه في نهاية الفترة الخامسة سيؤسس بيت الله للأبد.. وواضح أن ذلك كان بإنشاء الهيكل بالقدس أو أورشليم كمكان لعبادة الله، حيث أقيم الهيكل فعلا بعد حوالي ستمائة عام من مجيء موسى بالتوراة والذي جاء في نهاية الإسبوع الرابع كما تذكر النبوة.. وبني هذا البيت بعده بإسبوع، أي في أواخر الإسبوع الخامس.. وهذا البيت قد ورثه المسلمون وأنشأ عمر بن الخطاب في موضعه المسجد الأقصى الذي ما زال شامخا بيتا لله مقدسا لدى عباد الله المصطفين ( المختارين)..(1/219)
وفي الفترة السادسة أي بعد فترة مجيء ابراهيم ( والذي كان مجيئه في نهاية الفترة الثالثة) بحوالي ثلاث فترات أو 2100 سنة انتشر الظلام.. وأصبح الناس عميّ ( من الهدى) ولكن هذه الفترة "ستنتهي فيما يبدو " برجل يُرفع الى السماء.." وواضح أن هذا الرجل هو الرجل الذي تنبأ به الزبور أن الملائكة سترفعه الى السماء، وأن الأشرار لن يصلوا إليه وأن الذي سيعلق على الصليب هو عدوه الذي حفر له الحفرة فأوقعه الله بها، وأن الذي سيصلب سترمّل نساؤه ويُيتم أولاده.. واضح انني هنا أعني المسيح عيسى عليه السلام فهو الرجل الذي رفع بعد ابراهيم عليه السلام بفترة 2100 سنة.. ومن المجمع عليه لدى المسلمين والنصارى أنه صعد الى السماء.. لكننا كمسلمين نستشهد (10) عليهم بما ورد في الزبور من نبؤات اقرّوا هم بأنفسهم (انظر مثلا التفسير التطبيقي للكتاب المقدس ص1245، طبعة 1997) بأنها تعني عيسى عليه السلام.. كما جاء في أعمال الرسل 1: 20 حين استشهد بطرس بالمزمور 109: 13 بانتقام الله من يهوذا الأسخريوطي الذي خان المسيح عليه السلام ودلّ عليه.. نستشهد عليهم بالزبور نفسه بأنّ هذا الذي سينزل عليه عقاب الله فيُحاكم جوراً، لتقع عليه العقوبة، وتلحق به اللعنة، وتترمل زوجته.. هو غير العبد الصالح الذي كاد ضده هذا الشرير، فإنّ ذلك الصالح سينقذه الله (المزمور 109: 21).. ويرفعه الله، في مقابل تعليق الشرير بعمل يديه ( مزمور9، وقد اقتبس منه يوحنا بإنجيله عند وصفه لأحداث ما قبل الصلب).. وأنّ الملائكة رفعته الى السماء بإذن الله من دون أن يُؤذى (مزمور 91، وقد استشهد متى بنص منه ليعني به عيسى عليه السلام في الإصحاح 4: 6).. وعلى هذا فالذي رُفع الى السماء بنهاية الفترة السادسة كان هو فعلاً عيسى عليه السلام..(1/220)
ومن المتفق عليه أن الفترة بين ابراهيم وموسى 600 عام تكاثر خلالها بني اسرائيل من أسرة واحدة افرادها دون المائة الى شعب زاد أفراده على ستمائة الف.. ثم مضت بعد موسى حوالي 1500 سنة اتفاقاً حتى جاء عيسى عليه السلام الذي انتهت رسالته الى بني اسرائيل برفعه الى السماء كما بشرت التوراة في الزبور بذلك قبله بألف عام.. وعلى هذا فالفترة بين ابراهيم وعيسى هي 2100 سنة ( 1500+600 سنة، وخاصة إن حسبت بالسنة القمرية).. ولمّا كانت بشارة اينوخ هنا تنص على أن الفترة بين ابراهيم والرجل الذي سيصعد الى السماء عليهما السلام هي ثلاث فترات سباعية ( أو ثلاثة أسابيع من الزمن)، وهي الفترات بين نهاية الفترة الثالثة ونهاية السادسة .. فإن ذلك يدل على صحة افتراضي هنا بأن الاسبوع المقصود بهذه النبوة هو فترة سباعية من القرون أو هو 700 سنة، ومن هنا كانت فترة الألفين ومائة عام من السنين بين ابراهيم وعيسى عليهما السلام معادلة لفترة الثلاثة أسابيع ..(1/221)
وعلى هذا ففي الإسبوع السادس ( وهو الأسبوع الذي يلي الأسبوع الخامس الذي تمّ به هدم المعبد الأول على أيدي البابليين كما ورد في وصية لاوي بالبشارة التالية لهذه التي نناقش)، وعلى هذا ففي الإسبوع السادس ينتشر العمى عن الهدى بين بني اسرائيل ( وبين الناس)، وينسون دينهم ( الحكمة) ويقلدون الوثنيين من حولهم.. وفي نهايته يرفع إنسان إلى السماء (وهو بلا شك عيسى عليه السلام كما ذكرتُ)، ثم يتبع ذلك بأن تأكل النار بيت الله ( راجع وصف شاهد العيان لأحداث حرق الهيكل وهدمه عام 70م، ص118-120)، ثم تذكر النبوة: "وعندها سيتشتت العرق كله ( الناشيء) عن الجذر المختار".. ولا يملك الإنسان إلا أن ينبهر هنا.. فإن هذه النبوة مكتوبة من قبل زمن المسيح عيسى عليه السلام، وحفظت آثاراً منها عبر القرون ضمن مخطوطات البحر الميت ليطلع عليها جيلنا المعاصر، فلا يدعي أحد أنها كتبت من بعد الأحداث.. لقد أُحرق الهيكل فعلا، وتمّ ذلك بعد رفع عيسى عليه السلام بأربعين عاما كما تنبأ أصحاب المخطوطات أنفسهم بذلك في مواضع أخرى سبقت الإشارة إليها، وشُرّد بني اسرائيل في الأرض.. وهم العرق الأول الناشيء من الغرسة المختارة ( ابراهيم) في الإسبوع الثالث.. وتمّ ذلك التشريد عام 70م أو عام 4112 من بعد آدم على حساب أهل الكتاب من مصادرهم الأخرى، وهو ما ينطبق مع هذه النبوة أن هدم البيت وتشتيت بني اسرائيل تم في نهاية الفترة أو الأسبوع ( من القرون) السادس ( 6× 7×100عام أو قريبا من 4200 عاما) من بعد آدم عليه السلام ..(1/222)
ولما جاء عيسى عليه السلام أخبر بالعقاب وهدم البيت وتشريد اليهود، ولكنه بشَّر بعد هذه الأحداث بمجيء المختارين كما بيّنا من قبل، ولكن بعد فترة من الزمن فصّل لأتباعه أحداثها التي اشتملت اضافة على هدم القدس والمعبد اشتملت على ظهور الأنبياء الكذبة، وأمر أتباعه بالصبر والدعاء حتى يعجل الله بمجيء المختارين.. وواضح أن أتباعه أنفسهم لم يكونوا هم المقصودين بالمختارين ( المصطفين) ..(1/223)
وكانت الفترة التى عاصرها عيسى فترة ظلام في الأرض، فقد غلبت عليها الأمم الوثنية وضلّ بنو اسرائيل وأعموا أنفسهم عن هدي الأنبياء.. ثم أتت الفترة التي بعد رفعه إلى السماء (الإسبوع السابع) فترة ردّة وضلال.. حقاً كما جاء في رؤيا الأسابيع هذه، وكما أوردت الأناجيل وكما تناقل ذلك تلاميذ المسيح عليه السلام من بعده.. واستمرت غلبة الأمم الوثنية على الأرض... فأمّا النصارى فقد اتبعوا بولس الذي لقبه أتباع المسيح - الذين عرفوه وعاشوا معه- بانه المرتد عن الشريعة apostate from the Law وبأنه عدو الحق... وبأن أتباعه هم المرتدين.. فحقّ بذلك تسمية الفترة السابعة بفترة الردة والضلال.. وذلك في الواقع هو اللقب الذي عرف به النصارى لدى المؤمنون، بأنهم الضالون.. وقد بيّنا شيئا من الضلال الذي وقعوا فيه .. ومن العجيب اشتهار أمر هذه الردة بين جميع أتباع المسيح من بعده، فإضافة إلى تحذير المسيح عليه السلام أتباعه من إتباع المُضلين ومدعيّ النبوة من بعده ( راجع الفصل الثالث)، فإنّ " أتباعه الحقيقيون" تناقلوا كذلك هذا التحذير من الردة واتهموا به بولس، كما رأينا من قبل، وكذلك تناقله أتباع مدرسة بولس.. ففي تيموثاوس الأولى 4: 1 " إلا أنّ الروح يُعلن صراحة أن قوما في الأزمنة الأخيرة سوف يرتدون عن الإيمان، منساقين وراء أرواح مضللة وتعاليم شيطانية، في موجة رياء ينشرها معلمون دجالون.." بل جاء في رسالة تسالونيكي الثانية 2: 3 (11) جزمٌ بأنّ هذه الردة متحقق قيامها من بعد عيسى عليه السلام، وأنّ المجيء الثاني للمسيح (هو بالتأكيد ليعني مجيءَ المسيا أو المصطفى المنتظر) لن يتمّ إلا من بعد حدوث هذه الردة بين النصارى..(1/224)
وفي الواقع فإنّ شواهد هذه الردة كثيره ويصعب حصرها، لكنّها تأتي متفقة مع التاريخ ومع هذه البشارة، بأنّ الفترة التالية لعصر المسيح عليه السلام كانت فترة ردة، وذلك مما يدعم بالتالي مرة أخرى تفسيرنا بأنّ تلك كانت هي فترة الأسبوع السابع حقاً..
ونعود للبشارة.. فقرب نهاية هذا الإسبوع السابع " فإن أبرارا سيُختارون كشهود على الحقيقة مختارين طالعين من نبتة العدل الأبدي).. مَن غير المسلمين ظهر في نهاية الأسبوع السابع أي بعد حوالي 600 إلى 700 سنة بعد محاولة صلب المسيح عليه السلام.. وهل بقيَ هنالك أي مجال للمجادلين لنفي هذا التبشير الصريح بالإسلام.. قد بدأت نشأتهم ببعثة خاتم الأنبياء عام 610م، أي في المائة الأخيرة من الإسبوع السابع من القرون من بعد رفع المسيح عليه السلام الى السماء.. وبلغ دينهم الأرض المباركة في منتصف المائة السابعة تقريبا ( أو بعد منتصفها لو حسبنا بحساب اليهود القمري المعتد به في النبوة) .. وكانوا هم المُصطَفون (المختارون) كما لقبوا بذلك في القرآن، وهم من أبناء ابرهيم ( نبتة العدل الأبدي) من ولده اسماعيل من قريش بمكة، حملوا الرسالة لبقية العرب وبقية الأمم على الأرض.. وهم الذين أختيروا شهودا على الأمم.. وتكرر ذكر ذلك كثيرا بالقرآن الكريم.. وهم الذين حصلوا على الحكمة والمعرفة وأصبحوا أساتذة الأمم من بعد أن كانوا الأمة الأميّة الجاهلة.. وبهم استؤصلت أساسات البغي المتمثلة في الأمبراطوريات الرومانية والفارسية وغيرها.. تلك الأمبراطوريات التي طالما اضطهدت المؤمنين وعاثت في الأرض فسادا.. فمَن ينازع المسلمين هذا التبشير ؟ .. وقد حددت البشارة زمن ظهورهم، وحددت المصطفى ومن معه بأنّهم من أبناء ابراهيم عليه السلام.. وكان الأسبوع الثامن اسبوع العدالة بحق بالأرض.. وقد امتد خلالها حكم المسلمين ليشمل معظم المعمورة.. وفيه أعطي المؤمنون السيف والنصر على الكفار.. وبني لله بيتا بمكة..(1/225)
هو قديم ولكنه جُدّد للمؤمنين من بعد بيت الله بالقدس.. وقد ظل يتسع بناؤه حتى أصبح -كما سنناقش في بشارات قادمة- هو البيت الأكبر لله عز وجلّ.. والبشارة تشير إلى أن الأسبوع الثامن هو زمن نصر المؤمنين، وهو ما نعلم جميعا أنه تم للمسلمين خلال السبعة قرون الأولى.. وتوحي النبوة بزوال نهائي للكفار في الأسبوع التاسع، ويغلب أن يكون هذا من مبالغة الكتبة، فإن كتاب إينوخ نفسه يشير إلى قيام القيامة على الكفار.. وفي تعليق جون فهمٌ بأن الحرب والسيف سيظل بين المختارين وأعداءهم خلال كل الأسابيع الثلاثة الأخيرة من الثامن إلى العاشر.. والتي قد مضى منها إلى الأن اسبوعان !! والله تعالى أعلم.. ,ومما أثبته الباحثون أن هناك تحريفات كبيرة أصابت كتاب اينوخ، ويكفي أن أذكر هنا ما كتبه ميليك (4) من أن هناك اختلاف كبير بين النسخة الإثيوبية والأرامية، وأن التصحيف على أيدي الكتبة ( المسيحيون في غير نسخة المخطوطات) واضح.. وعلى أي حال فإن نص النبوة الذي أورده جيمس تشارلسورث James H. Charlesworth وغيره من الكُتّاب ينتهي بذكر مجيء المختارين بنهاية الإسبوع السابع دون التفصيل فيما سيأتي بعد ذلك من أسابيع.. وبذلك يرتفع عن هذه البشارة قضية المبالغة في انتصار المؤمنين وزوال الكفار، ويزول باقتصارها على الحديث عن الأسابيع السبعة الأولى، يزول عنها الحرج الذي تتركه في نفوس المؤمنين من تحديد موعد يوم القيامة ( الساعة) بأنها بعد الإسبوع العاشر.. والقيامة لا يعلمها مع الله أحد.. وتلاحظ في وصف انتصار المختارين بالجزء الذي أُلحق بالنبوة مبالغة قد تجعل البعض يتردد حول درجة إنطباقها على المسلمين..(1/226)
ومن يقرأ ما تناقله اليهود من كتب الأنبياء يعلم أن مثل هذه المبالغة هي الأمر المعتاد بها جميعا، وأُذكِّر القاريء بأن البشارات التي تحدثت عن قيام مملكة داود تحدثت عنها كمملكة لاتزول، وأن التي بشرت بعودة اليهود من الأسر البابلي بشرت بها عودة لا تنقطع ولا تنتهي، ولما انتصر المكابيون على أعدائهم اليونانيين جعل اليهود يوم انتصارهم عيدا سنويا، وظنوه نصراً أبديا وملكاً لا يزول.. وهناك أمثلة كثيرة على هذه المبالغات يبدو أنها من جملة التحريف الذي أصاب الكتاب المقدس.. فلايصرفنّ القاريء عن هذه البشارة البيّنة في حق الإسلام المبالغة المذكورة في زوال أمم الكفر، إلا أن يكون المقصود زوالها كأمم حاكمة على الأرض المباركة، فإن ذلك قد تحقق تماما الا لفترتين محدودتين ان شاء الله.. الأولى خلال الحروب الصليبية، والثانية خلال العصر الحالي بعودة اليهود الى فلسطين.. ومع ذلك فإن النصر الذي حققه المسلمون حتى حكموا معظم العالم القديم هو أعظم نصر يحققه مؤمنون في تأريخ البشرية.. وهو للمؤمنين المضطهدين نصرٌ فوق كل تخيل ..! وفي الواقع فإن الفقرات المتعلقة بالأسابيع الثلاثة قد ذكرت في موضع آخر من كتاب إينوخ، وضمها إلى هذه البشارة هو تصرف من بعض الكتاب، وإلى ذلك أشار الباحث ميليك وإن كان قد اعتبره تصرف مقبول..
ويبقى بعد ذلك الإشارة إلى ألا يغرنّ القاريء ضعف المسلمين فإنما هو ضعف لفترة محدودة نتيجة بعدهم عن دينهم وتكرارهم لمعاصي بني اسرائيل.. وليس بعدهم أمة أخرى مِن غيرهم لتكون بديلةً لهم، كما كانوا هم بديلا لبني اسرائيل.. ولكنهم سيعودوا لدينهم كما أخبر المصطفى الذي أخبر أيضا بفترة ضعفهم وهوانهم هذه.. وتحققت بالمسلمين بشائر النصر الكامل للمصطفين الأخيار..
..(1/227)
فهل من شك في أن المختارين هم المسلمون.. وأن الأمة الصالحة التي أقامت مملكة الله هي أمة الإسلام، وأن التبشير بها تمّّّ منذ عهد مبكر جداً من تاريخ البشرية، في إتفاق كامل بين نبوات الأنبياء من مثل إدريس وداود ودانيال وزكريا ويحي وعيسى وغيرهم من الأنبياء الذين استعرضنا أو سنستعرض في هذا الكتاب تبشيرهم بالإسلام ومملكته.. إنّ وضوح هذه البشارة في حق المسلمين ماكان ليزيد لو أنها أضافت تسمية المختارين بالمسلمين، فإن التفصيل المعطى لهو أكثر من تصريح بأنهم هم المسلمون، وتجدر الإشارة إلى أن البشارة تحمل الإشارة الواضحة إلى إستبدال بني إسرائيل وهم العرق الذي سيشتت من أبناء إبراهيم عليه السلام "وعندها سيتشتت العرق كله (الناشئ) عن الجذر المختار" بأبناء آخرين لإبراهيم يكونون هم المختارين بآخر الزمان وهو ما يتفق مع عدد كبير من البشارات التي سنستعرض فيما يلي من هذا الكتاب.
فيا أيها الناس.. آمنوا أو لا تؤمنوا.. اكفروا أو لا تكفروا.. امكروا أو لا تمكروا.. انما تمكرون بأنفسكم.. وانما تهلكون أنفسكم بالكفر بالإسلام ونبي الاسلام محمد صلى الله عليه وسلم .. وذلك ما تختارون لأنفسكم..
تعقيب إضافي على نبوة الأسابيع بالكتاب المنسوب (1) لإينوخ:(1/228)
اعتبر مؤرخو أهل الكتاب أن مجيء ابراهيم عليه السلام كان عام 2083 مُؤرخا من تأريخ نزول آدم عليه السلام الى الأرض، أي في نهاية الفترة الثالثة خاصة إذا عدّل الحساب إلى الحساب القمري، وهو ما يتفق كذلك مع ماورد في كتاب اليوبيلات ( الخمسينيات) من مخطوطات البحر الميت اذ ذكرت انّ ابراهيم عليه السلام ولد في السنين الأولى من الأسبوع الثاني ( الإسبوع في تلك النبوة بسبع من السنين) من الخمسينية الـ 39 ( الخمسينية أو اليوبيل بخمسين عاما) أى أنه ولد عام 1908 ((38 x 50) + 8)، و مات عام 2152 من بعد نزول آدم على الأرض، ويذكر المؤرخون النصارى أن حادثة الصلب ( نؤمن أنها وقعت على شبيه عيسى عليه السلام ) قد وقعت في عام 4072 من بعد نزول آدم ( أو4201سنة قمرية من بعد آدم ) أي في نهاية الفترة السادسة تماما حسب تفسيري هنا لنبوة الأسابيع لإينوخ ( كل فترة من سبعة قرون )، وهو ما يتطابق مع نبؤة اينوخ تماماً ويثبت صحة تفسيرنا لها.
ولّما كانت البعثة النبوية لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في عام 610 م والفتح الإسلامي للقدس عام 638 م فإن ذلك يعني أن مجئ المختارين تمّ عام 4652 بالسنوات الشمسية أو عام 4799 ( بالحساب القمري وهو المقصود بالنبوات) من بعد آدم عليه السلام، أي في الجزء الأخير فعلا من الأسبوع أو الفترة السابعة ( ينتهي الأسبوع السابع عام 4900م)، تماماً كما جاء في نبؤة اينوخ.. ولعل ممّا يدعم أيضاً هذه النبوة والتفسير الذي أوردته لمدة الأسبوع بسبعة قرون إعتقاد كثير من النصارى (12) أنّ عمر البشرية سيكون على الأرض سبعة أيام من الأيام الربانية التي يحسب كل يوم منها بألف عام (13)... وهو مايتفق مع نبؤة اينوخ من بقاء البشرية عشر فترات زمنية كل منها مكون من سبع فترات ( أو اسبوع من القرون ).. أي سبعة آلاف عام..(1/229)
وعلى الرغم من وضوح هذه البشارة بالإسلام والجيل الصالح الذي أخرجه.. فإننا كمسلمين لا نملك إلاّ التأكيد على أن أمر الساعة لا يعلمه إلاّ الله.. ولا يمكن تحديدها بهذه البساطة... وذلك أمر شدد على ذكره القرآن الكريم وكذلك المسيح عليه السلام فيما روته عنه الأناجيل الحالية ..
وأختم هنا بالتعليق على القول بأن الرجل الذي سيرفع في الفترة السادسة هو ايلياء بأنه قول لايستحق الإلتفاتة إليه، فإيلياء ظهر في فترات مبكرة من التاريخ اليهودي سابقة بألف عام على المسيح عليه السلام، وهو وإن تكرر ظهوره في فترات أخرى كما يرى اليهود ( بدور يشبه ذلك المعطى للخضر عند بعض المسلمين)، لكن صعوده الى السماء ( الملوك الثاني :2:1 ) قد تم في وقت مبكر وفي وقت سابق على ظهور اليسع وداود عليهما السلام، وعلى هذا فيكون صعوده إلى السماء قد حدث خلال الأسبوع الرابع، وليس هو بالتالي الشخص المقصود بالصعود في الفترة السادسة كما ذكرت النبؤة.. ويبقى بعد ذلك أن ظهور المسلمين محسوباً سواء من تاريخ ابراهيم أو عيسى عليه السلام متفق مع ما توقعته النبؤة ويثبت بدون أدنى شك أنهم هم المختارون الذين انتظرتهم الأمم وبشر بهم الأنبياء ..
هذا وقد يتسائل البعض عن تناقض القول بأن عمر البشرية هو هذه الآلاف المحدودة من السنين مع بعض المكتشفات الأثرية التي تدل على وجود الإنسان قبل عشرات الآلاف من السنين.. ومن الواضح أن ما يعتبر آثاراً بشرية لا يتجاوز بقايا عظام أو مصنوعات محدودة بسيطة.. ومع التحفظ حول مصداقيتها.. فإن بالإمكان القول بأنها قد تكون لخلق آخر غير أبناء آدم.. وقد كان رد فعل الملائكة عند خلق الله لآدم – كما جاء بالقرآن الكريم بسورة البقرة آية 30 - يُوحي بمعرفتها لتجربة خلق آخر أفسد في الأرض من قبل خلق آدم ولم يكن بالطبع من أبنائه.(1/230)
وفي هذه البشارة دليل آخر على خطأ توقعات وحسابات النصارى المتعددة بمجيء عيسى عليه السلام على رأس الألف أو ألألفين عام من بعد الميلاد ليقيم مملكة الله.. فإن مملكة الله التي سيقيمها المختارون، وتنتزع الأرض المباركة من أيدي الروم ستقوم قبل نهاية السبعة قرون الأولى من بعد رفع المسيح علبه السلام ( أي قبل نهاية الفترة السابعة) ..
لايصرفن القاري عن المعاني الواضحة البينة ببشارة الأسابيع ( ولا ببشارة لاوي التي سنفصلها فيما بعد) النقاشُ التفسيري الذي يُورده بعض الباحثين في محاولة لربط لفظي الأسابيع ولفظ السبعين من الأسابيع أو من السنين بالمعاني أو الاستخدامات الأخرى التي وردت بمواضع أخرى من الكتاب المقدس أو الأسفار غير المعترف بها..
فالصورة واضحة بلا لبس في كلتا البشارتين أعلاه، ولا مناص من تفسيرها بظهور المسلمين ( بشارة الأسابيع) أو المصطفى ( وصية لاوي) كما سنبين، خاصة إذا علم القاري أنّ الباحثين يعتقدون بأن هذه النبوات قد دونت بالقرن الثالث أو الرابع قبل الميلاد (14).. ومثل هذا الإعتقاد قد سبق في الواقع اكتشاف رقع كتاب إينوخ ضمن مخطوطات البحر الميت.. الأمر الذي أكد صحة هذا التقدير لزمن ظهور الكتابات المنسوبة لإدريس ( إينوخ).. وإن كانت النصوص المستشهد بها هنا مأخوذة أساساً من النص الإثيوبي من نسخة مكتوبة بالقرن الخامس عشر الميلادي (15).
في مناقشة للألفاظ المذكورة أعلاه، استشهد ميليك (16) بورود لفظ السبعين جيلا ضمن كتاب إدريس ( فصل 10 فقرة 11)، لكن كلمة السبعين هذه جاءت هنالك – كما يذكر الكتاب المنسوب لإدريس- ضمن أمر موجه إلى ميكائيل (Michael ) بربط الذين تدنسوا تحت صخور الأرض لسبعين جيلا حتى يأتي يوم الحساب.. وواضح أن لفظ السبعين هنا لا يعني بالضرورة
أنّ عدد الأجيال البشرية هو سبعين جيلا فقط كما استنتج ميليك.. وذكر ميليك أيضا استخدام لفظ(1/231)
السبعين اسبوعا برقعتين من رقع مخطوطان البحر الميت ( رقع 180 و181)، ولكن الاستخدام بهما جاء ليعني فترة ضلال بني إسرائيل، وذلك في الواقع ممّا يتفق مع نبوة السبعين أسبوعا التي ناقشنا من قبل.. من دون أن يكون له علاقة بالحديث عن عمر البشرية الواردة ببشارة رؤيا الأسابيع.. وناقش المؤلف ورود لفظ السبعين من السنين في إصحاحات إرميا 25: 11-12 و29: 10، وقد كان الحديث هنالك صريحا في أن تلك هي مدة بقاء بني إسرائيل تحت الأسر البابلي، من دون أن توجد أي إشارة أو علاقة لهذه الفترة بفترة السبعين أسبوعا من السنين أو بالحديث عن عمر البشرية.. والقضية أنّ مثل هذا الخلط بين فترات ذكرت عن قضايا مختلفة لا مبرر له، وإن بدى في صورة البحث المنطقي.. ومع هذا فقد أورد ميليك في نقاشه لرؤيا الأسابيع هذه، قد أورد الرأي الذي كنتُ قد كتبته هنا قبل الإطلاع على كتابة ميليك هذه، والتي نسب بها هذا القول إلى مخطوطة إثيوبية مُفسِّرة لرويا الأسابيع.. وفي الواقع فإنّ أي قاري لهذه النبوة لا يملك تفسيرها إلا بمثل ذلك الرأي، وهو القول بأنّ كل أسبوع من العشرة أسابيع هو أسبوع ( أي سباعية) من القرون.. وذلك مما يتفق مع الرأي الشائع بأن عمر البشرية هو سبعة آلاف عام، وهو الرأي الذي تبناه مؤرخون قدامى - لاعلاقة لهم بهذه النبوة - مثل ثيوفيلاس Theophilus of Antioch وكليمنت Clement of Alexandria وهيبوليتس Hippolytus of Rome وجوليوس Julius Africanus of Jerusalem على ما ذكر ميليك..(1/232)
ولخص ميليك (17) رأي المخطوطة الإثيوبية كما يلي: " إنها تحكي بطلاقة رؤيا العشرة أسابيع، الأسبوع الأول ( به) ولادة إينوخ، (بـ)الأسبوع الثاني أُنقذ نوح من الطوفان، الأسبوع السادس صلب عيسى المسيح، الأسبوع السابع زمن عدو المسيح ( الدجال)" .. واعتبر أصحاب المخطوطة الإثيوبية أن عصر ظهور المسيحية كان وقت الحديث عن ظهور المختارين على نهاية الأسبوع السابع ( أي بعد المسيح عليه السلام بما هو دون السبعمائة سنة)، وفي ذلك مغالطة بيّنة إذ تم تبني الإمبراطورية الرومانية للمسيحية منذ حكم قسطنطين بعد ثلاثمائة عام من عصر المسيح، وأصبح ذلك هو المعلم البارز في تاريخها، بينما خسرت المسيحية إمتدادات واسعة على بداية المائة السابعة بعد المسيح عليه السلام بظهور الإسلام، وكانت البابوية المسيحية كما رضيت لنفسها جزءاً من حكم الإمبراطورية الرومانية الني تم الوعد بزوالها على أيدي المصطفَين (18)..
... هوامش رؤيا الأسابيع لإينوخ
(1) James H. Charlesworth, The Old Testament: Pseudepigraapha, Apocalyptic literature
(2) John Collins, in Apocalypticism in the Dead Sea Scrolls, 1997, p.21
(3) Robert H. Bogue, The Dawn of Christianity: The Essene Heritage, Vantage Press, 1986.
(4) The Book of Enoch: Aramic fragments of Qumran Cave 4, edited by J.T. Milik, with collaboration of Mathew Black, p. 247,253, Oxford 1976.
(5) John Collins, in Apocalypticism in the Dead Sea Scrolls, 1997, p.28.
(6) جاء في مستدرك الحاكم عن وهب بن منبه أنه سئل ، عن إدريس و هو وفي أي زمان هو قال : هو جد نوح الذي يقال له خنوخ و هو في الجنة حي ، و قال محمد بن إسحاق بن يسار : كان إدريس أول بني آدم أعطي النبوة و هو أخنوخ بن يزيد بن أهلاليل بن قينان بن ناشر بن شيث بن آدم .
((1/233)
7) جاء في مستدرك الحاكم : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " كان بين نوح و آدم عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين قال : و كذلك في قراءة عبد الله كان الناس أمة واحدة فاختلفوا ". قال الحاكم هذا حديث صحيح على شرط البخاري و لم يخرجاه، وهذا مما يتفق مع هذه النبوة بأن الفترة الأولى من عمر البشرية كانت فترة صلاح، وأن بداية الإنحراف كانت في قوم نوح عليه السلام.
(8) جاء مثلا في كتاب عزرا الرابع وهو من الكتب اليهودية السرية التي تعرضت للتصحيف المسيحي ( بالفصل السابع 30- 34) أنّه بعد سبعة أيام ( أي من عمر الخليقة) ستنام الخلائق كلها جميعا، ويصمت كلّ شيء، ثمّ يُوقظ الناس للحساب على أعمالهم فيما سمي بـ" يوم الحساب".. المصدر:
James H. Charlesworth, The Old Testament: Pseudepigraapha, Apocalyptic literature
((1/234)
9) جاء في مستدرك الحاكم عن عبد الله بن يسر قال :" وضع رسول الله صلى الله عليه و سلم يده على رأسي فقال : هذا الغلام يعيش قرناً قال : فعاش مائة سنة . قال الواقدي : يقول الله عز و جل : " و قرونا بين ذلك كثيراً " فكان بين نوح و آدم عشرة قرون ، و بينه و بين إبراهيم عشرة قرون فولد إبراهيم خليل الله على رأس ألفي سنة من خلق آدم " وهذا مما يتفق مع هذه النبوة ومع ما جاء في مصادر أهل الكتاب الأخرى. جاء في مستدرك الحاكم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " كان عمر آدم ألف سنة قال ابن عباس : و بين آدم و نوح ألف سنة ، و بين نوح و إبراهيم ألف سنة ، و بين إبراهيم و موسى سبع مائة سنة ، و بين موسى وعيسى ( داود؟) خمس مائة سنة ، و بين عيسى و محمد صلى الله عليه و سلم ست مائة سنة. قال الحاكم: وقد قدمت الرواية الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه ليس بينه و بين عيسى نبي"، وجاء في المستدرك أخبرنا أبو سعيد الأخمسي، ثنا الحسين بن حميد، ثنا ابن نمير، ثنا يونس بن بكير، ثنا محمد بن إسحاق قال : " و بين موسى إلى داود خمسمائة سنة و تسعة و ستون سنة"
(10) لخص مهندس أحمد عبدالوهاب تفاصيل الإستشهاد بالمزامير على أنّ الله قد أنقذ المسيح عليه السلام برفعه الى السماء، وأنّ المصلوب كان هو الشرير الذي كاد له، أنصح بمراجعة الموضوع من كتابه " المسيح في مصادر العقائد المسيحية"، وهو المصدر الرئيس لي في قضية الإستشهاد بالمزامير على عدم وقوع الصلب على المسيح عليه السلام.
(11) نص تسالونيكي الثانية 2: 2-3 " ولا ترتاعوا لا بروح ولا بكلمة ولا برسالة كأنها منا أي أن يوم المسيح قد حضر، لا يخدعنكم أحد على طريقة ما، لأنه لا يأتي إن لم يأت الإرتداد أولا" .. وشواهد حدوث هذه الردة كثيرة من الرسائل.. ويؤيدها الواقع والتاريخ كما أشرت إلى ذلك في مواضع أخرى من هذا الكتاب.
((1/235)
12) Many references here, e.g: M.J.Agee in "The End of the Age, p. 75.
(13) قال الله عز وجل " وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون" ، وفي رسالة بطرس الثانية 3:8 " أن يوما عند الرب كألف سنة، وألف سنة كيوم واحد".
هذا وقد اطّلعتُ وهذا الكتاب ماثل ٌ للطباعة في مراجعته الأخيرة على كتاب "عمر أمة الإسلام" لأمين محمد جمال الدين ، وقد أورد فيه ( ص9) قول منسوب لابن عباس " الدنيا جمعة ( أي أسبوع) من جمع الآخرة سبعة آلاف سنة" وهو مما قد لا يعني اختصاص أهل الكتاب بهذا الرأي. ومما أورده الكاتب استنتاجه بأن جملة المدة من آدم عليه السلام الى محمد صلى الله عليه وسلم 4800 سنة واعتمد في ذلك على أحاديث نبوية منها رواية أخرى للحاكم شبيهة لتلك بالهامش 9 إلا أنها أصح فيما يتعلق بالمدة بين موسى وعيسى ، وهي كما يلي "روى الحاكم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم "كان عمر آدم ألف سنة" قال ابن عباس وبين آدم ونوح ألف سنة وبين نوح وإبرهيم ألف سنة وبين إبراهيم وموسى سبعمائة سنة، وبين موسى وعيسى ألف سنة وخمسمائة سنة وبين عيسى ونبينا ستمائة سنة ..فإذا جمعها القارئ فسيجد أن المدة بين آدم ومحمد عليهما الصلاة والسلام هي 4800 سنة وهو ما يتفق تماماً مع ما أوردته أعلاه من الإسلام ، والمسلمين ظهروا في نهاية الإسبوع السابع ( أو في المائة الأخيرة من الإسبوع السابع أي بعد 4800سنة وقبل نهاية 4900سنة سنة ). وهو ما يتفق تماماً مع بشارة إدريس المذكورة هنا . هذا ولا بأس بالتنبيه أن مؤلفات الأستاذ أمين محمد جمال الدين لم أطلع عليها إلا والكتاب ماثلٌ للطباعة ولم أضف من كتبه إلا هذه الفقرة.
(14) The Book of Enoch: Aramic fragments of Qumran Cave 4, edited by J.T. Milik, with collaboration of Mathew Black, Oxford 1976, p.252.
((1/236)
15) The Old Testament: Pseudepigraapha, Apocalyptic literature, by James H. Charlesworth, p.10, 1983.
(16) هو أحد أفراد المجموعة الأولى التي عهد إليها بدراسة مخطوطات البحر الميت.
(17) المصدر السابق، ص258:
. “ It paraphrases freely the apocalypse of ten weeks (Enoch 93:2-I0 + 9I: 12-17): the first week, birth of Enoch; the second week, Noah saved from the flood; . . . the sixth week, the crucifixion of Jesus Christ.. the tenth week , the time of antichrist.”
تحسن الإشارة هنا إلى أن النبوة الأخرى في كتاب اينوخ والمشهورة برؤيا الحيوانات تنتهي أحداثها التأريخية عند انتصارات المكابيين كما هو بيّن من الرؤيا وكما يعلق على ذلك الباحثون من أمثال جون كولن وغيره .. ولا تعارض بين النبوأتين، إلا أن رؤيا الحيوانات لا تعنينا هنا، وليست كل نبؤات الكتاب المقدس والأخبار السابقة متعلقة بطبيعة الحال بالمصطفى أو المختارين فقط ..
(18) ورد لفظ " المصطَفَين" بالقرآن الكريم ليعني " المصطفين" للنبوة، وهو بذلك يقابل تماما لفظ المسحاء، والمفرد العَلَم منه أي المصطفى يقابل المسيا ( المسيح) ليعني خاتم الأنبياء ونبي الشعوب المنصور، وورد لفظ المصطَفَين أيضاً ليعني الأمة المصطفاة وهو بذلك يقابل تماما كلمة المختارين لدى أهل الكتاب.
وصية لاوي..
تأكيد آخر وبشارة أخرى من المخطوطات بأن خاتم الأنبيياء سيأتي نبيا جديدا لأمم الأرض من بعد عقاب بني إسرائيل بالإسبوع السابع
أورد البشارة التالية James H. Charlesworth جيمس تشارلزورث في الفصل المتعلق بوصايا الأسباط الأثناعشر من كتابه (1): العهد القديم، السودوايبيقرايفا أو التوراة المنحولة، والتراث المتعلق بأحداث آخر الزمان:
The Old Testament: Pseudepigraapha, Apocalyptic literature
،(1/237)
والبشارة هي جزء من وصية لاوي بن يعقوب عليهما السلام لأولاده لمّا حضرته الوفاة، ,وقد وردت هذه الوصية أو أجزاء رئيسية منها ضمن مخطوطات البحر الميت، كما أن أجزاء منها مكتوبة بالأرامية كانت قد اكتشفت ضمن معبد يهودي بالجيزة بالقاهرة، وطبعت عام 1910م، وهذا – أي وجود الوصية في المصادر اليهودية بما فيها مخطوطات البحر الميت – لهو مما يميّز وصية لاوي هذه عن بقية الوصايا المنسوبة للأسباط الآخرين، والتي أخذت بشكل عام من مصادر مسيحية، لا يشك الباحثون بتلاعب الكتبة المسيحيون بنصوصها، وإدخالهم أشارات واضحة إلى المعتقد المسيحي بما فيه من تأليه للمسيح، ومع ذلك فالإنطباع العام لدى الباحثين (1) هو أن وصية لاوي هذه كتبت في الفترة حول عام 250 ق.م ويدل على ذلك أن الدراسة بالكربون المشع 14 تدل على أن وصية لاوي كتبت بالفترة بين 200- 50 ق م، بينما تقترح الدراسات الأثرية عام 50 ق م ( 2).. ومن المؤرخين من يعتقد أنها مما كتبه المسيحيون في الفترة حول عام 200 م..
والذي يهمنا هو الإشارة إلى تناقل أهل الكتاب لهذه الوصية في فترة سبقت الإسلام بقرون كثيرة وسواء أكانت هذه الوصية هي حقا من كلام لاوي عليه السلام، أو مما نسب إليه، فإن مصداقية تحققها في رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم لهو مؤشر على أصالة أجزاء منها على الأقل.. وأورد هنا نص هذه البشارة بالإنجليزية من المصدر المذكور
صورة لأجزاء من رقع مخطوطة لاوي كما وجدت ضمن مخطوطات البحر الميت ( عن مكتبة الكونجرس الأمريكية).
النص (1):(1/238)
“ therefore the canctuary which the Lord chose shall become desolate through your uncleanness , and you will be captives in all the nations. And you shall be to them a revolting thing , and you shall receive scorn and eternal humiliation through the just judgment of God . All who hate you will rejoice at your destruction .And unless you had received mercy through Abraham , Isaac, and Jacob , our fathers , not asingle one of your descendants would be left on the earth .
Now I have come to know that for seventy weeks you shall wander astray and profane the priesthood and defile the sacrificial altars . You shall set aside the Law and nullify the words of the prophets by your wicked perversity . You persecute just men : and you hate the pious ; the word of the faithful you regard with revulsion .
A man who by the power of the Most High renews the Law you name Deceiver , and finally you shall plot to kill him , not descerning his eminence ; by your wickedness you take innocent blood on your head s. I tell you , on account of him your holy places shall be razed to the ground . You shall have no place that is clean, but you will be as a curse and aadispersion among the nations until he will again have regard for you , and will take you back in compassion .(1/239)
Because you have heard about the seventy weeks , listen also concerning the priesthood . In each jubilee there shall be a priesthood . In the first jubilee the first person to be anointed to the priesthood will be great , and he shall speak to God as father ; and his priesthood shall be fully satisfactory to the lord , and in the days of his joy , he shall rise up for the salvation of the world . In the second jubilee the anointed One shall be conceived in sorrow of the beloved one , and his priesthood shall be prized and shall be glorified by all . The third priest shall be overtaken by grief , and the fourth priesthood shall be with sufferings , because injustice shall be imposed upon him in a high degree , and all Israel shall hate each one his neighbor . The fifth shall be overcome by darkness ; likewise the sixth and the seventh . In the seventh there shall be pollution such as I am unable to declare in the presence of human being , because only the ones who do these things understand such matters . Therefore they shall be in captivity and will be preyed upon ; both their land and their possessions shall be stolen . And in the fifth week they shall return to the land of their desolation , and shall restore anew the house of the Lord . In the seventh there will come priests : idolators , adulterers , money lovers , arrogant , lawless , voluptuaries , pederasts , those who practice bestiality.
وأترجم النص أعلاه للقراء كما يلي:(1/240)
" .. لذلك فإن الحرم الذي اختاره الرب سيصير مهجوراً/خراباً بسبب نجاستكم، وستصيرون أسرى عند كل الأمم، وستكونون بالنسبة لهم شيئاً مقززاُ للنفس، وستتلقون السخرية والامتهان حُكماً عادلاً من الله. سيفرح كل الذين يكرهونكم بتحطيمكم، ولولا أن رحمة قبلت من خلال آبائنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب لما بقي من أحفادكم على الأرض ولا فرداً واحداً .
ولقد علمت الآن أنكم ستضيعون لمدة سبعين أسبوعاً، وتدنسون الكهانة ( الرسالة)، وتنجسوا المذابح المقدسة، وتضعون الشريعة جانباً، وتعطّلون كلمات الأنبياء بانحرافاتكم الخبيثة، وتضطهدون الرجال العادلين، وتكرهون الأتقياء، وتنظرون إلى كلام المؤمنين باشمئزاز، ( ثم يأتي) رجل ( مزوداً) بقدرة العلي يُجدّد الشريعة، وتسمونه محتال، ثم في النهاية تتآمرون لقتله، غير مقدرين مكانته العالية وبخبثكم تحملون ( ذنب) الدم البري على رؤوسكم ، أخبركم أنه بسببه فإن الأماكن المقدسة ستُحلق ( تقتلع) إلى الأرض، ولن يظل لكم مكاناً نظيفاً، وستصبحون كلعنة، ومشتتين بين الأمم حتى يعود ثانية (3) فيضع لكم اعتبار ويأخذكم أخرى بحنو ( شفقه).(1/241)
ولأنكم سمعتم عن السبعين أسبوعاً، فاسمعوا عن الكهانة ( الرسالة)، في كل فترة يوبيل ( أي فترة خمسين عاماً) سيكون هناك كاهن، في اليوبيل الأول، سيكون أول من يُعين للكهانة عظيماً وسيتحدث إلى الله كأب، وستكون كهانته مكان رضى الله عنها، وفي أيام بهجته، سيُرفع ( أوسيقوم أو يبعث) لإنقاذ العالم، وفي اليوبيل الثاني، فإن المختار سيأتي في عزاء على المحبوب ( لعله الكاهن أو الرسول السابق له) وستكون كهانته مقدرة، ويكون ممجداً من قبل الجميع، والكاهن الثالث سيؤخذ في أسى، والكهانة الرابعة ستكون في معاناة، للظلم الذي سيقع عليه بدرجة كبيرة، وسيكره كل الإسرائيليون كلٌ جاره، والخامس سيغطيه الظلام وكذلك السادس والسابع. وسيكون في السابع تلويثاً إلى حد أنني لا أستطيع إعلانه أمام البشر، لأنه فقط الناس الذين يقومون بهذه الأعمال يفهمونها، ولذلك سيكونون في الأسر وينهبون، كلا من أرضهم وممتلكاتهم ستسرق، وفي الأسبوع الخامس سيعودون إلى أرضهم المهجورة، وسيعيدون بناء بيت جديد للرب، وفي الأسبوع السابع سيأتي كهنة عبدة أصنام، وزناة، ومحبين للمال، ومتكبرون، وطاغون، وشهوانيون وشاذون جنسياً ( مع الرجال) وممارسين شهواتهم مع الحيوانات .(1/242)
وعندما يحل عليهم الانتقام من الله، ستنقطع الكهانة ( الرسالة). وبعد ذلك سيقيم الرب كاهناً جديداً، الذي سيظهر الرب له كل كلماته، وسيكون له التأثير على الحكم بالحق لأيام كثيرة، وسيرتفع نجمه في السماوات كملك، يصب نور المعرفة كأنه النهار أضاءته الشمس، وسيُمجد في العالم المعمور ( أو المسكون) (Inhabited world) كله، إن هذا سيضيء كما تضيء الشمس الأرض، وسيذهب بكل ظلام تحت السماء، وسيعم السلام كل الأرض، وستبتهج السماء في أيامه وستفرح الأرض، ويمتلء السحاب بالسعادة، وستصب معرفة الرب على الأرض كما يصب ماء البحر، وستكون ملائكه مجد حضور الرب سعيدة به، ستفتح السماء، ومن معبد المجد سينزل عليه التقديس ( التطهير) بصوت أبوي كأنه من إبراهيم لإسحاق، ومجد العلي سينصب عليه، روح الفهم والتقديس ستستقر عليه ( في الماء) لأنه سيعطي جلال الرب لهؤلاء اللذين هم أبناؤه في الحق للأبد، ولن يكون له خليفة من جيل إلى جيل إلى الأبد.
وبكهانته ( نبوته أو رسالته) ستضاعف معارف الأمم على الأرض، وستستضيء ( أي الأمم) بنعمة الرب، لكن إسرائيل ستتضاءل في جهلها، ويحل عليها ظلام حدادها.
في كهانته الذنب ينقطع، الباغون عن الشريعة سيسكنون عن آثامهم، والصالحون سيرون فيه راحتهم، وهو الذي سيفتح أبواب الجنة، وسيزيل السيف الذي هدد منذ عهد آدم، وسيضمن للقديسين أكل شجرة الحياة، وروح القدس ستحل عليه، وإبليس سيقيد على يديه وسيعطى القدرة على وطء الأرواح الشريرة، وسيبتهج الرب بأولاده، وسيبتهج هو بأحبائه إلى الأبد، وعندها سيفرح إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وسأكون سعيداً، وسيعم ( يغطي) كل القديسين ثوب الصلاح."(1/243)
وأورد البشارة نفسها كذلك دبونت سومر A. Dupont- Sommer في الفصل الثالث من كتابه: جماعة قمران اليهودية والأسينيون: دراسات جديدة عن مخطوطات البحر الميت، مترجما عن الفرنسية إلى الإنجليزية، ترجمة بارنت (3)، وأورد هنا النص بالإنجليزية من المصدر الأخير المذكور:
النص كما ورد في كتاب دبونت-سومر، ترجمة بارنت:
“ .. And in the fifth week they shall return to their desolate country,Ashall renew the house of the lord.
Andin the seventh week shall come priests ( who are) idolaters,
Adulterers ,lovers of money , proud,lawless,
Lascivious,paderasts given to the sin of bestiality.
CHAPTER XVIII
And after their punishment shall have come from the lord , the (old) priesthood shall disappear.
Then shall the Lord raise up a new priest..
And to him all the words of the Lord shall be revealed ;
And he shall execute a righteous judgment upon the earth during a multitude of days .
And his star shall arise in Heaven as of a king .
Lighting up the light of knowledge as the sun the day.
And he shall be magnified in the world .
He shall shine forth as the sun on the earth ,
And shall remove all darkness frome under heaven
And there shall be peace in all the earth .
The heavens shall exult in his days ,
And the earth shall be glad ,
And the clouds shall rejoice ;
(And the knowledge of the Lord shall be poured forth upon the earth , as the waters of the seas ;)
And the angels of the glory of the presence of the Lord shall be glad in him .
The heavens shall be opened,
And from the temple of glory shall come upon him sanctification,
With the father’s voice as from Abraham to Isaac.(1/244)
And the glory of the Most High shall be uttered over him,
And the Spirit of understanding and sanctification shall rest upon him (in the water).
For he shall give the majesty of the Lord to His sons in truth for evermore;
And there shall none succeed him for all generations for ever.
And in his priesthood the Gentiles shall be multiplied in Knowledge upon the earth,
And enlightened through the grace of the Lord:
But Israel shall be minished through ignorance, and darkened through grief.
And in his priesthood shall sin come to an end,
And the lawlees shall cease to do evil.
( And the just shall rest in him).
And he shall open the gates of paradise,
And shall remove the threatening sword (aimed) againts Adam.
And he shall give to the saints to eat from the tree of life,
And the Spirit of holiness shall be on them.
And Belial shall be bound by him,
And he shall give power to His children to tread upon the evil spirits.
And the Lord shall rejoice in his children,
And be well pleased in his beloved ones for ever.
Then shall Abraham and Isaac and Jacob exult,
And I will be glad,
And all the saints shall clothe themselves with joy.
ترجمة النص الذي أورده دبونت سومر:
وهو نص لا يكاد يختلف عن النص الأول الأسبق لهذه البشارة، إلا أنه غير مكتمل من أولها:
وفي الأسبوع الخامس سيعودون إلى البلد المهجور،
ويجددون بيت الرب،
وفي الأسبوع السابع، سسيأتي الكهنة الذين هم عبدة أصنام ومتفحشون، وجشعون ومتكبرون، وغير ملتزمين بالتوراة، وشهوانيون وشاذون زممارسون لشهواتهم مع الحيوانات،
الفصل الثامن عشر:
وبعد أن يأتي عقابهم من الرب، ستختفي الكهانة القديمة،
وسيقيم الرب كاهناً جديداً،(1/245)
وله سيظهر الرب كل كلماته،
وسيطبق الحكم( العقاب) العادل على الأرض خلال أيام عديدة،
وسيرتفع نجمه بالسماء كملك،
وسيضي نور المعرفة كما تضيء الشمسُ النهار،
وسيُعظّم بالعالم،
وسيشع نورا كما تشع الشمس على الأرض،
وسيزيل كل الظلام من تحت السماء،
وسيكون هناك سلاما في كل الأرض،
وستبتهج السماء في أيامه،
وتسعد الأرض،
وتبتهج السحب،
وعلم الرب سيصبّ على الأرض كأنه مياه البحر،
وستبتهج له ملائكة مجد الرب،
السماوات نفتح ( له)،
ومن معبد المجد سيحل عليه التقديس،
وبصوت أبوي كأنه صوت أبراهيم لإسحاق.
7وعظمة العلي ستعمّه،
وروح الفهم والقداسة ستحل عليه،
وسيعطي جلال الرب لأبنائه بالحقيقة الأبدية،
ولن يعقبه أحد في كل الأجيال إلى الأبد.
وفي ظل كهنوته، ستزداد الأمم ( غير اليهودية) في المعرفة على الأرض،
وستتنوّر بعزة الرب،
ولكن إسرائيل ستتضآل بالجهل، وتغرق في ظلام الأسى،
وفي ظل كهنوته، ستنتهي الخطيئة،
والمارقين ( عن الشريعة) سيتوقفون عن فعل الشر
والمستقيمون سيعتمدون عليه.
وهو سيفتح أبواب الفردوس،
وسيزيل السيف المهدد لآدم.
وسيعطي القديسين أن يأكلوا من شجرة الحياة،
وستكون عليهم روح القداسة.
وسيقيد ابليس بيده،
وسيعطى القدرة على وطء الأرواح الشريرة،
وسيبتهج الرب بأولاده،
وسيبتهج هو بأحبائه إلى الأبد،
وعندها سيفرح إبراهيم وإسحاق ويعقوب،
وسأكون سعيداً،
وسيعم (يغطي) كل القديسين ثوب السعادة "
التعليق:(1/246)
هذه بشارة أخرى عظيمة، وواضحة الدلالة، وهي من ضمن ما أثبته أصحاب قمران في مخطوطاتهم ( مخطوطات البحر الميت)، تلك المخطوطات التي ثبت أنها مكتوبة من قبل عهد رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم بقرون عديدة، وعلى يد طائفة يهودية.. وقد قدّر J.T.Milik (4) أن هذه النبوة قد كتبت في القرن الثالث أو الرابع ( قبل الميلاد).. وتؤكد هذه البشارة المنسوبة إلى أحد الأسباط ( أولاد يعقوب عليهم السلام) بأن عودة اليهود من الأسر البابلي بالإسبوع الخامس ( وهو مايتفق تماما مع نبوة إينوخ السابقة) وإعادتهم بناء الهيكل لن تكون بداية البر الأبدي ومملكة الله لهم، كما حلم بذلك كثير منهم، بل سيعقبها بالإسبوع السابع تماما كما توقع إينوخ ( ومن بعده ؟ دانيال عليهم السلام كما سبق) عقاب رباني شديد على بني اسرائيل حتى يختفي هيكلهم وتطوى صفحتهم، وينقطع عنهم الكهنة ( الأنبياء)، ويغلب الوثنيون.. وهو ماتم وقوعه فعلا بالتأريخ وقد ناقشنا بالنبوة السابقة ( نبوة إينوخ عليه السلام )أن ذلك الإنتقام الإلهي الذي وقع عام 70م وعام135م انما وقع بالإسبوع السابع من بعد آدم عليه السلام وتضيف هذه النبوة أنه بعد إختفاء الكهنوت من اسرائيل وبعد أن يتم وقوع عقاب الرب عليها.. فإن الله سيبعث بعد ذلك كاهناً أو نبياً جديداً.. سيسطع نجمه كالشمس، فيسمع بدعوته كل الناس، وسيمحو الظلمات، وينتشر الإيمان ومعرفة الله.. ولا تعد حكرا على جماعة أو طائفة محدودة من الناس.. بل ينتشر الإيمان بالله حتى يكون هو الساائد والغالب في العالم المسكون حينها، ويعمّ السلام ( لفظ السلام بالعبرية مشابه جدا للفظ الإسلام) الأرض..(1/247)
ويبين هذا النبي للناس مجد الرب (5) وتظل تعاليمه في الأرض إلى الأبد، فهو نبي لكل الأمم وهو خاتم الأنبياء ولن يعقبه أحد ( نبي آخر) عبر الأجيال من بعده: " لأنه هو الذي سيعطي تمجيد الرب لأبنائه في الحق إلى الأبد، ولن يعقبه أحد من جيل إلى جيل إلى الأبد. وتحت كهنوته، ستزداد الأمم في المعرفة على الأرض .." .. وسيمجد اسمه ويمدح في كل الأرض.. وبينما تنتشر المعرفة وتمجيد الله بين الأمم، يزداد العمى والضلال بين بني اسرائيل: " لكن إسرائيل ستتقلص في الجهل، وستغرق في ظلام الحداد" وهو ما يحمل إشارة بينة بأنه لن يكون من بني اسرائيل، وبأن أتباعة سيكونون من سائر الأمم... إلا أن اليهود لن ينتفعوا به، كما انتفعت به أمم الأرض، وهو ماتم فعلا من كفر اليهود بخاتم الأنبياء، وهو ما أخبر به كذلك دانيال (6) والأنبياء.. وهذا النبي هو الذي سيفتح أبواب الجنة، وهو أول من يدخلها..
فمَن يكون خاتم الأنبياء هذا الذي لا نبي بعده والذي جاء من بعد هلاك بني اسرائيل على أيدي الروم واختفاء هيكلهم ( بالإسبوع السابع كما نصت هذه البشارة)، فكان نبيا لكل الأمم، وكُتب لدعوته النصر حتى سادت العالم المأهول، ونجحت دعوته في نشر المعرفة بالله وتصحيحها لدى أمم الأرض، ومجّد الله في الأرض، وأتبعته الأمم، فعرفت من خلاله ربها وخالقها، إلا بني اسرائيل فقد كفروا به وازدادوا بسبب ذلك ضآلة وجهلا، وكان هو الذي سيفتح الجنة للمؤمنين ليكون أول من يدخلها، وانتشر تمجيده في كل أنحاء الأرض..؟؟(1/248)
مَن غير رسول الله محمد صلى اله عليه وسلم.. وهل جاء أصلاً بعد تشريد بني اسرائيل نبي آخر.. وقد كان تشريد بني اسرائيل على أيدي الروم في نهاية الإسبوع السادس ( أي حوالي عام 4200 من نزول آدم عليه السلام، كما أثبتنا من قبل)، وظهور هذا النبي هو في الأسبوع السابع كما نص عليه هنا في جميع التراجم التي أوردت.. أي أنه جاء خلال سبعة قرون ( أو أسبوع من القرون) من بعد تدمير اسرائيل على أيدي الروم.. وهو الذي ذكر عن نفسه أنه خاتم الأنبياء، وأن ليس بعده نبي، وأنه هو الذي سيفتح أبواب الجنة (7) ويكون أول من يدخلها، وأن دعوته عامة لكل أمم الأرض، وأنها ستنتصر وينتشر بها الإيمان بالأرض.. أم سيجادلون أنه كان يقرأ نبوة لاوي هذه المختفية ضمن المخطوطات، ويدعي مابها لنفسه؟ فهل - ياأيها الناس و يأهل الكتاب – ينازعه فيها أحد ؟ أم كيف حقّق ما جاء بها فانتشرت دعوته بالأرض وانقطع من بعده الأنبياء، واختار مجيئه على نهاية الإسبوع السابع..! قد سطع الحقّ وكفى ..(1/249)
ويبقى بعد ذلك الإشارة إلى دقة سرد الأحداث التي وردت بالبشارة، وإلى موقع المسيح عيسى عليه السلام منها، فإن لاوي عليه السلام يذكر هنا أن الحرم بالقدس ( أورشليم) سيصبح خرابا بسبب آثام اليهود، وتعطيلهم للتوراة، واستهزائهم بالصالحين، واضطهادهم للأتقياء العادلين، وأن الله عزوجل سيشردهم بين الأمم أذلة مهانين ملعونين، ولولا بقية رحمة من الله ما بقي منهم أحد على الأرض ولا حتى فردا واحدا.. فما أقرب هذا إلى ما ورد بالزبور عن طرد الأمة الملعونة من الأرض ( فلسطين) حتى لا تجد لهم بها أثرا ( تُراجع بشارات وراثة الأرض في الفصول التالية ).. ثم إن البيت سيحلق إلى الأرض.. وما أقرب هذا في وصف ما حدث فعلا إلى ما روي عن عيسى عليه السلام من أنه لن يبقى من الهيكل حجر على حجر.. وإنما أذكر هذه الملاحظات لتأكيد ما نقطع به من أن الحديث هنا هو عن خراب الهيكل على أيدي الروم، والذي تبعه اختفاء الهيكل، وشتات بني اسرائيل بين الأمم.. وهو ماتمّ في نهاية الإسبوع السادس .. أي بعد آدم بما يقرب من أربعة آلاف ومائتي عام ( قمري) كما تتفق على ذلك حسابات أهل الكتاب وكما فصلت ذلك من قبل.. وهنا تأتي الإشارة إلى نبي عظيم، لا تذكر النبوة وقت ظهوره، لكنه الأخير ضمن سبعة كهنة ( أنبياء) سيرسلون الى بني اسرائيل خلال مدة السبعين اسبوعا ( وهي المدة التي ذكرها دانيال لتنتهي بخراب الهيكل على أيدي الروم)..(1/250)
وسُيتبع التآمر على قتله بالعقاب الشديد على بني اسرائيل، الذي سيشردون من بعده خارج الأرض المباركة وتنقطع عنهم النبوة، فهذا النبي الأخير الذي سيأتي قبيل عقاب الله لبني اسرائيل سيأتي في نهاية فترة السبعين اسبوعا ( 490عاما ) وهي الفترة الواقعة بين نهاية الأسبوع الخامس( حيث تمت العودة من الأسر البابلي كما أشارت النبوة وتلاها إعادة بناء البيت) وبين نهاية الإسبوع السادس أو بداية الإسبوع السابع حين وقعت الردة ثم العقاب على بني اسرائيل كما ذكرت النبوة أعلاه، وقد أُعطي هذا الرسول ( الكاهن) الذي سيجيء قبيل عقاب بني اسرائيل أُعطي الحقّ في تجديد الشريعة، وسيكون مؤيداً بمعجزات أو قدرات من الله عزوجل، فيكذبه اليهود، ويتأمرون لقتله، ويكتب عليهم خطيئة وإثم ذلك العمل، ويحلّ عليهم بسبب تأمرهم لقتله هذا البلاء المذكور والذي نعلم أنه وقع لاحقا على أيدي الرومان .. " .. رجل ( مزوداً) بقدرة العلي يُجدِّد الشريعة، وتسمونه محتال، ثم في النهاية تتآمرون لقتله، غير مقدرين مكانته العالية وبخبثكم تحملون ( ذنب) الدم البريء على رؤوسكم، أخبركم أنه بسببه فإن أماكن المقدسة ستُحلق ( تقتلع) إلى الأرض، ولن يظل لكم مكاناً نظيفاً، وستصبحون كلعنة، ومشتتين بين الأمم" ..(1/251)
فمَن غير عيسى عليه السلام جاء مجدداً للتوراة ؟ وهو الذي خاطب ( كما أُثبت بالقرآن في عدة مواضع ) بني اسرائيل يبشرهم بتخفيف بعض أحكام التوراة ( ولأحلّ لكم بعض الذي حرّم عليكم)، ومن غير عيسى عليه السلام كان مزودا بالمعجزات ثم تآمر اليهود لقتله، وعوقبوا على ذلك بهدم هيكلهم ومدينتهم المقدسة وطردهم خارج الأرض المباركة، وهو الذي جاء على نهاية السبعين اسبوعا (8) المنتهية بمجيئه كما يفهم من الفقرة الثانية من هذه النبوة، المبتدأة باستعراض الكهنة في هذه الفترة، والتي ستنتهي بالعقاب الذي سيحل بعد التآمر على قتل مجدد التوراة: (ولأنكم سمعتم عن السبعين أسبوعاً، فاسمعوا عن الكهانة ( الرسالة).. وهو ما يتفق تماما مع البشارات السابقة كبشارة السبعين اسبوعا وغيرها، ويؤكد صحة تفسيرنا السابق لبشارة السبعين اسبوعا، وصحة القول بأن الرجل الصالح Righteous teacher المذكور هنا الذي ينتظره أصحاب المخطوطات لم يكن الا عيسى عليه السلام.. وهو ما سنفصل فيه لاحقا..(1/252)
إن الحديث هنا عن الإسبوع الخامس وما تلاه من إعادة بناء البيت " وسيُعيدون بناء بيت جديد للربّ" ثم الإسبوع السابع بما فيه من ردة، وانتقام لله من بني اسرائيل، وتحميلهم إثم التآمر لقتل النبي المجدّد المؤيد بالمعجزات، ثم انقطاع النبوة عنهم ( وبعد أن ينفذ الرب عقابهم، سيختفي الكهنوت)، ثم ظهور خاتم الأنبياء نبيا مرسلا لكل الأمم خلال الأسبوع السابع نفسه.. لهو في اتفاق تام مع ما يقتضيه تفسير نبوة الأسابيع السابقة لإينوخ ( كل منها بسبعة قرون) الذي فسّرته من قبل اثناء استعراضي لبشارة الأسابيع، رغم عدم الإشارة الصريحة هنا الى تلك النبوة من كتاب إينوخ... وكل هذا الحديث هنا عن الإسبوع السابع مسبوق في البشارة بإشارة سريعة للسبعين اسبوعا من السنين (8) ( أي 7 × 70 أو 490 سنة) التي يضيّع خلالها بني اسرائيل الشريعة، وتنتهي السبعين اسبوعا بالتآمر على نبي عظيم مؤيد بالمعجزات ثم بعقاب الله الكبير لبني اسرائيل بعد ذلك، في اتفاق كامل مع التفسير الذي قدمته لبشارة السبعين اسبوعا (9)، دون الإستشهاد الصريح هنا في وصية لاوي بتلك البشارة.. لكن تلك الإشارة السريعة كافية للتأكيد مرة أخرى بأن المسيا الذي سيقطع ولن يصنع شيئا في بشارة السبعين اسبوعا هو نفسه النبي الذي سيصعد إلى السماء قبيل عقاب بني اسرائيل في بشارة الأسابيع لإينوخ وهو نفسه الذي سيجدد التوراة ويُتأمر على قتله في بشارة في وصية لاوي.. وهو نفسه الذي ذكره أصحاب المخطوطات بلقب " المبشّر".. وذلك – مرة أخرى- بلا شك عيسى عليه السلام....(1/253)
فهل هناك أدنى ذرة من شك في أن هذا النبي المقصود إنما هو عيسى عليه السلام.. وهو نفسه الذي ذكر أصحاب المخطوطات أن العذاب الشديد سينزل على بني اسرائيل أربعين عاما من بعد ذهابه ( لقبوه بالمعلم الفريد (10) وبالمعلم الصالح).. عقوبة لهم على آثامهم وعلى تأمرهم عليه كما تذكر هذه النبوة ولتقوّلهم عليه ( وعلى أمه (11). وهو الذي بعد ذلك روت عنه الأناجيل أنه أنذرهم بهذا العذاب، وأنه جاء بخبر السيف والعقاب عليهم من بعده، وأخبرهم بأن ذلك هو البلاء الذي عناه دانيال ( على نهاية السبعين اسبوعا) ..
والعجيب بعد ذلك أن يأتي بعض الباحثون بخلفياتهم الغربية فيزعمون أن المقصود هنا هو معلم خاص بالإسينيين من أصحاب قمران.. والحقّ الذي لا شكّ فيه – ولا أرى القاريء إلا معي في هذا – أن الأسينيين اللذين تنسب إليهم الكتب المحتوية على وصية لاوي هذه - ومنهم أصحاب المخطوطات - إنما يتنبأون هنا بمجيء عيسى عليه السلام، وبما سيصنعه به اليهود.. وأن عيسى عليه السلام هو أحد المسيائين ( المسيحين، أو المصطفَين) الذين تنبأ بمجيئهما أهل قمران ( أصحاب المخطوطات).. وأما الثاني الذي سيتحقق على يديه الإنتصار على الأمم فليس إلا المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم.. وإن كان أهل المخطوطات أخطأوا في توقعهم أنه من اليهود.. وقد أوضح عيسى عليه السلام لليهود خطأ هذا الإعتقاد كما سنبين لاحقا.
وتظلّ توقعات أهل قمران والإسينيين بمجيء المسيين نبؤات بنيت على أخبار الأنبياء من قبل، التي منها هذه البشارة المنسوبة إلى لاوي.. ولكنه يعسر على الباحثين تصديق أن هذه النبوات قيلت في عيسى قبل عهده.. فأوّلوها لتعني معلما فريدا عظيما ( كما وصفه أهل قمران) خاصا بأهل قمران ظهر وقتل في وقت سبق كتابة هذه الأخبار عنه، وهو تأويل لا أساس له..(1/254)
وبعدُ، فهل بعد ذلك ذرة شك في أن النبي الآخر ( واضح أنه غير عيسى عليه السلام) المبعوث في نهاية الإسبوع السابع هو محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم.. فهو الوحيد الذي تنطبق عليه صفات خاتم الأنبياء المذكورة هنا في بشارة لاوي هذه، وهو الذي سيقيم البر الأبدي، ويختار أقدس بقعة للعبادة، ويكون هو أفضل البشر ( ومسح قدوس القدوسين) كما في بشارة السبعين اسبوعا، وهو الذي سيأتي ومعه المختارون في نهاية الإسبوع السابع فينتصر على الأمم ( بشارة الأسابيع).. وهو الذي سيقيم مملكة الله كما أخبر بذلك فيما بعد المسيا الأول عيسى عليه السلام..(1/255)
وقد يبرز للقاريء تساؤلان.. أولهما عن هؤلاء الأنبياء المقصودون في فترات اليوبيلات ( الخمسينيات) السبعة.. والغموض بارز فإن فترة سبعة يوبيلات ( كل منها خمسون عاما) وهي ثلاثمائة وخمسون عاما، فترة قصيرة جدا، وواضح من النص أنها من ضمن فترة السبعين اسبوعا التي ( ستبقى) لبني اسرائيل من بعد بناء الهيكل ومدينة القدس ثانية من بعد عودتهم من الأسر البابلي.. وقد يفهم مع هذا أنها فترة سبقت الأسر البابلي وذلك لإنتقال النص بعد الحديث عن الكهنة السبعة في فترة اليوبيلات الى ذكر الإسبوع الخامس والعودة من الأسر (البابلي)، وقد ظهر خلال هذه الفترة السابقة على الأسر البابلي الأنبياء اشعياء وهوشع وعاموس ويوئيل وعوبديا وميخا وصفنيا وإرميا (12).. ومع هذا فسواء أكان الحديث عن هؤلاء الكهنة يعني أحداثا وأنبياء ضمن فترة من التأريخ اليهودي، أو كان الحديث هو عن أنبياء ضمن تأريخ البشرية عامة، فليس ذلك مما يؤثر على البشارة إذ إن الحديث قد جاء بعد ذلك عن أحداث الأسبوع الخامس والسابع وبعثة النبيين عيسى ثم محمد عليهما السلام بشكل صريح ،ساطع ، لايدع المجال لأي مراء !!.. ويلاحظ معي القاريءُ الإنتقالَ المباشر من الحديث عن الكهنة ضمن هذه اليوبيلات السبعة إلى الحديث عن الأسابيع.. مبتدأ بالإسبوع الخامس الذي ستتم خلاله( على نهايته) عودة بني اسرائيل من الأسر البابلي، ثم ينتقل الى الإسبوع السابع وأحداثه التي ناقشناها من قبل.. والتساؤل الثاني، هو الإشارة إلى عودة عيسى عليه السلام، وإيمان بني اسرائيل به عند عودته .. " وستصبحون كلعنة، ومشتتين بين الأمم حتى يعود ثانية فيضع لكم اعتبار ويأخذكم أخرى يحثو ( شفقه) "، ولا أدري إن كان هذا من تحريف الكتبة وإضافاتهم للإبقاء على الأمل لبني اسرائيل، أم أنه من كلام لاوي فعلا ( أو من النبوة الأصيلة)..(1/256)
وعلى أي حال فواضح أن عودة عيسى عليه السلام ستكون من بعد مجيء خاتم الأنبياء، إذ أن بني اسرائيل كما هو موضح في هذه البشارة سيزدادوا كفرا وضلالا، ولن ينتفعوا بخاتم الأنبياء كبقية الأمم.. ونؤمن كمسلمين أن بني اسرائيل سيظلوا على كفرهم حتى يقاتلهم المسلمين في آخر الزمان، فيغلبونهم، ويقتل منهم الكثير، وتتم عودة المسيح عيسى عليه السلام في تلك الأثناء، فيؤمن به كل أهل الأرض ومنهم اليهود.. وعلى ذلك جاء قوله تعالى في القرآن الكريم عن عيسى عليه السلام :" وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته، ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا" .. وعيسى لم يمت بعد، وإنما سيكون هذا عند عودته فيؤمن به اليهود والنصارى جميعا .. فواضح أن تلك العبارة التي لا نعلم أصالتها بالنص، لا تضعف البشارة بل تزيدها دقة ووضوحا، وهي متفقة مع ما نؤمن به..!
ــــــــــــــــــ
هوامش بشارة وصية لاوي
(1) James H. Charlesworth, The Old Testament: Pseudepigraapha, Apocalyptic literature
(2) The complete World of The Dead Sea Scrolls, by Phillip R. Davies
al, 2002.
(3) The jweish Sect of Qumran and the Essenes: New studies on the dead sea scrolls, by A. Dupont- Sommer, chapter 3, translated from the French by R.D.Barnett,1954
(4) The Book of Enoch: Aramic fragments of Qumran Cave 4, edited by J.T. Milik, with collaboration of Mathew Black, Oxford 1976.
(5) قارن التبشير هنا بأنه سيظهر مجد الرب بما روي عن عيسى عليه السلام عند تبشيره بالباركليتوس من بعده بأنه سيظهر مجد الرب، ويُمجّد ( بمعنى يثني على) عيسى عليه السلام نفسه، ويبين للعالم مدى الضلال الذى بلغه في حقه..
((1/257)
6) في دانيال 12: 10 عند الحديث عن أحداث النهاية بعد تفريق بني اسرائيل " أن كثيرون يتطهرون أما الأشرار فيفعلون شرا" وقد جاء تفسير هذا بأنه يعني إصرار بني اسرائيل على ضلالهم وعدم استفادتهم من الرسالة الخاتمة .. والإشارة إلى مثل هذا سبقت ضمنيا عند نقاش الأمثلة المنسوبة إلى المسيح عليه السلام عن مملكة الله القادمة .. وهو ما صُرح به في هذه النبوة عن إصرار اليهود على الضلال في الوقت الذي تتبع فيه الأمم المصطفى خاتم الأنبياء : " وبكهانته (نبوته أو رسالته) ستضاعف معارف الأمم على الأرض ، وستستضيء ( أي الأمم) بنعمة الرب ، لكن إسرائيل ستتضاءل في جهلها ، ويحل عليها ظلام حدادها" .
(6) روى الإمام مسلم عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنا أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة وأنا أول من يقرع باب الجنة"، وروى مسلم كذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، وأحلت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون . رواه مسلم في الصحيح عن يحيى بن أيوب وغيره .
(6) يلاحظ أن نبوة دانيال الخاصة بالسبعين اسبوعا قد سمّت النبي الذي سيأتي على نهاية السبعين اسبوعا بالمسيا ( المسيح)، وأشارت في مقدمتها الى المصطفى الذي سيقيم البر الأبدي وبه تختم النبوة بأنه أفضل الخلق ( أو أن مكان العبادة القادم هو أفضل البقاع) .. وهذا مما يتفق مع المفهوم الإسلامي في تلقيب عيسى عليه السلام بلقب المسيح، وتلقيب محمد عليه الصلاة والسلام بالمصطفى رغم أن المعنى الأصلي للكلمتين متحد.
((1/258)
7) نقل Hugh Schonfield في كتابه The Essene Odyssey( 1984، ص18) عن R.H Charles رأيه بأن عبارة " رجل ( مزوداً) بقدرة العلي يجدد الشريعة، وتسمونه محتال، ثم في النهاية تتآمرون لقتله .." هي من إدخالات الكتبه المسيحيين لكنّه أقرّ بأن هذا الرأي لـ Charlesكتب قبل اكتشاف مخطوطات البحر الميت بأربعين سنة، وقد اعتبر James H. Charlesworth في المصدر أعلاه بالهامش (1) أن هذه العبارة أصيلة لكنها تعرضت لبعض تلاعب من قبل الكتبة المسيحيين ..
أرجو ألا يختلط على القاريء مفهوم الأسابيع من القرون المذكورة بهذه البشارة وبشارة الأسابيع لإينوخ والمبتدئة من عصر آدم عليه السلام، فكل اسبوع منها هو من سبعة قرون، وقد بينا في بشارة الأسابيع السابقة أنّ ظهور الإسلام كان على نهاية الأسبوع السابع.. أرجو ألا يخترة السبعين اسبوعا التي هي من السنين، أي فترة 70 * 7 أو 490 سنة مبتدئة من تاريخ إعادة بناء القدس والمعبد..
(8) وعلى القاريء مراجعة ذلك في بشارة مجيء الخلاص ص95-105
(9) يأتي ذكر فترة السبعين اسبوعا التي يدنس فيها الهيكل ( لكنه يظل خلالها قائما ) وتُعطّل فيها الشريعة ( وما زال لليهود كيان وقتها بفلسطين)، لتنتهي الفترة بالتآمر بقتل النبي المؤيد بقدرة من الله، ثم يتبعها بعد ذلك هلاك بني اسرائيل وتشتيتهم، يأتي في وصية لاوي ذكر فترة السبعين اسبوعا هذه المنتهية بالتأمر على قتل النبي المؤيد بقدرة الله مؤكداً لصحة التفسير الذي سبق أن أوردته عن هذه الفترة عند التعليق على بشارة السبعين اسبوعا من كتاب دانيال.. وقد يحسن من القاريء مراجعة بشارة السبعين إسبوعا لفهم دلالة ذكر فترة السبعين اسبوعا هذه في وصية لاوي هنا.
((1/259)
10) قال الله عز وجل في سورة النساء، آية 154- 158: " فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الانبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا.وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً . وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً... فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أُحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا. وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما"
(11) Robert H. Bogue, The Dawn of Christianity: The Essene Heritage, 1986, p.140.
(12) مخطوطة الخمسينيات : ورد الوعد في فاتحتها بسرد الأحداث حتى قيام الساعة يوم تجديد السموات والأرض , ولكن أحداثها المسرده وقفت عند عصر موسى وتمزق فرعون وقومه.....فهل حذف بقية السرد من يهود المخطوطات أم من مترجمي المخطوطات؟......أم أن ترجمة المقدمة لم تكن دقيقة , ولم يقصد سرد الاحداث بعد موسى عليه السلام.
خلط وتوضيح
وبعدُ، فقد تتساءل أخي القارئ ما الذي يصرف الناس عن الإيمان بدولة الإسلام مُحقِّقةً لنبوءات الأنبياء حول قيام مملكة الله العالمية من بعد دولة الروم، وقد انطبقت عليها النبوءات بشكل قاطع كما رأينا ؟.. والواقع أنه إضافةً إلى ما ذكرناه من حسد اليهود واستكبارهم حتى على الله عزّ وجلّ أن يصرف الوحي عنهم إلى غيرهم، فهناك خلط في بعض الأخبار المتعلقة بقيام مملكة الله صرفت أذهان النصارى إلى مملكة ستقوم بعودة المسيح إلى الدنيا وإحيائه للموتى وحسابهم على - حد زعمهم – وإنشائه بعد ذلك لهذه المملكة التي ستظل عامرة على الأرض ألف عام ..(1/260)
ولا بد هنا من الإشارة إلى هذا الخلط القائم في أذهان النصارى حول القيامة والآخرة والحساب.. فبينما يؤمن النصارى بالجنّة ونعيمها، والنار وعذابها، وبالبعث قبل ذلك، يؤمنون مع ذلك بأنّ المسيح عليه السلام سيأتي فجأةً إلى الدنيا وهي ما تزال عامرة بالناس والأمم، فيقيم مملكة الله التي بشّر بها الأنبياء وبشر بها هو نفسُه، بل كان التبشير بها غاية رسالته، فيقوم عند مجيئه القادم هذا بإحياء الموتى أولاً، ثمّ الفصل بين الناس ومعاقبة الأشرار، ثمّ إقامة دولة على الأرض تتعمَّر بعد ذلك لمدة ألف عام (1).. وهذا خلط واضح لحديث المسيح عن قيام مملكة الله القادمة من بعده، كمملكة أرضية وشيكة، ولأحاديثه الأخرى المستقلة عن قيام الساعة وأخبارها.. فالمسيح لم يكن يعني نفسه قط عند حديثه بقرب قيام مملكة الله من بعده على أيدي غير اليهود.. ولو فُهِم أنه هو الذي سيقيم مملكة الله لنُقِل إلينا جدل الناس معه وحوارهم المُلحّ له وابتهالهم إليه كيف يُؤخِّر قيام مملكة الله عنهم وهم بأمس الحاجة إليها.. وقيامها أمر من ملك يديه ( على ما يتخيله نصارى اليوم)، كيف وقد رأى المؤمنون المسيا ( المصطفى) المنتظر وهو حلمهم وحلم آبائهم بالليل والنهار، كيف يدعونه يمضي دون أن يقيم لهم مملكة الله؟ أم كيف يتجرأ المسيح أن يزعم بأنه هو المسيا المنتظر الذي سيقيم مملكة الله، ثمّ لا يقيمها؟ ويعيش مطارداً أو مستخفياً..(1/261)
والواقع أنّ المسيح إنّما كان ببساطة يبشّر المؤمنين الصادقين بعلو كلمة الله من خلال هذه المملكة على أمم الكفر المتجبرة عليهم حينها في الأرض، وحينَ ذكر مَن سيُنشئ هذه المملكة أنّما استخدم نفس اللفظ أو التسمية التي استخدمها دانيال عليه السلام في نبوءاته عن رسول الاسلام صلى الله عليه وسلم ( الإصحاح السابع والتاسع)، دون أن يقول بلسان المتكلم إذا جئتُ أو عدتُ، وقد أثبتنا من قبلُ قطعاً أنّ دانيال كان يقصد بإبن الإنسان شخص الرسول محمّد صلى الله عليه وسلم، وسيمر معنا فيما بعد دلائل بيّنة على أنّ المسيح عليه السلام قد صرّح في الواقع باسم الرسول صلى الله عليه وسلم.. وكان المسيح يطالب اليهود باتباع المملكة القادمة ونبيها، وإن كانت من أمة غير أمتهم، ويحذّرهم أن يأخذهم الحسد فيضيعهم ( على القاريء مراجعة الأمثلة السابقة بالأناجيل عن مملكة الله).. ومن يقرأ رؤيا الأسابيع السابقة المنسوبة لإدريس عليه السلام يفهم منها قيام مملكة الله في الفترة التي قامت بها دولة الإسلام تماما وبقاءها على الأرض بعد ذلك ما يزيد على ألفي عام، ثم قيام القيامة بعد ذلك، وهو ما أُشير اليه في تلك النبوة بتبديل السماء غير السماء، ثم يكتب بعد ذلك الخلود للمؤمنين في أسابيع من القرون لا تنتهي، فقيام مملكة الله سابق على قيام القيامة واحياء الموتى..(1/262)
ولمّا كان عيسى عليه السلام قد علم أن اليهود لن يخضعوا لقدر الله الجديد بنزع النبؤة منهم، وسيكفرون به لذلك رغم ما جاءهم به من آيات، فقد أنذرهم بعقاب الله ودمار القدس وتشريدهم تصديقاً لنذير دانيال ( كما أشار هو بنفسه إلى ذلك) وداوود ويحي وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام.. فلم يكن المسيح عليه السلام النذير الوحيد بهذا العقاب، ولكنّه كان النذير الأخير كما روت الأناجيل وكما أثبت التأريخ، بل إنّنا نفهم من الأناجيل الحالية أنه توعّد أن يصيب هذا العقاب الجيل المعاصر له.. وتخفيفاً عن المؤمنين ورحمةً من الله بهم أمرهم بالخروج من القدس عند اجتماع الحشود حولها، وبأن يصبروا حتى يأتي فرج الله بقيام مملكة الله من بعده ..ولقد اتبع أتباع المسيح عليه السلام هذه الوصية واستفادوا منها، فيذكر المؤرخون(2) أن أتباع المسيح الحقيقيين وهم المسمّون بالناصريين أو النصارى NAZAREANS نسبة إلى الناصرة بلدة المسيح، وهم أتباع المسيح من اليهود (ولم يكن للمسيح في حياته أتباع الا من اليهود، اجماعاً) وهم أتباع ما عرف فيما بعد بكنيسة القدس، يذكر المؤرخون أنهم قد خرجوا عام 65 م من القدس قبيل حصارها وهدمها واستئصال أهلها عام 70م، خرجوا بزعامة سيمون ابن خالة المسيح الذي تولّى إمارتهم في تلك الفترة إلى مناطق بشمال القدس ( بيلا Pella) وشرق الأردن.. وممّا يجدر ذكره أن هؤلاء الاتباع كانوا موحدون، وعلى خلاف كامل وثابت تأريخياً مع بولس ومدرسته، وقدكانوا يلقبونه، أي بولس بـ"العدّو ، the Enemy "وبالمرتد عن الشريعة postate from the Law وبالحواري الكذّاب False Apostle .. وظل للموحدين وجود وتأثير رغم مطاردة الكنيسة الرسمية والدولة لهم، حتى مجئ الإسلام.. حيث انقطع فجأة ذكرهم واختفوا عن مسرح الأحداث.. وهو الذي يعلله الباحثون بدخولهم في الإسلام أو في مملكة الله التي طالما انتظروها ...
..(1/263)
وحتى يرى القارئ أمثلةً للخلط المذكور أعلاه، أورد هنا هذا النص من انجيل متى:24:29-35: "...وعلى إثر الشدة في تلك الأيام (3)، تظلم الشمس، والقمر لا يرسل ضوءه وتتساقط النجوم، وتتزعزع قوات السماوات، وتظهر عندئذٍ في السماء آية ابن الإنسان . فتنتحب جميع قبائل الأرض, وترى ابن الإنسان آتياً على غمام السماء في تمام العزة والجلال.. ويرسل ملائكته ومعهم البوق الكبير, فيجمعون الذين اختارهم من جهات الرياح الأربع, من أطراف السماوات إلى أطرافها الأخرى..
"من التينة خذوا العبرة : فإذا لانت أغصانها ونبتت أوراقها, علمتم أن الصيف قريب. وكذلك أنتم , إذا رأيتم هذه الأمور كلها, فاعلموا أن ابن الإنسان قريب على الأبواب. الحق أقول لكم :لن يزول هذا الجيل حتى تحدث هذه الأمور كلها، السماء والأرض تزولان, وكلامي لن يزول . فأمّا ذلك اليوم وتلك الساعة, فما من أحد يعلمها, لا ملائكة السموات ولا الابن إلاّ الأب وحده." متى 24:29-35(1/264)
فالقارئ المسلم يعي يقيناً أن المسيح هنا إنما كان يتحدث عن الساعة أي يوم القيامة.. فهي الساعة التي لا يعلم ميعادها أحد في السموات ولا في الأرض إلاّ رب العالمين.. ولم يكن يتحدث بهذه العبارة عن قيام مملكة الله ( أو مجيئه لأقامتها كما يعتقد النصارى ) فقد كان قيام مملكة الله معلوم بأنه سيتبع دولة الروم مباشرة وفي زمن حددت البشارات الى حد كبير أمده كما رأينا في بشارات دانيال وإينوخ ولاوي وغيرها.. والمجيء في ظلل من الغمام لعله مجيء رب العالمين مجيئاً لا يعلمه إلا الله ولا ينبغي للمؤمنين التفكير في كيفيته وتفصيلاته.. قال عزّ وجلّ في الكتاب العزيز ( البقرة : 210): "هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور " وهو مجيء عند قيام الساعة وليس عند قيام دولة أرضية.. ويعجب المرء من المسيحيين كيف يقولون عن المسيح أنّه هو الله، أو أنهّ تجسيد أرضي لله، تعالى الله عمّا يقولون علواً كبيراً، ثمّ يذكرون جهله بموعد قيام الساعة أو قيام مملكة الله على حد قولهم.. فهل هو نسيان من الله ( عزّ وجلّ عن النسيان) أم أن المسيح ليس إلا عبداً لله.. يُعلن هنا كما أعلن في مواقف لا تحصى عن بشريته وأدميته..
وقبل المضي في موضوعنا أنبّه الى أن هذا النص قد ثبت قطعاً بطلانه.. ففيه تأكيد كامل قويّ بأن الجيل المعاصر للمسيح سيشهد قيام مملكة الله وهو ما لم يتم.. فليس أمام المؤمنين برسالة المسيح عليه السلام إلاّ نفي هذا القول كاملاً عن المسيح عليه السلام أو القول بأنّ لبساً أو خلطاً ما قد تم بهذا القول.. ونحن هنا قد لا ننفي هذا القول كاملاً عن المسيح.. لأننا ندرك بوضوح من بين عباراته التي شابها التحريف والحذف والإضافة أن عيسى عليه السلام انما كان يتحدث عن يوم القيامة.. الذي هو بحق موعد لا يعلمه إلا الله تعالى ولم يكن يتحدث عن قيام دولة أرضية ربانية...(1/265)
ويرى الباحثون مدى التيه الذي بلغته مدرسة بولس في طمأنتها للمسيحيين في تيسالونيكا بألاّ يحزنوا على احباءهم اللذين ماتوا لأن المسيح سيحضر قريباً فيُحييهم لهم ( البعث بعد النشور ) ويقيم مملكة الله.. بعبارات تُوحي بأن بولس والمخاطبين سيشهدوا ذلك الحدث في حياتهم.. ويختلف هذا التطمين تماماً عن نصحه في كورنيث غير المتزوجين ألاّ يتزوجوا فان الوقت العصيب قد أتى.. وهو فهم لا يتفق مع الطمأنة السابقة بقيام مملكة الله بل يتفق مع فهمنا أن الذي كان المسيح يتحدث عنه أن جيله المعاصر له سيشهده إنما هو هدم القدس وذبح أهلها وتشريد من بقي من اليهود ( وهم المعنيون بالخطاب) خارج فلسطين.. وأما مملكة الله فما زال بين عصره وبين قيامها فترة عصيبة تتعاقب عليها ممالك ( محلية) وأحداث كثيرة كما روي ذلك عنه.. ولا شك أن ذلك كله( بما فيه قيام مملكة الله) هو قبل قيام يوم القيامة.. وأنّ حدوث العقاب على بني اسرائيل هو من أمارات قرب قيام مملكة الله ومجيء ابن الإنسان الذي بشر به دانيال ( اصحاح 7) وأنّ أمر القيامة ومجيء الساعة الذي فيه إحياء الموتى وحسابهم ليس بعده إلا الخلود في الجنة أو النار ..
ـــــــــــــ
هوامش فصل " خلط وتوضيح"
(1) يُفهم من سفر الرؤيا بالعهد الجديد أن هنالك قيامتين الأولى بإحياء الأموات المسيحين الصالحين ليتعمروا ألف عام في ظل مملكة الله التي يُقيمها عيسى عليه السلام، ثم يظهر بعد ذلك قوم يأجوج ومأجوج ثم تقوم القيامة الثانية بإحياء الموتى جميعا وحسابهم..
(2) The Messianic Legacy, by Michael Baigent, Richard Leigh & Henry Lincoln ,pp 132-132
((1/266)
3) الاشارة هي إلى الشدة بخراب اليهودية ومدنها بما فيها القدس، والتي كانت موضع الحديث السابق للمقطع أعلاه (متى 24: 15-19)، وأشار إليه بأنه هو الخراب الذي تنبأ به دانيال من قبل، وقد أمر المسيح عليه السلام أتباعه بالهروب من اليهودية، ثمّ أخبرهم بأنّ الأيام ستقصر حتى يأتي المختارين، ولكنّه قبل أن يواصل الحديث عن قيام مملكة الله ومجئ "ابن الأنسان" أو المختار الذي سيقيمها، حذّر من مجيء الأدعياء بأنهم المسيا ( أو المختار أو المصطفى ) المنتظر، وأمر المؤمنين ألاّ ينجرفوا وراء هؤلاء الأدعياء فيضلوا، وأخبرهم بأنّ أمر المصطفى او المسيا سيكون ظاهراً منتشراً في كل الأمصار ولن يخفى حينها عليهم ، على خلاف أدعياء النبوة اللذين قضى الله – رحمةً منه – على أمرهم ألاّ يظهر على سائر المعمورة، وسندرس قصص بعضهم فيما بعد، ولكنّي أورد هنا النص السابق مباشرةً للمقطع أعلاه بهذا الفصل حتى تكتمل الصورة لدى القارئ.
متى 24: 15-28:" فإذا رأيتم المخرِّب الشنيع الّذي تكلّم عليه النبي دانيال قائماً في المكان المقدّس ¸فليهرب إلى الجبال من كان عندئذ في اليهودية . ومن كان على السطح , فلا ينزل ليأخذ ما في بيته . ومن كان في الحقل , فلا يرتد إلى الوراء ليأخذ رداءه . الويل للحوامل والمرضعات في تلك الأيام . صلّوا لئلا يكون هربكم في الشتاء أو في السبت.
فستحدث عندئذ شدة عظيمة لم يحدث مثلها منذ بدء الخليقة إلى اليوم , ولن يحدث . ولو لم تقصّر تلك الأيام , لما نجا أحد من البشر . ولكن من أجل المختارين ستقصر تلك الأيام.
فإذا قال لكم عندئذ أحد من الناس : "هاهو ذا المسيح هنا " بل "هنا" فلا تصدقوه . فسيظهر مسحاء دجالون وأنبياء كذابون , يأتون بآيات عظيمة وأعاجيب حتى إنهم يضلّون المختارين أنفسهم لو أمكن الأمر . فها إني قد أخبرتكم.(1/267)
"فإن قيل لكم : "هاهوذا في البريّة " , فلا تخرجوا إليها , أو هاهوذا في المخابئ , فلا تصدقوا . وكما أنّ البرق يخرج من المشرق ويلمع حتى المغرب , فكذلك يكون مجيء ابن الإنسان . وحيث تكون الجيفة تتجّمع النسور".
هل المختارين إلا الجيل الأول من المسلمين:
لا أنفي أن بني اسرائيل كانوا هم المختارون، فقد جاءت بذلك نصوص من التوراة والقرآن، ويكفي في هذا أن أذكر القاريء بقوله تعالى بالقرآن الكريم " يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين" البقرة 40، وقوله تعالى " ولقد اخترناهم على علمٍ على العالمين" الدخان 32، وقوله تعالى " ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق ورزقناهم من الطيبات.." يونس 93، ولكن هذا الإصطفاء والأختيار كان مشروطا باتباعهم للأنبياء والشريعة، وقد نزل الوحي على موسى كما تذكر التوراة منذ بدايته متوعدأ إياهم بالعذاب والتخلي واللعن والطرد إن خالفوا الشريعة ( سبقت الإشارة إلى ذلك بالموجز التاريخي، وستمر أمثلة أخرى بالفصل التالي)، ووقع منهم ذلك كما هو معلوم، حتى وقع عليهم العذاب الأليم على أيدي الرومان عامي 70م و135م، محققا بشكل دقيق وعد الأنبياء الذين توعدوا اليهود بالعذاب، واصطفاء أمة بديلة من غيرهم ( يكفي هنا الإشارة الى نبوة يحي وأمثلة عيسى عليهما السلام عن مملكة الله).. إلا أنّه لاشك بأن المختارين الذين بشر أنبياء بني اسرائيل عليهم السلام بمجيئهم في آخر الزمان هم المسلمون ..
..(1/268)
ولاشك بأن المختارين الذين بشر بهم المسيح من بعده، هم - نفس القوم الصالحون الذين بشر بهم داود عليه السلام وتاق إلى رؤيتهم، ووصف انتصارهم، وتحدث عن ذكرهم لله وأشار إلى جهادهم وسيوفهم، وهم القوم الذين ذكرهم داود عليه السلام ( سنستعرض بعض هذه النبوات في الفصول التالية) بأنهم سيرثون الأرض ( المباركة) إلى الأبد ويقيمون مملكة الله الوارثة التي ستنضوي تحتها مختلف شعوب الأرض، والتي تحدث عنها دانيال في بشارات بينة واضحة.. وهم المختارون الذين سيظهرون آخر الزمان كما تحدّث عنهم كتاب إدريس وحدّد زمن ظهورهم بشكل دقيق كما رأينا في بشارة الأسابيع من كتاب إدريس، وهم الذين بشر بهم لاوي بن يعقوب، وكل هذه البشارات عن مملكة الله وعن المختارين لم تكن قد تحققت عند مجيء المسيح عليه السلام.. ولم تتحقق بدعوته هو، ولا هو عليه السلام ادّعى ذلك..
هذا وقد كان أصحاب مخطوطات البحر الميت كما نعلم من الباحثين الذين كتبوا عنهم ينتظرون مجيء المختارَين أو المصطفَين The Elect أو المختارِين الصالحين The chosen righteous في آخر الزمان، ويكتبون عنهم وأنه سيبنى لهم معبد جديد، وما جاء بعد عصر أصحاب المخطوطات وعصر المسيح أحد يمكن أن يُرشح لأن يكون جيل المختارين غير أصحاب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم..(1/269)
إنّ ذرة من الشك لا توجد ولا تقوم في أن المختارين الذين بشر بهم الأنبياء إنما هم المسلمون الذين اعتبرهم القرآن الكريم المصطفين أو المختارين كذلك، كيف وقد أضافت النبوأت السابقة كنبوة دانيال في الإصحاح الثاني ونبوته في الإصحاح السابع، ونبوة السبعين اسبوعا، ونبوة الأسابيع لإدريس ( إينوخ)، ونبوة لاوي، والنبوات التي تحدثت عن وراثة الأرض المباركة من بعد طرد الأمة الملعونة منها، كيف وقد أضافت هذه النبوات تحديدا دقيقا جدا لزمن ظهور المختارين لا يكاد يتخيل أحد أن مثله قد قيل بهذا التحديد على لسان الأنبياء.. وعلى القاريء الكريم العودة إلى هذه النبوات ومراجعتها من هذا الكتاب ليدرك مدى وضوح دلالتها.. إن الذين يعرفون هذه النبوات ليعرفون الرسول والإسلام كما يعرفون أبناءهم !!
يزعم المسيحيون المعاصرون أنهم هم المختارون الذين بشر بهم المسيح، كيف وقد كان للمسيح حوارييه وأتباعه الكثيرون في حياته ولم يكونوا هم المختارين.. بل أمرهم عيسى عليه السلام أن يدعوا الله أن يعجّل بمجيء المختارين كمنقذين.. وأن هذا المجئ لن يتم الا بعد فترة من الزمن من بعد هدم القدس وتشريد اليهود من فلسطين.....وهي الفترة التي طلب المسيح من أتباعه أن يسألوا الله أن يقصرها... كيف يزعم احد بعد ذلك ان الاتباع هؤلاء كانوا من المختارين.. ..فلو كانوا كذلك لخاطب المسيح أتباعه بالصبر حتى يأتي النصر فهم المختارون.. ولكنه خاطبهم بالصبر حتى يأتي المختارون من غيرهم – من غير اليهود، وكل أتباعه يهوداً في حياته- فيقيموا مملكة الله..
لقد كان أتباع المسيح عليه السلام في حياته والذين اتبعوه من الناصريين بعد موته جزءاً من الأمة اليهودية، كطائفة من طوائفها، ولم يكونوا بديلا لها، كانوا يلتزمون بالتوراة ويشاركونهم في المعابد في عباداتهم اليومية، وفي كل الأعياد والمناسبات.. وإن كانت لهم اجتماعات خاصة بهم كذلك.(1/270)
كيف والمسيحيين الذين غلبوا بعد ذلك كانوا من أتباع بولس الذي رأينا كيف يتهمه "أتباع المسيح الحقيقيون" بأنه بدّل دين المسيح وغيّره، كما نقل ذلك بل وصرّح بمثله الباحثون والمؤرخون ( على القاريء مراجعة الملحق عن بولس)، كيف وقد رمّنوا دينهم ودخلوا ضمن الرومان ولم ينصروا الرومان كما يذكر ذلك المؤرخين.. كيف وقد صاروا جزءا من الدولة الروميه بل وصاروا سندها الرئيسي.. فأين حروب المختارين وانتصاراتهم على القطيم (الرومان) التي تنبأت بها النبوات.. ومتى أقاموا مملكة الله على الأرض المباركة وقد كان وجودهم بها هو جزء من المملكة الرابعة ( الرومان) السابقة لمملكة الله.. ولم تقم لهم بالأرض المباركة دولة من بعد الرومان ؟ وكيف يكون المسيحيون أتباع بولس الذين لا يختنون هم المختارون، والتوراة التي يؤمنون بها تنص على أنّ المحافظة على الختان هي العلامة الأبدية على المحافظة على العهد مع الله عزوجلّ، وأنّ غير المختونين هم خارج العهد.. جاء في التكوين 17: 11- 14 " هذا هُوَ عَهدي الذي تَحفظونهُ بَيني وبينكم وبين نسلكَ من بَعدِكَ: يُختنُ منكم كل ذكر.. فَيَكُونُ عَهدي فِي لَحْمكم عَهداً ابديا. وَامَّا الذكر الاغلَف الذِي لا يُختن فِي لحم غرلَته فتُقطع تلك النفسُ من شَعبها. انَّهُ قد نكث عهدي".(1/271)
كيف ومسيحيي اليوم كما يرى الكثير من الباحثين ليسوا على دين المسيح ولا على دين أتباع المسيح الذين عاصروه وتتلمذوا على يديه، وعرفوا تاريخيا باسم الناصريين، وعرفوا بتوحيدهم لله، ونظرتهم للمسيح كبشر رسول لا كإله مصلوب.. كيف ودين المسيحية الحالي مقتبس أكثره من عقائد الأمم الوثنية من حولهم كما أثبت ذلك جمهرة من الباحثين والمؤرخين؟ كيف ينسب إلى المسيح ديناً ظلّ أصحابه يطوّرون عقيدته عبر القرون من بعده- أي من بعد المسيح - ؟ كيف يكونون هم المختارين وما ظهر فيهم نبياً ليقودهم ويهديهم ؟ وإذا لم يكن أتباع المسيح في حياته – كما هو معلوم- هم المختارون فمتى بالضبط بعد المسيح استحق هؤلاء الأتباع أن يكونوا هم المختارون ؟ أكان ذلك بعد أن قامت لهم دولة أيام قسطنطين؟ كيف وهو الذي غيّر بقية دينهم وكتبهم وخلط دينهم بعبادة الشمس ؟ أبعد ضلالهم عن دين المسيح يجعلهم الله عزّ وجلّ المختارين المنتظرين؟.. وكيف وكيف..
إنّ المنصفين ليعلمون أنّ المختارين ما كانوا إلا المسلمين الذين أقاموا مملكة الله على الأرض.. وقد تظافر على ذلك الدليل من كل صوب ولا داعي لتكرار السرد.. لكن الحجة على العباد قد أتمها الله وأظهرها.. وليختار الناس دينا لأنفسهم، فإنما يختارون.. جنّة أو ناراً
ملخص للبشارات الدالة على أن المختارين الذين تحدث الأنبياء عن مجيئهم بآخر الزمان هم المسلمون ..
.. إكمالا لهذا الفصل عن المصطفين أو المختارين، أسرد هنا البشارات التي تحمل إشارة زمنية مباشرة أو غير مباشرة لأن تحققها منذ زمن صدورها حتى الآن محصور بظهور المسلمين، وعلى القاريء مراجعة هذه البشارات من مواضعها من هذا الكتاب
البشارة وموضعها بالكتاب ... وجه دلالتها على المسلمين(1/272)
الإصحاح الثاني من دانيال ... دلالة صريحة في أنّ الدولة التي ستطرد الرومان عن الأرض ( المباركة) هي مملكة الله المنتظرة، وتمّ ذلك فقط على يد دولة الإسلام، ولا شك بأنّ المختارين هم شعب هذه الدولة.
الإصحاح السابع من دانيال ... تضيف هذه البشارة الى دلالة البشارة السابقة، دلالة زمنية داعمة، وذلك بالتنبؤ بشخصية قسطنطين من خلال عرض تسع صفات لا يشاركه بها أحد ثم الإشارة الى ظهور مملكة الله بعد ذلك بثلاثة أزمنة ونصف ( قرون)، وهو تماما وقت وراثة المسلمين للأرض المباركة.ّ
الإصحاح التاسع من دانيال ... انتهت السبعين اسبوعا بدمار القدس عام 70م كما فسرها كتاب إدريس، وما رُوي عن المسيح في اعتبار أن العذاب القادم من بعده هو ما عناه دانيال، وأشارت البشارة في مقدمتها الى مجيء البر الأبدي والصلاح، وختم النبوة والوحي، وواضح أن ذلك سيتم عند زوال المخربين ( الروم) للهيكل، والذي اختتمت البشارة بالإشارة الى زوالهم.. وكل ذلك تحقق فقط بظهور الإسلام..
حديث المسيح وتبشيره بمجيء المختارين ... لم يقل المسيح عليه السلام عن أتباعه بأنهم المختارون، بل أمرهم بالصبر في الفترة الطويلة التي ستمتد من بعد هدم الهيكل ( من بعده) حتى يأتي المختارون، وحذرهم من اتباع الأنبياء الكذبة من بعده، فإنّ أمر المصطفى من بعده سيكون ذائعا بيّننا ولن يلتبس عليهم، وكل ذلك لم يتحقق إلا بظهور الإسلام.
رؤيا الأسابيع من كتاب إدريس ... كان هذا من الكتب المقدسة، واستشهد به أئمتهم, هاهنا تصريح لا لبس فيه بأن المختارين سيظهرون على نهاية فترة سبعة قرون من بعد عصر المسيح عيسى عليه السلام الذي رفع الى السماء، وعوقب اليهود من بعده بالعذاب والشتات. واضح أن هذه البشارة كمثل بقية البشارات في دانيال2 و5 و9 لا تصح الا بالإسلام.
وصية لاوي ... هاهنا تصريح بمجيء المصطفى - الذي لن يكون بعده نبي- على نهاية السبعة قرون من بعد عصر عيسى عليه السلام.(1/273)
البشارات بوراثة الأرض المباركة، وطرد الأمة الملعونة منه، والبشارات بمجيء الصالحين.. ... الزبور 37: 29، 22، 9-12، وزكريا 9: 9-10، بشارات وراثة الأرض من مخطوطات البحر الميت ( سبق ذكر أمثلة منها) ..وغيرها، لا شك بأنّ طرد الأمة الملعونة عن الأرض المباركة قد تحقق فقط بطرد اليهود عامي 70 و135 م عن فلسطين وتحريمها عليهم، ولا شك بأنّ وراثة الأرض المباركة من قبل الأمة المباركة لم تتحقق الا عند دخول الجيوش المسلمة لفلسطين في حوالي 638- 640م .. ويدخل ضمن ههذه البشارات تلك التي أشارت الى عمر بن الخطاب، وتلك التي تحدثت عن الصالحين وانتصاراتهم ووراثتهم الأرض.
( الفصل الرابع)
بشارات تحدثت عن قدوم المختارين ... إينوخ الأول 5: 5-10، إشعيا إصحاح 65، الزبور 149، 106( 4-5)، اشعيا اصحاح 42، واشعيا 26(1-4)، رؤيا مخطوطات البحر الميت الآرامية
الفصل الرابع
التبشير بمجيء الأمّة الصالحة ..أو جيل الصالحون
... هذه ألقاب أخرى أطلقت مراراً على الأمة القادمة بآخر الزمان، الأمة التي ستنشىء مملكة من عند الله عالمية تضم مختلف الأمم، ربانية تحكم بشريعة خالدة خاتمة من عند رب العالمين.. تستحق لقب مملكة الله على الأرض.. وتتوافق البشارات هنا مع ما سبقها في قدوم هذه الأمة الصالحة وفتحها لفلسطين ووراثتها للأرض المباركة من بعد اليهود ..
جيل المؤمنين القادم بتسبيحة جديدة :
·?النص : المزمور 149
المزامير 149..(1/274)
“ هللويا ( سبحوه) غنوا للرب ترنيمة جديدة تسبيحته في جماعة الأتقياء. ليفرح إسرائيل بخالقه. ليبتهج بنو صهيون بملكهم ليسبحوا اسمه، برقص ، بدف وعود ليرنموا له . لأن الرب راض عن شعبه . يحمل الودعاء بالخلاص . ليبتهج الأتقياء بمجد ليرنموا على مضاجعهم (1). تنويهات الله في أفواههم ، وسيف ذو حدين في يدهم . ليصنعوا نقمةً في الأمم وتأديبات في الشعوب . لأسر ملوكهم بقيود وشرفائهم بكبول من حديد. ليجروا بهم الحكم المكتوب. كرامةٌ هذا لجميع أتقيائه. هللويا”.
“ Praise the Lord . Sing to the Lord a new song his praise in the assembly of the faithful for the Lord takes pleasure in his people , He adorns the humble with victory , let the faithful exalt in glory, let them sing for joy in their couches. Let the high praise of God be in their throats and two edged swords in their hands .. This is glory for all his faithful one . Praise the Lord ! ” .
التعليق:
..هللوا وسبحوا الله ومجدوه ! فسينشيء جيلاً من المؤمنين برسالة جديدة ( تسبيحة جديدة).. فيعطي نصره للضعفاء.. ويفرح بذلك المؤمنين.. ويسبحونه في كل أحيانهم وأحوالهم وعلى مضاجعهم.. وبالتسبيح يرفعون ( كثيراًً) أصواتهم، بعد الصلوات الخمس، فيُسمع بالمسجد طنين التسبيح بعد الصلوات منذ زمن الرسول عليه الصلاة والسلام، ويرفعون اصواتهم بالتكبير بالآذان وعلى المرتفعات عند أسفارهم، وفي الأعياد، وفي أحوال أخرى عديدة حاول ابن القيم رحمه الله حصرها عند استعراضه لهذه البشارة في " هداية الحيارى"، وبأيديهم السيوف ذات الفقار ( مقسومة عند مقدمتها) فيغلبوا بها أعداءهم ويأسرون ملوكهم ويُنزِلون بهم حكم الله الذي كتب من قبل.. ذلك مجد الله لعباده المؤمنين القادمين ..
..(1/275)
فعلى من ينطبق هذا التبشير إلاّ على المسلمين.. فما كانت الأجيال التي عاصرها موسى وهارون ولا التي عاصرها داوود وسليمان ولا إرميا ودانيال واشعياء ولا تلك التي عاصرت زكريا ويحي وعيسى عليهم السلام إلاّ أجيالاً موصومة بالمعصية والجدل والخبث.. فأغضب جيل موسى ربَّهم الله تعالى حتى شردهم في التيه.. وأغضب جيل داوُدَ ربَّهم حتى لعنهم داود، وما كانت الأجيال التي عاصرها صموئيل وايليا وميخا وارميا واشعيا ودانيال أجيالاً صالحة.. بل أجيالاً استحقت الوعيد والتهديد والنذير الشديد – على ألسنة هؤلاء الانبياء كما هو مدوّن بالتوراة الحالية – بدنو العقاب الرباني.. وقد قامت أجيال زكريا ويحي وعيسى - ومن قبلهم اشعيا – التي توعدوها بالعذاب ووصفوها بأبناء الأفاعي قامت بقتل هؤلاء الأنبياء أو بمحاولة قتلهم.. وما كان داوود عليه السلام ليتغّنى هنا بمجدٍ لليهود وهو ينذرهم بالتشريد والطرد من الأرض المباركة كما سيمر معنا.. وليس هذا الجيل الصالح الذي يبشر به داود هو بأتباع المسيح عيسى عليه السلام، فهم ما وعُدوا نصرا بل وعدوا ابتلاء وشدة، وأُمروا بالصبر والثبات حتى يأتي المختارين.. وفي الواقع فمن الواضح (1) أنّ الصالحين المنصورين بالسيف المقصودون هنا هم نفس الجيل الصالح الذي بشّر به الأنبياء، وهم نفس المختارين الذين سيقيمون مملكة الله من بعد عصر المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام.. وقد أثبتنا في الفصول السابقة وبشكل قاطع أنّهم المسلمون...(1/276)
أن الجيل الوحيد الذي عرفته البشرية جيلاً صالحاً ربانياً.. قد سُجِّل في كتب الله (القرآن) رضا الله عنه، ولم يسجل في الكتب التي نسبت الى الله مثل هذا الرضا عن اجيال بني اسرائيل السابقة بما فيها تلك التي عاصرت الأنبياء ولا عن غيرهم.. إنّ ذلك الجيل الصالح كان فقط هو الجيل الذي انشأه محمد صلى الله عليه وسلم.. وقد عُرف عنه ذكر الله الدائم في جميع أوقاته وعلى مضاجعه.. هو ذلك الجيل الذي ارتفعت المآذن في عهده مترنمة بأصوات التسبيح لله عالية خمس مرات كل يوم.. هو ذلك الجيل الذي قاتل الكفار والوثنيين فامتلك أرضهم حتى بلغت في عصره مملكة دين الله من حدود الصين حتى المغرب العربي.. هو ذلك الجيل المتواضع الذي جاء كما قال أحدهم _ وهو ربعي بن عامر لمّا سأله رستم قائد الفرس عن سبب خروجهم بالجهاد – فقال جئنا لنُخرج العباد من جور الأديان إلى عدل الأسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والأخرة .. هو ذلك الجيل الذي سطر في كتاب الله العزيز رضى الله عنه، وليس في تأريخ بني إسرائيل جيل أُعلن عنه رضى الله تعالى.. ويكفي الناس أن يدرسوا سيرة الصحابة في عهد النبوة والخلافة الراشدة ليجدوا التاريخ أكبر شاهد على أنهم فعلا كانوا هم الختارين .. ولعل من المناسب هنا تذكير القارىء بقوله تعالى بالقرآن الكريم " الذين يذكرون الله قياماً وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار.." آل عمران 190.(1/277)
وأشير هنا الى تعارف الناس على انّ السيف ذا الحدّين هو رمز سيف المسلمين.. يعلق ابن القيم الجوزية في كتابه " هداية الحيارى، فصل النبوءات" على السيف ذو الشفرتين بقوله: "فهي السيوف العربية التي فتح الصحابة بها البلاد، وهي إلى اليوم معروفة" يعني حتى زمانه بالقرن الثامن الهجري.. ومنذ سنوات قليلة أصدرت احدى المؤسسات الغربية المعادية للاسلام تقريراً مصورا طويلاً اطلعت عليه عدة مرات ولا أملك حاليا اسم المؤسسة المنتجة، التي ابتدأت تقريرها السينمائي بمنظر سيفٍ ذي حدّين يهوي على الكرة الأرضية فيفلقها الى فلقتين، تحذيراً للناس من السيف الإسلامي ذي الحدّين.
وهذه البشارة هي واحدة من مجموعة من البشارات بالزبور ( المزمور) عن الاسلام وأهله ..
ـــــــــــــــــــ
(1) رأى كلفن وآخرون – على ما ورد في بعض التفاسير المسيحية- أنّ هذه البشارة تنطبق على المكابيين الذين ثاروا على اليونانيين السلوقيين بزعامة ملكهم انطيوخس ابيفانوس الذي دنس المعبد ومنع العبادة فيه.. ولاشك بأن الثورة المكابية كانت صالحة إلا أنها لم تكن إلا غيرة على الدين ولم تتميز بقيادة نبوية ولم يُعرف عنها شيء من شعائر الذكر بأصوات مرفوعة (كالأذان والتهليل وغيرها) ولا السيف ذو الحدين ولا أسر الملوك..
الأرض المباركة سيرثها الصالحون
النصوص:
·?مزمور 37: 29 " الصّديقون يرثون الأرض ويسكنونها إلى الأبد "
يلاحظ أن النسخ الأنجليزية استخدمت لفظThe righteous والتي تعني الصالحين.
·?مزمور 37: 22 " الربّ عارف أيام الكملة وميراثهم إلى الأبد يكون، لايخزون في أيام السوء، وفي أيام الجوع يشبعون، لأن الأشرار يهلكون، وأعداء الربّ كبهاء المراعي فنوا، كالدخان فنوا، الشرير يستقرض ولا يفي، أما الصديق فيترأف ويعطي، لأنّ المباركين منه يرثون الأرض والملعونين منه يقطعون"
وفي النسخة الانجليزية Today’s English Version يرد النص كما يلي:(1/278)
"Those who are blessed by the Lord will possess the land, but those who are cursed by him will be driven out"
وترجمته: " هؤلاء اللذين باركهم الربّ سيرثون الأرض، أما اللذين لعنهم فسيُخرجون منها"..
·?مزمور 37: 9- 12 : " فانّ الأشرار يُستأصلون وأمّا الّذين يرجون الربّ فالأرض يرثون، والشرير عمّا قليلِ لا يكون، تبحث عن مكانه فلا يكون، أمّا المتواضعون فالأرض يرثون وبسلام وفير ينعمون"
و النص في النسخة الانجليزية القياسية المعدلة Revised standard version, 1972 أعلاه كما يلي :
“For the wicked shall be cut off; but those who wait for the Lord shall possess the land. Yet a little While, and the wicked will be no more; But the meek shall possess the land, and delight themselves in abundant prosperity“
ويترجم النص أعلاه كما يلي:
" الاشرار سيُستأصلون، ولكنّ أولئك المتطلعين الى الله ( أو الواثقين بالله كما في نسخ أخرى) سيملكون الأرض، إنما هي برهة ويختفي ( منها؟) الأشرار ( في بعض النسخ عبارة إضافية هي: وقد تبحث عنهم فلا تجدهم)، ويرث المتواضعون الأرض ويتمتعون بالازدهار "
التعليق:
ما أجمل التناسق بين هذه النصوص من أيام داوُد عليه السلام مع ما سبق ذكره من بشارات مملكة الله الوارثة للأرض حتى آخر الزمان، ومع ما سيأتي ذكره من بشارات أخرى ومع ما ذكره الله عزّ وجلّ في القرآن عن بشارة الصالحين الوارثين هذه الواردة بالزبور (المزمور على تسمية أهل الكتاب)، ومع تفسير اليهود من قبل الإسلام لهذه البشارات كما وردت بالمخطوطات... إنها النصوص يفسر بعضها بعضا ولا تدع مجالا للمكابرين لردّها !(1/279)
تصدُرُ النصوص أعلاه بالزبور المنسوب لداوُد عليه السلام حين كانت دولة بني إسرائيل في أوجّ قوتها، واليهود حينها يعمرون الأرض المباركة ( فلسطين) كاملةً.. تصدر هذه النصوص في الواقع لتصرّح بأنّ الله سيُخرج الّذين لعنهم ( وغضب عليهم) من الأرض حتى لا يبقى منهم بها أحد، ويُورِّث هذه الأرض للصالحين المتواضعين الّذين سيباركهم وينمّيهم.. والنص إذ ينبئ بإخراج أمّة ملعونة إنمّا ينبئ بإخراج وطرد أمة مقيمة بفلسطين وقت صدور النص، وبمجئ الأمّة التي ستقيم مملكة الله وترث الأرض إلى الأبد.. تماما كما ورد في بشارات دانيال بالإصحاحين الثاني والسابع كما سبق عرضه.. وكما بشر به المسيح عيسى عليه السلام أمةً من غير بني اسرائيل تقيم مملكة الله من بعد هلاك اليهود.. وممّا هو بيّن أنّ الأرض المقصودة بها هنا هي الأرض المباركة (1) التي وُعِد ابراهيم – على ما ورد بالتوراة- بأنّ يرثها ابناؤه حتى آخر الزمان، وليس المقصود بذلك الكرة الأرضية والله أعلم، وإلاّ فإلى أين سيطرد الأشرار خارج الكرة الأرضية ؟ وهم تأريخياً إنّما طردوا من فلسطين حتى لم يكد يبقى منهم أحد بها ؟ وقد يتسآءل القارئ وهل من دليلٍ على أنّ الأمّة الملعونة التي ستُحرَّم عليها الأرض المباركة حتى لا تكاد تجد منها أحد بها، هل من دليل على أنّها أمّة اليهود ؟(1/280)
والقضية أنّه إضافة إلى ماذكرتُه من إستلزام منطق الإخراج أن يقع على من كان يعمر فلسطين وقت صدور النص، فإنّ التوراة قد أخبرت منذ الأيام الأولى عند نزول الوحي على موسى عليه السلام بأنّ عقوبة بني اسرائيل ستكون باللعن والطرد خارج فلسطين، والتشريد بين الأمم في ذلة ومسكنة.. ثمّ أخبرت التوراة وكذلك الأنجيل في مواضع كثيرة أنّ بني اسرائيل قد عصوا وكذبوا واستحقوا عقوبة الأستئصال.. وظلّ الأمر على ذلك حتى انقطاع الوحي والنبوة عنهم، بل وأكدّ -كما رأينا من قبل - آخرُ أنبيائهم يحي وعيسى عليهما السلام وقوع عقوبة الأستئصال عليهم ، فأخبر يحي عليه السلام بأن فأس القطع قد وضع على أصل شجرتهم اليهودية ( تراجع بشارة يحي عليه السلام)، وأخبرهم المسيح عليه السلام بالهدم الكامل للقدس وخرابها وتشريد أهلها.. وأنه ما جاءهم الاّ بالسيف، وإنه وإن كان ليبشرهم بمجيئ مملكة الله من بعده، فتلك بشرى لمن صدقه وتاب واتبعه ( وقد تسمّى هؤلاء فيما بعد بالناصريين)، ومملكة الله التي ستقوم لن تكون على أي حال منهم.. وقد جاء التأريخ مصّدقاً لوعد الله الذي صدر أيام موسى بشكل دقيق ومذهل.. فذبح اليهود على أيدي الرومان حتى كادوا يستأصلونهم.. وحُرِّم عليهم دخول القدس حتى لم يوجد بها أحد، حتى أخذ النصارى على المسلمين الفاتحين للقدس أيام عمر بن الخطاب ألاّ يسمحوا لليهود بدخول القدس كشرط لتسليم القدس للمسلمين سلماً، وظلّ الأمر على ذلك حتى أذن لهم صلاح الدين الأيوبي بدخولها بعد أن فتحت القدس للمسلمين فتحاً جديدا بعد معركة حطين.. وما بقي من اليهود بفلسطين على مدى التأريخ سوى أعداد بسيطة لا تكاد تذكر، تصديقاً كاملاً لوعيد الله لليهود على ألسنة أنبيائهم ( حتى لا يكاد يبقى منهم أحد).. ونبأ طرد الأمة الملعونة من الأرض المباركة المذكور هنا من زبور داوُد عليه السلام هو جزء من هذا الوعيد الإلهي لهم..(1/281)
ولاشكّ بأن الأمة الوارثة للأرض المباركة هي تلك الأمة التي بشُر بها الأنبياء لتقيم مملكة الله .. وسنرى من بشارات قادمة أنّ ذلك سيتم على يد أمة غير يهودية.. وقد أثبتنا أن تلك كانت هي أمة الإسلام.. وأما الأمة الملعونة فقد ثبت من التوراة في مواضع كثيرة أنها الأمة اليهودية التي عصت الأنبياء وتآمرت عليهم.. والتي ظلّ أمرها على ذلك حتى انقطاع الوحي عنها من بعد يحي وعيسى عليهما السلام.. وهم المقصدون بالأشرار اللذين سيستأصلون من الأرض المباركة.. وبهذا سمّاهم عيسى عليه السلام ( متى12:34) ولا يستثنى من ذلك إلا المتقين، وقليل ما هم.. وقد ورد لعن اليهود العصاة في التوراة والانجيل ( على تحريفهما) والقرآن، وسأورد فيما يلي نصوصا تزيد القارئ يقيناً بأن الملعونين الّذين سيُطردوا من فلسطين هم اليهود..
فمن التوراة وكتب الأنبياء:
·?التثنية 28 : 15- 68 ( الخطاب موجه إلى بني إسرائيل عند نزول التوراة على موسى عليه السلام ):
“ ولكن إن لم تسمع لصوت الرب إلهك.. تأتي عليك جميع هذه اللعنات، وتدركك ملعوناً تكون في المدينة وملعوناً تكون في الحقل.. ثمر أرضك وكل تعبك يأكله شعب لا تعرفه فلا تكون إلا مظلوماً ومسحوقاً كل الأيام.. يذهب بك الرب وبملكك الذي تقيمه عليك إلى أمة لم تعرفها أنت ولا آباؤك.. وتكون دهشاً ومثلاً وهزأةً في جميع الشعوب الذين يسوقك الرب إليهم.. وتأتي عليك جميع هذه اللعنات وتتبعك وتدركك حتى تهلك لأنك لم تسمع لصوت الرب إلهك لتحفظ وصاياه وفرائضه التي أوصاك بها.. ويبددك الرب في جميع الشعوب من أقصى الأرض إلى أقصاها.. وفي تلك الأمم لا تطمئن ولا يكون قرارٌ لقدمك بل يعطيك الرب قلباً مرتجفاً وكلال العينين وذبول النفس.."
.. الّذين رأوا اليهود في مهاجرهم قبل عصر استكبارهم الحالي يعجبون كيف تحقق هذا الوعيد بحذافيره كاملةً..
·?التثنية 11 : 26 ..(1/282)
... " انظر أنا واضع أمامكم اليوم بركة ولعنة، البركة إذا سمعتم لوصايا الرب.. واللعنة إذا لم تسمعوا بوصايا الرب إلهكم وزغتم عن الطريق.. " .
·?دانيال 9 : 11 ..
... " وكل إسرائيل قد تعدى على شريعتك وحادوا لئلا يسمعوا صوتك فسكبت علينا اللعنة والحلف ( القسم ) المكتوب في شريعة موسى عبد الله لأننا أخطانا إليه ".
·?إرميا 23 : 40 ..
... " لذلك ها أنذا أنساكم نسياناً وأرفضكم من أمام وجهي أنتم والمدينة التي أعطيتكم وآباءكم إياها، وأجعل عليكم عاراً أبدياً وخزياً أبدياً لا يُنسى "
·?ملاخي 2 : 2 - 6 ..
... " قال رب الجنود فإني أرسل عليكم اللعن ، وألعن بركاتكم ، بل قد لعنتها لأنكم لستم جاعلين في القلب "، والخطاب هنا هو لبني إسرائيل.
“ .. In fact, I have already put a curse in them, because you don’t take my commands seriously . ”
·?هوشع 9 : 15-17
" إني هناك ابغضهم من أجل سوء أعمالهم أطردهم من بيتي لا أعود أحبهم .. يرفضهم إلهي لأنهم لم يسمعوا له فيكونون تائهين بين الأمم ” .
·?هوشع 13 :14
“ I will no longer have pity for this people ” .
... أي لن تكون لي ( مستقبلاً) رحمةً عليهم .
·?إشعيا 24: 5-6: " تدنست الأرض تحت سكانها، لأنهم تعدوا على الشريعة، ونقضوا الفرائض، ونكثوا العهد الأبد. لذلك التهمت اللعنةُ الأرضَ، وعوقب أهلها بإثمهم.." وكان قبل ذلك قد قال في نفس الإصحاح:1 :" ها إنّ الربّ يُخرب أرض يهوذا ويقفرها، ويَقلبُ وجهها ويُشتت سكانها"
·?إشعيا 43: 28: " ودفعت يعقوب ( أي إسرائيل) إلى اللعن وإسرائيل إلى الشتائم"
·?إرميا 11 : 3 ..
“ قال الرب إله إسرائيل ملعونٌ الإنسان الذي لا يسمع كلام هذا العهد الذي أمرت به آباءكم يوم أخرجتهم من أرض مصر.. اسمعوا كلام هذا العهد واعملوا به لأني أشهدت على آبائكم إشهاداً.. فلم يسمعوا.. فجلبت عليهم كل كلام هذا العهد الذي أمرتهم أن يصنعوه ولم يصنعوه ” .(1/283)
I have placed a curse on every one who doesn’t obey ” .. Then said “listen or obey But they didn't. ”
·?ملاخي 3 : 9..
·?" من أيام آبائكم حدتم عن فرائضي ولم تحفظوها، إرجعوا إليّ أرجع إليكم قال ربّ الجنود، فقلتم بماذا نرجع، أيسلب الإنسان اللهَ، فإنكم سلبتموني، فقلتم بما سلبناك، في العشور والتقدمة، قد لعنتم لعناً وإيايّ أنتم سالبون هذه الأمة كلها ".
·?إشعيا 30 : 13 - 14 .. في إشارة إلى تشريد وتمزيق بني إسرائيل بين الأمم نتيجة إثمهم..
... " لذلك يكون لكم هذا الإثم كصدعٍ منقضٍ ناتئٍ في جدارٍ مرتفعٍ يأتي هدُّه بغتةً في لحظة، ويكسر ككسر إناء الخزّافين مسحوقاً بلا شفقة حتى لا يوجد في مسحوقه شقفةٌ لأخذ نار من الموقدة أو لغرف ماءٍ من الجب " تهديد قديم ووعد بتمزيق اليهود وتشتيتهم بين أمم الأرض نتيجة إثمهم.
·?إرميا 19 : 12 ..
" هكذا قال رب الجنود. هكذا أكسر هذا الشعب وهذه المدينة كما يكسر وعاء الفَخّاريّ".
·?إرميا 11: 3
:" .. ملعون الذي لا يسمع كلمات هذا العهد .." ومن الثابت أنّ اليهود لم يسمعوا ولم يطيعوا..
·?إرميا 13 : 10
" هذا الشعب الشرير الذي يأبى أن يسمع كلامي .."
..فالأشرار المقصود بهم هنا وبنصوص الزبور أعلاه، بل وبمناداة المسيح عليه السلام لهم كما بالإنجيل، هم كفار اليهود الذين كفروا بالأنبياء.. وهو فهم واضح كذلك من تفسير أهل مخطوطات البحر الميت لنصوص الزبور المذكورة لبشارة وراثة الأرض، وهو بيّن مما نسب إلى المسيح عليه السلام من نصوص ومما حدث بعد ذلك على الواقع ..
·?إرميا 44: 8 ، والخطاب موجه إلى بني إسرائيل:
" ..لكي تنقرضوا ولكي تصيروا لعنة وعارا بين كل أمم الأرض.. ويصيرون حلفا ودهشا ولعنة وعارا " 44 : 11
·?إرميا 23 : 10
.. في حديث عن انحراف بني إسرائيل :" لأن الأرض امتلأت من الفسّاق، وناحت بسبب اللعنة، ويبست مراعي البرية، وصارت مساعيهم شريرة وبسالتهم ظالمة"(1/284)
·?أخبار الأيام 34: 24..
" ها أنا جالب على هذا الموضع وعلى أهله كل اللعنات الواردة في السفر.."، وكذلك 7:19-22 وفيه وعد بالتشريد وهدم الهيكل عند نكثهم لعهد الله.
·?حزقيال 11: 7- 13:
" .. قد فزعتم من السيف فالسيف أجلبه عليكم يقول السيد الرب، وأخرجكم من وسطها وأسلمكم إلى أيدي الغرباء وأجري فيكم أحكاما، بالسيف تسقطون.. فتعلمون أني أنا الرب الذي لم تسلكوا في فرائضه ولم تعملوا بأحكامه بل عملتم حسب أحكام الأمم الذين حولكم."
·?اشعيا 24: 5- 6
" والأرض تدنست تحت سكانها لأنهم تعدوا الشرائع ، غيّروا الفريضة، نكثوا العهد الأبدي، لذلك لعنةٌ أكلت الأرض وعوقب الساكنون فيها" .. بيّنٌ ان الأرض المقصودة هي الأرض المباركة بفلسطين.
·?نحميا 1: 7- 9:
" لقد اقترفنا الشر في حقك، ولم نطع الوصايا والفرائض والأحكام التي أمرت بها موسى. اذكر تحذيرك الذي أنذرت به عبدك موسى قائلا: إن خنتم عهدي فإني أُشتت شملكم بين الشعوب، وإن رجعتم إلي وأطعتم وصاياي ومارستموها فإني أجمع المنفيين حتى من أقاصي السماوات.."
·?إرميا 24 : 8-9 ..
" هكذا أجعل صدقيا ملك يهوذا ورؤساءه وبقية أورشليم الباقية في هذه الأرض والساكنة في أرض مصر، وأسلمهم للقلق والشر في جميع ممالك الأرض عاراً ومثلاً وهزأة ولعنة في جميع المواضع التي أطردهم إليها، وأرسل عليهم السيف والجوع والوباء حتى يفنوا عن وجه الأرض التي أعطيتهم وآباءهم إياها".. والشاهد هنا أن اليهود هم الأمة التي لعنت..(1/285)
قد يُفهم من موضع ورود النص الأخير أعلاه ( إرميا 24 : 8-9)، أنه يعني بقية اليهود الّذين لم يسبوا إلى بابل.. والواقع أن التهديد بالتشريد، والتمزيق بين أمم الأرض، وفرض المذلة والمسكنة عليهم، إضافة إلى إسلامهم إلى الأخرين يضطهدونهم.. الواقع أن هذا التهديد قد أُطلق من زمن موسى عليه السلام لليهود جميعاً، وتمّ تطبيقه كعقوبة شاملة عليهم جميعاً كما هو معلوم من التأريخ، رغم وجود بعض الصالحين بينهم كما يفهم من وصية المسيح عليه السلام السابقة عن حصار الجيوش للقدس وانتظار الفرج على أيدي المختارين، وكما يفهم من النص القرآني المتفق بشكل مدهش مع النصوص السابقة والمفسر لها، قال تعالى بالكتاب العزيز : " وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم. وقطعناهم في الأرض أمماً منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون".. ولا يمنع ذلك من كون التهديد قد وُجًه في بعض الفترات السابقة إلى بعضهم أو ذكّر به.. وأن عقوبة التشريد قد حلّت بهم بشكل أخف مرارا من قَبلِ التشريد الشامل الذي تمّ بعد عهد المسيح عليه السلام..(1/286)
وقد أراد بعض أهل الكتاب أن يفهم أنّ الأمة الوارثة هي بقية اليهود العائدين من بابل بعد الأسر.. وهذا فهمٌ منشأَهُ في الغالب - والله أعلم - تحريفات اليهود، وإلا فلا التأريخ يثبت للذين عادوا من بابل مثل هذه الوراثة وهم قد ظلوا من بعد اسر البابليين أسرى لدى الفرس ثمّ الإغريق ثمّ الروم ثمّ أصابهم بعد ذلك العقاب الموعود والاستئصال الكامل من الأرض المباركة "حتى لا تجد بها أحداً منهم"، ولا يسمح كذلك العقل بهذا التفسير وقد ظلّ الأنبياء من بعد العودة من بابل يبشرون بمجيء المختارين الوارثين، حتى جاء عيسى عليه السلام مبشراً بالمختارين من بعده من غير اليهود.. فكيف يكون ( العائدون من بابل) هم الوارثون والمختارون وقد كانوا سابقين في وجودهم لمن جاء يبشر بمجيء الوارثين من الأنبياء مثل عيسى عليه السلام..
ولا تفوتني هنا الإشارة إلى النص التالي.. يستنكر على اليهود ظنهم أنهم ورثة الأرض.. جاء في حزقيال 33: 23- 27 " فكان إلي كلام الرب قائلا: يابن آدم إن الساكنين في هذه الخرب في أرض إسرائيل يتكلمون قائلين إنّ إبراهيم كان واحدا وقد ورث الأرض، ونحن كثيرون لنا أعطيت الأرض ميراثا، لذلك قل لهم هكذا قال السيد الرب تأكلون بالدم، وترفعون أعينكم إلى أصنامكم وتسفكون الدم، أفترثون الأرض، وَقَفتم على سيوفكم، فعلتم الرجس وكل منكم نجس امرأة صاحبه، أفترثون الأرض.."، ومثل هذا النذير ونفي أن يكونوا ورثة إبراهيم سيأتي معنا في بشارة يحي عليه السلام ضمن فصل الاستبدال.. هذا وقد تمّ بالتاريخ فعلا طرد اليهود جميعا من الأرض المباركة كما أخبرهم الأنبياء متتابعين حتى أخرهم عيسى عليه السلام.. فأنّى لهم أن يزعموا أنهم ورثة الأرض المباركة وقد تحقق فيهم الطرد ومنها..؟(1/287)
هذا وقد يفهم من بعض نصوص التوراة إنّ الله عز وجل من بعد غضبه على اليهود قد عفا ورضي عنهم، وهذا قد حدث بالتأكيد مرارا منذ عهد موسى عليه السلام، وله شواهد بالقرآن كذلك ... منها قوله عز وجل " لقد آخذنا ميثاق بني إسرائيل.. فعموا وصموا ثم تاب الله عليهم ثم عموا و صموا كثير منهم، والله بصير بما يعملون" ( المائدة آية 71) ... إلا أنّ آخر عهدهم بالوحي من خلال عيسى عليه السلام كان إعلان نزع النبوة منهم، وإعلان مجيء العقاب الإلهي عليهم لا محالة، مع فتح باب الأمل لهم بمجيء مملكة الله من أمة أخرى من بعد عيسى عليه السلام.. ولا محل لتعلق اليهود بتوبات سابقه على بعض أجيالهم الماضية..
ونقرأ بالإنجيل.. خطاب يحي ( يوحنّا) عليه السلام لهم:" يا أولاد الأفاعي، من أراكم سبيل الهرب من الغضب الآتي.." متى 3: 7 ، وخاطبهم بذلك المسيح عليه السلام كما تروي الأناجيل، فقال " يا أولاد الأفاعي كيف تقدرون أن تتكلموا بالصالحات وأنتم أشرار.." متى 12 : 34، .. فأنتم تشهدون على أنفسكم أنكم أبناء قتلة الأنبياء، فاملأوا أنتم مكيال آبائكم، أيها الحيات أولاد الأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم.. أيا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين.." متى 24: 30- 37، وهددهم بأنه ما جاءهم إلا بالسيف والإبادة.. وهي التي أنذر بحدوثها عليهم من بعده عقوبةً عليهم من الله عزّ وجلّ، وورد في رسالة بولس إلى أهل رومية اقتباس دعوة داوُد عليه السلام على عصاة بني إسرائيل " وقال داود: لتكن مائدتهم فخا لهم وشركاً وحجر عثار وجزاء. لتظلم عيونهم فلا تبصر، واجعل ظهورهم منحنية أبداً " وينبغي هنا ملاحظة أنّ كل اليهود الذين لم يتنصروا من بعد المسيح ويؤمنوا به كلهم كفرةً، استحقوا العقاب الموعود والله أعلم، وكفرة مثلهم كذلك كلّ اليهود والنصارى الذين لم يسلموا من بعد محمّد صلى الله عليه وسلم.(1/288)
... ومن القرآن كتاب الله المصون عن التحريف، نقرأ قوله تعالى:
" لُعن الّذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوُد وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون.. " المائدة 78، وقوله تعالى مبيناً نقض اليهود لميثاقهم الغليظ مع ربهم واستحقاقهم اللعنة منه عز ّوجلّ: " فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم وجعلنا قلوبهم قاسيةً، يحرّفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكِّروا به.. " المائدة 13، وقوله عز ّوجلّ :".. وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً. فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حقٍ.. " النساء 155، وقوله تعالى عن اليهود الّذين يؤثرون الوثنيين على المسلمين " أُولئك الذين لعنهم الله، ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا ... " النساء 52، وقوله تعالى عنهم كذلك " .. ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا.." النساء :46، وقوله تعالى " .. أو نلعنهم كما لعنّا أصحاب السبت، وكان أمر الله مفعولا.." النساء 47، وقوله عزّ من قائل " ضربت عليهم المسكنة، ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون" آل عمران 112، وقوله عزّ وجلّ مبيناً تعذيبهم وتشريدهم في الأرض عقاباً لفسقهم : " وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم . وقطعناهم في الأرض أمماً منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون" الأعراف 167، 168(1/289)
ولا يشكّ المسلمون في أنّ المراد بالصالحين Righteous في بشارات المزمور أعلاه هو الجيل الأول من المسلمين، ولا يشكّون في أنّ الوارثين للأرض المباركة هم المسلمون في جيلهم الأول بالذات.. فإنّ وعد الله لرسوله محمّد صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بالاستخلاف على الأرض وهزيمة أعدائهم والتمكين لهم قد جاءهم وهم كانوا ما يزالون ضعفاء بمكة وبالمدينة، وقد ثبت ذلك من مواضع عديدة من كتاب الله العزيز (2).. ويأتي الاستشهاد هنا ببشارة زبور ( مزمور) داود عليه السلام المذكورة أعلاه يأتي الاستشهاد بها في القرآن الذي نزل بمكة منسجماً مع تبشير القرآن للمؤمنين بالنصر والتمكين في الأرض.. مع ملاحظة أن هذا الإستشهاد جاء بنفس نص عبارة الزبور تماماً.. كما هي عليه بالزبور حتى العصر الحالي، قال الله عزّ وجل في الكتاب العزيز في إشارة بيّنة ومفسِّرةٍ لبشارة الزبور أعلاه: " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون" الأنبياء ( وهي مكية) آية 105..(1/290)
وبهذا يتضح من التوراة والانجيل أنّ الملعونين الموعودين بالتمزيق والتشريد في الأرض خارج الأرض المباركة هم بنو اسرائيل المكذبون بأنبياء الله ورسله، الموعودون بالتشريد أذلةً بين الأمم والطرد من فلسطين، وقد وقع ذلك عليهم تماماً كما أخبر الأنبياء.. فدلّ ذلك يقيناً على أنّ نصوص المزمور أو الزبور- أعلاه- إنّما تعني بوضوح طرد بني اسرائيل من فلسطين، وتوريث الأرض المباركة للامة البديلة التي تحدّث الأنبياء عن مجيئها من بعد هدم القدس على أيدي الروم، وهي الأمة التي ستقيم مملكة الله الأخيرة على الأرض.. ولا يملك المرء إلاّ الانبهار بتمام التناسق في هذه القضية بين التوراة وكتب الانبياء ( الملحقة بالتوراة) والانجيل والقرآن.. في نظرة واحدة الى اليهود - الذين عصوا الأنبياء - كأمة ملعونة مطرودة بالدنيا والآخرة مستبدلة بأمة اخرى هي أيضا من ابناء إبراهيم ( كما سيرد ذكره)، ولا خلاص للأمة اليهودية إلاّ بالعودة إلى الله واتباع الانبياء (3)..
وإذاً فقد استحق اليهود غضب الله عليهم ولعنته لهم وانتزاع النبوّة والأرض المباركة ( التي وُعِد بها أبناء إبراهيم ) منهم إضافة إلى انتزاع نعمة الله السابقة بتفضيلهم على الأمم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون.. وكان بعد ذلك توريث الأرض والنبوّة لأمّة نبيها من أبناء إبراهيم عليه السلام.. تحقيقاً لوعد الأنبياء الكثيرين من قبل..
إن ميراث المسلمين لفلسطين (4) وللنبوّة من بعد اليهود لهو تصديق كامل لوعود الأنبياء بقيام الأمّة الصالحة ومملكة الله القادمة التي ترث الأرض والنبوة من بعد اليهود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
... هوامش بشارة الأرض المباركة سيرثها الصالحون
((1/291)
1) تكرر بالقرآن الكريم تسمية أرض فلسطين بالأرض المباركة، أو حتى بالأرض، فمن ذلك قوله تعالى: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى ( وهو بأقصى فلسطين) الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير.. وقضينا الى بني اسرائيل لتفسدن في الأرض مرتين.. وقلنا من بعده لبني اسرائيل اسكنوا الأرض.." الإسراء الآية1و114، وهو وقوله تعالى: " ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم"، وكذلك قوله عز وجلّ : " ونجيناه ولوطا الى الأرض التي باركنا فيها للعالمين" المائدة 21، وقوله تعالى : " ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره الى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين" الأنبياء 81، وقوله تعالى:" وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها" الأعراف 137، وقوله تعالى:" ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض.." أنظر كذلك الأعراف 128و129.
(2) من هذه المواضع على سبيل المثال قوله تعالى " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكننّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا.." ، ومنها أمره أعداء رسوله الذين يظنون أنه عزّ وجلّ لن ينصره أن يكتموا غيظهم حين ينصره بشنق أنفسهم ( الحج :15)
(3) ما زال باب التوبة مفتوح لليهود حتى اليوم، كما يفهم من ختم الآية الكريمة أعلاه بقوله تعالى " .. إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم"، ومن قوله تعالى، مخاطباً بني إسرائيل : " عسى ربكم أن يرحمكم، وإن عدتم عدنا " الاسراء : 8، ولكنها توبة لاتعتبر إلا من خلال إتباع خاتم الانبياء كما سيمرّ معنا في خطاب الله عزوجل لهم من خلال كتابه الخاتم .
((1/292)
4) وبذلك يتضح بلا أدنى شك من هي الأمة الملعونة الموعودة بالطرد من الأرض المباركة، وقد بينتُ كذلك بشكل قاطع أنّ الأمة الوارثة المباركة هي أمة الإسلام.. فبأي وجه يدعي اليهود بعد ذلك أن التوراة قد وعدتهم بوراثة فلسطين؟ وقد قال لهم يحي عليه السلام من قبل أنه لا يغنيهم أنهم أبناء إبراهيم ( وبالتالي الوعد لأبنائه) وأن الله سيأتي بأبناء لإبراهيم غيرهم يستمر فيهم الوعد لإبراهيم عليه السلام.. وقد كان ذلك في المسلمين..
بشارة وراثة الأرض من مخطوطات البحر الميت* ..
النص بالإنجليزية ( وهو شرح أصحاب المخطوطات لمقاطع من الزبور):
“ (But those who wait for the Lord shall possess the land.)
... Interpreted, this is the congregation of His elect who do His will.
(A little while and the wicked shall be no more; I will look towards his place but he shall not be there. ) .
... Interpreted, this concerns all the wicked. At the end of forty years they shall be blotted out and not an [evil] man shall be found on earth.
“ (But the humble shall possess the land and delight in abundant peace. ) .
... Interpreted, this concerns [the congregation of the] Poor who shall accept the season of penance and shall be delivered from all the snares of Satan. Afterwards, all who possess the earth shall delight and prosper on exquisite food”.
“(The wicked borrows and does not repay, but the righteous is generous and gives. Truly, those whom He [blesses shall possess] the land, but those whom He curses [shall be cut off].(1/293)
... Interpreted, this concerns the congregation of the Poor, who [shall possess] the whole world as an inheritance. They shall possess the High Mountain of Israel [for ever], and shall enjoy [everlasting] delights in His Sanctuary. [But those who] shall be cut off, they are the violent [of the nations and] the wicked of Israel; they shall be cut off and blotted out for ever. ”
ــــــــــــــ
* From Dead Sea Scrolls, 3rd edition, by G.Vermes, p. 290-1.
ترجمة النص أعلاه:
في هذه المخطوطة يفسر أهل كمران نصوصاً من الزبور.. سبق ذكر بعضها من قبل.. يفسرها هنا أهل المخطوطات على فقرة فقرة، ويعلقون على كل فقرة.. ويمكن ترجمة نص المخطوطات أعلاه كما يلي:
“ ( الذين ينتظرون – أو ينظرون أوامر – السيد سيرثون الأرض) وفسّروها أنها تعني جماعة المختارين الذين يرعون أوامر الله.. ( وبعد قليل فإن الشرير سينتهي، سأنظر إلى موضعه فلا أجده..) وفُسِّرت أنها تعني كل الأشرار فبعد أربعين سنة (1) سيُدمرون ويُفنون فلا يبقى رجلٌ ( شرير) في الأرض بعدها .
.. ( الشرير يستعير ولا يُعيد والصالح كريمٌ يعطي، حقاً إن الذين باركهم سيملكون الأرض، وأن الملعونين سيُقطعون) فُسِّرت أنّ جمع المساكين سيمتلكون الأرض كميراث، وسيمتلكون الجبال العالية في إسرائيل ( أي فلسطين) ويتمتعون بالمعبد أبدَ الأيام، ولكنّ هؤلاء الذين سيُقطعون فهم الأمم العنيفة والأشرار من أسرائيل سيُلعنون ويُدمرون ألى الأبد.. ”
التعليق:(1/294)
هذا تفسير نصوص الزبور السابق ذكرها، كما فسرها أهل مخطوطات البحر الميت وهم مجموعة من اليهود سبقت ظهور المسيح عيسى عليه السلام بفترة وجيزة.. ففسروها بأنها تعني المختارين اللذين يحفظون أوامر الله.. فهم من سيرثون الأرض، وأما الأشرار الملعونين فسيكون فناءهم بعد أربعين سنة (1).. ولم يذكر أصحاب المخطوطات هؤلاء توضيحاً إضافياً لفترة الأربعين سنة هذه، فهي أربعين سنة بعد ماذا؟ (2).. ولكن النص الآخر من المخطوطات في البشارة التي سنوردها بعد هذه يوضّح أن هذه الفترة هي محسوبة من بعد فترة المعلم الفريد.. ومعلوم أنّ مذبحة اليهود واستئصالهم من فلسطين عام 70م أنه كان بعد محاولة صلب المسيح عام 30م بأربعين سنة تماماً.. ولا يشكّ أحد منصف أنّ عقاب اليهود على يد الروم عام 70م هو المقصود هنا.. ولا يشكّ منصف أنّ كل الأشرار الذين سيفنون ويُدمّرون ويُطردون من الأرض ولا يبقى منهم شرير بالأرض المباركة.. لا يشك منصف أنّ هؤلاء الأشرار المقصودون هم اليهود.. وكذلك سمّاهم المسيح عليه السلام كما أورد متى وأشرت إليه من قبل، وعلى أي حال فقد أشار النص صراحة الى أنهم أشرار بني اسرائيل.. وإن كان نص المزمور الذي استشهد به أصحاب المخطوطات قد استخدم صيغة المفرد "الشرير" إلاّ أنّ تفسيرهم عاد فاعتبرها بصيغة الجمع " الأشرار" وهي الصيغة التي مازالت مستخدمة بنسخ المزمور الحالية على ما أوردنا بالبشارة السابقة عن وراثة الأرض المباركة ويبقى أن ننبّه القاريء الى أنّ هذا النص وُجد ضمن مخطوطات البحرالميت، وأنّه قد كتب خلال قرن أو قرنين قبل المسيح (3) ( أو بعده بقليل على أبعد الإحتمالات)، ولا يَرِدُ في الواقع أيُّ شك في أنه كتب قبل أحداث عام 70م تلك التي تنبأ بها النص.. ويبقى كذلك بعد هذا أن نوضّح أن أصحاب المخطوطات تخيلوا أن وَرَثة الأرض سيكونون من أبناء اسرائيل الصالحين.. لأنّه لم يخلُ بني اسرائيل من صالحين في زمانهم..(1/295)
ولكنّا نعلم بعد ذلك أنّ كلّ الصالحين من بني اسرائيل اتبعوا المسيح عيسى عليه السلام وتميّزوا تدريجيا عن بقية اليهود.. الذين كفروا بالمسيح عيسى عليه السلام واصبحوا كلهم ( أي بقية اليهود من غير أتباع المسيح) أشرارا.. وعليهم جميعا وقع العذاب والقتل والتشريد حتى لم يعد بالأرض المباركة منهم أحد، أما الذين اتبعوا المسيح ( الناصريين) عليه السلام فقد أنجاهم الله من عذاب عام 70 م و135 م.. وقد تسمّوا بالمساكين ( تفاؤلا بأن يكونوا هم الورثة)، لكن المسيح كان قد أعلنها صريحة أن الورثة هم من أمة من غير اليهود.. وعلى أتباعه ( وكلهم كانوا في زمانه يهوداً) عليهم الصبر حتى يأتي هؤلاء المختارون من غيرهم.. ونعلم أنّ المختارين قدموا الأرض المباركة فعلا بعد تحريمها على اليهود وطردهم منها.. تماما في موعدهم الذي تنبأ لهم به الأنبياء من قبل كما رأينا ذلك بالنبوات السابقة..
وبالتالي فهاهنا تأكيد بأن الملعونين هم فعلاً أولئك الّذين استئصلوا من الأرض المباركة أربعين سنة من بعد المسيح عليه السلام.. وقد أخرجوا منها حتى لا تكاد تجد بها منهم أحد.. وأن الصالحين الوارثين سيأتون من بعدهم.. وهم بلا شك هم أنفسهم الصالحون الذين سيقيمون مملكة الله من بعد الروم.. وقد كانوا المسلمين.. كما رأينا من قبل.. فهل يشك منصف أو عاقل في هذا التفسير وفي هذا التبشير بالإسلام وأهله..
هوامش بشارة وراثة الأرض من مخطوطات البحر الميت
(1) مرت أربعين سنةً قمرية بعد الإنذار النهائي لبني إسرائيل من خلال عيسى عليه السلام حتى تاريخ دمار القدس وتشريد بني إسرائيل ، يلاحظ أن كلمة فسّرت وكل العبارات بين مقاطع الزبور هي من كتابة أصحاب المخطوطات .
((1/296)
2) ومن حزقيال (4: 6-7) ما قد يدعم ما سبق من الوعد الألهي بإنزال العقاب على اليهود أربعين سنة بعد جريمتهم ( محاولة الصلب)، على ما فهمه بعض النصارى، وما يبعد أن يكون ذلك أحد النصوص التي اعتمد عليها أهل المخطوطات في ذكر فترة الأربعين سنة بين المعلم الفريد وعقاب بني اسرائيل، والنص كما يلي: " وبعد انقضائها اضطجع ثانية على جنبك الأيمن، فتحمل إثم بيت يهوذا أربعين يوماً، فقد جعلت لك كل يوم بسنة. فثبت وجهك على حصار أورشليم وذراعك مكشوفة وتنبأ عليها. وهأنذا قد جعلت عليك قيوداً ، فلا تنقلب من جنب إلى جنب، حتى تنقضي أيام حصارك ".
(3) يرى أعضاء الفريق الدولي ( مسيحيون غلبت عليهم روح التعصب) أن الجماعة التي كتبت مخطوطات البحر الميت قد عاشت في الفترة 150- 30ق م، أو بعدها بقليل، بينما يرى باحثون آخرون أن الجماعة قد امتد بها الزمان حتى عاصرت أحداث عام 70م على الأقل، ( يراجع كتاب أهل الكهف لهالة العوري على سبيل المثال).
نصوص أخرى لتعليقات أصحاب المخطوطات على بشارة وراثة الأرض من المزامير *
.. التبشير بصحابة المصطفى عليه الصلاة والسلام ..
أورد عدد من الباحثين نصوصا أخرى ضمن تعليقات أهل المخطوطات على بشارة وراثة الأرض الواردة بالزبور.. وأنشر هنا مقاطع من النص الذي أورده مايكل وايز وزملاؤه (1) تحت عنوان تعليقات على المزمور ( رقع المخطوطات بأرقام 4Q171, 4Q173, 1Q16 ) ..
صورة لأجزاء من المزامير كما وجدت ضمن رقع مخطوطات البحر الميت (عن مكتبة الكونجرس الأمريكية).
النص بالإنجليزية:
“ But those who trust in the Lord are the ones who will inherit the earth”
This refer to the company of His chosen, those who do his will.
“ Very soon there will be no wicked man; look where he was. He is not there”(1/297)
This refer to all of the wicked at the end of the forty years, when are completed, there will no longer be any wicked person on the earth.
..
“ They will not be put to shame in ( an evil time)”
This refer to the ones who return from the wilderness, who live a thousand generations in virtue. To them and their descendantsbelongs all the heritage of Adam for ever.
..
“ Those love the Lord are as magnifiicent as rams”
This refer to ( the company of His chosen ) who shall be leaders and princes..
“ All shall vanish like smoke)
This refer to the wicked princes who opressed his Holy people ”and who will scatterlike smoke dissipates in the wind.
ترجمة النص أعلاه..
" ولكن هؤلاء الذين يثقون بالله هم الذين سيرثون الأرض"
وهذا يعني ( الحديث هنا هو تعليق أصحاب المخطوطات على الفقرة السابقة) أصحاب المصطفى ( المختار) الذين سينفذون وصاياه.
" قريبا جدا لن يكون هناك رجل شرير، أنظر الى مكانه فلا تجده."
هذا يعني كل الأشرار عند نهاية ( مدة) الأربعين سنة، فعند انتهائها لن يكون هناك أي شخص شرير بالأرض..
" إنهم لن يوضعوا للخزي ( في وقت عصيب) "
هذا يعني هؤلاء الذين سيعودون من الصحراء، الذين (سـ)يعيشون لألف جيل في الواقع، ولهم ولذريتهم سيُعطى كل الميراث من عهد آدم وإلى الأبد.
" هؤلاء الذين يحبون الربّ لهم روعة كروعة الكباش"
وهذا يعني صحابة المصطفى ( المختار) الذين سيكونون القادة والأمراء.
" والجميع سيختفي كالدخان"
وهذا يعني الأمراء الأشرار الذين اضطهدوا الأناس القديسين، الذين سيتبعثرون كالدخان، ويتبددون في الرياح"
التعليق:(1/298)
هاهنا نرى تفسير هذه الطائفة اليهودية لنصوص من المزامير، وقد كانت تعيش في فترة سابقة قليلا لعصر المسيح عيسى عليه السلام أو معاصرة له، ونرى فيها بوضوح انتظارها للمصطفى الذي سيصبح صحابته قادة وأمراء للأمم، ويرثون الأرض ( المباركة)، من بعد طرد الأشرار، ويعنون اليهود الأشرار الموجودين بها ذلك الحين، ذلك الطرد الذي سيأتي على نهاية فترة الأربعين عاما.. نعلم من مواضع أخرى أنهم يعنون فترة الأربعين عاما من بعد محاولة قتل المعلم الصالح، وهو كما سنثبت في مواضع أخرى من هذا الكتاب أنه قد كان عيسى بن مريم عليه السلام، وكما نعلم فقد كانت حادثة الصلب عام 30 م، بينما كان العقاب بهدم الهيكل وبتشريد اليهود فعلاً عام 70م..
إنّ توقعات اليهود بالمصطفى وصحابته الذين سيرثون الأرض من بعد تشريد اليهود خارجها حتى لم يعد بها أحد منهم، إنّ هذه التوقعات لم تتم إلا من خلال رسالة المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الذين قدموا من الصحراء العربية.. ومن خلالهم فقد وقعت بحذافيرها تماما.. وواضح أنّ أصحاب المخطوطات كانوا يتوقعون أن المصطفى وصحابته ( the company of His chosen ) سيكونون من جماعتهم اليهودية، وقد رأينا كيف أثبت التاريخ والمسيح عيسى عليه السلام خطأهم في ذلك.. وما بقي إلا الإقرار بأن كل التبشير هنا بصحابة المصطفى إنما كان تبشيرا بصحابة المصطفى محمد عليه الصلاة والسلام..
ــــــــــــــــ
(1) The Dead Sea Scrolls, ed. 1996, by Michael Wise, Martin, Abegg, J R. & Edward Cook, p. 223-224.
دخول الأمة الصالحة إلى القدس..
النص اشعيا 26: 1- 4:
" في ذلك اليوم يُغنى بهذه الأغنية في أرض يهوذا، لنا مدينة قوية، يجعل الخلاص أسواراً ومترسة، افتحوا الأبواب لتدخل الأمة البارة الحافظة الأمانة، ذو الرأي المُمكَّن تحفظه سالماً سالماً لأنه عليك متوكل.."(1/299)
“ A day is coming when the people will sing this song in the land of Judah :
... .. Open the city gates and let the faithful nation enter, the nation whose people do what is right . He has humbled those who were proud, he destroyed the strong city they lived in , and sent its walls crashing into the dust ..
.. Those who were oppressed walk over it now and trample it under their feet . Lord , you make the path smooth for good men , the road they travel is level ” .
التعليق:
وبعد البشارات السابقة بتوريث الأرض المباركة للأمة المباركة وطرد الملعونين منها وتحريمها عليهم " حتى لا تجد أحداً منهم بها "، تأتي بشارة اشعيا لتذكر اليوم الذي يؤمر فيه بفتح أبواب القدس ( أورشليم) للأمة الصالحة المؤمنة لتدخل سلماً المدينة المقدسة.. توريثاً من الله لهذه الأمة العادلة التي كانت مستضعفة ومتواضعة ( قبل إيمانها) فأُعطيت لعدلها وصلاحها النصر على الأعداء والسلام التام..
.. إن هذا النداء لا تستحقه أي أمة من الأمم التي دخلت القدس فحكمتها غير أمة الإسلام.. فكل الأمم التي دخلت القدس غير الأمة الإسلامية كانت أمماً وثنية إلا الصليبيين ( أثناء الحروب الصليبية) ... وكلها دخلت مقاتله وبحروب دامية فأبادت المدينة وقتلت عشرات الآلاف من سكانها إلا المسلمين فقد دخلوها بسلام وأمان..(1/300)
إن هذا النداء بفتح أبواب المدينة للأمة الصالحة لا يستحقه الآشوريون ولا الكلدانيون ولا الفراعنة ولا الفرس ولا اليونانيون ولا الرومان ولا أي أمة من الأمم التي غزت القدس غير المسلمين ... كيف وليس منهم أحد استولى على المدينة لإقامة حكم رباني ( باسم الله) بها.. ولا يستحقه الصليبيون الذين دخلوا المدينة عنوة فقتلوا سبعين ألفا من سكانها.. كيف وهم ضآلون كما رأينا.. ولايستحقه اليهود عام 1967 فما هم بالأمة الربانية حينها ( بل لادينية أو علمانية) ولاهم قد دخلوا المدينة سلماً.. أنه ليس غير المسلمين فُتحت لهم أبواب المدينة المقدسة طواعية وسلماً، وكان ذلك عام 638 م حين دخلوا القدس سلماً وعدلاً وورثوا معها كل فلسطين.. وتأخذ بذلك هذه البشارة موضعها ضمن البشارات الأخرى المبشرة بمملكة الله ووراثة الأرض..
دخول مَلِكُ الأمة الصالحة مدينة القدس
النص ( زكريا 9: 9-10):
" ابتهجي جداً يا ابنة صهيون اهتفي يا بنت أورشليم.هوذا ملكك يأتي إليك هو عادلٌ، و منصورٌ وديعٌ، وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان. وأقطع المركبةَ من افريم والفرَسَ من أورشليم و تُقطع قوس الحرب. ويتكلم بالسلام للأمم و سلطانه من البحر إلى البحر، ومن النهر إلى أقاصي الأرض ".
التعليق:
لتفرح المدينة المقدسة بقدوم الأمة الوارثة الصالحة.. انظر هنالك لحظة استلام الميراث.. ترى هنالك ملك هذه الأمة وحاكمها قد قدمها منتصراً يحكم من البحار إلى البحار.. هو منتصر ولكنه متواضع..! يأتي راكباً على حمار بسيط..هو عادل ومشهور بالعدل.. سيضع السلام بالأرض المباركة وبالأمم حولها..
.. متى وقع هذا خلال تأريخ القدس ؟.. مرة واحدة فقط دخلها ملك قوي، يحكم من البحار إلى البحار... منتصر ولكنه متواضع، يدخل المدينة المقدسة مسالماً وعلى حمار بسيط.. هي تلك المرة التي دخل فيها عمر بن الخطاب القدس..
..(1/301)
كل الملوك اللذين دخلوا القدس خلال تأريخها كله دخلوها باستكبارٍ وتجبر وأبهة.. فاستباحوا الحرمات، وهتكوا الأعراض، وأراقوا الدماء.. وحقاً لم يدخل المدينة متواضعاً على حمار -من الملوك- غير عمر بن الخطاب.. ومن المعلوم تأريخياً أنّ عمر لم يأتِ المدينة من ذات نفسه لتتحقق فيه هذه البشارة، فهو لا يعرف عنها شيئاً.. وإنما كان قدومه بطلب من بطريرك القدس الذي رفض أن يفتح المدينة سلماً حتى يأتيها هذا الملك العادل.. ويُذكر أن المسلمين المحاصرين للقدس طلبوا من عمر الخروج إليهم من المدينة لهذا الغرض.. وعمر في الواقع ما غادر الجزيرة العربية في حياته.. لا في أيام حكمه ولا قبلها إلاّ في هذه المرة التي قدم فيها لدخول القدس.. وقدِمَ عمر من المدينة يتعاقب حماراً مع خادمه، يمشي مرة ويركب مرة.. ليس معه حرس ولا جيش، رغم امتداد حكمه من وراء الخليج إلى البحر المتوسط وجزيرة العرب حين قدومه إلى القدس.. وحول القدس عرض عليه جيشه من المؤمنين حصانا فجربه فما استقرّ عليه، وعاد إلى حماره الذي جاء به من المدينة فركبه، وبه دخل القدس.. وسجلّ التاريخ تواضعه.. وبساطة ملبسه الذي زادت رُقعه على العشر.. وسجلّ التاريخ عدله، حتى أصبح مضرب المثل في العدل.. وسجل التاريخ انتصاراته حتى لا يكاد ينافسه على مثلها أحد في التاريخ.. فقد هزم بجيش بسيط أعظم دولتين في الأرض في ذلك الزمان في وقت واحد.. وسجلّ التاريخ دخوله القدس على حماره مسالماً، مؤمّناً لأهلها.. فكان دخوله القدس بحق آية من آيات الله للذين يعلمون من أهل الكتاب.. وبدخوله تحقق الوعد الإلهي بتوريث الأرض المباركة للأمة الصالحة.. وحقّ للقدس أن تبتهج وللأرض المباركة أن تفرح ..(1/302)
ولعل من العجيب ملاحظة الباحثين المسلمين أن الحروف الأولى من الصفات الثلاث المفصولة بحرف العطف الواو والتي وردت أعلاه في وصف هذا الملك العادل (هو عادلٌ، و منصورٌ وديعٌ، وراكب على حمار، مع عدم الاعتداد بكلمة وديع التي لم تفصل عما قبلها بأداة العطف) أن هذه الحروف تشكل اسم عمر، فكأن بها رسالة أخرى خفية لعلماء أهل الكتاب لتكتمل عليهم الحجة وليتضح لصالحيهم البرهان، وقد أثبت المؤرخون تعرّف أهل الكتاب زمن عمر على هذه النبوة وأنها تعني عمراً.. يروي عزمي أبو عليان (1) نقلا عن الواقدي أن بطريرك القدس صفرنيوس لمّا رأى عمر بن الخطاب " مسح عينيه ونظر إليه وزعق بأعلى صوته هذا والله الذي نجد صفته ونعته في كتبنا ومن يكون فتح بلادنا على يديه بلا محالة ثم انه قال لأهل بيت المقدس ياويحكم إنزلوا اليه واعقدوا معه الأمان والذمة, هذا والله صاحب محمد بن عبدالله ( صلى الله عليه وسلم ) ثم خرج إليه على رأس أعيانه فاستقبله عمر بن الخطاب بالترحاب والإكرام, وبناء على طلبهم كتب لهم سنة 15 هجرية 636م وثيقة الأمان التالية وهي التي عرفت ب " العهدة العمرية": "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين، لأهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم، وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم.(1/303)
ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم، ويخلي بيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم، حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان، فمن شاء منهم قعدوا، عليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية. شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب وحضر سنة خمس عشرة"... ومن عدل عمر في هذا الموقف رفضه للصلاة في كنيسة النصارى، وذلك عندما حضر وقت الصلاة وهو مازال مع البطريرك، فعرض عليه الصلاة بها، ووضح للبطريرك أن ذلك خشية أن يأتي المسلمون في المستقبل فيحولوا موضع صلاة عمر بها إلى مسجد، فهل عرف تأريخ القدس فاتحا كمثله؟
وفي اليوم التالي من عقد الأمان دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه القدس، ودخل معه أربعة آلاف من المجاهدين، وراياتهم تخفق فوق رؤوسهم، وكان دخوله يوم الاثنين، وأقام بها حتى يوم الجمعة، وخط بها محراباً من جهة الشرق، وهو موضع مسجده، فتقدم وصلى هو وأصحابه صلاة الجمعة.(1/304)
ويسعى النصارى لتحويل هذه البشارة إلى عيسى عليه السلام، فيزعم بعض كتبة الأناجيل أنّ المسيح قد دخل القدس راكباً على حمار، وأنه بالتالي هو الملك المقصود ببشارة زكريا أعلاه.. وهذا خلط معتاد لدى النصارى وكتبة الأناجيل، وقد لاحظ الباحثون من الغربيين أنفسهم استعداد كتبة الأناجيل لتعديل سرد الأحداث حتى ولو وقعوا في التناقضات كي يثبتوا وقوع بشائر الأنبياء الأولين على المسيح عليه السلام.. وأمثلة هذا كثيرة ( 2)، ومن المعلوم أن الطعن التاريخي ثابت، ويكفي في ذلك جهل – أو مجهولية- من كتب هذه الأناجيل ومن تناقلها عبر ثلاثمائة عام حتى تبنتها الدولة الرومانيه ضمن تبنيها لمدرسة بولس واتباعه من بعد مجمع نيقية..(1/305)
ولا مانع من أن يكون المسيح عليه السلام قد دخل القدس على حمار، فالذين يدخلونها على حمير في العهود الماضية يتجاوزون بالتأكيد المئات كل يوم.. ولاشك أن معظم أنبياء بني إسرائيل كانوا يركبون الحمير- لا الخيول- في غير أوقات الحروب، ويدخلون بها القدس وغيرها من المدن ويخرجون، وما زُعم لأحد منهم بأن النبوة والبشارة تعنيه.. فما كان أحد منهم ولا المسيح عليهم السلام لحظة دخوله إلى القدس ملكاً ولا كان منتصراً على أعدائه يحكم من البحار إلى البحار.. ولا تحقق من وراء دخول المسيح عليه السلام ولا غيره الأمن والرخاء للقدس.. وكيف تُبشر أورشليم بقدومه وهو الذي صرح بأنّه جاء بالسيف والعذاب والدمار لهذه المدينة قاتلة الأنبياء ( على ما نسبت إليه الأناجيل المعاصرة).. إي جاءها منذر بنقمة الله من أهلها.. فكيف تُبشر بقدومه أورشليمُ؟.. إنّ الدخول المقصود بالبشارة دخول حاكم فاتح ووارث للقدس والأرض المباركة، إضافة إلى ما يحكم من البلاد الممتدة من البحار إلى البحار، وقد ميّزت البشارة الشخص المعني بها من بين كل من دخل القدس على حمار بالصفات الأخرى التي لم تتحقق إلا في عمر رضي الله عنه.. وفي تحقق البشارة في عمر تحقيق لما سبق من التبشير بمملكة الله من بعد الروم ووراثتها للأرض المباركة..
ــــــــــــــــ
(1) عزمي أبو عليان، القدس بين الأحتلال والتحرير، طبعة1993م، ص 150-151.
(2) يمتلىء انجيل متى بمثل هذه المحاولات لتطبيق النبوات على المسيح عليه السلام بطريقة واضح خطأوها، يعجب لها الباحثون، لوضوح التناقض بها والتكلف..
شوق إلى الأمة الصالحة الوارثة ..
( المزامير 106 :1 - 5 )
“ هللويا، احمدوا الرب لأنه صالح، لأن إلى الأبد رحمته.. طوبى للحافظين الحقَ ولصانعي البرَ في كل حين، اذكرني يا رب برضاء شعبك تعهد لي بخلاصك لأرى خير مختاريك لأفرح بفرح أمتك لأفتخر مع ميراثك، أخطأنا مع آبائنا أسأنا وأذنبنا.. ” .(1/306)
“ Remember me Lord , when you help your people, include me when save them. Let me see the prosperity of your people and share in the happiness of your nation that I may glory with the hertiage. We and our fathers have sinned , we have commited iniquity , and we have done wickedly .. ”
التعليق:
في هذا الموضع، يشتاق النبي داوود عليه السلام إلى رؤية خير المختارين وإلى أمّته ( لأرى خير مختاريك لأفرح بفرح أمتك لأفتخر مع ميراثك)، الأمّة المؤمنة الصالحة التي ستُعطى الميراث – ميراث النبوة وهداية البشر - من بعد اليهود.. وميراث الأرض.. وكما يذكر مفسروا التوراة فإن داود عليه السلام كبقية الصالحين يسأل الله هنا أن يجعل له نصيباً من فضله الذي سيختص به هذه الأمة الوارثة الُمفضلة.. وواضح أنّ هذه الأمة ليست من اليهود، وذلك لأنّ هذا النص في هذا الإصحاح (1) المروي عن داود عليه السلام يذكر في حسرة معاصي بني إسرائيل مباشرة بعد الحديث عن خير المختارين وأمته الصالحة.. ويُفصِّل هذه المعاصي منذ عصر موسى عليه السلام في تفصيل جميل مليء بفضح بني إسرائيل وإمعانهم بالمعاصي.. والعجيب أن يكون هذا هو الطرح زمن داود عليه السلام وهم لم يقتلوا الأنبياء بعد ولم يزوروا الكتب، فما كان داود عليه السلام ليقول لو اطلع على ما سيصنعه قومه من بعده.. إن انتهاء الإصحاح بالدعاء لجمع بني إسرائيل من الشتات والتوبة عليهم لا يعني أن داود كان يعتقد أنهم الأمة المفضلة صاحبة التكريم لدى الله عزوجل.. وأنى يعتقد ذلك وهو في كل الإصحاح يستعرض معاصيهم وإجرامهم المتكرر.. ونعلم يقينا من كتب الأنبياء التالية ومما حلّ بهم بعد ذلك من الطرد واللعن أنهم لم يكونوا المعنيين هنا بالمختارين.. وهو في الواقع ما صرح به آخر أنبيائهم عيسى عليه السلام..(1/307)
ولاشكّ أنّ خير المختارين الذي يشتاق إليه وإلى أمته داود عليه السلام هذا هو نفسه النبي الذي تحدث عنه داود عليه السلام في موضع آخر، ولقبه بسيدي أو ربيّ كما ترجمت في النسخ العربية ( المزامير 110، بشارة داوود عليه السلام :“ قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك..)، وهو – أي خير المختارين - نبي لم يظهر حتى عصر المسيح عليه السلام الذي أشار إلى نبؤة داود عليه السلام هذه ليثبت لليهود أنّ سيد المرسلين هذا ( يجوز تلقيبه كذلك وقد أعتبره داود عليه السلام سيّده) ليس من أبناء داود.. الأمر الذي أغضب اليهود لأنهم بلا شك فهموا من ذلك أنه ليس يهوديا.. وليس هو المسيح عليه السلام لأنّ المسيح من أبناء داود كما تنص على ذلك الأناجيل، ولأنّ المسيح ظلّ همه الأول التبشير بالمختار والمختارين ومملكة الله القادمة من بعده.. واشترك بذلك مع داود عليهما السلام في التبشير بخير المختارين وأمته.. وكلاهما إنّما يعنيان خاتم الأنبياء الذي به ستُختم النبوة ويتنزل البر الأبدي والدّين الدائم على يديه، الملقب بقدوس القديسين ( بمعنى سيد الصالحين أو سيد المرسلين أو خير المختارين على التعبير المستخدم هنا) كما بشّر بذلك دانيال في الإصحاح السابع من كتابه كما سبق معنا، في تلك البشارة التي ما كانت لتتحقق إلا بعد هدم المعبد وتشتيت اليهود كما أخبر دانيال، وهو مالم يتحقق حتى عصر المسيح عليه السلام الذي أشار إلى بشارة دانيال هذه ووقوعها من بعده.. وكل ذلك يعني بكل وضوح أن خير المختارين لم يكن هو عيسى ولا غيره من أنبياء بني إسرائيل، كما أن أمته المختارة ليست منهم..
وتلاحظ الإشارة هنا إلى أمة سيد المرسلين المختارة بالأمة الوارثة، وهو ما يتفق مع بشارات المزمور( الزبور) نفسه السابقة (2)، وبشارات الإنجيل.. وهو ما أشير في القرآن إلى ذكره من توريث الأرض لهذه الأمة الصالحة المصطفاة..(1/308)
وقد يستغرب البعض لم يشتاق داود إلى رؤية خاتم الأنبياء إذا لم يكن يهودياً؟ والقضية أن مقام النبوة أعلى من التعصب لجنس من الأجناس، ولن يُرضي داود عليه السلام إلا ما يرضي الله عز وجل، وقد دعا داود عليه السلام على اليهود بنفسه كما ثبت بالقرآن (3) والرسائل المقدسة لدى النصارى ( انظر الرسالة الثانية إلى روميا 11 : 9 – 10 ) (4) . فحبّ داود للمختارين ما كان ليزيده ولا لينقصه أَََنّهم كانوا من اليهود أو من غيرهم..َ
ـــــــــــــــ
هامش بشارة شوق داود
(1) النص الكامل لهذا الإصحاح هو كما يلي:(1/309)
هَلِّلُويَا. احْمَدُوا الرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ. مَنْ يَتَكَلَّمُ بِجَبَرُوتِ الرَّبِّ؟ مَنْ يُخْبِرُ بِكُلِّ تَسَابِيحِهِ؟ طُوبَى لِلْحَافِظِينَ الْحَقَّ وَلِلصَّانِعِ الْبِرَّ فِي كُلِّ حِينٍ. اذْكُرْنِي يَا رَبُّ بِرِضَا شَعْبِكَ. تَعَهَّدْنِي بِخَلاَصِكَ لأَرَى خَيْرَ مُخْتَارِيكَ. لأَفْرَحَ بِفَرَحِ أُمَّتِكَ. لأَفْتَخِرَ مَعَ مِيرَاثِكَ. أَخْطَأْنَا مَعَ آبَائِنَا. أَسَأْنَا وَأَذْنَبْنَا. آبَاؤُنَا فِي مِصْرَ لَمْ يَفْهَمُوا عَجَائِبَكَ. لَمْ يَذْكُرُوا كَثْرَةَ مَرَاحِمِكَ فَتَمَرَّدُوا عِنْدَ الْبَحْرِ عِنْدَ بَحْرِ سُوفٍ. فَخَلَّصَهُمْ مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ لِيُعَرِّفَ بِجَبَرُوتِهِ. وَانْتَهَرَ بَحْرَ سُوفٍ فَيَبِسَ وَسَيَّرَهُمْ فِي اللُّجَجِ كَالْبَرِّيَّةِ. وَخَلَّصَهُمْ مِنْ يَدِ الْمُبْغِضِ وَفَدَاهُمْ مِنْ يَدِ الْعَدُوِّ. وَغَطَّتِ الْمِيَاهُ مُضَايِقِيهِمْ. وَاحِدٌ مِنْهُمْ لَمْ يَبْقَ. فَآمَنُوا بِكَلاَمِهِ. غَنُّوا بِتَسْبِيحِهِ. أَسْرَعُوا فَنَسُوا أَعْمَالَهُ. لَمْ يَنْتَظِرُوا مَشُورَتَهُ. بَلِ اشْتَهُوا شَهْوَةً فِي الْبَرِّيَّةِ وَجَرَّبُوا اللهَ فِي الْقَفْرِ. فَأَعْطَاهُمْ سُؤْلَهُمْ وَأَرْسَلَ هُزَالاً فِي أَنْفُسِهِمْ. وَحَسَدُوا مُوسَى فِي الْمَحَلَّةِ وَهَارُونَ قُدُّوسَ الرَّبِّ. فَتَحَتِ الأَرْضُ وَابْتَلَعَتْ دَاثَانَ وَطَبَقَتْ عَلَى جَمَاعَةِ أَبِيرَامَ وَاشْتَعَلَتْ نَارٌ فِي جَمَاعَتِهِمْ. اللهِيبُ أَحْرَقَ الأَشْرَارَ. صَنَعُوا عِجْلاً فِي حُورِيبَ وَسَجَدُوا لِتِمْثَالٍ مَسْبُوكٍ وَأَبْدَلُوا مَجْدَهُمْ بِمِثَالِ ثَوْرٍ آكِلِ عُشْبٍ. نَسُوا اللهَ مُخَلِّصَهُمُ الصَّانِعَ عَظَائِمَ فِي مِصْرَ وَعَجَائِبَ فِي أَرْضِ حَامٍ وَمَخَاوِفَ عَلَى بَحْرِ سُوفٍ فَقَالَ بِإِهْلاَكِهِمْ.(1/310)
لَوْلاَ مُوسَى مُخْتَارُهُ وَقَفَ فِي الثَّغْرِ قُدَّامَهُ لِيَصْرِفَ غَضَبَهُ عَنْ إِتْلاَفِهِمْ. وَرَذَلُوا الأَرْضَ الشَّهِيَّةَ. لَمْ يُؤْمِنُوا بِكَلِمَتِهِ. بَلْ تَمَرْمَرُوا فِي خِيَامِهِمْ. لَمْ يَسْمَعُوا لِصَوْتِ الرَّبّ فَرَفَعَ يَدَهُ عَلَيْهِمْ لِيُسْقِطَهُمْ فِي الْبَرِّيَّةِ وَلِيُسْقِطَ نَسْلَهُمْ بَيْنَ الأُمَمِ وَلِيُبَدِّدَهُمْ فِي الأَرَاضِي. وَتَعَلَّقُوا بِبَعْلِ فَغُورَ وَأَكَلُوا ذَبَائِحَ الْمَوْتَى. وَأَغَاظُوهُ بِأَعْمَالِهِمْ فَاقْتَحَمَهُمُ الْوَبَأُ. فَوَقَفَ فِينَحَاسُ وَدَانَ فَامْتَنَعَ الْوَبَأُ. فَحُسِبَ لَهُ ذَلِكَ بِرّاً إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ إِلَى الأَبَدِ. وَأَسْخَطُوهُ عَلَى مَاءِ مَرِيبَةَ حَتَّى تَأَذَّى مُوسَى بِسَبَبِهِمْ.لأَنَّهُمْ أَمَرُّوا رُوحَهُ حَتَّى فَرَطَ بِشَفَتَيْهِ. لَمْ يَسْتَأْصِلُوا الأُمَمَ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ الرَّبُّ عَنْهُمْ بَلِ اخْتَلَطُوا بِالأُمَمِ وَتَعَلَّمُوا أَعْمَالَهُمْ وَعَبَدُوا أَصْنَامَهُمْ فَصَارَتْ لَهُمْ شَرَكاً. وَذَبَحُوا بَنِيهِمْ وَبَنَاتِهِمْ لِلأَوْثَانِ وَأَهْرَقُوا دَماً زَكِيّاً دَمَ بَنِيهِمْ وَبَنَاتِهِمِ الَّذِينَ ذَبَحُوهُمْ لأَصْنَامِ كَنْعَانَ وَتَدَنَّسَتِ الأَرْضُ بِالدِّمَاءِ وَتَنَجَّسُوا بِأَعْمَالِهِمْ وَزَنُوا بِأَفْعَالِهِمْ. فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى شَعْبِهِ وَكَرِهَ مِيرَاثَهُ وَأَسْلَمَهُمْ لِيَدِ الأُمَمِ وَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ مُبْغِضُوهُمْ. وَضَغَطَهُمْ أَعْدَاؤُهُمْ فَذَلُّوا تَحْتَ يَدِهِمْ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً أَنْقَذَهُمْ. أَمَّا هُمْ فَعَصُوهُ بِمَشُورَتِهِمْ وَانْحَطُّوا بِإِثْمِهِمْ. فَنَظَرَ إِلَى ضِيقِهِمْ إِذْ سَمِعَ صُرَاخَهُمْ وَذَكَرَ لَهُمْ عَهْدَهُ وَنَدِمَ حَسَبَ كَثْرَةِ رَحْمَتِهِ. وَأَعْطَاهُمْ نِعْمَةً قُدَّامَ كُلِّ الَّذِينَ سَبُوهُمْ.(1/311)
خَلِّصْنَا أَيُّهَا الرَّبُّ إِلَهُنَا وَاجْمَعْنَا مِنْ بَيْنِ الأُمَمِ لِنَحْمَدَ اسْمَ قُدْسِكَ وَنَتَفَاخَرَ بِتَسْبِيحِكَ. مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ مِنَ الأَزَلِ وَإِلَى الأَبَدِ. وَيَقُولُ كُلُّ الشَّعْبِ: [آمِينَ]. هَلِّلُويَا.
(2) المزامير 37 : 9-12 ، 22، 29. وقد سبق الحديث عنها.
(3) قال تعالى : " لعن الذين كفروا من بني اسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون.." المائدة 78.
(4) ورد في رسالة بولس إلى أهل رومية إقتباس دعوة داوُد عليه السلام على عصاة بني اسرائيل : " وقال داود: لتكن مائدتهم فخا لهم وشركاً وحجر عثار وجزاء. لتظلم عيونهم فلا تبصر، واجعل ظهورهم منحنية أبداً " .
بشارة مجيء الخلاص والمسيّا من بعد دمار القدس .. من مخطوطات البحر الميت
النص بالإنجليزية:
“ And from the day of gathering in unique teacher, until the destruction of all the men of war who turned back with the man of lies, there shall be about forty years. And in this age the wrath of God will be kindled against Israel, as he says: (There shall be no king, no prince..) . But the converts from the sin of Jacob, those keeping the covenant of God .. He will listen .. Until salvation and justice are revealed to those who fear God ..These shall exult and rejoice and their heart will be strong and they shall prevail over all the sons of the world and God will atone for them, and they shall see his salvation for they have taken refuge in his holy name. ”
ـــــــــــــــــــــــــ
* From Dead Sea Scrolls Translated,2nd edition ,by Florentino G. Martinez, ... p. 46-7
ترجمة النص السابق..(1/312)
“ .. من يوم الجلسة مع المعلم الفريد (( unique حتى يوم المسيا من هارون وإسرائيل.. وسيكون من يوم الاجتماع بالمعلم الفريد إلى تدمير جميع رجال الحرب الذين أعرضوا مع رجل الكذب حوالي أربعين سنة وعندها سيصب غضب الله الشديد على اسرائيل كما قد ذكر ( أي كما قد ذكر في هوشع3:4): فلا يبقى لهم ملك ولا أمير ولا قاض. إلا أن التائبين من أبناء يعقوب الذين حفظوا عهد الله سيتواصون بالثبات ويسمع لهم الله حتى يأتي الخلاص والعدل للخائفين الله ..
فيميز بين من يعبد الله ومن لا يعبده وتتنزل رحمة الله على الآلاف ممن يحبونه وبه يؤمنون. ولبيت بلق ( جدّ إبراهيم عليه السلام ) الذين تركوا المدينة المقدسة واعتمدوا على الله في وقت كفر إسرائيل ولكنهم دنسوا المعبد ( بعد ذلك ؟) وأداروا ظهورهم لطريق الناس في بعض الأمور فلهؤلاء جميعاً كلٌ حسب روحه حسابٌ من الله. والذين دخلوا عهد الله متجاوزين حدود التوراة فإنهم سيُقطعون عند ظهور مجد الله على إسرائيل وسيُقطع معهم كل أشرار اليهود في أيام التطهير.
ولكن الذين ثبتوا على التعاليم واستمعوا إلى صوت المعلم وأنابوا إلى الله قائلين حقاً لقد أذنبنا نحن وآباؤنا ومضينا معاكسين لعهد الله ، العدل والحق قضاؤك فينا فلا يرفعوا أيديهم على التعاليم الربانية ولا على قضائه العادل ولا على عهده الصحيح وينتصحوا ويسمعون لمعلم الصلاح فلا يردون التعاليم الإلهية عند سماعها فإن هؤلاء سيبتهجون ويفرحون وتقوى قلوبهم ويظهرون على كل أبناء العالم ويتوب الله عليهم ويرون خلاصه لهم عندما التجأوا إليه ” .
التعليق:(1/313)
لقب المعلم هو اللقب الذي كان يطلقه تلامذة المسيح عليه عليه السلام ( يرجى مراجعة الفصل التالي)، وقد تكرر استخدامه كثيرا بالأناجيل.. ويتضح من النص السابق – وهو نصّ مكتوب من قبل عصر المسيح عليه السلام - أنّ مجيء المعلم الفريد سيكون قبل غضب الله الشديد على إسرائيل ودمارها التام بأربعين سنةً.. وهذا ما تم فعلاً بعد مجيء المسيح عليه السلام بأربعين سنةً ( تم خراب اورشليم في 12/8 عام 70م اي بعد اربعين عاما من بعثة عيسى عليه السلام عام 30م )، والنص يشير كذلك في مقدمته إلى المسيا ( المصطفى) الذي سيأتي بعد المعلم (عيسى عليه السلام) وكأنه يتحدث عن مدة الفترة الزمنية بين المعلم والمسيا.. لكنّ المدة محذوفة أو ساقطة لتلف أو لإتلاف الرقع..! ( من يوم الجلسة مع المعلم الفريد حتى يوم المسيا..).. وفي الواقع فإنّ هنالك ما يثير احتمال تعمّد حذف الفترة الزمنية بين المعلم إلى المسيا من قبل الباحثين اليهود الذين أخفوا المخطوطات لما يزيد عن أربعين عاماً، ففي النص انقطاع واضح عن ذكر المدة بين المعلم والمسيا، ومثله كثير بالمخطوطات، لا يبعد أن تكون نتيجة إخفاء متعمّد .. وتشبه الإشارة هنا الى الفترة من بعد المعلم الذي سيأتي قبيل هلاك بني اسرائيل تشبه في ذلك بشارة دانيال عليه السلام التي ذكرت الفترات الزمنية من بعد البناء الثاني للقدس عام 445 ق. م حتى ظهور المسيح عيسى عليه السلام، وأشارت في مقدمتها إلى مجيء خاتم الأنبياء والخلاص ( الدين) النهائي ولكن من دون أن تذكر الفترة الزمنية من المسيح عيسى عليه السلام ( المسيح الذي لن يستجاب له أو لن يعمل شيئاً وهو المعلم الفريد هنا) حتى ظهور البر الأبدي وختم النبوة بأفضل الخلائق ( على القاريء مراجعة بشارة السبعين اسبوعا )..(1/314)
والنص يشير أيضاً إلى ثبات مجموعة من أهل الكتاب حتى جاءهم الخلاص وظهر دين الله الحق على الأرض وهو أمرٌ لم يتم بعد عيسى عليه السلام إلا بظهور الإسلام..
وينبغي الإشارة إلى أنّ ادعاء أن المسيا الخاتم هو من أبناء هارون وإسرائيل هو إدعاء يهودي معتاد، قد سبقت الإشارة إليه، وسترد كذلك شواهد أخرى ترده، كما يلاحظ من إيحاء النص بأن المسيا المنتظر سيظهر من بعد الشتات ومن بين اليهود الصابرين المؤمنين، وهو مالم يحدث.. وما يخالف كل ما حشدنا من أدلة سابقة من التوراة والإنجيل.. وهو لا يضيرُ تفسيرنا أعلاه.. وافتراءات اليهود في هذا الأمر ثابتة، ولا يضير إن كان التغيير والتبديل قد تمّ على مستوى كتبة المخطوطات أو هو تحريف متناقل عن أجيال سابقة..
ولكن حتى تفسير اليهود أنفسهم في هذه الفترة - الثابت أنها سابقة على المسيح – يؤكد تشريد اليهود أربعين سنة من بعد نبي قادم ملقب بالمعلم، ثمّ يأتي بعده المسيا بفترة، وينضم إليه التائبون والصالحون ( من أهل الكتاب)، وهم يرثون الأرض.. وهذا ما تمّ فعلاً من خلال دولة الإسلام.. وأشير هنا كذلك إلى رأي الباحث أيسمان ( وهو تفسير يتبناه البعض) أن رجل الكذب المشار إليه بالنص أعلاه هو بولس، وفي ذلك دعم لتفسير مدة الأربعين عاما، وأنها الفترة الزمنية من بعد المسيح حتى مذبحة اليهود عام70م، وأن المعلم سيلقى إما كفراً وإعراضا من اليهود، أو اتباعا لتعاليم الكذاب، وأن المسيا هو نبي منتظر من بعد المعلم الفريد أو المعلم الصالح أو معلم الصالحين unique teacher أو Righteous teacher أو Moreh-Zede بالعبرية ( عيسى عليه السلام) ومن بعد تشريد بني إسرائيل.. فهل بعد المعلم الفريد ( عيسى عليه السلام) من مسيا ( المصطفى) غير محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم ..(1/315)
ويلاحظ أن النص ختم بالحديث عن المجموعة من بني اسرائيل التي صبرت وثبتت واتبعت المعلم الفريد ( واضح أن المقصود أتباع المسيح عيسى عليه السلام بحقّ، أو الناصريين، فهم الذين ثبتوا على وصايا المعلم الفريد)، ورضيت بقضاء الله وحكمه على بني اسرائيل، وأنتصحت واستمعت لمعلم الصلاح ( وهو نفس المعلم الفريد كما سنرى في بشارات سابقة) فإنّ الله سيظهرها على العالم ويؤيدها ويتوب عليها.. ومن المتفق عليه، وهو ما أشار إليه هذا النص في مقدمته أن هذا النصر والظهور على الأمم إنما سيكون من خلال نبي قادم بعد عقاب بني اسرائيل، هو الملقب بالمسيا ( المصطفى)، وهو المعروف بأنه خاتم الأنبياء، وبأن الله سيظهر أتباعه على أمم الأرض.. فالذين ثبتوا على العهد من أتباع المعلم الفريد ( أو معلم الصلاح) ثم اتبعوا المسيا هم الفائزون المفلحون..
..ما أشبه هذا بقوله الله تعالى لموسى عن أتباعه في المستقبل أنّ رحمته ستكتب لمن منهم سيتبع النبي الأميّ، وينصره ويعزره، فهؤلاء وحدهم هم المفلحون. قال تعالى:" عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء، فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بأياتنا يؤمنون. الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والأنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، أولئك هم المفلحون" الأعراف 157.
تنبؤ أصحاب المخطوطات بمعلم الصلاح وبالمختار ( المسيا) من بعد معلم الصلاح كان تبشيرا بيّناً بمجيء عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام
مقدمة حول تفسيرات الباحثين لشخصيتي معلم الصلاح والمسيا:(1/316)
لا تبدو الصورة حول شخصيتي معلم الصلاح والمسيا ( أو المسيائين) المُنتظرَين، المتردد ذكرهما بمخطوطات البحر الميت، لا تبدو واضحة للباحثين، فكثيرا ما يخلط الباحثون اللقبين ويعنون بهما نفس الشخص أو شخصين مختلفين لكنهما لا يثبتان اللقب لكل واحد منهما، وكثيرا ما يُصرّحون باعتقادهم أنهما لشخصين متزامنين ( المسيائين) أحدهما للكهانة من أبناء لاوي والآخر للحكم والملك من أبناء يهوذا، أو يعودون فيقولون هما لقبان لشخص واحد سيحمل الكهانة والملك معاً، وأنّ العطف المذكور بنسخ المخطوطات إنما هو عطف الصفات (1)، وهذا الفرد بالتالي هو المسيا المنتظر، ومنهم من يزعم أنهما لقبان لفرد واحد لكنه سيظهر في زمانين مختلفين، أي أنه سيعيش لدعوته ثم يقتل ( معلم الصلاح) ثم يعود إلى الأرض منتصرا ( المسيا)..(1/317)
وحول شخصية معلم الصلاح بالتحديد يعتقد الكثير من هؤلاء الباحثين أن هذا المعلم قد جاء فعلاً ثمّ قتل في زمن هو بطبيعة الحال قبل زمن المسيح عيسى عليه السلام (2)، وتقترح لذلك بعض الشخصيات مثل أونياس الثالث الذي قتله الملك السوري اليوناني أنتيوخس إبيفانوس عام 175ق.م، أو إليازر الذي طالب الحاكم الكاهن جون هيركانوس في حوالي 110 ق م بالتخلي عن الكهانة التي لا يسمح له نسبه بتوليها، أو شخصيات أخرى سنشير اليها فيما يلي، ويزعم بعض الباحثين كما أسلفت أعلاه بأن أصحاب المخطوطات يعتقدون بأن هذا المعلم الفريد أو المعلم الصالح سيعود في مستقبل الزمان، ولما كان هذا الشخص في نظرهم هو غير عيسى عليه السلام فهم يضعون نظرياتهم بأن هذا المعتقد للإسينيين من أصحاب المخطوطات هو أصل الفكر المسيحي حول المسيح عليه السلام.. أي أن النصارى قلدوا الإسينيين في معتقدهم حول معلمهم، وألبسوا مثل ذلك المعتقد على عيسى عليه السلام وهو – أي رأي الباحثين هذا - ما لا أساس له إلا خلفيتهم العقائدية وتخرصاتهم، ويذهب بعض الباحثين أبعد من ذلك فيزعمون أن الإسينيين كانوا يعتقدون بإلوهية هذا المعلم وأن زيارته الثانية للأرض إنما هي زيارة إله.. والواقع أن أحد أسباب هذا اللبس الأخير حول تأليه المسيا هو الخلط المتعمد وغير المتعمد لكتابات أصحاب المخطوطات مع كتابات أخرى تنسب للإسينيين، لكنها جاءت من مصادر نصرانية.. فمن الثابت بإقرار هؤلاء الباحثين أن الكتابات اليهودية قد تعرضت لتحريف مسيحي متعمد.. وأن أفكار تأليه المسيا وتجسد الإله هي بمجملها أهم مظاهر هذا التصحيف.. هذا إضافة الى أن الكثير من هؤلاء الباحثين يناقشون الحديث عن معلم الصلاح وعن المسيائين منطلقين من خلفيتهم المسيحية.. ويبقى هنا التنويه بأن باحثين آخرين يرون أن شخصيتي المسيائين لمّا يأتيا بعد.. بينما يعبّر آخرون عن حيرتهم في هذا الأمر..(1/318)
ولا يفوتني في هذا السياق كذلك إيراد الرأي الذي انفرد به أحد رواد البحث في مخطوطات البحر الميت، ذلك هو الباحث الأمريكي ايسنمان، وتبناه بعض تلاميذه.. فقد رأى ايسنمان في بحث طويل أنّ معلم الصلاح هو يعقوب الملقب بالصديق، وبالرجل العادل، وكذلك بلقب أخي المسيح ( والأصح فيما يبدو أنه ابن خالته كما سبق نقاشه)، وأن الكاهن الشرير هو بولس، ويستند في هذا الرأي الذي يكاد ينفرد به الى قضية الحديث الواسع بمخطوطات البحر الميت عن معلم الصلاح ومعاناته من الكاهن الشرير الذي سعى لإيذائه وقتله، والى أنه بسبب تآمرهم لقتله ( أولقتله) سيعاقب بني اسرائيل على أيدي الروم بالعقاب الشديد والطرد من الأرض المباركة حتى لا يكاد يبقى بها منهم أحد، وأنّ ذلك منطبق على قتل يعقوب وعلى ما حدث لليهود مباشرة خلال سنوات محدودة من مقتله عليه السلام، ويؤيد ذلك بروز شخصية بولس ككاهن هو " عدو" و"شرير" و"كذاب" في نظر يعقوب وأتباعه كما دللنا على ذلك من قبل ( وكما سيأتي بالملحق عن بولس)، ويستشهد ايسنمان لرأيه هذا بآراء لبعض المؤرخين وزعماء النصارى بالماضي، ومنهم أوريجن Origen ( 185- 254م) الذي ينقل عنه الإعتقاد القديم لدى النصارى بأن مقتل يعقوب قبيل عام 70م كان سبب سقوط القدس وبلاء عام 70م.. وقد تنبأ أصحاب المخطوطات بأن الكاهن الشرير سيكيد لجماعة المساكين، وبأن ذلك سيتبعه العقاب الإلهي على بني اسرائيل، وهو مما استدل به الكاتب أعلاه على أن يعقوب هو المعلم الصالح إذ كان هو قائد النصارى اليهود من بعد عيسى عليهما السلام، وهم الذين كانوا يلقبون بجماعة المساكين أو الفقراء، وقد تبع مقتله بلاء عام 70م ..(1/319)
وتبقى هنا الإشارة الى أنّ رأي روبرت بوج Robert H. Bogue الذي أوردته بالهامش أدناه (2) في أن معلم الصلاح قد ظهر وقتل على يد اريستوبلاس Arristobulus ( الكاهن الشرير) عام 63 ق.م، هو الرأي الأكثر شهرة بين الباحثين، وهو الرأي الذي تبناه دبونت-سومر أستاذ اللغة والحضارة السامية بجامعة السوربون والذي أخذت من كتابه بشارة وصية لاوي.. إلا أنه لا يوجد في التأريخ ما يشير الى وجود شخصية هامة قتلت على يد اريستوبلاس هذا الكاهن الحاكم لليهود في فترة ما قبل الغزو الروماني عام 63 ق.م، وكان الباحثون قد اتجهوا الى غزو الروم هذا عام 63 ق.م، ليعتبروا أن ذلك هو العقاب الربانيّ الذي عناه أصحاب المخطوطات بأنه حلّ ببني اسرائيل بسبب قتل معلم الصلاح.. على الرغم من عدم إنطباقه على أوصافهم لذلك العذاب بما سيشتمله من استئصال بني اسرائيل ( الأشرار)، وكذا حدوثه بعد أربعين سنة من قتل المعلم الصالح.. ويلاحظ هنا أن السبب في اعتباره عذابا بالماضي هو ماديّةُ كثير من الباحثين، وصعوبة تصورهم في أن أصحاب المخطوطات كانوا يتحدثون عن عذاب قادم، وأن ذلك هو ما وقع فعلا.. كما يلاحظ عدم تحديد هوية المعلم الصالح بالمخطوطات على الإطلاق ولا ذكر اسمه، ولو كانوا يتحدثون عنه كشخصية أو نبي عرفوه بالماضي لما ترددوا في ذكر اسمه وتعريفه بشكل محدد.. إنّ ذلك لمما يتنافى مع اعتبار المعلم الصالح شخصية محددة معروفة بالماضي، ولا معنى لإدعاء البعض أن تلك كانت سرية متعمدة للمحافظة على سلامة المعلم..
التعليق:(1/320)
ونعود لنقاش شخصية المعلم الصالح Righteous teacher أو معلم الصلاح teacher of righteousness وشخصية المسيا أو المسيائين وهي الشخصيات التي تحدث عنها أصحاب المخطوطات في مخطوطاتهم.. فمن الواضح للقاريء كما بيّنت في استعراضي لبشارة وصية لاوي ( يرجى إعادة قراءة النص بالهامش 3) أن مجدد الشريعة The man who reneweth the law الذي سيتآمر اليهود لقتله، ثم يحملون هذا الإثم، ويكون ذلك أحد أسباب هلاكهم وتشريدهم وتخريب الهيكل.. من الواضح أن مجدد الشريعة هذا هو عيسى عليه السلام.. وتلك كانت احدى مهماته.. وهو الرجل المؤيد بالمعجزات.. كيف لا وقد نصّ أهل المخطوطات على أن العقاب الإلهي لبني اسرائيل سيكون بعد أربعين سنة من ذهاب هذا المعلم.. الذي لقبوه بالمعلم الفريد أو الوحيد كما سبق بيانه بالنص أعلاه.. وهو مالا ينطبق على الشخص المفترض أنه قتل على يد اريستوبلاس عام 63 ق.م قبيل غزو الروم عام 63 ق.م ، ولا على يعقوب عليه السلام الذي قتل قبل الإبادة الرومانية عام 70م بسنوات محدودة جداً.. كما أن العقاب على أيدي الروم ( القطيم) الذي تبعه تدمير الهيكل تماما وتشتيت بني اسرائيل كما كان يتوقعه أصحاب المخطوطات إنّما كان فقط هو ذلك العقاب الذي وقع عام 70م، وليس عقاب عام 63 ق.م، مما ينفي كذلك التفسيرات البديلة التي قدمت حول شخصية معلم الصلاح.. والمعلم الفريد الذي نذكره هنا والذي سيأتي العقاب بعد محاولة قتله بأربعين عاما، هو نفسه المعلم الصالح الذي تردد ذكره والإشارة بالمخطوطات الى أنّ التآمر لقتله سيكون سببا لهلاك بني اسرائيل.. هذا وقد استشهد كذلك بالفقرة أعلاه من وصية لاوي (3) الباحث روبرت بوج للتعرف على المعلم الصالح، ولكنه ضل في اسنتاجه (2)..(1/321)
وورد الحديث عن إهلاك بني اسرائيل بسبب محاولة قتل المعلم الصالح في مواضع عدة بالمخطوطات، وقد سبق معنا إيراد الإستشهاد من الوثيقة المسماة بوثيقة دمشق (العمود الأول)، حيث جاء النص ( النص كاملا مذكور بالهامش4) الصريح بإسلام بني اسرائيل لسيف الإنتقام، وذلك كما هو مكتوب من قبل عند ضلال اسرائيل كعجل ضال ( ورد هذا التشبيه بكتاب هوشع 4: 16)، "وعندما ظهر المستهزيء الذي غمر اسرائيل بكذبه، وجعلهم يضلون بالصحاريء بدون هدى.. وعندما اختاروا اتباع الأوهام، واعتبروا الصالح زنديقا، وعندما تواطؤا ضد حياة الرجل العادل" .. والرجل العادل هو نفسه معلم الصلاح اتفاقا بغض النظر عن الإختلاف في تعريف شخصية معلم الصلاح..(1/322)
وكيف لايكون ذلك المعلم هو عيسى عليه السلام وقد فصّلت المخطوطات والرسائل اليهودية في العقاب الذي سيحل على بني اسرائيل من بعده بشكل مدهش شامل لحرق الهيكل ودماره التام وهلاك الكثير وطرد الأشرار حتى لا يكاد يوجد بالأرض منهم أحد، وهو ما تحقق كله تماماً أربعين سنة بعد محاولة صلب المسيح عليه السلام.. ولم يتحقق بالغزو الروماني عام 63 ق.م.. كيف وهناك إجماع على عدم ورود أي إشارات في التأريخ تدل من قريب أو من بعيد على ظهور مثل هذه الشخصية الفريدة المؤيدة بالمعجزات قبل عصر عيسى عليه السلام ذلك العصر الذي عاش خلاله أهل المخطوطات.. كيف وهناك إقرار لدى الباحثين بأن الأفعال المستقبلية في نصوص المخطوطات ( ولعلها في كل النصوص الدينية) كثيرا ماترد بصيغة الماضي كما أشرت إلى ذلك من قبل.. وكما هوبيّن من المخطوطات في مواضع عديدة.. وكما يؤخذ عادة من قبل المفسرين ليعني التأكيد على وقوع الحدث بالمستقبل حتى لكأنه من الماضي .. وهو – أي استخدام صيغة الماضي- بالتالي مما لايعني بالضرورة أن أصحاب المخطوطات كانوا يتكلمون عن شخصية بالماضي.. إن عدم الإقرار بهذه القضية حول استخدام الفعل الماضي بالكتابات الدينية قد تسبّب في قول بعض الباحثين بأنّ يوم الحساب حسب اعتقاد أصحاب المخطوطات قد وقع، وهو ما لا يقول به باحث واعي(5).. كيف وقد أقرّ باحثون مثل G.Vermes ( في كتابه مخطوطات البحر الميت، طبعة 1987م، ص33) أثناء استعراضه للأراء حول شخصية المعلم الصالح، أقرّ بصعوبة التمييز بين صيغ الحاضر والمستقبل، وأن الترجمة ممكنة اليهما معا! .. وكيف وقد ورد الحديث بالمخطوطات عن المعلم الصالح بصيغة المستقبل في وثيقة دمشق 6: 11 بـ" أنّه سيعلم الصلاح في آخر الأيام" وهو ما أضطر بعضهم للقول بأن الحديث هنا هو عن شخصية أخرى، أو بأن هذا دليلا على اعتقاد أصحاب المخطوطات بعودة المعلم الصالح مستقبلا، وهو ماليس له دليل آخر على الإطلاق (6)..(1/323)
وكيف لا يكون المعلم الصالح هو عيسى عليه السلام وأتباعه تأريخيا وأتباع المعلم الصالح (بالمخطوطات) قد لقبوا بالمساكين ( poor The).. وهو لقب لا يستغربه المسلم وهو يقرأ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثيرة عن المساكين " قمت على باب الجنة فكان عامة من دخلها المساكين" من رواية البخاري وغيره، و" احتجت النار والجنة، فقالت هذه يدخلني الجبارون والمتكبرون، وقالت هذه يدخلني الضعفاء والمساكين" مما رواه مسلم، حتى قال الرسول عليه الصلاة والسلام " اللهم احييني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين" وهو مما رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم والبيهقي..
إن أصحاب المخطوطات (7) يفسرون سفر حبقوق ليعني قضية واحدة، تلك هي هلاك بني اسرائيل القريب على أيدي الروم اللذين لقبوهم بالقطيم Kittim، ويذكرون أن عبارة حبقوق: " لأن الشرير يحاصر البار" تعني بالشرير هو الكاهن اليهودي في آخر الأيام، وبأن البار هو المعلم الصالح، وأن عبارة " ولِمَ تصمت عندما يبتلع الشرير من هو أبر منه؟" إنها تعني بيت ابشلوم وأعضاء مجمعهم الذين سكتوا عند معاقبة المعلم الصالح ولم يساعدوه ضد الرجل الكذاب الذي كان قد احتقر الشريعة.. وأن هذا العقاب " يخص آخر كهنة أورشليم الذين يكدسون الثروات والربح.. ولكن في نهاية الأيام فإن ثرواتهم وثمار نهبهم سيطرح بين يدي جيش الكتيم – أو القطيم أي الروم " الذين سيهلكون كثيرا من الناس وستسقط الأرض تحت سيطرتهم.. ويؤكدون في تفسيرهم لسفر حبقوق أن العقاب هذا الذي سيكون على آخر كهنة اليهود هو بسبب " الإثم المقترف ضد معلم الحق " . و غني عن القول بأن الحديث هو عن عقاب اليهود الذي وقع على أيدي الروم عام 70م، فهو الذي وقع على آخر كهنة اليهود الذين تولوا حكم اليهود وجمع أموالهم، وهو الذي وقع 40 عاما بعد محاولة صلب المسيح.. والكاهن الشرير هو قيافا الذي تآمر على المسيح وسعى للقبض عليه ..(1/324)
ونضيف على كل ما سبق ثبات الإشارة الى عيسى عليه السلام بأنه المعلم وبأنه الصالح أو البار، ومواضع مخاطبته من قبل حوارييه والناس في زمانه بلفظ يامعلم أو بأنه المعلم كثيرة جدا بالأناجيل والرسائل، وأشير اليه كذلك بالبار، وكلمة البار ( والأبرار) هي ترجمة الأناجيل العربية لأغلب مواضع كلمة Righteous التي اخترت ترجمتها الى الصالح والصالحين، ففي رسالة يعقوب التي هي احدى الرسائل المقدسة لدى النصارى ضمن العهد الجديد، يوبخ كاتب الرسالة اليهود فيقول: " حكمتم على البار قتلتموه" وهو فيما يبدو يعني عيسى عليه السلام، وقد تُحدث عنه كذلك بلفظ البار ( Righteous في النسخه القياسية بالإنجليزية) في مواضع أخرى عدة منها رسالة يوحنا الأولى 2: 1 " .. شفيع هو يسوع المسيح البار" والعبارة بالإنجليزية هي " Jesus Christ the righteous" وفي متى 27: 19، 27: 25، لوقا 23: 47 .. ونادته امرأة بالصالح.. وفوق كل ذلك فإنّ نبؤات المزامير العديدة عن الرجل الصالح، والتي استشهد بها أهل المخطوطات بأنها تتحدث عن نفس المعلم الصالح الذي يتحدثون عنه، هذه المواضع بالمزامير عن الرجل الصالح اعتبرها لوقا في رسالة الأعمال والنصارى من بعده أنها تعني عيسى عليه السلام.. واستعان بها كتبة الأناجيل كمتى ومرقص ويوحنا ولوقا أثناء الحديث عن المسيح عيسى عليه السلام، وأشار اليها شراح الأناجيل لتعني عيسى عليه السلام.. مما يعني أن المعلم الصالح أو المعلم البار هو عيسى عليه السلام نفسه..(1/325)
وكيف لا يكون هو عيسى وقد تحدثت هذه المزامير(6) عن نجاة هذا الرجل الصالح، وسقوط أعدائه على الأرض، وإرسال الله عزوجل الملائكة لإنقاذه، ورفعه للسماء "أرسل من العلى فأخذني" " الآن عرفت أنّ الرب مخلص مسيحه"، وتحدثت عن هلاك عدوه ( يهوذا ؟ ) ووقوعه في الحفرة التي حفرها للرجل الصالح، وصلبه وتعليقه، وتيتيم أولاده وترميل نسائه " الربّ معروف بعدله، قضَى أن يقع الشرير في شرك أعماله" مزمور 9: 15.. وبهذا فإن الرجل الصالح الذي هو عيسى حسب تفسير كتبة الأناجيل سينقذه الله بملائكته، وأما الشرير وقد فسره كتبة الأناجيل الحالية بأنه يهوذا الذي خان المسيح عيسى عليه السلام فسيعلق ( أي يصلب )، ويصبح أولاده أيتاما وزوجاته أراملا، وما كان للمسيح أولادا ولا زوجات، مما يعني أن المزامير لم تبشر فقط بنجاة المسيح بل ذكرت أن عدوه هو الذي صلب بدلا عنه.. ولن أستطرد في بحث نبؤات المزامير عن المسيح أكثر، وإنما أرجع القاريء الى الفصل المتعلق بذلك والذي كتبه مهندس أحمد عبدالوهاب ضمن كتابه " المسيح في مصادر العقائد المسيحية".. والذي يعنينا هنا هو أن الرجل الصالح أو البار Righteous الذي تحدثت عنه المزامير هو عيسى عليه السلام حسب رأي كتبة الأناجيل، وهو المعلم الصالح حسب رأي أصحاب المخطوطات حين فسروا نفس المواضع من المزامير، مما يسند مرة أخرى بقوة الرأيَ الذي أقدمه هنا بأن المعلم الصالح هو في الحقيقة عيسى عليه الصلاة والسلام..(1/326)
ولينظر القاريء الكريم كيف يتواصى أهل المخطوطات - وقد كتبوا مخطوطاتهم من قبل عصر المسيح كما هو معلوم - كيف يتواصون على الصبر والثبات على التعاليم في الفترة التي ستمتد بعد ذهاب المعلم الفريد ( المعلم الصالح) وعقاب بني اسرائيل حتى مجيء النصر الرباني العظيم على الأمم الكافرة على يد المسيا المنتظر.. تماما كما أوصى المسيح عيسى عليه السلام -كما روت الأناجيل وكما ناقشناه من قبل – كما أوصى أتباعه في فترة انتظارهم من بعده لمملكة الله التالية.. وحتى يأتي المختارون، وقد أثبّتُ أن المختارين ما كانوا إلا المسلمين.. وأنّ مملكة الله ما كانت إلا دولة الإسلام.. ومثل هذا النصر " ويظهرون على كل أبناء العالم ويتوب الله عليهم" الذي تحدثت عنه النبوات انما سيتمّ من بعد عقاب الله لبني اسرائيل انما هو ذلك النصر الذي سيكون ( إجماعا) على يدي المصطفى ( المسيا) خاتم الأنبياء.... فمن يكون ذلك المصطفى صاحب الدعوة العالمية من بعد عيسى عليه السلام.. مَن يكون إلا محمد صلى الله عليه وسلم.. وهل ينازعه في ذلك أحد.. كيف وقد مضت ألفي عام من بعد عقاب الله لبني اسرائيل وما جاء خلالها من نبي غير رسول الإسلام الذي انطبقت عليه كل البشارات بشكل تام..(1/327)
وقد تحدّث أصحاب المخطوطات عن المسيا الذي سيتحقق على يديه نصر المؤمنين على كل شعوب العالم، وهو الذي سيشعل الحرب على الروم كما فهم الباحثون من المخطوطات، وهو غير المعلم الصالح بطبيعة الحال، لكنهم – أي أصحاب المخطوطات- ظنّوا أن المؤمنين هم بقية من اليهود، وأنّ المسيا هو من نسل داود، وهو ما ردّه المسيح عليه السلام ( أنظر بشارة ليس من أبناء داود) وهو كذلك ما ناقشناه في مواضع عديدة من هذا الكتاب، وقد ذكر أصحاب المخطوطات أنّ المسيا هو شخص آخر سيأتي من بعد معلم الصلاح.. ففي وثيقة دمشق ( الرقعة ب، في بدايتها)، جاءت إشارة واضحة للفترة الزمنية بين رفع ( حسب ترجمة موسى الخوري) أو موت ( حسب عدد آخر من النصوص المطبوعة بالإنجليزية) المعلم الفريد أو المعلم المحبوب أو معلم الجماعة أو المعلم الصالح ( اختلاف بين المترجمين لنفس الفقرة ؟) حتى مجيء المسيا من نسل داود وهارون.. دونَ ذكرٍ للمدة لإنقطاع النص فجأة بالتراجم أو بالنسخ التي أتيحت للباحثين.. ومثل هذه الإشارة الى المسيا جاءت في المخطوطات عند تفسير المزمور، فجاء في القطعة 4Q171 عند تفسيرعبارات من المزمور:
" ولكن هؤلاء الذين ينتظرون أو ينظرون الربّ سيملكون الأرض" وتفسيرها أن هذا يخص جماعة المصطفين الذين يعملون كما يحبّ، " وبعد قليل لن يوجد الشرير، سأنظر موضعه ولن يكون هنالك" وتفسيرها أن هذا يخص كل الأشرار. فعند نهاية الأربعين سنة فإنهم سيُنفخون خارج الأرض، ولن يبقى منهم أحد، " ولكنّ المتواضعين سيملكون الأرض ويتمتعون بسلام وافر" وتفسيرها أن هذا يخص جماعة المساكين الذين تابوا فسينجون من حبائل ابليس، ثم ان كل الذين ملكوا الأرض سيسعدون.." انتهى النص.(1/328)
وواضح أنَّما يقصدونه هنا هو عذاب اليهود وطردهم من الأرض المباركة أربعين سنة بعد محاولتهم قتل المعلم الصالح.. وهو ما ذكر في مواضع أخرى من المخطوطات.. ثم سيكون بعد ذلك غلبة المؤمنين وامتلاكهم للأرض.. بطبيعة الحال بنزعها من أيدي الرومان الذين هم- أي الرومان - هم من سيقوم بإنزال العذاب على بني اسرائيل كما ذكر ذلك بالمخطوطات كثيرا.. وكل ذلك تم بظهور الإسلام ورسوله عليه الصلاة والسلام ..
إن الحديث عن مجيء معلم الصلاح المؤيد بالمعجزات، ومحاولة قتله، وعن الإتتقام من اليهود بعده بأربعين عاما، وطردهم جميعا حتى لا يكاد يبقى منهم بالأرض المباركة أحد، ووقوع لعنة الله وغضبه عليهم، ونجاة المؤمنين ( تم ذلك لليهود الذين آمنوا بعيسى عليه السلام) من الهلاك على أيدي الرومان ( القطيم)، وأمرهم بالثبات على تعاليم المعلم الصالح، وحدوث الفتن، والأمر بالصبر حتى قدوم المسيا ( المصطفى) لهو كله تبشير واضح بالنبيين العظيمين عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم..
ـــــــــــــــــــــــ
هوامش تنبؤ أصحاب المخطوطات بمعلم الصلاح وبالمختار
(1) روبرت بوج Robert H. Bogue في كتابه فجر المسيحية والإرث الأسيني The Dawn of Christianity: The Essene Heritage ص 223 وغيره من الكتاب.
((1/329)
2) يقترح على سبيل المثال روبرت بوج Robert H. Bogue في كتابه فجر المسيحية والإرث الأسيني The Dawn of Christianity: The Essene Heritage ص 139-140 بأن مقتل المعلم الصالح ( يعني المعلم الأول لأصحاب المخطوطات) كان على يد اريستوبلاس Arristobulus عام 63 ق م ، في ذلك العام الذي دخل فيه القائد الروماني مدينة القدس فقتل اثناعشر ألفا من اليهود، ودنس خلاله الهيكل، ويرى بالتالي أن أصحاب المخطوطات كتبوا نبؤاتهم عن عقاب بني اسرائيل وتشريدهم مباشرة بعد تلك الأحداث.. ويستشهد لذلك بهذه القطعة التي أوردتها من قبل ضمن وصية لاوي، وأثبتُ في هذا الكتاب أنها تعني تماما عيسى عليه السلام، ولكن الكاتب بعلمانيته يصعب عليه الإقرار بها كنبوة، ويزعم أن محاولة القتل المذكورة في هذه القطعة قد وقعت قبل كتابة هذه البشارة، أي أنها ليست بنبوة أوبشارة، وأن ذلك هو الدليل على أن المعلم الصالح قد جاء وقد قتل.. والفقرة التي يستشهد بها الكاتب المذكور هي: " ( ثم يأتي) رجل ( مزوداً) بقدرة العلي يجدد الشريعة، وتسمونه محتال، ثم في النهاية تتآمرون لقتله، غير مقدرين مكانته العالية وبخبثكم تحملون ( ذنب) الدم البري على رؤوسكم "وتكملة هذه الفقرة هي:" أخبركم أنه بسببه فإن الأماكن المقدسة ستُحلق ( تقتلع) إلى الأرض، ولن يظل لكم مكاناً نظيفاً ، وستصبحون كلعنة"... فمن هذا النبي من بعد موسى الذي أعطي صلاحية للتغيير والتجديد في شريعة التوراة ( ولأُحِلّ لكم بعض الذي حرّم عليكم).. ثم لم يؤمن به اليهود، بل تآمروا عليه، وحملوا على رؤسهم إثماً كما لو أنهم قتلوه، وتبعهم بعد ذلك لعنهم وتشريدهم بين الأمم واقتلاع بيت الله من القدس.. فمن هذا النبي الا عيسى عليه السلام.. وينقل الكاتب آراء لباحثين آخرين فمنهم من اقترح أن المعلم كان أونياس Onias the 3rd في حوالي 175 ق.(1/330)
م أو العيازر Eleazar في حوالي 110 ق م أو آخرين وينتهي الكاتب (ص 222 من المرجع المذكور) بأن الكثير من الباحثين يرون أن لقب المعلم الصالح لا يعني فردا محددا بل هو لقب لكل من يقود جماعة الأسينيين.. وقد ردّ جون كولن في كتابه Apocalypticism in the Dead Sea Scrolls, p.67 على الآراء الأخيرة بأن السبب وراءها هو اعتقاد البعض بأن ظهور أصحاب المخطوطات كان متعلقا بتمرد جوناثان المكابي عام 152 ق م وهو ماليس له دليل، خاصة أن الكهانة العليا لم تذكر قط في المخطوطات ضمن عرض أسباب اعتزال بقية اليهود، فهل يرى القاريء معي درجة ضلال الباحثين من الذين تخيلوا المعلم الصالح أو الفريد شخصية خاصة بأصحاب المخطوطات قُتلت من قبلِ كتابة المخطوطات، إلى الذين عطّلوا النبوات التي تناقلها الأسينيين عن المختار المنتظر الذي سينتصر على الأمم ..
لايفوتني هنا الإشارة الى أن الدليل الأساسي الذي استند اليه هذا الرأي هو العبارة الواردة بالمخطوطات بأن عصر الغضب ( على اليهود) سيبدأ بعد 390سنة من بعد أن أسلموا الى يدي ملك بابل نبوخذنصر.. وقد ردّ باحثون بأنّ هذا لعله يعني فقط بداية عصر الغضب على بني اسرائيل، وهو ماتم فعلا في تلك الفترة وتسلسلت أحداثه حتى انتهت بالعقاب الكامل عام 70 وعام 130م.. وقد ذكر جون كولن بالمرجع المشار اليه بالهامش رقم 5 أدناه، بأن عصر الغضب هذا قد يفهم بأنه سيستمر حتى عصر المسيا .. وهو ما نقر بصحته، إذ أن مجيء المسيا كان يُنتظر كعصر النصر الرباني ..
((1/331)
3) سبق في وصية لاوي عبارة:" ( ثم يأتي) رجل ( مزوداً) بقدرة العلي يجدد الشريعة، وتسمونه محتال ، ثم في النهاية تتآمرون لقتله، غير مقدرين مكانته العالية وبخبثكم تحملون (ذنب) الدم البري على رؤوسكم ، أخبركم أنه بسببه فإن الأماكن المقدسة ستُحلق ( تقتلع) إلى الأرض، ولن يظل لكم مكاناً نظيفاً، وستصبحون كلعنة، ومشتتين بين الأمم حتى يعود ثانية فيضع لكم اعتبار ويأخذكم أخرى بحنو ( شفقه) "
(4) النص كما ورد في كتاب " مخطوطات البحرالميت مترجمة" للباحث Florentino Gracia هو كما يلي:
“ .. and raised up for them a Teacher of righteosness, in order to direct them to the path of his heart blank and he made known to the last generations what he had done for the last generation, the congrgation of traitors. These are the ones who stray from the path. This is the time about which it has been written ( Hosea 4:16)” Like a sray heifer so has Israel srtrayed”, when the scoffer arose, who scatteredthe water of lies over israel and made them veer off into a wildernesswithout path.. so that the curses of his convenant would adhere to them, to deliver them up to the sword carrying out the vengeance of the covenant. For they sought easy interpretations, chose illusions, scrutinised loopholes, chose the handsome neck, acquitted the guilty and sentenced the just, violated the covenant, broke the precpt, colluded together against the life of the just man ..”
(5) روى هذا الرأي جون كولن عن أنيت ستيودل وآخرين في كتاب Eschatology,messianism, and the Dead Sea Scrolls by Graig A Evans & Petter Flint.
((1/332)
5) اعتمدت على مجموعة من المراجع الناشرة لنصوص المخطوطات، وقد سبق إيراد أسمائها فيما سبق، إلا أن من أهمها كتاب : The Dead Sea Scrolls Ttranslated by Florentino Gracia وكتاب : Dead Sea Scrolls by Michael Wise et al وكتاب : جماعة قمران اليهودية والأسينيون: دراسات جديدة عن مخطوطات البحر الميت لدبونت سومر A. Dupont- Sommer، بترجمته العربيه والإنجليزية.
(6) ورد في القطعة المشار اليها بوصية لاوي إشارة الى عودة معلم الصلاح مستقبلا بعد تآمر اليهود المذكور لقتله، والذي كان سببا لعقاب اليهود كما ورد أعلاه، وهذا ما نؤمن به حين يكون الحديث عن المسيح عليه السلام، إلا أنه لا دليل على أن أصحاب المخطوطات كانوا يعتقدون بعودة معلم لهم سبق قتله ! وقد ورد مثل هذا عن " مفسر التوراة أو الشريعة" وهو لقب آخر للمسيح عليه السلام فهو الذي قام بالتخفيف عن إصر بني اسرائيل الذي أخذ عليهم بالشريعة، ففي وثيقة دمشق 6: 8 يبدو الحديث عنه كأنه بالماضي، بينما يبدو الحديث عنه بصيغة المستقبل في موضع آخر كما يذكر جون كولن في كتابه Apocalypticism in the Dead Sea Scrolls, p.67 ..
(7) وردت هذه الصفات في مواضع عديدة من المزامير بالعهد القديم وضمن المخطوطات، وقد لا تكون بمجموعها تتحدث عن رجل صالح واحد، بل إن كثيرا منها قد يعني داوود عليه السلام نفسه، إلا أن حديثها عن المسيح عيسى عليه السلام أو المعلم الصالح يبدو مقنعا، وهو ماتبناه النصارى وأصحاب المخطوطات ..
(8) النص كما أورده Florentino Graciaفي كتابه المذكور أعلاه ضمن ترجمة العمود 20 من وثيقة دمشق ".. ..فمن يوم الجلسة ( معه الذي يعلم) مع المعلم الفريد حتى يقوم المسيا من هارون واسرائيل.. فراغ..) فالإنقطاع بالنص ثابت، ولا ندري إن كان من أصول المخطوطات أم لا، خاصة أن المدة بين المعلم الصالح والعقاب قد ذكرت بدقة..(1/333)
ومن المخطوطات: إنتصار المؤمنين على الروم والأمر بفتح أبواب القدس لهم:
تحدّثت المخطوطات بتفصيل غريب عن المعارك بين المؤمنين - الذين ينظر إليهم اصحاب المخطوطات كيهود – بينهم وبين القطيم اللذين هم الروم.. وتذكر اصطفاف الصفوف في مواجهة بعضها البعض.. وأن جيش المؤمنين سيكون عليه ستة كهنة ( وقد كان على جيش المسلمين ستة أمراء) في تلك المعركة مع الروم.. وأن الملائكة ستنصر المؤمنين، وسيقضى على القطيم كما لو كانوا شجر غابة يُقطّع.. ويرثُ المؤمنون، وتمتليء أرضهم بالسلام والمجد.. وينادى لصهيون ( القدس ؟ أو حتى مكة كما يرى ابن القيم ) بأن تبتهج هي وكل مدن اليهودية (فلسطين) بقوة، وأن تفتح أبوابها للأبد، فإن خيرات الأمم ستأتيها (1).. وواضح أن هذه النصوص تشير إلى النبوات المذكورة أعلاه والتي تأمر صهيون بأن تبتهج وأن تفتح أبوابها للأمة البارة.. وسيكون هذا الفتح بعد أن يُهزم الروم الذين كانوا محتلين لفلسطين.. وسيكون جزءاً من الإرث الذي وُعدت به الأمة المباركة التي سترث الأرض المباركة بعد طرد الأمة الملعونة منها..
وبهذا نرى مرة أخرى أن توقعات اليهود من أصحاب المخطوطات جاءت متفقة مع تفسيرنا للنبوات المتعلقة بفتح القدس للأمة البارة، ووراثة الأرض، وقيام مملكة الله.. وهو ماتحقق كله بقيام دولة الإسلام، ولم يتم على أيدي طائفة يهودية كما كان أصحاب المخطوطات يحلمون.. بل على أيدي أبناء آخرين لأبراهيم عليه السلام كما أشار الى ذلك الأنبياء عيسى ويحي وإدريس وغيرهم عليهم السلام جميعا..
ــــــــــــــــــــــ
(1) Michael Wise, Martin Abegg, Edward Cook, in Dead Sea Scrolls,first ed., p. 167:(1/334)
“ .. Crush the nations, your adversaries, and let your sword devour flesh. Fill your land with glory, and your inheritance with blessing ... O, Zion, rejoice greatly, and rejoice , all you cities of Judah. Open your gates forever, so that the wealth of the nations might be brought to you ..”
وبعدُ،
وبعد ، فهل تكون مملكة الله التي بشر بها الأنبياء إلا الإسلام ودولته؟
.. وما التفسير البديل لدى المسيحيين؟
..(1/335)
رأينا كيف توافقت النبوءات الكثيرة عن مملكة الله بشكل مدهش وعجيب كيف توافقت فيما بينها في التبشير بمملكة الإسلام.. فرؤيا نبوخذنصر ( الإصحاح الثاني من دانيال) أثبتت أنّ مملكة الله هي دولة ربانية تهزم الروم وتنتزع منهم الأرض المباركة بفلسطين.. وجاءت رؤيا دانيال نفسه ( الإصحاح السابع ) لتؤكّد هذه الحقيقة وتضيف عليها تفاصيل أخرى عن مملكة الله وزمن ظهورها كلها تنطبق على دولة الإسلام وأمته بشكل مدهش.. وتأتي نبوءة دانيال في الإصحاح التاسع لتبيّن أنّ مملكة الله ستظهر من بعد خراب القدس ( من بعد عصر عيسى عليه السلام) وفلسطين وتشريد اليهود، وبظهورها سيتم ختم النبوة واختيار المصطفى أفضل البشر، أو اختيار أفضل وأقدس بقعة على الأرض.. وجاءت بشارات المزامير ( وكتب أخرى) بيّنة في أن الأمة الوارثة هي أمة من غير اليهود الذين سيتم لعنهم وطردهم من الأرض المباركة، وجاءت كذلك توقعات أهل المخطوطات منتظمة مع التفسير الوحيد بأن الأمر كله تبشير بالإسلام ورسوله ودولته، ثم جاءت بعد ذلك نبوة إدريس أو إينوخ المثبتة بمخطوطات البحر الميت فأعلنت بشكل صريح ودقيق زمن ظهور المختارين وانتصارهم على الكفار، فكان ذلك هو – تماما- زمن ظهور المسلمين في المائة السابعة من بعد رفع عيسى عليه السلام لتقطع بذلك هذه البشارة الطريق على كل تفسير بديل لمملكة الله والمختارين، وليس هناك في الواقع من تفسير بديل إلا تخيلات يمليها اتباع الهوى والشيطان.. لقد تحققت كل الوعود في بشارات دانيال ( وغيرها) بقيام دولة الإسلام وانتزاعها فلسطين من أيدي الرومان، من بعد أن أخرجوا منها أهلها من اليهود وقتلوهم، وبظهور المصطفى ( المختار) محمد صلى الله عليه وسلم، وباختيار مكة كأفضل وأقدس بقعة على الأرض وكقبلة بديلة للتوجه أثناء العبادة..(1/336)
وواضح من البشارة أنّه سيكون هنالك فترة من الزمن تمر ما بين عقاب الله لليهود المشار إليه في نبوة دانيال الأخيرة بالإصحاح التاسع وقيام مملكة الله التي ستستعيد الأرض المباركة من الروم ( المخربين لها)، وقد أشارت النبوة إلى أن نهاية هؤلاء المخربون للهيكل محتومة، وواضح أنّ ذلك سيكون على يد مملكة الله ( أو أيدي المختارين) ولم تذكر نبوءة السبعين اسبوعا لدانيال ( الإصحاح التاسع) مدة تلك الفترة بين العقاب وقيام مملكة الله بشكل صريح.. لكنّ المسيح عليه السلام كما رأينا قد ذكر أنّ الله عزّ وجلّّ سيقصر الأيام - من بعد العقاب الإلهي الشديد الذي سيأتي من بعده على بني إسرائيل - حتى يأتي المختارون " ولو لم تُقصّر تلك الأيام لما نجا أحد من البشر ولكن من أجل المختارين ستقصر تلك الأيام".. ثم رأينا بشارة إدريس محددة لهذه الفترة بشكل دقيق وقاطع..
وتتواصل البشارات المروية عن المسيح - من بعد بشارات التوراة وكتب الأنبياء - في التبشير بمملكة الله.. وأنّها دولة ربانية قادمة من بعد المسيح عليه السلام.. وأن النبوة والحكم ستنتزع من اليهود، لتعطى لأمة أخرى تحمل لواء الحكم والنبوة من بعدهم.. وأنّ دين الله سيكون دعوة موجهه لجميع الشعوب، وتذكر الأناجيل بعض الأمثلة المروية عن المسيح في حديثه عن مملكة الله، وقد رأيناها تبشيراً بيناً بالأسلام، وتلخص الأناجيلُ هدف رسالة المسيح بأنها للتبشير بمملكة الله هذه القادمة قريباً من بعده، لعلّ اليهود أن يتقبلوا أمرها ويدخلوا ضمنها.. وعلى هذا مضت كذلك بشارات يحيى عليه السلام متوعدة لبني إسرائيل بقرب العذاب ونزع النبوة.. في توافق عجيب ومدهش لما مضى من البشارات السابقة.. قاطعة بلا أدنى شك أن الأمر كله تبشير بالإسلام ودولته..(1/337)
وقد جاءت مملكة الإسلام من بعد المسيح عليه السلام محقّقة تماماً لكلّ النبوات المتعلقة بقيام مملكة الله، فانتزعت الأرض المباركة من الروم، وقدمت للبشرية جيل الصالحين الذين لقبوا بالقرآن الكريم بالمصطفين " المختارين" ..أفضل جيل عرفه الناس والتأريخ ... وكان قيامها من المكان المتوقع ( فاران، كما سنفصل في الفصل التالي)، وفي الزمان المتوقع ( ثلاثة قرون ونصف من بعد قسطنطين، وأثناء الفترة من بعد تشريد اليهود على أيدي الروم أو القطيم) ..وكانت البديل الذي طالما هُدِّد به اليهود إن استمروا في عصيانهم للأنبياء..
وحكمت مملكة الإسلام بعدل معظم أرجاء المعمورة حتى عهد قريب.. وما تَمزُّق أهلها ولا ضَعفهم في هذا الزمان إلا أمر متوقع، قد أخبر به نبي هذه الأمة محمد صلى الله عليه وسلم.. وأخبر أنّ هذه الأمة ستقع في كثير من المخالفات التي وقع في مثلها بني إسرائيل، وأنّ من هذه الأمة من سينال غضب الله وعقابه، وأن بعضها سيكون أبدالاً لبعض، ولكنّ الخير من هذه الأمة لن ينقطع حتى يوم القيامة.. وتلك طبيعة الضعف البشري، ولم ينزل هذا الدين إلا على بشر.. يُبتلون بالاستجابة له وبتطبيقه والدعوة إليه.. فإن ضعفوا فضعفهم على أنفسهم.. ويظلّ الإسلام شامخاً لمن أراد إنقاذ نفسه وإتباع سبيل المؤمنين والصالحين.. وعمر الدنيا محدود، ونهايتها قادمة، ومن علامات قرب النهاية ضعف المسلمين وعودة اليهود لفلسطين.. ولايضير الإسلام ألاّ يكون هو المهيمن في الأرض خلال ساعات محدودة من عمر الدنيا، كيف وقد ظلّ بني إسرائيل خاضعين لما حولهم من الأمم خلال كل عصورهم عدا داود وسليمان وقرون محدودة جداً بعدهم.. هذا وفيهم أنبياء، وكانوا في ذلك الزمن هم الأمة المفضلة على الأمم.. وما كان ذلك إلا لضعف التزامهم بالتعاليم، ولكنه لم يعني أن دينهم باطلّ أو أن خصومهم أهدى منهم.. أَلا فلا يصرفنّ الناس عن الإيمان بالإسلام ضعف أهله..(1/338)
ويبقى السؤال: كيف يرد أهل الكتاب كل هذه البشارات ؟
.. فمنهم الذين رفضوا الإيمان بقيام مملكة الله على الأرض جملةً وتفصيلاً إلا الإيمان بقيام مملكة روحية بالقلوب.. يعجب لهم المرء كيف لم تنشأ تلك المملكة في قلب المسيح عليه السلام، وقد ذكر أنها ستقوم من بعده، ثمّ هي نشأت بقلوبهم، وما أبعد قلوبهم عن الإيمان.. ومنهم الذين قالوا بأنها دولة في آخر الزمان ينشئها المسيح عليه السلام.. متجاهلين البشارات المذكورة أعلاه.. لكنهم ُيقّرون أنها ستقوم على أنقاض دولة الروم.. وعلى ذلك يتلهفون لإنشاء دولة أوروبية مكونة من ثلاث أو عشر دول أوروبية تقوم على أنقاضها مملكة الله.. وهم بذلك يفسرون بشارة دانيال عن الملك الروماني الحادي عشر الذي سيهزم ثلاثة ملوك آخرين ويسبقه (ضمن الدولة الرومانية) عشرة ملوك مختلفون عنه، يفسرون هؤلاء الملوك بممالك.. وهو ما لم تعنيه البشارة أو تشير إليه.. ويعجب المرء حين يقرأ لهؤلاء النصارى ما يكتبون من الحديث عن مملكة الله كيف يتجاهلون دولة الإسلام.. ولا يشيرون إليها في كتاباتهم لا بسلب ولا إيجاب..؟ كأن لم يكن- وكأن لم يزل- للمسلمين وجود بالأرض المباركة.. بل وكيف يتجاهلون أن دولة الروم التي ستقوم بعدها مملكة الله - كما يؤمنون – قد زالت على أيدي المسلمين.. كيف يتجاهلون الحقائق ويمضون في بناء نظرياتهم على ظنون وتأويلات متكلفة ..
والأمر يلخصه التعقب لدين الآباء والأجداد، وتقديم الهوى على الانصياع للحق والقبول له.. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون؟
وسنستعرض في الفصول التالية حشد آخر كبير من البشارات المتناولة لجوانب أخرى من التبشير بالإسلام ورسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ..
ـــــــــــــــــــــــ
شبهة عارضة(1/339)
قد يتساءل البعض هل يعقل أن أنبياء يسبقون الإسلام بألف عام أو تزيد قد بشروا بالإسلام .. وما قيمة هذا التبشير لأقوامهم التي كانت كثيراً ما تعاني قهراً واضطهاداً من الكفار أن تُبشر بفرج ونصر للمؤمنين لن تشهده هذه الأقوام أو تستفيد منه؟ وقد يشكك البعض في بعض البشارات القادمة بأنها لم تكن تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام بل تعني أحداثاً كانت دائرة أو متوقعة لدى صدور البشارات ؟
ونردّ على ذلك من عدة جوانب.. فمن المعتاد فيما أوحي على الأنبياء عليهم السلام أن يخبروا بأمور غيبية في المستقبل كثيراً ما تبعد عن أجيالهم مئات بل آلاف السنين.. ولا يستفيد من معرفتها أهل زمانهم استفادة مباشرة.. وشواهد هذا الثابتة بالعهد القديم والجديد والقرآن كثيرة.. فقد تنبأ كل من ميخا ( ميخا12:3) في حوالي 711 ق.م، واشعيا ( إصحاح 5) في حوالي 700 ق.م بخراب القدس وهدمها, رغم أنها لم تهدم في زمانهم, وأن الله قد أنقذها من جيوش سارجون وسنحاريت اللذين جاءوا بعد هذه النبوءات لهدمها فلم يهدموها.. وصرّح بعد ذلك اشعياء ( اصحاح39) أن الهدم سيكون على أيدي البابليين.. وكان الإخبار بهدم القدس إخباراً صحيحاً ولو أنه لم يتم في الحصار الذي عاصره اشعيا, فحمل فتنة لإيمان المؤمنين في ذلك الحين, ولكنه كان سبباً في توبتهم وانابتهم إلى الله، فكان بذلك سبباً لنجاة القدس من الهدم في ذلك الحصار.. وتناقل الناس الخبر حتى جاء ارميا ( 609ق.م) نذيراً للناس بدنو عقاب الله لهم فأفادته نبوءات ميخا واشعياء من قبله بهذا العقاب، في إنذاره للناس، وتمّ في عصره تحقق عقاب الله ( ارميا 16:26 –19)..(1/340)
وتنبأ دانيال ( في الإصحاح الثاني والسابع) بظهور مملكة الله من بعد زوال المملكة الرابعة من بعد عصره ( وهي دولة الروم) مع أنها ما زالت إلاّ بعد ما يقرب من 1200 سنة منذ عصره، واخبر بهدم القدس والهيكل بعد بناءهما ثانيةً من بعد زمانه, وما أفادت هذه النبوءات جيل عصره ولكنها أفادت المؤمنين من بعده حتى هذا الزمان.. وأخبر موسى عليه السلام بظهور نبي من أخوة بني إسرائيل في مثل مقامه، وظل الناس ينتظرون قدوم هذا النبي الذي لم يدعي مقامه أحد من الأنبياء حتى مجيء الأنبياء يحي ( يوحنا) وعيسى عليهما السلام حيث تساءل الناس أو سألوهما مباشرة عما إذا كان أيٌ منهم هو هذا النبي، مما يدلّ على أن هذا النبي المنتظر لمّا يأتي بعد حتى ذلك العصر.. فما أفاد التبشير بهذا النبي الأجيالَ التي عاصرت موسى عليه السلام ولا التي جاءت بعده حتى عصر يحي وعيسى عليهما السلام، ولكنه أفاد الأجيال التي جاءت معاصرة لهذا النبي، وسيرى القارئ أن هذا النبي المنتظر ما كان إلا رسول الله محمداً ( ص)، ومثل ذلك يقال في الحديث عن ظهور المسيح الدجال ( اصحاح حزقيال ) ومعركة هرمجدون بآخر الزمان.. وما زال المسلمون متعوذون بالله في صلواتهم من فتنة المسيح الدجال مع أنّ كل الأجيال التي مضت منذ عصر الرسول ( ص) ما كانت لتقابله وهاهو لمّا يأتي بعد.. لكن هذه الأجيال كسبت أجر العبادة بالاستعاذة بالله منه وتناقلت الخبر حتى يصل إلى المستفيدين منه يوماً ما.. ولعلّ أهم الأحداث على الإطلاق من بعد موسى عليه السلام كان ظهور الإسلام ومجيء الرسول ( ص).. فلا يستغرب بعد ذلك توالي البشارات برسول الله (ص) من عهد موسى إلى عيسى عليهما السلام ..
الفصل الخامس
أبناء إسماعيل عليه السلام وموطن الوحي القادم
النصوص:(1/341)
·?التكوين 16 : 7 - 13 : “ فقال لها ( لهاجر) ملاك الرب : ارجعي إلى مولاتك واخضعي تحت يديها وقال لها ملاك الرب: تكثيراً أكثِّر نسلك فلا يُعدّ من الكثرة وقال لها ملاك الرب : ها أنت حُبلى فتلدين ابنا وتدعين اسمه إسماعيل”.
( التكوين 17 : 20 : " وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه، ها أنا أباركه وأثمره وأكثّره كثيراً جداً، اثني عشر رئيساً يلدُ واجعله أمة كبيرة " .
·?التكوين 21 : 18 : " قومي احملي الغلام ) أي إسماعيل ( وشدّي يدك به لأني سأجعله أمة عظيمة ، وفتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء" .
·?التكوين 22 : 15 .. والوعد هنا في هذا الموضع من سفر التكوين جاء قبل مولد إسحاق، وهو برسالة عالمية من أبناء إبراهيم تتبارك بها أمم الأرض..
" ونادى ملاك الرب إبراهيم ثانية من السماء وقال بذاتي أقسمت يقول الرب أني من أجل أنك فعلت هذا الأمر ولم تُمسك ابنك وحيدك أباركك مباركة وأكثر نسلك تكثيراً كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر ، ويرث نسلك باب أعدائه ويتبارك في نسبك جميع أمم الأرض" .
... من أجل هذا أجاب عيسى عليه السلام في إنجيل برنابا ( فصل96 :8) أنه ليس المسيا المعني بهذه البشارة ( أي المذكورة أعلاه):
“ And by your descendants shall all the nations of the earth bless themselves ”(1/342)
تتأكد هذه البشارة لإبراهيم في مباركة ذريته في مواضع متعددة كما نرى.. ثلاث مرات منها خاصة بنسل إسماعيل وأخرى بنسله عامة.. تتكرر الثلاث الأولى مؤكدة بأن أبناء إسماعيل سيكثرون ويبارك الله فيهم حتى يكونوا أمة عظيمة وكبيرة.. ومعلوم بدهياً أن أبناء إسماعيل لم يكونوا سوى قبائل قليلة متناحرة بينها بالجزيرة العربية، ويعبد غالبيتها الأصنام ... وقد أهمل ذكر العرب على مدى التاريخ، وأصبحوا موضع احتقار من اليهود من أبناء يعقوب وإسحاق ومن الأمم الأخرى.. فهم الأمة الوثنية الجاهلة، ولم يتحقق لأبناء إسماعيل ذكر.. ولم يصيروا أمة عظيمة غالبة على أعدائها إلا بظهور رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بينهم.. فلما ظهر بينهم رسول الله أظهرهم الله بفضله على سائر الأمم فحكموا بالإسلام معظم المعمور من الأرض في الزمن الماضي.. من أطراف الصين حتى إسبانيا.. وتوالت بعد دولة الرسول صلى الله عليه وسلم دول الأمويين والعباسيين وغيرهم وهم من أبناء إسماعيل مباشرة.. واستمر الحكم الإسلامي بعد ذلك في حكم العثمانيين، وهم إن لم يكونوا عرباً اسماعيليين.. فقد حكموا منتسبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. فكأنهم ولاة عنه.. في أمة عظيمة، راسخة في الأرض _ وإن ضعفت أحياناً _ زعيمُها ومنشئها رسول الله صلى الله عليه وسلم..
ولولا أنّ الإسلام حق.. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حق ، لما بُشّر إبراهيم عليه السلام بظهور أبناء إسماعيل أمة عظيمة وكبيرة .. فما كان الله عز وجلّ ليبشر إبراهيم بضلال أبنائه ولكن بهدايتهم وكثرتهم على الحق والهدى ..(1/343)
ويلاحظ في البشارة الثالثة أعلاه أن إرسال هاجر ورضيعها إسماعيل لأرض فاران كان سابقا على ولادة إسحاق بما لا يقل عن 13 عاما.. وهو مما يعني عدم صحة القول بغيرة سارة عليها السلام من إسماعيل على ابنها إسحاق، وأن تلك الغيرة كانت هي سبب خروج اسماعيل وأمه إلى فاران، أو أن طرد إسماعيل وأمّه كان بعد ولادة إسحاق.. إذ كان عمر إسماعيل عند ولادة إسحاق أربعة عشر عاما.. ولو صح هذا الإدعاء لكان إسماعيل هو الذي سيحمل أمه ويبحث لها عن الماء لا أن تحمله هي بيديها وتبحث له عن الماء.. وفي ذلك دلالة بينة على تلاعب اليهود بأخبار التوراة عن إسماعيل عليه السلام..(1/344)
والبشارة الرابعة المذكورة تبدو عامة في أبناء إبراهيم.. ولم يخصص بها أبناء إسحاق أو إسماعيل.. ولكن البشارة قيلت كمكافأة لانصياع إبراهيم للتضحية بابنه الوحيد.. ولم يحظ أحد من أبناء إبراهيم بأن يكون وحيده سوى إسماعيل الذي ظل وحيده لأربعة عشر عاماً سبقت ولادة إسحاق عليه السلام.. فدل ذلك على أن المُضَحَى به ( والولد الذي استجاب للتضحية بنفسه) كان إسماعيل.. وأن المكافأة لإبراهيم في إكثار نسله يغلب أن تشمل مكافأة لنسله من إسماعيل.. ويدل فوق ذلك كله على أن المباركة هنا تشمل أبناء إسماعيل - إن لم تكن خاصة بهم - العبارةُ المذكورة أعلاه بأن أمم الأرض ستتبارك بنسل إبراهيم.. أو أنها ستدعو لنفسها بالمباركة كما بارك الله أبناء إبراهيم.. وما كانت دعوة الأنبياء في بني إسرائيل إلا دعوة خاصة ببني إسرائيل ولم تتبارك الأمم الأخرى ولم تهتد باليهودية.. وما كان الدين الذي اهتدت به الأمم وتباركت إلا الإسلام الذي نشره بينها أبناء إسماعيل.. فاهتدت به الأمم.. وأصبح كل فرد يدعو كل يوم ما لا يقل عن عشر مرات يومياً أن يبارك الله آل محمد ( ولعل ذلك يشمل كل المسلمين على أحد التفاسير ) كما بارك آل إبراهيم .. وأن يسلم على نفسه وعلى المسلمين كما سلم على عباده الصالحين.. فبنسل إبراهيم من إسماعيل لا من إسحاق تباركت الأمم واهتدت، وأصبحت تدعو لنفسها بالمباركة كما بارك الله آل إبراهيم وأبنائه.. وبمثل هذا جاء نص برنابا – المذكور أعلاه – راوياً عن المسيح عليه السلام إنكاره أن هذه البشارة ستتحقق به، وإنّما برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم من بعده.. وهو أمر منسجم تماما مع تبشيره بمملكة الله من بعده والتي جاءت البشارات بأنها مملكة عالمية لمختلف شعوب الأرض.. وقد سبق إثبات أنها دولة الإسلام..
ملحق ببشارة أبناء إسماعيل عليه السلام :
من كان الذبيح ؟
وهل اُختص إسحاق عليه السلام وبنيه بالوعد في أبناء إبراهيم ؟(1/345)
نص ذكر قصة الذبح بالتوراة:
التكوين 22: 1- 14
"وحدث بعد هذه الأمور أن الله امتحن إبراهيم. فقال له يا إبراهيم. فقال هاأنذا فقال خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق واذهب إلى أرض المريا وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك. فبكر إبراهيم صباحاً وشد على حماره وأخذ اثنين من غلمانه معه وإسحاق ابنه وشقق حطباً ليحرقه وقام وذهب إلى الموضع الذي قال له الله. وفي اليوم الثالث رفع إبراهيم عينيه وأبصر الموضع من بعيد. فقال إبراهيم لغلاميه اجلسا أنتما هاهنا مع الحمار. وأما أنا والغلام فنذهب إلى هناك ونسجد ثم نرجع إليكما. فأخذ إبراهيم حطب المحرقة ووضعه على إسحاق ابنه وأخذ بيده النار والسكين. فذهبا كلاهما معاً. وكلم إسحاق إبراهيم أباه وقال يا أبي. فقال هاأنذا يا ابني. فقال هو ذا النار والحطب ولكن أين الخروف للمحرقة. فقال إبراهيم الله يرى الخروف للمحرقة يا ابني. فذهبا كلاهما معاً فلما أتيا الموضع الذي قال له الله بنى هناك إبراهيم المذبح ورتب الحطب وربط إسحاق ابنه ووضعه على المذبح فوق الحطب. ثم مد إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح ابنه. فناداه ملاك الرب من السماء وقال إبراهيم. فقال هاأنذا. فقال لا تمد يدك إلى الغلام ولا تفعل به شيئاً. لأني الآن علمت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك وحيدك عني. فرفع إبراهيم عينيه ونظر وإذا كبش وراءه ممسكا في الغابة بقرنيه. فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده محرقة عوضاً عن ابنه. فدعا إبراهيم اسم ذلك الموضع يهوه يراه. حتى إنه يقال اليوم في جبل الرب يرى."
التعليق:(1/346)
الذي عليه جمهور المسلمين أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام، وهو مما تعارف عليه العرب من قبل الإسلام، وهم في وقت لا يطمعون بمنافسة اليهود ولا يخطر على بالهم أن نبيا سيظهر بينهم.. وقد لُقب الرسول صلى الله عليه وسلم بابن الذبيحين نسبة إلى إسماعيل ووالده عبد الله الذي كاد أن يذبحه عبد المطلب جد الرسول صلى الله عليه وسلم، وحافظ العرب على تقديم نسك الذبح سنويا بمكة إقتداء بأبيهم إبراهيم صلى الله عليه وسلم رغم انحرافهم إلى عبادة الأصنام.. وقد ناقش الإمام عبد الحميد الفراهي (1) في رسالته " الرأي الصحيح في من هو الذبيح" هذه القضية وأثبت أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام، مستشهدا بأن الأمر بتوراة موسى عليه السلام كان بتقديم النذور والقرابين من البكور من أولاد الإنسان وبهائمه ومحاصيل أرضه ( العدد 8:17- 18 ، الخروج 13: 1-2)، وأن البكورية لا يبطلها كون الولد من الزوجة المكروهة ( التثنية 21: 15-17)، وأن هذا الأمر كان جار من قبل موسى، وأن إسماعيل كان بكر إبراهيم، وظلّ وحيده لثلاث عشرة سنة قبل أن يولد إسحاق عليه السلام، وأن الأمر (2) قد جاء بصيغة ( خذ ابنك وحيدك)، ويرى الإمام أن لفظ " وحيدك" هي غالبا تحريف لبكرك، وكلا اللفظين لا ينطبقان إلا على إسماعيل عليه السلام..(1/347)
وأن موضع الذبح المذكور في التوراة الحالية باسم موريا أو مورة Moriah ما هو إلا المروة المعروفة كمذبح لدى العرب من قبل الإسلام، والتي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر"، وما تكرر اسمها بالتوراة إلا عند ذكر موضع بناء الهيكل أيام سليمان عليه السلام بأورشليم، ومن المعلوم أنّ أورشليم كانت منطقة مأهولة باليبوسيين ( قبيلة كنعانية) وقت ابراهيم عليه السلام، ولم تصل إلى أيدي بني إسرائيل إلا بعصر داود عليه السلام، وهو مما يقلل من احتمال أن يُقدم ابراهيم عليه السلام على مشروع ذبح ابنه بمكان معمور بقلب أورشليم القديمة، وقد بين الإمام كيف تم تحريف اللفظ إلى مورياه التي لا يعلم لها أصل.. ومن المعلوم تعارف العرب من قبل الإسلام على المروة كموضع لأمر ذبح إسماعيل.. ولا يعقل أن العرب سموها كذلك منافسة لليهود، واقتباسا لاسمها من التوراة، لكن تحريف اليهود للكتاب وحرصهم على تحريف كل خبر بتحول النبوة منهم إلى غيرهم أمر ثابت في التوراة نفسها.. ويستشهد الكاتب بان ظاهر السرد يوحي بأن الذبيح هو إسماعيل، فقد انطلق إبراهيم بأحد أولاده ( وحيدك) لينفذ أمر الذبح انطلق من بئر السبع وعاد إليها بعد انتهاء مشروع الذبح، وبئر السبع هي - على الأقل حسب التوراة الحالية- موضع استقرار هاجر وإسماعيل، وبالتالي فالولد الوحيد الذي اصطحبه للذبح كان إسماعيل، منطلقاً به من موضع سكنه مع أمه، الذي تنص التوراة الحالية على أنه ببئر السبع، والذي ينص تأريخ العرب على أنه حول بئر زمزم بمكة أو فاران، والواقع أن هاجر وابنها إسماعيل عاشا عند بئر زمزم التي ذكر بالتوراة تدفق مياهها لتسقي إسماعيل وأمه، ولم يكن ببئر السبع ذكرٌ لبئر إسماعيل المشهورة هذه، بينما حفظ التأريخُ تواترَ العرب وتعارفهم على زمزم أنها البئر التي تدفقت لسقيا أبيهم إسماعيل وهو في مهده..(1/348)
وممّا يدل على أن موضع الذبح كان بمكة الإشارة إلى أنه شرق بيت الله تعالى، ومن المعلوم أنه لم يكن قد بني لله بيتا وقتها بأورشليم، وإنما بنا بيت الله بها سليمان عليه السلام دهراً طويلاً من بعد إبراهيم، بينما ثبت في القرآن والتأريخ أن البيت الذي بني بمكة كان أول بيت بني لعبادة لله، بناه إبراهيم بنفسه يساعده في ذلك إسماعيل عليهم السلام، وكان موضعه قد تحدد من عهد أدم عليه السلام كما جاء في الآثار النبوية، ولم يكن حينها بيت لله غيره، وأشار في النص على أنّ موضع الذبح شرق بيت الله على مقام مقدس مرتفع، وكذلك هي المروة مرتفعة بشرق البيت العتيق بمكة المباركة. ومما يستشهد به الكاتبُ أنّ تبشير إبراهيم بإسحاق ونسله عند زيارة الملائكة له وهم في طريقهم لإهلاك قوم لوط عليه السلام ( قبل ولادة إسحاق عليه السلام) يمنع أن يكون اسحاق عليه السلام هو القربان ولمّا يأتي نسله بعد عند تقريبه للذبح، لو كان هو الذبيح.. فواضح أنه لن يتم ذبحه وقت الذبح لأنّ الوعد بنسله قد سبق قبل ولادته، ولن يتحقق ابتلاء ابراهيم عليه السلام بالأمر بذبحه وهو يعلم أنه سيعيش ويُنجب لأنّ الله بشّره بيعقوب ونسله (3)..
فالوعد لإبراهيم في بنيه لا شك أنه شامل لنسله من ابنَيه إسماعيل وإسحاق.. وقد جاءت مواضع المباركة بنسل إسماعيل متكررة، والوعد في أبناء إبراهيم جاء عاما لبنيه كما أوضحنا، هذا إن لم يكن خاصا بذريته من إسماعيل.. ويستثنى من ذلك موضع واحد لا نستبعد أنه لم يسلم من التحريف..
ـــــــــــــــ
هوامش من كان الذبيح ؟
(1) "الرأي الصحيح في من هو الذبيح" للإمام عبد الحميد الفراهي ( 1280- 1349ه)، طبعة 1999م.
((1/349)
2) التكوين 22: 17، وكذلك 22: 2 وإن كان هنالك تصريح باسم ابنه الوحيد إسحاق، وهو معلوم خطأه، وقد ورد عبارة الابن الوحيد ضمن أسطر بسيطة بقيت ضمن رقع مخطوطات البحر الميت( 4Q252- col.3) دون التصريح باسم الذبيح ( لعله لتلف الرقعة نفسها).
(3) جاء في مستدرك الحاكم عن محمد بن إسحاق قال : سمعت محمد بن كعب القرظي يقول : إن الذي أمر الله إبراهيم بذبحه من ابنيه إسماعيل و إنا لنجد ذلك في كتاب الله في قصة الخبر عن إبراهيم و ما أمر به من ذبح ابنه أنه إسماعيل، و ذلك أن الله يقول حين فرغ من قصة المذبوح من ابني إبراهيم قال : " و بشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين " ثم يقول " فبشرناها بإسحاق " و من وراء إسحاق يعقوب" يقول بابن و بابن ابن فلم يكن يأمر بذبح إسحاق و له فيه من الله موعود بما وعده و ما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل".
موطن الرسالة القادمة
فاران .. ...
سفر التثنية 33 : 2 – 3:
النص (1):
" جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير وتلألأ من جبل فاران" (2) .. " عشرة آلاف قديس معه " .. " وعن يمينه نار الشريعة لهم فأحب ( الربُ ) الشعبَ " .. " وحَمى من ينتسبون إليه "
والنص بالنسخة القباسية كما يلي:
“ The Lord came from Sinai, and dawned from Se’ir upon us; he shone from Mount Paran, he came from the ten thousands of holy ones, with flaming fire at his right hand. Yea, he loved his people”
والنص بالنسخة الكاثوليكية Good News Bible (3) كما يلي:
“ The Lord came from Sinai, and he rose like the sun over Edom and shone on his people from Mount Paran, Ten thousand angels were with him, a flaming fire at his right hand. The Lord loves his people and protect those who belong to him”(1/350)
ويمكن ترجمة النص كما يلي : " الرب جاء من سيناء، وأشرق كالشمس على أيدوم، وتلألأ علىعباده من جبل باران، عشرة آلاف قديس (4) معه، وعن يمينه نار مشتعلة، إنه يحب عباده ويحمي الذين ينتسبون إليه"
التعليق:
هذه ثلاثة مواضع لمجيء رباني كما تذكر بشارة توراة موسى عليه السلام ... آخرها هو فاران أو باران.. ومن المتفق عليه أن المجيء الرباني لهذه المواضع الثلاثة هو بالوحي على نبي من الأنبياء المقيمين بها، ومن المعلوم أن الموضع الأول ( جبل سيناء) يعني الإشارة إلى نزول الوحي والكتاب على موسى ... وأما الموضع الثاني لنزول الوحي وهو أرض أيدوم أو ساعير بالعربية، وهي كما ذكر بعض الباحثون المسلمون ( انظر مثلا كتاب أعلام النبوة للماوردي ص130) أرض الخليل ، وبها الناصرة التي ولد بها عيسى عليه السلام وإليها نسب عيسى صلى الله عليه وسلم هو واتباعه، إلا أنّ المراجع المعاصرة جميعها تضع منطقة ساعير (وهي نفسها إيدوم) في غرب وغرب جنوب البحر الميت ( جنوب الخليل)، وهذا لايضير النبوة هنا سواء أكانت ساعير رمزاً لفلسطين كلها ولنبوة المسيح عليه السلام بها، أم كانت موضعا لنبوة أخرى من بعد موسى عليه السلام على أبناء عمومته الآخرين من أبناء عيسو بن يعقوب عليه السلام اللذين سكنوا ساعير، فإنه لا يهمنا هنا تحديد النبوة والوحي اللذين نزلا بساعير، وقد أُشير في سفر القضاة 5: 4 على أي حال إلى حدوث مجيء الربّ من ساعير كحدث بالماضي، إنما يبقى الحديث هنا هو عن الموضع الثالث الذي سينزل عليه الوحي، والمسمّى فاران . أين تقع ، وأين سكانها ؟(1/351)
تذكر التوراة أن إسماعيل عليه السلام تربى ونشأ بفاران ( وسكن –أي اسماعيل – في برية فاران) التكوين 21:21 ، وعلى هذا فيمكن القول أنّ الوحي سينزل مستقبلاً على أحد أبناء إسماعيل من سكان فاران ... ومعلوم أنه لم يظهر ولم يدعي النبوة (5) أحد من أبناء إسماعيل سوى رسول الله محمّد صلى الله عليه وسلم ... فهذا تبشير واضح بنبوته، ليس فيه لَبَس، بغض النظر عن الموقع الثالث للوحي، ومع ذلك يظلّ السؤال: أين فاران ؟
إن من الحقائق القطعية التي كانت محور تأريخ عرب الجزيرة ، والتي على أساسها قامت حياتهم الاجتماعية في سلمهم وحربهم .. وأكدّها علم الأنساب لديهم كأساس لا يقبل التشكيك هي حقيقة أن إسماعيل عليه السلام عاش مع والدته بمكة المكرمة وأنهما أول من استوطنها ، وأن قبيلة قريش تميزت عن باقي العرب بانتسابها إليه عليه السلام ... ولا يجادل أهل الكتاب في حقيقة أن إسماعيل عليه السلام هو أبو مجموعة كبيرة من القبائل العربية ، ولا أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان من أبنائه ... وعلى هذا فإن فاران يجب أن تكون مكة .. لأن الدليل التاريخي قد جزم بمعيشة إسماعيل بمكة ، والتوراة تسمي موضع سكنه فاران .. فوجب أن تكون فاران هي مكة .. وقد ورد فيما ذكره المؤرخون المسلمون أن اسم فاران منسوب إلى بعض العمالقة اللذين سكنوا بمكة ، وأنه أحد الأسماء التاريخية لمكة.(1/352)
وفي الواقع فعلى رغم التحريف الذي تعرضت له التوراة، فإن بالإمكان الاستنتاج من التوراة نفسها أنّ مكة هي الموضع الذي يجب أن تكون به فاران.. أنقل عن المستشار محمد عزت الطهطاوي (5) هذا الإثبات، فالتوراة الحالية تذكر أن مناطق سكن بني إسماعيل واقعة بين مناطق حويلة وشور التي بالشمال.. ففي التكوين 25 : 12 - 18 ما نصه: " وهذه أسماء بني إسماعيل بأسمائهم حسب مواليدهم : نبايوت بكر إسماعيل، وقيدار وأدبئيل ومبسام ومشماع ودومة ومسّا وحدار وتيما ويطور ونافيش وقدمة، هؤلاء بنو إسماعيل وهذه أسماؤهم بديارهم وحصونهم اثن عشر رئيسا حسب قبائلهم، وهذه سن حياة إسماعيل مائة وسبع وثلاثون سنة وأسلم روحه ومات وأنضم إلى قومه، وسكنوا من حويلة إلى شور التي أمام مصر حينما تجيء نحو آشور ".
وعلى هذا فمنطقة سكن أبناء اسماعيل هي المنطقة الممتدة بين حويلة وشور بنص التوراة، وما يبقى علينا إلا تحديد موقع الموضعين شور وحويلة.. فأما شور فقد أوضح النص ذاته موقعها في شمال الجزيرة العربية مقابلة لمصر في الطريق بين مصر والعراق ( آشور)، وأمّا حويلة فقد ورد اسمها في موضع آخر كأحد أبناء قحطان ( يقطان) أبو اليمنيين ( أبو العرب البائدة) وذكر بالموضع أسماء أبنائه الآخرين.. ومعظم هذه الأسماء أسماء مشهورة حتى اليوم لقبائل يمنية.. ففي التكوين 10 : 26: " ويقطان وَلَد الموداد وشالف وحضرموت ويارح وحادورام وأوزال ودقلة وعوبال وأبيمايل وشبأ وأوفير وحويلة ويوباب، جميع هؤلاء بنو يقطان ، وكان مسكنهم من ميشا حينما تجئ نحو سفار ( صفر) جبل المشرق".(1/353)
ومعلوم أن أسماء سبأ وحضرموت وآزال ( الاسم القديم لمدينة صنعاء ، والذي مازال مشهوراً ومتداولاً حتى الآن بمدينة صنعاء) وصليف ( شالف ) ودقلة وجباب ( جبوب منطقة بإب ضمن منطقة ذي السفال باليمن) وصفار ( صافر موقع استخراج للبترول حالياً) وأوبال (منطقة على طريق صنعاء – الحديدة، 80اكم صنعاء، من بعد الحيمة) وجيرة ( قرية بحجة باليمن) وحظور ( منطقة جنوب صنعاء بحوالي 22كم) وغيرها كلها أسماء لمواضع معروفة باليمن حتى الوقت الحاضر..
فيعلم من ذلك أن حويلة لا بد واقعة باليمن.. حيث أقام القحطانين.. والواقع أن موضعها لازال موجوداً حتى الوقت الحاضر، وبهذا الاسم في منطقة ضمن منطقة الحيمة الداخليةكما ذكر لي عدد من إخواني باليمن..
وفي الواقع فإن حويلة Havilah يُعرِّفها المطلعون من أهل الكتاب بأنها واقعة بشمال اليمن، فقد جاء في تعريفها في معجم الكتاب المقدس ويكليف Wyclieffe Bible Dictionary (6): أن معظم الباحثي most authorities يقررون أن حويلة بوسط العربية بشمال اليمن، وذلك لارتباط ذكرها مع حضرموت وسبأ ( التكوين 10 : 26 –29) وأجزاء من جنوب العربية..
وعلى هذا فقد انتشر أبناء إسماعيل طبقاً للتوراة في المنطقة الممتدة بين اليمن ( حيث تقع حويلة) أو من شمال عسير التي هي امتداد لمناطق القحطانين باليمن إلى جنوب الأردن (حيث يغلب وجود شور كما يفهم من النص أعلاه ).. وعلى هذا ففاران موضع واقع ضمن هذه المنطقة التي عرفت ومازالت تعرف بالحجاز.. وأشهر مدن هذه المنطقة ومركزها هو مكة.. ولا شك بذلك أن مكة هي فاران.(1/354)
ويبقى بعد هذا أن اسم فاران قد ورد بالتوراة بعدة مواضع يستدل منها على أنّ الموضع بسيناء أو بفلسطين.. ونحن نرى _ والله أعلم _ أنّه إمّا أنّ اسم فاران فعلا قد أُطلق على عدة مواضع مختلفة باسماء مشتركة بسيناء والأردن بل والجزيرة العربية ( مكة)، ولمثل هذا شواهد من الماضي والحاضر، أو أنّ إطلاق اسم فاران على غير مسكن قريش ( مكة) هو من التحريف الذي وقع بالتوراة لصرف التبشير بالنبوة الخاتمة عن أبناء إسماعيل.. وذلك موقف معلوم لليهود وهدف تمّ الحديث عنه.. ؟(1/355)
ويدل على أنّ تسمية موضع بسيناء باسم فاران، أنّ ذلك لا ينافي أن تكون فاران بمكة كذلك، أنّ هذا الإسم ( فاران) قد استخدم أيضاً لموضع آخر بالأردن.. وأهل الكتاب يقرون للموضعين الأخيرين باسم فاران دون أن يلغي أحدهما الآخر.. وأذكّر القاريء الكريم هاهنا بأوضاع آخرى مشابهه، فحظور Hazor أو حاصور التي ذكرت مرارا بالتوراة، جاء في ترجمتها بقاموس Wycliffe Bible Dictionary ( طبعة 1998) أنها اسم أطلق بالعهد القديم على خمس مدن مختلفة على الأقل، فهي على ما يذكر القاموس ( مستشهدا بمواضع من العهد القديم لكل موضع) هي اسم لمدينة كنعانية شمال بحيرة طبرية، واسم مدينة في أقصى جنوب اليهودية ( أي بجنوب فلسطين) واسم لمدينة أخرى بالنقب قريبا من بئر السبع، ولمدينة شمال القدس، ولمنطقة بشمال الجزيرة العربية على حد ما يذكر القاموس.. فيُلاحظ القاريء معي أنّ أياًً من استخدامات كلمة حظور لم يلغي الإستخدام الآخر لمواضع أخرى.. وشبام Shebam من المدن المعمورة بشمال اليمن، قريبا من صنعاء زرتُها مرارا، وهي كذلك مدينة عامرة معروفة إلى اليوم بحضرموت، ولكنّها ذكرت بالكتاب المقدس ( المرجع أعلاه) لتعني أكثر من موضع بفلسطين، منها مثلا مدينة بشرق الأردن حيث كانت من نصيب سبطي روبين Reuben وجاد Gad ، وهذه كذلك كلمة شيبا Sheba يذكر القاموس أعلاه عدة استخدامات لها بالعهد القديم، منها إضافة إلى استخدامها لتعني مملكة سبأ باليمن، فهي مدينة بجنوب اليهودية أي جنوب الضفة الغربية المعاصرة.. وهكذا يرى القاري معي اطلاق أسماء لمواضع ومدن بجزيرة العرب على مواضع ومدن بفلسطين أو حولها.. وذلك ما أغرى أحد الباحثين ( كمال الصليبي) للإدعاء بأن أحداث التوراة والعهد القديم لم تقع بفلسطين إنما وقعت بعسير وشمال اليمن .. وليس هناك من تفسير واضح لهذه الظاهرة الثابتة..(1/356)
لكنها تؤكد أنّ لفظ فاران لم يكن بدعا بين الأسماء التي أطلقت على مواضع بالجزيرة العربية وأخرى بفلسطين أو الأردن وحول فلسطين ( سيناء)..
ويدل كذلك على أنّ المكان بسيناء الذي أُطلق عليه اسم فاران ليس هو المقصود ببشارة الوحي هنا أنّ ذكر فاران هنا جاء بعد ذكر سيناء وساعير مما يعني عادة أنها موضع مختلف عن الموضعين السابقين وخارج حدودهما، وإلا أصبح بالنص تكرار، تماما كما هي ساعير خارج حدود سينا وفاران أيا كانت الأخيرة، ويدل أيضا على أنّ فاران المزعومة بسيناء ليست هي المقصودة ببشارة الوحي هنا أنّ هذه التي بسيناء إنّما جاء ذكرها عند عبور بني إسرائيل إلى فلسطين بصحبة موسى عليه السلام، وقد كانت مواقف ذلك الجيل ممقوتة من الله عزوجلّ، بل إنّ التوراة ( العدد 12: 16، 13: 26) تذكر أنّ تمرد بني إسرائيل على أمر الله تعالى بدخول فلسطين إنما تمّ وهم بصحراء فاران هذه، وعليهم وهم بها وقع غضب الله تعالى، فكيف يمكن بعد ذلك القول بنزول الوحي عليهم بها، وتمام رضى الله عنهم بفاران ومجيء العشرة آلاف قديس بها.. ثمّ أي وحي نزل بتيماء ( المذكورة مع فاران بنبوة حبقوق بالفصل التالي) إلا ذلك الذي نزل على رسول الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم بمكة والمدينة..(1/357)
على أنّنا نعلم أنّ التبشير بالإسلام ورسوله الأميّ قد تم وبني إسرائيل بسيناء كما يُفهم من القرآن الكريم ( الأعراف 157) وكان ذلك بعد اختيار موسى للسبعين نقيبا من قومه، وكما يفهم من بشارة التثنية 18: 18- 21.. والبشارة بالإسلام جاءت كبشارة لا كتهديد لبني اسرائيل.. وذلك هو الحال مع معظم البشارات بما فيها بشارة عيسى عليه السلام بالإسلام.. وليس من الواضح من القرآن الكريم أو من التوراة في أنّ البشارات ( تراجع بشارة موسى بالنبي بالفصل السادس) التي قيلت لموسى وهو بسيناء عن الإسلام ورسوله انّها قد صرحت بهم من أمة أخرى.. ولعلّ هذا ما يفسر بقية السياق الذي يبدو وكأنه يخصّ بشارة من بني إسرائيل.. وواضح أنّ بقية السياق الذي تلى هذه البشارة هو على لسان كاتب للتوراة وليس كجزء من هذه النبوة التي قالها موسى عليه السلام..
هذا وما يَبعُد مع ذلك أن استخدام فاران لمواضع غير موضع سكن اسماعيل ( مكة) إنما هو تضليل متعمّد لخلط الأمور ولصرف الأنظار عن موضع فاران الأصلي بالحجاز حيث ينتشر أبناء إسماعيل.(1/358)
وأضيف إلى قضية إثبات أن منطقة سكن أبناء إسماعيل التي أثبتتها التوراة إنما هي الحجاز، وأنه لابد وأن فاران التي سكنها إسماعيل كما تذكر التوراة، لابد وأنها بالحجاز.. أضيف إلى ذلك هنا أن تيماء المعلوم وجودها بشمال الجزيرة العربية والتي كانت تاريخياً تابعة لإدارة منطقة المدينة المنورة قد ورد ذكرها في بشارة حبقوق ( البشارة التالية) في موضع واحد مع فاران مما يشير إلى وجود فاران بالجزيرة العربية كما سيأتي.. وأنّه لم يظهر بسينا منذ عهد حبقوق الذي تنبأ بالوحي من فاران - كما سيأتي- بل من بعد عهد موسى ويشوع عليهم السلام أحد من الأنبياء.. مما ينفي أن تكون فاران التي هي موطن الوحي القادم أن تكون بسينا.. وإذا كان من المستبعد أن يكون اسم فاران اسم مشترك بين ثلاثة مواضع بسيناء وفلسطين وجزيرة العرب، فإنّ البديل هو القول بأن تسمية بعض هذه المواضع بإسم فاران هو جزء من عملية تحريف التوراة، ذلك التحريف الذي أثبتته التوراة نفسها، والذي كان من أهم أهدافه تحريف التبشير بخاتم الأنبياء أو ما يطلق عليه اسم المصطفى أو المختار أو المسيا وصرفه ليعني نبياً من بني إسرائيل.. ومن يقرأ البشارات السابقة عن الأمة العظيمة التي ستنشأ من أبناء إسماعيل يعلم جزماً أن فاران - مسكن أبيهم – لا يمكن أن تكون إلا مكة ولا يمكن أن تكون بسيناء الخالية إلا من القليل من بدوها الرحل ... والتي لا وجود لأبناء اسماعيل ولا أمتهم العظيمة بها..(1/359)
ونعود إلى نص التثنية أعلاه.. ففيه أنّ الربّ عزوجل سيستعلن على عباده بالوحي على نبيه بفاران الذي سيكون مؤيداً بعشرة آلاف قديس أو رجل صالح، وعلى يمينه نار مشتعلة.. وليست مصادفة ذكر العشرة آلاف قديس الذين سيكونون بصحبة النبي الموحى إليه بفاران .. فإن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم قد دخل فاران ( مكة) بعشرة آلاف .. وكانوا يحملون بأيمانهم مشاعل من النيران عرفها العباس بن عبد المطلب ومعه أبو سفيان وتعرفا بها على فصائل الجيش الذي مع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.. وقد استخدمت النار في مواضع من التوراة الحالية - وهي بغير اللسان الذي أُنزلت به- لتعني النور الذي يضيء للناس طرقهم.. فكأنها إشارة إلى الشريعة وتعاليمها التي أطلق عليها بالقرآن اسم النور مراراً..
ومما يختم به التعليق هنا الإشارة إلى توافق ذكر مناطق الوحي الثلاث أعلاه مع ذكرها بسورة التين والزيتون.. قال تعالى : "بسم الله الرحمن الرحيم، والتين والزيتون 1 وطور سينين 2 وهذا البلد الأمين..." ..قسم بمواطن الوحي للرسالات السماوية الثلاث الأخيرة .. ورمز لفلسطين والله أعلم بالتين والزيتون، وذلك هو فهم المفسرين المسلمين، وقد وصفت الأرض التي وعد أبناء إبراهيم بملكها ( فلسطين) في التوراة بأنها أرض التين والرمان والزيتون " لأن الرب إلهكم آت بكم إلى أرض خصيبة.. إلى أرض حنطة وشعير وكروم وتين ورمان وزيتون وعسل." التثنية 8: 7- 8، وبمثل ذلك وصفت بمخطوطات البحر الميت بأنها أرض التين والزيتون (7)..
“ He swore to Abraham to give good and spacious .. a land of wheat and grain, of fig trees and herds, a land of olive oil..”(1/360)
وجاء في حزقيال إشارة إلى ما تنتجه الأرض المباركة " وتاجرت معك أرض يهوذا وإسرائيل فقايضوا بضائعك بالحنطة والزيتون وأوائل التين والعسل والبلسن." حزقيال 27: 17 .. وبمثل ذلك وصفها الموظف المصري في بلاط أمينماهت الأول عام 2000 ق م – 1900ق م بأنها أرض أشجار التين، وأنها غنية بالزيتون والعسل (8)..
ووصف الأرض المباركة بأنها أرض التين والزيتون هو من توافق الوحي على الأنبياء.. فجاء بالسورة القسم بالتين والزيتون المفسّر بفلسطين ، ثمّ بسيناء ثمّ بمكة .. بالثلاثة المواضع للوحي الالهي ..
هوامش موطن الرسالة القادمة فاران ..
(1) حذف من النص العربي الإضافات التي لا وجود لها بالنص الموجود بالنسخة الإنكليزية القياسية
(2) فاران هي مكة كما سيأتي تفصيله، وقد سميت بمخطوطات البحر الميت باسم الباران: El -Paran. وهو اسم ظاهر أصله العربي من ال التعريف.
(3) طبعة 1979.
(4) في النسخة الإنكليزية القياسية: لفظ الأفراد القديسين، وهو ما ينطبق على الصحابة رضوان الله عليهم.
(5) محمد صلى الله عليه وسلم نبي الاسلام في التوراة والانجيل والقرآن، 1986 ص21-23
(6) by Charles F. Pfieffer et al, 1998.
(7) The Dead Sea scrolls translated, 2nd edition, by Wilfred Watson, p 282
(8) Life in Biblical Israel by Philip J King and Lawrence E Stager, p. 85
...
الرسالة القادمة منتظرة من منطقتي تيما وفاران
النص: حبقوق 3 : 3 - 6 :
" الله جاء من تيمان ( تيماء، Tema) والقدوس( The Holy God) من جبل فاران . سلاه. جلاله غطى السماوات والأرض امتلأت من تسبيحه.."
وفي النسخة القياسية:
“ God came from Teman, and the Holy One from Mount Paran. His glory covered the heaven, and the earth was full of his praise.”
التعليق:(1/361)
لم تكن يثرب قد بنيت وقت ذكر هذه البشارة.. ( سيل العرم كان عام 115 قبل الميلاد)، وكانت تيماء اليهودية أقرب المدن إلى موقع يثرب الذي لمّا يعرف وقت نزول البشارة.. وتيماء مازالت مدينة عامرة ومعروفة شمال غرب الجزيرة العربية، في المنطقة الواقعة بين المدينة المنورة ( يثرب) ومدينة تبوك.. ومجيء الله عز وجل إلى تيماء وفاران هو إشارة واضحة إلى أن الوحي بالرسالة القادمة سيتنزل في كلٍ من مكّة ( فاران) و يثرب ( بمنطقة تيماء، التي هي من أعمالها حالياً).. وهو ما تحقق فعلا من خلال الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة والمدينة.. وقد أشرت بالبشارة السابقة أنه لم يأتِ بسيناء من بعد عصر حبقوق نبي ولا وحي، مما ينفي مرة أخرى أن تكون فاران المقصودة هنا هي بسينا، ثمّ أين تيما من سينا؟ إن ذكر تيماء مع فاران يعني مرة أخرى أنّ فاران واقعة بجزيرة العرب.. وواضح أنّ دين الله سينتشر من تيماء وفاران ( أي المدينة ومكة) حتى يملأ كافة المعمورة.. The earth was full of his praise.” " حتى تمتلئ الأرض بحمد الله وشكره ..وهذا ما لم يتم إلا بانتشار الإسلام من مكة والمدينة.. ولم ينزل بهذه المنطقة وحيّ على أحد إلا ذلك الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما ظهر بها من نبي غيره..
وقد أقر مفسروا التوراة بأن هذه هي مواضع لنزول الوحي.. لكنهم زعموا أنها مواضع نزول الوحي على موسى عليه السلام ( أنظر مثلا تفسير ماثيو هنري(1)) على أساس تفسيرهم لفاران وتيماء كمدينتين بسيناء أو بالقرب منها.. وقد ناقشنا أنّ ذلك حتى لوصح فلا ينفي أنهما مدينتي مكة وتيماء اليهودية التي كانت أقرب مدن الجزيرة إلى موضع يثرب قبل نشأتها.. وقدمنا الأدلة القاطعة بذلك في شرح الشارة السابقة..(1/362)
وفي الواقع فإن المؤلفين المسلمين كالطبري والماوردي وابن القيم الجوزية وأبي عبيدة الخزرجي وآخرين منهم معاصرون كرحمة الله الهندي والمستشار محمد عزت الطهطاوي وغيره قد نقلوا في مؤلفاتهم ( انظر قسم المراجع) أنّ نسخا قديمة من الكتاب المقدس كانت تذكر لفظ محمد في موضع Praise الذي يعني الحمد.. " لقد أضاءت السماء من بهاء أحمد، وامتلأت الأرض من حمده" وهو ما تم فعلا منطلق من مكة والمدينة حفظها الله تعالى.. إنّ كثرة إستشهاد العلماء المسلمين بهذا النص إلى فترة قريبة لمما يدعونا إلى عدم إهمال الإستشهاد باستشهاداتهم بأن الترجمة العربية القديمة ( غير متوفرة حاليا) التي عاصرت القرون الأولى للإسلام قد صرّحت باسم محمد بهذا الموضع.. ومن الواضح أن لفظ الحمد praise بالعبرية ينطق بمثل نطقه بالعربية، وهو يكاد أن يكون لفظ أحمد ومحمد.. والتصحيف هنا يسير لمن أراده..
ــــــــــــــــــ
(1) Matthew Henry's Commentary on the Whole Bible, on commenting on Hab 3:3 : " He came from Teman, even the Holy One from Mount Paran. This refers to the visible display of the glory of God when he gave the law upon Mount Sinai, as appears by Deu_33:2 whence these expressions are borrowed. Then the Lord came down upon Mount Sinai in a cloud".
التبشير بالهجرة ومعركة بدر الكبرى..
النص: إشعياء 21 : 13 - 17
" وحيٌ من جهة بلاد العرب . في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين . هاتوا ماء لملاقاة العطشان يا سكان تيماء وافوا الهارب بخُبزه . فإنهم من أمام السيوف قد هربوا . من أمام السيف المسلول ومن أمام القوس المشدودة ومن أمام شدة الحرب . فإنه هكذا قال لي السيد في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار وبقية عدد قسيّ أبطال بني قيدار تقِلّ " .
التعليق:(1/363)
كما سبق فقيدار هو الابن الثاني لإسماعيل عليه السلام، ففي التكوين 25 : 12 "هذه أسماء بني إسماعيل بحسب أسمائهم وسلالتهم: نبايوت بكر إسماعيل، وقيدار وأدبئيل ومبسام ومشماع ودومة ومسّا وحدار وتيما ويطور ونافيش وقدمة..."
.. وديدان ( العلا حالياً) وتيماء مدينتان يهوديتان ( سابقاً) بشمال الجزيرة ضمن أعمال المدينة المنورة.. والحديث هنا عن هجرة أو انتقال مبارك محددة مكانه.. وذلك بالجزيرة العربية، إلى ناحية تيماء وديدان يُؤمر فيه سكانهما من اليهود بنصرة المهاجرين ناحيتهما.. ويذكر فيه عن وقوع معركة بعد عام من هذه الهجرة تضيع بعدها هيبة القبائل العربية من بني إسماعيل ( بني قيدار) .
إن هذه بشارة واضحة عن الهجرة النبوية ناحية المدينة المنورة.. ولا تفسير آخر لها.. ولا يوجد في تاريخ الجزيرة العربية حدثٌ آخر مشابه.. وقد ذابت الآن القبائل المتميزة بانتمائها لإسماعيل عليه السلام فوجب أن هذه الهجرة قد حدثت في الماضي.. لأنّه لا يمكن حدوثها في المستقبل وقد اندثر تميّز قبائل بني إسماعيل عن بقية العرب. .(1/364)
وقد تمت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من بين سيوف مشرعة للقتل، مرّ في الواقع بينها وهي مشرعة، كما هو معلوم من أخبار السيرة النبوية، وهاجر معظم أصحابه خفيةً خائفين على أنفسهم من المشركين، ومنهم من كاد أن يترامى بالنبال مع أهل مكة عند إدراكهم لخروجه مهاجراً ( كما هو مشار إلى ذلك بهذه البشارة).. وذهبوا جميعاً إلى منطقة يقيم بها أهل الكتاب.. فكان في هذا النص دعوة وإلزام لمن بها من أهل الكتاب لنصرة المؤمنين المهاجرين.. ويزداد المرء يقيناً بوضوح البشارة عند ما يتذكر معركة بدر الكبرى والتي وقعت في السنة التالية للهجرة.. حيث قُضي فيها على هيبة قريش ومجدها.. وقريش هي قبيلة العرب التي تتغنى بانتسابها إلى إسماعيل ( قيدار)، وهي التي خرجت لبدر لا لشيء إلا لتحافظ على هيبتها أمام القبائل العربية.. كما قال ذلك زعيمها أبو جهل لمّا نصح أن يعود إلى مكة فقد انتهت مبررات قتال المسلمين، وأفلتت القافلة بعيداً عمن خرج لمصادرتها، فقال: "والله لا نرجع حتى نرد بدرا _ وكانت من أسواق العرب السنوية_ فننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبداً بعدها، فامضوا." فكان أن قُتل هو نفسه مع سبعين آخرين ، ضمنهم معظم وجهاء قريش ورجالها ( كأبي جهل وأمية بن خلف وغيرهم)، وأسر سبعون آخرون.. ومرّغت بذلك في التراب هيبة قريش التي أراد أبو جهل أن يُعزَّها... وكان كل ذلك مطابقا للبشارة أعلاه ( يفنى كل مجد قيدار).
فهل يجادل في دلالة هذه البشارة أيضاً على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلا من اختار الهوى والعمى والعناد على الرشاد والهدى واليقين.. وما لنا أن نجزع على من تعصبوا فعجزوا عن الأبصار، وقد أتاهم النور فاختاروا الإبتعاد عنه بل أغمضوا أعينهم عنه..
المدينة العاقر وأبناؤها ..
أشعياء فصل 54 ...(1/365)
... " ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد أشيدي بالترنم أيتها التي لم تمخض، لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل قال الرب. أوسعي مكان خيمتك ولتبسط شقق مساكنك. لا تمسكي أطيلي أطنابك وشددي أوتادك، لأنك تمتدين إلى اليمين وإلى اليسار ويرث نسلك أمماً ويعمر مدناً خربة، لا تخافي لأنك لا تخزين.. ".
التعليق:
.. لا يستقيم المعنى هنا- وقد ذكر ذلك الباحثون المسلمون - إلا بأن يكون الخطاب موجها إلى مدينة مكة لا القدس.. فإن مكة هي مدينة هاجر واسماعيل.. وبني المستوحشة التي تركها بعلها هم بني هاجر واسماعيل.. وقد وصف اسماعيل عليه السلام في التوراة المعاصرة بأنه وحشي ( مستوحش) (1).. ومكة ظلت مهجورة موحشة من الوحي، عاقر لا تلد أنبياء كمدينة القدس.. فجاءتها البشرى هنا بأنّ أبناءها سيكثرون.. وهو ما ينسجم مع البشارات السابقة والعديدة (2) حول إكثار أبناء هاجر، وما ينسجم مع واقع الناس في الماضي والحاضر..فسيكثر أبناء اسماعيل كما بشر بذلك من قبل وستمتد دولتهم وأمتهم إلى ما حولهم من البلاد والمدن فيعمرونها ويقيمون دولة عالمية (3) تنضوي تحتها الأمم ( ويرث نسلك أمما).. وهو ما تم فعلا على أيدي أبناء اسماعيل فقط، ولم يتم مثله على أيدي أبناء ذات البعل سارة عليها السلام..
فهذا تبشير واضح بالإسلام ومملكته.. إذ لم يتحقق لأبناء اسماعيل ( أبناء هاجر/ أبناء مكة) ذكر ولا تأريخ إلا بمجيء الإسلام..
تفسيرُ بولس لبشارة إشعيا السابقة عن العاقر ..
النص: غلاطية 4 : 24 - 27(1/366)
" ألستم تسمعون الناموس ( التوراة) فإنه مكتوب أنه كان لإبراهيم ابنان واحد من الجارية والآخر من الحرة ، لكن الذي من الجارية ولد حسب الجسد وأما الذي من الحرة فبالموعد وكل ذلك رمز، لأن هاتين هما العهدان أحدهما من جبل سيناء الولد للعبودية الذي هو هاجر لأن هاجر جبل السيناء في العربية ولكنه يقابل أورشليم الحاضرة وأما أورشليم العليا التي هي أمنا جميعاً فهي حرة لأنه مكتوب افرحي أيتها العاقر التي لم تلد اهتفي واصرخي أيتها التي لم تتمخض فإن أولاد الموحشة أكثر من التي لها زوج.."
“ .. The two women represent two covenants. The one whose children are born in slavery is Hager, and she represents the covenants at Mount Sinai. Hager, who stands for Mount Sinai in Arabia is a figure of the present city of Jerusalem .. But the heavenly Jerusalem is free and she is our mother. ”
التعليق:(1/367)
وإذاً فالمرأتان ( في إشعيا 54 : 1 - 4) تمثلان مدينتين وعهدين من الله عز وجل على الناس بهما.. وليس قول بولس بأن هاجر عليها السلام تمثل القدس أو العهد بها بمعقول أو مقبول،وهي لم تعش اتفاقا بالقدس ولا كانت أماً للأنبياء بها.. وإنما هي سارة عليها السلام مَن تمثل القدس والعهد الذي نزل بها.. فهي التي لم يَدَعها زوجها ( غلاطية 4 : 27)، وتمثل القدس والرسالة السماوية بها، ولا يوجد بالنص ( نص اشعياء) ما يشير إلى أنها تمثل قدسا أخرى بالسماء !! فإنّ هذا من فلسفة بولس التي تفرّد بها.. والصحيح أن هاجر تمثل مدينة فاران ( لا القدس) في العربية حيث سكنت مع ابنها إسماعيل كما تذكر التوراة (4) وتُمثِّل العهد ( الرسالة) التي ستتنزل بها ( وقد أشير إلى هذه الرسالة التي سيوحى بها في فاران في التثنية 33 :2 3، وفي حبقوق 3 : 3 كما سبق أن أوضحت من قبل).. هذا في مقابل سارة والقدس ( أورشليم) والرسالة السماوية بها.. وواضح أنّ هاجر هي المستوحشة التي تركها زوجها " فإن أولاد الموحشة أكثر من التي لها زوج"، وكذلك وصف ابن هاجر بالتوراة المعاصرة بأنه وحشي (أي مستوحش) (1)..
هل من شك! فالمدينة العاقر هي مكة ( فاران) التي لم تلد أنبياء منذ زمن إسماعيل عليه السلام .. إلا أن أبناءها في النهاية سيكونون أكثر من أبناء القدس ( بني إسرائيل) التي كانت عامرة بالأنبياء والوحي من قبل.. وسينتشر ملك أبناء مكة إلى أقاصي الأرض يميناً وشمالاً فيفتحون الأمصار ويعمرون المدن ويكون لهم الميراث من بعد بني إسرائيل.. كما حدث في التاريخ فعلاً.. ولم حدث مثله لبني اسرائيل..(1/368)
ولا يُضير دلالة هذه النبوة غير المقصودة من قبل بولس إصرار مفسري العهد الجديد بأن بولس لم يعني هنا الإشارة إلى وجود عهد ( أي رسالة ربانية) بأبناء إسماعيل.. كيف تكون تلك فلتة غير مقصودة والإشارات إلى هذا العهد بأبناء اسماعيل ظاهرة في كل جوانب الكتاب المقدس كما نبين بهذا الكتاب، وكما ظهر بعد ذلك تاريخيا بظهور رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.. إنّ هذا الإستخدام من قبل بولس يدل على اطلاعه على التبشير بهذا العهد، خاصة أنه ذهب خصيصا للعربية للتعرف على أبناء إسماعيل عليه السلام..
ـــــــــــــــ
هوامش تفسيرُ بولس لبشارة إشعيا السابقة عن العاقر ..
(1) ورد في التكوين 16: 10 " وتدعين اسمه إسماعيل لأنّ الربّ قد سمع لمذلتك، وأنه يكون إنسانا وحشيا"
(2) لاينفعهم الغرور بحرية ساره عليها السلام، فان معظمهم من أبناء إماء يعقوب عليه السلام، وقد كانت له زوجتين غير أمتيه الإثنتين،لكن إحداهما عاقر.
(3) الحديث هنا عن وراثة أبناء إبراهيم للأمم هنا منسجم مع البشارة بالتكوين 22: 15 لابراهيم باكثار أبنائه، وأن الأمم ستتبارك بهم، وقد أثبتنا سابقا بأن تلك البشارة ( التكوين 22: 15) تعني بالأخص أبناء اسماعيل.. وأورد البشارة الموحية برسالة عالمية من أبناء ابراهيم مرة أخرى هنا، و على القارئ مراجعة مجموعة البشارات المذكورة سابقا في هذا الموضوع، جاء في التكوين 22 : 15- 18 “ ونادى ملاك الرب إبراهيم ثانية من السماء وقال بذاتي أقسمت يقول الرب أني من أجل أنك فعلت هذا الأمر ولم تُمسك ابنك وحيدك أباركك مباركة وأكثر نسلك تكثيراً كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر ، ويرث نسلك باب أعدائه ويتبارك في نسبك جميع أمم الأرض”.
(4) تذكر التوراة أن إسماعيل عليه السلام تربى ونشأ بفاران، جاء في التكوين 21:21: ( وسكن –أي اسماعيل – في برية فاران).
الفصل السادس
النبي المصطفى المنتظر بعد عيسى عليه السلام(1/369)
وصية لاوي من المخطوطات بأن خاتم الأنبياء سيأتي نبياً جديداً لأمم الأرض من بعد عقاب بني إسرائيل بالإسبوع السابع ..
سبق نقاش هذه البشارة بالفصل الثالث من هذا الكتاب، وإنما أورد عنوانها هنا، لمناسبتها لموضوع هذا الفصل، إذ تتحدث بشكل صريح عن صفات المصطفى الذي سيظهر في الإسبوع السابع من عمر البشرية .. وهو كما أثبتنا - من قبل – كان فعلاً زمن ظهور خاتم الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام.. والنبوة صريحة وجلية في التبشير برسول الإسلام عليه الصلاة والسلام، وعلى القاريء العودة إليها بالفصل المذكور ..
البشارة لموسى عليه السلام ..
النص: ( التثنية 18 : 15 – 20)
" أُقيم لهم نبياً من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به ، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه ( أو: فأني أحاسبه،(1)) ، وأما النبي الذي يطغي فيتكلم باسمي كلاماً لم أوصِه أن يتكلم به ، أو الذي يتكلم باسم آلهة أخرى فيموت ذلك النبي "
التعليق:
هذه نبوة هامة.. وهي إحدى النبوات التي تطلعت أجيال المؤمنين من أهل الكتاب على مرّ الزمان لتحققها.. والنبوة تتحدث عن مجيء نبي عظيم.. في مقام موسى عليه السلام.. من إخوة بني اسرائيل.. سيجعل الله كتابه إليه كلاما يحفظه، ويتلوه على الناس من فمه ( أي أنه لن يعطى كتابا مكتوبا في ألواح أو غيرها).. وسينصره الله على أعدائه.. ويقتص منهم.. وعلى نقيض هذا النبي أولئك الأدعياء ( لنبوته!) المفترين على الله، فإنّ الله عزوجل سيهلكهم.. هذه خلاصة البشارة أعلاه، وهي بشارة ما زال الناس ينتظرون تحققها من بعد عصر موسى عليه السلام حتى عصر عيسى عليه السلام، ولم يدَّعِ أحد من الأنبياء من بني اسرائيل تحققها فيه..
إنه محمد صلى الله عليه وسلم نبي مثل موسى .. وليس في بني اسرائيل نبي كموسى :(1/370)
·?رفض من قومه باديء الأمر ثم أصبح مثله قائدهم الذي أخرج منهم أمة عظيمة الشأن، بعد أن كانوا هملاً لا ذكر لهم.. ولم يكن ذلك شأن المسيح عليه السلام مع قومه..
·?وهو الذي جاء مثل موسى عليه السلام بشريعة وتعليمات جديدة.. بينما روي عن عيسى عليه السلام قوله : “ لا تظنوا أني جئت لألغي الناموس بل لأتممه ” ..فما جاء المسيح عليه السلام إلا متبعاً للكتاب ( التوراة) الذي من قبله، وإن كان قد جاء ببعض التخفيف والإتمام..
·?إن هذا النبي المثيل لموسى عليه السلام يجب ألا يكون يهودياً.. فليس في بني إسرائيل نبي كموسى.. كما نصت على ذلك التوراة بما يترجم حرفيا إلى: " ليس هناك نبي يهودي كموسى"
“ No other Jewish prophet like Moses” التثنية 34 : 10، وإن كان النص العربي : "ولم يقم من بعد في إسرائيل نبي كموسى.." أقل تصريحا بهذا المعنى..
·?بل إنّ هذا النبي من أخوتهم.. كما صرّح في البشارة أعلاه.. وإنّ أبناء إسماعيل لأخوتهم.. على الأقل للمؤمنين منهم ! فقد صرحت التوراة باخوة إسماعيل لأبيهم إسحاق عليهم السلام:
“ And he ( Ishmael) died in the presence of all his brothern ”, أي مات إسماعيل أمام جميع إخوته"(1/371)
·?كلام الله في فم هذا النبي المصطفى المثيل لموسى، لكن موسى عليه السلام أُعطي كلام الله تعالى مكتوباً بالألواح.. فتماثلا في أن كلا منهما سيعطى كتابا لله، إلا أن هذا النبي لن يعطى كتابا مكتوبا على ألواح أو أوراق، بل سيُّحفظ كتاب الله شفاهاً، ويتلوه بفمه على المؤمنين وذلك بلا شك إشارة إلى أميّة هذا النبي وعدم قدرته على القراءة، وأنه لم يعطى صحفاً أو ألواحاً مكتوبة بل وحياً مسموعاً ليحفظه ويعلمه للناس.. وفي ذلك كذلك إشارة إلى أنه لن يتكلم من هواه بل سينطق بالوحي الذي نزل عليه من عند الله.. وسيمر معنا في بشارات تاليه عن رسول الله المنتظر ذكر هذه الصفة.. صفة الأمية، وأن الوحي إليه سيكون مسموعا ( أي غير مكتوب).. وهذا مما توفر برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.(1/372)
·?وأن الله سيعاقب من يرفض الإيمان به.. وأن نصره دليل صدقه لأن الله سيهلك الأنبياء الكذبة.. هذا ما يفهم مباشرة من النص أعلاه، وبه إشارة إلي تمييز الأنبياء الكذبة المدعين لأنفسهم أنهم هذا النبي المصطفى أو المسيا، وأن الله سيهلك هؤلاء الأدعياء، وينصر المصطفى الحقّ على أعدائه.. ولمّا كان كثير من الأنبياء الصادقين من بعد موسى قد هلكوا قتلا ولم ينتصروا على أعدائهم، فيمكن حصر الاستنتاج من الوعد بهلاك الأنبياء الكذبة أنه خاص بأولئك الذين ادعوا أنّهم المصطفى المنتظر، لأن المصطفى سينصره الله بينما يهلك الله المنتحلين لنبوته المدّعين لأنفسهم مكانته، وذلك ما يُفهم من تأكيد المسيح عليه السلام من أنّ أمر المسيا سيكون ظاهرا جداً، تحذيراً منه لأصحابه من اتباع الدجالين، وهو ما يؤكده التأريخ كما سيرد معنا، وفي النص تأكيد لنصر الله للنبي الحقّ، وهزم أعدائه.. وهو ما تمّ فعلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. فنصر الله لهذا النبيّ سيميزه عن الكذبة المدّعين لتحقق نبوة التوراة هذه ( وغيرها) فيهم، وسأستعرض في خاتمة هذه البشارة مصارع بعض هؤلاء الكذبة الذين حذّر المسيح منهم عند حديثه عن مجيء المختار من بعده (2)، ممّا يؤكد أن الأنبياء الكذبة الهالكين المقصودين في بشارة موسى عليه السلام أعلاه هم المدعون لنبوة المصطفى ( المختار أو المسيا الذي به تختم النبوة)*.. وقد يكون من المناسب هنا التذكير بأن التوراة فيما بعد قد فصلّت في انتصار المصطفى، وأن الإنجيل المعاصر قد ذكر أن أمره سيظهر بوضوح البرق وضوئه..
قضية المسيا المنتظر.. مرةً أخرى..(1/373)
هناك ما يصل إلى شبه الاتفاق أنّ المقصود بهذه النبوة باصحاح التثنية 18: 18- 19 هو آخر الأنبياء أو المسيا.. والمسيا تعني المختار أو المصطفى.. والكلمة إذا استخدمت كعلم فتعني خاتم الأنبياء المنتظر، واستخدمت بالمعنى العام ( بمعنى مختار Anointed) لكثير من الأنبياء والملوك.. ولعل أكثر من تلقب بـ" المسيح" بالعهد القديم الملك شاول ( طالوت)، وقد أُشير فعلا بالقرآن الكريم على لسان النبي المعاصر لشاول إلى اختيار شاول ملكا بأنه إصطفاء من الله تعالى له : " قال إن الله اصطفاه عليكم"، وغني عن القول أنّ لفظ اصطفى هو ترجمة لكلمة مسح، وقد مسحه الله ملكا على اليهود، واستخدم اللفظ مع اصطفاء داود واليشع وآخرين.. غير أنّ الاستخدام الخاص ( المختار بآخر الزمان أو خاتم الأنبياء) كثر بين اليهود في الفترة التي سبقت ظهور المسيح عيسى عليه السلام، وقد كانت فترة معاناة عصيبة على اليهود وكانوا متوقعين ظهور المصطفى ( المسيا) الملقب كذلك بـ" النبي" والانتصار به على أعدائهم.. ومن الواضح أنه لم يدّعِ تحقق هذه النبوة فيه أحد من الأنبياء حتى مجيء المسيح عيسى عليه السلام، وإن كانت هناك مزاعم متأخرة من اليهود بتحققها في أنبياء مثل هارون ويوشع وصموئيل، وهي مزاعم باطلة من يهود مجادلين متأخرين، يردّها إثبات الأناجيل لاستمرار توقع اليهود لهذا النبي ( الذي بشر به موسى عليه السلام) حتى مجيء المسيح عيسى عليه السلام، وعدم انطباق الصفات على هؤلاء الأنبياء المذكورين، ونعلم مما سبق ومما سيلي من البشارات أنّ المسيح لم يدّعِ تحقق هذه النبوة به، جاء في الهامش لترجمة الكتاب المقدس، دار المشرق – بيروت، تعليقاً على هذه البشارة المذكورة أعلاه قوله: ".. وعلى أساس هذا النص من تثنية الأشتراع انتظر اليهود المسيح انتظارهم لموسى آخر"..(1/374)
وهذا كتاب أعمال الرسل يذكر ( 3: 22- 23) أن بطرس استشهد على اليهود ببشارة موسى هذه، وأعاد سردها عليهم، وكذلك روى كتاب أعمال الرسل أنّ استفانوس ( 7: 37) ذكّر من حوله بما فيهم رئيس الكهنة بنبوة موسى هذه حين قال لهم " وموسى هذا هو الذي قال لبني اسرائيل: سيبعث الله لكم من بين اخوتكم نبياً مثلي".. ونحن وإن كنا نشكّ في صحة الخبر بأن بطرس قد استشهد بهذه النبوة على عيسى عليه السلام، فإنّ مثل هذا الإستشهاد من قبل بطرس أو ستيفانوس سواء كان قد قيل في أصله لعيسى أو لمحمد عليهما الصلاة والسلام فإنه يحمل إقراراً من كتبة الإناجيل المعترف بها الأولين والمعاصرين ( هذا الزمان) بأنّ النبوة لم تتحقق حتى زمن المسيح عليه الصلاة والسلام، مما يحصرها بين الرسولين الكريمين محمد وعيسى عليهما الصلاة والسلام.. وقد وجدنا كيف أن كل هذه الصفات المذكورة لم تتوفر إلا في شخصية الرسول محمد عليه الصلاة والسلام.. وقد كان الناس متلهفين لتحقق هذه البشارة حتى زمان عيسى عليه الصلاة والسلام، ينتظرون المسيا أو المصطفى نبياً وقائداً كموسى عليه السلام ينتصرون به على أمم الأرض.. ويسخر أكثر الباحثين - وهم غربيون من أصول كتابية- من فكرة تقديم النصارى المسيحَ عيسى عليه السلام لليهود على أنه المسيا المنتظر، ويعتبرون أنّ هذا يمثل جهلا تاما بالتأريخ اليهودي، وتطلعات اليهود.. ولا يمكن للنصارى أن يدّعوا للمسيح إقامة دولة أو تحقيق نصر لليهود على الأمم الكافرة، كما كان اليهود يحلمون.. كيف والمسيح جاء مخيباً لآمالهم ببقاء النبوة فيهم، ونذيراً لهم بعذاب شديد وتشريد شامل من بعده وقبل قيام مملكة الله من غيرهم.. ولم يقدم نفسه قطّ كمنقذ لليهود أو للمؤمنين من غلبة وسيطرة الأمم الوثنية عليهم..(1/375)
ومحاولة النصارى التوفيق ( لرأيهم بأن عيسى عليه السلام هو المصطفى المختار) بالقول بتحقق هذا النصر المتوقع من المسيا عند المجيء الثاني للمسيح لا تغنيهم، وقد صرّح لهم المسيح بأن هذا النصر قريب التحقق من بعده بقيام مملكة الله من غير اليهود، ومجيء نبيٍ آخر ( الباراكليت) من بعده، إضافة إلى بشارات أخرى نستعرضها في مواضع مختلفة فيما بعد.. وكلها تعني بوضوح أنه ليس المسيا المنتظر (المصطفى).. وإن كان هو المسيا ( المسيح) الذي تنبأ به دانيال ( بشارة السبعين أسبوعا).. وهو مسيح لن يحقق نصرا بل سيكون من بعده خراب الهيكل وهلاك بني إسرائيل.. وقد رأينا إشارة المسيح عيسى عليه السلام بنفسه إلى ذلك على ما ترويه الأناجيل..
انتظار اليهود للمسيح والنبي حتى زمن عيسى عليه السلام:
·?يوحنا 7 : 40 – 42:
النص:
“ When they heard these words, some people said, “ This really The Prophet, others said this the Christ ”
... “ فكثيرون من الجمع لما سمعوا هذا الكلام قالوا هذا بالحقيقة هو النبي *، آخرون قالوا هذا هو المسيح.. فحدث انشقاق في الجمع لسببه ” يوحنا 7 : 40 - 42.
·?يوحنا 1 : 20
النص:
" وهذه هي شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنةً ولاويين ليسألوه من أنت فاعترف ولم ينكر وأقر أني لست أنا المسيح، فسألوه إذاً ماذا، إيلياء أنت، فقال لست أنا، النبي أنت فأجاب لا ” يوحنا 1 : 20.
التعليق :(1/376)
ولمّا جاء عيسى، تساءل اليهود : هل هو هذا النبي الذي بشر به موسى أم لا؟.. من الواضح كما أسلفنا أن عيسى ليس بهذا النبي.. وأنّ الناس إضافة إلى انتظارهم للنبي المصطفى الذي بشّر به موسى، الذي سيتحقق به الإنتصار على أمم الأرض الوثنية، فقد كانوا ينتظرون " المسيح أو المسيا" الذي أخبر عنه دانيال (3) بأنّه سيأتي قبيل عقاب الله لكفار بني إسرائيل وطردهم من فلسطين (4).. وذلك المسيح الذي بشر به دانيال هو الذي لم يكن قد ظهر حتى وقت كتابة مخطوطات البحر الميت بالقرن الأول أو الثاني قبل الميلاد، وقد تنبأ به أصحاب هذه المخطوطات أنّ هذا المسيح هو النبي " المبشّر" الذي سيعظ الناس خطيبا من سفح الجبل كما ذكر بكتاب اشعيا من قبل ( تراجع تعليقات أصحاب المخطوطات ضمن التعليق على ملكي صديقي)..
وبذلك فليس مستغربا هاهنا اختلاف الناس حول شخصية عيسى عليه السلام عند مجيئه.. ويفهم أن ثلاثة أنبياء مازالوا مُنتظرون من قبل اليهود لما جاءهم يحيى عليه السلام فسألوه: " من أنت" فاعترف ولم ينكر وأقر أني لست أنا المسيح، فسألوه إذاً ماذا، إيلياء أنت، فقال لست أنا، النبي أنت؟ فأجاب لا ”، يوحنا 1 : 20.(1/377)
ولقد ذكر إنجيل متى أنّ عيسى ذكر أنّ يحيى هو إيلياء ( متى 11 : 14 ).. ومرة أخرى فمعلوم أن عيسى عليه السلام هو المسيا أو المسيح الذي أخبر دانيال أنه سيأتي قبيل هدم الهيكل وطرد اليهود من فلسطين.. ويبقى الثالث أي " النبي " الذي بشرّ به موسى، كان ما يزال منتظراً حتى عهد ظهور عيسى عليه السلام.. بل إنّ ما يرويه الإنجيل عن يحي عليه السلام من أنّه نفسه أرسل اثنين من تلامذته ليسألا عيسى " أنت هو الآتي أم ننتظر آخر" يوحي بتوقع يحي عليه السلام نفسه للنبي المصطفى ( المسيا) الذي سيتم على يديه الانتصار، وغني عن القول أن عيسى عليه السلام لم يكن ذلك النبي المنتظر، بل ولم يدع ذلك لنفسه.. والإجابة التي ذكرها الإنجيل لتلامذة عيسى كانت تذكير بمعجزات المسيح عيسى عليه السلام الدالة على صدقه، ولم يكن ضمنها إجابة صريحة للسؤال المطروح حول عيسى هل هو المصطفى المنتظر أم نبي قبله.. وواضح أن كتبة الإنجيل يتوقعون من القارئ أن يستنتج أن عيسى هو المسيا المنتظر بدليل معجزاته.. وهذا غير صحيح.. فقد تكررت معجزات المسيح عيسى عليه السلام على أيدي أنبياء من قبله بما فيها إحياء الموتى ولم يكونوا هم بطبيعة الحال المسيا خاتم الأنبياء.. والغريب أن عيسى عليه السلام كما يذكر إنجيل "متى" كان قد نهى تلامذته عن أن يقولوا لأحد أنه "يسوع أي عيسى" هو المسيح (متى 16: 20).. بل انتهرهم على ذلك ( مرقص 8: 30).. وما جاء في متى أن المسيح عيسى عليه السلام قد أثنى على بطرس لما قال أنه هو مسيح الله يردّ عليه لوقا ( 9: 21) الذي ذكر إجابة بطرس هذه، ولم يذكر ردا عليها إلا عبارة " فانتهرهم وأوصى ألا يقولوا ذلك لأحد".. فعجيب هذا الانتهار.. ولكنّه يدعم القول بأنّ المسيح لم يقدّم نفسه لبني إسرائيل بأنه المسيا المصطفى المنتظر الذي تنتظر الأمم شريعته وعلى يديه سيتحقق الانتصار على الأمم الكافرة.. وهو أمر بديهي وبيّن..(1/378)
وإن كان عيسى عليه السلام قد حمل فعلا لقب المسيح كمرسلين آخرين من قبله حملوه، لكنه لم يكن ليعني اللقب الذي تعارف عليه اليهود في زمانه ليعني خاتم الأنبياء.. وهو تعارف قد يكون عمدا أو تلبيساً، لإعطاء خاتم الأنبياء لقبا (المسيح أو المسيا) باللفظ اليهودي..
ومثل عامّة اليهود كان السامريون (5) ينتظرون النبي المثيل لموسى الذي أطلقوا عليه لقب شاهب أو صاحب؟ أو الرجل الكامل Taheb or Shaheb وأنه سيكون نبيا وملكا للملكة الثانية، ولكن أحد مؤرخي اليهود ذكر ظهور مدعٍ لهذه النبوة بين السامريين في حوالي زمن ظهور المسيح، وقد قتل ولم يقم دولة أو يحقق انتصاراً (6) ممّا يدل على كذبه بناء على النبوة نفسها، وعلى أنّ النبي المثيل لموسى عليه السلام لم يكن قد ظهر حتى زمن عيسى عليه السلام حتى عند السامرة أيضاً.
فإذا لم يكن النبي هو عيسى لعدم مماثلته لموسى ولتصريحه هو بذلك، فيبقى أنّ مجيء النبي الذي بشّر به موسى سيكون من بعد عيسى عليه السلام ( إذ لم يكن هذا النبي المنتظر هو أحد من الأنبياء حتى وقت عيسى، ولم يكن هو عيسى عليه السلام) .. وأنّه بالتالي هو هو الذي بشّر به عيسى عليه السلام من بعده، هاديا للحقّ، ومقيماً لمملكة الله.. فمن يكون هذا النبي المنتظر إلا النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي رفض الإيمان به اليهود حين وجدوه من غيرهم ( من إخوتهم بني إسماعيل) ..رفضوه لحسدٍ في أنفسهم ذكَرَه القرآن وتحدثت عنه الأناجيل وذكره انجيل برنابا بشكل صريح..
ملحق : أدعياء نبوة المصطفى(1/379)
أثبت التأريخ أسماء كثيرين من اللذين ادعوا النبوة، وسجل قصصهم ونهاياتهم، ادّعى كثير منهم نبوة المصطفى أو المسيا المنتظر، واعتمد كثير منهم على نبوة أو بشارة موسى عليه السلام أعلاه كأساس لزعم كل منهم ودعواه، وانتهى أمرهم عامة بالقتل أو التوبة والتراجع عن دعواهم، وأشهر هؤلاء- من بعد المسيح عيسى عليه السلام - سمعان باركوخبا Simon Barcochebas الذي عينه حاخامهم الأكبر أكيبا يوسف ملكا مسياً عليهم، ولقبه بابن النجم، واجتمع عليه اليهود مستبشرين بالنصر على الأعداء، ولم لا فها قد ظهر فيهم المختار ( المسيا)،واتبعوه، فأُبيدوا عن بكرة أبيهم على أيدي الروم، ودفع اليهود ثمن اتباعهم للنبي الكاذب ( عرف في تأريخهم بعد ذلك بأبن الكذاب أو باركوسبا) الذي قتل عام 135 م في قلعته ببيتهار Bethar ، وقتل معه 580 ألفاً من اليهود من غير الذين ماتوا بسبب الجوع والمرض والحرق.
ومن هؤلاء الذين ادعوا نبوة المصطفى( المسيا) مونتانوس عام 150 مMontanus A.D 150 الذي ادعى أنه الباراكليتوس Paraclete الذي بشّر به المسيح من بعده.. ومن غير الواضح فيما بحثتُ مصير مونتانوس هذا ..(1/380)
ومنهم مانيMani الذي ولد عام 216 م بايران، في مجتمع يهودي مسيحي Elkesaites وادعى نزول الوحي عليه وهو في الثانية عشر من عمره، وعرف بعد ذلك ( وأدعى بـ) بأنه الباركليتوس Paraclete الذي بشر به عيسى عليه السلام، وقد عرفت دعوته باسم المانية Manichaeism وانتشرت لعدة قرون رغم قتل ماني بعد محاكمته في ايران ومطاردة دعوته (7).. ومنهمShabbetai Zevi ( 1626 – 1676 م) الذي ادعى أنه المسيا وعمره 22 عاما، وانتشر أمره في أوروبا، وظهرت صوره في كتب العبادات، وادعى تحقق نبوات زكريا فيه، فغير صوم الشهر العاشر إلى موسم عيد وسرور تحقيقا للوعد بزكريا.. ولكن دعوته انتهت لما اعتنق الأسلام (8)، فتخلى عنه أتباعه بخزي الدنيا والآخرة.. إذ تبعوه على ضلاله، وتركوه لما اهتدى.. وإن كنا لا نعرف صدق اهتدائه..
ومنهم أبوعيسى اسحاق بن يعقوب الذي لقب نفسه بعوفيد ألوهيم والتي تعني عابد الله، فقد ذكره الشهرستاني في كتابه الملل والنحل (9) وذكر خروجه في أواخر أيام بني أمية، ثم ماروي عن مقتله على أيدي جيش المنصور، بعد أن زعم أنه ( رسول) المسيح المنتظر وأن الله كلمه وكلفه بتخليص بني اسرائيل.. وذكر الشهرستاني (10) كذلك ظهور الألفان بين السامريين قبل عيسى عليه السلام بحوالي مائة عام، وادعائه أنه هو النبي الذي بشر به موسى عليه السلام..(1/381)
جاء في تفسير انجيل متى لمتى هنري، الجزء الثاني ص 319 في التعليق على كثرة المدعين لنبوة المصطفى التي بشّر بها موسى ومن بعده من الأنبياء : "يحدثنا يوسفيوس عن كثيرين من هؤلاء المدعين الذين ظهروا بين ذلك الوقت وخراب أورشليم ، أحدهم يوداتس الذي هزم أمام كوسبيوس فاروس ، وآخر غلب على أمره أمام فيلكس ، وغيرهما أمام فستوس . وقال دوستيوس إنه هو المسيح الذي تنبأ عنه موسى. ( أنظر رسالة أوريجانوس ضد كلس ، أ ع : 36 و 37). وادعى سيمون الساحر أنه قوة الله العظيمة ( أ ع : 10). وفي الأجيال المتعاقبة وجد أمثال هؤلاء المدعين . ظهر واحد بعد المسيح بمائة سنة دعا نفسه باركوكوباس أي ابن نجم ، غير أنه برهن على أنه باركوسبا أي ابن كذب. وفي أواخر القرن السابع عشر ادعى سباتى ليفى أنه المسيا وذلك في الإمبراطورية التركية ورحب به اليهود كثيراً. ولكنه سرعان ما كشفت حماقته"، وقد سبق الحديث عن الكذابين الأخيرين أعلاه..(1/382)
ومن الذين ادعوا نبوة المصطفى من بعد رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلّم الأسود العنسي وقد ظهر باليمن في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقتل خلال ثلاثة إلى أربعة أشهر من دعواه، ومنهم طليحة بن خويلد الذي ظهر كذلك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهزمه الصحابة وفرّ إلى الشام ثم أسلم، وتاب عن دعواه واشترك في الفتوحات الإسلامية، واستشهد بنهاوند، ومن أخطر هؤلاء الكذابين في عصر النبوة مسيلمة الكذاب، وقد قتله الصحابة.. ومنهم من بعد عصر النبوة المختار بن عبيد ( قتل عام 67 هجرية)، والحارث بن سعيد ( قتل عام 79 هجرية)، وبيان سمعان ( قتل عام 119 هجرية)، والمغيرة بن سعيد الجلي ( قتل عام 119 هجرية)، وأبو منصور العجلي ( قتل في خلافة هشام بن عبدالملك)، وأبوالخطاب الاسدي ( قتل أيام المنصور )، وعلي بن الفضل الحميري ( قتل عام 303 هجرية) .. وغيرهم، وكان هؤلاء أدعياء للنبوة عامة وإن لم يكونوا بالذات أدعياء لنبوة المصطفى تحديدا .. لكن الذين ادعوا النبوة من بين اليهود ادعوا لأنفسهم نبوة المصطفى استغلالاً لنبوات عنه، ولتطلع المؤمنين أو اليهود إلى مجيئه بعد أن كفروا به ( برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم) إذ جاءهم.. وكذلك الذين ادعوا النبوة بين النصارى ادعى كل منهم أنه الباركليتوس الذي بشر به عيسى عليه السلام مما يدل على فهم الأجيال الأولى من النصارى قبل مجمع نيقية لبشارة الباراكليتوس أنها في نبي من بعده.. وقد أثبتنا أنه إنما كان يبشر برسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم..(1/383)
ويلاحظ كيف انتهى مصير أدعياء النبوة هؤلاء بمقتلهم إلا لمن تاب منهم وتراجع عن دعواه.. وفي ذلك تصديق للوعد الذي ورد لموسى في بشارة التثنية بأن النبي المنتظر ( مثيل موسى) سيحميه الله، أما أدعياء نبوته فسينتهون بالقتل.. وقد قُتل أنبياء صادقون لكنهم لم يدعوا أنهم النبي الذي بشر به موسى أو أنهم المسيا أو المصطفى أو خاتم الأنبياء..
_____________________
هوامش بشارة موسى عليه السلام ..
(1) النص ( فاني أحاسبه ) هو ترجمة الكتاب المقدس، دار المشرق – بيروت.
(2) ورد في متى 24 عند حديث المسيح عليه السلام عن المسيا القادم من بعده: "..فإذا قال لكم عندئذ أحد من الناس : "هاهوذا المسيح هنا " بل "هنا" فلا تصدقوه . فسيظهر مسحاء دجالون وأنبياء كذابون, يأتون بآيات عظيمة وأعاجيب حتى إنهم يضلّون المختارين أنفسهم لو أمكن الأمر. فها إني قد أخبرتكم. "فإن قيل لكم : "هاهوذا في البريّة " , فلا تخرجوا إليها , أو هاهوذا في المخابئ , فلا تصدقوا. وكما أنّ البرق يخرج من المشرق ويلمع حتى المغرب , فكذلك يكون مجيء ابن الإنسان"
(3) كلمة النبي معرفة هي كذلك لقب لخاتم الأنبياء، والمقصود بها هنا النبي الذي تحدث عنه موسى عليه السلام.. وأما تمييزه عن المسيح فهو الأصل.. وقد جاء في بشارة دانيال تصريح واضح بمجيء مسيا أو مسيح يقطع ولا يحقق نصرا قبل وقوع العذاب والتشريد على بني اسرائيل، ثم يشير النص إلى قيام مملكة الله بعد ذلك، واختيار أفضل بقعة وختم النبوة ( راجع بشارة ختم النبوة) .. وقد استشهد المسيح على اليهود بهذه البشارة للتدليل على قرب العقاب الرباني على جيله، فدلّ ذلك على أنه هو المقصود بالمسيا المقطوع..
((1/384)
4) من الواضح أنّ الناس لم يكونوا بالضرورة يفهمون أن استئصال الأشرار من الأرض المباركة ( الذي تنبأت به المزامير) وعقاب الله لبني إسرائيل وهدم الهيكل الذي تنبأ به دانيال كان يعني استئصال اليهود جميعاخارج الأرض المباركة.. فقد كانوا يأملون أنه سيختص بالأشرار منهم.. والواقع أن العقاب لم يقع إلا على كفارهم وأشرارهم، وقد نجا منه المؤمنون اليهود الذي آمنوا بعيسى عليه السلام كما فصلنا ذلك من قبل، وكل من عداهم من اليهود اعتبروا كفارا أشرارا لكفرهم بعيسى عليه السلام وقد هلكوا أو تشردوا..
(5) السامرة طائفة تؤمن بموسى والكتب الخمسة المنسوبة إليه، ولاتؤمن بصحة بقية كتب الأنبياْ.
(6) Hugh Schonfield, TheEssene Odyssey,1998 reprint, pp. 42
(7) The Oxford Dictionary of World Religions,1997 ed, p.612
(8) John Sawyer, Prophecy and the biblical prophets,1987, p. 155-6.
(9) الشهرستاني، تحقيق محمد الفاضلي ، الملل والنحل، طبعة 2000م، ص 181-182.
(10) المصدر أعلاه، ص183.
إنتظار الناس للنبي .. وإلتباس شخصية المسيح عيسى عليه السلام مع شخصية المصطفى ( المسيا) النبي..
النصوص:
·?“ فكثيرون من الجمع لما سمعوا هذا الكلام قالوا هذا بالحقيقة هو النبي *، آخرون قالوا هذا هو المسيح، وآخرون قالوا ألعل المسيح من الجليل يأتي.. فحدث انشقاق في الجمع لسببه ” يوحنا 7 : 40 - 42 .
·?" وهذه شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه من أنت، فاعترف ولم ينكر وأقر أني لست أنا المسيح، فسألوه إذاً ماذا، إيلياء أنت، فقال لست أنا، النبي أنت فأجاب لا ” يوحنا 1 : 20 .
·?" فنادى يسوع وهو يعلم في الهيكل قائلاً تعرفونني وتعرفون من أين أنا، ومن نفسي لم آتي بل الذي أرسلني هو حقٌ.. فطلبوا أن يمسكوه.. فآمن به كثير من الجمع وقالوا ألعلّ المسيح متى جاء يعمل آيات أكثر من هذه التي عملها هذا ”. ( يوحنا 7 : 30)
التعليق:(1/385)
في هذا دلالة على ما سبق مناقشته من أن النبي المنتظر المثيل لموسى عليه السلام لمّا يأتي حتى زمن عيسى عليه السلام.. وأن الناس كانو حتى ذلك الزمان ما يزالون بانتظاره.. وواضح أنّ الصورة غير واضحة تماماً لدى الكثير من جمهور الناس ذلك الحين.. وإن كانوا بعمومهم ينتظرون كلاً من النبي والمسيا المنتظر، إلا أنّ البعض ينظر إليهما كشخصين مختلفين من غير الواضح من هذه المقاطع، أياً منهما كان الناس ينتظرون أولاً.. ولا شكّ بأنّ ما يعتقده أغلب أهل الكتاب ( وما نعتقده كذلك) هو أنّ النبي الذي بشّر به موسى عليه السلام هو نفسة المصطفى ( المسيا) المنتظر خاتما للأنبياء.. وغني عن القول أنّ صفات النبي الذي بشّر به موسى، وصفات المسيا القائد المنتصر لا تنطبق على عيسى عليه السلام، وأنّه لم يأت بعد عيسى عليه السلام أحد تنطبق عليه هذه الصفات غير محمد رسول الله وخاتم الأنبياء..
يرجى كذلك مراجعة التعليق على هذه النصوص ضمن التعليق على بشارة موسى عليه السلام والفصل الملحق بها أعلاه حول شخصية المسيا..
ليس عيسى عليه السلام المسيّا المنتظر..
متى 22 : 42 وكذلك لوقا 20 : 44 ، مرقس 12 : 35 - 37
“ وفيما كان الفريسيون مجتمعين سألهم يسوع قائلاً ماذا تظنون في المسيح، ابن من هو ؟ قالوا ابن داوود قال لهم فكيف يدعوه داوود بالروح رباً، قائلاً قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعدائك موضعاً لقدميك، فإن كان داوود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه، فلم يستطع أحدٌ أن يجيبه بكلمة، ومن ذلك اليوم لم يجسر أحد أن يسأله بتةً ”.. انظر كذلك مزامير 110.
التعليق:(1/386)
أثار استعجاب بعض الباحثين أن الحجج والتهم التي ذكرت الأناجيل أن اليهود اتخذوها ذريعة لتجريم المسيح عليه السلام وتبرير سعيهم لقتله، لم تكن في الواقع مما يثيرهم، فعلاجه للمرضى بيوم السبت هومما أجيز لهم، ودعوة إعادة بناء الهيكل –إن صحت عنه- ليست مستنكرة، ولم يقتل اليهود من ادعوا النبوة أو أنهم المسيح المنتظر ... وتبقى بذلك الأسباب الخفية الحقيقية التي دفعت اليهود لطلب دم المسيح عليه السلام غير واضحة لكثير من الباحثين ... إلا لمن تأمل في غاية رسالته وأبعادها التي ناقشنا.
وفي هذه البشارة يبرز السبب الخفي لمحاولة قتل المسيح عيسى عليه السلام.. فهاهنا يفضح المسيح عيسى عليه السلام تزوير اليهود للتوراة وتبديلهم للبشارات.. فيبين المسيح أنّ المختار (المصطفى) المنتظر ليس من أبناء داود كما يدّعي اليهود.. وأن الدليل على ذلك أنّه قد ذكر بالزبور أن داود سيذكره بلفظ سيدي.. ولا يدعو الرجل ابنه أو أحدا من أحفاده بسيدي، وأنّ هذا يدلّ بالتالي على أن المصطفى ليس من أبناء داود.. ويذكر كتبة الأناجيل أن ذلك أثار غضب اليهود وغيظهم، ولكن لقوة المنطق لدى عيسى عليه السلام ولخشية أن يفتح النقاش فضح أكاذيب أخرى زوروها من قبل، لم يتجرأوا على نقاش المسيح عيسى عليه السلام.. لكنهم تأمروا عليه " فلم يستطع أحدٌ أن يجيبه بكلمة، ومن ذلك اليوم لم يجسر أحد أن يسأله بتةً ”(1/387)
وينبغي هنا التنويه بأن اليهود ما كانوا ليغضبوا لو كان المصطفى المنتظر من أبناء أسباط أخرين غير السبط الذي ينتمي إليه داود وهارون، وإنما غضبوا لأن المسيح ينفي أن المصطفى المنتظر هو من اليهود أصلاً.. خاصة إذا علمنا أن أسباط بني إسرائيل العشرة الأخرى غير سبط يهوذا وبتيامين ( وبعضا من لاوي) قد فنيت من بعد خراب مملكة إسرائيل الشمالية على أيدي الآشوريين.. أي أنها قد فنيت من قبل عصر المسيح عيسى عليه السلام، فنفي المسيا عن يهوذا ( سبط داود عليه السلام) يكاد أن يكون عمليا نفي لكونه يهودي، وهذا الفهم بأن المسيح عيسى عليه السلام إنّما ينفي هنا عن المسيا ( المصطفى المنتظر) بأنّه من اليهود لهو ما يفهم عن المسيح عيسى عليه السلام كذلك ( كما رأينا من قبل) في أمثاله عن قيام مملكة الله -بعد عقاب الله لليهود - من أمة غير اليهود.. وفي الواقع فإن إنجيل برنابا بالفصل 208 ( 7-9) قد صرح بإعلان عيسى عليه السلام بأن المسيا الذي ستتبارك به قبائل الأرض ( إشارة إلى الوعد لإبراهيم) هو من أبناء إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، وواضح هنا من هذه البشارة أن المسيح عيسى عليه السلام لا يقصد نفسه.. فهو يناقش مع اليهود نسب شخصية غائبة، ولم يُقدم نفسه قطّ لليهود كمنقذ وقائد إلى طريق النصر على الأعداء ولا كرسول للشعوب عامة كما كان اليهود يتوقعون من المصطفى المنتظر، بل قدّم نفسه نذيرا خاصاً لليهود بين يدي إبادة وتشريد شامل.. ثمّ إن المسيح نفسه هو من أبناء داود عليهما السلام كما أثبتت ذلك الأناجيل.. ومع رفضنا صحة نسبة المسيح إلى أب وهو ماقصته الأناجيل، إلا أن نسبه لأمه ينتهي كذلك بداود.. وبذا فالمسيح عيسى عليه السلام هومن أبناء من داود، وما كان هنا يبشر بنفسه بل كان يبشر بالمصطفى المختار من بعده..
وعلى هذا الأساس فإن هذه البشارة توضح مايلي :(1/388)
1. أنّ اليهود بدّلوا التوراة وحرّفوها.. وبالذات فيما يتعلق بنبوات المصطفى المنتظر، والذي سيكون رسولا لأمم الأرض كلها وشعوبها، وأنّ ما ورد في التوراة من ذكر أنه من أبناء داود هو من جملة افتراءاتهم على التوراة..
واستيعاب هذه القضية أساسي لفهم بشارات التوراة المتوفرة حاليا بين أيدينا.. وهو أمر تؤيده في الواقع هذه البشارات منفردة ومجملة في تناسق وانسجام واضح وبيّن، كما يتم إيضاح ذلك في هذا المؤلَف.
2. أن عيسى عليه السلام ليس هو النبي المصطفى ( المسيا) المنتظر، وليس هو الذي سيقيم مملكة الله ( التي لن تقوم إلا من بعده).. وقد أوردت أعلاه بعض أدلة هذا الاستنتاج.
3. أنّ المصطفى ليس من أبناء داود، بل ليس يهوديا وإلا لما حنق اليهود على المسيح، وفي ذلك توافق مع البشارات بقيام مملكة الله من خارج اليهود، قريبا من بعد هلاك اليهود، وذلك هو ماتمّ بحذافيره تاريخياً.
4. لم يبق إلا القول الجليّ الذي لا مجال للشك أن يأتيه، وذلك أن المصطفى الذي بشر به المسيح ما كان إلا خاتم الأنبياء ورسول الأمم محمد صلى الله عليه وسلم.
وختاما، أورد هنا نص النبوة السابقة كما وردت في انجيل برنابا، حيث يزيدُ نصُ برنابا من وضوح نص الأناجيل الحالية المذكور أعلاه:
“.. فحينئذٍ قال يسوع: ومتى جاء رسول الله فمِن نسل مَن يكون؟ أجاب التلاميذ: من داوود، فأجاب يسوع: لا تغشوا أنفسكم لأن داوود يدعوه في الروح رباً قائلاً هكذا: ( قال الله لربي أجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئاً لقدميك يرسل الرب قضيبك الذي سيكون ذا سلطان في وسط أعدائك) فإذا كان رسول الله الذي تسمونه مسيّا ابن داوود فكيف يسميه داوود رباً، صدقوني لأني أقول لكم الحق أن العهد صنع بإسماعيل لا بإسحاق ”.
ومن برنابا أيضاً:
تأكيد آخر بأنّ عيسى عليه السلام ليس المسيّا المنتظر.. ( برنابا 42 : 4 – 12)
النص:(1/389)
“ لذلك أرسلوا اللاويين وبعض الكتبة يسألونه قائلين: من أنت ؟ فاعترف يسوع قال الحق أني لست مسيّا، فقالوا أأنت إيلياء أو إرميا أو أحد الأنبياء القدماء ؟ أجاب يسوع: كلا، حينئذٍ قالوا من أنت قل لنشهد للذين أرسلونا، فقال حينئذٍ يسوع: أنا صوت صارخ في اليهودية كلها يصرخ أعدوا طريق رسول الرب كما هو مكتوب في إشعيا، قالوا إذا لم تكن المسيح ولا إيلياء أو نبياً فلماذا تبشر بتعليم جديد وتجعل نفسك أعظم شأناً من مسيّا؟ أجاب يسوع إن الآيات التي يفعلها الله على يدي تظهر أني أتكلم بما يريد الله ولست أحسب نفسي نظير الذي تقولون عنه، لأني لست أهلاً أن أحلّ رباطات جرموق أو سيار حذاء رسول الله الذي تسمونه مسيّا الذي خُلق قبلي وسيأتي بعدي وسيأتي بكلام الحق ولا يكون لدينه نهاية. فانصرف اللاويون والكتبة بالخيبة وقصوا كل شيء على رؤساء الكهنة الذين قالوا إن الشيطان على ظهره وهو يتلو كل شيء عليه ”
التعليق:
هذا النص من برنابا وكل النصارى يكذّبونه، لكن الذين يملكون خلفيةً في فهم نصوص الإنجيل ودلالاتها لايملكون في الواقع إلا أن يسلّموا بصحته وعمق معانيه..
...(1/390)
فعيسى ليس هو المسيا المنتظر.. والمسيا لقب أطلقه بني إسرائيل على رسول الله خاتم الأنبياء.. وعيسى جاء يمهد الطريق لرسول الله أو لرسول مملكة الله من بعده ( وقد كانت تلك هي هدف دعوته وجوهرها كما هو مصرّح به بالأناجيل الحالية).. والذي سيأتي – أي رسول الله – خلق قبله ربّما روحاً أو في عالم الذرّ.. وفي التوراة مواضع تدل على مثل هذا المعنى، كما سيأتي استعراض أمثلة منها بالملحق الخاص بإنجيل برنابا .. وسينطق بكلام الله الحق وهو ما يتفق مع البشارات المتكررة عنه، في أنه لا ينطق من هوى نفسه.. وسيظل دينه إلى الأبد.. وكله مما له شواهد من الإنجيل والتوراة كما سبقت الإشارة إلى ذلك عند نقاش البشارات السابقة.. وهذا كله مما يدل على صحة ما أورده برنابا من النقاش أعلاه بين عيسى عليه السلام واليهود..
فهنا نفي آخر مروي عن عيسى عليه السلام أنه ليس المسيّا المنتظر.. ولا يظننّ أحد أن ّمسلماً جاء لكتابة إنجيل كإنجيل برنابا سيتجرأ على نفي أن عيسى عليه السلام هو المسيح ( أو المسيا) والقرآن الكريم يلقبه بالمسيح.. فلولا أنّ كاتب الإنجيل من غير المسلمين ( ومن ثمّ هو من حواريي عيسى عليه السلام) لما اعتبر أن لقب المسيا حسب استعمال بني إسرائيل يعني خاتم الأنبياء.. ويكون اللفظ هنا كما هو متفق عليه وكما تمّ إيضاحه من قبل بمعنى المختار والمصطفى.. وعيسى عليه السلام في الواقع قد لُقب بلقب مسيا.. فهو مصطفى على بني إسرائيل.. لكنه ليس المصطفى على الأمم.. وفي إصحاح دانيال عند الحديث عن السبعين أسبوعا المنتهية بالمسيا ( الذي سيقطع أو لا يصنع شيئا) ثم بعقاب الله لليهود على أيدي الروم شاهد على استخدام لفظ المسيا لعيسى عليه السلام.. وقد استشهد بهذا الموضع عيسى عليه السلام نفسه على بني إسرائيل كما تمّ إيضاحه من قبل، ومعلوم أنه قد صرح أنه آخر الأنبياء إليهم.. وليس بينه وبين عقوبتهم نبي آخر..
لقب المسيا Messiah:(1/391)
وقد يتسأل بعض القراء فيقول هل يعني القول بأن المسيا هو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أننا بذلك نضع لقب المسيا أو المسيح على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم؟ يلاحظ هنا أن هذا اللقب بهذا اللفظ لم يُعرف بين المسلمين لرسول الله محمد عليه الصلاة والسلام، ولم يستعمله أحد من المسلمين في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم، لا في الماضي ولا في الحاضر، وتعارف المسلمون على أنّ لقب المسيح هو لرسول الله عيسى عليه السلام.. ولكنّ دراسة التوراة تبين أن لقب المسيح قد أعطي لعدد من الملوك والأنبياء.. فهنالك المسيح شاول (طالوت)، والمسيح داود، والمسيح أليشع عليهم السلام وغيرهم، وأنّ هذا اللقب لم يكن أبدا خاصا بعيسى عليه السلام.. ولولا أنّ عيسى عليه السلام جاء بالمملكة الرابعة ( دولة الروم) وقت تطلع كل اليهود لمجيء المصطفى خاتم الأنبياء لما وقع الخلط بين تلقيبه بالمسيح ( وهو لقب لم يختص به) مع لقب المصطفى ( الإستعمال الخاص لأهل الكتاب لكلمة المسيا أو المسيح) الذي يعني نبي الأمم وخاتم الأنبياء..
هذا وقد ورد معنا في نبوة دانيال بالإصحاح التاسع إطلاق لقب المسيا (بالإنجليزية Messiah ) أو المسيح ( باللفظ العبري والعربي) في نص واحد على شخصين في فترتين مختلفتين، وقد ذكر الباحثون (1) ورود لفظ الفعل من المسح ( بمعنى الإصطفاء) في أكثر من سبعين موضعا بالعهد القديم، وورود لفظ المسيح أو المسيا في ثمانية وثلاثين موضعا من العهد القديم كذلك، لا يكاد أن يكون منها موضع يختص بالمصطفى نبي الأمم المنتظر، هذا وقد ورد اللفظ كذلك بصورة المثنى والجمع في مواضع عديدة ضمن مخطوطات البحر الميت، ففي كتاب نظام الحرب بالعمود 11 عبارة " وبأيدي مسحائك.. Your anointed ones" ..(1/392)
والواقع أن لقب المسيا messiah بالإنجليزية أو messias و ho christos باليونانية أو christ بالإنجليزية أو المسيح بالعربية والعبرية، الواقع أنّ هذا اللقب مُفسرّ في المراجع الغربية - كلها عمليا- بأنّ معناه: المصطفى أو المختار The anointed ، وقد جاء استخدام لفظ المسح لفرد على بني إسرائيل بمعنى اصطفاء واختيار ذلك الفرد ملكا أو نبيا على بني إسرائيل في مواضع عدة من التوراة، وكان الفرد المصطفى ملكا أو نبيا أو كاهناً يُمسح على رأسه بالزيت المبارك، وبقي بعد ذلك استخدام المسح على القوم بمعنى الإصطفاء عليهم، والمسيح بمعنى المصطفى من بين قومه.. ومثل هذا واضح من قصة شاول ( طالوت) الذي يُعدّ أكثر من ورد بالعهد القديم استخدام لقب المسيح في حقه..(1/393)
ولكنّ اللفظ قد استخدم فيما بعد - وبخاصة من الأجيال المتأخرة من اليهود- بمعنى خاص ليعني المختار المنتظر خاتما للأنبياء، ورسولا للشعوب.. ليعني ذلك الفرد المنتظر المؤيد بالله بآخر الزمان، الذي جمعت شخصيته بين النبوة والملك والكهانة (1) ( الصفة الأخيرة متضمنة ضمن النبوة في الواقع) .. وتعارف اليهود في أجيالهم المتأخرة - التي كانت تتطلع إلى مجيء خاتم الأنبياء وهي تعاني من الإضطهاد اليوناني ثم الروماني – تعارفوا على تسمية وتلقيب النبي المنقذ المنتظر خاتم الأنبياء بلقب المسيا أو المسيح.. ومن هنا نرى أنّ عيسى عليه السلام لمّا سآءل اليهود عن المسيا الذي يزعمون أنه من أبناء داود عليه السلام ( انظر أعلاه بشارة ليس عيسى عليه السلام المسيا المنتظر) قال لهم طبقا للنص الذي أورده برنابا " .. رسول الله الذي تسمونه مسيا ابن داود.." مما يشير إلى أن تسمية خاتم الأنبياء المنتظر بالمسيا إنما هو إصطلاح العامة من اليهود.. وهو مالم يكن قضية بحد ذاتها بقدر ما كانت القضية إثبات أنه ليس من اليهود.. ويبقى هنا الإشارة إلى أنّ الكتابات الدينية المتأخرة بما فيها مخطوطات البحر الميت والأناجيل الحالية بل وحتى إنجيل برنابا قد أعطت هذا اللقب ( المسيا أو المسيح) لرسول الله المنتظَر من بعد عيسى عليه السلام، كما رأينا ونرى في البشارات التي استعرضناها ونستعرضها في هذا الكتاب..
والمصطفى على أي حال هو من أسماء رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم الثابتة المعلومة للجميع، وما لفظ المسيا إلا ترجمة لغوية لها، فرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم هو المصطفى بالعربية، وهو نبي الأمم المختار ( أو المسيا) المقصود ببشارات التوراة والإنجيل.. واثبات تحقق البشارات فيه هو موضوع هذا المؤلَف.(1/394)
إن استخدام برنابا للفظ المسيا لرسول الله محمد صلى الله عليه وسلم لشاهد على صحة إنجيله، فإنّ أحداً من المسلمين ما كان ليسمي محمداً صلى الله عليه وسلم بالمسيا، ولولا أن كاتب إنجيل برنابا لم يعرف الإسلام لما لقب محمدا صلى الله عليه وسلم بالمسيا أو المسيح.. ونحن هنا نستخدم استعمال برنابا لهذا اللقب لرسول الله كشاهد آخر لدى القراء المسلمين الذين قد يستغربون هذا اللقب.. وإلا فالأمر لا يعدو أن يكون ترجمة للقب المصطفى..
والسؤال هل لفظ المسيح هو نفس لفظ المسيا (2) .. يبدو الأمر كذلك.. فالمسيح هو اللفظ العبري ( وكذلك العربي) الذي ترجم (1) للإغريقية واللاتينية ثم الإنجليزية إلى لفظ المسياMessiah ، ولكلمة المسيح طابع يهودي كما ذكرنا، يعود لتلقيب الملوك وبعض الأنبياء بالمسحاء عند اختيارهم لمناصبهم الجديدة والمسح على رؤوسهم بالدهن المقدس، ثم تطور استعمال الكلمة ليعني باستعمالها الخاص المصطفى خاتم الأنبياء.. ولعلّ ذلك لما للكلمة من ظلال وخلفية يهودية فعمّمها اليهود على كل البشارات المتعلقة بخاتم الأنبياء كجزء من محاولاتهم المتكررة لتهويده.. مع أنّ استخدامها الكثير الوارد بالعهد القديم والذي أشرت إليه أعلاه لم يكن منه تقريبا في حق المصطفى المنتظر شيء! ! وهو ما نلاحظه في بشارات العهد القديم التي أوردت في هذا الكتاب بما فيها بشارة موسى بالتثنية، ونبؤة دانيال بأقدس القديسين وبشارات المزامير وغيرها..
ومع هذا فقد تكون كلمة المسيح/ المسيا التي هي بمعنى المصطفى / المختار والتي هي أصلاً من أسماء خاتم الأنبياء موجودة بأصول بعض البشارات المتعلقة به ..
صحة ودلالة تلقيب عيسى عليه السلام بالمسيح..(1/395)
قد يتوقع القاريء غير المسلم أننا بإثباتنا بهذا الكتاب أنّ المصطفى ( المسيا) المنتظر ما هو إلا رسول الإسلام محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام، سنذهب إلى تخطئة إلقاء هذا اللقب على عيسى عليه السلام.. والواقع إنطلاقا من العهد القديم فإنّ لفظ المسيح ( أوالمسيا) قد أطلق على عيسى عليه السلام صراحة ضمن بشارة السبعين اسبوعا من كتاب دانيال.. وقد أطلق نفس اللقب كذلك بنفس النص على مصطفى قبله لم يُحدد اسمه تماما تاريخيا ( يُرجى مراجعة تلك البشارة إن لزم الأمر)، وقد أثبتنا من خلال مناقشة تلك البشارة وما تعلق بها من مخطوطات البحر الميت وبشاراته أنّ ذلك المسيح الذي ذكره دانيال ليظهر قُبيل هدم الهيكل ماهو إلا عيسى عليه السلام (1).. وقد اعتبر أصحاب المخطوطات أن هذا المسيح هو نفسه النبي الملقب "بالمُبشر".. مما يؤكد صحة التفسير بأنّه فعلا عيسى عليه السلام الذي جاء مبشرا بالمصطفى خاتم الأنبياء..(1/396)
يذكر الباحث دانيال بلوكDanial Block (2) أنّ من كل ذلك العدد الكبير المشار إليه أعلاه من المواضع التي استخدم بها لفظ المسيح والمسح بالعهد القديم، لم يرد منها شيء باللقب الصريح ليعني مسيحا منتظرا، إلا الموضعان المذكوران ضمن نص بشارة السبعين.. وهما كذلك في الواقع كما رأينا لا يعنيان المسيح المنتظر بآخر الزمان، ومع أنّ في هذا - أي في القول بنفي إطلاق لقب المسيح بالعهد القديم على المصطفى المنتظر بآخر الزمان- مبالغة من قبل هذا الباحث سببها اعتبار بشارة اشعياء بالإصحاح 43 ( البشارة بعبد الله المنتظر) أنها تعني كورش والبشارة في أول إرمياء أنها تعني إرمياء وليس المصطفى المنتظر، إلا أنّ هذا الرأي والطرح لهذا الباحث ليَدلّ على أنّ استخدام لفظ المسيح للدلالة على النبي المنتظر الذي بشر به موسى عليه السلام هو استخدام مبني على استخدام عامة اليهود أكثر مما هو مبني على نصوص العهد القديم.. ولعل ّ استعمال المسيح عيسى عليه السلام ( وكذلك إنجيل برنابا) للفظ المسيح أو المسيا في البشارة أعلاه ( متى 22 : 42 ) ليدلّ على النبي المصطفى المنتظر من بعد عيسى عليه السلام هو من باب مجاراة الناس فيما تعارفوا عليه..
ومن هنا ففي مقابل هذا التوهين لإطلاق لقب المسيح على خاتم الأنبياء المنتظر، فإنّ لقب المسيح الذي حمله عيسى عليه السلام هو لقب أطلق عليه فعلا بنص العهد القديم.. وهو لقب لم يعني قط أنّه المصطفى خاتم الأنبياء المنتظر.. إذ كان نص دانيال ببشارة السبعين صريحا بأنه لن يُحقق نصرا، بل وبأنّ عصره سيكون متبوعا بالعقاب الشديد على بني إسرائيل.. وهو ما يتفق تماما مع حياة المسيح عيسى عليه السلام وإنذاره بني اسرائيل بعقاب الله لهم من بعده، وبتبشيره بمملكة الله ونبيها من بعده.. وما زعم قط أنه هو خاتم الأنبياء الذي سيتحقق به نصر المؤمنين..(1/397)
إنّ بعض المغرضين من دعاة النصرانية سمحوا لأنفسهم بالإستنتاج بأن الإسلام يؤمن بعيسى عليه السلام خاتما للأنبياء من خلال تلقيبه عليه السلام بلقب المسيح، وتلك جهالة بينة، كما هو واضح من الطرح أعلاه.. وهنا ينبغي التنبيه بأنّه لولا أنّ القرآن كلام الله لما جاء فيه التقرير بعيسى مسيحا لله.. ولو كان هذا الدين من عند محمد صلى الله عليه وسلم لكان لديه من علم بأهل الكتاب ( كما يستنتج من قراءة القرآن) مايكفي ليمنعه من تلقيب عيسى عليه السلام بالمسيح.. إذ يفهم عامة أهل الكتاب أنّ حامل هذا اللقب ( مُعرَّفاً) يعني المصطفى خاتم الأنبياء.. وهو ما لا يمكن إطلاقه على عيسى عليه السلام..
يبقى أن نختم هنا بأن عيسى عليه السلام كثيرا ما حمل بالكتابات المسيحية لقب " المسيح عيسى" أو “ Jesus Christ” وهو نفس اللقب الذي أُطلق عليه عليه السلام بالقرآن االكريم مرارا .. " المسيح عيسى " ابن مريم..
ـــــــــــــــــ
هامش بشارة نفي أن عيسى عليه السلام هو المصطفى المنتظر
(1) يرجى كذلك مراجعة بشارة ملكي صديقي إضافة إلى مراجعة بشارة السبعين اسبوعا ومخطوطات البحر الميت المفسرة لها.
(2) Israel’s Messiah in the Bible and The Dead Sea Scrolls, by Richard S. Hess et al, p. 24, 2003.
يذكر دانيال بلوك أحد المؤلفين للمرجع أعلاه: أن الفعل مسحmasah بمعنى دهن أو اصطفى “to smear , to anoint”.. وأن الفرد كان يُصطفى ملكا أو حاكما أو نبيا، وأن لفظ لفظ الفعل من المسح قد جاء بأكثر من سبعين موضعا، بينما ورد لفظ المسيح " أي المصطفىThe anointed one " كما يذكر قد جاء بثمانية وثلاثين موضعا من العهد القديم.
((1/398)
3) اخترت هاهنا الإبقاء على لفظ المسيا بمعنى المصطفى المختار الذي هو خاتم الأنبياء المنتظر، ولم أترجمه إلى لفظ المسيح لتمييزه عن لفظ المسيح العام الذي استخدم كلقب للعديد من الملوك والأنبياء من بني إسرائيل الذين تم تعيينهم واختيارهم لمهامهم، وكان ذلك التعيين في البداية يشمل مسح رؤسهم بالزيت، وأعطي اللقب بشكل خاص لعيسى عليه السلام، وأشير إليه في نبوة السبعين بالمسيح ولكن غير المنتصر، ولم يكن يعني في حقه أنّه ذلك المسيا أو المسيح خاتم الأنبياء المنقذ المنتصر، ولم يقدّم عيسى عليه السلام نفسه للناس بصورة خاتم الأنبياء الذي سيقيم مملكة الله، بل بشر بذلك من بعده، وقد أثبتنا هاهنا أن المسيا أو المسيح معرّفا بمعنى المصطفى ( خاتم الأنبياء) إنما يعني الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وأبقيت على لفظ المسيح بالمعنى العام ليعني رسول الله عيسى عليه السلام، فهو كذلك لقب أثبته له الإسلام أيضا، ولكن لا ليعني المصطفى.
هذا وقد أطلعت مؤخرا على رأي الأستاذ جلال عبد الفتاح في كتابه " هيكل اليهود التائه" الذي يرى فيه أن كلمة المسيا هي غير المسيح، وأن معنى كلمة " المسيا" هو المنتظر، بينما تعني المسيح الممسوح بالزيت المبارك.. وهو مما يتفق عليه الجميع بغض النظر إن كان المعنى الحرفي فعلا للمفردة مختلف أصلا..
ومن مخطوطات البحر الميت: تباشير بالمسيا..
( يُرجى هنا كذلك العودة إلى مراجعة الفصل السابق بعنوان تنبؤ أصحاب المخطوطات بمعلم الصلاح وبالمختار)(1/399)
كان يهود قمران الإسينيون ينتظرون مجيء مسيَّين ( مسيحَين) أحدهما ملقب بمفسر الشريعة، ومعلم الصلاح أو المعلم الفريد، والآخر بـ : " المسيّا الملك The King Messiah وهو أي المسيا أو المصطفى الملك سيكون من أبناء داوود ؟ وهو الذي سيهزم هو وأتباعه ملوك الأمم وسيقيم مملكة الله التي ستظل إلى الأبد، وسينصف المساكين، وسيوبخ بعدلٍ ضعفاء الأرض ويهديهم إلى طرق الكمال.. “ نقلا عن كتاب المخطوطات للباحث جون ألرج John Allerg وهو أحد أعضاء ما سمي بالفريق الدولي لدراسة المخطوطات، وعن كتاب الباحث G. Vermes ، هذا ويلقب أصحاب المخطوطات المسيّا الملك كذلك بلقب فرع داود Branch of David .
وقد اختلف الباحثون في شخصية معلم الصلاح أو المعلم الصالح المترجم بالإنجليزية إلي or Righteous Teacher Teacher of Righteousness ( الشخصية الأولى المنتظرة) هل قد ظهر وعاش ؟ وهل الحديث عنه في المخطوطات هو حديث عن شخصية زعامية عاشت في الماضي أم شخصية قيادية لما تأتي ؟ ويؤيد الفهم بأنّ الحديث هو عن شخصية متوقعة أنّ استعمال الأفعال الماضية لا يعني بالضرورة الحديث عن الماضي.. فالمستقبل يبدوا في الكتب المقدسة وكأنه ماض حين تستعمل له أفعال بصيغة الماضي.. ولذلك أدلة كثيرة.. ,وقد حاول بعض الباحثين أن يحلّ هذه المشكلة بالزعم بأن شخصية معلم الصلاح Teacher of Righteousness ربما كان أصحابها يؤمنون بعودتها في المستقبل، وهو رأي لا يوجد ما يؤيده مباشرة غير محاولة حلّ اللبس الحاصل في فهم زمان مجيء المسيائين.. وإن كان هناك إشارة بوصية لاوي كما سبق معنا إلى موضوع عودة الرجل المزود بقدرة العلي ( المعلم الصالح) إلا أنه كان من الواضح في وصية لاوي هذه أن خاتم الأنبياء ( وهو المسيا) القادم في نهاية الأسبوع السابع هو غير المعلم الصالح الذي أشير إلى عودته..(1/400)
وعلى هذا فليس لدي شك في أن أصحاب المخطوطات كانوا يتحدثون عن المسيا الملك أو المختار المصطفى ( الشخصية الثانية المنتظرة) الذي سيملك كشخصية منقذة ما زالت منتظرة في وقتهم.. وهو ما ذهب إليه عدد من الباحثين (2, 3).. ومنهم جون كولن الذي يذكر أن انتظارهم لشخصيتي مفسر التوراة والمسيا الملك أنما هو لآخر الزمان End of days, وأن ذلك سيصاحبه بناء معبد مطهر جديد (3)، ويورد الباحثون عددا كبيرا من النصوص الصريحة ( بالمخطوطات ) في أن مجيء المسيائين سيكون في آخر الزمان، ومع ذلك وقد حاول آخرون إلباس شخصيتي المسيين على بعض الشخصيات في تلك الفترة.. ومن أشهر المحاولات التفسيرية هنا نظرية روبرت إيسنمان (1) بأنّ معلم الصلاح هو يعقوب أو جيمس المعروف بأنه ( تجاوزاً) أخو المسيح عليه السلام، وبأنّ عدو المعلم الصالح - المذكور بالمخطوطات بأنه الكاهن الشرير - بأنه هو بولس الذي غيّر دين المسيح وعادى حوارييه من بعده كما هو معروف وكما سبق إيضاحه..
ولا شك بأن أحد المسيين الذي سموه مفسر التوراة أو المعلم الصالح أو المعلم الفريد أو المعلم المحبوب (اختلاف بين المترجمين لنفس المواضع من المخطوطات) هو المسيح عيسى عليه السلام، فقد أخبروا في كتبهم أنه ستمر أربعين سنة ما بين ذهاب هذا المعلم إلى هلاك إسرائيل وهلاك الذين اتبعوا الرجل الكذاب ( فسره أيسنمان بأنّه بولس، ولكنّه قد يكون كذلك أحد أولئك الذين ادعوا النبوة كذبا من بعد المسيح وساهموا في التمرد اليهودي الذي تسبب في عقاب عام 70 م !) (1)، وهو ما يعني أن المعلم الفريد سيسبق المسيا الملك ولن يشهد معه الفتوح الكبيرة التي سيقوم بها.. وقد سبق بالفصل السابق عن تنبؤ أصحاب المخطوطات بمعلم الصلاح وبالمسيا والمشار إليه أعلاه سبق تقديم أدلة أخرى في أنّ الحديث عن معلم الصلاح إنما كان عن عيسى عليه السلام بلا شكّ..(1/401)
ولم يظهر منذ عصر كتابة مخطوطات البحر الميت من الأنبياء ( سوى زكريا ويحي) غير عيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، والأخيران - عليهما السلام - فقط هما مَن يمكن القول أنّ صفات المسيَّين أعلاه تنطبق عليهما إلى حدٍ بعيد.. ولاشك بأن التبشير بالمسيا الثاني أو المسيا الملك الذي سيظهر أتباعُه على الأمم إنما هو تبشير بخاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.. تماماً كما كان الحديث عن مفسر التوراة المؤيد بالمعجزات ( المعلم) تبشيراً بيناً بالمسيح عيسى عليه السلام..
ومن الجدير بتذكير القارئ به هو أنّ تعليقات وكتابات أهل المخطوطات ليست وحيا ولا يقدمها أصحابها كوحيّ.. وواضح أن الكثير إن لم يكن الغالب من تفاصيلها هي نسج من خيالات وأحلام البيئة اليهودية المُعَانية.. وأنّ مجال الخطأ بها كبير كما هو بيّن وواضح.. كذلك فأن لبعض أخبارها أسساً من تعاليم الأنبياء.. وهي ما يعطي لهذه المخطوطات بعض الأهمية عند الاستشهاد بها في مجال البشارات بالرسول صلى الله عليه وسلم خاصة أنّ من الثابت أن عصر تدوينها قد سبق عصر الرسولين المختارين..
... وواضحٌ بذلك أن مخطوطات البحر الميّت قد سمّت الرسول صلى الله عليه وسلم مسيّاً كذلك.. وواضح أن صفات المسيا الأخير هي نعت بيّن لرسول الإسلام صلى الله عليه وسلم.. وقد تنبأت المخطوطات بانتصار المؤمنين ( أبناء أو أهل النور) على أهل الشر أو أبناء الظلام.. وقتالهم للروم ( القطيم)، وانتصارهم عليهم، وانتشار دين الله في شتى أقاصي الأرض وقيام مجد وسلام أبدي للمؤمنين في نهاية الزمان.. وإنشاء بيت لله جديد مطهر.. وهو ما تمّ فعلاً بظهور الإسلام.(1/402)
وقد ذكرت المخطوطات أن مدة الحرب لانتشار الدين ثلاثة وثلاثين أو أربعين عاماً وفصلّت في انتشارها نحو الغرب والشرق خلال هذه المدة، وهو ما ينطبق على المد الإسلامي الذي سبق فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه، ففي خلال 35 ( إلى أربعين) عاما انتشر الإسلام شرقا حتى دخل في الصين، وغربا حتى بلغ الأطلسي.. وذكرت المخطوطات تفاصيل أخرى دقيقة حول قواعد تقسيم الفرق المقاتلة واضحٌ أنها لا تمتّ للوحي بأيّ صلة.. ويبقى أن نبوءة إظهار الدين على كافة الأمم لم تتمّ إلا من خلال الإسلام.. وأن المسيا الذي سيجمع بين النبوة والحكم، ويأتي من بعد عصر تشريد اليهود وهلاكهم، وينتشر دينه في الأرض ليس إلا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم..
ــــــــــــــــــــ
هامش : تباشير بالمسيا
(1) Robert Eisenman, James the Brother of Jesus.
(2) The Dead Sea Scrolls, ed. 1996, by Michael Wise, Martin, Abegg, J R. & Edward Cook, page 60.
(3) John Collin, Apocalypticism in the Dead Sea Scrolls, 1997 ed, p5 &p 68.
(4) John Collin, Apocalypticism in the Dead Sea Scrolls, 1997 ed, p.86.
المختار ( المصطفى).. المزامير 2 : 1 – 5
النص:
“ لماذا ارتجت الأمم وتفكر الشعوب في الباطل ، قام ملوك الأرض وتآمر الرؤساء معاً على الرب وعلى مسيحه ( مختاره His Anointed) إني أخبر من جهة قضاء الرب قال لي أنت ابني* أنا اليوم ولدتك اسألني فأعطيك الأمم ميراثاً لك وأقاصي الأرض ملكاً لك تحطمهم بقضيب من حديد مثل إناء خزافٍ ” .
التعليق:(1/403)
لا تنطبق هذه البشارة لا على عيسى ولا على داوود ولا على غيرهم من أنبياء بني إسرائيل عليهم السلام، إنما تنطبق على المختار المصطفى خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم الذي تم له ولأتباعه وراثة الأرض.. كما وعدوا بها.. وقد بينتُ في مواضع سابقة (1) من هذا الكتاب أنّ حديث داود عن المختار أو خير المختارين أو الأمة الوارثة إنما كان قطعاً تبشيراً بالإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم..
فسرها أهل مخطوطات البحر الميت بأنها تعني المسيا المختار ( لكنهم قالوا أنه من إسرائيل ) في آخر الزمان The last days وأنّه – والنص التالي من المخطوطات- “ هو النبي المعني في كتاب دانيال بقوله ( ولكن الأشرار سيفعلون شراً ولن يفهموا ، أما الصالحون فسيتطهرون ويبيضون. والذين يعرفون الله سيصبحون أقوياء ) ”(2) وقد سبق أن أثبتنا استشهاد عيسى عليه السلام بهذا المقطع ذاته (3) على اليهود في زمانه إشارة إلى كفرهم وعنادهم عند ظهور مملكة الله من بعده.. وفي ذلك دعم للقول أعلاه بأنّ هذه البشارة من المزامير هي تبشير بالمسيا المنتظر وأنّها لم تتحقق حتى زمن عيسى عليه السلام، وهي متروكة لتتحقق على يدي المصطفى من بعده محمد صلى الله عليه وسلم.
ــــــــــــــــــ
(1) أنظر مثلا بشارات وراثة الأرض المباركة، وبشارة شوق داود بالمزمور 106 وغيرها..
(2) The Dead Sea Scrolls, by G. Vermes.
(3) المقطع هذا من دانيال ورد في 12: 10
بركليتوس القادم أو محمد عليه الصلاة والسلام ..(1/404)
أخبر عيسى عليه السلام كما تروي الأناجيل الحالية بقدوم مملكة الله من بعده، وتحدث عن رسولها الذي سينشئها.. ولا نشك في أنه صرّح بأنّ اسمه محمد.. عليه الصلاة والسلام.. والقضية هي أنّه لم تبقَ ولا نسخة واحدة من نسخ الانجيل أصيلة، فعلاوة على أنّ الاناجيل الاربعة المعترف بها حالياً مجهولة السند والتأريخ حتى أختارتها المجموعة التي انتقاها قسطنطين الوثني من بين ما يزيد على سبعين انجيلاً، فإنّ أقدم هذه النسخ مكتوب باليونانية لا العبرية ولا الارامية التي تحدث بها عيسى عليه السلام.. وبها تبشير بالباراكليت أو الفارقليط الذي سيأتي بعد المسيح ويظل مع المؤمنين إلى الأبد.. وليس هناك شك في أنّ هذا تبشير بنبي "آخر" من بعد عيسى، وأنّ هذا النبي هو الذي سيقيم مملكة الله التي ستبقى إلى الأبد.. وبقاؤه إلى الأبد هو ببقاء رسالته وعدم نسخها ببعثة نبي آخر من بعده، فهو الذي تختم به النبوة*، وهو الذي سيبين للنصارى خطأ عقيدتهم عن المسيح، وخطأ عقيدتهم عن الخطيئة ( الأزلية!) وكفرانها، وسيعطي لعيسى عليه السلام المكانة التي تليق به كأحد أفضل الانبياء عليهم السلام.. ويبقى هنا أن الانجيل الحالي في أقدم نسخه وهي باليونانية سماه باراكليت* Paracleteوهي التي فسرت مؤخراً خطأً كما ذكر البروفسور عبدالأحد* إلى المعزيّ أو المخففThe Comforter or Councelor مع أنها لا تعني المعزيّ ، بل كلمة باراكلونParaclon هي التي تعني المعزيّ، وتعني كلمة Paraclete - كما يذكر الأستاذ إبراهيم خليل (1)- المحامي Advocate الذي يدافع عن حقوق الآخرين، وقد كان كذلك خاتم الأنبياء ما وصف بالقرآن حريص على المؤمنين بل على الناس جميعا، رحيم بهم ورحمة مهداة من الله لهم، ومع هذا فالواقع الذي لا نشك فيه أنّ الكلمة تحريف عن بيريكليت Periclyte المشتقة من الحمد والثناء.. فالنبي القادم محمود أو محمّد ومثني عليه..(1/405)
ولا نشك في أنّ المسيح عليه الصلاة والسلام إنّما كان في هذا الموضع يصرح باسم رسول الله محمّد صلى الله عليه وسلم.. فاسمه المشتق من الحمد (2) والثناء ترجم إلى اليونانية ( وأقدم نسخ الإنجيل الباقية حالياً هي يونانيّة كما ذكر أعلاه ) اتباعاً لعادة نقل الأسماء بمعانيها اثناء الترجمة في الماضي.. فترجم اسم محمد إلى بيريكليت Periclyteالتي تحمل نفس المعنى باليونانية.. ثم حُرّفت هذه الكلمة إلى باراكليت* Paraclete والتي ما زالت موجودة في نسخ الإنجيل إلى وقت قريب.. وإن كانت قد ترجمت خطأً مؤخراً إلى المعزيّ أو المخفف (2) ..
وللإنسان أن يتأمل أكانت صدفة أن يحبس اسم محمد عبر التأريخ فلا يستخدم من قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم، لا مِن قِبل العرب ولا من قِبل غيرهم.. يحبس هذا الاسم عبر التأريخ ليُعطى للرسول عليه الصلاة والسلام عند مولده ( وليس عند نبوته أو عند انتصاراته) ليُعطى من قبل جده عبد المطلب بعد رؤيا رآها .. وهل يجيز العقل البشري للإنسان أن يتخيل أن هذه التسمية كانت مجرد مصادفة في اختيار اسم -لم يستخدم من قبل- من قبل الجدّ الذي لا يعلم شيئاً عن مستقبل حفيده المولود.. إنّه بلا شك الإلهام الإلهي للجَدّ – وقد كان وثنياً - أن يختار لحفيده المختار اسمه الذي حبس له على مدى الأزمان، وجاء مستحقاً له بحقّ.. فكان اسماً مقصود لمعناه منذ لحظة الولادة..(1/406)
وكانت حياته عليه الصلاة والسلام بعد ذلك وتاريخ البشرية من وقته ومن بعده تصديقٌ كاملٌ على أنه فعلاً محمّد في نفسه ومن قبل البشرية التي عاصرته والتي جاءت من بعده صلى الله عليه وسلم.. إنّه فعلاً المحمّد أو الباراكليت Paraclete الذي بشر به عيسى عليه السلام.. وليس في التأريخ بشر يُثنى عليه ويُدعى له كل الاوقات مثل محمد صلى الله عليه وسلم إلا أنّه لا يعبد من دون الله ولا يُدعى ( مباشرة) ولا يُؤلّه كما حدث لعيسى عليه الصلاة والسلام، وأورد فيما يلي عبارات انجيل يوحنا المتعلقة بهذه البشارة..
·? يوحنا 14 : 25
“ بهذا كلمتكم وأنا عندكم، وأما المعزيّ الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم.. ”
·?يوحنا 14: 15..
“ وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزياً آخر ليمكث معكم إلى الابد.. ”
.. يذكر الأستاذ إبراهيم هنا احتمال اشتمال النص الأصلي على كل من كلمتي المحامي والمحمود Paraclete و Periclyte.
·?يوحنا 16: 7 ..
... “ لكني أقول لكم الحق إنه خيرٌ لكم أن انطلق، لأنه إن لم انطلق لا يأتيكم المعزيّ، ولكن إن ذهبت أرسله لكم، ومتى جاء ذاك يبكِّت العالم على خطية وعلى برٍ وعلى دينونة
...
“ ... And when he comes , he will prove to the people of the world that they are wrong about sin and about what is right and about God’s judgment “
·?يوحنا 15 : 26 ..
... “ ومتى جاء المعزيّ الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي من الابتداء ” .
“ The helper ( or the Paraclete ) will come, the spirit who reveals the truth about God , and who comes from father. I will send him to you from the father and he will speak about me “(1/407)
·?" لا يزال عندي أشياء كثيرة أقولها لكم، ولكنكم لا تطيقون الآن حملها. فمتى جاء هو أي روح الحق، أرشدكم إلى الحق كله (3) لأنه لن يتكلم من عنده بل يتكلم بما يسمع، ويخبركم بما سيحدث، سيمجدني لأنّه يأخذ ممّا لي ويخبركم به."
·?John 16 : 12 ..
“ I have much more to tell you, but it would be too much for you to beer. When, however, the spirit comes, who reveals the truth about God, he will lead you into all the truth. He will not speak on his own authority, but he will speak of what he hears, he will tell you of things to come, He will give my glory
إنه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وحده الذي جاء بعد عيسى نبياً آخر، يظهر للناس الحقيقة كاملة عن الله وعن عيسى عليه السلام، ويُعطى لعيسى وللأنبياء قبله المجد والتقدير الذي يستحقونه، ويُذِّكِر أهل الكتاب بالتعاليم الأصيلة لأنبيائهم بما فيهم عيسى عليه السلام.. ويوبخ أمم العالم ويثبت ضلالها حول عقيدتها عن الخطيئة وعن الزلة الأبدية أو زلة آدم عليه السلام، ويوضح لها جانبَ الحق في الإيمان بيوم الدينونة ويريها سبلَ الخير.. وهو لا يتكلم من نفسه ولا من كُتُب بل بما يسمع من الوحي المنزل عليه.. ويحدث الناس عن أمور غيبية آتية، وتظل تعاليمه معهم إلى الأبد.. " فلا حاجة لأنبياء آخرين يتعقبونه"(2) فهو النبي الخاتم..(1/408)
إنّ كل ما سبق من صفات ومهام وردت في الإنجيل عن الباركليتوس من بعد المسيح هي لرسولٍ آخر (4) ( معزياً آخر) من عند الله من بعد عيسى عليه السلام، لا يتجرأ أحد أن يدعيها لأحد غير رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.. وهل هناك مَن جاء يصحّح للناس عقيدتهم الخاطئة عن المسيح عيسى عليه السلام وقد جعلوه إلهاً بل زعموا أنّه الله عزّ وجلّ إلاّ محمد صلى الله عليه وسلم ؟ كيف وعيسى عليه الصلاة والسلام يأمرهم بعبادة الله وحده، ويجعل ذلك الوصية الأولى، فيأتي المسيحيون من بعده يدّعون اتباعه وهم لا يتبعون في الواقع إلاّ عدوه في حياته، وعدوّ حوارييه ( وأتباعهم) الّذين عرفوه في حياته، فيعبدون المسيح ويستغيثون به، وينبذون التوراة وتعاليمها ؟ فمَن بعد عيسى بيّن هذا الضلال وفصّله غير محمد صلى الله عليه وسلم فاهتدى على هداه معظم نصارى زمانه ؟ ومن الذي جاء فمجّد عيسى والأنبياء ودفع عنهم افتراءات اليهود بأن منهم من عبد الأصنام أو ارتكب الفواحش أو سرق أو سكر.. ودفع افتراءات اليهود عن المسيح وعن أمه عليهما السلام..(1/409)
ومَن الذي جاء فبيّن للناس ألاّ تزرُ وازرة وزر أخرى وأنّ الله قد غفر لآدم، وأنّ خطيئته لا يتحملها أبناؤه، وأنّ الإنسان يولد على الفطرة لا يحمل ذنب أحد من قبله ؟ ومَن بيّن للناس أوجه البر وأنذرهم يوم الدينونة والحساب ؟ وجعل الخوف من الحساب ويوم الدينونة أصل كل الأعمال الصالحة، ومَن الذي جاء بعد عيسى عليه السلام فأخبر أنّ تعاليمه للناس هي الأخيرة من عند الله وهي بالتالي أبدية ولن تنسخ؟ ومَن هذا النبي الذي جاء بعد عيسى أمياً لا يقرأ بل يتلقى الوحي سماعاً؟ ويقول للناس أنه لا ينطق عن نفسه بل عن وحي من الله عز وجل " وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحي" ؟ ومَن أخبر الناس بأحداث قادمة ونبؤات وحيا من الله لا تخرصاً ؟ ومَن هذا النبي الذي كان رحمة للعالمين قبله؟ فاشتهر عنه صلى الله عليه وسلم الرحمة بالخلق والناس في حياتهم الدنيا وفي آخرتهم.. يؤثر الرفق والتيسير والتخفيف، ويحضّ عليه، يرحم المسكين والبائس والأسير، والرقيق والحيوان، ويتوعد من يؤذيهم، شفيع الناس يوم القيامة.. جاء في الوحي (7) الموحى إليه أنّه حريص على المؤمنين، رؤف بهم ورحيم، عزيز عليه كل ما يشق على الناس، يكاد يهلك نفسه حزنا على المكذبين.. هو شفيع الناس يوم القيامة.. ينافح عنهم بإذن الله نار جهنم! .. إن الذين فسروا الباركليتوس بالمنافح والشفيع والمخفف ( Comforter) قالوا بأنه هو هو الذي يتولى التخفيف والدفاع عن الناس بالشفاعة أمام الملك (8).. فمن غير محمد عليه الصلاة والسلام مستحق لهذا اللقب؟.. ومَن هذا النبي الذي أخبر أن ليس بعده نبي، وأنّ الشريعة التي جاء بها لن يلغيها من بعده أحد إذ لا نبي بعده، فكان كل ذلك من بعده كما أخبر به تماما، مع أن الأنبياء لم يكادوا ينقطعوا من قبله إلا من الفترة التي سبقته مباشرة ؟ فأنّى له أن يمنع ظهور الأنبياء من بعده وقد مضى ألف وأربعمائة عام ولما يأتي منتظر سواه .. ومَن..(1/410)
غير رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ؟
ولقد أراد المسيحيون صرف هذه البشارة عن مرادها، فزعموا أنها تعني روح القدس، وأن النبوة تحققت عند ما زارتهم روح القدس مرة من بعد المسيح؟ ويعلم المُنصفون أن هذه قصة لا سند لها، وأنها لا تختلف عن قصص كثير ما أعتاد المسيحيون في الماضي والحاضر أن يُؤلّّفوها عن معجزات قادتهم وزعمائهم ؟ ومنها قصص ذكروها بالإنجيل لا يقبلها العقل (5) ؟ وهم بهذا الأسلوب لا يخرجون عمّن حذر منهم المسيح عليه السلام*؟ ثمّ أنّ الروح التي زعموا أنها زارت جماعة منهم لم تمكث معهم إلى الأبد، ولم تبين للعالم ضلال عقيدته عن الله وعن المسيح وعن الخطيئة والبر ويوم الدينونة، ولا تنطبق بقية الصفات أعلاه عليها، ثمّ كيف وهم يؤلهونها والذي بشّر به المسيح عليه السلام من بعده يُوصف بالأمية وبأنه لا ينطق من ذات نفسه بل مما يُوحي إليه، ثمّ إن الروح لا يحمل اسمها معنى المحمود أو المشكور ! ثمّ إنها لم تسمّى هنا بروح القدس بل سميت روح الحق، وقد أثبت بعض الباحثون عدم أصالة حتى هذه التسمية بالنص وأنّ لفظ " القُدُس" المضاف إلى عبارة " روح القدس" هي من التحريف المتعمد ولا وجود لها بالنسخ القديمة، ولو صحت فإنها لا تعني روح القدس إذ يتكرر الحديث بالكتاب المقدس عن البشر اللذين لم يخلقوا بعد كأرواح.. ومن هنا ورد استخدام كلمة الروح في البشارة بالمسيا نفسه عند ما سيتكلم عنه داود بسيدي ؟ ومفروغ منه أن داود إنما كان يتكلم عن المصطفى أو المسيا لا عن روح القدس..(1/411)
ويذكر المستشار محمد عزت الطهطاوي (2، 6) أنّ روح الحق تعني نبياً إنساناً على حق، وهذا على استعمال يوحنا نفسه صاحب إنجيل يوحنا، حين ذكر في رسالته الأولى بالإصحاح 4: 1 تحذيره من اتباع الأنبياء الكذبة، فقال: " أيها الأحبة لا تصدقوا كل روح، بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله؟ لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم، بهذا تعرفون روح الله"، وقال في عدد 6 من نفس الإصحاح: " من هذا نعرف روح الحق وروح الضلال".. وواضح أن يوحنا يتحدث هنا عن النبي الحق الذي بشر به المسيح عليه السلام وتمييزه عن الأنبياء الكذبة الذين حذر منهم المسيح عليه السلام.. ولا معنى للحديث عن تمييز روح القدس عن الأنبياء الكذبة فليس ذلك ما يريد.. إنّ إدعاء مونتانوس بأنه الباركليتوس المنتظر عام 150 بعد الميلاد وغيره كثيرين ليدلّ على فهم الأجيال الأولى من النصارى لدلالة التبشير بالباركليتوس على أنها تخص نبيا منتظرا..(1/412)
ومما ينفي صحة التفسير بأنّ المقصود بهذه البشارة روح القدس ما جاء في البشارة أعلاه أنّ هذا الباركليتوس لن يجتمع بالمسيح، ولن يأتي إلا من بعد ذهاب المسيح " لكني أقول لكم الحق إنه خيرٌ لكم أن انطلق، لأنه إن لم انطلق لا يأتيكم المعزيّ، ولكن إن ذهبت أرسله لكم، ومتى جاء ذاك يبكِّت العالم على خطية وعلى برٍ وعلى دينونة".. وهذا دليل آخر على أن عيسى عليه السلام لم يقصد هنا روح القدس ( هناك أدلة ظاهرة كثيرة لا تكاد أن تحصى من التوراة وملحقاتها على أن روح القدس هو المَلَك الذي ينزل بالوحي على الأنبياء وهو جبريل عليه السلام، وعلى مثل ذلك جاءت تسميته بالقرآن الكريم)، فإنّ روح القدس كان يدعم المسيح عيسى عليه السلام ويؤيده في حياته طوال دعوته، فقد جاء في لوقا 4: 1:" أما يسوع فعاد من الأردن ممتلئا من الروح القدس"، وفي لوقا 4: 14 " وعاد يسوع إلي منطقة الجليل بقدرة الروح"، وفي يوحنا 1: 33 ما يفهم منه أنّ يحي عليه السلام رأى روح القدس ( أو الروح) يتنزل على عيسى عليه السلام، وفي متى 12: 18 استشهد كاتب الإنجيل ببشارة من إشعيا رأى أنها تعني عيسى عليه السلام، وفيها " سأضع روحي عليه.." إشارة إلي دعمه بروح القدس، وفي لوقا 1: 80 إشارة كذلك إلي دعمه بروح القدس من صغره : " وكان الطفل ينمو ويتقوى بالروح" ، وجاء في القرآن الكريم تصديقا لتأييد عيسى عليه السلام بروح القدس، ففي سورة البقرة آية 252 جاء قوله تعالى :" وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس"، وفي الواقع فإنّ الأنبياء جميعا فيما نرى نزل عليهم روح القدس وأيدهم، وإن كان هذا الدعم قد ذكر بالإسلام تخصيصا لعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.. وفي الواقع أن هذا الدعم بشكل غير واضح قد تمّ حتى لغير الأنبياء، ومن هنا يأتي معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للشاعر حسان بن ثابت " إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله"..(1/413)
وبإمكاننا أن نفهم مساندة روح القدس المزعومة للحواريين من بعد المسيح بهذا المعنى.. وإلا فإنهم لم يكونوا أنبياء يتلقون الوحي السماوي، ولم يدّعوا ذلك لأنفسهم إلا بولس، وقد طعن في دعواه " أتباع المسيح الحقيقيون" وعلى القاريء مراجعة الملحق الخاص بالحديث عن دور بولس..
وأختم هنا بتنبيه القاريء إلى أنه لا يضير هذه البشارة اللغة التأليهية التي وردت بها، فكأنّ عيسى عليه السلام المتحدث بأن البتركليتوس سيكون أخير للناس فكأنه هو الذي سيرسله للناس.. فهذه إنما تعكس أثر عقيدة من تناقل البشارة على ألفاظ البشارة، وتظل بعد ذلك المعاني المرادة بينة كما بينا..
وبذا فإنّ هاهنا بشارة بيّنة من عيسى عليه السلام سجّلت في إنجيل يوحنا الذي سطر بعد سبعين سنة على الأقل من رفع الله له، فيها تصريح باسم رسول الله الآخر القادم من بعده ومهامه الأساسية، ولا ينافس محمد صلى الله عليه وسلم على هذه أحد..
ــــــــــــــــ
هوامش بشارة بركليتوس القادم أو محمد عليه الصلاة والسلام ..
(1) إبراهيم خليل ، في كتابه محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل والقرآن، طبعة دار المنار 1989، ص54.
(2) يقول الإمام الماوردي المتوفي عام 450هجرية في كتابه أعلام النبوة.. " والبارقليط ( اللفظ الموجود بزمنه بالإنجيل) بلغتهم لفظ من الحمد"
(3) لعل هذه الإشارة إلى أن المسيح عليه السلام إنما سيوضح لهم بعض الحقّ متفقة مع ما يفهم من قول الله تعالى بالقرآن الكريم عن المسيح عليه السلام:"ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون" الزخرف 63. وفي نصوص الإنجيل أعلاه ما يبين أن المسيح عليه السلام ترك أمورا ليوضحها خاتم الأنبياء من بعده..
(4) يرى إسرائيل نول Israel Knohl في كتابه المسيا قبل عيسى، الفصل الثالث، ترحمة دافيد مايسل:
The Messiah before Jesus: The suffering Servant of the(1/414)
Dead Sea scrolls, chapter three: Another Paraclete, Ed 2000.
يرى إسرائيل نول هذا أن لفظ باراكليت هو ترجمة للإسم العبري مناحم، وذلك أن أحد المسحاء من قبل كان اسمه مناحم، وأن هذا الاسم بعد ذلك أصبح مرادفا للفظ مسيا أو مسيح أو مختار، تماما مثل ما أصبح اسم قيصر لقبا لأباطرة الروم من بعده، ويرى بالتالي أن عبارة " سيرسل الأب باركليت آخر " تدل على نظرة عيسى لنفسه كمسيا سيعقبه مسيا آخر.. وعلى رغم تحفظنا الشديد على ادعاء أن لفظ الباركليت هو ترجمة لأسم مناحم، فإنما أذكر هذا الرأي هنا لإتفاقه معنا في أن اللفظ هو ترجمة لإسم آخر، وقد تنبغي الإشارة إلى اعتقاد اليهود الريبيون فيRabbinic literature أن اسم المسيا القادم في آخر الزمان هو مناحم، وإذا اعتبرنا أن هذا قد يكون تحريفا للفظ محمد فإن في ذلك تمام الإتفاق مع التفسير الإسلامي لهذه البشارة. وقد ذكر أبن هشام في السيرة النبوية أن اللفظ الذي استخدمه المسيح عيسى عليه السلام هو لفظ المنحمنا وأنه ترجم إلى البرقليطس باليونانية، وأن المنحمنا بالسريانية يعني محمداً، وقد استشهد بهذا من قبل الدكتور احمد حجازي في كتابه " بيركليت اسم نبي الإسلام في انجيل عيسى عليه السلام.."
(5) الأمثلة هنا كثيرة ومنها مثلا الأحداث المروية أنها صاحبت ولادة المسيح وحادثة الصلب، فيستحيل على أحد أن يستدل بحركة النجوم حتى يتبعها إلى منزل محدد على الأرض، ولا يتصور أحد صحة أن الشمس أظلمت بالظهيرة، وأنشطر معها الهيكل ( لوقا 23: 44 – 46)، "وتزلزلت الأرض، وتشققت الصخور، وتفتحت القبور، وقامت أجساد كثيرة لقديسين كانوا قد رقدوا، إذ خرجوا من القبور دخلوا المدينة المقدسة.." متى 27: 51 – 55).. فلا يعني ورود قصة زيارة الروح للحواريين سلامتها من التحريف أو الخيال.. وعلى القاري مراجعة التناقضات الواردة بين الأناجيل ليعلم عدم خلوها من الأخطاء البشرية..
((1/415)
6) المستشار محمد عزت الطهطاوي، الميزان في مقارنة الأديان: حقائق ووثائق، 1993، ص363 .
(7) قال تعالى: " لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤف رحيم" التوبة 128، وقال تعالى: "فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا"، وقال تعالى " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" الأنبياء 107..
(8) John Gill's Exposition on the Entire Bible, on commenting on above verses and the meaning of the word ' Comforter': " The word used there, as here, signifies an "advocate", and is so rendered, a patron, one that pleads and defends, the cause of another, before kings and princes"
ملحق ببشارة الباركليتوس:
من برنابا.. رسول الله.. رحمة بعد غضب
·?برنابا 72 : 14 - 17 ..
“ في ذلك الوقت يرحم الله العالم فيرسل رسوله للعالم.. وسيأتي بقوةٍ عظيمةٍ على الفجار ويبيد عبادة الأصنام من العالم، وإني أُسَّر بذلك لأنه بواسطته سيُعلِن ويمجد الله، ويظهر صدقي وسينتقم من الذين سيقولون أني أكبر من إنسان” .
التعليق:
يلاحظ القاريء هنا عدم عرضي للبشارات التي وردت بإنجيل برنابا، وذلك لعدم إيمان المسيحيين به، ولأنّ قضية هذا الإنجيل متعلقة بتوثيقه، فمن أقرّ بمصداقيته فقد آمن تلقائياً بالإسلام ورسوله، لأن التصريح باسم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم قد تمّ مكررا في جنبات هذا الإنجيل.. وإنما استشهدت به في مواضع محدودة لما تلقي من توضيح على دلالة عبارات الإناجيل.. وأعني فقط ما يتعلق منها بالتبشير برسول الإسلام عليه الصلاة والسلام.. وقد خصصت أحد ملاحق هذا الكتاب لقضية مصداقية انجيل برنابا..(1/416)
هذه البشارة هنا هي من ضمن الأدلة الكثيرة على مصداقية إنجيل برنابا.. فإن الكتب السابقة تنبأت بالرسول الخاتم بأنّه مرسل للعالم.. وبأنّه رحمة للعالمين.. وأنه سيأتي بقوة وغضب على الفجار.. وأنه سيزيل عبادة الأصنام.. وأنه سيظهر صدق المسيح وعظمة الله.. وأنه سيوبخ العالم ويثبت له خطأ اعتقاده في المسيح وفي الله.. ومن يقرأ هذه البشارة يستشعر حقيقة وأصل النص الذي نطق به عيسى عليه السلام ورواه يوحنا في الإنجيل المنسوب اليه..
ومن كتاب إينوخ.. تباشير بالمسيا "سيد ولد آدم" :
جاء في الكتاب المنسوب إلى إدريس ( اينوخ) عليه السلام بشارة تتحدث عن المصطفى أو المسيا بآخر الزمان، أوردها جيمس تشارلزورث في الفصول 45 إلى 50 من الجزء الأول من كتاب إينوخ (1)، واضح أنها لا تنطبق إلا على رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم.. وتنبغي الإشارة هنا إلى أن هذه القطعة المحتوية على لفظ أبن الإنسان لم توجد ضمن كتاب إدريس ( اينوخ) الذي وجد ضمن مخطوطات البحر الميت مما يثير احتمال أن هذه القطعة ( ربما بمجملها) من الإضافات النصرانية للنصوص اليهودية القديمة(2).. وهو مما قد يفسر بعض الإيحاءات بالمعتقد المسيحي في تأليه المسيح عليه السلام.. وشواهد تلاعب الكُتَّاب النصارى بالكتابات اليهودية القديمة أمر معهود للباحثين، ولا تكاد تُحصر شواهده.. ومع ذلك ففي البشارة وضوح كاف في الدلالة على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم كما سنرى.. وأوردها هنا لاحتمال استنادها على نصوص أخرى مفقوده من تعاليم الأنبياء..
النص بالإنجليزية (3):
" This is the Son of man who is filled with goodness,
With whom goodness lives
And who reveals all treasures that are concealed,
For the lord of spirit chose him .
... ... ...
Will rise up kings and the mighty from their seats,
The strong from their throne .
He will loosen the reins of the strong(1/417)
And break the teeth of sinners .
He will throw down kings from their thrones and their kingdoms
...
Around it were many fountains of wisdom .
All the thirsty drank from them
And were filled with wisdom
And they lived with the good, the holy, and the elect .
At that hour the Son of man was named
Before the Lord of spirit ,
And his name was the Head of Days .
Yes, before the sun and the signs were created ,
Before the stars of Heaven were made
His name was named before the Lord of Spirit .
He will be a staff to the good to stay themselves and not fall ,
He will be the light of the Gentiles,
And the hope of those who are troubled of heart .
All who live on earth will fall down and worship him ,
Will praise and bless and celebrate the lord of Spirit with song .
And so he has been chosen and hidden before God,
Before the creation of the world and for eternity .
The wisdom of the Lord of Spirit has revealed him to the holy and the go,
For the preserved the good
In these days the kings of the earth
And the strong who possess land because of the works of their hands are all downcast
For they know that on the day of their anguish they will not be able to save themselves .
I will turn them over into the hands of my elected ones .
Like straw in fire they will burn before the fase of the holy , ...
For they have denied the Lord of spirits and his Anointed .
The name of the Lord of spirits be blessed .
... ...
In those days the earth will give back that was entrusted to it ,
For in those days the Elected One will arise
And choose the good and holy from those who died .(1/418)
The day has come when they are to be saved .
The Elected One in those days will sit on my throne
And his mouth pour forth secrets of wisdom and counsel .
The Lord of Spirit gave them to him and glorified him.
... ..
The earth will rejoice,
The good will live on it
And the elect walk there
And the Lord of Spirit will rule over them.
They will eat with the Son of man
And lie down and rise up forever and ever.
... ... ... ..
And cease to be of downcast countenance.
ترجمة النص أعلاه:
هذا هو ابن الإنسان ( ابن آدم) الذي مليء صلاحا
الذي يعيش معه الصلاح
ذلك لأن ربّ الأرواح قد اصطفاه
ابن الإنسان الذي رأيته ( الخطاب لإدريس)
سوف يرفع ملوكا وجبارين عن مجالسهم
سوف يرخي لجام الأقوياء ( أي الذي يلجمون به غيرهم)
ويكسر أسنان المذنبين
وسوف يلقي بالملوك خارج عروشهم وممالكهم
...
ثم رأيت ينبوع الصلاح التي لا تنفد
وحولها ينابيع حكمة كثيرة
كل العطشى يشربون منها
وقد ملوؤا بالحكمة
وعاشوا مع الصالح، القديس، المصطفى
وفي تلك الساعة ذكر( حدد) اسم ابن الإنسان
أمام رب الأرواح
وكان اسمه رئيس ( أو رأس) الأيام.
نعم، من قبل أن تخلق الشمس والعلامات
ومن قبل أن تصنع نجوم السموات
كان اسمه قد سمّي أمام رب الأرواح
سيكون ركيزة للصالحين ليثبتوا ولا يسقطوا
سيكون نورا للأمم غير اليهودية
وأملاً لهؤلاء الذين بقلوبهم مشاكل
جميع الذين يعيشون على الأرض سيقعون أرضا ويعبدونه
وسيحمدون ويباركون ويسبحون لرب الأرواح بالتسابيح
وذلك أنه قد أختير وأخفي أمام الله ؟؟
من قبل خلق العالم وللأبد
وحكمة رب الأرواح قد أظهرته للقديسين والصالحين
لأنه حافظ على الصالحين ( أو الصلاح )
...
في هذه الأيام ملوك الأرض
والأقوياء الذين يملكون الأرض بسبب ما صنعت أيديهم كلهم منكسرين...
سأجعلهم جميعا تحت أيدي مختاريّ ( جمع مختار)(1/419)
كقشة في النار سيحرقون قدام وجه القديسين
...
ذلك أنهم كفروا برب الأرواح ومختاره
ليتبارك اسم رب الأرواح
قيامة الأموات:
في تلك الأيام ستردّ الأرض ما أئتمنت عليه
وسترد جهنم ما أخذته
ذلك أنه في هذه الأيام سيقوم المصطفى
ويختار الصالحين والقديسين من بين الموتى
قد جاء اليوم الذي فيه يُنقذون
المصطفى في هذا اليوم سيجلس على عرشي
وسينطلق فمه ( لسانه ) بأسرار من الحكمة و المحاماة ( أو النصيحة)
قد أعطاها له رب الأرواح ومجده
وفي هذه الأيام ستحرك الجبال كأنها خراف ( كباش)
وتثب التلال كأنها نعاج أرضعت بالحليب
ويشع بالغبطة كل وجوه الملائكة بالسماء
ستبتهج الأرض
الصالحون سيعيشون عليها
وسيمشي هناك المختارون
وسيحكمهم رب الأرواح
وسيأكلون مع ابن الإنسان
ويرقدون ويقومون إلى الأبد والأبد
المختارون والصالحون سيقومون من الأرض
وتختفي عنهم قسمات الإنكسار
التعليق:
هاهنا ذكر للنبي الخاتم أو المصطفى ( المسيا The anointed) الملقب كذلك بإبن الإنسان.. وهو اللقب الذي مرّ معنا في حديث دانيال عن معراج النبي الذي سيقيم مملكة الله من بعد دولة الروم وتكون دعوته شاملة لأمم الأرض المختلفة.. وهو اللقب الذي حاول كتبة الأناجيل المعترف بها إلصاقه بالمسيح عيسى عليه السلام، وقد أثبتنا من خلال البشارات السابقة أن النبي المقصود إنما كان محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.. وقد ورد في مخطوطات البحر الميت استخدام لقب ولد آدم أو ابن آدم مكان أبن الإنسان.. ولعل لقب ابن الإنسان في أصله إنما كان " سيد ولد آدم"، فكل البشر ابن آدم أو ابن الإنسان، ولكن اللقب هنا يعني فقط فردا واحداَ مميزاً من أبناء آدم.. ذلك هو المصطفى أو المسيا المنتظر الذي هو في الواقع " سيد ولد آدم".. النبي الخاتم المنتظر..(1/420)
وقد ثبت إعلان (4) الرسول محمد صلى الله عليه وسلم نفسه بأنه " سيد ولد آدم" ومعلقاً على هذا الإعلان الحقّ بأنّه بلا فخر " سيد ولد آدم".. وبأنه صاحب المقام المحمود.. وأمَر الأمة المسلمة أن تدعو له بتمام هذا الأمر الموعود بتمامه له.. وكان هو النبي الذي أقام مملكة الله بجزيرة العرب على أنقاض الوثنيين، والتي انتشرت بالعالم، وأزاحت الممالك والملوك الظلمة عن عروشهم.. وكان هو النور لكل أمم العالم " سيكون نورا للأمم غير اليهودية "، وأنشأ جيلا من الصالحين والقديسين فريدا لم يتكرر مثله بالتأريخ.. وامتلأت الأرض بالثناء والصلاة عليه.. وهو ما أشارت إليه البشارة أعلاه.. ويوم القيامة يلجأ إليه الناس ليشفع لهم، بعد أن تراجع عن قبول هذه الشفاعة كلُّ الأنبياء قبله.. فيأتي العرش.. فيسجد.. ويعلمه الله حينها ويلهمه من الدعاء ما لم يكن يستطيع قوله.. ويؤذن له بعد ذلك بالشفاعة.. وكلها تفاصيل أشارت إليها النبوة أعلاه.. وثبت ذكرها (5) عن المصطفى محمد عليه الصلاة والسلام " ذلك أنه في هذه الأيام سيقوم المصطفى.. ويختار الصالحين والقديسين من بين الموتى.. قد جاء اليوم الذي فيه ينقذون.. المصطفى في هذا اليوم سيجلس على عرشي.. وسينطلق فمه (لسانه ) بأسرار من الحكمة و المحاماة ( أو النصيحة).. قد أعطاها له رب الأرواح ومجده.. وفي هذه الأيام ستحرك الجبال كأنها خراف (كباش).." وأدعو القارئ هنا لمراجعة وصية لاوي التي سبقت في هذا الكتاب، ليجد التكامل بين البشارتين في الحديث عن مكانة خاتم الأنبياء يوم القيامة.. كما أذكره بما سطر عن المصطفى في مواضع أخرى عديدة مشيرة إلى مكانته المميزة عند الله عز وجل.. ومن ذلك الإشارة إليه بقدوس القديسين في نبوة السبعين أسبوعا لدانيال.. وإشارة عيسى عليه السلام – على ما تذكر الأناجيل المعاصرة- بأنه أفضل من يحي عليه السلام الذي هو الأفضل بين من خلق الله..(1/421)
وورد في الرقعة 4Q369 (6) من مخطوطات البحر الميت بأن الله قد حباه تاج السماوات ومجد السحاب، والتعاليم الصالحة، وأنه النور الدائم و" الإبن الأول لله" ! وأن ليس أحد ( من الناس) مثله ( أي في مقامه)، وأنه سيرث الأمم..
جاء في الأحاديث الصحيحة مما رواه البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعد أن ذكر اعتذار الأنبياء عن الشفاعة للناس يوم القيامة يوم غضب الرحمن، قال صلى الله عليه وسلم: " فيأتوني فيقولون: يا محمد أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، أما ترى إلى ما نحن فيه ؟ فآتي تحت العرش, فأقع ساجداً لربي, ثم يفتح الله عليّ من محامده, وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحدٍ قبلي ثم يقال : يا محمد ارفع رأسك , سل تعطه, واشفع تشفع, فأرفع رأسي, فأقول أمتي ياربّ, فيقال :يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ".. وروي عنه قوله صلى الله عليه وسلم: " أنا لها، أنا لها" وقوله صلى الله عليه وسلم: " أنا سيد الناس يوم القيامة.. " وقوله " أنا سيد ولد آدم ولا فخر"(1/422)
فمَن من الأنبياء غيره صلى الله عليه وسلم أقام مملكة الله، وتحققت به كل الصفات المذكورة في هذه النبوة المنسوبة الى إدريس عليه السلام.. ولعل القارئ قد لاحظ وجود عبارات فيها ميل إلى تأليه المصطفى (7)، وهو مما يعكس ميولا لدى المترجمين والكتبة النصارى، وذلك مما أثبته عليهم الباحثون.. أو هو من ضمن زلات اليهود في هذا الجانب.. ويكفي لتجاهل هذه الميول لتأليه المصطفى أنّ كل تعاليم التوراة والأنبياء من بعدها ومن قبلها لا تقبل تأليه أحد غير الله عزّوجلّ.. ويريد النصارى ذلك ليثبتوا أن هذه النبوة هي بحق عن المسيح عيسى عليه السلام، رغم أن كل صفات المصطفى المذكورة لا تنطبق على المسيح عليه السلام.. ولا ادعاها المسيح عليه السلام لنفسه، وإنما اجتمعت في خاتم الأنبياء، وذكرها هو صلى الله عليه وسلم عن نفسه لأمته.. ـــــــــــــــــــــ
هوامش التبشير بالمسيا سيد ولد آدم
(1) James H. Charlesworth, in The Old Testament: Pseudepigraapha, Apocalyptic literature, ed.1983, p.33-36.
(2) Martin Abeegg, JR., Peter Flint & Eugene Ulrigh, The Dead Sea Scrolls Bible,p.481.
(3) Willis Barnstone, The Other Bible, 1984 ed., p. 489-493.
(4) روى مسلم رحمه الله تعالى عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :أنا سيد ولد آدم يوم القيامة و أول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع " و في رواية بشر : أنا سيد بني آدم و قال أنا أول من تنشق عنه الأرض،رواه مسلم في الصحيح عن الحكم بن موسى.
((1/423)
5) جاء في صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال لي خليفة حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء فاشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا فيقول لست هناكم ويذكر ذنبه فيستحي ائتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتونه فيقول لست هناكم ويذكر سؤاله ربه ما ليس له به علم فيستحي فيقول ائتوا خليل الرحمن فيأتونه فيقول لست هناكم ائتوا موسى عبدا كلمه الله وأعطاه التوراة فيأتونه فيقول لست هناكم ويذكر قتل النفس بغير نفس فيستحي من ربه فيقول ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمة الله وروحه فيقول لست هناكم ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم عبدا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتونني فأنطلق حتى أستأذن على ربي فيؤذن لي فإذا رأيت ربي وقعت ساجدا فيدعني ما شاء الله ثم يقال ارفع رأسك وسل تعطه وقل يسمع واشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أعود إليه فإذا رأيت ربي مثله ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أعود الرابعة فأقول ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود قال أبو عبد الله إلا من حبسه القرآن يعني قول الله تعالى " خالدين فيها " صححه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون. رواه مسلم في الصحيح وقد رويت شواهد كثيرة أخرى لهذا الحديث.
(6) Michael Wise et al, The Dead Sea Scrolls, 1996, p. 328.
((1/424)
7) واضح جدا التحريف النصراني المتعمد لهذه النصوص، وهو ما يسميه الباحثون الإدخالات النصرانية Interpolation .. فقد أضاف إليها الكتبة المسيحيون كما يذكر الباحثون مصطلحات المسيحية بما فيها تأليه المسيح المنتظر ومصطلحات التثليث .. وكثيرا ما تضاف عبارة الآب بعد لفظ الجلالة، ولا تزال بعض النصوص أسلم من بعض، وأذكر مثلا على جراءة التحريف ختام كتاب وصية أبراهام، فقد ورد في بعض النسخ كما يلي :" ولنعمل بنموذج حياته الفاضل، لكي يحكم بأننا نستحق الحياة الأبدية، ممجدين الآب والإبن والروح القدس الآن ودائما وإلى دهر الدهور، آمين" ، بينما ورد النص بتمجيد الله وحده فقط في النسخة المجودة في ميلان كما أورد ذلك James H. Charlesworth في كتابه المذكور أعلاه ص902 و ص872، وقد أشير كذلك في الترجمة العربية لموسى الخوري الى أن هذه اضافة مسيحية غير موجودة بالنسخ القصيرة لوصية ابراهيم هذه، ومثل هذا التحريف المتعمّد كثير في كل النصوص الدينية التي تناقلها أهل الكتاب.
يظلّ استشهادنا هنا بما يشير إلى الإسلام ونبيه حجة بالغة رغم هذا التحريف .. والله وحده يعلم
ماذا أزال منها اليهود والنصارى من بشارات أصرح بالإسلام..!
عبد الله المنتظر..
إشعيا 42
" هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سُرّت به نفسي، وضعت روحي عليه (1)، فيُخرج الحقّ للأمم، لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته، قصبةً مرضوضةً لا يقصفُ وفتيلةً خامدةً لا يطفئُ، إلى الأمان يُخرِج الحقّ، لا يكلّ ولا ينكسر حتى يضع الحقّ في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته. “.
“ هكذا يقول الرب خالق السماوات وناشرها، باسط الأرض ونتائجها معطي الشعب عليها نسمةً والساكنين فيها روحاً، أنا الرب قد دعوتك بالبِر فأُمسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهداً تفتح للشعب ونورا للأمم، لتفتح عيون العميّ، لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة. ”(1/425)
“ هو ذا الأوّلّيات قد أتت والحديثات أنا مخبرٌ بها، قبل أن تنبت أُعلِمُكم بها، غنّوا للرب أغنية جديدة (2) تسبيحة من أقصى الأرض، أيها المنحدرون في البحر وملؤه والجزائر وسكانها، لترفع البرية ومدنها صوتها الديار التي سكنها قيدار، لتترنم سكان سالع، من رؤوس الجبال ليهتفوا، ليعطوا للرب مجداً ويخبروا بتسبيحه في الجزائر، الرب كالجبار يخرج، كرجلِ حُرُوب ينهض غيرته، يهتف ويصرخ ويقوى على أعدائه.. يخزي خزياً المتكلون على المنحوتات القائلون للمسبوكات انتن آلهتنا ... ”
“ Behold, my servant, whom I uphold; my chosen, in whom my soul delighteth: I have put my Spirit upon him; he will bring forth justice to the Gentiles. 2He will not cry, nor lift up his voice, nor cause it to be heard in the street. 3A bruised reed will he not break, and a dimly burning wick will he not quench: he will bring forth justice in truth. 4He will not fail nor be discouraged, till he have set justice in the earth; and the isles shall wait for his law.(1/426)
I, Jehovah, have called thee in righteousness, and will hold thy hand, and will keep thee, and give thee for a covenant of the people, for a light of the Gentiles; 7to open the blind eyes, to bring out the prisoners from the dungeon, and them that sit in darkness out of the prison-house. 8I am Jehovah, that is my name; and my glory will I not give to another, neither my praise unto graven images. 9Behold, the former things are come to pass, and new things do I declare; before they spring forth I tell you of them. 10Sing unto Jehovah a new song .. 11Let the wilderness and the cities thereof lift up their voice, the villages that Kedar doth inhabit; let the inhabitants of Sela sing, let them shout from the top of the mountains. 12Let them give glory unto Jehovah, and declare his praise in the islands.
التعليق:
هذا حديثٌ يتلخص بأنّه بيّن عن عبد الله المختار (3) الذي سيرسل إلى كل الأمم.. الذي تنتظر الأمم شريعته والنور الذي معه..
He will bring lasting justice, he will not lose or courage, he will establish justice in the earth, distant land eagerly wait for his teaching
والذي من خلاله سيتم عهد الله مع أمم الأرض (2)
Through you I will make a covenant with all people, through you I will bring light to the nations(1/427)
مؤيّد بالله.. محفوظ (4) من قبل الله.. يأتي بشريعة وتسيبحة جديدة.. يُفتح بها عيون العُميّ (5) من بين الظلمات، ويُخرج بها الناس من حبس الدنيا، إلى سعة الدنياوالآخرة (6).. فتبدد الظلمات في أرض البرية التي سكنها قيدار ابن إسماعيل (7) ( الحجاز والجزيرة العربية ).. فيعبدون الله ويسبحونه ويرفعون أصواتهم بذكره من فوق الجبال ( بما فيها جبل سلع (8) في المدينة).. ويقاتلون أعداءهم فينصرون عليهم..
ما تمّت هذه النبوءة إلا بظهور الإسلام من جزيرة العرب حيث سكن أبناء إسماعيل الذين قاموا بنشره بين أمم الأرض.. فنقلوها من جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سَعَة الدنيا والآخرة.. وأخرجوا الحقّ والأيمان الذي طالما كان مستضعفا ومطارداً إلى برّ الأمان والعزّة.. وكان المصطفى المختار صلى الله عليه وسلم قد لقِّب في القرآن مراراً بعبد الله (9)، وهو الذي تعهد الله بحفظه وعصمته من الناس وأيّده بنصره، ووَهبَه خلقاً عظيماً وجعله إماماً في مكارم الأخلاق..(1/428)
هذه النبوءة لا تنطبق على كورش الفارسي كما هو واضح، وإن كانت إصحاحات تالية تتحدث بعد ذلك عن شخصية كورش، إلا أن المشهور عنه وثنيته وعدم إيمانه، فكيف ُينسب إلى المرسلين، وكورش لم ينشر النور ولا الهدى في أراض بني اسماعيل، ولا أصبح الناس من بعده في هذه الديار مؤمنين، ولا تنطبق هذه النبوءة من أي ناحية على المسيح عليه السلام، خلافا لزعم المسيحيين.. هذا إضافة إلى نسبة العبودية إلى هذا الرسول وهم يزعمون أنه هو الله أو أنه ابنه المساوي له في الجوهر والمقام.. ويكفي فوق أنّ هذه النبوة لم تتحقق إلا على يدي رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، يكفي بها تلك الإشارة الواضحة إلى موطن ظهور المختار وأنها الديار التي سكنها قيدار.. وقيدار هو ثاني أبناء إسماعيل كما تذكر التوراة، وقد أورد المؤرخون اسمه ضمن أسماء أجداد قبيلة قريش التي سكنت مكة والتي ظهر منها رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.. والسؤال - الذي ليس له إلا جواب واحد – هو متى تبدت الظلمات في الحجاز، ومتى آمن أبناء إسماعيل بالله وتركوا عبادة الأصنام إلا عند مجيء رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.. هذا في الوقت الذي أعلن فيه المسيح عليه السلام عن خصوصية دعوته لبني اسرائيل، وأن هدفها تبشيرهم بقرب مجيء مملكة الله حتى يستقبلوها برضا وإيمان.
ثمّ أن محمداً صلى الله عليه وسلم هو صاحب الدعوة العالمية بنبي المرسلين.. وهو الذي وعد الله بحفظه من أعدائه فقال: (( و الله يعصمك من الناس )) ... و هو الوحيد الذي جاء من بعد موسى عليه السلام بشريعة جديدة ناسخة لما قبلها من الشرائع السماوية و لم يكن ذلك لأحد من المرسلين.. حتى عيسى عليه السلام قد صرّح انه ما جاء لينسخ التوراة.. فالبشارة في حق محمد صلى الله عليه وسلم واضحة متحققة..
ــــــــــــــــــ
هوامش البشارة بعبد الله المنتظر..
((1/429)
1) روح الله المقصود به جبريل عليه السلام، وبهذا لقب في الكتب السماوية الأولى والقرآن الكريم، وأُلقي جبريل على الأنبياء حين نزل عليهم ( أو وضع عليهم) بالوحي.. قال الله تعالى في القرآن :" يُلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق"
(2) أغنية بعنى تسبيحة، وعلى ذلك يلقب أهل الكتاب داود عليه السلام بإمام المغنيين، وفي كلمة جديدة إشارة إلى رسالة جديدة أو لغة جديدة.
(3) فهو رسول لكل أمم الأرض، وليس لأمة مخصصة كما هو حال من سبقه من الرسل والأنبياء، وهو حفيد إبراهيم الذي من خلاله تتحقق البشرى المذكورة لإبراهيم في التكوين، بقوله :"ويرث نسلك باب أعدائه، ويتبارك في نسبك جميع أمم الأرض” وذلك من خلال اهتداء أمم الأرض هذه إلى دين الله على يد أحد أبناء إبراهيم عليه السلام، والتي ورد بإنجيل برنابا - كما أوضحت في موضع سابق - تعليق على ذلك منسوب لعيسى عليه السلام ( فصل 96 : 8 ) بأنه ليس المسيا المعني بهذه البشارة ( أي المذكورة أعلاه بالتكوين).
(4) قال الله عزّ وجل ضامناً لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم حفظه من الناس: " والله يحفظك من الناس"، وقد كان من نتيجة ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم صرف الناس واستغنى عن أي حراسة له، رغم استمرار محاولات اغتياله التي ثبت منها تسع وعشرون محاولة، ولكنّ الله حفظه.
(5) طالما أُعتبر الذكر الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم نورا يهدي الناس به إلى الطريق، وأن الذين اختاروا مخالفته قد اختاروا العمى على الهدى.
((1/430)
5) لم يجد المؤمنون بالله الأمان إلا في ظل الأمة الإسلامية، وقد كانوا قبل ذلك أقلية مطاردة، مستعبدة من قيل الأمم الكافرة، فجاء الإسلام عزاً للمؤمنين على الكافرين، وتفريجا لهم، وإخراجا للناس من جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، كما قال ذلك ربعي بن عامر أمام رستم قائد الفرس مجيباً عن سؤاله عن سبب خروج المسلمين للجهاد.
(8) نص التكوين 25 : 12 - 18 ، “ وهذه أسماء بني إسماعيل بأسمائهم حسب مواليدهم: نبايوت.. وقيدار.. وسكنوا من حويلة إلى شور التي أمام مصر حينما تجيء نحو آشور ” معرف لقيدار بشكل لا خلاف عليه.
(8) جبل سلع جبل معروف بالمدينة، وقد ورد ذكره في أحداث سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
بشارة داوود عليه السلام..
المزامير 110
“ قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك، يرسل الرب قضيب عزّك من صهيون، تُسلط في وسط أعدائك
Form Zion the Lord will extend your royal power, rule over your enemies he says
شعبك منتدب في يوم قوّتك
On the day you fight your enemies, your people will volunteer
في زينة مقدسة من رحم الفجر لك طلّ حداثتك. أقسم الرب ولن يندم أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكٍ صادق.. “.
وبداية النص في نسخة الكتاب المقدس لدار المشرق ( 1994م)هكذا: " قال الرب لسيدي.."
التعليق:
لا جدال، على الأقل مع النصارى، في أنّ هذه البشارة تعني المسيا أو المختار، فقد سبق أن استشهد بها عيسى عليه للسلام ليثبت لليهود أن المسيّا ( المختار) المنتظر ليس من أبناء داود كما أدخلوا ذلك على التوراة ( أي ليس بيهودي، إذ لا يثيرهم إلا القول بأنه غير يهودي ) فأثار بذلك حنقهم وغضبهم عليه.. وهذا النبي يُنصر على أعدائه ويتطوع له المؤمنون (1) ( في يوم قتال أعدائك يتطوع أناسك)
On the day you fight your enemies, your people will volunteer))(1/431)
فيقاتلون معه حتى يُلقى بأعدائهم تحت أقدامهم.. وقد تمّ مثل ذلك تماماً في معركة الإسلام الأولى ببدر.. فتطوع المؤمنون للقتال، وغلبوا أعداءهم، وجمع سبعون قتيلاً من رؤوسهم في حفرة واحدة، ووقف عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم تحت قدميه وهو يخاطبهم ويوبّخهم، والمسلمون يتعجبون منه كيف يخاطب الموتى فيُعلمهم أنهم يسمعون حديثه كما يسمعونه هم.. ومن المناسب هنا استخدام لفظ التطوع إذ كان الخروج لهذه المعركة تطوعا، والدخول بها كان مسبوقا باستشارة الرسول صلى الله عليه وسلم للمؤمنين لمعرفة مدى استعدادهم لدخول معركة.. فكان تطوعا خالصاً.. وقد روت كتب السيرة تفاصيل الأحاديث المتبادلة بين الصحابة رضوان الله عليهم من المهاجرين والأنصار ورسول الله حين أبدى الصحابة استعدادهم للقتال مع رسول الله (ص) حتى لو "خاض بهم برك الغماد"
وهذا النبي يجمع بين النبوّة والحكم ( المُلك) كما جمعها ملكي صديقي ( تراجع البشارة عن ملكي صديقي)
والقضية إذا كانت هذه البشارة تعني المختار، ولا تنطبق على عيسى عليه السلام، بل إنّه تحدث عنها، ولم يزعمها لنفسه، وكان حديثه عنها كسائر حديثه عن مملكة الله القادمة وعن الحجر الذي صار رأس الزاوية، فإنها – أعني البشارة – لا تنطبق إلا على المختار المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، فهو النبي الخاتم الذي كتب لرسالته الخلود وعدم النسخ حتى نهاية الزمان وقيام الساعة، وهو الرسول الوحيد الذي جاء من بعد عيسى عليه السلام، وهو الذي نصر على أعدائه وجمعوا له تحت قدميه في يوم تطوع اتباعه لقتال أعدائه، ثمّ لم يكن من أبناء داود بل ولا من بني إسرائيل ... تماما كما روي عن المسيح عيسى عليه السلام استنتاجه هذا من هذه البشارة..
ــــــــــــــــــ
(1) لعل في هذا ما يذكّر القراء بتطوع المؤمنين اختيارا في يوم أول معركة في الإسلام، في يوم معركة بدر الكبرى، وبكلمات سعد بن معاذ وسعد بن عباده والمهاجرين..(1/432)
الفصل السابع
الإستبدال
إضافة إلى ما سبق من البشارات البينة القاطعة بأنّ ميثاق الله سيعهد إلى أمة غير بني إسرائيل اللذين قد قضى الله عليهم _ بسبب ذنوبهم _ باللعن والطرد خارج الأرض المباركة، إلاّ من صلح منهم فقد طلب منه – أي ممن صلح - الصبر والاحتساب على هذا التشريد حتى يأتي الخلاص على يد خاتم الأنبياء، وتقوم مملكة الله وينتهي بقيامها عناء المؤمنين بالله.. وعندها يجهر المؤمنون بعبادة الله وحده دون خوف بطش الوثنيين من الروم (القطيم) ومن غيرهم بهم.. وإضافة إلى التصريح باستبدال بني اسرائيل الثابت من تبشير المسيح عيسى عليه السلام بنقل مملكة الله إلى أمة غير بني اسرائيل، وإشارة إينوخ الى فرع جديد من أبناء إبراهيم هو الذي سيكون منه المختارين بآخر الزمان، فإضافة إلى ما سبق من البشارات القاطعة بهذا الإستبدال لخلافة الله، فهناك مجموعة من البشارات الأخرى التي تشير إلى هذا الإستبدال، ويمكن منها استنتاج بعض ملامح الأمة المستخلفة القادمة..
انتقال النبوّة من بيت يهوذا إلى المنتظر ..
التكوين 49 : 10
النص :
" لا يزول قضيب من يهوذا ومشرِّع ( أو مشترعٌ ) من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب "
" لا يزول صولجان من يهوذا أو مشترعٌ من بين قدميه حتى يأتي شيلون ويكون له خضوع الشعوب " النص الذي أورده عبد الأحد في كتابه.
"لا يزول الصولجان من يهوذا ولا عصا القيادة من بين قدميه إلى أن يأتي صاحبها وتطيعه الشعوب" الكتاب المقدس – دار الشروق.
“ The scepter shall not depart from Judah, nor the rulers staff from between his feet, until he comes to whom it belongs, and to him shall be the obedience of the people.”
التعليق:
...(1/433)
ورد هذا النص ضمن وصية يعقوب لأبنائه عندما حضره الموت.. وبها بشارة لأبنائه وأبناء ابنه يهوذا خاصة ببقاء الحكم ( الصولجان) والنبوة ( التشريع والقيادة) في أبناء يهوذا حتى يأتي المنتظر الذي ستطيعه الشعوب وتتبعه.
.. فالصولجان إشارة إلى الحُكم ( المُلك)، والمشرِّع إشارة إلى النبوة، فهما لن يزولا من أبناء يهوذا حتى يأتي شيلون الذي ستطيعه الأمم وتتبعه.. ويفهم من هذا أن الحكم والنبوة سيخرجان من أبناء يهوذا بمجيء شيلون.. الذي ستكون رسالته عالمية، والذي ستتبعه الشعوب وتخضع لحكمه..
.. وكلمة "شيلون" أو شيلوه Shiloh كما يرى عبد الأحد قد تعني " الشخص الذي يخصه" أي صاحب الصولجان والشريعة، وهو التفسير الذي أخذ به كتبة نسخة دار الشروق التي أوردت نصها للبشارة أعلاه، وهو مما رجحه كتبة معجم الكتاب المقدس Wyclieffe Bible Dictionary .. وقد تكون الكلمة تحريفاً لكلمة" شلواح" التي يذكر عبد الأحد أنها تعني رسول.. وإذن فرسول الله أو صاحب الشريعة والحكم ( هو بلا شك النبي أو المختار - المسيا - الذي تختم به النبوة) لن يكون من بيت يهوذا، إذ بمجيئه ينقطع الحكم والنبوة عن بيت يهوذا ( وسيبقى فيهم من قبل ذلك).. وهو الرسول صاحب الرسالة العالمية لمختلف الشعوب.. ومن المعاني الراجحة لدى كتبة المعجم أعلاه أن كلمة Shiloh مشتقة من الجذر العبري sh-l-h والذي يعني أن " يؤمّن ويهدئ ويريح" وأن هذا لقب للمسيا المنتظر " (1) فكأنّ المصطفى ( المختار أو المسيا) المنتظر سيعطي راحة للناس..(1/434)
وقد تتابع الأنبياء من أبناء يهوذا عبر ما يزيد عن ألف عام وكان أخرهم عيسى عليه السلام، وما خرجت النبوة إلى غير أبناء يهوذا إلا بمجيء خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم.. وهو الذي لقب بـ"رسول الله"، وهو صاحب الرسالة العالمية.. ولم يسبقه نبي برسالة عالمية لمختلف الشعوب، ويذكر عبد الأحد رحمه الله أن هذه النبوة لا تنطبق على موسى إذ لم يظهر قبله نبي من أبناء يهوذا حتى تنقطع به، ولا على داود عليه السلام إذ كان هو أول الأنبياء من نسل يهوذا، والنبوة هنا تتحدث عن انقطاعها عنهم، ولا هو عيسى عليه السلام إذ لا معنى للاستثناء في النص أعلاه لو كان آخر الأنبياء وصاحب الشريعة هو من أبناء يهوذا كذلك..وعيسى عليه السلام من أبناء يهوذا، ثمّ إنّه قد رُوي عنه نفيه لأن يكون الرسول المنتظر من أبناء داود ( أو يهوذا جدّ داود عليه السلام) ،أما هو نفسه فهو من أبناء داود عليه السلام ، ثمّ إن النبوة لا تنطبق عليه، عليه السلام، فهو ما جاء بتشريع جديد ولا أقام حكماً وملكاً.. ثمّ إن أبناء يهوذا قد ضاعت أنسابهم، ولم يعودوا يتميزون أو يعرفون أنفسهم أو يعرفهم الناس، فقد انقطع عنهم الملك والنبوة وهم مميزين وانتزعت إلي غيرهم وهم كانوا ما يزالون معروفين..(1/435)
يروي أصحاب المعجم Wyclieffe Bible Dictionary أن الحاخام راتشمان ذكر أن أعضاء السنهدرين لمّا نزعت الدولة الرومانية منهم السلطة عام 6 ميلادية، غطوا رؤوسهم وأجسامهم بالخيش وقالوا يا ويلنا قد غادر الصولجان من يهوذا ولما يأتي المسيا" (1).. والقصة نوردها للدلالة على فهم أهل الكتاب بأن بشارة يعقوب هنا هي بشارة بالمختار خاتم الأنبياء المنتظر.. ومحاولة الأجيال الأولى من اليهود صرفها إلى نبي منهم كثيراً ما كانت مكشوفة كما أوضحنا من قبل، ولا وجه لليهود هنا أن يستعجبوا كيف يتركهم السلطان ولمّا يأتهم المسيا (شيلوه)، إذ لو كان منهم لما تركهم السلطان ولا النبوة قط.. وذلك ما أرادوا فهمه أن السلطان والنبوة مستقرة فيهم، وسيأتي شيلوه ( المسيا) وهي ما تزال فيهم وهو منهم فيبقيها فيهم إلى الأبد.. وكان عليهم أن يكتشفوا خطأ فهمهم هذا بمجرد نزع النبوة والسلطان منهم.. بل قد كان عليهم أن يسمعوا في ذلك لأقوال أنبيائهم يحي وعيسى عليهما السلام، بدلاً من أن يسعوا لقتلهم، وقد مرّ عليهم إلى اليوم ألفي عام والنبوة والسلطان منزوعة عنهم قد أعطيت لأمة أخرى من غيرهم ظهر فيها المختار.. كان عليهم أن يتبعوه ويؤمنوا به.. وليدع القارئ عنه عودة السلطان إلى اليهود هذا الزمان، فهي عودة متأخرة ولا يصاحبها نبوة ولا حتى عودة إلى الدين.. وهي عودة في آخر الزمان نعلم نحن واليهود أن بها نهايتهم.. فهم اليوم أحق بعقاب الله من آبائهم اللذين وقع عليهم العقاب على أيدي البابلين والرومان..
وإذا كان سبط يهوذا قد اندثر واندثرت على مدى ألفي عام سلطه اليهود كلهم، فلا شك أن شيلون (صاحب الشريعة أو الرسول المنتظر) قد جاء خلال تلك الألفين.. لو يَعي ذلك أهل الكتاب..(1/436)
وما كان "رسول الله" المنتظر ولا صاحب الشريعة العالمية، ولا النبي الذي كان رحمة للناس جميعاً إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، جاء من بعد انقطاع النبوة في سبط يهوذا، جاء رسولاً لكل أمم الأرض، تماماً كما يفهم من هذه النبوة المنسوبة إلى يعقوب عليه السلام..
ــــــــــــــــــ
(1) Wyclieffe Bible Dictionary, by Charles F. Pfieffer et al, 1998.
صاحب الحكم.. حزقيال 21: 25 –27
النص:
" وأنت أيها المطعون الأثيم، ملك إسرائيل يا من أزف يومه في ساعة العقاب النهائي اخلع العمامة وانزع التاج، فلن يبقى الحال كسالف العهد به، ارفع الوضيع وضع الرفيع، هأنا أقلبه، أقلبه، أقلبه حتى لا يبقى منه أثر إلى أن يأتي صاحب الحكم، فأعطيه إياه."
التعليق:(1/437)
جاء هذا النص في حزقيال في الفترة التي سبقت مباشرة دخول نبوخذنصر إلي القدس، وقضائه على آخر مملكة لليهود.. حيث لم تقم لهم بعدها مملكة أو حكم مستقل أبدا حتى عام 1948 م إلا لفترة محدودة جدا وفي وضع غير مستقر وباستقلال غير مكتمل خلال حكم المكابيين.. لكنّ حكام المكابيين لم يكونوا سواء كهنة يحكمون بشكل عام تحت ظل الحكم اليوناني بسوريا أو مصر.. فهاهنا تصريح بنزع الحكم والملك والاستقلال عن بني إسرائيل، وبأن وضعهم سيستمر كذلك حتى يأتي الذي هو صاحب الحكم فيأخذه.. ونعلم أنّ مملكة الكلدانيين هذه التي قضت على استقلال بني إسرائيل بقيادة نبوخذنصر هي المملكة الأولى من أربع ممالك صرّح دانيال عليه السلام بأنها ستتعاقب مباشرة الحكم على الأرض المباركة بفلسطين حتى تعقبها مملكة الله.. وقد أثبتنا أن هذه الممالك كانت هي ممالك الكلدانيين ثم الفارسيين ثم اليونانيين ثم الرومان.. ورأينا كيف توارثت حكم فلسطين واضطهاد المؤمنين حتى جاءت مملكة الإسلام باسم الله ونصرة دينه فانتزعت فلسطين من الرومان ( المملكة الرابعة).. فكأن النص هنا صريح لبني إسرائيل بأن مملكتهم التي ستفنى قريبا هي آخر ممالكهم وبأنّ الأمر سيظل كذلك في ظل حكم ظالم يرفع الوضيع ويضع الرفيع حتى تأتي مملكة الله.. وذلك ما تم بحذافيره تأريخيا.. وهو ما ينسجم مع عدد كبير من البشارات الأخرى..
والإشارة إلى من سيستعيد حكم الله على فلسطين بأنه صاحب الملك منسجمة مع بشارة يعقوب عليه السلام التي ناقشناها أعلاه: "لا يزول الصولجان من يهوذا ولا عصا القيادة من بين قدميه إلى أن يأتي صاحبها وتطيعه الشعوب"..
إشارة يحيى عليه السلام إلى الاستبدال ..
(متى 3: 1 - 3 ، 7 – 11)
نص البشارة:(1/438)
" وفي تلك الأيام جاء يوحنا المعمدان يكرز في برية اليهودية، قائلاً توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماواتKingdom of heaven ، فإن هذا هو الذي قيل عنه بإشعياء النبي القائل صوتٌ صارخٌ في البرية أعدوا طريق الرب، اصنعوا سُبُله مستقيمة.. فلما رأى كثيرين من الفريسيين والصدوقيين يأتون إلى معموديته قال لهم يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي ، فاصنعوا ثماراً تليق بالتوبة، ولا تفتكروا أن تقولوا في أنفسكم لنا إبراهيم أباً، لأني أقول لكم أنّ الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم، والآن قد وضُعت الفأس على أصل الشجرة فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تُقطع وتُلقى في النار، أنا أعمدكم بماء للتوبة ولكن الذي يأتي بعدي هو أقوى مني الذي لست أهلاً أن أحمل حذاءه، هو سيعمدكم بالروح القدس ونار" .
التعليق:(1/439)
هاهنا يبشر يحيى عليه السلام بمملكة الله ( الإسلام) أو مملكة السماء ( كما يحلوا لمتى أن يسميها غالباً) القادمة التي بشر بها الأنبياء مثل دانيال وعيسى عليهما السلام.. ويتحدث لليهود ( أولاد الأفاعي كما سماهم ) ألاّ مفرّ لهم من غضب الله القادم، الغضب الذي سيحتوى على دمار مدنهم وتشريدهم والذي أنذرهم به دانيال وعيسى وأنبياء آخرون كذلك عليهم السلام .. وأن ليس لهم نجاة إلا بالتوبة الصادقة والعمل الخالص.. وأنه لا يمكنهم الركون إلى وعد الله عزّ وجلّ لإبراهيم بإبقاء النبوّة ووراثة الأرض ( فلسطين ) في ذريته وأبنائه، لأن الله عزّ وجلّ قادر أن يهيئ ( ولو من بين الصخور) غيرهم من أبناء إبراهيم عليه السلام ليحملوا النبوّة ويرثوا الأرض.. وهذا يذكّرنا بما ورد في ارميا 7: 8" هأنتم اتكلتم على أقوال الكذب، ولكن من غير جدوى، أتسرقون وتقتلون وتزنون وتحلفون زورا، وتبخرون للبعل، وتضلون وراء الأوثان التي لم تعرفوها، ثم تمثلون في حضرتي في هذا الهيكل الذي دعي باسمي قائلين :" قد نجونا" ، ثم ترتكبون جميع هذه الرجاسات؟" وفيه اشارة أخرى الى افتراءاتهم على الله ورسله واتكالهم على هذا الكذب الذي احتوى زورا على ما يطمئنهم من الله عز وجلّ.. وكانت النتيجة أن دفع اليهود ثمن افتراءاتهم على الله مضاعفة.. ولم ينجحوا إلا في تضليل أنفسهم.. ولله الحكمة البالغة ..
..(1/440)
ويحي عليه السلام يأمرهم هنا بالتوبة والإنابة إلى الله، ولكنه لعلمه بعصيانهم ويأسه منهم، فقد أخبرهم بأنه على أي حال قد تمّ أمر الاستبدال، وأنّ الفأس قد وضعت على أصل الشجرة التي أبت أن تعطي ثمارها وما بقي إلا مباشرةُ قطعِها.. وواضح أنه - أى يحي عليه السلام _ يعني أنه لامحالة من وقوع الغضب القادم الذي هُدّد وتُوعّد به اليهود.. ويتحدث هنا يحيى عليه السلام عن النبي الذي سيأتي من بعده ( في الشجرة البديلة من أبناء إبراهيم ) بأنه أقوى منه وبأنه سيلغي التعميد بالماء، ويعمد الناس بالروح والنور (1) وكلاهما(أي الروح والنور) وصفان وُصف بهما القرآن الكريم ..
يلاحظ اتحاد المعنى هنا مع مَثل البستان السابق ومع مثل الذين رفضوا الاستجابة لوليمة الملك ومع أمثلة أخرى كلها رُويت عن عيسى عليه السلام، وأخبر خلالها صراحة بقدوم كل من العقوبة والأستبدال. وقد ورد التشبيه بقطع الشجرة في مواضع أخرى من التوراة كإشارة إلى عقاب بنيّ إسرائيل القادم.. كما روى لوقا ( اصحاح 13 : 6 –9) عن المسيح عليه السلام أنه بعد تحذيره اليهود بالهلاك إن لم يتوبوا، أورد لليهود مثل شجرة التين التي لم تثمر على مدى ثلاث سنوات متتالية معطلة للأرض التي هي عليها أن تُستغل، فصدر الأمر بقطعها ثمّ أعطيت فرصة أخيرة إن لم تصنع ثمراً فإنها ستقطع.. والأستنتاج واضح أنها لم تستفد من فرصتها الأخيرة للتوبة بمجيء يحي والمسيح وأنها قطعت، وأن الأرض التي تعطلت بتلك الشجرة أقيم عليها شجرة مثمرة أخرى.. في توافق مدهش مع مثل بستان العنب الذي سيعطى لأجراء جدد يعطون أثماره، ومع نبوة وتحذير يحي عليه السلام المذكور أعلاه هاهنا، ومع أحداث التأريخ التي تتابعت بعد ذلك في تشريد اليهود وظهور المسلمين ووراثتهم للأرض المباركة ..(1/441)
والنبوة هنا تضيف بعداً آخر في تحديد الأمة البديلة.. إذ لم ينكر يحي عليه السلام على اليهود فكرة بقاء النبوة والأرض في أبناء ابراهيم، لكنه ذكّرهم بأنّ لإبراهيم أبناء غيرهم، وأنه لا ينبغي لهم الإغترار بوعد الله لإبراهيم عليه السلام ببقاء النبوة في أبنائه.. وإذ نفهم من النبوة بوضوح نزول الأمر بقطع بني اسرائيل، فإن الأمة البديلة ستكون من فرع آخر من أبناء ابرهيم، كما يدلّ على ذلك كلام يحي عليه السلام بأنّ الله سيخرج لإبراهيم أبناء آخرين غير اليهود (2)، وقد تحقق ذلك بابناء اسماعيل كما نعلم ..
وإذا كانت معمدانية عيسى عليه السلام وتلاميذه في أيامه ومن بعده تتم باستخدام الماء، وما زالت كذلك بالماء لدى النصارى حتى اليوم، وهي غير مختلفة عن معمدانية ( صبغة) يحيى عليه السلام، فإنّ ذلك يعني بوضوح أنّ عيسى ليس هو النبي الذي عناه يحي عليهما السلام في هذه النبوة بأنه سيعمد بالروح.. وما جاء بعد يحي وعيسى غير رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وهو وحده الذي لم يعمد بالماء وإنما بنطق الشهادتين والاصطباغ بالإيمان وروحانية القرآن.. وتجدر الإشارة هنا إلى أن التعميد هو غمس الداخلين في دين النصرانية في الماء، ولقب النبي يحي عليه السلام بالمعمداني لأنه يحكى عنه تعميده ( بالغمس في الماء) لعيسى عليه السلام.
وقد ذكر رحمه الله البروفيسور عبد الأحد داود(3) أن الكلمة الأصيلة ( الآرامية) للتعميد هي صَبَا ( Saba) المقابلة للكلمة العربية ( صَبَغ). ومن المعروف أن الصابئين (الصابغين) هم أتباع يحيى عليه السلام، وأنّ اسم الصابئه ( الصابغة) نفسه بالتالي يدل على المعمدانيين كما ذكره المؤرخون .(1/442)
ومن هنا فإن التعميد هو الصبغ بصبغة الدين الجديد.. وقد أُلغي في الاسلام هذا الصبغ بالماء واستبدل الصبغ بتطهير الروح بالقرآن.. قال البيضاوي في تفسيره لقوله تعالى ( صبغة الله ومن أحسن الله صبغة ونحن له عابدون) وهي الآية التي وردت بعد الحديث عن الإيمان بما أنزل إلى إبراهيم وموسى وعيسى، قال : " طهر قلوبنا بالإيمان تطهيرا وسمّاه صبغة، لأنه ظهر أثره عليهم ظهور الصبغ على المصبوغ وتداخل في قلوبهم تداخل الصبغ للثوب، أو للمشاكلة فإن النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية ويقولون هو تطهير لهم وبه تتحقق نصرانيتهم .. ".
وكما ذكر عبد الأحد فإن النبوءة المذكورة في هذا الإصحاح والآية الكريمة - المذكورة أعلاه - بالقرآن الكريم برهانٌ من براهين مصداقية الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم.. بإستبداله الصبغ بالماء بالتطهير بالروح والأيمان.. صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة لقوم عابدين.. وفيه إثبات آخر بأن النبي الذي بشّر يحي عليه السلام بظهوره من فرع آخر من أبناء ابراهيم من بعد قطع شجرة اليهود ونزول عقاب الله عليهم، إنما هو محمّد صلى الله عليه وسلم.. وليس عيسى عليه السلام الذي عاصر يحي وعاش بين بني اسرائيل قبل استئصالهم من الأرض المباركة ونزول العذاب عليهم، فهل يبقى بعد ذلك مجال للتردد في قبول هذه البشارة بحق رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ..
تعقيب من المخطوطات :
ومن إحدى رقع مخطوطات البحر الميت (1QS) التي كتبت عامتها قبل مجيء يحي وعيسى عليهما السلام، كما ترجمها مايكل وايز Michael Wise في كتابه "مخطوطات البحر الميت" Dead Sea Scrolls ص 131، يفهم أن تطهير المؤمنين في المستقبل سيكون بالروح وأن أولئك المؤمنين سينصرون على أهل الشرّ، ويعطون الحكمة وعهد الله الأبدي.. إشارة إلى الرسالة الأخيرة الخاتمة للنبوات...(1/443)
ولا ينطبق مثل هذا التبشير إلا على الإسلام وأهله, فقد كانوا هم المؤمنون بالله، المنصورون على أعدائهم، وكان دينهم هو عهد الله الأخير الأبدي، وكانوا هم الّذين أعطوا أعلى درجات الأفضلية منذ عهد آدم عليه السلام حتى الآن، وهم لم يعمّدوا تعميداً كتعميد النصارى، بل كان تعميدهم بتطهيرهم بالذكر والروح..
وفيما يلي النص من المخطوطات المشار إليه أعلاه:
“In his mysterious insight and glorious wisdom God has countenanced an era in which perversity triumphs, but at the time appointed for visitation He shall destroy such forever. Then shall truth come forth in victory upon the earth. Sullied by wicked ways while perversity rule s, at the time of the appointed judgment truth shall be decreed. By His truth God shall then purify all human deeds, and refine some of humanity so as to extinguish every perverse spirit from the inward parts of flesh, cleansing from every wicked deed by a holy spirit. Like purifying waters, He shall sprinkle each with a spirit of truth, effectual against all the abominations of lying and sullying by an unclean spirit. Thereby He shall give the upright insight into the knowledge of the Most High and the wisdom of the angels, making wise those following the perfect way. Indeed God has chosen them for an eternal covenant; all the glory of Adam shall be theirs alone.(1/444)
ويمكن ترجمة هذا النص كما يلي :" بحكمة الله العظمى وتدبيره ( أو نظرته إلى الأمور) الذي نجهل الحكمة منه، قضى الله بوقت يعمّ فيه الانحراف، حتى إذا جاء وقت زيارته (أي موعد إرسال الرسول، وقد استعمل هذا الاصطلاح في مواضع أخرى، بل وفي كتب أخرى ككتب البراهمة) فإنه سيُدمرهم إلي الأبد، وعندها سينتصر الحق ويعمّ الأرض، وسيهيمن الفساد وطرق الشر ( أي قبل ذلك) حتى الوقت المحدد، وينتصر الحق، ويُطّهر الله كل الأعمال البشرية بالحقّ، ويطهر فريقا من البشرية حتى يستأصل كل روح منحرفة منهم من الأحشاء الداخلية، ويطهر كل عمل شرير بروح القدس، وسيصب أو ينضح ( لعله الرسول) على كل واحد روح القدس كأنه مياه مطهرة، من أقذار الكذب ودنس الروح النجسة، فيعطي للصاعدين ( أو الناشئين) العلم ( أو المعرفة) بالعليّ، وحكمة الملائكة، فيجعل الذين يتبعون الطريق التام ( أو المستقيم) هم الحكماء، فعلاً قد اختارهم الله للعهد الأبدي، وكل بهاء آدم ( لعلها بني آدم) سيكون لهم وحدهم".
_________________________
(1) استخدم لفظ النار ليعني النور في مواضع عدة في التوراة في مواضع عدة.
(2) هناك غالبية ضخمة من اليهود المعاصرين هم من المتهودين أي ممن دخل في اليهودية ولا يمتون بصلة دم أو نسب لإبراهيم عليه السلام ..
(3) محمد في الكتاب المقدس لعبد الأحد داود.
خصائص أخرى للأمة القادمة
(1) شعب جديد يختاره الله:
هوشع 2 : 23 ..
“ I will establish my people in the land and make them prosper. I will show love to those who were called unloved , and those who were called not my people I will say : you are my people and they will say you are our God .” .
لم نجد النص السابق على الإطلاق في النسخة العربية من التوراة..(1/445)
و ترجمته كما يلي “ سوف أقيم شعبي في الأرض وأجعلهم يزدهرون. سأظهر محبتي للذين كانوا يدعون غير محبوبين، و سأقول أنتم شعبي للذين كانوا يدعون غير شعبي وسيردون أنت إلهنا ”.
بقية النص في النسخة الإنجليزية يتحدث عن غضب الله وعقوبته لبني إسرائيل.. وواضح اتفاق هذا النص مع ما سبقه - من النصوص التي أوردتها من قبل – في قضية استبدال الأمة المختارة ( شعب الله هنا) بأمة أخرى قادمة ستكون هي شعب الله المختار ( الأمة المفضلة) بدلاً من الأمة المختارة أيام هوشع ( وقد كانت أمة بني اسرائيل)..وفي النص إشارة إلى وراثة هذه الأمة الجديدة للأرض المباركة وهو مما يتفق مع البشارات السابقة بما فيها بشارات وراثة الأرض بالزبور.. وواضح هنا أنّ هذه الأمة القادمة كانت أمة جاهلة، لاتعرف الله، فاختارها الله أمة محبوبة تعبده وحده.. وكثرها ونمّاها..
(2) أمة جاهلة ستثير حسد اليهود:
التثنية 32 : 21 ..
" وقال أحجب وجهي عنهم وأنظر ماذا تكون آخرتهم.. هم أغاروني بما ليس إلها.. فأنا أغيرهم بما ليس شعباً بأمّة غبية أغيظهم.. ".
.. العرب لا اليونان (1) ولا الرومان هم الأمة الجاهلة الأمية.. وهم الذين أثاروا حسد بني إسرائيل وغيظهم كما سبق أن أثبتنا، كما هو واضح في تأريخ الإسلام ومواقف اليهود.. ولم يكن لدى الأمم الأخرى ما يحسدهم عليه اليهود، وهم وإن كانوا قد خافوا بطش هذه الأمم من حولهم، بل وتعرضوا لاضطهادها، إلاّ أن الشعور بالاستعلاء عليها وبدونيتها لوثنيتها كان هو الطابع العام في المشاعر نحوها، ولم يكن هناك شعور بالحسد إلا تجاه الأمة التي أعلنت نفسها بديلة عند الله عز وجلّ عنهم، قادمة للناس برسالة يعلمون هم - من كتبهم - أحقيتها ومصداقيتها..
ــــــــــــــــــ
(1) راجع كذلك إظهار الحق لرحمة الله الهندي رحمه الله تعالى، الجزء الثاني، وفيه تفصيل لما بلغه اليونانيون من درجة عالية في العلوم المختلفة..
((1/446)
3) أمة جديدة مختارة من بعد عقاب الأمة الملعونة:
إشعيا فصل 65 ..
" إني أعلنت لمن لم يسألوا عني ووجدني الذين لم يطلبوني. قلت:"هاأنذا هاأنذا " لأمة لم تدع باسمي. بسطت يدي طوال النهار (1) لشعب عاص يسلك طريقاً غير صالح على هواه شعب يغضبني في وجهي كل حين يذبح في الجنائن ويحرقون البخور على الآجر يقيم في القبور ويبيت في المغاور يأكل لحم الخنزير وآنيته مرق قبائح.. هوذا مكتوب أمامي: إني لا أصمت حتى أحاسب في أحضانهم آثامكم وآثام آبائكم معاً قال الرب ... وسأخرج من يعقوب (2) نسلاً ومن يهوذا وارثاً لجبالي فيرثها مختاري ... وأنتم الذين تركوا الرب ونسوا جبل قدسي الذين يهيئون المائدة لجد ويعدون الممزوج لمناة فسأعدكم للسيف وتركعون جميعكم للذبح لأني دعوت ولم تجيبوا تكلمت فلم تسمعوا، وصنعتم الشر في عيني، واخترتم ما لم أسر به ، لذلك هكذا قال السيد الرب: ها إن عبيدي يأكلون وأنتم تجوعون ها إن عبيدي يشربون وأنتم تعطشون ها إن عبيدي يفرحون وأنتم تخزون ها إن عبيدي يهتفون من طيب القلب وأنتم تصرخون من كآبة القلب وتولولون من انكسار الروح وتخلفون اسمكم لعنة لمختاري،" أماتك السيد الرب" لكنه يدعو عبيده باسم آخر فالذي يتبارك على الأرض يتبارك بإله الحقّ آمين لأن المضايق الأولى تنسى وتستر عن عيني لأني هكذا أخلق سموات جديدة وأرضاً جديدة فلا يذكر الماضي ولا يخطر على البال. بل تهللوا وابتهجوا للأبد بما أنا أخلق فإني هاأنذا أخلق أورشليم للابتهاج وشعبها للسرور وأبتهج بأورشليم وأسر بشعبي ولا يسمع فيها من بعد صوت بكاء ولا صوت صراخ.. "
وفي طبعات أخرى..
“.. I have already decided on their punishment, and their sentence is written down, I will not overlook what they have done, but will repay them for their sins and sins of their ancestors ... ”(1/447)
" ..فيُميتك السيد الرب ويسمي عبيده اسماً آخر، فالذي يتبرك في الأرض يتبرك بإله الحق والذي يحلف في الأرض يحلف بإله الحق، لأنّ الضيقات الأولى قد نُسيت because the former troubles are forgotten ولأنها استترت عن عينيّ لأني هأنذا خالقٌ سماوات جديدة وأرض جديدة فلا تذكر الأولى ولا تخطر على بال بل افرحوا وابتهجوا إلى الأبد.. ".
التعليق:
..(1/448)
النص واضح الإشارة إلى إمعان اليهود في عصيانهم لله عزّ وجلّ، وأنّ العقاب الإلهي قد تقرر وتحدّد _ تماماً كما رُوي عن يحي وغيره من الأنبياء عليهم السلام فيما ذكرنا أعلاه_ وأنّ أمة جاهلة، كانت تعيش في الظلام لا تعرف الله ولا تطلبه ولا تدعى باسمه، ستتعرف على الله عز ّوجلّ وتؤمن به.. تماماً كما كان العرب قبل الإسلام لا يعلمون الكتاب ولا الإيمان.. فمنّ الله عليهم بهما من خلال اختيار خاتم الأنبياء منهم.. والنص صريح في خطابه لعصاة اليهود وأنّ الله سيعاقبهم بذنوبهم وذنوب آبائهم، وسيتعرضون للجوع والعطش والكآبة والذبح، تماما كما توعدهم عند أخذ الميثاق عليهم من خلال موسى عليه السلام إن عصوا وكذبوا.. وأن الله سيختار أمّة من غيرهم، وباسم جديد، وأمّا اسمهم هم – أي اليهود - فسيُصبح عند الأمة القادمة ( المختارين (3)) محتقراً وكلمةً للعن، مرادفة للفظ اللعن نفسه (وتخلفون اسمكم لعنة لمختاري)، وستُنسى عندها معصيات اليهود الأولى المتكررة.. ويُنسى ذلك الماضي تماماً، بل ولن يعد يخطر على بال المؤمنين.. فقد صار للمؤمنين جمعاً جديدا، واسما جديدا، وصاروا لا يكررون جرائم اليهود مع أنبيائهم بل ولا يتخيلونها.. وصار معيار الصلاح والتبارك هو القرب من الله، والعبادة والحلف هو بالله ولله وحده.. (...فيُميتك السيد الرب ويسمي عبيده اسماً آخر، فالذي يتبرك في الأرض يتبرك بإله الحق والذي يحلف في الأرض يحلف بإله الحق، لأنّ الضيقات الأولى قد نُسيت).. والضيقات الأولى هي معاصي اليهود وانحرافاتهم المتكررة، كما هو واضح من النص..(1/449)
وواضح اتفاق هذا النص مع ما سبق معنا - من نصوص بالعهدين بالإنجيل والتوراة- في توعد اليهود بالعقاب، وإنذارهم باستبدالهم بأمة جديدة من بعدهم، وأن هذه الأمة كانت جاهلة، ولم تكن ترجو رسالة ولا وحياً، ولا تتوقعه، وكذلك كان العرب، وكذلك صار أمرهم بعد الإسلام أمّةً مؤمنةً ربانيةً، وكذلك صار اسم اليهود لديهم- عبر القرون الماضية لفظاً للعن والازدراء.. وكذلك حال أمر اليهود إلى التشريد والإذلال بل والذبح على أيدي مختلف شعوب الأرض على مرّ العصور ( إلا المسلمين فقد حفظوا حقوقهم، وإن كانوا قد احتقروهم).. وكان الذبح العظيم على أيدي الروم عام 70 م وعام 130 م إنهاء لوجود اليهود بالأرض المباركة، وتحقيق تام للوعود المتكررة بعقابهم وتشريدهم.. وكذلك ورث المسلمون الأرض المباركة التي خلت من اليهود خلاء (4) قلّ أن يكون بأي بلد آخر بالأرض.. ونشأ بفلسطين عبر القرون الطويلة مجتمع آخر من المؤمنين، المتسابقين في الطاعات، الذين لا يحلفون إلا بالله ولا يتباركون إلا باسمه، نشأوا باسم جديد وبرسالة جديدة، ونُسيت مشاكل اليهود كلها وجرائمهم.. ولا يغرنّ القارئ عودة اليهود إلي فلسطين فهي عودة قصيرة غير مستقرة أشار إليها الرسول محمد صلى الله عليه وسلم..
وتحققت البشارة بحذافيرها إلاّ من قضيتين ذكرتا بها..(1/450)
الأولى: أنّ البشارة أخبرت أنّ الأمة القادمة هي من اليهود أنفسهم، وواضح أن ذلك من تحريفهم، والله أعلم، إلاّ أن يكون ذلك تبشير بطائفة منهم لا نعلمها في أحد عصورهم وذلك مستبعد تماما كما سنرى، ومثل هذا التحريف متوقع منهم في صرف البشارات لأنفسهم، وقد سبق معنا جدال عيسى عليه السلام لهم في ذلك، ثمّ أنّه لم يكن للأولين منهم ولا لمن استبدلوا بهم منهم ( الخالفين) أسماءً خاصة.. ولا صار اسم الأولين منهم مرادفاً للعن عند آخريهم أو عند طائفة منهم.. إنّما وقع العقاب عليهم جميعا، واصبحوا جميعا مشردين، واصبح اسمهم ( اليهود) رديف لفظ اللعن.. ولكن عند مَن؟ نص البشارة أعلاه يقول: "وتخلفون اسمكم لعنة لمختاريّ" وقد علمنا مما روي عن المسيح عيسى عليه السلام ومما سبق من بشارات أوردناها في الفصل الخاص بالمختارين أنّ المختارين لن يأتوا إلا من بعد هدم القدس – من بعد المسيح – بفترة من الزمن.. وأنهم _أي المختارين القادمون من بعد عيسى عليه السلام- هم الذين سيقضون على المخربين الذين خربوا الهيكل.. أي سيقضون على الدولة الرابعة التي ستحكم الأرض المباركة من بعد البابليين والفرس والإغريق.. وقد أثبتنا يقينا أنّ المخربين والدولة الرابعة هم الروم ودولتهم.. وغنيّ عن الإثبات أنّ المختارين الذين قضوا عليهم هم المسلمون، وأن هذه البشارة تبشر باستبدال اليهود بالمسلمين.. وأن اسم اليهود سيصبح رديفا للعن لدى المسلمين، وذلك تماما ما تمّ وثبت بالتأريخ.. وحمل المختارون الجدد اسماً آخر للمؤمنين: " لكنه يدعو عبيده باسم آخر" (5)، ومن بعدهم نسيت مشاكل اليهود ومعاندتهم: " لكنه يدعو عبيده باسم آخر فالذي يتبارك على الأرض يتبارك بإله آمين لأن المضايق الأولى تنسى وتستر عن عيني لأني هكذا أخلق سموات جديدة وأرضاً جديدة فلا يذكر الماضي ولا يخطر على البال"..(1/451)
وقبل أن أختم هذه الفقرة أُورد هنا ما يمكن اعتباره تفسيرا لقضية جعل لفظ اليهود مرادفا للعن بعد أن كان اسماً للأمة المختارة فترة من الزمن، جاء في مخطوطات البحر الميت ضمن الرقعة (6) 4Q201 ما يلي :
“ This is why you will curse your days and the years of your life will perish...The years of your destruction will increase with an everlasting curse . There will be no mercy or peace for you . This is why your name will be an everlasting curse for all the just ones and through you will be cursed ”
ويمكن ترجمة القطعة كما يلي:" ذلك لماذا ستلعنون أيامكم، وسنوات حياتكم ستفنى ( أي بسبب عصيانهم).. وسنوات دماركم ستزيد بلعنة أبدية، لن يكون هنالك لكم رحمة ولا سلام، هذا لماذا سيكون اسمكم لعنة دائمة لأهل العدل، ومن خلالكم يلعنون؟ " والقطعة أعلاه وردت مفصلة ضمن سفر اينوخ ( إصحاح 5) الذي جمعه تشارلزورث (7) حيث ذكر لعن الأشرار وجعل اسمهم لفظا للعن لدى الأخيار الذين سيرثون الأرض, ويعطون الحكمة..
والثاني ( أي الجانب الثاني الذي لم يتحقق من البشارة): أن البشارة قد وصفت السلام في عهد الأمة القادمة بطريقة يستبعد تحققها على الأرض إلا في زمن معجزات.. فلا يموت دون المائة سنة إلا ملعون، ولا يأكل السبع إلا تبنا.. والله أعلم بالمراد من هذه العبارات إن كانت من الوحي، وما يبعد أن تكون مجازاً عن معاني السلام والأمن، أو من مبالغات الكتبة واليهود ، وهو مما ناقشناه في مواضع سابقة، والله أعلم.. وقد يكون ذلك مما قد يتحقق لهذه الأمة في آخر الزمان، ولكن الكتبة والرواة خلطوا..
ـــــــــ
(1) الشعب الذي طلب منه العمل طول النهار في مَثَل الأجراء الذي روي عن المسيح عيسى عليه السلام كان بلا شك اليهود.
((1/452)
2) واضح أن القول بأن المختارين هم يهوداً من أبناء يعقوب، متناقض مع البشارة نفسها ومع وقائع التأريخ، ومع تبشير المسيح عليه السلام.
(3) إنّ المختارين ( المُصطَفين)لم يأتوا حتى عصر المسيح عليه السلام، وبشر هو بأنّ قدومهم سيكون من بعد هلاك اليهود وتشريدهم، مما يتبين معه أنهم من غير اليهود، بلّ وأخبر صراحة في مواضع سبق الإشارة إليها أنهم من غير اليهود، فكيف يمكن بعد ذلك وبعد أحداث التأريخ التي صدّقت البشارات الظنّ بأن الأمة البديلة هي أمة من اليهود..
(4) للتعليق على العودة المعاصرة لليهود إلى فلسطين أنظر خاتمة الجدول التاريخي.
(5) قال تعالى : " ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل.."
(6) Florentino Garcha, in The Dead Sea Scrolls Translated,Ed 1996, p.246.
(7) James H. Charlesworth, The Old Testament: Pseudepigraapha, Apocalyptic literature, 1983 Ed, p 15.
( 4) المصطفون ( المختارون ) بآخر الزمان:
مقدمة:(1/453)
هذه البشارة وردت في كتاب اينوخ ضمن نفس القطعة التي استشهد بها كاتب رسالة يهوذا الواردة ضمن رسائل العهد الجديد.. وقد كان استشهاد كاتب رسالة يهوذا هنالك هو على وقوع العذاب مستقبلا على الكفار في أيامه، فكتب في يهوذا 14- 17 :" وقد تنبأ عنهم أخنوخ سابع الآباء من آدم إذ يقول :" هو ذا الربّ قد أتى في ألوف قديسيه ليجري القضاء على جميع الخلق ويخزي الكافرين جميعا في كل أعمال الكفر التي ارتكبوها وفي كل كلمة سوء قالها عليه الخاطئون الكافرون" .. ومع أنّ هناك مجال لتفسيرها بأنّ ذلك عند مجيء المختارين بالدنيا، ونصر الله لهم على أعدائهم من الكفار، خاصة أن المجيء مع ألوف القديسين يذكر ببشارة فتح مكة بعشرة آلاف من القديسيين ( وقد تحدثنا عنها سابقا، وهي بشارة سفر التثنية 33 : 2 – 3)، إلا أنّ بقية النص المتصلة بما استشهد به كاتب رسالة يهوذا تتحدث عن العقوبة بيوم الفزع أو يوم القيامة، وذلك حين تسوى الأرض وتختفي الجبال، ويتم حساب الجميع بما فيهم الصالحون.. وقد أوردت هذه المقدمة لدلالتها على مكانة كتاب اخنوخ ( اينوخ) لدى النصارى واليهود، ولبقاء النص أعلاه بكتاب اخنوخ الموجود حاليا بدون اختلاف كبير عمّا اقتبسه منه كاتب رسالة يهوذا، مما يعطي بعض الثقة ببقية النص الذي سنستشهد به أدناه..
النص ( إينوخ 5: 5-10) :(1/454)
" وأنتم يا قساة القلوب فعسى ألا تجدوا أمانا ! ولذلك فسوف تلعنون أيامكم، وسنين حياتكم ستنتهي، بل وتتكاثر في اللعنة الأبدية، ولن يكون هناك أي رحمة بكم، وفي هذه الأيام ستجعلون أسماءكم لعنة أبدية لدى الصالحين، وسيلعنكم المذنبون على الدوام _ أنتم والمذنبون على السواء، ولكن المصطفون ( المختارون The elect) سيكون لهم النور، والسعادة، والسلام، وسيرثون الأرض. وبالعكس فلكم أيها الأشرار ستكون اللعنة. ثم إن الحكمة ستعطى للمختارين، وسيعيش كلهم دون أن يعودوا ثانية إلى الذنب أو الكبر، ولكن الذين أعطوا الحكمة سيتواضعون ولن يعودوا إلى الذنب.."
التعليق:
ما أقرب معاني هذه البشارة في كتاب اخنوخ إلي البشارة السابقة من كتاب إشعيا (فصل 65).. وقد أثبتنا من قبل بوضوح تامّ أن المختارين الذين سيرثون الأرض هم المسلمون.. وأن الملعونين المغضوب عليهم إنما هم اليهود.. وأن عقاب الله الذي توعد به الأنبياء أقوامهم من بني إسرائيل قد وقع، وكان أشدّه عام 70م، وهو ذلك العذاب الذي وقع أربعين عاما بعد آخر الرسل إليهم، وقد كان شديدا وبدون رحمة لهم.. ومن بعده جاء المصطفون فعلا.. وكانوا هم الذين بقي لديهم اسم اليهود لفظا رديفا للعن.. وهم الذين أعطوا الحكمة والثبات، ولم يعودوا إلى خطايا بني إسرائيل العظمى، وأنعم الله عليهم بالأمان والسعادة في سني حياتهم.. وفي كل هذا تأكيد للمعاني التي سبقت بالبشارات السابقة بما فيها بشارة اشعيا الأخيرة.
ــــــــــــــــــــ
(1) James H. Charlesworth, The Old Testament: Pseudepigraapha, Apocalyptic literature.
(2) النص الحالي الذي ذكره تشارلزورث يذكر "مع عشرات الملايين".
( 5) المنتظر قادم من الأمة الجاهلة:
النص: أشعيا 9 : 1 - 7 ..(1/455)
" الشعب السالك في الظلمة أبصر نوراً عظيماً، الجالسون في أرض ظلال الموت أشرق عليهم النور، أكثرتَ الأمّة عظّمتَ لها الفرح، لأن نير ثقلهThe Yoke of his burden وعصا كتفه، وقضيب مُسخِّرِهopressor) his the rod of) كسرتَهنّ كما في يوم مدين .. لأنه يولد لنا ولداً ونُعطى ابناً وتكون الرياسة على كتفه ويدعى اسمه عجيباً مشيراً إلهاً قديراً أباً أبدياً رئيس السلام، لنمو رياسته وللسلام لا نهاية، على كرسي داوود وعلى مملكته ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن إلى الأبد".
التعليق:(1/456)
هذه نبوة عن المسيا( المصطفى) اتفاقاً.. في هذه النبوءة يشرق نور الحق على الناس المقيمين في الظلام الدامس (1).. فتتكاثر أمتهم وتزدهر.. وترفع عنهم الأغلال ويُهزم أعداؤهم.. لأنهم يرزقون ابناً يحمل الحكومة على كتفه ( أو ربما علامةً على كتفه) مشيراً حكيماً أميراً للسلام وقائداً لمملكةٍ لا تنتهي.. فهذه نبوءة أخرى بالمصطفى أو المختار آخر الأنبياء، ومجيئه من أمّة جاهلة تعيش في الظلام.. وإقامته لمملكة الله التي ستعمر إلى الأبد كما سبق التبشير بذلك في النبوات السابقة.. وهي كلها قضايا لا تنطبق على عيسى عليه السلام الذي لم ينتصر على أعدائه، ولم يأتِ ليضع السلام بالأرض، ولم يقع من بعده على قومه من بني إسرائيل إلا السيف والتشريد، وقد روي عنه أنه قال :“ لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض، ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً.. ” ( متى 10 : 34)، فقد جاء نذيراً لليهود بهلاكهم، ولا ظهر - أي عيسى عليه السلام- في الأرض الجاهلة ذات الظلمات بل ظهر في أرض النبوّات من بين أكثر الناس معرفةً بالله في ذلك الحين.. ولم ينشئ عليه السلام مملكة ولا حكما، بل بشّر بها آتية من بعده بفترة من الزمن.. يكتب إريخ فون Erich Von Daniken (2) معلقا على نص من البشارة أعلاه : " أياً كان الذي يتعلق بالأماني و بكل ثمن لاستنتاج شخصية ميسيانية لعيسى من هذه المواضع الغامضة فانه يفشل فشلا ذريعا عند مواجهة حقائق التاريخ، فلم يتبع حياة عيسى قوة فريدة ولا مملكة باقية إلى الأبد. ويعلم ذلك بالطبع المسيحيون المتدينون وهو السبب في اختراعهم للمفهوم النظري لفكرة المملكة الخالدة، التي يفترض إنها ستتبع يوم الحساب. إن ما لم يظهر حتى الآن يفترضونه بالمستقبل، إنه أي شيء لإبقاء أماني الفرد الواحد خفاقة" ..(1/457)
والكاتب وإن كان غير مؤمن لكن كلماته – وقد أطلعت عليها بعد أن كتبت كل تعليقي على هذه البشارة- لتوافق الرأي البسيط الواضح أن هذه البشارات لا يمكن أن تكون قد قيلت في حق عيسى عليه السلام..
ولا تنطبق البشارة إلا على خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم الذي ظهر في الأرض الجاهلة الأمية، ومن أمّة لا تملك حضارة ولا دولة، تُقتل فيها البنات وتُعبد فيها الأصنام، فتحققت على يديه كل ما أخبرت به البشارة أعلاه.. وأنشأ مملكة الله وأمته الخاتمة الخالدة إلى منتهى عمر البشرية، وما جاء بعده من الله للناس من رسول، وأقام دينا ونظاما لا يقبل الله سواه إلى يوم القيامة.. وبه رفع الإصر والأغلال ( نير ثقله) التي كانت على بني إسرائيل كما جاء في قوله تعالى " ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم" الأعراف 157.. وهو الذي كان على كتفه علامة مشهورة بأنها ختم النبوة، كثيرا ما كان يبحث عنها من يفكر باعتناق الإسلام من أهل الكتاب.. ذكرها حسان بن ثابت في أشعاره فقال:
أغرّ عليه للنبوة خاتم من الله ميمون يلوح ويشهد
وأُشيرَ إلى وجود خاتم النبوة على كتفه صلى الله عليه وسلم في أحاديث عديدة منها ما رواه الإمام مسلم عن عبد الله بن سرجس أنه قال:" ثم درت خلفه فنظرت إلي خاتم النبوة بين كتفيه عند ناغض كتفه اليسرى جمعا عليه خيلان كأمثال التآليل"، وما رواه الحاكم في مستدركه عن جابر بن سمرة قال : " رأيت خاتم النبوة على ظهر رسول الله صلى الله عليه و سلم مثل بيضة الحمام". وقال هذا حديث صحيح على شرط مسلم.(1/458)
ويبقى في هذه البشارة قضيتين، الأولى: إطلاق لقب إله على النبي المختار المنتظر، وهو مخالف لتعاليم التوراة وتشريعها، ويبدو أنّ هذا الأمر من التحريف الذي وقع بالتوراة، أو أنها ترجمة خاطئة لكلمة السيد التي روي عن داود عليه السلام اطلاق مثلها على خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم.. وقد قرأ بعض اليهود الفقرة على أنّ الإله القدير، الأب الأبدي، صاحب السلام صانعٌ أمراً عجيباً.. وهي قراءاة للبشارة منسجمة مع عقيدة التوحيد التي هي وصية التوراة الأولى..
“ The mighty God, the eternal father, the prrince of peace is planning a" wonderful deed”(1)
وفي النسخة اليهودية (2):
“ A son has been given us.
And authority has settled on his shoulders.
He has been named
“ The mighty God is planning grace;
The eternal father, a peacable ruler”-
ويفهم منه أنّ المسيا قد سمي ( أي من قبل ولادته) وأن الله صانع أمراً عظيما، لا أنه هو الله نفسه كما ينحرف الى ذلك النصارى.
وفي الواقع فإن كتب البراهمة تشترك مع هذا الموضع من التوراة المحرّفة المعاصرة في الصاق صفة الألوهية بخاتم الأنبياء، أنظر الملحق بنهاية الكتاب الخاص بهذا الموضوع.. وهو لبس واضح، وقد يكون هو في الواقع مصدر الخلط الذي وقع هنا، والذي زاد فيه النصارى وتبنوه، كأساس للمعتقد.. وفي التأريخ مايشهد على ذلك..
والثانية: قضية صرف البشارة إلى نسل داود، وهو تحريف فضحه عيسى عليه السلام، وتحدثنا عنه فيما سبق.. ويبقى أن هذه البشارة كغيرها من البشارات في المسيا أو خاتم الأنبياء لا تنطبق الا على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم..(1/459)
هذا وقد تكرر ذكر أول هذه البشارة فيما توفر من مخطوطات البحر الميت، فيذكر جون كولن أن المخطوطة رقم 4Q245 قد بقيت في أربع قطع، وأنها تتحدث عن الذين يعيشون في الظلام والعمى wander in blindness كيف سيرتفعون وينهضون أو باللفظ العبري yqwmmwn " These then will raise” وأنهم هم المعنيون في رقع أخرى 4Q243 بأنهم سيصبحون هم المختارون وشعب الله المختار والمصطفى (3) وأن ذلك سيكون بعد معارك كبيرة في آخر الزمان.. ولم يتحقق ذلك في أحد إلا في العرب بظهور الإسلام.. وليس لهم في ذلك منافس..
ـــــــــــــــــ
(1) ورد في احدى رقع مخطوطات البحر الميت أن الذين يعيشون في الظلام سينهضون.. وهو ما يعني غالبا في الحياة الدنيا، إذ استخدمت بعد ذلك الفاظ العودة والتوبة، راجع كتاب John Collins ( ص، 16، طبعة1997) بعنوان: Apocalypticism in the Dead Sea Scrolls
(2) Erich Von Daniken, The return of the Gods, pp. 68, ed. 1995
(1) Walter C. Kaiser, Jr. Toward Rediscovering The old Testament, 1991,pp.105.
(2) The Jewish Bible: Tanakh The Holy Scriptures, by The Jewish Bible Society, Pheladelphia, 1985
(3) Apocalypicism in the Dead Sea Scrolls, by J.J. Collins, p.17.
( 6) مجد الله قادم من الشرق:
حزقيال 43: 2- 6(1/460)
" ثم ذهب بي الى الباب، الباب المتجه نحو الشرق، وإذا بمجد إله إسرائيل جاء من طريق الشرق وصوته كصوت مياه كثيرة والأرض أضاءت من مجده، والمنظر كالمنظر الذي رايته لما جئت لأخرب المدينة، والمناظر كالمنظرالذي رأيته عند نهر خابور فخررت على وجهي، فجاء مجد الربّ الى البيت عن طريق الباب المتجه نحو الشرق، فحملني روح وأتى بي الى الدار الداخلية وإذا بمجد الرب قد ملأ البيت، وسمعته يكلمني من البيت، وكان رجل واقفا عندي، وقال لي يا ابن آدم هذا مكان كرسيّ ومكان باطن قدمي حيث أسكن في وسط بني اسرائيل إلى الأبد، ولا ينجس بعد بيت اسرائيل اسمي القدوس.. "
التعليق:
لا ندري مدى أصالة هذا النص خاصة أنه يعد اليهود بالصلاح الأبدي وعدم الانحراف عن عبادة الله، وهو ما لم يحدث أبدا فقد عصوا بعد ذلك وعوقبوا بالقتل والتشريد في أنحاء الأرض.. والشاهد من إيراد هذا النص أنه إذا أغفلنا التحريف البيّن بالوعد بالصلاح الأبدي لبني إسرائيل، فإن النص يعد بالصلاح الأبدي قادم من المشرق.. ولطالما أريد بالمشرق بالتوراة بلاد العرب.. ومنها فعلا رأينا الصلاح الأبدي والرسالة الخالدة قد قدمت على أرض فلسطين فعمتها إلي أبد الدهر.. والله أعلم..
( 7) لغة جديدة للشعوب ضمن مملكة الله
صفنيا 3 : 8
" لذلك فانتظروني يقول الرب إلى يوم أقوم إلى السلب لأن حكمي هو بجمع الأمم وحشر المماليك لأصب عليهم سخطي.. لأني حينئذ أحول الشعوب إلى شفة نقية ليدعوا كلهم بإسم الرب ليعبدوه بكتف واحدة"
“ Yea, at that time I will change the speech of the peoples to a pure speech , that all of them may call on the name of the Lord and serve him with one accord”
التعليق:(1/461)
لغات الشعوب في فلسطين وسوريا والعراق وشمال أفريقيا من مصر حتى المغرب والسودان ولغات شعوب أخرى كلها تحولت إلي العربية بدخولها في الإسلام " شفة نقية".. وأصبح الناس يعبدون الله وحده في صفوف متراصة أثناء الصلوات " بكتف واحدة".. وما حدث مثل هذا التغيير في تأريخ الأرض المباركة بفلسطين وما حولها بظهور أي دين سابق إلا بظهور الإسلام.. وحتى عهد عيسى عليه السلام فإن هذا التغيير كان ما زال منتظراً، ولمّا يحدث بعد، كما يفهم من تبشير بولس بحدوثه مستقبلا.. وهو ما فهمه من التوراة المعاصرة له كما صرّح بذلك، جاء في الرسالة الأولى إلي أهل كورنيثوس 14 : 21 .. “ مكتوب في الناموس أني بذوي ألسنة أخرى وبشفاة أخرى سأكلم هذا الشعب ولا هكذا يسمعون لي، يقول الرب ”، وهو ما تم كذلك من خلال مخاطبة الله عز وجل لليهود مباشرة باللسان العربي من خلال القرآن الكريم.. لا من خلال يونانية ولا رومانية بولس ! الذي لم يكن لديه سوى رؤى وأحلام مزعومة كذّبه عليها اتباع المسيح الحقيقيون..
وقد سبق هذا التحول في لغات الشعوب - المشار إليه في البشارة أعلاه - انهيار الممالك التي كانت قائمة في تلك البلدان قبل الإسلام.. وهو ما يتفق مع صدر البشارة بإنزال العقوبة على الأمم الضالة..
.. وهذا النص الذي أشار بولس إلى وجوده بالتوراة يدل على مجيء كتاب ووحي من عند الله بغير لغة بني إسرائيل يخاطب من خلاله اليهود مباشرة بغير لغتهم – لنزول الوحي على نبي من غيرهم – فلا يسمعون ولا يستجيبون.. وذلك ما تم إلاّ من خلال القرآن الكريم، ولم ينزل بعد المسيح _ وهو نفسه من بني اسرئيل _ وحي الا الوحي الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي خوطب من خلاله اليهود مراراً ...(1/462)
وقد يستغرب القارئ استشهادنا بحديث بولس، وهو الذي لا نشك في ضلاله ولا في ابتداعه.. ولكنّ الواقع هنا أنّ بولس يستشهد في هذا الموضع على اليهود بوجود هذا النص في كتب العهد القديم لديهم، ولا يصدره من عند نفسه، وإن كان يستغله لإثبات أحقية دعوته، وهو ما نختلف معه عليه..
ونورد للقارئ غير المسلم مثلاً للخطاب الإلهي المباشر لليهود، ولكن بغير لسانهم ومن خلال الوحي على خاتم الانبياء.. فيه تذكير لهم بفضل الله عليهم، ومطالبة لهم بالوفاء بعهد الله الذي نقضوه من قبل، وبالإيمان بكتاب الله الأخير ورسوله الخاتم الذي قد عرفوا صدقه، وجاءهم مصدقاً لما معهم من التبشير به ومتفقاً مع روح العقيدة والشريعة الأصيلة لديهم..
مثال من خطاب الله تعالى بالعربية لبني إسرائيل
"يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون. وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولاتشتروا بآياتي ثمناً قليلاً وإياي فاتقون. ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون. وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين. أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون" البقرة 40- 44.
" يأهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويغفو عن كثير، قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين. يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم.."
ويُلاحظ أن اليهود لم يستجيبوا، ولم يسمعوا، وذلك ما صرح به الأنبياء من قبل كما سبق معنا.. وليس ذلك بغريب على اليهود وقدكفروا بآيات الله وبدلوها وهم يرون آيات الله ومعجزات الأنبياء أمامهم، قال تعالى : " أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يسمعون" البقرة 75..(1/463)
" وقضينآ إلى بنى إسرائيل فى الكتاب لتفسدن فى الارض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جآء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنآ أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ثم رددنا كم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا، إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليُتبروا ما علوا تتبيرا، عسى ربّكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا" الإسراء 4-7
إذلال الشجرة المتعالية واستبدالها بشجرة كانت وضيعة:
حزقيال 17: 23-24:
" هكذا قال السيد الرب: إني سآخذ من ناصية الأرز العالي لأغرسها. أقتطع من عالي أغصانه غصنا غضا وأغرسه أنا على جبل شامخ شاهق. في جبل إسرائيل العالي أغرسه فيُنشيء أفنانا ويثمر ثمراً ويصير أرزاً جليلا، فيأوي تحته كل طائر، كل ذي جناح يأوي في ظلّ أغصانه، فتعلم جميع أشجار الحقول أني أنا الربّ وضعت الشجر المرتفع ورفعت الشجر الوضيع، وأيبست الشجر الرطب وأنبت الشجر اليابس، أنا الربّ قلت وفعلت".
التعليق:(1/464)
عند الحديث عن استئصال بني إسرائيل من الأرض المباركة وتشتيتهم بين الأمم تكرر تشبيههم بشجرة سيئة سيتم قطعها.. وعلى القاريء هنا مراجعة البشارات الصريحة في ذلك كبشارة يحي عليه السلام ( متى 3: 1 - 3 ، 7 – 11)، وكما ورد في تشبيههم بالإنجيل بمثل شجرة تين خبيثة، وبحزقيال 19: 10-14 في تشبيههم بالشجرة التي ستُقتلع بغيظ، وواضح أنّ الحديث هنا هو عن استئصال شجرة بني إسرائيل التي رفعها الله عزوجلّ يوما بالرسالة والإصطفاء فاستكبرت على ربها وتعالت عليه تعالى، فوضعها وأذلها بين أمم الأرض، واستبدالها بشجرة كانت يوما وضيعة لا يُنظر إليها ولا إلى أرضها، تلك هي أمّة العرب التي كانت فعلا وضيعة بين الأمم، لا يُلتفت إليها كما قال عنها ذلك القائد الفارسي رستم، تعبد الأصنام وتقتل البنات، فرفعها الله وأعلى شأنها حتى تبعتها معظم أمم الأرض في دينها وتعاليم رسولها التي جاءت بلسانها العربي، فهي الشجرة الوضيعة التي أصبحت وارفة تأوي إليها أمم الأرض كلها حتى لم تعد خاصة بقومية واحدة.. ومن المعلوم أنّ المقصود هنا هو الحديث عن رسالة المصطفى ( المسيا) الذي ستكون دعوته لأمم الأرض والذي سيُنشيء مملكة الله التي تأوي إليها شعوب العالم.. وهذه الإشارة الأخيرة تكررت من قبل عند الحديث عن مملكة الله كما سبق بالفصل السابع من كتاب دانيال.. حين نصّ عن المسيا ( المصطفى) : " فأعطي سلطانا ومجدا وملكوتا لتتعبد له كل الشعوب والأمم والألسنة.."، ولا بأس بالإشارة هنا إلى تفسير "التفسير التطبيقي للكتاب المقدس" (1) بأن أشجار الصحراء هي أمم الأرض، وبأنّ هذه بشارة تخص المسيا، وهو الذي يعني كما أثبت من قبل المصطفى خاتم الأنبياء..(1/465)
هذا وتنبغي الإشارة هنا إلى أن الإستئصال كان هو موضوع الإصحاح السابع عشر من كتاب حزقيال الذي وردت به القطعة أعلاه.. وقد تركز الحديث به عن العقاب الذي تمّ على صدقيا الملك (2) ( وعلى أورشليم) على أيدي البابليين.. وبدا كما لو أنّ اليهود سيُغرسون كغرسة مباركة جديدة تفيء إليها أمم الأرض خاصة أنّ الإشارة جاءت صريحة بأن الغرسة المباركة ستُغرس بجبال إسرائيل.. ويردّ على هذا التفسير قضية أنّ الإصحاح نفسه أشار إلى أنّ عملية الغرس الثانية ( لبني إسرائيل) ستنتهي بالذبول ( حزقيال 17: 10) وهو ما حدث فعلاً فلقيت أورشليم على أيدي الروم مالقيته على أيدي البابليين بل أشد.
إن هذه نبوة ظاهرة بالمصطفى الذي سيأتي بالأمة المختارة البديلة من بعد لعن وتشتيت بني اسرائيل.. وما أظن أحدا يماري في هذا التفسير.. ونعلم أنه لم يتم لبني اسرائيل شيئا من نبوة المصطفى ( المسيا) الذي ستتوجه دعوته لكل الأمم.. وهم مازالوا ينتظرونه منذ آلاف السنين رغم أن عهد ظهوره كان متوقعا قريبا من عهد عيسى ابن مريم عليه السلام.. ونعلم من مواضع سابقة بهذا الكتاب تبديلهم للكتاب المقدس بتحويل بشارات المصطفى لتدل عليه من أبناء داود عليه السلام.. وما أظن ذكر جبال إسرائيل بهذا الموضع من كتاب حزقيال الا من ضمن ما حرفوا.
ــــــــــــــــــــــ
(1) " التفسير التطبيقي للكتاب المقدس" شركة ماستر ميديا، الطبعة الثالثة.
(2) يرجى مراجعة الجدول الزمني للتعرف على تاريخ الملك صدقيا المذكور.
الفصل الثامن
تغيير القبلة وبيت الله الأخير ببكة
تحويل قبلة العبادة عن القدس..
يوحنا 4 : 19 – 21
النص:
“ قالت له المرأة يا سيد أرى أنك نبي ، آباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يسجد فيه، قال لها يسوع : يا امرأة صدقيني أنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للأب ” .
التعليق:(1/466)
يدل الحوار السابق بين امرأة من أهل السامرة الذين يعتبرون جبل جرزيم أقدس بقعة وأنسبها للعبادة وبين عيسى عليه السلام الذي هو من بني إسرائيل الذين يعتبرون الهيكل بالقدس مكان العبادة الأفضل، يدّل هذا الحوار على أن الله سيختار للناس موضعاً ( قبلةً) جديداً للعبادة من بعد عيسى عليه السلام.. هي غير القدس وغير جبل جرزيم، وهو ما لم يتم إلا بعد تحويل قبلة المسلمين في الصلاة من بيت المقدس إلى البيت الحرام بمكة..
وهذه النبوءة تبين علم اليهود والنصارى بأن تحويل قبلة الصلاة عن بيت المقدس هو الحق، وأن الله قد أعلمهم باختيار مكان أو بقعة جديدة على الأرض ستكون هي موضع العبادة الأفضل في الأرض في المستقبل.. ولم يتم ذلك إلا من خلال الإسلام، وقد رأينا التصريح باختيار البقعة الأفضل في نبوة السبعين أسبوعا ( محمد في الكتاب المقدس لعبد الأحد داود. محمد في الكتاب المقدس لعبد الأحد داود. محمد في الكتاب المقدس لعبد الأحد داود.وفي بشارات أخرى) التي سبق أن ناقشتها باستفاضة في فصل سابق، قال تعالى : " فلنولينك قبلة ترضاها، فوّلِ وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون".
الأرض المقدسة...
إشعيا 35 :
النص:
) “ سوف) تفرح البرية والأرض اليابسة ويبتهج القفر ويزهر كالنرجس يزهر إزهاراً ويبتهج ابتهاجاً ويرنم، يدفع إليه مجد لبنان بهاء كرمل وشارون هم يرون مجد الرب بهاء إلهنا..
حينئذٍ تتفتح عيون العمي وآذان الصم تتفتح، حينئذٍ يقفز الأعرج كالأيل ويترنم لسان الأخرس لأنه قد انفجرت في البرية مياه وأنهارٌ في القفر.. وتكون هناك سكة وطريق يقال لها الطريق المقدسة لا يعبر فيها نجس .. ” .
التعليق:(1/467)
هي وحدها في كل الكرة الأرضية مكّة المكرمة.. أرض مقدسة في الصحراء ( القفر) حُرّم على غير المؤمنين دخولها.. هي حيث نزل النور فأبصر العُميّ وسمع الصم.. هي حيث كانت الجهالة ظلماتٌ مطبقة فانقشعت فجأة بنور الوحي، وأصبح الصُم العُميّ فجأة معلمي ومربييّ الأمم.. حيث لم يكن هناك الا قفر وجفاف وقحط ( في العلم والهدى) فأنفجرت الصحراء ( البرية والأرض اليابسة) بمكة بالهدى والنور لتصبح منارا لأهل الأرض..
... وهي مكة حيث جاء تحريم دخولها على غير المؤمنين بوصفهم أنهم نجسين.. فقال تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجسٌ فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) التوبة : 28.
وما كان اختيار هذا الوصف للكفار بأنهم نجسين فلا يدخلوا الأرض المقدسة بمكة عند تحريم مكة إلا وحياً من الله عزّ وجلّ على نبيه الأمي صلى الله عليه وسلم.. وفيه دلالة أن مكة هي الأرض المقدسة بالبرية أو الصحراء المقصودة في هذه البشارة، ثم كان قيام هذه الأرض الحرام وبقاؤها إلي اليوم محرمة على غير المسلمين آية للتأييد الرباني لرسوله صلى الله عليه وسلم.. وتصديقا لما بين يديه من الكتاب... وليس في الأرض بقعة أخرى يقدسها أناس من البشر وتحرّم على غيرهم من الناس غير مكة المكرمة..(1/468)
ويظل جديرا بنا هنا تذكير القارئ غير المسلم أن من المستحيل على محمد ( صلى الله عليه وسلم) أن يختار وصف المشركين بأنهم غير طاهرين أو نجسين عند تعليل منعهم من دخول الأرض المقدسة لولا أنه الوحي من الله عز وجل.. ولو أنّ محمداً ( صلى الله عليه وسلم) ظلّ يبحث في صفحات التوراة وكتب الأنبياء ( الكتاب المقدس) وهي كثيرة جدا، لو ظل يبحث بها ليلا ونهارا لما اهتدى إلى اختيار تعليل منع الكفار من دخول الأرض الحرام ( المقدسة) بنجاستهم، فما تلك إلا كلمة واحدة لم تتكرر.. فكيف وقد ثبتت أميته، كيف وهو يعيش بين أصحابه، وهم يدخلون بيوته ويخرجون، ويختلط بهم كل حين وما رؤى قط يحمل قلما ولا ورقة، كيف والأمر لا يقف عند هذه اللفظة بل يتجاوزه إلى تفاصيل أخرى لا تكاد أن تحصى كلها دقيقة في الإشارة إلى أهل الكتاب وتاريخ أنبيائهم والمآخذ عليهم.. كيف ولو اجتمعت له المكتبات الضخمة لما اهتدى إلى شيء من الهدى بنفسه.. إنه الوحي الربانيّ الذي أخبر أشعيا هنا باختيار أرض من الصحراء وهداية العمي والجهال بها وتحريمها على الأنجاس من غير المؤمنين.. هو نفسه الذي قضى إلى محمد ( صلى الله عليه وسلم) بتحريم هذه الأرض من مكة على الأنجاس من غير المؤمنين..
إنه ببكّة..
مزامير 84
النص:
" ما أحلى مساكنك يا ربّ الجنود تشتاق بل تتوق نفسي إلى ديار الرب.. طوبى للساكنين في بيتك أبداً يسبحونك، سلاه. طوبى لأناس عزّهم بك، طرق بيتك في قلوبهم عابرين في وادي البكاء يصيرونه ينبوعاً.. يا رب إله الجنود وإصغي يا إله يعقوب، سلاه. يا مجنناً انظر يا الله والتفت إلى وجه مسيحك لأن يوماً واحدأ في ديارك خير من ألف ” .
Psalms 84 :
“ How I love your temple, Almighty God! How I want to be there ! I long to be in the Lord’s temple ..
... .. How happy are those live in your temple, always singing praise to you.(1/469)
... How happy are those whose strength comes from you. Who are eager to make pilgrimage to Mount Zion. As they pass through the valley of Becca, it becomes a place of springs ..
... One day spent in your Temple is better than a thousand anywhere else .. ”
والترجمة الدقيقة والحرفية لهذا النص بالإنجليزية هي على ما يلي:
" لكم احبّ معبدك، يالله العظيم، لكم أريد أن أكون هنالك! أشتاق أن أكون في معبد الربّ.. لكم هم سعداء أولئك الذين يعيشون في المعبد، يسبحون لك بالحمد كل حين.. كم هم سعداء هؤلاء الذين يستمدون قوتهم منك، والذين يشتاقون إلي الحج إلي جبل صهيون، فعندما يمرون بوادي بكة يصبح مكانا للينابيع.. إن يوما واحدا في معبدك لهو أفضل من ألف يوم في أي مكان آخر."
وقد ورد لفظ بكة Becca أو Baca كعلم للوادي مستفتحا بحرف الباء الكبير للدلالة على أنه اسم علم في نسخ Good News Bible و Webster Bible و King James Version
التعليق:
يتعجب هنا داوود عليه السلام ويغبط الناس الذين يسكنون حول بيت الله القادم.. حيث يحج إليه الناس ويمرون بوادي بكّة.. وواضح أن لفظ بكة Becca هو لفظ علم واسم للوادي بمنطقة "بيت الله" الذي سيحج إليه الناس في المستقبل من بعد عصر داود، وليس وصفاً لحال الناس عند البيت بأنهم يبكون.. فهو علم على المكان والوادي.. ويكفي للتدليل على ذلك أنه كتب في الكثير من النسخ على هيئته الأصلية كاسم علم، بالطريقة التي تكتب بها أسماء الأعلام بالإنجليزية ( الحرف الأول بالحرف الكبير).(1/470)
هذا ويعترف عدد من مفسري الكتاب المقدس بأنّ هذه أصعب لفظة بكتاب المزامير الذي وردت به (1)، وما هي كذلك وهي اسم علم لا معنى لتفسيره وليس بالضرورة أن يُعلم موقع مسماها إلا لأنّ في الكلمة تذكير بمكة المشرفة والبيت الحرام بها.. وتدل إشارة أحد مفسري التوراة إلى أنها من أسماء مكة على اطلاع هؤلاء المفسرين (2) على هذه القضية وحساسيتها بالتالي لديهم، مما يُعلل حرصهم على تفسير هذه المفردة بأي ثمن! فبينما يحاول بعضهم تفسير معناها ( من خلال العربية) بأنّها تعني البكاء.. وأنّها بالتالي لا تعني واديا محددا.. يزعم غيرهم بأن هناك واديا بسيناء اسمه وادي البكاء.. ويرى آخرون أنّ لفظ بكة ( بالعبرية) لا يعني أبدا البكاء.. وأنّ للبكاء لفظ آخر بالعبرية.. ومن المفسرين من يرى أنّ اللفظ يعني شجرة التوت Mulberry tree .. وهناك من لا يقرّ بهذين التفسيرين ويرى فيهما تحريف لحروف الكلمة.. ويرى مؤلفوا أحد التفاسير (2) أن الكلمة تدل على شجرة الباكون(؟) التي تشبه شجرة البلسم، وأنها تكثر في الأرض المقدسة بمكة! وأنّ هذا هو سبب تسمية مكة ببكة!، ومنه انتقل الاسم لغيرها!
وعلى أي حال فواضح أن الجميع يبحثون عن مخرج لذكر اسم مكة بهذا الموضع الذي يتحدث عن بيت الله عزوجل.. ويفهم من النص أن هذا الوادي جاف، وغير ذي زرع، وبه بئر تمت الإشارة إليها بالنص أعلاه.. وكل ذلك وصف منطبق على وادي بكة الذي تقع في وسطه الكعبة المشرفة..(1/471)
إنّ في ذكر اسم بكة وواديها ( وكلها وديان قافرة في أرض صحراوية، وكذلك سمّاها وادياً ابراهيم عليه السلام كما ذكر بالقرآن الكريم"اني أسكنت من ذرّيتي بوادٍ غير ذي زرعٍ" ) عند الحديث عن الحج وبيت الله القادم.. إشارةً بيّنةً إلى مكان بيت الله القادم ببكّة ( أو مكّة ).. وبكة اسم آخر بديل لمكة المكرمة سُميت به في القرآن والتاريخ العربي القديم قال تعالى:"إنّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدىً للعالمين" ال عمران: 96.
ولو أن صهيون تعني أورشليم فإن النص الأصيل إما أنه كان يتحدث عن بيتي الله تعالى في كل من القدس وبكّة أو أنّ أحد اسمي هاتين المدينتين قد أدخله اليهود على النص..
... إن ذكر اسم مكة عند الحديث عن بيت الله القادم الذي سيحج إليه الناس لا يمكن أن يكون مصادفة.. وواضح أنّ ورود لفظ صهيون بالنبوة لا يُقلل من دلالة ورود لفظ اسم مكة ( بكة) بها.. سواء أكان اسم صهيون أصيلا بالنبوة أم كان من إضافات اليهود وتحريفاتهم المعتادة .. فلا شك أنّ ذكر اسم مكة / بكة هنا يعني بيت الله ببكة المكرمة.. وفيه اتفاق مع ما سبق من بشارات تبشر بتغيير القبلة، وانشاء بيت لله جديد بآخر الزمان..
مناقشة للفظ صهيون بالنبوءات
..ومع ذلك فيرى البعض كابن القيم رحمه الله في " هداية الحيارى" أن لفظ "صهيون" يعني مكة نفسها، ومع نفينا أن يكون هذا من أسماء مكة إلا أنّ تبديل اليهود لما يدلّ على بكة بصهيون جعل البعض يتسآءل فيما لو كان صهيون من أسماء مكة..(1/472)
فإضافة إلى هذا الموضع من المزامير ( مزمور 84) جاء لفظ صهيون عند الحديث عن حجر الزاوية في إشعيا ( إشعيا 28: 16) (3) منسوباً إلى صهيون، هذا مع جزمنا التام أنّ حجر الزاوية لم يأتِ حتى عصر عيسى عليه السلام، وأن هذا " الحجر" سيكون من غير اليهود، وهو الذي سيقيم مملكة الله القادمة من بعد عيسى عليه السلام كما صرح هو بنفسه بذلك لليهود في زمانه ( متى 21: 33-45) وكما سبق أن فصّلنا بالفصل الثاني من هذا الكتاب.. مما يعني أن نسبة حجر الزاوية الى صهيون باشعيا ليعني أورشليم هو من التحريف البين..
وفي مناقشة البشارة السابقة ( بشارة الأرض المقدسة) من اشعيا اصحاح 35: أثبتنا أنّ البشارة إنّما تتحدث عن منطقة الحرم الآمنة بمكة بالبرية القفر التي ستتفتح بها عيون العمي وآذان الصمّ.. وتُحرّم على النجسين.. لكنّ اسم صهيون ورد بخاتمة البشارة بعبارة "ومفديو الربّ يرجعون ويأتون إلى صهيون بفرح أبدي على رؤوسهم" .. وهو مالم يحدث على أرض أورشليم، إلا التفسير بأن الناس سيحجون الى الأرض المحرمة ( بمكة) ثم يعودون الى ديارهم بأورشليم محلقين رؤسهم فرحين.. فكأنّ آثار الحلق على رؤسهم عند عودتهم إلى ديارهم بأورشليم دالّ على حجهم وفرحهم بذلك، أمّا التفسير بأن الأرض الحرام هذه ستكون بأورشليم فهو مالم يتمّ ومما يضع احتمال تبديل الألفاظ بهذا الموضع..
هامش البشارة بالحج إلى بكة المكرمة
(1) يقول مؤلفوا التفسير Albert Barnes Notes on the Bible بأن لفظ بكة أصعب كلمة بالمزامير:
"This is one of the most difficult verses in the Book of Psalms, and has been, of course, very variously interpreted."
(2) النص المستشهد به من كتاب Keil Delitzsch Commentary on the Old testament كما يلي:(1/473)
??? ?????" does not signify the “Valley of weeping,” as Hupfeld at last renders it (lxx êïéëلىنل ôïُ? êëلُèىù?يïٍ), although Burckhardt found a [Arab.] wa?di? 'l-bk' (Valley of weeping) in the neighbourhood of Sinai. In Hebrew “weeping” is ????, ????, ??????, not ????, Rénan, in the fourth chapter of his Vie de Jésus, understands the expression to mean the last station of those who journey from northern Palestine on this side of the Jordan towards Jerusalem, viz., Ain el-Harami?je, in a narrow and gloomy valley where a black stream of water flows out of the rocks in which graves are dug, so that consequently ??? ???? signifies Valley of tears or of trickling waters. But such trickling out of the rock is also called ????, Job_28:11, and not ????. This latter is the singular to ?????? in 2Sa_5:24 (cf. ?????, ?????, Psa_103:21), the name of a tree, and, according to the old Jewish lexicographers, of the mulberry-tree (Talmudic ?????, Arab. tu?t); but according to the designation, of a tree from which some kind of fluid flows, and such a tree is the Arab. baka'un, resembling the balsam-tree, which is very common in the arid valley of Mecca, and therefore might also have given its name to some arid valley of the Holy Land (vid., Winer's Realwِrterbuch, s.v. Bacha), and, according to 2Sa_5:22-25, to one belonging, as it would appear, to the line of valley which leads from the coasts of the Philistines to Jerusalem."
(3) اشعياء 28: 16 " لهذا يقول الرب :" ها أنا أضع حجر أساس في صهيون، حجر زاوية ثمينا ليكون أساسا راسخا وكل من يؤمن به لا يهرب، وسأجعل العدل خيط قياس والحق مطمارا.."(1/474)
بيت الله القادم ( الأخير )..
حجيّ 2 : 6 - 8 ..
النص:
... “ وأزلزل كل الأمم ويأتي مشتهى* كل الأمم فأملأ هذا البيت مجداً قال رب الجنود، لي الفضة ولي الذهب يقول رب الجنود، مجد هذا البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول قال رب الجنود ، وفي هذا المكان أعطي السلام يقول رب الجنود ” .
التعليق:
ينقل م.أ. يوسف في كتابه بالإنجليزية " مخطوطات البحر الميت وإنجيل برنابا والعهد الجديد" ص110 عن السير قروفري هيقين Sir Godfrey Higgins في كتابه Apocalypsis بأن اسم المسيا الذي سيأتي بعد عيسى قد ظهر في فصل 2، آية 7: " ويأتي مشتهى* كل الأمم"، فالحروف العبرية هنا حمد HMD من النص العبري علق عليها قروفري هيقين بقوله :
” “ From this root, the pretended prophet Mohammed or Mahomet, had his name.” Sir Hggin says,” Here Mohammed” is expressly foretold by Haggi, and by name; there is no interpolation here. There is no evading this clear text and its meaning ..”
وهو ما يمكن أن يترجم إلي ما يلي: " من هذا الجذر – يعني كلمة حمد- فإن هاهنا إخبار واضح عن محمد بواسطة حجي ( النبي) بالاسم، وبدون أي إدخالات على النص، ولا مهرب من هذا النص الواضح ومعناه أو وما يعنيه.."
فمشتهى تنطق بالعبرية حمادا، فيكون ذلك ذكراً صريحاً لاسم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالتوراة.. وهو ما أقر به المنصفون حتى من غير المسلمين كما رأينا أعلاه.. فإذا جاء حمادا أو الحماد أوالحامد أو محمّد فستتزلزل أمم، ويقوم لله بيت بمجد هو أعظم من مجد بيت الله الأول (1).. وعلى أي حال فقد اعتبرها عامة مفسري التوراة تبشير بأن مجيء المشتهى المنتظر الذي هو المسيا أو المصطفى قد أصبح وشيكاً.. وإن كانوا يصرفونها لتعني عيسى عليه السلام..(1/475)
فمتى زلزلت أمم الأرض وأتاها المنتظر؟ ومتى سقطت الممالك (2) تحت حكم نبي تنتظره أمم الأرض ويتحدث عنه الأولون من قبل مجيئه؟ ومتى أقيم بيت الله الأخير الذي فاق مجدُه مجدَ البيت الأول بأورشليم ؟ وبني في مكان آمن لا يصله الأعداء كما اعتادوا وصول البيت الأول فدمروه مراراً.. لاشك بأن البيت الأول هو ذلك الذي بناه ابراهيم واسماعيل عليهما السلام ببكة.. فقد بني قبل الهيكل الذي بناه سليمان ولكن المقصود هنا أن بيت الله بالقدس هو الذي استمرت عمارته أولاً وظلّ معموراً بالمؤمنين وبعبادةالله (رغم كل المعاصي والمخالفات) حتى جاء أمر الله بهدمه على أيدي الروم.. وكان البيت الأخير الذي عمّر بعد ذلك بالمؤمنين هو البيت الحرام ببكة المكرمة..(1/476)
متى تم هذا كله إلا بظهور الإسلام وجعلِ البيت الحرام في مكة قبلةً للناس.. فكان مجد بيت الله الأخير أعظم من مجد بيته السابق بالقدس، وكان الأمن بمكة تاماً على خلاف ذلك بالقدس.. وحتى بعد حجي لم تنعم القدس بلحظة من أمن أو سلام، فمن بعد حجي هاجمها اليونانيون، ثم هاجمتها ممالكهم التي نشأت من بعد الإسكندر من الشمال بسوريا وممالكهم من الجنوب بمصر في هجمات كثيرة لا تكاد أن تحصى، كما هاجمها جند اليهود أنفسهم وقتلوا كثيرا من أهلها مرارا، ثم هاجمها الرومان عام 67ق م و37 ق م و70م وعام 130م حتى أزالوا أهلها عنها تماما وحرموها عليهم، وغيروا اسمها ومعالمها.. فهل نَعِم بيت الله بأورشليم من بعد حجي عليه السلام بالأمن والسلام.. سواء في بنائه الأول الذي دمره نبوخذنصر أم في بنائه الثاني الذي جاء من بعد عصر حجي وتعرض هو وأهله لخوف ومذابح لم تنقطع طيلة القرون حتى أزيل البيت تماما على أيدي الرومان، ولم يجيء بناؤه الثاني في عصر الفرس إلا بسيطا مخيبا لآمال الذين عرفوا البيت الأول كما ثبت ذلك بالتاريخ.. فلم يكن بناؤه الثاني إلا أدنى بكثير من بنائه الأول.. ولما أعاد بناءه هيرودوس، فإنه لم يزيد في سعة أبنيته ولا ارتفاعها، بل زاد في مظهرها الجمالي المعماري فقط، وظلت الأبنية صغيرة كما كانت لما بناها العائدون من بابل مخيبة لتوقعات اليهود، وقد أضاف هيرودوس للبيت صحنا مفتوحا عظيما، استمرت أعمال بنائه حتى بعد عام 60م .. أي أن البيت الذي بناه هيرودوس لم يتمتع بعد اكتمال بنائه ولا بعشر سنوات من الأمان، حتى أزاله الرومان تماما عام 70م.. فكيف يكون لأحد أن يزعم أن البيت المقصود بالبيت القادم هو ذلك البيت الذي بني بعد عودة الأسرى من بابل..
...
صورة 1: منظر عام للحرم المكي تظهر فيه جموع المصلين من بعض نواحي الحرم .. وتمتد الجموع الى الشوارع العديدة المتفرعة عن ساحات الحرم ( لا تظهر بالصورة)..(1/477)
صورة 2: منظر مقرّب عن السابق للحرم المكي تظهر فيه جموع المصلين بساحة الكعبة المشرفة وعلى سطح الحرم ..
صورة3: منظر للمعبد ( بيت الله بالقدس أو الهيكل) كما يتخيله اليهود، وللمرء أن يلاحظ أي البيتين أبهى؟ وإن كان البهاء الروحي والسكينة الربانية هي الأصل، ويعلم الذين يقرأون الكتاب أن اليهود قد أُتهموا بتنجيس البيت..
أنه فقط ( والله أعلم) البيت الأخير ببكة الذي زاد بهاؤه على البيت الأول بأورشليم قد نعم بالأمن والسلام الدائمين.. ولينظر القارئ هل يجد مثل هذا الجمع العظيم من الناس على وجه الأرض يجتمعون كل عام لأيام عديدة ( بالحج وبرمضان، خاصة في العشر الأخيرة منه) موحدين لله.. ساجدين راكعين.. ويرى القارئ بالصورة - رقم 1- منظرا عاما لصفوف القائمين المصلين، لا يسعهم المسجد.. حتى أن المرء ليحسب أن المصلين خارج المسجد هم أكثر من ئالذين بداخله خاصة إذا تذكر أن الصفوف تمتد بين الشوارع المتفرعة وتحت العمائر الضخمة ولا تظهر في مثل هذه الصورة.. ويرى القارئ بالصورة - رقم 2- منظرا مقربا عن السابق لجموع المصلين على سطح المسجد الحرام.. وعليه أنّ يلاحظ أن هنالك ثلاثة طوابق أخرى (باحتساب الطابق تحت الأرضي) كل منها مشتمل على أعداد مشابهة للتي على سطح الحرم كما هو بالصورة أو تزيد.. ويرى الطائفين حول الكعبة في وسط هؤلاء جميعا.. فهل يرى إلا بهاء ومجدا وعظمة لم تدانى من قبل! .. وأي بيت لله هو أبهى من البيت الأول الذي بناه سليمان ونزل الوحي وهو قائم معمور على حجي وعلى غيره من الأنبياء ببني إسرائيل إلا أن يكون ذلك البت هو بيت الله الذي أقيم بمكة.. مبشرا ببيت لله قادم هو أعظم وآمن من البيت الأول الذي يعاصرونه عند نزول التبشير.. إنه التبشير بقيام البيت الحرام بـ"الأرض الحرام" بـ" أقدس بقعة وآمن على الأرض".. تحقق بمجيء المصطفى المنتظر محمد ( الحمادا) رسول الله صلى الله عليه وسلم..(1/478)
غني عن الإعادة هنا تذكير القاريء أن البشارة لا تنطبق بأي حال على المسيح عيسى عليه السلام لا من قريب ولا من بعيد..
ــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع كذلك (محمد في الكتاب المقدس ) لعبد الأحد داوود..
(2) جاء في بعض التفاسير الإشارة إلى أن زلزلة الأمم هو بسقوط هذه الممالك.. وعدد المفسرون هنا سقوط الأمبراطوريات الأربع كتمهيد لظهور المصطفى المنتظر.. ويكفي هنا القول بأن زلزلة الأمم الكافرة قد تمت فعلا بظهور المصطفى مرة واحدة وخلال زمن قصير.. كتب مؤلفوا تفسير Albert Barnes' Notes on the Bible " إن هناك هزّ للأرض سابق لمجيء الربّ ( يقصد المسيح). امبراطوريات تقوم وأخرى تسقط، الفارسية سقطت أمام الإسكندر، وامبراطورية الإسكندر العالمية انتهت بوفاته المفاجئة في شبابه، وبخلفائه الأربعة الذين لم يبق منهم إلا إثنان، ثم سقطا كذلك تحت الرومان، ثم الحرب الرومانية الأهلية.." والواقع فبمثل هذا كتب الكثير من مفسري الكتاب المقدس الآخرين.. كل ذلك ليدلل الكتبة على أن هناك زلزلة بالأمم سبقت ظهور المسيح كدليل على أنه هو المقصود بهذه النبوة.. والواقع أن عقوبة أهل الكفر وزلزلة دولهم إنما تمت بظهور محمد صلى الله عليه وسلم وأمته المباركة التي خرجت بهذا الدين لكل الأمم..
" There was a general shaking upon earth before our Lord came. Empires rose and fell. The Persian fell before Alexander’s; Alexander’s world-empire was ended by his sudden death in youth; of his four successors, two only continued, and they too fell before the Romans; then were the Roman civil wars, until, under Augustus, the temple of Janus was shut."
وعد سابق ببيت الله الآمن:(1/479)
إن البيت الذي سينعم بالأمن والسلام سيكون في بقعة جديدة كما يفهم من النبوات السابقة ( كنبوة السبعين أسبوعا وغيرها مما تقدم ومما سيلي )، وكما يفهم من المخطوطات بأن الوعد ببيت الله في آخر الزمان في مكان (جديد) آمن من الأعداء هو وعد الهي قديم سبق ذكره من قبل موسى عليه السلام.. وما زالت الإشارة إليه قائمة حتى بالتوراة الحالية..
فمن مخطوطات البحر الميت (174 - 4q) * :
“ I will appoint a place for my people Israel and will plant them that they may dwell there and be troubled no more by their enemies. No son of iniquity shall afflict them again as formerly .. This is the House which He will build for them in the last days as it is written in the book of Moses, in the sanctuary which thy hands have established,
Dead Sea Scrolls in English ,3rd edition, by G. Vermes,p. 293.
ويمكن ترجمة القطعة أعلاه كما يلي: " سأختار مكانا لشعبي إسرائيل وأزرعهم فيه فيقيمون فيه، فلا يزعجهم بعد ذلك أعداؤهم، ولن يؤذيهم مرة أخرى أي أحد من أبناء الضلال.. إنه هذا هو البيت الذي سيبنيه لهم في آخر الأيام ( الزمان) كما هو مكتوب في كتاب موسى، في الحرم الذي أقامته أيديهم"
ومن مخطوطات البحر الميت كذلك:
“ ... “ O Lord, the Lord shall reign for ever and ever . This is the House into which the unclean shall never enter, nor the uncircumcised, nor the Ammonite, nor the Moabite, nor the half-breed, nor the foreigner, nor the strange, ever; for there shall My Holy Ones be. [Its glory shall endure] forever; it shall appear above it perpetually. And strangers shall lay it waste no more, as they formerly laid waste the Sanctuary of Israel because of its sin. ” 4 Q- 174
من مخطوطات البحر الميت (174 - 4q):(1/480)
“ أو ربّ، الرب سيحكم إلى الأبد والأبد، هذا هو البيت الذي سيُمنع الأنجاس أبدا من دخوله، وغير المختونين ( أي يمنعون من دخوله كذلك)، ولا العمونيين، ولا الموابيتيين، ولا نصف المولّد، ولا الأجنبي، ولا الغريب أبداً ( لن يدخلوه)، وسيكون هنالك قديسييّ، مجده سيثبت للأبد ويتزايد مع الأيام، ولن يهدمه الغرباء أبداً مرة بعدُ، كما صنعوا بحرم إسرائيل عندما هدموه نتيجة ذنبها ( أي نتيجة ذنوب إسرائيل)."
واضح من هذه النصوص الوعد بأن الله سيختار للمؤمنين في آخر الزمان مكانا آخر، ويقيم لهم بيتا له لعبادته في مكان لا يصل إليه أعداؤهم.. وأنّ هذا البيت الذي سيحرّم دخوله على الأنجاس ( أي غير المؤمنين) وعلى غير المختونين ( الإضافات العرقية الأخرى لا تبدوا إلا من إضافات اليهود وتعصبهم)، وهذا البيت لن يهدمه الغرباء كما هدموا الحرم الإسرائيلي (بالقدس) نتيجة ذنوب بني إسرائيل.. فهل هنالك ما هو أصرح من هذا في التبشير بقيام بيت الله الحرام في مكان جديد غير القدس ( وقد صار بمكة)، خاصة إذا تذكر القارئ الكريم حديث عيسى عليه السلام مع السامرية وكذلك بقية النبوات التي تشير إلى اختيار مكان جديد للعبادة.. وإذا انتبه القارئ أن بني اسرائيل لم يرتبطوا ولم يتطلعوا لابالماضي ولا بالحاضر الى مكان مقدس غير القدس.. فإنه سيعلم أنّ كل هذا التبشير ببيت لله جديد أبهى من الأول بآخر الزمان.. في أقدس بقعة ( أو على يد أفضل المرسلين) انما هو تبشير بالحرم بوادي بكه المباركة..(1/481)
ولا يضير بعد ذلك أن يزعم اليهود أن هذا المكان الجديد الآمن الذي سيظل إلى نهاية عمر البشرية ( أبداً) سيكون خاصا بهم، فمن المعلوم أنهم لا يتطلعون لغير الهيكل بالقدس، وأن الهيكل مازال مهدوما منذ ما يقرب من ألفي عام.. وأن هذا الوعد لم يتحقق في هيكلهم.. وأن مملكة الله الأبدية بآخر الزمان ليست منهم.. بل من غيرهم، وأنهم مطرودون من الأرض المباركة لترثها أمة غيرهم.. فكيف تكون لهم البقعة الأفضل الجديدة للعبادة التي ستختار مع أن قيام مملكة الله هو من غيرهم..
حجّ للأمم حول بيت الله القادم.. إشعيا 60
النص:
“ قومي استنيري لأنه قد جاء نورك ومجد الرب أشرق عليك، لأنه ها الظلمةُ تغطي الأرضَ والظلامُ الدامسُ الأممَ، أما عليك فيشرق الرب ومجده عليك يُرى، فتسير الأمم في نورك والملوك في ضياء إشراقك.
... ارفعي عينيك وانظري حواليك، قد اجتمعوا كلهم، جاءوا إليك، يأتي بنوك من بعيد وتحمل بناتك على الأيدي.. لأنه تتحول إليك ثروة البحر ويأتي إليك غنى الأمم تغطيك كثرة الجِمال بُكرانُ مديان وعيفة، كلها تأتي من شَبَا تحمل ذهباً ولُباناً وتبشر بتسابيح الرب، كل غنم قيدار تجتمع إليك، كباش نبايوت تخدمك، تصعد مقبولةً على مذبحي وأزين بيت جَمالي.
مَن هؤلاء الطائرون كسحاب وكالحمام إلى بيوتها، إن الجزائر تنتظرني وسفن ترشيش في الأول لتأتي ببنيك من بعيد.. وبنو الغريب يبنون أسوارك وملوكهم يخدمونكِ.. ”
“ .. Great caravans of camels will come, from Median and Ephah, They will come from Sheba .. All the sheep of Kedar and Nebaioth will be brought to you as sacrifices ..The Lord will make his Temple more glorious than ever
التعليق:(1/482)
النص السابق يتحدث بوضوح عن حجٍّ للأمم واجتماع إلى أرض مقدسة أشرقَ عليها النورُ ( في النسخ الإنجليزية ذكرت أنها القدس).. فأتتها قوافل الحجيج بجِمالها الكثيرة من كل جهة من مدين ومن سَبأ ومن غيرها.. بل منهم من جاء طائرا كطيران السحاب والحمام! وهناك قدمت الأضاحي من كباش بني إسماعيل ( أو بني قيدار) وهناك صار مجد البيت الأخير أعظم من مجد البيت الأول وباق إلى الأبد..
وقد مرّ ما يقرب من ثلاثة آلاف عام ولم يتحقق مثل هذا الحجّ المُميز بذبح الأمم المتعددة مجتمعة للأضاحي الكثيرة تقربا إلى الله عزوجلّ.. ولأضاحي بني اسماعيل ( من غير بني اسرائيل) بالذات.. لم يتحقق مثل هذا الحج المميّز بالبيت العظيم واجتماع الأمم المختلفة ( لا أمة اليهود وحدها) المهتدية بنور الهدى الرباني، وبقدوم الأمم ( من الشمال) من مديان وحيفا (النص الإنجليزي) و( من الجنوب) من سبأ، ومن البحار، ومن كل ناحية وصوب، لم يتحقق مثل هذا الحج الديني إلا من خلال حج المسلمين السنوي إلى مكّة والأراضي المقدسة حولها.. فهناك تجتمع الملايين من الأمم، وهناك يُضحى بمئات الآلاف بل ربما الملايين من الأغنام سنوياً قربةً إلى الله.. وينتهي هذا الإصحاح بذكر رضى الله الأبدي وبتشبيه الأمة بغرس صغير نما.. وهو التشبيه الذي أُشير إليه عند التبشير بالمسلمين بالإنجيل ( مثل حبة الخردل السابق ذكره).. وذكره أصحاب المخطوطات عند حديثهم عن المختارين (1)(1/483)
وقد وردت إشارة كذلك إلى أنه سيتم بآخر الزمان حج الأمم إلى بيت الله ( إشعيا 2: 2-4، ميخا 4: 1- 4) (2)، إلا أن هذه البشارات ذكرت أن هذا الحج العالمي سيتم إلى جبل الرب بصهيون، إلى بيت اله يعقوب، حيث ظهرت الشريعة وخرجت كلمة الربّ.. والواقع أنه لم يتم للأمم من غير أمة بني اسرائيل قطّ حجّ إلى القدس، وإنما تحج أمم الأرض المختلفة كلّ عام إلى بكة وبيت الله العتيق بها.. وهناك يستوي الجميع في سعي واحد، ومظهر مشترك.. فالتبشير بحج أمم الأرض إلى بيت الله بآخر الزمان إنما هو تبشير بحجها إلى مكة، إذ لم يتم لها مثل هذا الحج إلا إلى مكة المباركة، وهو مما يدلّ عليه أيضاً أخبار تبديل القبلة واختيار مكان جديد للعبادة وقد أشرنا إليها من قبل، ولا يضير البشارة – والله أعلم - إيراد اسم صهيون بها، فتبديل البشارات لمصلحة إبقاء مملكة الله في بني إسرائيل أمر ثابت، وقد سبق الحديث عنه..
ـــــــــــــــــ
(1) Jewish Writings of the Second Temple Period, by Van Gorcum, p. 539, 1984.
(2) يكاد النص أن يكون هو نفسه بالموضعين، ويبدو أن بالنص مجازا والله أعلم بما هو منه من الوحي حقاً، وأورد هنا النص كما ورد في إشعيا:" ويكون في آخر الأيام أن جبل بيت الربّ يكون ثابتا في رأس الجبال ويرتفع فوق التلال وتجري إليه كل الأمم، وتسير شعوب كثيرة ويقولون هلم نصعد إلى جبل بيت الرب إلى بيت إله يعقوب، فيعلمنا من طرقه ونسلك في سبله لأنه من صهيون تخرج الشريعة ومن أورشليم كلمة الرب، فيقضي بين الأمم وينصف لشعوب كثيرين فيطبعون سيوفهم سككا ورماحهم مناجل، لا ترفع أمة على أمة سيفا ةلا يتعلمون الحرب فيما بعدُ."
على القاريء كذلك مراجعة النبذة المختصرة بالملحق الثالث عن مفهوم القدس الجديدة ليطلع على الرأي البديل لدى المسيحيين وعلى دلالة القدس الجديدة على مكة المكرمة.
يوم الفتح..
المزامير 118
النص:(1/484)
" افتحوا لي أبواب البر( أو مايمكن بالأصح ترجمته الى ( افتحوا لي أبواب المعبد)Open to me the gates of the *Temple أدخل فيها، وأحمد الرب، هذا الباب للرب، الصدّيقون يدخلون فيه righteous can come in Only the، أحمدك لأنك استجبت لي وصرت لي خلاصاً ( أو يمكن ترجمته إلى ( وأعطيتني نصراً) I praise you, Lord, because you heard me ,because you have given me victory ، الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية، من قِبَل الرب كان هذا، وهو عجيب في أعيننا. هذا هو اليوم الذي صنعه الرب( هذا هو يوم النصر الرباني) This is the day of Lord’s victory نبتهج ونفرح فيه، آه ياربّ خلّص، آه ياربّ أنقذ، مبارك الآتي باسم الربّ، باركناكم من بيت الربّ، الربّ هو الله وقد أنار لنا "
التعليق:
هذه البشارة تتحدث بلا شك عن الرسول المنتظر بعد عيسى عليه السلام والمرسل من أمّة مختارة من بعد اليهود ( أي من الأمة غير اليهودية التي ستنتقل إليها مملكة الله) كما روي ذلك صريحاً عن عيسى عليه السلام بالأناجيل الحالية عند تفسيره للجزء الثاني من هذه النبوءة المتحدث عن حجر الزاوية(1). وهذا يعني أن عيسى عليه السلام لم يكن يعني نفسه هنا.. ذلك لأنه يتحدث عن انتقال مملكة الله إلى غير بني إسرائيل ومن بعد عصره، وقد كان هو نفسه من بني إسرائيل، مما يعني أنه ليس المقصود بحجر الزاوية الذي ستنتقل إليه النبوة، وبانتقالها إليه (أي النبوة إلى حجر الزاوية) يستشهد المسيح على بني إسرائيل أنه بذلك ستنزع منهم مملكة الله تعالى.. وليس بعد المسيح عيسى عليه السلام أحد يترجح لهذا الأمر غير محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم..
وفي هذه البشارة حديث عن يوم نصر رباني عظيم لهذا النبي يأمر فيه هذا الرسول الناس أن يفتحوا له باب المعبد ليدخل فيحمد الله ويشكره على نصره.(1/485)
وقد تحقق هذا بحذافيره يوم فتح مكّة، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة منتصراً لكنه مطأطئٌ رأسه تواضعا لله تعالى حتى كاد شعر لحيته أن يلمس وسط راحلته، وذلك عكس عادة كل المنتصرين حين يدخلون المدن المفتوحة لهم يدخلونها بخيلاء وزهو واستعراض وتكبر، ولكنها النبوة للذين يعقلون الحقّ، فلما وصل المسجد الحرام طاف بالكعبة، وهدم أصنامها، ثم دعا عثمان بن طلحة وهو الرجل الذي تودع لديه مفاتيح الكعبة، فأرسل من يأخذ منه مفتاح الكعبة، وأمر بفتحها، ففتحت له فدخلها، وأمر بمحو الصور التي بداخلها، ثم صلى داخلها، ودار داخل الكعبة وكبر في نواحيها، توحيدا وشكرا لله، ثم خرج منها، فخطب في أهل مكة وعفا عنهم، ثم دخل رسول الله بيت أم هانئ بنت أبي طالب ( أخت علي بن أبي طالب رضي الله عنه)، فاغتسل وصلى ثمان ركعات سميت بصلاة الفتح أو صلاة الشكر (2)..
وإذا عاد القارئ الكريم إلى النبوة أعلاه ( أرجو التركيز على مفردات النص الإنجليزي) يجدها تتحدث عن هذا النبي المميز الذي اعتبر حجر الزاوية، واستشهد به المسيح عيسى عليه السلام على اليهود بأن مملكة الله القادمة من بعده ( أي التي سينشئها من اعتبر حجر الزاوية) لن تكون من بني إسرائيل.. فسيجد القارئ أن هذه البشارة تتحدث عن يوم نصر عظيم له، يدخل فيه المعبد Temple ، بعد أن يأمر بفتح أبوابه له، فيدخل لشكر الله على نصره Victory والاستجابة له.. إنه ليس هناك أدنى شك في أن النبوة تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وما جاء بعد عيسى عليه السلام أحد أنشأ مملكة الله من غير بني إسرائيل (3)، وذكر عن نفسه أنه " حجر الزاوية " (4) في بناء النبوة، ودخل في يوم نصره ( الرباني) العظيم المعبد حامدا وشاكرا غير رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.. فهل يؤمنون..
هوامش بشارة يوم الفتح
(1 ) راجع النص والتعليق على مثل البستان بالفصل الثاني.
((1/486)
2) راجع كتب السيرة النبوية، كمثل الرحيق المختوم لصفي الرحمن المباركفوري.
(3) ذلك لأن عيسى عليه السلام نفسه اعتبر أن هذا الموضع يصرح بقيام مملكة الله ( من بعده) من غير اليهود، وكأن ذلك كان سبب تعجب داود عليه السلام
(4)\نقل الأستاذ عبدالمجيد الجندي في " ملكوت الله في النصرانية واليهودية والإسلام"ص53 من طبعة دار الدعوة عام 1983 : " نقل لزلي مكامر في تفسير هذه الآية – أي المذكورة أعلاه وبها ذكر حجر الزاوية وتعجب داود عليه السلام- في تفسير جماعة اللاهوتيين عن الحجر رأس الزاوية: " الذي يظن أنه أعلا حجر في البناية وسواء أكان هذا الحجر قد أهمله البناؤون لضرورة أو لاحتقار إلى أن دعت الحاجة إليه ليُتوج البناء، فإن الموضوع أُستخدم مجازياً ليُبين أن هؤلاء العربأبناء إسماعيل قد احتقرهم وأهملهم وأساء إليهم الشعوب الآخرون حتى جاء البناء العظيم ووضعهم في مكانهم العالي كجزء جوهري في مسكنه بين الناس".
حجر الزاوية.." من آمن به لن يتزعزع"..
إشعيا 28: 14_ 18
النص:
" فاسمعوا كلام الرب أيها الناس الساخرون، المتسلطون على هذا الشعبّ الذي في أورشليم. قلتم : " قد قطعنا عهدا مع الموت وعقدنا حلفا مع مثوى الأموات فالسوط الطاغي إذا عبر لا يغشانا، لأننا جعلنا الكذب ملجأ لنا واستترنا بالبهتان".
لذلك قال السيد الرب: " ها إني واضع حجرا في صهيون، حجرا مُمتَحِنا، رأس زاوية كريما، أساسا محكماً، من آمن به لن يتزعزع.
وأجعل من الحق حبلا للقياس، ومن البر مقياس التسوية. أما ملجأ الكذب فيجرفه البرد، وتطفو المياه على مأواه. وعهدكم مع الموت يُلغى، وحلفكم مع مثوى الأموات لا يقوم، فالسوط الطاغي إذا عَبَر يدوسكم.."
التعليق(1):(1/487)
سبق الحديث من قبل عن البشارة بخاتم الأنبياء الذي سيكون بالنسبة لبقية الأنبياء كحجر الزاوية الذي يعطي لبناء النبوة تمام جماله وقوته.. وبيّنا أنه هو الذي سيقيم مملكة الله القادمة من بعد عيسى عليه السلام، وأنه لن يكون من اليهود، وأنّ هذا قد يكون سبباً لتعجب داود عليه السلام، إذ لم يتوقع أن يكون لأبناء إسماعيل عليه السلام عبدة الأوثان في زمانه أي شأن بالمستقبل ( عاش داود عليه السلام بعد عصر إبراهيم عليه السلام بما يقرب من ألف عام ما يبعد أن أبناء إسماعيل قد ضيعوا حينها تعاليم أبيهم إبراهيم عليه السلام) ، فكان عجيبا أن يأتي إمام الأنبياء وخاتمهم ( حجر الزاوية) منهم..
وفي هذه البشارة التي سبق أن أشرت إليها عند نقاشي للفظ صهيون تهديد صريح لليهود بأنّ عهدهم مع آخرين ( يرى مؤلفو التفسير التطبيقي للكتاب المقدس (2) بأنه كان مع ترهاقة ملك كوش بمصر) إتكالا منهم على نصرهم لهم في وجه الآشوريين إنّما هو عهد مع الموت.. فإنّ المصريين لن ينصرونهم، وكان المفروض أن يستعينوا بالله تعالى ويتكلوا عليه، وسيمحو الله عزوجل هذا الإتفاق عندما تهاجمهم آشور.. ثمّ يأتي النص بعد ذلك مباشرة يخبر بأنّ حجر الزاوية سيأتي.. وهو اتفاقا كما يرى أهل الكتاب يعني المسيا المنتظر.. من آمن به لن يتزعزع.. مما يعني أن الله عزوجل سينصر المسيا، تماما كما بشر بذلك موسى عليه السلام (3)، ويهلك أعداءه.. وسيقيمه للحق مرجعا ومقيلساً.. والله أعلم..
الشاهد هنا هو التبشير بقدوم النبي المصطفى ( رأس الزاوية لبناء النبوة)، والأمر بالإيمان به.. ففي ذلك أمن وثبات للمؤمنين.. ونعلم أنّ المصطفى رأس الزاوية لم يأتِ حتى زمن عيسى عليه السلام، وأنه لم يكن عيسى نفسه الذي لم يُؤيد بالنصر المادي في حياته على أعدائه.. بل بشر به من بعده ليقيم مملكة الله من غير اليهود، وما كان ذاك إلا للمصطفى محمد صلى الله عليه وسلم..هل في ذلك من شكّ ؟(1/488)
ــــــــــــــــــــــــ
(1) هناك تكرار بالتعليق كان سببا لتفادي إيراد هذه البشارة، إلا أني رأيت فيها دعما للوعد بقدوم رأس الزاوية، وكون المقصود به نبيا منصورا على أعدائه، مما يدعم التفسير الذي أوردته عند الحديث عن مثل البستان وبشارة يوم الفتح.
(2) التفسير التطبيقي للكتاب المقدس،ص 1416، شركة ماستر ميديا، القاهرة، 1997.
(3) انظر بشارة موسى في بداية الفصل السادس.
نسيان الأوليات.. وإبصار الأمم لنور التوحيد..
إشعيا 43 : 6 - 13 ، 18 – 21
النص:
" من المشرق آتي بنسلك ومن المغرب، أجمعك أقول للشمال أعط وللجنوب لا تمنع، ايت ببني من بعيد وببناتي من أقصى الأرض، بكل من دعي باسمي ولمجدي خلقته وجبلته وصنعته، أخرج الشعب الأعمى وله عيون والأصم وله آذان .
اجتمعوا يا كل الأمم معاً ولتلتئم القبائل، من منهم يخبر بهذا ويُعلمنا بالأوّليات، ليقدموا شهودهم ويتبرروا، أو ليسمعوا فيقولوا صدق، أنتم شهودي يقول الرب وعبدي الذي اخترته لكي تعرفوا وتؤمنوا بي وتفهموا أني أنا هو، قبلي لم يصور إله وبعدي لا يكون، أنا أنا الرب وليس غيري مُخلِصٌ، أنا أخبرت وخلصت وأعلمت وليس بينكم غريب، وأنتم شهودي يقول الرب وأنا الله، أيضاً من اليوم أنا هو ولا منقذ من يديّ أفعل ومَن يرد.ّ"
" هكذا يقول الرب فاديكم قديس إسرائيل. لأجلكم أرسلت إلى بابل وألقيت المغاليق كلها والكلدانيين في سفن ترنّمهم. أنا الرب قدوسكم خالق إسرائيل ملككم. هكذا يقول الرب الجاعل في البحر طريقاً وفي المياه القوية مسلكاً، المخرج المركبة والفرس الجيش والعز. يضطجعون معاً لايقومون. قد خمدوا. كفتيلة انطفأوا."(1/489)
" لا تذكروا الأوّليات، والقديمات لا تتأملوا بها، هاأنذا صانعٌ أمراً جديداً، الآن ينبت، ألا تعرفونه، أجعل في البرية طريقاً في القفر أنهاراً يمجدني حيوان الصحراء الذئاب وبنات النعام لأني جعلت في البرية ماء أنهار في القفر لأسقي شعبي مختاري، هذا الشعب جبلته لنفسي يحدث بتسبيحي"
والنص في النسخة القياسية المعدله باللغة الإنجليزية، كما يلي:
“ It is truth. Ye are my witnesses, saith Jehovah, and my servant whom I have chosen; that ye may know and believe me, and understand that I am he: before me there was no God formed, neither shall there be after me. I, even I, am Jehovah; and besides me there is no savior. I have declared, and I have saved, and I have showed; and there was no strange god among you: therefore ye are my witnesses, saith Jehovah, and I am God. Yea, since the day was I am he; and there is none that can deliver out of my hand: I will work, and who can hinder it?(1/490)
Thus saith Jehovah, your Redeemer, and the Holy One of Israel: For your sake I have sent to Babylon, and I will bring down all of them as fugitives, even the Chaldeans, in the ships of their rejoicing. I am Jehovah, your Holy One, the Creator of Israel, your King. Thus saith Jehovah, who maketh a way in the sea, and a path in the mighty waters; who bringeth forth the chariot and horse, the army and the mighty man (they lie down together, they shall not rise; they are extinct, they are quenched as a wick): Remember ye not the former things, neither consider the things of old. Behold, I will do a new thing; now shall it spring forth; shall ye not know it? I will even make a way in the wilderness, and rivers in the desert. The beasts of the field shall honor me, the jackals and the ostriches; because I give waters in the wilderness, and rivers in the desert, to give drink to my people, my chosen, the people which I formed for myself, that they might set forth my praise.”
التعليق:
وردت في هذه النبوة المصطلحات التالية:(1/491)
·? الأوليات أو الأشياء السابقة The former things .. وواضح من عدد من البشارات السابقة أن في هذا إشارة إلى معاصي بني إسرائيل والعقوبات التي حلت عليهم بسبب معاصيهم، وفيه إشارة مذكورة أن عهدا جديدا سيأتي، لن تتكرر فيه مشاكل العهد الأول وأن مختارين لله سيأتون، ذكر في بشارة سابقة أنهم سيعطون اسماً جديدا بينما يكون اسم الأولين وهم اليهود (كما هو بيّن) لفظا مرادفا للعن، وتحمل هذه البشارة الإشارة إلى أن هذا الأمر سيتم من الصحراء ( البرية).. " لا تذكروا الأوّليات، والقديمات لا تتأملوا بها، هاأنذا صانعٌ أمراً جديداً، الآن ينبت، ألا تعرفونه، أجعل في البرية طريقاً في القفر.."
·? المختارين أو شعب الله المختار "لأسقي شعبي مختاري".. ونعلم أن اليهود كانوا المختارين الأولين.. لكنّ هذه البشارة تتحدث إلى اليهود عن عهد جديد وشعب مختار وأمن ورضى من الله.. ونعلم أن ذلك لم يتحقق لليهود حتى مجيء آخر أنبيائهم يحي وعيسى عليهما السلام، بل صُبّ عليهم من بعدهما أشد العذاب والتشريد والطرد من الأرض المباركة، تماما كما توعدوا به من قبل.. فالمختارين هنا ليسوا إلا المختارين من بعد اليهود الّذين أشار المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام إلى مجيئهم من بعده والذين حدد زمن ظهورهم إدريس عليه السلام.. وهم الذين سيقيمون مملكة الله من أمة ليست يهودية.. وعندها ينسى الناس الأوليات والأمور القديمة التي حدثت بالأرض المباركة..
ولا يزيد القارئ توضيحا القول بأن كل هذا قد حدث بحذافيره من خلال الإسلام.. وليس غيره..(1/492)
·?المختار وهو نفسه لفظ المصطفى بالعربية والـ Anointedأو Christ بالإنجليزية أو المسيا بالمصطلح اليهودي كما فصلت ذلك من قبل، ولا شك بأن المختار هنا هو المصطفى أو المسيا الذي ينتظر اليهود مجيئه ويزعمون أنه يهودي والذي يقول النصارى أنه عيسى عليه السلام والذي أثبتنا قطعا أنه ليس إلا المصطفى والمختار محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم .. وقد كان هذا لقبه.. وقد أخبر بمجيئه عيسى من بعده وأشار إلى ذلك في مواضع عديدة كما أسلفنا، فكيف يزعمون أنه عيسى وهو الذي توعد اليهود وذكر لهم أنه ما جاءهم إلا بالعذاب كما تروي عنه الأناجيل الحالية، وكما تحقق فعلا بأحداث التأريخ من بعده.. " أنتم شهودي يقول الرب وعبدي الذي اخترته لكي تعرفوا وتؤمنوا بي وتفهموا أني أنا هو"
·? شهود الله على الناس.. " أنتم شهودي".. وهذا أيضاً من تسميات القرآن الكريم للمسلمين .. روى الطبري في تفسيره ( الجزء السادس ص 176) عن ابن عباس في تعليقه على قوله تعالى ( فاكتبنا مع الشاهدين) قال مع أصحاب محمد.. وقد أطلق هذا اللقب كذلك على أصحاب الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في مواضع أخرى من القرآن الكريم.. واستخدام لفظ الشهود بهذه النبوة هو تأكيد بقيام المختارين على يد المختار، ونشرهم لدين التوحيد لكافة الناس وشهادتهم على بقية أمم الأرض.. وهو ما لم يطلب من اليهود أويتحقق على أيديهم..(1/493)
فهؤلاء الذين آمنوا بعبد الله المختار God’s Chosen Servant) ( هم شهود الله (مصطلح أعطي في القرآن الكريم للذين آمنوا بالرسول ).. والله صانعٌ أمراً جديداً.. أين ؟ .. رسالةً جديدةً في الصحراء إلى شعب الله المختار تنسخ ما قبلها من الرسالات ويؤمر الناس بنسيان الأوّليات.. إن هذا الفهم متسقٌ مع النبوءات السابقة حول مختار الله وأمته وظهور الرسالة من الجزيرة العربية.. والبشارة في بدايتها لكأنها تشير إلى حج الأمم واجتماعها من شتى أنحاء الأرض لتكون شاهدة بالتوحيد.. ويصبح عميها مبصرين، وصمّها سامعين..
الفصل التاسع
بشارات أخرى
صفات أخرى للنبي
عبد الله ..
إشعيا 42
النص:
“ هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سُرّت به نفسي، وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم، لا يصيح ولا يرفع ولا يُسمِعُ في الشارع صوته، قصبةً مرضوضةً لا يقصف وفتيلةً خامدةً لا يطفئ، إلى الأمان يخرج الحق، لا يكلّ ولا ينكسر حتى يَضَعَ الحقَ في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته. ” .
التعليق:(1/494)
مَن غير رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم مؤهل لهذه الصفات..؟ هو المختار (مختاري) أو المصطفى كما ذكرت ذلك من قبل، والمصطفى من أسمائه وألقابه المشهورة.. هو الذي أعلن منذ اللحظة الأولى في دعوته أنه رسول لكل الأمم (فيخرج الحق والعدل للأمم).. ولم يكن ذلك لأي نبي قبله بما فيهم عيسى عليه السلام الذي نقلت عنه الأناجيل الحالية إعلانه أن دعوته خاصة ببني إسرائيل.. وهوصاحب اللقب"عبدالله" في الوحي فيما ينسب الى السماء من وحي بعبد الله.. ولم يشتهرأحدٌ بهذا اللقب أو يعرف به – وإن كان الجميع عبيد الله- إلا رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم وهو النبي الذي اشتهر بأخلاقه وكمال أدبه وإن كانت أخلاقهم جميعها لعالية.. وأثبت الثناء على أخلاقه في مواضع متعددة من القرآن الكريم لتكون شاهدا لنبوته في حياته وبعد مماته بأن الذين عرفوه أقروا له بذلك وآمنوا بالقرآن الذي سجل له تمام الأخلاق.. ويكفي هنا تذكير القارئ الكريم بقوله تعالى بالقرآن الكريم " وإنك لعلى خلق عظيم" .. فما كان يرفع صوته في الأسواق والطرقات.. كان يبني ولا يهدم.. كان يفرح ويشجع على الخير حتى وإن كان ضئيلا.. فنصف أو شق حبة تمر صدقة مقبولة، وابتسامة أو كلمة بسيطة طيبة عمل يأمر به.. بل يأمر بالخير وعمله حتى لو كانت القيامة بادئة كما في أمره بمواصلة الغرس حتى لو قامت القيامة.. " لا يصيح ولا يرفع ولا يُسمِعُ في الشارع صوته، قصبةً مرضوضةً لا يقصف وفتيلةً خامدةً لا يطفئ " .. ولم ييأس في دعوته ولم يكل حتى انتصر الدين الذي جاء به وأقام مملكته التي حكمت جزيرة العرب في حياته كاملة.. ومن بعد موته انتشر الدين خارج الجزيرة وبلغ الأمصار التي كانت تنتظر شريعته.. " لا يكلّ ولا ينكسر حتى يَضَعَ الحقَ في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته . ”(1/495)
فإذا كان اليهود والنصارى يقرّون أن هذه البشارة هي للمسيا أي للمصطفى آخر الأنبياء فإنها لا تنطبق إلا على عبد الله رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم.. فالحق واضح.. وهذه مما استشهد به بعض من أسلم من أهل الكتاب في حياته صلى الله عليه وسلم.. فقد جاء في صحيح البخاري عن عطاء بن يسار قال لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قلت أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة قال أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن " يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا " وحرزا للأميين أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتح بها أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا " وجاء في مستدرك الحاكم عن عائشة رضي الله عنها " أن رسول الله صلى الله عليه و سلم مكتوب في الإنجيل لا فظ ولا غليظ ولا سخاب بالأسواق ولا يجزي بالسيئة مثلها بل يعفو و يصفح"، وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.. وواضح أن عائشة رضي الله عنها لا تعلم شيئا من التوراة مباشرة، ولكن هذه البشارة كانت مما شاع بين المسلمين نقلا عمن أسلم من أهل الكتاب كما ورد في روايات أخرى عديدة..
نبي الختان .. رحمةً للعالمين .. ملاخي 3
النص:(1/496)
“ هاأنذا أرسل ملاكي (رسوليMessenger * ( فيهيئ الطريق أمامي ويأتي بغتةً إلى هيكله السيد الذي تطلبونه وملاك العهد ( نبيّ الختان في النسخ القديمة ) الذي تُسرّون به هو ذا يأتي قال رب الجنود ومن يحتمل ومن يثبت عند ظهوره ؟ لأنه مثل نار ممحص ومثل أشنان القصار فيجعل ممحصاً ومنقياً للفضة فينقي بني لاوي ويصفيهم كالذهب والفضة ليكونوا مقرَبين للرب تقدمة للبر.. من أيام آبائكم حِدتم عن فرائضي ولم تحفظوها ارجعوا إليّ أرجع إليكم.. أقوالكم اشتدت عليّ قال الرب.”
“ فهو ذا يأتي اليوم المتقد كالتنور وكل المستكبرين وكل فاعلي الشر يكونون قشاً ويحرقهم اليوم الآتي.. ولكم أيها المتقون اسمي، تشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها فتخرجون وتنشأون كعجول الصيرة وتدوسون الأشرار لأنهم يكونون رماداً تحت بطون أقدامكم يوم أفعل هذا قال رب الجنود اذكروا شريعة موسى التي أمرته في حوريب على كل إسرائيل الفرائض والأحكام . هأنذا أرسل إليكم إيلياء النبيّ قبل مجيء يوم الرب اليوم العظيم والمخوف فيرد قلب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على آبائهم لئلا آتي وأضرب الأرض بلعن . ”
التعليق:(1/497)
هذه بشارةٌ بمجيء السيد " الرسول"، واللفظ الأول ( السيد) هو اللقب الذي استعمله داوود وأشار إليه عيسى عليهما السلام عند الحديث عن المسيّا المنتظر، فالحديث هنا بلا شكّ ولا خلاف هو عن المسيا أو المصطفى سيد المرسلين، واللفظ الثاني ( الرسول) لقب معهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما اشار الى ذلك برنابا.. وهذا السيد هو نبيّ الختان ( العهد ) ، والختان هو علامة عهد الله مع ابراهيم وذريته إلى قيام الساعة.. وهو العلامة التي أعلن ففي التوراة أن التمسك بعا سيميز الداخلين في عهد الله عمن سواهم الى قيام الساعة ( غير قابل للإلغاء).. ونبي الختان ( هكذا ورد اللفظ في النسخ القديمة) من بعد ابراهيم عليه السلام لا شكّ أنه نبي سيجدد هذه العلامة بعد إندثارها.. وهو نبي يتجدد به عهد الله مع ابراهيم.. وما أحد يستحق لقب نبي الختان بعد إبراهيم عليه السلام سوى النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي جدد هذه الفطرة بعد أن ألغاها النصارى من بعد عيسى عليه السلام.. وهو ابن ابراهيم الذي تحقق به عهد الله مع ابراهيم عليه السلام، فهو الرسول الوحيد من أبناء ابراهيم الذي جاء بدعوة التوحيد للأمم كلها، وتباركت به أمم الأرض ودعت له ولنفسها بالمباركة كما بارك على ابراهيم وعلى آل ابراهيم.. ولم يدّعي أحد من أبناء ابراهيم بأن دعوته عامة لكل الأمم غير محمد صلى الله عليه وسلم.. حتى عيسى عليه السلام أعلن أن دعوته خاصة لقومه (اليهود).. فمَن غير محمد صلى الله عليه وسلم من أبناء ابراهيم يستحق هذا اللقب ؟؟ ثمّ من هذا الذي سيأتي المعبد بغتة.. ألم يكن ذاك رسول الله حين زار المعبد بالقدس ليلة أسري به إلى المسجد الأقصى..
.. وهو مجيء سار ، ولكن من يتحمله ومن يثبت عند ظهوره ؟
..(1/498)
وهو الذي لم يثبت عند ظهوره معظم اليهود.. وقد جاء ممحصاً للأمم ( نتوقع أن لفظ بنيّ لاوي دخيل على النص ).. جاء بعد غضب الله على بنيّ إسرائيل ولعنهم لكفرهم وقتلهم الأنبياء .. جاء فكان دماراً لأهل الباطل والمستكبرين ونصراً للمتقين.. " وكل المستكبرين وكل فاعلي الشر يكونون قشاً ويحرقهم اليوم الآتي" .. جاء فكان رحمة للعالمين فعلم الأبناء الإحسان إلى آبائهم وعلم الآباء القيام بحقوق أبنائهم.. " ولكم أيها المتقون اسمي تشرق شمس البر والشفاء" .. كان رحمةً للأمم لئلا يتنزل عليها سخط الله وعذابه.. جاء في القرآن الكريم عن محمد صلى الله عليه وسلم " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" ..
هذا وقد يفسر يوم الرب بأنه يوم الغضب على بني إسرائيل فيكون المقصود بالنبي قبل يوم الرب عيسى عليه السلام.. إلا أن عيسى ذكر أنه جاء بالسيف وقال ما جئت لألقي سلاماً بل سيفاً، فإني جئت لأفرق الإنسان ضد أبيه والابنة ضد أمها والكنّة ضد حماتها، وأعداءُ الإنسان أهل بيته، ومجيئى المسيح عليه السلام لم يمنع سخط الله على بني إسرائيل ولعنهم كما كان تفترض البشارة.. والنص يتحدث عن نبي واحد يمهد الطريق للناس إلى الله ( المتكلم في هذا النص والله أعلم).. ولا تتفق سيرة يحيى مع الاعتقاد بأنه الممهد لرسالة عيسى عليهما السلام إذ لم يصاحبه بعد ظهوره، كما أن غضب الله لم يمنعه مجيء عيسى عليه السلام.. وإذا كان النص يدل على شخصيتين فإن الأخيرة هي رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم والأولى هي عيسى عليه السلام كما يبدو ذلك واضحاً من مهمة رساله عيسى عليه السلام في إعداد الناس للإيمان بمملكة الله القادمة..
ــــــــــــــــــ
*رسولي في النسخ الإنجليزية.
أعظم الأنبياء.. لوقا 7 : 26 – 28
النص:(1/499)
جاء في لوقا عن عيسى أنه قال عن يحيى عليهما السلام:( بل ماذا خرجتم لتنظروا : أنبياً (أي يحيى ) نعم أقول لكم وأفضل من نبي. هذا هو الذي كُتب عنه ها أنا أرسل أمام وجهك ملاكي الذي يهيئ طريقك قدامك، لأني أقول لكم إنه بين المولودين من النساء ليس نبيٌ أعظم من يوحنا المعمدان، ولكن الأصغر في ملكوت الله أعظم منه ”
التعليق(1):(1/500)
كان كلٌ من عيسى ويحيى عليهما السلام سابقاً لمملكة الله ( التي كانا يبشران بها).. وفي هذا النص يُروى عن عيسى عليه السلام اعتباره يحيى كأفضل إنسان (2) إلى زمانه ( لم يحتوي النص الإنجليزي على كلمة نبي).. ولكن الأصغر ( أصغر الأنبياء بمعنى أصغرهم عمرا أي آخرهم مجيئاً) الذي سينشئ مملكة الله هو أعظم منه.. ومن الواضح أن عيسى عليه السلام لم يدرك مملكة الله وأن هذا الأصغر الذي يذكره هنا عيسى عليه السلام سيأتي من بعده ولم يكن سوى الرسول صلى الله عليه وسلم. فخلاصة هذه البشارة أنها تشير إلى فضل يحي عليه السلام، وتعقّب بأنّ شخصاً من مملكة الله القادمة ( التي يبشر بها كل من النبيين يحي وعيسى عليهما السلام) هو خير من يحي عليه السلام.. ولا يمكن القول بأن الأصغر في مملكة الله تعني الأدنى فيها، وذلك لأنه سيكون في مملكة الله كثير من غير الصالحين ومن المنافقين ( أنظر مثل الزؤان، 13: 24- 30، 37- 43 ص) ولا يمكن أن يكون هؤلاء ( وهم الأدنى في مملكة الله) أفضل من يحي عليه السلام، كما لا يمكن الأخذ بتفسير المفسرين المسيحيين (3) الذين زعموا أن يحي وإن كان أفضل الانبياء، إلا أنّ أدنى دعاة المسيحية ومبشريها وادنى أتباع المسيح عيسى عليه السلام منزلة ( باعتبارهم هم من يُشكلون مملكة الله على ظنهم) هو أفضل وأعلى منزلة من نبي الله يحي عليه السلام، ومن كل الأنبياء قبله بالتالي! وذلك فهم عقيم بيّن.. وإنما المقصود بالأصغر هنا الشخص الذي تنشأ منه مملكة الله أو الرسول الأخير زماناً ( فكأنه الأصغر سنا بين المرسلين) وهو خاتم المرسلين.. فهذا الرسول أعلى درجة من يحي عليه السلام.. الذي يعتبره المسيح – كما تروي عنه الأناجيل الحالية - أفضل الخلق حتى زمانه..
ــــــــــــــــــ
الهامش
(1) أخذ هذا التفسير من كتاب محمد في الكتاب المقدس لعبد الأحد داود.
((2/1)
2) قد يكون المقصود أن لا نظير له من قبل وهو أحد تفاسير قول الله تعالى عن يحيى: ( لم نجعل له من قبل سمياً ).
(3) Matthews Henry Commentary on the Whole bible, on commenting on above verse:
" The least gospel minister, that has obtained mercy of the Lord to be skilful and faithful in his work, or the meanest of the apostles and first preachers of the gospel, being employed under a more excellent dispensation, are in a more honourable office than John Baptist. The meanest of those that follow the Lamb far excel the greatest of those that went before him. Those therefore who live under the gospel dispensation have so much the more to answer for."
البشارة بالملك الصديق ( ملكي صديقي)
النص بالإنجليزية من مخطوطات البحر الميت:
الرقعة 4Q13 وهي من الرقع التفسيرية لنصوص من العهد القديم، والنص هو كما أورده مايكل وايز (1):
“ the interpretationis that it applies {to the L}ast days and concern the captives, just as {Isaiah said: “To proclaim the jubilee to the captives” (Isa. 61:1) ... .just} as { ... } and from the inhheritance of Melchizedek, f[or ... Melchize]dek, who will return them to whatis rightfully theirs. He will proclaim to them the jubilee, thereby releasing th[em from the debt of a]ll their sins.
[(2/2)
He shall pro]claim this decree in the first week of the jubilee period that follows nine jubilee period. Then the day of Atonement shall follw after the tenth jubilee period , when he shall atone for all the Sons of [light] and the pepole who are predestined to M elchizedek. Upon them for this is the time decreed for “the year of Melchizedek,s favor “ (Isa.61:2,modified) ,and by his might he will judge God,s holy ones and so establish a righteous kingdom , as it is written about him in the Songs of David .. Therefore Melchizedek will thoroughly prosecute the vengeance required by God’s statutes. Also he will deliver all the captives from the power of Belial, and from the power of all the spirits predestinded to him.. The vi(sitation) is the day of (salvation) that He has decreed through Isaiah the prophet (concerning all captives), in as much as scripture says. How beautiful upon the mountains are the feet of the messenger who announces peace, who brings good news, who announce salvation, who says to Zion your divine being reigns” ( Isaiah 52:7) This screpture’s interpretation :” the mountains are the prophets they who were sent to proclaim God’s truth and to prophesy to all Israel. The messenger is the annointed of the spirit, of whom Daniel spoke, (“ After the sixty-two weeks, an Annointed one shall be cut off”( Daniel 9: 26) The” messenger who brings good news, who announces salvation “ is the one of whom is written ,( “ to proclaim the year of the Lord’s favor, the day of vengeance of our God) to comfort all who mourn” ( Isaiah 61:2).(2/3)
This screpture’s interpretation : ( He is to instruct them about all the periods of history for eternity .. and in the statutes of the truth ( ... ) dominion that passes from Belial and return to the sons of Light .. by the judgement of God just as written concerning him, (“Who says to Zion “ Your divine being reigns ” ( Isaiah 52:7) (“ Zion is the cngregation of all the sons of righteousness , who uphold the covenant and turn from walking in the way of people.” Your divine being “ is Melchizedek, who will deliver them from the power of Belial”
ويمكن ترجمة النص أعلاه الى ما يلي:(2/4)
" والتفسير هو أنها تنطبق على آخر الأيام وتعني الأسرى كما ذكر ذلك إشعيا:" لتعلن اليوبيل للأسرى" اشعيا61: 1، تماما.. ومنذ توريث ملكيصديق أو الملك الصديق Melchizedek.. ( انقطع النص).. فملكيصديقي الذي سيعيدهم الى ماهوحق لهم، وسيعلن لهم اليوبيل فيطلقهم من إصر ذنوبهم كلها. وسيعلن هذا القرار في الإسبوع الأول من فترة اليوبيل (الخمسينية أو فترة الخمسين عاما) الذي يتبع اليوبيل التاسع، فهنالك يأتي يوم المغفرة بعد فترة (أو نهاية كما وردت بمصادر أخرى) اليوبيل العاشر عندما يتوب على أبناء النور والناس الذين قُدِّروا ليتبعوا الملك الصديق.. فهذا هو الوقت الذي قُضي ليكون عام الفضل لملكيصديقي (2)، وبهذا فسيقضي لقديسي الله ويقيم المملكة الصالحة كما كان قد كتب عنه في تسابيح ( أناشيد) داود، ولذا فإن ملكيصديقي سيقوم بالإنتقام التام كما شرعته شريعة الله، وسيحرر الأسرى من قبضة ابليس، ومن الأرواح المتعلقة به، ويوم الزيارة هو يوم الخلاص الذي تكلم عنه النبي اشعيا فيما يخص كل الأسرى، كما تقول التوراة ( أو نصوص الوحي). ما أجمل على الجبال قدمي الرسول وهو يعلن السلام، ويقدم الأخبار الطيبة، ويعلن الخلاص، ويقول لصهيون إلهك هو الذي يحكم ( اشعيا 52: 7). هذا التفسير :" الجبال هي الأنبياء وهم الذين أرسلوا لأعلان الحقيقة عن الله وليتنبؤا لبني اسرائيل، والرسول هو المختار ( أو المسيح) من الأرواح، الذي تكلم عنه دانيال " وبعد اثني وستين اسبوعا فإن مختارا سيقطع" ( دانيال 9: 26) ( هو) الرسول الذي سيأتي بالأخبار الطيبة، ويعلن الخلاص، وهو الذي كتب عنه " وليعلن سنة تفضل الربّ، ويوم انتقام الهنا" وليخفف عمن يحزنون" ( اشعيا 61: 2), وهذا تفسير النص: " هو الذي سيعلمهم عن كل الفترات الزمنية للخلود.. ( انقطاع بالنص المتاح!).. وعن وصايا أو شرائع الحق.. والغلبة التي ستنتقل من ابليس الى أبناء النور..(2/5)
بقضاء الله تماما كما كتب فيما يخصه " الذي قال لصهيون يحكمك إلهك" ( اشعيا 52: 7)، صهيون هي تجمع كل أبناء النور الذين تمسكوا بالعهد، وهجروا الطرق التي عليها الناس، :" الهك يحكمك" هو ملكيصديقي الذي سيخلصهم من قوة ابليس .. "
التعليق:
هذا تفسير كتبه أصحاب مخطوطات البحر الميت لبعض مقاطع من كتب الأنبياء الملحقة بالتوراة.. واضح أنه يتكلم عن نبيين اثنين بالمستقبل كما سنوضح في هذا التعليق.. فقد ذكر منهما أولاً مَن سمّوه بملكصديقي أو كما فسره آخرون بملك السلام أو البر (3).. فهذا الملك النبي سيعلن الحرية للناس في الإسبوع السابع ( من السنين) من بعد اليوبيل التاسع ( كل يوبيل بخمسين سنة، وكل اسبوع بسبع سنين، أي في السنة 492-499، أو: 9 يوبيلاتX 50 + ( 6 أو7 أسابيع X7) = 492- 499 سنة)، ثم يكون يوم الكفارة في نهاية اليوبيل العاشر ( أي بعد خمسمائة سنة، 10X 50).. وسيقيم مملكة الله الصالحة، التي سينضوي تحت لوائها عدد كبير من الناس..
ويعني مجيئ ملكيصديقي أثناء اليوبيل العاشر.. خلال الإسبوع الأخير منه وهو الإسبوع السابع ( 7 عن كل اسبوع x 6- 7 ) من سنوات اليوبيل العاشر أي بعد 42 إلى 49 سنة من هذا اليوبيل.. أو بعد نهايته حيث سيكون يوم الكفارة على أكثر التراجم للقطعة أعلاه، يعني ذلك أنّه – أي ملكصديقي- سيأتي بعد 492 إلى 500 سنة.. ولكن من بعد ماذا ؟ .. يرى جرايق إيفانز (4) أن ذلك سيكون من بعد وقوع العذاب على بني اسرائيل.. ولكن أي عذاب ؟(2/6)
يربط جرايق إيفانز بين هذه النبوة ونبوة السبعين اسبوعا ( 490 عاما) التي تنص على نفس الفترة الزمنية تقريبا، ولكنه يجعل كلا الفترتين فترة واحدة مبتدأة من الأسر البابلي.. وهذا خطأ واضح إذ أن فترة السبعين اسبوعا ( التي ناقشناها في نبوة السبعين اسبوعا) منتهية الى العذاب الشديد وهدم الهيكل كما فصّلنا من قبل عند استعراض البشارة المتعلقة بها، بينما تنتهي هنا فترة العشرة اليوبيلات ( 500 عام) الى المملكة الصالحة والنبي الملك ( ملكي صديقي) الذي يعتقد الكثير أنه نفس المسيا أو المصطفى ..
ويعطي الرأي الذي أوردته عند نقاش نبوة السبعين اسبوعا حلاً واضحا لهذا الإشكال.. فقد فصلت عند الحديث عن نبوة وبشارة السبعين اسبوعا أنها تتحدث عن فترتين كل منها سبعين اسبوعا، الأولى منها وهي التي فُصِّلت أحداثها بنبوة السبعين اسبوعا وهي التي ستبدأ من بناء الهيكل والمدينة وتنتهي الى هدم الهيكل وخرابه.. ذلك الخراب الذي وقع على أيدي الرومان عام 70م بلاشكّ، والفترة الأخيرة منهما هي فترة التشريد وهجر المدينة ( القدس) التي قضيت على بني اسرائيل حتى يأتي البر الأبدي.. وقد ذكرت مجملة في بداية التعليق على تلك النبوة، ونستطيع بوضوح أن نرى أنها ستمتد من بعد خراب الهيكل والمدينة على أيدي الروم ( عام 70م) أو من بعد تشريد اليهود وتحريم القدس عليهم على أيدي الروم عام 135م .. وهذه الفترة (سبعين اسبوعا أو 490 عاما) ستنتهي بقيام البر الأبدي كما تذكر نبوة السبعين اسبوعا في مطلعها..(2/7)
وهذا هو ما يتفق مع تفسيرنا هنا بأن هذه الفترة محسوبة من عذاب عام70م- 135م ..وليس من العذاب بالأسر البابلي كما اعتقد جرايق إيفانز.. إته ذلك العذاب الذي سيتبعه تشريد اليهود حتى لا تجد منهم أحداً بالأرض المباركة، وهو ما مالم يحدث الا عام 135م.. حين حرّمت على اليهود أرض فلسطين، وهو العذاب الذي توقعه أهل المخطوطات - وقد عاشوا قبيله- وتحدثوا عنه كثيرا.. وهو العذاب المذكور بالأناجيل والمزامير ودانيال والمخطوطات.. وهو لاينطبق كذلك على العذاب الذي وقع بقتل الروم لأثني عشر ألف اسرائيلي عام 63 ق م كما أراد بعض الباحثين.. إذ لم يتبع عذاب 63 ق م تشريد اليهود الى خارج فلسطين ولا تحريمها عليهم ..ويضاف الى ذلك أنّ عذاب عام 63 ق م وكذلك عذاب عام 586 ق م ( الأسر البابلي) وما تبعه من الأسر البابلي قد سبقا عصر المسيح عليه السلام الذي أشار الى أن العذاب الذي ذكره دانيال في نهاية السبعين اسبوعا سيأتي من بعده ( يراجع فصل المختارين) ..
وكان الكاتب أعلاه قد تسآءل عن مدة فترة العذاب نفسها، وأشار الى أنها مجهولة.. والحق أنها الآن بعد وقوعها معلومة.. وقد أشار المسيح عليه السلام كما تروي الأناجيل الى أنها من بعده ولفترة طويلة تتعاقب خلالها ممالك.. ونعلم أنها قد بدأت عام 70م، ثم تبعها عذاب عام 135م، ثم التشريد والإذلال في أصقاع الأرض المختلفة وانتهت بقيام مملكة الإسلام وحكمها للأرض المباركة وانضواء المؤمنين من أتباع المسيح الملتزمين بالتوراة ومِن غيرهم الى تحت لوائها.. وقد كانت الأيام قبلها عصيبة على المؤمنين الذين ابتلوا بحكم الوثنيين، وطولبوا بالصبر والدعاء بتعجيل قيام مملكة الله ومجيء المختارين ( تراجع البشارات بظهور المختارين)..(2/8)
وإذا كانت قد حُرِّمت القدس تماما على اليهود عام 135م، ولم يعد بها أحد منهم، وهو ما أشارت اليه النبوات الكثيرة مما يساعد على تمييز عذاب عام 135 م عن غيره، ومما يعني صلاحية اعتبار فترة هجر ( ترك أو إخلاء) المدينة المقدسة ( وهي فترة السبعين اسبوعا أو الـ 490 سنة) مبتدأة من وقت هجرهم الكامل لها عام 135م.. فإن العشرة يوبيلات (5) المذكورة بالنص أعلاه، وهي بالسنوات القمرية، مبتدأة من عام 135م ستنتهي عام 620 م (135+ 500- 15، يُلاحظ أن حذف 15 سنة هي لتعديل الفترة لتكون بالحساب الميلادي الشمسي).. ويكاد أن يكون ذلك هو عام الهجرة النبوية، أمّا إذا حذف التعديل للسنوات القمرية فإن الفترة ستكزن منتهية الى عام 635 م وهو عام حجة الوداع تماما، وهو عام العيد الأكبر بتأريخ الإسلام بإعلان إكمال الدين وإتمام النعمة ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا).. وفيه يوم الغفران أو - إن شئت – يوم الكفارة أو يوم عرفة الذي شهده الرسول عليه الصلاة والسلام في تجمع ضخم مع مائة ألف من المسلمين.. ويستحق بكل تأكيد أن تشير اليه النبوات لتبشر المؤمنين الصابرين المشردين أن مملكة الله قادمة وستؤيهم.. وقد آوتهم !(2/9)
وقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق ( كلها أيام متتالية من 9- 13 ذي الحجة) هنّ عيدنا أهل الإسلام، هن أيام أكل وشرب. ويوم عرفة هو أعظم الأيام لدى المسلمين، وصومه كفارة لعامين، عام قبله وعام بعدة، فهو فعلا يوم الكفارة ويوم العتق من النار ويوم المغفرة لدى المسلمين، وفي هذا السياق أذكر هنا ما رواه البخاري أيضا عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مامن يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة.."، وقد روى البخاري كذلك في صحيحه: " قال رجل من اليهود لعمر يا أمير المؤمنين لو أن علينا أنزلت هذه الآية اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا لأتخذنا ذلك اليوم عيدا، فقال عمر إني لأعلم أي يوم نزلت هذه الآية نزلت يوم عرفة في يوم جمعة " أي في السنة العاشرة للهجرة عام حجة الوداع .. فهذا هو يوم المغفرة والعتق.. وتمّ في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة لهجرته..
وللقاريء أن يعجب من دقة هذه البشارة وكيف ذكرت هذا اليوم العظيم في تاريخ الإسلام بل في تاريخ البشرية ( يوم الغفران ، ويوم إعلان اكتمال الإسلام)، كيف ذكرته وذكرت معه توبة الله على المؤمنين من اتباع الملك النبي المنتظر ( كلها من صفات المصطفى المنتظر المسمى هنا بملكي صديقي)، وذكرت قيام المملكة الصالحة، وتحرير الأسرى ( وهو ماتمّ فعلا بالمعنى الحرفي في غزوات بدر وفتح مكة وبني المصطلق وقوم هوازن وقوم حاتم الطائي وآخرين، وبالمعنى المعنوي كما عبر عنه ربعي بن حاتم حين أعلن لرستم قائد الفرس أن الإسلام جاء ليحرر العبيد من عبادة العباد الى عبادة الله وحده)، كيف ذكرت البشارة كل ذلك وحددت زمن حدوثه بشكل لا يكاد أن يصدق ..(2/10)
فهل تكون مصادفة أن تتحدث نبوة الأسابيع لإينوخ عن مجيء المختارين قبل المائة السابعة من بعد هدم الهيكل، وأن تشير وصية لاوي الى مجيء خاتم الأنبياء في نفس الفترة الزمنية خلال الإسبوع السابع من بعد آدم على الحساب الذي تعارف عليه أهل الكتاب، وأن تشير هذه النبوة بل ونبوة السبعين اسبوعا لدانيال الى قيام مملكة الله والدين الخاتم ( البر الأبدي) في نفس الفترة الزمنية التي قامت بها دولة الإسلام، وأن يتنبأ دانيال بقيامها بعد ثلاثة أحقاب زمنية ونصف من حكم قسطنطين كما رأينا ( تراجع بشارة دانيال بالإصحاح السابع)، ثم يحدث ذلك تماماً وتقوم فعلا مملكة الإسلام باسم الله فتعمر الأرض وتملكها في تفس ذلك الموعد المحدد سلفاً في كل هذه البشارات.. ولاتقوم بعد ذلك دولة ربانية أخرى.. وقد مرت ألفي عام أو تزيد منذ تشريد اليهود على أيدي الروم.. فمتى يؤمنون!!(2/11)
ونعود مرة أخرى إلى النص أعلاه إذ يمضي التفسير الذي كتبه أهل المخطوطات في هذه الرقعة فجأة ليفسر موضعا آخر فيما يبدوا أنه من كتاب إشعيا لعله 52:7 وربما 61:1- 9 (6).. وهو ذلك الموضع الذي يتحدث عن نبي عظيم في آخر الزمان وهو يعظ واقفا على جبل.. وهو يعلن السلام ( اللفظ بالعبرية قريب جدا من لفظ الإسلام)، ويعطي الأخبار الطيبة بقدوم الحكم الرباني، متنبأ لبني اسرائيل كما يذكر النص أعلاه.. وهو كما يرى أهل المخطوطات نفس النبي ( المسيا) الذي عناه دانيال بأنه سيُقطع في الإسبوع التاسع والستين ( الإسبوع الثاني والستين بعد سبعة أسابيع تسبقها)،وهو الذي لن يحقق شيئاً بمعنى أنّه لن يحقق نصراً.. وقد أثبتُ بشكل واضح بيّن عند التعليق على نبوة السبعين اسبوعا أنّ ذلك النبيَ كان عيسى عليه السلام ( أو حتى يحي عليه السلام الذي عاصره).. وهو ما اتفق عليه الكثير من المتدينين النصارى..وممّا يؤكد هذا الأمر أنّ هذا النبي المبشر قد لقّب في إشعيا 52: 7 بـ" المُبشِّر" حيث جاء:" ما أجمل على الجبل وقع قدمي المُبشِّر الذي يذيع سلاما وينشر بشائر الخير.." ونعلم أنّ الذي لُقب بالمبشر هو عيسى عليه السلام.. فمن كان المبشر إلا عيسى عليه السلام، الذي جاء بالبشارة ( وهو معنى اسم الإنجيل)، وهي البشارة بمملكة الله القادمه التي كانت كما أثبتنا دولة الإسلام..(2/12)
ومن الواضح أن النبي الذي لن يحقق شيئا كما ذكر كتاب دانيال، والذي هو نفسه النبي البشير، والذي سيأتي بعده الإنتقام من اليهود من الواضح أنّه ليس نفس النبي المذكور ( ملكي صديقي أو النبي الحاكم) في بداية هذا المقطع التفسيري ( لموضعين مختلفين من التوراة) والذي سيقيم مملكة الله، ويأتي بعد فترة عشرة يوبيلات.. وإذا كان هذا ( أي ملكصديقي) سيقيم مملكة الله، فإن النبي الآخر ( الذي ذكره دانيال) سيأتي بالأخبار الطيبة بقرب وقوعها، وسيخفف عن الناس الإصر الذي عليهم، ويعلن للناس الفترات الباقية لقيام مملكة الله وغلبة أبناء النور على إبليس وأعوانه.. ولاشك بأنّ عيسى عليه السلام قد جاء فعلاً مبشراً بالأخبار الطيبة ( وذلك معنى لفظ كلمة الإنجيل الذي جاء به) وأنه قد رفع عن اليهود كثيرا من الإصر الذي عليهم.. وتكون بذلك هذه النبوة مبشرة بالنبيين العظيمين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام من بعد عصر أهل مخطوطات البحر الميت..
تعقيب:
ومع هذا فإن كان أصحاب المخطوطات في هذه الرقعة يعنون أصلا نبيا واحدا، فإنّ ذلك من الإلتباس الذي وقع فيه اليهود ومنهم أهل المخطوطات، ووقع فيه كذلك النصارى ( التعليق بالهامش 6)، إذ من الواضح أن النبي الذي سيُقطع ( أو تُقطع دعوته) ولن يحقق شيئا ( بسبب عناد قومه)، بل وتُتبع دعوته بعقاب قومه واستئصالهم من الأرض المباركة هو غير ذلك الذي سيقيم مملكة الله الخالدة وينجز الإنجاز الضخم الذي تنتظره البشرية! ومثل هذا الخلط بين صفات النبيين يمكن ملاحظته في مواضع أخرى من المخطوطات.. ويظل هذا التفسير لأهل المخطوطات واضح الدلالة بالأسلام ومملكته ورسول الأسلام ويوم الغفران ( يوم عرفة) بعد حوالي خمسمائة عام من طرد اليهود من الأرض المباركة عام 135م.
ـــــــــــــ
هوامش البشارة بالملك الصديق ( ملكي صديقي)
(1) Michael Wise, Martin Abedge& Edward Cook in : The Dead Sea Scrolls, 1996, p.456-7.
((2/13)
2) ترجم هذه العبارة موسى الخوري الى " أنه سيكون وقت سنة تسامح ملكيصادق"، وقد كان بحجة الوداع إعلان إعفاء الناس من إلتزامات الجاهلية وثاراتها.
يلاحظ أن شخصية ملكيصادق بالعهد القديم شخصية غامضة، ظهرت خلال عدد من الأحداث بدءا من عهد ابراهيم عليه السلام، ووضعت شخصيات مختلفة من قبل الكثير، منها أنه مَلَك، ومنها أنّه الروح القدس، أو ملك أو المسيح، أو إدريس أو سام.. وهو رسول للعالمين، ولم يمتلك موقعه وراثة من أب ولا أم ورسالته خالدة ( يراجع مثلا Wycliffe Bible Dictionary).. وأرى في شخصية ما يشبه شخصية الخضر بغموضها لدينا نحن المسلمين.. وعلى أي حال، فقد يكون اللقب لأكثر من شخص أو هو لقب للمنزلة التي وصل اليها البعض.. وعلى أي حال فمن البارز حمله لصفات عديدة هي بلا شك صفات المصطفى خاتم الأنبياء، ولا نشك في أن أصحاب المخطوطات – كما هو بين في النص أعلاه_ كانوا ينظرون إليه كلفظ رديف للمصطفى أو المسيا المنتظر.
(3) ذكر ذلك أيضاً موسى ديب مترجم المخطوطات لدبونت سومر.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
(4) Graig A. Evans & Petter W. Flint in chapter: The expectation of the end in the Dead Sea Scrolls in: Studies in Dead Sea Scrolls and related lliteratures: Eschatology, messianism, and the Dead Sea Scrolls, 1997.
(5) كان انجيل برنابا قد ذكر بأن المسيا محمد رسول الله سيجعل اليوبيل يأتي كل عام، وإذا أخذنا بذلك الرأي فسيكون المقصود أن يوم الغفران سيكون في السنة العاشرة، وهو ما كان بحق، فقد تمت حجة الوداع وجمهرة الحج العظيمة أيام الرسول في السنة العاشرة للهجرة، وبها تم إعلان اكتمال الدين، وإتمام النعمة.. وهذا مما يمكن اعتباره من أدلة صدق انجيل برنابا ..
((2/14)
6) يرى مايكل وايز والمؤلفون معه للمرجع الذي أقتبست عنه هذا المقطع من المخطوطات أن أصحاب المخطوطات في تفسيرهم المتعلق بالنبي المبشر كانوا يقصدون الإصحاح 61 من إشعيا، وأورد للقاريء هنا هذا المقطع ليرى الالتباس الذي يبدوا أن أصحاب المخطوطات قد وقعوا فيه، والمقطع كما يلي، إشعيا 61: 1- 9:
" روح السيد الرب عليّ لأن الرب مسحني لأبشر المساكين أرسلني لأعصب منكسري القلب لأنادي للمسبيين بالعتق وللمأسورين بالإطلاق، لأنادي بسنةٍ مقبولةٍ للرب وبيوم انتقام لإلهنا، لأعزي كل النائحين، لأجعل لنائحي صهيون لأعطيهم جمالاً عوضاً عن الرماد ودهن فرح عوضاً عن النوح ورداء نسيج عوضاً عن الروح اليائسة فيدعون أشجار البِر غرس الرب للتمجيد ويبنون الخرب القديمة يقيمون الموحشات الأول ويجددون المدن الخربة موحشات دور فدور، ويقف الأجانب ويرعون غنمكم ويكون بنو الغريب حراثيكم وكراميكم، أما أنتم فتدعون كهنة الرب تسمون خدام إلهنا، تأكلون ثروة الأمم وعلى مجدهم تتآمرون عوضاً عن خزيكم ضعفان وعوضاً عن الخجل يبتهجون بنصيبهم، لذلك يرثون في أرضهم ضعفين، بهجة أبدية تكون لهم، لأني أنا الرب محب العدل مبغض المختلس بالظلم، وأجعل أجرتهم أمينةً وأقطع لهم عهداً أبدياً، ويُعرف بين الأمم نسلهم وذريتهم في وسط الشعوب، كل الذين يرونهم يعرفونهم أنهم نسل باركه الرب” .(2/15)
فبينما تدل القطعة فعلا على مهام المسيح الذي يتنبأ بقدومه إشعياء وهي تبشير المساكين، وهو اللقب الذي أطلقه على أنفسهم فعلاً أصحاب عيسى عليه السلام الحقيقيون، وقد جاء عيسى بحق مبشرا لهم بقدوم مملكة الله الخالدة، ومن مهامه التخفيف عن المؤمنين بالتخفف من بعض الأوامر الشديدة التي كانت على بني اسرائيل عقوبة لهم، ومن مهامه إعلام بني اسرائيل بقرب وقوع العذاب الأليم عليهم.. وكل ذلك كان فعلا مما قام به المسيح, وأعلن أنه من مهامه.. ولكنه قام بإعلام اليهود بأن النبوة ستنقل عنهم إلى غيرهم، ولم يأت بملك لهم بل أعلن أنه جاءهم بالسيف، أي بعذاب الإستئصال الذي وقع عليهم على أيدي الروم عام 70-135م.. ولذا فبينما يأتي الجزء الأول من البشارة وكأنه يبشر بالمسيح عيسى عليه السلام، تأتي بقية الجزء وكأنها تبشر بالمصطفى خاتم الأنبياء.. إذ نعلم من بشارات دانيال وغيره أن المسيح الذي سيسبق مجيئه وقوع العذاب على بني اسرائيل ليس هو نفس المصطفى أو المسيح المنتظر الذي سيقيم البر الأبدي وينشيء مملكة الله على الأرض.. فهذا خلط وقع فيه أصحاب المخطوطات حتى إنهم ليستشهدون بنبوة دانيال التي هي صريحة في أن المسيح أو النبي الذي يتكلمون عنه سيتبعه خراب المعبد وعذاب بني اسرائيل ثم يقع منهم ( في بعض المواضع فقط من كتاباتهم كما هو بهذا الموضع وبإشعيا 52:7 و 61: 1- 9 التي قاموا بتفسيرها هنا) ما يوحي بأنهم يتوقعون أنه نفسه سيبني مملكة الله.. ولا شك بأن تعليل كل هذا هو التحريف المتعمد من قبل اليهود للبشارات الواردة بالتوراة وكتب الأنبياء.. بما في ذلك إصرارهم على أن مملكة الله ستقوم فيهم ! والله أعلم.(2/16)
وأورد كذلك هنا موضعا آخر من كتاب إشعيا ( 52: 7-8) قد يكون هو ما عناه أصحاب المخطوطات :" ما أجمل على الجبل وقع قدمي المُبشِّر الذي يذيع سلاما وينشر بشائر الخير، القائل لصهيون قد ملك إلهك! ها رقباؤك قد رفعوا صوتهم وشدوا بفرح، لأنهم يشهدون عيانا رجوع الربّ إلى صهيون..).. فمن كان المبشر إلا عيسى عليه السلام، الذي جاء بالبشارة ( وهو معنى اسم الإنجيل)، وهي البشارة بمملكة الله القادمه، التي أعلن أن التبشير بها كان هو المهمة التي أُرسل بها.. والنص يوحي بها مملكة لبني إسرائيل، لكنّ الأناجيل ذكرت أن البشير عيسى عليه السلام قد أعلنها من غير بني إسرائيل كما رأينا ذلك من قبل، وما نظن النص بإشعيا إلا محرفا..
رؤيا المسيا من مخطوطات البحر الميت Messianic Apocalypse
أذكر هذه القطعة هنا كمثال فقط على ما كتبه أهل قمران عن المسيا المنتظر.. والقطعة مأخوذة هنا عن Neil Asher Silberman سيلبرمان (1)، وكان قد أعطاها باحث من قبله العنوان المذكور أعلاه..
النص بالإنجليزية:
“ .. The Heavens and the earth will obey His messiah, (The sea and all that is th)at is in them. He will not turn aside from the commandment of the holy ones.
Take strength in his mighty work, all ye who seek the Lord.
Will you not find the Lord in this, all ye who wait ( for Him) with hope in your hearts?
Surely the Lord will seek out the pious and will call the righteous by name.
His spirit will hover over the poor; by his might he will restore the faithful.
He will glorify the pious on the throne of the eternal kingdom.
He will release the captives, make the blind see, raise up the do (wntrodden).”
ترجمة النص:
" السموات والأرض ستُطيع مسيحه ( والبحر وكل ما فيه)،
هو لن يجانب أوامر القديسين،(2/17)
يا كلَّ من يرجون الله تقووا بعمله العظيم،
ألن تجدوا الرب في هذا ( أي هنالك)، ياكل مَن انتظروه بالأمل في قلوبهم،
حقاً، إنّ الربّ سيخرج المتقين، ويدعوا الصالحين بالإسم،
وروحه سيرعى المساكين، وبقوته سيقيم المؤمنين، ويمجد المتقين على المملكة الأبدية،
ويخرج الأسرى، ويجعل العمي يبصرون، ويرفع العاملين"
التعليق:
ليست هذه القطعة من الكتاب المقدس ولا من تفسيراته المباشرة، ولكنها مما كتبه أصحاب مخطوطات البحرالميت، يعبرون فيه عن توقعهم كغيرهم من اليهود لمجيء المصطفى ( المسيح الخاتم أو المسيا) لإقامة مملكة الله الأبدية، والأمة الخالدة، ونصر المؤمنين وإعلاء شأنهم.. ويتوقعون أنّه من خلال ذلك النصر العظيم الذي سيتحقق على يدي المصطفى سيكون للمتقين عز وقوة.. ومن خلال دعوته ومبادئه سيخرج الأسارى ويهدي العميّ، ويرفع شأن العاملين..
كل هذه التوقعات والتطلعات من قبل المؤمنين لم تتحقق إلا بظهور المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، ومن خلال دولة الإسلام وأمته الخالدة التي أنشأها.. وفي هذا اتفاق واضح مع كل ما سبق من بشارات..
"
ــــــــــــــــــــ
(1) The Hidden Scrolls, by Neil Asher Silberman, p. 114.
قضية اختفاء أصحاب المخطوطات بظهور عيسى عليه السلام واختفاء النصارى الناصريين (1) بظهور الإسلام:
سبق أن ذكرتُ أن النصارى الملتزمين بالتوراة من أتباع كنيسة القدس( أو ما أطلق عليهم البعض بأتباع المسيح الحقيقيين) اختفوا من التأريخ مع فترة ظهور الإسلام رغم انتشارهم الكبير قبل ذلك، وذكرت التفسير المنطقي لبعض الباحثين أن ذلك كان بسبب دخولهم الإسلام.. ولم لا فهم بانتظاره صابرين.. وقد جاءهم موافقا لما يعتقدوا عن الله وعن نبيه عيسى عليه السلام..(2/18)
وأذكر هنا قضية اختفاء أهل المخطوطات مع فترة ظهور المسيح عيسى عليه السلام.. وقد فسر ذلك المؤرخون بأنهم أبيدوا أو انتحروا مع قدوم الروم معاقبين عام 70م.. وليس من المعلوم مشاركة أصحاب المخطوطات في الثورة على الروم في الأعوام 63-70م.. فذلك مما يخالف موقفهم المبدئي في عدم مشاركة اليهود في ثوراتهم.. لكن ذلك لا يعني عدم مشاركتهم تماما ولا عدم تعرضهم للأعتداء على أيدي الرومان الغزاة..
إنّ من المتوقع أن أكثرية بل ربما كل أصحاب المخطوطات قد تحولوا الى النصرانية، وهذا ما يعتقده بباحثثون مثلEmile Puech إيميلي بيوخ عندما سأله الباحث سيلبرمان (2) عن بعض النصوص التي تبدو وكأنها تتحدث عن عيسى عليه السلام، فأجاب باعتقاده أن كثيرا من أهل قمران قد تنصروا فيما بعد، بينما يرى باحثون آخرون أن الذين عاصروا عيسى عليه السلام من أصحاب مخطوطات البحر الميت كانوا نصارى فعلاً.. ولم لا فهم قد حملوا نفس المعتقد، واختلطوا كما يرى الباحثون بنبي الله يحي.. بل يراه بعضهم منهم.. وفي كتاباتهم كانوا على انتظار للمسيح عليه السلام.. وكيف لا يؤمنون به وقد جاءهم بمعجزات كانوا يتوقعونها منه كما دلّ على ذلك ما كتبوه من قبل عصر المسيح عيسى عليه السلام.. إنه الدين الواحد عند الله.. وإن المؤمنين في كل عهد ليفرحون بالوحي الحديث من عند الله و يتبعونه.. وليس من بعد خاتم الأنبياء وحي ولا رسالة جديدة من عند الله..
ـــــــــــــــــــ
(1) كلتا المجموعتين من أصحاب المخطوطات اللذين اعتزلوا قومهم إلى قمران، ومن أتباع المسيح عيسى عليه السلام الحقيقيين من اليهود النصارى ( الناصريين)، كلتا المجموعتين تسمّت باسم " المساكين".. فلكأنها أمتداد لبعضها..
(1) The Hidden Scrolls, by Neil Asher Silberman, p. 115.
مشاهد أخرى من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ..
مزامير 68: 1- 10
النص:(2/19)
"يقوم الله. يتبدد أعداؤه ويهرب مبغضوه من أمام وجهه. كما يُذرى الدخان تُذرِيهم. كما يذوب الشمع قدام النار يبيد الأشرار قدام الله. والصدّيقون يفرحون. يبتهجون أمام الله ويطفرون فرحاً.
غنوا لله رنموا لاسمه. أعدوا طريقاً للراكب في القفار باسمه ياه واهتفوا أمامه. أبو اليتامى وقاضي الأرامل الله في مسكن قدسه. الله مُسْكِنُ المتوحّدين في بيتٍ. مُخرِجُ الأسرى إلى فلاح. إنما المتمردون يسكنون الرمضاء.
اللهم عند خروجك أمام شعبك عند صعودك في القفر. سلاه. الأرض ارْتعدت السماوات أيضاً قطرت أمام وجه الله سينا نفسه من وجه الله إله إسرائيل. مطراً غزيراً نضحْت يا الله. ميراثك وهو مَعْيٍ أنت أصلحته. قطيعُك سكن فيه. هيأت بجودك للمساكين يا الله. الربّ يُعطي كلمة. المبشرات بها جند كثير. ملوك جيوش يهربون يهربون. الملازمة البيت تقسم الغنائم. إذا اضطجعتم بين الحظائر وأجنحة حمام مغشاة بفضة وريشها بصفرة الذهب. عندما شتَّت القدير ملوكاً فيها أثلجت في صلمون.. صعدتَ إلى العلاء، سبيتَ سبيا، قبلتَ عطايا بين الناس وأيضا المتمردين للسكن أيها الربّ الإله "
“ God rises up and scatters his enemies. Those who hate him run away in defeat. As smoke is blown away, so he drives them off; as wax melts in front of the fire, so do the wicked perish in God’s presence. But the righteous are glad and rejoice in his presence; they are happy and shout for joy. Sing to God, sing praises to his name; prepare a way for him who rides across the desert. His name is the Lord – be glad in his presence!(2/20)
... God, who lives in his sacred Temple, cares for orphans and protects widows. He gives the lonely a home to live in and leads prisoners out into happy freedom; but rebels will have to live in a desolate land. O God, when you led your people, when you marched across the desert, the earth shook, and the sky poured down rain. You caused abundant rain to fall and restore your worn-out land; your people made their home there. ”
التعليق:(2/21)
هذا حديث عن نصر رباني للمؤمنين.. ويومئذ يفرح المؤمنون ويبتهجون "والصدّيقون يفرحون. يبتهجون أمام الله ويطفرون فرحاً.. أما الأشرار فسيهزموا ويطردوا أو ويندحروا هاربين " run away in defeat ".. إن هذا النصر سيكون على يد ذلك الراكب في القفار (الصحاري) الذي يأمر الله الناس باستقباله واعداد الطريق له.. والقفار والصحاري بالتوراة تكاد أن ترادف الإشارة إلى العربية أو جزيرة العرب.. والذي ركب القفار وأمر الناس في التوراة باستقباله قد أثبتنا – من قبل – قطعا أنه محمد صلى الله عليه وسلم.. وذلك عند استعراض البشارة بالهجرة ومعركة بدر في جزيرة العرب في إشعياء 21 :13- 17 (2).. فهو الذي هتف التاس أمامه عند استقباله بالأناشيد " أعدوا طريقاً للراكب في القفار باسمه ياه واهتفوا أمامه" .. هتفوا مستقبلين له بعد قطعه القفار العربيه مغنين: " طلع البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع، أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع جئت شرفت المدينة، مرحباً يا خير داع " .. وكان هو أبو اليتامى وكافل الأرامل.. فقد كفل عليا بن أبي طالب يتيما وزيد بن حارثة عبدا أسيراً.. وكفل الأرامل وأوصى بالنساء خيرا، وكان معظم زوجاته أرامل كفلهن صلى الله عليه وسلم.. وهو مخرج الأسرى.. وأي أسر أكبر من أسر المؤمنين بمكة فوجههم الرسول إلى الهروب إلى الحبشة ثم الى المدينة ( يثرب).. وأطلق أسرى معركة بدر وأسرى معركة حنين.. وقد كانوا كثير.. وفي أسره لأسرى حنين صعد الجبال ( صعدت إلى العلاء)، وهرب من أمامه الناس والأمراء.. وعاد بسبي عظيم للمدينة ( سبيتَ سبيا) ثمّ أطلقه بعد ذلك كرامة منه على المأسورين وأهلهم.. "واهتفوا أمامه. أبو اليتامى وقاضي الأرامل الله في مسكن قدسه. الله مُسْكِن المتوحّدين في بيت. مخرج الأسرى إلى فلاح".." صعدت إلى العلاء، سبيت سبيا، قبلت عطايا بين الناس " ..(2/22)
وأصبحت المدينة التي هاجر إليها المؤمنون سكن المؤمنين الموحدين ومأواهم الذي يهاجرون إليه .. ." الله مُسْكِنُ المتوحّدين في بيت"..
وفي أول لقاء له مع المشركين من أهل مكة الذين أخرجوه من مكة، في السنة الثانية من الهجرة تماما كما تنبأ اشعيا في النبوة المشار إليها أعلاه.. نزل المطر ليلة الحرب فكان سكينة وطهورا وتجديدا لنفسية المؤمنين، وتثبيتا للأرض من تحت أقدامهم.. ذكره الله عز وجل في القرآن بقوله تعالى:" إذ يُغشيكم النعاس أمنة ويُنزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويُثّبت به الأقدام" .. وهو نفس التعليل المذكور بهذه البشارة حول مصلحة المؤمنين من نزول المطر .. كما هو بالنص الإنجليزي:
“ the sky poured down rain. You caused abundant rain to fall and restore your worn-out land”..
وهو وأمته الوارثون.." ميراثك وهو معْيٍ أنت أصلحته" .. وقد أثبتنا كيف أن الحديث بالتوراة عن وراثة الأرض المباركة هو قطعا حديث عن المسلمين.. " ثم أورثنا الكتاب الذين أصطفينا من عبادنا" .." أن الأرض يرثها عبادي الصالحون".
يلاحظ أن البشارة كأنما تتحدث عن الله.. والواقع أنها تتحدث عما سيصنعه الله من خلال المصطفى ( المسيا) أو على يد المصطفى الذي سيأتي بآخر الزمان.. وهو المسيا أو المصطفى الذي سماه داود عليه السلام بالسيد أو سيدي ( فهو سيد الرسل أو المرسلين) أو My Lord على لسان داود عليه السلام كما يروي الزبور.. وهو نفس اللقب الذي أطلق عليه هنا.." “His name is the Lord.. مما يؤكد أن هذه البشارة هي عن نفس النبي ( المسيا).. وقد علمنا من الإنجيل أنها عن نبي من غير نسل داود يأتي من بعد عيسى عليه السلام (1)..(2/23)
عمّن يكون الحديث هنا إلا عن خاتم الأنبياء وسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم.. مَن غيره كان راكب القفار واستقبله الناس هاتفين.. وسار بقومه في الصحراء مجاهدا.. فأيده الله بالنصر، وبالمطر يثبت الأرض تحت أقدامه وأصحابه.. من غيره لقب بسيد المرسلين وسيد ولد آدم ( السيد).. من غيره من الأنبياء قاتل فأسر وأطلق أسراه.. وصعد الجبال فسبى ثم أطلق.. وكفل اليتيم والأرملة.. مَن غيره كان الوارث ووُصفت أمته بالوارثة.. وأنطبقت عليه صفات المصطفى خاتم الأنبياء الذي تحدث عنه داود بل وتحدث عنه آخر أنبياء بني اسرائيل عيسى عليهما السلام.. مَن .. ومَن.. إلا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم..
ولئن كان في البشارة ما قد يعطي انطباعا بأنه نبي من بني اسرائيل، فإن ذلك نتيجة واضحة لتحريفات اليهود الثابتة..
ــــــــــــــــــــــ
هوامش مشاهد أخرى
(1) أنظر البشارة " ليس عيسى عليه السلام المسيّا المنتظر" في متى 22 : 42 وكذلك لوقا 20 : 44 ، مرقس 12 : 35 - 37
(2) إشعيا 21 : 13 - 17
“ وحيٌ من جهة بلاد العرب . في الوعر في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الددانيين . هاتوا ماء لملاقاة العطشان يا سكان تيماء وافوا الهارب بخُبزه . فإنهم من أمام السيوف قد هربوا . من أمام السيف المسلول ومن أمام القوس المشدودة ومن أمام شدة الحرب. فإنه هكذا قال لي السيد في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار وبقية عدد قسيّ أبطال بني قيدار تقِلّ ” .
كما سبق فقيدار هو الابن الثاني لإسماعيل عليه السلام، ففي التكوين 25 : 12 "هذه أسماء بني اسماعيل بحسب أسمائهم وسلالتهم: نبايوت بكر اسماعيل، وقيدار وأدبئيل ومبسام ومشماع ودومة ومسّا وحدار وتيما ويطور ونافيش وقدمة..."
النبي الأميّ ..والحوار الأول عند تلقي الوحي..
اشعياء 29 :11-12
النص:(2/24)
" لأن الرب قد سكب عليكم روح سبات وأغمض عيونكم، الأنبياء ورؤساؤكم الناظرون غطاهم، وصارت لكم رؤيا الكلّ ( أي جميع الرؤى) مثل كلام السفر المختوم الذي يدفعونه لعارف الكتابة قائلين اقرأ هذا فيقول لا استطيع لأنه مختوم. أو يدفع الكتاب لمن لا يعرف الكتابة ويقال له اقرأ هذا فيقول لا اعرف الكتابة.
So that all prophecy has been to you like the words of a sealed document. If it is handed to one who can read and he is asked to read it , he will say ,”I can’t, because it is sealed’’ and if the document is handed to one who cannot read and he is asked to read it, he will say , ’’ I can’t read “or “I am not learnt” .
التعليق:
لا يبدو أن هاهنا بشارة.. ولكنّ النص يشير إلى وضعين عند حجب الرؤى والنبؤات.. الأول كمثل من أعطي كتابا مختوماً ليقرأه، فلا يستطيع قرأته لأنه مختوم، فهو قاريء أي ليس بأمي ولكنه عجز عن القراءة لأنه أعطي الكتاب مختوما، أو الثاني كمثل من أعطى كتاباً لمن لا يعرف القراءة فيقال له إقرأ، فيقول: ما أنا بقاريء ( أو لا أعرف القراءة) I am not learnt .. ولفظ " لا أعرف الكتابة" هو ترجمة غير دقيقة أبداً لعبارة " لا أستطيع القراءة " وعبارة " ما أنا بمتعلم".. “ I can’t read “ or “ I am not learnt” .
واضح أن الجزء الأخير ليذكّر كل مسلم باللقاء بين جبريل عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم حين أعطي أول سورة من الكتاب، وأمر أن يقرأ فقال ما أنا بقاريء.. وكل الذين أعطوا كتبا سماوية قبل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يقرأون ويكتبون، وإنما كان هو النبي الأميّ (1)، والذي أعطي الكتاب تلقينا آيات آيات، ولم يعط ألواحا أو كتاباً مكتوبا، وأمّا الذي أعطي الكتاب مختوما فقد قيل أنه موسى عليه السلام..
ــــــــــــــــــ
(1) لفتة للدكتور ابراهيم خليل في كتابه لماذا أسلم صديقي.(2/25)
الملك العادل المنتظر ..
( المزامير 45 )
“ فاض قلبي بكلام صالح، متكلمٌ أنا بإنشائي للمَلِك، لساني قلمُ كاتب ماهر، أنت أبرع جمالاً من بني البشر، انسكبت النعمة على شفتيك لذلك باركك الله إلى الأبد، تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار، جلالَك وبهاءك، وبجلالك اقتحم اركب، من أجل الحق والدعة والبر فتريك يمينك مخاوف، نبلك المسنونة في قلب أعداء الملك، شعوبٌ تحتك يسقطون، كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب استقامة قضيب ملكك، أحببت البر وأبغضت الإثم من أجل ذلك مسحك الله إلهك بدهن الابتهاج أكثر من رفقائك، كل ثيابك مُرٌّ وعودٌ وسليخة، من قصور العاج سرّتك الأوتار، بنات ملوك بين حظيّاتك، جعلت الملكة عن يمينك بذهب أوفيراسمعي يا بنتُ وانظري وأميلي أذنك وانسي شعبك وبيت أبيك، فيشتهي الملك حسنك لأنه هو سيدك فاسجدي له، وبنتُ صور أغني الشعوب تترضى وجهك بهدية،كلها مجد ابنة الملك في خدرها، منسوجة بذهب ملابسها، بملابس مطرزة تحضر إلى الملك، في إثرها عذارى صاحباتها، مقدمات إليك يحضرن بفرح وابتهاج، يدخلن إلى قصر الملك، عوضاً عن آبائك يكون بنوك تقيمهم رؤساء في كل الأرض، اذكر اسمك في كل دَور فَدَور، من أجل ذلك تحمدك الشعوب إلى الدهر والأبد ” .
“ الآن عرفت أن الرب مخلص مسيحه ليستجيبوا من سماء قدسه بجبروت خلاص بيمينه..
He gives him great victories
هؤلاء بالمركبات وهؤلاء بالخيل أما نحن فاسم الرب إلهنا نذكر، هم جثوا وسقطوا أما نحن فقمنا وانتصبنا.
يا رب بقوتك يفرح الملك you give strength, he rejoices because you made him victorious .. You came to him with great blessing .. حياةً سألك فأعطيته، طول الأيام إلى الدهر والأبد، عظيم مجده بخلاصك جلالاً وبهاءً تضع عليه ”(2/26)
His glory is great because of your help, you have given him fame and majesty your blessing are with him forever .. He will always be secure, the king will capture all his enemies ”
التعليق:
هناك ما يشبه الاجماع في أن هذه البشارة تعني المسيا أو المصطفى المنتظر.. فهذا النبي الملك (الحاكم ) بعد داوود عليه السلام ( وردت هذه البشارة في كتاب داود) موصوفٌ :
( بالحسن وجمال الصورة.
·?بانسكاب النعمة على شفتيه ( الوحي والالهام الالهي).
·?بالقوة وتقلد السيف لنصرة الحق.
·?بالنصر على الأعداء.
·?بأن له عددا من الزوجات، وبأن منهن بنات ملوك.
·?بنداء لإحداهنّ تُؤمَر فيه بنسيان شعبها وبيت أبيها ( صفية ؟ )
·?بأن بنيه ( أتباعه ؟ ذُريّته ؟) يكونون رؤساء على الأمم..
·?بأن ذكره حيٌّ بين الأجيال والشعوب إلى أبد الأبد، وسيخلد اسمه أبد الدهر ولن ينسى من بعده وسيصلى عليه ويبارك عليه في كل الأوقات ومن كل الأمم وإلى أبد الدهر
"Your fame alive for ever, and every one will praise you for all time to come”
·? وبأنه ستأتيه الهدايا من من ملوك الحبشة وملوك العرب وملوك سبأ ( استبدلت سبأ باسبانيا في النص الأنجليزي المذكور أدناه).
·?بأن مملكته ستظل إلى أبد الأبد
“ The kingdom that God has given you will last for ever and ever”(2/27)
عبارة " المملكة التي ستظل إلى الأبد" تحمل إشارة واضحة إلى مملكة الله المنتظرة التي بشّر بها الأنبياء، والموصوفة بالبقاء إلى نهاية الزمان.. وهو ما يتفق مع ما ذكرته في فهم أهل الكتاب أن هذه بشارة خاصة بالمسيا.. وقد أثبتنا في الفصول السابقة بشكل قاطع تماما أن مملكة الإسلام هي المقصودة بأنها مملكة الله.. وهي التي مازالت عامرة بدينها ( الخاتم الذي لن ينسخ)، وبأهلها من المسلمين.. وبالتالي فإن هذا النص يتحدث عن النبي الذي سينشيء مملكة الإسلام.. أي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.. والله أعلم.. وفي الواقع فإن الصفات المذكورة هنا تنطبق على رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فهو الموصوف بالحسن والجمال (1).. وهو الأمي الذي انسكبت من شفتيه آيات القرآن الكريم والحكمة النبوية نطقا لا كتابة.. وهو النبي الذي كان قائدا وحاكما.. وهو الذي تقلد السيف فقاتل به أعدءه حتى انتصر عليهم.. وهو الذي كان له عدد من الزوجات ( أي ليست زوجة واحدة)، بعضهن من بنات رؤساء أقوامهن وحكامهم، كجويرية بنت الحارث زعيم بني المصطلق وأم حبيبة بنت أبي سفيان زعيم مكة، وصفية بنت حيي بن أخطب زعيم يهود خيبر .. واستحقت إحداهن أن يوجّه لها خطاب خاص يأمرها بأن تنسى قومها.. وذلك يبدوا كما لو أنه يعني صفية.. فهي الوحيدة التي كانت كتابية لتخاطب بالكتاب، وقد قتل المسلمون أباها وزوجها وبعضا من أهلها عند حادثة قريظة وفتح خيبر.. وهو أي رسول الله الذي عرف برحمة المساكين وحبهم، وهو الذي أُعطي الهدايا من ملوك الجزيرة العربية باليمن ( باذان) وعمان والبحرين ( منذر بن مساوى) ومن ملك الحبشة ( النجاشي) وملك مصر ( المقوقس) وامبراطور الروم (هرقل).. وهو الذي امتد حكمه من بعده فملأ الأرض عدلاً من البحار إلى البحار، وفي حياته شمل الجزيرة العربية كلها من الخليج الى البحر الأحمر إلى بحر العرب..(2/28)
وهو الذي رفع الله تعالى ذكره فأصبح يصلى ويبارك عليه في كل حين.. وتدعو الأمم بنفسها بالبركة والسلام من خلاله كما أُخبر بذلك في برنابا 96 : 8 وفي التكوين 22 : 15، وهو الذي لم يُشرَّف بآبائه ( كانوا وثنيين) بل شرفت به ذريته وأتباعه من بعده.. وهو الذي أصبح أبناؤه المؤمنون ( لقبت زوجاته بأمهات المؤمنين فكأنّ المؤمنين أبناؤه ، أو هم أبناؤه من ذرية فاطمة رضي الله عنها) رؤساء على الأمم.. وتوزع أحفاده من أبناء فاطمة رضي الله عنها بين الأمم فأصبحوا لها سادة وقدوة (2).. ولا يبدو مقنعاً أن هذه البشارة هي لسليمان عليه السلام فإضافةً إلى أن هذا لا يتفق مع ما صوروه عن سليمان عليه السلام، فإنه كذلك لا يتفق مع التاريخ.. ولا يبدوا أنه لملك آخر من بني إسرائيل، وإن كان ذلك لا يُنفى بشكل قاطع.. إلا إن تعارف اليهود عبر الأزمان أن هذه نبوة خاصة بالمصطفى آخر الزمان يرجح بقوة التفسير الذي يقدمه المسلمون بأن هذه النبوة تعني الرسول صلى الله عليه وسلم.. وجوانب التحريف بالنص بارزة عند مقارنته من مصادره المختلفة.. ولا يوجد من الأنبياء من يُرشح لهذه البشارة غير رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم..
وقد اشتمل النص على وصفٍ لمظاهر ملكية لعلها تعكس تأثراً بالتصور اليهودي حينها عن الأنبياء الملوك.. لكن النص لا ينطبق على أحد كما ينطبق على الرسول صلى الله عليه وسلم.. وقد ورد في مخطوطات البحر الميت ما يدل على أن هذا النص يعني المسيّا المنتظر..(2/29)
“Teach the king to judge with your righteousness, O God; share with him your own justice, so that he will rule over your people with justice and govern the oppressed with righteousness. May the land enjoy prosperity; may it experience righteousness. May the king judge the poor fairly; may help the needy and defeat their oppressors. May your people worship you as long as the sun shines, as long as the moon gives light, for ages to come
May the king be like rain on the fields, like showers on the land. The moon gives light. May righteousness flourish in his lifetime, and may prosperity last as long as
His kingdom will reach from sea to sea, from the Euphrates to the ends of the earth. The peoples of the desert will bow down before him; his enemies will throw themselves to the ground
“The kings of Spain * and of the islands will offer him gifts. The kings of Arabia and Ethiopia will bring him offerings. All kings will bow down before him; all nations will serve him. He rescues the poor who call to him, and those who are needy and neglected. He has pity on the weak and poor; he saves the lives of those in need. He rescues them from oppression and violence; their lives are precious to him Long live the King! May he be given gold from Arabia; may prayers be said for him at all times; may God’s blessings be on him always! .. May the cities be filled with people like fields full of grass. May the king’s name never be forgotten; may his fame last as long as the sun. May all nations praise him, May they ask God to bless them and may they wish happiness for the king(2/30)
وأختم التعليق على هذه البشارة بالتنويه بمزمور 72 ( هو غير المزمور 45 أعلاه) كله إذ يتحدث عن الملك العظيم الذي يصلي الناس من أجله كل الأوقات إلى الأبد، ويتقدم له ملوك ترشيش والجزر واليمن بالهدايا، وتمتد مملكته من البحر إلى البحر، ويرأف بالضعفاء والمساكين.. إذ يعلّق على ذلك الماوردي ( 2332-247 هـ) بأن هذه بشارة أخرى واضحة في حق الرسول ولم تتحقق في أحد من الأنبياء قبله.. وإن كنتُ لأضع شخصيا هنا احتمال أن يكون المقصود بها داود أو سليمان عليهما السلام والله أعلم..
ـــــــــــــ
هوامش الملك العادل المنتظر ..
(1) وردت أحاديث عديدة تشير إلى جمال رسول الله الخلقي، ومنها ما أورده الشيخ رحمة الله الهندي، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه وإذا ضحك يتلألأ في الجدار ) وعن أم معبد رضي الله عنها قالت في بعض ما وصفته به ( أجمل الناس من بعيد وأحلاهم وأحسنهم من قريب )
(2) يذكر الشيخ رحمة الله الهندي أن أبناء الإمام الحسن وصلوا إلى الخلافة والحكم في أقاليم إسلامية كثيرة في الحجاز واليمن والمغرب والشام وفارس والهند وغيرها.. وأنّ منهم المهدي الذي سيملأ الأرض عدلا.. كما أن المسلمين كلهم مجازا من أبنائه صلى الله عليه وسلم وقد حكموا أنحاء الأرض من بعده..
* ذكرت سبأ بدلاً منها في النص العربي..
" وما ينطق عن الهوى. إن هو إلا وحي يُوحى"(2/31)
لعل القاريء الكريم قد التفت إلى الإشارة الخفية إلى المصطفى المنتظر بذكر صفة الأميّة فيه.. فغيره أعطي كتابا في ألواح أو قراطيس، أمّا هو فلأنّه لا يقرأ ( أميّ) فقد أعطي آيات تتلى عليه ليحفظها في فؤاده ( اشعيا 29: 11- 12، بشارة النبي الأميّ)، ثمّ يتلوها على الناس وحيا من الله لا من كلامه أو عباراته، تماما كما روى يوحنا ذلك عن عيسى في وصف النبي الذي سيأتي من بعده " .. لأنّه لن يتكلم من عنده بل يتكلم بما يسمع.." ( انجيل يوحنا 16: 12، بشارة الباركليتوس).. فيكون بذلك كلام الله عزوجل في فمه تماماً كما جاء في وصف النبي الذي بشر به موسى عليه السلام: " وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به.." ( التثنية 18: 15- 20، بشارة موسى).. ومثل ذلك جاء في المزامير عن انسكاب نعمة الله عزوجل على شفتي الملك النبي المنتظر ( مزامير 45: 2، بشارة الملك العادل) ...
هذا وقد جاء مثل هذا الخطاب كذلك في موضعين آخرين بدا وكأنه لا يختص بالمصطفى (المسيا) المنتظر، فأولاهما في إشعيا 49: 2 حيث جاء في وُصف النبي المنقذ بأن فمه كالسيف القاطع: " جعل فمّي كسيف قاطع"، وظاهر الإصحاح أنّه يعني أحد الأنبياء الذي أشرفوا على عودة اليهود من السبي البابلي، وإن كان النصارى يعتقدون أنّه يعني المسيا المنتظر.. والموضع الثاني في الإصحاح الأول من كتاب إرميا ( إرميا 1: 4- 10)، حيث يبدو الخطاب كما لو أنّه كان موجها إلي إرميا، في أنّ الله قد عرفه قبل أن يصوره في رحم أمه، وقد قدسه وجعله نبيا للشعوب قبل ولادته، وأنّ الله قد جعل كلامه في فمه، وأعطاه سلطانا على الشعوب وعلى الممالك ليهدم ويهلك وليبني ويغرس.. ومعلوم أنّه لم يتحقق لإرميا شيء من ذلك مما يدلّ على أن المقصود بهذا الحديث نبيا غيره.. وهو المصطفى المبعوث لكافة الأمم..(2/32)
وغني بنا تذكير القاريء بأميّة الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد أُثبتت له تلك الصفة بالقرآن الكريم بمواضع عدة، واستشهد بها لصدقه على الناس الذين عرفوه وعاصروه، وتكرر التأكيد بأنه لا ينطق عن نفسه، بل هو الوحي يُوحى إليه فيحفظه ويتلوه على الناس.. وما عُرفت هذه الصفة ولا رُكِّز على إثباتها لنبي آخر قط غير محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام.. فهل كانت تلك مصادفة أخرى!!
ولعلّ أحد قد يشير هنا إلى ما أوردته أعلاه بشأن ذكرها في حقّ النبي إرميا وربما نبي آخر بعد السبي.. وقد أشرت إلى أنّ النصّ لا ينطبق على إرميا، ولكنه ينطبق – أكثر- على المسيا المنتظر الذي سيكون نبيا لكل الشعوب، ومنصورا على أعدائه.. ومع هذا فحتى لو كان نص إرمياء هذا يعني النبي إرمياء فعلا، فإنه لم يذكر في حقه إلا مرة ، وإنّ في بقية النصوص أعلاه - المتعلقة بالمسيا فيما يشبه الإتفاق- ما يكفي لإثبات تأكيد الكتاب المقدس لهذه الصفة بالمسيا المنتظر، وهو ما تحقق فقط بعد ذلك في شخص المصطفى محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم..
...
مشاهد من كتاب الرؤى :
النصوص:
·?رؤيا يوحنا اللاهوتي 14: 1- :
" ثمّ رأيت حملا واقفا على جبل صهيون ومعه مائة وأربعة وأربعون ألفا كتب على جباههم اسمه واسم أبيه، وسمعت صوتا ..كأنه صوت منشدين على القيثارات يضربون بقيثاراتهم وكانوا بنشدون ترتيلة جديدة أمام عرش الله..ولم يستطع أحد أن يتعلم هذه الترتيلة إلا المئة والأربعة والأربعون ألفا المشترون من الأرض، فهؤلاء لم ينجسوا أنفسهم مع النساء لأنهم أطهار، وهم يتبعون الحمل حيثما ذهب، وقد تمّ شراؤهم من بين الناس باكورة لله، وتتحمل، لم تنطق أفواههم بالكذب، ولا عيب فيهم"
·?الرؤى 19 : 11 – 16(2/33)
“ ثم رأيت السماء مفتوحةً وإذا فرسٌ أبيض والجالس عليه يدعى أميناً وصادقاً، وبالعدل يحكم ويحارب وعيناه كلهيب نارٍ وعلى رأسه تيجان كثيرة وله اسم مكتوب ليس أحدٌ يعرفه إلا هو وهو متسربل بثوبٍ مغموسٍ بدمٍ ويدعى اسمه كلمة الله والأجناد الذين في السماء كانوا يتبعونه على خيل بيض لابسين بزاً أبيض ونقياً، ومن فمه يخرج سيف ماضٍ لكي يضرب به الأمم وهو سيرعاهم بعصا من حديد وهو يدوس معصرةٍ خمر سخط وغضب الله القادر على كل شيء .."
·? الرؤى 2 : 26
“ ومن يغلب ويحفظ أعمالي إلى النهاية فسأعطيه سلطاناً على الأمم بقضيب من حديد.. ” .
التعليق على الثلاثة استشهادات من الرؤى:
لسنوات طويلة ترددت كثيرا في الإستشهاد بشيء من كتاب الرؤى، فليس هو من الوحي المنسوب الى الأنبياء، بل هو مما نسب بدون سند الى أحد تلاميذ المسيح، وقد اختلط كله بعقيدة يرى الباحثون والمؤلفون على أنها لم تكن عقيدة تلاميذ المسيح، وقد كانت عقيدتهم توحيد الله والإيمان بالمسيح بشرا رسولا، ومع هذا فيبدو أنّ بالكتاب عبارات قد يكون لها أصل من تعاليم المسيح عليه السلام، ومن هاهنا أكرر ذكر هذا الإمتشهادات المحدودة لنرى هل تحققت في المسيح عليه السلام أم أنها فعلا مما قد يكون قيل أصلا في حقّ المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم، مما يمكن منه الإستنتاج بأنّ المسيح عيسى عليه السلام قد حدّث به تلاميذه ضمن حديثه لأصحابه عن خاتم الأنبياء ومملكته القادمة..
·?يخطب في مئة وأربعة وأربعون ألفا:(2/34)
مع تسليمي بضعف الإستشهادات هنا إلا أنه من الصعب تجاوز مشهد خطبة الوداع والرسول عليه الصلاة والسلام يخطب في حوالي مئة وثلاثون ألفا من الصحابة.. الذين هم خير أمة أخرجت للناس.. ولا نعرف مثل هذا الإجتماع للمسيح عليه السلام، وإن كان النص يبدوا وكأنه يتحدث عن أمر بالمستقبل سيحدث للمسيح عند عودته الثانية.. إلا أخبار العودة الثانية لعيسى عليه السلام كثيرا ما كانت أصلا أخبار عن المصطفى المنتظر كما رأينا ذلك من قبل..
.. هذا ولا يخفى أن قد يكون هؤلاء هم الذبن أعفوا من الحساب رحمة من الله عزوجل
وكرامة لرسوله وشفاعة منه، وأن يكون الحديث هو عن كرامة هذه الأمة ورسولها
باليوم الآخر..
وعلى القاريء أن يلاحظ أن توافق عدد المستمعين لخطبة النبي الذي سيأتي من بعد عصر عيسى عليه السلام ( يطرحه كاتب الرؤى على أنه عيسى عليه السلام في عودته الثانية التي ستتبعها أحداث هي من أحداث القيامة كبعث الموتى) مع عدد الذين استمعوا لخطبة الوداع أيام العيد الأكبر في تاريخ الإسلام.. ومع الذين سيدخلون الجنة بغير حساب ولاعذاب يوم القيامة وهم سبعون ألفا ومثلهم معهم ( أي مئة وأربعون ألفا) رحمة من الله عزوجل وتكريما للمصطفى شفيعهم يوم القيامة ..
·?خاتم الأنبياء - ابن الإنسان - مؤيد بالسيف والملائكة ..
قال الأمام الآلوسي : " فهل غيره ( أي محمد صلى الله عليه وسلم ) من عيسى إلى زمنه رعى الناس بعصا من حديد ؟ وهل كان غيره يدعى أميناً ؟ وهل غيره أعطي سلطاناً على الأمم كافةً ؟ وهل غيره حارب ؟ وهل نزلت الملائكة على خيلٍ شهبٍ مع غيره ؟ وهل درس وأزال معصرة الخمر غيره ؟ وهل استولى على الملوك بأقصر زمن غيره وغير خلفائه ؟ فإنكار هذا مكابرةٌ وغشٌ .. " . الجواب الفسيح : ص 326(2/35)
وهو الذي فتحت له السماء فعرج والتقى فيها بالأنبياء، لكن من الواضح ان هنالك خلط قد وقع بإضافة اشارات الى المسيح عيسى عليه السلام مثل القول بأنه مغموس بالدم وبأنه سيدعى كلمة الله، وهو غير مستغرب من الذين خلطوا بالكتاب عقيدة التوحيد التي جاء بها عيسى عليه السلام مع الوثنية من عقائد الأمم السابقة.. ويبقى أن هذا الخلط قد يضعف الإحتجاج بهذه البشارة لكن المؤمنين يلمسون أن الصادق الأمين في الأغلب ما كان إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو لقبه الذي أثبتته له الأمة التي عاصرته من قبل بعثته ، ويعرفه به حتى أطفال المسلمين، خاصة أن الحديث هنا هو عن المصطفى في المستقبل من بعد عصر عيسى عليه السلام..
·?خاتم الأنبياء منصورٌ على الأمم
هذه بشارة منسوبة في كتاب الرؤى إلى المسيح عليه السلام، وقد تكون مما حفظ من عباراته، وإن كانت قد صيغت بما يتوافق مع عقيدة تأليه المسيح ( كأنّما المسيح عيسى عليه السلام هو الذي يرسل المرسلين)، فإن صحت فإنّها تخبر بأن النبي من بعد المسيح عيسى عليه السلام سيكون منصوراً على الأمم يحكمها ( يغلبهم؟) بقضيبٍ من حديد ( السيف؟) ويمضي على نهجه إلى ختام الزمان..
والسؤال مَن غير الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بعد عيسى وتنطبق عليه هذه النبوّة ؟ والإشارة إلى السيف للمصطفى المنتظر قد وردت في نبوات أخرى سابقة كما مرّ معنا،
ومن حزقيال ما يدلّ على أن خاتم الأنبياء ليس من اليهود ..
إصحاح التاسع عشر 10- 14:(2/36)
" أمّك ككرمة مثلك غرست على المياه. كانت مثمرة مفرخة من كثرة المياه. وكان لها فروع قوية لقضبان المتسلطين وارتفع ساقها بين الأغصان الغبياء وظهرت في ارتفاعها بكثرة زراجينها. لكنها اقتلعت بغيظ وطرحت على الأرض وقد يبست ريح شرقية ثمرها. قصفت ويبست فروعها القوية. أكلتها النار. والآن غرست في القفر في أرض يابسة عطشانة. وخرجت نار من فرع عصيها أكلت ثمرها. وليس لها الآن فرع قوي لقضيب تسلط. هي رثاء وتكون لمرثاة."
التعليق:
لا خلاف في أنّ الحديث هنا هو عن عقاب الله القادم لبني اسرائيل، وقد مرّ علينا تشبيه الأنبياء الأخرين لهم بشجرة ( خبيثة) حان وقت قطعها، وذلك هو عقابها.. ومن ذلك ما أوردته الأناجيل من الكلام المنسوب للأنبياء يحي وعيسى عليهم.. والمثل واضح هنا في إستئصال بني اسرائيل من فلسطين، ثم استئصالهم من الأرض الصحراء التي سيغرسون بها.. وعادة ما تعني الصحراء والقفر بالتوراة بلاد العرب.. ولعلّ هذا بيّن في طردهم من يثرب وخيبر وتيماء، ذلك الطرد الذي تمّ في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وخليفته عمر رضي الله عنه.. فقد تم بحق استئصالهم من الأرض الباركة بفلسطين، ثم من الأرض القفر بالجزيرة العربية..
والشاهد في هذه النبوة هو أنه لن يكون منهم نبي منتظر بعد ذلك.. فالصولجان المتسلط ( كما ورد اللفظ ببعض النسخ العربية)، أو القضيب المتسلط أو scepter بالإنجليزية ( النسخة القياسية):
So that there remains in it no strong stem , no scepter for a ruler
كلها ألفاظ استخد مت لتشير الى النبي المنتظر، واليهود هم الفرع ( من أبناء ابراهيم) الذي سيجرد من النبوة لتظهر بعد ذلك من فرع آخر (1)..(2/37)
هذا على إعتبار أن الشجرة التي غرست بالصحراء هي نفس الشجرة التي أستئصلت بالمرة الأولى ( أي شجرة بني اسرائيل الموعودة بالطرد واللعن والإستئصال كما هو معلوم من مواضع عديدة بالكتاب المقدس ) .. إلا أنه لا بأس من الإشارة الى قراءة وفهم الإمام الماوردي (2) بأن الشجرة الثانية هي غير الأولى التي كانت النبوة قد تحدثت كما هو أعلاه عن حرقها واستئصالها، وبالتالي فإن الشجرة الثانية التي ستقوم من الصحراء هي الشجرة البديلة.. وفي ذلك _ إذا صح هذا الفهم- إشارة ساطعة وبيّنة الى قيام الأمة الإسلامية البديلة من الصحراء العربية ..
ــــــــــــــــ
(1) على القاريء مراجعة نبوة الأسابيع المنسوبة لإدريس.
(2) علي بن يحي الطبري في كتاب الدين والدولة في اثبات نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
الفصل العاشر
ملاحق البحث وفيها عدد من البشارات الإضافية الهامّة
قضايا الملاحق:
·?الرأي البديل لدى النصارى
·?العلامات السبع لتمييز النبي الحقّ
·?مناقشة بقية الإصحاحات من كتاب دانيال
·?شواهد أخرى لثبات ذكر اسم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالإنجيل والتوراة
·?التذكير بدور بولس ووجوب الإختيار بين البقاء في مدرسته أو العودة إلى مدرسة المسيح والأنبياء عليهم السلام
·?وماذا عن أخبار التوراة ببقاء الحكم والنبوة أبدياً لأبناء داود عليه السلام
·?بشارات إنجيل برنابا ..
·?قضية الزيارة الربانية للأرض في آخر الزمان
الملحق الأول :
الرأي البديل لدى النصارى(2/38)
يسعى النصارى جاهدين لإثبات تحقق البشارت الخاصة بمجئ المصطفى (المسيا) وخاتم الأنبياء يسعون لإثبات تحققها بشخصية عيسى عليه السلام.. ويتجاهل النصارى بذلك كثيراً من التفاصيل والأدلة البينة على أنّ هذه البشارات يستحيل تحققها بالمسيح عليه السلام.. وأنّى لهم وقد بشر المسيح عيسى عليه السلام بنبي آخر من بعده يصحح للناس مفاهيم عقيدتهم عنه وعن الله.. وأنى لهم وقد اخبر بقرب قيام مملكة الله ولكن من بعده ومن أمة غير أمة اليهود التي أُرسل إليها وبعث فيها.. وأنّى لهم وهو قد مضى دون أن يقيم دولة أو يأتي بدين أبدي خاتم للأديان.. بل جاء مصدقاً للدين الذي جاء به موسى عليه السلام ومعلناً تدعيمه للكتاب الذى جاء به ( أي موسى).. وأعلن أنه سيكون للناس معبداً ( هو كذلك قبلتهم) جديدا من بعده، مصدقا بذلك بشارات الأنبياء من قبله.. وقد ناقشتُ في كثير من البشارات التي استعرضتها بهذا الكتاب قضية استحالة تحقق كل واحدة منها بالمسيح عليه السلام.. وأشرت في كثير منها كيف يعتقد النصارى – كمخرج - إمكانية تحققها بالمسيح عليه السلام مستقبلاً عند مجيئه الثاني، وكيف أنهم بذلك نجحوا في صرف أنفسهم عن التأمل والتفكير في تحقق هذه البشارات برسول الله صلى الله عليه وسلم والدين الذي جاء به..(2/39)
ويعجب المرء حين يعود الى هذه البشارات فيجد أنّ المسيح عيسى عليه السلام بها انما كان يبشر بمجئ نبي آخر من بعده، ولم يكن يبشر بنفسه هو ( وهو بينهم !! ).. وواضح هذا من خلال كل البشارات التي استعرضنا.. بما فيها الأمثلة المتعلقة بقيام مملكة الله من بعده, والأخرى المتعلقة بنسب المصطفى ( المسيا), ومجئ الباركليتوس.. إذ لا يتضح من أي منها أن المسيح عليه السلام كان يقصد نفسه أو يبشر بها.. كيف وقد كان هذا التبشير هو هدف رسالته كما صرح هو في الواقع بذلك.. فهل كانت غاية رسالته أن يبشر حاضراً بنفسه عن نفسه مستقبلا!! إنّه لتفكير غريب وغير مقبول! هذا إضافة الى بشارات التوراة التي أوضحتُ في هذا الكتاب مدى انطباقها على الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم ومدى عدم انطباقها على المسيح..
وأستعرض هنا جوانب من الصورة الإجمالية أو السيناريو العام الذي تُوؤّلُ إليه البشارات التي تم استعراضها.. ورأيناها يقينا تبشّر بالإسلام..(2/40)
يؤمن النصارى بعودة المسيح عليه السلام في آخر الزمان.. ويعتقد كثير منهم أنّ هذه العودة لن تتم إلا بعودة بني إسرائيل الى فلسطين وقيام دولتهم بها.. وبناء الهيكل بالقدس وذلك حتى يتم استئناف أحداث الإسبوع الأخير من الأسابيع السبعين التي تنبأ بها دانيال.. تلك الأحداث التي تبدأ بهدم القدس، وتدنيس الهيكل وهدمه.. وليس لها أن تبدأ والهيكل مازال مهدوماً أو غير موجود كما هو الوضع حالياً ( قد كان قائماً مبنياً في وقت المسيح).. فلا بد لمجيء المسيح عليه السلام من قيام اسرائيل وبناء الهيكل أولاً تمهيداً لهدمه كجزء من أحداث الإسبوع السبعين السابق لقيام مملكة الله والبر الأبدي.. وبقيام اسرائيل عام 1948 م استبشر كثير من النصارى وفرحوا.. وتنبأ بعضهم بقدوم المسيح أربعين سنة بعد ذلك (1).. فقد تنبأ Edgar Whisenant بأن عام 1988 م هو عام قدوم المسيح، وتنبأ بعده آخرون منهم M.J. Agee بأن عام 2007 م هو عام قدوم المسيح عليه السلام.. أربعين عاماً بعد تثبيت دولة اسرائيل عام 1967 م.. بل ووضع هؤلاء كجزء من طروحاتهم وعقائدهم غير المؤسسة – وهو ما أعتدنا مثله وأكثر لدى دعاة النصارى على مرّ الزمان – وضع هؤلاء أياماً محددة لمجئ المسيح.. رغم زعمهم أن تلك ساعة لا يعلمها إلا الله ..
..(2/41)
ويسمِّي كثير من النصارى فترة السبع السنوات ( الإسبوع السبعون الأخير) بفترة الإبتلاء Tribulation ويقسمونها إلى فترتين، كل منها ثلاث سنوات ونصف.. ويعتقدون بمجئ المسيح فجأة إلى الدنيا ورفع النصارى كلهم الأحياء منهم على الأرض والذين ماتوا من قبل فيحييهم ( تعالى الله) من تحت التراب.. ويجتمعون إليه كلهم إلى السماء أحياء بحياة أخروية وبأجساد غير أجسادهم الحالية.. ليظلوا مع المسيح عليه السلام بالسماء إلى الأبد ويسّمون اجتماعهم هذا بالمسيح Rapture .. وهم مختلفون مع ذلك حوله.. فمنهم من يعتقد أنه سيتم قبل بداية اسبوع الإبتلاء ( السبع سنوات الأخيرة لدانيال) مباشرةً ( أصحاب نظرة ماقبل الإبتلاء ,Pretribulation ), ومنهم من يقول بأن مجئ المسيح سيتم وسط اسبوع الإبتلاء (midtribulation ) أو أنه سيتم بعد فترة الإبتلاء (Post tribulation ), ومنهم من لا يؤمن بحدوث هذا الإنقاذ الخاص بالمسيحيين أثناء الإسبوع الأخير من اسابيع دانيال..
ثم يعتقد النصارى أنه بنهاية الإسبوع من السنين سينزل المسيح عليه السلام ويقاتل جيوش عدو المسيح ( الدجال) Antichrist ومعه نبي كذاب False prophet في معركة هرمجدون Armageddon ثم بعد ذلك يقيم المسيح مملكة الله التي بشر بها هو والأنبياء عليهم السلام من قبله, وستظل المملكة عامرة على الأرض ألف عام بعد ذلك..
ومن النصارى من لا يؤمن بقيام مملكة الله على يد المسيح مستقبلاً, وأنه لا دليل بالأناجيل على مدة الألف عام هذه, وأنّ البشارة بمملكة الله من بعد المسيح انّما هي بشارة بمملكة روحية بقلوب المؤمنين بالمسيح عليه السلام لا بمملكة أرضية..(2/42)
ويرى معي القارئ الكريم كيف ضل هؤلاء.. وتراهم جميعاً يبنون اكواماً من العقائد والأحلام على أسس واهية أو تفسيرات باطلة لنصوص قليلة متناثرة بالكتاب المقدس.. كثير منها لم يسلم من التحريف.. وتراهم جميعاً يتجاهلون الإسلام وتأريخه, ولا يشيرون إليه من قريب ولا من بعيد.. لا سلباً ولا إيجاباً.. وقد اطلعتُ على عدد كبير من الكتب التي ألفها كتاب مسيحيون عن نبؤات الكتاب المقدس, فلم أجد أحداً وهو يستعرض الأحداث والأزمنة من بعد المسيح عليه السلام يشير إلى الإسلام!!..
.. ويلتهمون التاريخ الإسلامي كله ضمن الفترة المهملة بين الإسبوع التاسع والستين والإسبوع السبعين من السنين من اسابيع دانيال.. فهم يقرون بأحداث السبعين اسبوعاً حتى بلوغها المسيا الذي لن يحقق شيئاً ( عيسى عليه السلام).. ويزعمون أنه قد بقي اسبوع من هذه الفترة ليتحقق بالمستقبل، وهو ذلك الإسبوع المشتمل على تخريب الهيكل وتدنيسه ( يُرجى من القاريء مراجعة بشارة السبعين اسبوعا ليرى أنّ تدمير الروم للهيكل عام 70م كان إتماماً لأحداث الإسبوع الأخير)، وبذلك يتجنب علماء النصارى الحديث عن الإسلام أو الإهتداء إليه.. وقد بيّنتُ في تعليقي على بشارة دانيال الخاصة بختم النبوة ومجئ البر الأبدي مدى الخطأ الذي وقع فيه النصارى..(2/43)
ومنهم من يرى أن المدة التي قضاها الله على بني آدم على الأرض سبعة أيام.. أي سبعة آلاف عام على أساس أن كل يوم عند الله تعالى بألف عام على حسابنا.. فيرون أن البشرية عاشت أربعة آلاف سنة قبل المسيح, ثم هي ستعيش ألفي عام بعده, ثم يأتي المسيح على أول الألفين ليقيم مملكة الله على الأرض التي ستعمر بها الف عام آخر, إكمالاً لمدة العيش على الأرض أسبوعاًمن الأيام الربانية ( أو سبعة آلاف عام من سنين الأرض (2)..)، وعلى هذا توقع هؤلاء مجئ المسيح على بداية الألفين.. وثبت بطلان ما توقعوه.. كما بطل رأي النصارى منذ جيلهم الأول الذي توقع العودة في حياة ذلك الجيل.. ثم انتظروها متحمسين مرات كثيرة (3) ولا يكاد المرء يستطيع حصر السنين التي تحمس لها النصارى زاعمين أنّ مجئ المسيح سيتمّ بها, وأن نبؤاتهم قد أخبر بها الكتاب المقدس.. ثم تبطل.. ويثبت التاريخ في كل مرة بطلان تفسيراتهم وتوقعاتهم..
وإذا عاد المرء يُحلل طرق استنتاجهم لهذه السنين يجدها واهية.. لا أساس لها.. يعتمدون بها على الهوى.. والتفسيرات الخاطئة لمواضع متفرقة من التوراة والإنجيل .. " إن يتبعون إلا الظن وان الظن لايغني من الحق شيئاً" .. ويرون في ذلك الحق.. ولا يعتبرون بما يريهم التاريخ من تكرر خطأ حساباتهم وتوقعاتهم..(2/44)
وتختلط أمور الآخرة في أذهان هؤلاء.. فالنصارى الذين كانوا أحياء على الأرض وقت مجيء المسيح سيُرفعون إليه ولن يذوقوا الموت قط.. والجميعُ بما فيهم اللذين سيُحييهم المسيح! من أموات النصارى سيظلون إلى الأبد بالسماء مع المسيح.. فمَن إذن سيقاتل الدجال بعد ذلك على الأرض.. وما قيمة قيام مملكة الله لألف عام على الأرض بعد عقاب الدجال والشيطان (ابليس) والقضاء النهائي على الشر.. لِم لم يكن دخول الجنة مباشرةً نعمة أفضل للمؤمنين فنعيمها أفضل من نعيم مملكة أرضية.. ومتى سيكون بعث بقية الخلق من غير النصارى وحسابهم.. وهل مجئ المسيح هو بدء الدار الآخرة.. خاصة أن النفخة الأولى والثانية ستسبق على حد قولهم بعث النصارى ورفعهم للقاء المسيح بالسماء وكل ذلك سابق لقيام المملكة الأرضية.. وهل بعد كل هذا يمكن القول أن هذه هي مملكة الله التي حرص الأنبياء على التبشير بها ودعوة الناس لتأييدها عند قيامها بعد دولة الروم.. فمن الذي لن يؤمن بها إذا قامت بعد النفختين واحياء الأموات !! ولذا ذهب كثير منهم إلى إنكار قضية قيام مملكة مؤمنة ربانية من بعد المسيح.. فعطلوا الهدف الأول من بعثة المسيح ورسالته.. وضلوا عن الإهتداء إلى الإسلام..
عودة المسيح:(2/45)
لا نشك كمسلمين أن المسيح عيسى عليه السلام قد أخبر أتباعه بعودته في آخر الزمان وعودته هذه اثبتها الرسول صلى الله عليه وسلم.. بل وربما وردت اشارة خفية بالقرآن إليها لكننا رأينا كيف أنّ همّ المسيح عليه السلام الأول وقضيته الرئيسية كانت التبشير بمجئ مملكة الله من بعده من غير اليهود.. وكيف أنّه بشر بالمصطفى في مواضع متكررة، وأنه ماكان يبشر بنفسه.. ولكن الأمر تشابه على النصارى من أتباع بولس، وظنوا أنّ هذا كله متعلق بمجيئه الثاني.. وإذ ألّهو المسيح.. وعبدوه.. وكتبوا بعد ذلك كتبهم.. بل واختاروا بعد مجمع نيقيه من الكتب والرسائل ما يتوافق مع هوى القائلين بتأليه المسيح.. ونجحوا في إفناء كل ما سوى ذلك من الكتب كما فصلتُ عند الحديث عن قسطنطين.. وإذ وقع النصارى من أتباع بولس في ذلك فقد سهل استيعاب وقوع الخلط بين التبشير بنبي آخر بعد المسيح وبين عودة المسيح آخر الزمان.. واستند النصارى الى نبؤات لإثبات عودة المسيح، وقد أثبتنا قطعاً خطأ ذلك وأنها انما كانت تبشر بالإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم، واستندوا إلى رسائلهم ومواضيع من أناجيلهم، وبها تصريح بالعودة لإحياء الناس وحسابهم وهو ممّا يرفضه العارفون بالله والمؤمنون الذين يؤمنون بالمسيح بشراً رسولا فهذه الرسائل والأناجيل مجهولة السند والأصول ومتناقضة مع مدرسة الناصريين ممن عرفوا المسيح في حياته وآمنوا به بشراً رسولاً، ونفوا عن الحواريين ( بما فيهم بطرس) ماتنسبه اليهم مدرسة بولس من أقوال ومواقف.. كما سبق أن بينا.. هذا إضافة إلى تعمّد كتبةُ هذه الرسائل استحداث أو اختراع المواقف والتفاصيل في سيرة المسيح حتى يوافقوا البشارات عن المسيا المنتظر المذكورة بالتوراة ..(2/46)
ومما يستند إليه النصارى للتنبؤ بعودة المسيح نبؤات زكريا.. ولايرى المؤرخون ومفسروا التوراة صحة نسبة هذه الإصححات إليه (عاش في القرن السادس قبل الميلاد).. بل يرون أنّها تعكس الأحداث في أوائل الفترة اليونانية ( أي من 330-300 ق م)، ولا تختلف عمّا كان يتخيله اليهود من دراما عسكرية بآخر الزمان يحكمون بعدها كل شعوب الأرض.. وقد بينا تحريفهم للكتب.. وفضح الأنبياء لهذا الأمر من قبل.. فليس المسيا من ابناء داود.. وليست مملكة الله بقائمة على أيدي اليهود ..
مفهوم القدس ( أورشليم) الجديدة “ The New Jerusalem”:
هل كان إلا خلطا للحديث عن الجنة وللتبشير بمكة..(2/47)
استعمل مصطلح أورشليم الجديدة (1) ليعني في بعض الأحيان وضع القدس الذي يحلم به اليهود في نهاية الزمان بعد أن يعودوا إليها ويأتيهم المسيا منهم، ولكن النصارى أكثر استخداماً لهذا اللفظ ويعنون به تلك المدينة السماوية التي ورد وصفها في سفر الرؤيا.. وهو ذلك السفر الذي كبقية تلك الرسائل التي لا تنسب إلى المسيح لا تملك في الواقع أساسا من الوحي ..وأورشليم الجديدة بهذا السفر مدينة مقدسة ستنزل من السماء بعد أن تبدل الأرض والسماء الأولى.. وتكون مكعبة الشكل.. بطول 1500 ميل (4) أو بحجم 3,4 بليون ميل مكعب.. جدرانها من الماس والحجارة الكريمة، وشوارعها من الذهب الخالص الرقراق وبها شجرة الحياة (؟) التي طرد بسبب الأكل منها آدم وحواء.. وبها نهر من الماء الصافي كالبلور يخرج من تحت العرش.. وأبوابها الأثنا عشر باسماء الأسباط مصنوعة من يواقيت كل ياقوتة منها بارتفاع ثلاثين ذراعا، تتخللها الممرات بارتفاع 15 ذراعا وعرض عشرة أذرع (4).. وستكون مدينة السلام الأبدي، ليس بها نصب ولا تعب ولاجوع ولا عطش.. ولن يكون بها ألم ولا موت بل خلود دائم (3).. فهي موطن الحياة الخالدة لكل المؤمنين بالمسيح بما فيهم أولئك الذين ماتوا من قبل أذ يحييهم الله مرة أخرى ويدخلون القدس الجديدة للخلود.. مدينة الهدى والطهارة والعبادة الخالصة لله تعالى..
يرى معي القاريء الكريم أن هؤلاء في الواقع إنما يتحدثون عن الجنة التي يؤمنون هم بها كذلك.. لكن الأمور مختلطة عليهم كعادتهم.. فإذا كان خلودهم هو بالقدس الجديدة فأين هي الحاجة للجنة إلا أن تكون هذه جزء من الجنة.. ويبدوا أن آثارا من الوحي الحق عن الجنة قد اختلطت عليهم بأحلام ونبوات النصر بآخر الزمان.. وكان من ذلك هذا المفهوم عن القدس الجديدة..(2/48)
ولا يهمنا هنا مناقشة هذا المفهوم كثيرا إذا اعتبرناه من الأحداث التي تعقب إحياء الموتى والحساب.. والذي يهمنا هو مناقشة المفاهيم المتعلقة بالقدس الجديدة باعتبارها مدينة أرضية، ستكون مركزا لعبادة الله على الأرض ضمن قيام مملكة الله على الأرض.. ومدينة للسلام وعبادة الله، وأنها ستكون مدينة مطهرة، محرمة على النجسين والكفار والفاسقين، ويكون بها البيت الجديد لله، الذي سيكون أبهى من البيت الأول ( بالقدس الأولى)، الذي لن يصله الأعداء كما أعتادوا أن يصلوا إلى البيت الأول بالقدس الأولى فهدموه مرارا، وسيحج إليه الناس من كل صوب ( أنظر البشارات السابق نقاشها في إشعيا 60، وإشعيا 43 : 6 - 13 ، 18 – 21، ومخطوطات البحر الميت (174 - 4q)، حجيّ 2 : 6 - 8، أشعياء فصل 54 ومواضع أخرى سابقة ..).. فالقاريء الكريم يدرك أن الحديث في كل هذه الواضع إنما هو حديث عن بيت الله بمكة وتبشير به، وبمنطقة الحرم من حوله التي لا يدخلها الكفار الموصوفين بالنجاسة.. والتي نعمت بالأمن والسلام على مدى ما يزيد على ألف واربعمائة عام ( باستثناء أحداث محدودة جداً على أيدي مسلمة!)، قد فصلت في ذلك فيما سبق من نقاش هذه البشارات، وأ ثبتُ أن كل هذه الصفات قد تحققت قطعا بمكة، وأنه لا معنى للحديث عن أمان بيت الله الجديد الذي لن يستطيع الأعداء الوصول إليه إذا كان ذلك هو حديثٌ عن القدس الجديدة التي ستقوم بعد فناء الكفار واحياء الموتى.. إذ لا مكان ولا صولة للكفار من بعد البعث والحساب.. وفي الواقع فأنه لم يشذ من أخبار القدس عن مكة المكرمة آخر الزمان إلا الأخبار التي وردت بسفر الرؤيا، وتلك التي تصف الخير والأمان قبيل الساعة حتى لا يعتدي الأسد على الحمل، وهو مما نؤمن به كذلك، ولكنه لفترة محدودة قبيل الساعة.. ولكني رأيت هنا عند الحديث في هذا الملحق عن مفاهيم أهل الكتاب الإشارة إلى أخبار القدس المنتظرة مجتمعة..(2/49)
فهي بمجموعها بشارة بينة بمكة المكرمة..
مفهوم يوم الربّ The Day of the Lord
ذكر مؤلفوا كتاب (5) Fast Facts on Bible prophecy أن عبارة يوم الربّ وردت في مواضع كثيرة خلال الكتاب المقدس، وجاءت لتعني يوم الإنتقام الرباني، كما جاءت لتعني يوم العطاء أو التكريم الرباني، واستنتج المؤلفون أنها باختصار تعني يوم التدخل الرباني نقمة او تكريما.. وأن تخصيصة باليوم المرتبط بنهاية الإسبوع السبعين حسب بشارة دانيال غير صحيح، وأن تفسير يوم الرب يجب أن يكون حسب النسق الذي ورد فيه ذكره، وأنه على هذا قد وقع في الماضي على بعض معانيه..
وهذا كلام معتدل ومقبول.. وقد يلاحظ القاريء تركيزي في هذا الكتاب على المواضع التي تعني يوم النقمة على بني اسرائيل.. وهو ما تحقق عام 586 ق م، ثم عام 70م وعام 130م .. فلطالما أنذر الأنبياء بني اسرائيل بأن نقمة الله ستكون عليهم شديدة، وبأنهم سيُدمّروا ويُقتّلوا ويُطردوا من الأرض المباركة حتى لا يكاد يبق بها أحد منهم، وأنهم سيُشرّدوا ويؤخذوا أسرى أذلة بين الأمم، وأن الهيكل سيدمر ويحرق.. ومن هنا تأتي نُذُر داود وعاموس ونذر اشعيا وإرمياء وحزقيال ويحي وعيسى عليهما السلام جميعاً.. ومن الثابت أنّ نُذُرَهم وقعت تماما كما فصلوا.. ومن الثابت أن هذه الأحداث هي غير أحداث يوم القيامة، فإن الموت والتشريد والأسر ليس من عذاب الأخرة.. وليس من المعقول القول أنّ الأنبياء الذين كانوا يحذرون اليهود من عقاب الله، ويفصلون لهم ألوان العذاب المتوقعة- بل والتي وقعت فيما بعد تماما كما أخبروا – ليس من المعقول القول بأنهم كانوا يقصدون أحداث ما قبل الساعة.. كما يزعم بعض النصارى.. وعلى هذا فإنّ أيام الإنتقام الإلهي أعلاه ( وخاصة عام 70م (6)) هي المقصودة أساساً بيوم الربّ.. وذلك واضح وبيّن لمن يتأمل بالكتاب المقدس..(2/50)
ومع ذلك فكما أشار الكُتّاب أعلاه فإن بعض الأوصاف ليوم الرب احتوت على أهوال هي من أحداث الساعة كظلمة القمر والشمس.. ويكون بذلك الوعيد بالعذاب لبني اسرائيل في هذه المواضع هو الوعيد بعذاب الآخرة.. إلى جانب الوعيد بعذاب الدنيا المشار إليه أعلاه.. ويبقى بعد ذلك أنّه من الثابت من المصادر الإسلامية ولربما من التوراة ( حسب تفسير بعض نصوصها ) عودة بني اسرائيل إلى فلسطين.. ولكنها عودة قصيرة، وسيحل عليهم بها العذاب بيوم نقمة رباني جديد.. كما ثبت من المصادر الاسلامية والتوراتية.. وهو ممّا لايتعارض مع القول بأن عامة نذر الأنبياء كانت لما أصاب اليهود من بلاء قريب إلى عهودهم..
هوامش الملحق الأول
(1) Mark Water, Bible prophecy made easy, 1998 ed, p33-4.
(2) جاء في مستدرك الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " قدم رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة و اليهود تقول إنما هذه الدنيا سبعة آلاف سنة".
(3) Timothy J. Dailey, Amazing Prophecies of the Bible, p. 453-457.
(4) Mark Hitchcock, , Bible prophecy,1999, p91-93.
(5) Thomas Ice & Timothy Demy, Fast Facts on Bible prophecy, 1997,p. 64.
(6) قد أثبتنا وقوع ذلك اليوم المتعلق بنهاية السبعين اسبوعا في نبوة دانيال بالعذاب الذي تحقق عام 70م، وإن كان المؤلفون المذكورون كبقية أهل الكتاب ما زالوا بانتظاره مستقبلا، لكن المؤلفون ذكروا أن يوم الرب بمعانيه الأخرى قد تحقق في الماضي، أي أيام الإنتقام السابقة التي كان أهمها عذاب عام 70م.
الملحق الثاني:
العلامات السبع لتمييز النبي الحقّ(2/51)
أذكرهنا ( بتصرف محدود للإختصار فقط) العلامات السبع لتمييز النبي الحق كما استنتجها مارك هيتشكوك Mark Hitchcock في كتابه Bible prophecyمن بعض نصوص التوراة ( من مثل التثنية 13: 1-18 ، والتثنية 18: 9-22 ، ارمياء 23: 9-40 و حزقيال 12: 21& 14: 11)، ورأى المؤلف عدم ضرورة توفرها جميعا مع ذلك في كل نبي، والعلامات السبع هي كما يلي:
1- عدم استخدام النبي للسحر والشعوذة أو التنجيم ( التثنية 18: 9- 14 ، ميخا 3:7، حزقيال 12:24)، إن مصدر رسالة النبي هو الله( عزوجل).
2- لا يصيغ النبي الحق دعوته ولا يعدّلها لتناسب أهواء المدعوين وتطلعاتهم ( إرمياء 8:11، 28:8، حزقيال 13: 10)، بينما يسعى مدعي النبوة إلى الشهرة وجمع المال.. النبي الحقّ يذكر للناس دعوته غير محرفة غير عابيء بما قد يفقد من أمور شخصية أو يصاب بأذى أو تعيير.
3- يحافظ النبي الحق على شخصية متزنّة وأخلاق عليّة مكتملة ( اشعياء 28: 7، ارمياء 23: 11، هوشع: 9: 7- 9، ميخا 3: 5 صفنيا 3: 4).
4- لدى النبي الحق الإستعداد للمعاناة من أجل رسالته ( الملوك الأول 22: 27- 28، ارمياء 38: 4- 13، حزقيال 3: 4-8) .
5- يعلن النبي الحق رسالة منسجمة مع ما قبله من التوراة ورسالات الأنبياء الحق من قبله، إن رسالته لا يجوز لها بأي حال أن تناقض أو تخالف أي وحي حق من قبل، بل تؤيده وتبني عليه ( التثنية 13: 1-3 ).
6- نبؤات النبي الحق لها مصداقية تحقق قدرها 100% ( التثنية: 18: 21- 22). وبخلاف المعتلين نفسيا في العصر الحالي، وأن أي نجاح دون 100% ليس معتبرا .. وعلى الناس أخذ مدعي النبوة خارج مدينتهم ورميه بالحجارة حتى الموت، كما يفهم من التوراة ( التثنية 18: 20).(2/52)
7- للأنبياء الحقّ ( المرسلين حقا من عند الله) في بعض الأحيان معجزة أو معجزات لإثبات مصداقية رسالتهم ( الخروج 5 –12)، إلا أن هذا الدليل غير بيّن دائما، فإن أنبياء كذبة يصنعون معجزات في بعض الأحيان ( الخروج 7: 10- 12،8: 5-7، مرقص 13: 22، تيموثاوس الثانية2: 9)، ولذا فإن موسى ( عليه السلام، كما ذكر بالتوراة الحالية) أعطى بعدا آخر لهذا الدليل في التثنية 13: 1-3: " إذا قام في وسطك نبي أو حالم حلما وأعطاك آية أو أعجوبة، ولو حدثت الآية أو الأعجوبة التي كلمك عنها قائلا لنذهب وراء آلهة أخرى لم تعرفها ونعبدها فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو الحالم ذلك الحلم لأن الرب إلهكم يمتحنكم لكي يعلم هل تحبون الرب الهكم من كل قلوبكم ومن كل أنفسكم" ، إن دليل الحق هو في محتوى الرسالة لا في المعجزات، النبي الحق يتكلم فقط باسم الرب، ويدعوهم إلى الله، وليس بعيدا عن الله."(2/53)
فما أجمل هذا الكلام وما أكمله.. ولم لا، وله أساسه من تعاليم الأنبياء.. وما أعجب صدوره عن أهل الكتاب ثم هم لا يؤمنون بخاتم الأنبياء.. ما أعجبهم حين يخالفون فيتبعون الذين كذبوا على الله ورسوله عيسى عليه السلام.. كيف لم يتحصنوا بهذه المقاييس ضد بولس وقد حذرهم المسيحُ عيسى عليه السلام من اتباع أمثاله.. كيف وهو الذي بدّل وغيّر في دين المسيح حتى يناسب من يدعو من الأمميين ( لاحظ مخالفة الخاصية الثانية).. كيف وقد جاءهم بمعجزة ليس لها شاهد سوى نفسه ! ( أو قُل ليس لها أصل )، وبدعوة لم تخالف فقط دعوة المسيح عليه السلام ومَن قبله من الرسل بل ألغتها جميعاً.. وأعلنت أن المسيح إله يعبد.. وهو أي المسيح عليه السلام الذي تواضع للناس حتى رفض أن يُدعى بالصالح ودعا الناس لعبادة الله وحده.. وأمر باتباع التوراة.. وشددّ على أهمية العمل الصالح.. فجاء بولس ليدعو الى عبادة المسيح مع الله، وإلى إلغاء التوراة وتعاليمها، والى مفهوم أنّ النجاة وغفران الذنوب مُلَخصٌ بالايمان باسطورة نقلها هو ( كما أثبت ذلك البحث المحايد) عن الامم الوثنية حول صلب الإبن وافتدائه البشرية بنفسه !!(2/54)
ويهمنا هنا من ايراد مقاييس التوراة هذه لتمييز النبي الحق، هو مطالبة أهل الكتاب بتطبيقها على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.. ليعلموا أنه هو النبي الذي حرّم السحر والشعوذة والتنجيم وحاربها، وهو الذي دعا الى عبادة الله وحده، وصبر على إيذاء واضطهاد طويل، ولم يلين لأعدائه الكفار ولم يداهنهم او يهادنهم، رغم ضعفه وقوتهم، وهو الذي جاء بالمعجزات ولكنها تأييد لدعوة الإيمان بالله، وهو الذي جاء بدعوة عبادة الله وحده، وهجر عبادة ماسواه حتى لو كان ماسواه انبياء او صالحون، ومجد ماقبله من الأنبياء ودفع عنهم السوء الذي نسبه اليهم أهل الكتاب.. وجاء بعد ذلك كله محققاً لهذا الكم الهائل من بشارات الكتاب المقدس التي سردناها في هذا الكتاب وينسلخ عنهم كل عذر للكفر به.. فلا معجزاته ودلائله أقنعتهم ولا سيرته وأخلاقه العالية، ولا النصر الذي حققه ألانَ قلوبهم للإيمان به، ولا هذه البشارات التي تحققت به كسرت حُجُب التعصب والكفر التي أحاطت بقلوبهم.. ولا مقاييس تمحيص دعوات الأنبياء هذه التي تحققت كلها في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم بما لم تكتمل فيمن قبله من الأنبياء، ولا هذه المقاييس نفعتهم فاهتدوا، وما زالوا به يكفرون.. انّه التعصب والاستكبار والغيرة التي لن تغني عنهم من الله شيئاً.. ولا يحيق المكر السئء إلا بأهله..
الملحق الثالث :
بقية دانيال
استعرضتُ من كتاب دانيال - فيما سبق – بشارات الاصحاحات الثاني والسابع وكذلك الاصحاح التاسع.. وهي بشارات ساطعة بالإسلام أسلم بسببها الكثير منذ عصر الفتح الإسلامي الأول (1).. وقد يتساءل القارئ عن تفسير بقية النبوات التي وردت في اصحاحات دانيال الأخرى، وهل هي كذلك ذات علاقة بموضوع التبشير بالإسلام أيضا، أم أنها تطرق مواضيع أخرى؟(2/55)
أودّ التنويه هنا إلى إعتقاد معظم الباحثين أن الاصححات الأخيرة من دانيال قد كتبت في فترات لاحقة لفترة عيش دانيال نفسه، وأنها ليست أصلاً من كتاب دانيال وأن كاتبيها مجهولون، والسبب الذي دعا إلى هذا الأعتقاد هو شدة وضوح التفاصيل في النبوات عن أحداث وقعت في فترة الحكم اليوناني، مما دعا غالبية الباحثين للإعتقاد بأنها كتبت أثناء تلك الاحداث أو بعدها.. أي أنها ليست نبؤات بالمعنى الصحيح.. وينبغي هنا التأكيد على أنّ مثل هذا الرأي لايمس النبؤات التي أثبتُ في الفصول السابقة أنها عن الإسلام، فقد نبّأت بحقّ عن حدث متأخر، وثبت أنها كتبت قبل ذلك الحدث، أي قبل الأسلام.. وما كان لليهود أن يشيروا إلى حدوث الإسلام في كتبهم لو استطاعوا فكيف أن يبشروا به، مما يدل على ربانية الخبر وصحته.. وإنما يختص هذا الرأي بتلك النبوات الخاصة بأحداث هي ضمن فترة الحكم اليوناني ( صراع البطالمة بالجنوب بمصر مع السلوقيين بالشمال بسوريا) والتي لم نستعرضها من قبل، والتي تدلّ على أحداث وقعت ضمن الفترة اليونانية..
واستعرض هنا وباختصار بقية النبؤات التي وردت بكتاب دانيال، وإن كانت في معظمها لاتحمل علاقة بالتبشير بالإسلام.. وكثير منها – كما ذكرت أعلاه - يتحدث عن أحداث ضمن الحكم اليوناني، لا يهمنا إن كانت كتبت قبل هذه الأحداث أو بعدها كما تقترح مجموعة من الباحثين..
الاصحاح الثامن :(2/56)
في الاصحاح الثامن يرى دانيال في المنام كبش له قرنان يطلع أحدهما بعد الآخر، ثم يأتي من المغرب تيس وله قرن بين عينيه، فيأتي على وجه كل الأرض ويقضي على الكبش، ويتعاظم ثم ينكسر قرنه، ويطلع عوضاً عنه أربعة قرون، ومن واحد منها خرج قرن صغير وعظم نحو الجنوب ونحو الشرق ونحو فخر الأرض.. وبه تبطل المحرقة الدائمة ويهدم مسكن المقدس.. ثم يسأل قديساً (ملاكاً ) إلى متى الرؤيا ؟ فيجاب الى ألفين وثلاثمائة مساء وصباح، ثم تردّ إلى القدس حقوقه، ويفسّر جبريل لدانيال هذه الرؤيا بأن الكبش هو ملوك ميديا وفارس، ولذا عُبِّر عنه بكبش ذو قرنان، فهما مملكتان من أمة واحدة فاعتبرتا بمثابة مملكة واحدة، وتيس المعز هو ملك ياوان (اليونانيين)، والقرن العظيم هو الملك الأول، وقيام أربعة مكانه هو قيام أربعة ممالك من أمته مكانه، كل منها بقيادة أحد قادته، وفي آخر ملكها يقوم ملك فاسد مجرم يدمر الأقوياء وشعب القديسين ..
لايكاد يوجد خلاف بين أحد من علماء النصرانية واليهودية في أن هذه النبوة تعني انطيوخسAntionochus هو الملك اليوناني من سلالة السلوقيينSeleucid الذين حكموا سوريا وكونوا إحدى الممالك الأربع ( فالسلوقيين أحد القرون الأربعة خرج منهم هذا القرن الصغير الذي هاجم أورشليم) التي انقسم اليها ملك الاسكندر (القرن العظيم بالتيس ) بعد موته، وبلغ شدة الوضوح في هذه النبوة في وصف أحداث انطيوخس أن معظم الباحثين بما فيهم متدينون يعتقدون أن هذه النبؤة ومابعدها من الإصحاحات مضافة الى كتاب دانيال وأن كاتبها قد عاصر احداثها أو كتبها من بعدها.. وفي جميع الأحوال فهذه النبؤة لا تتحدث عن مملكة الله ولا عن المملكة الرابعة (الرومان)، انما تنحصر أحداثها في المملكة الثانية (الفرس والماديين ) والمملكة الثالثة (اليونانيون ).. وهي بالتالي غير ذات أهمية في موضوع البشارات بالمصطفى وبمملكة الله التي لن تقوم إلا من بعد دولة الروم..(2/57)
ويظل تفسير فترة الألفين وثلاثمائة مساء وصباح، أو الألف ومائة وخمسون يوماً لغزاً غير واضح.. فهل المقصود بها أيام فعلاً.. أي أن تدنيس بيت الله سيستمر لمدة 38 شهراً أو ثلاث سنوات وشهرين.. هذا هو الغالب، فإن تدنيس البيت من قبل اليونانيين ( بصخرة أو صنم) كان في عام 167ق.م ، ونجح المكابيين ( يهوداً) في عام 164ق.م (أي بعد ثلاث سنوات) في طرد اليونانيين..(2/58)
ومرة أخرى لا يبدو أن لهذه النبؤة علاقة بالنبؤات عن المسيا.. فأحداثها محصورة خلال المملكتين الثانية والثالثة.. وشخص الملك الخبيث الموصوف هو ملك يوناني من إحدى الممالك الأربع التي انقسمت اليها مملكة الاسكندر.. وقد أراد بعضهم أن يتنبأ بهذه الأيام كأعوام لميعاد ومجئ المسيح عليه السلام، وتوقع William Miller قدوم المسيح عام 1844م أي بعد 2300 عام من عام 457 ق.م وهو العام الذي افترض أنه بداية السبعون اسبوعاً.. وليس في البشارة كما ذكرنا ما يشير الى المسيا أو المسيح وانما يشير الى فترة تدنيس الهيكل بالصنم اليوناني.. وعلى أي حال فالصحيح أن فترة الـ 2300مساء وصباح ( كل مساء أو صباح بنصف يوم) هي 1150 يوماً، ولو افترضناها أعواماً ( أي 1150 عاما على الحساب اليهودي أو 1134 عاما شمسيا) فإنها ستنتهي حوالي عام 600-620م ( إذا اعتمدنا البداية من فترة بداية الحكم الفارسي والوعد ببناء الهيكل)، أو عام 677 م ( إنطلاقا من نفس عام 457 ق.م الذي اعتمد عليه ميلر، مع أنه ليس هناك مايشير في هذه البشارة لأن نأخذ بهذه البداية)..، أو عام 540م ( إذا أعتمدنا الحساب من تأريخ هدم الهيكل على يد نبوخذنصر)، أي أنها جميعاً ليست بعيدة عن التبشير ببناء بيت الله مطهراً بالقدس ( المسجد الأقصى) عام 638 م، أو ميلاد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عام 570م .. وقد أشرت من قبل لوجود أخطاء في تواريخ الأحداث الماضية يتجاوز عشرات السنين، ويذكر جون كولن (1) أن الحساب اليهودي يقدر غزو نبوخذنصر للقدس بفارق 26 سنة.. أي أنه في عام 561ق.م بدلا من 587ق م..(2/59)
,هذا يعني أن فترة الألف والمائة والخمسون سنة ( القمرية أو 1134 سنة شمسية) ستنتهي عام 573 م إنطلاقا من تأريخ هدم القدس عام 561ق م ( على التقدير اليهودي)، وهذا يكاد أن يكون هو عام ولادة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ( معروف على أنه عام 571م)، أو تنتهي عام 626م – 646م إذا أنطلقنا في الحساب من فترة الحكم الفارسي والوعد الذي أعلنه سايرويس أو قورش باعادة بناء الهيكل ( عام 536م)، وهي فترة أدركها دانيال عليه السلام.. وما أقرب هذا التأريخ إلى تأريخ فتح القدس عام 638م..ومع ذلك فنذكر القاريء بثبات قضية التلاعب بالأزمنة من قبل كثير من كتبة التوراة (4،3،2).. ولو جاز لأحد الاستدلال بالفترة المذكورة بالاصحاح الثامن لما يريد لكانت أقرب ما تكون إلى التبشير بالإسلام، كما رأيناها ناصعة بذلك .. ولكنّ الأصح فيما يبدو هو ما ذكرتُ من أنه لاعلاقة لها بالتبشير بالمصطفى ولا بمملكة الله، وانما حديثها عن تدنيس البيت على أيدي اليونانيين بالأصنام ومدة هذا التدنيس.. والله أعلم..
الإصحاح العاشر :
لا يحتوي على نبؤة محددة واضحة ، ويبدو وكأنه مقدمة للإصحاح الحادي عشر .
الإصحاح الحادي عشر :
يتحدث هذا الإصحاح في بدايته بوضوح عن الإسكندر المقدوني وانقسام مملكته الى أربع ممالك لن يحكمها أولاده (وانما قواد جيشه )، ثم يتحدث بتفصيل عجيب عن سلسلة معارك الكر والفرّ بين ملك الجنوب من السلالة الهلينستية اليونانية ( البطالمة) التي حكمت مصر وملك الشمال من سلالة السلوقيين Seleucid من حكام سوريا اليونانيين، والواقع فإن اسماء هؤلاء الملوك ومن وردت الإشارة إليهم بالنبوة من أشخاص، هي اسماء معروفة (2)(2/60)
وترد تفاصيل دقيقة لبعض المعارك والغنائم والمعاهدات.. ثم تأتي النبؤة إلى الاشارة الى انطيوخس أبيفانوس (175- 165ق.م ) وهو من حكام الشمال وتدنيسه للمقدس، وادعائه الألوهيه ، وادخاله الأصنام المرصعة بالذهب والفضة.. وبالتالي فهذا الأصحاح كالاصحاحين الذين قبله خاص أيضاً بالتنبؤ ( إن صح أنها نبؤة) عن أحداث خاصة ومحددة تماماً ضمن فترة الدولة اليونانية، هذه الأحداث تشمل تدنيس بيت الله بالقدس ولا يشير إلى مملكة الله ولا إلى المصطفى..
الإصحاح الثاني عشر :(2/61)
ويبدأ من حيث يقف الإصحاح السابق عند الحديث عن ملك الشمال الذي يكاد يجمع عليه كل الباحثين والمتدينين على أنه أنطيوخس أبيفانوس، فيذكر قيام ميكائيل لإنقاذ شعب الله تعالى من الضيق الشديد الذي سيأتي في "ذلك الزمان"، وهو الزمان المذكور لوفاة أو نهاية أنطيوخس أبيفانوس (3)، إذ سيتبعه قيام الناس واحياء الموتى للحياة الأبدية أو الإزدراء الأبدي، ويختم الإصحاح بسماع دانيال لرجلين يسأل أحدهما الآخر إلى متى انتهاء العجائب ؟ فيرد الآخر بأنها الى ثلاثة أزمنة ونصف، فإذا تم تفريق أيدي الشعب المقدس تتم كل هذه، ثم يسأل ( فيما يبدو دانيال ) ماهي آخر هذه ؟ فيرد عليه بأن من وقت إزالة المحرقة وإقامة رجس المخرب ألف ومئتان وتسعون ( 1290) يوما، طوبى لمن ينتظر ويبلغ إلى الألف والثلاث مئة والخمسة والثلاثين (1335) يوما.. ومرة أخرى فالإصحاح لا يتحدث إلا عن النهاية وقيام الناس من القبور التي يبدو من ظاهر النص أنها ستتبع نهاية أنطيوخس أبيفانوس وهو مالم يحدث، و هو مايدل – فيما يبدو والله أعلم _ على عدم ربانية النص والنبوة المذكوة به، وهو ما يتحدث به متدينون من أهل الكتاب.. وليس بالنص إشارة إلى قيام مملكة الله إلا ما قد يفهم من تبشير الذين يبلغون الألف والثلاثمائة والخمسة والثلاثين يوما.. ولكن هذا قد يكون تبشير بالجنة إذ هو هنا بعد إحياء الموتى.. وهو فهم غير متوقع لاختصاص الخالق بعلم الساعة، كما مذكور بدقة بالإنجيل والقرآن.. ثمّ إنه قد ثبت تلاعب اليهود بالأزمنة المذكورة بالنبوات، ثمّ إنه لم يجد أحد من الباحثين أو غيرهم تفسيرا أو تطبيقا للأزمنة المذكورة هنا ( 1290 و 1335 يوما)، ولا تفسيرا لاختلافها عن الـ 1150 يوما المذكورة بالأصحاح الثامن.. ولعلها جميعا تشير إلى أيام تدنيس الهيكل كما أسلفت في التعليق على الإصحاح الثامن، ولو كانت تعني سنين فإنّه يبقى القول بأن نبوخذنصر هدم الهيكل وعطل بذلك المحرقة عام 587 ق.(2/62)
م، فلو حسبنا متىانتهاء فترة الـ 1290سنة قمرية ( أو 1251 سنة شمسية) إنطلاقا من سنة هدم الهيكل وتعطيل المحرقة على يد نبوخذنصر لوجدنا أن هذه الفترة تنتهي عام 664م وهو قريب من فترة انتشار الإسلام واستتبابه خارج جزيرة العرب.. ويبقى عدم وضوح زيادة فترة الـ45 عاما عليها ليبلغ من أدرك نهايتها (1335 سنة قمرية أو1296سنة شمسية) فلاحا ( فوزاً) يستحق أن يقال طوبى له.. ولكن ظهور الأسلام بمكة لايفيد في حد ذاته معظم أهل الأرض المباركة بفلسطين، إنما طوبى لمن يعش حتى يستقر الإسلام حاكما بفلسطين.. وكان دخول الأسلام القدس بعد ذلك بحوالي ثلاثين عاماً.. ولعل انتشاره بالمنطقة استدعى سنين أطول قليلا بعد ذلك.. فما أقرب هذه الأرقام إلى التبشير بالأسلام خاصة أنّ مدى الخطأ التأريخي في حساب زمن نبوخذنصر قبل الميلاد يحتمل العشرات الكثيرة من السنين.. ومع ذلك فلا يبدو أن بهذا الإصحاح بشارة بمملكة الله.. ولوكان بها بشارة فلا يمكن أن تكون تلك البشارة إلا بالإسلام.. فما حدث بعد عهد دانيال بأثني أوثلاثة عشر قرن (1150 أو 1290 أو1335 عاما ) من حدث عظيم يستحق أن تسبقه البشرى من الله الاّ حدث ظهور الإسلام..
ــــــــــــــــ
(1) أذكر هنا على سبيل المثال ما جاء في مصنف عبد الرزاق " عن أبي الرباب القشيري قال كنت في الخيل الذين افتتحوا تستر وكنت على القبض في نفر معي فجاءنا رجل بجونة فقال تبيعوني ما في هذه فقلنا نعم إلا أن يكون ذهبا أو فضة أو كتاب الله قال فإنه بعض ما تقولون فيها كتاب من كتب الله قال ففتحوا الجونة فإذا فيها كتاب دانيال فوهبوه للرجل وباعوا الجونة بدرهمين قال فذكروا أن ذلك الرجل أسلم حين قرأ الكتاب".
هامش الملحق الثالث
(1) John Collins, Apocalypticism in the Dead Sea Scrolls, ed 1997, p.66
((2/63)
2) ورد في هامش الكتاب المقدس، طبعة دار المشرق أن ملك الجنوب هو بطليموس الأول (306- 285ق.م)، وأن الأمير الذي صار ملك الشمال هو سلوقس الأول (301- 281).. ولكن الأحداث المذكورة بالأصحاح بعد ذلك تتابع على أيدي خلفائهما الذين أشير اليهم جميعا بلقب ملك الجنوب وملك الشمال، ويورد المصدر المذكور أسماء هؤلاء الخلفاء.
(2) استنتج من ذلك عدد من الباحثون بل ومتدينون أن هذه النبوة (؟) كتبت في عصر أنطيوخس أبيفانوس وقبل نهايته!
(3) لا نملك التصديق ولا التكذيب، ووجود نبوات على أحداث بالمستقبل غير قيام الإسلام أمر مؤكد لكن التفصيل لأمور دقيقة بالأخداث غير معهود في نبوات الكتاب المقدس، والله أعلم.
الملحق الرابع :
شواهد أخرى لثبات ذكر اسم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالإنجيل والتوراة
لقد أصبح من الواضح يقينا للقاريء قيام التبشير برسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل وملحقاتهما.. ولا يعني عدم ذكر اسم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في معظم هذه البشارات التهوين من قوة دلالتها، فإنّ دلالة كثير منها أصبحت يقينية بتفاصيلها الساطعة كتلك التي استعرضناها من قبل، ومن البشارات التي استعرضنا هاهنا مالا تبلغ درجة الدلالة اليقينية بمفردها، ولكنها تبلغها فعلا بما يرتبط بها ومعها من بشارات مشابهة في نفس موضوعها.. ومع هذا فهنالك العديد من المواضع التي يمكن منها الإستنتاج بأن اسم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم قد تمّ ذكره والتصريح به.. ونستعرض هنا أمثلة لهذه المواضع ..
(1) بركليتوس القادم أو محمد عليه الصلاة والسلام ..
النصوص:
·? يوحنا 14 : 25
“ بهذا كلمتكم وأنا عندكم، وأما المعزيّ الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم.. ” .
·?يوحنا 16 : 7 ..(2/64)
... “ لكني أقول لكم الحق إنه خيرٌ لكم أن انطلق، لأنه إن انطلق لا يأتيكم المعزيّ، ولكن إن ذهبت أرسله لكم ، ومتى جاء ذاك يبكِّت العالم على خطية وعلى برٍ وعلى دينونة
“ And when he comes , he will prove to the people of the world that they are wrong about sin and about what is right and about God’s judgment “
·?يوحنا 15 : 26 ..
... “ ومتى جاء المعزيّ الذي سأرسله أنا إليكم من الأب روح الحق الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي من الابتداء ” .
“ The helper ( or the Paraclete ) will come, the spirit who reveals the truth about God , and who comes from father. I will send him to you from the father and he will speak about me “
سبق تفصيل الحديث حول معنى كلمة باراكليت Paraclete أو كلمة الفارقليط المعربة وهي الكلمة الأصيلة بالأناجيل القديمة، والتي استبدلت بالمعزي في النصوص أعلاه.. وأنها على الأرجح ترجمة يونانية لإسم محمد ( يحمل الإسم نفس لفظه ومعناه بالعبرية كالعربية)، وعلى القارئ العودة لقراءة التعليق على النبوات أعلاه ليتيقن أنها كانت صريحة فعلاً في تبشيرها بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم..
(2) مجيء حمادا وبيت الله القادم ( الأخير )..
حجيّ 2 : 6 - 8 ..
النص:
... “ وأزلزل كل الأمم ويأتي مشتهى* كل الأمم فأملأ هذا البيت مجداً قال رب الجنود، لي الفضة ولي الذهب يقول رب الجنود، مجد هذا البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول قال رب الجنود، وفي هذا المكان أعطي السلام يقول رب الجنود”.
التعليق:(2/65)
سيق أن ناقشنا هذه البشارة من قبل، وأعيد هنا الإشارة مختصرة إلى قضية ذكر اسم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم.. فقد نقل م.أ. يوسف في كتابه بالإنجليزية " مخطوطات البحر الميت وإنجيل برنابا والعهد الجديد" ص110 عن السير قروفري هيقين Sir Godfrey Higgins في كتابه Anacalypsis بأن اسم المسيا الذي سيأتي بعد عيسى قد ظهر في فصل 2، آية 7: " ويأتي مشتهى* كل الأمم"، فالحروف العبرية هنا حمد HMD من النص العبري علق عليها قروفري هيقين بقوله :
” “ From this root, the pretended prophet Mohammed or Mahomet, had his name.” Sir Hggin says,” Here Mohammed” is expressly foretold by Haggi, and by name; there is no interpolation here. There is no evading this clear text and its meaning ..”
وهو ما يمكن أن يترجم إلي ما يلي: " من هذا الجذر – يعني كلمة حمد- فإن هاهنا إخبار واضح عن محمد بواسطة حجي ( النبي) بالاسم، وبدون أي إدخالات على النص، ولا مهرب من هذا النص الواضح ومعناه أو وما يعنيه.."
فمشتهى تنطق بالعبرية حمادا، فيكون ذلك ذكراً صريحاً لاسم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بالتوراة.. وهو ما أقر به المنصفون حتى من غير المسلمين كما رأينا أعلاه.. فإذا جاء حمادا أو الحماد أوالحامد أو محمّد فستتزلزل أمم، ويقوم لله بيت بمجد هو أعظم من مجد بيت الله الأول.. راجع كذلك (محمد في الكتاب المقدس ) لعبد الأحد داوود..
فمتى زلزلت أمم الأرض وأتاها المنتظر؟ ومتى سقطت الممالك تحت حكم نبي تنتظره أمم الأرض ويتحدث عنه الأولين من قبل مجيئه؟ ومتى أقيم بيت الله الأخير الذي فاق مجدُه مجدَ البيت الأول بأورشليم ؟ وبني في مكان آمن لا يصله الأعداء كما اعتادوا وصول البيت الأول فدمروه مراراً..(2/66)
متى تم هذا كله إلا بظهور الإسلام وجعلِ البيت الحرام في مكة قبلةً للناس.. فكان مجد بيت الله الأخير أعظم من مجد بيته السابق بالقدس، وكان الأمن بمكة تاماً على خلاف ذلك بالقدس..
(3) محمد في نشيد الأناشيد:
من البشارات التي كنت قد تجاوزت عن الاستشهاد بها بشارة نشيد الأناشيد، حتى أطلعتُ على نقاشها في موقع البشارات بالإنترنت، وقد تعرفت عليه مؤخرا وهذا الكتاب مكتمل أبحثُ له عمّن يطبعه، فرأيت قوةً في نقاش البشارة، ورأيت نقل النقاش كما ورد بالموقع وبدون أي إضافات..
" في كتاب نشيد الأناشيد الذي ينسب لسليمان بن داوود عليهما السلام، نلاحظ في الجزء الخامس أنه يصف رجلاً يقول اليهود أنه سليمان بينما يقول النصارى أنه المسيح. و المتكلم مجهول لكنه يبدو لنا أنه أنثى. و يرجح اليهود أن المتكلم هو زوجة سليمان المسماة شولميث و أنها تصف سليمان نفسه. على أن النصارى لديهم أدلة قوية على أن الخطاب هو للمسيح عيسى بن مريم. فإن كان هذا صحيحاً فإننا أمام نبوءة برسول جديد لم يلد بعد. فطالما أن الجزء الخامس من كتاب نشيد الأناشيد يتحدث عن نبي يخرج في المستقبل فهو بلا شك يتحدث عن محمد عليه أتم الصلاة و التسليم.(2/67)
الجزء الخامس من نشيد الأناشيد: (بَنَاتُ أُورُشَلِيمَ): بِمَ يَفُوقُ حَبِيبُكِ الْمُحِبِّينَ أَيَّتُهَا الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النساءِ؟ بمَ يَفُوقُ حَبِيبُكِ الْمُحِبِّينَ حَتَّى تَسْتَحْلِفِينَا هَكَذَا (الْمَحْبُوبَةُ): حَبِيبِي أَبيَضٌ وَ أَزْهَرُ (متورد)، عَلَمٌ بَيْنَ عَشَرَةِ آلاَفٍ. رَأْسُهُ ذَهَبٌ خَالِصٌ وَغَدَائِرُهُ مُتَمَوِّجَةٌ حَالِكَةُ السَّوَادِ كَلَوْنِ الْغُرَابِ. عَيْنَاهُ حَمَامَتَانِ عِنْدَ مَجَارِي الْمِيَاهِ، مَغْسُولَتَانِ مُسْتَقِرَّتَانِ فِي مَوْضِعِهِمَا. خَدَّاهُ كَخَمِيلَةِ طِيبٍ (تَفُوحَانِ عِطْرَاً) كَالزُهُوْرِ الحُلْوَة، وَشَفَتَاهُ كَالسُّوْسَنِ تَقْطُرَانِ مُرّاً ( صمغ ذكي الرائحة) شَذِيّاً. يَدَاهُ حَلْقَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ مُدَوَّرَتَانِ وَمُرَصَّعَتَانِ بِالزَّبَرْجَدِ، وَجِسْمُهُ عَاجٌ مَصْقُولٌ مُغَشًّى بِالْيَاقُوتِ. سَاقَاهُ عَمُودَا رُخَامٍ قَائِمَتَانِ عَلَى قَاعِدَتَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ نَقِيٍّ، طَلْعَتُهُ كَلُبْنَانَ، كَأَبْهَى أَشْجَارِ الأَرْزِ. فَمُهُ عَذْبٌ، نعم: إِنَّهُ مَحَمَد. هَذَا هُوَ حَبِيبِي وَهَذَا هُوَ صَدِيْقٍي يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ!
إن أول ملاحظة هنا أن الشخص الذي نتكلم عنه له طلعة وجهه كلبنان، أي طلعة وجهه كالعرب و ليس كاليهود، رأسه كالذهب الخالص و غدائره متموجة حالكة السواد، و هذا ما ورد في وصف محمد رسول الله في صحيح البخاري، وكون وجهه أبيض متورد أيضاً ورد في صحيح البخاري، وكون جسمه ذهبي عاجي أبيض يلمع كالشمس قد ورد أيضاً في صحيح البخاري.(2/68)
حتى الآن كل هذه الأوصاف يمكن أن تنطبق على كثير من الناس، فلماذا قلنا أن الحديث بلا شك هو عن محمد ؟ إن المقطع رقم 16 يحتوي على الكلمة العبرية مَحَمَد مَحَمَد فهل هي مصادفة أن يكون أسم الشخص الذي تنبأ عنه كاسم النبي العربي؟ الكلمة العبرية (محمد) محمد تتألف من الحروف العبرية الأربعة (ميم حيت ميم داليت) و هي نفس الأحرف العربية (ميم حاء ميم دال)، و الفرق الوحيد بين مَحَمَد مَحَمَدو مُحُمَّد مُحُمَّدهو التشكيل، هذا التشكيل الذي لم يخترعه اليهود إلا في القرن الثامن الميلادي أي بعد حوالي مائة سنة من بدء الإسلام. و كلمة مُحُمَّد في العربية والعبرية لها معنى واحد هو صيغة التفضيل من الرجل المحمود. أما كلمة مَحَمَد فإن لها حسب قاموس "بن يهودا" أربعة معاني وهي: (المحبوب، المُشتهَى، النفيس، المحمّد). و بالطبع فإن المترجمين للكتاب المقدس يميلون لاختيار أول ثلاث كلمات لإبعاد القارئ المسيحي عن الكلمة الحقيقية.
إن الفرق بين كلمة مَحَمَد مَحَمَد وكلمة مُحمّد مُحُمَّد لم يكن موجوداً في العبرية القديمة، و إضافة التشكيل للغة العبرية وبالتالي للإسرائيليات إنما تم في القرن الثامن الميلادي، فمن المحتمل أن يكون الحاخام الذي قام بتشكيل نشيد الأناشيد قد أخطأ في هذه الكلمة، وإذا أردنا أن نكون واقعيين أكثر فإن هذا اليهودي قد غير التشكيل من مُحُمَّد إلى مَحَمَد ليمعن في إبعاد النصارى عن الإسلام الذي كان قد انتشر قبل قرن من إضافة التشكيل للإسرائيليات.(2/69)
إنّ أي رجل يؤمن بأن العهد القديم هو وحي من عند الله فعليه أن يؤمن بأن الجزء الخامس من نشيد الأناشيد كان يتحدث عن رسول الله محمد و أن اليهود يعرفون ذلك حتى اليوم لكنهم يخفونه عن الناس، يقول الله القدوس عن هؤلاء في سورة البقرة: ( الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُون، الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ) "
(4) مواضع أخرى أستشهد بها الأولون من تراجم قديمة للتوراة:
تناقل العلماء والباحثون المسلمون بالماضي عددا من البشارات التي ذكروا أن بنصوصها تصريح باسم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك كان فيما استندوا إليه من نسخ قديمة في أيامهم، ولم يبق بالنسخ المعاصرة أي ذكر صريح لاسم الرسول صلى الله عليه وسلم.. ولا يفسّر ذلك إلا خطأ التراجم أيامهم، أو خطئهم هم أنفسهم في الترجمة أثناء التأليف، أو تبديل أهل الكتاب لكتابهم لإزالة كل ما يشير إلي الرسول صلى الله عليه وسلم.. وللاحتمال الثالث شواهد كثيرة تبرر الاستشهاد بما أحصاه العلماء السابقون من هذه المواضع المفقودة حالياً.. يذكر الإمام الطبري ( 232-247 هـ) في كتابه الدين والدولة في إثبات نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم المواضع التالية:(2/70)
- حبقوق 3 : 3 - 6 : وقد أورد النص كما يلي: " إن الله جاء من التيمن والقدوس من جبل فاران، لقد انكسفت السماء من بهاء محمد وامتلأت الأرض من حمده، يكون شعاع منظره مثل النور ويحوط بلده بعزة، تسير المنايا أمامه وتصحب سباع الطير أجناده.." .. بينما ورد النص في النسخ المعاصرة كما يلي "" قد أقبل الله من أدوم، وجاء القدوس من جبل فاران، غمر جلاله السماوات وامتلأت الأرض من تسبيحه، إن بهاءه كالنور، ومن يده يومض شعاع.. " كما وردت بالكتاب المقدس: كتاب الحياة، الطبعة الرابعة 1992، أو " الله جاء من تيمان ( تيماء، Tema ) والقدوس(The Holy God) من جبل فاران . سلاه . جلاله غطى السماوات والأرض امتلأت من تسبيحه.. " كما ورد بالكتاب المقدس لجمعيات الكتاب المقدس المتحدة 1966، ويلاحظ من النصين أن التحريف مسّ حتى أسماء الأعلام، فأدوم في أحدهما صارت تيماء بالآخر.. وما يبعد أنّ جلاله كانت ببعض النسخ القديمة محمدا كما روى ذلك عدد من الباحثين المسلمين كالطبري..
يذكر الأمام الماوردي في كتابه أعلام النبوة في التعليق على بشارة حبقوق أعلاه، بعد إيراد نصا مقاربا للنص أعلاه مترجماً عن السريانية، محتويا على عبارة: " وانكسفت لبهاء محمد.." بأ، اسم المحمد بالسريانية موشيحا، وأن السريا إذا أراد أن يحمد ااه تعالى قال شريحا لإلهنا.(2/71)
- إشعيا55: 3- 5، " .. هي مراحم داود الثابتة الأمينة، ها أنا قد جعلته شاهدا للشعوب، زعيما وقائدا للأمم، أنظر انك تدعوا أمما لا تعرفها، وتسعى إليك أمم لم تعرفك، بفضل الربّ إلهك، ومن أجل قدوس إسرائيل، لأنه قد مجدّك" .. هذا مثال لمواضع عدّة ذكرها الماوردي رحمه الله لم أجد أكثرها، وفيها عبارة " إن الله جعلك محمدا أو محمودا" .. وهي مواضع متكررة في أسفار إشعيا عن النبي المنتظر ( ناقشت مجموعة منها في فصول سابقة)، وبها حديث عن نبي للأمم كافة لا ينطبق على أي من أنبياء بنيي إسرائيل، وينطبق على محمد صلى الله عليه وسلم.. ويرى الماوردي في مثل عبارة " جعلك محمدا أو محمودا" تصريح باسم الرسول عليه الصلاة والسلام..
- مزمور 48: " إن ربنا عظيم محمود جدا، وفي قرية إلهنا وفي جبله قدوس ومحمد" وفي ذلك تصريح باسم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن الموضع من النسخة القياسية يقرأ حاليا كما يلي:
“ Great is the Lord and greatly to be praised in the city of our God! His holy mountain, beautiful in elevation, is the joy of all the earth ”
وممكن ترجمتها الى ما يلي: " عظيم ربّنا، وله أن يحمد جدا في مدينة الهنا، جبله المقدس، جميل في إرتفاعه، هو السعادة في كل الأرض".. لا يفوتني هنا التذكير بأن أهل المخطوطات فسروا الجبال بالأنبياء.. ( راجع البشارة بالملك الصديق أو ملكي صديقي).. كما أورد للقاريء النص الحالي بإحدى النسخ العربية :" ما أعظم الرب وما أجدره بالتسبيح في مدينة الهنا، في جبل قداسته!" وبقية النص العربي: " جبل صهيون جميل في شموخه ( هو) فَرَحُ كل الأرض حتى أقاصي الشمال"..
الملحق الخامس:
التذكير بدور بولس ووجوب الاختيار بين البقاء في مدرسته أو العودة إلى مدرسة المسيح والأنبياء عليهم السلام
...(2/72)
يتفق الجميع على الدور الحيوي الذي اضطلع به بولس في إنشاء المفاهيم الأساسية للمسيحية المعاصرة، فشخصية المسيح كأحد أنبياء بني اسرائيل المؤيدين بالمعجزات، هذه الشخصية مسخها بولس الى الإعتقاد بأنّ المسيح ابن الله أو هو الله عزوجل نفسه متجسد في صورة إنسان، متنكرا بذلك لقاعدة الإيمان الأولى والكبرى التي جاء بها المسيح نفسه وجاء بها مَن قبله مِن الأنبياء في توحيد الله وتنزيهه عن النقص وعن الشبيه والمثيل، مقتبسا هذه العقيدة من عقائد الأمم الوثنية التي آمنت ببعل وحورس وبوذا وكريشنا.. مقتبسا هذه العقيدة من تلك الأمم الوثنية التي آمنت بهؤلاء كأبناء لله مولودين في 25 ديسمبر! متقرباً بذلك للأمم بدين يألفونه ويتقبلونه.. وفي هذا تنكّر للمسيح عليه السلام الذي أمر بعبادة الله وحده وعاش بين الناس كنبي متواضع يعبد الله ويدعوا الى وحدانيته ويستعين به في تحقيق المعجزات ليؤمنوا به الناس مرسلا من الله اليهم! .. ولم يعش الهاً يعبده الناس ويسجدون له (1).. بل أعلن جهله بالساعة، ورفع يديه محتاجا يدعو الله أن يحقق المعجزات على يديه ليؤمن به الناس فقط كرسول اليهم!.. وتلك صورة عن المسيح واضحة بالأناجيل المعترف بها على الرغم من أن هذه الأناجيل هي مما كتبه تلامذة بولس من بعده وتبنتها المدرسة النصرانية التابعة لبولس.. وعلى الرغم من إدخال لفظ ابن الله الى بعضها ومحاولات التأليه الى بعضها الآخر أحيانا..(2/73)
وألغى بولس التوراة على الرغم من إعلان المسيح عليه السلام عن تثبيتها (2)، وأنه ليس لأحد الحقّ في إلغائها.. بل وسخر من التوراة وقد كان من المفروض عليه تقديسها باعتبارها كلام الله.. وألغى بذلك اتباع وتحكيم شريعة موسى عليه السلام.. وأحلّ الخنزير هو وتلامذته بما نسبوه الى بطرس، وقد نزه النصارى من أتباع المسيح الحقيقيين بكنيسة القدس نزهوا بطرس عما ينسب اليه بولس وأصحابه.. وعلى خطاه ابتعدت من بعده النصرانية عن هدي السماء، وظلت تبتعد حتى جاء اليوم الذي يعقد فيه قران الشواذ بمباركة الكنيسة.. فأين هم من تعاليم الرسل والأنبياء.. لقد ضلوا ضلالا مبينا..
وألغى بولس أهمية العمل الصالح رغم تتابع الأنبياء بالعهد القديم في التذكير بأهميته، وأنه يكاد يعادل الإيمان في الأهمية.. ألغى أهمية العمل الصالح فخالف بذلك وعطّل حتى الأناجيل والرسائل التي يؤمن بها أتباع مدرسته (3).. وجعل النجاة كلها - بلا دليل- مرهونةً بالإيمان بالفداء والتضحية التي يزعم أن المسيح عليه السلام قدّمها عندما صلب.. وجعل الإعتقاد بهذه الفكرة مكفرا لكل ما تقدم وما تأخر من ذنوب البشر.. والذين لولا ذلك لكانوا قد ورثوا خطيئة أبيهم آدم كغيرهم من البشر ولما استحقوا إلا غضب الله عليهم جميعا ..! وواضح أن ذلك مما لم يأتي به المسيح أو يعلّمه.. ومعلوم أنّ تعاليمه نصّت على أن كل إنسان مرهون بعمله، وأنه لا يحمل أحد ذنب أحد (4)، ولا تزر وازرة وزر أخرى.. انها لم تأتي بشيء عن الخلاص إلا الخلاص يوم الحساب بالعمل الصالح للفرد نفسه..(2/74)
وألغى الختان، وقد التزم به كل أتباع المسيح عليه السلام في حياته، والتزم به كل أتباعه الحقيقيون من بعده.. ألغاه متجاهلا نص التوراة الصريح بأن الختان سيبقى في المؤمنين حتى قيام الساعة، وأنه علامة على المؤمنين غير قابلة للإلغاء.. بل وأنها مدونة " على الألواح السماوية تسري على جميع الأجيال الى الأبد، وأن كل مولود لا يختن ( في اليوم الثامن) لا ينتمي لأطفال العهد الذي عقده الرب مع ابراهام، بل لأبناء الهلاك، كذا لن يكون عليه علامة الإنتماء للرب" (5) فكان في إلغائه للختان إعلان بيّن ( بناء على التوراة ورسالة يعقوب) من حيث لا يشعر بأنه وأتباعه قد ضلوا الطريق وخرجوا عن قافلة المؤمنين وعباد الله الصالحين.. وهوّن أكل القرابين المقدمة للأصنام، ولولا خشيته من أتباع المسيح لصرح بتحليلها ( كورنيثوس الاولى 8)، ونسب تلميذه لوقا ( أعمال الرسل 10: 11- 16) الى بطرس الحواريّ _من جملة ما افتروه على بطرس وفضحهم في ذلك الناصريين – أن بطرس أحلّ أكل لحوم كل الحيوانات، وفهم أن ذلك يشمل لحم الخنزير رغم تحريمه بالتوراة..
وأخرج دعوة المسيح عليه السلام من كونها دعوة خاصة ببني اسرائيل ( متى 10: 5، ومتى 15: 24) لإصلاحهم، وتهيئتهم لقبول مملكة الله مبتعثة من أمة من غيرهم، وتبشيرهم بنصر المؤمنين على الكفار عند قيام هذه المملكة، فأخرجها بولس الى دعوة أممية متجردة عن الإلتزام بتعاليم التوراة وكتب الأنبياء... وهو ما كانت حياة المسيح عليه السلام على خلافه، و ما صرّح نفسه بضده.. ويبقى أن العبارات التي يستشهد بها على عالمية دعوة المسيح إما أنها لا تعني إلا خاتم الأنبياء أو أنها مدسوسة على الأناجيل الحالية.. كما سبق أن ناقشنا ذلك من قبل..(2/75)
واخترع فكرة القربان المقدس كما تستنتج ذلك هيام ماكوبي (6)، وقد سماها حينها "عشاء الربّ" وهي تسمية وثنية قديمة أحرجت الكنيسة في الماضي كما تذكر المؤلفة حتى استبدلتها باسم القربان المقدس.. وعلى المؤمنين في هذا القربان أن يأكلوا لحم المسيح ( الإله!) ويشربوا دمه حتى يتم لهم الفداء ويصلهم الغفران.. ويتم ذلك ليلة عيد الميلاد بعد تحول الخبز والنبيذ الى جسد المسيح ودمه وذلك بعد أن يقرأ عليه الكاهن.. وترى المؤلفة وغيرها أنه على الرغم من ذكر الأناجيل لوقوع حادثة العشاء الأخير وتوزيع المسيح لكسرات الخبز على أصحابه، وهو أمر عادي يقوم به أي سيد قوم في حفلات اليهود حتى اليوم، فإن المعاني التي ألحقها بها كتبة الأناجيل إنما جاءت اقتباسا من تعاليم بولس.. وذلك أن الأناجيل كتبت بعد فترة طويلة من كتابات بولس، على أيدي تلاميذ مترددين على الكنائس المتبعة لتعاليمه.. ويدلّ على ذلك كما تذكر الكاتبة أن بولس أعلن بنفسه تلقيه فكرة عشاء الربّ من عيسى بوحي مباشر (7)، وما كان ليقول ذلك لو أن أتباع المسيح الذين عرفوه يمارسون هذا الطقس الديني، ومما يؤكد هذا أن " كنيسة القدس" وأتباعها من الناصريين ( أو النصارى) لم تعرف طقوس العشاء الرباني أو تشير اليها.. وأن عبارات الأناجيل جاءت متشابهة مع العبارات التي استخدمها بولس ( مرقص 14: 22-24، كورنيثيوس الأول 11: 23- 30).. ولا يخفى ما في فكرة عشاء الرب من وثنية مقتبسة عن الأمم السابقة (8).(2/76)
واخترع فرية وضع بها نفسه في مقام الرسل الذين يتلقون الوحي ليس من الله بل من المسيح عليه السلام ( يرجى مراجعة النصوص بالهامش 9)، وإذ ألّه المسيح فقد اكتملت له منزلة المرسلين.. وصار بذلك وهو الذي لم يعرف المسيح مؤمنا أو يتعلم على يديه صار بذلك في موضع مُقدّم على كل تلاميذ المسيح وأتباعه الذين علمهم المسيح مباشرة في حياته.. وكانت النتيجة أن غيّر الدين، وعطل دعوة المسيح، وضل وأضل المؤمنين.. وما سلم منه الا الذين تمسكوا بما تعلموه من المسيح.. فهؤلاء عرفوا بولس كأحد الكذبة الذين حذر منهم المسيح وتبرأ.
هذا وقد قاطعه أتباع المسيح عليه السلام بالقدس.. وهاجموه.. وحاكموه بالقدس فما احتمى الا بجنسيته الرومانية.. واعتبروه دجالا.. ومدعي للنبوة كذابا.. كما سبق أن بينا من قبل في هذا الكتاب.. وسعى بولس الى مداهنة الحكام وتثبيت حكمهم والتملق لهم..
وقد حاول بولس في باديء الأمر أن يأخذ شرعية لنشاطه بنسبة نفسه الى يعقوب ومن معه من تلامذة المسيح، لكنه سرعان ما اضطر الى التحرر من سلطتهم والهجوم عليهم (10)، وإدعاء أنه الرسول المؤتمن من قبل المسيح عليه السلام على دعوته..
- وداهن بولس السلطة الوثنية الرومانية الغاشمة، فتفاخر كثيرا بجنسيته الرومانية، وأمر الناس بالخضوع للسلطة من داخل أنفسهم لا لمجرد الخوف منها، وأن السلطة هي " خادمة الله"، وأن من يقاوم السلطة إنما " يقاوم ترتيب الله"، وقال بـ" أن السلطة لا تحمل السيف عبثاً"!! وأمر أن يؤدي لها الناس الجزية والضريبة والأحترام والأكرام ( الرسالة لأهل روما اصحاح13: 1- 7).. وكل ذلك يحمل معان تقديس وإقرار لقوانين الوثنيين الحاكمين ولما يقومون به من مجازر ومذابح، ولا يتفق مع روح تعاليم الأنبياء والصالحين الذين يؤمنون بأن الشريعة الحقّ هي تلك التي أُنزلت على الأنبياء والمرسلين..
فمن هو بولس ؟(2/77)
ينص أعمال الرسل وهو من تأليف لوقا تلميذ بولس على أن بولس من مواليد طرسوس بآسيا الوسطى، من أسرة يهودية، وأنه فريسي المذهب أصلا، وأنه كان يحمل اسما يهوديا هو شاول قبل أن يتسمّى ببولس، وأنه عمل فيما بعد – قبل تنصره - كشرطي عند الكاهن الأكبر.. وإن كان الكاهن الأكبر ( قيافا) كما هو معلوم صدوقي المذهب، مما يشير كذلك الى كذب بولس بأنه كان فريسيا، خاصة أن أعمال الرسل أشار الى معارضة الفريسيين لمطاردة وقتل النصارى، بينما قام بذلك بولس خدمة للصدوقيين.. الذين يفترض أنهم أعداءه.. فهل كان فعلا فريسيا ؟ هذا ما يشكك فيه الكثير من الباحثين، بل ينكرون عليه أنه كان حتى يهوديا.. ويشيرون الى أن اسلوبه وتعاليمه وأفكاره لا تدل الا على خلفية رومانية، ولا يستبعد الباحثون صحة رأي النصارى الناصريين من أتباع يعقوب ( والمسيح عليه السلام) بأنه شخص مجهول من أصل غير يهودي قدم الى القدس للمعيشة، وتعلق ببنت الكاهن، فدخل اليهودية وعمل مع الكاهن طمعا في الزواج بابنته، ولما رفضه الكاهن حقد على اليهودية، وانضم الى من كان يضنّهم أعداءهم.. وهم النصارى، ولكن بخلفيته الوثنية، وشخصيته القيادية، فسعى الى إزالة كل صلة باليهودية بدءاً من العقيدة بالمسيح الى احترام التوراة والتزام تعاليمها..
شواهد أخرى على كذب بولس وافتراءاته:
لا شك أن الإنقلاب على تعاليم الرسول أياً كان بعد موته أو ذهابه من الدنيا هو تعطيل لكل جهده ودعوته، وهو بالتأكيد تبديل لدينه.. ولا يعقل أن الرسول كان عاجزا عن توضيح دعوته حتى يأتي من بعده أحد بمفاهيم مناقضة لجوهر دعوته زاعما أنّ هذا مما أوحى به الرسول اليه من بعد مغادرته للدنيا..(2/78)
إن الواجب كان رفض الدعوى بأن الرسول نفسه أوحى إلى أحد من أتباعه بهذا التبديل والإنقلاب على رسالته من بعده.. وليس من المعقول أن يأمر المسيح عليه السلام بعبادة الله وحده فيأتي بولس فيأمر بعبادة المسيح بأنه الله نفسه أو ابنه.. وليس من المعقول أن يشدّد المسيح على وجوب إتباع التوراة وعدم نسخها ( مثل متى 5: 17 " لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء.." أي لأبدل التوراة أو كتب الأنبياء)، ويأمر من يستفتيه بالإحتكام إليها كما ورد عند شفائه للأبرص ( مرقس1: 44)، وكما يُفهم عنه وعن أتباعه بالقدس في قضايا أخرى كثيرة، فيأتي بولس من بعده ليسخر من التوراة وليأمر الأتباع بهجرها ( غلاطية 2: 21، رومية 3: 28، رومية5: 18..) كيف وهي من الوحي المنسوب الى الله عزوجلّ.. وكيف يأتي المسيح لينبّه ألاّ خلاص إلا بالعمل الصالح، فيأتي بولس ليقول بأن سبيل الخلاص الوحيد هو الإيمان بالفداء الذي قدمه المسيح عن البشرية، لا بأعمال الناموس، أي ليس بالأعمال الصالحة التي أمرت بها التوراة ( ان الإنسان لايتبرر بأعمال الناموس بل بإيمان يسوع المسيح، لأنه بأعمال الناموس لا يتبرر جسد ما، غلاطية 2: 16)، بل ويزعم لمدرسته غير الملتزمة بالتوراة أنها ستدخل ضمن من باركهم الله من أبناء إبراهيم، والذين تمسكوا بالأعمال قد فقدوا المباركة :" إذاً الذين هم من الإيمان يتباركون مع إبراهيم المؤمن، لأن جميع الذين هم أعمال الناموس هم تحت لعنة لأنه مكتوب ملعون كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل به.. ولكن الناموس ليس من الإيمان.." ويقول في غلاطية 5: 4 " يامن تريدون التبرير عن طريق الشريعة، قد حرمتم المسيح وسقطتم من النعمة ! .." وفي غلاطية 4: 4 " ..أرسل الله ابنه، وقد ولد من امرأة وكان خاضعا للشريعة، ليُحرِّر بالفداء أولئك الخاضعين للشريعة، فننال جميعا مقام أبناء الله".. وفي ذلك خلط وضلال بيّن..(2/79)
وهو ما لم يتحدث به المسيح أو أحد من الأنبياء عليهم السلام من قبل بولس! فكأنّ دعوات الله من خلال كل الأنبياء قبل زمن بولس كانت على ضلال، وأُخفي عن أتباعها سبيل الخلاص الوحيد الذي لم يكشفه إلا بولس! والعجيب أنّ هذا الرأي الذي لم يعرفه الأنبياء أو يتحدثوا به كان معلوما لدى كثير من الأمم الوثنية السابقة على عصر بولس.. وقد أثبت عشرات الباحثين التشابه التامّ بين عقائد الأمم الوثنية وعقيدة تأليه المسيح عليه السلام وقضية الفداء الذي قدمها بولس للناس، وعقدوا مقارنات جلية لإثبات أن عقيدة بولس هذه والتطوير الذي تمّ لها من بعده إنما كانت مقتبسة من عقائد الأمم الوثنية ووحي الشيطان لا وحي الرحمن.. وفي هذا يؤكد كتاب الله الأخير وهو القرآن الكريم بأن النصارى قد نسخوا عقيدتهم عمّن قبلهم من الكفار.. جاء في سورة التوبة الآية 30، بعد ذكر دعوى طوائف من أهل الكتاب بوجود ابن لله وتعليقا عليه بأنهم في ذلك "يضاهئون قول الذين كفروا من قبل" وفي سورة المائدة الآية 77، في إشارة إلى غلو النصارى بتأليه المسيح " يأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحقّ ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل".. وذلك هو ما أثبته الباحثون مع أنهم من غير المسلمين..(2/80)
وليعقوب خليفة المسيح الأول رسالة تُنسب إليه ضُمت إلى كتب العهد الجديد التي يؤمن بها المسيحيون لم تسلم من التحريف والإدخالات المسيحية إلا أنها تسطع بفكر مناقض تماما لفكر بولس..بما فيها من تشديد على أهمية العمل الصالح " هل ينفع أحداً أن يدّعي أنه مؤمن، وليس له أعمال تثبت ذلك؟ .." ( رسالة يعقوب 2: 14) وعلى وجوب اتباع جميع الوصايا الواردة في شريعة موسى.. " وأنّ مَن يُخالف واحدة منها فقط يصير مذنبا تماماً كالذي يُخالف الوصايا كلها" ( يعقوب 2: 11).. قال تعالى عن اليهود " ..أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض.." البقرة:85.. مع تشديد يعقوب رحمه الله على التمسك بروح الدّين من الإخلاص لله والصدق ومحبة الآخرين والصبر على الإبتلاء والتوكل على الربّ والإكثار من الصلاة والخوف بل والبكاء من خشية الله وحده والتناصح والتواضع والحث على مقاومة ابليس والحذر من الغش والحسد وابتغاء غير وجه الله وزلات اللسان والفوضى والنزاع والتحزّب وظلم العمال في أجورهم.. وكلها وصايا منسجمة مع تعاليم التوراة والأنبياء وتعاليم المؤمنين كما جاءت في مخطوطات البحر الميت وإنجيل برنابا ومع روح الإسلام وتعاليمه.. إنّها أمة واحدة.. ودين واحد.. أن اعبدوا الله مالكم من إله غيره.. هذا وقد نقل الباحث إيسنمان (11) تشكيك إيسوبيوس في أصالة رسالة يعقوب ( واضح ان ذلك بسبب شذوذها عن تعاليم بولس)، وإيسوبيوس هو مؤرخ الكنيسة وكاهنها بالقيسرية وصديق الإمبراطور قسطنطين والمسئول الأول عن دوره في نصرة المسيحسية المنتسبة إلى بولس على تلك المنتسبة لأتباع المسيح ( عليه السلام) اليهود، ولاشك بأن رسالة يعقوب ظلت مشكلة لدى المسيحية المعاصرة ( المنتسبة لبولس) فقد نقل إيسنمان كذلك تصريح المجدد الديني! مارتن لوثر بعد أكثر من ألف عام بأن المفروض كان عدم الإعتراف برسالة يعقوب وضمها إلى العهد الجديد..(2/81)
وإضافة الى هذا كله، فإنّ فيما يلي أدلة أخرى من كلام بولس نفسه تدل على أنه كان يفتري على المسيح، ويسعى الى بناء مجد شخصي كما قال عنه الأولون، وأن المسيح – وهو البشر الرسول – ما كان يوحي إليه بشيء بعد غيابه عن الدنيا..
·?وردت عبارات كثيرة على لسان بولس، هي في الواقع صريحة في دلالتها على تمييعه للعقيدة والإستعداد لتعديلها حتى تصبح مقبولة لدى الناس، ليتم بذلك كسب أكبر عدد من الأنصار.. وهي في الواقع سياسة أثبتت نجاحها في زمن بولس، وما زال عليها دعاة النصرانية حتى اليوم الذين يقدمون العقيدة لكل قوم في الثوب الذي يرضيهم ويقبلونه ولو كانوا يعلمون أنها خلاف ذلك.. فهي سياسة ناجحة لجمع الأنصار ولكن بعيدا عن منهج الأنبياء وعن طريق المرسلين، وأورد فيما يلي نماذج استشهد بها علماؤنا والباحثون للدلالة على كذب بولس وافتراءه على المسيح عيسى عليه السلام..
- جاء في رسالة رومية 3: 5- 7:" ولكن إن كان إثمنا يبين برّ الله، فماذا نقول؟ أيكون الله ظالما إذا أنزل بنا الغضب؟ أتكلم هنا بمنطق البشر: حاشا! وإلا فكيف يدين الله العالم ؟ ولكن إن كان كذبي يجعل صدق الله يزداد لمجده، فلماذا أُدان أنا بعد باعتباري خاطئا ؟" ..
وفي هذا إقرار بالتأليف والكذب على الدين باسم كسب الناس اليه، وهو اسلوب تبناه من بعد بولس أتباعه، وشواهده معلومة وثابتة.. وإنّ الله لغني عن إظهار مجده بالكذب عليه والإفتراء على أنبيائه ..!(2/82)
- وجاء في رسالته لكورنيثوس الأولى 9: 19 – 23 :" فمع أنّي حرّ من الجميع ، جعلت نفسي عبدا للجميع، لأكسب أكبر عدد ممكن منهم، فصرت لليهودي كأني يهودي، حتى أكسب اليهود، وللخاضعين للشريعة كأني خاضع لها – مع أني لست خاضعا لها- حتى أكسب الخاضعين لها، وللذين بلا شريعة – مع أني لست بلا ناموس من عند الله بل أنا خاضع لناموس من نحو المسيح- حتى أكسب الذين هم بلا شريعة.."، وفي كورنيثوس الأولى 10: 32: " كما أنا أيضا أرضي الجميع في كلّ شيء.." وواضح أن هذا التلون مردود على طريقة الأنبياء والصالحين الذين يرفضون مخالفة الشريعة ( التوراة) وتعطيلها ولو للحظات حتى لو ذهبت في ذلك أنفسهم.. فأما العيش مع الناس متجردا من الشريعة حتى يوقعهم في حبال دعوته، ومع الملتزمين بالتوراة كأنه من المتقين الملتزمين بقوانينها المنزلة أحتيالا للأتقياء واستدراجا لهم بعيدا عن هدى التوراة ونورها.. فهذا منتهى الإضلال والإغواء للناس جميعاً.. ولايدل الا على ضلال صاحبه.. ويفسر تأخر مقاطعة أتباع المسيح له..(2/83)
- يذكر أيسنمان (11) أنّ حرص بولس في رسائله لدفع تهمة الكذب عنه ليؤكد ضراوة هجوم النصارى من كنيسة القدس عليه ( وهي قضية قد سبق إثباتها عند التعليق على البشارة بالمختارين)، فهؤلاء لم يتهاونوا معه في قضايا التحلل من الإلتزام بالتوراة، أو اقتباس الطقوس الباطلة.. ومما أورده ايسنمان من كتابات بولس – وهي من العهد الجديد- في دفع تهمة الكذب عنه مايلي :" والذي أكتب به اليكم هوذا قدام الله إني لست أكذب اليكم" غلاطية 1: 20، وفي رسالته الأولى لتيمموثاوس 2: 7 " .. الحق أقول في المسيح ولا أكذب" ويقول في رسالته لأهل رومية 9: 1 " أقول الصدق في المسيح، لا أكذب وضميري شاهد لي بالروح القدس .." وفي كورنيثوس الثانية 11: 32 " الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي هو مبارك الى الأبد يعلم أني لستُ أكذب" .. وفي غلاطية 4:4 " أفقد صرت عدوا لكم لأني أصدق لكم، يغارون لكم ليس حسنا بل يريدون أن يصدوكم لكي تغاروا لهم" ويواصل في هذا الموضع الحديث عن الحرية.. فالحرية التي يزعمها ( وهي الحرية من شريعة التوراة وإشراف الحواريين بالقدس ) يستحقها هو وأتباعه لأنهم أبناء الحرة سارة لا أبناءء الأمة هاجر ( عليهما السلام).(2/84)
- ويذكرُ إيسنمان إدعاء بولس أنّه لم يعرف من الحواريين غير بطرس ويعقوب، وأنه بعد زيارته الأولى للقدس لم يزرها مرة أخرى الا بعد أربعة عشر عاما ( غلاطية 2: 1) فيذكر بولس أن ذلك لهو مما يتناقض مع سفر الأعمال ( وقد ذكر له زيارة أخرى خلال تلك الفترة )، وقد أوردتُ بالهامش (9) شواهد عديدة يدعي فيها بولس تلقيه التعاليم من المسيح مباشرة، واستغنائه عما تعلمه اللذين عرفوا المسيح في حياته.. وأضيف هنا موضع آخر ورد في غلاطية 1: 16 حيث كتب بولس: " ولكنّ لما سرّ الله الذي أفرزني من بطن أمي ودعاني بنعمته، أن يعلن ابنه فيّ لأُبشر به بين الأمم، للوقت لم استشر لحماً ودما، ولا صعدت الى أورشليم الى الرسل اللذين قبلي.." ..وواضح أنّ في هذا إدعاء من قبل بولس بأنّ ما يقوله هو وحي مباشر من الله، وفي ذلك بالتالي إزدراء لكل جهد المسيح في تعليم حوارييه وتلامذته، وإعلان للأستغناء عن كل ما تعلموه من المسيح في حياته.. فلا غرابة أن يضلّ ويُضلّ عن رسالة المسيح عليه السلام.. ولا عجب أن يتهمه أتباع المسيح الحقيقيون بأنه " النبي الكذاب" كما ذكرت في الفصل الثالث عن التبشير بالمختارين.. ويعدّد إيسنمان في الواقع عددا من المواضع والأحداث البين فيها تناقض بولس مع نفسه ومع سفر الأعمال، مما يظهر قضية الكذب جليّة.. وفي الواقع فإنّ إيسنمان يعقد مقارنة قوية بين شخصية الكاهن الشرير المذكورة بمخطوطات البحرالميت وشخصية بولس ليستنتج أنّ اليهود المؤمنين من أصحاب المخطوطات إنما كانوا يقصدون بولس كشخصية معادية ليعقوب البار الذي اعتبره هو المعلم الصالح الذي تحدث عنه أصحاب المخطوطات.. وقد سبق أن أثبت للقاريء أنّ المعلم الصالح الذي تحدث عنه أصحاب المخطوطات ما كان إلا المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، مما يعني أن الكاهن الشرير ما كان الا قيافا الذي تآمر على المسيح وسعى في النهاية لقتله..(2/85)
ومع مخالفتي لتحليل ايسنمان إلا أنه أثبت أن شخصية بولس منطبقة تماما مع شخصية الكاهن الشرير عدو المعلم الصالح.. وفي الواقع فإن بولس كان قد عاصر المسيح عليه السلام في حياته عدوا يسعى للقبض على أتباع المسييح وقتلهم.. ومن بعده رأى أتباع المسيح الحقيقيين أنه هو " العدو"..
- فلسفته المنتهية الى تحليل أكل الذبائح التي ذبحت تقربا للأصنام ( كورنيثيوس الأولى، 8: 1- 13)، إذا أكلت في الخفاء، واضح أنّ بذلك تشجيع على النفاق، ويشير إلى الخوف من أتَبَاع المسيح الحقيقيين بمخالفة التوراة صراحة.. ويقول في كورنيثيوس الأولى 6: 12 " كل الأشياء تحل لي لكن ليس كل الأشياء توافق، كل الأشياء تحل لي لكن لا يتسلط عليّ شيء، الأطعمة للجوف والجوف للأطعمة والله سيبيد هذا وتلك ".. وهي فلسفة ميّعت المحرّمات وأضاعت الشريعة بل والدين.. إذ يقول بعد ذلك مباشرة " ولكن الجسد ليس للزنا بل للرب، والربّ للجسد .."! .. وفي غلاطية 3: 10: يتجرأ فيقول: "أما جميع الذين على مبدأ أعمال الشريعة فإنهم تحت اللعنة.."، ثم يقول في غلاطية 3: 13 " إن المسيح حررنا بالفداء من لعنة الشريعة، إذ صار لعنة عوضا عنا، لأنه قد كتب :( ملعون كل من علق على خشبة)".. ولا يسعنا إلا العجب من هذا المنطق الذي بلغ التعالي على المتمسكين بالكتاب ( الناموس)، بل لعنهم، بل لعن المسيح وهو يزعم أنه ابن الله عز وجل أو هو نفسه.. كل هذا فداء لهؤلاء !(2/86)
- ولنتعرف على طريقة تفكير بولس، وانزلاقاته نراجع رومية اصحاح 7 : ففي مقدمته يشبّه بولس تحرره من الشريعة بتحرر الزوجة بموت زوجها منه، فكذلك تحرر بولس ومن معه من الشريعه بموت جسد المسيح.. ثمّ يُدلل على مرض قلبه ونفسه فيقول أنه لولا الشريعة لما وجدت الخطيئة!.. " ولكنني ما عرفتُ الخطيئة إلا بالشريعة، فما كنت لأعرف الشهوة لولا قول الشريعة: " لا تشته!"، ولكن الخطيئة استغلت هذه الوصية فأثارت فيّ كل شهوة، فإنّ الخطيئة استغلت هذه الوصية فأثارت فيّ كلّ شهوة، فإنّ الخطيئة لولا الشريعة ميتة، أما أنا فكنت من قبل عائشا بمعزل عن الشريعة، ولكنّ لما جاءت الشريعة عاشت الخطيئة.." .. وواضح أن هاهنا سقطة تُبين أنه لم يكن يهوديا تماما ( في أصله) كما ذكر ذلك عنه الناصريون، وإلا فإنّ اليهود يعرفون الشريعة من صباهم، وما جاء المسيح إلا مثبتا لها، ولا يمكن أن يُقبل القول بأن نهي الشريعة عن ذنب هو دعوة للناس لعمله.. فهل هو – أي بولس_ أحكم من الخالق منزل الشريعة.. ثمّ يقول " وأمّا أنا فجسدي بيع عبدا للخطيئة، فإنّ ما أفعله لا أملك السيطرة عليه: إذ لا أمارس ما أريده، إنّ ما أبغضه فاياه أعمل، فما دمتُ أعمل ما لا أريده فاني صادق على صواب الشريعة، فالآن إذن ليس بعدُ أنا من يفعل ذلك، بل الخطيئة التي تسكن فيّ، لأنني أعلم أنه فيّ، أي في جسدي، لا يسكنُ الصلاح.. فأنا لا أعمل الصلاح الذي أريده، وانما الشرّ الذي لا أريده أنا إياه أعمل، فليس بعد أنا من يفعل ذلك، بل الخطيئة التي تسكن فيّ ..فيالي من إنسان تعيس! من يحررني من جسد الموت هذا ؟ أشكر الله بيسوع المسيح ربنا إذن ، أنا نفسي من حيث العقل أخدم شريعة الله عبدا لها، ولكنني من حيث الجسد أخدم ناموس الخطيئة عبدا له، والآن إذا ليس على الذين في المسيح يسوع أي دينونة" ..(2/87)
وبهذه الفلسفة التي تعتبر مخالفةَ أوامر الشريعة هو الوضع الطبيعي المتوقع تمّ إلغاء الشريعة، ونبذها، وتم تبرير الخطايا والآثام والوعد بمغفرتها بمجرد الإيمان بعقيدة الفداء التي وضعها بولس، ولم نسمعها عن المسيح أو حوارييه.. ويصل بولس إلى أنّه لن يكون على المؤمنين بهذه العقيدة عن المسيح عليه السلام أي حساب بالآخرة.. وفي ذلك إلغاء من الناحية العملية لكل شرائع الأنبياء ووصاياهم بما فيهم عيسى بمفاهيم غريبة لم يدعوا هم الناس إليها.. ويقول عن الله عزوجل " لأن الروح يفحص كل شيء حتى أعماق الله" كورنيثوس الأولى 2: 10، وفي الرسالة الأولى لكورنثوس 1: 25 يقول عن الله عز وجل: " فبالمسيح قوة الله وحكمة الله، لأن جهالة الله أحكم من الناس وضعف الله أقوى من الناس" .. فما أقبح قوله هذا عن الله عزوجل.. تعالى الله عما يقول علوا كبيرا..(2/88)
·? تذكرُ رسالةُ أعمال الرسل وهي من تأليف لوقا الذي كان من اتباع بولس، تذكر وجود خلاف بين الأتباع الحقيقيون للمسيح عليه السلام بالقدس، وهم كلهم يهودا وقد تزعمهم من بعد يعقوب عليه السلام.. ففي أعمال الرسل 21: 21 ".. وقد سمعوا بأنك تدعوا اليهود الساكنين بين الأجانب الى الأرتداد عن موسى، وتوصيهم بألا يختنوا أولادهم، ولا يتبعوا العادات المتوارثة، فخذهم الى الهيكل وتطهر معهم وادفع نفقة حلق رؤوسهم، فيعرف الجميع أنّ ما سمعوه عنك غير صحيح، وأنك تسلك مثلهم طريق العمل بالشريعة.. وهكذا كان، ففي اليوم التالي أخذ بولس الرجال الأربعة، وبعدما تطهر معهم دخل الهيكل لكي يُسجل التاريخ الذي ينتهي فيه اسبوع التطهر".. وفي هذا الموضع تظَاهَر بولس – كذبا ودجلاً- بعدم صحة ما ينسب اليه، وقدّم التزاماً زائفا بالشريعة حتى لا يُنبذ من قبل يعقوب زعيم النصارى من بعد عيسى عليه السلام.. ومع هذا فقد حاول اليهود قتله " هذا هو الرجل الذي يدعوا الناس في كل مكان الى عقيدة تشكل خطرا على شعبنا وشريعتنا.."، وما أنقذه منهم الا الجنود الرومان وجنسيته الرومانية.. وتشير رسالة بولس الى أهل غلاطية الى أنّ هذا الخلاف كان حاداً ( 9 & 10).. ويحذر فيها ( غلاطية 1: 6- 9) بولس أتباعه من الإستماع لتعاليم غيره من دعاة النصرانية، وأن عليهم ألا يتبعوا غير إنجيل المسيح الذي قدمه هو حتى لو كان من تنزيل ملك من السماء، " ولكن حتى لو بشرناكم نحن أو بشركم ملاك من السماء، بغير الإنجيل الذي بشرناكم به، فليكن ملعونا.. إن كان أحد يبشركم بانجيل غير الذي قبلتموه فليكن ملعونا! ".. أما هو فانجيله كان يقدمه سراً وبشكل فردي ( ربما في بداية الأمر) كما ذكر ذلك في غلاطية 2: 2 : " وبسطتُ أمامهم الإنجيل الذي أبشر به بين الأمم، ولكن على انفراد أمام البارزين فيهم..(2/89)
إنما أُثير الأمر بسبب الأخوة الدجالين الذين أُدخلوا بيننا خلسة، فاندسوا ليتجسسوا حريتنا التي لنا في المسيح يسوع، لعلهم يهيدوننا الى العبودية، فلن نخضع لهم مستسلمين ولو لساعة واحدة.. فإنهم لم يزيدوا شيئاً على ما أُبشّر به بل بالعكس، رأوا أنه عُهد إليَّ بالإنجيل لأهل عدم الختان، كما عهد به إلى بطرس لأهل الختان..".. وعرّض في تعليمهم الناس الشريعة بما فيها من أمور تحريم بعض الأطعمة بأنّ ذلك من الأساطير أو أساطير العجائز المبتذلة وممّا يثير المجادلات ( تيموثاوس الأولى 1: 4، 7، و4: 7).. وقد أوردتُ بالفقرات أعلاه وكذلك ضمن التعليق على التبشير بالمختارين ( بالفصل الثالث) ما فيه دلالة بينّة على شدة الخصام الذي نشأ بين أتباع المسيح الحقيقيين وبولس، وكيف أن بولس استقلّ في تعاليمه عن تعاليم الحواريين الذين تعلموا من المسيح عيسى عليه السلام مباشرة.. وتُسجّل رسالة أعمال الرسل ورسائل بولس الأخرى مقاطعة النصارى اليهود لبولس، حتى قال في رسالته الثانية الى تيموثاوس 1: 15 " أنت تعلم أن جميع الذين في آسيا ارتدوا عني".. وفي رسالته الثانية الى تيموثاوس 4: 15: " في احتجاجي الأول لم يحضر أحد معي بل الجميع تركوني.."، وفي كورنيثوس الثانية 11: 13، بعد تحذير أتباعه من الرسل الآخرين وأناجيلهم، وبيان زهده عن مالهم يقول ( فإن أمثال هؤلاء هم رسل دجالون، عمّال ماكرون، يُظهرون أنفسهم بمظهر رسل للمسيح، ولا عجب فالشيطان يظهر نفسه بمظهر ملاك نور)، ويقول في كورنيثوس الثانية 11: 2- 5: " غير أني أخشى أن تضلل عقولكم عن الإخلاص والطهارة تجاه المسيح مثلما أغوت الحية بمكرها حواء، فإذا كان مَن يأتيكم يبشر بيسوع آخر لم نبشر به نحن أو كنتم تنالون روحا آخر لم تنالوه، أو تقبلون إنجيلا لم تقبلوه، فإنكم تحتملون ذلك بكل سرور.(2/90)
فإني أعتبر نفسي غير متخلف في شيء عن أولئك الرسل المتفوقين، فمع أني أتكلم كلام العامة غير الفصيح فلا تنقصني المعرفة..) ويواصل نفس الخطاب ببقية الإصحاح والذي يليه حتى يقول " فإن كانوا عبرانيين فأنا كذلك، أو إسرائيليين، فأنا كذلك، أو من نسل ابراهيم فأنا كذلك.." وواضح أنّ دعاة المسيح الذين يعنيهم هنا هم رسل يعقوب ومن معه من الناصريين، وقد كانوا يأخذون شيئا من المال لإرساله للحواريين بالقدس، وكان بولس نفسه يرسل مثل ذلك المال للقدس، مخادعة للناصريين كما يرى البعض..
وهنا مع هذه القطيعة والعداء الثابت ينبغي لمن يريد أن يتبع المسيح حقا أن يأخذ جانب أتباعه الذين عرفوه في حياته لا جانب من ادّعى بلا دليل أن المسيح بعد مغادرته للدنيا يُوحي اليه بتعاليم هي مخالفة لجوهر دعوة المسيح والأنبياء من قبله، ولم تُعرف هذه التعاليم إلا من خلال هذا الدّعي الذي لم يعرف المسيح ولم يتعلم على يديه في حياته، ولما أنكرها أتباع المسيح الحقيقيون لما بلغتهم، تظاهر بأن تلك التعاليم مكذوبة عليه وأنه لم يدعو إليها.. ونعلم أنها لم تكن مكذوبة عليه، بل تلك كانت حقيقة دعوته.. وبعيداً عن المؤثرات الخارجية فإنّ على مَن يخاف الله والدار الآخرة أن يختار لنفسه أيّ الفريقين يتبع..!
ــــــــــــــــــــ
هوامش الملحق الخامس
((2/91)
1) لا يكاد المرء يستطيع حصر المواضع من الأناجيل الدالة على وحدانية الله وتنزهه عن الند والنظير، ولا حصر الأدلة الدالة على أن عيسى عليه السلام كان بشرا رسولا، ومن ذلك على سبيل المثال ما يلي: متى 4: 1-3، 9- 11، 10: 33، 40، 25، و12: 38، 50، و14: 12- 16، و15: 24، و20: 33 ، و21: 11، و 23: 9، و مرقس 12: 29، 32، ولوقا 2: 52، و8: 21_ 34، 18: 18-19، و9: 16، 57-58، و 7: 16، و 24: 20، ويوحنا 1: 18، و4: 34، و 5: 37، و 6: 14، و8: 41، 47، و11: 26، و 16: 5، و 20: 17 .. وغيرها كثير جدا.. وأكثر من ذلك ممكن أن يستخرج من العهد القديم .. بحيث صار الإيمان بوحدانية الله هو الوصية الأولى للعهدين القديم والجديد .. ونأسف للذين يعتقدون أنهم يتبعون المسيح، وهم يعبدونه ويدعونه ويستغيثون به ويشركونه مع الله عزوجلّ، ويخالفونه في قضية دعوته الأولى فلو رأهم لتبرأ الى الله منهم .. بل قد أعلن ذلك ونقلته عنه الأناجيل .. وهل يعقل إلا أن يتبرأ منهم! فهل جاء ليصنع من نفسه إلها يعبد من الله حتى يرتضي صنيع من عبدوه مع الله ! وهل سيتبرأ إلا من هؤلاء الأتباع الضالين ..!
(2) جاء في انجيل متى 5: 17: " لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء _ أي التوراة وكتب الأنبياء الملحقة بها_ ما جئت لأنقض بل لأكمل، فإني الحقّ أقول لكم الىأن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكلّ" .. وجاء في رسالة يعقوب الثانية 2: 10 :" لأن من حفظ كل الناموس وإنما عثر في واحدة فقد صار مجرما في الكل .."
((2/92)
3) جاء في رسالة يعقوب الثانية 2: 14 " ما المنفغة يا اخوتي إن قال أحد إن له إيمانا ولكن ليس له أعمال، هل يقدر الإيمان أن يخلِّصه.. هكذا الإيمان إن لم يكن له أعمال ميت في ذاته.." قارن هذا بالمواضع العديدة لبولس التي شدد فيها على أن الخلاص هو بالإيمان بالفداء الذي قدمه المسيح لا باتباع الناموس (التوراة) .. ففي أعمال الرسل 13: 39 " وبهذا يتبرر كل من يؤمن من كل مالم تقدروا أن تتبرروا منه بناموس موسى" وقال في رسالته لأهل غلاطية 2: 16 " إذ تعلم أن الإنسان لا يتبرر بأعمال الناموس بل بإيمان يسوع المسيح آمنّا نحن أيضا بيسوع المسيح بايمان يسوع لا بأعمال الناموس، لأنه بأعمال الناموس لا يتبرر جسد ما.." ثمّ يقول " .. لأنه إن كان بالناموس برٌ فالمسيح إذاً مات بلا سبب" .. وفي هذا إساءة واضحة الى التوراة غير مقبولة ! وواضح أن في رسالة يعقوب وكتب العهد القديم نقض صريح لأفكار بولس التي نافقت الناس وأعطت لهم دينا سهلا كما يتمنون، فأفكارهم وعقائدهم وأعيادهم بقيت وأعطيت فقط أسماء مسيحية .. وأسلوب الدعوة هذا ما زال يمارسه دعاة النصرانية اليوم بافريقيا، فلا يشترطون على الناس الإيمان بعقيدة التثليث وتأليه المسيح وإنما يكتفون منهم بجعل أسماء مسيحية إضافية واعتبار أنفسهم مسيحيون، وبغض النظر عن حقيقة عقيدنهم بالمسيح .. وفي هذا دجل واستدراج واحتيال على الناس لا يدل الا على عدم مصداقية أصحابه !
((2/93)
4) جاء في حزقيال 18: 20 " لا يُعاقب الإبن بإثم أبيه، ولا الأب بإثم ابنه، يُكافأُ البارُّ ببره ويُجازى الشرير بشرّه". ومثل هذا النص ورد في التثنية 24: 16 " لا يُقتل الآباء عوضا عن الأبناء، ولا يقتل الأبناء بدلا من الآباء، فكل إنسان يتحمل وزر نفسه" ... فكيف يأتي بعد ذلك من يقول أن البشرية متحملة لذنب أبيها آدم وتستحق على ذلك النار.. هذا وماهو بذنبها! بل هو ذنب قد غفر لأبيها .. وكيف تكون كفارته بجريمة أعظم .. فيُقتل الخالق نفسه أو ابنه – أستغفر الله العظيم- كيف وليس لها دور لا في الذنب ولا في كفارته المزعومة ! وأين يذهب المؤمنون في الأجيال التي سبقت هذه الكفارة ..
(5) هذا النص مأخوذ من كتاب اليوبيلات اصحاح 15: 25- 26، ولا يقل عن هذا في الواقع صرامة نص التوراة في التكوين 17: 10- 14:" .. هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك يختن منكم كل ذكر، فتختنون في لحم غرلتكم، فيكون علامة عهد بيني وبينكم ..فيكون عهدي في لحومكم عهدا أبديا، وأما الذكر الأغلف الذي لا يختن في غرلته فتقطع تلك النفس من شعبها، إنه قد نكث عهدي"
(6) Hyam Maccoby, The Myth maker : Paul and the invention of Chrestianity 1987: page 110-118.
هذا وقد اطلعت مؤخرا بعد دراسة كتاب ماكوبي أعلاه بالإنجليزية على ترجمة مختصرة لها قامت بها سميرة عزمي الزين ( منشورات المعهد الدولي للدراسات الإنسانية )، وقد استعنت أثناء كتابة هذا الفصل أحيانا بهذه الترجمة كذلك إضافة الى الكتاب الأصلي.
(7) قال بولس في رسالته الأولى لأهل كورنثوس حول وحي المسيح له بتفاصيل عشاء الرب " لأنني تسلمت من الرب ما سلمتكم أيضا أن الرب يسوع في الليلة .." وقد رأى بعض الباحثين إما أن بولس كان يكذب أو أن هذا كلام أدخل على رسالته فيما بعد أو أن المسيح ظلّ حيا حتى التقى ببولس وأوحى اليه بفكرة هذا العشاء .. وواضح أن الرأي الأول هو أرجحها !
((2/94)
8) كتب تيموثي فريك وبيتر قاندي في كتابهما The Jesus Mysteries, 1999 ed. ص48 :" ان فكرة الإتحاد بالملأ الأعلى عن طريق أكل الإله هي طقس قديم جدا موجود حتى في الكتاب المصري : كتاب الأموات، الذي فيه أن الأموات يأكلون الآله فيتشربون بقوتها.. واحتفال المسيحيين بالقربان المقدس قد كان يمارس مثله للأتحاد بأدونيس/ ديونيساس.." ويذكر المؤرخون طقسا مماثلا تماما مارسه أتباع ديانة ميترا من قبل ظهور المسيحية.. كما تذكر الباحثة سميرة عزمي في كتابها الأصول الوثنية للمسيحية، وهو عبارة عن مختارات مترجمة من خمسة كتب غربية، كيف أن شعوب الأزتك بالمكسيك كانوا يمارسون شعيرة " أكل الإله" تعالى عن ذلك علوا كبيرا، فقد كانوا يصنعون الكعك على صورة معبودهم ثم يذبحونه ثم يتوزعون الكعكة، وهم يعتقدون أنهم يأكلون جسد معبودهم، ويقولون " اننا نحفظ الإله ونحرسه حين نأكله"..
تجدر الإشارة الى أنّ هناك عدد ضخم من الكتب والأبحاث التي ألفها مؤلفون غربيون تثبت درجة الإقتباس والتأثر الضخمة التي تأثرت بها المسيحية الرومانية بالوثنية، ولعل من المناسب الإشارة إلى صورة غلاف كتاب " عيسى الغامض، هل كان عيسى الأصلي إله من الوثنية؟ The Jesus Mysteries. Was the Original Jesus A Pagaan God? " والذي حمل شعار الصلب المعتاد (رجل على الصليب) لا يشكّ من رأه أنه يمثّل المسيح عليه السلام، ولكنّ الشعار - وقد كان موجودا بمتحف برلين حتى ضاع خلال الحرب العالمية الثانية- ولكنّه لأمة اليونان الوثنية ويمثل الهها Osiris-Dionyysus.
((2/95)
9) يصرح بولس بدعوى تلقيه الوحي والتعاليم مباشرة من المسيح عليه السلام في مواضع عديدة من رسائله، وقد سبقت معنا دعواه بمثل هذا حول العشاء الرباني، والقصة التي ذكرها سببا لإيمانه وأن المسيح عليه السلام قد أمره بالدعوة اليه كابن الله، ومن أقواله بهذا الخصوص ما جاء في رسالته الى غلاطية 1: 1:" من بولس، وهو رسول لا من قبل الناس ولا بسلطة انسان، بل بسلطة يسوع المسيح والله الآب الذي أقامه من بين الأموات.." ، ومن ذلك قوله 1: 10- 12 " وأعرفكم أيها الإخوة الإنجيل الذي بشرت به إنه ليس بحسب انسان،لأني لم أقبله من عند إنسان ولا عُلِّمتُه، بل بإعلان يسوع المسيح"، ويقول في رسالته الأولى لأهل كورنيثوس 9: 5" ألست أنا رسولا، ألست أنا حر، أما رأيت يسوع المسيح ربنا ( يقصد رؤياه المزعومة)، ألستم أنتم عملي في الربّ، إن كنت لست رسولا الى آخرين فإنما انا إليكم رسولا لأنكم أنتم ختم رسالتي في الربّ، هذا هو احتجاجي للذين يفحصونني.." فتلك حجته أنه جمع الناس ولكن على أي تعاليم؟! ويسخر بولس ( في كورنيثوس الثانية 3: 7 ) من رسائل التوصية التي يكتبها يعقوب للدعاة ويعتبرها كما يذكر ايسنمان حروف ميتة كتبت على حجر ( يراجع كتاب ايسنمان المذكور بالهامش 11، ص 126-128، 145 )
((2/96)
10) جاء في رسالة بولس الى أهل غلاطية 2: 9 " .. فإذا علم بالنعمة المعطاة لي يعقوب وصفا ويوحنا المُعتبرون أنهم أعمدة أعطوني وبرنابا يمين الشركة لنكون نحن للأمم وأما هم فللختان" وتكرر مثل هذا في مواضع أخرى مما يدلّ أنه حاول أن يستمد شرعية لدعوته من قبل مدرسة الحواريين، ولكن تعاليمه المخالفة لمنهج الأنبياء تسربت وبدأ الهجوم، فتهكم بولس بيعقوب وتلامذة المسيح، وزعم لنفسه الحق في التحرر من كل توجيه، كيف لا وهو الذي يتلق الوحي من المسيح ومن الله كما زعم.. فيقول في غلاطية 2: 4- 6 " .. إنما أثير الأمر بسبب الإخوة الدجالين، الذين أُدخلوا بيننا خلسة، فاندسوا ليتجسسوا حريتنا التي لنا في المسيح يسوع لعلهم يعيدوننا الى العبودية، فلم نخضع لهم مستسلمين ولو لساعة واحدة، ليبقى حق الإنجيل ثابتا عندكم، أما الذين كانوا يعتبرون من البارزين، ولا فرق عندي مهما كانت مكانتهم ما دام الله لا يراعي وجاهة انسان ، فإنهم لم يزيدوا شيئا على ما أبشّر به .." والنص في الفقرة 6 هو في الواقع كما يلي : " وأما المعتبرون أنهم شيء مهما كانوا لا فرق عندي".. وقد اعتبر ايسنمان أن إطلاق لفظ " شيء" للرؤساء الحواريين بالقدس إزدراء متعمد من قبل بولس، وفي غلاطية 5: 1- 4 يقول بولس: " فاثبتوا إذا في الحرية التي قد حررنا المسيح بها ولا ترتبكوا أيضا بنير العبودية، ها أنا بولس أقول لكم إنه إن ختنتم لا ينفعكم المسيح شيئا.. قد تبطلتم عن المسيح أيها الذين تتبررون بالناموس، سقطتم من النعمة.." والمقصود بأصحاب الختان كما هو معلوم وكما يذكر ايسنمان ( في كتابه جيمس أخو عيسى، 1996ص 126- 128) هم تلامذة المسيح بالقدس الذين يرأسهم يعقوب.. وواضح أن المقصود هنا كما في المصدر أعلاه التحرر من الشريعة ومن إشراف مدرسة الحواريين بالقدس ( وهم المعتبرون والبارزون) التي اعتبر الخضوع لأمتها عبودية !.. ويقول في رسالته الثانية الى كونيثوس 3: 1" ..(2/97)
أم ترانا نحتاج كبعضهم الى رسائل توصية نحملها اليكم أو منكم؟" وفي هذا إشارة الى استغنائه عن الحاجة الى اعتراف أو تبني أو توصية من قبل حواريي المسيح بالقدس.. وهو ما يثبت انفصامه عن تعاليم المسيح التي علمها أتباعه في حياته !
ويبدو أنّ إدعاء الوحي من الله تعالى أصبح أمرا يسيرا لأتباع بولس من بعده.. ولعل القراء يذكرون ذلك عن بعضهم بعصرنا الحاضر..
(11) Robert Eisenman, James the Brother of Jesus
استعنت كذلك باقتباسات بعض المؤلفين عن إيسنمان ومنها اقتباسات هالة العوري في كتابها أهل الكهف.
الملحق السادس
وماذا عن أخبار التوراة ببقاء الحكم والنبوة أبدياً لأبناء داود عليه السلام
سبق أن استعرضنا شواهد بل أدلة صريحة على أن المصطفى خاتم الأنبياء ( المسيا المنتظر) ليس من نسل داود ( بل ليس إلا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم)، وأن مملكة الله ستكون من أمة غير بني اسرائيل، وأن بني اسرائيل سيستبدلون بأمة جاهلة تعطى الهدى والنور والإستخلاف في الأرض لهداية الأمم.. وذلك ماتحقق تماما بمجيء الإسلام ودولته .. وهو ذلك المجيء الذي حددت نبوات دانيال وقت مجيئه، فكان حقا حديثا صريحا عن مجيء الإسلام.. ويبقى بعد ذلك السؤال عن تلك المواضع الكثيرة التي تخبر عن الرضى الأبدي عن بني اسرائيل والوعد التام لهم ببقاء الحكم والنبوة فيهم إلى الأبد، ومجيء المسيا أو المصطفى المنتظر من نسل داود منهم..(2/98)
ولا نملك هنا إلا القول بأن هذا من تحريف اليهود لما قاله الأنبياء.. وقد سبقنا إلى فضح تحريف اليهود وكفانا هذا الأمر عيسى عليه السلام نفسه.. فالمسيا ليس من نسل داود، وإن غضبوا، ومملكة الله ستكون من غيرهم، وليس أمامهم إلا التشريد والطرد مالم يتوبوا ويتبعوا الرسل.. وجاءت أحداث التأريخ بعد ذلك مصدّقة لكلام عيسى عليه السلام.. وانقطع الحكم والنبوة عن بني اسرائيل، بل وتشردوا أذلة بين الأمم لألفي عام.. واختفى نسل داود واندثر علم الأنساب بين اليهود، واختلط أحفاد يهود فلسطين بالذين تهودوا وهم لا ينتسبون إلى إبراهيم وأبنائه.. ولم يعد لأحد من اليهود اليوم الحق في الإدعاء بأنه من نسل داود عليه السلام.. وانقطع الحكم والنبوة عنهم خلافا لما كتبوا بالتوراة وملحقاتها بانها لن تنقطع أبدا.. مما يثبت صحة ما نسب إلى المسيح عليه السلام أعلاه وكذب اليهود وافتراءهم.. ولا يغرنّ القاريء عودة اليهود إلى فلسطين اليوم.. فهي عودة علمانية قومية.. لايؤيدها الوحي، وإن كان قد تُنبيء ( من المصادر الإسلامية واليهودية) بها سابقة لعذاب أخير شديد على اليهود قبل قيام الساعة..
ولا يستكثر القاريء كثرة المواضع التي تنبأت بالمصطفى نبى الأمم ( الذي تعارف اليهود على تلقيبه بالمسيح أو المسيا) بأنه من أبناء داود.. فإن تحريف اليهود للتوراة لشديد، فقد تطاولوا حتى على الخالق عزوجلّ، وتطاولوا على الأنبياء فاتهموا.. ولو ذهب الواحد منا يحصي مواضع التحريف البينة لأحصى مئات المواضع.. بل قد زعم بعض الباحثين ( من غير المؤمنين) بوجود خمسين ألف موضع به تناقض.. بل قد ذُكر في سفر إرمياء أن هذا الإفتراء قد حوّل التوراة إلى فريّة.. والله ربي أعلم وأحكم..
وأستعرض للقاريء هنا بعضا من هذه المواضع:(2/99)
·? حزقيال 37: 25 –27 :" فيسكنون – أي بني اسرائيل- فيها هم وبنوهم وبنو بنيهم للأبد. وداود عبدي يكون رئيساً لهم للأبد، وأقطع لهم عهد سلام، عهد أبدي يكون معهم."
·?صموئيل الثاني 7: 12 " متى كملت أيامك واضطجعت مع آبائك أقيم بعدك نسلك الذي يخرج من أحشائك وأثبت مملكته، هو يبني بيتا لأسمي، وأنا أثبت كرسي مملكته الى الأبد.." تكرر نفس النص في أخبار الأيام الأول 17: 10 – 15، وقريبا منه في أخبار الأيام الأول 16: 15 – 18.
·?اشعيا 55: 3 : " أميلوا آذانكم وهلموا الي اسمعوا فتحيا نفوسكم فاني أعاهدكم عهدا أبديا على الخيرات التي وعد بها داود. هأنذا جعلته للشعوب شاهدا للشعوب قائدا وآمرا. ها إنك تدعو أمة لم تكن تعرفها واليك تسعى أمة لم تكن تعرفك بسبب الرب الهك".
·?المزامير 18: 50 : "لذا يارب, بين الامم أحمدك وأعزف لاسمك. يكثر من الخلاص لمليكه ويصنع رحمة لمسيحه لداود ونسله للأبد".. لقب المسيح هنا هو لداود عليه السلام.
·?اشعيا 16: 5 : " فانه بالرحمة يثبت العرش ويجلس عليه بالامانة في خيمة داود
قاض يبتغي الحق ويبادر الى البر قد سمعنا بتكبر موآب الشديد بتعجرفه وتكبره وحنقه وثرثرته السخيفة" .
·?ارميا 23: 5 : " ها انها ستأتي أيام, يقول الرب أقيم فيها لداود نبتا بارا ويملك ملك يتصرف بفطنة و يجري الحكم والبر في الارض في أيامه يخلص يهوذا." وفي إرميا 33: 17 " لا ينقطع لداود إنسان يجلس على كرسي بيت إسرائيل، ولا ينقطع للكهنة اللاويين إنسان من أمامي يُصعد محرقة ويحرق تقدمة ويُهيء ذبيحةً كل الأيام".. ونعلم أنّ الُملك والقرابين قد انقطعت عن أبناء داود منذ آلاف السنين، ولم ترجع حتى اليوم، ممّا يدل على أنّ هذه الدعوى من تحريفهم... ومثل هذا إرميا 31: 36 و40 التي بها الوعد بعدم تعرض أورشليم لدمار آخر بعد ذلك الذي وقع على أيدي الكلدانيين.. وهو مالم يتحقق..(2/100)
·?المزامير 89: 3-4و 37- 38 : " مع مختاري عهدا قطعت، ولداود عبدي أقسمت. لأثبتنّ نسلك للأبد، ولأبنينّ عرشك مدى الأجيال".. " لا أنتهك عهدي ولا أغير ما خرج من شفتي أقسمت مرة بقداستي ألاّ أكذب على داود ليدومن نسله للابد وعرشه كالشمس أمامي مثل القمر يكون للابد ثابتا وشاهدا في الغيوم أمينا."
·?الملوك الأول 9 : 5-9 : والحديث موجه لسليمان عليه السلام " فإني أثبت كرسي ملكك على إسرائيل إلى الأبد، كما وعدت داود أباك داود قائلا: " لا ينقرض من نسلك مَن يملك على عرش إسرائيل. أمّا إن انحرفتم أنتم أو أبناؤكم عن اتباعي، ولم تطيعوا وصاياي وفرائضي التي سننتها لكم، وغويتم عابدين آلهة آخرى وسجدتم لها، فإني أبيد اسرائيل عن وجه الأرض التي وهبتها لهم، وأنبذ الهيكل الذي قدسته لإسمي، فيصبح اسرائيل مثلاً ومثار هزءٍ لجميع الأمم. ويصبح هذا الهيكل عبرة يثير عجب كل من يمر به، فيصفر ويتساءل: " لماذا صنع الرّب هكذا بهذه الأرض وبهذا الهيكل؟ " فيأتيهم الجواب " لأنهم تركوا الرّب إلههم الذي أخرج آبائهم من ديار مصر، وتشبثوا بآلهةأخرى وسجدوا لها وعبدوها، لذلك جلب الرّب عليهم كل هذا البلاء ".(2/101)
ولا ندري كيف كانت هذه النصوص - وغيرها مما لم أذكرها هنا- قبل تحريفها، وهل كانت مشروطه بوفائهم لعهدهم مع الله كما ورد في التثنية (28 : 15- 68) الذي سبق أن أوردتُه عند الحديث عن البشارة بطرد الأمة الملعونة وتوريث الأمة المباركة، وكما ورد في سفر الملوك (9 :5-9) الذي أوردته أعلاه، وكما يدل على ذلك ما نقل عن أنبياء بني اسرائيل على مر الزمان من تحذير أمتهم من غضب الله وعقابه إن عطلوا الشريعة وعصوا الأنبياء، واستمرار هذا التهديد على مر العصور حتى جاء يحي عليه السلام يخبرهم أن الأمر قد تم بالإستئصال وما عليهم إلا التوبة والإنضمام الى مملكة الله القادمة ( فهذا سيمنع عنهم العذاب كأفراد فيما يبدو أما حلول الإستئصال من الأرض المباركة فقد تم)، وجاء عيسى عليه السلام مؤكدا لهذا المعنى ومبشرا بمملكة الله من غير بني اسرائيل، واعتبره اليهود لذلك ببلعام الثاني متنبئا لمصلحة غير قومه.. فهذا كله وغيره (1) مما ينقض ما يريد بني اسرائيل ادعاءه لأنفسهم في النصوص أعلاه بأن الله قد وعدهم النبوة والملك والرضا بشكل أبدي غير مشروط - كما يزعمون- لا يزول حتى قيام الساعة.. ولا ندري إن كانت هذه البشارات هي في غير بني اسرائيل في الأصل أو في أبناء ابراهيم عامة.. الله أعلم ! ولكنّ تحريفهم للكتاب والأسفار قد ثبت بشكل قطعي، وهذا مماحرفوه..(2/102)
ثمّ إن بني اسرائيل لم يستقروا من بعد داود للأبد بفلسطين، ولم ينعموا بسلام أبدي غير منقطع كما تتحدث أسفارهم التي نسبوها الى داود عليه السلام، ولم يظهر فيهم المختار وقد كانوا ينتظرونه حتى عهد أنبيائهم عيسى ويحي الّذين أخبرا أن العذاب والقطع قد حلّ ببني اسرائيل، وأن مملكة الله ( والمختار والمختارين) قادمة بعد ذلك، ولكن من أولاد لأبراهيم غيرهم.. وعلى القاريء أن يعود لقراءة المواضع التي أوردتُ في بشارات سابقة، وخاصة عند الحديث عن لعن بني اسرائيل ليعلم أن الرضا الأبدي غير المشروط المذكور هنا لبني اسرائيل لا يتفق مع الوحي ( ببقية التوراة والإنحيل والقرآن) ولا مع تأريخ بني اسرئيل أنفسهم.. وأن هذه الوعود إن صحت لهم فقد أبطلها عدم وفائهم بعهد الله، بل استدعى عليهم ذلك حلول العذاب الأليم ونزع النبوة منهم.. وليست عودة بني اسرائيل اليوم إلى فلسطين بالتي تنجيهم من العذاب.. فهم لا يحكمون التوراة ولا يعودون إليها، وهم أشد بعدا عنها من آبائهم الذين وقع عليهم العذاب..
وامام كل هذا لا يمكننا إلا القول بأن إدعاء أن المصطفى أو المسيا الذي يقصد به نبي الأمم الخاتم بأنه من أبناء داود إلا إدعاء مفترى على الله عزوجلّ، فضحه الأنبياء، متناف مع ما ورد من التباشير الكثيرة برسول الأسلام محمد صلى الله عليه وسلم، ومتناف مع الواقع والتأريخ.. لكنه ليس غريبا عن اليهود الّذين طالما قتلوا الأنبياء عند تبشيرهم بالمختار..
ــــــــــــــــــــ
((2/103)
1) يضاف الى ذلك أن هنالك عدد كبير من المواضع التي لا يفهم منه إلا أنّ السخط الأبدي قد حلّ على بني اسرائيل، وقد أوردت بعضا منها عند إثبات وقوع لعنة الله وغضبه على كفار بني اسرائيل، وأذكر منها هنا على سبيل المثال فقط إرميا 23: 39-40 : " لذلك هأنذا أنساكم نسيانا وأرفضكم من أمام وجهي أنتم والمدينة التي أعطيتكم وآباءكم إياها، وأجعل عليكم عارا أبديا وخزيا أبدياً لا يُنسى" وقد تحقق ذلك من بعد إرميا حتى عصرنا الحالي، وفقد اليهود استقلالهم من ذلك الحين حتى عصرنا الحالي إلا لفترة قصيرة من شبه الإستقلال أيام المكابيين وعصرنا الحالي بمساعدة الدول الغربية.. والشاهد أنّ الوعد الأبدي بالخزي ( خاصة مع العصيان) لا يجتمع مع الوعد الأبدي بالملك والنبوة ورضا الله بغض النظر عن طاعتهم.. إن التاريخ والتوراة نفسها لتثبت الإختيار الأول ولتشير إلى أن الدعوى الثانية بالرضا الأبدي هي من تحريفاتهم.. إنّ كل اليهود اليوم كفارٌ، كفروا بالمسيح ثم بخاتم الأنبياء عليهما الصلاة والسلام، وعمّهم بذلك غضب الله ولعنته وهو ما يفهم من موقفي وتصريحات النبيين العظيمين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ..
الملحق السابع:
بشارات إنجيل برنابا ..
...
لا أشك في أن القارئ المتأمل ليدرك - بعد هذا العرض- أننا لا نحتاج إلى البحث عن بشارات أخرى بالرسول صلى الله عليه وسلم لنستشهد بها على أهل الكتاب، خاصة إذا كان هذا الاستشهاد سيكون من كتاب يتبرأ منه أهل الكتاب جميعا، كما هو الحال بالنسبة لإنجيل برنابا.. ومع ذلك فسأستعرض هنا طرفا من قضية هذا الإنجيل المبشر صراحة بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأركز الحديث عن القرائن الدالة على أصالته..(2/104)
ينسب هذا الإنجيل لبرنابا الذي آمن بالمسيح واتبعه في حياته، وكان له مكانة مميزة بين أتباعه من بعده.. وعرف بالتقوى والصلاح، وجاء ذكره في مواضع متعددة من الرسائل المسيحية، وهو خال مرقص الذي ينسب إليه إنجيل مرقص.. وهو الذي قيل أنه قدّم بولس إلى أتباع المسيح من بعده، ثم شاركه في الدعوة إلى المسيحية ثم اختلف معه..
اختلف هذا الإنجيل عن الأربعة الأناجيل الأخرى المعترف بها من قبل النصارى المعاصرين في عدد من القضايا أهمها قضية العقيدة، وقد لخص هذا الخلاف فريز صموئيل (1) في كتابه عن الإنجيل الذي حاول فيه جاهدا إثبات بطلانه، فذكر أن أهم أسباب الحماس ( يقصد من قبل المسلمين) لهذا الإنجيل هي: نكران الإنجيل بإصرار - كما يقول صموئيل- لأن يكون المسيح هو الله عز وجلّ، وإصرار الإنجيل على أن المعجزات إنما تمت بإذن الله وليس بقوة ذاتية من عند المسيح عليه السلام، ونكران أنّ المسيح هو ابن الله، وإعلان أن عيسى عليه السلام هو نبي مرسل لبني إسرائيل، وإنكار صلب المسيح، وإعلان أن العهد هو بإسماعيل لا إسحاق، والتبشير بمحمد ( صلى الله عليه وسلم) بأنه هو المسيا المنتظر لكل الأمم..(2/105)
وواضح أن بالأناجيل الأربعة التي يؤمن بها النصارى شواهد ساطعة تدعم الطرح المذكور بإنجيل برنابا، فلا يكاد الباحث يستطيع أن يحصر دلائل عقيدة التوحيد لا بالتوراة ولا بالأناجيل، على الرغم أن هذه الأناجيل كتبها أتباع مدرسة بولس، وتعترف مصادر مسيحية بأن عقيدة التوحيد كانت هي الأصل في بداية الأمر وأنها عقيدة حواريي المسيح عليه السلام، وأن التثليث إنما طوّر لاحقاً (2)، وأما احتياج المسيح عليه السلام إلى قدرة الله عز وجلّ لتحقيق المعجزات، والتجائه لها حتى تحدث المعجزة فأمر ثابت أيضا من خلال الأناجيل الحالية، وهو في حد ذاته من أدلة نفي ألوهية المسيح عليه السلام، وأما قضية التبشير برسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم فلا أشك أنّ هذا الكتاب وغيره من الكتب - ومن غير استعانة بإنجيل برنابا- قد نجحت في إثبات أنها كانت إحدى المهام الأساسية التي حرص المسيح عليه السلام على أدائها، وفي الأناجيل الحالية الدليل الصريح بأن دعوة المسيح عليه السلام هي موجهة لبني إسرائيل، ولم يكن له في حياته تابع واحد غير اليهود، وللقول بعدم صلب المسيح شواهد قوية جدا من المزامير التي بشرت بأن الملائكة سترفعه للسماء وبأن الذي سيصلب هو الشرير الذي حفر الحفرة فأوقعه الله بها، وكيف يمكن أن يقبل إلا هذا الفهم إذا أقررنا مثلما أقر إنجيل متى (3) أن المزامير في تلك المواضع إنما كانت تتحدث عن عيسى عليه السلام، وهو ما ذكره إنجيل برنابا تفصيلا، وما يدل عليه أحداث لقاء عيسى عليه السلام حياً بأتباعه بعد حادثة الصلب، هذا إضافة إلى النهاية المفاجئة ليهوذا الأسخريوطي – الذي أثبتت الأناجيل الحالية قضية خيانته ( لوقا 22: 3، يوحنا 13: 3)- بعد الأحداث مباشرة مع حادثة الصلب، وقد تحدثنا من قبل في إثبات أن العهد لإبراهيم الذي به تتبارك الأمم إنما تمّ من خلال محمد صلى الله عليه وسلم مما يدل على أن العهد كان بإسماعيل لا إسحاق كما يزعم أهل(2/106)
الكتاب ..
ومما لاحظه الباحثون عدم تعرض الإنجيل لعقيدة التثليث رغم أن القرآن الكريم قد تعرض لها. ولو أن مسلماً وضع هذا الإنجيل لتعرض لها.. وذلك مما يعني احتمال عدم سماع الكاتب بها، وذلك ما قد يعني أن الكاتب عاش في العقود الأولى من بعد عصر المسيح عليه السلام، إذ أن من المعلوم أن عقيدة التثليث لم تكتمل إلا بعد عدة قرون من عصر المسيح، ومعلوم أن مؤتمر نيقية عام 325م لم يتطرق لقضية التثليث التي لم تأخذ مكانها بعد في الفكر النصراني إلا من بعد ذلك.. ويكفي هنا القول بأن الإنجيل لو كان من تأليفات القرون الوسطى لتطرق إلى روح القدس وقضية التثليث ضمن نقده للانحراف النصراني بالعقيدة..
إن رفض إنجيل برنابا بسبب عقيدته غير مسوغ.. إن عقيدة إنجيل برنابا لهي في الواقع دليل من أدلة أصالته، إذ أن تأليف عقيدة كتلك المذكورة بإنجيل برنابا ولها ذلك الأساس الساطع من الكتاب المقدس مما هو خفي عن أتباع الديانة النصرانية زمن التأليف ( إلا أن يكون التأليف قريبا من عهد المسيح عليه السلام) ومما لايدرك خفاياه المسلم لو أنّ مؤلفه كان مسلما، إنّ مثل هذا التأليف ليكاد أن يكون مستحيلا إلا بوحي من عند الله عز وجلّ.. إنها عقيدة الأتباع الحقيقيين للمسيح عليه السلام كما رأينا عند استعراض عقيدة الأبيونيين، وإنها قد طمست من بعدهم..
ولن أعمد هنا إلي استعراض البشارات الواردة ببرنابا فهي كثيرة وصريحة، وتذكر الرسول محمد صلى الله عليه وسلم باسمه، وإنما سأستعرض هنا بعض القرائن الأخرى الدالة على صدق نسبة هذا الإنجيل لبرنابا كأحد تلاميذ المسيح عليه السلام..(2/107)
وتبعا لما أورده الأستاذ خليل سعادة - مسيحي - (1) الذي قام بترجمة إنجيل برنابا إلى العربية عام 1908م، فإن اسم إنجيل منسوب إلى برنابا قد ورد ضمن أسماء الأناجيل التي أمر البابا جلاسيوس الأول ( القرن الخامس) بعدم مطالعتها، وذكر مؤلفو كتاب The Lost Books of the Bible أو الكتب المفقودة من الكتاب المقدس ً ص 145 من طبعة عام 1979 م، أنّ اسم كتاب برنابا قد ورد في كتابات مسيحيو القرون الأولى مثل ايسوبيوس و أوريجين وجيروم وكليمنس الإسكندر وآباء قدامى كثيرون، ولا يضير إن كان المؤلفون المعاصرون يقصدون ذلك الترويج لنسخة من الأناجيل المفقودة منسوبة أيضا إلى برنابا، هذا وقد ظهر إنجيل برنابا الذي نناقشه هنا للمرة الأولى في العصور الأخيرة عام 1709م في أمستردام ( النسخة الإيطالية) على يد كريمر أحد مستشاري ملك بروسيا، وانتقل منه إلى غيره حتى استقر في مكتبة البلاط الإيطالي، وما زالت نسخة إنجيل برنابا بها منذ عام 1738م كما يذكر المترجم أعلاه.. ثم وجدت نسخة أخرى (إسبانية) مترجمة عن الإيطالية، ترجمت إلي الإنجليزية عام 1784م..
ويُذكر في مقدمة النسخة الإسبانية أن مكتشف النسخة الإيطالية أصلاً هو راهب لاتيني يسمى فرامر رينو، وجدها في مكتبة البابا فران الكري في فترة اقترابه من البابا سكوتس الخامس ( القرن السادس عشر)، وأنه اعتنق الإسلام بعد إخراجه للنسخة من مكتبة البابا واطلاعه عليها، وأن ّ النسخة الإسبانية مترجمة عن الإيطالية ومترجمها مسلم أروغاني اسمه مصطفى العرندي.. هذا بناء على تعليق المستشرق سايل الذي كان قد أخذها من دكتور هلم من هدلي.. وترجمت هذه النسخة فيما بعد ( عام 1784م) إلى الإنجليزية..(2/108)
لعلّ من المناسب هنا الإشارة إلى أن ما سُمى بانجيل السلام للإسينيين The Essene Gospel Of Peace قد اكتشف واستخرج خلسة بطريقة مشابهة من الأرشيف السري بمكتبة الفاتيكان The secret Archives of the Vatican على يد ادموند بورديوكسEdmond Bordeaux (22)، وهو وإن كان من كتابات طوائف غنطوسية أكثر بعدا عن تعاليم الناصريين الذين عرفوا عيسى عليه السلام، إلا أنّ قصة اختلاس " إنجيل ألأسينيين" هذه – وهي مقبولة لدى الباحثين- لتدعم صحة قصة اختلاس انجيل برنابا.. التي قيلت بمثلها ولكن قبل ما يزيد على القرنين..
ولا يُعلم إن كانت النسخة الإيطالية الحالية هي التي اختلسها الراهب أم لا.. وعلى حواشيها ترجمات لبعض نصوصها إلى العربية واضح من ركتها أنها لأعجمي إلا أن بها نصوصاً محكمة أيضاً.
وقد حاول مترجم الإنجيل إلى العربية خليل سعادة الإسنتاج بأن الإنجيل من أصل عربي لوجود تشابه في بعض قصصه مع القرآن ولتجليد النسخة الإيطالية بغلاف على الطراز العربي..
لكنه يقرّ أن إلمام الكاتب بالتوراة والتاريخ والعادات اليهودية يندر وجوده حتى بين المتخصصين، وأن هذا يمنع أن يكون كاتبه من المسلمين.. إلا أن المترجم يضع نظرية أن كاتبه عالم يهودي أندلسي تنصّر ثم أسلم.. وواضح أن ليس لهذا القول من مستند.
... وقد ردّ الباحثون أن قبول هذا المنطق ( دلالة بعض التشابه) يعني أن التوراة مأخوذة من شريعة حامورابي، وأن الغلاف يختلف عن بقية وَرَق النسخة ويغلب أنه أُضيف من قبل من تناقلوا النسخة، وكان أولهم قد اسلم وتعلم العربية.. ومن الواضح أن الحواشي بالعربية ستكون لمن تناقلوا النسخة بعد إسلامهم، ويدل على ذلك ركاكة العربية التي كتبت بها كما ذكر المترجم.. كما أنه من غير المستبعد أن تكون النسخة الإيطالية نفسها منسوخة عن نسخة أخرى قديمة مفقودة.(2/109)
وقد أثيرت شبهة اليوبيل المئوي، لكن سعادة أقرّ أن تقارب كتابة الخمسين مع كتابة المائة يعني إمكانية مثل هذا الخطأ أثناء النسخ، وأنه لا يُتوقَع من كاتب الإنجيل ( افتراضاً ) مثل هذا الخطأ.. والواقع أن هذا الخطأ يستبعد تكراره بموضعين تم ذكر اليوبيل المئوي بهما، إلا أن الباحثين (2) ردوا على ذلك بأن اليوبيل كان كل مائة سنة أيام العبرانيين ثم إنه خفض إلى الخمسين، ثم أنقصته الكنيسة إلى 33 عاماً ( عمر المسيح )، وكما ذكر م.أ.يوسف أن اليوبيل عام 35 قبل الميلاد كان يوبيلاً مئوياً لم يتخلله أي يوبيل آخر لمائة عام سبقته.. وبالتالي فلا وجه للشبهة أعلاه.
وكلمة اليوبيل في دوائر المعارف والقواميس تعني الاحتفال والاحتفاء بالمغفرة. وقد جاء الإسلام بالحج كل عام كمهرجان كبير للتوبة والمغفرة وبذلك فقد صدقت النبوءة في برنابا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم سيجعل اليوبيل كل عام، إلا أن هذه اللفتة ما كانت لتخطر إلا على من عايش هذه اليوبيلات، ولو كانت ممن عرف الإسلام لأشار الى الحج بشكل صريح.. وفي الإسلام مناسبات سنوية عدة أهمها شهر رمضان بأكمله، والعشر الأواخر من رمضان نفسه، وليلة القدر كمناسبات للتوبة ومغفرة الذنوب..
وألخص هنا بعضاً من الأدلة الكثيرة على أن هذا الإنجيل فعلاً من وضع برنابا صاحب المسيح عليه السلام، وقد ذكر بعضها باحثون سابقون ( تمّ الاقتباس جزئياً هنا من م.أ.يوسف وسيف الله أحمد فاضل):
1- إن العظات والتعاليم والعبر التي احتواها إنجيل برنابا لا يمكن أن تسطر إلا من قبل مؤمن عرف الله وخافه وعاش حياة المتقين، وإنه لا يتخيل ممن له هذه المعرفة بالله أن يفتري على الله وعلى رسوله كتاباً مثل هذا الإنجيل..(2/110)
إنّ أعظم الذنوب ذنب الافتراء على الله وعلى رسله.. وذلك مما أثبته القرآن مرارا وورد التصريح به في الكتاب المقدس مكررا.. وإنّ إنجيل برنابا لو كان مفترى فإن افتراءه لن يكون إلا على يدي مسلم، ولا أكاد أستطيع تخيّل رجلِ مسلم عرف الله إلى هذا الحدّ الذي بلغه مؤلف إنجيل برنابا (أيا كان) ثم يفتري على الله ورسله كتابا..
2- إن الجمال والدقة والتوفيق البالغ في عرض الأمثلة الكثيرة التي امتلأ بها الإنجيل لتدل على أصالة نسبته إلى المسيح عليه السلام.. وقد انتقد سعادة ( المترجم ) هذا الجانب من الإنجيل واتهمه بالفلسفة والواقع أن الأناجيل الحالية كلها تعرض عظات المسيح بشكل أمثلة مبهمة حتى لقد اتهم بعضهم المسيح بحب الإبهام والغموض، وهي المتهمة من قبل المؤرخين بالتأثر بالفلسفة اليونانية.. والفرق بين إنجيل برنابا وبقية الأناجيل في الوضوح والموعظة المؤثرة مع ذلك عظيمٌ جداً.
3- ظهر هذا الإنجيل في بيئة مسيحية خالصة، ولم يرد ذكره أو الإشارة إليه في أيّ من كتابات المسلمين المهتمين بقضايا النصرانية، وقد تضمن لكثير من التقاليد والعادات والبيئة اليهودية التي يقر مترجمي الإنجيل من المسيحيين بتعذر معرفتها على غير اليهود.
4- التشابه والاتفاق العجيب في المعاني وفي الأسلوب البياني بين إنجيل برنابا ومخطوطات البحر الميت ( الثابتة أصالتها وأنها كتبت قبيل ظهور المسيح بفترة قصيرة ولم تكتشف إلا هذا القرن)، يثبت أصالة هذا الإنجيل وأنه كُتب في تلك الفترة، وأن المفاهيم الروحانية السائدة به تعكس التعاليم التي سادت بين المؤمنين في تلك الفترة، وذلك مما يتفق مع الرأفة والرحمة والرهبانية التي عرفت عن تعاليم المسيح عليه السلام الحقّة.(2/111)
5- سعة الإلمام بتفاصيل وأحداث الكتاب المقدس ( العهد القديم) وتأريخ بني إسرائيل وأنبيائهم، مع التحلي بالنظرة الإيمانية في أخذ العبرة من هذه الأحداث لتدلّ على أصالة لهذا الإنجيل ترجح صدق نسبته إلى برنابا حواريّ المسيح عليه السلام.
6- إشارته إلى ضلال بولس بحسرة، مما يدل على معرفته به ومعاصرته له، وأن ذلك كان سبب كتابة إنجيله هذا.
وقضية ضلال بولس عن تعاليم المسيح عليه السلام ودوره الأوحد في تأليه المسيح وتأليف فكرة الفداء استوعبها بوضوح المؤرخون هذا العصر بعد بحث وجهد.. وقد فصلنا في ذلك من قبل.. وإنه لبعيد جدا أن يصل إليها مؤلف للإنجيل بعد قرون عديدة ( أو كما يزعمون خلال العصور الوسطى) بعد المسيح عليه السلام.
7- طابع الإنجيل وطريقة عرضه ذات خلفية كتابية وبها بعض العبارات التي قد يتحرج المسلم من استخدامها مما ينفي احتمال كتابة هذا الانجيل من قبل أحد المسلمين.
8- تلقيب الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسيّا وهو لقب لا يعرفه المسلمون ولا يتوقع من مسلم إطلاقه على غيرالمسيح عيسى عليه السلام.. إلا أن توافق تلقيب الرسول صلى الله عليه وسلم بالمسيا في هذا الإنجيل مع مخطوطات البحر الميت التي توقعت مسيَين الثاني منهما رسولٌ لأمم الأرض ( أي الرسول صلى الله عليه وسلم) يدلّ على أصالة الإنجيل وانه كتب قريبا من تلك الفتره التي كتبت بها المخطوطات.. وقد أثبتنا في هذا الكتاب أن عيسى عليه السلام كان يبشر بالمسيا ( على حد تسمية اليهود له) رسولا من بعده من غير بني اسرائيل ..(2/112)
إنه من المستبعد جدا أن يتجرأ الكاتب لو كان مسلما ليقول أن المسيا إنما هو محمد رسول الله.. كيف وقد أطلق لقب المسيح ( وهو نفسه لقب المسيا) على عيسى عليه السلام بالقرآن .. ولم يحدث قط بين كل المسلمين الذين كتبوا عن البشارات بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم أن إدعى أحد بأنه المسيا.. والواقع أن انجيل برنابا قد لقب عيسى عليه السلام أيضا بالمسيح، وأطلق عليه هذا اللقب وعلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم بنفس الموضع على لسان كاتب له علم بكتاب موسى غير المحرف المتداول ( الفصل 191: 6) .. ونعلم أن هذا اللقب قد أطلق أيضاً على الكثير من قبل عيسى عليه السلام.. لكن خاتم الأنبياء الذي سيكون رسولا لكل الأمم والذي أعطاه اليهود لقب المسيا أو المسيح ليس إلا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، فهو المقصود بلقب المسيا المنتظر بآخر الزمان.. وقد فصلت في هذا الكتاب من قبل أسباب هذه التسمية.. وأكاد أجزم بأنه يستحيل على مؤلف مسلم منتحل للإنجيل في العصور الوسطى الإهتداء لهذا الأمر.. لولا أن ذلك كان فعلا من قبل المسيح ( وله شواهده بالأناجيل الحالية)، وهو بالتالي ما عاينه الكاتب وأثبته..
9- تشديده على عدم نسخ التوراة وربطه ذلك بأن الله لا يتغير، وهو ربط ما كان ليقوله مسلم يؤمن بأن القرآن قد نسخ التوراة وما قبلها من الكتب .
10- تسميته أتباع المسيح عليه السلام بالناصريين وهي تسمية أصيلة للمؤمنين من اليهود بعيسى عليه السلام، اختفت خلال فترة قصيرة نسبيا من بعد المسيح، ولم تعد معروفة خلال القرون الوسطى التي يُزعم أن هذا الإنجيل قد كتب خلالها، فدلّ استخدام لفظ الناصريين وعدم استخدام لفظ المسيحيين على أصالة الإنجيل وأنه كتب في عصر الحواريين.(2/113)
والواقع أن التسمية للنصارى بـ" المسيحيين، Christians" جاءت متأخرة، مشتقة من لفظ Christ اليوناني المترجم من اللفظ العبري العبري " المسيح"، وهي تسمية لم يعرفها أتباع المسيح عيسى عليه السلام الذين كانوا جميعا من اليهود.
11- الاستشهاد الدقيق الموفق وغير المسبوق لمواضع مختلفة من التوراة، ومن ذلك استشهاده بالمزامير ( المزامير 7 : 15 ، 9 : 16 ، 20 : 8 ) حول خلاص المسيح ونهاية الخائن له (فصل 213 : 26 ، 112 : 13 ، 139 : 7 - 9 ) وتقديم قصة الصلب وزيارة المسيح (حين كان ما زال حياً) لأتباعه بعد الصلب، فإن ذلك ليقدم تفسيراً متكاملاً لقصة الصلب المروية في الأناجيل والتي لا تخلو من متناقضات، وللعبارات غير المتوقعة من المسيح عليه السلام والتي أثبتتها الأناجيل عن الشخص المقبوض عليه عند محاكمته وصلبه، والذي ظنوه المسيح...
ويدخل في هذا تقديمه للعقيدة بشكل يتفق مع روح رسالات الرسل صلى الله عليه وسلم، ومع تعاليم التوراة، ودقائق عباراتها، بل ومع تعاليم الأناجيل الحالية نفسها إذا درست بعمق.. بعيدا عن التعاليم التي وضعها بولس واقتبسها هو وأتباعه عن الأمم الوثنية من قبل.. مع التطرق إلى البذور الأولى لتأليه المسيح عليه السلام على أيدي الجنود الرومان.. وهو مما يتفق مع الخلفية الوثنية لدى تراثهم..(2/114)
12- استخدامه بكثرة لعبارات ومصطلحات الإسينيين، رغم أنّ معظم كتاباتهم كانت مجهولة حتى اكتشفت مخطوطات البحر الميت أواسط القرن السابق ( القرن العشرين)، وهو مما يتفق مع موقف جميع الباحثين بأن النصارى أيام المسيح عليه السلام كانوا امتداداً لجماعة الإسينيين اليهود.. وهو كذلك منسجم مع لغة رسالة يعقوب، تلك الرسالة التي هي من ضمن رسائل العهد الجديد الذي يؤمن به المسيحيون المعاصرون.. وهي وإن لم تخلُ من التحريف وما يُسمّى بالإدخالات المسيحية إلا أنها تسطع بفكر مناقض تماما لفكر بولس في اتفاق تام مع كتابات الإسينيين وانجيل برنابا.. بما في ذلك من تشديد على أهمية العمل الصالح " هل ينفع أحداً أن يدّعي أنه مؤمن، وليس له أعمال تثبت ذلك؟ .." ( رسالة يعقوب 2: 14) وعلى وجوب اتباع جميع الوصايا الواردة في شريعة موسى.. " وأنّ مَن يُخالف واحدة منها فقط يصير مذنبا تماماً كالذي يُخالف الوصايا كلها" ( يعقوب 2: 11).. مع التشديد على التمسك بروح الدّين من الإخلاص لله والصدق ومحبة الآخرين والصبر على الإبتلاء والتوكل على الربّ والإكثار من الصلاة والخوف بل والبكاء من خشية الله وحده والتناصح والتواضع والحث على مقاومة ابليس والحذر من الغش والحسد وابتغاء غير وجه الله وزلات اللسان والفوضى والنزاع والتحزّب وظلم العمال في أجورهم.. وكلها وصايا منسجمة مع التعاليم المذكورة في مخطوطات البحر الميت ومع الروح السائدة في إنجيل برنابا ممّا يؤيد أصالة الإنجيل ومعايشة كاتبه لآراء بولس التي عدها من الضلالات..(2/115)
13- ذكره لعبارات مشابهة لنصوص من القرآن والسنة كان ينبغي عليه أن يتحاشاها لو كان يعلم بالقرآن والسنة حتى لا يتهم بالأخذ منهما، ولولا أن هذه النصوص وُجدت في مواضع من الإنجيل والتوراة لصحّت تهمة الاقتباس من القرآن والسنة. فدلّّ وجود هذه العبارات على تحرر الكاتب من الخوف من مثل هذه التهمة، وذلك ما لا يكون إلا إذا كان الكاتب محق في أنه اقتبسه عن المسيح مباشرة، سماعا أو معايشة لأحداثه.. وينبغي هنا تذكير القاريء غير المسلم أن ليس هنالك مكان لتوجيه تهمة الإقتباس عن الكتاب المقدس للرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كان أميا لا يعرف القراءة ولا الكتابة ولم يُرى يوما يحمل ورقة ولا كتابا، كيف والإهتداء لمثل هذه الإقتباسات ليحتاج الى إطلاع واسع غير محدود، كيف وهي كانت بلسان أعجمي وغير متيسرة لعامة أهل الكتاب في ذلك الحين فكيف تتوفر للعربّ، كيف وهذا الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لسان عربي مبين.. ومن أمثلة هذه المشابهات ( هي في الواقع من أدلة وحدة مصدر التعاليم) مايلي:
·?قوله في الصدقة " حتى لا تعرف يساره ما تصدقت به يمينه"، وهي عبارة ذكر مثلها في الحديث النبوي إلا أن متى ( 6: 3) قد ذكرها كذلك.
·?قوله في الفصل 128 : 11 عن عيسى عليه السلام " أصوم مرتين في الأسبوع وأعشّر كل ما أقتنيه"، وهي كذلك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في الصوم، وفيه إشارة إلي الزكاة، لكنّ لوقا ( 18 : 12 ) قد ذكرها أيضاً.
·?النصائح في كتاب إلياس فصل 145 حول الشباب وقصر الأمل وقيام الليل.. مشابهة للموعوظات الإسلامية، إلا أن مثلها موجود كذلك في الكتب المعترف بها.
·?أن الخلق تم بكلمة واحدة ( كُن ) كما في فصل 167 مطابق للقرآن الكريم، إلا أنّه ورد كذلك في العبرانيين 11 : 3.(2/116)
·?تخطيء سؤال الله عمّا ( لم) يفعل بالفصل 154: 16، وهو متفق مع القرآن الكريم في قوله تعالى " لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون"، إلا أنّ هذا المعنى قد ورد بالكتاب المقدس كما في إشعيا 45: 9 " ويل لمن يخاصم جابله، خزف بين أخزاف الأرض، هل يقول الطين لجابله ماذا تصنع".
·?قوله " أن الجنة فيها ما لا أذنٌ سمعت ولا عينٌ رأت ولا خطر على قلب بشر"، وردت كذلك بنفس الألفاظ في إشعياء 64 : 4 وكورنيثيوس الأولى 2 : 9 .
·?قوله أن بالجنة أربعة أنهر متفق مع القرآن الكريم ( سورة محمد آية 15)، ولكنه الإشارة إلي ذلك موجودة كذلك في التكوين 2: 10.
·?الاغتسال ( الوضوء) للصلاة فصل 38 : 11 ، وفصل 213 : 20 - 22 موافقٌ للتعاليم الإسلامية إلا أن له شاهد من الأناجيل الحالية كذلك ( الخروج 40: 30 حين أمروا بغسل الأيدي والأرجل قبل الدخول الى خيمة الإجتماع وعند اقترابهم من المذبح، يوحنا 13: 8)، ومن مخطوطات البحر الميت كذلك، فقد وردت الرقعة رقم 4Q414 كلها وهي تتحدث عن الوضو قبل الصلاة، وكذلك الرقعة 4Q213 تذكر الغسل والطهارة قبل الصلاة، والرقعة Oxford Geniza col.C والتي تذكر غسل الأيدي والأرجل كطهارة مطلوبة قبل تقديم الضحية (1)) والعجيب أن د. فريز اعتبر ( ص 131) أنّ ذكر الإغتسال قبل الصلاة بانجيل برنابا من الشواهد على أن كاتب الإنجيل مسلم، ولم ينتبه بعد ذلك ألاّ يذكر في كتابه في صفحة أخرى (207) أن الصلاة عند اليهود ( وقد جاء المسيح متبعا لشريعتهم) تبدأ بما يقابل الوضوء وهو غسل اليدين.. فكيف تصح دعواه !
·?لفظ " يوم الدين" فصل 151 : 1 لفظ قرآني لكنه ورد كذلك في الرسائل المسيحية: متى 11 : 22 ، يوحنا الأولى 4 : 17 ، بطرس الثانية 2 : 9.
·?وجوب قول : إن شاء الله ، لأي عمل في المستقبل ( فصل 153 : 25 ) مطابق للتعاليم الإسلامية لكنه ورد كذلك في أعمال الرسل 18 : 11 وسالة يعقوب 4 : 14 – 15.(2/117)
·?مفهوم أن " كل ما يحبه الإنسان ويترك لأجله كل شيء سواه فهو إلهه" بالفصل 33: 1 متفق مع قوله تعالى " أفرأيت من إتخذ إلهه هواه.."، لكنّ ذلك ورد كذلك بيوحنا 8: 34 " .. أقول لكم أنّ كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية".
14- جهل الكاتب بالقرآن الكريم، إذ لو كان الإنجيل منتحلا فلا شكّ أن منتحلة كان من المسلمين، وإثبات جهل الكاتب بالإسلام وأساسياته التي يفهمها حتى أطفال المسلمين لدليل على أن الكاتب ما كان مسلما، وبالتالي أن الكتاب لم يكن منتحلا.
ولا يصح الشكّ في أن الكاتب تعمّد هذه الأخطاء، إذ أن المتوقع هو تعمد عدم الاختلاف مع القرآن والسنة خاصة أنّ وحدة مصدر الوحي هي إحدى البديهيان المُسلّم بها من قبل كل مسلم، ومن الأدلة على جهل الكاتب بالإسلام ما يلي:
·?ذكره بالإنجيل في عرضه لقصة إبراهيم عليه السلام أنه بعد إنقاذه من النار لم يكن قد عرف الله بعد.
·?ذكره أن طرد إبليس من الجنة سبق خلق آدم ونفخ الروح به ( الفصل 39: 3- 8).
·?عرْضه هدف آدم من المعصية بأن يجعل نفسه نداً لله تعالى، وهو مما لا يتخيله وما يستحيل أن يقول به مسلم على الإطلاق.
·?حديث إبليس لحواء المذكور بإنجيل برنابا لا يتفق مع القرآن الكريم الذي ذكر أن إغراء إبليس لهما كان بالخلد أو ليكونا ملكين، وفيه أيضا تعدّي على مقام الجلالة بألفاظ لا تُتوقع حتى من إبليس لعنه الله.
·?طريقة دخول الشيطان إلى الجنة بواسطة حيّة وضعت لحراسة الجنة قضية غريبة على الحس الإسلامي، وإن كانت لتجمع بين ذكر الشيطان والحية اللذان ورد ذكرهما كلاهما في قصة آدم وحواء حسب الكتاب المقدس ورسائل أهل الكتاب.
·?قوله أن إبليس من الملائكة متناقض مع صريح القرآن الكريم، ولا يمكن أن يقوله مسلم.
·?قوله أن حرس النار شياطين مخالف لما هو معلوم من القرآن الكريم أنهم ملائكة غلاظ أشداء.(2/118)
·?قوله عن موعد قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم أنه بعد عيسى عليه السلام بعدة سنين (الفصل 72: 14)، يدل على تأثر الكاتب بالانطباع العام بعد المسيح بأن قيام مملكة الله وشيك الحدوث، وفيه دلالة بأن الكاتب لم يكن في فترة بعيدة عن عصر المسيح عليه السلام وقت كتابة إنجيله..
·?قصة الحديث بين المسيح عليه السلام والشيطان ومحاولة المسيح فتح باب التوبة للشيطان غريبة وغير متوقعة من مسلم اطّلع على حكم الله النهائي بلعن إبليس وعذابه.. وقد يكون لها أصل من قبل المسيح فعلاً إلا أن مثل هذه القصة ما كان ليوردها كاتب مسلم اطّلع على القرآن.
·?أن السماوات عددها تسع، وهو ما يخالف مايعرفه حتى أطفال المسلمين من أنها سبع سماوات، وقد ورد بالتوراة ( التثنية 31: 10) التصريح بأنها سبع سماوات، كما ورد في عدد مما يسمى بالكتابات المنحولة بأنها سبع سماوات ( منها كتاب أسرار اينوخ الثاني، فصل 20 (2)، وكذلك الرسالة المسيحية المنحولة عن صعود اشعيا، حيث انتهى صعود إشعيا بعد استشهاده الى السماء السابعة وذلك على ما أوردها Willis Barnstone في كتابه The Other Bible طبعة 1984، ص527)، وفي ذلك مخالفة واضحة لزعم د. فريز بأنها ثلاث سماوات.
·? ذكره بأن ولادة عيسى عليه السلام تمت داخل بيت للرعاة مخالف لما أثبته القرآن الكريم من أنها تمت تحت نخلة في مكان قصي.
·?قوله عن الرسول صلى الله عليه وسلم : " لأني سأعطي رسولي الذي سيأتي كل شيء" (فصل 41 : 29 ) ، وقوله " أن الله خلق الخلق من أجل محمد" لا يتوقعان من مسلم، ويمكن أن نعلل لهما أن برنابا كتب كتابه من ذاكرته بعد سنين طويلة من رفع المسيح ( بعد أن اتضح له ضلال بولس ) فصدرت هذه العبارات منه تأثراً بالثناء الوافر للرسول صلى الله عليه وسلم من قبل المسيح عليه السلام .
·?ذكره أن عقوبة السارق القتل وليس قطع اليد كما في الإسلام أو الاستعباد كما يفهم من سورة يوسف.(2/119)
15- ذكره لقضايا وأحداث تشرح غوامض في الأناجيل لا يمكن سردها إلا من قبل من شهدها مباشرة. ومن أمثلة ذلك:
·?أن جميع القصص والأمثال المشتركة بين برنابا والأناجيل وردت بشكل أوضح وأعمق في برنابا، بل إن بعضها غير مفهوم ومبهم عند قراءته بالأناجيل الحالية، ولا يتضح معناه الا عند قراءة ما يقابله من إنجيل برنابا، وبعيد على منتحل للإنجيل أن يوفق كل هذا التوفيق في عرض أمثاله وقصصه. فمن أمثلة ذلك على سبيل المثال:
- عبارة مرقس في الإصحاح العاشر، رقم 15: ( الحق أقول لكم من لا يقبل
ملكوت الله مثل ولدٍ فلن يدخله)، هي بلا شك عبارة مبهمة ، لكن إنجيل برنابا
في الفصل 183 (4) قدمها بطريقة واضحة يعجز عن العلماء عن تقديم مثلها، مما
يدلّ على أن الكاتب استقاه من نفس المصدر ( أي المسيح عليه السلام).
- تعليم الصلاة في الفصل 37 أوضح منه في لوقا 11 : 1.
·?ذكره أنّ البيت الذي اجتمعوا به هو بيت سمعان الأبرص وليس سمعان بطرس وهذا الخلط واضح في الأناجيل الحالية ولا يستقيم مع ما يفهم من القصة.
·?توضيحه من هي سالوما بإشارة عابرة بأنها أخت مريم عليها السلام ( 209 : 4 ) وضّح ما احتار فيه علماء النصارى وأيدته شروح المتأخرين ( وردت كذلك في يوحنا 19 : 25، خاصة عند مقارنته بمرقص 15: 40، حيث لم يذكر اسم أخت مريم وهي إحدى ثلاث شهدن الصلب بينما ذكر في يوحنا أسماء الثلاث وكانت إحداهن سالومة) .(2/120)
·?في فصل 208: 7- 9: إعلان صريح من قبل عيسى عليه السلام لليهود بأنّ المسيا المنتظر الذي ستتبارك به قبائل الأرض هو من أبناء اسماعيل ابن ابراهيم عليهما السلام، وأنّ ذلك أثار حنق رئيس الكهنة والفريسيين وشيوخ الشعب الذين حاولوا رجم عيسى عليه السلام لولا أنه اختفى عن أعينهم.. هذه القصة بهذا الطرح توضح الإبهام الذي يلفّ إعلان عيسى عليه السلام الوارد بالأناجيل المعاصرة بأنّ المسيا لن يكون من أبناء داود، وتوضح كذلك سبب غيرة اليهود وحنقهم على هذا الإعلان لما يتضمنه من إعلان بخروج النبوة من بني إسرائيل ( تراجع بشارة ليس عيسى عليه السلام المسيا المنتظر بالفصل السادس)..
وأختم موضوع إنجيل برنابا هنا بالحديث عن حجج الرافضين لهذا الإنجيل، وقد أوردت عددا منها في مقدمة هذا الموضوع ورددت عليه، وأعرض هنا لمجموعة أخرى من المآخذ على هذا الإنجيل، واقتبس كثيراً منها من كتاب د. فريز صموئيل المشار إليه من قبل، فقد قام بجمع حجج الرافضين للإنجيل من مصادر متعددة، ولا شكّ بأن عددا كبيرا منها على غير أساس كما سنرى، ويبقى أنّ لبعضها شيئاً من الوجاهة مما يثير بعض التساؤلات التي تجعل المسلم يتردد في الجزم بصحة هذا الإنجيل.. لكنّ القارئ سيرى من خلال هذا العرض المغالطة الكبيرة التي تعمدها الرافضون للإنجيل والتحايل الكبير الذي بدا واضحاً من خلال إخفاء الحقائق والمسارعة بالتهم، ولا شكّ أنّ هذا الموقف المتحامل يجعلنا من حقنا أن نتشكك في نزاهة ترجمة إنجيل برنابا، سواء منها العربية أو الإنجليزية، وهو ما يعني وجوب الإطلاع على النسخة الأصيلة للتأكد من أنّ المآخذ المدعاة وردت فعلا بهذا الإنجيل.. وعلى أي حال فسنستعرض هاهنا أهم هذه المآخذ أو الحجج، وهي كما يلي:(2/121)
- لعل أهم هذه الحجج وأكثرها تشكيكا لديّ بهذا الإنجيل، هي ما ذكره في الفصل 39 فقرة 21-28 ( وتكرر في مواضع أخرى) من أن آدم عليه السلام رأى في الهواء نص الشهادتين، فسأل عن معنى " محمد رسول الله" فقيل له: ".. وسيكون رسولي الذي لأجله خلقت كل الأشياء، الذي متى جاء سيعطي نورا للعالم، الذي كانت نفسه مخلوقة في بهاء سماوي ستين ألف سنة قبل أن أخلق شيئا..".. فالإنجيل يذكر هنا أن خلق نفس رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم قد سبق خلق بقية الأشياء، بل إن بقية الخلق خلقوا لأجله.. وهاتان قضيتان لم يصحا أو بالأصح لم تشتهرا بين المسلمين عن الرسول عليه الصلاة والسلام.. وإن كانتا قد وردتا في أخبار نادرة (3) قد تكون من الإسرائيليات.. وما يجعلني أذكر احتمال الإسرائيليات كمصدر إلا ما ورد من أخبار بالكتاب المقدس توحي بمثل هذا المفهوم..
ففي إنجيل يوحنا أن المسيح كان موجودا قبل خلق العالم، وأنّ كل الخلق قد تمّ من خلاله، وصرح يحي عليه السلام حسب رواية إنجيل يوحنا أنه قال عن عيسى عليه السلام : " هذا هو الذي قلت عنه أن الذي يأتي بعدي صار قدامي لأنه كان قبلي .."، وواضح من إنجيل برنابا أن هذه العبارات ( بما فيها الحديث عن حلّ سوار النعل) ليست من قبل يحي عن عيسى عليهما السلام بل من قبل عيسى عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ..(2/122)
وفي الإصحاح الأول من إرميا يبدو الخطاب كما لو أنه كان موجها إلي إرميا، في أن الله قد عرفه قبل أن يصوره في رحم أمه، وقد قدسه وجعله نبيا للشعوب قبل ولادته، وأن الله قد جعل كلامه في فمه، وأعطاه سلطانا على الشعوب وعلى الممالك ليهدم ويهلك وليبني ويغرس.. ومعلوم أنّه لم يتحقق لإرميا شيء من ذلك مما يدلّ على أن المقصود بهذا الحديث نبيا غيره.. ومَن يقرأ الزبور مثلا يجد أنّ كثيرا من الخطاب الذي ظاهره على لسان داود هو في الواقع على لسان رجل صالح غيره! لمّا يأتي بعدُ في زمانه عليه السلام.. ومعلوم أنّ الرجل الصالح والنبيّ المقصود في تلك المواضع كلها هو ذلك الذي بشر به موسى عليه السلام، فهو الأميّ الذي جعل الله كلامه في فيه،وهو الذي أرسله نبيا للشعوب.. وهو الذي أعطاه الله التأييد والسلطان.. فهو المصطفى المنتظر، وهو الذي ما زال اليهود ينتظرونه.. وقد أثبتنا أنّ ذلك هو محمد صلى الله عليه وسلم.. وإن أصرّ أهل الكتاب على الكفر به.. ويظل الشاهد هنا أن المصطفى قد عُرف لدى الله عز وجل قبل خلقه..(2/123)
وفي كتاب إينوخ الأول :" أنّ الله قد سمّاه أو حددّ اسمه – أي المسيا أو المصطفى_ أمام ربّ الأرواح .. نعم، من قبل أن تخلق الشمس والعلامات، ومن قبل أن تصنع نجوم السموات! " وقد أوردت هذا ضمن إحدى البشارات بالرسول صلى الله عليه وسلم من قبل في هذا الكتاب.. وفي كتاب اينوخ الأول أيضا بالإصحاح 48: 2-5: " .. وفي هذه الساعة دعي ابن الإنسان ليمثل أمام رب الأرواح، و لفظ اسمه بحضور مبدأ الأيام قبل أن تخلق الشمس والإشارات، قبل أن تصنع نجوم السماء، كان اسمه قد أعلن بحضور رب الأرواح، سيكون عصا للأبرار، وسيتكئون عليه بلا خوف من التعثر، سيكون نوراً الأمم، سيكون أملاً الذين يتألمون في قلوبهم..".. وواضح أن هناك دساً نصرانيا على الكتاب باعتراف الباحثين، إلا أن فكرة تحديد اسم المصطفى قبل خلق الناس تبدوا أصيلة بالكتاب.. وفي إشعيا 49: 1-2 : "..الرب من البطن دعاني، من أحشاء أمي ذكر اسمي.." وإن كانت هذه الأخيرة أقل دلالة من الإستشهادات قبلها، إلا أن المقصود من هذا النقاش هو القول بأن فكرة أنّ المصطفى قد خُلق قبل بقية الخلق هي فكرة كتابية، لها أصل في نصوص متعلقة بخاتم الأنبياء.. فلعلّ ذلك مما تناقله أهل الكتاب عن المسيا المنتظر زمن الحواريّ برنابا.. وهو أيضاً تعليل وجودها فيما بعد ضمن الإسرائيليات لدى بعض المسلمين.. إلا أن تكون الأحاديث الواردة بهذا المعنى صحيحة.(2/124)
- وحول قضية أن لأجله خلق الله عز وجل كل الأشياء، يكفي أن أذكر أنّ هذه فكرة كتابية خالصة عن الذي سيخلف عيسى عليه السلام.. وهذا انجيل توماس Thomas في الإصحاح 12: 2، يذكر أن التلاميذ لمّّا سألوا عيسى عليه السلام عمّن يخلفه عليهم قائدا، فأوصاهم باتباع يعقوب فإن السموات والأرض قد خلقت لأجله، وواضح أنه مهما كانت درجة صلاح يعقوب فإنه من غير المتوقع على الإطلاق أن يكون هو المقصود بهذه العبارة، وليس من البعيد أنّ المسيح عليه السلام إنما كان يعني هنا اتباعهم للنبي الذي بشر به من بعده ( راجع بشارة الباركليتوس من يوحنا)، ولكن الأمر اختلط على الذين كتبوا هذا الإنجيل بين الخليفة الأول للمسيح وهو يعقوب والخليفة الأبدي الذي يأمر المسيح عليه السلام أَتباعه باتباعه من بعده، وقد كان بلا شك خاتم الأنبياء الذي سيقيم مملكة الله، والذي ما أُرسل المسيح أصلاً إلا ليبشر بقدومها وقدوم منشئها، والذي أخبر أن مجيئه خير لهم من بقاء المسيح نفسه معهم، وأنه سيظل ( أي دينه) معهم إلي الأبد.. يبقى أن نذكر أن إنجيل توماس قد كتب في القرون المسيحية الأولى، وأنه كان مجهولا حتى اكتشفه الفلاح المصري محمد علي عام 1945م داخل فخار قديم قرب قرية نجع حمادي، واصبح هذا الإنجيل مع رقع أخرى يشكل ما صار يعرف بمـ"خطوطات نجع حمادي".. والنص المشار إليه من إنجيل توماس هو بالإنجليزية كما يلي:
“ The disciples said to Jesus, “ We know that you are going to leave us. Who will be our leader?”
Jesus said to them, “ No matter where you are, you are to go to James the Just, for whose sake heaven and earth came into being.”
The source: The Five Gospels, by Robert W. Funk, Roy W. Hoover and The Jesus Seminar,1993, p.479.(2/125)
فلعل إشارة إنجيل برنابا إلى هذا المفهوم الغريب عن المسلمين هو من أدلة أصالته، إذا علمنا أن مثل هذا المفهوم كان عند أهل الكتاب عن خليفة المسيح عليه السلام مثبّتا من قبل عصر الإسلام..
هذا وقد يعني القول بأن الخلق أو السماوات والأرض قد خلقت من أجله.. أنه هو القمة التي وصل إليها البشر.. فكأنهم خلقوا ليبلغوها ..فما بلغها إلا محمد صلى الله عليه وسلم..
فأختم هذه الفقرة بجزئيها ( خُلق قبل الأشياء، وخلقت الأشياء من أجله) بأننا بهذا نكون قد دفعنا الشبهة المذكورة أعلاه إلى حد كبير، وبأنّ كاتب إنجيل برنابا لم يأخذها في الغالب إلا من المسيح عليه السلام أو من مصادر كتابية بالقرون الأولى.. ولعل في ما ذكر في الواقع ما يدل على أصالة الإنجيل كما أسلفتُ أعلاه.. ولو أن مسلما كتب هذا الإنجيل بغرض اجتذاب النصارى للإسلام لما أشار الى النبي محمد عليه الصلاة والسلام إلا من طرف خفي.. كيف والذي كتبه أياً كان لعالم حاذق باليهودية والنصرانية وأخبار الأنبياء..
- وجود تعبيرات لم تكن معروفة قبل الإسلام، وقد بينت أعلاه كيف أن أكثر الأمثلة هنا غير صحيحة، ولكثير مما قد يبدوا شاهدا هنا أصل في مصادر كتابية إذا تتبعها الباحث، وذلك في الواقع مما يدل على وحدة مصدر الوحي، وقد سبق الحديث أعلاه عن أمية الرسول صلى الله عليه وسلم وعن إعجاز الإخبار بأخبار أهل الكتاب وتوضيح جوانب الحق لهم بعد ضلالهم..(2/126)
ولعل من الأمور الأخرى التي قد تذكر هنا ولمّا نتطرق لها بعض ما ذكره د.فريز مثل قضية حديث عيسى عليه السلام في المهد، ووجود ملاكين لتسجيل الحسنات والسيئات، والإشارة إلي الحج ( برنابا 9: 10)، والى طي السماء يوم القيامة، وأفضلية محمد على عيسى عليهما الصلاة والسلام، وقصة إبراهيم في معرفة الله من خلال تأمله بالنجوم وقصة تكسيره للأصنام، وشفاعة الرسول محمد عليه الصلاة والسلام.. وقد أورد الكاتب أعلاه شواهد أخرى رددت عليها من قبل أو أنه لا أصل لها بالإسلام وإيراد إنجيل برنابا لها هو في الواقع لدليل على أصالته ..
والواقع أن ذكر حديث المهد ببرنابا لم يتجاوز إشارة سريعة لا تعني بالضرورة حديثاً للمسيح بالمهد.. إذ ورد ببرنابا عبارة " وبينما كانوا – أي المجوس الذين قدموا لأورشليم لمشاهدة المولود العظيم الذي دلّ عليه نجم بالسماء!- نياماً حذرهم الطفل من الذهاب إلي هيرودس" .. فقد يفهم منها أنها رؤيا منهم للطفل يحذرهم أثناء نومهم.. وخاصة إذا قرأنا أن ما يقابلها بانجيل متى ( 2: 12) هو عبارة :" ثم إذ أُوحي إليهم في حِلم ألاّ يرجعوا إلي هيرودس" .. ومع هذا فقد ورد ذكر حديث المسيح بالمهد في يومه الثالث بعد ولادته إذ طلب من أمه ومن يوسف النجار ألا يخافوا وألاّ يعاملوه كطفل، ورد ذلك في إنجيل الطفولة لمتى " المنتحل" (6)، وجاء في إنجيل الطفولة الذي ترجمه هنري سايك ونشرته مؤسسة الطباعة لـBell ضمن كتاب The Lost Books of the Bible 1979 في الفصل الأول ( وقد ذكر هذا الإستشهاد الدكتور أحمد حجازي السقا (7)) ".. إن عيسى تكلم في المحضن، وقال لأمه: ياماري أنا عيسى بن الله، تلك الكلمة التي جئت بها، كما أعلن ذلك لكِ جبريل الملاك، وأن أبي أرسلني لخلاص العالم".. بالتالي فلا حجة لمن زعم أن إنجيل برنابا انفرد بذكر هذه المعجزة لأنه أخذها من المصادرالإسلامية.. إذ وردت بغير إنجيل برنابا أوضح مما وردت ببرنابا..(2/127)
وأما الحديث عن الحج فقد أوردتُ بعض البشارات البينة من كتاب اشعياء التي تتحدث عن الحج، فليس صحيحا أنها فكرة إسلامية خالصة.. ولم ينفرد القرآن الكريم بذكر طي السماء فقد جاءت عبارة طي السماء كطي السجل .. عند يوم الحساب.. جاءت (4) في الكتاب الثالث، فقرة: 80 Sibylline Oraclesحيث جاء النص :
" .. When God who dwells in the sky rolls up the heaven as a scroll is rolled.."(2/128)
وهو ما ترجمته ".. الله في السماء عندما يطوي السموات كما يُطوى السجلّ.." وبالتالي فلا يصح الإحتجاج بها على انجيل برنابا.. وتفضيل برنابا لخاتم الأنبياء أمر بدهي، ولم ينفرد به، إذ هو الظاهر من كل النصوص التي تتحدث عن المصطفى المنتظر، بل ذلك مابشّر به دانيال صريحا في نبوة السبعين حين ذكر أنه مع مجيء البر الأبدي ( قيام مملكة الله) سيتم مسح أي إختيار واصطفاء قدوس القديسين ( أو كما نقول سيد المرسلين).. وقد أثبتنا أن ذلك يعني رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، والتفضيل بدهي بمجرد اعتبار أن دعوة عيسى عليه السلام كانت تمهيدا لمحمد عليه الصلاة والسلام، وأنه كان يشتاق للقائه ويتحدث عن ذلك كحديث داود عليه السلام عنه من قبل.. وأما قصة تخريب ابرهيم للأصنام وتأمله في النجوم والإهتداء بها الىالله عزوجلّ فقد وردت ضمن كتاب اليوبيلات ضمن مخطوطات البحر الميت وإن كانت الرقع غير مكتملة (8).. إلا أنها وردت مفصلة في دعوة ابراهيم عليه السلام لأبيه لترك عبادة الأصنام ثم في حرقه للأصنام، كما وردت مفصلة في تأمله بالنجوم والقمر والشمس ثم اهتدائه بعد ذلك الى أن هذه كلها " علامات في يد الربّ" (9).. وأما قضية الشفاعة للمسيا المنتظر يوم الحساب فقد وردت مكررة في كتاب اينوخ، وقد أشرت اليها ضمن نبوة ابن الإنسان من كتاب اينوخ الأول والتي سبق سردها وعلى القاريء الكريم مراجعتها، كما وردت الإشارة الى اجتماع الناس اليه يوم القيامة في كتاب اينوخ الأول أيضا بالاصحاح 62: 9-10، حيث جاء أن الناس ( أي في يوم الحساب) سيضعون أملهم ( بالنجاة) في ابن الإنسان.. وإن كانت النصوص قد حرفها النصارى كما يذكر الباحثون لتتوافق مع التعاليم النصرانية في تأليه المسيح عليه السلام، فكل هذه الأخبار تدل على أصالة برنابا وقربه من عهد الوحي المنزل ..(2/129)
وتشابهه مع المفاهيم الواردة بمخطوطات البحر الميت كبير ولا يتسع المجال لأستعراض الأمثلة الكثيرة هنا.. ولا يخفى أنه إن لم يتيسر إثبات ذكر إحدى النقاط في مصادر كتابية أخرى فإن ذلك لا يعني أن ليس لها أصلا عندهم أو أن كاتب برنابا قد استقاها من مصادر إسلامية .. ويكفي هنا التذكير بأن أعدادا كبيرة من الرسائل والاناجيل قد ثبت أنها اختفت وأعدمت، وأن عددا كبيرا من الأحداث التي ذكرها انجيل برنابا لم يكد يذكرها الا مصدر واحد أومصدرين مما يعني أن هنالك قدر ضخم من الأخبار لم تتطرق اليه الأناجيل والرسائل الحالية.. وفي الواقع فإن من يقرؤها يعلم يقينا أن ما أوردته ليس الا جزءا يسيرا من آثار المسيح عليه السلام..
- ومن ضمن الإحتجاجات على انجيل برنابا غياب السند المتصل الى برنابا الحواريّ.. وهذه بلا شك نقطة ضعف كبيرة، ولكنها ليست خاصة بإنجيل برنابا، وقد ظلّ كتاب برنابا مجهولا لما يزيد عن سبعة عشر قرنا من بعد المسيح عليه السلام .. وإن كان التأريخ قد أثبت أن أحد الأناجيل التي أعدمت كان اسمه برنابا.. ويخفف من وطأة هذا النقد أن من الطبيعي اخفاء هذا الإنجيل من قبل الكنيسة ما دام مخالفا لعقائدها، وأن جميع الأناجيل الأخرى كانت وما زالت هي كذلك بدون سند ..وظلت مجهولة هي كذلك لحوالي ثلاثمائة سنة حتى تبنتها الطائفة القائلة بتأليه المسيح من بعد مجمع نيقيه.
- ملاحظات أوردها الرافضون للإنجيل كقرائن يفهم منها أن مؤلفه عاش في القرون الوسطى، وينبغي هتا ملاحظة أن إحياء مفهوم أو عبادة خلال القرون الوسطى لا يعني أنها لم تكن معروفة من قبل، وفي كثير من الأحيان كان هذا التغيير يعكس تأثرا بالإسلام، وكان له أصل في كتبهم أو عند جماعات منهم، وأستعرض فيما يلي هذه الإحتجاجات:
- قضية اليوبيل المئوي، وقد سبق الحديث عنها أعلاه.
- قضية النظام الإقطاعي:(2/130)
إذ جاء في الفصل 194: 1-3 أن لعازر لما أحياه عيسى بعد دعائه الله وبإذنه، سعى الفريسيون لقتل لعازر لكثرة من آمن بعيسى بسبب تلك الآية، ولأن بقاءه حيا هو شاهد عليها، ولكنهم خافوا لأنه كان " قويا وله أتباع بأورشليم وممتلكا مع أختيه المجدل وبيت عنيا" .. وقد أخذ الرافضون للإنجيل من الفقرة الأخيرة دليلا على وجود نظام الإقطاع وقت كتابة الإنجيل، وهو مايعني أن كتابة هذا الإنجيل تمت بالعصور الوسطى، وقد أخطأوا .. فالعبارة لا تعني بالضرورة انتشار نظام الإقطاع بصورته بالقرون الوسطى، وقد أشار سيف الله أحمد فاضل (10) في تعليقه على انجيل برنابا الى سفر أخبار الأيام 2: 22 الذي يفهم منه أن أفرادا كانوا يملكون مدنا: " .. وسحوب ولد يائير وكان له ثلاث وعشرون مدينة في أرض جلعاد .." فلو صحت دعوى الرافضين لبرنابا لوجب القول بأن سفر أخبار الأيام كتب كذلك بالعصور والوسطى وليس فيما قبل المسيح عليه السلام بقرون طويلة ..(2/131)
- الحكم الجمهوري: جاء في برنابا 69: 4-9 في معرض تقريع للمسيح عليه السلام للفريسيين والكتبة لكذبهم وعدم استعدادهم للتضحية، ولإيثارهم الدنيا وحرث الأرض إشارة الى تمنيهم للحكم الجمهوري لكنهم لا يرغبون في تحمل أعباء الوصول اليه والقتال لأجله .. وقد تساءل د. فريز بأنه " لا يمكن أن يكون حديث المسيح – الذي كان رجل سلام ولم يكن من شيمه الدعوة الى الحرب.." وها هنا خطأ واضح فالمسيح عليه السلام لم يكن هنا يأمرهم بقتال الرومان .. بل صرح في هذا الموضع بأن طلبه منهم كان رجوعهم الى الله وتوبتهم اليه (11) .. ولكن المسيح عليه السلام هنا في موضع فضح كذب الفريسيين وحبهم للدنيا .. وذلك لأن الجهاد في سبيل الله هو أحد عناصر دعوة الأنبياء، وما زال أهل المخطوطات الذين عاشوا ذلك العصر كما رأينا من مخطوطاتهم يتخيلون أنفسهم يقاتلون أمم الأرض كلها لنشر النور والإيمان .. ويتوقع من هؤلاء الفريسيين - وهم لايصدقون المسيح – أن يكونوا على الأقل صادقين فيما يدعونه من حب التحرر من الرومان .. وأنبّه هنا كذلك الى أن النظام الروماني بالحكم كان جمهوريا ..
- ذكر وحدة الرطل كوحدة وزن، وقطعة الذهب كوحدة نقد .. والإشارة الى تزييف الناس لعملات الفضة وحرص الصيارفة للتمعن في النقود .. وأنه لما كانت هذه من وحدات العصور الوسطى فقد دلت على أن الإنجيل قد كتب خلالها ..(2/132)
والواقع أن ذكر الرطل أورده الانجيل عندما ذكر دفن المؤمنين ليهوذا بعد صلبه وهم يظنونه المسيح، " فضمخوا جسده بمئة رطل من الطيوب" .. ويكفي للرد على هذا الإدعاء على انجيل برنابا أن أُورد هنا ما ذكره قاموس Wycliffe Bible Dictionary في طبعة 1998 عند تعريفه للرطل pound ضمن وحدات الوزن المذكورة بالعهد الجديد "أنه كان رطلا رومانيا من 12 أوقية، وأنه ذكر مرتين ، في يوحنا 12: 3 وفي 19 :39 من الدهون التي سكبت على أقدام عيسى، والطيوب التي استعملت لدفنه. الرطل ظهر كعملة مرة واحدة في لوقا 19: 13-25" .. ولايخفى أن النسخة الحالية من برنابا هي مترجمة عن نسخ أخرى من لغات أخرى .. وأن المترجمين قد يتصرفون بسهولة في اختيار ألفظ الترجمة ..(2/133)
وقد ورد ذكر العملات الذهبية بالكتاب المقدس .. فقد جاء ذكرها في عزرا 2:69 ونحميا 7:70 ومواضع أخرى ولكن باسم أرطال ذهبية في النسخ المسيحية، ولكنها في نسخ التوراة اليهودية ( حتى بالإنجليزية) جاءت كعملات ذهبية مسماة دراهم drachmas .. وهذا في الواقع هو ما ذكره قاموس Wycliffe المذكور أعلاه، وعلق بشكل صريح أن العملات القديمة كانت مصنعة من الفضة أو الذهب.. بل إن وجود الدينار الذهبي أيام يوليوس قيصر سنة 49 ق م ذكره د. فريز وذكر أن يوسيفيوس وهو المؤرخ الذي عاين هدم فلسطين عام 70م قد ذكر الدينار الذهبي في كتاباته.. وذكر كذلك مؤلفا كتاب " الحياة في إسرائيل الكتابية" (20) أنّ وحدات العملة كانت في الأصل وحدات وزن، ومن ذلك أن الشيكل shekel كان أصلا وحدة وزن ثم أصبح عملة، وأن كلمة saqal اليهودية والتي تعني " يزن" تستخدم بمعنى " يدفع"، وفي الواقع فإن الباحثَين يريان أنّ توحيد الأوزان كان أساس ظهور العملة، وأنّ أول العملات التي ظهرت كانت من الفضة والذهب، واستشهدا بما أورده حزقيال في الإصحاح 2: 69 حين ساهم الناس بمبلغ واحد وستين ألفا درهم ذهبي لبناء وتأثيث المعبد الثاني.. ومن هنا فلا وجه للإحتجاج على انجيل برنابا لذكره لعملة القطع الذهبية.. ولا أساس للإدعاء بأن العملة الذهبية لم تظهر إلا بالعصور الوسطى..(2/134)
ولا وجه للإحتجاج بعدم وجود تزييف بالعملات أيام المسيح عليه السلام، ويكفي هنا أن أذكر أن قاموس Wycliffe المتخصص في ترجمة المفردات المتعلقة بالكتاب المقدس والمذكور أعلاه قد ذكر صراحة أن تزييف العملات كان موجودا في القدم Antiquity وذلك بطلاء معادن رخيصة بالفضة أو كحت اطراف العملة لسرقة جزء من وزنها.. وينبغي هنا أن أنبه القاريء أن وظيفة الصيرفة المترجمة من الإنجليزية Banker أو Money changer والواردة بانجيل برنابا ( 74: 16) هي وظيفة معروفة تماما منذ القدم، وقد ذكر القاموس المشار اليه أعلاه اشتغال البابليين والفينيقيين واليونانيين وأهالي مدن أخرى بها، إلا أن شريعة موسى عليه السلام حرمت التعامل بالفائدة .. وعلى أي حال فقد ورد لفظ الصيارفة بمواضع عدة بالكتاب المقدس منها متى 21: 12 ومرقص 11: 15 ( اموضع الأخير لم أجده في بعض نسخ الإنجيل العربية)، وواضح أن لا أساس للقول بأن ذكر الصيارفة وتمحصهم للعملة ببرنابا دليل على أن الإنجيل كتب بالعصور الوسطى! ..(2/135)
- واستشهد د.فريز أيضا بإشارة برنابا لعقوبة الشنق Hanging على أنه كتب في العصور الوسطى، وجزم بأن وسيلة الإعدام التي كانت معروفة وقت المسيح هي الرجم أو الصلب، وأن هذا "مما يعلن بوضوح تأريخ كتابة هذا الإنجيل" .. وأنّ الله لم يأمر بعقوبة الشنق للسرقة في العهد القديم وكان" من المفروض أن يكون – أي كاتب الإنجيل- عارفا بكتابه المقدس " واستشهد عليه بالفقرة الأولى من اصحاح 22 من سفر الخروج، ولا أدري كيف فاتت الفقرة الثانية التالية من نفس الإصحاح على دز فريز، والتي تقول:" وإن وجد السارق وهو ينقب، فضرب وقتل ذهب دمه هدرا، فإن وجد وقد أشرقت الشمس فلا يذهب دمه هدرا، بل يعوض.." وبهذا أخذ أصحاب المخطوطات إذ كتبوا أن السارق الذي وجد مقتحما يضرب حتى الموت ( ص203 من المرجع 1) .. وكيف فات د.فريز ذكر الشنق في التوراة .. وهي تقول ( التثنية 21: 22) :" وإذا كانت على إنسان خطيئة تستوجب الموت، فقتل وعلَّقته علىشجرة، فلا تبت جثته على الشجرة، بل في ذلك اليوم تدفنه .." وقد وُضع في الكتاب المقدس نفسه لدار الشرق، وضع لهذه الفقرة عنوان : " دفن المشنوقين" .. وجاء بقاموس Wycliffe " و كان الشنق يستعمل في بعض الحالات حين تستحق الجريمة عقوبة الموت"... ومن حوادث الشنق الشهيرة شنق يوليوس قيصر ( 104- 44 ق.م) للقراصنة الذين اعتقلوه خلال أسابيع من إطلاقه بفدية، وشنق الإسكندر الحشموني ( 105- 76 ق م) ثمانمائة يهودي بعد أن قتل نساءهم وأطفالهم أمام أعينهم، وكذلك شنق أركيلوس ابن هيرودس ألفين من اليهود المحتجين بعد أن قتل ثلاثة ألف آخرين بعد وفاة والده مباشرة (أنظر السرد التأريخي بالفصل الأول).. وجاء ذكر الشنق بمخطوطات البحر الميت في Temple Scrolls LXV .. ومع هذا فلا يخفى أن كلمة التعليق المستخدمة في برنابا قد تحتمل معنى التعليق على خشب الصليب وليس بالضرورة خشب الشنق..(2/136)
فلا وجه للإحتجاج على انجيل برنابا إلا التتحامل والتعصب..
- واحتجوا على انجيل برنابا لذكره مقاطع الأحجار ( المقالع)، على أساس أنها صنعة أوروبية ولم تعرف بفلسطين، ومن قاموس Wycliffe يطلع القاريء على صناعة قطع الحجارة بفلسطين منذ عصر القضاة حين كانوا ينتكسون مرارا الى عبادة الأصنام.. ويجد القاريء أن نفس اللفظ ( المقالع) التي استخدمها انجيل برنابا قد وردت بسفر الملوك الأول 6: 7 إذ ذكر أن الحجارة التي بني بها بيت الله كانت تجهز كاملة من المقلع .. هذا إضافة الى مواضع أخرى عديدة تتحدث عن نحت الحجارة وإعدادها للبناء ( الملوك الثاني 12:12، 22: 6 مثلا) .. وفي الواقع فإنّ مؤلفي كتاب " الحياة في إسرائيل الكتابية" (21) قد ذكرا عراقة صناعة حجارة البناء من المقالع المنتشرة بفلسطين قبل الميلاد، وأسماء وأنواع الحجارة المستخدمة في البناء.. ومرة أخرى فلا أساس ولا صحة للاحتجاج على برنابا بذكره لمقالع الحجارة ..(2/137)
- واحتجوا على انجيل برنابا بتشبيه عمل المرائي والمنافق لسرقة مجد الله، وأن هذا مما تناقله مؤلفون بالقرون الوسطى، والواقع هو أنّ لفظ المجد أومجد المقابلة لكلمة honor قد تكرر بما يزيد عن 170 مرة ببعض طبعات الكتاب المقدس، وقد أوردت عنوان إحدى البشارات السابقة " مجد الله قادم من الشرق: حزقيال 43:2- 6) بناء على استخدام المصطلح بها، وقد جاء المصطلح بمعاني الإكرام ( للوالدين مثلا)، وبمعاني العظمة والجلال عندما يضاف إلى الله عز وجل ( ّ الخروج 14: 18، صمويل الأول 2: 30، اخبار الأيام 16: 27، المزامير 8: 5، 50: 15، الأمثال 3: 9، 22: 4، اشعيا 43: 20،60: 9، إرميا 3: 17، دانيال 4: 36، 5: 23، 11: 38، ملاخي 1: 6، 2: 2، ومتى 15:8، 7:6.. ومواضع أخرى كثيرة، كما ورد لفظ مجد الله – وهو الوارد ببرنابا- في مواضع كثيرة من المخطوطات والكتابات القديمة المنحولة)، أو بمعنى البهاء والشرف الذي يعطيه الله عز وجل للصالحين والمؤمنين ( كما في إرميا 13: 11، دانيال 11: 39، 3:20، الرؤيا 4: 11، ومواضع كثيرة ..)، .. والمقصود هنا أن المرائي يتلبس بثياب شرف وبهاء الصالحين وهو ليس من أهلها فكأنه يسرق المجد الذي يعطيه الله للمؤمنين .. ولم أقع على هذا التشبيه في الكتاب المقدس، لكن ذلك لا يعني أن انجيل برنابا قد اقتبسه ممن استعمله خلال العصور الوسطى إذ لم تحتوي – كما هو واضح - الأناجيل والرسائل المقبولة لدى نصارى اليوم على كل تعاليم المسيح وأحاديثه (12) ..(2/138)
- واحتج الرافضون كذلك بورود إشارة الى طهارة مريم من كل الذنوب، ومثابرتها على الصلاة.. والعبارة هي: " بينما كانت هذه العذراء العائشة بكل طهر بدون ذنب المنزهة عن اللوم المثابرة على الصلاة مع الصوم يوما ما وحدها وإذا بالملاك جبريل.." .. احتج بأن القول بعصمة مريم ما هوالا من تعاليم العصور الوسطى .. ويرد على ذلك بأن المراجع الغربية ومنها قاموس اكسفورد للأديان (13) تذكر أن القول بطهارة العذراء من كل الذنوب موجود من التأريخ الأول للمسيحية، ومن القائلين به كل من جستن وايرينوس اللذين اعتبروا مريم بأنها حواء الجديدة .. ولكن الأمر اصبح موضع اختلاف بالعصور الوسطى حتى تبناه البابا سكتس الرابع .. ثم اصبح الإعتقاد أنها " والدة الإله، وأم النور، وصاحبة الشفاعة" جزء من العقيدة المسيحية .. بل وصار الناس الناس يتجهون اليها مباشرة بالدعاء والتوسل، لربما كما يذكر قاموس Wycliffe أكثر مما يدعون المسيح نفسه ( ص 1086 طبعة 1998للقاموس المذكور) وهو ما يعتبره بعض النصارى المعاصرين تأليه لها، وفي الواقع هو ما لا يختلف عليه أحد من المسلمين أنه تأليه لها عليها السلام (14)، فلا يملك البشر وخاصة بعد موتهم أن يسمعوا ويلبوا حاجة الناس من كل صوب .. والواقع أن الشواهد ثابتة بتأليه جماعة من أوائل المسيحيين للعذراء .. ومرة أخرى نصحح للمحتجين على إنجيل برنابا بأن القول بطهارة العذراء بل بالتأليه لها كان منذ أوائل النصرانية وإن كان تبنيه كعقيدة قد تأخر الى العصور الوسطى.. ولا وجه للإحتجاج على برنابا فإن من واجهت الملائكة وقنتت لله كانت بحق مطهّرة .. ولا غرابة في ذكر ذلك ..(2/139)
- ومما احتج به د. فريز على انجيل برنابا ذكر الإنجيل في مواضع مختلفة من الإنجيل لأوقات مختلفة للصلوات، أحصاها فوجدها أربع أوقات هي الفجر والظهر والعشاء ونصف الليل، واستشهد من أحد المراجع بأن عدد الصلوات لدى اليهود هو ثلاث لا أربع، وأن صلاة نصف الليل لا أصل لها سوى التأثر برهبنة العصور الوسطى .. وسنثبت فيما يلي خطاء ذلك..(2/140)
ولا يغيب أن كثيرا من المصادر المعاصرة اختصرت الصلوات الى صلاتين بالفجر وبأول الليل (15)، وهو مما يتفق مع ما جاء في سنن النسائي ( الحديث رقم 450) ضمن رواية المعراج أن موسى عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم " فارجع الى ربك فاسأله التخفيف فإنه فرض على بني إسرائيل صلاتين فما قاموا بهما"، وقد ذكر بعض المؤلفين اليهود (15) أنّ عدد الصلوات تقليديا 3-4 صلوات باليوم، ولكن التي يُحث عليها صلاتين ( واحدة بالليل والأخرى بالنهار)، ويبدو أن ذلك للتخفيف على الأتباع .. والقضية التي يجزم بها كل مؤمن أن المتوقع من رسول الله عيسى عليه السلام والحواريين معه هو المحافظة على قيام الليل .. فبغض التظر حول ثباتها في الشريعة الموسوية وحول قيام عامة اليهود بها، فإن قيام الليل متوقع تماما من قبل عيسى عليه السلام والحواريين معه .. وإن الصف الأول من الصالحين ليحافظ على أداء النوافل كما لو أنّها فرائض .. كيف وصلاة نصف الليل كانت من عبادة داود عليه السلام حيث تذكر المزامير ( مزمور 119: 62) قوله: " أما شريعتك فلم أنساها، في منتصف الليل أقوم لأحمدك على أحكام برك، رفيق أنا لكل الذين يتقونك ولحافظي وصاياك)، بل كيف ينتقدون صلاة نصف الليل وهي من بقياء تعاليم المسيح التي لم يجرؤ بولس على التخفف عنها، ففي أعمال الرسل إصحاح 16: 25 " .. ونحو نصف الليل كان بولس وسيلا يصليان ويسبحان الله والمسجونون يسمعونهما"، فهل كتب أعمال الرسل من بعد العصور الوسطى أم هي من تعاليم المسيح والأنبياء من قبله بل ومن بعده ! .. ويروي لوقا أن عيسى كان يصلي فلما فرغ علّم حوارييه دعاءً أثناء الصلاة، وأعقبه بضرب مثل الذي طلب أرغفة ثلاثة بإلحاحٍ من صديقة نصف الليل ( لوقا 11: 1- 10) وهو مما قد يوحي أن صلاتهم تلك كانت بنصف الليل ..(2/141)
ومن الأوقات التي ضرب بها المثل للترقب واليقظة ( للإستعداد للساعة) كانت نصف الليل إضافة الى المساء ووقت صراخ الديك ( الفجر) والصباح (مرقص 13: 35).. واختم النقاش هنا بما وردد بمخطوطات البحر الميت التي كتبت في فترة هي حول عصر المسيح (فهي أصدق من أي ممارسة معاصرة لليهود) ..فقد جاء بالمرجع (1) ص 140، 141: إشارة الى أوقات الصلوات عند انتشار ضوء الصباح وعند انقشاعه، وعند بداية الليل، وعند ازدياد ظلام الليل، وهناك شواهد من الكتاب المقدس بأن ازدياد ظلام الليل تعني منتصف الليل، مما يعني وجود أربع صلوات إحداها في أعماق الليل.. ومع هذا فما زالت صلاة نصف الليل مما يمارسه اليهود بالمناسبات حتى زمننا المعاصر ( تُراجع موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية لعبدالوهاب المسيري ضمن الفصل عن الهيكل).(2/142)
- ومما أورده المنتقدون وجمعه د. زفريز أن إنجيل برنابا احتوى على اخطاء تأريخية وجغرافية، وقد رأيت تحاملا واضحا - كما سبق- في إيراد كثير منها، وقبل المسارعة لإستعراض هذه الأخطاء، أنبه أننا كمسلمين لا نرى أي عصمة لكتاب مثل إنجيل برنابا حتى لو افترضنا صحة نسبته الى برنابا حواريي المسيح عليه السلام، ذلك أنّ الإنجيل الذي كان المسيح عليه السلام يبشر به في حياته والذي أشارت الأناجيل الى وجوده ( بشكل شفوي فيما يبدو) أثناء دعوة المسيح عليه السلام هو بطبيعة الحال غير هذه الكتب المسماة بالأناجيل كلها ( بما في ذلك انجيل برنابا ) والتي نسبت الى أتباع المسيح عليه السسلام، وكتبوها – هذا إن صحت نسبتها إليهم- عقودا طويلة من بعد عصر المسيح عليه السلام، واختلط فيها كلام مؤلفها مليئا بالأخطاء والتناقضات ( فيها جميعا) التي ينزه عنها كلام الله عزوجل مع كلام منسوب الى عيسى عليه السلام والى الله عزوجل .. إنها لا ترقى أبدا في الواقع حتى ولا الى صحة كتب السير في التأريخ الإسلامي التي نعرف تماما من كتبها، ولا تخلو من روايات ضعيفة .. ولولا فضل الله ومنع الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لصحابته من كتابة حديثه وجعل كتابتهم محصورة بالقرآن لأختلط كتاب الله على خاتم الأنبياء بحديث النبي وأحاديث الكتبة، ولوجدت منه نسخ مختلفة، ولَمَا عصم القرآن عن الخطأ .. ومن هنا فلا تملك ما تسمى بالاناجيل أي عصمة.. ولا عجب أن توجد بها جميعا أخطاء علمية إذا علمنا أن من كتبها كانوا أميين أو شبه أميين ..(2/143)
- فضمن عنوان الأخطاء التاريخية أورد د. فريز عبارة انجيل برنابا التالية : " كان هيرودس في ذلك الوقت ملكا على اليهودية بأمر قيصر أوغسطس، وكان بيلاطس حاكما في زمن الرياسة الكهنوتية لحنان وقيافا، فعملاً بأمر قيصر اكتتب جميع العالم، فذهب إذ ذاك كل الى وطنه وقدموا أنفسهم بحسب أسباطهم لكي يكتتبوا، فسافر يوسف من الناصرة إحدى مدن الجليل مع امرأته وهي حبلى ذاهبا الى بيت لحم لأنها كانت مدينته وهو من عشيرة داود ليكتتب عملا بأمر قيصر"، فيعلق المؤلف المذكور أن هيرودس كان ملكا بقرار من مجلس الشيوخ الروماني وليس بأمر قيصر، وواضح أن عبارة برنابا أصح من محاولة د. فريز تصحيحها، إذ أن تنصيب هيرودس الأول كملك على اليهود تم عام 40 ق م فعلا من قبل مجلس الشيوخ الروماني بعد إعطاء مارك انتوني له أولا هذا اللقب، ومارك هذا كان الحاكم الفعلي الدكتاتور للروم ذلك الحين بعد مقتل يوليوس قيصر، ثم أصبح أحد ثلاثة اشتركوا في حكم الإمبراطورية وملاحقة قتلة يوليوس قيصر .. وكان هيرودس صديقا عزيزا له، فلما خسر انتوني فيما بعد معركته مع كليوباترا ( حاكمة مصر التي غرم بها) ضد أوكتافين ( منافسه القوي، والإبن المتبني ليوليوس قيصر المقتول) ثم انتحر هو مع كليوباترا، أصبح موقف هيرودس لا يُحسد عليه، فهو محسوب على أعداء الإمبراطور الجديد، إذ أن أوكتافيان بعد ذلك أصبح إمبراطور الروم، وسمى نفسه أغسطس .. وبدهاء نجا هيرودس من العقاب الأكيد من قبل أوكتافيان ( أغسطس)، فأظهر ووعد الإمبراطور أغسطس بأنه سيكون له مخلصا كما كان مخلصا لأنتوني من قبل، فعينه الإمبراطور أغسطس ملكا على اليهودية وأضاف الى مملكته مدنا جديدة في الجليل ومدنا كانت قد انتزعتها منه كليوباترا ( قاموس Wycliffe) ..(2/144)
وكانت هذه الأحداث في حوالي 31 ق م مما يعني أن حكم هيرودس لفلسطين ( توفي عام 4ق م كما تذكر ذلك المصادر المختلفة) قبيل وقت ميلاد المسيح كان فعلا بتعيين الإمبراطور أغسطس ( أوكتافيان) له .. هذا جانب من الردّ على هذه الشبهة.. ولكن الأصح من ذلك أيضا أن حاكم ما يسمى باليهودية في تلك الفترة كان أراكيلوس هيرودس والذي ُسمّي في بقية الأناجيل كما يذكر قاموس Wycliffe باسم هيرودوس أيضاً ( وكذلك أخوته مثل أنتيباس هيرودس الذي كان حاكم ربع فقط وعاصر دعوة المسيح عليه السلام وقام بقتل يحي عليه السلام فقد سمي في لوقا 9: 7 بهيرودس مع أنه ليس هيرودس الأب)، فكأنهم سمو باسم عائلتهم من قبل التخفيف .. وأضيف اسم الكبير الى اسم هيرودس لتمييز الملك الأب الذي تحدثنا عنه أعلاه، وقد كان تعيين هيرودس الإبن الذي ولد المسيح عليه السلام خلال حكمه ( وهو الذي يعنيه برنابا) كان تعيينه في روما من قبل أغسطس نفسه ولم يكن لأي مجلس شيوخ أي علاقة بتعيينه .. وعلى هذا فقد صدق انجيل برنابا تماما وأخطأ منتقدوه مرة أخرى .. سواء أكان المقصود هيرودس الأب، أو - وهو الأغلب- كان المقصود الإبن .. وتسمية الإبن بهيرودس هو ما جرت عليه الأناجيل الأخرى كذلك .. فتكون عبارة برنابا في الواقع دقيقة وصحيحة..(2/145)
- وتمهيدا لفهم النقد الآخر من قبل الرافضين للإنجيل، أمهد بأن حكم هيرودس ( أراكيلوس بن هيرودس الأب) امتد فقط بين عام 4 ق م الى عام 6م، وأزاحه أغسطس عام 6م لسؤ سياسته، وأصبح نظام الحكم في المنطقة التي سميت باليهودية بعد ذلك من قبل قادة رومانيين متواجدون بمدينة القيسرية، وينظم شئون اليهود رئيس الكهنة، الذين كان أولهم حنان Annas ( حكم من 6 م الى 18 م) ثم ابن اخته قيافا Caiaphas ( 18 م- 36 م)، وكان هؤلاء الكهنة تحت حكم القادة الروم الذين لم يشتهر منهم إلا بيلاطس.. والعبارة المذكورة أعلاه توحي بأن حنان وقيافا حكما في عهد هيرودس وبيلاطس وكلهم بأمر قيصر، والصحيح أن بالعبارة استطراد مختصر لأنواع الحكم الذي تتابع على اليهود في تلك الفترة، فبعد هيرودس الإبن الذي ولد المسيح خلال عصره، والذي كان ملكا، دخل اليهود في فترة رئاسة كهنوتية حكمهم خلالها الكاهن حنان ثم قيافا، وقد ظلت وجاهة حنان باقية أثناء حكم قيافا حتى شاركه في التأثير وكانا يُذكران معا في فترة قيافا ( وذلك ما كان بانجيل لوقا حين ذكرا معا أثناء فترة نزول الوحي على يحي عليه السلام )، وهما كانا تحت حكم القادة الروم الذين يعد بيلاطس أهمهم .. فالخطأ البين هوذكر بيلاطس كما لو أنه القائد الروماني خلال الفترات المتتالية من حكم هيرودس ثمّ حنان ثم قيافا ..(2/146)
- ومن الأخطأ المأخوذة على برنابا مبالغته في ذكره لأعداد الجنود الذين اجتمعوا لتهدئة الإضطراب باليهودية، حين ذكر أنهم ستمائة ألف، أو أنّ الذين أرسلوا للقبض على المسيح بأنهم ستة ألاف.. وهذه على الأقل تقديرات الكاتب، وبها فعلا مبالغة واضحة.. وإن كانت أعداد الرومان كبيرة بفلسطين، فمن المشهور أن اليهود لما ثاروا على الروم قتلوا من الرومان 5680 مقاتلا في معركة واحدة، ويُذكر تأريخياً أن تعداد الجيش الذي كان مع تيطس كان ستين ألفاً..وعلى أي حال فمثل هذع المبالغات وأكثر منها هو كثير ومعروف بالكتاب المقدس بوضعه الحالي.. فالذين قُتلوا لرؤية التابوت كانوا خمسين ألفاً وسبعين رجلاً ( صموئيل الأول 6: 19، وقد تساءل ليوتاكسل كم كان سكان هذه القرية المجهولة أصلا، وكيف أمكن لكل هذا العدد أن يتمكن من رؤية التابوت ولا تحجبه أكوام الجثث وكيف لم ينتبهوا لما يحدث (17))، ووزن درع ( صموئيل الأول 17: 5- 7) جليات أو جالوت خمسين ألف شاقل ( ما يزيد على 80 كجم (17))، ووزن رمحه ستمائة شاقل ( أي حوالي عشرة كجم)، أي أنه كان يحمل 90 كجم من غير خوذته وبقية تجهيزاته، وكان عدد جيش أبيا بن رحبعام بن سليمان ملك يهوذا أربعمائة ألف قاتل بهم جيش يربعام ملك إسرائيل الذي كان تعداده ثمانمائة ألف مقاتل منتخب، أي أن مجموع جيش بني إسرائيل كان مليون ومائتي ألف، على الرغم من قلة عدد بني إسرائيل، ثمّ إنّ الذين قتلوا من جيش مملكة الشمال ( إسرائيل) كان خمسمائة ألف! ( أخبار الأيام الثاني 13: 3 و 17)، وكل هذه الأعداد بها من المبالغة ما لا يقبله عاقل..(2/147)
وعدد الرجال من حملة السلاح من هم فوق العشرين عاما مع موسى عليه السلام بعد الخروج من مصر كان ستمائة ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسين ( أنظر أيضا الخروج 12: 37)، وذلك يعني أن شعب بني إسرائيل الذين عبرو مع موسى لا يقلون عن ثلاثة ملايين بأطفالهم ونسائهم، وقد قدرهم البعض على هذا بأربعة ونصف مليون.. وهو مالا يُتوقع من قراءة قصة العبور ولا من كونهم أبناء أسرة واحدة من جد واحد منذ عهد غير بعيد، والله أعلم، وأعداد ما يغنمون من المواشي تُعد بمئات الآلاف الكثيرة بعد المعركة الواحدة، ويبيدون المدن فلا يدعون من سكانها أحدا، وبقصر سليمان خزان يتسع لألفي بثّ ( الملوك الأول 7 : 26) أو هي ثلاثة آلاف بث بسفر آخر ( أخبار الأيام 4: 5)، ولسليمان عليه السلام أربعة ألف إسطبل للخيول ( الأخبار الثاني 9: 25) هي أربعون ألف إسطبل بسفر آخر ( الملوك الأول 5: 6)، وهذا يوشيب بشبث التحكموني من رجال داود " هاجم برمحه ثمانمائة وقتلهم دفعة واحدة" ( صموئيل الثاني 23: 8)، ويبدو أنّ مؤلف أخبار الأيام الأول ( 11: 11) – والله أعلم- استكثر العدد فقلّله إلى ثلاثمائة: " هاجم برمحه ثلاثمائة وقتلهم دفعة واحدة".. والأحداث الكونية التي صاحبت عملية الصلب من ظلام السماء لثلاث ساعات، وزلزلة الأرض، وقيام الأموات، وانشقاق الصخور والهيكل ( متى 27: 45، و51-54).. ولعل من المناسب هنا الإشارة الى ميل متى للزيادة على ما يرويه غيره من كتبة الأناجيل المعترف بها ( فالواحد عند غيره كالمجنون والأعمى والحمار في قصص الأناجيل المختلفة هي عنده اثنان، ويُقبل ذلك على أنه كله حقّ! رغم استحالته)..(2/148)
وغير هذا كثير مما يلتمس منه القاريء مبالغة أو تناقضا في الأرقام يعني أنّ أحدها مبالغ فيه أو مقلل منه! والله أعلم، ولعلّ كل ذلك يعكس أمّية الذين كتبوا الأناجيل أو الإصحاحات، واعتمادهم على ما يتناقله العامة، وهذه التقديرات ليست - على أحسن حال- إلا من كلام الذين كتبوا الأناجيل.. وإذا أجاز المسيحيون للكتبة هذه الأخطاء في التقديرات فلم لا يُجيزونها لبرنابا..(2/149)
- ومن الإعتراضات على انجيل برنابا تعريفة لاسم الفريسيين بأن أصل الكلمة تعني الذين يطلبون الله، والإعتراض مصدره أن أكثر المراجع اعتبرت أن الأغلب أن الكلمة في أصلها تعني الإنفصاليين، إلا أن هذا كان مجرد ترجيح، فمنها من ذكر أن الكلمة تعني الفارسيين، وذلك لأن نشأة جماعة الفريسيين بدأت بفارس أثناء السبي.. وتعريف انجيل برنابا ليس مستبعدا، فهم جماعة تقليدية تدعوا أصلا للتمسك بالكتاب والشريعة، إلا أن النفاق ومداهنة الرومان والحكام خالط كثير منهم، وتمسك كثير منهم بالقشور وأهملوا جواهر الأمور، ومن هنا نقم عليهم أهل مخطوطات البحر الميت (16)، وسمّوهم بالذين يطلبون الأمور السهلة "seekers after smooth things " فكأن في ذلك تعريض بما يقتضيه اسمهم وعقيدتهم من طلب الله والحرص على شريعته بدلا من طلب الدنيا.. وفي هذا تدعيم واضح لتعريف انجيل برنابا لكلمة الفريسيين.. ومن الاعتراضات اشارته الى اجتماع رئيس الكهنة ( وهو قيافا حسب انجيل يوحنا 18: 13) ومجلس الفريسيين لمحاكمة يهوذا الذي ظنوه عيسى عليه السلام، ذلك أن رأي الرافضين للإنجيل هو بأن مجلس السنهدرين هو الذي كان يتولى المحاكمة والمجلس كان من جماعة الصدوقيين، والواقع أن الأناجيل ذكرت اجتماع رؤساء الكهنة والفريسيين ( يوحنا 18: 3) أو مشيخة الشعب رؤساء الكهنة والكتبة ( لوقا 22: 66، مرقس 14: 44، متى 26: 57)، والكتبة هم الفريسيون، ولا شك أنهم أهم مجموعة حرّضت على قتل المسيح عليه السلام، فيُلاحظ أن الفريسيين كانوا مجتمعين مع رؤساء الكهنة لمحاكمة من ظنوه عيسى، ويبقى القول بأنّه كان للفريسيين رئيس ووجهاء، وأن اجتماع هؤلاء هو اجتماع لمجلسهم مع غيرهم من الكهنة، وهذا في الواقع لا يعني نفي دور لغيرهم في عملية محاكمة من ظنوه المسيح..(2/150)
ولعل القاريء يفطن إلى أنّ هذا الإنجيل كتب دون علم كاتبه بالأناجيل الأربعة وإلا لما ناقضها في كثير مما ذكرتْ وكان أصح منها، ولا يكون ذلك إلا بأن يكون كاتبه هو فعلا برنابا حواريّ المسيح.
واتهمم د. فريز انجيل برنابا بقضايا لم يقلها، فمن ذلك أن بيلاطس عينه أغسطس، وهو ما لم يذكره الإنجيل، ومنها أن اسم الفاريسيين بدأ من عهد اخنوخ وهو مالم يقله الإنجيل، وانما قال بأن الناس شرعوا يطلبون خالقهم من بعد اخنوخ طمعا في الجنّة (paradise الفردوس) التي وصفها في الكتاب الذي ينسب اليه، حتى جاء الكنعانيون فأطلقوا على المؤمنين الذين يطلبون الله اسم الفاريسيين، وإلا فالعبارة واضحة في أن الأنبياء ( وكلهم عمليا من بعد عهد اخنوخ) " كانوا فريسيين لا بالاسم مثلكم بل بالفعل نفسة"، وهي لا تعني الا أن الإسم حديثا نسبيا ..وفي هذا كذلك ردّ على اتهام د. فريز للإنجيل بأنه قال بأن الكنعانيين أطلقوا على الفريسيين اسمهم زمن اخنوخ وهو ما لم يقله الإنجيل ..(2/151)
وانتقد د. فريز الإنجيل على ورود تسمية المسيح بنبي الناصريين، وقد اعتبرتُ تسمية أتباعه بالناصريين من دلائل صحته، فإن الإسم قد اندثر مع أن اللفظ استخدم في وصف المسيح في سبعة مواضع من الأناجيل حسب الطبعة القياسية، ومن الطبيعي أن المسيح إذا سمّي بالناصري أن يسمّى أتباعه بالناصريين، وتلك لفظة وردت في سفر الأعمال 24: 5 ( مقدام شيعة الناصريين)، وورث التسمية الأتباع الحق للمسيح عليه السلام من نصارى القدس وأتباعهم من الذين التزموا بالتوراة كما أمر المسيح عليه السلام .. فالتسمية ظهرت في حياة المسيح عليه السلام، وبقيت بعده كما هو معلوم، وأثبتها المؤرخون المعاصرون عكس تسمية الأتباع بالمسيحيين التي تعني المسيائيين نسبة الى المسيا، فقد كان اليهود كلهم ذلك الحين مسيائيين متلهفين لقدوم المسيا المنتصر على الأمم، وما استقرت للنصارى الا في وقت متأخر نسبيا, وأستشهد هنا مثلا بما كتبته هيام ماكوبي في كتابها عن بولس، أذ كتبت " وعلى هذا فيبدو أن اسم الناصريين ( أو النصارى) Nazarenes هو الإسم الأصلي لأتباع عيسى، أن اسم المسيحيين كان تطويرا متأخرا، وليس في القدس بل تم ( أي تطوير اسم المسيحيين) في انطاكية ( سفر الأعمال 11: 26)، ان اسم أتباع عيسى في كتابات الريبيين اليهود كان مشابها لاسم الناصريين Nazarenes إنه كان نوتصريم Nottzerim " وتذكر المؤلفة استمرار الإسم بعد ذلك كتسمية لمن سماهم المؤلف " بالأتباع الأصليين لعيسى بالقدس".. وأحسب بعد هذا أننا محقين في أن مؤلف برنابا - أيا كان – هو أحق من منتقديه.. وأنّ عدم استخدامه لفظ المسيحيين هو من أدلة مصداقيته..(2/152)
وانتقد د. فريز الإنجيل على اعتباره عيسى عليه السلام رسولا الى بني اسرائيل، وذكر اثني عشر موضعا بها ذكر أن الله أرسل عيسى عليه السلام لبني اسرائيل، وليس في أي من هذه المواضع ذكر أنّ دعوة عيسى عليه السلام كانت خاصة لبني اسرائيل، وغريب أن يهاجم الكاتب المسيحي هذا انجيل برنابا لذكر هذه الحقيقة التي لا خلاف عليها، وكيف يكون عليها خلاف وعيسى عليه السلام لم يدعوا إلا في وسط بني اسرائيل، ولم يكن له في حياته – إجماعاً- أتباع إلا من اليهود، فلا شكّ كقضية أولى أنه أُرسل الى بني اسرائيل.. لكنّ الكاتب المذكور ذكر موضعا واحدا من انجيل برنابا فيه ذكر أن دعوة المسيح عيسى عليه السلام كانت خاصة لبني اسرائيل، وذلك هو الموضع الذي ذُكرت فيه قصة الكنعانية التي جاءت تطلب الشفاء لأبنتها، فرد عليها المسيح عيسى عليه السلام: " إنّي لم أرسل الا الى شعب اسرائيل"، وقد آمنت الكنعانية بعد ذلك، ونستغرب الهجوم على انجيل برنابا لإيراد هذه العبارة وقد وردت تماما في انجيل متى 15 : 21- 28، وفيها عبارته " لم أرسل الا الى خراف بيت اسرائيل الضآلة".. ويرى في هذا القاريء تحامل الرافضين للإنجيل بيِّنا..(2/153)
واختصاص دعوة المسيح عليه السلام ببني اسرائيل واضح من سيرته عليه السلام وسيرة أتباعه الأصليين الذين لم ينتشروا خارج فلسطين الا الى الشتات اليهودي، والذين ما كانوا ليتخيلوا تابعا إلا تابعا متهودا أولا، ثم يتنصر بعد ذلك .. ومن عدد من المواقف والعبارات الصريحة في بيان ذلك ومن ذلك الموقف المذكور أعلاه في تشدده في عدم الإستجابة للمرأة الكنعانية هذه وهي كما يذكر متى تستغيث به ليعالج ابنتها وتجري وراءه تناديه " ارحمني"، وتلاميذه يلحون عليه أن يقضي حاجتها، وهو يصرّ على عدم الاستجابة لها ويقول " لم أرسل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضآلة" ويشبّه - على ما يذكر انجيل متى- الأمم من غير اليهود بالكلاب.. متى 15: 21- 28، ومثل ذلك كذلك ما جاء في متى 10: 5 " هؤلاء الإثنا عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلا إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضآلة" ، وما استشهد به د. فريز وغيره من مواضع على عالمية النصرانية ودعوة المسيح عليه السلام هي في الواقع مواضع البشارات بخاتم الأنبياء، وهي لاتنطبق على المسيح ولم يدعيها لنفسه، بل قد مرّ معنا تبشيره بنبي من بعده وبمملكة الله من غير اليهود من بعده، وتبقى المواضع الوحيدة التي يصح الإستشهاد بها لعالمية دعوة المسيح عليه السلام هي ما جاء في نهاية مرقص (16: 15-16)، ونهاية متى ( 28: 19) وما نسب الى المسيح في سفر الأعمال ( 1: 8) .. ولا نميل الى مصداقية هذه المواضع المحدودة لمخالفتها لأدلة خصوصية دعوة المسيح الصريحة، ولأن بعضها ( كما هو الحال في مرقص 16: 15-16) قد ثبت عدم وجوده بالنسخ القديمة من نفس هذه الأناجيل، وإنما أضيف تزويرا اليها في عصور لاحقة ..(2/154)
ولأنّ هذه الأناجيل الأربعة وكذلك رسائل بولس وأصحابه التي يقدسونها هي أناجيل ورسائل مدرسة بولس وأصحاب مجمع نيقية، القائلين بالدعوة بين الأمم، وليست أناجيل النصارى اليهود ( الناصريين) الذين ألتزموا بالتوراة كما أمر ولم يبدلوا تعاليم المسيح من بعده .. وظلت دعوتهم محصورة بين اليهود.. يقول عبدالأحد داود وهو البروفسور بعلم اللاهوت معلقا على موضع متى ( 28: 19) الذي يستشهد لعالمية دعوة المسيح " .. فكيف وبأي جسارة يسوع لمتى وجود هذه الآيات والنصوص أن يقول في انجيله على لسان المسيح ( اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم باسم الآب والإبن وروح القدس) "..(2/155)
واستنتج المهاجمون مجموعة مما أعتبروه أخطاء جغرافية، فمدينة تيرو المذكورة بجانب الأردن هي في الصحيح كما يقول المهاجمون تاير Tayre الواقعة في لبنان على البحرالميت، والأصح هو أن كلمة تيرو بإنجيل برنابا جاءت غير واضحة كما علق عليها بالنسخة الإنجليزية، واستعمال لفظ صعد الى كفر ناحوم الواقع على بحر طبرية يدل على الجهل بانحفاض المكان، والصحيح أن تحديد موقع كفر ناحوم مشكلة كما يقول قاموس Wycliffe، وإن كان يغلب أنها " تل حوم Tell Hum"، وواضح أن لفظ التل يوحي على الأقل بارتفاع نسبي يبرر استعمال لفظ الصعود، وانتقدت عبارة ( برنابا 20: 1) " ونزل في مركب مسافرا الى الناصرة مدينته" لأنها توحي بأن الناصرة واقعة على بحر طبرية، والواقع هو أنه استخدم السفر بحرا من كفر ناحوم شمال طبرية على الأغلب الى جنوب طبرية قرب الناصرة ( توحي الخرائط بأن أكثر من ثلاثة أرباع المسافة هي بحرية، ولو أراد المسافر قطعها برا لدار حول البحيرة ولتضاعفت عليه المسافة )، وكيف ينتقد هؤلاء عبارة برنابا، وفي انجيل متى 9: 1 العبارة: " فدخل السفينة واجتاز وجاء الى مدينته"، ومدينته التي ينسب اليها هي الناصرة المذكورة باسمها في انجيل برنابا، وهي غير واقعة على البحر، ولكن السفر اليها كان في بدايته وفي معظمه سفرا بحريا ..(2/156)
وانتقاد عبارة برنابا ( 100: 7) " فجوبوا بلاد السامرة واليهودية واسرائيل كلها مبشرين بالتوبة "، بأن السامرة جزء من اسرائيل ( السامرة والجليل) بالشمال، غير صحيح فإن عطف البعض على الكل معتاد ربما في جميع اللغات، ويدلّ على فهم كاتب انجيل برنابا بأن المنطقة مقسمة آنذاك الى اليهودية واسرائيل وأن السامرة ليست منطقة خارجة عنهما، يدل على ذلك العبارة الواردة في اصحاح 100: 2 ( أي في نفس الإصحاح):" عليكم أن تسيروا في اليهودية واسرائيل مبشرين بالحق"، فالعبارة الأخيرة تتحدث في نفس الإصحاح عن نفس الموضوع دون أن تذكر السامرة مع أن الدعوة شاملة لكل اليهود، ثم ّ كيف يفسر المهاجمون لبرنابا ذكر انجيل متى الذي يؤمنون به في اصحاح 10: 5 لأمر المسيح عليه السلام لأصحابه ألا يدخلوا مدينة للسامريين بل يذهبوا الى اسرائيل، فهل " إلا" أعسر تفسيرا من عطف السامرة على اسرائيل وهي جزء منها .. وادعاء أن المسيح عليه السلام لم يذهب الى دمشق ادعاء لا دليل عليه، وكذلك انكار سفره الى سيناء، فإن الأناجيل الأربعة قطعاً لم تذكر كل أخبار المسيح عليه السلام .. والقول بأن كاتب انجيل برنابا لا يعرف بأن جبل سيناء بعيد عن الأردن انما هو ادعاء لا يفسّره الا إصرار المنتتقدين على تفسير عبارات برنابا بطريقة متحاملة..(2/157)
وخالف انجيل برنابا انجيل لوقا في موضع معجزة اطعام الخمسة الآف شخص من الخبز القليل، فقد صرح لوقا وحده بأن الموضع كان في بيت صيدا، بينما صرّح برنابا بأنّ ذلك تمّ في نايين، ولم يصرّح باسم مكان المعجزة أحد من كتّاب الأناجيل غير لوقا .. وما أكثر تناقض كتبة الإناجيل فيما بينهم، وما يضير انجيل برنابا أن يناقض أحد هذه الأناجيل.. وتجاهلت الأناجيل تسمية جبل التجلي الذي نسبت حدوثه للمسيح عليه السلام، وحدده برنابا بأنه جبل طابور .. وهو رأي وجد من يقول به في القرن الثالث الميلادي، فزعم المهاجمون لأنجيل برنابا أنه أخذه عنهم، وليس لذلك من دليل، بل قد يكون في ذلك تأييد لوجهة نظر انجيل برنابا .. واحتجوا على انجيل برنابا تسمية موضع الصلب باسم جبل الجمجمة، وأن تلك تسمية من القرن الثالث، كيف والموضع الذي اهتدوا اليه ( أثناء التنقيب) في القرن الثالث كان فعلا جبلا ( وعللت تسمية الموضع بالجمجمة بأنه على جبل يشبه الجمجمة)، فلا يضير برنابا أن يشير اليه بجبل الجمجمة ! واختلفت قائمة أسماء الحواريين الأثني عشر بين انجيل برنابا وغيره، فلم يرد اسم برنابا الا في هذا الانجيل المنسوب اليه ( المقارنة مع الأناجيل الأربعة فقط)، ووقع اختلاف حول فردين آخرين، ولكن الأناجيل الحاليه اختلفت بينها حول اسمين وإن زعموا – في محاولة الجمع بينها- أنهما اسمان لفرد واحد..(2/158)
وجمع المهاجمون مجموعة مما رأوها أخطاء علمية، فمن ذلك القول بأن الأرض مستقرة على سطح الماء، وهو قول صحيح بالنظر الى المياه الجوفية وامتداداتها في باطن الأرض، واستقرار الأرض غير مضطربة من فوقها، وكيف ينتقدون هذا القول في انجيل برنابا وهم يقرأون العبارة الثانية بالتوراة ( التكوين 1: 3) عن خلق السموات والأرض:"في البدء خلق الله السموات والأرض، وكانت الأرض خربة خالية وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه" والعبارة في مزمور 148: 4 :" سبحيه يا سماء السموات، وياأيتها المياه التي فوق السموات" وهي مما يوحي بأن ما فوق السموات وهو العرش هو فوق الماء .. والله أعلم .. وقضية النقد بمكانها لو كانت العبارة تعني بالضرورة أن الأرض ( الكرة) مغموسة وسط الماء أو طافية عليه، ولكنّها قد تعني استقرارها على مياه جوفيه هائلة من تحتها، أو استقرار الأرض بالمعنى الذي تدخل فيه أرض الجنة ولا ينحصر بأرضنا فذلك من علم الغيب ولا يمكن انتقاده، وانتقد قول الإنجيل بأن الشمس أكبر من الأرض بألوف المرات بأنه خطأ، لأنها أكبر من الأرض بتسعة ملايين مرة، وواضح التحامل في هذا القول فإنه لا تناقض بين القولين، فإن ألوف المرات تشمل ملايين محدودة منها، هذا في مقارنة الحجم بالحجم، أما مقارنة المقطع بالمقطع ( نسبة عشرة آلاف)، أو القطر بالقطر ( نسبة مائة مرة) فإن ما ذكره الإنجيل معقول وصحيح ...(2/159)
وانتقد الإنجيل على القول بأن المسافة بين الأرض والسماء الأولى هي مسيرة رجل خمسمائة عام، وهو في الواقع ما ثبت في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أنه لم يذكر بالحديث مسيرة ماذا، فيزول اللبس بالحديث لعدم تحديد السائر، والهدف كان إرشاد الناس في العصور الماضية الى ضخامة وسعة السموات، وإذا اتفقنا على عدم اطلاع كاتب انجيل برنابا على الإسلام، فإنّ من اليسير اعتبار تحديد انجيل برنابا للسائر بأنه رجل أو راجل خطأ قد يكون وقع فيه الكاتب، ومن الإعتراضات الوجيهة القول بأن السرة تكونت لدى الإنسان من بصقة ابليس على جسد آدم قبل نفخ الروح به ( برنابا 35: 26- 27)، وبأن بروز الحنجرة لدى الرجال يعود لمحاولة آدم إيقاف بلعة الطعام المحرم عليه بالجنة حين وصولها الى مستوى الحنجرة ( برنابا 40: 24- 28)، وأن الإنسان خلق من التراب والماء والهواء والنار ( برنابا 123: 3-5)، وبأن الحيوانات مفطورة على الحزن، وبأن الله عزوجل قد مسخ قوما من أهل مصر الى حيوانات زمن موسى عليه السلام .. فالإعتراض هنا وجيه، إلا أن هذه القضايا غيبيه ولا مجال للقطع بعدم صحتها .. ولبعضها كاشتراك الماء والنار في خلق آدم أساس من مصادر أخرى للوحي، وهي لا تنفي أن التراب هو مادته الرئيسية .. واتهم انجيل برنابا بأنه اقتبس من الكوميديا الإلهية لدانتي، ومعلوم أن هذه الرحلة الخيالية في عالم الآخرة معتمدة على الكثير من المفاهيم الإسلامية بما فيها أحاديث الإسراء والمعراج، وعلى رسالة الغفران للمعري، وبالتالي فإن التوافق في بعض المعاني مع الكوميديا لا يعني أن كاتب انجيل برنابا قد اقتبس منها، فقد ذكر د.(2/160)
فريز أنّ القول بأن عدد السموات تسعا مأخوذ من هذه الكوميديا وهو مالم أجده بالكوميديا حتى باستخدام البحث بالكومبيوتر تحت مسميات السماء والسماوات ورقم تسعة، وليس متوقعا من كاتب انجيل برنابا إن كان مُزوِّراً وهو المتفق على استيعابه الكامل للتوراة إن يخالف عمداً صريح التوراة ( التثنية 31: 10) والرسائل القديمة والقرآن الكريم بأنّ السموات هي سبع سموات.. وليس من المستبعد إن يكون هذا من التصحيف الذي اصاب النسخ القديمة من خلال النسخ المتكرر.. وأدّعى بأنه أخذ من الكوميديا تعبير " الجوع الثائر" وحدد هنا بأنه من القطعة الثالثة من كتاب الجحيم من الكوميديا وهو ما لم أجده بها قطعا، ولا يخفى على القاريء كيف أثبتُّ في هذا الفصل _ أعلاه _ أن كثيرا من التهم التي أطلقت ضد انجيل برنابا باطلة ولا أساس لها.. ومما يمكن أن يمتد إليه البحث مستقبلا هو مرا جعة ما انفرد به برنابا وهو موجود بأناجيل غير الأربعة المعتترف بها، فإن كثيرا من هذه القضايا كما رأينا أعلاه قد وجدنا لها أصولا بالمخطوطات والعهد القديم عكس ما يدعيه مهاجموا الإنجيل .. ويرى الأستاذ خليل سعادة أن وصف الجحيم في برنابا لا ينطبق على وصف دانتِ أو غيره إلا من حيث العدد، وأن الرأي الأصيل هو أن يكون كلاهما قد أخذ عن مصدر آخر قديم " ميثولوجيا" اليونان ولا يترتب معه أن يكون الكاتبان متعاصران (18).. ويبقى كذلك احتمال أن يكون دانتي قد اطلع على نسخة برنابا واقتبس منها بعض أفكاره..(2/161)
وتبقى خاتمة القول هنا هو مع أنّه لا يمكننا الجزم بصحة نسبة إنجيل برنابا الى برنابا تلميذ المسيح، إلا أن ما احتواه الإنجيل من عبر وعظات وتفسير لأحداث كثيرة بما فيها حادثة الصلب وظهور المسيح بعدها وقضايا مبهمة كقضية تطور تأليه المسيح عليه السلام ليدعم بقوةٍ قضية القول بصحة نسبة هذا الإنجيل الى برنابا تلميذ المسيح عليه السلام .. وما جمعه المهاجمون للإنجيل من دعاوى يظهر فيها التحامل الواضح ويتهاوى معظمها عند البحث والتأمل كما رأينا .. ويبقى أنه لم ينسب مباشرة الى المسيح عليه السلام أو إلى الوحي، وإنما إلى تأليف تلميذ للمسيخ عليه السلام، فكان عدم خلوه من الأخطاء غير مستغرب .. وواضح أنّ كتابات العهدين القديم والجديد مملؤة بالأخطاء والتناقضات وتفتقد جميعها بلا استثناء للسند الوثائقي، فلا يعرف من كتبها ولا من ترجمها ولا من تناقلها عبر عدد من القرون حتى اصبحت شائعة .. وفي هذا المقام ليس انجيل برنايا بأسوأ حظا من بقية الأناجيل .. بل إن في اتفاقه العقيدي مع العهد القديم ومع عقيدة أتباع المسيح عليه السلام " الحقيقيين" ثمّ مع القرآن دون علم المؤلف بالقرآن لدليل فريد في تأييد صحة هذا الإنجيل ..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش الملحق السابع
(1) Michael Wise et al, Dead Sea Scrolls, 1996.
(2) James H. Charlesworth, The Old Testament: Pseudepigraapha, Apocalyptic literature, p. 364.
(3) جاء في مستدرك الحاكم عن ميسرة الفخر قال :" قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم متى كنت نبياً ؟ قال: و آدم بين الروح و الجسد." قال الحاكم هذا حديث صحيح الإسناد.. وأخرج الحاكم كذلك في مستدركه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قيل للنبي صلى الله عليه و سلم متى وجبت لك النبوة ؟ قال : ( بين خلق آدم و نفخ الروح فيه ).(2/162)
وقد ورد هذا المعنى في أحاديث أخرى قليلة غير ذائعة بين المسلمين.. مما يجعل احتمال اطلاع مؤلف لا يكاد يعرف عن الإسلام أساسياته ولا يعرف عدد السماوات ولا أن ابليس من الجن احتمالا مستبعدا جدا.. وإذا صح ذلك عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو حقّ.. وفي الكتب السابقة من التوراة والأنبياء ما يؤيد ذلك المعنى..
(4) انجيل برنابا: دراسات حول وحدة الدين عند موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام لسيف الله أحمد فاضل، الطبعة الثانية، دار القلم، الكويت.
(6) The infancy Gospel of Pseudo-Mathew, p.396 in The Other Bible, by Willis Barnstone, 1984.
(9) دكتور أحمد حجازي السقا، حقيقة النصرانية من الكتب المقدسة دار الفضيلة، ص15.
(10) Florentino Gaarcia, The Dead Sea Scrolls translated, 2nd ed., p. 341
(11) موسى ديب الخوري، التوراة كتابات مابين العهدين، ضمن كتاب الخمسينيات، الفصل الثاني عشر، إصدار دار الطليعة الجديدة 1998, ص103.
(12) انجيل برنابا: دراسات حول وحدة الدين عند موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام لسيف الله أحمد فاضل، الطبعة الثانية، دار القلم، الكويت.
(13) ذلك أنه عليه السلام في قضية مقاومة الروم كان على العكس قد أمرهم – في مواضع أخرى- بانتظار فرجهم من الرومان على يد مملكة الله القادمة من بعده.. فقد جاء حكم الله بنقل مملكته لأمة غيرهم، وهم لن ينصروا بالتالي على الروم إن قاتلوهم..
(14) انظر مثلا The Lost Gospel by Burton Mmack, 1993, p. 229. وغيره.
(15) John Bowker, the Oxford Dictionary of World Religions, 1997, p. 470.
(16) لعل في إثبات تأليه بعض طوائف النصارى لمريم عليها السلام تفسير لمن احتاروا في تفسير آية المائدة عن سؤال المسيح عليه السلام فيما لو كان قد أمر الناس بعبادة إياه وأمه.
((2/163)
17) Rabbh Ted Falcon, Judaism for Dummies and Herman Wouk, This is my God, where both sources indicated that traditionally 3-4 prayers/ day but apparently recommended only two ( morning and nightfall).
(18) The Dead Sea scrolls and the first Christians, by Robert Eisenman, 1996, p.111& 227; also in New Bible Dictionary, (Wheaton, Illinois: Tyndale House Publishers, Inc.) 1962.
(19) ليوتاكسل : التوراة كتاب مقدس أم جمع من الأسلطير، ترجمة د. حسان ميخائيل، يلاحظ أن التراجم الحديثة حذفت الخمسين ألفا واختصرت الأعداد إلى سبعين رجلاً فقط.. ولا تزال نسخةجمعيات الكتاب المقدس 1966م وكذلك النسخة اليهودية Tanakh,1985 على العدد الأصلي بموت 50070 رجلاً.
(20) Hyam Maccoby، the Myth maker : Paul and the invention of Christianity 1987: page 175.
(21) محمد علي قطب، نظرات في إنجيل برنابا المبشر بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ص18
(22) Life in Biblical Israel by Philip J King and Lawrence E Stager, p. 198-199.
(23) Life in Biblical Israel by Philip J King and Lawrence E Stager, p. 22-23.
(24) The Essene Gospel of Peace, book four : The Teachings of The Elect, Edmond Bordeaux Szekely.
الملحق الثامن : تعقيب إضافي على البشارات بمملكة الله القادمة(2/164)
أورد للقاريء من كتاب عزرا وهو من الكتب المنحولة ( غير القانونية) وقد تعرض لتحريف كبير على أيدي الكتبة المسيحيين، كما يذكر ذلك الباحثون الذين يعتقدون أن أصوله اليهودية قد ظهرت منذ القرن الأول الميلاد، ومن البيّن أن الكتاب كان مصدرا لإقتباست كثيرة ظهرت بالكتابات والرسائل الدينية.. كما أشار إليها تشارلزوورث (1)، ومع إقراري بضعف حجية الإستشهاد على أهل الكتاب من الكتب المنحولة إلا أنها تمثل الفكر الكتابي الذي كان سائدا في الفترة السابقة لظهور الإسلام، وهي تأتي هنا متفقة ومؤيدة للتفسير الذي نقدمه بأنّها كانت مما حفظه الناس من تبشير الأنبياء بالإسلام..
رؤيا النسر The Eagle Visionمن كتاب عزرا الرابع (1) الإصحاح 11:
تلخيص البشارة:
رأى عزرا نسرا يخرج من البحر في حلم بالليل، وللنسر ثلاثة رؤوس واثناعشر جناحا، وقد نشر أجنحته على الأرض كلها، ثم خرجت له اجنحة أخرى معاكسة بالإتجاه بلغ عددها ثمانية، وكانت رؤوسه الثلاثة مسترخية .. بينما ارتفعت اجنحته وسادت متتالية على الأرض، في استلام للسلطة متتالي.. لكنه لم يخلو من تطاحن عليها بين هذه الأجنحة والرؤوس.. وإذا بمخلوق مثل الأسد قد استيقظ من الغابة، وحاكم النسر على إجرامه وإفساده بالأرض، وأخبره بحكم الله عليه ليختفي، فاختفى رأسه، وبقي له جناحان حكما لبعض الوقت في حكم قصير وغير مستقر.
وجاء أثناء الحلم تفسيره بأنّ النسر هو المملكة الرابعة التي ظهرت لدانيال في رؤياه.. وأنه سيحكم بها اثنا عشر ملكا متعاقبين، يحكم الثاني أطول من أي من الإثناعشر، ثم يأتي ثمانية، وتمثل الرؤوس الثلاثة ثلاثة أسوأ ملوكها سيأتون في نهاية زمانها.. والأسد الذي سيؤنب النسر هو المسيا ( المصطفى) الذي حفظه العليّ لآخر الأيام، وهو من نسل داود
التعليق:(2/165)
واضح أنّ المقصود بالنسر هو دولة الروم، لأنّ النسر بنص الرؤيا هو المملكة الرابعة في رؤيا دانيال، وقد أثبتنا قطعا _ وهو مالا يكاد أن يكون فيه خلاف - أنّ المملكة الرابعة هي دولة الروم، وتضيف هذه الرؤيا دليلا آخر على صحة هذا التفسير باختيار النسر رمزا لهذه المملكة الرابعة، فمن المعلوم أن النسر كان شعار الدولة الرومانية.. وهو الشعار الذي ورثته عنها دول غربية ( بل وعربية) أخرى في عصرنا الحالي، وقد كانوا يضعونه فوق مراكز القيادة أثناء المعارك وفوق قصورهم وعلى الأكاليل.. يبقى أن النبوة هذه تذكر أنّه سيأتي 21 أو 23 ملكا ضمن هذه المملكة حتى تظهر مملكة الله، وإذا ظهرت مملكة الله فلن تنتهي هذه المملكة الرابعة مباشرة، بل ستظل لفترة حكم ملكين إضافيين من ملوكها قبل أن تقضي عليها مملكة الله التي قامت..
النسر الرماني شعار الإمبراطورية الرومانية(2/166)
من الواضح أنّ عدد حكام الإمبراطورية الرومانية منذ قيامها ( ومنذ إزاحتها لحكم الإغريق الذي كان هو المملكة الثالثة) إلى قيام دولة الإسلام كان أكثر من ثلاثة وعشرين ملكاً.. ولكن هذا العدد أكثر بكثير من أن يكون المقصود به عيسى عليه السلام.. فإنّ المسيح عليه السلام ولد في عصر أول أباطرتها وهو أُكتافيوس الذي تلقب بأغسطس Augustus ( 27 ق م- 14 م)، وقام برسالته مبلغا خلال حكم الثاني من حكامها وهو تيبرياس Tiberius ( 14- 37 م)، وإذا أعتبرنا أن جوليوس قيصر كان عمليا هو الذي أنشأ الإمبراطورية من بعد قضائه على منافسه بومبي عام 48 ق م، وأنّ دخول الأرض المباركة بفلسطين كان تحت الحكم الثلاثي الذي كان هو أحد أركانه مع بومبي القائد الذي قام بالإحتلال، فإنّ عيسى عليه السلام وُلد بالتالي في حكم الملك الروماني الثاني وقام بدعوته أثناء حكم الثالث.. ويؤيد اعتبار أكتافيوس بأنه الملك الثاني أنه كان أطول الحكام فترة كما ذكرت النبوة.. وفي جميع الأحوال لا تنطبق عليه هذه النبوة التي تنبأت بـ 21- 23 ملكا قبل المسيا، هذا إضافة إلى أن المسيح عيسى عليه السلام لم يُقم دولة، ولم يقضِ على دولة الرومان، كما تنبأت االنبوة بحدوثه على يد المسيا.. بل قد بلّغ صراحة في نصوص أوثق على أي حال من نص هذه النبوة بأنّ مملكة الله قائمة من بعده ومن أمة من غير بني إسرائيل..
أختم مرة أخرى بأن النبوة تدعم التبشير بقدوم مملكة الله من بعد دولة الروم إلا أنها لم تتوفق في تحديد زمن ظهورها، ولعل ذلك نتيجة للتلاعب بمفرداتها كما يرى الباحثون..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) The Old Testament: Pseudepig -rapha, Apocalyptic literature, by James H. Charlesworth, p. 548-551.
الملحق التاسع
قضية الزيارة الربانية للأرض في آخر الزمان(2/167)
ورد الحديث عن زيارة ربانية للأرض في آخر الزمان (1) في مخطوطات البحر الميت.. وفي أشعيا 9 : 1 - 7 ما يوحي بأن النبي الخاتم له صفات ألوهية، وقد سبق التعليق على ذلك.. وقد حاول النصارى اعتبار ذلك تبشيرا بعيسى عليه السلام كأنه الله عزّ وجلّ قد زار الأرض.. وفي هذا سطحية بالغة، ونقض لكل تعاليم الأنبياء عن وحدانية الله وعدم إمكانية رؤيته، وتفرده وعدم مشابهة الخلق له.. وما يبعد أن يكون النص الأصلي بألفاظ غير لفظ الزيارة .. كما أن من المحتمل جداً أن يكون هذا اللفظ مأخوذ من الهندوسية التي تحدثت كتبها عن زيارة ربانية للأرض بآخر الزمان.. وظواهر اقتباس النصرانية من الهندوسية والبوذية كثيرة ومثبتة، أثبتها باحثون بخلفيات مسيحية.. واستخدام اصحاب المخطوطات لهذا اللفظ قد يعكس تأثر مبكر من المدرسة - التي يعتبرها الباحثون مهد المسيحية - تأثرا بالهندوسية.. وعلى كل حال فإن أصحاب المخطوطات وبقية اليهود لم يفهموا من استعمال لفظ الزيارة في الموضعين أعلاه إلا نزول الوحي والرسالة على المسيا وخاتم الأنبياء .. وفوق كل ذلك فإن نبؤات التوراة والمخطوطات وحتى كتب الهندوسية التي تحدثت عن الزيارة أو أشارت إليها إنما كانت تتحدث عن مجيء خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم .. وقد أثبتنا ذلك في نبوات التوراة التي يستشهد بها النصارى لهذا المعنى .. ويذكر جون كولن John Collins في كتابه Apocalypticism in the Dead Sea Scrolls, p.68. بأن فهم أصحاب المخطوطات للزيارة وعصرها The age of visitation بأنها مجيء المسيائيين (أو المختارَين) وهم كانوا ما يزالون بانتظار نبيين يلقبانهما بالمسيائين..ويذكر الكاتب السابق (2) أن يوم الإنقاذ أو الخلاص لدى مجتمع اهل المخطوطات ( كما ذكر في رقع مخطوطة ملكيصديق أو الملك الصادق) إنما يعني مناسبة وصول المختار من الأرواح أو النبي الخاتم ..(2/168)
وقد تحدث اهل المخطوطات عن هلاك بني اسرائيل بعد أربعين سنة من موت المعلم ( أحد المسيائيين المنتظرين (3) ).. ويذكر المؤلف السابق ( صفحة 68 من المرجع السابق) أن العبارات المتحدثة عن النهاية (أي نهاية بني اسرائيل) لم تكن واضحة أو متكاملة، إلا في قضية أن النهاية واستئصال الأشرار ستتم بعد أربعين سنة من موت المعلم.. وقد أوردت سابقا (4) كيف أن ذلك قد تحقق تماما بعد أربعين سنة من ذهاب عيسى عليه السلام، وكيف أنّ أصحاب المخطوطات تواصوا بعد ذلك على الثبات والصبر حتى يأتي الخلاص والبر الأبدي .. وهو المقصود بالزيارة الربانية والخلاص .. وهو ماتحقق بقيام مملكة الله بعد دولة الروم، والتي أثبتنا أنها تمت بقيام دولة الإسلام .. وبذا نذكر القاريء بأننا قد أثبتنا أن الزيارة الربانية المرتقبة من قبل بعض الطوائف اليهودية إنما تحققت بالإسلام .. لا ببعثة المسيح عيسى عليه السلام ..
ونورد هنا المقال الذي نشرته مجلة كشمير المسلمة عدد 95 ( مايو 2000) على تمامه لنرى شهادةً من هندوس أنفسهم على أن الزيارة الربانية التي ينتظرها الهندوس حتى هذا اليوم قد تحققت تماما من خلال قيام الإسلام، وبعثة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.. والمقال تحت عنوان " كتاب هندوسي يثير الأوساط الدينية في الهند: يثبت أن الإله البشري الذي ينتظره الهندوس إنما هو نبي الإسلام محمد":(2/169)
" كتب الباحث الهندي الباندت ويد بركاش أوباهدي ( غير مسلم) البرفيسور في جامعة " الله أباد " في كتابه "كل كي أوتار " أي ( إله الغد ) بأن أوصاف "الأوتار" (أي الإله الذي يأتي على شكل الإنسان المذكور في الكتب الهندوسية المقدسة) تنطبق تماماً على محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا الكتاب أثار العديد من الباحثين الهنود ، حيث فاجأ البروفيسور الأوساط الثقافية والأوساط الدينية بأن هذا الإله المنتظر –حسب مزاعمهم – قد ظهر قبل 1400 عام ، وتنطبق مواصفات هذا الإله البشري على محمد نبي الإسلام وطالبهم البرفيسور بعدم انتظار هذا الإله .
مؤلف الكتاب البرفيسور بركاش معروف بآرائه المنفتحة والتي يدعو دائماً من خلالها إلى التفكير والحديث عن المعتقدات بكل حرية ، وأنه لاداعي لكتم الأفكار إن لم تتعارض مع المنطق ، والبرفيسور هندوسي برهمن من البنغال ويحتل مكانة دينية خاصة حيث إنه من فئة الباندت (أي زعيم ديني ) ويحظى باهتمام كبير ومكانة مرموقة في جامعة الله أباد وذكر أنه نشر الكتاب بعد أن استغرق وقتاً طويلاً في كتابته وبعد أن طرحه على ثمانية من الـ"باندات " وافقوه فيما ذهب إليه .
وقد قدم الكاتب الدلائل والبرهين على صدق كلامه من "الويد" وغيره من الكتب المقدسة الهندوسية لإثبات مايدعيه .
ومما استدل به أيضاً ما ورد في كتاب "برانا " المقدس عند الهندوس : بأن "كل كي أوتار " (إله الغد) سيكون الرسول الأخير من الله سبحانه وتعالى وقائداً للإنسانية جمعاء ، وهو تماماً ما ينطبق مع الدين الأسلامي الذي ينص على أن النبي محمد هو آخر الأنبياء كما أنه أرسل للناس كافة .
كما ورد في كتبهم بأن الإله القادم سيولد في أرض الجزيرة وحسب اعتقادهم كذلك بأن هذه الجزيرة ستكون عربية ، وهذا أيضاً ينطبق على نبي الإسلام الذي ولد في جزيرة العرب .(2/170)
-كما نصت الكتب الهندوسية المقدسة على اسمي أب وأم إله الغد وهما ( شنوبكت وسماني) وبالنظر في معاني الاسمين توصل البرفيسور إلى نتيجة مذهلة حيث إن "شنوبكت " اسم مركب من شنويفي التي تعني الله وبكت التي تعني العبد ، فشنوبكت تعني بالعربية (عبدالله) وهو اسم والد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإذا نظرنا لاسم الأم "سماني " فإنها تعني الأمن والسكينة ، وإذا ما قورنت باسم أم الرسول صلى الله عليه وسلم (آمنة ) فإننا نجد أنها تدل على نفس المعنى .
-كما ذكر البرفيسور بركاش نقلاً عن الكتب الهندوسية المقدسة بأن غذاء "كل كلي أوتار " سيكون من الرطب والزيتون ، كما سيوصف بالصادق والأمين ، وهذه –حسب البوفيسور – تنطبق على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم .
وذكر الكتاب الهندوسي المقدس "ويدس " بأن "كل كلي أوتار " سيولد من قبيلة رفيعة الشأن صاحبة رأي وحكمة ، وهذا ما ينطبق على محمد صلى الله عليه وسلم حيث خرج من قبيلة قريش التي بلغت من المكانة ما بلغت ، وأخذت من الحكمة ما أخذت .
وحسب المعتقدات الهندوسية فإن الله سبحانه وتعالى سيلقي العلم لـ "كل كلي أوتار"
عبر رسوله في المغارة ، وهو ما حدث مع الرسول صلى الله عليه وسلم في غار حراء حيث كان يأتيه الوحي هناك .
- وأكد البوفيسور أن ما ورد في الكتب المقدسة من أن الله سيزود " كل كلي أوتار " بحصان فائق السرعة سيطوف به العالم والسموات السبع بسرعة غير معقولة ، إنما هو نفسه ما حدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج ، والحصان هو البراق .
- كما سيدعم الله سبحانه وتعالى "كل كلي أوتار " ويسانده بالقوة الغيبية في الحرب ، وهذا يذكرنا بالملائكة الذين كانوا يقاتلون إلى جانب المسلمين في غزواتهم ضد الكفار.(2/171)
- ومن الإشارات الواضحة التي تؤكد صدق البروفيسور ما أشارت إليه الكتب الهندوسية المقدسة بأن مولد "كل كلي أوتار " سيكون في اليوم الـ 12 من الشهر ، وهذا ما حدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث ولد في الـ 12 من ربيع الأول.
كما ذكرت الكتب المقدسة بأن " كل كلي أوتار " سيكون فارساً بارعاً ، ومقاتلاً ماهراً بالسيف ، وذكر البروفيسور أن هذا يؤكد أن "كل كلي أوتار " قد سبق مجيئه حيث تشهد هذه الأيام نهضة في وسائل الحرب تتعدى السيف إلى البنادق الآلية والأسلحة النووية والجرثومية ، وعهد السيف والخيول قد انقضى وعودته محالة ،وهذا – حسب اعتقاد البروفيسور – دليل واضح بأن "كل كلي اوتار " المنتظر قد ظهر وانقضى ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم .
مؤلف هذا الكتاب ليس هندوسياً فحسب ، بل زعيماً دينياً ، وقبل أن ينشر الكتاب عرضه على ثمانية من الزعماء الروحيين للهندوس ، وقد أبدوا ارتياحاً وتأييداً لما جاء فيه ، والكتاب أعلن وبصراحة أن " كل كلي أوتار " الذي ينتظره الهندوس قد جاء قبل 14 قرناً ، وأن على الهندوس عدم الإنتظار طويلاً فـ " كل كلي أوتار " لن ينزل مرة أخرى لأنه جاء وبلّغ رسالته المقدسة من عند الله تعالى." انتهى المقال.(2/172)
هذا وليس هؤلاء بالكتّاب الهندوس الوحيدين الذين أقروا بالتبشير بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم في كتاباتهم ومقالاتهم، وقد ذكر الدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي (5) اسماء مجموعة أخرى من هؤلاء المؤلفين الهندوس، منهم من أسلم ومنهم من ظلّ على هندوسيته رغم اقرارهم جميعا بقطعية دلالة هذه النبوات على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.. وذكر الدكتور الأعظمي عدة تفسيرات لوجود هذه البشارات في كتب الهندوس، يظلّ _ فيما أرى _ أقواها أنها بقية من الوحي الذي أذن الله عزوجل ببقائه ليكون حجة على أهل هذه الكتب، رغم أن هذه الكتب قد بدلت وخلطت بغيرها حتى بدت لا تمت للوحي بصلة، والله أعلم، إذ لا يوجد لدينا دليل على أصولها.. وقد أورد المؤلف أعلاه مجموعة جيدة من النصوص البينة بدلالتها الساطعة على التبشير بالرسول صلى الله عليه وسلم .. ويبقى للمؤمن أن يتأمل في حكمة الله عزوجل ببقاء البشارات ساطعة برسول الله الخاتم في كتب الأديان المختلفة ..
ونقلت بشارات كثيرة من كتب الزرادشت، ومن ذلك النص الذي أورده م. يوسف (6) من الدساتير14, والذي يمكن ترجمته كما يلي:" عند انحطاط أخلاق الفرس، سيولد رجل بالعربية ويكون له أتباع يقلقون عروشهم وديبهم وكل شيء (بها)، ورجال فارس الأشداء أقوياء الرقاب سيهزمون، وسيكون بيت الله المبني بالعربية والذي وضعت به كثير من التماثيل وسيصهر منها، سيقول الناس صلواتهم متوجهين اليه، وأتباعه سيملكون المدن بفارس وتوز وبلخ والأماكن الكبيرة حولها، وسيشوش الناس على بعضهم، والرجال الحكماء من فارس وغيرها سينضمون الى أتباعه" .. ومرة أخرى فهذه بشارة واضحة بكتب غير المسلمين ( وقد نقل كثير غيرها من كتتب الزرادشت) يستحيل على المسلمين أن يضعوها وهم لا يتناقلونها .. لعل الله عزوجل أبقاها حجة على أهل هذه الملة ..(2/173)
فهاهنا نشهد مرة أخرى إثباتا آخرا بأن الأمم كانت قد بُشرت بخاتم الأنبياء الذي سيكون نبيها جميعا .. وأنها كانت - وللأسف ومازالت - تنتظره.. رغم أنه قد جاءها من خلال نبي الإسلام فكفر به كثير منها.. وما قضية الزيارة الربانية في آخر الزمان إلا تعبير آخر عن مجيء نبي الإسلام وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم..
ـــــــــــــــــــــــــ
هوامش الملحق التاسع
(1) تجدر الإشارة إلى إن مثل هذا الفكر هو مما قد يستند إليه المسيح الدجال في آخر الزمان.
(2) كتاب Apocalypticism in the Dead Sea Scrolls صفحة 68.
(3) رغم استنتاج كثير من مترجمي المخطوطات بأن معلم الصلاح ومفسر التوراة وهما لقبي المسيين المنتظرين قد عاشا في الماضي إلا أن الغالبية تقر بأن هذا فهم مشكوك فيه لأن المخطوطات تتحدث عن مجيئهم آخر الزمان وعن انتصارات كبيرة للمؤمنين على أيدي معلم الصلاح وهو مالم يحدث في الماضي، ويقر بعض الباحثين باستعمال الأفعال الماضية للحديث عن أمور لم تحدث بعد، كما لو أنها قد حدثت.. مما جعل من العسير على المترجمين التأكد من زمن الأحداث المناقشة ببعض المخطوطات.. وواضح لنا أن أصحاب المخطوطات كانوا مجتمعين على أمل الفرج بمجيء المسيا مستقبلا.. كبقية اليهود..
(4) from Dead Sea Scrolls Translated,2nd edition ,by Florentino G. Martinez, ... p. 46-7(2/174)
وقد ترجمت القطعة كاملة تحت عنوان بشارة مجيء الخلاص والمسيا من بعد دمار القدس ( ص 209) وأورد الفقرة الأولى هنا، وعلى القاريء مراجعة القطعة كاملة "وسيكون من يوم الاجتماع بالمعلم الفريد إلى تدمير جميع رجال الحرب الذين أعرضوا مع رجل الكذب حوالي أربعين سنة وعندها سيصب غضب الله الشديد على اسرائيل كما قد ذكر (أي في هوشع3:4): فلا يبقى لهم ملك ولا أمير ولا قاض . إلا أن التائبين من أبناء يعقوب الذين حفظوا عهد الله سيتواصون بالثبات ويسمع لهم الله حتى يأتي الخلاص والعدل للخائفين الله .."
(5) دراسات في اليهودية والمسيحية وأديان الهند، تأليف الدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي، الطبعة الأولى، ص703.
(6) M. A.Yousef, The Dead Sea Scrolls, the Gospel of Barnabas and the New Testament, p. 115.
الملحق العاشر:
التقويم اليهودي
يعتمد التقويم اليهودي على الشهور القمرية أصلا، كل شهر من حوالي 29 يوما ونصف اليوم كما هو الحال في التقويم الهجري، وكما أشرت إلى ذلك في التعليق على عدد من النبوات السابقة.. فيحسب كل شهر إما 29 أو 30 يوما محسوبة من رؤية أول هلال جديد، وعلى هذا فإن عدد أيام السنة هو 354يوما.. إلا أن اليهود يعتمدون نظام نسيئة ليثبتوا الأشهر لفصول ثابتة .. والطريقة المعتمدة لذلك حاليا (2) تنسب الى رابي هيليل الثاني Rabbi Hillel II الذي وضع نظام تقسيم السنوات الى متواليات من 19سنة، سبع سنوات منها سنوات كبيسة محتوية على ثلاثة عشر شهرا بدلا من 12 شهرا.. ويحافظ اضافة شهر كل 19/7 ( أي كل 3 سنوات تقريبا) على تثبيت الشهور الى فصول ثابتة تقريبا.. والأشهر اليهودية هي نيسان Nisan ، ايار Iyar ، سيفان Sivan، تموزTamuz ، آب Av ، ايلول Elul ، تشري Tiisheri ، حيشبانHeshhvan ، كيسلف Kisllev ، تيبتTevet , شباطShvat ، وآذارAdar .. وفي السنوات الكبيسة يسمّى الشهر الإضافي شهر آذار الثاني ( فبراير/ مارس) ..(2/175)
ويرى القاريء كيف بدّل اليهود الأيام التي جعلت لهم أعيادا بغيرها من حيث يعرفون أو لا يعرفون.. ومثلهم في ذلك مثل الذين كفروا.. فاضافة شهر تعني ازاحة حقيقة للأيام التي اختارها الله عزوجل عن مواعيدها.. خاصة أنما صنعوه من تعديل لم يستند إلى وحي أو شريعة، وقد أستنكر الله عز وجلّ في القرآن الكريم هذا الترتيب ( النسيئة) للأسباب أعلاه.. ولما سيؤدي الى اختلاف الأمة حول أعيادها ومواسم عبادتها وهو ما حدث بين الطوائف اليهودية.. فقد استنكر الأسينيون أصحاب مخطوطات البحر الميت نظام النسيئة، وشددوا على ضرورة أن يحافظ على نفس الأوقات التي أمر الله بها، ولكنهم اخترعوا نظاما فريدا بهم (1).. وذلك بجعلهم السنة على نظام شمسي من 12 شهرا كل منها من ثلاثين يوما، وبأضافة يوم بعد كل فصل ( والفصل مكون من ثلاثة أشهر)، وبذلك صار العام لديهم 364يوما مؤلفا من 52 اسبوعا تامة.. الأمر الذي يعني أن كل المناسبات السنوية ستحافظ على نفس اليوم من الأسبوع لكل الأعوام.. وواضح للمسلم أن هذا ليس الا نسيئة أخرى، والله أعلم إلا أن يكون لهم سند من الوحي بذلك لا نعرفه حالياً.. ويرى القاريء أنّ من حكمة ربط العبادات بالتقويم القمري سهولة متابعتها على الناس أينما كانوا منقطعين في قراهم أو ترحالهم، وتداول المواسم بين أهل الشمال والجنوب فلا يتمتع أناس بالعبادات في مواسم البرد أو الإعتدال، أو في فترات طول الليل، بينما تكون مواسم العبادات دائما في مواسم القيظ والشدة وطول النهارعلى آخرين..
1) Geza Vermes, The copmlete Dead Sea Scrolls in English,1997, p 77-79.
(2) Rabbi Ted Falcon and David Blatner, Judaism for Dummies, 2001,p.371-372.
خاتمة
" فبأي حديث بعده يؤمنون "(2/176)
لو عاصرتَ محمداً ( عليه الصلاة والسلام) تسمعُ دعواه بأنّه رسول ربّ العالمين.. ولم تجده إلا ضعيفا مطارداً فلعلك لا تؤمن به.. مَثَلُك في ذلك مَثَلُ أغلب من يعرفه في ذلك الحين من الناس داخل مكة وخارجها.. وتمرّ عليك السنوات بطيئة فلا تسمع عنه ولا تلمس بنفسك منه إلا المثل الأعلى في الأخلاق.. صبور، حليم، كريم، صدوق، أمين.. هو مكان تصديق وإئتمان الناس حتى أعدائه.. هدّده أهله وأعداؤه وتآمروا على قتله.. ولا يُرى بالأفق له من نصير أو معين .. ولكنّه يصرّ على مواصلة دعوته واحتمال العذاب والتهديد، بل ومحاولات الإغتيال، التي تتوالى كثيرة لكنها تفشل متتابعة.. وتسمع بأن أتباعه القليل يُعذبون ويقتلون بل ويفرون الى الحبشة .. وهو لا يلين.. أغروه بالمال، والجاه، والملك، والنساء.. رفض المُلك مع أنّه الطريق القصير لتنفيذ إصلاحاته أو أي مآرب أخرى قد يقصدها أصحاب الدعوات.. فماذا يريد بعدُ إذ لم يخضع لتهديدِه، ولا لإحراجه بعمّه - الذي ربّاه - بعد أن ترجّاه أن يكفّ عن مهاجمة دين آبائه.. وماذا يريد من دعوته وهذا الملك قد عُرض عليه وهاهو يرفضه وهو بأشد الحاجة الى من يحميه ويعينه ؟.. بل ولمّا جاءه بعد ذلك المُلك بالمدينة، أختار توزيع المال على الفقراء وللدعوة، وعاش عيشة الزهد والكفاف، وقد كان بإمكانه أن يستمتع استمتاع الملوك والقادة، ولن ينقص ذلك من حبّ الناس له شيئًا.. واضح إذن أنّه لا يهدف من دعوته لدنيا.. إنّ الحصول على الملك والقيادة مباشرة قد يكون مناسبا للبعض إلا للمرسلين وللذين يريدون أن يبنون عقيدةً، وينشّؤن أمّة قبل أن ينشؤن دولة.. وكذلك كان طريق الأنبياء.. وتمرّ السنون متتابعة وأنت ترقب الأحداث.. ولاتؤمن به، ولكنّ المؤمنين به في زيادة وإن كانت بطيئة، وإن كنتَ لتعجبُ منه وبه..(2/177)
تعجب منه: أَأَنزل الله الوحي على رجل من الناس ؟ ولِمَ لم يُنزل اللهُ ملائكة ؟ وتعجب بأخلاقه وصبره وصدقه بل وبكمال ما يدعو إليه.. وتتأمل.. فترى الهوة هائلة بينه وبين قومه الذين يعبدون الأصنام ويسجدون لها، ويئدون البنات فيدفنونهن أحياء.. وتتأمل فترى أصحابه يشهدون له بعبادة لله يؤديها لا يستطيع تأدية مثلها أحد.. يقوم كل ليلة قائما يصلي أربع الى ثمان ساعات متصلة.. ويُسجلّ ذلك بالقرآن ويقرّ بصحته المؤمنون والكافرون والمعاصرون.. هل يعقلُ إلا أنّه كان يؤمن بما يصنع ! وهل يستطيع أحد التكلف بعمل لا جدوى له في نظره إلا لمرة أو مرتين! فهل يستطيع القيام مُصليّا لست ساعات تقل أو تكثر كل ليلة لثلاث وعشرين سنة إلا إذا كان يؤمن بجدوى ما يصنع.. والناس يسألون زوجاته وأصحابه المقربين منه، المتنافسين بينهم للتشبه به، والإقتداء به، فلا يجدون إلا تأكيدا لذلك القيام الطويل حتى تتورم أقدامه من طوله، فما كان أيسر عليه أن يحذف هذه العبادة من تعاليمه، أو أن يعفي نفسه منها، فهو المغفور لذنوبه كما ذكر بالمصحف.. أقول لك كيف ونحن المسلمون الآن المؤمنون به، والمؤمنون بجدوى العبادة نعجز عن المحافظة على صلاة الوتر وهي لا تستغرق ثلاث أو أربع دقائق لا ست ساعات!!.. فكيف تتخيل إمكانية قيامه بهذه العبادة الثقيلة ومحافظته عليها لولا أنّه أكثر الناس يقينا بأحقيتها وجدواها.. فكيف ببقية التزامه بما يدعو اليه في أمور الصيام والأخلاق والجهاد وغيرها.. فهل رأينا القادة إلا يستثنون أنفسهم وأهليهم من كثير من التبعات والإلتزامات.. فهل ترى في التزامه الا دليلا على صدقه واعتقاده بصحة دعوته..(2/178)
وتقول لنفسك ياللعجب مَن علّمه كلّ هذا ومن ربّاه على كل ذلك الكمال.. وإنّه لأميّ.. لا يعرف القراءة ولا الكتابة.. ولم يدخل مدرسة ولا شوهد يوما يحمل ورقا أو قلما.. وتسمع بأخباره فتعجب لشدة حبّ أصحابه له، فهذا زيد بن حارثة ( مولاه) يؤثر صحبته على صحبة أبيه وأمّه، وهؤلاء الأصحاب يقاتلون معه أبناءَهم وإخوانهم.. ويفتدونه بأنفسهم.. وتراهم أكثر الناس التزاما بما يدعو اليه وأكثرهم طاعة له.. فهم أعرف الناس به وهم أكثر الناس تصديقا به.. بل ترى أن أشدّ الناس عزما على نصرته وحبه والإلتزام بدعوته هم أكثر الناس اختلاطا به.. وهذا كما قيل هو ما يميز أمر الصادق من الكاذب، فإن أكثر الناس اختلاطا بالكاذب هم أكثرهم معرفة وإحساسا بحقيقة أمره، وهم بالتالي أقلهم استعدادا للتضحية له والفداء.. وأمر الصادق على العكس من ذلك ..أشدّهم إيماناً به هم أكثرهم مخالطة له وإطلاعاً على أحواله.. وذلك تماماً ماكان من الأصحاب.. وتتأمل فلا ترى في ذلك إلا دلالة صدقه.. وهؤلاء الأصحاب ليس لهم من مصلحة مادية.. بل قد حُرموا أحيانا مما أعطي لغيرهم من غنائم مادية، وكانوا راضين وطائعين.. وتذكر هنا مثلاً غنائم حنين وهوازن الهائلة التي وُزعت لإرضاء وتأليف قلوب الطامعين، وحُرم منها الأصحاب وبيت النبوة.. وتسمع بأخلاقه فلا ترى الا الكمال بعينه.. كيف وهذا الأعرابي الغليظ يشد ملابسه من خلفه ليناديه حتى يُؤلمه وتحمّر صفحة عنقه فيلتفت في أول ردّة فعلهِ غير المتكلف، فيلتفت مبتسما، ويدخل الآخر مسجده ومجلسه فيبول فيه، ويهم الناس به، فيأمرهم أن يتركوه حتى يُتمّ بولته، ثم بعد ذلك لا يوبخه بل يوضح له الأمر في كل لطف ولين.. فكيف يبلغ هذا الكمال ثم لا يكون صادقا في دعواه..(2/179)
وتتوالى الإنتصارات متلاحقة فإذا به يدخل مكة منتصرا على أعدائه الذين عذبوه وعذبوا أصحابه بل وقتّلوهم، يدخلها متواضعا مطأطيء رأسه حتى يكاد رأسه أن يلمس ظهر راحلته، عكس كل زهو وأبهة وغطرسة اعتاد الفاتحون أن يظهروها في فتوحهم، وتتوالى انتصاراته فإذا جزيرة العرب كلها خاضعة له.. مؤمنة بدينه وعقيدته، فلكأن رسالته اكتملت وأهدافها تحققت، فيعلن للناس يوم الجمع الأكبر بالحج اكتمال شرعه وتمامه، بل ويُفهِم الواعين قرب رحيله.. ويمضي فعلا خلال شهرين أوثلاثة من هذا الإعلان.. ولكأنّه كان يعلم موعد وفاته، بل ولكأن الموت كان ينتظره حتى يتم رسالته.. فتفشل عشرات المحاولات لإغتياله، ولا يصيبه الموت في ما يقرب من ثلاثين غزوة يحضرها .. وقد جاء الخبر في القرآن مطمئنا له أنّه محفوظ من أعدائه.. يمضي الرسول فهل كنتَ بعد كل هذا من غير المؤمنين به.. فكيف إذا رأيت جزيرة العرب كلها قد آمنت.. ورأيت وعد الرسول لأتباعه بالتمكين في الأرض ووراثتها من الأمم حولهم رأيت هذا الوعد قد تحقق خلال سنوات بسيطة.. وإذا بعرب الجزيرة الأميّين قد أصبحوا من بعده مباشرة أساتذة الأمم وقادتها.. وإذا بجيل فريد في العدل والإحسان والرأفة والرحمة يسحر الأمم المفتوحة فتدخل طواعية في الإسلام.. وكيف لاتؤمن وها أنت ترى وعوده لأصحابه - ومنها ما ذُكر وأثبت بالقرآن – تراها قد تحققت..(2/180)
ومن ذلك وعد أهل بدر من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام بإحدى الحسنيين ( الأنفال 8)، ووعد القرآن له بالعودة الى مكة بعد خروجه منها ( القصص 85)، والوعد بعصمته من محاولات قتله، رغم كثرتها الهائلة وسهولة الوصول إليه، ونجاح محاولات الإغتيال في ذلك الزمان في غيره بسهولة كما وقع على خلفائه من بعده لكنها في حقه فشلت كلها، والوعد بالغلبة على الكفار ( آل عمران 12)، وهزيمة أول جمع لهم ( القمر43- 45)، وقد نزلت بمكة قبل أن يكون للمسلمين دولة أو جمع)، والوعد بحسرتهم على ما أنفقوا من أموال في الصدّ عن الإسلام ( الأنفال 36)، وشفاء غيظ قلوب المؤمنين ممن عذبهم من الكافرين مع الإشارة إلى اهتداء الكافرين فيما بعد (التوبة 14،15)، والوعد بإظهار دين الإسلام على كل الأديان ( التوبة 33، الصف9، الفتح28)، والتمكين في الأرض، والطلب ممن يظن أن الله لن ينصر رسوله أن يقضي على نفسه لعل ذلك ينهي غيظه من النصر القادم ( الحج 15)، والوعد بخذلان المنافقين لإخوانهم من اليهود بالمدينة ( الحشر 11،12)، والوعد باستمرار العذاب والإضطهاد على اليهود الى يوم القيامة ( الأعراف 167)، وأنّ الذلّة إذا رفعت عنهم فلفترات وبحبل من الله وحبل من الناس، وهو ماتمّ لهم هذا الزمان بدعم من نصارى أوروبا وأمريكا ( آل عمران 112)، وأن النصارى سيظلوا ظاهرين على اليهود الى يوم القيامة ( آل عمران 55)، ووعده بانتصار الروم على الفرس بعد أن هزموا على يديهم عام 614 م، وهو ما تم فعلا بعد ذلك، ووعود أخرى كثيرة تحققت.. وكيف لا تؤمن والتحدي بإتيان أسطر مشابهة للقرآن مازال قائماً.. بل إنّ هنالك الوعد بأن كل محاولات الإستجابة ستفشل وتنتهي بخزي أو إسلام أصحابها..(2/181)
وأنّ في ذلك تمام الحجة على الناس (البقرة 23-24)، ولعل من الطريف الإشارة إلى قصة إسلام صديق الدكتور ابراهيم خليل (2) الذي حاول في عصرنا هذا دفع المنظمات والهيئات المسيحية على مستوى العالم للإستجابة للتحدي القرآني في أكثر من ثمانية آلاف رسالة ( لأكثر من ألفي جامعة ومركز علمي مسيحي) ولو بكتابة فقرة من خمسة عشر كلمة لتقابل أصغر سور القرآن، ورغم تكرار إرسال الرسائل أربع مرات، فلم يحصل إلا على خمسة ردود هزيلة تثبت صدق الوعد الإلهي بعجز البشر عن الإستجابة لهذا التحدي رغم حرصهم الشديد لحرب الإسلام وصدّ الناس عنه.. ويبقى أنّ نلاحظ أنّ كل هذه الوعود الغيبية ( المستقبلية) وغيرها هي وعود ثابتة بالقرآن شهد عليها المسلمون حينها وأقروا حدوثها، وهناك عدد كبير من النبوات الأخرى الثابتة عن الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرة، مثل وعده لسراقة بن مالك بسواري كسرى يلبسهما، ووعده لأصحابة عند حفر الخندق حول المدينة بفتح المعمورة، ولأم ملحان بركوب البحر مع المجاهدين، ولعمّار بالشهادة على يد الفئة الباغية ( وقد ثبت تواتر هذا الوعد واستشهاد الناس به قبل وبعد تحققه)، وللحسن بالإصلاح بين فئتين عظيمتين من المسلمين، وتظل وعوده ونبواته تتوالى متحققةً في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده، وليس هذا مجال حصرها فهي كثيرة، لكنك اليوم تعيش واقع المسلمين الذي أخبر بتسلط الأمم عليهم وهوانهم من بعد عصيانهم، وتعيش الصراع مع اليهود بفلسطين وقد أخبر بذلك في وقت ليس بفلسطين يهود، ووعود ونبوات أخرى كثيرة لا مجال حتى للإشارة اليها من كثرتها كلها تحققت.. وكيف لا تؤمن به وقد أثبت المؤمنون له الكثير من المعجزات والخوارق التي شهدوها بأنفسهم.. وكيف لا تؤمن به وقد أخبر به وتحدث عن قدومه الأنبياءُ من قبله، وها قد رأيتَ في هذا الكتاب كيف تحدثوا عنه بكل وضوح..(2/182)
" وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم"، ولامجال للتفصيل هاهنا مرة أخرى.. لكنّه لم يختار عند ولادته لنفسه اسمه.. ولم يختار زمن ظهوره، وكان الأنبياء من قبله كما رأينا قد حدّدوه.. ولم يختار نسبه الى اسماعيل.. ولا كونه من أهل مكة ( فاران التي سكنها اسماعيل).. وإذا افترضنا أنه أختار لنفسه دعوى ختم النبوة والرسالة العالمية لكل أمم الأرض، واختار تحدّي الكفارعلى ذلك على مستوى العالم.. فكيف استطاع ضمان تحقّق ذلك كله له.. فكانت المملكة التي أقامها هي التي انتزعت الأرض المباركة من الروم ( المملكة الرابعة)، وورثتها على مدار القرون، تماما كما أخبر الأنبياء من قبله، وكيف ضمن ختم النبوة بعده تماما كما قال الا من الدجالين فقد أخبرهو نفسه عنهم.. وكيف دبّر أحداث الهجرة وفتح مكة وتطهير الحرم من غير المؤمنين وبقية أحداث سيرته الكريمة التي بشّر بها الأنبياء من قبله وناقشناها في هذا الكتاب.. كيف وهو قطعا لا يعلم شيئا مما في الكتب الأولى عنه..
والآن وبعد ألفي عام من إنتظار اليهود للمصطفى خاتم الأنبياء ولمّا يأتِهم، رغم الإعلان من قِبَلِ أنبيائهم قبل ألفي عام عن قرب ظهوره وقيام مملكته، فهل تواصل أنت الإنتظار معهم رغم هذه التجوالة، ورغم إنطباق كل تباشير الأنبياء عليه، ورغم إنطباق كل الأدلة الكثيرة التي لا تكاد تحصىعليه.. أم قد آن الآوان للتسليم والإيمان برسالته ودينه الذي جاء به.. وللتخلي عن الارتباطات الأرضية، والتأثيرات القومية التي طالما أعمت أعيننا وأصمت آذاننا عن القدرة على إدراك الحقيقة وتمييزها..(2/183)
ولنواصل تجوالنا.. ومن أين له أن ياتي بقصص الأنبياء من قبله، بما فيها من تفاصيل لم نجد بعضها إلا في مخطوطات البحر الميت، وهو الذي لم يعرف القرأة ولا الكتابة، ومن أين له أن ياتي بعقيدة التوحيد الخالصة بكل تفاصيلها بعد أن طمسها أهل الكتاب، ومن أين له أن يُحيي تعاليم كثيرة للأنبياء قد نسيها الناس، وطمسها المغرضون، ولنا أن نملأ بأمثلة ذلك صفحات كتاب من كثرتها، فالمفاهيم الناصعة لوحدانية الله، واعتبارها الوصية الأولى، واعتبار الشرك بالله الجريمة الكبرى، وأن الله خلقنا لعبادته وتسبيحه (الذاريات56، ومخطوطة 4Q508)، تماما كما يفهمه المتأمل للتوراة، والحديث عن اللوح المحفوظ ( البروج 22، ومخطوطة 4Q177 )، وعقيدة القضاء والقدر ( مخطوطة Q1804)، وإحياء مفاهيم المسئولية الفردية " ولا تزر وازرة وزر أخرى" (كذلك حزقيال* 18: 20)، مع تصحيح المفاهيم المتعلقة بالخطيئة الأولى التي حمّل النصارى الجنسَ البشري ذنبها، والإيمان بيوم الدين والحساب ( متى 11: 22 وغيرها)، وبيان الإسلام ورسوله لحرمة المساس بالنفس والدين والعقل والنسل والمال، بما في ذلك من تحريم الربا ( يراجع حزقيال 18:5-9)، وتحريم الزنا ورجم الزاني ( تثنية 22: 21، لاويين 20: 11-20، يوحنا 8: 3-5)، وتحريم أكل الميتة والخنزير والمخنوقة وما قُدِّم للأصنام ( أعمال الرسل 15: 19- 20)، وإحياء قضايا العبادة كالصلاة بهيئتها الإسلامية بقيامها وسجودها وتقدم الإمام عن صفوف المصلين خلفه ( بالتوراة إشارة واضحة لهذه الهيئة إفتقدتُ موضعها حاليا ولا يعلمها أهل الكتاب)، ولزوم الطهارة والوضوء شاملا لغسل اليدين والرجلين قبل الصلاة وقبل الأضحية ودخول المعبد ( مواضع متعددة منها مخطوطة 4Q213,column C)، والغسل للجنابة وأحكام الحيض والنفاس والمحارم ( مواضع متعددة من مخطوطات البحر الميت)، والندب لقيام الليل ( راجع الحديث عن الصلاة وأوقاتها ضمن الملحق الخاص بانجيل(2/184)
برنابا)، وقضايا الأضاحي والختان والصوم ( بما في ذلك من صوم يومين بالإسبوع، لوقا 18: 12 )، والزكاة ( لوقا 18: 12 حيث أشار الى إخراج العشر من جني الزرع)، والندب لإخفاء الصدقات حتى لا تعلم يسار المتصدق ما أنفقت يمينه (متى 6: 5) (3)، وإحياء فريضة الحج (إشعيا 60) والجهاد في سبيل الله ( مواضع كثيرة من التوراة ومخطوطات البحر الميت، وكذلك القرآن)، والأمر بالتحية بعبارة " السلام عليكم"، وبتعليق الأمور بمشيئة الله ( يعقوب 4: 15)، والأمر بالتوبة والتبشير بأنّ الله عز وجلّ يفرح بها (حزقيال 18: 23 و33: 11)، وبيان حقيقة الإعتقاد بالمسيح والأنبياء عليهم السلام بصورة جلية منسجمة مع تعاليم الأنبياء أنفسهم وخالية من طعن المرتدين من الذين كفروا به من اليهود ومن تأليف الضآلين، وبيان أنّ المسيح بل والأنبياء من قبله قد بشروا بالإسلام ومجيء رسوله عليه الصلاة والسلام ( وهو ما أثبتناه بهذا الكتاب)، وبيان أمور أخرى كثيرة تحدّث عنها الأنبياء بالعهد القديم رغم تحريفة، ونسيها اليهود والنصارى، وجاء الإسلام على يد نبي أميّ لم يتلق أي تعليم، ولم يُرَ يوما يحمل ورقة أو قلما، ليُحيي هذه التعاليم كلها وغيرها مما نسيه أهل الكتابُ من تعاليم أنبيائهم، معلناً للناس الإيمان بالمرسلين من قبلُ، وأنّ الدين واحد في أساسه، ولكنّ الأتباع حرّفوه، وذلك – أي تحريف الكتب المقدسة- مالا يخالف فيه الا المتعصبون، وقد أثبته جليا البحث المعاصر كما أشرت إلى ذلك بالمقدمة، فَمَن علّم محمدا ( عليه الصلاة والسلام) كلّ ذلك.. بل ومن علمه نقد اليهود والنصارى على هجرهم لأوامر من الشريعة لا يعلمها الناس..(2/185)
" إنّ هذا القرآن يقص على بني إسرائيل – أي اليهود والنصارى_ أكثر الذي هم فيه يختلفون" النمل الآية 76، فقد جاء القرآن يُذِّكرهم بعهدهم مع الله ووجوب إلتزامهم به ( ذُكر عهدهم مع الله بمواضع عديدة من التوراة وكتب الأنبياء، منها مواضع بالتثنية ذكرتها ضمن الحديث عن " الأمة الملعونة""، وأشير إلى العهد بالقرآن الكريم مرارا منها بالبقرة 40- 42)، ويؤنبهم على عصيانهم المتكرر للأنبياء، بل والأعتداء المتكرر عليهم وقتلهم (البقرة 61)، وينفي أنّ يكون لهم عند الله عزوجل حظوة أو رضا خاص بهم لمجرد نسلهم أو لكونهم يهودا، وأنهم مرهونون بأعمالهم كبقية البشر ( المائدة 18)، ولقد نفى القرآن الكريم صراحة ما افتروه على هارون عليه السلام (الأعراف 150-151 في مقابل الخروج 32: 1- 6) من أنه أمر بصنع العجل وعبادته، وعن سليمان عليه السلام من أنه كفر بالله وعبد غير الله كما زعموا بأسفار الأنبياء، ونفى القرآن الكريم أن يكون موسى قد رأى الله عزوجل جهرة، أو أن يكون التعب قد مس الله عزوجل من خلق السماوات والأرض ( التكوين 2: 1-2 في مقابل ق 38)، وبيّن أنّ العذاب بالذلة والمسكنة والإضطهاد من الأمم الأخرى قد فرض عليهم نتيجة كفرهم بالأنبياء ( البقرة 61، الأعراف 167-168) مالم يعودوا إلى الله عزّوجل ( الإسراء 8) إلا بحبل ومدد من الناس ( آل عمران 112) ربما كجزء من الإبتلاء للمسلمين بآخر الزمان كما أخبر الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، وغني عن التذكير بأنّ كل ذلك قد تحقق تماما، وهو في الواقع مايتفق مع التورتة والإنجيل كما سبق أن فصلنا بمواضع عدة، وفضح استحلال كثير منهم لأموال غير اليهود ( آل عمران 75-77) بالحيلة والمراباة، وفضح جشع الأحبار والرهبان لكنز الأموال ( التوبة 34، كذلك متى 23: 25)، وفضح تصرفهم كأنهم آلهة لها الحق في تغيير الشريعة والتحليل والتحريم ( التوبة 31، كذلك مرقس7: 7- 9 وغيره)، وأخبر محمد عليه الصلاة(2/186)
والسلام بأن الإنحرافات التي تمت في عقائدهم إنّما كانت اقتباسا وتقليدا للأمم الكافرة من قبلهم ( التوبة الآية 30، المائدة الآية 77)، هذا إضافة الى فضح حيلهم على الشريعة، وكذبهم على الله وتغيير وحيه وكتابه (بمواضع عديدة بالقرآن الكريم، تراجع المقدمة للشواهد الكتابية)، وإحلال لعنة الله على كفارهم ( راجع إثبات ذلك عند استعراض بشارة وراثة الأرض المباركة بهذا الكتاب)، وأمور أخرى لا أحصيها، معلوم للباحث المحايد أنّ نقد الإسلام لها كان حقا، ولو أنّها كانت حين نقدها تبدو غريبة على أهل الكتاب، ولو تأمّل محمد في صفحات الكتاب المقدس ليلاً ونهارا لما اهتدى اليها، كيف وهو الأميّ، لو رُؤي يوما يحمل ورقةً أو قلما لهجره الناس وكذبوه، فقد سجل القرآن الذي يقرأه الناس ليلا ونهارا أميّته وأثبتها مرارا، واستشهد بها لصحة دعوته، ومن أين له أن يأتي بقصص من قبله وأخبارهم، يتنبأ بانتصاره على أمم الأرض حتى لما كان ما يزال مستضعفا بمكة، وها قد رأينا ( يُراجع التعليق على نبوة موسى عليه السلام) مدّعيي النبوة على كثرتهم على مرّ الزمان ينتهون مقتولين أو مفضوحين.. أمّا هو فكل الأمور مهيئة له ومصدّقة لنبواته، حتى من بعد موته بقرون بعيدة، حتى أوضاعُ المسلمين المؤسفة المعاصرة تجيء مصدقة لنبواته، ولعلي أحتاج الى كتاب آخر كبير لسرد نبواته التي صدّقها الزمان من بعده، بل وأحتاج الى كتاب آخر لسرد تصديق المكتشفات العلمية الحديثة لأحاديثه عن الكون والإنسان والطبيعة ببحارها وجبالها ونباتها وحيوانها، ولقد ألّف بعض المسلمين مجلدات في هذا الأمر، وآمن عليها كثيرون غيرهم، فهل ترى الكون كان متآمرا لتصديقه، أم ترى محمداً امتلك امكانيات المختبرات العلميه داخل بيته الصغير بالمدينة الذي لا تتجاوز سعته غرفة أو غرفتين والمفتوح للأصحاب والأخوان..(2/187)
ثمّ كانت هذه الشريعة وهذا النظام والقانون الذي وضعه، والذي لا يملك أي عاقل أو منصف بعد أربعة عشر قرنا إلا الإقرار له بالسمو والقدرة على حلّ مشاكل الناس والمجتمعات، تلك الشريعة التي استعصت على كل الأنظمة الوضعية المطّورة.. ولا يسعنا هنا الإستطراد الى معالم سمو الشريعة وشواهد تميزها، فذلك ميدان آخر واسع..(2/188)
وهكذا فقد جاء أتباع محمدا عليه الصلاة والسلام أتباعاً للأنبياء من قبله! جاء في القرآن الكريم قوله تعالى : " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه، الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب" الشورى 13، فلتنظر إلى النصارى كيف أَمَرَهم المسيح عليه السلام بعبادة الله وحده فعبدوه هو مع الله، بل زعموا أنه هو الله.. وهو الذي رفض حتى لقب " الصالح" أو " السيد" أن يُطلق عليه، وهو الذي أعلن أنّه يجهل ميعاد الساعة، وهو الذي لما أحيا الميّت بإذن الله رفع يديه يسأل الله عزوجل أن يحقق تلك المعجزة ليؤمن الناس بالله وبأن عيسى رسول الله، وهو الذي كان يجوع ويأكل ( وهو ما يستلزم الإخراج كذلك)، ويعطش، ويتعب، ويخاف، ويعلن أنه لا يعمل بمشيئة نفسه بل بمشيئة الله وحده، وأنّ الكلام الذي يقوله له ليس من تلقاء نفسه بل هو من عند من أرسله، فلو علم عيسى عليه السلام ما يصنع به المسيحيون من عبادتهم إياه لاقشعر لذلك بدنه، ولأعلن براءته من كلّ مأُضيف على الدين من بعده، وذلك هو فعلا ما ذكره القرآن الكريم عن موقف عيسى عليه السلام يوم القيامة ( المائدة 116-118)، ومثله في الواقع هو ما ذكرته الأناجيل عنه " كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم ياربّ ياربّ.. فحينئذ أصرح لهم أني لم أعرفكم قط، اذهبوا عني يافاعلي الإثم" ( متى7: 22).. أم هل يتخيل القاريء المسيحي أن الذين سيتبرأ منهم المسيح عليه السلام هم الموحدون الملتزمون بتعاليمه من أتباعه وأتباع يعقوب من بعده.. وهو القائل على ما يرويه يوحنا 14: 15 " إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي".. إنّه لن يتبرأ إلا من أحد الفريقين.. ولا يملك القاريء المنصف إلا التصريح بأنّ البرأة ستكون من نصيب من لم يحفظ تعاليمه وكان على مالم يكن عليه المسيح وتلاميذه الذين عرفوه في حياته..(2/189)
كيف وقد أمرهم بالإلتزام بالتوراة كلمةً كلمةً، والتزم هو وأتباعه بها في حياته بكل شرائعها من مراعاة السبت والختان وتحريم الخنزير وغيرها.. وعاش مع تلامذته كيهود يعبدون الله مع بقية اليهود في نفس المعابد.. فجاء النصارى من بعده يُلخصون رسالته في الإيمان به مولوداً أو ولدا لله، أو الإيمان به أنّه الخالق متجسدا، وأنه قد جعل الناس يصلبونه ويهينونه ويبصقون عليه تكفيرا لهم عن خطيئة ما كانوا ليُسألوا عنها.. وكأن صنيعهم هذا بقتل ربهم ( أستغفر الله) هو العمل الصالح الأعظم في حياة البشرية لتستحق به المغفرة لخطيئتها الأزلية على ما يزعمون.. وإذا اقتنع الناس بهذه العقيدة - التي ظلت مخفية عن الناس حتى أعلنها بولس - فقد ضمنوا الجنة ولا قيمة للأعمال: صالحها أو طالحها بعد ذلك ( يرجى مراجعة الملحق عن بولس) .. والتأملات لن تنتهي.. لكنّي أنتقل إلى اليهود الذين تأمروا على أنبيائهم، واستحقوا اللعن من الله كما أُثبِت ذلك بالتوراة والإنجيل والقرآن ( كما فصلت ذلك من قبل)، وافتروا على أنبيائهم واتهموهم بكل الكبائر من سفك الدم الى الزنا الى الشرك الى السكر والتعري والسرقة وغيرها.. فَمَن أتباع الأنبياء بحق غير المسلمين.. الذين لا يفرِّقون بين الأنبياء، ويعتبرون أقلهم درجة أعظم من أفضلهم منزلة.. فهلا رأيتَ - أخي القاريء- إلا تنقيةً لعقيدتك بالله وأنبيائه وتصحيحا لإتباع نبيك إذا كنت من أتباع إحدى الديانتين اليهودية أو النصرانية ثمّ اخترت أن تتبع رسول الإسلام محمداً صلى الله عليه وسلم..(2/190)
ثمّ هذا أنتَ ذهبتَ تستعرضُ ماوضعه الباحثون ( يُرجى من القارئ العودة إلى الملحق الثاني) لشروط تمييز النبي الحق.. فلم تجد إلا وكأنّ الشروط التي وضعوها قد فصّلت على محمد صلى الله عليه وسلم تفصيلاً، مع أنها مستقاه من التوراة، واستنتجها وكتبها غير المسلمين.. وهل ترى في الواقع أحدٌ تتوافر فيه هذه الشروط غير المصطفى خاتم الأنبياء ومَن سبقه من المُصطَفَين الأخيار..
فإذا سردتَ ذلك كله بخاطرك، وكأنّك عاصرتَ كل هذه الأحداث وعشتَ خلالها فعلا، وكأنّ الله عزوجلّ قد منّ عليك بالعمر منذ عشرين قرناً أو أكثر، وأتاح لك اليوم الإطلاع على تلك الشواهد والأدلة حتى كأنك عاصرتها، فلكأنّك كنت مع المؤمنين بالله منذ القرون الأولى وهم قليل مضطهدون مطاردون، ويُخفف عنهم بأنّ هذه الأرض في النهاية هي ميراثهم، وبأن المؤمنين سيقيمون مملكة عظيمة تحكم أرجاء المعمورة.. وبأنّ المصطفى قادم بنصرالله العظيم.. ومرّت السنون وتحققت البشارات بحذافيرها وفي أوقاتها المحددة، ومن بقعتها الموعودة، ومن الذرية الموعودة، تحققت كما رأيت في هذا الكتاب تامة، فهلا تؤمن بالمصطفى بعد كل هذا رسولا بحقّ من عند الله ..
إنّ الإيمان نعمة.. فإن حرمتها فابك على نفسك، فما حرمتها الا عقوبة.. وإني لأخالها أعظم عقوبة في هذه الدنيا.. وما كفَرَ الناس لقلة أدلة الإيمان.. كيف والكفر لا يملك إلا الخرافة والشك.. ولكنهم كفروا لأن الله قد أعمى بصائرهم وأصم أسماعهم، ولو أن الله نزّل عليهم الملائكة، وكلمهم الموتى وحشر عليهم كل شيء ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله.. ألا فلا يفرح من لم يشأ الله له الإيمان .. وأولى به أن ينيب الى الله ويتوب اليه، فإن هلاكه ثابت الا برحمة الله ..
ماذا نقول بعد ذلك.. إلا أنها دار الإمتحان الفانية.. قد جعلها الخالق كذلك.. وكل يختارلنفسه موقعه بالدار الآخرة.
هوامش الخاتمة(2/191)
* المواضع المذكورة بين الأقواس هي مجرد أمثلة من بين مواضع أخرى كثيرة بالتوراة والإنجيل، ليس هذا موضع لاستعراضها، وقد تجاوزتُ عن ذكر الإستشهادات من القرآن والسنة لما هو معلوم وشائع المعرفة به لدى القراء.
(1) لماذا أسلم صديقي ورأي الفاتيكان في تحديات القرآن للدكتور ابراهيم خليل.
(2) يرجى كذلك مراجعة الفقرات المتعلقة بتشابه بعض النصوص بين انجيل برنابا والقرآن والسنة، والتي سبق إيرادها ضمن الملحق الخاص بانجيل برنابا.
المراجع
·?القرآن الكريم.
·?السنة النبوية.
·?الكتاب المقدس: نصوص الكتاب المقدس العربية مأخوذة من:
- الكتاب المقدس، طبعة دار المشرق الثالثة 1994.
- الكتاب المقدس أي كتب العهد القديم والعهد الجديد، إصدار جمعيات الكتاب المقدس المتحدة، طبعة 1966م.
- الكتاب المقدس كتاب الحياة: ترجمة تفسيرية، الطبعة الرابعة 1992م.
- التفسير التطبيقي للكتاب المقدس، شركة ماستر ميديا، القاهرة، 1997.
وأخذت النصوص بالإنجليزية من:
- Good News Bible by the United Bible Societies,
- Holy Bible Revised Standard Version, 1972
- Holy Bible: New International Version &
·?محمد في الكتاب المقدس لعبد الأحد داود.
·?الله جلّ جلاله والأنبياء في التوراة والعهد القديم للدكتور محمد علي البار.
·?هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى، لإبن القيم الجوزية.
·?محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة والإنجيل والقرآن، تأليف إبراهيم خليل، طبعة دار المنار 1989، ص54.
·? نظرات في انجيل برنابا المبشر بنبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لمحمد علي قطب.
·?الميزان في مقارنة الأديان: حقائق ووثائق، للمستشار محمد عزت الطهطاوي 1993،
·?إظهار الحق للعلامة رحمة الله خليل الرحمن الهندي
·?النصرانية والإسلام، للمستشار محمد عزت.
·?السيرة النبوية لأبي الحسن الندوي.
·?Amazing Prophecies of the bible by Timothy J. Dailey, David M. Howard(2/192)
·?Apocalypticism in the Dead Sea Scrolls, by John Collins, 1997.
·?A short history of Western Civilization by John B. Harrison, et al.
·?Bible prophecy made easy, by Mark Water, 1998 ed.
·?Bible prophecy, by Mark Hitchcock, 1999.
·?Byzantium: The Early Centuries, by John Julius Norwiich, 1988.
·?Dead Sea Scrolls Translated, 2nd edition , by Florentino G. Martinez. ...
·?Dead Sea Scrolls, by Michael Wise, Martin Abegg, Edward Cook, first ed.
·?Early Christian Doctrines, by J.N.D Kelly,1977.
·?Fast Facts on Bible prophecy, by Thomas Ice & Timothy Demy, 1997.
·?Great Jewish Revolt: Siege And Destruction Of Jerusalem ( 70 AD), Josephus.
·?History of the World by J.M. Robert.
·? James the brother of Jesus by Eisenman Robert.
·?Jerusalem by Karen Armstrong.
·?Jesus: One hundred years before Christ, by Alvar Ellegard, 1999.
·?Judaism for Dummies, by Rabbi Ted Falcon and David Blatner, 2001.
·?Messianic Legacy, by Michael Baigent, Richard Leigh & Henry Lincoln, 1986.
·? New Bible Dictionary, (Wheaton, Illinois: Tyndale House Publishers, Inc.) 1962.
·?Nostradamus: Prophecies of present times? By David Pitt Francis.
·?Prophecy and the biblical prophets, by John Sawyer, 1987.
·?Prophecy by Dewey M. Beegle.
·?Studies in Dead Sea Scrolls and related lliteratures: Eschatology, messianism, and the Dead Sea Scrolls, by Graig A. Evans & Petter W. Flint in chapter: The expectation of the end in the Dead Sea Scrolls in 1997.
·?The Apocrypha, translated by Edgar J Goodspeed, 1959.(2/193)
·?The Book of Enoch: Aramic fragments of Qumran Cave 4, edited by J.T. Milik, with collaboration of Mathew Black, Oxford 1976.
·?The copmlete Dead Sea Scrolls in English, by Geza Vermes, 1997.
·?The Dark Side of Christian History, by Helen Ellerbe
·?The Dawn of Christianity: The Essene Heritage by Robert H. Bogue..
·?The Dead Sea scrolls and the first Christians, by Robert Eisenman, 1996.
·?The Dead Sea Scrolls Bible, by Martin Abeegg, JR., Peter Flint & Eugene Ulrigh.
·?The Dead Sea scrolls deception, by Michael Baigent, Richard Leigh.
·?The Dead Sea scrolls translated, 2nd edition, by Wilfred Watson.
·?The Dead Sea Scrolls translated, by Florentino Gaarcia, 2nded.
·?The Dead Sea Scrolls, by G. Vermes.
·?The Dead Sea Scrolls, ed. 1996, by Michael Wise, Martin, Abegg, J R. & Edward Cook.
·?The Dead Sea Scrolls, the Gospel of Barnabas and the New Testament, by M. A.Yousef.
·?The End of the Age by M.J.Agee, 1991.
·?Every prophecy of the Bible, by John F. Walvoord, 1999.
·?The Hidden Scrolls, by Neil Asher Silberman.
·?The Hiram Key , by Christopher Knight & Robert Lomas, 1997.
·?The Holy Blood and the Holy Grail, by Michael Baigent, Richard Leigh & Henry Lincoln .
·?The House of the Messiah, by Ahmed Osman, 1992.
·?The infancy Gospel of Pseudo-Mathew, p.396 in The Other Bible, by Willis Barnstone.
·? The Jesus Mysteries. Was the Original Jesus A Pagaan God?
·?The Jewish Bible Tanakah, by the Jewish Publication Society, 1985.
·?The Lost Gospel by Burton Mmack, 1993.
·?The Lost Books of the Bible, 1926.by Jones- Wake, 1979.(2/194)
·?The Messiah before Jesus: The suffering Servant of the dead sea scrolls, by Israel Knohl
·?The Messianic Legacy, by Michael Baigent, Richard Leigh & Henry Lincoln .
·?The Myth maker : Paul and the invention of Chrestiianity 1987: by Hyam Maccoby
·?The Old Testament Pseudepigraapha, Apocalyptic literature, by James H. Charlesworth, 1983.
·?The Old Testament: Pseudepig -rapha, Apocalyptic literature, by James H. Charlesworth.
·?The Other Bible, by Willis Barnstone 1984 Ed.
·?The Oxford Dictionary of World Religions, by John Bowker, 1997.
·?The Sign by Robert Van Kampen, ed.1992.
·?The timetables of History, 3rd Ed. By Bernard Grun.
·?This is my God, by Herman Wouk.
·? Wycliffe Bible Dictionary, Michael Wise, Martin Abedge& Edward Cook.
·?The Five Gospels, by Robert W. Funk, Roy W. Hoover and the Jesus Seminar,1993.
·?The Old Testament Pseudoepigrapha, The New Testament by James H Charlesworth, 1998 th edition.
·?Life in Biblical Israel by Philip J King and Lawrence E Stager.
·?Israel’s Messiah in the bible and the dead sea scrolls by Richard S Hess and M Daniel Carroll R.
·?Keil & Delitzsch Commentary On the Old testament, comments on chapter 7.
·?بولس وتحريف المسيحية تأليف هيم ماكبي، ترجمة واختصار سميرة عزمي الزين ( منشورات المعهد الدولي للدراسات الإنسانية )، 1991.
·?بين الإسلام والمسيحية، لأبي عبيدة الخزرجي.
·?التعصب والتسامح بين المسيحية والإسلام لمحمد الغزالي.
·?إنجيل برنابا بين المؤيدين والرافضين، د. فريز صموئيل.
·?التوراة كتابات مابين العهدين، ترجمة موسى ديب الخوري، إصدار دار الطليعة الجديدة 1998.
·?التاريخ اليهودي العام لصابر طعيمة، 1983م.(2/195)
·?المسيحية نشأتها وتطورها، تأليف شارل جنيبير، ترجمة الدكتور عبد الحليم محمود.
·?أعلام النبوة لأبي الحسن علي بن محمد الماوردي، مراجعة طه عبد الرءوف سعد.
·?الحسام الممدود في الرد على اليهود المؤلف بالقرن الثامن الهجري، تأليف عبد الحق الإسلامي المغربي، بتحقيق الدكتور عمر وفيق الداعوق.
·?الحضارة البيزنطية للدكتور السيد الباز.
·?دراسات في اليهودية والمسيحية وأديان الهند، تأليف الدكتور محمد ضياء الرحمن الأعظمي، الطبعة الأولى.
·?دكتور أحمد حجازي السقا، حقيقة النصرانية من الكتب المقدسة دار الفضيلة.
·? الملل والنحل، للشهرستاني، تحقيق محمد الفاضلي، طبعة 2000م.
·? لماذا أسلم صديقي ورأي الفاتيكان للدكتور ابراهيم خليل.
·? كتاب الدين والدولة في اثبات نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لعلي بن يحي الطبري.
·? المسيح قادم..؟ للدكتور علي عبدالجليل راضي.
·? القدس بين الأحتلال والتحرير، لعزمي أبو عليان، طبعة 1993 م.
·? موقع البشارت بالإنترنت
·? أهل الكهف- قراءة في مخطوطات البحر الميت، لهالة العوري، طبعة 2000 م.
·?الله جل جلاله والأنبياء في التوراة والعهد القديم للدكتور محمد علي البار
·? هل الإنجيل كلمة الله لأحمد ديدات
·?التوراة : العقل.. العلم.. التاريخ، 1979 م، للدكتور بدران محمد بدران.
·? التوراة كتاب مقدس أم جمع من الأساطير لليو تاكسل، ترجمة د. حسان ميخائيل إسحاق
·? التوراة والأناجيل والقرآن الكريم بمقياس العلم الحديث للدكتور موريس بوكاي(2/196)