تاجر الأسهم
قصة من تأليف / محمد بن عصبي الغامدي
الناشر
مكتبة دار الطرفين
بسم الله الرحمن الرحيم
... لم أفاجأ عندما ذهبت إلى مدير الإدارة في صباح ذلك اليوم البارد جداً من أيام الشتاء لأحضر ورقة منه إلى مراقب الدوام عندما رأيته يتهددني ويتوعد بالخصم من الراتب أو طلب نقلي إلى جهة أخرى في حالة تأخري عن الدوام مرةً ثانية ذلك لأنني وجدت رئيس القسم الذي أعمل فيه جالساً إلى جانبه وكنت متأكداً أنه قد أوغر صدر المدير قبل حضوري مع علمي أن مدير الإدارة إنسان طيّب القلب ولايمكن أن يتسبب في أذيّة أي فرد من الموظفين ولكن برغم طيبته وعفويته .. من السهل أن يلعب برأسه أو يستفزه أي إنسان على شخص آخر . وكان زعله في ذلك اليوم مستحكماً بطريقة لم أعهدها من قبل .... حاولت أن أشرح له السبب الذي أجبرني على التأخر إلا أنه صاح في وجهي بطريقة لم أتحملها فتركته على تلك الحالة من الغضب والانفعال وخرجت من مكتبه
كنت أرجف من شدّة البرد........ لقد أخذ مني الجهد والبرد في ذلك اليوم أي مأخذ من جرّاء تعطل سيارتي في منتصف الطريق فالأرض وحلة والرياح التي تهب باردة جداً ...تركت السيارة وأخذت أسير وأتلفت خلفي لعل سائق سيارة يراني وياخذني في طريقه إلى بالجرشي وكنت أمشي والمطر يتساقط فابتلّت ملابسي وأحس أن جسمي يتجمد مع هبوب تلك الرياح ورجلاي لاتكاد تحملاني وكأنني أسحب خطاي سحبًا .
كانت السيارات التي تسير من هذا الطريق قليلةً جدًا فاضطررت أن أمشي مسافة طويلة في ذلك البرد القارس , مرّت سيارتان وكنت أرفع يدي للسائق كي يتوقف لي أيا منهما فلم يفعلا حتى رثى لحالتي سائق السيارة الثالثة ونقلني معه الى مكان قريب من الإدارة فوصلت متأخرًا.... وعندما وجدت أوراق الدوام قد رفعت اتجهت إلى مكتب مراقب الدوام الذي طلب مني أن أحضر له ورقة من المدير...(1/1)
آثرت أن أتركه في تلك اللحظة وأعود اليه بعد أن تكون قد هدأت عاصفته . ثم صعدت الي مكتبي .
جلست إلى كنبة كانت قريبة من الباب وأدرت مفتاح دفايةً كانت بالمكتب وأخذت أفرك يديّ أمامها فأنا أحسهما قد تجمدتا من شدة البرد .
عدت إلى المدير بعد أن خرج من مكتبه رئيس القسم وشرحت له ظرفي الذي أجبرني على التأخر عن الدوام ...... فوجدته لازال يرى ان ذلك كان استخفافًا به .... فلم أتحمّل ذلك الصلف الذي قابلني به فتركته وخرجت من مكتبه بعد أن طلبت منه أن يخصم ذلك اليوم .. فأنا لن أقبّل رأسه ولن اترجاه.
لم يكن لدينا كثيرعمل في الإدارة فقد يكون عملي أنا بالذات مضغوطاً في نهاية كل شهر عند استلام المرتبات وبعد ذلك لفترة محدودة من بداية الشهر الأخرعند رفع الأوراق إلى الوزارة بعد الصرف .
كنت أعمل أمين صندوق وكنت حريصًا على مطابقة الرصيد النقدي مع الرصيد القيدي في كل يوم بل إنني أحياناً أقوم بعملية الجرد أكثر من مرة . في اليوم .
كانت بوفية الإدارة قريبة من مكتبي فطلبت من العامل الموجود بها كوباً من الشاي فقد يساعدني علي طرد آثار البرد الذي أشعر به من جراء مشواري الذي قطعته في صبيحة ذلك اليوم وكذلك مما أشعر به من تلك المقابلة المتعبة التي تصبّحت بها من مدير الإدارة .
لم أنتظر كثيرًا فقد جآني العامل بكوب من الشاي وجلست على مكتبي وبدأت أتصفّح أوراقاً كانت أمامي ..... فدخل عليّ رئيس قسمنا الأستاذ عباس .. وبلهجة ممزوجة شهامتها بخبثٍ لا أجهله..:
ـ سلامات لماذا تأخرت ؟
ـ أبدًا ... كما سمعت لقد تعطلت سيارتي .
ـ لو أنك تعمل مثل طريقتي ....... إنني أوقفها في منحدر بجانب بيتنا حتي إذا أتي مثل هذا اليوم ولم تشتغل فأن الامر يسهل علي بمساعدة ذلك المنحدرفي تشغيلها .
كنت ممتعضاً من هذا الكلام بل من ذلك الأنسان نفسه الذي كما يقال في الأمثال ( يقتل القتيل ويمشي في جنازته ) .(1/2)
ـ أولا..... ليس بالقرب من بيتنا منحدر مثلك ... ثم إن سيارتي تعطلت في منتصف الطريق .. ربما قد خدمك الحظ بوجود منحدر بجانب بيتكم ( قلتها بابتسامة لا تخلو من الألم ).
ـ هذا المدير الله يهديه ...لايقدّر الظروف في مثل هذا اليوم ... لأن سيارته جديدة ...وأنت أيضًا الحق عليك .. وتستاهل أكثر .
ـ ماذا تقصد ؟
ـ أقصد .... الله يهديك ... لو اتصلت عليّ وأخبرتني ..كان الموضوع مشى طبيعي من غير مايدري المدير. وكنت وقّعت عنك قبل ما ترفع أوراق الدوام ويراها المدير .
ـ كل إنسان قد يتعرض لمثل هذه الظروف.
ـ لاعليك فالأوراق سوف تعود اليّ ..
ـ أنا لم أحمل همّا لذلك لأن الموضوع سار غصباً عني ولم أتعمده.
ـ أبدًا وأعتبر هذا الموضوع مسئوليتي أنا .... إننا إخوة ونحن زملاء .....لكنني للأسف أشعر أنك لاتثق بي .. إن حظي سيئ معك ..رغم أنني دائماً أقف إلى جانبك .
(وعرفت عندئذ أن له حاجة ... وأن كل الموضوع كان مقدمة لطلب فلوس ..لكنني لن أعطيه ريالاً واحدًا ) هكذا عزمت .
ـ كيف حكمت بذلك ....
ـ هذا أكبر دليل .... إنني أعرض عليك خدماتي وأنت تبدي لي اللامبالاة .. وكأنك لاتعرفني ..
ــ ( مشكلتي أنني أعرفك جيدًا ) قلتها بيني وبين نفسي ...ياأخي مشكور وما قصرت وأنا آسف إذا فهمت مني غير ذلك .
ـ ...(ساد صمت في الغرفة قليلا ... ثم همّ بالإنصراف )... أقول لك
لقد تأخرت في تسديد قسط لشركة تايوتا وكل يوم والمعقب عندي ... إذا تقدر تدبر لي القسط .
ـ ( ضحكت عندئذ .. وعرفت إن هذا الموال لابد أنه مقدمة لهذا الطلب ).. أنت تعرف أن مرتبي أعطيه أبي من اليوم الذي استلمه فيه ..
ـ لا ...لا .....( وبنفس الابتسامة التي لا أنكرها ) .. أنا لا أقصد راتبك .
ـ من أين إذا ( وأنا أدرك ماعناه من الوهلة الأولى) ؟
ـ من الصندوق وأنا اكتب لك سندَا بذلك .
ـ لكنك تعلم أن السند لا يغني عني من الله شيئا إذا حضر مفتش أو حصل أي مشكلة لاسمح الله .(1/3)
ـ عندئذ أنا. أحضرها وأثبتها في دفتر السلفة وأدبّر موضوع الصندوق . ثم إن المفتش لايصل إليك حتي يمرّ عليّ وأنا سأكون صمام أمان بالنسبة لك ولن يصل إليك حتى يدخل المبلغ في الخزنة ... وأنا وأنت شيء واحد والذي يترتب عليك سيترتب عليّ أنا أيضًا .
والحقيقة أنه أقنعني رغم عدم ثقتي في كل كلمة قالها ..
ـ والله يا أخي إنني خائف ..
ـ ( تناول بوكاً كان فوق مكتبي وكتب سندا بألفيّ ريال ثم ناولنيه ) :
....يالله ياشيخ .... فكّنا .... إنت والله معقّد ... إن هذا الأمر جاري في كل مكان بس إنت الله يهديك تخاف ...... بعدين هذا السند عندك .... إذا كنت تخاف أنني لن أسدد..... أيضا راتبي عندك واخصمها من راتبي .
المهم أنه أقنعني .... أو أحرجني.... أو ضحك عليّ ولم يخرج إلا بالفلوس معه .
ومضى ذلك الشهر على خير....وخصمت الألفين من راتب عباس وأعدتها الى الخزنة ...
بدأ عباس يظهر لي ودًا غير عاديًا وحبًا تملقيًا وحرصًا عليّ وعلى مكتبي وعملي منقطع النظير ...
وفي منتصف الشهر الثاني أتى إلى مكتبي بعد بداية الدوام بساعة تقريبًا مرتدياً ذلك البشت الأحمر الثقيل الذي لايلبسه إلا المقتدرين من الناس ..وبدأ معي بالحديث .
- يا أخ علي.... أيش رأيك في الأسهم.
- أنا لا أملك إلا راتبي .
- والله هناك أرباح خيالية لدى الذين يشتغلون بها .
- اللي الله أ عطاه مال يقدر يتاجر به.... وهذه فرصة ...ياليت عندنا فلوس ونشتغل زي الناس .
- فيه بعض الناس اشتغلوا وربحوا وهم ماعندهم شيء .
- مافيه أحد يتاجر بدون فلوس .
- فيه ناس كثيرين وبأيدينا.أن نكون منهم وأحسن منهم أيضًا .
- كيف ؟
- هذا الصندوق الموجود عندك......عمره جاء إليك مفتش ...... لنا أكثر من سنتين ما جانا ولا مفتش واحد .
- هذا صحيح.(1/4)
- إذا بإمكاننا أن نعمل في الأسهم أنا وأنت وأن نسحب الفلوس في نهاية كل يوم أو كل أسبوع ثم نأخذ الفوائد ورأس المال في محله لانتعرض له وسيبقى الرصيد مثلما هو. وأنا أتحداك... أننا بعد ثلاثة أشهر سوف نكون نشتغل بألارباح فقط.
- يا ابن الحلال هذه مسئولية.
- أنا وأنت في المسئولية سواء.
- لكن العهدة عهدتي .
- وأنا رئيس القسم ...... المسئول عنك وعن عهدتك.
- أعطني فرصة أفكر.
- لا عاد تفكر.يا شيخ خلنا نخرج من الفقر الذي قد لف أيدينا.هذه فلوس مجمدة .نشغّلها .. وهي زي ماهي وتصدّق إن كل أمناء الصناديق يعملون هذا .... بس إنت خواف .......وأنا وإنت في مركب واحد ولن يطّلع أحدًا على هذا الأمر بل يكون الأمر في غاية السرية .
- أيضًا أعطني وقت أفكر فيه.
- إذا ينبغي أن تفكر بصوت غير مسموع .
- ماذا تعني .....؟
- أعني إنك إذا أخبرت أحدًا بهذا الأمر فسوف ينكشف أمرنا .
- لا تخااااااف لن يعلم بذلك أحدا ...... وإنما دعني أفكر ...بيني وبين نفسي .
- الله يهديك (.قالها بنفس الضحكة التي أعرفها ) ياشيخ والله انك خواف فعلا ..... الناس وصلوا إلى السماء وأنت كل يوم آتي وأجدك تعدّ الفلوس الموجودة بالصندوق ..... الحقيقة إنك خواف بشكل غريب .
- لا خواف ولا شيء لكن من حقي أن أفكر .أليس ذلك من حقي ؟
- بل من حقك لكنك أنت الآن شاب بحاجة إلى الزواج ومصاريف وصدقني إذا اشتغلنا أن جميع مصاريف الزواج ستكون من أرباح الأسهم.
- دعني أفكر حتى يوم غد على الأقل .
- خلاص .......بس اغتنم الفرصة تراها فرص وأنا سوف أقوم بتغطية المبلغ في دفاتر السلفة بأرقام وهمية .. وخل ..أي واحد يجي يكشف هذا الأمر . أنا أتحداه لو كان معه دكتوراه في المحاسبة
- يكون خير .إلى بكره .وأعطيك خبر .
لم يتركني رئيس القسم إلا وقد زرع في عقلي فكرة الأسهم والمكاسب التي سوف أحصل عليها ولكن كيف يتم سحب المبالغ وكيف ستتم تغطية العجز في الصندوق في حال اكتشافه ؟(1/5)
وكيف سيتم التعامل مع الأسهم ؟
بدأت معه في وضع خطة لسحب الأموال من البنك وذلك بسحب مبالغ زيادة عن الحاجة عند سحب أي مبالغ لتغذية الصندوق من البنك ومن ثم أضعه أنا في حسابي الخاص للدخول به في سوق الأسهم وهكذ حتى توفر لدينا مئتا ألف ريال
لازال بي الخوف وعدم الثقة من صاحبي خصوصًا بعد أن أوهمني أنه هو الذي سوف يقوم بعملية البيع والشراء ووضع الفلوس في محفظته التي تعتبر جاهزة للعمل منذ زمن إلا أنني خفت أن تذهب الفلوس في حسابه إلى غير رجعة .
وهكذا قمت أنا بفتح محفظة في بنك آخر وتم وضع الفلوس بها وبدأت أعمل من جهاز الكمبيوتر الخاص بي في البيت .
كان يأتي اليّ في كثير من الآيام ويقضي عصرية يومه عندي في البيت ونقوم أنا وهو بعمليات المضاربة والبيع والشراءحتى ارتفع المبلغ إلى 350ألف ريال وقمنا بأقتسام المبلغ الزائد عن رأس المال فأخذ كل واحد منا خمسة وسبعون ألف ريال ومشت أمورنا على الوجه الأكمل .
وأعدنا الكرة مرة آخرى وسحب كل واحد منا أربعون ألفًا .......كنت خلال هذة الفترة أُنفق ببذخ زائد واشتريت لي سيارة وخطبت إحدى زميلات أختي وكنت سعيدًا بتلك الخطوبة وبادلتني خطيبتي شعورًا بالسعادة أيضًا .
وأخذت أجزل لخطيبتي الهدايا واغتنم كل لحظة من الوقت وأذهب إلى بيتهم لكي أراها أو أجلس معها وعشت بعض الأيام الحلوة في حياتي التي لا أزال أذكرها .
كنت أشعر أني أكبر من عمري وأنني قريبًأ سوف أصبح مليونير.
أو أن كل شيء في طريق حياتي مزروع بالورد ...كان عملي في الإدارة على الوجه المطلوب وبدأت تتغير نظرة مدير الإدارة اليّ وأخذ يوكل الي مهام لا يثق في غيري لتنفيذها وكثرت لي الإنتدابات وأصبحت حالتي المادية ممتازة بالنسبة لشخص في مثل مرتبتي الوظيفية .(1/6)
ودارت الأيام وبدأ سوق الأسهم في الانهيار وكل يوم كان يمر علي كانت أسهمي يحترق من قيمتها جزءاً ومن سوء الحظ أنني كنت أبيع وأشتري في أسهم الخشاش كما كان يحلو لهم تسميتها بعد الانهيار ولم أفق من صدمتي في تلك الأيام حتى خسرت 140 ألف ريال من رأس المال .
وبدأت أنزف من عقلي وصحتي وتغيرت ملامح وجهي وظهرت عليّ الكآبة والقلق ...(كاد المريب بأن يقول خذوني )
ذهبت إلى رئيس القسم وشرحت له الوضع ...
ـ الأسهم طاحت يابو سعيد ....
ـ بس إحنا الحمد لله ..في السليم .
ـ أي سليم ... لم يعد من الفلوس شيء .
ـ لاتقول ...هذا الأمر مافيه مزح .
ـ أنا لا أمزح والفلوس راحت .
ـ راحت فين ....؟
ـ أكلها السوق ..... كل الناس طاحوا على ركبهم .
ـ طاحوا على ركبهم أو على ظهورهم أنا مالي دخل .. أنت أصلك بليد ولا تعرف تتصرف . أنت ما أنت شايف إن السوق متضخم ....ليش ما تطلع مع اللي طلعوا ...... ليش ما تعرف إن هذي الفلوس ماهي فلوس أبوك وعلى الأقل تعيدها للخزنة ... أنا ما شفت في حياتي والله أبلد منك ... ... (صمت قليلا ثم قال:...)عندي ألفين ريال مصروف البيت أعطيك إياها ..( ومد يده الى جيبه ).
ـ المبلغ الذي خسرناه 140ألف ريال .
ـ كم ...كم......كم....... أعد ماقلته ..(قال ذلك بسخرية وبلهجة هجائية فيها من التهكم والإستخفاف مالم أسمعه في حياتي).
ـ يا أخي هذا الواقع وأنت كنت معي وتسمع على الأقل من الناس .
ـ أنا ماكنت معك ..... أنت كنت الكل في الكل وتقول إنك تعرف أكثر من الناس كلها ...... أنا لا أصدق إنك خسرت هذا المبلغ كله .
ـ ماذا تقصد ؟
ـ أقصد أنه بودي أنك تبحث عن الفلوس .... يمكن راحت هنا والإ هنا ...... وربما تجدها .
ـ ياشيخ اتق الله أنا وأنت في مركب واحد ... كما كنت تقول .
ـ أنا أريدك أن تبحث عن الفلوس كما قلت لك ..ولابد ما تجدها نعم .... لابد أن تجدها .
ـ الموضوع جدّي وأنا الآن مجبور أغطي عجز الصندوق .(1/7)
ـ غطّيه ........ وأنا الآن أقول لك غطي عجز الصندوق حتى لايجي لك فضيحة فالعهدة عهدتك وأنت المسؤل عنها .
ـ وأنت شريكي في كل شيء.
ـ أنا لا أنا شريكك ولاشيء .
ـ فين كلامنا ذاك اليوم .؟
ـ للأسف كنت أحسبك رجل أستطيع أن أتّكل عليه .
ـ يا أخي لا تتكل عليّ .......أعطني نصف المبلغ الذي خسرناه ولاعاد تتكل عليّ .
ـ مالك عندي شيء .....وإذا لم تسدد عهدتك في خلال ثلاثة أيام فلا تلوم إلا نفسك .
ــ من أين آتي بالمبلغ ؟
ـ بكيفك .......دبّر نفسك ..
ـ دبّر لي ربع المبلغ وأنا سأدبر المبلغ المتبقي .
ـ أنا ما عندي إلا ألفين ريال قلت لك و محتاجها .
ـ يعني كيف ؟
ـ يعني دبّر حالك .
ـ كيف أدبّر حالي وأنت الذي ورطتني .
ـ أنا ما ورطت أحد ... كانت فكرة وأنت قبلت بها وأنت مستفيد أيضًا .
ـ لكنك شريكي .
ـ ليش ما تطلع من السوق ؟
ـ كنت أفكر إن السوق سوف يعود .
- هذة غلطتك .
- كيف غلطتي ...... كل الناس خسروا .
- إذا .... أنت واحد من الناس .
- لكني اقتسمت أنا وأنت الأرباح .
ـ غلطة وعّدت.... وكان من الواجب أن تخرج عندما رأيت السوق مرتفع .
- وآخر الكلام ؟
- أنا ما عندي شيء .
- ومن يعيد الميتين ألف ريال ؟
- أنت وحدك .
- وأنت ....؟
- ما أخذت شيء و ما أعرف شيء . ( وعند ذلك خرج من مكتبه وتركني جالس لوحدي ) .
كنت أتوقع منذ انهيار سوق الأسهم وانخرط رصيدي الى 60 ألف ريال أنني ذاهب إلى السجن وتبلد إحساسي .
وذهبت إلى البنك وبحكم معرفتي بهم خلال السنوات الماضية طلبت منهم أن يقدموا لي سلفة بـ140ألف ريال إلا أنهم اعتذروا بأن لديهم تعميم من الإدارة العامة في الرياض بأيقاف جميع القروض.
وتوسلت إلى المدير نفسه إلا أن الجواب كان واحدا.....إن القروض موقوفة .
كنت أينما اتجهت ألتقى أحد ضحايا الأسهم..... فمن تطلب..... ومن الذي بقي لديه أيّ مبلغ يمكن أن يسلفني........ حتى أسدّد ذلك المبلغ .
وقال كل صديق كنت آمله(1/8)
لاالهينّك إني عنك مشغول
( كعب بن زهير )
بدأت أتوقع دخول السجن بين لحظة وأخرى .
كنت أرى الناس كلهم شرطة ومباحث ...... نساء ورجال وكأنهم موكلين بمراقبتي حتى استسلمت للأمر قبل وقوعه .. ودخلت السجن قبل أن يقبض عليّ .... وذات يوم بينما أنا جالس على مكتبي أتى إليّ ضابط من الشرطة واثنان من معاونيه مع مدير إدارتنا ورئيس القسم.
وسألني .
- أستاذ /علي حسين الحمود ؟
- نعم أنا .
- نريد أن نقوم بجرد الصندوق .
- لماذا ....؟
ـ لدينا أمر بذلك ؟
- من أين ....؟
- هذا ليس من شأنك .
وأخذني من يدي وسلمني إلى الجنديين اللذين كانا معه
وطلب مني مفتاح الخزنة ,
ثم قام بفتح الخزنة وبعد عد النقود الموجودة بها قام بكتابة محضر بذلك بحضور مدير الإدارة ورئيس الإدارة المالية وقاما بالتوقيع معه على ذلك المحضر وطلب مني أن أوقع في المحضر... ثم سألني :
ـ أين المبلغ المتبقي ...؟
- لم أجب .
- هيا معنا إلى الإدارة لنستكمل التحقيق ..... فتناولاني زميلاه وقاما بوضع القيود في يدي وأخذاني إلى خارج المكتب بعد أن أقفلت مكتبي وأخذ مني مفتاح المكتب..
كنت أمشي بين رجال الشرطة أمام زملائي والقيود في يدي وكنت أسمع من زملائي كلامًا أفهم بعضه وبعضه لا أكاد أسمعه لكنني أعلم أنهم لا يحسدوني على ذلك المنظر ومنهم من يترحّم علي بطريقة هجائية
* لاحول ولا قوة إلا بالله .
* حسبنا الله ونعم الوكيل .
* شدة وتزول يا أبو حسين .
* وكّل أمرك الى الله .
* الرجّال كان يحسبها فلوس أبوه ( ثم يتبعها بضحكة تهكمية)..
* هذا نتيجة التهور .
* هذا سوق الأسهم ما ترك بيت بدون مصيبة .
* الله يجازي اللّي كان السبب .(1/9)
أخذني رجال الأمن إلى سيارتهم الجيب ومن ثم وصلت إلى إدارة الشرطة وقد عرفت بعد ذلك أن بعض العملاء قد أعطي شيكا من الإدارة ولم يجد في الرصيد ما يغطي قيمة الشيك فأبلّغ الشرطة بذلك وعرفت أيضًا أن الإدارة عندها علم بذلك قبل وصول رجال الأمن وأن مديرنا ينطبق عليه قول أبو سفيان رضي الله عنه ( ما أمرت بها ولاكرهتها )
أما السيد عباس فقد كنت أتوقع منه كل شيء فهو الذي يعلم عن وجود عجز في الرصيد .. لكني كنت مستسلما للأمر وأدري أنني ذاهب إلى هناك .
عندما وصلت إلى الشرطة أدخلوني في غرفة بها ثلاثة كراسي جلست على أحدها وأُغلق الباب عليّ وجلست لوحدي لمدة ثلاث ساعات تقريبًا, وقبل المغرب بقليل جاءني أحد الجنود يطلب مني مقابلة الضابط :
- السلام عليكم .
- وعليكم السلام .... بصوت لا أكاد أسمعه , وأخرج لي مذكرة تحقيق ودوّن فيها بعض الأسئلة المتعلقه بالمعلومات الشخصية مثل اسمي وعملي.........الخ.
كتبت أجوبة على تلك الأسئلة وناولته المذكرة .
ثم وضعها أمامه ووضع كوعيه على المكتب وأسند وجهه إلى راحتيه متكئا على المكتب :
- شوف .لا داعي للإنكار والتعب والجدال .أنا أريد الحقيقة وعند ذلك .. أنت ترتاح وأنا أرتاح .
- هذا صحيح
- أعطني القصّة من أولها وإذا تعاونت معنا في موضوع التحقيق فسوف أحاول مساعدتك بما استطيع .
- وهو كذلك .
- إذا أين ذهبت الفلوس ...؟
- هل تريد القصّة كتابة أو شفهيًا .ومن ثم تسأل عن أي شي وأنا اجاوبك عليه .
- لا مانع ... هات ما عندك شفهيا أولاً .(1/10)
- يا سيدي أنا موظف بسيط وكنت حريصًا على العهدة التي عندي كل الحرص حتى أنني أجرد صندوقي في اليوم مرتين أو أكثر وكنت أطابق الأرصدة في دفاتر السلفة مع الرصيد الموجود لديّ في الصندوق وفي البنك بالريال وحتى بالهللة وهكذا ..كان عندي كل شيء على الوجه المطلوب وأنا من أسرة طيبة ولا أنظر الى شيء لا أملكه ولكن أساس القصّة يا سيدي ...............وسردت له القصّة .
- السيد عباس ....؟
ـ نعم ...
- بدأ الرجل يتحرك فوق الكرسي يمين وشمال وبدأ وجهه يتغيّر وتنشّد أجاعيد وجهه ... ثم يقطب حاجبيه حتى خفت منه .
استمرّيت أشرح له القصّة بكل صدق وعفوية تامة .
- دق الجرس كان بجانبه فحضر الجندي الذي كان يقف أمام غرفته فحسبت أنه سوف يطلب منه أن يأخذني إلى الغرفة قبل أن أنهي كلامي .
- هات اثنين شاي
- حاضر ...ثم انصرف
- إلتفت إلى ثم قال :أكمل .
- لقد أخبرتك بكل شيء.
- هل تستطيع أن تكتب كل ما قلتة لي .
- نعم .
- ولا تترك كلمة واحدة .
- حاضر .
- ....خذ اكتب وناولني مذكرة التحقيق (ثم قال ):عندك ما يثبت تورط رئيسك المباشر في هذه القصة .
- للأسف .لا .
- إذا ماذا يريد.؟
- تقصد أنه ........
ـ لم يدعني أكمل حتى قال . ......: نعم هو الذي أوعز لصاحب الشيك أن يبلغ عن وجود نقص في رصيد الإدارة..... لقد حضر بنفسه مع صاحب الشيك فما هي مصلحته في ذلك ...؟.
ـ لا أدري ما هي مصلحته . ربما يريد أن يثبت أنه بعيد عن الموضوع ... أو حتى يستبق الأحداث ولا يلحقه أي مسئولية .
- الأ يوجد لديك أي شيء ممكن أن يساعدك في تحميله جزء من المسؤلية .
- للأسف لا .
- بيني وبينك ..... القضيّة أنت ستدان فيها ........فالعهدة عهدتك وليس له أي أثر في هذه الجريمة ...
- أنا أعرف ذلك .
- لماذا صدّقته من البداية ...؟.
- هذا قدري وأنا أتحمل المسئولية .
- هذا صحيح .لكن من واجبك أن تحتاط منه ....إتفاقية أو أي مستمسك ممكن أن يساعدك في إشراكه في المسئولية .(1/11)
- هذا قدري وكفى.
- لا أستطيع مساعدتك فالاختلاس أو التصرف في العهدة بطريقة غير مشروعة ثابت عليك .
- أنا أعرف ذلك ودع القضّية تأخذ مجراها الرسمي .
- سوف أحاول على الأقل أن أطلب منه أن يردّ المبالغ التي استلمها حتى تساعدك في سداد النقص الحاصل .
- هذا الأمر بينك وبينه ....أنا أعرف أنه لن يعترف لك بشيء.
- دخل ا لجندي بكوبين شاي وأنا في حينها أدركت ان ذلك الضابط قد تأكد أنني أحد المغفلين الذين لا يمكن أن يحميهم القانون فأشفق علي وأراد بذلك الكوب الشاي أن يظهر شفقته عليّ وشربت الشاي ثم طلب مني أن أعود إلى الغرفة .
- لقد صلى الناس صلاة المغرب وأنا احتاج إلى سجادة أو أي فراش أصلّي المغرب .
ـ سوف يأتيك الجندي بسجادة تصلي عليها .
ـ أكون شاكرًا لك .
- بعد قليل سوف تذهب إلى السجن العام وهناك سوف تجد فراشا.... ..كنت أتمنى أن أساعدك ولكن بعد هذا الكلام ..... فأنت ذاهب إلى هناك لامحالة .....فلماذا تبقى في الغرفة لوحدك .
وثق تمامًا أن في السجن كل الوسائل التي ممكن أن تتسلى بها وأبسطها أن تتحدث مع النزلاء .فالقضية ثابتة عليك ... لكنني أريد أن أسألك سؤال أخير ....:
- ما هو ....؟
- هل تستطيع أن تسدد المبلغ عاجلاً وعند ذلك يمكن أن ترفع المعاملة إلى المسؤلين ويرفق بها ايصال الإيداع ونطلب تخفيف الحكم عليك أو إطلاق سراحك بكفالة ؟
- لا أستطيع.......... لقد حاولت ولي الآن أكثر من أسبوع .ولكن الناس راحت فلوسهم في الأسهم ومدير البنك يقول إن القروض قد أوقفت من قبل الإدارة العامة ولم آلو جهدا في ذلك وألا لكنت سددت المبلغ قبل أن أصل إلى هنا .
- إذا أنا سأكتب مذكرة لنقلك إلى السجن العام حتى ينتهي موضوعك.
- أمري إلى الله.
- هذه عاقبة التهور .
- والأقدار تأخذ مجراها وهذا قدري ..(1/12)
- قم إلى الغرفة حتى أنتهي من كتابة الإوراق المتعلقة بنقلك إلى السجن العام ......... ثم قرع الجرس وأتى الجندي وأمر بإعادتي إلى الغرفة .
- سؤال أخير لو سمحت ...؟
- ألم يأت من أقاربي من يسأل عني ....؟
- لم أرَ أحدًا.
- شكرًا ....
عدت إلى الغرفة ولم يطل بي الانتظار كثيرًا حتى جاء الجندي يطلب مني الذهاب معه إلى السجن ...... ونزلت معه إلى الدور الأرضي فإذا سيارة الجيب تنتظرني عند باب الشرطة والتي أخذتني مع اثنين من الجنود الى السجن العام وهناك أدخلت إلى غرفة كانت قريبة من باب السجن الرئيسي .والقيود في يدي وجلست على كرسي من الخشب شبيه بالكرسي الذي كنت جالس عليه في إدارة الشرطة.وأحسست بجوع عاطفي لم أحس به من قبل ...
? أحسست بجوع إلى من يسأل عني أو يواسيني أو حتى يصيح في وجهي من أقاربي أو من زملائي .
? أحسست بجوع إلى الأكل أيضًا فأنا من البارحة لم ابتلع لقمة واحدة ...
? أحسست بجوع إلى البكاء فأنا أريد أن أبكي لكن دموعي قد نشفت فكيف أبكي وقد جفت حتى عواطفي ,
? وأحسست بخيبة أمل تملأ حياتي والكون الذي أعيش فيه .
كل خمس دقائق أو أقل كان يدخل جندي أو عريف أو غيرهم ثم ينظر إلي بنظرات موجعة أحسها كسياط تجلدني وكان بعضهم يسلم ويسأل وأجاوبه على أسئلته وبعضهم لايدعني أكمل كلامي ويتركني وينصرف . والبعض الآخر يأتي ثم يحملق عينيه فيّ ثم ينصرف .
دخل علي أحدهم برتبه رقيب :
- أين أوراقك ؟
- لا أدري .
- ماتدري ....ليش جيت عندنا إذا .. ..
- جابتني الأسهم .
- وش جريمتك ......؟
- الأوراق عندكم ...
- أقصد ليش جيت .. وشهي قضيتك ..؟
- يا أخي أنا جوعان من البارح ما أكلت لقمة أريد أن أكل وبعدين أسأل عن ماتريد .
- ضحك .... أعتقد أنك تفتكر أنك معزوم عندنا .
- لا ....أنا أدري إني ماني معزوم.......لكنني جائع... والسجن كما نسمع عنه أنه تهذيب وتأديب..
- هذا صحيح وأرجو أن لا تأخذ كلامي بحساسية .(1/13)
ـ أبدًا فأنا لم يعد يهمني شيء والدنيا تحكم يا ابن الحلال .....أعطني إذا سمحت ماء على الأقل إن ريقي ناشف .
......جلس على كرسي كان بجانب المكتب ...
- كأنك مثقف........ قل لي ويش هي قضيتك .
- خليها على الله ...أعطني ماء أو أكل وأتركني الآن فأنا فيني ما يكفيني
- يا عسكري
- دخل أحد الجنود ...ثم ألقى التحية .....نعم .
- خذه إلى المطعم.... خلّه يأكل .
- حاضر .
- خليّك معاه وإذا خلص تعال معاه .
- حاضر.
أخذني ذلك الجندي ودخل بي الي المطعم الذي قد أطفئت أنواره ولم يبق به إلا ضوء بعيد في أقصى العنبر...رأيت به ..أحد العمال قد استلقى على فراشه داخل المطعم فصاح فيه ذلك الجندي .
- قوم يا عصام .
- استوى جالسا .......نعم
- هات أكل وماء لضيف جديد .
- خلص العشاء يا أخي.
- أعطني أي شيء.... سوّي لي سندويش .... أعطني ماء أبغى اشرب (قلت له ذلك بصوت مكسور به نبرات عاطفية ).
كان يحدثني وبيني وبينة شبك النافذة
- يعني ما تخلونا ننام...... لاحول ولا قوة إلا بالله .
- صاح فيه ذلك الجندي..... أقولك قوم بسرعة .
- دخل إلى غرفة يظهر أنها مستودع وأتى برغيف خبز وقطعة جبنة وزجاجة ماء صغيرة غير باردة
- ما عندك ماء بارد
- عندي........ ثم ذهب وأتى بزجاجة أخرى باردة وعدت مع ذلك الجندي إلى الغرفة التي كنت فيها فوجدت ذلك الرقيب يشرح على معاملتي وسألني بعض الإسئلة الشفهية ومن ثم أمر أحد الجنود بألذهاب معي إلى عنبر3........
استلمني آمر العنبر وقام بتسليمي سرير وفراش ...
وصلت ورجلاي لم تعد تحملاني إلى ذلك السرير فألقيت بجثتي عليه ونمت حتى ا لصباح..... وعندما استيقظت في الصباح رأيت المساجين الذين معي في العنبر قد جلسوا على أسرّتهم فأخذت أختلس النظر إليهم واحد بعد الآخر.
* هذا شعره كثيف وشارباه طويلان..... لابد أن يكون قتّال قتلى.ولابد أن أحذر من الجلوس معه أو التعرّف عليه .(1/14)
* هذا نحيف وقد حلق رأسه..... أكيد هذا من تجار المخدرات .
* هذا قصير القامة.... لكن حركاته كثيرة ....لابد أن يكون حرامي .
* طيب ...(أنا الآن حرامي أيضا قانونًا ).....حتى ولو كان ذلك غصب عنّي إلا أنني أعتبر حرامي .
* ياالله........... ماذا ستكون الأخبار عني في القرية.
* السالفة هذه... تطول وهذه السالفة تقصر في نفس الموضوع .
* ما هي الأحاديث عني الآن .
* كيف سيصل الخبر إلى خطيبتي وماذا سيكون ردة الفعل لدى أهلها.
* أكيد أخوها مسفر سوف يأخذها ذريعة لفصل الخطوبة .سيما أننا لم نعقد الملاك بعد وهو لا يكنّ لي الود أساسًا ..
* ماذا ستكون ردة فعل أخي محمد والذي يبني حياته على المثاليات وقداسة العادات والتقاليد .
* ماذا سيتحدث به عني شباب القرية في اجتماعاتهم وسهراتهم ومن سيدافع عني .
* من سيقول أنه مضحوك عليّه ومن سيقول أنه فعلا حرامي ومن سيقول إن لكل إنسان خطيئة .....ومن ذا الذي لا يخطئ ...... وكم من أناس عملوا أكثر مماعملت أنا , لكن الله ستر عليهم ومرّت بسلام .
* من ........من........من.........
كل ذلك وأنا لازلت على فراشي في صباح أول يوم من أيام السجن وفجأة....... قرع الجرس وقام كل من في العنبر واستوى واقفا إلى جانب سريره . وأتى إليّ رجل في سن الأربعين تقريبا واقترب مني
- أنت جديد..؟
- نعم أنا جديد ..... (لابد أنني جديد وهو يقصد أنني ضيف جديد أو سجين جديد ) .
- متى جيت ...؟
- منتصف الليل .
- عساها خفيفة ...؟
- اختلاس ...
- حرامي يعني .... ( أول إنسان يقولها لي )
- لا ماني حرامي تقدر تقول بليد ... أو مضحوك عليه.
- كلكم تقولون ذلك ...... المبلغ طيب ...؟
- تحت الصفر .
- ليش ما رديت المبلغ لصاحبه أحسن من السجن أصلحك الله .
- ما عندي شيء .
- فين راحت الفلوس التي أخذتها ...؟
- أكلها سوق الأسهم ...
- ضحك.......إنت من تجار الأسهم ....ثم ضحك مرّة أخرى.
- لا من ضحايا الأسهم .(1/15)
أخذ بيدي ..... هيا تعال نفطر وبعدين علمني بسالفتك ياتاجر الأسهم.
- توكل على الله .
- أمشي خلفي ومثلما أفعل عليك أن تفعل . وتلك الطاولة وأشار إلى إحدى طاولات الطعام... نجلس أنا وأنت عليها , وفعلت مثلما طلب مني وجلست مقابل له على تلك الطاولة التي أشار إليها وأخذ يسألني
- من أين أنت ..؟ ..؟ وكم حكم عليك...؟ و شيء من هذه الأسئلة .
و كان دوري مقتصرا على الإجابة المختصرة .. كما أنني أحسست أنه طيّب ..وكانت أجوبتي كلها صحيحة , وكأنني أخرج من صدري حملا ثقيلا .. ثم قال لي بعد ذلك ..:
- إذا خلّصنا الفطور تعال نجلس أنا وإياك ياتاجر الأسهم واشرح لي بالتفصيل وأنا سأشرح لك قضيتي فيما بعد ....ولعل الله قد أرسل لي صديق أجلس معه ويجلس معي فأغلب هؤلاء النزلاء أنا لا أرتاح لهم .
- تعني أنك قد ارتحت لي ....؟.
- نعم إنني أشعر بذلك .
- بشّرك الله بالخير... لكنك تقول لي حرامي قبل قليل.
- أبدًا ....لاتأخذ عليّ كل كلمة أقولها .. أنت من الآن اسمك تاجر الأسهم ... لكن قل لي..... إنت متزوج..؟
- لا أبدًا.....
- وهذا في صالحك .
- ليش .....؟
- بعدين أقول لك...
بعد ذلك عدنا وجلسنا في غرفة الصحف والمجلات وطلب مني سرد القصة..
أخذ ت أنا أسرد في قصتي مع الأسهم..... وبعد أن انتهيت... ضحك ثم قال..:
- الحمد لله ..... قضّيتك بسيطة وأكبر ما فيها سجن والسجن ما منه أي ضرر لكنك تستاهل ... وخلّك تأخذ بها قلب وهذا زميلك لابد أن يعاقبه الله إما في الدنيا وإما في الآخرة ولا يضيع عند الله شيء.
- كأني أفهم من لهجتك إنك من جنوب المملكة .(1/16)
- هذا صحيح أنا من جيزان ومشكلتي أكبر من مشكلتك ولكن أنا أنتظر الفرج من رب العالمين فهو وحده الذي يعلم أنني بريء وذرفت دمعتين من عينيه فآثرت السكوت ... فلا أريد أن أثير همومه ......لكنه تركني وقام إلى دورة المياه فغسل وجهه وجلس ولم أستطع أن أبحث معه الموضوع مرة ثانية في ذلك اليوم ..ألا أنني علمت من بعض النزلاء فيما بعد أنه كان حارسًا في إحدى السجون وهرب من ذلك السجن بعض المساجين وأُتهم أنه قد تلقى رشوة مقابل السماح لهم بالخروج أو التدبير لهروبهم من السجن ,... كان بعضهم ......تجار مخدرات وبعضهم مطلوبين بدماء فكان أول من أدخل السجن هو وثلاثة من الحراس الآخرين الذين كانوا معه في تلك الوردية ولم يصدر بحقهم حكم بعد ....,
كان صاحبي هذا اسمه علوان .. ذا لحية خفيفة......
عندما لا يكون جالسا معي كنت أراه سارحًا وكأنه أحيانًا يكلم نفسه.... وذات يوم سألته عندما رأيته في تلك الحالة...؟.
ـ ما بك ؟
- تسألني ما بي ؟
- نعم أراك ذاهلاً وكأنك تفكر كثيرًا .
- نعم .إنني أفكر في الوضع الذي أنا فيه .
- أنا لا أفهم شيئا فأنت لم تعلمني بقصتك . إلا أنني سمعت من أحد النزلاء أنك كنت تعمل في أحد السجون وهرب بعض السجناء منه ولذلك تم إيداعك السجن .
- أنت ماشاء الله عليك ... عارف القصّة كلها .
- لكنني أريد أن أسمعها منك فقد أخبرتك بقصتي كاملة ...... أو لعلك لاتريد أن تخبرني عن شيء من ذلك .
- قصتي مؤلمة .فهل تريد أن تسمع ..الألم ؟
- لقد أخذت على الألم ......فأخرج لي ما في صدرك لعلك ترتاح أنت بعض الشيء من عناء هذا الألم .
- أنا لن أرتاح وأنا هنا..... .لكن تعال واسمع قصتي .....
ذهبنا إلى قرب البوفية وطلبنا كوبين من الشاي وبداء يشرح لي قصته....:
أنا رجل أمن.....اشتغلت في مصلحة السجون منذ أن كان عمري 24 سنة حتى وصلت إلى رتبة رئيس رقباء.. وأخير استقر بي المطاف في إحدى محافظات جيزان وكنت رئيس دورية مناوب .(1/17)
كان تحت إمرتي ثلاثة أفراد وثلاثة صف ضابط واستقر بي المقام في المحافظة التي أنا فيها وتزوجت من قريتي ولي بنت واحدة ....ولعلك تتذكر عندما سألتك أأنت متزوج أم لا ......فقلت لك من الأفضل أنك غير متزوج .
- نعم هذا صحيح..
- كان السجن يضم عدد كبيرا من اللذين أعرفهم.... فهم من المحافظة التي أنا منها...
- أكمل ...
- كنت أقابل عندما أدخل إلى العنبر أحيانا بالترحاب والتحية من أغلب المساجين وكان أحد أقاربي من نزلاء السجن ... وكان مطلوب بدم على إثر نزاع بينه وبين خصمه على طريق في القرية.وكنت أذهب لزيارته أحيانا والجلوس معه ....إلا أنني لم يكن بيني وبينه أكثر من تطمينه على أهله أو نقل أخبار القرية إليه.... وهذا الأمر قد يكون حتى مع بعض السجناء الآخرين.
- أكمل.
- كنا نتناوب على دوريات حراسة الأبواب كل دورية تمسك12 ساعة وكان في الدورية التي أنا آمر عليها جنود وصف ضباط من محافظتنا ومن محافظات ومناطق أخرى
وذات ليلة .....كان الوقت في الرابعة صباحًا سمعت صوت أجراس السجن وأضيئت الأنوار وتم استنفار الجنود واستدعي الجنود والضباط اللذين هم خارج الدوريات .....كنت في حينها نائماً في غرفة الإستراحة التي بجانب بوابة السجن . فقمت فزعاًً واتجهت إلى مكتبي فوجدت المديرالعام جالسًا على مكتبي والغرفة قد امتلأت بضباط السجن .وصف الضباط وما حول المكتب يعج بالجنود من الشرطة وكذلك بعض أفراد الدفاع المدني ...لم أدري ما أقول إلا أنني أدركت أن هناك مصيبة قد وقعت .
- خير إن شاء الله .. ...( عندما وصلت إلى المكتب )
- خذوه .قال ذلك مدير السجن .وفورًا
قيدت يداي ورجلاي وبقيت أنظر إليهم لا ألوي على شيء .
- أريد أن أفهم ما الأمر .
- أين كنت ؟
- في الغرفة .
- هل أتيت لتتولى الحراسة وتشرف على الدورية أم جيت لتنام. ؟
- ما الذي حدث ....؟
- صح النوم....هل تريد أن تخبرنا بأنك لا تعلم عن شيء .(1/18)
- نعم أنا لا أعلم عن شيء .....فماذا حدث ؟
- ابن عمك واثنين آخرين هربا من السجن .
- هربا ..........؟
- كأنك لا تدري ....ربما (قالها باستخفاف ) .
- أنا لا أدري فعلا. فمن الذي هرب ؟
- شيلوه الى زنزانة مفردة......وبعدين تعرف.....
وأدخلت إلى السجن فترة من الزمن ثم نقلت الى هنا ... حقق معي أكثر من عشرين مرة . ولازالوا يحققون معي بين حين وآخر ...لقد اتهمت بتهريب ابن عمي من السجن وطالب ورثة المقتول بالتحفظ عليّ حتى يتم القبض على ابن عمي .
- هل كنت على علم بهروبه ..؟
- أبدا فألامر لا أعلم به الى الآن ..
- زملائك اللذين كانوا معك في الدورية ؟
- تم التحفظ عليهم أيضا لكنني لا أعلم عنهم شيء.
- وابن عمك هل قبض عليه أم لا .
- لا أعتقد أنهم وجدوه .. ربما أنه قد هرب الى اليمن .
- لماذا لم تقل ذلك في التحقيق ....... إذا كنت لا تدري عما حصل فعلا ..
- قلت ذلك .فلم يصدقوني .
- لماذا أنت موجود في هذا السجن ومشكلتك لم تكن هنا .
- هذه أمور لا تعرفها أنت...... وهذا في صالحنا حتى لانتعرض لأذى وهذه أمور نحن أعلم الناس بها إنني مرتاح لهذا .
- إلى متى ستبقى في السجن .
- إلى أن يجدوا اللذين هربوا أو يعترف أحد المناوبين من زملائي بالجريمة .
- لابد أن يجدوه إن شاء الله .
- أنا هذا ليس همي ووجعي .
- ما هو همّك إذا.....؟
- ....آه .همي إبنتي التي ماتت أمها في مرض الوادي المتصدع ولا أعرف عنها شيئا .
- ماتت أمها وأنت في السجن ...؟
- نعم .وأخذتها عمتها وهي تعيش معها .. لكنني لم أعرف عنها شيء منذ مدة...
- لا تخاف عليها ما دامت عند عمتها ..
- الله يتولاها..
- كيف أتت أخبارها إليك وأنت هنا.... وربما لا أحد يدري بوجودك هنا.
- هذا سر لا أطلع عليه أحد .....الله سبحانه ما يقطع .وهذه أخبار غير سارة ......وربما لو بقيت أعتقد أن زوجتي على قيد الحياة وأن ابنتي عند أمها .لكان خيراً لي .
- هذا صحيح..(1/19)
- وهذه قصتي .وهذ ا الآلم الذي أسرح وأفكر فيه ......إنها ابنتي .نعم إنها كبدي التي لا أدري أين هي .
- أعانك الله وكل شيء بأجره وسوف تخرج إليها بإذن الله بعد أن يظهر الحق وتعوضها عن أيامها التي عشتها بعيدًا عنها .
بقيت في السجن أسبوعًا كاملاً لم يزرني أحد من أقاربي أو من زملائي فأحسست بإحباط وصغار وهواني على الناس....
وبعد مرور أسبوع آخر... أتى إليّ أخي الأصغر مني سنًا.. سلمان والذي كان متأثًرا جدًا...... فعندما قابلني على شباك الزيارة لم يستطع أيّ منّا ان يتكلم بكلمة واحدة..... فأنا كنت أبكي من داخل السجن وهو يبكي من خارجه....... وكانت تلك الدموع هي وسيلة التحدث بيني وبينه..... ثم أشار بيده بعدها وودعني وانصرف ...وعدت إلى سريري أذرف ما بقى بعيني من دموع في تلك الساعة . ولم أفق إلا بذلك الرجل (علوان الجيزاني ) وهو يخبط على ظهري ويقول :
- قوم ياابن الحلال ..... قوم ما عليك خلاف ..... ّياليتك تتّعض بهاويا ليتك تأخذ بها درس قوي ... قوم انهض أنت رجل والرجل من العيب الكبير أن يبكي.... حتى وإن كانت المصيبة أعظم .... كيف لو كانت مصيبتك مثل بعض هؤلاء المساكين الذين لاينتظر أحدهم إلا الموت ...... انهض وامسح وجهك بذكر الله ولا عليك خلاف وأنت ستأخذ لك عقوبة بسيطة وتخرج ....وهذا الموضوع بسيط باقي على رمضان ثلاثة أشهر ويمكن إن الله يسهّل أمورك مع بعض المحسنين ويدفع عنك وتخرج ...... قوم ....وسحبني من يدي وذهب بي إلى مكان الوضوء وقال :
- أدخل توضأ والحقني في المسجد لقد قربت صلاة المغرب .
كنت أنا وذلك الرجل من أكثر النزلاء حرصًا على الصلاة في المسجد وقراءة القرآن فلم أجد في حياتي شخص أكثر منه حرصًا على قراءة القرآن فكان حتى وإن بقي عليه شي من السور الطوال عند إقامة الصلاة فإنه لا يخرج من المسجد حتى يتمها بعد الصلاة..
كنت أجلس أحيانًا أراجع حساباتي من جرّاء تجارة الأسهم ...(1/20)
# هذا أنا في السجن الآن بعد أن خسرت وظيفتي وخسرت سمعتي وخسرت فلوسي .
لكن كان يقابله أجوبة لا أدري من أين أسمعها ......
# هذا أمر مكتوب علي منذ أن خلقني الله .
# لعل في ذلك خير ولعل وجودي هنا في السجن قد دفع الله به شرا أكبر منه .
# نعم كل ما يأتي من الله طيب ,.... لاحول ولا قوة الابالله.
كانت علاقتي مع الباحث الاجتماعي حسنة جدًا فقد زرته في مكتبه مرات عديدة وبحث حالتي ورفع معنوياتي..... وذات يوم عرض عليّ المساعدة في أعمال المحاسبة في إدارة السجن فوافقت وكان يحضر لي في مكتبه... بعض المسيرات فأقوم بإعدادها واجمع حساباتها واستطعت أن أكسب مودة العاملين في قسم المحاسبة ووعدوني خيرًا عندما تصلهم لجنة التسديد عن السجناء وكنت من كثرة ما أذهب إلى مكتب الباحث الاجتماعي يحسبني بعض السجناء أنني موظف في إدارة السجن .
تكررت بعد ذلك زيارة أخي سلمان إليّ وكان في كل مرة أقلّ تأثرا من المرة التي قبلها وأخبرني بأخبار القرية وما يتحدث به الناس عني إلا أن أسوأ خبرين سمعتهما منه ......كان أولهما...... أن أبي رفض زيارتي بحكم ما شحنه به أخي محمد ........ بأنني مختلس وحرامي وقد شوهّت سمعة العائلة فطلبت من سلمان أن يقوم بإقناع أبي أو أن يبلغه رسالة مني..... وأن يوضح له أنني لم أختلس ريال واحدًا ولو بقي سوق الأسهم على حالته لسددت المبلغ وأنا.. قد قلت ذلك في التحقيق .... ولو عادت الأسعار على ما اشتريت بها لسددت المبلغ .أما الخبر الأخر فإنه..... فسخ خطوبتي من تلك البنت التي أحببتها.... فقد أتى أخوها إلى والدي وطلب منه الحلّ من هذه الخطبة... لأنه تقدم لها شخص غيري وكأنني .... فوق البيعة.... ولم يشاورني أحد .... كما قال الشاعر :
الغافلون ويقضي الناس أمرهم السائلون بظهر الغيب مالخبر(1/21)
هذا ما عرفته من أمري أنا.... أما خطيبتي فلا أعرف من أمرها شيء ... هل كانت موافقة أُم أكرهت على ذلك ..... فزادت بذلك خيبة أملي ويأسي من الحياة ( واستوت عندي الأنوار والظلم).
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره إذا استوت عنده الأنوار والظلم
المتنبي
ودارت الأيام وشملني العفو الملكي وسدّدت عني الدولة من ضمن المسجونين المعسرين حينئذ.... وبمساعدة من موظفي السجن والباحث الاجتماعي .....وأعطيت شهادة حسن سلوك عند خروجي من السجن وغادرت باب السجن أحمل حقيبة كنت اشتريتها ..بل اشتراها لي مندوب مشتريات النزلاء أضع فيها ملابسي فوقفت عند باب السجن متفكرا ... إلى أين أذهب .....
* هل أذهب إلى البيت فبأي وجه سأقابل أهلي وماذا سأقول لهم
* انهج في أرض الله الواسعة ....لا....لا يمكن أن أذهب دون أن أشرح الأمر لأبي وأخي على الأقل وبعدها فليكن ما يكن ومشيت حتى وصلت إلى الشارع الرئيسي وهناك أوقفت سيارة هايلكس وطلبت منه أن يوصلني إلى القرية ....
وصلت إلى القرية وكان الوقت بعد المغرب .....
عندما فتحت الباب ودخلت الى البيت ...كان أبي لم يعد من المسجد ...فتحت باب المجلس ودخلت .....كانت رائحة بخور الندّ تملأ أجواء البيت ... أحسست أنني مشتاق لذلك البخور الذي تشتهر به قريتنا فأنت لا تدخل بيتا من القرية إلا تجد فيه تلك الرائحة الزكية ... أضأت المصباح ...... كل شيء كما عهدته .. هذه الجدران الزاهية البيضاء المحجلة بلون أزرق بارتفاع متر تقريبا من أرض المجلس ..... كانت جدران المجلس قد نقشت عليها مزهريات وورود فلا ترى إلا الورد أين ما أدرت عيناك ..... الله ...هذه القاعدة الحديدية لأعواد الندّ موضوعة على قاعدة خشيبة مثبتة في الجدار. كما هي ....نعم لم يتغير في المجلس شيء...
كانت أصوات أبناء أخي محمد تتعالى في الجانب الآخر من البيت وصوت أمهم وهي تناديهم أو تتوعدهم ينذرني أن هناك شر مستطير سوف ينبعث من البيت بعد قليل ...(1/22)
وضعت حقيبتي وجلست في المجلس انتظر من سيقابني أولا .. فكانت هي زوجة أخي التي فزعت عندما رأتني ...
- بسم الله الرحمن الرحيم ... علي ......متى جيت ...؟
- الآن ..
- الحمد لله على السلامة ..
- الله يسلمك ..
- تعالي ياساميه شوفي من عندنا ..( قالتها بصوت مرتفع)
جاءت أختي مسرعة من داخل البيت .......
- أهلا ...(ثم غلبتها العبرة فبكت)
- ......( لم أستطع الجواب أنا )
أتى بعد ذلك أخي سلمان وكل من في البيت وسلمت عليهم جميعا .....
جلست بين أخي سلمان وأختي ساميه وقد كانا فرحين بعودتي جدا واختلط معهم الفرح بالبكاء وبقيت في المجلس وهم حولي.... حتى جاء أبي ودخل إلى غرفته........ كنت أتمنى أن تكون أمي على قيد الحياة في ذلك اليوم لكي تحاول أن تلطف الجو بيني وبين أبي...... فلحقت به في غرفته وقبلت رأسه ويده.... وأبديت له أسفي وندمي على ما حصل .... وأن ذلك قضاء وقدر.... أما من ناحية الفلوس فأنا لم اختلس أي مبلغ وأنها ضاعت في سوق الأسهم لكنني أتحمل المسؤلية عنها لانها كانت في عهدتي .....
كان استقبال أبي لشرحي الموضوع بارداُ جداً فلم يبدي لي أي نوع من المواساة أو العفو ولو بكلمة يشعرني أنه قد قبل معي بقضاء الله وقدره .....إلا أنه كان كل همه ما يقوله الناس عني وكذلك العار الكبير الذي الحقته بالعائلة ,,,,وهذا الكلام أعرف من أين مصدره. فقررت أن أذهب إلى المجلس وابحث لي عن فراش لأستلقي عليه دون أن أكل لقمة واحدة .
جاءت أختي ساميه وأخذت تبرر ما لقيتة من أبي..... فقبلت منها كل شيء..... حتى أنني أكبرتها في نظري فقد كانت هي وأخي سلمان الوحيدان اللذان على الأقل تقبلا عذري .وكان الفرح ظاهرا عليهما عندما عدت الى البيت ...
- أخبريني عن .......(............) ؟
- خلاص تزوّجت .
- هل قابلتها بعد الزواج ....؟
- نعم مرات كثيرة .
- هل هي مرتاحة.
- تقول كذلك .
- هل كان الزواج برغبة منها ...؟
- أعتقد ذلك ...(1/23)
- خلاص ....تصبحين على خير .
- تريد أن تنام ....أم تريدني أن أذهب ؟
- إنني مشتاق لأن أسمع منك أخبار كثيرة لكنني لست مستعدا الآن لسماع أكثر مما قلته ............ أين مفتاح سيارتي ؟
- يمكن عند أبي .
- أريد مفتاح السيارة .
- اطلبه منه .
- اذهبي واطلبيه منه .
- وإذا رفض ...؟
- عندها سأطلبه منه أنا ,
ثم خرجت من عندي ولم تتأخر كثيرًا حتى عادت بمفتاح السيارة وخرجت من عندي .
لم أنم أكثر من نصف الليلة تلك واستيقضت في حوالي الساعة الرابعة صباحا وأخذت تلك الحقيبة التي خرجت بها من السجن واتجهت إلى سيارتي وأدرت المحرك .....كنت عازماً على مغادرة القرية لكن إلى أين اتجه .....لا أدري
.............إلى جدة ....لا......لن اغادر القرية هذا الأسبوع .... سأبقى في القرية حتى تتضح لي الأمور ..
عدت إلى البيت ...... صعدت إلى السطح ... لقد ضاقت نفسي من أيّ مكان مغلق وأريد أن أبقى في الفضاء ... إلى مكان لاتحده أسوار أو جدران.
كان بيتنا يطل على الوادي الذي يفصل قريتنا عن القرية المقابلة .
... كان الوادي حديث عهد بمطر ... وكانت أصوات الضفادع وبعض الحشرات الليلية تخرج عن قاعدة الصمت الذي يخيم على الوادي .وكانت الرطوبة ورائحة الأعشاب والزهور تسبح في الفضاء الذي خيم عليه الظلام الدامس إلا من تلك المصابيح التي على أبواب المنازل المتناثرة على أطراف الوادي ..
جلست قليلا لكنني أحسست ببرودة الجو فعدت إلى فراشي ...
كنت الابن الأوسط لأبي من أمي المتوفية منذ فترة طويلة وكان أخي محمد يكبرني بما لايقل عن عشر سنوات يعمل مدرساً في المرحلة الإبتدائية ويعتبر من جيل المدرسين الأوائل.
متزوج وله ثلاث بنات وولد واحد يدرس في المرحلة الإبتدائية ...... كان محمد يعتبر لأبي كل شيء ........ فأبي لايرى إلا بعينه ولا يسمع إلا بأذنه ...... مثالي جدا ..... من أكثر الناس تمسكا بالعادات والتقاليد .(1/24)
كنت أنا الابن الثاني في ترتيب الأبناء ..... كان بيني وبين أخي محمد بنت واحدة متزوجة ومقيمة مع زوجها وأولادها في مدينة تبوك ثم تأتي أختي ساميه ثم أخي سلمان .... هؤلاء هم إخوتي... وكان والدي متزوج زوجة أخرى بعد موت أمي ليس له منها أطفال .
كنت أنا أشقى إخوتي ...... لذلك لم يكن بيني وبين أخي محمد أي تقارب فكري أوعاطفي .... والحقيقة إنني أخاف منه أكثر من أبي الذي كانت تغلب عليه عاطفة الأبوّه أحيانا ...... وتخرجت من المرحلة الثانوية ولم أكمل دراستي في المراحل التي بعدها رغم أن معدلي كان أفضل من بعض زملائي الذين أكملوا دراستهم وقد يكون ذلك السبب من أكبر الأسباب التي كانت تقوم المشاكل بيني وبين أخي من أجلها .
كان أخي سلمان من أحب الناس إلي .... وأنا اعرف أيضا أنني من أحب الناس اليه .. فبالرغم من أننا أشقاء إلا أننا أصدقاء أيضا .
وكذلك اختي ساميه .
كنت أنا وسلمان ننام في غرفة واحدة وكانت أيام طفولتي أنا وسلمان وساميه ممتزجة كفريق واحد نعمل سويا ونفرح سويا ويكدرنا الأمر الواحد ...لذلك كم كانت فرحتهما عند خروجي من السجن ..... أكثر من فرحتي أنا .... ولك أن تقيس مقدار الفرحة التي يفرحها السجين عند مغادرته باب السجن .
كانت زوجة أبي محترمة جدا ولكنها سلبية جدا فلو أنها ترى أبي يضربنا أويحمّلنا من الأعمال مالا طاقة لنا به فأنها لاتتدخل في شيئ..... ولا أدري هل كانت راضية بذلك أم أنها أيضا تخاف أن ينالها العقاب من أخي محمد وزوجته التي كانت علينا أقسى من أخي نفسه.
تقدمت لوظيفتي التي كنت أشغلها عن طريق الديوان ونجحت رغم كثرة المنافسة عليها أثناء الاختبار . وأصبح لديّ مرتبا كنت اسلّمه لأبي في نهاية كل شهر.. ولايبقى منه إلا مصروفي الشخصي الذي كنت أتقاسمه مع سلمان وساميه بالتساوي .. وبعد أن ربحت بعض الفلوس في بداية تجارة الأسهم كنت أمد يدي إليهما دائما بل نتقاسمها .(1/25)
وأشعر أنهما كل مايهمني في البيت ..... فأبي لديه راتبه التقاعدي الذي يزيد عن ثمانية آلاف ريال ...... وأخي محمد يزيد راتبه عن عشرة آلاف ريال.
كنت أحب والدي كثيرًا إلا أنني أخشى عقابه فأبي سريع الغضب والإنفعال ويندفع في عقابه بشكل يثير الرعب . لذلك فأنني أخشى دائما أن أجلس معه كثيرًا وأفضل أن أجلس مع ساميه وسلمان في غرفتنا كما أنه من الصعب جدا أن يثنيه الإنسان عن ما يقتنع به , وكان ينصحنا دائما أن لا نكثر الجدال معه في حالة غضبه ...وكان أخي محمد هو الوحيد الذي يستطيع أن يطفيء غضبه أو أن يحمله على التخلي عن بعض أفكاره التي يقتنع بها ..
لم يكن أخي محمد موجودًا بالبيت عندما عدت من السجن بل كان مع بعض زملائه في رحلة في أطراف المنطقة . وكنت قد أعددت خطة منذ أن كنت في السجن تتضمن التقرب من أخي حتى أصل عن طريقه إلى قلب أبي .
في صباح اليوم التالي كنت مستيقضا عندما أذّن المؤذن لصلاة الفجر . فتوضأت وذهبت إلى المسجد .
كنت أرى أن الموجودين في المسجد كلهم ينظرون إليّ .
كنت أُقسّم نظراتهم إلى مجموعات ...منها التهكمية ... ومنها الأزدرائية ومنها نظرات الشفقة . ومنها نظرات اللا مبالاة .
كانت بعض تلك النظرات تكاد تقتلعني من مكان جلوسي ..أو تسدد إلى قلبي طعنات هجائية لا احتملها .
كان أبي قد سبقني إلى المسجد وكنت أغضّ طرفي كلما ألتفت إليّ . أما أخي محمد فلم أره في المسجد في ذلك الصباح .
كنت أرى أن كل من في المسجد... يكرهني أو يحتقرني وكنت أتململ في مكاني وكأنني اجلس على صفيح ساخن .حتى قضيت الصلاة .وعدت إلى البيت في حالة نفسية سيئة .(1/26)
عدت إلى فراشي انتظر أن يقوم أخي من نومه فأذهب اليه وأقبل رأسه ويده ... رغم أنه لم يزرني أثناء سجني ولو مرّة واحدة,.. وغديت أفكر إلى أين أذهب وبأي وجه أقابل أهل القرية ثم أين أجد عملا وكيف أحصل على وظيفة جديدة . وأفكاري تسبح بي سماء المعقول واللامعقول بين واقع مرير أعيشه ومستقبل لا أدري من أي باب أدخله .........لكن أخذني النعاس فنمت ولم أفق إلا في حوالي الساعة التاسعة عندما أتت أختي ساميه اليّ بالإفطار.
ـ صباح الخير .
ـ صباح الخير ... كنت انتظر محمد ..لكن النوم غلبني فنمت .
ـ لاعليك ستقابله بعد الظهر .
ـ أين أبي ...؟
ـ في غرفته .
ـ إذا نذهب إليه .
ـ لقد أفطر .
ـ قومي نذهب إليه .
ذهبت إلى أبي في غرفته فوجدته جالسا مع زوجته فلم يعرني أي انتباه.
ـ صباح الخير .
ـ صباح الخير .( بصوت لم أكد اسمعه ).
جلست بجانبه وصببت له فنجان قهوة وناولته فأخذه مني ووضعه أمامه :
ـ أنا قد تقهويت .
..........( لم ألح عليه في ذلك ) ...,. وساد صمت في الغرفة . وتناولت ذلك الإفطار الذي أحسه شوكًا ينزل من حلقي . اقتربت من أبي وتناولت كفه وقبلته ....
ـ سامحني ياأبي فقد ندمت على ماحصل لكن هذا قضاء الله وقدره وما كنت أحسب أن الأمر سيصل إلى ما وصل اليه .
ـ لقد سامحتك الدولة ...خلاص .
ـ أريدك أنت ترضى عنّي وتعلم أن هذا مكتوب عليّ .
ـ لم أكن أصدق أن يضحك عليك بعض الناس وتمد يدك إلى مال ليس لك فيه حق ..
ـ لقد انتهى الأمر .
ـ نعم لقد انتهى الأمر ... ولم يعد ينفع الندم .
ـ أريد رضاك عليّ فقط وأنا سوف ابحث عن عمل والرزق على الله.
ـ على كل حال لم يعد ينفع العتب واللوم .. لقد خسرت وظيفتك وأنا كان عتبي من أجلك ولا أريد إلاّ مصلحتك وكان بودي أن تكون أحسن الناس .(1/27)
ـ أنت معذور في عتبك وأنا قد أخطأت ولكن كنت احسب أنني سأكسب وأرد المبلغ إلى الخزنة لكن الأمور سارت في غير الطريق الذي رسمت , ولا أريد منك إلا أن تصفح عني وأنا سأبحث لي عن عمل .... والرزق على الله. وأخذت يده مرة أخرى وقبلتها .
ـ ......... توكل على الله ... الله يوفقك .
ـ هذا الذي اريده منك ( ووضعت راحته على خدي..سالت دمعة من عيني على كف أبي....... بل دمعتين .... بل ثلاث )
إلتفتّ إلى أبي فإذا هو يبكي أيضًا بصمت ...فلم أستطع أن أحبس نفسي فانفجرت باكيا .
كنت اسمع أختي ساميه أيضًا من خلفي تجهش بالبكاء،ومد أبي يده الأخرى ثم احتضنني وبقينا نبكي سويا.
قمت من عند أبي راضيا . فقد اختصرت الطريق الذي كنت سآتي منه عن طريق أخي محمد .
خرجت أمشي في طرقات القرية لعلي أخرج ما يعبث بصدري من هموم وكآبة أحسّ بها من جرّاء شعوري أن الناس سوف ينظرون إليّ على أنني خارج عن القانون فأردت أن أرى الناس كلهم مثل الطالب الذي يرسب في المدرسة فهو قد يخجل من مقابلة الناس للوهلة الأولى ثم يصبح الأمر عادي بالنسبة له.
كنت أمشي خجولا . أتلمس في أعين الناس وأفواههم ما يقابلوني به فإن قلت لشخص ( السلام عليكم ) أتطلع إلى رده وحركاته وتقاسيم وجهه .وغديت أسلّم حتى على الأطفال اللذين أقابلهم وأسأل هذا عن اسمه وهذا عن أخيه أو أبيه.
كانت ردود الفعل التي لاحظتها من الناس فوق المتوسط تقريبا إن لم تكن أكبر من تلك النسبة وأحسست أنهم لا يرون الأمر كبيرا كما كنت أتوقع بل إن بعضهم كان مسرورا بخروجي من السجن أو أنني لست مجرما في نظره.
أحسست بالراحة بعض الشيء وبتطاير بعض همومي التي كنت أحسّها تخنقني والألم الذي كنت اكتنزه في صدري فأخذت أمشي في كل الاتجاهات حتى وصلت أمام بيت خطيبتي ...
عندما رأيت الباب أحسست باحتباس الدم في عروقي فلم استطع الحركة وتسمرت في مكاني لا ألوي على شيء.(1/28)
أحسست أن البيت أصبح خرابة تنعق من أجوانه الغربان أو أن هناك من يندب بداخله أو ينوح.
أحسست أن الجدران لم تعد تلك الجدران التي كانت ألوانها زاهية كنت أرى أن الباب ينفتح أحد مصراعيه وكنت أتخيّل رأس عجوز يخرج منه بشعر أبيض. كنت أتخيل ان كل شعرة من رأسها واقفة بمفردها .
كنت أتخيلها تسخر مني وتضحك ضحكات متتالية جهورية بصوت تقشعر له الأبدان ثم تفغر فاها وتلملم شفتاها وتغلق الباب ثم تعود تفتحه.
كنت أتخيل تلك الحركات من نفس المكان الذي كنت أرى علياء تخرج رأسها منه عندما كانت تودعني إذا خرجت من بيتهم ...
لم يقطع تلك التخيلات إلا مرور عجوز من القرية بذلك المكان عندما وجدتني ذاهلا.
- كيف حالك يا علي ...متى خرجت ؟
- أمس ..
- لا توقف هنا إن شاء الله إن الله يعوّضك أحسن منها.
- (أحسست بغصة فلم أستطع أن أرد بكلمة واحدة وأحسست أنني أريد أن أبكي)
- تعال معي .....عمك أبو ناصر في البيت. تعال تقهو معه.
- لا .... شكرا أريد أن أعود إلى البيت .
- عمك أبو ناصر سيفرح عندما يراك ...هيا روح معي ..
- شكرا ... بعدين أمر عليه ..
- إذا لاتبقى هنا .. لايضحك عليك اللي ما يسواك ..هو اللي خلقها ماخلق غيرها ... يمكن إن الأمر خيرة لك من الله ..
هذا مكتوب عليك والمكتوب على الإنسان يمضي ... هيا امش توكل على الله ..
- جزاك الله خير ....
أحسست بقرب تلك العجوزمن قلبي وتذكرت أمي يرحمها الله فقد كانت صديقتها وكم كنت أراها تجيء إلى بيتنا وكانت أمي ترتاح للجلوس معها وأحسست أن كلامها يدخل إلى قلبي مباشرة دون أن يمر بأذني ... وتخيلت أن هذا الكلام صادرا من أمي .....
عدت الى البيت واستلقيت على فراشي وأخذت أبكي بدموع أحسها تخرج من عيني كالجمر ......لا أدري كان ذلك للعطف الذي وجدته عند تلك العجوز ... أو لذكرى أمي أو للأقدار التي ساقتني إلى هناك.(1/29)
لاحظت ذلك زوجة أخي فأرسلت لي أختي ساميه التي عندما رأتني بتلك الحالة أخذت تبكي معي .
- هل قابلت أحدًا من أهلها ...؟
- لا ...
- هل ذهبت إلى بيتهم ..؟
- كنت عابرا من هناك .
- قابلت أحد من أهلها عند البيت ...؟
- لا...
- لماذا تذهب أصلاً إلى هناك ...... أنت بذلك تظهر ضعفك لهم وتغريهم أن يشمتوا فيك ..
- كنت أتمشى في طرقات القرية ..
- لاتحزن ...... ربما يكون في الأمر خير لك
- لا أدري ..
- هذه أقدار مكتوبة ...والنصيب يغلب على أي حال .. ولا تعطي الموضوع أكبر من حجمه لإنك ستتعب ولن يفيدك تعبك بشيء فهي لم يكتبها الله لك ولن تستطيع أن تأخذ شيئا لم يكتبه الله لك ..
- لو لم أدخل السجن لكنت تزوجتها ..
- لو لم تدخل السجن ...لن تتزوجها .....لأن الله لم يكتب لك نصيب معها ... ولعل في الأمرخيرة لك.....فأعقل خلاص وثق تماما أنه ليس السجن الذي حال بينك وبينها, وربما يكون حظك أكبر مما تتوقع وقد يوفقك الله في بنت أفضل منها ... وكل ما يجي من الله طيب ..( ثم ضحكت وقالت ) : لا تكون مثل اللي يقول المثل :( يقول هاك خير ......قال : ماعندي ماعون )..
كانت تلك الكلمات مثل الحبوب المسكنة لجروحي فشعرت أن آلامي بدأت تخف وأن نزيف تلك الجراح بدأ يتوقف .
عاد أخي محمد من المدرسة بعد الظهر وكنت جالسًا في فناء البيت فقمت إليه وقبلته وأن كانت مقابلته لي ليست على مايرام .
لكن الأمر لم يعد يهمني كثيراً بعد أن انتهى الأمر مع والدي،
عندما جلسنا على الغداء أظهر لي تسامحا وأريحية ارتحت لها وأحسب أنه قد عرف ما تم بيني وبين أبي.
لكن هذه السعادة لم تتم طويلا .. لقد ثار النزاع بيني وبينهما بعد ثلاثة أيام عندما عدت متأخرا إلى البيت لأجدهما ينتظراني فبادرني أخي بلهجة شديدة النبرات :
ـ أين كنت إلى هذا الوقت؟
ـ خرجت مع بعض زملائي .
ـ زملاءك ....( وضحك ) ياحبيبي فصلوك ولم يبق لك زملاء.
ـ لا.... أقصد أنهم زملاء من شباب القرية.(1/30)
ـ كنت تحدثهم عن سوق الأسهم .
ـ في الأمر شيء من هذا .
ـ وتاليها معك .....
ـ في ماذا....؟
ـ لقد استحليت الوضع...نوم بالنهار وسهر بالليل .
ـ لم يمض على خروجي من السجن سوى ثلاثة أيام .
ـ أنت فاشل ولا يمكن أن تصير رجلا أبدا ..( قال ذلك أبي)
ـ لم أعمل ذنبا ياأبي ....لاتسمع كلام محمد فهو يكرهني.
عند ذلك انفجر أبي غضبا :
ـ لا ترفع صوتك علينا ياقليل الأدب..أخوك صادق في كل ماقال.
ـ لكنني لم أعمل ذنبا.
ـ اسمع ...........لك أسبوع تبحث فيه عن عمل ... وإلا.....وإلا ........ لا أرى وجهك في هذا البيت .
ـ تطردني ياأبي .
ـ نعم أطردك ....... فأنت لاينفع معك الكلام الطيب .
ـ ....هل أرتحت الآن ...( قلت ذلك موجها الكلام لأخي )
هذا ماتريده أنت وسأرحل عنك . لترتاح مني .
لم أنم بقية تلك الليلة وبقيت أفكر إلى أين أذهب لكن مراكب أفكاري تحبذ الإبحار إلى جدة.
لم يكن معي من النقود أكثر من700 ريال استلمتها من صندوق السجن ...
خرجت من بيتنا مع شروق الشمس وكأنني أحمل هموم الدنيا على ظهري ...كان ألمي من كلام أبي وأخي كبيرجدا ... غادرت البيت لا أدري كيف وأين أبحث عن عمل خصوصا أن أغلب الوظائف لاتأتي إلا بواسطة وأنا لا أعرف أحدا فأين اذهب ....كنت أحسّ أن شيئا يجذبني إلى جدة فهي أنسب مكان أرى أنني أجد فيه وظيفة..كنت عازم على أن تلك الفلوس تكفيني للأكل والشرب فقط أما السكن فلو كنت أسكن في الشارع فلن ادفع منها ريالا واحدا.
أفطرت في مدينة الطائف..... ثم توجهت بعد ذلك إلى مكة المكرمة وكنت محرما فاعتمرت وبقيت في مكة إلى مابعد صلاة العصر .. بعدها ركبت سيارتي وتوجهت إلى مدينة جدة...... وصلت إلى مدينة جدة في حوالي الساعة الخامسة والنصف لكن إلى أين أذهب ؟(1/31)
كنت قد عزمت أن أعمل في أي جهة تقبلني وإن لم يتسنى لي عمل فسوف أعمل بالسيارة أنقل بها الركاب من مكان إلى آخر ... مثلي مثل الذين يملئون شوارع المدن والذين يشتغلون بسياراتهم الخصوصية حتى ييسر لي الله بعمل.....
اتجهت إلى مقهى في كيلو 5 وجلست أفكّر.... ماذا يمكنني أن أفعل ...وكانت المشكلة الكبرى التي أفكر فيها أولاً قبل البحث عن عمل ....هي أين أسكن ؟
كنت أعرف أن المسافرين ينامون في مثل هذا المقهى الذي أنا فيه وبعد أن طلبت من عامل المقهى أن يحضر لي كوبًا من الشاي .سألته عن ..... ما إذا كان بالإمكان أن أنام في المقهى .
- ..لا.....هذا ممنوع وبلهجة ذلك الآسيوي المتنكد من عمله لم أستطع أن أناقشه أكثرمن ذلك .
كان هناك شاب سعودي قريب مني وقد سمع كلامي مع الجرسون،
- أنت تبحث عن سكن ...؟
- نعم أريد غرفة أو مكان صغير أسكن فيه .
- هذه تجدها عند أصحاب مكاتب العقار.... عند ذلك عرفت على الأقل من أسأل .....لكنني عدت و سألته .
- كنت أعرف أن كثير من الناس ينامون في المقاهي...
- لن ترتاح حتى ولو نمت ليلة أو ليلتين في المقهى ...أنت طالب ؟
- نعم .
- في أي كلية ؟
- العلوم ...( هكذا أخبرته )
- الأفضل أن تسكن مع زملائك في الدراسة وتجتمعون وتستأجرون شقة أو غرفة أو شيء من هذا حتى تتساعدون في الايجار.
- هذا صحيح ثم قمت إلى سيارتي وأخذت أتجول بها في شوارع جدةولم ينتصف الليل إلا ولدي مائة ريال.... كان عندما يطلب مني الزبون أن أوصله إلى أي مكان..... أسأله ..... إن كان يعرف الطريق التي أسلكها...... فأن كان كذلك أوصلته ..وإن كان لايعرف الطريق ذهبت وتركته وبعد ذلك خرجت بسيارتي إلى طريق الكورنيش ونمت داخل السيارة.(1/32)
واستمريت على تلك الحالة ثلاث عشرة ليلة .....إلا أنه في الليلة الآخيرة.... وبينما أنا نائم في سيارتي...... وإذا بصوت رجل يناديني ويخبط بيده في السيارة.... فأستيقظت على صوت رجل أمن يطلب مني أن أفتح السيارة .....وخرجت وأنا مرعوب وخائف ولكنه بكل أدب سألني عن سبب نومي في السيارة فأخبرته أنني مسافر وأن حالتي المادية لا تسمح لي بالذهاب إلى الفنادق فطلب مني أن أتحرك من المكان الذي أنا فيه لأنه قريب جدا من الأحياء الآهلة بالسكان فشكرته. وانتقلت إلى مكان آخر أبعد من المكان الذي كنت فيه .
كنت أعرف شابان من القرية من زملاء الدراسة في المرحلة الثانوية وهما يدرسان في الجامعة ولديهما سكنًا في جنوب جدة وكنت أذهب إليهما أيام ماقبل السجن وكان بيني وبينهما صداقة ومودة فذهبت إليهما , فاستقبلاني بكل لطف ومودة وبعد سهرة ممتعة تخللها الحديث عن أيام الثانوية وزملائنا الذين كانوا يدرسون معنا في تلك الأيام ....., ثم المتاجرة بالأسهم والتي بدورها قادتني الى السجن .. وكذلك بعض الحكايات عن أيام السجن .....بعد ذلك أبديت لهم رغبتي في السكنى معهما حتى أجد مكان أسكن فيه , والحقيقة... انني كنت أؤمل أنهم سيقبلاني عضوا جديدا معهما . لكنهما إعتذرا بوالدهما الذي لا يرغب أن يسكن معهما أحدا وهو يأتي إليهما في كل أسبوع مرّة أو مرتين بحكم طبيعة عمله كتاجر ..... فقبلت عذرهما بعد أن وافقا على أن أبقى معهما لمدة يومين أو ثلاثة أيام ريثما أبحث لي عن سكن .
وأخذت من اليوم التالي أبحث لي عن سكن وبقيت معهما يومين لم أحسّ بالراحة فيهما ساعة واحدة ربما كنت أرى أنني قد طردت من السكن معهما بمجرد عدم الموافقة وكان شغلي الشاغل خلال تلك اليومين هو السكن فلن أبقى هكذا ... لقد بدأ على وجهي أثار الإرهاق وقلّة النوم وأخيرا ساقتني الصدف الى مكتب عقار في حي الصفا .
- السلام عليكم .
- وعليكم السلام .(1/33)
كان هناك رجلان في العقد السادس من عمرهما تقريبا .
- أريد غرفة للإيجار أو ملحق... أو شيء من ذلك .
- أنت متزوج ؟
- لا والله...
- وين تشتغل ...؟
- سائق تاكسي .وأبحث عن عمل .
- عزوبي يعني .... ما أعتقد إنك تحصل في هذا الحي على سكن .
- كم تدفع ......؟.. ؛ قالها ذلك الرجل الذي بجانبه..
- على حسب المكان..
- عندك غرفة يا أبو جميل (قالها صاحب المكتب )؟
- السائق الذي عندي مسافر وغرفة الحارس فاضية إن كان الرجل عاقل ومحترم أنا أجّره إياها..... وعلى الأقل يودينا الجامعة كل يوم..
- إيش رأيك تسكن عند أبو جميل (قالها لي صاحب المكتب )...؟
- إذا اتفقنا على الإيجار فأنا أبحث عن مكان أسكن فيه...
- كم تديه .. الغرفة يا أبو جميل ...؟
- الشهر بسبعمائة ريال .
- لا كثيرة ........
- وتوديني الجامعة كل يوم مرتين أول شروطي..
- أوديك بحقك .
- نتفق على أجرة الشقة وكذلك ..... أجرة الذهاب إلى الجامعة.
- متى تكون مواعيد الجامعة .
- في الصباح وبعد الظهر .
- والموية والكهرباء ....؟
- يا عمي بلاش .
- ولا أزيد غير هذين المشوارين..... وبعدها ما تسأل عني .
- إيش تقصد ؟
- أقصد أنك ما تبقى طالع نازل في السيارة وتتمشى على حسابي.
- لا ..أبدا ...... أي مشوار ثاني بحسابه..
- وكم تدّيني على مشوار الجامعة لأنك شايف ...أنا ماعندي غير شغلي على سيارتي والسيارة تحتاج زيت وبنزين وأنا ماعندي راتب.... يعني أنا على الله ثم على هذه السيارة
- أدّيك 400ريال ......أنا أشوف سيارتك خصوصي .
- هي خصوصي بس أنا أترزق الله عليها .
- يا عمي الله يرزقك .......زده يا أبو جميل 200 ريال (قالها صاحب المكتب )
- إذا زدتني 200 زي ما قال الرجال وأجار الغرفه 600.. أنا موافق...... لكن أريد أن أرى الغرفة أولا.
- الغرفة سوف تعجبك . اسمك ايش يا ولدي .
- علي الحسين
- إذا ... اتفقنا يا أبو جميل .خليه يكون مبسوط..(1/34)
- اشترط عليه يا أبوأحمد...لابد أن يكون محترم .. فهذا بيسكن بين عوائل ..
- هذا الكلام لاتناقش فيه..... فأنا لولا أن الزمان حداني على العمل بالسيارة لم أخرج عن أهلي ولكن ..... سترى مني ما يسرك بإذن الله..
- الله يسمعنا الأخبار الطيبة .
- قوم يا أبو جميل وّريه الغرفة .
ركب معي في سيارتي وأخذني إلى غرفة في طرف سور عمارة مكونة من أربعة أدوار بها عدد كبير من الشقق وأخرج من جيبه مفتاح وفتح الغرفة .
فإذا بها غرفة مهجورة بها فراش وسخ جدًا وليس بها مكيف وتحتاج إلى إصلاح ونظافة.
وقفت أتأمل الغرفة... فرأى ملامح الإحباط ظاهرة على وجهي
- ايش فيك ...؟
- هذي غرفة مهجورة ...ولا فيها مكيف والوسخ والغبار كما ترى والكنبة قديمة.
- ياعمي أنا أجيب العامل حق الجيران وأقول له ينظّفها .
- والمكيف..
- اشتري لك مكيف ....تبغى اشتري لك أنا .. والله حلوه دي .
- والفراش يحتاج الى تغيير .
- عندي فرشة كبيرة . أنا أنزّلها لك وأنت خذ منها على قد حاجتك.
- مغسولة .
- ( ضحك .ضحكة كبيرة ).......أنت ايش فيك تبغاني أغسل لك ملابسك كمان ...... وإلا أغسّل لك فراشك .. وإلا ايه وأخذ يضحك بصوت مرتفع
- ( قابلته أنا أيضا بأبتسامة ) .العفو لكنني الآن في بداية حياتي وسوف أكون مثل ولدك .
- والله يا ليت .....والله لأبسطك..... وأكون مثل أبوك أنا ممنوع من قيادة السيارة من الدكتور وأذا خدمتني والله لأحطك مثل ولدي (ثم وضع يديه على كتفي ورأيت الدموع تترقرق في عينيه .... وجلس على كنبة كانت في وسط الغرفة ) ربما يكون الله بعثك لي يا ولدي أنا ابني مات في حادث سيارة ... كان زيك كذا بسلامتك يعني في سنك . الله يرحمه ....ياليتك تكون مثل ولدي .... عصام بدل عصام .
- والله لأكون مثل عصام بإذن الله ولن ترى مني إلا ما يرى الوالد من ولده وانعقد للرجل في حلقي غصة ...و عزمت على أن أكون مثل ابنه فعلا .... وأنا أيضا قد يكون الله يعوضني به خيرا .(1/35)
- إذا تعال نكتب العقد وأنا سوف أجهز لك الغرفة وأنت تنام فيها الليلة علشان توديني أنا والبنت الجامعة بكره.
- توكلنا على الله
عدنا إلى المكتب وكتبنا العقد وغادرت المكتب قليلا ثم عدت إلى الغرفة.
وجدت الرجل قد أتي بعامل نظّف الغرفة.... وركّب بها مكيف وتم تغيير الفرشة وقد وضع بها طراحة جديدة ومخدات... وقد جهزت تجهيز كامل .
يا رب إنك تعلم أنه قد غرر.. بي...... وفصلت من وظيفتي بأمر لاحول لي فيه ولا قوة.... فعوضني خير .
ونمت نوما هادئا.إلى الصباح وعندما سمعت الأذان قمت إلى الحمام في طرف الغرفة وتوضأت واتجهت إلى المسجد .وصليت الصبح .... وبعد شروق الشمس بقليل خرجت إلى سيارتي فرأيت الرجل واقف عند باب العمارة .
- كنت جاي أصحيّك ما شاء الله عليك . وأقبل جهتي .
- صباح الخير وصافحته .
- بعد قليل نذهب الى الجامعة .
- أنا جاهز ..
وأخذته وابنته إلى الجامعة ثم عدت به إلى العمارة.
- أنا قلت لأم جميل تحضّر لي أنا وأنت الإفطار معا .
- لا داعي لذلك .
- أنت اليوم ضيف وفطورك عندي .
أخذني إلى شقته في الدور الأول من العمارة وأفطرت معه وبدأ يسألني .
- أنت من وين يا ولدي يا علي .
- من جنوب المملكة.
- ناس طيبين .
- وأنت أطيب .
- والله يا ولدي انفتح لك قلبي كما يعلم الله .
- خلاص.......... أنا قلت لك اعتبرني عصام .
- رفع يديه يا رب ... يا رب .
- أنت ما عندك أولاد غير عصام .
- عندي يا ولدي ........عندي محمد متزوج ومعه أولاد وهو الآن في الرياض .... وعندي توفيق في السفارة السعودية في مصر ... وعندي ثلاث بنات ثنتين تزوجوا وباقي معي واحدة.... هذي التي وديناها الجامعة .... لكن عصام كان أصغر الأولاد.الله يرحمه
- الله يرحمه ويعظم لك الأجر .
- آمين ... شوف يا ولدي .هذي العمارة فيها عائلات محترمة وناس طيبين ربما يقولوا: ليش يسكن هذا عزابي في الغرفة...وشيء من هذا الكلام ...أبغاك تبيّض وجهي عندهم .(1/36)
- الله يبيضّ وجهك .........وكّل الله يا رجل أنا عارف الأحوال وأنا من أسرة طيبة والله لترى مني ما يسرك بإذن الله ..وإذا لاقدر الله كرهت من سلوكي شي فأطردني من الغرفة .
- ايوه ....والله لأطردك ...قالها بغضب حتى أني خفت منه.
- توكل على الله... ولا تحكم عليّ إلا بعد أن تختبرني .
- وهو كذلك ...وأكملت فطوري معه وعدت إلى غرفتي قليلا ومن ثم بدأت حياتي أعمل بسيارتي وكنت أذهب به مع ابنته إلى الجامعة صباحاً ثم أعود به وبعد صلاة الظهر أخذه ونذهب سويا إلى الجامعة لأعود بأبنته منها......عند عودتي به من الجامعة في اليوم الاول قال لي :
- نسيت أوصّيك حاجة كانت في بالي .
- هات ما عندك .
- لا تسوي الغرفة صالة اجتماعات .
- كيف صالة اجتماعات.
- يعني لاتستقبل فيها ضيوف .
- أنا لا أعرف أحد... ولا أحد يعرفني ولن يدخلها غيري أبدا .
- يعني هذا وعد .
- لا توصي حريص .
وبدأت اشتغل بسيارتي وكانت أموري ميسرة .وكانت أحوالي المادية كل يوم أحسن من اليوم الذي قبله وكان أبو جميل رجل أرى فيه كل يوم إنسان افضل من اليوم الذي قبله وأنا كنت له سامعا مطيعا .وكان كلما رأى سيارتي واقفة أتي إلي .
- يا لله قوم وديني سوق الخضار..... وتارة إلى سوق الأغنام ....وتارة إلى البحر .....وكل مرة يعطيني أجرا أكثر مما أستحق ...... وكنت أحاول أن لا أخذ منه شيئا.... إلا أنني رأيت أنه لايذهب معي إلا لكي أحصل منه على أجرة السيارة... ورأيت أنه يرتاح عندما يدفع لي الأجرة وزادت بيني وبينه المودة فأنا أيضا عاملته بكل تقدير واحترام مثلما يعامل الابن أباه .
وذات يوم وعندما كنت عائدا به من الجامعة صباحا.... قابلتنا امرأة شابة كانت تهم بدخول العمارة مع امرأة أخرى يظهر أنها خادمة.
- صباح الخير يا أبو جميل .....( قالتها تلك المرأة ).
- صباح الخير.............هذي رجعتك ؟
- أي والله ..........خليها على الله.... ما لقينا تاكسي .
- الله يعينك .(1/37)
وبعدما دخلت العمارة .قال لي هذه بنت مسكينة تغنّي في الأفراح طلقها زوجها وهي ساكنة عندي هي وأمها منذ مدة ......يعني ناس على قد حالهم .......كانت مع واحد خسيس من جماعتهم وكانوا ساكنين في البيت الشعبي هذا اللي خلف العمارة لكنها الآن مبسوطة ربك الرزاق ......يالله نستودعك الله ..... ..وتركني..... وأنا ذهبت إلى عملي .
لم يمض على حديث أبو جميل عن تلك المرأة التي تغنّي في الحفلات إلا ثلاثة أيام حتى أتاني يكلمني عنها ...
- شفت البنت اللي قابلناها قبل ثلاثة أيام عند باب العمارة.
- نعم .
- هذي يا سيدي طلبت مني أكلمك توديها الحفلات وترجعها.
وأنا قلت لها هذا الشاب ما فيه زيّه أبدا وأنك مثل ولدي ورجل فيك شيمة ورجولة وأنني أثق فيك أن تذهب معك إلى أي مكان .
- لكن هذي مواعيدها صعبة .
- يا عمي كل شي بحسابه........
- أنت شفتها راجعة الساعة سبعة ونصف وهذا بيتعارض مع مواعيد بنتك في الجامعة.
- نخليّها تزبط مواعيدها ..
- اللي تشوفه
- أقول لها الرجل موافق.
- وكم الإجرة
- أنا قلت لها.مائة ريال خمسين بعد المغرب وخمسين في الصباح.
- خليها 200.فأنا سوف أقوم لها الساعة الرابعة بعض الأيام .
- لا ......لا ..أنا قلت لها 100 ريال وأنت الربحان .... اللهم ارزقنا وارزق منا
- خلاص اللي تقوله أنت أنا موافق ....لكن لازم تعطيني خبر من بدري يعني قبل يوم أو يومين من كل حفلة.
- هذا حقك .
- وفي الصباح تعطيني الساعة اللي تخرج فيها عشان ما أبقى انتظر عند الباب .
- وهذا من حقك أيضا ولكن ما أريد أن أوصيك فيها.. تراها زي بنتي .
- يا رجل توكل على الله .
- توكلنا على الله ......وكتبت له رقم تلفوني في ورقة وانصرف ليبلغها بذلك .
لم يمض أكثر من نصف ساعة حتى رن تلفوني فإذا بها تكلمني
- السلام عليكم .
- وعليكم السلام .
- أنت علي صاحب السيارة...لقد أعطاني أبو جميل رقم التلفون فأردت أن أجرّبه .
- نعم أنا علي .وهذا رقم تلفوني .(1/38)
- شكرا..أنا اسمي راويه.
- عفوا...
صوتها جميل جدا ..... الله ......من أجل ذلك كانت تغني في الحفلات......... وبعد فترة ليست بالطويلة دق التلفون مرة أخرى.
- أنا راويه .عندي حفلة يوم الخميس.
- في أي ساعة ستذهبين .....؟
- الذهاب الساعة العاشرة والعودة سوف أخبرك في حينه.
- وأنا جاهز إن شاء الله.
من أجل تلك الحفلة كنت استقطع الوقت الذي أحسه طويلا لكي يحين الموعد وجلست انتظرها في السيارة أكثر من نصف ساعة ......
فأتت وركبت مع خادمتها في المقعد الخلفي وسرت بهما إلى قاعة الحفلة وقالت إن موعد انتهاء الحفلة الساعة الثالثة صباحا .
عادت من الحفلة وكل شي في السيارة في هدوء تام ولم يتكلم أي منا بكلمة واحدة ....إلا عطرها فقد كان وحده هو الذي يصرخ بين مراتب السيارة ويقول شعرا ونثرا وأحاديث تعجز عن تبليغها السنة الخطباء .
وفي صباح اليوم التالي وعندما ركب أبو جميل مع ابنته السيارة
- ايش هاذي الريحة ياواد .
- كانت البنت اللي قلت لي عليها التي تغني في الأفراح في حفلة البارحة وهذا عطرها .
- والله عطرها طيب.
توالت طلبات الحفلات ومشاوير السوق لراويه حتى أنه لايكاد يمضي يوماً واحداً دون أن أذهب معها .... تارةً الى السوق ... وتارة إلى المستوصف ..... وأخرى في زيارات عائلية حتى تعلقت بها وأصبحت أتوحى صوتها كلما رن جرس الجوال . .. كانت تأتي دائما مع خادمتها أو مع تلك الطفلة التي كنت أحسبها ابنتها .
كنت أتمنى أن أقدر أن أفرش السيارة ورداً عندما تقبل على السيارة ويكاد قلبي يتبعها عندما تنزل منها حتى غدت شغلي الشاغل ... لكنني فوق ذلك كنت في أعلى درجات الأدب بل كنت أخجل أن أتطلع إلى وجهها أوحتى أنظر اليها من خلال مرآة السيارة ...(1/39)
كانت احياناً تعاملني مثلما تعامل المرأة سائق العائلة ... فتارة تطلب مني الوقوف أمام الصيدلية ثم تأمرني بالنزول لشراء بعض الأدوية أو أدوات التجميل وتارةً تطلب مني أن أحمل لها بعض مشترياتها إلى باب الشقة وكنت أتلذذ بذلك ...
ذات يوم طلبت مني أن أوصلها مع أمها إلى المستشفى فذهبت معها وأمها وخادمتها والطفلة إلى المستشفى بعد صلاة العصر.... وعندما وصلنا إلى المستشفى طلبت مني أن انتظر في السيارة .... وغابت أكثر من ساعتين....فعادت إليّ ...تطلب مني الحضور إلى مكتب التسجيل في المستشفى وعندما وصلت ...طلبت مني البطاقة الشخصية لأن والدتها سوف تدخل إلى الأقسام الداخلية ولن يتم ذلك إلا بمعرفة أحد أقاربها..
ناولتها البطاقة وأخذت الموظفة المسؤولة عن الملف كامل المعلومات منها وسألتني :
- صفة القرابة للمريضة .
- تلعثمت ..صفه القرابة ....صفة القرابة ولاحظتني راويه أتلعثم فضحكت فأنطلقت مني كلمة كانت محرجة بين الجد والهزل .
- فقلت ...زوج ابنتها .
كانت مثل اللسعة الكهربائية بالنسبة لها فأمسكت برأسها وهي لا تكاد تحبس أنفاسها عن الضحك .
- خذ .....وقع ..(.قالت لي الموظفة ).
- وقعنا ...قلتها وأنا أوقع على الورقة وأضحك .
وبقيت معها في المستشفى حتى تم إدخالها إلى غرفة داخلية وعدت بها وخادمتها وتلك الطفلة إلى العمارة فقالت :
- لقد أتعبتك معي .
- ابدا هذا واجبي .
- غدا سنذهب لزيارتها .
- في أي وقت تريدين أن أوصلك إليها فأنا جاهز وهذا رقم تلفوني عندك ....إنها مثل أمي .
- شكرا
وذهبت بها في اليوم التالي وكذلك اليوم الثالث وكل يوم كنت أعجب بها أكثر وأكثر وأحس أن قلبي ينجذب نحوها بطريقه لا أعرفها و بسعادة أحسها تملأ الكون الذي أعيش فيه.
كنت أحسً أنني نسيت أيام السجن والفصل من الوظيفة وعتاب أهلي وكل الأيام المرّة التي مرّت بحياتي .(1/40)
كنت أجد كل يوم شعور متجدد يجذبني لتلك المرأة وبعد أن عادت أمها إلى البيت انقطعت عني أكثر من أسبوع ولم أسمع صوتها ولم تطلب مني أن أوصلها إلى أيّ مكان فأحسست بغربة لها وأحسست بجوع لكي أراها أو أسمع صوتها أو أوصّلها إلى أي مكان فكتبت شطرا من بيت شعر لنزار قباني وأرسلته إلى تلفونها :
اشتقت إليك فعلمني أن لا أشتاق ...
لا أدري كيف كانت لدي الجرأة حتى أرسلت تلك الرسالة إليها .......أحسست بعدها بالندم ...أو انني قد أسأت الأدب معها وبداء الصراع بداخلي بين تيار الندم وتيار الشعور العفوي ... وأخذت أمشي في محيط الغرفة بطريقة لا إرادية .... وخرجت من ساعتها للعمل بالسيارة ولم أعد إلا بعد منتصف الليل وكنت ألوم نفسي طوال الوقت وأحسب أنني قد جنيت على نفسي وأن أبو جميل سوف يطردني من الغرفة وأنني قد أعميت عيني بيدي .. وأنني .... وأنني ....ومرت تلك الليلة ... التي كانت من أطول ليالي العمر وأكثرها هما ...
كان أكثر خوفي في تلك الليلة أن يطّلع أبو جميل علي تلك الرسالة ..
في صباح اليوم التالي ومنذ انبلاج الفجر الأول كنت أنتظر أن يطردني أبو جميل من الغرفة ...خرجت إلى سيارتي فمسحت زجاجها ونظّفت مراتبها وأًصلحت مايمكن إصلاحه من أمرها ...... كنت انتظر الوجه الذي سوف يقابلني به أبو جميل في صباح ذلك اليوم .... لكنة قابلني كعادته باسما...... وأوصلنا ابنته إلى الجامعة ... لكنة عندما عدت به الى البيت قال لي :
تعال اليوم نشرب القهوة عند أم جميل .
حينها قلت لنفسي ..هذه هي آخر أيامي في هذة العمارة إنها قهوة الطلاق ... أكيد إن البنت قد أفضت إليه بمنطوق تلك الرسالة ...ودخلت إلى المجلس وأنا قد ألتبست ثوب الجريمة..... ولم أعد انتظر إلا النطق بالحكم .
دخلنا إلى المجلس وأخذت ثلاجة القهوة وصبيت له فنجال وأخذت فنجال آخر أمامي ومددت يدي إلى التمرة ....... وعندها بداء حديثه وقال :(1/41)
شوف ياولدي صحيح أنت مثل ولدي ولاشفت منك إلاكل خير .......(.استرجعت يدي عن التمرة لأنتظر ماذا سيقول) .
- ..كل بسم الله ........كل تمرة يابوي .
- فأعدت يدي إلى الصحن وأخذ في حديثه:
الآن نحن أخذنا عليك وأنت أخذت علينا والحقيقة إنني ارتحت لك كثيرا.... وأنا وأم جميل....... خطر على بالنا .البارحة فكرة ما أدري وشرايك فيها .
(( قلت لابد إن الموضوع قد وصل اليهم ))
ــ خير إن شاء الله .
ــ هو خير بإذن الله .....إحنا نقول وشرايك تتزوج البنت راويه..... وهي مثل بنتنا برضه, والمسكينة لها كم سنة عايشة معانا هي وأمها ولا شفنا منها إلا كل خير .
وفي نفس الوقت أنت ساكن معانا والحقيقة إنني أفتخر بك وبأخلاقك الممتازة .... وعلى كده أنت زي ولدي وهي زي بنتي ... وكما يقول المثل .....( سمننا في دقيقنا ) فأقول وشرايك نخطب لك أنا وخالتك أم جميل البنت وتتوكلون على الله ...... وعلى الأقل تبقوا معانا ..ونبقي أسرة واحدة .... وهذا هو الموضوع الذي حبيت أناقشه معاك .
والحقيقه أنني بعد ماسمعت كلامه أرتاحت أعصابي وعاد الماء إلى وجهي واستجمعت ما تناثر من قواي التي تناثرت في أنحاء جسدي ....وأسندت ظهري إلى ظهر الكنبة التي كنت جالسا عليها وبدأت أتطمن .
(طالما الموضوع جاء على كذا فألامر بسيط )
ـ لكنني لا أعرفها ولم أرى حتى وجهها ولا أعرف عنها شيء.
- عندما تتزوجها فسوف تتعرف عليها أكثر.
- أتزوجها كذا بدون معرفة ؟
ـ يا عمي أحسبها مثل زواج المسيار في البداية وأنا متأكد البنت حاتعجبك وتأكد إنني ما أدلّك إلا على خير .
وأما النظرة الشرعية فمن حقك الشرعي وأنا وأم جميل نجيبها وتجلس معها وهذا من حقك .
- هي بنت أومطلقة ....؟
- مطلقة ......تزوجها أحد أقاربها وبعدين طلقها وأنا أعرف سبب طلاقها هو لايريد... أمها معها والبنت رفضت أن تترك أمها لوحدها .وهذا طلع ما فيه خير وطلقها .وهذي الحكاية كلنا في الحارة نعرفها(1/42)
- أنا أصلا لا أدري من أين هي ؟
- هي اعتبرها بنتي .... أنا اعتبرني أبوها . .
- هي من أي منطقة ؟
- هي من عندكم من الجنوب .
- لابد أن أجلس معها وأتناقش معها في ذلك .
- هذا من حقك ومن حقها أنها تشوفك وتجلس معك أيضا .
- هل هي موافقة ؟
- قد كلمناها قبل أن نكلمك .
- ووافقت ؟
- هي ما عندها مانع ولكن بشروط .
- ما هي شروطها ؟
- إذا أتفقتم أفهمناك بالشروط ...... أو يمكن هي تقول لك .
- ألا ترى أنها أكبر مني سنا .
- لا أعتقد أن هناك فرق كبير بينكما .
- لا .....لا...... شوف بنتها ماشاء الله .
- هذي البنت أولا .. ماهي بنتها ...... هذي أختها . وخليها تملا عليكم البيت حتى تجيبوا عيال إن شاء الله .
- وأنت ما رايك ؟
- الرآي ...... إنها جميلة ومؤدبة وماشفنا منها إلا كل خير وأنت سوف تحكم عليها إذا رايتها وجلست معها .....وبعدين مبسوطة وأنت لن تخسر شيء فالشقة عندها جاهزة ..... وهي لا تطلب إلا الستروقد وصفتك عندها أنك الرجل المثالي .الذي لا تصلح إلا له.
- والمهر ؟
- هذا الأمر بسيط ... وهي سوف تساعدك بالدنيا ...وايد مع ايد تبنى..
- يعني كم سيكون المهر ؟
- الذي تقدر تدفعه .
- أنا ما عندي شيء .
- مايجوز تتجوز الوليّه بدون مهر.... هذا حرام . لاتكون كحّيتي كذا بالمرّة .. اللي يشتريك لاتبيعه .
- إذا..... ادفع ألف ريال فأنت تعرف البير وغطاها .
- هي تريد الستر والمرأة دائما تحتاج لرجل يساعدها على الحياة والحالة المادية عندها جيدة هي وليّة غلبانة تحتاج لمن يذهب بها إلى السوق .. إلى الدكتور .. إلى شغلها وبيني وبينك أنا أراكم مناسبين لبعض والموضوع في صالحك أكثر .
ـ وأنت وأم جميل تنصحوني بها ؟
ـ نعم....... إننا نرضاك لها ونرضاها لك.
ـ دعني أفكر .... ( كان كل همي في هذه اللحظة أخي محمد )
ـ تفكر في ايش . والله عروس لقطة ...... اقترب مني ...
((1/43)
يابويه البنت تحبك ....تبغاها هي تجي تخطب فيك .....خليك إنت الرجّال وقول يا رب ).
ثم ألتفت إلى الوراء وصاح تعالي يا أم جميل .....( وكان يكلمني عن أم جميل)خاصمت نصف الحارةحتى تزوجتها وعيون عيال عمّها قد كذا ... وعقد في يديه بين المسبحة والإبهام ..
ـ يا ولدي الناس رايدينك وتوكل على الله ..... إحنا قلناها. لك الآن بالفم المليان .....والبنت طيبة وأنا أعرفها منذ خمس سنين ولو كانت غير ذلك ما سكنتها في بيتي....... لكن توكل على الله وخلي عمك أبو جميل يكمل الموضوع لا تخالفه أبدا ( قالت ذلك أم جميل ).
ـ شكرا جزاك الله خير.
ــ سمعت خالتك أم جميل لو كان فيها أي عيب أو شفنا منها حاجة والله لاطردها من اليوم الثاني..... ثم أنت الله يصلحك سوف تأتي على كل شي جاهز .... ويا بختك يا عم هذا ربك راضي عنك ..... مال وجمال وشقة وعروس وابسط يا عم ..... على قول أخواننا المصريين .
ـ ما عندي مانع إذا قابلتها وجلست معها سوف أقرر.
ـ هذا حقك الشرعي ........إذا نقول لأم جميل تروح تجيبها وتجلس أنت وأياها في الغرفة هنا ونحن في الغرفة التي بجنبكم .
ـ توكل على الله
ـ روحي يا أم جميل جيبي العروس .
ـ حاضر يا أخويه ........هالحين أروح....
وبعد حوالي نصف ساعة جاءت ام جميل :
هيا تعال هنا يا أبو جميل خلي الرجال ياخذ راحته في الكلام مع العروسة.
خرج أبو جميل وبقيت حوالي ربع ساعة أخرى وأنا انتظر قدوم العروس .وكان كل همي ...هو أخي محمد وماذا سيكون ردة فعله إذا عرف أنني تزوجت من مطربة .....وكيف سيكون ردي عليه وما هي المبررات التي سوف أسوقها إليه ...... وأخذت أتحدث مع نفسي في هذا الموضوع ....عند ذلك وفجأة دخلت راويه بدون حجاب على وجهها فأنستني ماكنت أفكّر فيه .... وسلمت... وجلست على الكنبة التي في الجانب المقابل لي من الغرفة وبدأت أتأملها بذهول والحقيقة أنني لم أعد أفهم شيئا.... ولم أعد أفكر في أخي ولا في غيره ...
..(1/44)
تبارك الخلاق ... هل أنا بحلم ....... كان كل شيء فيها جذ ّّاب وجهها......جسمها ... كفاها ... عيناها ... ملابسها ... الكنبة التي تجلس عليها .... الغرفة التي نجلس فيها ... هي ليست بيضاء كثيرا ...... لونها أقرب إلى الحمرة لكن رسوم وجهها جميلة جدا ... وقفت في مكاني ..... ثم جلست ...كدت أن أمد إليها يدي فأصافحها .... .... يكاد قلبي أن يخرج من صدري .. تكاد عيناي أن تهرب مني وتستلقي بين يديها ...... لكنني أثرت أن لا أكون خفيفا.....رغم أنني أحبس في نفسي ثورة إعجاب لا توصف ... تناثرت قواي وأحاسيسي لتنتشر حولها ... خرس لساني لاأدري ماذا أقول .فأخذت اقترب منها بطريقة عفوية مثلما يتصرف البلداء ...... كانت تلبس فستانا بنفسجيا وأنا أحب هذا اللون من الملابس وعلى رأسها شال أبيض ....... كل ما فيها ينطق بسمفونية عذبة بمفرده فأحتار إلى من استمع لا ترى عيني منها عضوا حتى يلفت انتباهي عضو أجمل منه ..... حتى في اختيار الألوان فقد كان التناسق رائعا ...... كنت أغمض عيناي وأفتحهما أمامها بطريقة ممزوجة بين الدعابة والجد.... وأشعرها أنني فعلا ... منبهر بما رأيت ..... ثم لملمت مشاعري وبدأت حديثي معها:
- إنني أتشرف أن أطلب يدك على سنّة الله ورسوله
- لقد أخبرني بذلك أبو جميل وأثني عليك كثيرًا.
ـ وسأكون أفضل مما قال بإذن الله .
ـ إنني أتمني ذلك ..وكل فتاة ترغب في الزواج وتريد أن يكون زوجها من أفضل الناس ...لكنني قد مررت بتجربة قاسية .. قاسية جدا .وأنا لا أخفي عليك حالة والدتي فهي بحاجة إلي رعاية خاصة.
ـ أنها مثل والدتي أنا أيضا وستكون والدتي أنا من هذه اللحظة.
ـ أرجو أن تكون صادقا ...وأنا كما تعلم عملي قد لايكون مرغوبا لديك .....يعني قد تمنعني في يوم من الأيام وأنا لا عمل لي غيره... وعملي دائما مع النساء .
ـ ليس لدي مانع طالما أن هذا بين النساء وأنا سأكون معك من الآن فصاعد ...
ـ هذا صحيح ..(1/45)
ساد الصمت قليلا ........
ـ هل لديك شروط أخرى . ؟
ـ هذه ليست شروط .
ـ أقصد أسئلة أو استفسارات ؟
ـ أبدا . وأنت لديك أسئلة... أو استفسارات ؟
ـ أنا لو أطلب من ربي أكثر من كذا ..... يعتبر كفر .
ـ أعوذ بالله من الكفر ( وابتسمت أحسست أنها ابتسامة رضا وشعرت بأنها تضيء سماء الغرفة التي نجلس فيها )..
ـ لم أسمع جوابك ........ هل تقبلين بي زوجا
ـ إذا قبلت ماقلته لك وموافق عليه فأنني أوافق .. وأنت ؟
ـ نعم أنا راض وموافق ..... موافق .. ....موااااااااااافق . ورفعت صوتي حتي يسمع أبو جميل .
ـ هذا الكلام الصحيح ..... خليك تعرف قدر النعمة يابن الذين . ..وتدعي لخالتك أم جميل ( قالها أبو جميل من الغرفة المجاوره بصوت مرتفع أيضا ).
وبعد ذلك حاولت أن أدخل معها في دعابة ومرح..... وأن لا تكون هذه الجلسة مجرد استجواب ... فأخذت أتأملها عن قرب . وأطلب منها أن تقف ثم تمشي... وأسألها لا يكون هناك رجل أطول من الأخرى أو أن بها عاهة من العاهات .... بطريقة مرحة جعلتها تتعلق بي أكثر وأكثر .....ولم ندري إلا ونحن نضحك بصوت مرتفع وكأننا نعرف بعضننا منذ مدة طويلة .....وكان أبو جميل وفقه الله يصفق عندما يسمعنا على تلك الحالة .فارفع صوتي أنا
ـ خلاص يا أبو جميل إحنا متفقين ,
ـ أروح أجيب المأذون ..... ؟
ـ أما أنا فأعتبرني جاهز .... .
وأخذت مع عروستي أطراف الحديث عن أهلها ولماذا تعيش هنا مع أمها في مدينة جدة ...فأعطتني معلومات عامة وأوعدتني أنها ستشرح قصتها فيما بعد
ـ صاح أبو جميل من الداخل:باقي نصف ساعة على ميعاد البنت.
ــ توكل على الله .
ـ يا بويه .. كملوا كلامكم بعدين.
ـ وهو كذلك .....ثم خرجت من عندي بعد أن اقتنع كلا منا بصاحبه .وبعد ذلك دخل أبو جميل وقال..:.. شوف يا ولدي كم تقدر تدفع مهر.
ـ الف ريال
ـ وهي قبلت بذلك المهر ؟
ـ ما أدري .....أسألها ؟
ـ كانت لا تزال في الغرفة المجاورة..(1/46)
فخرج إليها وعاد مسرعا وقال....: قبلت يابويه ...... وتوكل على الله . ألف مبروك يا ولدي والله أنت حظك زين ..
ـ تعال أنا وأنت ... نروح نكلم أمها أولا .
ـ توكلنا علي الله ... وذهبت معه وخطب لي أبو جميل العروس من أمها التي أبدت سرورها بذلك .
وبعدما رجعت معه إلى الغرفة قال لي :
- العشاء تراه على حسابي .. والله إنكم ضيوف عندنا الليلة .... وأنا وأنت وأم جميل والعروس ونزهم أهل العمارة وخلينا نفرح بيكم الليلة .
- لا.. أبدا ....أنا الذي سأتحمل ذلك .
- قلت لك علي حسابي خلاص خليني أفرح معاك الليلة .انتهى الأمر.
- ومتي نذهب إلى المأذون.
- بعد صلاة العصر . لكن لابد أن تدفع لها المهر أولا .
- إذا أنا سأذهب إلى غرفتي لأحضر الفلوس .
- أنت جيب الفلوس وأنا اطلب منها أن توكلني في عقد القِرآن فذهبت إلى غرفتي وأحضرت الفلوس ولم أعد إليه حتى أخذ أبوجميل تفويضها على عقد قرانها وأعطيته الفلوس وطلبت منه تسليمها بدوره إلى راويه ..
- لا .....لا أبدا أن تعطيها أنت بيدك فأعطيتها ألف ريال وخرجت أنا وأبو جميل إلى الجامعة . وبعد صلاة العصر ذهبنا إلى المأذون ولم نعد حتى انتهى الأمر وأصبحت راويه زوجتي على سنة الله ورسوله
بت مع زوجتي في أسعد مبيت وانتقلت من غرفة الحارس إلى غرفة نوم تعج بها رائحة العطر الباريسي وشعرت أنني أصبحت أصعد في سلم الحياة إلى ما هو أرقى من درجات السائقين والطبقات الكادحة بعض الشيء وشعرت أيضا بتحمل المسئولية ابتداء من تلك الليلة.
ولم يعكر صفو ليلتي تلك سوى قرع الباب صباحاً بقوة من أبو جميل :
- يالله يابويه ........اصحى يا حبيبي خل العسل بعدما نرجع من الجامعة.
فخرجت من فراشي وكأنني أخلع ثوب العافية وانطلقت إلى السيارة فأتى أبو جميل وابنته وعندما رآني :
- صباحية مباركة يا عريس .
- الله يبارك فيك .
- كيفك والزواج ؟
- الله يذكرك بالخير .
- أنا عارف أنك حاتنبسط ....بس لاعاد تتأخر في الصباح .(1/47)
- هذا صحيح .
- الله يوفقكم بس زي ما قلت لك تقوم بدري زي الأوادم ماتخليني أضيع أنا وبنتي .... وأنت في سابع نومه وينطبق علينا المثل الذي يقول ( دخلناهم بأيدينا وخرّجونا بأرجولنا).
- هذي أول ليلة ولن أتأخر مرّة ثانية بإذن الله .
وأخذت حياتي في تحسن وكل يوم أجد في زوجتي مزايا جديدة تزيدني تعلق بها ........ فهي ذكية جدا وتعرف ما أريده أحيانا قبل أن أتكلم به.. راقية المشاعر ......كنت أعرف ذلك من اختيارها لبعض الكلمات وأبيات الشعر الذي تحفظها وتستشهد به أحيانًا وثقافتها عالية جدًا.
سألتها يوم لماذا لاتواصل دراستها فأخبرتني أن ذلك بسبب ظروف الحياة القاسية التي عاشت فيها ... وأشارت بيدها إلى أمها المريضة والتي كانت مضطجعة في سريرها..... لا تكاد تعلم بوجودها في البيت الا عندما تقوم الى دورة المياة أو تعود منها .إلا أنني أردت أن أفهم عنها كل شيء فيما بعد . فقالت :
أنا فتاة من إحدى مدن الساحل الجنوبي للمملكة وحيدة أمي وأبي ولي عم واحد , له ولد وبنت , تزوجت من ابن رجل من جيراننا كان والده صديق لوالدي وأنا لم أكمل المرحلة الثانوية بعد .
كان ترتيبي الأولى على المدرسة التي أدرس بها وكان الشاب الذي تزوجته من عائلة تسكن قريبا منا وكانت حالتهم المادية ميسورة بعض الشيء أكثر من والدي ... كنت أراه دون الأمل الذي انتظره إلا أنني كنت أرى أنه سيتغير بعد الزواج ولربما حسبت هذه حالة طيش الشباب ومن واقع ثقتي بنفسي أيضا كنت أرى أنني سوف أقوّم من خلقه ما يعوجّ ........وتزوجنا وكان يعمل جنديًا في مدينة جدة واستأجر لنا بيتًا شعبيًا سوف أعرفك عليه فيما بعد.... وسافرنا إلى جدة....
كان يظهر لي سوء حالته المادية من أول أسبوع وصلنا فيه إلى هنا وكأن يتلكاء في تأثيث البيت .... فكنت أخرج قطعا من ذهبي وأطلب منه أن يبيعها ويشتري لنا مكيف ... وغسالة ... وثلاجة حتى انتهت آخر قطعة من ذهبي .
- وراتبه .....؟(1/48)
- كأن يقول دائما أنه يرسله لأبوه لأنه قد خسر في زواجه خسارة كبيرة جدا وأن مصاريف الزواج دين عليه لأبيه .
كنت أقول إنني لابد أن أتحمل جزء من مسؤلية عش الزوجية كما يقال ....واستمر بنا الحال ولم يتعدل فيه شيء وأخذ يتلكأ في مصروف البيت بل إنني اكتشفت أنه يأكل مع زملائه ويشتري لي ساندويش عند عودته من الدوام ولا يشتري للبيت شيء وتدهورت حالتي الصحية ......, فكنت أخرج الى الجيران ليس بدافع الزيارة ....بل بدافع أن أجد لقمة أسدّ بها رمقي ...... وكنت أطلب منه أن يحضر لنا حتى ولو عيش جاف لعلني أشرب معه الماء ويكفينني إلى أن يفرجها الله علينا...... واستمرت حياتي معه شديدة الفقر علاوة على سوء المعاملة التي ألقاها منه ... وكان لا يتعدى ما يشتري به لنا في كل أسبوع عشرين ريال فقط ......وأخذ يتحجج بأجار البيت وأنه ليس لديه ما يمكن أن يشتري لنا به غير ذلك ...
لم يعد يهمني أمر الثياب أو اللباس أو العطور مثل الفتيات اللاتي في مستوى شبابي ... بل انحسر تفكيري في أكلي فقط وما يمكن أن أعيش به يومي ..
فشكوت حالتي إلى جارتنا أم غسان والتي سوف تتعرف عليها إن شاء الله وهي عجوز طيبة وجزاها الله عني خير... .فعرضت علي أن أعمل في قصر الأفراح الذي يملكه ابنها لكي أحصل من هناك على مرتب يمكن يساعد على مصاريف البيت. ومتطلبات الحياة فوافقت لكنه اشترطت موافقة زوجي فأخبرت زوجي بذلك فوافق.
وأخبرت أم غسان عن موافقة زوجي وأخذتني في اليوم الثاني إلى القصر وهناك قابلت ابنها والمسؤولين عن القصر وتم قبولي عاملة في قسم النساء.(1/49)
وبدأت العمل في قصر الأفراح وبدأت الحياة تعود إلى جسمي بل كنت أخذ معي أكل لزوجي من القصر وأمتلأت ثلاجة بيتنا بصنوف الأطعمة التي تبقى بعد موائد الأعراس بالإضافة إلى أن المرتب الذي أحصل عليه من القصر اشتري به ما ينقص من مستلزمات البيت...... وتعدلت الحالة المادية بالنسبة لنا وبدأت أضع رجلي على أول درجة في سلم الحياة الجديد ....إلا أن سوء الحظ كان لي بالمرصاد
........ توقفت عن الحديث وترقرقت الدموع في عيناها وبدأت تتساقط علي خديها الدموع مثل حبات الؤلؤ ... كنت أتصور أن هذه الدموع . ترجمة صادقة لألآم الجراح التي لم تندمل بعد من آثار تلك الأيام الصعبة التي عاشتها مع زوجها الأول الذي أقل ما يقال في حقه أنه لئيم ( ما أكرمهن إلا كريم ولا أهانهن إلا لئيم ) ولك أن تقيس على هذا العشرات من هذا الصنف ..
كنت أرى هذه الدموع عودة إلى ماض أسود في تاريخ الحياة التي لازالت جروحها طريّة يعود إليها النزف كلما أعادتها الذكرى لكن هذا النزف يخرج على شكل دموع مثل التي أراها فتخرج تلك الدموع أشد على العين حرارة من الدماء التي تلفظها الجراح الظاهرة.
- أنا آسف .... لاتكملي حديثك إن كنت متأثرة بالموقف .
ـ أبدا.........فقد توفي والدي عندما هبت على منطقتنا حمى الوادي المتصدع . وبقيت والدتي لوحدها. وهي مريضة كما ترى وكان من سوء حالتها بعد وفاة أبي أنني كلما اتصلت أسأل عنها أنها تبكي بحرقة تجعلني أتمنى أنني طائر أستطيع أن أطير إليها في تلك اللحظة ... وأخيرا أخبرتني أنها أدخلت المستشفى وأنها تعاني من آلام في الكبد والمرارة فطلبت من زوجي أن أحضر أمي لتعيش عندنا في جدة فرفض وعرضت عليه أيضا أن أقوم بدفع نصف الإيجار فرفض .
- ألم تنجبي أطفالا في خلال هذه الفترة.
- اسقطت ثلاث مرات في بداية حياتي الزوجية واعتقد أن ذلك من آثار الجوع ومن سوء التغذية .
ـ وبعد ذلك.(1/50)
ـ لم اكن أشعر بالثقة فيه فبدأت استعمل حبوب منع الحمل وكانت فكرة صائبة واضطررت بعد تدهور حالة أمي أن اطلب منه أن يوصلني إليها .فهددني بالطلاق فصممت على ذلك وطلبت منه أن يوصلني اليها وليكن بعدها مايكن وسافرت إلى أمي .
وهناك بقيت إلى جانبها حتى شفيت بحمد الله وخرجت من المستشفي . واستقرت حالتها الصحية ...لكن ورقة طلاقي كانت قد وصلت إلى في تلك الفترة
- الحمد لله هذا من حسن حظي ...
- وبقيت في جيزان بعد ذلك .
أراد ابن عمي ان يتزوجني كزوجة ثانية .
- وما المانع من ذلك ؟
- لا أستطيع أن أعيش معه فزوجته لا يمكن العيش معها وأطفاله كثيرين وهو عاطل عن العمل وفوق ذلك سيء الطباع فأنا أعرفه جيدا ولن أقدر أن أعيش معه وليس لي رغبة في تكرار زواج فاشل
ـ يعني إن شاء الله أنك رأيت أنني لن أكون مثله .
- أنا متفائلة جدا.فأنا استطيع أن أقرأ من ملامح وجه الشخص سلوكه وطبائعه ثم إنني ارتحت لك من أول يوم قابلتك فيه.
- إن شاء الله ....... أنا متأكد أن قرآتك صحيحة .....اكملي
- بعد إلحاح شديد من ابن عمي وخوفي من أنه سوف يضايقني في موضوع الزواج سأفرت أنا وأمي وجئت إلى أبو جميل الذي كان يعرف عن قصتي هو وأم جميل الكثير ومن ثم سكنت في هذه الشقة وفي اليوم التالي عدت الى أم غسان وأخبرتها بكامل قصتي فأعادتني إلى القصر بل إنها جزاها الله خير قد تحملت أجار الشقة التي أسكن فيها .
عدت إلى عملي وأنا أعرف أنني الآن مسؤلة عن نفسي وأمي وكذلك عن كل مافي القصر لأنه .. ما جزاء الإحسان إلا الإحسان
- وما هي قصة الغناء....؟
- جايتك أنا بالكلام.
- في إحدى الحفلات تأخرت المطربة التي كان أصحاب العرس متفقين معاها وكانت أم غسان موجودة في القصر في تلك الليلة .
فذهبت إليها
- إيش رايك يا أم غسان أن أقوم بإحياء الحفلة .
- إنتي تعرفين ؟
- جدا.....أحسن من المطربة التي بدّها تجي من برى .
ـ أخاف تتلبكي قدام الحريم وتصبح فضيحة .(1/51)
ـ إذا تلبكت لا يعطوني شيء .
ـ يعطونك أجرتك غصبا عنّهم .
ـ أكلمهم يا أم غسان ؟
ـ كلميهم ... وإلا أقل لك...... أنا اللي أروح أتفاهم معهم
دخلنا إلى القاعه وذهبنا إلى أم العريس وطلبت منها أم غسان أن تكلمها عني على جنب .
ـ فين المطربة حقتكم ....؟
ـ تأخرت ويقولون صار عليهم حادث ( قالت ذلك أم العريس )
ـ إيش رأيك أجب لك مغنية أحسن منها .
ـ عندك ؟
ـ ايوه عندي ....عندنا واحدة في القصرممتازة .
ـ الله يوفقك .حلي لنا المشكلة .
ـ كم هي أجرة المطربة اللي تأخرت ؟
ـ عشرة الآلف .
ـ إنتي أديني ثلاثة الآف وأنا أورّيك الطرب الصحيح .
ـ نحنا قد سلمنا نصف الفلوس للي ما تتسمي ..
ـ بكيفك أنا قلت لك وإنتي حرّة .... وأدارت لها ظهرها وكأنها زعلانة وأخذت أم العريس تلف حوالين نفسها ثم عادت : .
ـ تعالي يا ستي ربع ساعة وأنا أجيب لك الفلوس وبعد أقل من ذلك جاءت بالفلوس وسمعت أم غسان تناديني ..
ـ خذي يا بنت الفلوس بس أوعك تفشلينا ....... وصعدت على منصّة الحفل
عندما أخذت المكرفون خفت وارتجفت ... لكنني استرجعت قواي وبدأت اغني لهم :
غافل الهم قلبي والزمان استدار
... وشوقي اللي هويته أصبح اليوم ضدي
طال ليلي أنا ويلي أبيه النهار
... وضاعت خطاي حتى الدرب عيّا يودي
كان صوتي عذب جدًا وأفضل من صوت المطربات اللاتي يأتين إلى القصر لكن بدون أدوات موسيقية وطبول وربما ذلك أعطى صوتي عذوبة أكثر . فقوبلت بهتاف وتصفيق من الحاضرات واللاتي كن مستغربات لأن بعضهم يعرفني وشاهدنني في بداية الحفلة أرتب مع من يرتب داخل القاعة كما أن ثيابي لم تكن مثل ملابس المطربات .... وكذلك لم يكن معي من يضرب بالدفوف أو الطيران بل كنت لوحدي لكنني كنت أجيد الغناء وبدون تكلف وعدت أردد :
يالغضي كيف اشوف الحلم والنوم طار
... والحقيقة تعل الحيل غصب وتهد
كل حزن تلملم من يمين ويسار
... ... واجتمع في خفوق باح سده وسدي(1/52)
وعند ذلك خنقتني العبرة لا أدري كيف فعلت ذلك .. فبكيت وأبكيت كل من في القاعة.
وجلست على كرسي كان في طرف المنصة أمسح دموعي ...... وأتى إلى عدد من الحاضرات وكن كلهن يواسينني وكل واحدة منهن تطلب مني أن أعود للغناء .
كنت اسمع بعض النساء يدعين عليّ .
واحده تقول ....الله لا يوفقك.
وأم العريس تقول:
ـ قلبتيها نكد... يا قليله الحياء وبعضهن يقول هذا ماهو طرب الليله قلبتوها عزاء .
ـ وأخرى تقول : من أين جبتوها هذي من خدامات القصر ...وشيء من هذا الكلام .
قمت مرّة ثانية وغنيت أجمل من ذي قبل وكن كلما طلبن مني أن أغني اغنية .. غنيتها أحسن من التي قبلها ... فقد تعودت علي الوقوف أمامهن وكذلك كان صوتي يساعدني في ذلك وكانت ليلة من أجمل ليالي القصر .. ولم أخرج من القاعة حتى جأتني إحدى المدعوات :
وسألتني إن كنت أستطيع أن أغني في زفاف ابنها بعد أسبوع ..
ـ نعم لكنني لا أستطيع أن أغني في غير هذا القصر
ـ لا هي في هذا القصر ...بس ما تقلبينها بكاء... زي الليلة
ـ ما أدري كيف حصل ذلك .
ـ إنتي صوتك جميل جدًا...إذا توعديني فبلاش أتفق مع مطربة غيرك.
ـ ما عندي مانع
ـ راح أديك ثلاثة آلاف ..... زي الليلة .
ـ قليلة يا ستي .
ـ أنا أجيب لك بنتين يساعدوك بالإيقاع ...وإهي مكسب لك إنتي كمان حتى الناس يعرفوك.... وإنتي جديدة ولابد ما تكون أسعارك مهاودة.
ـ خلاص ما عندي مانع وسوف تكون حفلة ممتازة.
ـ وأقمت الحفلة وكانت ممتازة بكل المقاييس وبعد ذلك أخذت معي بعض الفتيات اللاتي يساعدني في الإيقاع .وهكذا استمريت حتى طلعت لي إنت ....ما أدري منين جيت .
ـ إنما طلعتي كانت في الوقت المناسب.......وضحكت
ـ جدًا ...... فأنا لم أعد أستطيع العيش بدونك ثم استشهدت ببيت شعر نبطي يقول قائله :
أنت بعيوني وين ما أطالع ألقاك
... ... حتى لو أغمّض عيوني لقيتك(1/53)
ـ أنا ما أدري من وين هذا الكلام الحلو.....اعتقد لو أنك اكملتي دراستك لكنتي من ذوات المناصب .
ـ خلاص راحت علينا ......إنني أقرأ كثيرا وأحب الأشعار القوية والتي أجد بها صورًا وأحاسيس صادقة ومعبرة تجبرني على حفظها .....لكنني أريد أن أعرف عنك مثلما عرفت عني .
ـ أنا قصتي موجعة وقاسية فلا تشغلي نفسك بها لأنها جرح لايندمل.
ـ أريد أن أسمعها مهما كانت .
ـ إليك يا سيدتي...............
ـ وبدأت أسرد لها قصة حياتي حتى انتهيت بزواجي منها .
ـ خفت إذًا من الرسالة التي أرسلتها في الجوال .
ـ نعم هذا صحيح .
ـ ستبقى هذه الرسالة في جوالي إلى الأبد .. لأنها أغلى رسالة استقبلتها في حياتي.
- ولك عندي من أشكالها الكثير وكثير جدا .
ـ لن تكون مثل الرسالة تلك أبدا ... لكنني أرى إنني أنا وأنت قد شربنا من كأس واحد
... ... عمر الزمن ما حقق لخاطري شيء
... ... عسى العوض في باقيات الليالي
ـ هذي فترة وانتهت إن شاء الله .
وهكذا تمضي بنا الأيام أنا وزوجتي وأختها ووالدتها ..... وتتوفى أم زوجتي بعد زواجنا بثلاثة أشهر .
بدأت أحنّ إلى أهلي وأتمنى أن أرى أبي وأختي وأخي سلمان وأيضا أخي محمد رغم قساوته علي فهو أخي ولابد أن يكون معذورًا لأنه يريد أن يرى مني شخصًا مثاليًا وأن العادات التي ولدنا فيها هي ثابتة ويجب عدم المساس بها أو تطويرها مع تطور الزمن....... ويرى مالم يره أفلاطون في دولته المثالية .
بقيت مفاتيح الحارس معي وكنت أجلس أنا وصاحب العمارة فيها أحيانا بعد صلاه العشاء ويتجمع معنا بعض سكان العمارة وكذلك بعض السكان المجاورين لنا في البيوت المجاورة نسمر فيها ونتسلّى مع بعضنا وذات ليلة عرض علينا أحد الجيران عمارة له بها شقق مفروشة قريبة من العمارة التي نسكن بها .
كان صاحب العمارة يعرف أبو جميل جيدًا ..
ـ أنا استأجرها قال ذلك أبو جميل
ـ وأنت أفضل من غيرك .
ـ أبغى أعرف بعض الشيء أولا... عن دخل العمارة ومحتوياتها(1/54)
ـ هذا من حقك .
ـ خلاص أنا استأجرها (وأشار إليّ بعينه إشارة لم أفهم منها شيء)
ولكن كم أجارها ..؟
ـ لا عليك فأنت على الأقل اطمأن أنك ستكون أحرص من غيرك على عمارتي .
ـ إذا ..غدا نروح ونشوفها أنا وأنت ونتفق على كل شيء .لكن لماذا لا تقوم أنت بذلك مادمت عندنا في جدة.
ـ أنا انتقل عملي إلى الرياض ولا يمكنني ذلك.
ـ إذا اتفقنا .
وبعد أن خرج المتواجدون من الغرفة بقيت أنا وأبو جميل فإذا به يقول:
ـ سوي لنا شاي خليني أتفاهم أنا وإياك .
ـ على ايش ....؟
ـ أنت سوي الشاي وتعال بعدين أقول لك.
ـ اعتبر الشاي جاهز ووضعت الإبريق على الغاز ورجعت إليه .
ـ شوف أنا وأنت نأخذ العمارة ونأجرها سوا .
ـ لكنني ما عندي فلوس .
ـ ما عليك نعطيه دفعات .
ـ والله فكرة طيبة.
ـ لكن عندي شرط .
ـ وأنا موافق مسبقا .
ـ أنا ما عندي القدرة على المتابعة .......أنت وحدك تتحمل كل المسئولية .والدخل بالنصف وأنا ماعندي استطاعة أن أداوم فيها ولا حتى أوصلها.
ـ أنا عليّ الإشراف وكل شيء وسوف تكون على مايرام ..... اعتبر كل شيء على الوجه المطلوب .
ـ إذا توكلنا على الله .أنا سوف أحاول أن أخذها بأجر طيب حتى نستفيد من وراها .
ـ لاتنسى أننا نحتاج موظف أو اثنين وكذلك عمال نظافة ومصاريف تلفون وغير ذلك .
ـ هذا أمر معروف .
استلمنا الشقق المفروشة وكان لدينا أربعة عمال يتناوب اثنان منهما على أعمال الكونتر في تأجير الشقق واثنان عمال نظافة أتينا بهما من بعض الشركات للعمل لساعات محددة بعد انتهاء عملهما في الشركة التي يعملان بها ....
كنت مواظب على الذهاب بصاحب العمارة أبو جميل إلى الجامعة وكذلك أنا المسؤول عن الحفلات التي تقيمها زوجتي .
بالإضافة إلى إشرافي على الشقق المفروشة .
ومضى وقت طويل وأنا اقضي اغلب يومي مع العمال في الشقق المفروشة حتى استتب الوضع .وأصبحت لا تخلا من المستاجرين إلا أيام قليلة ..(1/55)
وتحسنت حالتي المادية في خلال سنة واحدة فأخذني الحنين لأن أرى أبي وأخوتي وسافرت الى القرية.
كان شوقي كبير إلى أخي سلمان وأختي أما أبي وأخي فكان خوفي يسبقي إليهما بمسافة طويلة .
كنت متعمدا أن لا أصل إلى البيت إلا بعد المغرب حتى أجد والدي قد عاد من صلاة المغرب ,
نزلت إلى البيت واتجهت إلى والدي وأنا في هيئة حسنة حتى أعطي أبي فكرة حسنة أنني ميسور الحال.
ــ السلام عليكم .وأخذت أقبل وجهه ورأسه وكفه.
ـ وعليكم السلام .(كانت لهجته مزيجا من الدهشة والعتب)
ـ كيف حالك يا أبي ..
ـ بخير والحمد لله ......- زين اللي أفتكرتني .
ـ ما نسيتك أبدا..... ولكن كانت ظروفي صعبة .
ـ الحمد لله على السلامة ....حياك الله .
- الله يسلمك .... وجلست إلى جانبه بعد أن سلمت على بقية أخوتي ...
كم كانت فرحة أخي سلمان كما هي في المرة السابقة لاتوصف وكذلك أختي .بل كل من في البيت حتى أخي محمد كان استقباله لي حسنا هو وأولاده وزوجته .
بت ليلتي تلك ساهرا . أنا وسلمان وساميه وأخذني الحنين لتلك الغرفة التي عشنا فيها سويا طيلة أيام دراستنا والتي تعتبرمن أجمل ما أتذكر من أيام حلوة في بيتنا ذلك........ كنت أحمل نقود لهما فأعطيت كل واحد منهما مبلغ من المال وهمست إلى أخي سلمان بكل سر من أسرار حياتي إلا موضوع زواجي وأعطيته ما يشتري به تلفون خاص وكتبت له أرقام تلفوناتي .
لم أمكث أكثر من يوم واحد أعطيت أبي أيضا مبلغا من المال رغم أنه لم يأخذه مني إلا بعد الحاح شديد ...... لكنني رأيت أنه راض عني بعد أن أخبرته أنني بخير وأنني أعمل في وظيفة ممتازة في إحدى الشركات في مدينة جدة....وأن حالتي تتحسن يوما بعد يوم(1/56)
كنت أقوم بزيارات متفاوتة إلى الشابين اللذين جلست عندهما حينما وصلت إلى مدينة جدة. كنت آتي اليهما أسمع منهما أخبار القرية وأتسلّى معهما بعض الوقت إلا أنهما لايعرفان عني شيء فكنت كمن يأخذ منهما ولا يعطيهما ... بل إنني أخبر تهما أنني أعمل في منطقة عسكرية بها سكن داخلي ولا يسمح فيه بالزيارة.... وهكذا كانت زياراتي لهما قصيرة وقليلة لاتتعدى زيارة واحدة كل شهر وكنت كلما ذهبت إليهما يأخذنا الحديث عن القرية والشباب والشابات وأخبار الزواج والطلاق .. وكانا دائما يسألاني .. متى سأعود الى القرية ..... ومتى سأخطب .... ومن هي الفتاة التي سأتقدم لها .... وكان يدور الحديث واستمع منهما إلى أسماء بعض البنات اللا تي يدور الحديث حولهن فتحركني غريزة الشباب ....... وكنت أحدث نفسي بالزواج من إحداهن كلما خلوت بنفسي .فلقد أصبح لدي رصيد كبير بالبنك .. لكنني كنت أقابل بهاتف من خلف أذني دائما يقول لي :
(إن هذه الفلوس أغلبها فلوس زوجتك فكيف تتزوج عليها إمرأة أخرى بفلوسها ..)؟
بين هذه وتلك كانت دوافع الشباب تحداني وتصور لي أن زوجتي هذه تزوجتها لظرف جمعتني بها .. ثم أتذكر ماقاله لي أبو جميل في حينه ( ياعمي احسبها زي زواج المسيار )وهي ليست بكر عندما تزوجتها وأنا لا زلت شباب وكذلك هي أكبر مني . وهذا وحده عذر مقنع .... وأخذت استلهم الأسباب والأعذار التي تفتح أمامي طريق الزواج مرّة أخرى ... وصدق الله العظيم چ گ گ ? ? ? ? ? ? ? چ العلق: 6 – 8
ولم يوقف تفكيري في هذا الأمر إلا حادث تعرضت له عندما كنت أمشي قاطعا الشارع الذي أمام الشقة وأتى شاب مسرعا بسيارته فقذف بي إلى الرصيف المقابل فكسرت يدي ولحق بباقي جسمي رضوض وجروح كانت بعضها بليغة..(1/57)
أيقنت بعد ذلك أن هذا إنذار من الله وانتقام لما أفكر فيه حيال زوجتي التي كانت لي في تلك الأيام الزوجة والأم والأخت والممرضة والدكتور حتى خجلت من نفسي وعاهدت الله أنني لن أعملها إلا أن يكتب الله أمرا لا أدري به...
أصبحت السائق الخصوصي لسكان العمارة وكنت أجد في كل صبيحة يوم جدول بالمشاوير المطلوبة مني لدى زوجتي ولصعوبة السير في شوارع جدة في أوقات دخول الطلاب إلى المدارس والخروج منها فإن أغلب السكان يرغبون أن يذهبوا إلى أعمالهم مباشرة إذا وجدوا من يثقون به لإيصال أطفالهم إلى المدارس والعودة بهم منها سيما أن الأجرة التي سيدفعونها معقولة هذا بالأضافة إلى مواعيد المستشفيات وغيرها .
اشتريت سيارة مكروباص لنقل الطلاب إلى المدارس بعد ازدياد العدد عما يمكن أن تحمله سيارتي الصغيرة .
مات أبي بعد عودتي من القرية بعد تلك الزيارة التي قمت بها بحوالي شهرين تقريبا ......وقد كان حزني عليه كبيرا . ربما لأنني كنت أكثر أولاده شقاءً ولم يرى مني من البر مايستحقه الأب من ابنه أو لأنني سببت له متاعب نفسية بدخولي السجن وطردي من الوظيفة ...... إلا أن ذلك لم يكن بيدي .. فالإنسان لايمكن أن يختار مسار حياته بنفسه ..... وإنما حيث ما تجري به المقادير .... ويزيد من حزني عليه تلك الرسالة التي نقلتها أختي منه قبل موته والتي مفادها أنه راض عني ويدعو لي بالتوفيق .
جلست في العزاء ثلاثة أيام ثم عدت بعدها إلى عملي في مدينة جدة وأنا أحس أنني أصبحت مسئولا ليس عن نفسي وزوجتي وأختها فقط بل أرى إنني مسئول بعض المسئولية عن أخي سلمان وأختي ساميه أيضا ..(1/58)
مضى على زواجي من راويه أكثر من سنة و ثمانية أشهر كنا خلالها من أسعد الناس أنا وزوجتي وأختها والخادمة التي عندنا....... لكنني كنت أجد ان هناك شيء ينقصنا وهو إنجاب طفل أو طفلين نكمل بها سعادتنا .... وجدت أن لدى زوجتي عذرا كنت قد قبلت به عند الزواج ..... بل كان شرطا في حينه.... في تأخير الأنجاب إلى أن تستقر بنا الأمور ولكننا الأن ربما تكون ظروفنا طبيعية وقد اطمأن كلاً منّا إلى صاحبه....
وتناقشنا في هذا الأمر مرات ومرات وكانت طبيعة عملها هو العذر الذي أجده لديها دائما بالأضافة إلى أنه لم يكن لديّ الجدّية كثيرا في ذلك .
مضى على موت أبي أربعة أشهر عندما أخبرني أخي سلمان أن أخي محمد قد خطب لي عروسا ويطلب مني الحضور إلى القرية .......كنت منزعجًا لذلك الخبر الذي توقعت أنه سوف يفتح المواجهة بيني وبين أخي .
أخذت الأمر ببساطة على أن الخبر لم يصلني . لكن لم يمض على ذلك بضعة أيام حتى كلمني أخي محمد بلهجة العاتب على من يتجاهل أوامره وطلب مني الحضور يوم الأربعاء .
أيقنت عند ذلك أن الأمر يحتاج إلى مشورة أبو جميل فانتظرت حتى رأيته عائدًا من المسجد ... فتبعته وطرقت الباب بعد دخوله ..:
ـ أهلاً وسهلاً ... تفضل ياولدي .
ـ أريد مشورتك في أمر يشكل عليّ .
ـ تفضل حياك الله .
- جلست معه في المجلس وشرحت له ما جئت من أجله.
- هو يريد يزوّجك إذا من القرية.
- واعتقد أنه قد خطب .
- يا أبويه .....هي فوضى يخطب لك.... لوحده .كذا من الباب للطاقة ....
طيب كان يشاورك عليها قبل ..... لكن قل لي أنت مرتاح مع زوجتك ؟
ـ نعم مرتاح كل الراحة.
ـ إذا ليش تتزوج مرة أخرى ...؟ (ضحك) أنا أعتقد أنه ما يمكن يسويها كذا على طول من الباب إلى الطاقة ... أنا متأكد إنك أنت لك رغبة في واحدة من القرية ....
ـ لا أبدا صدقني إنني فوجئت بالأمر أيضاً .(1/59)
ـ يا بويه إذا تقبل رأيي ومرتاح مع زوجتك لا تقبل ... والله أنا أشوفك مثل ولدي ولا ادلّك الا على خير ...... تدري يابويه .......ماله عندك شيء ...
ـ كيف...؟
ـ قلها له على بلاطة .....قول له إنك متزوج .
ـ ماذا ... لا أقدر.
ـ ليش ....؟
ـ بيقول لي...... ليش. ما أخبرتنا عن الزواج ولماذا لم نحضر زواجك ومن هي زوجتك ومن أي عائلة....ثم إنه إذا عرف أنها مطربة .يا ويلي عندئذ..
ـ يابويه أنا أقول ...ماله عندك شيء ... خليه يبلط البحر ...شوف ...زوجتك كرهت منها شيء .. خلال الفترة التي مضت ...؟
ـ لا أبدًا .سمن على عسل .
ـ والله هي طيبة وآدمية وفلوسكم سوى على ما اعتقد .
ـ نعم هذا صحيح .
ـ إذا ايش تبغى في وجع القلب .خليك رجال . والمسكينة مقطوعة من شجرة على ما أعرف.... لا تدخل النكد على حياتك طالما أنتم مرتاحين ...... حياتك أنت تقررها وتعيشها وحدك .
ـ والحل .....؟
ـ الحل ...... إنت تروح لهم ..... بس ما يقرر أمورك غيرك .
ـ أرفض فكرة الزواج .... وكان الله بالسر عليم
ـ هذا أفضل الآن .
ـ وإذا طلبوني مبررات .
ـ .........( سكت ثم قال ) :يابوي قول له الموضوع على بلاطة....( ومصيره يعرف ..وخبّره إنك متزوج ... وهذه الأمور دائماً تبدأ مشكلتها كبيرة ثم تتلاشى مع الزمن وسيتقبّل الأمر أخيراً بكل بساطة ).
ـ هذا معقول ... أنا سأذهب هناك بعد غد إن شاء الله ويكتب الله ما فيه الخير ....
سافرت إلى القرية وأثناء سيري الذي استغرق حوالي خمس ساعات كنت أعدّ أجوبةً للأسئلة التي سأقابل بها أخي عند وصولي إلى القرية .
عندما وصلت إلى القرية قوبلت بحفاوةٍ بالغةٍ من أهلي جميعا فرأيت أن الأمور قد لا يكون بها من التعقيد ما كنت أحسبه.
بعد العشاء طلب مني أخي محمد الانتقال معه في غرفته الخاصة وبدأ حديثه معي :
ـ أنا تكلمت مع أبو سعيد في ابنته التي تخرجت من الجامعة وأعتقد أنك تعرفها فهم جيراننا .(1/60)
ـ أبوسعيد ..... أعوذ بالله ( قلت في نفسي لابد أن أعطيه كرت أحمر من بداية المباراة).
ـ لماذا ...؟
ـ هذا الشخص أنا ما أطيقه .
ـ البنت ممتازة وسوف تصبح مدرسة وأنت تحتاج إلى من يساعدك في حياتك بعد فصلك من وظيفتك .... بعدين أنت مالك ومال أبوها ... أنت تزوج البنت وأبوها لايهمك أمره .
ـ هذا الرجل أنا ما أطيقه حتى لو كانت ابنته دكتورة .
ـ أنا قد كلمته في الموضوع ووافق معي ومن العيب أن ننسحب بدون مبررات مقبولة .
ـ ياخوي........ قول له أنا ما أبغى أتزوج .
ـ كنت أحسب انك ستفرح لذلك .
ـ ياخوي ما بعد صار شيء ...... أنا ما أبغاها .
ـ أريد أن أعرف السبب الذي تكرهه من أجله ...؟
ـ أنا أكرهه هكذا .... ثم أنا ما أعرف البنت هذه ..... أنا ما أعرفها وبعدين خطوبة القرون الوسطى هذه أنا ما أبغاها .
ـ طيّب .....ايش رايك إذاً تشوفها وتجلس معها فهذا من حقك الشرعي .
ـ أنا لا أريد أن أجلس معها ولا تجلس هي معي ... وانتهينا .
ـ أنا أتفقت مع أبوها أن الخطوبة ستكون يوم غد الخميس .
ـ إذا تبغاها خذها أنت .... أما أنا فلا أريد الزواج الآن .
ـ أنا الحق علي ّ ....... لكنني أشتم فيك رائحة لا أفهمها .
ـ أي رائحة ...
ـ أنت لاتريد الزواج نهائيا في الوقت الحاضر ..اليس كذلك ...؟
ـ نعم ......هذا صحيح .
ـ هل أنت متزوج ....؟
ـ ربما ....... ياأخي أنا خاطب فتاة في مدينة جدة وسوف أتزوجها .
ـ ايوه .....ايوه .... ايوه ...... قل لي الآن .....وأنا ماعندي مانع اسمع منك الحكاية من أولها ........ أنا والله احساسي ما يخيب ..... قايل لك أنني أشتم فيك رائحة ..... هات قل من هي ...من أي عائلة .... من أي قبيلة .... كيف تعرّفت عليها .
ـ هي من عائلة بسيطة لكنني لن أتزوج غيرها .
ـ إذا اذهب معك وأخطبها لك .
ـ أنا قد خطبتها وانتهى الأمر .
ـ خطبتها ... وإلا تزوجتها ...؟
ـ (.......................) لم أجاوب .
ـ أين يعمل أبوها ...؟(1/61)
ـ هي بنت يتيمة ...
ـ من أي أسرة ..؟
ـ قلت لك يتيمة ...
ـ من أي قبيلة ...؟
ـ من جهة جيزان ...
ـ .....وايش اللي وداك جيزان ...؟ أنت ما تقول إنك تشتغل في جدة .. أنت الآن في جدة وإلا في جيزان .؟
ـ هي من جيزان بس هي تعيش في جدة .
ـ إذا كان أبوها ميت ...من مين خطبتها ...؟
ـ من أمها...
ـ يعني قد خطبتها وانتهيت ..
- وتزوجتها .
- دون علمنا ....؟.
- كنت أعرف أنك لن توافق.
(لم اكمل كلمتي هذه حتى صفعني على وجهي صفعة لم اشعر بأقوى منها منذ طفولتي )...:
لا وفقك الله.............ما كفاك السرقة والسجن .تروح تتزوج واحدة ما نعرفها ولا نعرف مين أهلها .وارتفع صوته في الغرفة وحضر أخي سلمان وأختي وزوجته وأولاده ودخلوا وهو يرعد ويزبد......: ( خيّبك الله......كل يوم تجيب لنا مصيبة)..
كنت ساكتا ...واضعا يدي على خدي من شدة تلك اللطمة.
وهو يغلي في مكانه..... وأنا أنظر إليه..... وكأنه لم يكفه ذلك.... ويريد أن يلحقها بأخرى.... فقمت من المجلس إلى غرفة سلمان وأنا لا أزال أسمع صياحه وصراخه وهو يعلمهم بالقصة ويتوعدني بالطرد من البيت .
جلست على الكرسي الذي ينام عليه سلمان وأنا أقول لنفسي (أن اكتفى بهذا الكف فهو مقبول وسأتحمله وأعود الى جدة )...
كنت أعلم أنني سوف أتلقى منه درسًا قاسيًا ولذلك كنت جاهزًا لأي شيء يقدم عليه ومتوقعاً منه أسوأ الاحتمالات وفعلاً لقد اختار أسوأ ما عنده ولن أرد عليه ...وسأتحمله حتى ولو كان ذلك تقديراً لأبي الذي كان يحبه ...وكنت مستعدا لتلك اللطمة قبل أن تصلني ........ مثل الطالب البليد الذي يفتح يده لضربة المدرس .... ولن أتكلم معه بعد ذلك ولو بكلمة واحدة فقد انتهى الدرس .
أتى إليّ سلمان وساميه يهونّان عليّ الأمر بعد خروجي من المجلس
ـ هل أنت متزوج ...قال لي ذلك أخي سلمان .
ـ لم أرد عليه .....
ـ ساد الصمت في الغرفة وبقينا أكثر من نصف ساعة لا أسمع إلا همسا بينه وبين ساميه .(1/62)
ـ قامت إلى المطبخ وعملت شايا وأتت به .
ـ كانت الساعة حوالي الثانية عشرة ليلا .
سألني سلمان مرة أخرى .
ـ هل أنت متزوج ......أجبني ...؟
ـ نعم متزوج ....
ـ هل هي مدرسة ...؟
ـ بل مطربة .....
- مطربة..............(وضحك هو وأختي ساميه حتى ارتفع صوتهما بالضحك .. وحتى ضحكت أنا أيضًا من ضحكهما )...قلت لمحمد أنها مطربة ....وأخذ يضحك ويرد يده على فمه.... حتى لايسمع من في البيت ضحكه.
ـ لا.......لا ما قلت له .
ـ زين اللي ما قلت له .والله كان يذبحك..
ـ هي بنت ممتازة ومحترمة وهي تغني للنساء في صالات الأفراح فقط..
ـ عندك كاسيت لها.....نبغى نسمعها (وهويضحك) وإلا نسمّع الشريط لمحمد .......فهو يحب الأغاني كثيرا.
ـ لاداعي للسخرية.
ـ أنا مبسوط منك ...... لله درّّّّّك ......ياهكذا الزواج وإلا ..فلا (واستمر يضحك بطريقه عفوية أحبها فيه) ......بس يا ويلك لو درى محمد .. أخي ...احسن لك لا تقول له ..
ـ يا عمي خليه يدري .
ـ هات الشاي يا ساميه....... قال ذلك سلمان..
تعال يا حبيبي أحكي لنا القصة من أولها وحنّا اللي نقول .. أخونا تعبان........ والله يكون في عونه......حسرتي عليّ أنا ...هات العلم كله.
سردت لهما القصة منذ سفري الأول حتى وصولي إليهم في تلك الليلة .
وبعد أن هداء الجو في الغرفة.... وسكت غضبي..... بدأنا نتحدث في أمور القرية وأخبار الناس وما إلى ذلك .
ألتفتّ إلى ساميه .... كانت مبتسمة وكأنها تريد أن تقول شيئا فأردت أن افتح الموضوع معها ..
ـ ما رأيك كنت أتمنى أن تتعرفي عليها .
ـ كان عندي خبر أحسبه سيفرحك .
ـ عن ماذا ...؟
ـ عن خطيبتك السابقة.
ـ علياء .......ما بها ..؟
ـ خليها على الله ........... إن حظ المسكينة أردى من حظك .
- كيف ....؟
- الشاب الذي تزوجته .... تركها وذهب إلى أفغانستان وهناك قتل.
- قتل ....؟
- والمسكينة الآن أرملة ..
ـ وأين هي الآن ...؟(1/63)
ـ إنها عند أخوها ...... إذا كنت لا تريد بنت أبو سعيد .... إهي فرصة إن كنت تريد أن تعود الأمور إلى مجاريها .
ـ هل ترين ذلك ...؟
ــ الرأي لك أنت ..... والبنت كما أعلم تحبك .
ـ لقد باعوني جميعا ...... ومن الصعب أن أنسى ذلك .
ـ لم يكن بيدها أن تعمل شيء
ـ لا أستطيع أن أنسى .... ولن أذهب إلى أخيها واطلبها منه بعد أن أدار ظهره لي .. لا أستطيع .. لا أستطيع .. إنني أشعر أنه قد انتزعها من قلبي .
ـ كما تريد لكنني أعلم تمام العلم أنها لازالت تحبك .
ـ قولي لها لا تحبني .... فأنا ما فيني شيء ينحبّ ... أنا أقول كما قال الشاعر :
... احرص على اللي دايم الدوم شاريك
... واحذر من اللي لاقسى الوقت باعك
لم أنم من ليلتي تلك إلا القليل فقد كنت استعيد بالحركة البطيئة تلك الصفعة التي تلقيتها من أخي أحيانا.... وانتقل بأفكاري إلى خطيبتي السابقة والتي قد أصبحت أرملة أحيانا أخرى ...ويجذبني إليها حنين ممزوج بمرارة استغلال سجني من قبل أهلها وفسخ خطوبتي منها .
كان جانب الحنين قويا .لكن يقابله مقاومة عنيفة تدفعها عزة النفس وأذكر في ذلك قول الشاعر
... ماني من اللي يطردون المقفّن
... ... حاشا ولا أبغي واحدا مايبيني
في تلك اللحظة وصلتني رسالة على جوالي من زوجتي وكأنها تعلم ما أفكر فيه فإذا مكتوب بها شطر بيت الشعر الذي أرسلته لها قبل زواجنا .
( اشتقت إليك فعلمني أن لا أشتاق)
ثم اتبعتها برسالة اخرى بها بيت من الشعر يقول قائله :
قسمت روحي بعد غيبتك روحين
روح معك والثانية بانتظارك
وتذكرت عند ذلك قول الشاعر الآخر :
صدك عن اللي ملتفت لك ردى حظ
وركضك ورى اللي صد عنّك مذلة
... فزادت دوافع المقاومة لدي أكثر من ذي قبل وعقدت العزم على عدم التفكير في خطيبتي السابقة حتى لو ما يبق من النساء غيرها ثم إنني قد تلقيت درسا قاسيا عندما هممت بالزواج وليس لدي أي مبرر جديد للزواج من غيرها .(1/64)
غلبني النوم بعد ذلك ولم أفق إلا متأخرا وعند ذلك تناولت إفطاري وودعت أختي وأخي وخرجت من البيت.
كأنت المفأجاة عندما.....
فتحت الباب وخرجت ووقفت أمام الباب ....... كانت هناك إمرأة مقبلة ....كنت متجها إلى سيارتي ....... بفضول مني ألتفتّ لأعرف من تكون هذه المرأة .... سبحان الله ...... إنها علياء ...... ( خطيبتي السابقة ) .... أين ذاهبة ... لاشك أنها ذاهبة إلى إحدى قريباتها التي تسكن في بيت قريب من بيتنا .
الله اكبر ما أحسن الصدف . ..... نعم إنها هي ..
يوم اقبلت صّوت لها جرحي القديم
يوم اقبلت طرنا لها أنا وشوقي والنسيم
وقفت في مكاني وعندما أقتربت قليلا .....رأتني واقفا ....فجأة ... وقفت .... ..( لا أدري ما سرّ تلك الوقفة التي لم تدم إلا ثواني معدودة ) ثم واصلت سيرها ...( كنت أعتقد أنها همّت أن تغير اتجاهها لكنني خرجت فلم يعد يمكنها ذلك بعد أن اقتربت مني).......كانت سيارتي واقفة بجانب الطريق الذي ستسلكه...... تقدمت أنا قليلا وكأني ذاهب إلى السيارة .....حتى اقتربنا من بعضنا ......
انعقد لساني في فمي فلم أجرؤ على النطق إلا بالسلام عليكم.
* كد ت أن أبكي . أو أتقدم لأصافحها أو...أو .. أو.. لا أدري .
* يكاد قلبي يحتضنها.. وتكاد عيناي أن تقتلع ذلك الغطاء الخفيف الذي تضعه على وجهها...
* نسيت كل العتاب الذي كان في قلبي عليها البارحة وأبيات الشعر التي كنت أتمثل بها .
* كادت كل الجروح التي أحدثها فسخ الخطوبة أن تصرخ بصوت ممتزج فيه العتاب والصفح والألم ..... كادت جروحي الدامية أن تتقدم إليها . وتنثر الدماء في طريقها .. أحسست أن جسمي يرتجف وصوتي يضيع مني واختلط عندي المعقول مع اللا معقول ....
لم أجرؤ أن أقول لها أكثر من (السلام عليكم ) فكان ردها (وعليكم السلام )..بعد أن ابتلعت نصفها ولم أسمع إلا النصف الثاني.(1/65)
كنت أشعر أنها مكسورة الجناح مسلوبة الإرادة عبثت بها الأقدار ثم سارت وتركتها ....أشعر أنها تبادلني الشعور المأساوي الذي أعيشه لكن بطريقة الجاني .. لا المجنى عليه ..... كانت تسير قليلا ثم تلتفت فتراني لا زلت في مكاني ..
... خذني معك ماعد معي قلب إلى أقفيت
حيل الله أقوى يوم ريتك نسيته
اشقيتني ياكامل الزين وأقفيت
حتى النظر ياسيدي ما هنيته
وخليتني لاني بحيّ ولا ميت
كلا يبيع الهم وأنا اشتريته
* أشعر أن إلتفاتاتها المتكررة سوط تجلدني به أو مكبسا يعصر قلبي حتى اختلط بداخله الشوق والألم .... وأن إلتفاتتها تلك سهام ترميني بها واحدا بعد الآخر وليس لي حيلة أن أدافع عن نفسي أو أرد منها سهما واحدا مثلما يفعل الصياد بطير يصوبه ثم يتركه ويذهب .
كانت تلبس ثوبا زهريا منقوش بورد سماوي بارز كنت أراه عليها أيام خطوبتي لها وكنت أحبها تلبسه فلماذا تلبسه الآن...؟. أين ثياب العرس وما بعد العرس ... ...الله يادنيا .... ما أسرع الضحك من البكاء...... هل ينطبق عليها قول المثل (إذا فلّس التاجر رجع يقلب دفاتره )
..........كانت تسير بخطوات ثقيلة ... وكانت مشاعري تسير خلفها أو بين يديها ........ أحسست بشوق إلى تلك الأيام السعيدة التي سبقت دخولي إلى السجن ... لكن في فمي مرارة ..لازلت أتذوقها منها ومن أهلها جميعا .... لقد سقطت هي وأهلها من أول اختبار . ومن يسقط في الاختبار الأول لا يصلح أن تربط حياتك معه أبدا .
بقيت في مكاني حتى رأيتها تدخل الى البيت الذي تقصده
كدت أن أعود إلى بيتنا... لأطلب من أختي الذهاب اليها ... كان دافع الحنين إليها لازال يعصر قلبي ....تكاد رائحة عطرها تصل إلى أقصى شعيرات الدم الذي يجري في جسمي ....سيما وأنني أعرف ذلك العطر .... إنه نفس العطر الذي كنت اشتريه لها ....(1/66)
جلست على حجر كان قريب من السيارة انظر إلى البيت الذي ذهبت إليه وأحسّ أن قلبي قد دخل معها ........ لم أعي بنفسي إلا بخروج أخي محمد من البيت ذاهبا إلى مدرسته لا أدري لماذا تأخر الى ذلك الوقت فتركت المكان و ركبت سيارتي وغادرت القرية عائدا إلى مدينة جدة.
كنت أثناء سفري لا أفكر إلا فيها .....وأفكار تطرحني وأفكار أحملها حتى وصلت الى جدة....
... امشي وهمي جبل يمشي معي وين آروح
... ... ازريت اشيل الجبل وازريت لافارقه
...كنت أحسّ بشيء يجذبني إليها ... إنه بقايا حب قد تهدمت جدران الحوض الذي كنا ننغمس فيه .
رغم كل ذلك كنت أحيانا أتخيل أنني أستطيع أن أتزوجها مع زوجتي لكن ينازعني في ذلك كرهي لأخيها .....
بقيت فترة من الزمن وصورتها .دائما أجدها بيني وبين زوجتي لكنها كانت تصطدم بجدار كبير..... كبر..ما أحمله لزوجتي من تقدير واحترام فهي التي قبلت بي عندما كنت سائق خصوصي .... لاحيلة لي إلا ما أحصل عليه من أجرة بسيطة على تلك السيارة .
كان حنيني ( لخطيبتي السابقة ) مزيج من الحب العتيق والشفقة المدفوعة بحنين الذكريات مثل من يجمع أوراق دفتر ذكرياته التي عبث بها طفل مزّع أوراقه ونثرها في مهب الريح أو مثل نبتة كانت منسية فترة من الزمن حتى ذبلت.... وبعد هطول الأمطار ووصول الماء إليها... أخضر عودها وأفردت أوراقها ومشت فيها الحياة حتى طالت وزانت فروعها وثمارها لكنني أحس أن بيني وبين تلك النبتة أرتالا من الأوساخ والقاذورات التي لا تقبل نفسي تخطيها .(1/67)
نعم..... أشعر أن حنيني لها يكبر... والألم يكبر.... وشوقي لها يزداد يوما بعد يوم ........كانت ...تسافر بي الأفكار إليها في كل يوم فلا تراني إلا ذاهلا . مبهوتا ........ كنت أفسّر ذلك الحنين بتعليلات مختلفة منها أقول.....: ربما أنه مغلوب على أمرها ...... وأن البنت في مجتمعنا يمنعها الحياء أن تقول لأهلها أن الخيار لابد أن يكون لها وحدها .... أو ربما أكون أنا وهي ضحية ظروف لم يكن لنا فيها حول ولا قوة ..... أو ربما أنني أشعر أنها ضحية تخبط أخوها الذي كان على عجلة من أمره فهو يريد أن يغيّبها عن وجهي قبل أن أخرج من السجن . ويرى أن السجن نهاية الحياة ... أو أنه لايزال بعقلية القرون الوسطى التي تقول:... أن الناس سواسية وأن ارتباط المرأة برجل يطلبها .. هو مجرد اقتران ذكر بأنثى وهكذا تمضي الحياة كيفما سارت .....
والحظ هو الذي يرفعك أو يضع أنفك في التراب وكما يقول المثل ( مثلك مثل غيرك )
وأحيانا أقول ...: (ربما أن هذه الفتاة كانت تجاملني أيام الخطبة وأنها أعجبها فعلا الخطيب الجديد فتبعته وتركتني...) وكانني جريدة انتهى يومها فلم يعد لقرأتها أي جاذبية وأن الأخبار التي بها غدت غير ذات أهمية .... وربما أنها كانت تحب ذلك الفتى قبل خطوبتي لها وعند دخولي السجن اتخذت من ذلك ذريعة للهروب اليه .
بين هذه وتلك ..... كانت كل هذه المبررات تصطدم بذلك الألم الذي لا زالت جروحه تنزف ومتاعبه تتجدد.
قابلت أبو جميل خارجا من المسجد .
ـ كيف حالك يا أبو حسين .
ـ الحمد لله .
ـ أخبارك .......ما قلت لي ايش صار معك ..؟
ـ كل شيء .على حطّة ايدك ....
ـ لايكون الجماعة ضحكوا عليك ...
ـ أبداً.....كما عهدتني ..
ـ والله شكلك ما يطمن .......شايفك كذا ما أنت على بعضك .
ـ الحقيقة كانوا يريدون أن يزوجوني .
ـ أنا قلت أن وراك خبر ... هات الموضوع ..؟
ـ كانوا يريدون ذلك ..... لم يعلموا بزواجي
ـ وقلت لهم. أنك متزوج .(1/68)
ـ نعم قلت ....... بس صارت مشكلة كبيرة
ـ اتركهم ........ هي مشكلة الآن لكن سوف تتلاشى مع الأيام ... بس لايكون ارتبطت معهم بخطوبة وإلا حاجة ..
ـ لا.لا اطّمئن كل شي تمام .
ـ أنا أعرف إنك على قد المسئولية . .
وتمر الأيام ...... هدأت عاصفتي قليلا .وبدأت أشعر . أن تلك الشمعة التي كانت متّقدة بقلبي لخطيبتي السابقة .قد بدأ ضوئها يخفت وحرارتها .تقل شيئًا فشيئا حتى ضعفت .
كانت زوجتي قد لاحظت أنني أفكر كثيرا و قد بانت على وجهي آثار القلق والوساوس..... كانت حساسة وتقرأ ما أفكر فيه دون أن أتكلم به .:
ـ لابد أن هناك أمر يشغلك ...... فأنت تفكر كثيرا منذ عودتك من القرية .
ـ نعم يوجد مشاكل بيني وبين إخوتي .
ـ هل انتهت .
ـ انتهى بعضها......... أما إنها لم تنتهي كلها .
ـ كان من المفروض أن تنتهي منها .فنحن لانريد منهم شيء .
ـ أحسست عندما قالت (نحن) أنها أقرب لي من كل الناس وأحسست بالذنب لمجرد التفكير من الزواج مرة أخرى .
ـ إن مطالبهم عسيرةً جدا .
ـ إن كانوا يريدون مالاً فأعطهم ما يريدون فنحن في خير وهم سيبقون أهلنا جميعاً .
- لا....هم لا يريدون مالاً .
- ماذا يريدون اذا ...؟
- أشياء عائلية..... ..يعني إرث وشي من هذا...
- لا نريد منهم شيء..... أرى أن تكون أكرم منهم ......هل أخبرتهم بزواجنا
- نعم اخبرتهم .لكنهم سألوني .كم لديك أطفال ...هم يخافون أنك لا تنجبين أطفال ( لقد رأيت أنها فرصةً لكي تحس أنني أريد اطفالاً)
- وماذا كان ردك ؟
- أخبرتهم أنني أنا الذي طلبت منك ذلك .
...عند ذلك رايتها قد امتقع وجهها وتغير لونها .فعرفت أن الرسالة قد وصلت إليها بطريقة ساقتها الظروف بطبيعتها .
ولم يمض على ذلك أكثرمن شهرين حتى جاءت تخبرني أنها حامل وتمر الأيام ويأتينا مولودنا الأول سلمان ثم تنجب بنت أخرى اسميتها(علياء)ونسيت أخيرا مع مرورالزمن صاحبة الاسم الأصلية..(1/69)
كنت لا أخبر أحدًا عن طبيعة عملي أو مكان سكني من أهل القرية حتى وإن سألني أحد من أهل القرية عن ذلك.....بل أخبرهم أنني أعمل في منطقة عسكرية خارج مدينة جدة..
وذات يوم بينما كنت داخلا إلى الشقق المفروشة . رأيت رجلا يحاسب موظف الاستقبال فعرفته .......ذهبت إليه ..:
- أبو خالد ....سلام عليكم .
- وعليكم السلام ......( كان رده عليّ باردًا )
- حياك الله .....من متى أنت هنا ...؟
- يومين ...
- رجّع له الفلوس يا أمين .
- لا أبداً .... أنا قد دفعت الفلوس خلاص ..
- أعد له الفلوس يا أمين ... أنت ضيف علينا .
- أبداً ...ما ذنبك أنت .....انت تشتغل مع الأخوان هنا ...؟
- هذا عمنا صاحب العمارة .( قال ذلك عامل الكونتر ).
- ..... التفت اليّ مستغرباً . ماشاء الله ... هذه العمارة لك ...؟
- أنا مستأجر العمارة ومشغّلها شققًا مفروشة ....
- ماشاء الله ... لقد أفرحتني والله جدا ... وكيف شغلك ...؟
- على مايرام والحمد لله .
أخذت بيده ودخلت به إلى المكتب وشربنا الشاي سوياً وأخذت أسأله عن أهل القرية بدئا بأخواني الذي طلبت منه أن يوصلهم سلامي وتحياتي ... والحقيقة أن الرجل خرج من عندي وهو مبسوط جدا ( وقد أردت بذلك أن ينقل ما وجده إلى أهل القرية وأولهم أخي محمد)
كما أنني وجدتها فرصة لأردّ بعض الدين الذي كان في عنقي لولداه اللذين كنت أبيت عندهما عندما قدمت إلى جدة.
بقي ذلك الرجل يتردد على الشقق وكنت لا أخذ منه أجرًا إلاما يغلبني عليه وكنت قد أخبرت أبو جميل واستأذنته في ذلك ... وأحياناً يأتي هو وأحد ابنائه.
أتى إلى العمارة ذات يوم وطلب مقابلتي ... فكنت أحسب أنه يريد أن يصلح ما بيني وبين أخي .... إلا أن المفاجأة أنه طلب يد أختي ساميه لولده .... فأخبرته بالموافقة من جهتي ولكن هذا الأمر يلزمه موافقة أخي محمد فهو أكبر مني ولابد من موافقته .
- هذا صحيح لكنني أردت أن أسمع موافقتك اولاً .(1/70)
- أنا من ناحيتي موافق و لكن بعد موافقة العروس.
- هذا من حقك ... وحقها أيضاً .
وهكذا انخطبت ثم تزوجت ساميه وسافرت أنا وزوجتي لحضور العرس بعد ذلك لكنني لم أسكن في بيت أبي بل فضلت أن استأجر شقة في ضاحية قريبة من القرية ..... فأنا لم أعد احتمل الضرب على وجهي ..
سكنت أختي مع زوجها في مدينة جدة حيث مقر عمله وكانت الزيارات بيننا متتالية حتى كأننا عائلة واحدة .
كذلك تزوج أخي سلمان وعمل في مدينة أبها وكنت قريبا منه وهو كذلك ... أما أخي محمد فقد كانت العلاقة بيننا فاترة فقد اكتفيت بتلك الصفعة ...... لكنه سيبقى أخي الكبير الذي أضعه في مقام أبي ولو من بعيد فقط .
اشترينا قطعة أرض في إحدى الأحياء الجديدة في مدينة جدة وبدأنا في عمارتها وذات يوم عندما كنت خارجاً من المسجد القريب من العمارة وإذا أنا بزميلي أيام السجن .علوان .....يمسك بيدي :
- تاجر الأسهم ...؟.... تعانقنا بشوق ,
- متى طلعت ...؟
- منذ ثلاثة أشهر .
- وكيف خرجت ....؟
- لقد اعترف أحد أفراد الدورية التي كانت تعمل معي بأنه هو الذي دبّر خروج السجناء من السجن وبرأني من الموضوع فأطلقوا سراحي.
- ولماذا أنت في جدة...؟
- إنني ابحث عن بنتي .
- ألم تقول إنها في الجنوب ...؟
- لقد سافرت عمتها إلى جدة وأخذتها معها .
- هل قابلتها ..؟
- إن لي شهرين أبحث عنها وعن أختي فلم أجدهما .
- وأين تسكن الآن ..؟
- ...إنني أسكن عند ناس من الجماعة .
- عندي لك سكن أفضل منه .
- هل أنت عزوبي ..؟
- لا .. لكن إذا لم تكن مرتاح في المكان الذي تسكن فيه فإن لديّ سكن سوف يعجبك .
- إذا كان مريحاً .... يكون أفضل ..
- هيا معي لترى السكن أولا ثم نذهب الى البيت .
- أرجو أن تعفيني من الذهاب إلى البيت الآن .
- سيكون عشاء عادي .... أريد أن أجلس معك وأسمع أخبارك فقط .(1/71)
أخذته إلى الشقق المفروشة وهناك غرفة كانت قريبة من الحارس بها حمام ومطبخ صغير كنت أعددتها لمثله ....(للأصدقاء) أوصلته إليها
ثم ذهبت به إلى البيت وتعشينا سوياً وجلست معه تلك الليلة وأستعدنا ذكريات السجن وسهرت معه حتى منتصف الليل ...سمعت منه أخباره وأخبار بعض النزلاء اللذين كنا نجلس معهم ..وحتى وإن كانت أيام مريرة إلا أن فيها بعض الذكريات التي لا تنسى ....
كانت أحاديثه مؤلمة عندما يتحدث عن ابنته وعن انسداد الطرق في وجهه وهو يبحث عنها..وكنت أبدي تعاطفي معه واستعدادي للبحث معه في أي مكان يسمع عنها وأعطيته أرقام تلفوناتي ثم أوصلته إلى الشقة وطلبت من العاملين في العمارة الاعتناء به .
وعندما عدت إلى البيت, كانت الساعة تقترب من الواحدة صباحاً فاستلقيت على السرير وسألتني زوجتي عن هذا الرجل الذي كان معي .
- هذا يا ستي واحد من المنطقة الجنوبية اسمه علوان ويلقب ( بأبو ظافر) كان زميلي في السجن وكان مسجون في قضية .هروب مساجين ..........وأخذت أقصّ قصته عليها .وفجأة استوت جالسة :
- تقول اسمه علوان ....؟
- نعم .
- كان مسجون في قضية هروب مساجين ...؟
- نعم .
- لم أكمل كلمتي حتى انفجرت باكية بصوت مبحوح ....يا رب .....يا رب يارب ....
وخرجت من السرير .وأضاءت مصباح الغرفة .وأخذت تجهش بالبكاء وأنا أنظر إليها لا ألوي على شيء .
خرجت أنا من السرير ووقفت بجانبها .كانت تبكي بدموع غزيرة ثم تخرج إلى غرفة أختها .سالمه فنتظر إليها ثم تعود باكيةً.
وترد د....يا رب..... يارب
- وش فيك .....؟
- هل لديك تلفونه ...؟
- نعم لدي تلفونه ...؟
- اتصل به فورا .
- لماذا .....؟
- سوف أخبرك بالقصة بعد أن أراه .فقد لا يكون هو .
- من الرجل الذي تبحثين عنه .......؟
- إنه خالي علوان .وهذه البنت التي معي وأقول إنها أختي .هي ابنته التي يبحث عنها . إنها ابنة خالي .وليست أختي .
- ابنة خالك .....؟(1/72)
- نعم هي ابنته إن كان ما قلته عنه صحيح .
- أشهد أن لاإله إلا الله .. بشّرك الله بالخير ... لكن كيف ؟
- بعدين اشرح لك .........هيا اتصل به الآن .
- ليس لديه سيارة .
- فلنذهب إليه أنا وأنت .
- فلنذهب .
- لم تكفّ عن البكاء حتى وصلنا إلى الشقق المفروشة .
- هل ندعوه إلى هنا في السيارة . أم ندخل إليه ....؟
- بل ندخل إليه .فأنا سوف أتعرف عليه إن كان هو خالي ..
- وإذا لم يكن هو خالك .
- إن كان ما قلته صحيح فهو خالي .
- هيا إذاً ....
قرعت باب الغرفة .
- مين ...؟
- أنا علي حسين .
- انتظر لحظة ...
فتح الباب وأضاء مصباح الغرفة ....... دخلت إليه أنا وزوجتي........ كان خائفًا عندما دخلت أنا والمرأة وأخذ يمشي إلى الخلف ويسألني .
- ماذا تريد يا علي ...؟ من هذه المرأة.....؟
لم يكمل حديثه حتى كشفت على وجهها .وأخذت تبكي بصوت مرتفع خالي علوان .....
أخذ يدقق نظره فيها ثم بداء يبكي أيضا وينظر إليها .
- إنها زوجتي راويه . ....( قلت ذلك أنا)
- راويه ....زوجتك ...؟
- نعم إنها زوجتي وابنتك في بيتنا
- أشهد أن لا إله الله .. سبحانك يا أكرم الأكرمين .
اندفعت إليه تقبله وتبكي وهو يبكي أيضا وأخذت أبكي معهما.
طلب منا أن نأخذه إليها ليراها فعدنا جميعا إلى البيت .
كانت سالمه نائمة في غرفتها مع أطفالي والخادمة فدخلنا عندهم جميعا ........سالمه ...... كانت تلك الكلمة التي نطقها علوان ثم لم يستطيع أن يقول شيئا بعدها من البكاء .
استيقظت البنت والاطفال والخادمة من أصواتنا داخل الغرفة .
كانت فزعة خائفة عندما رأتنا نبكي جميعا .
وأخذت تبكي والأطفال يبكون إلا الخادمة التي لصقت بفراشها فقد أفزعها الموقف. لاتدري ماذا تفعل ...
جلسنا في المجلس قليلا ثم استأذن في الذهاب الى غرفته .. لكننا لم ندعه يذهب ..ونام عندنا تلك الليلة .
وفي اليوم التالي وبعد أن أوصلت طلاب المدارس رجعت إليه ... فوجدته جالسا بمفرده في المجلس :(1/73)
ـ صباح الخير .
ـ صباح الخير.
ـ كأنك ما ارتحت في نومك ...؟
ـ بل نمت أحلى نومة في حياتي .
ـ أزمة وعدت والحمد لله .
ـ الله المستعان..... كل حياتي أزمات ( ثم تمثل بقول الشاعر)
أنا والهموم وضيقة الصدر والمكتوب
... خذينا من الدنيا كثير وخلينا
نكابر ونضحك بعض الأيام نوب ونوب
... نخفّي العباير بالضماير وهي فينا
سكتنا وجاملنا وحدر الضلوع ندوب
مع الناس نضحك وإن غفى الجفن ونّينا
ـ أين راويه ...؟
ـ إنها تجهّز الفطور .
ـ وسالمه ..؟
ـ في المدرسة .
ـ في أي صف ..؟
ـ أول إبتدائي ..
ـ أريد أن تخبرني كيف ساقتك الأقدار إلى راويه وكيف تزوجتها؟؟
ـ إنها الأقدار كما قلت ..... نعم ..... إنها الأقدار .
ـ هل كانت أختي على قيد الحياة عندما تزوجتها .
ـ نعم ....... ولم تمت إلا بعد زواجنا بحوالي ثلاثة أشهر .
كنت أسكن في غرفة الحارس التي في حوش العمارة وكان لصاحب العمارة دور كبير في زواجنا لكنني أريد أن تسمع هذا الموضوع من راويه فأنا سوف أذهب إلى مشوار معي بعد الفطور وأريد أن أترك لكما ما تتحدثان فيه . والآن أصبحنا أقارب .... اليس كذلك ....؟.
ـ هذا الشيء يشرفني .. إنني أشعر أن لك جميلا ودينا في رقبتي سأحمله لك ما حييت .
ـ اترك عنك هذا الكلام وقل لي في ماذا تفكر الآن...
ـ أريد الذهاب إلى جيزان أقضي بعض الأمور .. ثم أعود .
ـ يعني تريد الاستقرار في جدة...؟
ـ نعم هذا ما أفكر فيه .
عندئذ أتت راويه بالفطوروأخذا يتحدثان عن أمور تتعلق بجيزان وأمور لا أعرفها فتركتهما على هذه الحالة وذهبت إلى عملي.
تمت ،،(1/74)