جامعة القاهرة
كلية الدعوة الإسلامية
تأملات فى فقه الدعوة
تأليف
أ.د/ طلعت محمد عفيفى سالم د. جمال عبد الستار محمد عبد الوهاب
عميد كلية الدعوة الإسلامية مدرس بكلية الدعوة الإسلامية
جامعة الأزهر – القاهرة جامعة الأزهر – القاهرة
فهرس
الموضوع ... الصفحة
مقدمة
تمهيد
(1) تعريف الدعوة ... 11
(2) مكانة الدعوة فى الإسلام ... 14
(3) حكم القيام بالدعوة
الفصل الأول : جوانب فقه الدعوة فى حياة الداعى
(1) الدعوة إلى الله تعالى على علم ... 35
(2) تقديم الداعية للقدوة الحسنة بين يدى دعوته ... 43
(3) علو الهمة والجدية فى الدعوة إلى الله تعالى
(4) الاتصاف بالأمل ، وطرح اليأس والقنوط ... 82
(5) مراعاة فقه الاختلاف مع الآخرين ... 111
الفصل الثانى : جوانب فقه الدعوة فيما يخص المدعوين
(1) مراعاة أحوال المدعو ... 147
(2) الرفق بالمدعوين والتيسير عليهم ... 152
(3) الدعوة إلى الجوانب العملية فى الدين والتخلى عما لا ينفع ... 168
(4) الترفع عن الجدال طلبًا لتفريغ الأوقات لما هو أهم ... 171
الفصل الثالث : جوانب فقه الدعوة فيما يتعلق بالدعوة نفسها
(1) التعرف على فقه الواقع ... 177
(2) رعاية الأولويات والمهمات ... 224
(3) التخطيط للدعوة ... 230
(4) الجماعية لا الفردية ... 239
(5) التدرج ... 256
الخاتمة ... 262
الفهرس ... 263
ب –?يقول الله تعالى : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ???
?????وفى نفس السورة يقول الله تعالى : ( الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ???
????ونلاحظ من مجموع الآيتين أن الدعوة إلى دين الله هى من أخص صفات المؤمنين ، كما أن الدعوة إلى ضد ذلك من صفات المنافقين .
يقول الإمام القرطبى فى تفسيره : " فجعل الله تعالى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فرقًا بين المؤمنين والمنافقين ، فدلَّ على أن(1/1)
أخص أوصاف المؤمنين الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، ورأسها الدعوة إلى الإسلام" .
وفى التلازم بين الإيمان والدعوة إلى الله ما يدل على أن زيادة الإيمان تعنى زيادة الحركة لدين الله ، والعكس .
يقول الدكتور محمد أمين المصرى : " الإيمان شبيه بالقوة الكامنة فى الجهاز المحرك الذى لا يعدو أن يكون عشر معشار حجم الطائرة يستطيع أن ينطلق لتنطلق بانطلاقته الطائرة فتقطع المسافات الشاسعة ببرهة يسيرة ، وتقلع بقوة دفعه الطائرة المستقرة على وجه الأرض . إن قوة المحرك تظهر للعيان بسبح الطائرة فى أجواء الفضاء ، وكذلك قوة الإيمان تتجلى بسبح صاحب الإيمان فى أجواء الدعوة إلى الله .. وإذا عجز المحرك عن أن ينطلق بالطائرة أو السيارة فقد أصابه الخلل ، وتسرَّب إليه العطب ، وكذلك الإيمان الذى لا يحرك صاحبه ليدفعه إلى السير فى سبيل الدعوة إلى الله هو إيمان هامد خامل ، قد أصابه الوهن وتسرب إليه الخلل" .
جـ - يقول الله تعالى : ??وَالْعَصْرِ ??إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ??إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ?? .سورة العصر
ففى هذه السورة الكريمة القليلة فى مبناها الكثيرة فى معناها ومحتواها ، يقسم الله تعالى بالعصر ، ويؤكد هذا القسم بـ " إنّ " و" اللام " على أن جنس الإنسان فى ضياع وخسران ، ويستثنى من هذا الخسران من اتصف بأربع صفات :
1 – الإيمان بالله . 2 – العمل الصالح .
3 – التواصى بالحق . 4 – التواصى بالصبر .
وبالتأمل فى هذه الصفات الأربع نجد أن نصفها الأول يتعلق بصلاح المرء فى ذاته ، ونصفها الثانى يتعلق بالعمل على إصلاح غيره ، وذلك بالتواصى بالحق والتواصى بالصبر مع سائر الخلق.
وهو ما يدل على مكانة الدعوة وأهمية القيام بها فى دين الله .(1/2)
د – فى الوقت ذاته ورد فى كتاب الله تعالى ما يشير إلى أهمية القيام بواجب الدعوة بأسلوب التحذير من التهاون والتفريط فى هذا الأمر ، والإشارة فى كتاب الله تعالى إلى استحقاق المتهاونين فى هذا الأمر للعنة الله لهم ، وهى الطرد من رحمته ، فقال تعالى : ??لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ??كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ? المائدة
والآيتان تحذير للمسلمين من سلوك هذا السبيل حتى لا ينالهم من الذم ما نال السابقين .
ولا تزال هناك جوانب أخرى فى كتاب الله تعالى يستفاد منها بيان مكانة الدعوة فى دين الله تعالى ، لكننى أكتفى بما ذكرته ، ففيه دلالة على المقصود بما يكفى ويغنى .
ومما يدل على مكانة الدعوة إلى الله فى الإسلام من أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم نتخير ما يلى :
- عن أبى رقية تميم بن أوس الدارى صلى الله عليه وسلم أن النبى صلى الله عليه وسلم قال : « الدين النصيحة » ، قلنا : لمن ؟ قال : « لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم » أخرجه مسلم ؛ ففى هذا القول النبوى ما يؤكد على سمو مكانة الدعوة فى هذا الدين حتى لكأنها الدين كله ، ونظيره قول النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث آخر : « الحج عرفة » أخرجه أحمد وأصحاب السنن . ، فهو لا يلغى سائر الأركان وإنما يدل على أن أهمها وأعظمها الوقوف بعرفة ، وكذلك الأمر بالنسبة للدعوة والنصيحة فى دين الله .(1/3)
- عن النعمان بن بشير صلى الله عليه وسلم عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة (استهموا على سفينة : اقترعوا على أماكن نزولهم فيها ، ليعرفوا من ينزل أسفل ، ومن يصعد أعلى) ، فأصاب بعضهم أعلاها ، وبعضهم أسفلها ، فكان الذين فى أسفلها إذا استقوا من الماء مرُّوا على من فوقهم ، فقالوا : لو أنا خرقنا فى نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا ؟ فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعًا ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا » أخرجه البخارى وغيره.
ونأخذ من هذا الحديث أهمية القيام بواجب الدعوة ، والأخذ على يد العابثين والمفسدين ، وأن ذلك يمثل صمام الأمان للمجتمع بأسره ، وإلا عمت البلوى ، وفشت الضلالة ، وحاق العذاب بالطالحين والصالحين على السواء ، وصدق الله تعالى إذ يقول : ??وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ? سورة الأنفال - الآية 25.(1/4)
وكما نبه القرآن الكريم المسلمين إلى ضرورة القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وعدم التهاون فى هذا الجانب حتى لا تنالهم اللعنة كما نالت بنى إسرائيل ورد فى السنة ما يؤكد هذا المعنى أيضًا ، فقد ورد فى الحديث أن الرجل كان يلقى أخاه من بنى إسرائيل على المعصية فيقول : يا هذا ، اتق الله ودع ما تصنع فإن هذا لا يحل لك ؛ ثم يلقاه من الغد ، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، وفى هذا يقول ربنا : ??لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ??كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ??تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ??وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ?? سورة المائدة - الآية 78 - 81 .
ثم قال صلى الله عليه وسلم : « كلا والله لتـ أمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يد الظالم ، ولتأطرنه على الحق أطرًا ، ولتقصرنه على الحق قصرًا ، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ، ثم ليلعنكم كما لعنهم » أخرجه أبو داود والترمذى ، وقال : " حديث حسن.
ونؤكد كذلك على مكانة الدعوة فى دين الله من خلال السنة ، بما ورد من حرص النبى صلى الله عليه وسلم على لفت أنظار أصحابه إليها ، وذلك عند مبايعته لهم أول عهدهم بالإسلام .(1/5)
فعن جرير بن عبد الله البجلى صلى الله عليه وسلم قال : " بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والنصح لكل مسلم " أخرجه البخارى ومسلم .
وعن عبادة بن الصامت صلى الله عليه وسلم قال : " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فى العسر واليسر ، والمنشط والمكره ، وعلى أثرة علينا وعلى أثرة علينا : يعنى الإيثار ، وهو ضد الأثرة ، وألا ننازع الأمر أهله ، إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان ، وعلى أن نقول الحق أينما كنا ، لا نخاف فى الله لومة لائم " أخرجه البخارى ومسلم .
والأحاديث الدالة على مكانة الدعوة فى دين الله كثيرة جدًا ، لكننى أكتفى بما ذكرت ، ففيه الكفاية للدلالة على المقصود .
إضافة إلى ما ذكرناه من آيات وأحاديث تدل على مكانة الدعوة نجد بين أيدينا باقة من أقوال السلف الصالح تؤكد على أهمية هذا الجانب ومكانته فى دين الله ، وأرى من المفيد أن أسوق بعضًا من أقوالهم فى هذا الشأن :
أ – يقول الإمام أبو حامد الغزالى : " إن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو القطب الأعظم فى الدين ، وهو المهم الذى ابتعث الله له النبيين جميعًا ، ولو طوى بساطه ، وأهمل علمه وعمله ، لتعطلت النبوة ، واضمحلت الديانة ، وعمت الفتنة ، وفشت الضلالة ، وشاعت الجهالة ، واستشرى الفساد ، واتسع الخرق ، وخربت البلاد ، وهلك العباد ، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد " إحياء علوم الدين ، جـ7 ص1186 .
ب- ويقول الإمام النووى فى بيان أهمية الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر : " إعلم أن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ركن عظيم ، به قوام الأمر وملاكه ، فينبغى لطالب الآخرة والساعى فى تحصيل رضا الله تعالى أن يعتنى بهذا الباب ، فإن نفعه عظيم ... الخ " شرح النووى على صحيح مسلم ، جـ2 ص24 بتصرف.(1/6)
جـ- ويقول ابن العربى المالكى : " الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أصل فى الدين وعمدة من أعمدة المسلمين وخلافة رب العالمين ، والمقصود الأكبر من بعث النبيين ، وهو فرض على جميع الناس مثنى وفرادى بشرط القدرة عليه " عارضة الأحوذى ، جـ2 ص13 ؛ وانظر أيضًا : تفسير القاسمى ، جـ4 ص104 .
وأكتفى بهذا القدر من أقوال السلف الصالح ، ولن يعدم الباحث المسلم ما يؤكد فى نفسه أهمية الدعوة وعلو مكانتها فى أى مصنف قديم أو حديث ، إذ عليها – كما اتضح لنا – مدار الدين ، وصلاح العالمين ، وتحقيق السعادة للأولين والآخرين .
(3) حكم القيام بالدعوة
من خلال ما عرضناه سابقًا يتضح لنا أن الدعوة إلى الله تعالى تحتل فى دين الله أسمى مكانة وأرقى منزلة .
ويمكن الاستدلال بكل ما أوردناه من أدلة على حكم القيام بالدعوة ، وأنها ليست أمرًا ثانويًا ، أو عملاً تطوعيًا ، بل هى من صميم الواجبات ومن ألزم الفرائض ، وهو ما أكد عليه علماء الأمة وفقهاؤها .
يقول الإمام النووى : " تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة " شرح النووى على صحيح مسلم ، جـ2 ص22 .
وفيما يلى نتعرف على بعض الأدلة التى تدل على وجوب القيام بالدعوة إلى الله ، إضافة إلى ما سبق ذكره فى النقطة السابقة .
أ – قول الله تعالى : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) سورة آل عمران - الآية 104 .
فقوله : ( وَلْتَكُنْ ) فعل مضارع مقترن بـ لام الأمر ، وهى صيغة من صيغ الوجوب .
والراجح فى قوله : ??مِنْكُمْ ? أنها للبيان وليست للتبعيض ، كما تقول لشخص ما : أريد منك رجلاً صالحًا ، أى أريد أن تكون صالحًا ، وعلى هذا يكون الوجوب عينيًا على كل مسلم ، وليس مكلفًا به بعضهم فقط .
ويرجح ذلك عدة أدلة :(1/7)
1 – أن النبى صلى الله عليه وسلم طلب من كل مسلم أن يسهم بقدر استطاعته فى إزالة المنكر ، ولم يعف من ذلك أحدًا ، ففى الحديث عن أبى هريرة صلى الله عليه وسلم قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم???«?من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم
يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان?»?، وفى رواية : «?وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل?»?رواه مسلم
??–?ورود العديد من الآيات التى تأمر النبى صلى الله عليه وسلم?بالدعوة إلى الله تعالى وذلك كقوله تعالى : ??وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ?) سورة القصص - الآية 87
??–?وقوله تعالى : ??ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ?? سورة النحل - الآية 125 ?، والقاعدة أن كل تكليف للرسول صلى الله عليه وسلم?هو تكليف لأمته ما لم يرد نص يفيد خصوصية النبى صلى الله عليه وسلم?دون سواه ، وليس هنا شىء يفيد هذا التخصيص ، فيبقى الأمر على عمومه لجميع المسلمين .
??–?فإن قيل إن الدعوة إلى الله شرط لها العلم ، وهذا يفيد أن الأمر على الكفاية لا على العين ، بحيث لو قام به البعض سقط الإثم على الباقين?،?أجيب?بأن العلم?ليس?شيئًا?واحدًا لا?يتجزأ ، بل هو بطبيعته يتجزأ ، وعليه فإن من علم مسألة من الدين –?وإن قلَّتْ –?صار عالمًا بها ، وأصبح لزامًا عليه تبليغها ، ويؤيد ذلك قول النبى صلى الله عليه وسلم???«?بلغوا عنى ولو آية?»?أخرجه البخارى ، وقوله : «?ليبلغ الشاهد منكم الغائب?» أخرجه مسلم??
ونستخلص من هذا أن الدعوة إلى الله تعالى فرض على كل مسلم ومسلمة بالقدر الذى يعلمه كل فرد ، وأهل العلم يتميزون فى هذا المجال لا بأصل التكليف ، وإنما بما يُحْتَاجُ فى فهمه من مسائل الدين إلى فقه ومعرفة وإلمام بالأحكام وغيرها .(1/8)
ب- يستدل أيضًا على وجوب الدعوة بقول الله تعالى : ??إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ??إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ?? سورة البقرة - الآية 159 ، 160 .
وبقوله تعالى : ??كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ??. سورة المائدة - الآية 79 .
ففى الآيتين الكريمتين تهديد ووعيد لمن تمكَّن من معرفة أى شىء من الحق ، ثم اتصف بالسكوت حيال ما يراه من منكر يشيع
أو معروف يضيع ، وأن المخرج الوحيد للمرء من استحقاق اللعن أن يبادر بالتوبة والإصلاح ، والجهر والبيان لكلمة الحق ، والدعوة إلى ما فيه مرضاة الله رب العالمين ، دون اعتماد على أن غيرنا سيقوم بهذا الواجب عنا .
وهذا كله مما يفيد الوجوب .
ومن أدلة السنة على وجوب الدعوة إلى الله تعالى – إضافة إلى ما سبق – نختار ما يلى :
أ – قوله صلى الله عليه وسلم : «?من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده ...?» إلى آخر الحديث ، وقد مر بنا قريبًا .(1/9)
ووجه الدلالة على وجوب الدعوة من هذا الحديث أن لفظة (مَنْ) من ألفاظ العموم ، ويشمل هذا اللفظ كل مسلم ومسلمة ، إذ فى إمكان أى أحد أن يواجه المنكر بإحدى الوسائل المشار إليها فى الحديث ، فإذا لم يتحرك المسلم ليغير ما يراه من منكر – ولو بالقلب – ليس الإنكار بالقلب كما يتخيل البعض عملاً سلبيًا يحمل الشخص على عدم الرضا مع مشاركته للعاصين ، وإلا ما رتب عليه النبى إمكانية التغيير به فى الفعل ، بل هو قيمة إيجابية تتمثل فى مقاطعة العصاة ومجالسهم ، وإعلان عدم الرضا بصورة عملية ، ولو أن كل شخص فعل ذلك مع العصاة لفضحت مسالكهم ، وحملهم ذلك على تغيير تصرفهم حتى لا يفقدوا أبناء المجتمع كله إذا وجدوا أن الجميع قاطعهم فقد لزمه الإثم ، وانتفت عنه صفة المؤمن الكامل .
وقد جاء فى إحدى روايات هذا الحديث عند الإمام مسلم : « فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل » .
ب- يضاف إلى ذلك ما سبق ذكره من دعوة النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى تبليغ دعوة الله إلى من سواهم ، وجاءت دعوته تلك فى حجة الوداع ، حيث اجتمعت الألوف بين يديه ، بدأ خطابه بقوله : « أيها الناس اسمعوا قولى ، فإنى لا أدرى ، لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا ... » إلى آخر الحديث .
فكان فيما قال صلى الله عليه وسلم : « ألا فليبلغ الشاهد الغائب?» سبق تخريجه .
ونظير ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : «?بلغوا عنى ولو آية?»?سبق تخريجه?
والأمر يقتضى الوجوب ، وعدم تحديد فئة معينة بهذا الأمر يقتضى العموم .(1/10)
ونستخلص مما سبق أن الدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فرض حتم لازم على كل مسلم ، وهو ما يدل عليه ظاهر النصوص من القرآن الكريم والسنة المطهرة ، وما يدل عليه عمل النبى صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام والأجيال الصالحة التى تلتهم ، وهو ما أمرت به آية سورة يوسف : ??قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ??سورة يوسف - الآية 108 .
فمن أهمل القيام بهذا الواجب ، وتعمد ترك هذه الفريضة فقد فاته شرف الانتساب إلى سبيل النبى صلى الله عليه وسلم ، والذى لا ينال إلا بالدعوة إلى الله على بصيرة ، كما هو صريح الآية .
ورغم وضوح الأدلة وتواردها على وجوب الدعوة إلى الله على كل مسلم ومسلمة ، إلا أن البعض يتشبث ببعض الشبهات التى يدعمها بالأدلة للتنصل من هذه المسئولية ، وإلقاء التبعة فيها على غيره .
وفيما يلى نعرض أهم هذه الشبه ، ونبين وجه الحق فيها :
الشبهة الأولى :
القول بأن ( من ) فى قول الله تعالى : ??وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ???سورة آل عمران - الآية 104 للتبعيض وليست للبيان ، وهو ما يفيد وجوب الدعوة على البعض لا على الكل ، وقد رددنا على هذا الكلام فيما سبق بما يغنى عن إعادته .
الشبهة الثانية :
قول الله تعالى : ??يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ???سورة المائدة - الآية 105 ، حيث تخيل البعض أن الآية تعفيه من مسئولية الدعوة إلى الله طالما كان صالحًا فى نفسه ، مستقيمًا مع خالقه .(1/11)
ويكفينا للرد على هذا التوهم ما ورد عن سيدنا أبى بكر عليه السلام أنه خطب الناس يومًا وقال : " يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية الكريمة وتضعونها فى غير موضعها : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) ، وإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله بعقاب » رواه أحمد وأصحاب السنن.
وعلى ذلك فإن الآية الكريمة إنما تتحدث عن أناس أدوا دورهم ، وقاموا بواجبهم فى الأمر والنهى ، لكن لم يُسمَع لهم ، ولم يُلْتَفَتْ إلى نصيحتهم ، فأخبرهم الله بأنهم لا حرج عليهم ، ولا ذنب لهم .
وهذا الفهم يستقيم مع قول الله تعالى : ??لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ?? ، فالشرط هو الاهتداء ، ولا يكون ذلك إلا بأداء المرء ما فرض عليه من الواجبات ، وعلى رأسها الدعوة إلى الله تعالى ، ومن هنا فإن العبد لا يكون مهتديًا حقًا إلا إذا قام بواجب الدعوة .
الشبهة الثالثة :
قد يتعلل البعض لترك الدعوة بأن الشر قد انتشر ، وبأن الباطل قد تمكن ، ولم تَعُدْ تجدى محاولات الإصلاح ، فالأمور فى نظره تمضى من سيئ إلى أسوأ ، وبناء على هذا فإنه يصلح من أمر نفسه ، ولا يكلف نفسه دعوة الآخرين .
ويجاب عن هذا بأن قيام المسلم بدعوة الآخرين إلى الله أمر تعبدى فى ذاته ، يفعله المسلم طلبًا لمرضاة الله تعالى دون نظر إلى استجابة الناس له أو عدم استجابتهم ، فأمر الاستجابة مرده إلى توفيق الله تعالى للداعى .
يقول الإمام النووى : " لا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لكونه لا يغير فى ظنه ، بل يجب عليه فعله ، فإن الذكرى تنفع المؤمنين ، فإن الذى عليه الأمر والنهى لا القبول " شرح النووى على صحيح مسلم ، جـ2 ص22 .(1/12)
ويؤيد ذلك من كتاب الله تعالى قول الحق جل جلاله : ??وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ??فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ?? سورة الأعراف - الآيتان 164 ، 165.
والآيات صريحة فى أن شيوع المنكر واستحقاق فاعليه للعذاب لا يبرر ترك الدعوة ، فإن احتمال قبولهم للدعوة وارد ، وعلى فرض أنه لم يحدث فإن فى قيام المرء بالدعوة إلى الله ما يعذره بين يدى خالقه ، حتى لا يتهم بالتقصير بين يدى الله .
الشبهة الرابعة :
يقول البعض : " إن واجب الدعوة كبير ، وإنه فوق طاقتى ، والله تعالى يقول : ??لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا???سورة البقرة - الآية 286 " .
ونقول لهذا : " إن الذى كلفك بالدعوة هو الله ، والذى لا يكلف نفسًا إلا وسعها هو الله ، ومادام الله كلفك فأنت مطيق ، ثم إن الدعوة درجات ومراتب ، وكل فرد يتحمل من مسئوليتها حسب نصيبه من العلم ، ووفق المكانة التى يتبوأها ، لكن أصل التكليف مشترك بين الجميع " .
الشبهة الخامسة :
يقول البعض : " إن طريق الدعوة صعب ، وفيه ابتلاء وأنا لا أستطيع " .
نقول له : " إن استحضار ثواب الدعوة يجعلك تستسهل الجهد ، وإن الابتلاء إذا كان مقدرًا فلن يمنعه قعودك ، وإن لم يحدث البلاء وأنت فى طريق الدعوة سيحدث لك وأنت فى طريق الدنيا ، بالإضافة إلى أن الإنسان يبذل جهدًا خارقًا لطلب المكانة فى الدنيا ، فلماذا يأتى إلى طريق الجنة ويؤثر الراحة والدعة والنوم ؟! " .
الشبهة السادسة :
يقول البعض : " إن الدعوة واجبة على العلماء فقط ، وأنا لست منهم "(1/13)
نقول له : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « بلغوا عنى ولو آية » ، وإن كل واحد يعتبر عالمًا فى أى حكم يعرفه ، وذلك لأن العلم لا حدود له ، فمن عرف مسألة فهو عالم فيها ووجب أن يبلغها للناس " .
وإذا نظرنا إلى الواقع نرى أننا عرفنا وسمعنا آيات وأحاديث ومسائل لا حصر لها ، ويستلزم الأمر القيام بتبليغها ونشرها حتى تبقى ، وإلا نسيناها وسَأَلَنا الله عنها يوم القيامة .
الشبهة السابعة :
يقول البعض : " إن لى ذنوبًا ومعاصى ، فكيف أقوم بالدعوة وأنا مقصر وعاصى ، وقد نهى الله عن ذلك فقال تعالى : ??يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ ??كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ? سورة الصف - الآية 2 ، 3 ؟ ، والآيات والأحاديث فى ذلك كثيرة " .
نقول له : " ود الشيطان لو ظفر بمثلك ، وأينا يفعل كل ما يقول ؟! "
ولعل عمل الإنسان بالدعوة يجعله يستحى من الله تعالى فيقلع عن الذنب أو المعصية فيكون قد أصلح نفسه ودعا غيره ، ثم إن العقاب فى الآيات والأحاديث خاص بمن كان هذا ديدنه وطبيعته الغالبة ، أما من وقع فى ذنب مرة أو معصية مرة ، وخالف قوله فعله فلا ينطبق عليه الوعيد .
ثم إن الإنسان عليه حيال الأمر واجبان : واجب التنفيذ وواجب الدعوة إليه ، ولا يسقط أحدهما بسقوط الآخر ، فمن فعل منكرًا لا يسقط عنه وجوب النهى عنه ، والله تعالى أعلم .
جوانب فقه الدعوة فى حياة الداعى
ويشتمل على :
(1) الدعوة إلى الله تعالى على علم .
(2) تقديم الداعية للقدوة الحسنة بين يدى دعوته .
(3) علو الهمة والجدية فى الدعوة إلى الله تعالى .
(4) الاتصاف بالأمل ، وطرح اليأس والقنوط .
(5) مراعاة فقه الاختلاف مع الآخرين ، وما يتعلق بذلك من آدا
(1) الدعوة إلى الله تعالى على علم(1/14)
ينظر الناس إلى الداعية على أنه طبيب قلوبهم ، ودواء عللهم ، ومن ثمَّ يفصحون له بما يستحيون من ذكره أمام خاصتهم وذويهم .
ولا يلجأ الناس لمثل هذا المسلك إلا إذا علموا بأن لدى الداعية من القدرة العلمية ، والبصيرة النافذة ، ما يسد خللهم ، ويقيل عثراتهم .
فإذا نظر الناس إلى الداعية هذه النظرة ثم وجدوه خاويًا سقط على الفور من أعينهم ، وفشلت محاولاته فى جذب الناس إلى الدعوة طالما كان على جهل بمبادئها وأصولها .
ومن ثمَّ كان على الداعية – إذا أراد الفلاح والنجاح لدعوته – أن يكون على فقه فى دين الله ، وأن يستكثر فى فترات عمره كلها من العلم النافع ، عملاً بقول الله تعالى : ??وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً?? سورة طه - الآية 114 .
وإذا كان الحكم على الشىء فرعًا عن تصوره ، فإنى أستئذنك – أخى الداعية – فى أن أضع بين يديك هذه النقاط التى بمقتضاها تدرك أهمية العلم ، وضرورة تحصيله .
أهمية طلب العلم ، وأمثلة من حياة الدعاة على العناية به :
تتضح أهمية طلب العلم للناس جميعًا – فضلاً عن الدعاة – فى النقاط التالية :
1 – أن العلم هو العاصم من الزلل للفرد والمجموع على السواء .
ففى شأن الفرد جاء عن الإمام الحسن البصرى قوله : " العامل على غير علم كالسالك على غير طريق " جامع بيان العلم وفضله ، جـ1 ص164 ، ابن عبد البر ..
وجاء فى الأثر أيضًا : " من سلك طريقًا بغير دليل ضل ، ومن تمسك بغير أصل زل " هداية المرشدين ، ص88 ، على محفوظ .
وفى شأن الجماعة ، وصيانة العلم لها من التفكك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم???«?إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالمًا اتخذ الناس رءوسًا جهالا ، فسئلوا فـ أفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا?» أخرجه البخارى ، واللفظ له ، جـ1 ص30 ، كتاب العلم – باب كيف يقبض العلم ..(1/15)
وموطن الشاهد فى الحديث أن غياب العلم عن ساحة الناس بغياب حملته إيذان بحلول الفوضى والاضطراب ، حيث يكون البديل –?وقتئذ –?جهالاً يفتون بغير علم ، فَيَضِلُّونَ فى أنفسهم ، ويُضِلُّونَ غيرهم .
??–?أن دعوة الإسلام إلى العلم لم تأت من فراغ ، وإنما لكون العبادة على غير علم يمكن أن ترتد سهامًا فى صدر صاحبها ، حين ????
?????لا يكون له من العلم ما يصونه عن الانحراف .
يقول الحسن البصرى عليه السلام???" العامل على غير علم ما يفسد أكثر مما يصلح ، فاطلبوا العلم طلبًا لا تضروا بالعبادة ، واطلبوا العبادة طلبًا لا تضروا بالعلم ، فإن قومًا طلبوا العبادة وتركوا العلم ، حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا?? جامع بيان العلم وفضله ، جـ1 ص164 ، ابن عبد البر
ولعل ألصق الأمثلة بهذه النقطة ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم?فى شأن الخوارج ، حيث يقول صلى الله عليه وسلم???« يخرج قوم من أمتى يقرءون القرآن ، ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشىء ، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشىء ، ولا صيامكم إلى صيامهم بشىء ، يقرءون القرآن ، يحسبون أنه لهم وهو عليهم ، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية?» أخرجه مسلم ، واللفظ له ، جـ2 ص746 ، كتاب الزكاة – باب التحريض على قتل الخوارج وأخرجه البخارى بألفاظ قريبة منه ، جـ2 ص281 ، كتاب المناقب – باب علامات النبوة فى الإسلام . وأخرجه أبو داود ، جـ2 ص595 ، كتاب السنة – باب فى قتال الخوارج . وأخرجه النسائى بنحوه ، جـ7 ص109 ، كتاب تحريم الدم – باب من شهر سيفه ثم وضعه فى الناس .وأخرجه أحمد ، جـ1 ص92 . .(1/16)
وفى رواية أخرى فى شأن هؤلاء القوم أيضًا : «?يقتلون أهل الإسلام ، ويدعون أهل الأوثان?»?أخرجه البخارى ، جـ2 ص232 ، كتاب أحاديث الأنبياء – باب قول الله عز وجل : ( وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ( .وأخرجه مسلم ، جـ2 ص742 ، كتاب الزكاة – باب ذكر الخوارج وصفاتهم .وأخرجه أبو داود ، جـ2 ص594 ، كتاب السنة – باب فى قتال الخوارج . وأخرجه النسائى ، جـ7 ص109 ، كتاب تحريم الدم – باب من شهر سيفه ثم وضعه فى الناس . وأخرجه أحمد ، جـ3 ص68 .
من أجل هذا –?وغيره –?كانت توجيهات الإسلام إلى ضرورة طلب العلم ، والحرص على الاستكثار منه .
يقول المولى تبارك وتعالى : ( وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ) سورة طه – الآية 114 .
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم???« من يرد الله به خيرًا يفقهه فى الدين ..?» أخرجه البخارى ، جـ1 ص24 ، كتاب العلم – باب من يرد الله به خيرًا يفقهه فى الدين. وأخرجه مسلم ، جـ2 ص718 ، كتاب الزكاة – باب النهى عن المسألة . وأخرجه الترمذى ، جـ5 ص28 ، كتاب العلم – باب إذا أراد الله بعبد خيرًا فقهه فى الدين وأخرجه ابن ماجة ، جـ1 ص80 ، المقدمة – باب فضل العلماء والحث على طلب العلم وأخرجه أحمد ، جـ1 ص306
وعن سفيان بن عيينة أنه قال يومًا لأصحابه : " من أحوج الناس إلى طلب العلم ؟ قالوا : قل يا أبا محمد ؛ قال : ليس أحد أحوج إلى طلب العلم من العالم ، لأنه ليس الجهل بأحد أقبح به من العالم????تقريب كتاب الفقيه والمتفقه ، ص304 ، الحافظ الخطيب البغدادى – الناشر زكريا على يوسف ، بدون تاريخ .(1/17)
ولسنا بصدد التعرض لما ورد من آيات وأحاديث بهذا الخصوص فهى أكثر من أن تحصر ، ويكفى –?للتدليل على كثرتها –?أن نشير إلى أن الإمام الجليل شمس الدين ابن القيم قد أفرد فى مقدمة كتابه ??مفتاح دار السعادة???العديد من الصفحات للحديث عن فضل العلم وأهله وعموم الحاجة إليه ، وذلك من وجوه وصلت عنده إلى أكثر من مائة وخمسين وجهًا .
وتقديرًا من الدعاة لهذا الجانب فى حياتهم حفلت كتب العلم بالكثير من الأمثلة على عنايتهم بالعلم ، وحبهم له ، وتفانيهم فى تحصيله .
وإليك –?أخى الداعية –?هذه الأمثلة لعلها تكون حافزًا لنا على اقتفاء أثر أئمتنا ، وسلوك منهجهم ، فيتحقق للإسلام –?من خلال دعاته الفاقهين –?ما تصبو إليه الآمال .(1/18)
??–?عن عكرمة عن ابن عباس قال : " لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا شاب قلت لشاب من الأنصار : يا فلان ، هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولنتعلم منهم ، فإنهم كثير ، قال : العجب لك يا ابن عباس ، أترى الناس يحتاجون إليك وفى الأرض من ترى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ، قال : فتركت ذلك وأقبلت على المسألة ، وتتبع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كنت لآتى الرجل فى الحديث يبلغنى أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأجده قائلاً) فأجده قائلاً : راقدًا وقت القيلولة ، فأتوسد ردائى على بابه تسفى الريح على وجهى حتى يخرج ، فإذا خرج قال : يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك ؟ ، فأقول : بلغنى حديث عنك أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأحببت أن أسمعه منك ، قال : فيقول : فهلا بعثت إلىَّ حتى آتيك ؟ فأقول : أنا أحق أن آتيك ، فكان الرجل بعد ذلك يرانى – وقد ذهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واحتاج الناس إلىَّ – فيقول : كنت أعقل منى?" جامع بيان العلم وفضله ، جـ1 ص102 ، ابن عبد البر ؛ وذكره أيضًا بنحوه الحافظ البغدادى ، جـ1 ص158 ، الجامع لأخلاق الراوى وآداب السامع .
??–?قال إسماعيل بن يحيى المزنى : " قيل للشافعى : كيف شهوتك للعلم ؟ ، قال : أسمع بالحرف مما لم أسمعه ، فتود أعضائى أن لها أسماعًا تتنعم به مثلما تنعمت به أذناى ، قيل له : فكيف حرصك عليه ؟ قال : حرص الجموع المنوع فى بلوغ لذته للمال ، قيل له : فكيف طلبك له ؟ قال : طلب المرأة المضلة ولدها ليس لها غيره???مع الرعيل الأول ، ص65 ، محب الدين الخطيب – طبعة ثامنة سنة 1400 هـ - المكتبة السلفية
??–?جاء فى كتاب ??ذيل طبقات الحنابلة???المرجع المذكور ، جـ1 ص146 ، جـ2 ص361(1/19)
عن ابن عقيل النحوى الفقيه الحنبلى أنه قال : " إنى لا يحل لى أن أضيع ساعة من عمرى ، حتى إذا تعطل لسانى عن مذاكرة ومناظرة ، وبصرى عن مطالعة ، أعملت فكرى فى حال راحتى وأنا مستطرح???. أهـ
??–?ومن الأمثلة الدالة على ذلك أيضًا رحلاتهم المتكررة بين البلاد طلبًا للعلم ، وبحثًا عن الفائدة .
وفى تقديرهم لهذه الوسيلة يقول أحدهم ، وهو الإمام الشعبى : " لو سافر رجل من الشام إلى أقصى اليمن فى كلمة تدله على هدى ، أو ترده عن ردى ، ما كان سفره ضائعًا?? إحياء علوم الدين ، جـ6 ص1081 ؛ وذكره ابن عبد البر بنحوه ، جـ1 ص114 ، جامع بيان العلم وفضله.
ومن الأمثلة العملية فى هذا المجال ما يلى :
أ –?أورد الإمام البخارى فى صحيحه أن الصحابى الجليل جابر بن عبد الله رحل مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس فى حديث واحد . صحيح البخارى ، جـ1 ص25 ، كتاب العلم – باب الخروج فى طلب العلم .
ب–?وقال الإمام سعيد بن المسيب صلى الله عليه وسلم?????إن كنت لأسير الليالى والأيام فى طلب الحديث الواحد?? جامع بيان العلم وفضله ، جـ1 ص 113 . .
جـ–?وقال الإمام أحمد بن حنبل صلى الله عليه وسلم?????رحلت فى طلب العلم والسُّنة إلى الثغور ، والشامات ، والسواحل ، والمغرب ، والجزائر ، ومكة ، والمدينة ، والحجاز ، واليمن ، والعراقين جميعًا ، وفارس وخراسان ، والجبال ، والأطراف ، ثم عدت إلى بغداد?? صفة الفتوى والمفتى والمستفتى ، ص 78 ، الإمام أحمد بن حمدان الحرانى الحنبلى??
وإذا كان قد اتضح لنا –?من خلال ما عرضناه –?أهمية العلم بالنسبة للداعية ، فإن ثمة أمورًا ينبغى أن تراعى فى هذا المجال ، حتى لا يضيع العمر سدى ، ويكون الجهد المبذول كالحرث فى الماء ، أو النفخ فى الهواء .
ومن أهم هذه الأمور ما يلى :
??–?تحديد الأولويات فى أثناء الطلب ، بحيث يبدأ الداعية بالاهتمام بأفضل العلوم وأهمها ، وتقديمها على ما سواها .(1/20)
وأول ما يجب صرف العناية إليه فى هذا الجانب حفظ كتاب الله جل جلاله?، وهو ما أشار إليه أئمة العلم وأساطينه .
يقول الإمام ابن عبد البر –?رحمه الله –???" طلب العلم درجات ومناقل ورتب لا ينبغى تعديها ، ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف رحمهم الله ، ومن تعدى سبيلهم عامدًا ضلَّ ، ومن تعداه مجتهدًا زلَّ ، فأول العلم حفظ كتاب الله جل جلاله وتفهمه ...????جامع بيان العلم وفضله ، جـ2 ص204 ، ابن عبد البر.
ويقول الإمام النووى صلى الله عليه وسلم???" كان السلف لا يعلمون الحديث والفقه إلا لمن يحفظ القرآن " المجموع شرح المهذب ، جـ1 ص69 ، الشيرازى .
وباستيعاب القرآن الكريم وآياته يكون الداعية قد حصَّل من المعارف والأدلة ما يصعب جمعه فى كتاب آخر سواه ، فهو يغنى عما سواه وليس العكس ، وصدق الإمام الحسن البصرى فى قوله : " والله مادون القرآن من غنى ، ولا بعده من فاقه "??
فإذا خلا الداعية من حفظه للقرآن الكريم صار فى مجال الدعوة عاجزًا ، وأصبح كالجندى الذى يخوض المعركة من غير سلاح ، أو يخوضها بسلاح ضعيف .
وإذا أتم الداعية حفظ القرآن الكريم أخذ من كل فن ما يعينه على الوقوف على قدميه فيه ، فقرأ فى التفسير والحديث والفقه والسيرة والتاريخ والثقافات المعاصرة ، وتعلم من اللغة ما يقوِّم لسانه ويجوِّد فهمه .
وللدكتور القرضاوى بحث مفيد بعنوان ??ثقافة الداعية???يضع النقاط على الحروف فى مسألة العلوم وكيفية الاستفادة منها ، وأهم المؤلفات فيها ، فليرجع إليه من أراد المزيد .
??–?الحرص على تلقى العلم على أيدى العلماء ، فإنه من سلك طريقًا بغير دليل ضلَّ ، وإلى هذا أشار الشاعر بقوله :
??ومن أخذ العلوم بغير شيخ ... يضل عن الصراط المستقيم
وكم من عائب قولاً صحيحًا ... وآفته من الفهم السقيم(1/21)
وقد أشار علماؤنا إلى أهمية هذا الجانب فى مسألة طلب العلم ، ومن أقوال الإمام الشافعى فى هذا : " من تفقه من بطون الكتب ضيع الأحكام?????وقال آخر : " من أعظم البلية تمشيخ الصحفية???أى يصير القارئ من الصحف شيخًا يرجع إليه فى الفتوى .
??–?الاستكثار من الحفظ ، وعدم الاعتماد الكلى على الكتابة ، حيث لا تقدر قيمة الداعية بما يقتنيه من كتب يزخرف بها مكتبته ، وإنما بقدر ما يحفظه منها ، ويستحضره عند الحاجة إليه ، وصدق من قال :
??ليس بعلم ما حوى القمطر ... ما العلم إلا ما حواه الصدر
ويقول الأعشى : " احفظوا ما جمعتم ، فإن الذى يجمع ولا يحفظ كالرجل كان جالسًا على خوان ( أى مائدة طعام ) ، يأخذ لقمة ، فينبذها وراء ظهره ، فمتى تراه يشبع ؟ " الجامع لأخلاق الراوى وآداب السامع ، جـ2 ص248 ، الحافظ الخطيب البغدادى??
وقد تناولت هذه التوجيهات والنصائح بالكثير من التفصيل فى كتابى ( أخلاق الدعاة إلى الله تعالى ) راجع هذه الموضوعات من ص96 إلى ص113 فى الكتاب المذكور ، فليرجع إليه من أراد المزيد .
????تقديم الداعية للقدوة الحسنة بين يدى دعوته
يقوم الداعية بواجبه فى دعوة الآخرين إلى الله وهو يضع نصب عينيه أنه مقصود بالكلام قبل غيره ، ومدعو إلى تنفيذه قبل أن يحمل الآخرين عليه ، ومن هنا قالوا : " إذا كنت إمامى فكن أمامى????
وفى إشارة إلى أهمية التلازم بين الدعوة والقدوة يقول رب العزة : ( فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ) سورة الشورى – الآية 15 ??(1/22)
وقال تعالى : ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) سورة فصلت – الآية 33 ?، وفى هذا النص القرآنى إشارة إلى أن ثناء الله تعالى على من يدعو إليه لا يتأتى إلا إذا قرن الداعى بين القيام بواجب الدعوة والالتزام بمبادئها ، وهو المشار إليه فى الآية بالعمل الصالح ، وإظهار الاعتزاز بالإسلام والانتساب إليه .
ولمزيد التأكيد على أهمية القدوة الحسنة فى مجال الدعوة أسوق هذه الحقائق :
??–?إن عمل الداعية ليس مجرد الكلام والوعظ ، فما أيسر أن يعتاد الإنسان –?بكثرة المران –?على الألفاظ الجذلة ، والعبارات الرصينة ، بحيث يطلب منه الحديث فى أى موطن ، فيفيض به كأحسن ما يكون . وقد قال الله تعالى فى شأن المنافقين : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ) سورة البقرة – الآية 204 .
ومن هنا أكد العلماء على أن الناس تراقب الداعية ، ويكون انتفاعهم بعلمه بقدر ما ينتفع بهذا العلم لنفسه .
يقول شهر بن حوشب : " إذا حدث الرجل القوم ، فإن حديثه يقع من قلوبهم موقعه من قلبه "\ المنطلق ، ص256 ، محمد أحمد الراشد – طبعة ثانية سنة 1976م – مؤسسة الرسالة – بيروت .
وقيل أيضًا : " من لم ينفعك لحظه لم ينفعك لفظه " . ويقول محمود بن الحسن الوارق :
إذا أنت لم ينفعك علمك لم تجد ... لعلمك مخلوقًا من الناس يقبله
وإن زانك العلم الذى قد حملته ... وجدت له من يجتنيه ويحمله جامع بيان العلم وفضله ، جـ1 ص197 ، ابن عبد البر
2 – إن صوت القدوة أسمع ، ولغة العمل لا تحتاج إلى ترجمة ، فيكفى أن يعمل الداعية ويصير قدوة حسنة ليتحقق التأثير بصورة أقوى من أى عبارة بليغة ، أو خطبة رصينة .(1/23)
يقول الإمام أبو حامد الغزالى رحمه الله : " العلمُ يْدَركُ بالبصائر ، والعمل يدرك بالأبصار ، وأرباب الأبصار أكثر " إحياء علوم الدين ، جـ1 ص97 – طبعة دار الشعب .
وقد أشار القرآن الكريم إلى طرف من هذا المعنى فى أكثر من موقع .
فنبى الله يوسف عليه السلام?يقول الله تعالى فى شأنه : ( وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآْخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) سورة يوسف – الآية 36 .
وقد كانت هذه القدوة الحسنة فى نبى الله يوسف عليه السلام?مدخلاً له لدعوة هذين الفتيين إلى الإيمان بالله تعالى ، ونبذ الشرك به .
وجاء فى القرآن الكريم على لسان نبى الله شعيب عليه السلام???( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الأْصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ) سورة هود – الآية 88 فكأن الالتزام والعمل لما يدعو المرء الآخرين إليه هو أجدى وأنفع وسائل الإصلاح ، كما يتضح من الربط بينهما فى سياق واحد .
ومن المناسب فى هذا المقام أن نضم إلى هذه الأدلة القرآنية دليلاً من السنة على عمق تأثير القدوة الحسنة فى النفس البشرية ، وسرعة الاستجابة لها من أى كلام نظرى .(1/24)
فقد أورد البخارى فى صحيحه أن النبى صلى الله عليه وسلم?دعا الناس يوم الحديبية إلى الحلق ونحو الهدى والتحلل ، وكرر ذلك الأمر ثلاث مرات ، لكن أحدًا لم يلتفت إلى هذا الأمر ، حتى شق ذلك على النبى صلى الله عليه وسلم ، وذكر ذلك لأم المؤمنين أم سلمة?رضى الله عنها، فقالت : " يا نبى الله ، أتحب ذلك ؟ أخرج ثم لا تكلم منهم أحدًا كلمة حتى تنحر بُدُنَكَ ، وتدعو حالقك فيحلقك ، فخرج فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك ، نحر بُدُنَهُ ، ودعا حالقه فحلقه ، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا ، وجعل بعضهم يحلق بعضًا "??
3 – إن التزام الداعية بما يدعو الآخرين إليه يجعل فى دعوته حرارة وحيوية ، لأنها تخرج من قلب منفعل بها ، ويعبر عنها لسان صادق اللهجة فيها ، وبذا تتأثر بكلامه القلوب ، وتنفعل بصدق حديثه النفوس ، فإن ما خرج من القلب وصل إلى القلب .
يقول يحيى بن معاذ صلى الله عليه وسلم?????القلوب كالقدور فى الصدور ، تغلى بما فيها ، ومغارفها ألسنتها ، فانتظر الرجل حتى يتكلم ، فإن لسانه يغترف لك ما فى قلبه من بين حلو وحامض ، وعذب وأجاج ، يخبرك عن طعم قلبه اغتراف لسانه " نقلاً عن " العوائق " ، ص109 ، محمد أحمد الراشد – طبعة أولى سنة 1977م – مؤسسة الرسالة – بيروت .
??–?إن العلم فى الإسلام منه ما هو نافع ومنه ما هو غير ذلك ، والذى يحدد كونه من هذا الصنف أو ذاك هو مدى انتفاع الإنسان به لنفسه ، فإن عمل به كان نافعًا ، وكان صاحبه عالمًا ، وإلا صار الجهل ألصق به دون نظر إلى ما يحفظه من العلم ، قلَّ أو كثر .
يقول سفيان بن عينية صلى الله عليه وسلم???" إن أنا عملت بما أعلم فأنا أعلم الناس ، وإن لم أعمل بما أعلم فليس أحد فى الدنيا أجهل منى " الجامع لأخلاق الراوى وآداب السامع ، جـ1 ص90 ، الحافظ الخطيب البغدادى .(1/25)
ويقول الفضيل بن عياض –?رحمه الله –???" لا يزال العالم جاهلاً بما علم حتى يعمل به ، فإذا عمل به كان عالمًا " . اقتضاء
العلم العمل ، ص37 ، الخطيب البغدادى – طبعة رابعة سنة 1397هـ - المكتب الإسلامى – بتحقيق محمد ناصر الدين الألبانى .
وقيل فى هذا المعنى أيضًا : " ليس العالم الذى يعرف الحلال من الحرام ، ولكن العالم الذى يعرف الحلال فيلتزمه ، ويعرف الحرام فيجتنبه " .
وإذا ثبت ذلك تأكد لدينا أن من عجز عن دعوة نفسه وإصلاحها وتزكيتها بما تيسر له تحصيله من العلم سيكون عن إصلاح غيره أعجز ، فإنه لا يستقيم الظل والعود أعوج ، وفاقد الشىء لا يعطيه ، ومن لا يملك نصابًا لا يزكى .
??–?وأخيرًا فإن القدوة الحسنة دليل عملى على أن الالتزام بالدعوة ومبادئها من الأمور المستطاعة ، وأنها فى مقدور كل إنسان ، وبدون القدوة تظل التعاليم والتوجيهات حبرًا على ورق ، ويصبح الداعية فى نظر الناس رجلاً يسبح فى أجواء الخيال ، مما يسيىء إلى نفسه وإلى دعوته .
بين الدعاة والأدعياء :
اتضح لنا من خلال ما سقناه من أدلة وبراهين على أن الداعية الحق هو من وعظ الناس بفعله قبل قوله ، وقدم الأسوة الحسنة فى نفسه قبل أن يطلبها من غيره .
ولكن الدعوة تبتلى أحيانًا ببعض الأدعياء ، ممن يجيدون فن الكلام ، ويتجردون من أبسط قواعد الالتزام .
وهؤلاء الأدعياء خطر على الدين وعارٌ عليه ، وهم آفة الإيمان وسقام الحياة ، وبهم تهوى المُثُل العليا إلى الحضيض ، وتتمرغ فى الأوحال ، ويتجرأ العصاة والمذنبون على التمادى فى باطلهم ، وهم يجدون فى سلوك هؤلاء الأدعياء ما يشجعهم على اقتراف الآثام ، وارتكاب الخطايا .(1/26)
يقول الإمام ابن القيم : " علماء السوء جلسوا على باب الجنة ، يدعون إليها الناس بأقوالهم ، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم ، فكلما قالت أقوالهم للناس هلموا ، قالت أفعالهم لا تسمعوا منهم ، فلو كان حقًا ما دعوا إليه كانوا أول المستجيبين له ، فهم فى الصورة أدلاء ، وفى الحقيقة قطاع طرق " نقلاً عن " هداية المرشدين " ، ص92 – الشيخ على محفوظ??
ويقول الأستاذ سيد قطب : " الدعوة إلى البر والمخالفة عنه فى سلوك الداعين إليه هى الآفة التى تصيب النفوس بالشك ، لا فى الدعاة وحدهم ولكن فى الدعوات ذاتها ، وهى التى تبلبل قلوب الناس وأفكارهم ، لأنهم يسمعون قولاً جميلاً ، ويشهدون فعلاً قبيحًا ، فتتملكهم الحيرة بين القول والفعل ، وتخبو فى أرواحهم الشعلة التى توقدها العقيدة ، وينطفىء فى قلوبهم النور الذى يشعه الإيمان ، ولا يعودون يثقون فى الدين بعد ما فقدوا ثقتهم برجال الدين " فى ظلال القرآن ، جـ1 ص68 – طبعة عاشرة سنة 1981 – دار الشروق .
ومن هنا شدد الله النكير على من يسلكون مثل هذا المسلك ، فقال : ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) سورة البقرة - الآية 44 ، وقال أيضًا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) سورة الصف – الآية 2 ، 3 .(1/27)
وبينت السنة أن صاحب هذا التصرف الأحمق يستأهل عليه أكبر العقاب ، فقال صلى الله عليه وسلم???« يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى فى النار ، فتندلق أقتابه( فتندلق أقتابه : قال فى النهاية : الأقتاب : الأمعاء ، واحدها : قِتْب بالكسر ، جـ4 ص11 ، مادة : قتب ؛ والاندلاق خروج الشىء من مكانه) فى النار ، فيدور كما يدور الحمار برحاه ، فيجتمع أهل النار عليه ، فيقولون : أى فلان ، ما شأنك ؟ أليس كنت تأمرنا بالمعروف ، وتنهانا عن المنكر ؟ قال : كنت آمركم بالمعروف ولا آتية ، وأنهاكم عن المنكر وآتيه » أخرجه البخارى ، جـ2 ص220 – كتاب بدء الخلق – باب صفة النار ، وأنها مخلوقة . وأخرجه مسلم ، جـ4 ص2291 – كتاب الزهد والرقائق – باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله ، وينهى عن المنكر ويفعله . وأخرجه أحمد ، جـ5 ص205 .
وفى سبيل التأكيد على خطورة هذا التصرف المتناقض يقول أبو العتاهية :
??ياواعظ الناس قد أصبحت متهمًا ... إذ عبت منهم أمورًا أنت تأتيها
تعيب دنيا وناسًا راغبين لهّا ... وأنت أشد منهم رغبة فيها
كالملبس الثوب من عرى وعورته ... للناس بادية ما إن يواريها
وأعظم الإثم بعد الشرك نعلمه ... فى كل نفس عماها عن مساويها
عرفانها بعيوب الناس تبصرها ... منهم ولا تبصر العيب الذى فيها
ويكفينا ذمًا لمثل هذا التصرف ما شبه الله به أصحابه فى كتابه ، فقد وصفهم بالحمير تارة وبالكلاب تارة أخرى ، وما ذلك إلا لأنهم صموا آذانهم عن الحق ، وأعموا أعينهم عنه ، رغم علمهم به ، ومعرفتهم الكاملة عنه .
قال تعالى : ( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ) سورة الجمعة – الآية 5 .(1/28)
وقال تعالى : ( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ) سورة الأعراف – الآية 175 ، 176 .
ومن هنا كان اهتمام الإسلام بموضوع القدوة الحسنة فى مجال الدعوة ، فلم تكن تعاليمه مجرد نظريات ، وإنما قام على ترجمتها فى أرض الواقع رسول الله صلى الله عليه وسلم?، فكان خلقه صلى الله عليه وسلم?القرآن ، وقال الله لنا فى حقه : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ لآْخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ) سورة الأحزاب – الآية 21 .
وعلى هذا الدرب سار الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون من بعده يؤكدون مرارًا وتكرارًا على أهمية الاعتناء بالقدوة فى مجال الدعوة .
يقول الإمام على بن أبى طالب صلى الله عليه وسلم???" من نصَّب نفسه للناس إمامًا فليبدأ بتهذيب نفسه قبل تهذيب غيره ، وليكن تهذيبه بسيرته قبل تهذيبه بلسانه ، ومعلم نفسه ومهذبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومهذبهم "??
ويقول الإمام الشافعى – رحمه الله –???" من وعظ أخاه بفعله كان هاديًا "?، ومن الحكم المشهورة فى هذا المقام قولهم???" مقام رجل فى ألف رجل ، خير من كلام ألف رجل فى رجل " .
فما أجمل أن يترسم الداعية هذه الخطا ، ليكون على درب المصلحين من قبله من الأنبياء والمرسلين ، والذين قال الله فى شأنهم : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) سورة الأنعام – الآية 90 .
????علو الهمة والجدية فى الدعوة إلى الله تعالى(1/29)
الداعية صاحب أمانة عالية ، وعلى عاتقة أُلقيت أحمال ، وبجهده علقت آمال ، وبه يرجى صلاح الأحوال ، فهو حامل رسالة الإسلام إلى البشرية كلها ، وهو طريق السالكين إلى ربهم ، بعلمه يستضيئون ، ولتوجيهاته يتبعون ، وبعلمه يقتدون .
فهو المعلم فى المساجد وحلقات العلم والدراسة ، وهو الفقيه الأمين الذى عنده الإجابة عن استفسارات الناس وما يعنُّ لهم ، وهو المصلح الاجتماعى فى منطقته والأمين على الأسرار ، وهو المجاهد فى سبيل دينه ودعوته ، وهو العابد الذى يتزود لكل هذه المهام بقيام الليل ودعاء السحر والذكر والقرآن والصلاة ، حتى يكون له من ربه العون ويصحبه التوفيق ، ويكتب له الهداية والرشاد .
ومن هنا : فإن هذه المهام الجسام ، لا يقوم بها إلا صاحب شخصية متميزة تستسهل الصعاب وتبذل الجهد ، وتستلذ بالتعب ، شخصية عنوانها العام وسمتها البارز هو الجدية .
لذا كان لابد أن نتعرف على الجدية :
إن شئت أن تعرِّفها فلك أن تقول : إنها الإيجابية أو علو الهمة .
وفى اللغة : يقول ابن منظور – رحمه الله - : " الجد نقيض الهزل جد فى الأمر يَجِدُّ ويَجُدُّ – بالكسر والضم – ، وعذاب جِدُ : محقق مبالغ فيه .. وجد فى أمره يجد جدًا وأجد : حقق .. ويقال أجد فلان فى أمره إذا كان ذا حقيقة ومضاء " لسان العرب ، جـ10 ص564 ، مادة : جدد .
وبهذا يتبين أن الجدية تعنى : " الاجتهاد فى الأمر ، والمبالغة فى تحقيقه ، والاهتمام به ، والإسراع فى إنجازه " .
والداعية إلى كل هذه المعانى فى حاجة ماسه .
فهو محتاج إلى الاجتهاد فى دعوته حتى يصل إلى تحقيق أهدافه ، كما يحتاج إلى بذل الطاقة والوسع والاهتمام بدعوته والحرص عليها ، كما يحتاج إلى الإسراع ونفى التردد والقعود فى وسط الطريق أو التولى عنه والتكاسل فيه ، كما يحتاج إلى الديمومة على العمل حتى يتحقق المقصود .
إلى كل هذا وغيره يحتاج الداعية ، وإلى هذا الداعية الايجابى تحتاج كل الأمة .(1/30)
الإيجابية فى القرآن والسنة :
لم يكن من الغريب أن نجد القرآن والسنة قد اعتنيا اعتناءً كاملاً بغرس الإيجابية فى الشخصية المسلمة بصفة عامة ، وفى الدعاة بصفة خاصة .
ومن ذلك امتداح الله لعباده العلماء الدعاة الذين درسوا الكتاب وعملوا به وجعلوه محور حياتهم يقوله عز وجل???( وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ) سورة الأعراف – الآية 170 .
قال سيد قطب – رحمه الله – : " إن الصيغة اللفظية : ( يُمَسِّكُونَ )?تصور مدلولاً يكاد يُحَسُّ ويُرى .. إنها صورة القبض على الكتاب بقوة
وجد وصرامة .. الصورة التى يحب الله أن يؤخذ بها كتابه وما فيه .. فى غير تعنت ولا تنطع ولا تزمت ؛ فالجد والقوة والصرامة شىء ، والتعنت والتنطع والتزمت شىء آخر .. إن الجد والقوة والصرامة لا تنافى اليسر ، ولكنها تنافى التميع ! ولا تنافى سعة الأفق ، ولكنها تنافى الاستهتار ! ولا تنافى مراعاة الواقع ، ولكنها تنافى أن يكون ??الواقع ) هو الحكم فى شريعة الله ! فهو الذى يجب أن يظل محكومًا بشريعة الله?، والتمسك بالكتاب فى جد وقوة وصرامة ، وإقامة الصلاة –?أى شعائر العبادة?–?هما طرفًا المنهج الربانى لصلاح الحياة .. والتمسك بالكتاب فى هذه العبارة مقرونًا إلى الشعائر يعنى مدلولاً معينًا ؛ إذ يعنى تحكيم هذا الكتاب فى حياة الناس لإصلاح هذه الحياة ، مع إقامة شعائر العبادة لإصلاح قلوب الناس ؛ فهما طرفان للمنهج الذى تصلح به الحياة والنفوس ، ولا تصلح بسواه .. والإشارة إلى الإصلاح فى الآية : ??إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ????
يشير إلى هذه الحقيقة .. حقيقة أن الاستمساك الجاد بالكتاب عملاً ، وإقامة الشعائر عبادة ، هما أداة الإصلاح الذى لا يضيع الله أجره على المصلحين الظلال ، جـ3 ص1388 .(1/31)
ومن ذلك أيضًا قول الله جل جلاله?: ( خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ ) سورة البقرة – الآية 63 .
قال الإمام القرطبى – رحمه الله – : " أى بجد واجتهاد ، قاله ابن عباس وقتادة والسدى " الجامع لأحكام القرآن للقرطبى ، جـ1 ص 437
وقوله جل جلاله?: ( يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ) سورة مريم – الآية 12 .
قال الشيخ السعدى –?رحمه الله تعالى?????" بقوة أى بجد واجتهاد ، وذلك بالاجتهاد فى حفظ ألفاظه وفهم معانيه ، والعمل بأوامره ونواهيه هذا تمام أخذ الكتاب بقوة " تفسير الكريم المنان ، ص 44 ؛ انظر أيضًا : الجامع لأحكام القرآن ، جـ11 ص87،86 .
وقد أمر الله تعالى بالمسارعة إلى الصالحات جميعًا فقال : ( وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) سورة آل عمران – الآية 133 .
وحذر من التفريط والإهمال وبين سوء حاله عند الموت فقال : ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) سورة المؤمنون – الآية 99 ، 100 .
أما السنة فنجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم?يبين لنا أن الخيرية تكمن فى المؤمن القوى صاحب العزيمة القوية ، والأكثر تحملاً للمشاق فى سبيل الله ، والأكثر رغبة فى الصلاة والصيام والأذكار وسائر العبادات .(1/32)
فيقول صلى الله عليه وسلم???« المؤمن القوى خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفى كل خير ، إحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ، وإن أصابك شىء فلا تقل : لو أنى فعلت كذا كان كذا وكذا ، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان » رواه مسلم – كتاب القدر – باب فى الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله ، برقم 2664 .
ومن هنا توالت التوجيهات النبوية :
قال رسول الله?صلى الله عليه وسلم???« أيعجز أحدكم أن يكسب فى اليوم ألف حسنه ؟ » فسأل سائل من جلسائه : كيف يكسب أحدنا ألف حسنة ؟ قال : « يسبح مائة تسبيحه فتكتب له ألف حسنة ، أو تحط عنه ألف خطيئة » الحديث .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم?: « اتقوا النار ولو بشق تمرة ، فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة » رواه البخارى - كتاب الزكاة - باب اتقوا النار ولو بشق تمرة ، برقم 1417 .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم???« لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق » رواه مسلم - كتاب البر والصلة - باب استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء ، رقم 2626 .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم???«?لقد رأيت رجلاً يتقلب فى الجنة فى شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذى المسلمين » رواه مسلم - كتاب البر والصلة ، رقم 1914 .
وفى الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم???« على كل مسلم صدقة »، قيل : أرأيت إن لم يجد ؟ قال : « يعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق »?، قيل : أرأيت إن لم يستطع ؟ قال : « يعين ذا الحاجة الملهوف »?، قيل : أرأيت إن لم يستطع ؟ قال : « يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر »?، قال : أرأيت إن لم يفعل ؟ قال : « يمسك عن الشر فإنها صدقة » رواه مسلم - كتاب الزكاة - باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف ، رقم 1008 .(1/33)
وقد روى أنه?صلى الله عليه وسلم?كان يدعو الله?جل جلاله?بالعزيمة والجد والاجتهاد فى الرشد :?« اللهم إنى أسألك الثبات فى الأمر ، والعزيمة على الرشد ، وأسألك شكر نعمتك ، وحسن عبادتك ، وأسألك قلبًا سليمًا ، ولسانًا صادقًا ، وأسألك من خير ما تعلم ، وأعوذ بك من شر ما تعلم ، واستغفرك لما لا أعلم » رواه النسائى ، جـ3 ص54 ؛ والترمذى ، حديث 3407 ؛ وأحمد ، جـ4 ص125 ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبى .
كما كان صلى الله عليه وسلم?يكثر من الاستعاذة من العجز والكسل قال أنس : فكنت أسمعه يعنى النبى صلى الله عليه وسلم?يكثر أن يقول : « اللهم إنى أعوذ بك من العجز والكسل ، والبخل والجبن ، وضلع الدين وغلبة الرجال » رواه البخارى - كتاب الأطعمة ، حديث رقم 5425 .
وعلى الإيجابية تربى الصحابة :
حسن استغلال الوقت وعدم إضاعة الأيام ، وإعمار الحياة بطاعة الله ، وأخذ الإسلام بقوة وحب كانت هذه هى صفات الصحابة الكرام .
ومن أدلة ذلك :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم?صلى الصبح يومًا بأصحابه ثم التفت إليهم وقال : « من أصبح منك اليوم صائمًا ؟ » قال أبو بكر صلى الله عليه وسلم : " أنا " ، قال : « فمن أطعم اليوم منكم مسكينًا ؟ » قال أبو بكر صلى الله عليه وسلم : " أنا " ، قال : « فمن عاد منك اليوم مريضًا ؟ » قال أبو بكر : " أنا " ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : « ما اجتمعن فى امرئ إلا دخل الجنة » رواه مسلم - كتاب فضائل الصحابة - باب من فضل أبى بكر الصديق رضى الله عنه ، رقم 1028.
فانظر إلى إيجابية الصديق رضوان الله عليه?، لم يترك بابًا من الخير قبل طلوع الفجر ، لم ينس أن يزور مريضًا لعل له حاجة ، وأن يطعم مسكينًا لعله بات جائعًا .(1/34)
هكذا فليكن المسلم ، إلى كل خير مسرعًا ، ولكل وقت مغتنمًا ، وكما قال أبو بكر رضى الله عنه?: " إعلم أن لله جل جلاله فى النهار حقًا لا يقبله فى الليل ، واعلم أن لله جل جلاله فى الليل حقًا لا يقبله فى النهار ، واعلم أنه لا تقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة "" وصايا العلماء " للربعى ، ص35 نقلاً عن " واحات الإيمان " للبلالى ، جـ2 ص92 – 93 .
وهذا أنس بن النضر رضى الله عنه?يعطى نموذجًا فريدًا فى إيجابية المسلم ، فيقول أنس بن مالك رضى الله عنه?????غاب عمى أنس بن النضر عن قتال بدر " فقال : " يا رسول الله ، غبت عن أول قتال قاتلت المشركين ، لئن أشهدنى الله قتال المشركين ليرين ما أصنع ، فلما كان يوم أحد ، وانكشف المسلمون ، قال : اللهم إنى أعتذر إليك مما صنع هؤلاء ( يعنى الصحابة ) ، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء ( يعنى المشركين ) " ، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ ، فقال : " يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إنى أجد ريحها من دون أحد " ، قال سعد : " فما استطعت يا رسول الله ما صنع " ، قال أنس : " فوجدناه قد قتل وقد مَثَّلَ به المشركون ، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه " ، قال أنس : " كنا نرى أو نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفى أشباهه : ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ) سورة الأحزاب - الآية 33 " رواه البخارى - كتاب الجهاد - باب قول الله عز وجل ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا ) ، رقم 2805.(1/35)
ومما يعين على هذه الإيجابية أن يتذكر المسلم عظيم الأجر عند الله عز وجل?، ومن ذلك : ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم?قال لأصحابه فى غزوة بدر عندما دنا المشركون : « قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض » ، فقال عمير بن الحمام الأنصارى : يا رسول الله ! جنة عرضها السموات والأرض ؟ قال : « نعم » ، قال : بخ بخ ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما يحملك على قولك بخ بخ » ، قال : لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها ، قال النبى صلى الله عليه وسلم : « فإنك من أهلها » فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال : لئن أنا حييت حتى آكل تمراتى هذه إنها لحياة طويلة ؛ فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل. رواه مسلم - كتاب الإمارة - باب ثبوت الجنة للشهيد ، برقم 1901 .
وإن أردت نموذجًا منفردًا فى الإيجابية الكاملة فى مجالاته كلها منذ دخوله الإسلام إلى نهاية حياته فلا أظنك تجد مثل الصحابى الجليل عبد الله بن أم مكتوم ، والذى سطر لنفسه بإيجابيته وجديته فى القرآن سطورًا منيرة ، وأرسى له فى تاريخ المسلمين أبوابًا مضيئة .
فهو منذ أن سمع بالإسلام –?وهو الأعمى الذى ربما يلتمس الأعذار ليقعد ويتكاسل –?ولكنه رضوان الله عليه?لم يكن كذلك ، بل هو الذى سارع ونهض وتقدم وبذل وأقبل ، وبلغ من إقباله على النبى الكريم صلى الله عليه وسلم?وحرصه على حفظ القرآن العظيم أنه كان لا يترك فرصة إلا اغتنمها ، ولا سانحة إلا ابتدرها ، بل كان إلحاحه على ذلك يغريه –?أحيانًا –?بأن يأخذ نصيبه من الرسول صلى الله عليه وسلم?ونصيب غيره" حياة الصحابة " ، رأفت الباشا ، ص152–157 ، دار الآداب الإسلامية ، الطبعة الأولى ، سنة 1997 .(1/36)
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم?فى هذه الفترة كثير التصدى لسادات قريش ، شديد الحرص على إسلامهم ، فالتقى ذات يوم بعتبة بن ربيعة ، وأخيه شيبة بن ربيعة ، وعمرو بن هشام المكنى بأبى جهل ، وأمية بن خلف ، والوليد بن المغيرة "جميعهم قتلوا فى بدر عدا الوليد بن المغيرة مات بعد الهجرة بثلاثة أشهر" والد سيف الله خالد ، وطفق يفاوضهم ويناجيهم ويعرض عليهم الإسلام ، وهو يطمع فى أن يستجيبوا له ، أو يكفوا أذاهم عن أصحابه .
وبينما هو كذلك أقبل عليه عبد الله بن أم مكتوم يستقرئه آية من كتاب الله ، ويقول : يا رسول الله ، علمنى مما علمك الله .
فأعرض الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم?عنه ، وعبس فى وجهه ، وتولى نحو أولئك النفر من قريش ، وأقبل عليهم أملاً فى أن يسلموا فيكون فى إسلامهم عز لدين الله ، وتأييد لدعوة رسول الله .
وما إن قضى رسول الله صلوات الله عليه?حديثهُ معهم ، وفرغ من نجواهم ، وهَمَّ أن ينقلب إلى أهله حتى أمسك الله عليه بعضًا من بصره وأحس كأن شيئًا يخفق?برأسه .. ثم أنزل عليه قوله : ( عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ ) سورة عبس - الآيات 1 - 16 .
ست عشرة آية نزل بها جبريل الأمين على قلب النبى الكريم صلى الله عليه وسلم?فى شأن عبد الله بن أم مكتوم ؛ لا تزال تتلى منذ نزلت إلى اليوم ، وستظل تتلى حتى يرث الله الأرض ومن عليها .(1/37)
ومنذ ذلك اليوم ما فتئ الرسول صلوات الله عليه?يكرم عبد الله بن أم مكتوم إذا نزل ، ويدنى مجلسه إذا أقبل ، ويسأله عن شأنه ، ويقضى حاجته ولا غرو، أليس هو الذى عُوتب فيه من فوق سبع سماوات أشد عتاب وأعنفه ؟!
ولما كلبتْ??قريش على الرسول صلى الله عليه وسلم?والذين آمنوا معه ، واشتد أذاها لهم أذن الله للمسلمين بالهجرة ، فكان عبد الله بن أم مكتوم أسرع القوم مفارقة لوطنه ، وفرارًا بدينه ..
فقد كان هو و مصعب بن عمير?أول من قدم المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم???وما إن بلغ عبد الله مكتوم " يثرب " حتى طفق هو وصاحبه مصعب بن عمير يختلفان إلى الناس ويقرآنهم القرآن ، ويفقهانهم فى دين الله .
ولما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم?إلى المدينة اتخذ عبد الله بن أم مكتوم وبلال بن رباح مؤذنين للمسلمين ، يصدعان بكلمة التوحيد كل يوم خمس مرات ، ويدعوان الناس إلى خير العمل ، ويحضانهم على الفلاح??
فكان بلال يؤذن ؛ وابن أم مكتوم يقيم الصلاة ، وربما أذن ابن أم مكتوم وأقام بلال .?وكان لبلال وابن أم مكتوم شأن آخر فى رمضان ، فقد كان المسلمون فى المدية يتسحرون على أذان أحدهما ، ويمسكون عند أذان الآخر .?كان بلال يؤذن بليل ويوقظ الناس ، وكان ابن أم مكتوم يتوخى الفجر فلا يخطئه .?وقد بلغ من إكرام النبى صلى الله عليه وسلم?لابن أم مكتوم أن استخلفه على المدينة عند غيابه عنها بضع عشرة مرة ، كانت إحداها يوم غادرها لفتح مكة .(1/38)
وفى أعقاب غزوة " بدر " أنزل الله على نبيه من آيات القرآن ما يرفع شأن المجاهدين ، ويفضلهم على القاعدين لينشط المجاهد إلى الجهاد ، ويأنف القاعد من القعود ؛ فأثر ذلك فى نفس ابن أم مكتوم ، وعز عليه أن يحرم من هذا الفضل وقال : " يا رسول الله ، لو أستطيع الجهاد لجاهدت " .. ثم سأل الله بقلب خاشع أن ينزل قرآنا فى شأنه وشأن أمثاله ممن تعوقهم عاهاتهم عن الجهاد ، وجعل يدعو فى ضراعة : " اللهم أنزل عذرى .. اللهم أنزل عذرى "??
فما أسرع أن استجاب الله جل جلاله?لدعائه .?
حدث زيد بن ثابت زيد بن ثابت : انظر كتاب " صور من حياة الصحابة " ، ص362 كاتب وحى رسول الله صلى الله عليه وسلم?، قال : " كنت إلى جنب الرسول صلوات الله عليه ، فغشيته السكينة ، فوقعت فخذه على فخذى ؛ فما وجدت شيئًا أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم?، ثم سرى?كشف عنه ما نزل به من شدة الوحى وثقله)?عنه فقال : « اكتب يا زيد »?فكتبت : ( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) .
فقال ابن مكتوم وقال : " يا رسول الله ، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد ؟! " ، فما انقضى كلامه حتى غشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم?السكينة ، فوقعت فخذه على فخذى فوجدت من ثقلها ما وجدته فى المرة الأولى ، ثم سرى عنه ، فقال : «?اقرأ ما كتبته يا زيد »?فقرأت : ( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ????(1/39)
فقال : « اكتب ( غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ) سورة النساء - الآية 95 »???فنزل الاستثناء الذى تمناه ابن أم مكتوم .?وعلى الرغم من أن الله سبحانه أعفى عبد الله بن أم مكتوم وأمثاله من الجهاد ، فقد أبتْ نفسُهُ الطموح أن يقعد مع القاعدين ، وعقد العزم على الجهاد فى سبيل الله .?ذلك لأن النفوس الكبيرة لا تقنع إلا بكبار الأمور .?فحرص منذ ذلك اليوم على ألا تفوته غزوة ، وحدد لنفسه وظيفتها فى ساحات القتال ، فكان يقول : أقيمونى بين الصفين ، وحملونى اللواء أحملهُ لكم وأحفظهُ .?فأنا أعمى لا أستطيع الفرار .
وفى السنة الرابعة عشرة للهجرة عقد عمر بن الخطاب العزم على أن يخوض مع " الفرس " معركة فاصلة تذهب بدولتهم ، وتزيل ملكهم ، وتفتح الطريق أمام جيوش المسلمين ؛ فكتب إلى عُماله يقول : " لا تدعو أحدًا له سلاح ، أو فرس ، أو نجدة ، أو رأى ؛ إلا انتخبتموه ثم وجهتموه إلىَّ ، والْعَجَلَ الْعَجَلَ " .وطفقت جموع المسلمين تلبى نداء الفاروق ، وتنهلُّ على المدينة من كل حدب وصوب ، وكان فى جملة هؤلاء المجاهد المكفوف البصر عبد الله بن أم مكتوم .
فأمَّر الفاروق على الجيش الكبير سعد بن أبى وقاص ، وأوصاه وودعه ولما بلغ الجيش " القادسية " ، برز عبد الله بن أم مكتوم لابسًا درعهُ ، مستكملاً عدته ، وندب نفسه لحمل راية المسلمين والحفاظ عليها ، أو الموت دونها ، والتقى الجمعان فى أيام ثلاثة قاسية عابسة .. واحترب الفريقان حربًا لم يشهد لها تاريخ الفتوح مثيلاً حتى انجلى اليوم الثالث عن نصرٍ مؤزر للمسلمين ، فذالت دولة من أعظم الدول . وزال عرش من أعرق عروش الدنيا . ورفعت راية التوحيد فى أرض الوثنية . وكان ثمن هذا النصر المبين مئات الشهداء . وكان من بين هؤلاء الشهداء عبد الله بن أم مكتوم . فقد وجد صريعًا مضرجًا بدمائه وهو يعانق راية المسلمين.(1/40)
وهكذا مات عبد الله بن أم مكتوم بعد أن سطر فى عالم الإيجابية سطورًا منيرة يستضئ بها السراة ، ويهتدى بها السالكون ، ويداوى بها مرضى الكسل والدعة والعجز والركون .
وعلى هذا المنهج سار التابعون ، وضربوا لنا نماذج عالية المقام فى الجدية والبذل واستنفاد كل القوى والإمكانات فى سبيل الله عز وجل??
وعلى حد قول عمر بن عبد العزيز صلى الله عليه وسلم?: " إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما " ؛ فهو ارتقاء دائم ، وعمل دائب ؛ قال حماد بن سلمة يصف جدية سليمان التيمى : ما أتينا سليمان التيمى فى ساعة يطاع فيها الله جل جلاله فيها إلا وجدناه مطيعًا ، وإن كان فى ساعة صلاة وجدناه مصليًا ، وإن لم يكن ساعة صلاة وجدناه إما متوضئًا ، أو عائدًا مريضًا ؟ أومشيعًا لجنازة ، أو قاعدًا فى المسجد ، قال : فكنا نرى أنه لا يحسن يعصى الله جل جلاله . حلية الأولياء ، جـ3 ص28
وقال المحدث إبراهيم الحربى : " لقد صحبت أحمد بن حنبل عشرين سنة صيفًا وشتاءً وحرًا وبردًا ، وليلاً ونهارًا ، فما لقيته فى يوم إلا وهو زائد عليه بالأمس " مناقب أحمد بن حنبل ، لابن الجوزى ، ص140
ومن هذا المنطلق فهم الدعاة على مدار العصور أن السعادة والرفعة للدعوة والداعية لا تتحقق بالدعة والكسل ، والركون إلى طيب المطعم والمشرب ، ولبس أجمل الثياب ، وركوب أفخر المراكب ، ولكن السعادة الحقيقية والرفعة الحقيقية تكمن فى ركوب المصاعب والصبر على المكاره .
قال الإمام ابن القيم : " فالمكارم منوطة بالمكاره ، والسعادة لا يُعْبَرُ إليها إلا على جسر المشقة فلا تقطع مسافتها إلا فى سفينة الجد والاجتهاد "????وقد قيل من طلب الراحة ترك الراحة وهو المعنى الذى أشار إليه الأصفهانى .(1/41)
حيث قال : " وإن من تعود على الكسل ومال إلى الراحة فقد الراحة ، فحب الهوينا يكسب التعب ، وقيل : إن أردت ألا تتعب فاتعب لئلا تتعب " الذريعة للأصفهانى ، ص268 نقلاً عن الرائد ، للشيخ مازن عبد الكريم ، جـ2 ص207 .
وهو ما سطره الدكتور القرضاوى أعزه الله فى هذه الروائع :
??قالوا السعادة فى السكون ... وفى الخمول وفى الخمود
وفى العيش بين الأهل ... عيش المهاجر والطريد
فى لقمة تأتى الليل ... بغير ما جهد جهيد
فى المشى خلف الركب ... فى دعة وفى خطو وئيد
فى أن تقول كما يقال ... فلا اعتراض ولا ردود
فى أن تسير مع القطيع ... وأن تقاد ولا تقود
فى أن تعيش كما يراد ... لا أن تعيش كما تريد
قلت الحياة هى التحرك ... لا السكون ولا الهمود
??وهى التفاعل والتطور ... لا التحجر والجمود
وهى الجهاد وهل يجاهد ... من تعلق بالقعود
وهى الشعور بالانتصار ... ولا انتصار بلا جهود
وهى التلذذ بالمتاعب ... لا التلذذ بالرقود
هى أن تزود عن الحياض ... وأى حر لا يزود
هذى الحياة وشأنها ... من عهد آدم والجدود
فإذا ركنت إلى السكون ... فلذ بسكان اللحود
أفبعد ذاك تظن أن ... أخا الخمول هو السعيد
وهذه نماذج من الجادين :
قال القاضى أبو بكر بن كامل –?أحمد بن كامل الشجرى –?تلميذ ابن جرير وصاحبه ، يصف انتظام أوقات ابن جرير وأعماله –?رحمه الله تعالى ????" كان إذا أكل نام فى الخيْش – ثياب فى نَسْجها رِقَّة ، وخيوطها غلاظ ، تُتَّخَذُ من مُشَاقِة الكتَّان ، تُلبسُ فى الحرِّ عند النوم لبرودتها على الجسم – فى قميص قصير الأكمام ، مصبوغ بالصَّنْدل وماءِ الورد ، ثم يقوم فيصلى الظهر فى بيته ، ويكتُبُ فى تصنيفه إلى العصر ، ثم يخرج فيصلى العصر ، ويجلس للناس يُقرئُ ويُقرَأُ عليه إلى المغرب ، ثم يجلس للفقه والدرس بين يديه إلى العشاء الآخرة ، ثم يدخل منزله ، وقد قَسَّم ليلَهُ ونهارَه فى مصلحة نفسه ، ودينه ، والخَلْق كما وفقه الله جل جلاله " قيمة الزمن عند المسلمين ، عبد الفتاح أبو غدة ، ص 20،21 .(1/42)
وقال الأستاذ محمد كرد على فى كتابه ??كنوز الأجداد ) ، ص123 فى ترجمة الإمام ابن جرير الطبرى???" وما أُثِرَ عنه أنه أضاع دقيقةً من حياته من غير الإفادة والاستفادة . رَوَىَ المُعافَى بنُ زكريا عن بعض الثقات ، أنه كان بحضرة أبى جعفر الطبرى – رحمه الله – قبل موته ، وتُوفى بعدَ ساعةٍ أو أقل منها ، فذكر له دعاء عن جعفر بن محمد ، فاستدعى محبرة وصحيفة فكتبه فقيل له : أفى هذه الحال ؟! فقال : ينبغى للإنسان ألا يدع اقتباس العلم حتى الممات " ؛ فرحمه الله ، وجزاه عن العلم والدين والإسلام وأهله خير الجزاء .
صاحب أكبر كتاب فى الدنيا ! :
ويحتل الذروة فى مقام المحافظة على الزمن ، ومعرفة نفاسته وغلاء قيمته ، والحرص على ملء الأوقات بالأعمال الزاكيات ، والاستفادة من الخطرات واللحظات ؛ تأليفًا وتفكيرًا ، وتذكرًا وتذكيرًا : الإمام أبو الوفاء بن عقيل الحنبلى –?رحمه الله –?الذى كان يقول : " إنى لا يحل لى أن أضيع ساعة من عمرى ، حتى إذا تعطل لسانى عن مذاكرة أو مناظرة ، وبصرى عن مطالعة ، أعملت فكرى فى حال راحتى ، وأنا منطرح ؛ فلا أنهض إلا وقد خطر لى ما أسطره ، وإنى لأجد من حرصى على العلم وأنا فى الثمانين أشدَّ ما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة .وأنا أُقصِّر بغاية جهدى أوقات أكلى ، حتى أختار سَفَّ الكعك وحسية بالماء على الخبز ، لأجل ما بينهما من تفاوت المَضْغ ؛ توافرًا على مطالعة ، أو تسطير فائدة لم أدركها فيه ، وإنَّ أجلَّ تحصيل عند العقلاء بإجماع العلماء هو الوقت ، فهو غنيمة تنتهز فيها الفُرَص ، فالتكاليف كثيرة????وقد ألف كتابه الفنون ، فيه فوائد كثيرة جليلة??
قال الحافظ الذهبى : " لم يُصنَّف فى الدنيا أكبرُ من هذا الكتاب ، حدَّثنى من رأى منه المجلَّد الفلانىَّ بعدَ الأربعمائة " ، قال ابن رجب وقال بعضهم : " هو ثمانمائة مجلدة "??(1/43)
فانظر أيها القارئ الكريم –?رعانى الله وإياك?–?كيف يُثمر إعمال الخاطر وحفظُ الوقت ودأبُ النفس فى الخير والعلم .. إنه ليُثمر ثمراتٍ لا تكاد تُصدَّق ، وإنها لصِدْق ، تُثمر ??ثمانمائة مجلدة ) أكبر كتاب فى الدنيا ، يؤلفه فرد واحد من الناس : أبو الوفاء بن عقيل ، إلى جانب تآليف كثيرةٍ غيره ألّفها ، تبلغ نحو العشرين مؤلّفًا ، وبعضُها فى عشر مجلدات .
وما أصدقَ وأجملَ ما قاله الإمام بهاء الدين بن النحاس الحلبى النحوى ??محمد بن إبراهيم ) ، المتوفى سنة 698 –?رحمه الله تعالى –?إذ يشير بقوله الآتى إلى أن ضم القليل إلى القليل مع الدوام عليه ، يتكون منه الكثير الهائل العجيب ، كما حصل لأبى الوفاء بن عقيل ??ثمانمائة مجلدة ) ؛ يقول بهاء الدين بن النحاس الحلبى :
??اليوم شىءٌ وغدًا مثله ... من نخب العلم التى تلتقط
يحصل المرء بها حكمة ... وإنما السيل اجتماع النقط
وفى صاحب موسى لنا العبرة :
من القدوات الجادة فى الدعوة ، والتى يجب أن نتعلم منها صاحب موسى عليه السلام?والذى أخبرنا القرآن عنه فقال جل جلاله???( وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ) سورة القصص - الآية 20 .
فإخلاص الدعوة والحرص عليها يظهر جليًا ويتبلور فى النقاط التالية :
أ – جاء من أقصى المدينة ولم يستطل الطريق .
ب– يسعى راكضًا بقوة قدميه ، مجدًا فى الوصول إلى موسى عليه السلام?قبل وصول الملأ إليه .
جـ–?وعيه الكامل وإدراكه العميق لطبيعة الموقف حيث عَلِمَ بمخططات الأعداء وتآمرهم على الدعوة والداعية ..
د –?ترجمة الموقف والعاطفة إلى خطط وبرامج : ( فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ) انظر الرائد - الجزء الثانى ، ص16 .
ولنا فى الهدهد عبرة :
قال الله تعالى فى سورة النمل حاكيًا عن سليمان :
((1/44)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ) سورة النمل - الآية 20 – 25 .
فهذه الآيات تعطينا نموذجًا فريدًا للإيجابية التى تمتع بها هذا الطائر فأهَّلته لهذه المكانة ، وجعلته قدوة لغيره من جميع المخلوقات ، وخلَّد الله ذكره بأن جعل جهده وعلمه قرآنًا يتلى ويتعبد به إلى يوم القيامة .
ترى ماذا فعل هذا الهدهد ؟
خرج فى رحلته فلاحظ وهو يسبح فى الهواء شيئًا يلفت النظر ويخالف عقيدته ، بل ويخالف الفطرة ، رأى أقوامًا يعبدون الشمس بدلاً من الإله العظيم الذى خلق كل شىء ، فلم يكتف الهدهد بالإنكار الداخلى ، كما رفض أن يلتزم الصمت حيال هذه الجريمة الشنيعة ، فاستطلع الأمر جليًا ووثق معلوماته ، مما تسبب فى تأخيره عن موعد رجوعه
إلى موقعه المخصص له ، ويفتقده سليمان عليه السلام?، وقد يتعرض للإيذاء ، خاصة أنه لم يكن قد استأذن لهذا التأخير ، وكذلك لم يكن مكلفًا بهذا الأمر ، بل إنه تحرك بذاتية مطلقة ، ولم يقل إنى هدهد ماذا أفعل ولا أنا ضعيف ماذا أقدم ؟ وكذلك ولم يقل : مالى ولهذا الأمر الذى لست مكلفًا به !!
ولكنها الإيجابية المطلقة :(1/45)
وقد أهلته هذه الإيجابية لأن يقف أمام سليمان الملك النبى عليه السلام?موقفًا رفيعًا كريمًا سامقًا ، وهو الهدهد الطائر ، ولكنه العلم ، ولكنها الإيجابية ولكنه البذل .
هذا هو الذى أهل الهدهد لأن يرتقى المرتقى الصعب ، ويقول بجرأة منقطعة النظير لسليمان عليه السلام?( أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ ) سورة النمل - الآية 22.
وأوضح الأمر فى جلاء فقال : ( إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ) سورة النمل - الآية 23 ، 24 .
ثم بين أحد الأسباب التى أوصلتهم إلى هذا المنحدر فقال : ( وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ ) سورة النمل - الآية 24 .
وينعى عليهم هذا التردى العقلى والانتكاس الفكرى ، ويتعجب كيف ضلوا الطريق مع وضوح الأدلة ، وبروز الآيات والعلامات ، فيقول : ( أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) سورة النمل - الآية 25 ، 26 .
وهنا برز مفهوم الإيجابية ، وكيف سار الهدهد بمفرده دون تكليف مسبق ، أو تنفيذ لأمر صادر ، وجلب خيرًا للقيادة المؤمنة أدى إلى دخول أمة كاملة فى الإسلام .
وهنا يبرز مفهوم الإيجابية مع الوعى والإدراك والإيمان ، واستغلال الفرص لتبليغ الرسالة ، ونشر التوحيد مع براعة فى حسن الأداء ، وجودة العرض وشجاعة الاعتذار .
وعليه فالداعية أولى من الهدهد بالعمل الإيجابى ، والسعى وراء المصالح ، وإيصال الخير للناس .(1/46)
وفى الجن الداعية لنا العبرة :
يحكى القرآن عن مجموعة من الجن صرفها الله عز وجل لتسمع القرآن فكان لهم موقف غاية فى الإيجابية نستلهم منه العبرة ، ونتعرف منه على الطريق الصحيح فى التعامل مع هدى الله إلينا ، وآياته البينات بقوله تعالى : ( وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) سورة الأحقاف - الآية 29 – 32 .
فانظر إلى إيجابية التفاعل : ( فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا ? والإنصات هو الإصغاء مع التركيز والاعتبار ، وما أحوجنا إلى الإنصات !
ثم انظر إلى نتيجة الاستماع : ? فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ? !
ولعمرى كم سمع الجن من القرآن ؟ تسع آيات ؟ عشر آيات ؟ عشرين آية ؟ سورة كاملة ؟
وكيف تحولوا بهذه الآيات القليلة التى سمعوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم?إلى دعاة مجدين ؟ إلى أصحاب رسالة واضحة المعالم ، ودعوة رشيدة الخُطى ، ومنهج مترابط الأجزاء ؟ !
((1/47)
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) سورة الأحقاف - الآية 30 ، 31 .
وهكذا فليكن التعامل مع قرآن الله العظيم ، فلما انتهت التلاوة لم يلبثوا أن سارعوا إلى قومهم ، وقد حملت نفوسهم مالا تطيق السكوت عليه ، أو التلكؤ فى إبلاغه والإنذار به ، وهى حالة من وجد حسه بشىء جديد ، وحفلت مشاعره بمؤثر قاهر غلاب ، دفعه إلى الحركة به والاحتفال بشأنه ، وإبلاغه للآخرين فى جد واهتمام ، ولقد مضوا فى نذارتهم لقومهم فى حماسة المقنع المندفع ، الذى يحس أن عليه واجبًا فى النذارة لابد أن يؤديه .
( قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ) سورة الأحقاف - الآية 30 ، 31 .
فقد اعتبروا نزول هذا الكتاب إلى الأرض دعوة من الله لكل من بلغته من إنس وجن ، واعتبروا محمدًا صلى الله عليه وسلم?داعيًا لهم إلى الله بمجرد تلاوته لهذا القرآن واستماع الثقلين له فنادوا قومهم انظر : فى ظلال القرآن ، سيد قطب ، جـ6 ص3274???( يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ ) .
وإذا كان الجن قد تحولوا بآيات معدودات هذا التحول الكبير ، فإنى أسأل نفسى والمسلمين جميعًا كم سمعنا من الآيات ؟ وكم قرأنا من القرآن ؟ ، بل قل كم سمعنا القرآن ؟ وكم تلونا القرآن ، كم ختمنا القرآن فى الصلاة وفى الأوراد وفى المدارسات ؟؟ !!(1/48)
وكم سمعنا من الأحاديث والدروس والخطب والمحاضرات ؟ !
ألم تؤثر هذه الآيات والأحاديث والعظات فى نفوسنا ، فتمتلئ بالجدية والمبادرة ؟ !
أين واجب الآيات التى سمعناها ؟ أين واجب القرآن الذى تلوناه ؟ أين حق الحديث الذى سمعناه أو درسناه أو وعظنا به ؟ !
إنها أمانات فهل من مؤد للأمانة ؟ إنها ديون أثقلت الكواهل فهل من قاضٍ للديون ؟ .
إنها أعباء حملتها الأعناق فهل من قائم بحق الله عليه ؟ !!
لذا كانت الإيجابية مطلبًا عظيمًا ، وقيمة هامة فى حياة الشخصية المؤمنة بصفة عامة والدعاة بصفة خاصة .
وللتطبيق العملى يتسع الميدان :
ففى ميدان الدعوة – أمرًا ونهيًا وترغيبًا وترهيبًا – اتسع الميدان ، وامتدت الآفاق ، حيث تجب على الداعية الملاحظة اليومية لأمور المنكر التى ينبغى إزالتها من المجتمع ، فيبدأ بكتاب موضوع لينشر فى الصحافة ، أو يقوم بإرسال رسالة ترد على موضوع أو تُوجه موقفًا ، أو تستنكر مقالة ، أو مؤديًا لمحاضرة موفقه ، أو أن يقوم بالكتابة إلى مسئول يدعم رأيه الجيد فى موقف ويستنكر عليه الموقف السيئ .
وهكذا يجب أن يكون الداعية ، ولو عمل كل الدعاة بهذا المنهج وأدى كل واحد واجبه لأدى هذا الأمر إلى الكثير من الخير ، إذ سوف يستلم الصحفى والإعلامى والمدير والوزير مئات بل ربما الآلاف من الردود المعارضة لموقف الشر ، فيقود ذلك إلى الامتناع ، أو على الأقل للتوقف عن المزيد .. أما سكوت الجميع عن الشر ، فسيقود إلى شر أكبر ، وعدم تشجيع المعروف يقود إلى الزهد فى إتيانه . انظر : رسائل العين – الرسالة الخامسة – الإيجابية فى حياة الداعية الدكتور عبد الله يوسف محسن ، ص27
وفى الإطار الاجتماعى اتسع الأفق :(1/49)
فما أكثر الأعمال الاجتماعية التى يمكن أن يقوم بها الداعية ، كزيارة تكسب فيها صديقًا يكون للحق سندًا ورفيقًا ، أو تأمر فيها بالمعروف ، أو تجلب فيها للمسلمين منفعة ، أو تتعرف فيها على تاجر يعين على الخير بماله وعطائه ، أو تتعرف على شيخ ذى مكانة يؤثر فى أتباعه ومحبيه .
ولا يقتصر العمل الإسلامى على المجتمع فحسب ، بل إن بيت الداعية أحوج ، فعليه أن يتجاوز الفتور وقصور الهمة ، وأن يقوم بتعليم الزوجة وإرشادها ، وأن يراعى الأبناء والأقارب والجيران ، فعليهم سوف يُسأل ، لذا كان لابد أن تكون بهم البداية انظر : المصدر السابق ، ص27 .
وقال تعالى : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) سورة الشعراء - الآية 214 .
ابدأ ولو بكلمة طيبة :
يقول الله تعالى : ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) سورة إبراهيم - الآية 24 ، 25 .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم???« إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقى لها بالاً يرفعه الله بها درجات ، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقى لها بالاً يهوى بها فى جهنم » الحديث متفق عليه .
ومن هذا المنطلق لا يستصغر الداعية كلمة صادقة ، فربما تغير شخصًا أو تغير أمة ، أو تكون انطلاقة لجيل عظيم يرفع الراية ويعلى البناء ويدفع الأعداء ويجيب إذا نودى عليه لنصرة الإسلام :
??لبيك إسلام البطولة ... كلنا نفدى الحمى
لبيك واجعل من ... جماجمنا لعزك سلما
لبيك إن عطش اللوا ... سكب الشباب له الدما
ومن هنا ينبغى للداعية أن لا يزهد أبدًا بما عنده من العلم ، أو يبعد بحجة الزهد عن تبليغ الأمانة ، فما يدرى أين يكون الخير ؟ ومتى تؤتى كلمته ثمارها ؟(1/50)
فالكلمة الواحدة قد تنشئ دعوة ، وقد تبنى مؤسسة ، وقد ينقذ الله تعالى بها قلوبًا ، أو يعمر بها نفوسًا ، أو يخرج بها الله جل جلاله?أممًا من عالم الأموات ، وما على الداعية إلا تبليغ الرسالة وأداء الأمانة ، والله تعالى يختار الأرض الصالحة لها ولو بعد حين ، وينبتها نباتًا حسنًا ولو بعد سنين .
وقد تؤتى الكلمة ثمارها فى المكان البعيد حتى يكتب الأجر للداعية دون أن يشعر ، ولعل الله تعالى يكتب له أجر النية ، ويبعده بحكمته عن شبهة الرياء .
وما على الداعية إلا التبليغ ، ولا يترك الفرصة تفوت من يديه لعل الله تعالى يكتب له أجر الكلمة الملقاة ، التى لا يلقى لها بالاً وترفعه الدرجات ، فلا يفوت عليه فرصة رفيق لسفر فى القطار أو الطائرة ، ولا فرصة اللقاء العابر على وليمة أو مناسبة ، ولا جلسة الاستراحة فى ناد أو مقهى ، ولا جلسة المرافقة فى الدائرة أو الدراسة ، ولا يفوت مجال الارتباط فى تجارة أو معاملة ، ولا يزهد فى الكلمة الطيبة الصغيرة فى السوق وعند الشراء ، أو الحدائق عند الاسترخاء ، أو فى المسجد بعد الصلوات ، أو عند التعارف مع الغير فى السفرات والخلوات ، أو أشباه ذلك مما قد ييسره الله ، والموفق السعيد من وفقه الله لكلمة الخير التى تنتشر فى الآفاق ، فيكتب الله له أجرها وأجر من يعمل بها إلى ما يشاء الله ، والله على كل شىء قدير .
إن قول الكلمة بهذه النيات ظاهرة من ظواهر الإيجابية فى حياة الداعية
ولنا فى الافتقار الزاد
على الداعية أن يبذل جهده ويعمل فكره?،?ثم يستعين بسيده ومولاه?، ويردد فى دعائه دائمًا :
" اللهم أغننى بالافتقار إليك ولا تفقرنى بالاستغناء عنك " البيان والتبيين ، للجاحظ ، جـ3 ص320 .(1/51)
وفى ذلك يقول ابن القيم ????وإذا عظم المطلوب ، وأعوزك الرفيق الصالح ، فارحل بهمتك بين الأموات ، وعليك بمعلم إبراهيم ... من الله سبحانه وتعالى الاستمداد ، وعليه التوكل ، وإليه الاستناد ، فإنه لا يخيب من توكل عليه ، ولا يضيع من لاذ به وفوض أمره إليه ، وهو حسبنا ونعم الوكيل " مفتاح دار السعادة ، ص32 ؛ وانظر : رسائل العين - الرسالة الخامسة ، ص40 .
????الاتصاف بالأمل ، وطرح اليأس والقنوط
إن من أعظم الصفات التى يجب أن يتحلى بها الداعية هى أن لا يدع لليأس طريقًا إلى نفسه ، مهما ادْلهمَّت الأمور وضاقت السُبل وغُلِّقت الأبواب ، وذلك لأن الداعية لديه قوة خارقة يعلو بها على كل قوة ، ألا وهى قوة الله عز وجل?، سنة ثابتة تجعله رابط الجأش وإن ذهبت كل الأسباب ، ألا وهى قول الله تعالى : ( وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) سورة الصافات - الآية 173 .
وقوله تعالى : ( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) سورة يوسف - الآية 21
وقوله تعالى : ( وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) سورة الصف - الآية 8 .
وقوله تعالى : ( كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) سورة المجادلة - الآية 81 .
وقوله تعالى : ( وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ) سورة الإسراء - الآية 81
ثم إن له فى رسول الله الأسوة الحسنة حيث كان صلى الله عليه وسلم?نموذجًا للأمل?حتى فى أصعب الظروف ، وانظر إليه?صلى الله عليه وسلم?حينما بشر سراقة بن مالك?بسوارى كسرى فى الوقت الذى كان فيه?صلى الله عليه وسلم?مهاجرًا من بلده مطاردًا من قومه !!(1/52)
وكذلك فى غزوة الأحزاب واجتماع المشركين وتحالفهم على قتال المسلمين وغزو المدينة ، والمسلمون يحفرون الخندق حول المدينة ، يقيمون العوائق لصد هذا الهجوم الكاسح ، وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم?يبشر المسلمين بفتح الروم والفرس !!
اليأس من أهم أسلحة الأعداء
لا تُقاوم الدعوة بسلاح أمضى من زرع اليأس فى قلوب أبنائها ، وذلك لأن اليأس إذا تسرب إلى النفوس أنتج مجتمعًا منفصًلا عن الإسلام لا أمل له فى مستقبل ، ولا ثقة له فى حاضر .
ومن المظاهر التى تسربت إلى نفوس المسلمين الآن من جراء محاولات التيئيس ما يلى :
??–?التخلى عن الالتزام بالإسلام بدعوى أن الالتزام بالإسلام جرَّ علينا ويلات وويلات ، وأعطى الأعداء فرصة لحربنا مرَّة باسم : الإرهاب وثانية باسم : التطرف ، وثالثة باسم : الأصولية .. وهكذا
??–?عدم الثقة بأى شىء ينتمى إلى الإسلام سواء فى المجال الاقتصادى ، أو التعليمى ، أو الصحى ، أو الإعلامى ، أو السياسى ، أو الاجتماعى ، أو غير ذلك من المجالات ، بل السخرية والاستهزاء .
??–?تثبيط همم الملتزمين بالإسلام والداعين إليه بدعوى : أنكم ما عملتم شيئًا سوى إفناء أعماركم فى سلسلة طويلة من الشدائد والامتحانات عادت بالضرر عليكم وعلى أهليكم وذويكم?، بل على الأمة جميعًا .
??–?الثقة المطلقة بأعداء الأمة بدعوى نجاحهم فى كل شىء ، أو إمساكهم بزمام العالم ، وقدرتهم على متابعتنا وملاحقتنا حتى فى مخادع النوم ، وإنزال الضرر بنا إن أرادوا .
??–?تصديق أعداء الأمة فى كلِّ ما يقولونه عنا ، لاسيَّما فى مجال تشويه تاريخنا ومسيرتنا الإسلامية ، بل ترديد ذلك وإشاعته وإذاعته بيننا بكل ما يمكن من أساليب ووسائل ، إلى غير ذلك من المظاهر الدالة على اليأس والقنوط .(1/53)
هذا .. ويقف الإسلام من هذه الآفة موقف المحرِّم لها ، الرافض للوقوع فى حبائلها وشباكها ، ومن باب أولى الدعوة إليها ، قال تعالى على لسان يعقوب عليه السلام?وهو يستحث أبناءه الضرب فى الأرض طلبًا ليوسف وأخيه يحدوهم الأمل والرجاء فى الله دون يأس أو قنوط من باب أن اليأس والقنوط من أخلاق الكافرين : ( يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ) سورة يوسف - الآية 87.
يقول الإمام الألوسى – رحمه الله – : " ??وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ????أى لا تقنطوا من فرجه سبحانه وتنفيسه ??إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ????لعدم علمهم بالله تعالى وصفاته ، فإن العارف لا يقنط فى حال من الأحوال " انظر : روح المعانى ، 13/44 - المجلد الخامس ؛ وانظر : آفات على الطريق - المجلد الخامس ، ص86،87.
وفى الوقاية العلاج
إن هناك برنامجًا متكاملاً رسمه الدكتور سيد نوح فى كتابه " آفات على الطريق " لابد أن يسلكه المسلم ليقى نفسه ودعوته وأمته من التردى فى شباك اليأس ومحاولات التقنيط ، ويعالج ما تسرب إلى نفسه منه ، ويتمثل هذا البرنامج فى النقاط التالية :
1 – المعرفة الحقة بالله جل جلاله مع حسن الظن به عز وجل??
وذلك بدوام النظر فى آيات الله المنظورة فى الكون وفى النفس ، وآياته المسطورة فى كتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم?، فإن ذلك يعرفنا بالله جل جلاله?معرفة حقة تقود إلى حسن الظن به?عز وجل?،?وأنه ناصر(1/54)
دينه ، معين ومؤيد أهله وأولياءه ماداموا آخذين بأسباب النصر والتأييد والتمكين ، لاسيما وقد جاء فى الحديث القدسى : « " أنا عند ظن عبدى بى .. " » الحديث أخرجه البخارى فى الصحيح - كتاب التوحيد - باب قوله تعالى ??( وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ )?، وباب قول الله تعالى???( يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ ) ،?9/147،148 ، 177 . .
إذ هو عز وجل يقول فى كتابه : ( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ) سورة المائدة - الآية 3.
كما يقول : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأََرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) سورة النور - الآية 55 .
ويقول أيضًا : ( وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) سورة الصفات - الآية 173
ويبين أنه يبتلى عباده المؤمنين بما يبتليهم به تمحيصًا لهم ، إذ يقول : ( وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ) سورة آل عمران - الآية 141
ويقول : ) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ) سورة آل عمران - الآية 179.
ويقول أيضًا : ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ) سورة العنكبوت - الآية 2 ، 3.(1/55)
كذلك يكشف المنافقين والأدعياء والدخلاء ، فيقول : ( لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) سورة التوبة - الآية 42
وهكذا تقود المعرفة الحقة بالله إلى حُسن الظن به سبحانه ، مما يدفع اليأس ، ويقتلع القنوط من الأساس والجذور .
2 – اليقين أن اليأس والقنوط من أخلاق الكافرين الضالين لا من أخلاق المؤمنين الصادقين :
إذ المؤمنون الصادقون عارفون بربهم ، واثقون من وعده لهم بالنصر ، وتبعًا لذلك فإنهم يوالونه سبحانه بمحبته وتعظيمه وطاعته ، والنزول على حكمه فى كل ما يأتون وما يذرون ، وإنْ نزل بهم من الشدائد والمحن ما نزل ، فمن أين يأتيهم إذن اليأس والقنوط ، لاسيما وقد جاء فى الحديث ما يكشف عن ذلك ، إذ يقول صلى الله عليه وسلم???« عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له » الحديث أخرجه مسلم فى الصحيح - كتاب الزهد والرقائق - باب المؤمن أمره كله خير ، 4/2295 رقم ( 2999/64 ) . وأخرجه الدارمى فى السنن - كتاب الرقاق - باب المؤمن يؤجر فى كل شىء ، 2/318 كلاهما من حديث صهيب مرفوعًا ، واللفظ لمسلم . وكذلك أخرجه أحمد فى المسند ، 5/24 من حديث أنس بن مالك مرفوعًا بنحوه .
بخلاف الكفار الضالين فإنهم غير مؤمنين بالله وبالدار الآخرة ،?تبعًا لذلك فهم آيسون قانطون من رحمته فى الدنيا والآخرة ، والمؤمن الحق يخاف أن يتصف بصفتهم من اليأس والقنوط ، فيكفر بالله ويضل عن سبيله ويحرم خير الدنيا والآخرة ، لذلك يجاهد نفسه لئلا تقع فى اليأس والقنوط ، بل يعمل للتخلص منهما إن ابتلى بهما ، ليحيا ويموت والله عنه غير ساخط ولا غاضب .(1/56)
??–?دوام النظر فى قصص الأنبياء والمرسلين :
ذلك أن قصص هؤلاء الأنبياء والمرسلين ملئ بصور لا حصر لها من المحن والشدائد ، ووجهت منهم بالصبر والتحمل والعمل ، مع الثقة فى الله والأمل والرجاء أن يعينهم على تجاوز هذه المحن والشدائد ، وقد كان :
هذا إبراهيم عليه السلام?يُلقى فى النار ، فلا ييأس ، ولا يقنط ، وإنما يضرع إلى الله ، وكله أمل ورجاء أن يجيب الله دعاءه قائلاً : " حسبنا الله ونعم الوكيل "?، ويستجيب الحق عز وجل له?، فيحوَّل هذه النار بردًا وسلامًا على إبراهيم : (قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ ) سورة الأنبياء - الآية 69 – 71.
وهذا موسى عليه السلام?يخرج ببنى إسرائيل ليلاً من مصر إلى فلسطين ويتبعه فرعون وملؤه ، وحين يتراءى الجمعان يقول أصحاب موسى فى خوف وهلع ( إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ) سورة الشعراء - الآية 61 ، ولكن موسى المؤمن بربه ، الواثق من وعده له بالنجاة والنصر يقطع هذا الخوف ، ويبدده مطمئنًا لهم بقوله : ( كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ) سورة الشعراء - الآية 62
وفعلاً يحقق الله ما وعده به فيقول : ( فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآْخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآْخَرِينَ ) سورة الشعراء - الآية 63 – 66.
وبقيت هذه آية للأجيال لتأخذ منها الدرس والعبرة وزاد الطريق حيث يقول عز وجل???( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ) سورة الشعراء - الآية 8.(1/57)
وهذا زكريا عليه السلام?يبلغ من العمر عتّيًا ، ولا يُرزق الولد ، فيدعو ربه فى ثقة وأمل قائلاً : ( قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً ) سورة مريم - الآية 4 – 6.
( رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ) سورة الأنبياء - الآية 89 .
وحقق الله له ما رجاه وطلبه بقوله : ( فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ) سورة الأنبياء - الآية 90 .
( فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ ) سورة آل عمران - الآية 39.
( يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً ) سورة مريم - الآية 7
وهكذا من يمعن النظر فى سير الأنبياء والمرسلين عمومًا يجد فيها زادًا غنيًا لمقاومة حال اليأس والقنوط ، بل على العكس?، فإن هذا الزاد يسرى إلى القلوب حاملاً معه الثقة فى الله جل جلاله?والرجاء والأمل ، وصدق الله العظيم إذ يقول : ( وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ) سورة هود - الآية 120.
ويقول : ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ ) سورة يوسف - الآية 111 .(1/58)
ويقول : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) سورة الأنعام - الآية 90 .
??–?دوام النظر فى سيرة وسنة نبينا وإمامنا محمد صلى الله عليه وسلم?على وجه الخصوص :
إذ فيها ما يغرس الثقة فى النفوس ، ويزرع الأمل والرجاء فى الصدور .
يقول ابن سيد الناس : " روينا عن عثمان بن طلحة من طريق ابن سعد قال : كنا نفتح الكعبة فى الجاهلية يوم الاثنين ، والخميس فأقبل ( يعنى النبى صلى الله عليه وسلم ) يومًا يريد أن يدخل الكعبة مع الناس ، فغلَّظْتُ له ، ونِلْتُ منه ، وحلم على ، ثم قال « يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يومًا بيدى أضعه حيث شئت » ، فقلت : لقد هلكت قريش يومئذ وذلَّت ، فقال : « بل عمرتْ ، وعزَّت ، يومئذ » ودخل الكعبة ، فوقعتْ كلمتهُ منى موقعًا ظننتُ يومئذ أن الأمر سيصير إلى ما قال ، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال له يوم الفتح : « يا عثمان ، ائتنى بالمفتاح » ، فأتيتُه به ، فأخذه منَّى ، ثم دفعه إلىَّ ، وقال : « يا عثمان إن الله استـ أمنكم على بيته ، فكلوا مما يصل إليكم من هذا البيت بالمعروف » ، قال عثمان : فلمَّا وليتُ نادانى ، فرجعت إليه فقال : « ألم يكن الذى قلت ؟ » قال : فذكرتُ قوله لى بمكة قبل الهجرة : « لعلك سترى هذا المفتاح يومًا بيدى أضعه حيث شئت » ، فقلت : بلى أشهد أنك رسول الله " انظر : عيون الأثر فى فنون المغازى والشمائل والسير - فتح مكة - باب إبقاء ابن طلحة على السدانة رغم الذى كان بينه وبين الرسول قبل إسلامه ، 2/231 ؛ وفتح البارى ، 8/18،19 حيث عزاه إلى ابن إسحاق ، من حديث صفية بنت شيبة ، وقال : " إسناده حسن " .(1/59)
وعن عبد الله بن عمر رضى الله : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل يوم الفتح من أعلى مكة على راحلته مردفًا أسامة بن زيد ، ومعه بلال ، ومعه عثمان بن طلحة من الحجبة حتى أناخ فى المسجد ، فأمره أن يأتى بمفتاح البيت ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه أسامة بن زيد ، وبلال ، وعثمان بن طلحة ، فمكث فيه نهارًا كاملاً ، ثم خرج فاستبق الناس ، فكان عبد الله بن عمر أول من دخل ، فوجد بلالاً وراء الباب قائمًا ، فسأله : أين رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأشار له إلى المكان الذى صلى فيه ، قال عبد الله : فنسيت أن أسأله : كم صلَّى سجدة " الحديث أخرجه البخارى فى الصحيح - كتاب المغازى غزوة الفتح - باب دخول النبى من أعلى مكة ، 5/188،189 ، وحجة الوداع ، 5/222،223 .وأخرجه مسلم فى الصحيح - كتاب الحج - باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره والصلاة فيها والدعاء فى نواحيها كلها ، 2/966،967 رقم ( 1329/388–394 ) كلاهما من حديث عبد الله بن عمر ، واللفظ للبخارى .
وفى مرسل الزهرى : " أن النبى صلى الله عليه وسلم?قال لعثمان يوم الفتح : « ائتنى بمفتاح الكعبة?»?، فأبطأ عليه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم?ينتظره ، حتى إنه لينحدر منه مثل الجمان من العرق ، ويقول : «?ما يحبسه ؟?»?فسعى إليه رجل ، وجعلتْ المرأة التى عندها المفتاح وهى أم عثمان ، واسمها سلافة بنت سعيد تقول : إن أخذه منكم لا يعطيكموه أبدًا ، فلم يزل بها حتى أعطته المفتاح ، فجاء به ففتح ، ثم دخل البيت ، ثم خرج ، فجلس عند السقاية ، فقال علىٌّ : " إنا أُعطينا النبوة ، والسقاية ، والحجابة ، ما قوم بأعظم نصيبًا منَّا " ، فكره النبىُّ صلى الله عليه وسلم?مقالته ، ثم دعا عثمان بن طلحة ، فدفع المفتاح إليه "?الخبر أورده ابن حجر فى فتح البارى ، 8/18 ، وعزاه إلى عبد الرازق ، والطبرانى .(1/60)
وفى الهجرة من مكة إلى المدينة مكث صلى الله عليه وسلم?مع الصديق صلى الله عليه وسلم?فى غار ثور ثلاث ليال ، وقد تمكن المشركون من اقتفاء أثرهم إلى الغار حيث رأى الصديق أقدامهم ، فقال : " يا نبى الله ، لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا " .?فقال له النبى?صلى الله عليه وسلم???« يا أبا بكر : ما ظنك باثنين ، الله ثالثهما » انظر : السيرة النبوية للدكتور/ أكرم ضياء العمرى ، 1/211 نقلاً عن فتح البارى.
إلى هذا اليقين الصادق ، والتوكل الكامل أشارت الآية : ( إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) سورة التوبة - الآية 40 .
إلى غير ذلك من صور اليقين بوعد الله ، والثقة بنصره فى أشد ساعات المحنة ، وأحلك أوقات الشدة ، والعيش فيها يقضى على اليأس والقنوط ، ويجعل مكانه الثقة بالله ، وأنه لا يتخلَّى عن عباده المؤمنين الصادقين .
5– الاستقراء الصحيح لمسيرة تاريخنا الإسلامى :
ذلك أنه مرَّتْ بالأمة الإسلامية – أفردًا وجماعات – فترات عصيبة أحاطت بها الخطوب من كل ناحية ، ولفتها الشدائد من كل
جانب ، ولكنها جاهدت وأخلصت فى جهادها حتى مرت الخطوب ، وانتهتْ الشدائد وعادت كالذهب النضار .
هذا بيت المقدس ظلَّ رهينة فى أيدى الصليبين إحدى وتسعون سنة ، ثم خلَّصه المسلمون من قبضة أيديهم بقيادة زنكى وصلاح الدين الأيوبى فى حطين عام 519 هـ .(1/61)
وهاهم التتار جاءوا إلى بغداد عام 656 هـ ، فاستولوا على بغداد ، بعد أن قتلوا الخليفة العباسى ، وأعملوا السيف فى رقاب الأهلين وفرضوا حظر تجول دام أربعين يومًا حتى تلوث الهواء ، وفسد الجو ، ومات بسبب ذلك من الأحياء أضعاف أضعاف من مات بأيدى التتار ، ثم صنع هؤلاء الهمج الرعاع من ميراث المسلمين الفكرى والعلمى ( كتبهم ) جسرًا عبروا عليه من دجلة إلى الفرات إلى بلاد الشام ، وهناك فعلوا بالناس – مع إعانة اليهود والنصارى – الأفاعيل ، ثم صاروا من بلاد الشام إلى مصر للاستيلاء عليها ، وكان بين حكام الشام والكرك والشويبك ، وبين حكام مصر من الخلافات ما لا يعلمه إلا الله ، ولكن عدوان التتار هذا أنساهم خلافاتهم وجمع شملهم ، تنادوا باسم الإسلام ، فخف أهل المغرب علماء وطلاب وعامة إلى المشرق لإعانة إخوانهم على التتار ، وفى عين جالوت عام 658 هـ التقى الجمعان ، وهزم الله التتار ، وردهم على أعقابهم خاسرين ، وأسلم التتار ، وحسن إسلامهم حتى حملوا الإسلام إلى بلادهم ناشرين له ، مدافعين عنه لأكثر من خمسة قرون من الزمان ، وما كان هذا الموقف يتم من المسلمين وفى وجه الصليبين ، ومن بعدهم التتار ، إلا بطرحهم اليأس والقنوط من حياتهم ، وتحليهم بالثقة التامة فى وعد الله بنصر المسلمين ، وهزيمة وخزى غيرهم ممن يُحادون الله ورسوله والمؤمنين ، وقسْ على هذين الموقفين مواقف أخرى أكثر من أن تُحصى .
وهكذا يمكن أن يساعد الاستقراء الصحيح لمسيرة تاريخنا الإسلامى على تطهير النفوس من اليأس والقنوط ، بل حمايتها أعظم الحماية من ذلك .
6 – النظر الصحيح فى واقع الأمة العاصر :(1/62)
ذلك أن الأمة – وإن كانت تعيش اليوم حربًا على كلِّ المستويات : السياسية ، والاقتصادية ، والاجتماعية ، والفكرية ، والعلمية ، والأخلاقية ، والعسكرية ، والصحية ، وغيرها تحت شعار تجفيف المنابع – إلا أن الإقبال على الالتزام بالإسلام التزامًا صحيحًا دائمًا – لاسيَّما بين الناشئة والشباب – اتخذ صورًا عدة ، وهى من المبشرات التى تدفع اليأس والقنوط ، وتزرع الثقة بالله فى النفوس بالأمل والرجاء .
ففى المجال الثقافى والعلمى : أصبح هناك إقبال على تعلم اللغة العربية بكل فروعها ، وهذا من الأهمية بمكان لكونها مفتاح فقه الكتاب والسنة ، وطريق الدخول إلى تاريخنا الإسلامى بسنائه وضيائه ، الأمر الذى يكون طريقًا إلى الوحدة الإسلامية الجامعة .
وصار هناك الحرص على الفقه فى الدين : عقيدةً وعبادةً وأخلاقًا ونظمًا وتشريعات ، وهذا بدوره يُعد سببًا فى ضبط تصرفات المسلم من ناحية ، وإرشاده إلى مكائد الشياطين وسبل إحباطها ، وكيفية التخلص منها من ناحية أخرى .
كما برز النبوغ فى العلوم التجريبية من : طب ، وهندسة ، وفلك ، وجيولوجيا ، وزراعة ، ونحوها ، حتى كانت نخبة العلماء الذين على أكتافهم تدور عجلة البحث العلمى والإنتاج فى كل من أوروبا الشرقية والغربية وأمريكا ، وهم بإذن الله رصيد مدخر للأمة يمكن توظيفه ، والانتفاع به فى اللحظة الحاسمة والبيئة المناسبة ، كما كان الرد على الشبهات والأباطيل التى أثيرت وتثار بين الحين والحين حول الإسلام والمسلمين بصورة تحمى الناشئة والشباب من التأثر بهذه الشبهات والأباطيل .
كما انتشر الكتاب الإسلامى الذى يبرز الصورة الكاملة للإسلام بشموله ووسطيته ، وواقعيته ، وسماحته ، ويسره ، وثباته ، ومرونته ، بالإضافة إلى بعث المخطوطات فى كل فروع الثقافة والعلم من جديد بعد أن كادت تبلى وتموت .(1/63)
وفى مجال الأخلاق والسلوك : برز الالتزام بالإسلام فى الحرص على تعاطى الحلال فى المطاعم ، والمشارب ، والملابس ، والسكنى ، ونحوها ، وفى الحرص على الظهور بالمظهر الإسلامى فى الحجاب ، وفى بناء البيوت وتخطيط المجتمعات السكانية ونحوها .
كما علتْ الأصوات المنادية بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية حتى من أولئك الذين كانوا يعلنون فى إصرار : أنه لا دخل للسياسة فى الدين ، ولا للدين فى السياسة ، خطبًا لود الشعوب المسلمة التى باتت لا يرضيها إلا أن تُحكم بشرع الله جل جلاله?، ووضعت الدراسات والبحوث اللازمة فى كثير من جوانب الشريعة الإسلامية تيسيرًا لسبيل التطبيق والتنفيذ .
وحرص الأكثرون على القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، مع مراعاة شروطه وآدابه .
وباتت التجارب الواقعية : تُلحُّ على الشباب المندفع بعاطفة وحماسة للقيام بهذا الواجب عن طريق القوة فقط وإراقة الدماء ، أن يثوب إلى رشده ، وأن يعود إلى وعيه مراعيًا الحكمة فى تطبيق هذا الواجب بلا ضرر ولا ضرار .
فى المجال الاجتماعى : كان التوسع فى أعمال البرِّ والمعروف من أجل تخفيف المعاناة عن كل صاحب حاجة ، وكذلك من ألمَّ به عذر من الأعذار ، كما تشهد بذلك بيوت الزكاة ولجانها ، وكذلك صناديق الوقف الخيرى ، ولجان العمل الإسلامى المنتشرة فى كلِّ قارات الدنيا ، وكان التنسيق بين بعض الأقطار من أجل التعاون والتآزر لتحقيق المصالح والأهداف المشتركة ، كما تشهد بذلك منظمة المؤتمر الإسلامى وغيرها .
وفى المجال الاقتصادى : كان حصر الإمكانات والموارد الاقتصادية فى العالمين العربى والإسلامى من أجل العمل على توظيفها واستغلالها على أكمل وجه وأحسنه .(1/64)
كما وضعت بعض السياسات والنظم الاقتصادية فى كثير من بلدان العالمين الإسلامى والعربى ، لتحقيق التكامل والتعاون الاقتصادى ، وكان التكامل والتبادل فى الصناعة والزراعة حسب الخصائص التى يتمتع بها كل واحد من هذه البلدان ، توفيرًا للتكاليف ، وقضاء على المنافسة غير المجدية ، وتبادلاً للخيرات ، وإفادة من التجارب الاقتصادية فيما بينها .
وكان استخدام التقنية الحديثة وتطويرها وتوظيفها بما يساعد على التنمية الاقتصادية بأقل التكاليف ، ومن أقصر طريق .
وقامت بيوت التمويل والمصارف ملتزمة بالمنهج الإسلامى وعاملاً للتخلص من المعاملات المحرمة والمحظورة .
وفى المجال السياسى والإدارى : وضعت البحوث ، وعقدت المؤتمرات التى تتناول الشكل الإسلامى للسياسة والحكم ، المتمثل فى الشورى ، والانتخاب ، والتعددية الحزبية وتنصيب المرأة ونحوها ، كما ووجهت أشكال الحكم القائمة فى العالم اليوم من : الديمقراطية ، والدكتاتورية ، والحكم الفردى الشمولى المطلق .
وشكلت بعض أنظمة الحكم فى العالم العربى والإسلامى على النمط الإسلامى ، وإن كانت لا تزال تحتوى على جوانب النقص ، ولكنها فى طريقها إلى الاكتمال بالاستمرار والصبر .
وفى مجال الأسرة وتربية الأولاد : كان الاهتمام بمعرفة مقاصد الزواج ، وأنجح سبل تطبيقها وتنفيذها ، وكذلك برز الاهتمام بالطفل من حيث?أنه?اللبنة?الأساسية?فى?بناء?المجتمع(1/65)
بوضع كتب كبيرة ورسائل صغيرة فى تربية الأولاد ، وحل المشكلات التى تعترض سبيلهم من المنظور الإسلامى ، وتمت العناية بالمرأة المسلمة فى إفهامها أن الإسلام ارتقى بها إلى مستوى لم يكن لها به عهد من قبل البعثة المحمدية ، وقد أعطاها من الحقوق قدر ما عليها من الواجبات سوى مسألة القوامة ، حيث جعلها للرجل رعاية لمصلحة الأسرة عمومًا ، والمرأة على وجه الخصوص ، قال الله تعالى : ( وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) سورة البقرة - الآية 228 .
وهكذا يمكن أن يؤدى النظر بمثل هذه الصورة من الاستقراء والتتبع فى واقع الأمة اليوم إلى اقتلاع اليأس والقنوط من النفوس وشحن هذه النفوس بالثقة التامة فى الله ، والرجاء والأمل فى وعده بالنصر والتمكين عندما نأخذ بأسباب النصر والتمكين .
??–?النظر فى واقع الأعداء بالأمس واليوم :
أما واقع الأعداء بالأمس فمعروف مقدار ما نزل بهم من الفشل والهزيمة بأيديهم ، وبأيدى المؤمنين فى : بدر ، والخندق ، وحُنين ، ويوم بنى قينقاع ، وبنى النضير ، وبنى قريظة ، وفى خيبر ، وأثناء الحروب الصليبية ، وما كان فى الحرب العالمية الأولى والثانية .
وأما واقعهم اليوم فحسبهم –?رغم التقدم العلمى الهائل الذى يعيشونه فى كل مناحى الحياة –?انهيار القيم ، وتحطم الأخلاق ، وشيوع الجريمة وسيطرة القلق النفسى ، وعدم الصبر والرضا ، وسيادة الشكوك والظنون الكاذبة ، وتشتت القلوب ، وشيوع الأمراض البدنية لاسيَّما التى استعصت على العلاج ، وتمرد الظواهر الكونية ، وكثرة الكوارت فى البر وفى البحر وفى الجو ، وما أدى ذلك إليه من اليأس والقنوط ، ومحاولات الانتحار والتخلص من الحياة .(1/66)
إذ أن دوام النظر فى واقع هؤلاء الأعداء بالأمس واليوم يطمئن المسلم أن الأعداء ممتحنون مثلنا وأشد ، كما قال الله جل جلاله???( إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ) سورة آل عمران - الآية 140 .
وكما قال عز وجل???( إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ) سورة النساء - الآية 104 .
وإن علينا أن نصبر ونتحمل ، نؤدى واجبنا للخروج من قدر الهزيمة إلى قدر النصر ، ومن قدر الفشل إلى قدر النجاح ، وذلك هو وعد ربنا لنا إذ يقول : ( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) سورة آل عمران - الآية 137 .
??–?محاسبة النفس دومًا لمعرفة أسباب الفشل والإخفاق ، ثم محاولة التخلص من هذه الأسباب :
ذلك أن هذه المحاسبة المستمرة توقف المرء على جوانب الخلل فى حياته والأسباب أو البواعث الدافعة لذلك ، وهذا يحمله على التخلص من هذه الأسباب والبواعث إن كان المرء جادًا صادقًا مع نفسه ، وبهذه المحاسبة يقضى على سبب رئيسى من أسباب اليأس والقنوط ، إذ سيقل الفشل والإخفاق ، وربما يتلاشى تمامًا .
قال الله تعالى فى الدعوة إلى هذه المحاسبة : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) سورة الحشر - الآية 18 .
وفى الحديث الذى رواه الترمذى : « الكيس من دان نفسه ، وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأمانى » .
??–?التأمل فى إقبال غير المسلمين الشديد على الإسلام :(1/67)
ذلك أن غير المسلمين قد أيسوا الأمن والأمان فى ظل المناهج الأرضية التى عاشوا فى?كنفها?،?وتحاكموا إليها?بعد أن
دانوا بالإلحاد ، لأن منها من انهار بعد أن ثبت فشله وعدم غناه أو جدواه ، كالمنهج الاشتراكى أو الشيوعى القائم على أن الكون مادة ، ولا إله ، والدين أفيون الشعب ، ولا آخرة ، ومنها ما هو فى طريقه إلى الزوال كالمنهج الرأسمالى القائم على إطلاق حق الملكية بلا ضوابط ولا قيود ، فنشأ الاستغلال والظلم من الأقوياء للضعفاء ، ونشأت الأحقاد من الضعفاء للأقوياء ، والكل أصبح غارقًا فى الجريمة والإثم لأنه لا يوحّد الله ، ولا يقيم له وزنًا ، ولا يرجو له وقارًا ، ولا يخاف عقاب الآخرة لتصوره أنه ابن الله وحبيبه ، فكيف يعذب الأب ولده والحبيب حبيبه ، ثم هاهم الأحبار ، والرهبان ، والحاخامات ، يحلون لهم الحرام ، ويحرمون عليهم الحلال ، ويعدونهم مغفرة ذنوبهم والجنة بعد ابتزازهم ، وأخذ ما فى أيديهم وجيوبهم .
ولما آلت حالهم إلى هذا الوضع المزرى بحثوا عن الخلاص فما وجدوه سوى فى الإسلام ، فأقبلوا إليه إقبالاً عديم النظير ، لاسيَّما فى أوروبا الشرقية والغربية وأمريكا ، مع قلة الجهد الذى يبذله المسلمون من ناحية ثانية ، ومع التشويه والتحريف للإسلام بأيدى المستشرقين والمستغربين وبعض أبنائه من ناحية ثالثة ، وما ذلك إلا لأنه دين الفطرة والأمان ، قال الله تعالى : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) سورة الروم - الآية 30 .
وقال تعالى : ( صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ ) سورة البقرة - الآية 138 .
والحال هذه تقتضى التأمل فيها ، وأن الله هو الذى يصنع لدينه ، ولو كره المشركون والكافرون .(1/68)
???–?تذكر حالات النجاح بالإضافة إلى حالات الفشل :
ذلك أنه إذا ألحت حالات الفشل على الفرد والجماعة ، الحاكم والمحكوم ، فعندئذٍ ينبغى مقاومة هذا الإلحاح وتذكر حالات النجاح والفوز فى النفس وفى الكون ، ومع الخصوم من شياطين الإنس والجن ، والله جل جلاله?عودنا أن مع العسر يسراً ، وأن مع الشدة فرجًا ، قال تعالى : ( سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ) سورة الطلاق - الآية 7 .
وقال الله تعالى : ??فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ) سورة الشرح - الآية 5 ، 6.
ويفعل ذلك للمرء فى كل يوم ، بل فى كل ساعة ، بل فى كل دقيقة ، بل فى كل لحظة ، رحمة منه سبحانه وتفضلاً ، فإن تأخر ذلك فلحكمة لا يعلمها إلا هو ، قال تعالى : ( وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) سورة الأعراف - الآية 168 .
ومن يظل على هذا الحال متذكرًا النجاح إضافة إلى الفشل يبقى سليمًا من اليأس والقنوط ، واثقًا بوعد ربه ، متفائلاً ، عاملاً إلى آخر الزمان .
11 – التصرف بحكمة وقاية للمكاسب من الضرب أو الإجهاض :
ينبغى اليقين أن الأعداء والخصوم لا يرقبون فى مؤمن إلا ولا ذمة ، وأنهم إن تمكنوا لا يرضيهم شىء إلا أن نعود كفارًا مثلهم أو نموت .
قال الله تعالى : ( إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ) سورة الممتحنة - الآية 2 .
وقال الله تعالى : ( إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً ) سورة الكهف - الآية 20.
وقال تعالى : ( وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ) سورة البقرة - الآية 120 .(1/69)
وانطلاقًا من هذا اليقين وآثاره ، فإن على المسلمين : أفرادًا وجماعات ، حكامًا ومحكومين ، أن يتصرفوا بلباقة وحكمة لاسيَّما فى مرحلة الضعف التى نعيشها اليوم?تفاديًا لتحقيق?ما?يريد هؤلاء
من الضرب أو الإجهاض ، لاسيَّما وقد قال الله تبارك وتعالى : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) سورة النحل - الآية 125.
وقال تعالى : ??يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَّلْبَابِ ) سورة البقرة - الآية 269 .
???–?الحرص على تحقيق الوحدة الإسلامية والمحافظة عليها :
وذلك بأن يكون لدينا اليقين التام : أن الوحدة الإسلامية والمحافظة عليها هى طريق القضاء على اليأس والقنوط ، بل زرع الثقة بالله فى القلوب ، والأمل فى النفوس ، بيد أن هذه الوحدة لا تتحقق إلا بالإخلاص ثم بالأخوة الإسلامية التى فيها ينصح الأخ أخاه ، يأخذ بيده للتخلص من عيبه عمليًا ، ويملأ عليه فراغ حياته ، فلا تبقى لحظات تستغل منْ قبل شياطين الإنس وشياطين الجن ، وتكسبه خبرات وتجارب ، وتفتح له مزيدًا من الأبواب ليحصل على الأجر والثواب ، وتُذهب عنه السأم والملل ، وبالتالى اليأس والقنوط ، وتعينه على إنجاز المطلوب من أقصر طريق ، وبأقل التكاليف ، وتحفظ له هيبته بين الناس .
وهكذا تثمر الأخوة الإسلامية فى ضوء ما تقدم وحدة إسلامية جامعة ، تقف فى وجه الأعداء والخصوم ، وتحبط المكائد والمؤامرات شريطة عدم الإصغاء لهؤلاء الأعداء ، وعدم الثقة فيما يصدر عنهم مما ظاهره المشورة والإصلاح ، وباطنه العذاب والفساد والإفساد .
13 – التخلص من صحبة المعروفين باليأس والقنوط ، مع العيش بين المتفائلين والمستبشرين :(1/70)
وينبغى كذلك التخلص من صحبة المعروفين باليأس والقنوط لئلا يصيبه ما أصابهم ، مع العيش بين المتفائلين والمستبشرين كى يفتح له هؤلاء باب الأمل والرجاء والثقة فى الله ، وفى وعده بنصر المؤمنين ، وصدق النبى صلى الله عليه وسلم?القائل : « مَثل الجليس الصالح والجليس السوء ، كحامل المسك ونافخ الكير ، فحامل المسك إمَّا أن يحذيك ، وإما أن تبتاع منه ، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة ، ونافخ الكير إمَّا أن يحرق ثيابك ، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة » حديث أخرجه البخارى - كتاب الذبائح والصيد - باب المسك ، 7/125 .
???–?الانتباه إلى مضاعفة الوزر لليأس والقنوط :
ذلك أن المرء بيأسه وقنوطه موزور لا مأجور ، لأنه استمع للشياطين ولم يستمع لله ورسوله ، وبالتأكيد سيقتدى به فى يأسه وقنوطه آخرون ، لاسيَّما الناشئة والشباب فيضاعف عليه الوزر : وزر نفسه ، ووزر هؤلاء ، ويلقى بذلك عذابًا أليمًا فى الدنيا والآخرة جميعًا .
قال الله تعالى : ( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) سورة العنكبوت - الآية 13.
وقال الله تعالى : ( لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ) سورة النحل - الآية 25 .
15 – مواجهة اليأس والقنوط بهمة عالية ، وعزيمة صادقة :
ذلك لأن الهمة العالية ، والعزيمة الصادقة ، والإرادة القوية تعين المرء على مواجهة الشدائد : وكذلك تعين على تخطِّى العقبات والمعوقات ، كى تصل السفينة سالمة إلى شاطئ النجاة ، وبرِّ الأمان ، قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) سورة العنكبوت - الآية 69.(1/71)
وقال تعالى : ??إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ) سورة العنكبوت - الآية 128 .
???–?الأخذ بسنن الله فى مواجهة الإخفاق والفشل :
ذلك أن لله سننًا فى كلِّ هذا الوجود ، لاسيَّما مع اليأس والقنوط ، ولئن أراد الضعفاء التخلص من حالات اليأس التى أصابتهم ، والقنوط الذى اعتراهم فليبحثوا عن هذه السنن ، وليأخذوا بها ، ومن هذه السنن : النجاح فى عمارة الأرض إلى حدِّ السيادة فيها ، مع معرفة حكم الله ، والأخذ به فى كل صغير وكبير ، ثم حراسة الحقِّ من عدوان المبطلين وتطاول المتطاولين مع الصبر والتحمل إلى أن يقضى الله أمرًا كان مفعولاً .
وبعبارة أخرى ينبغى على العلماء كل فى تخصصه أن يحصروا آخر ما وصلت إليه البشرية من تطور وتقدم ، ثم يضيفوا إليه الجديد الذى يجعلهم سابقين عصرهم ، مواكبين واقعهم ، وكذلك على أرباب الأموال مساعدة هؤلاء العلماء فى تنمية البحث العلمى ليخطوا خطوات إلى الأمام ، ومن لم يكن من هذا الصنف ولا ذاك ، فليسخر بدنه فى قضاء حوائج الناس من حفر آبار ، والأخذ بيد معوق أو طاعن فى السن ، وإرشاد الضال ، وإغاثة ملهوف ، وتفريج كربات المكروبين ، وهلمَّ جرا ، مع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، كلٌّ بما يناسب حاله ، وحال الأمة من تغيير باليد ، أو باللسان ، أو بالقلب ، والصبر على مشاق ذلك مع التحمل .
قال الله تعالى : ( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإْنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) سورة العصر - الآية 1 – 3 .
وقال تعالى : ( وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) سورة التوبة - الآية 105 .(1/72)
وقال تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) سورة الرعد - الآية 11 .
???–?تذكر عواقب وآثار اليأس والقنوط :
وأخيرًا علينا أن نتذكر عواقب اليأس والقنوط الفردية والجماعية ، ونعيد النظر فى ذلك علَّها تكون حاملاً على التخلص من هذا اليأس والقنوط ، ودافعًا للحصانة منهما وأن يأخذا طريقهما إلى النفوس مرَّة أخرى ، فإن من تذكر العاقبة الضارة لأمر ما ، وكان صادقًا مع نفسه ، مراقبًا ربَّه أقلع عن هذا الأمر ، وعمل جاهدًا على عدم العودة إليه مرة أخرى (انظر : كتاب زاد على الطريق ، ص 98–116 )
(5) مراعاة فقه الاختلاف مع الآخرين
وما يتعلق بذلك من آداب
إن من أكبر الابتلاءات أن تتضخم نفس الداعية حتى يرى أن رأيه فقط هو الصواب ، وآراء المخالفين لا صحة فيها بوجه من الوجوه ، بل الأعظم من ذلك والأخطر أن يحاول إلزام الناس برؤيته وحده ، ويحمل غارة شنعاء على كل من يخالفه الرأى .
لعمرى إن هذا من قصر الفهم ، وسوء التربية ، وضعف النفوس .
لهذا وغيره كان لابد من تعرف الداعية على آداب الاختلاف وأحكامه حتى يجمع فلا يفرق ، ويوحد فلا يشتت ، وحتى يوسع على خلق الله فى الفتيا وكما قال الإمام الراشد عمر بن عبد العزيز ????ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم?لم يختلفوا ، لأنه لو كان قولاً واحد كان الناس فى ضيق ، وإنهم أئمة يقتدى بهم ، فلوا أخذ رجل بقول أحدهم كان فى سعة " جامع العلم وفضله ، جـ2 ص9 .
ولكى تحذر من هذا المنزلق الخطير كان لابد من دراسة أسباب اختلاف الفقهاء وآداب الخلاف وضوابطه ، ونماذج من تعامل الفقهاء والعلماء الثقات?مع بعضهم رغم الخلاف فى بعض المسائل والأحكام ، وهو ما سنتناوله فى الصفحات التالية إن شاء الله تعالى .
تعددت الأسباب الموجبة لاختلاف الفقهاء ، ومن أهمها ما يلى :(1/73)
??–?اختلاف النص القرآنى ما بين محكم ومتشابه ، وقطعى وظنى ، وصريح ومؤول ، ولو شاء الله أن ينزل القرآن لا يحتمل فى الفهم سوى وجه واحد ما أعجزه ذلك ، لكن الله تعالى –?وقد وسعت رحمته كل شىء –?وسع على عباده فى فهم القرآن ، وتبعًا لتفاوتهم فى المسألة تتعدد الآراء ، وتختلف وجهات النظر .
??–?اختلاف الأئمة فى العمل بالأحاديث النبوية تبعًا لاختلاف شروطهم فى قبول الأحاديث أو رفضها ، وكذا اختلافهم فى فهم الأحاديث ، وكيفية الجمع بين المتعارض منها ظاهرًا .
يقول الإمام ابن تيمية : ??ليس أحد من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولاً عامًا يتعمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم?فى شىء من سنته ، دقيق ولا جليل ، فإنهم متفقون اتفاقًا يقينيًا على وجوب إتباع الرسول صلى الله عليه وسلم?،?وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم?ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه ، فلابد له من عذر فى تركه ، وجميع الأعذار ثلاثة أصناف :
أحدها : عدم اعتقاده بأن النبى صلى الله عليه وسلم?قاله يشمل ذلك عدم وصول الحديث إلى الإمام من الأصل ، أو الوصول مع عدم توفير شروط صحته لديه??
الثانى : عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول .
الثالث : اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ .
وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة رفع الملام عن الأئمة الأعلام ، ص8،9 ، ابن تيمية - طبعة سنة 1983 - الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد - الرياض السعودية . .
??–?الاختلاف بسبب دلالات اللغة فى القرآن والسنة ، ففيها اللفظ المشترك الذى يحمل أكثر من معنى ، وفيها الحقيقة ، وفيها المجاز ، وغير ذلك مما يعد مجالاً خصبًا لتعدد الآراء تبعًا لترجيح قول فيها على قول .(1/74)
??–?الاختلاف بسبب التفاوت بين المجتهدين فى القدرة على الاستنباط وقوة الملاحظة ، والقدرة على الغوص وراء أعماق المعانى ( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ) سورة الحديد - الآية 21 .
عن معاوية بن أبى سفيان صلى الله عليه وسلم?عن رسول الله صلى الله عليه وسلم?قال : « من يرد الله به خيرًا يفقهه فى الدين ، وإنما أنا قاسم ويعطى الله »( أخرجه البخارى ، جـ4 ص263 - كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة - باب قول النبى صلى الله عليه وسلم : « لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق يقاتلون ، وهم أهل العلم » .وأخرجه مسلم بنحوه ، جـ3 ص1523 - كتاب الإمارة - باب قوله صلى الله عليه وسلم : « لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم »)? ، والشاهد فى الحديث أن القسمة كانت بين الناس واحدة ، ولكن درجة الفهم اختلفت تبعًا لمقدار عطاء الله لعبد دون عبد ، مما يعد سببًا لاختلاف وتفاوت الآراء من شخص لآخر . وثمة أسباب أخرى تفصيلية فوق ما ذكرت ، لكننى طلبًا للاختصار أكتفى بهذا القدر من ذكر أسباب الاختلاف بين الفقهاء ، مؤكدًا على أن هذا الاختلاف بين الفقهاء كان فى جملة ما تميزت به دعوة الإسلام ، وذلك للأسباب التالية :
من فوائد الخلاف
??–?إن هذا الاختلاف أثرى الفكر الإسلامى بما تضمنه من أحكام واجتهادات اقتضت من أصحابها أن يبذلوا قصارى جهدهم فى تتبع المسائل والحكم عليها ، وسوق الأدلة لأجلها ، والترجيح والاستنباط وغير ذلك .(1/75)
يقول الدكتور يوسف القرضاوى : " إن اختلاف الآراء الاجتهادية يثرى به الفقه وينمو ويتسع ، نظرًا لأن كل رأى يستند إلى أدلة واعتبارات شرعية أفرزتها عقول كبيرة ، تجتهد وتستنبط?، وتقيس وتستحسن?،?وتوازن وترجح?،?وتؤصل الأصول?،?وتقعد?القواعد وتفرع عليها الفروع والمسائل . وبهذا التعدد المختلف المشارب ، المتنوع المسالك ، تتسع الثروة الفقهية التشريعية وتختلف ألوانها ، من مدرسة الحديث والأثر ، إلى مدرسة الرأى والنظر ، إلى مدرسة الوقوف عند الظواهر ، وفى النهاية يصبح من وراء هذه المدارس والمشارب والمذاهب والأقوال كنوز لا يقدر قدرها ، وثروة لا يعرف قيمتها إلا أهل البحث " الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم ، ص78،79 - طبعة أولى سنة 1990 – دار العلوم - القاهرة .
??–?إن هذا الاختلاف كان رحمة بالأمة ، وتوسعة عليها .
وقد ورد عن أهل العلم ما يؤكد هذه الحقيقة .
يقول الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز?رضى الله عنه?????ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم?لم يختلفوا ، لأنه لو كان قولاً واحد كان الناس فى ضيق ، وإنهم أئمة يقتدى بهم ، فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان فى سعة " جامع بيان العلم وفضله ، جـ2 ص9 ، أبو عمر يوسف بن عبد البر - طبعة ثانية 86 - المكتبة السلفية بالمدينة المنورة .
ويقول القاسم بن محمد رضى الله عنه?????لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم?فى أعمالهم ، لا يعمل العامل بعمل رجال منهم إلا رأى أنه فى سعة ورأى "??
ومن ثم تلقت الأمة هذا النوع من الاختلافات ، والتى تدور فى إطار الراجح والمرجوح ، وليس الحق والباطل ، والهدى والضلال .(1/76)
ولذلك لم يزل العلماء يجوزون فتاوى المفتين فى المسائل الاجتماعية الاجتهادية ، ويسلمون بقضاء القضاة ، ويعملون فى بعض الأحيان بخلاف مذهبهم ، ولا ترى أئمة المذاهب فى هذا الوضع إلا وهم يصححون القول ، ويبينون الخلاف ، يقول أحدهم ، ??هذا أحوط ، وهذا هو المختار ، وهذا أحب إلى ، ويقول ما بلغنا إلا ذلك ... " .
وقد أقر النبى صلى الله عليه وسلم?مثل هذا الخلاف حين قال لأصحابه : « لا يصلين أحد منكم العصر إلا فى بنى قريظة »(نص الحديث ذكره الإمام البخارى فى صحيحه – كتاب المغازى - باب مرجع النبى صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ، ومخرجه إلى بنى قريظة ، ومحاصرته إياه وأخرجه مسلم بلفظ الظهر بدل العصر ، جـ3 ص1391 - كتاب الجهاد والسير - باب المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين) فأخذ بعضهم بظاهر النص ولم يصلِّ إلا فى بنى قريظة رغم دخول وقت الصلاة ، وتأول البعض هذا الكلام على إرادة الاستعجال فى غزوة بنى قريظة ، وأدى الصلاة حين دخل وقتها وإن لم يكن ذلك فى بنى قريظة ، فقبل النبى صلى الله عليه وسلم?من كلا الفريقين اجتهاده ، وعُدَّ ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم?إقرارًا على جواز الاجتهاد فى الفروع ، وسار على هذا الدرب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم?فكان يحدث بينهم الخلاف فى مثل هذه المسائل دون أن ينال ذلك من أخوتهم .
أخرج البيهقى فى السنن الكبرى عن أنس صلى الله عليه وسلم?قال : " إنا معشر أصحاب?الرسول?صلى الله عليه وسلم?كنا?نسافر ،?فمنا?الصائم?ومنا?المفطر ومنا المتم
ومنا المقصر ، فلم يعب الصائم على المفطر ، ولا المفطر على الصائم ولا المقصر على المتم ، ولا المتم على المقصر????(1/77)
أما الخلاف المنهى عنه فهو ما كان فى الأصول والعقائد ، والذى خالف به أصحابه جمهور الأمة وعلماءها ، وانساقوا وراء الأهواء تاركين الأدلة الشرعية وقاموا بتطويعها لتخدم أهواءهم ، وقد تسبب هذا النوع من الخلاف فى تشتيت الأمة وتفريق كلمتها .
وفى بيان الفرق بين هذين النوعين من الاختلاف أورد الإمام الشافعى فى كتابه ??الرسالة ) (المرجع المذكور ، جـ3 ص560،561 - طبعة ثانية 1979 - دار التراث )، أن رجلاً سأله قائلاً : إنى أجد أهل العلم قديمًا وحديثًا مختلفين فى بعض أمورهم ، فهل يسعهم ذلك .
قال : فقلت له : الاختلاف من وجهين ، أحدهما محرم ولا أقول ذلك فى الآخر ؛ قال : فما الاختلاف المحرم ؟
قلت : كل ما أقام الله به الحجة فى كتابه أو على لسان نبيه منصوصًا بيِّنًا لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه ، وما كان من ذلك يحتمل التأويل ويدرك قياسًا ، فذهب المتأول أو القايس إلا أى معنى يحتمله الخبر أو القياس –?وإن خالفه فيه غيره –?لم أقل إنه يضيق عليه ضيق الخلاف فى المنصوص .
قال : " فهل فى هذا حجة تبين فرقك بين الاختلافين " .
قلت : قال الله تعالى فى ذم التفرقة : ( وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ) سورة البينة - الآية 4 ، وقال جل ثناؤه : ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ) سورة آل عمران - الآية 105 ، فذم الاختلاف فيما جاءتهم به البيّنات ، فأما ما كلِّفوا فيه الاجتهاد فقد مثَّلْتُه بالقبلة والشهادة وغيرها .(1/78)
ولكن لكى يظل الاختلاف بين الفقهاء فى إطاره الشرعى المقبول ، ولكى يظل بمنأى عن اختلاف أهل الأهواء المذموم ، ولكى تتحقق الفوائد المرجوة منه على النحو الذى سبقت الإشارة إليه فإن علماء الأمة وفقهاءها وضعوا ضوابط ، وشفعوها بمواقف وآداب عملية فيما بينهم ، وفيما يلى نتعرف على هذه الضوابط وتلكم الآداب .
سائلين الله أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه .
ضوابط وآداب اختلاف الفقهاء :
يمكن إيجاز الضوابط التى ينبغى مراعاتها عند الحديث عن اختلاف الفقهاء – والتى نستنطبها من أقوالهم وأفعالهم – فى النقاط التالية :
1 – عدم إلزام الآخرين بما يراه الشخص بنفسه أو يتبنى القول به .
??–?ترك الإنكار على المخالفين فيما هو محل للاجتهاد .
??–?عدم التكبر أو التعالى عن الرجوع إلى الحق إذا أيقن المرء بخطئه ،?وعدم التضرر من ظهور الحق على لسانه أو على لسان غيره .
??–?البعد عن المسائل التى تثير الشغب والفتنة .
وبعد هذا الإيجاز نعود إلى التفصيل فنقول :
لم يزعم أحد من الأئمة أن ما ذهب إليه من الأقوال وحى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم?، وأن من لم يأخذ بأقوالهم فهو عاص آثم يستحق العقوبة من الله ، وإنما اجتهدوا فى تحرى الحق والصواب فيما هو مبنى على الظن من الأدلة الشرعية ، وأما ما هو قطعى فلم يحدث فيما بينهم خلاف فيه .
وانطلاقًا من هذا المعنى لم يلزم أحد من الأئمة غيره بوجوب إتباع رأيه .
بل جعلوا فى الأمر فسحة ، فمن أراد أن يأخذ برأيهم فله ذلك ، ومن رأى لنفسه غير ذلك فلا ضير ، وهو ما أشرنا إليه فى النقطة الأولى .
وفى هاتين القصتين من حياة رجلين من كبار الأئمة المجتهدين ، وهما : الإمام مالك ، والإمام أحمد بن حنبل ما يؤكد على هذه الحقيقة .(1/79)
فقد ذكر فى ترجمة الإمام مالك صلى الله عليه وسلم?أن أبا جعفر المنصور استشاره فى أن يحمل الناس على الأخذ بما فى موطأه حملاً ، وأن يدعوا ما سواه من الاجتهادات والأقوال ، وكان رد الإمام مالك على هذا المقترح هو الرفض قائلاً : ??يا أمير المؤمنين لا تفعل ، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل?،?وسمعوا أحاديث ورووا روايات?،?وأخذ كل قوم بما سبق إليهم ، وعملوا به ودانوا به من اختلاف النسا –?أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم?وغيرهم –?، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد فدع الناس وما هم عليه وما اختار كل بلد لأنفسهم " جامع بيان العلم وفضله ، جـ1 ص160.
وجاء فى ترجمة الإمام أحمد بن حنبل صلى الله عليه وسلم ، أن رجلاً سأله عن مسألة فى الطلاق فقال ????إذا فعله يحنث . فقال له السائل : إن أفتانى أحد بأنه لا يحنث ( يعنى : يصح ) ؟ " فأجابه الإمام قائلاً : نعم ، ودله على من يفتيه " (صفة الفتوى والمفتى والمستفتى ، 82 ، أحمد بن حمدان الحرانى – طبعة ثالثة سنة 1397هـ - المكتب الإسلامى - بيروت ، بتحقيق محمد ناصر الدين الألبانى
) .
فلو كان إلزام الناس باجتهاد معين هو الصواب لبادر إليه أحد الإمامين ، ولكن اجتماعهما على رفض إلزام الناس بغير ما ألزمهم الله به يؤكد على ما ذكرنا فى النقطة الأولى ، وهو عدم إلزام الآخرين بما يراه الشخص بنفسه ، أو يرى فيه رأى غيره ويتبنى القول به .
ويتفرع عن هذه النقطة التزام الأئمة رضى الله?عنهم بعدم التشنيع على مخالفيهم ، والتخلى عن اتهام الآخرين بالابتداع أو الخروج عن جادة الصواب ، والتواصى فيما بينهم على رفع الملام عمن خالف غيره فى الأمور التى هى محل للاجتهاد ، وهو ما أشرنا إليه فى النقطة الثانية بعنوان ??ترك الإنكار على المخالفين فيما هو محل للاجتهاد ) .(1/80)
يقول الإمام النووى رضى الله عنه?????العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه ، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه ، لأن على أحد المذهبين كل مجتهد مصيب ، وهذا هو المختار عند كثير من المحققين أو أكثرهم ، وعلى المذهب الآخر المصيب واحد ، والمخطئ غير متعين لنا ، والإثم مرفوع عنه ، لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق ، فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة ، أو وقوع فى خلاف آخر " شرح النووى على صحيح مسلم ، جـ2 ص23 - المطبعة المصرية – بدون تاريخ .
ويقول الإمام أبو حامد الغزالى : ??المجتهدون ومقلدوهم كلهم معذورون ، بعضهم مصيبون ما عند الله ، وبعضهم يشاركون المصيبين فى أحد الأجرين ، فمناصبهم متقاربة وليس لهم أن يتعاندوا ، وأن يتعصب بعضهم من بعض ، لاسيَّما والمصيب لا يتعين ، وكل واحد منهم يظن أنه مصيب ، كما لو اجتهد مسافران فى القبلة فاختلفا فى الاجتهاد ، فحقهما أن يصلى كل واحد منهما إلى الجهة التى غلبت على ظنه ، وأن يكف إنكاره وإعراضه واعتراضه على صاحبه ، لأنه لم يكلف إلا استعمال موجب ظنه ، وأما استقبال عين القبلة عند الله فلا يقدر عليه أحد ? القسطاس المستقيم ، ص78 - سلسلة الثقافة الإسلامية - العدد 37 سنة 1960 .(1/81)
ولم يكن هذا الكلام نظريًا فحسب ، بل شفعه الأئمة رضى الله?بتصرفات وسلوكيات عملية دلت على التزامهم الكامل بهذا الكلام ، ومثال ذلك ما ذكره العلماء من صلاة الأئمة بعضهم خلف بعض دون إنكار ، فقد ذكر أن الإمام أبا حنيفة وأصحابه ، والشافعى وغيره كانوا يصلون خلف أئمة المدينة من المالكية وغيرهم ، وأنهم كانوا لا يقرءون البسملة لا سرًا ولا جهرًا ، وصلى الرشيد إمامًا وقد احتجم فصلى الإمام أبو يوسف خلفه ولم يعد ، وكان الإمام مالك قد أفتاه بأنه لا وضوء عليه ، وكان الإمام أحمد بن حنبل يرى الوضوء من الرعاف والحجامة ، فقيل له : فإن كان الإمام قد خرج منه الدم ولم يتوضأ ، هل تصلى خلفه ؟ فقال : كيف لا أصلى خلف الإمام مالك وسعيد بن المسيب ؟ .. الخ (انظر : الإنصاف فى بيان سبب الاختلاف ، ص42 ، الإمام الدهلوى.)
ومن الضوابط كذلك ما ذكرناه من أن الأئمة –?رضوان الله عليهم?–?كانوا يتحرقون شوقًا إلى الحق ، فإن ثبت لديهم خطأ ما ذهبوا إليه بادروا بالاعتذار عنه وسلوك سبيل الحق ، كما لم يضرهم –?وقد جعلوا الحق نصب أعينهم –?أن يبدو هذا الحق على ألسنتهم أو لسان غيرهم .
والأدلة من حياة الأئمة على هاتين النقطتين متوافرة ، ونكتفى فيها بهذه الأمثلة .
فمن الأدلة على النقطة الأولى ما يلى :(1/82)
??–?عن على بن موسى الحداد قال : كنت مع أحمد بن حنبل ومحمد بن قدامة الجوهرى فى جنازة فلما دفن الميت جلس رجل ضرير يقرأ عند القبر ، فقال له أحمد : يا هذا إن القراءة عند القبر بدعة . فلما خرجنا من المقابر قال محمد بن قدامة لأحمد بن حنبل : يا أبا عبد الله ما تقول فى مبشر الحلبى ؟ قال : " ثقة " ، قال " كتبت عنه شيئًا ؟ " قال : " نعم " قال : " فأخبرنى مبشر عن عبد الرحمن بن العلاء بن الحجاج عن أبيه أنه أوصى إذا دفن أن يقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة وخاتمتها " ، وقال : " سمعت ابن عمر يوصى بذلك " . فقال له أحمد : " فارجع وقل للرجل يقرأ?"( الروح ، ص17 ، ابن القيم - طبع دار أبى بكر الصديق – الإسكندرية – بدون تاريخ .)
??–?وذكر الحافظ ابن حجر العسقلانى عن عبد الرحمن بن مهدى أنه سأل شيخه عبد الله بن الحسن العنبرى عن مسألة فغلط فيها ، فقال له : " أصلحك الله ، القول فيها كذا وكذا " ؛ فأطرق ساعة ، ثم رفع رأسه وقال : " إذن أرجع وأنا صاغر ؛ لأن أكون ذَنَبًا فى الحق أحب إلى من أن أكون رأسًا فى الباطل " (تهذيب التهذيب ، جـ7 ص7 - طبعة أولى - دار صادر بيروت)
ومن الأدلة على النقطة الثانية ما نقل عن الإمام الشافعى رضى الله عنه?أنه قال : ??ما ناظرت أحدًا قط إلا أحببت أن يوفق ويُسدد ويعان ويكون عليه رعاية من الله وحفظ ، وما ناظرت أحدًا إلا ولم أبال بين الله الحق على لسانى أو لسانه "( صفة الصفوة ، جـ2 ص251 ، ابن الجوزى - طبعة رابعة سنة 1986 - دار المعرفة بيروت).
وآخر الضوابط –?التى أشرنا إليها إجمالاً فيما سبق –?حرص الفقهاء على ترك المسائل المثيرة للشغب ، وإنكارهم على من حاول إثارتها ، وذلك للمحافظة على أن تبقى النفوس على المحبة والألفة .(1/83)
يقول الإمام أبو بكر الآجرى فى بيان ما يجب أن يتحلى به العالم من أخلاق مع تلامذته : ??وإذا سئل عن مسألة فعلم أنها من مسائل الشغب ، ومما يورث بين المسلمين الفتنة استعفى منها وردَّ السائل إلى ما هو أولى به " أخلاق العلماء ، ص35 - طبع دار الدعوة – بدون تاريخ .
ومما يستأنس به فى هذا المقام ما ذكره أبو نعيم وغيره أن الإمام مالكًا رضى الله عنه?جاءه رجل فقال : " يا أبا عبد الله : ??الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ??، كيف استوى ؟ " فما وجد مالك من شىء ما وجد من مسألته (وجد : حزن من مسألة هذا الرجل حزنًا لم يحزنه لشىء آخر قط )، فنظر إلى الأرض وجعل ينكت بعود فى يده حتى علاه الرحضاء (الرحضاء : العرق) ، ثم رفع رأسه ورمى بالعود ، وقال : " الكيف منه غير معقول ، والاستواء منه غير مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وأظنك صاحب بدعة ، وأمر به فأُخْرِجَ" حلية الأولياء ، جـ6 ص325 - طبعة رابعة سنة 1985 - دار الكتاب العربى - بيروت .
فهذه بعض الضوابط التى هيمنت على اختلاف الفقهاء ، وهى – كما نرى – سبيل إلى الاستفادة منهم جميعًا ، كما أن هذه الضوابط أحاطت العلاقة بين هؤلاء الفقهاء بسياج من الآداب ، وكانت هذه الآداب مادة خصبة لكتابات كثير من علماء المسلمين تحت عنوان (أدب الاختلاف ) .
ويسوقنا هذا بالتالى إلى الحديث عن الشق الثانى فى هذا المبحث ، وهو :
أدب الاختلاف بين الفقهاء(1/84)
لقد سبقت الإشارة إلى أن الأئمة الفقهاء رضى الله عنهم حين اختلفوا كان لأسباب موضوعية تعرفنا عليها فيما مضى ، وأشرنا كذلك إلى أن دائرة هذا الخلاف كانت فى بيان الراجح من المرجوح فيما هو محل للاجتهاد ، وليس فى الأركان والعقائد (هذا هو الطابع الغالب على اختلافاتهم ، وإلا فإن للأئمة الفقهاء كلامًا حول مسائل فى العقيدة ، مثل مسألة زيادة الإيمان ونقصانه ، ولكن هذه المسائل المختلف عليها لم تخرج بهم عن الإطار العام ، وهو أنهم من أهل السنة والجماعة) ، ومن ثم لم يَحُلْ هذا الخلاف بينهم وبين ارتباط القلوب ، وتبادل أسمى آيات الحب والاحترام .
لقد ضرب أئمتنا فى هذا المجال أمثلة رائعة ، يطول البحث لو أتيت عليها جميعًا ، لاسيَّما إذا أردنا أن نتعرف على كافة مظاهر هذه الآداب ، وتوسعنا فى إيراد الأمثلة عليها . لكننى – طلبًا للاختصار – أقتصر على ثلاثة مظاهر فقط لهذه الآداب مع ما يؤكدها من أمثلة من حياة الأئمة الأربعة – رضوان الله عليهم – آملاً أن يكون لها الأثر الطيب فى نفوس المقلدين لهذه المذاهب ، فيدعوا التعصب الذى يدفعهم إلى مناصبة العداء لكل من يخالفهم .
والمظاهر الثلاثة التى سأتحدث عنها هى :
1 – كثرة ثناء الأئمة بعضهم على بعض .
2 – الاحترام المتبادل فيما بينهم .
3 – دعاء بعضهم لبعض بظهر الغيب .
ونتعرف على كل مظهر منها بشىء من الإيجاز فيما يلى :
1 – كثرة ثناء الأئمة بعضهم على بعض :
حفلت كتب التراجم بالكثير من الكلمات الطيبة التى قالها أئمتنا فى حق شيوخهم وتلامذتهم ، وهى تنم عما كان فى قلوبهم من حب وإكبار لبعضهم ؛ وإليك بعض الأمثلة :
يقول الإمام مالك فى شأن الإمام أبى حنيفة رضى الله?عنه?????لو ناظرنى أبو حنيفة فى أن نصف هذه الاسطوانة ذهب أو فضة لقام بحجته " (لزوم إتباع مذاهب الأئمة حسمًا للفوضى الدينية ، ص38 ، محمد الحامد - طبعة ثالثة سنة 1396هـ - دار الأنصارى – القاهرة) .(1/85)
ويقول الإمام الشافعى عن الإمام أبى حنيفة أيضًا : ??الناس عيال على أبى حنيفة فى الفقه ".
ويقول الإمام الشافعى عن الإمام مالك رضى الله?????إذا ذُكِرَ العلماء فمالك النجم الثاقب " إحياء علوم الدين ، جـ1 ص46 ، أبو حامد الغزالى - طبعة دار الشعب .
ويقول الإمام أحمد فى شأن الإمام الشافعى رضى الله عنه?????ما مس أحد بيد محبرة إلا وللشافعى –?رحمه الله?–?فى عنقه منَّة " المرجع السابق ، جـ1 ص45 .
ويقول الإمام الشافعى فى حق الإمام أحمد رضى الله?عنه?????خرجت من بغداد وما خلفت بها أورع ولا أتقى ولا أفقه ولا أعلم من أحمد بن حنبل " (صفة الفتوى والمفتى والمستفتى ، ص76 ، أحمد بن حمدان الحرانى الحنبلى) ، وقال أيضًا عنه : " كل ما فى كتبى حدثنى الثقة فهو أحمد بن حنبل ".
??–?الاحترام المتبادل فيما بينهم :
الاحترام الذى اتصف به الأئمة رضى الله?دليل آخر على ما كانوا يكنونه فى قلوبهم من حب وإجلال بعضهم لبعض .
ومن أمثلة هذا الاحترام ما يلى :
أ –?نقل عن الإمام الشافعى رضى الله عنه?أنه قال : ??كنت أصفح الورقة بين يدى مالك –?رحمه الله –?صفحًا رفيقًا هيبة له ، لئلا يسمع وقعها " المجموع شرح المهذب ، جـ1 ص66 ، الإمام النووى ، بتحقيق محمد نجيب المطيعى – بدون تاريخ .
ب–?ومن الأمثلة كذلك ما ذكر أن الإمام الشافعى رصى الله عنه?صلى الصبح قريبًا من مقبرة الإمام أبى حنيفة –?رحمه الله –?فلم يقنت تأدبًا (الإنصاف فى بيان سبب الاختلاف ، ص42 ، الإمام الدهلوى.)
وهذا يدلنا على أنهم ما كانوا يحترمون الأحياء فقط ، بل كانوا يرون هذا الحق ثابتًا للأحياء والأموات على السواء .
??–?دعاء بعضهم لبعض بظهر الغيب :
وهذا دليل ثالث من أدلة الحب والإخلاص فيه ، ومن أمثلته ما ذكر أن الإمام أحمد بن حنبل رضى الله عنه?قال : ??ما صليت صلاة منذ أربعين سنة إلا وأنا أدعو للشافعى – رحمه الله تعالى –????(1/86)
فقال له ابنه عبد الله : " أى رجل كان الشافعى حتى تدعو له كل هذا الدعاء ؟ " .
فقال الإمام أحمد : " يا بنى : كان الشافعى –?رحمه الله –?كالشمس للدنيا ، وكالعافية للناس ، فانظر : هل لهذين من خلف " إحياء علوم الدين ، جـ1 ص45 ، والإمام أبو حامد الغزالى .
وثمة نماذج كثيرة حية من سلفنا الصالح رضى الله?عنه?، لكننى –?كما أسلفت –?حرصت على أن تكون جميعها من حياة الأئمة الأربعة ، والذين تلقت الأمة مذاهبهم بالقبول ، وذلك لإقناع أتباعهم بضرورة التحلى بأخلاقهم ، والتخلى عن اتهام المخالفين لهم والوقوف فى مواجهتهم ، وغير ذلك من السلبيات التى سنناقشها فى المبحث التالى .
الفقهاء ومحاربتهم للتعصب
سبقت الإشارة إلى أن كافة الأئمة لم يدَّعو العصمة لأنفسهم ، ولم يقدموا اجتهادهم على أنه وحى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم?، بل إن الواضح من سيرة الأئمة رضى الله?تأكيدهم الدائم على الارتباط الوثيق بالكتاب والسنة ، والعمل على رد الناس دائمًا إليهما .
يقول الإمام الشافعى رضى الله عنه?????لم أسمع أحدًا نسبته إلى العلم أو نسبته العامة إلى علم ، يحكى خلافًا فى أن فرض الله تعالى اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم?، والتسليم لحكمه ، فإن الله تعالى لم يجعل لأحد بعده إلا اتباعه ، وإنه لا يلزم قول رجل قال إلا بكتاب الله جل جلاله?أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم?، وإن ما سواهما تبع لهما ، وإن فرض الله علينا وعلى من بعدنا وقبلنا قبول الخبر عن رسول لله صلى الله عليه وسلم?? (إيقاظ همم أولى الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار ، ص104 ، صالح بن محمد العمرى الشهير بالفلانى - طبع دار المعرفة – بيروت) .
ومن ثم قرر الأئمة العلماء أن التعصب لشخص بعينه دون رسول الله صلى الله عليه وسلم?–?بحيث يعتقد الصواب فى جانبه دن سواه –?ضرب من ضروب الجهل ، ولون من ألوان الضلالة .(1/87)
يقول العلامة القاضى ابن أبى العز الحنفى : ??من تعصب لواحد معين غير النبى صلى الله عليه وسلم?كـ مالك وأبى حنيفة والشافعى وأحمد ، ورأى أن قول هذا هو الصواب الذى ينبغى اتباعه دون قول الأئمة الباقين فهو جاهل ضال ، وإن اعتقد أنه يجب على الناس اتباعه دون غيره من هؤلاء الأئمة فإنه يخشى عليه ، فإن الأمة قد اجتمعت على أنه لا يجب طاعة أحد فى كل شىء إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم?، بل غاية ما يقال : إنه يسوغ أو ينبغى أو يجب على العامى أن يقلد واحدًا من الأئمة من غير تعيين زيد أو عمرو ، وأما أن يقول قائل : إنه يجب على الأمة تقليد فلان دون غيره فهذا هو المحذور ، فمن تعصب لواحد من الأئمة دون الباقين فهو بمنزلة من تعصب لواحد من الصحابة دون الباقين ، كالرافضى ( الشيعى ) الذى تعصب لعلى صلى الله عليه وسلم?دون الخلفاء الثلاثة ، فهذا طريق أهل الأهواء ، نسأل الله السلامة والعافية " الاتباع ، ص79،80 ، العلامة ابن أبى العز الحنفى - طبعة ثانية سنة 1405هـ - دار الكتب السلفية .
لكن المحزن حقًا أنه –?رغم وضوح هذا الأمر ، وتأكيد الأئمة والفقهاء عليه –?إلا أن عصور الانحطاط التى ألمَّت بالمسلمين قد تمخضت عن مقلدين لأئمة المذاهب ، سلكوا فى تقليدهم مسلك التعصب الأعمى ، الذى يصيب صاحبه بانعدام فى الرؤية ، وخلل فى التوازن .
ويمكن أن نجمل سلبيات التعصب فى النقاط التالية :
??–?التعظيم والتبجيل لآراء المذهب ، والتحقير من شأن بقية الآراء .
??–?تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم?لنصرة المذهب .
??–?اتباع الهوى فى الفتوى .
ونضرب لهذا الكلام بعض الأمثلة .
ففى تعظيم آراء المذهب وتأويل كل شىء ليوافقها يقول العالم منذر بن سعد البلوطى عن بعض المالكية المتعصبين :
??عذيرى من قوم يقولون كلما ... طلبت دليلاً هكذا قال مالك
فإن عدت قالوا هكذا قال أشهب ... وقد كان لا تخفى عليه المسالك(1/88)
فإن زدت قالوا قال سحنون مثله ... ومن لم يقل ما قاله فهو آفك
وإن قلت قد قال الرسول فقولهم ... أتت مالكًا فى ترك ذاك المسالك (إيقاظ همم أولى الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار ، ص82 ، صالح محمد العمرى)
وجاء على لسان الكرخى ، وهو من الأحناف قوله : ??الأصل أن كل آية تخالف قول أصحابنا فإنها تحمل على النسخ أو على الترجيح ، والأولى أن تحمل على التأويل من جهة التوفيق " . وقال نحو هذا فى الحديث النبوى أيضًا أصول الكرخى ، ص373 ، وهى مطبوعة بذيل أصول البزدوى – طبع نور محمد كراتشى – باكستان .
وزعم بعض الأحناف المتعصبين أن المسيح عليه السلام?عندما ينزل إلى الأرض سيحكم بالمذهب (الحنفى مقدمة كتاب الاتباع ، ص6 ، لابن أبى العز الحنفى ، وكتبها الدكتور عاصم بن عبد الله القريوتى ).
وقد أشار الحكماء إلى أن الإفراط فى جانب يضيع معه الحق فى جانب آخر ، وهذا ما حدث مع المتعصبين للمذاهب ، حيث حقروا من شأن مخالفيهم ، ونظروا إليهم شذرًا .
ومن أمثلة ذلك ما ذكره الشيخ عبد الجليل عيسى –?وهو من العلماء المعاصرين?–?أن بعض المتعصبين من الشافعية سئل عن حكم طعام وقعت فيه قطرة نبيذ ، فأجاب قائلاً : يرمى لكلب أو حنفى (دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين ، ص87 ، محمد الغزالى – طبعة سنة 1988م – دار الوفاء – مصر) .
وفى الدلالة على أن التعصب يحمل أصحابه أحيانًا على تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم?لمناصرة المذهب ، أورد الإمام الشوكانى فى كتابه ( الفوائد المجموعة فى الأحاديث الموضوعة ) (المرجع المذكور ، ص420 - طبعة أولى سنة 1961م - مطبعة السنة المحمدية)?هذا الحديث : « يكون فى أمتى رجل يقال له : محمد بن إدريس ، أضر على أمتى من إبليس ، ويكون فى أمتى رجل يقال له " أبو حنيفة " هو سراج أمتى »??(1/89)
يقول الإمام الشوكانى فى تعليقه على هذا الحديث : " هو موضوع ، فى إسناده وضاعان مأمون بن أحمد السلمى ، وأحمد بن عبد الله الجويبارى ، والواضع له أحدهما " .
وهكذا –?رغم الوعيد الشديد الذى بيّنه النبى صلى الله عليه وسلم?لمن يتعمد الكذب عليه –?حمل التعصب أصحابه على أن يصموا آذانهم عن الحق ويعموا أعينهم عنه ، ويختلقوا من الأحاديث ما لا أصل له ، تأييدًا لمذاهبهم وتدعيمًا لها .
وفى الدلالة على أن التعصب يحمل أصحابه على اتباع الهوى فى الفتوى نذكر أن أحد المتعصبين الأحناف سئل : هل يجوز لحنفى أن يتزوج امرأة شافعية ؟
فأجاب قائلاً : " لا يجوز ، لأنها تشك فى إيمانها ? يرى الشافعية جواز قول المرء : أنا مؤمن إن شاء الله وذلك على سبيل التبرك ، ولكن هذا الحنفى لم يعجبه هذا ، فجعل قائله فى شك من إيمانه ، فيصير كافرًا ، ومن ثم أفتى بعدم جواز الزواج??
وجاء حنفى آخر وقال : " بل يجوز الزواج بها قياسًا على الكتابية " دستور الوحدة الثقافية ، ص88 ، محمد الغزالى
أفتى آخرون ببطلان الصلاة أو كراهتها خلف من لا يلتزمون بهذا المذهب أو ذاك ، وربما كانت فى المسجد الواحد جماعات متعددة الأئمة تبعًا لمذاهبهم الفقهية .
وقد نتج عن هذا التعصب أن التزم الناس بما لم يلزمهم الله به ، وشددوا على أنفسهم بما ليس مستوجبًا للتشدد ، فضيقوا ما هو واسع ، وعسروا ما هو ميسر ، وتسبب اختلاف قلوبهم فى إضعاف شوكتهم أمام أعدائهم ، فصاروا لقمة سائغة فى أيديهم .
يقول الشيخ الإمام صالح بن محمد العمرى الشهير بالفلانى فى بيان هذه الحقيقة : ??من جملة أسباب تسليط الفرنج على بعض بلاد المغرب ، والتتر على بلاد المشرق كثرة التعصب والتفرق والفتن بينهم فى المذاهب وغيرها " إيقاظ همم أولى الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار ، ص54??(1/90)
ونتج عن هذا التعصب أيضًا تأثير سلبى على الدعوة إلى الإسلام ، حيث وقف المتعصبون حائلاً دون دخول بعض الأجانب فى الإسلام ، حين وجدوا كل طائفة ترى أن عبادة الله لا تصح إلا على مذهبهم .
وإليكم هذه القصة :
جاء فى مقدمة رسالة ??هدية السلطان إلى مسلمى بلاد اليابان ) لمحمد المعصومى –?رحمه الله تعالى –?ما نصه : ??إنه كان ورد علىّ سؤال من مسلمى بلاد اليابان من بلدة ??طوكيو ) و ??أوزاكا ) فى الشرق الأقصى ما حاصله : ما حقيقة دين الإسلام ؟ ثم ما معنى المذهب ؟ وهل يلزم على من تشرف بدين الإسلام أن يتمذهب على أحد المذاهب الأربعة أى يكون مالكيًا ، أو حنفيًا ، أو شافعيًا ، أو حنبليًا ، أو غيرها ، أو لا يلزم ؟?لأنه قد وقع فى هذا اختلاف عظيم ، ونزاع وخيم ، وحينما أراد عدة أفراد من متنورى الأفكار من رجال اليابان أن يدخلوا فى دين الإسلام ، ويتشرفوا بشرف الإيمان ، فعرضوا ذلك على جمعية المسلمين?الكائنة فى طوكيو ، فقال جمع من أهل الهند : " ينبغى أن يختاروا مذهب الإمام أبى حنيفة لأنه سراج الأمة ، وقال جمع من أهل إندونيسيا ??جاوة ) يلزم أن يكون شافعيًا ، فلما سمع اليابانيون كلامهم تعجبوا جدًا ، وتحيروا فيما قصدوا ، وصارت مسألة المذاهب سدًا فى طريق إسلامهم " المرجع المذكور ، ص31،32 - طبعة ثانية سنة 1405هـ - المكتبة الإسلامية – عمان – الأردن ، بتحقيق سليم الهلالى?(1/91)
ومن ثم بين الأئمة العلماء ما فى التعصب من أضرار ، وحذروا الأمة من الوقوع فى شراكه ، فقد جاء فى كتاب ??إيقاظ همم أولى الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار ) المرجع المذكور ، ص77،78 بتصرف يسير ، صالح بن محمد العمرى الشهير بالفلانى?عند الحديث عن التعصب المذهبى قول المؤلف للكتاب : " ولا شك فى كون هذا بدعة مذمومة ، وخصلة شنيعة ، احتال بها إبليس اللعين على تفريق جماعة المسلمين ، وتشتيت شملهم ، وإيقاع العداوة والبغضاء بينهم ، فترى كل واحد منهم يعظم إمامه المجتهد تعظيمًا لا يبلغ به أحدًا من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم?، وإذا وجد حديثًا يوافق مذهبه فرح به وانقاد له وسلم ، وإن وجد حديثًا صحيحًا سالمًا من النسخ والمعارض مؤيدًا لمذهب غير إمامه فتح له باب الاحتمالات البعيدة ، وضرب عنه الصفح والعارض ، ويلتمس لمذهب إمامه أوجهًا من الترجيح ، وإن شرح كتابًا من كتب الحديث حرَّف كل حديث خالف رأيه ، فيتخذ علماء مذهبه أربابًا ، ويفتح لمناقبهم وكرامتهم أبوابًا ، ويعتقد أن كل من خالف ذلك لم يوافق صوابًا " .
ولا يبعد أن يكون التعصب المذهبى أحد ألوان العصبية التى نهى صلى الله عليه وسلم?عن الانخراط فيها ، والوقوع فى شراكها مؤكدًا فى أكثر من حديث أن العصبية ليست من دينه ، والدعاة إليها ليسوا على منهاجه ، والله أعلم .
ولو أن هؤلاء المتعصبين استكثروا من العلم ، وتعرفوا على أسباب الخلاف وضوابطه وآدابه ، لما كانت لهم هذه المواقف التى تشوه جمال الإسلام ، وتستبيح التلاعن والتدابر بين الإخوة فى الإسلام .
هذا ، وقد حاول البعض أن يعالج التعصب فعمد إلى أسلوب لا يقل عنه ذمًا ، حيث دعا هؤلاء إلى نبذ المذاهب كلها ، ووضعوا أسلوبًا اجتهاديًا جديدًا يريدون أن يحملوا الناس عليه حملاً ، وذلك بالنظر فى الأحاديث .
وعلى هذا الأسلوب عدة مآخذ نلخصها فيما يلى :(1/92)
??–?إن الفقه يعنى الفهم والقدرة على استنباط الأحكام من أدلتها التفصيلية ، وقد منح الله الأئمة الفقهاء قدرة فى هذا الجانب لم تتوفر لغيرهم ، حتى قيل فى شأنهم " المحدثون صيادلة والفقهاء أطباء " .
يقول الإمام الشاطبى –?رحمه الله?–?فى كتابه " الاعتصام ? الاعتصام ، جـ2 ص362 - بدون تاريخ أو اسم مطبعة?إذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال ، فالحق أيضًا لا يعرف دون وسائطهم بل بهم يتوصل إليه ، وهم الأدلاء عليه ؛ ويؤكد فى موضع آخر أن هؤلاء الأئمة رضى الله?يتبعون من حيث كونهم أدوات تدل الناس على الحق لا غير ، فيقول صلى الله عليه وسلم???" إن العالم بالشريعة إذا اتبع فى قوله وانقاد إليه الناس فى حكمه ، فإنما اتبع من حيث هو عالم وحاكم بها وحاكم بمقتضاها ، لا من جهة أخرى ، فهو فى الحقيقة مبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، المبلغ عن الله جل جلاله ، فيتلقى منه ما بلغ على العلم بأنه بلغ ، أو على غلبة الظن بأنه بلغ ، لا من جهة كونه منتصبًا للحكم مطلقًا ، إذ لا يثبت ذلك لأحد على الحقيقة ، وإنما هو ثابت للشريعة المنزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وثبت ذلك له صلى الله عليه وسلم وحده دون الخلق من جهة دليل العصمة ، والبرهان أن جميع ما يقوله أو يفعله حق المرجع السابق ، جـ2 ص342 " .
ومن هنا رأينا كثيرًا من الناس ، عوامَّ وعلماء ، قدامى ومحدثين يتمذهبون بمذاهب الأئمة الأربعة دون أن يروا فى ذلك ما يغض من قيمتهم العلمية .
وفى طبقات الشافعى للسبكى ، وطبقات الحنابلة لابن رجب ، وطبقات المالكية لبرهان الدين المدنى ، وطبقات الحنفية للحافظ القرشى أسماء كثيرة لعلماء أجلاء كانت لهم جهودهم المشكورة فى شتى المجالات ، ولم يروا تعارضًا بين هذه الجهود ، وبين الأخذ بمبدأ التمذهب .(1/93)
??–?إن التنادى برفض المذاهب يبخس علماء الأمة حقهم ، ويهيل التراب على جهودهم من جهة ، ويحرم الأمة من مميزات تعدد الآراء فى المسائل الفرعية –?على النحو الذى أشرنا إليه من قبل –?من جهة أخرى .
??–?أن أصحاب هذا الاتجاه لم يأتوا بجديد يعول عليه ، بل أضافوا إلى المذاهب مذهبًا جديدًا ، مبنيًا على الترجيح بين آراء الأئمة السابقين ، فإن أصابوا فلهم أجران ، وإن أخطأوا فلهم أجر ، ولكن يبقى أن يلتزم هؤلاء بأدب الاختلاف?،?فلا ينتقصون من قدر عالم?، أو يتطاولون باللسان على فقيه .
والخلاصة أن التعصب مذموم على أى حال ، سواء كان تعصبًا أعمى لإمام بعينه كما فى الأمثلة الأولى ، أو رفضًا لمبدأ التمذهب من الأصل كما يرى بعض المعاصرين .
والأولى أن يقال فى مثل هذا : إن من الواجب أن نستفيد من تراث الفقهاء الضخم وأن نبوأهم المكانة اللائقة بهم . وأن من أراد من الناس أن يتبع إمامًا من هؤلاء –?نظرًا لقلة بضاعته من الفقه?–?فلا ضرر عليه ، شريطة أن يدع التعصب ، وأن يلتزم بأدب الأئمة فى عدم التطاول على المخالفين ، فإذا تيسرت للبعض من أهل العلم أدوات النظر فى الترجيح بين الأقوال فهذا أمر محمود لصاحبه ، دون أن يدعى العصمة لأقواله واجتهاداته ، ودون أن ويفرض على الآخرين الأخذ بمذهبه وآرائه ، والله أعلم .
الاختلافات الفقهية والواقع المعاصر
كانت المباحث الثلاثة السابقة بمثابة التمهيد والتوطئة لما نود أن نسجله فى هذا المبحث من توجيهات لترشيد الواقع المعاصر .
وبادئ ذى بدأ نعترف بأن ثمة صحوة إسلامية تغطى مساحات واسعة من عالمنا المعاصر ، تستوعب كافة قطاعات المجتمع من شباب وشيوخ ورجال ونساء .
وهذه الصحوة من القوة بمكان ، بحيث استدعت قوتها تسارع الضربات بيد الطغاة من داخل العالم الإسلامى وخارجه لوأدها والقضاء عليها ، والمعروف أن لكل فعل ردَّ فعل مضادًا له فى الاتجاه ، ومساويًا له فى القوة .(1/94)
وتقود هذه الصحوة عدة جماعات ومؤسسات تنتشر فى ربوع العالم الإسلامى ، وتهدف جميعًا إلى إعادة الصلة المفقودة بين الناس وشرع الله
وكما كان هناك خلاف بين الأئمة الفقهاء –?رضوان الله عليهم?–?فى مسائل الاجتهاد –?مع اتفاقهم فى أصول الإسلام وقواعده –?فإن أغلب هذه الجماعات والمؤسسات تختلف فيما بينها على مسائل من هذا النوع ، مع اتفاقهم فى الأصول العامة .
وحتى يتضح المقال بالمثال أسوق قضية من القضايا اتفقت الجماعات الإسلامية برمتها على أصلها ، واختلفت فى كيفية التطبيق الأمثل لها ، ألا وهى قضية الدعوة إلى الله تعالى ، وتربية الناس على الإسلام .
فمما لا شك فيه أن الدعوة إلى الله تعالى ، وتربية الناس على الإسلام ليست عملاً حزبيًا تنادى به جماعة دون جماعة ، أو يتخصص فى القيام بها فريق دون آخر ، بل هى القضية التى يجتمع الكل عليها ، وتعد القاسم المشترك الذى يجمع بينها جميعًا على اختلاف طرائقها فى التفكير وتعدد مناهجها فى العمل .
ومع الاتفاق بين كافة الجماعات والمؤسسات الإسلامية على هذه القضية يبقى الخلاف بينهم قائمًا فى كيفية التنفيذ ، وعكوف بعضهم على أعمال ينقطعون لها ، ويعملون طيلة حياتهم على تحقيقها ، فعلى سبيل المثال لا الحصر تؤثر بعض الجماعات الاكتفاء بالبناء العقدى والعمل الهادئ ، بعيدًا عن المواجهة مع النظم القائمة حتى تنضج القاعدة ، وينعكس أثر ذلك على القمة ، ويرى آخرون ضرورة كشف الواقع ، وبيان الأخطاء ، ومواجهة السلبيات ، حتى ولو تعرضوا للإيذاء .
وترى بعض الجماعات ضرورة التجمع والانتظام فى حلقات وشعب لتنظيم الجهود ، وتوزيع الأعباء ؛ ويؤثر آخرون الاكتفاء باللقاء العام مع الناس فى المسجد إبعادًا لشبهة التنظيمات السرية التى تقف منها الحكومات موقف العداء .(1/95)
وترجح بعض المؤسسات إمكانية دخول الدعوة فى بعض الأعمال الاجتماعية ، إسهامًا منها فى رفع المعاناة عن الفئات الكادحة ، ويرى آخرون أن هذه من شأنه أن يخرج الدعوة عن خطها الأصلى ، يجعلها كشركة تعمل حسابًا للمكاسب والمصالح أكثر من أى شىء آخر .
وتختلف نظرة الجماعات الإسلامية فى التعامل مع الأجهزة الحكومية القائمة ، فيرى البعض إمكانية اختراق هذه الأجهزة ، ومحاولة استمالة القائمين عليها ، أو التخطيط والتنظيم للسيطرة عليها ، ويرى آخرون أن ذلك يشوش على الدعوة ويعمق الالتباس .
وهكذا فى معظم الاختلافات القائمة بين الجماعات الإسلامية الفاعلة فى المجتمع نرى الاتفاق بينهم على الأصول ، والاختلاف على المنهج أو الأسلوب ، وهذا باستثناء بعض الجماعات التى تسلك مسلكًا شاذًا ، فتقيم علاقتها مع الآخرين على أساس التكفير ونحوه انظر : الثوابت والمتغيرات فى مسيرة العمل الإسلامى المعاصر ، ص195،196 ، د/ صلاح الصاوى ، رقم 2 من مجموعة رسائل يصدرها مركز بحوث تطبيق الشريعة الإسلامية - بإسلام آباد - باكستان??
وإذا خرج الخلاف عن دائرة الأصول صار من جنس الخلاف فى الفروع ، والذى يشبه ما كان بين الأئمة الفقهاء رضى الله??
وهنا يجئ دور الاختلافات الفقهية فى ترشيد الصحوة الإسلامية المعاصرة بحكم التشابه بينهما من وجوه عدة ، نلخصهما فيما يلى :
??–?إذا كانت لدى الفقهاء أسباب أدت إلى اختلافهم –?كما تبين لنا –?وتلقتها الأمة بالقبول ، فإن الصحوة الإسلامية فى القرن الحالى ظهرت إثر سقوط الخلافة الإسلامية ، وتحت وطأة الظروف الراهنة فى المجتمعات الإسلامية اختلفت وجهات النظر بين المصلحين من قادة العمل الإسلامى فى أفضل الوسائل لتحقيق عودة المجتمع إلى الإسلام ، وجاء اختلاف وجهات النظر تبعًا لظروف كل مجتمع ، وما يراه كل مصلح أنسب من وجهة نظره لاعتبارات شرعية ، فهو اختلاف له أسبابه المعقولة .(1/96)
??–?وإذا كانت الاختلافات الفقهية رحمة بالأمة وتوسعة عليها –?كما سبق وأن بيّنا –?فإن الجماعات الإسلامية –?كذلك –?يمكن أن تستوعب كافة أبناء المجتمع رغم ما بينهم من اختلاف ، كما وسعهم الاختلاف الفقهى قديمًا ، بحيث تراعى إمكانات الناس ، وتفاوت قدراتهم على الصبر والاحتمال ، بحيث يمكن أن ينطلق الكل للعمل للإسلام بجد واجتهاد فى المجال الذى يرى كل منهم نفسه فيه .
??–?وإذا كنا قد أشرنا إلى أطراف من أدب الاختلاف بين الأئمة الفقهاء فلأجل أن ينقدح فى أذهان أبناء الصحوة أن الخلاف فى الرأى بين الأئمة لم يتطرق إلى قلوبهم وعلاقاتهم ، ولن يصلح آخر الأمة إلا بما صلح به أولها .
??–?وإذا كنا قد أشرنا إلى محاربة الفقهاء للتعصب وعدم ادّعاء أحد منهم العصمة لنفسه أو اجتهاده ، فإن من واجب أبناء الصحوة أن يتعاملوا مع شيوخهم ومرشديهم من هذا المنطلق ، وليكن لهم فى فقه أئمة المذاهب الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة فى التواضع بعضهم لبعض وتبادل آيات الاحترام والإجلال ، مع التعاون فى المتفق عليه ، والتماس العذر فى المختلف فيه ، وإلا نالهم من الذم ما نال المتعصبين لمذاهب قديمة ، وكانوا –?من حيث لا يشعرون –?فتنة تصدُ الناس عن سبيل الله ، ومعولاً لهدم الكيان الإسلامى وتمزيق وحدته .
وأرى –?من المناسب?–?فى ختام هذا البحث أن أسوق مثلاً عمليًا لأحد قادة الحركة الإسلامية المعاصرة ، وهو الإمام حسن البنا –?رحمه الله?–?حيث استفاد هذا الإمام الجليل من الاختلافات الفقهية ، واعتبرها مدخلاً لترشيد العمل الإسلامى المعاصر على النحو الذى أشرنا إليه .(1/97)
ففى رسالة " دعوتنا " يذكر الإمام حسن البنا ضرر التفرق ، وضرورة الوحدة فيقول ????إن أعظم ما منى به المسلمون الفرقة والخلاف ، وأساس ما انتصروا به الحب والوحدة ، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها . ثم تعرض –?رحمه الله تعالى –?إلى أسباب الخلاف فى فروع الدين ، وأضاف قائلاً : " نعتقد أن الإجماع على أمر واحد فى فروع الدين تبقى كما هى ، بل هو يتنافى مع طبيعة الدين ، وإنما يريد الله لهذا الدين أن يبقى ويخلد ويساير العصور ، ويماشى الأزمان ، وهو لهذا سهل مرن هين لا جمود فيه ولا تشديد . ثم يبين –?رحمه الله?–?ضرورة استفادة الحركة الإسلامية من هذا الموقف فيقول : " نعتقد هذا فنلتمس العذر كل العذر لمن يخالفوننا فى بعض الفرعيات ، ونرى أن هذا الخلاف لا يكون أبدًا حائلاً دون ارتباط القلوب ، وأن يشملنا وإياهم معنى الإسلام السابغ بأفضل حدوده ، وأوسع مشتملاته .(1/98)
ألسنا مسلمين وهم كذلك ؟ وألسنا نحب أن ننزل على حكم اطمئنان أنفسنا وهم يحبون ذلك ؟ ففيم الخلاف إذن ؟ لماذا لا يكون رأينا مجالاً للنظر عندهم كرأيهم عندنا ؟ ولماذا لا نتفاهم فى جو الصفاء والحب إذا كان هناك ما يدعو إلى التفاهم ؟ ويضيف قائلاً : " هؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم?كان يخالف بعضهم بعضًا فى الإفتاء ، فهل أوقع ذلك اختلافًا بينهم فى القلوب ، وهل فرَّق وحدتهم أو فرَّق رابطتهم ؟ اللهم لا ؛ وما حديث صلاة العصر فى قريظة ببعيد ؛ وإذا كان هؤلاء قد اختلفوا –?وهم أقرب الناس عهدًا بالنبوة ، وأعرفهم بقرائن الأحكام –?فما بالنا نتناحر فى خلافات تافهة لا خطر لها ، وإذا كان الأئمة وهم أعلم الناس بكتاب الله وسنة رسوله قد اختلف بعضهم مع بعض ، وناظر بعضهم بعضًا فَلِمَ لا يسعنا ما وسعهم ؟ ثم يختم كلامه بقوله : " يعلم الإخوان المسلمون كل هذه الحيثيات ، فهم لهذا أوسع الناس صدرًا مع مخالفيهم ، ويرون أن مع كل قوم علمًا ، وفى كل دعوة حقًا وباطلاً ، فهم يتحرون الحق ويأخذون به ، ويحاولون فى هوادة ورفق إقناع المخالفين بوجهة نظرهم ، فإن اقتنعوا فذاك ، وإن لم يقتنعوا فإخوان فى الدين ، نسأل الله لنا ولهم الهداية " مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا ، ص25:23 ، رسالة " دعوتنا " – طبعة دار الشهاب - القاهرة – بدون تاريخ??
فليفقه أبناء الصحوة هذه المعانى ، ويتجردوا من الأنانية والعصبية وحب الذات ، وليتعاملوا مع شيوخهم ومرشديهم على أنهم وسائط لا غايات ، وليعملوا على توحيد صفوفهم أمام عدوهم المشترك ، الذى لا يفرق بين فئة وأخرى من المسلمين ( وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) سورة الروم – الآية 4 ، 5 .
الفصل الثانى
جوانب فقه الدعوة فيما يخص المدعوين
ويشتمل على المباحث التالية :
(1) مراعاة أحوال المدعو .
((1/99)
2) الرفق بالمدعوين والتيسير عليهم .
(3) الدعوة إلى الجوانب العملية فى الدين والتخلى عما لا ينفع .
(4) الترفع عن الجدال طلبًا لتفريغ الأوقات لما هو أهم .
????مراعاة أحوال المدعو
إن الداعية طبيب شفوق يراعى مريضه ويستشعر آلامه ، ويهوّن عليه ويقدم له الدواء النافع فى وقته المحدد وبالجرعة المحددة ، فإذا حدث اختلال فى اختيار الوقت المناسب أو الكمية المحددة للدواء الموصوف فماذا نظن أن يحدث ؟
إما أن يزداد المريض ألمًا وتزداد صحته تدهورًا ، فيفقد الثقة فى طبيبه ، فلا يسمع له بعد ذلك ، أو يتركه ويبحث عن غيره ، وربما تحول هذا المريض بعد ذلك إلى عدو محارب ، يشوه الصورة ويُسئ إلى السمعة ، ويعرقل التقدم ويثير الشبهات .
أو ربما مات المريض بسبب الجرعة الزائدة فيكون إثمه على الطبيب الذى لم يراع حالته .
لذلك أوصانا الداعية القدوة صلى الله عليه وسلم?بمراعاة أحوال المدعوين فى كل المجالات .
وفى الحديث : « خاطبوا الناس على قدر عقولهم » أخرجه مسلم - كتاب حال بعض الرواة - باب النهى عن الحديث بكل ما سمع ، حديث رقم 5 ؛ وانظر : فتح البارى - المجلد 1 - كتاب الإيمان - باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كرهبة ألا يفهموا .
وروى مسلم عن ابن مسعود صلى الله عليه وسلم???" ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة " مقدمة صحيح مسلم ، جـ1 .
وعن وهب بن منبه قال : ??ينبغى للعالم أن يكون بمنزلة الطباخ الحاذق يعمل لكل قوم ما يشتهون من الطعام ، وكذلك ينبغى للعالم أن يحدث كل قوم بما تحتمله عقولهم وقلوبهم من العلم ? الجامع لأخلاق الراوى وآداب السامع ، جـ2 ص110??(1/100)
وقد عد الإمام الشاطبى مخالفة هذا المنهج ومخاطبة الناس بما لا يفهمون نوعًا من أنواع البدع فقال : ??ومن ذلك التحدث مع العوام بما لا تفهمه ولا تعقل معناه ، فإنه من باب وضع الحكمة فى غير موضعها ، فسامعها إما أن يفهما على غير وجهها وهو الغالب ، وإما لا يفهم منها شيئًا ، وهو أسلم ، ولكن المتحدث لم يعط الحكمة حقها من الصون ، بل صار فى التحدث بها كالعابث بنعمة الله " الاعتصام للشاطبى ، جـ2 ص2–13 ??
ولهذا المعنى أشار الإمام الغزالى فقال : ??ومن مهام المعلم أن يقتصر على قدر فهمه فلا يلقى إليه ما لا يبلغه عقله فينفره ، أو يخبط عليه عقله ولذلك قيل : كِلْ لكل عبد بمعيار عقله ، وزن له بميزان فهمه ، حتى تسلم منه وينتفع بك ، وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار " إحياء علوم الدين ، جـ1 ص57??
ويؤكد الماوردى على أهمية مراعاة أحوال المتلقى العقلية والفكرية فيقول : ??وينبغى أن يكون للعالم فراسة ، يتوسم بها المتعلم ليعرف مبلغ طاقاته وقدر استحقاقه ، فإنه أروح للعالم ، وأنجح للمتعلم ، وإن يكن العالم غير عارف بأبنائه وتلاميذه ، وخفيت عليه أحوالهم ومبلغ استحقاقهم ، كانوا وإياه فى عناء مكد وتعب غير مجد " أدب الدنيا والدين ، ص89 بتصرف??
لذلك رأى بعض العلماء أنه من الضرورة كتمان العالم بعض العلم حتى لا يفتن الناس .
وقد ورد فى الحديث???« كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع » أخرجه مسلم فى صحيحه - كتاب حال بعض الرواة - باب النهى عن الحديث بكل ما سمع ؛ وأبو داود - كتاب الإيمان - باب التشديد فى الكذب ، رقم 2791 ، حديث رقم 4984 ؛?وقد استخرج البخارى هذا المعنى وترجم لمجموعة أحاديث فى كتاب العلم بقوله : ??باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا " .(1/101)
وقال علىّ رضى الله عنه???حدثوا الناس بما يعرفون ، أتحبون أن يكذب الله ورسوله ؟! فتح البارى - مجلد 1 - كتاب الإيمان - باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهة ألا يفهموا ؛ وانظر : كشف الخفا للعجلونى - حرف الهمزة ، حديث رقم ( 592 )??
وقد عد الإمام مالك –?رحمه الله تعالى?–?كتمان العالم لبعض العلم من علامات الإمامة والريادة فقال ????لا يكون إمامًا أبدًا من حدث بكل ما سمع " مقدمة صحيح مسلم ، جـ1??
ولذلك قيل : " قلوب الأبرار قبور الأسرار ، فلا ينبغى أن يُفشى العالم كل ما يعلم إلى كل أحد ? إحياء علوم الدين للغزالى ، جـ1 ص57??
فما على الداعية الموفق إلا أن يأخذ بالمبدأ الذى رسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم?. « أُمرنا معاشر الأنبياء أن نحدث الناس على قدر عقولهم » رواه الديلمى بسند ضعيف ، وله شواهد كثيرة رفعته إلى مرتبة الحسن لغيره ؛ انظر كشف الخفا للعجلونى فى حرف الهمزة .
لذا كان على الداعية –?من أجل أن يؤثر بدعوته فى الناس –?أن يتعرف على البيئة التى يدعو فيها تعرفًا كاملاً ، ويعرف كل شىء عن أفكار أهلها واتجاهاتهم العقدية ، وأحوالهم الاجتماعية ، ونزعاتهم الأخلاقية ، وأوضاعهم الثقافية .
وبهذا كله يستطيع الداعية أن يخاطبهم بالعقلية التى يفهمونها ، والأفكار التى يتفاعلون معها ، كل على حسب سنه ، وكل على حسب ثقافته ، وكل على حسب التزامه بالإسلام ، انطلاقًا من القاعدة التى أرساها سيد الدعاة صلى الله عليه وسلم?لتكون منارًا يسيرون على هداه ، ونبراسًا يستضيئون بنوره انظر : مدرسة الدعاة للدكتور عبد الله ناصح علوان ، جـ1 ص346 - دار السلام للطباعة والنشر - طبعة أولى سنة 2001م ??
« أُمرنا أن نحدث الناس على قدر عقولهم » سبق تخريجه .
وقوله?صلى الله عليه وسلم???« حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكُذب الله ورسوله ؟ » سبق تخريجه(1/102)
كذلك يجب مراعاة حالة المدعو الاجتماعية ، ومراعاة مكانته بين قومه ، حتى يستطيع الداعية أن يؤثر فى نفسه ويصل إلى قلبه وعقله .
لذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم???« أنزلوا الناس منازلهم »??
وفى رواية : «?أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم?أن ننزل الناس منازلهم » الحديث أخرجه أبو داود - كتاب الأدب - باب فى تنزيل الناس منازلهم – حديث رقم 1725 ??
ومن النماذج العملية التى راعى فيها سيد الدعاة صلى الله عليه وسلم?هذا الجانب ما يلى :
??روت كتب السيرة أن العباس رضى الله عنه?أتى النبى صلى الله عليه وسلم?بعد أن أسلم أبو سفيان وشهد شهادة الحق وقال : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر ، فاجعل له شيئًا فقال عليه الصلاة والسلام : «?نعم »?، وأمر صلى الله عليه وسلم?فنادى مناديه : « من دخل المسجد فهو آمن ، ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن » مجمع الزوائد للهيثمى .
وروى الإمام أحمد بسند صحيح عن شهاب بن عباد أنه سمع?وفد عبد القيس وهم يقولون?????قدمنا على رسول الله?صلى الله عليه وسلم?فاشتد?فرحهم?، فلما انتهينا إلى القوم أوسعوا لنا فقعدنا ، فرحب بنا النبى?صلى الله عليه وسلم?ودعانا ، ثم نظر إلينا ، فقال : « من سيدكم ؟ »?، فأشرنا جميعًا إلى المنذر بن عائذ ، فلما دنا منه المنذر أوسع القوم له حتى انتهى إلى النبى?صلى الله عليه وسلم?، فرحب به وألطفه ، وسأله عن بلادهم " ... إلى آخر الحديث مسند الإمام أحمد ، جـ3 ص432??
??وهكذا على الداعية أن ينهج نهج النبى صلى الله عليه وسلم?فى تأليف القلوب ، وإصلاح النفوس ، وإنزال الناس منازلهم ، ومخاطبة الناس على حسب ما يفهمون ؛ فإن فعل كان من الهداة المخلصين ، والدعاة العاملين ، والمصلحين الموفقين .
????الرفق بالمدعوين ، والتيسير عليهم(1/103)
يحرص الداعية على أن تهيمن الدعوة على تصرفات الناس وتحكم سلوكهم ، فليس هدفه –?فقط –?أن يَدْخُلَ الناسُ فى الإسلام بالنطق بالشهادتين ، وإنما يهدف إلى أن يدخل الإسلام فى الناس ، بحيث يُرَىُ الإسلام فى سلوكهم شكلاً ومضمونًا ، وأقوالاً وأفعالاً .
وإزاء هذا الواجب الضخم سيواجه الداعية صنوفًا شتى من الناس ، وأخلاقًا متنوعة من فئات المجتمع .
ولكى ينجح الداعية فى التعامل مع شتى الطبقات وتحت كافة الظروف ، فلابدَّ له من التحلَّى بالرفق فى الدعوة إلى الله ، وأن يتصف –?فى تعامله –?بلين الجانب ، وسهولة المعاشرة حتى يفتح –?لدعوته –?مغاليق القلوب ، وينفذ –?بنصحه –?إلى أعماق النفوس .
ومن هنا كان اتصاف الداعية بالرفق والتيسير فى دعوته إلى الله شيئًا أساسيًا فى سلوكه إذا أراد السداد والصواب .
أهمية هذه الصفة فى حياة الدعاة ، وأمثلة عليها من حياتهم :
تتضح أهمية هذه الصفة فى حياة الدعاة من خلال ملاحظة ما يأتى :
??–?أن الداعية يبغى بدعوته هداية الناس إلى طاعة الله ، واستنقاذهم مما يسخطه ويغضبه ، وليس الأمر –?بالنسبة له –?مجرد أداء الواجب لتقوم الحجة على الناس وفقط .
ولا يتسنى للداعية أن يقوم بهذا الدور إلاَّ إذا اتصف بالحلم وطول النَّفس ، والتزم الرفق ولين الجانب .
يقول الأستاذ فتحى يكن : " الداعية لا تكون دعوته بحمل الأفكار والنظريات المجرَّدة إلى مَنْ حوله : قبلوها أم رفضوها ، وإنما أن يعيش هذه الأفكار معهم ، ويترجمها لهم على أرض الواقع أفعالاً وأخلاقًا وممارسات .
والداعية لا تكون دعوته بمفاصلة الناس وإقامة الحجة عليهم ، وإنما بأخذ كافّة الأسباب التى تؤدى إلى هدايتهم .
فهو من موقع الحب لهم ، والغيرة عليهم ، والرحمة بهم يكابد من أجل استنقاذهم من حمأة الجاهلية وشقوتها إلى نعيم الإسلام ، ولذلك فهو لا يسارع إلى مدابرتهم ومقاطعتهم ومفاصلتهم ، وهذا كله يحتاج منه إلى حلم ورفق .(1/104)
إن على الداعية أن يعتبر نفسه مربيًا للناس ومعلمًا لهم ، وإن عليه –?ليكون ناجحًا فى تربيته وتعليمه –?ألاَّ يعاملهم كأنداد ، وألاَّ يتعامل معهم كندٍّ ، وهو إن فعل ذلك أصبح مثلهم ، وفقد عنصر القوامة عليهم " الاستيعاب فى حياة الدعوة والداعية ، ص34 .
??–?أن الله تعالى فطر الناس على قبول الحق والتفافهم حول صاحبه ، وبخاصة إذا كان على علم ومعرفة وفيرين .
روى الأوزاعى عن حسان بن عطية قال : ??ما ازداد عبد علمًا إلاَّ ازداد الناس منه قُرْبًا رحمة من الله تعالى حلية الأولياء ، جـ6 ص74 " .
فإذا امتنَّ الله تعالى على الداعية بالتفاف الناس حوله ، ثم وجدوه غليظ القلب ، سيئ المعاملة لا نفضوا من حوله ، وتركوه يستأنس بالتثاؤب ويركن إلى البطالة .
من أجل هذا –?وغيره –?حثَّت الشريعةُ على ضرورة الاتصاف بهذا الخلق ليكون التوفيق والسداد بإذن الله .
وأول ما يطالعنا فى هذا المقام قول الله تعالى لسيد الدعاة صلى الله عليه وسلم???( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) سورة آل عمران – الآية 159 .
وعن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها?أن رسول الله صلى الله عليه وسلم?قال : « يا عائشة : إن الله رفيق يحب الرفق ، ويعطى على الرفق ما لا يعطى على العنف ، وما لا يعطى على ما سواه » أخرجه مسلم ، جـ4 ص2004 - كتاب البر والصلة والآداب – باب فضل الرفق . وأخرجه أبو داود ، جـ2 ص605 - كتاب الأدب – باب فى الرفق . وأخرجه ابن ماجة ، جـ2 ص1216 - كتاب الأدب – باب الرفق . وأخرجه أحمد ، جـ1 ص112 .(1/105)
وعنها أيضًا : أنه صلى الله عليه وسلم?قال : « إن الرفق لا يكون فى شىء إلاَّ زانه ، ولا يُنْزَعُ من شىء إلاَّ شأنه » أخرجه مسلم ، جـ4 ص2004 - كتاب البر والصلة والآداب – باب فضل الرفق . أخرجه أبو داود ، جـ2 ص3 - كتاب الجهاد – باب ما جاء فى الهجرة وسكنى البدو أخرجه أحمد ، جـ6 ص58 والأحاديث فى هذا المعنى كثيرة .
ومن أقوال سلف الأمة الصالح نختار هذه الأقوال :
يقول أمير المؤمنين على بن أبى طالب صلى الله عليه وسلم?????ألا أنبئكم بالفقيه كل الفقيه ؟ قالوا : بلى .
قال : من لم يقنِّط الناس من رحمة الله ، ولم يؤيسهم من روح الله ، ولم يؤمِّنْهم من مكر الله ... ? جامع بيان العلم وفضله ، جـ2 ص55??
ومن مأثور الحكمة : " ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف ، ونهيك عن المنكر غير منكر " الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، ص9 ، الإمام ابن تيمية – المكتبة القيمة – بدون تاريخ??
وعن عثمان بن طالوت قال : سمعت الأصمعى ينشد :
??ولم أرَ مثل الرفق فى أمره ... أخرج للعذراء من خدرها
من يستعن بالرفق فى أمره ... قد يُخرج الحية من جحرها الجامع لأخلاق الراوى ، وآداب السامع ، جـ1 ص209
وقال أعرابى ????من لانت كلمته وجبت محبته " نفس المرجع ، جـ1 ص350??
وحتى يتأيَّد الكلام بشواهد الواقع أسوق إليك –?أخى الداعية –?هذه الأمثلة :(1/106)
??–?عن أبى أمامة صلى الله عليه وسلم?أن فتًى شابًا أتى النبى صلى الله عليه وسلم?فقال : يا رسول الله : إئذن لى بالزنا !?فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا???مه مه (مه : اسم فعل أمر بمعنى : اكفف) ،?فقال : « ادنه » فدنا منه قريبًا ؛ قال : فجلس . قال : « أتحبه لأمك ؟ » قال : لا والله ، جعلنى الله فداءك . قال : « ولا الناس يحبونه لأمهاتهم » قال : « أفتحبه لابنتك ؟ » قال : لا والله يا رسول الله ، جعلنى الله فداءك . قال : « ولا الناس يحبونه لأخواتهم » قال : « أفتحبه لعمتك ؟ » قال : لا والله ، جلعنى الله فداءك . قال : « ولا الناس يحبونه لعماتهم » قال : « أفتحبه لخالتك » قال : لا والله ، جعلنى الله فداءك . قال : « ولا الناس يحبونه لخالاتهم » ، قال : فوضع يده عليه ، وقال : « اللهم اغفر ذنبه ، وطهر قلبه ، وحصِّن فرجه » فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شىء أخرجه أحمد فى مسنده ، جـ5 ص256 .
هذا ، وتزخر السنة بالكثير من مواقف النبى صلى الله عليه وسلم?التى استعمل فيها الرفق فلانت له القلوب ، واستجابت له النفوس حتى أمكنه أن يصل بالهدى إليها .
ولولا خشية الإطالة لأتيت بها جميعًا ، وصدق الله إذ يقول فى صفته صلى الله عليه وسلم???( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ) سورة التوبة – الآية 128 .
??–?أورد أبو نعيم فى كتابه " حلية الأولياء " المرجع المذكور ، جـ2 ص238?أن صلة بن أشيم وأصحابه مرَّ بهم فتى يجرُّ ثوبه ، فَهَمَّ أصحاب صلة أن يأخذوه بألسنتهم أخذًا شديدًا ، فقال صلة : دعونى أكفكم أمره . فقال : يا ابن أخى إن لى إليكَ حاجة ، قال : وما حاجتك ؟ قال : أحب أن ترفع إزارك . قال : نعم ، ونعمى عين ، فرفع إزاره . فقال صلة لأصحابه : هذا كان أمثل مما أردتم ، لو شتمتموه وآذيتموه لشتمكم(1/107)
??–?وعن أبى قلابة صلى الله عليه وسلم?أن أبا الدرداء صلى الله عليه وسلم?مرَّ على رجل قد أصاب ذنبًا فكانوا يسبونه . فقال : " أرأيتم لو وجدتموه فى قليب القليب : البئر التى لم تُطْوَ – هكذا – فى النهاية ، جـ4 ص98 ، مادة : قلب?ألم تكونوا مستخرجيه ؟ قالوا : نعم . قال : فلا تسبوا أخاكم ، واحمدوا الله الذى عافاكم . قالوا : أفلا نبغضه ؟ قال : إنما أبغض عمله ، فإذا تركه فهو أخى " صفة الصفوة ، جـ1 ص64 .
هذا ؛ ويطول الكلام –?أخى الداعية –?مع الأمثلة الدالة على التزام الرفق فى حياة الدعاة ، ولكن فيما ذكرت كفاية ، وسنرى مزيدًا من الأمثلة فى النقطة التالية ، لارتباطها الوثيق بالرفق فى مجال الدعوة إلى الله .
بين الرفق والتيسير :
إذا ملأ الله قلب الداعية بالرحمة على خَلْقِه ، ولمس الرفق شغاف قلبه ، انبعث فى سلوكه حب التيسير على الناس والرفق بهم .
وحب الداعية للتيسير لا يتولَّد من فراغ ، وإنما تدفعه إليه تعاليم الإسلام متمثلة فى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم??
ففى معرض الحديث القرآنى عما يريده الله تعالى بخلقه يقول الله تعالى : ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) سورة البقرة – الآية 185 .
وفى توجيه النبى صلى الله عليه وسلم?إلى الأسلوب الأمثل فى التعامل مع الآخرين فى مجال الدعوة وغيرها يقول النبى صلى الله عليه وسلم???« يسِّروا ولا تُعَسِّروا ، وبشِّروا ولا تنفِّروا » أخرجه البخارى ، جـ1 ص24 - كتاب العلم – باب من كان النبى ( يتخولهم بالموعظة والعلم كى لا ينفروا وأخرجه مسلم ، جـ3 ص1358 - كتاب الجهاد والسير – باب فى الأمر بالتيسير وترك التنفير .وأخرجه أبو داود ، جـ2 ص611 - كتاب الأدب – باب فى كراهية المراء .وأخرجه أحمد ، جـ4 ص399.(1/108)
يقول الإمام النووى فى تعليقه على هذا الحديث : " إنما جمع فى هذه الألفاظ بين الشىء وضده لأنه قد يفعلهما فى وقتين ، فلو اقتصر على يسِّروا لصدق ذلك على من يسَّر مرة أو مرات وعسَّر فى معظم الحالات ، فإذا قال : ولا تعسِّروا انتفى التعسير فى جميع الأحوال من جميع وجوهه ، وهذا هو المطلوب " صحيح مسلم بشرح النووى ، جـ12 ص41??
ولم يكتف النبى صلى الله عليه وسلم?بالدعوة القولية المجرَّدة ، بل ضمَّ إليها الأسوة الطيبة ، والقدوة الحسنة فيما كان يباشره من أعمال .
فعن أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها?قالت : " ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم?بين أمرين قطُّ إلاَّ أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا ، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه " أخرجه البخارى ، جـ4 ص69 - كتاب الأدب - باب قول النبى - : « يسروا ولا تعسروا » ، وكان يحب التخفيف واليسر على الناس .وأخرجه مسلم ، جـ4 ص1813 - كتاب الفضائل – باب مباعدته - للآثام ، واختياره من المباح أسهله .أخرجه أبو داود ، جـ2 ص601 - كتاب الأدب – باب فى التجاوز فى الأمر .أخرجه أحمد ، جـ6 ص114 .
وحين أحسَّ النبى صلى الله عليه وسلم?بتسلل روح التشدد إلى نفوس بعض أصحابه قاوم هذا الاتجاه ، وأعاد الأمور إلى ما ينبغى أن تكون عليه من التوازن والاعتدال .
فعن أنس بن مالك صلى الله عليه وسلم?أنه قال : " جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبى صلى الله عليه وسلم?يسألون عن عبادة النبى صلى الله عليه وسلم?، فلما أُخبروا كأنهم تقالُّوها تقالوها : أى عدوها قليلة?، فقالوا : وأين نحن من النبى صلى الله عليه وسلم?؟ قد غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . قال أحدهم : أما أنا فإنى أصلى الليل أبدًا ، وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا .(1/109)
فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم?فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إنى لأخشاكم لله ، وأتقاكم له ، لكنى أصوم وأفطر ، وأصلى وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتى فليس منى " أخرجه البخارى ، جـ3 ص237 - كتاب النكاح – باب الترغيب فى النكاح .
يقول الحافظ ابن الحجر : ??????والرغبة عن الشىء الإعراض عنه إلى غيره ، والمراد : من ترك طريقتى ، وأخذ بطريقة غيرى فليس منى ، ولمَّح بذلك إلى طريق الرهبانية فإنهم الذين ابتدعوا التشديد كما وصفهم الله تعالى " فتح البارى ، جـ19 ص126 .
وقد أثمرت هذه التوجيهات النبوية ثمرتها فى مجتمع الصحابة –?الذين هم خير القرون بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم?لهم –?فأضحت حياتهم مثلاً رائعًا فى التزام التيسير واجتناب التعسير .
فعن عمر بن إسحاق قال ????لَمَنْ أدركت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم?أكثر ممن سبقنى منهم ، فما رأيت قومًا أيسر سيرة ، ولا أقلَّ تشديدًا منهم " سنن الدارمى ، جـ1 ص51 .
فما أجمل أن يترسَّم الدعاة خط هؤلاء السلف الصالح ، فإنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها . والله أعلم .
توجيهات للداعية فى هذا المجال :
ونحن بصدد الحديث عن ضرورة اتَّصاف الداعية بالرفق والتيسير فى الدعوة إلى الله تعالى نرى أن من الناس من أساء الفهم لمقاصد الشريعة من هذا الخُلُق فأفرط فى استعماله أو فرَّط فيه ، وكلاهما حاد عن جادَّة الطريق ، وانحرف عن المنهاج السوىِّ .
فالذين أفرطوا فى استعمال هذا المبدأ تصوروا أن الرفق والتيسير يبيح لهم تحليل الحرام ، فراحوا يطَّوعون مبادئ الدين ونصوصه لما تمليه عليهم أهواؤهم وليس العكس .(1/110)
وانطلاقًا من هذا الفهم المعوج تسمع لأحدهم ينادى بفصل الدين عن الدولة تَمشِّيًا مع سياسة العلمانيين ، وتسمع لآخر يبيح التعامل الربوى الجارى فى العصر الحاضر ، ويلوى عنق النصوص ، وترى آخر يبيح للمرأة التبرج والتعرِّى بحجة أن نصوص القرآن فى هذا ليست قطعية ، وأن هذا الأمر يدخل فى مجال الحرية الشخصية لكل امرأة ، وآخر يعتبر اتهام غير المسلمين بالكفر لونًا من التنطُّع ... الخ
ولئن كان الدافع لأحد هؤلاء سوء النية وخبث الطوية فحسابه على الله الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ، وأمّا إن تصور أن هذا مقتضى ما تمليه تعاليم الإسلام من السماحة واللين والدعوة بالتى هى أحسن فقد ضلَّ وأضلَّ .
إن تعاليم الإسلام لا تعنى بالرفق واللين الميوعة والتسيب .
ولتقرأ معى –?أخى الداعية –?هذه النصوص القرآنية والنبوية لتقف على حقيقة المراد من هذا الأمر .
يقول الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ) سورة التوبة – الآية 123 .
وقال تعالى : ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ ) سورة النور – الآية 2 .
تأمل معى كلمة " غلظة " وكلمة " ولا تأخذكم بهما رأفة " لتعلم أن الشدة فى موضعها لا تنافى اللين بل هى عين الحكمة ، ومقتضى الرحمة .
واسمع معى إلى هذه القصة من حياة النبى صلى الله عليه وسلم?لترى كيف كان يشتد حين يستلزم الأمر ذلك ، فى الوقت الذى وصفه ربه فى كتابه بأنه بالمؤمنين رءوف رحيم .(1/111)
عن أبى مسعود صلى الله عليه وسلم?قال : أتى رجل النبى صلى الله عليه وسلم?فقال : إنى لأتأخر عن صلاة الغداة صلاة الغداة : صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا . قال : فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم?قط أشد غضبًا فى موعظة منه يومئذ . قال : فقال : « يا أيها الناس إنَّ منكم منفِّرين ، فأيُّكم ما صلَّى بالناس فليتجوَّز فليتجوَّز : فليخفف ، فإن فيهم المريض والكبير وذا الحاجة » أخرجه البخارى ، جـ4 ص67 .
فانظر –?أخى الداعية –?إلى ملاحظة الصحابى لردِّ الفعل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم?إزاء هذه الشكوى ، حيث يقول : " فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم?قط أشد غضبًا فى موعظة منه يومئذ " .
ولو كان الغضب لله يتنافى مع الرفق واللين لما ساغ لرسول الله صلى الله عليه وسلم?أن يفعله .
ومن هذا يتبين لك –?أخى الداعية –?ما ذكرته لك من أن الرفق واللين لا يعنى التساهل والمداهنة فى حدود الله ، وإنما هو وضع الأمور فى مواضعها ، مع استخدام الوسائل كلٌّ فى موضعه .
وصدق الشاعر إذ يقول :
??ووضع الندى فى موضع السيف بالعلا ... مُضرُّ كوضع السيف فى موضع الندى
وأورد أبو حامد الغزالى فى كتابه " إحياء علوم الدين " المرجع المذكور ، جـ9 ص1674?خبرًا عن سفيان أنه قال لأصحابه : " تدرون ما الرفق ؟ قالوا : قل يا أبا محمد . قال : " أن تضع الأمور مواضعها ، الشدة فى موضعها ، واللين فى موضعه ، والسيف فى موضعه ، والسوط فى موضعه " .
فإذا تركنا هذا الصنف المُفْرط فى استعمال الرفق حتى خرج به عن مضمونه إلى التهاون والتسيب ، لرأينا أن ثمة فريقًا آخر من الناس فرَّط?فى استعمال?ما دعا إليه?الإسلام?من الرفق?والتيسير ،?فبدا فى
سلوكه وعباداته ومعاملاته أميل إلى التشديد والتعسير ، وكأن اليسر –?فى نظر الواحد منهم –?ليس من الإسلام فى شىء .(1/112)
ولا يتسع المجال للتعرض لصور التفريط فى سلوك هؤلاء القوم ، وبيان الموقف الصحيح منها ، ولكنى أخصُّ بالذكر مظهرين يسئ الكثيرون الفهم فيهما ، وهما :
??–?العلاقة بين العزائم والرخص فى حياة الدعاة .
??–?الفرق بين ما اتفق عليه العلماء وما اختلفوا فيه .
ففيما يتعلق بالأمر الأول نرى كثيرًا من الناس السالكين طريق الدعوة ينهجون نهج التشديد فى فتاواهم ، ويلزمون كافة الناس بما هو أورع وأحوط لدينهم .
ومع عظيم تقديرنا لمن يسلكون هذا المسلك فإن من الواجب مراعاة إمكانات الناس وقدراتهم فى التحمل ، فما يحسنه التقىُّ الورع لا يحسنه كل أحد .
فإن تعامل المرء مع الناس على أنهم فى القدرة على التحمل سواء ،?فأفتى دائمًا بما هو أشق وأشد ، ورفض ما هو أيسر وأرفق –?تورُّعًا واحتياطًا –?فإن ذلك يؤدى فى نهاية الأمر إلى أن تفقد تعاليم الإسلام يُسْرها ، ويحدث فى نفوس الناس نفور منها وكراهية لها .
ومن ثمَّ كره سلف الأمة الصالح التزام خط التشديد دائمًا ، مؤكدين على أن العلم الكثير يحمل صاحبه على التيسير لا التعسير .
يقول الإمام الجليل سفيان الثورى : ??إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة ، فأمَّا التشديد فيحسنه كل أحد " صفة الفتوى والمفتى والمستفتى ، ص32 ، ابن حمدان الحرانى .
وإلى جانب هذا رأينا فى سلوك السلف الصالح حرصًا على الورع والتقوى فى خاصَّة أنفسهم ، فإذا تعلق الأمر بالناس أجابوا بما فيه الرخصة والتيسير .
ولقد مرّ بك –?أخى الداعية –?فى حديثنا عن الصلة بالله تعالى فى معرض الكلام عن الورع قول كل من الإمامين الجليلين : أبى حنيفة ، وسفيان الثورى : ??لأنْ أخرَّ من السماء أهون علىَّ من أن أفتى بتحريم قليل النبيذ ، وما شربته قط ، ولا أشربه " عمدة القارى – شرح صحيح البخارى ، جـ1 ص334 ، بدر الدين العينى .
وذكر فى ترجمة التابعى الجليل محمد بن سيرين أنه كان أرجى الناس لهذه الأمة ، وأشدهم أزرًا على نفسه .(1/113)
وذكر فى ترجمة الإمام المزنى صاحب الإمام الشافعى أنه كان أشد الناس تضييقًا على نفسه فى الورع ، وأوسعه فى ذلك على الناس .
ومن أراد مزيدًا من التعرُّف على هذه القضية ، وخطورة التزام التشديد دائمًا فليقرأ ما كتبه الداعية الإسلامى الشيخ/ يوسف القرضاوى فى كتابه ??الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف "?فلقد وُفق هذا العالم الجليل فى أن يضع النقط على الحروف ، وأن يعطى كل ذى حق حقه ، دون مجاملة لأحد على حساب آخر .. فجزاه الله خيرًا .
وأما الأمر الثانى فإن كثيرًا من الناس يخطئون فى فهمه –?كذلك –?مما يترتب عليه خلط بين المسائل وبعضها ، فلا تمييز بين منصوص عليه ومُجْتَهدٍ فيه ، وبين متفق عليه ومُخْتَلفٍ فيه ... الخ .
وينتج عن هذا الخلط أن ينهج المرء نهجًا معينًا ، أو يتبنى رأيًا بذاته ثم يتعصب له ، ويرمى من خالفه بالابتداع أو بالاستهتار فى الدين ... وهذا تشديد وتعسير ليس من دين الله فى شىء .
من أجل ذلك رأينا سادتنا العلماء يؤكدون على ضرورة معرفة اختلاف الفقهاء لمن يتصدَّر للدعوة ، حتى لا يكون ممن علم شيئًا وغابت عنه أشياء ، فيردّ –?من حيث لا يعلم –?ما هو أوثق وأضمن .
عن عثمان بن عطاء عن أبيه قال : " لا ينبغى لأحد أن يفتى الناس حتى يكون عالمًا باختلاف الناس ، فإنه إن لم يكن كذلك ردّ من العلم ما هو أوثق من الذى فى يديه " جامع بيان العلم وفضله ، جـ2 ص57 .
وكذلك أكدّوا على ضرورة أن يفرِّق المرء –?عند إنكاره –?بين المُجْمع عليه والمُختَلَف فيه .(1/114)
يقول الإمام النووى ????العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه ، أمَّا المُختلف فيه فلا إنكار فيه ، لأن على أحد المذهبين كل مجتهد مصيب ، وهذا هو المختار عند كثيرين من المحققين أو أكثرهم ، وعلى المذهب الآخر المصيب واحد والمخطئ غير متعين لنا ، والإثم مرفوع عنه ، لكن إن ندبه –?على جهة النصيحة –?إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق ، فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة ، أو وقوع فى خلاف آخر " صحيح مسلم بشرح النووى ، جـ2 ص23 .
من أجل هذا رأينا علماء الأمة الأفاضل لا يُلزمون أحدًا باجتهادهم ، ولا يلقون بالتَّهم على مخالفيهم ، وإنما أدب رفيع فى النظر إلى اجتهاد الآخرين ، وإعطاءٌ لكل ذى حق حقه .
روى أن الإمام الجليل أحمد بن حنبل سُئِلَ عن مسألة فى الطلاق فقال : إذا فعله يحنث . فقال له السائل : إن أفتانى أَحد بأنه لا يحنث " يعنى : يصح " ؟ فقال : نعم ، ودلَّه على من يفتيه بذلك صفة الفتوى والمفتى والمستفتى ، ص82 ، أحمد بن حمدان الحرَّانى الحنبلى .
وحين استشار أبو جعفر المنصور الإمام مالك " إمام دار الهجرة " فى أن يحمل الناس على الموطأ حَمْلاً ، وأن يَدَعُوا ما سواه من الاجتهادات والأقوال ، حين هَمَّ أبو جعفر أن يصنع ذلك رفض الإمام مالك وقال : ??يا أمير المؤمنين : لا تفعل ، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل ، وسمعوا أحاديث ورووا روايات ، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم ، وعملوا به ودانوا به من اختلاف الناس –?أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم?وغيرهم –?وإنَّ ردَّهم عما اعتقدوه شديد ، فدع الناس وما هم عليه ، وما اختار كل بلد لأنفسهم " جامع بيان العلم وفضله ، جـ1 ص160 .(1/115)
ولو كان إلزام الناس باجتهاد معين هو الصواب لبادر إليه الإمام مالك ، وبخاصَّة أن الفرصة قد هُيِّئَت له ، ولكنه كرجل فقيه عالم رأى ألاَّ يلزم الناس بغير ما ألزمهم الله ، فجزاه الله عنا خير الجزاء ؛ وقد سبقت الإشارة إلى ذلك بالتفصيل فى حديثنا حول ??أدب الاختلاف ) .
أخى الداعية :
ويطول الكلام ويطول فى مثل هذه المسائل الحسَّاسة ، ولكن –?كعادتى معك –?أطرق لك الباب ، وأحيلك إلى مظانِّ التفصيل فى أكثر المسائل إلى الكتب المتخصصة ، ترغيبًا وتشويقًا إلى القراءة والبحث من كتب الأئمة والعلماء ، جزاهم الله خير الجزاء .
ولذا فإنى أقتصر على ما ذكرته فى هذه الصفة ، وأسأل الله أن يوفقنا جميعًا لما فيه رضاه .
????الدعوة إلى الجوانب العملية فى الدين?والتخلى عما لا ينفع
كان من دعاء بعض الصالحين : ??اللهم اجعلنى من غرسك الذين تستعملهم بطاعتك " مفتاح دار السعادة ، جـ1 ص148 ، ابن قيم الجوزية .
حول هذه الغاية يتحرك الداعية مقدِّرًا لكل كلمة يقولها ، وكل خطوة يخطوها حتى لا تضيع سدى ، فإن من اشتغل بغير المهم أَضرَّ بالمهم .
ومن ثم ينتخب الداعية ما يقوله للناس بحيث يشتمل على جوانب عملية تطبيقية ، ويتخلى عن السفسطة والعلم غير النافع .
وأضرب هنا مثالين على كل نوع لتكون بمثابة التوضيح لما أقصده :
فمثلاً يحرص الداعية على تعليم الناس الأحكام الفقهية المتعلقة بأمور العبادات والمعاملات لتكون هذه الأمور مؤدَّاة على وجه صحيح .
يقول الصحابى الجليل أبو هريرة : ??لأن أفقه ساعة أحب إلىَّ من أن أحيى ليلة أصليها حتى أصبح ، والفقيه أشد على الشيطان من ألف عابد ، ولكل شىء دعامة ، ودعامة الدين الفقه " الجامع لأخلاق الراوى ، وآداب السامع ، جـ2 ص110??
وكذلك يحرص الداعية على ترغيب الناس فى فضائل الأعمال ، ويحثهم على ذكر الله وقراءة القرآن ، ونحو ذلك .(1/116)
قال عمرو بن قيس ????وجدنا أنفع الحديث لنا ما نفعنا فى أمر آخرتنا ، من قال كذا فله كذا " المرجع السابق ، جـ2 ص111??
وفيما يتعلق بما يجب اجتنابه والتخلى عنه فأضرب له مثلين أيضًا :
فمثلاً يجتنب الداعية الخوض فيما شجر بين الصحابة من خلاف ، ويُمْسِك عن التحدث فى الوقائع التى كانت بينهم ، ولا يحمل فى قلبه إلا التقدير والتبجيل لجميعهم ، مع الدعاء والاستغفار لعامَّتهم .
ومن جميل ما أُثر فى هذا أن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز تكلَّم البعض أمامه فيما جرى بين الصحابة ، فقال : ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) العواصم من القواصم ، ص252 ، القاضى أبو بكر بن العربى – بتحقيق محب الدين الخطيب – طبعة سنة 1985 – المكتبة العلمية – بيروت – لبنان .
وكذلك يجتنب الداعية الخوض فى المتشابه من الآيات ، نحو آيات وأحاديث الصفات التى يقتضى ظاهرها التشبيه والتجسيم وإثبات الجوارح لله تعالى .
وعلى هذا الهدى سار سلف الأمة الصالح - رضى الله عنهم????فكانوا يضْرِبون صفحًا عن الكلام فى مثل هذه المسائل لقلة الفائدة منها .
يقول الإمام مالك بن أنس رضى الله عنه?????الكلام فى الدين أكرهه ، ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه –?نحو الكلام فى رأى جهم والقدر وكل ما أشبه ذلك –?ولا أحب الكلام إلا ما تحته عمل ، فأما الكلام فى دين الله وفى الله جل جلاله?فالسكوت أحبُّ إلىَّ ، لأنى رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام فى الدين إلا فيما تحته عمل " جامع بيان العلم وفضله ، جـ2 ص116??
وقد ورد على لسان كثير من الأئمة ذمُّ التعرض لهذه المسائل ، ولستُ بصدد ذكر هذه الأقوال ، وإنما أحيل من أراد الاستزادة منها إلى الكتب التى تحدثت فى هذا الشأن .
????الترفع عن الجدال?طلبًا لتفريغ الأوقات لما هو أهم(1/117)
يحرص الداعية على أن يستفيد بكل لحظة فى حياته ، ويضِنُّ بوقته أن يضيع سدى ، فالواجبات عنده أكثر من الأوقات ، ولا مجال للتفريط فى أغلى الأشياء وهو الوقت .
ومن الأمور التى تخدم الداعية فى هذا المجال أن يحرص فى دعوته على تجنب الجدال والخصومة مع المخالفين له فى الرأى ، طالما استشعر أن الطرف الآخر يتصور أن ما يقول به هو الحق الذى لا يأتيه الباطل ، وأن ما يقول به غيره باطل لا يحتمل الصواب .
والسر فى ذلك أن الجدال مع أمثال هؤلاء لن يصل أبدًا إلى نقطة اتفاق ، فضلاً عن أنه يدع النفوس ممتلئة بالضغائن والإِحن .
يقول الإمام مالك بن أنس : ??المراء يقسى القلب ، ويورث الضغن " جامع بيان العلم وفضله ، جـ1 ص162 .
وتشير السنة النبوية إلى أن الجدال مظهر من مظاهر الضلالة بعد الهُدَى ، ففى الحديث : ??ما ضل قوم بعد هُدَى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل " رواه الترمذى ، وقال عنه : " حسن صحيح " ، جـ5 ص378 - كتاب تفسير القرآن – باب سورة الزخرف .ورواه ابن ماجة ، جـ1 ص19 - المقدمة – باب اجتناب البدع والجدل .ورواه أحمد ، جـ5 ص252 .
وبسبب الجدال حدث حرمان المسلمين فى الصدر الأول من تحديد ليلة القدر ، وامتنع النبى صلى الله عليه وسلم?عن كتابة كتاب لأمته –?همَّ به فى مرض موته –?حتى لا يختلفوا من بعده .
ومن ثم حرص دعاة الأمة الأوائل على التخلى عن هذا الخلق الذميم ، ووجهوا –?بأقوالهم أفعالهم –?إلى ذلك .
يقول الإمام أحمد بن حنبل : ??لا يكون الرجل من أهل السنة حتى يدع الجدال ، وإن أراد به السنة " صفة الفتوى والمفتى والمستفتى ، ص48 ، الإمام أحمد بن حمدان الحرانى .
وقال أبو قلابة : ??لا تجالسوا أهل الأهواء ، ولا تجادلوهم ، فإنى لا آمن أن يغمسوكم فى ضلالتهم ، أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون " سنن الدارمى ، جـ1 ص108??
ومن سيرة سلف الأمة الصالح فى الترفع عن الجدال أسوق هذين المثلين :(1/118)
????قال أبو حازم الأعرج : ??رأيتُنا فى مجلس زيد بن أسلم أربعين فقيهًا ، أدنى خصلة فينا التواسى بما فى أيدينا ، وما رأيت فيه متماريَيْن ولا متنازعين فى حديث لا ينفعنا " تذكرة الحفاظ ، ص124 .
????دخل رجلان من أصحاب الأهواء على ابن سيرين فقالا ??يا أبا بكر : نحدثك بحديث ؟ قال : لا ، قالا : فنقرأ عليك آية من كتاب الله ؟ قال : لا ، لتقومان عنى أو لأقومن ؟ فخرجا ، فقال بعض القوم : يا أبا بكر : وما كان عليك أن يقرآ عليك آية من كتاب الله تعالى ؟ قال : إنى خشيت أن يقرآ على آية فيحرفانها ، فيقرّ ذلك فى قلبى " سنن الدارمى ، جـ1 ص109.
فإذا وضعنا هذا السلوك الحسن –?من حياة السلف الصالح –?أمام أعيننا ، وذهبنا نقارن بينه وبين واقع المسلمين المرّ فى عصرنا الحاضر لرأينا بُعْدَ الشقة بين الواقع والواجب .
إن تعاليم الإسلام تؤكد على أن المسلم عضو فى جسد ، ولبِنَة فى بناء .
ولا أدل على هذه الحقيقة من كون المسلم فى كل ركعة من صلاته يتحدث بالأصالة عن نفسه ، والنيابة عن جميع المسلمين قائلاً : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) سورة الفاتحة – الآية 5 ، 6 .
وعلى الرغم من وضوح هذه الحقيقة إلا أن مسلمى اليوم أبوا إلا أن يضخموا مسائل الخلاف بينهم ، حتى أضحت الأمة المسلمة أشلاء ممزقة ، يستوى فى ذلك عوامُّ الناس ، وبعض الدعاة الذين يُنْتَظَر منهم إنقاذ العالم من الضياع .
ولن يتحقق للعالم الإسلامى ما تصبو إليه آمال المسلمين إلا بالتئام الشمل وتوحيد الصف ، مع التماس العذر للمخالف ، مما يجعل حبل الود موصولاً ، وأواصر الأخوة باقية .
ولكى يتحقق هذا التقارب بين العاملين للإسلام والداعين إليه فإن من الواجب مراعاة الآتى :
1 - التزود بالكثير من المعارف ، والاطلاع على أكبر قدر ممكن من حقائق الحياة ومذاهب العلماء .(1/119)
وذلك لأن سعة المعرفة تعطى لصاحبها سعة فى الأفق ، وقدرة على تبيان الحقائق دون مبالغة فيها ، أو تقليل من شأنها ، وعلى العكس من ذلك تمامًا صاحب المعرفة المحدودة ، والخبرة القليلة .
2 - التحرك فى الحياة بدافع الإخلاص لله تعالى ، وإيثار ما عنده على لذَّات الحياة كلها ، والرغبة فى نفع الناس بالإسلام دون التطاول به ، والنظر إلى الناس على أننا وأنهم فى الإنسانية سواء ، ولسنا أربابًا لهم ، أو قضاة عليهم .
3 - الاستفادة من تطورات العصر الحاضر لتجديد أساليب الدعوة ، وتطبيق بعض التعاليم على ضوء ما جدَّ فى الحياة من أحداث كبار انظر " ظلام من الغرب " ، ص284-294 ، فضيلة الشيخ محمد الغزالى – طبعة ثالثة سنة 1965 – دار الكتب الحديثة
هذه بعض الملاحظات التى يجب مراعاتها ونحن نسعى لرأب الصدع ، وتوحيد الصف .
وفى ظل هذا الفهم يصبح الخلاف فى الرأى ظاهرة صحية تثرى المسلم بخصوبة المعلومات ، وتؤهله لرؤية الموضوع الواحد من جميع أبعاده وزواياه ، وذلك بدلاً من التناحر والتقاتل كما هو شأن الكثير من المسلمين اليوم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم .
الفصل الثالث
جوانب فقه الدعوة
فيما يتعلق بالدعوة نفسها
ويشتمل على المباحث التالية :
(1) التعرف على فقه الواقع .
(2) رعاية الأولويات والمهمات .
(3) التخطيط للدعوة .
(4) الجماعية لا الفردية .
(5) التدرج .
????التعرف?على?فقه?الواقع
تعرُّفُ الداعية على فقه الواقع من أهم السمات المؤثرة فى نجاح دعوته وسداد رأيه ، ونشر فكرته ، وتواؤمه مع المجتمع الذى فيه يعيش ، والعصر الذى فيه يحيا .
وبادئ?ذى?بدء?أقول??
إن?مصطلح?فقه?الواقع?من?الناحية?اللفظية?ليس?له?أصول?قديمة?،?وذلك?أنه?بالرجوع?إلى?كتب?المعاجم?والمفردات?اتضح?لنا?أن?كلمة?فقه?كما?فى?لسان?العرب??
حسن?الإدراك?،?وتفقه?الأمر???تفهمه?وتفطنه??(1/120)
والفقه???الفهم?الفطنة?????وهو?العلم?أيضًا ابن منظور ، لسان العرب - مادة فقه .
وهذا?هو?الفقه?الذى?دعا?به?سيدنا?محمد?صلى الله عليه وسلم?لابن?عباس?صلى الله عليه وسلم?" اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل " مسند الإمام أحمد ، 2397 .
ويقول?الشيخ?القرضاوى?????أى?ينير?الله?بصيرته?فيتعمق?فى?فهم?حقائق?الدين?وأسراره?ومقاصده?،?ولا?يقف?عند?ألفاظه?وظواهره?? أولويات الحركة الإسلامية فى المرحلة القادمة ، ص25 ؛ انظر : فقه الواقع أصول وضوابط الأستاذ أحمد بوعود ، ص40،41 .
أما?كلمة?واقع??
فليس?لها?فى?موادها?ومشتقاتها?ما?ينبئ?عن?أى?علاقة?بينها?وبين?موضوعنا?، وبهذا?يعتبر?إطلاق?كلمة?الواقع?على?واقع?المسلمين?فى?الدراسات?الإسلامية?أمرًا?حديثًا?،?وذلك?أن?المصطلح?اللفظى?نفسه?لم?يكن?موجودًا?،?وأما?المعنى?،?فقد?كان?بارزًا?واضحًا?لا?يخفى?بحال??
ويبين?الدكتور?القرضاوى?معنى?الواقعية?فى?الإسلام?فيقول?????هى?مراعاة?واقع?الكون?من?حيث?هو?حقيقة?واقعة?ووجود?شاهد?? الخصائص العامة للإسلام ، ص157 .
ويزيد?الدكتور?عبد?المجيد?النجار?التعريف?وضوحًا?فيقول?????نعنى?بالواقع?ما?تجرى?عليه?حياة?الناس?فى?المجالات?المختلفة?،?من?أنماط?فى?المعيشة?،?وما?تستقر?عليه?من?عادات?وتقاليد?وأعراف?، وما?يستجد?فيها?من?نوازل?وأحداث?" فى فقه التدين فهمًا وتنزيلاً ، جـ1 ص111 .
وإذا?كانت?هذه?هى?دلالة?الألفاظ?فى?معنى?فقه?الواقع?فى?الدعوة?الإسلامية??
فإن?الدكتور?عمر?عبيد?حسنه?يعبر?عن?فقه?الواقع?كمعنى?تعبيرًا?دقيقًا?تامًا?فيقول?هو?????النزول?إلى?الميدان?، وإبصار?الواقع?الذى?عليه?الناس?،?ومعرفة?مشكلاتهم?ومعاناتهم?واستطاعتهم?وما?يعرض?لهم?،?وما?هى?النصوص?التى?تعرض?عليهم?فى?واقعهم?فى?مرحلة?معينة?،?وما?يؤجل?من?التكاليف?لتوفير?الاستطاعة?" الاجتهاد الجماعى فى التشريع الإسلامى ، عبد المجيد الشرقى ، ص32 .(1/121)
ويعرفه?الألبانى?–?رحمه الله?–?فيقول?????هو?الوقوف?على?ما?يهم?المسلمين?مما?يتعلق?بشؤونهم?أو?كيد?أعدائهم?، لتبصيرهم?والنهوض?بهم?واقعيًا?لا?نظريًا?" سؤال وجواب حول فقه الدعوة ، ص34،35 .
ويرى?الدكتور?القرضاوى?أن?فقه?الواقع?يرتكز?على?دراسة?الواقع?المعين?دراسة?واقعية?مستوعبة?لكل?جوانب?الموضوعات?،?معتمدة?على?أصح?المعلومات?،?وأدق?البيانات?والإحصاءات أولويات الحركة الإسلامية ، ص26??
وأرى?أن?فقه?الواقع?هو???التعرف?الكامل?على?بيئة?المدعوين?والإحاطة?بأعرافهم?وعاداتهم?وأحوالهم?،?حتى?يتسنى?له?التواصل?معهم?،?والتأثير?فيهم?،?وإسقاط?النصوص?إسقاطًا?مناسبًا?من?خلال?فهم?مقاصد?الإسلام?وفقه?النصوص??
أهمية?فقه?الواقع??
إن?التعرف?على?فقه?الواقع?من?أهم?السمات?الواجب?توفرها?للداعية?،?وذلك?لأن?الخلل?فى?فهم?واقع?المدعو?يؤثر?تأثيرًا?بالغ?الخطورة?فى?تقبل?دعوته?،?أو?التأثير?والقناعة?بها?،?وكذلك?يؤدى?فى?أحيان?كثيرة?إلى?إصدار?أحكام?فى?غير?محلها?،?وإسقاط?نصوص?على?غير?حالتها?ومدلولها?،?وإصدار?فتاوى?خاطئة?،?واتخاذ?مواقف?شائنة??
لذا?يقول?الأستاذ?عمر?عبيد?حسنه?????إن?دراسة?المجتمعات?،?وفهم?واقعها?وتاريخها?وثقافتها?وعاداتها?الاجتماعية?هو?الذى?يوضح?لنا?كيفيات?وآليات?التعامل?معها?ومواصفات?خطابها?،?والفقه?الذى?يمكننا?من?التدرج?فى?الأخذ?بيدها?إلى?تقويم?سلوكها?بشرع?الله?? الصياغة الإسلامية لعلم الاجتماع ، ص12 التقديم.
كما?يرى?الألبانى?–?رحمه الله???????أن?معرفة?الواقع?للوصول?إلى?الحكم?الشرعى?واجب?مهم?من?الواجبات?التى?يجب?أن?يقوم?بها?طائفة?مختصة?من?طلاب?العلم?المسلمين?النبهاء?،?كأى?علم?من?العلوم?الشرعية?أو?الاجتماعية?" سؤال وجواب حول فقه الواقع ، ص35
نماذج?من?الخلل?فى?فقه?الواقع?المعاصر??(1/122)
هناك?قضايا?كثيرة?أثيرت?على?ساحة?الدعوة?الإسلامية?وقامت?النزاعات?حولها?،?وأرى?أن?الذى?أوصلنا?إلى?هذا?المنزلق?،?وانحدر?بنا?إلى?هذه?الأودية?هو?عدم?معرفة?فقه?الواقع?وعدم?التعرف?عليه?، وعلى?سبيل?المثال??
????قصة?الصلح?مع?اليهود?المحتلين?لمقدساتنا?وأرضنا?،?قال?جمهور?العلماء?ولجان?الفتوى?والمؤتمرات?العلمية?والفقهية?أنه?يحرم?التصالح?مع?اليهود?على?وضعهم?الراهن??
ولكن?خرج?البعض?علينا?بالقول?بجواز?التصالح?مع?اليهود?قياسًا?على?معاهدة?النبى?صلى الله عليه وسلم معهم?عندما?هاجر?إلى?المدينة?، مع?الفارق?الكبير?بين?واقع?الأمرين?، حيث?أن?وضع?الدولة?الإسلامية?كان?مختلفًا?، فلم?تكن?الدولة?الإسلامية?قائمة?بالصورة?الواضحة?الكاملة?،?ثم?إن?المسلمين?دخلوا?المدينة?فوجدوا?اليهود?بها?مقيمين?،?وكذلك?لم?يكن?قد?بدأ?العداء?العملى?بصورة?واضحة?، بدليل?أن?رسول?الله?صلى الله عليه وسلم?أجلاهم?وأخرجهم?من?المدينة?وعاقبهم?عقابًا?شديدًا?لما?أخلو?بالمعاهدة?وتآمروا?عليه?صلى الله عليه وسلم??
أما?واقعنا?فهو?احتلال?لأرض?إسلامية?ولأملاك?مسلمين?ومقدسات?إسلامية?،?قد?يضعف?أو?يجبن?المسلمون?يومًا?عن?إعادتها?،?ولكن?الذى?لا?يجوز?هو?أن?يسلم?المسلمون?لعدوهم?بما?اغتصبه?ويعتبرونه?حقًا?له?، وأن?حق?المسلمين?قد سقط?بالعجز?والتقادم???
????إفتاء?البعض?بأن?المسلم?الذى?يفجِّر?نفسه?فى?العدو?اليهودى?المحتل?ليوقع?فيهم?الفزع?والقتل?ليس?بشهيد?لأن?الله?قال?????وَلا?تَقْتُلُوا?أَنْفُسَكُمْ???????؟؟?
ولا أدرى فى أى عصر يعيش هذا ؟ وفى أى كوكب يسكن !! وفى أى موقع يعيش ، وأين فقه النصوص ؟!! وما مناسبة النص مع الواقع ؟!!
3 - وهذا الآخر يأتى بما لم يأت به الأوائل ، نعم يأتى بما لم يأت به الأوائل ، وذلك لأن الأوائل كان يعيشون فقه الواقع ، وهذا يعيش فى برج عاجى لا يسمع ولا يرى ما يحدث .(1/123)
يقول : إن فلسطين أصبحت دار حرب وليست دار إسلام ، وبالتالى فإنه يجب على المسلمين تركها والهجرة إلى دار يستطيعون فيها التعبد لله عز وجل?،?ونحمد?الله?تعالى?أن?هذا?الفقيه?العظيم?لم?يوجد?أيام?المغول?والتتار?والصلبيين?،?وأيام?الاحتلال?المسمى???بالاستعمار???للبلاد?الإسلامية?،?وإلا?كان?واجبًا?على?المسلمين?وقتها?أن?يسلموا?ديارهم?للأعداء?لأنها?لم?تعد?دار?إسلام?،?ويذهبوا?إلى?الصحراء?القاحلة?، أو?يذهبوا?إلى?المغارات?والمفازات?حتى?يستطيعوا?إقامة?دار?الإسلام????
????الخلاف?الدائم?على?إخراج?زكاة?الفطر?نقودًا?بدلاً?من?الحبوب?يعكس?غيابًا?عن?الواقع?القديم?والحديث?،?يعكس?غيابًا?عن?مفهوم?الحبوب?قديمًا?وأنها?كانت?بمثابة?النقد?فى?التعامل?،?يعكس?غيابًا?عن?مقصد?الحديث?وفقه?النص???أغنوهم?عن?السؤال?فى?هذا?اليوم???وأن?المقصد?تحُقق?الإغناء?للفقراء?، ونحن?ندور?مع?المقصد?حيث?دار???
فالإغناء?قد?يتحقق?فى?بيئة?بالأطعمة?والحبوب?،?ولكنه?قد?لا?يتحقق?فى?بيئة?غيرها?إلا?بالنقود???والإصرار?فى?الصورة?الأخيرة?على?عدم?جواز?إخراجها?نقودًا?فيه?إضرار?بحق?الفقراء?وتضييع?لفقه?النص?ومقصد?الحديث??
????الخلاف?حول?قضية?الإسبال?يعكس?غيابًا?عن?الواقع?أيضًا?، غيابًا?عن?واقع?الإسبال?قديمًا?ودلالته?على?الغنى?والثراء?، وبه?يكون?الفخر?والخيلاء???
غيابًا?عن?واقع?الإسبال?الآن?ودلالته?على?البله?والسفه?وغياب?العقل??
غيابًا?عن?واقع?الحديث?ومفهوم?النص?وهو?النهى?عن?الخيلاء?بدلالة?الأحاديث?الكثيرة?????من?جر?ثوبه?خيلاء????????
وقوله?صلى الله عليه وسلم?لأبى?بكر???" إنك لست ممن يفعله خيلاء ... " .
غيابًا?عن?فقه?النص?وهو?تحريم?الكبر?بكل?أنواعه?وأشكاله?،?ولذلك?فالكبر?قد?يكون?مع?إطالة?الثوب?أو?مع?تقصيره?،?فأينما?وجد?الكبر?وجدت?الحرمة?ووجدت?العقوبة?حتى?مع?المقصر?ثوبه???(1/124)
هذا?هو?فهم?الواقع?الذى?نبحث?عنه?،?ولعلى?لا?أكون?مخطئًا?إن?قلت???إن?كثيرًا?من?أزمة?العمل?الإسلامى?اليوم?ناتجة?عن?عدم?فهم?الواقع?، مما?يجعل?فى?أحيان?كثيرة?الداعى?فى?وادى?والمدعو?فى?وادى?آخر??
يؤكد?هذا?ما?قاله?الأستاذ?عبد?السلام?ياسين?????من?لا?يعرف?واقع?المسلمين?،?ومنابع?الفتنة?فى?تاريخهم?،?وحاضرهم?فى?العالم?، وفهم?وطبيعة?الصراع?الدائر?بين?الإسلام?والصليبية?واليهودية?، لا?يستطيع?أن?ينزِّل?شرع?الله?على?الواقع????فالجهل?بالواقع?يؤدى?إلى?أن?يسود?الجمود والتحجر والانغلاق ، وأن تغيب سعة الإسلام ورحمته ، وتندثر مقاصده ، ومن ثم تُلغى شريعة الله جل جلاله?من جميع المجالات " الواقع فى ضوء الفكر الإسلامى - مجلة منار الإسلام - عدد 6 ؛ وانظر : فقه الواقع للأستاذ أحمد بوعود ، ص74 .
هذا وقد أرجع كثير من رواد الحركة الإسلامية ومفكروها سبب تأخرها إلى قصورها فى اعتبار الواقع وإغفالها له ، ويؤكد هذا الدكتور النجار حيث يقول ????ولكن أكثر ما كان يأتيها من فشل فى النتائج ، أو من ضمور فيها ، كان يأتيها من قصور فى تمثل الواقع الإنسانى ، الذى تهدف إلى إصلاحه ، وفى امتلاك تصور عميق لطبيعته ، ولعناصر تكوينه ، وعوامل تفاعلاته " راجع كتاب الواقع بين النظر والتطبيق ، على حسن .
وذلك أن الحركة الإسلامية تعاملت مع واقعها المعقد ، الطاغية فيه حضارة الغرب ، بميراث فقهى وفكرى صيغت منه أحكام لقضايا كانت تلح على الأسلاف .(1/125)
ويقول الدكتور الترابى : ??وقد بان لها ( أى الحركة الإسلامية ) الفقه الذى بين يديها ، مهما تفقه حملته بالاستنتاجات والاستخراجات ، ومهما دققوا فى الأنابيش والمراجعات ، لن يكون كافيًا لحاجات الدعوة وتطلع المخاطبين بها ، ذلك أن قطاعات واسعة من الحياة قد نشأت من جراء التطور المادى ، وهى تطرح قضايا جديدة تمامًا فى طبيعتها ، لم يتطرق إليها الفقه التقليدى ، لأن علاقات الحياة الاجتماعية وأوضاعها تبدلت تمامًا ، ولم تعد بعض صور الأحكام التى كانت تمثل الحق فى معيار الدين منذ ألف عام تحقق مقتضى الدين اليوم ، ولا توافى المقاصد التى يتوخاها ، ولأن الإمكانيات قد تبدلت وأسباب الحياة قد تطورت ، والنتائج التى تترتب على إمضاء حكم معين بصورته السالفة قد انقلبت انقلابًا تامًا " الترابى ، تجديد الفكر الإسلامى ، ص35?
وقد سبق للدكتور الترابى أن أوضح هذا فى حوار له مع الأستاذ عمر عبيد حسنه ، عندما كان يتكلم عن تجربة الحركة الإسلامية فى السودان ، حيث قال : ??????وهناك أمر آخر أيضًا ، وهو أننا لم نغفل عنصر الواقع إغفالاً تامًا فى تقديراتنا ، وليس الدين إلا محاولة للتوحيد بين النموذج الشرعى المثالى وبين البيئة المادية والاجتماعية الواقعة ، ولا يتم فقه الدين وعلمه إلا إذا تكامل علم الشرع المنقول بعلم الواقع الاجتماعى ، محليًا أو دوليًا ، ماديًا كان أو اجتماعيًا ، لأن حركة التدين تتأثر صيغتها النهائية بهذا الواقع الذى هو الإطار الذى ينصبه الله عز وجل?ابتلاء للعبد " عمر عبيد حسنه ، فقه الدعوة ، ملامح وآفاق ، 22/2 ??(1/126)
وتكلم الأستاذ كمال الحيدرى ??أستاذ الفلسفة الإسلامية فى الحوزة العلمية بقم ) عن تجربة التغيير فى إيران ، فقال ????أما عندما جئنا إلى الحكم الإسلامى وواجهنا مشاكل يجب أن نجيب عليها ، وجدنا ذلك الفقه الموجود بين أيدينا ، لا أقول لا يستطيع مطلقًا ، لكنه فى كثير من المواد لا يستطيع الإجابة على هذه المسائل ، لأنه صيغ فى ظروف محددة ولمتطلبات معينة?? كمال الحيدرى ، الثابت والمتغير فى الإسلام - مجلة النور - عدد 43 .
وفى ندوة نظمها المعهد العالمى للفكر الإسلامى ، قال الدكتور زقزوق : ??إن الحزب الإسلامى فى انجلترا وضع من أول أهدافه تطبيق الشريعة الإسلامية فى انجلترا " وعلق على هذا قائلاً : " هذا تعامل مع وهم ، وليس تعاملاً مع واقع على الإطلاق " ( سمنار : كيف نتعامل مع الواقع ؟ - مجلة المسلم المعاصر - العددان 75،76) .
نعم ، من يقرأ هذا الخبر يشعر بشدة الحماس تسرى فى عروقه ، فرحًا بتطبيق شرع الله جل جلاله?فى بلاد الكفر ، ولكن إذا تأمل لحظة وطرح على نفسه السؤال التالى : لماذا لم يطبق شرع الله جل جلاله?فى بلاد الإسلام منذ زمن ؟ وبأى وجه سيطبق فى بلاد الكفر ... ؟ فإنه يدرك أن هذا الهدف لم يسطر فى الأرض ، وإنما سطر فى الفضاء !
يقول الشيخ القرضاوى عن أمثال هؤلاء ??رأينا فقهاء الأوراق يقاتلون على أشياء يمكن التسامح فيها ، أو الاختلاف عليها ، أو تأجيلها إلى حين ، ويغفلون قضايا حيوية مصيرية ، تتعلق بالوجود الإسلامى كله ، وهؤلاء قوم قد لا ينقصهم الفقه ، ولئن جاز تسميتهم ) علماء ) فلا يجوز تسميتهم ??فقهاء ) لو كانوا يعلمون " ( عمر عبيد حسنه ، فقه الدعوة ، ملامح وآفاق ، 2/188) .
نماذج من مراعاة فقه الواقع :(1/127)
كما سبق –?وذكرت سابقًا –?فإن فقه الواقع لم يكن كمصطلح له تواجد فى التشريع الإسلامى ، إلا أنه كمعنى ومفهوم يُعتبر أصلاً أصيلاً فى الدعوة الإسلامية ، وها هى آيات القرآن وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم?وفعل الصحابة والسلف الصالح رضى الله?ينطق بذلك جهرة .
مكانة فقه الواقع فى القرآن
بالطبع لا أستطيع أن أقول إن هذه الآية دون غيرها تدل على فقه الواقع فى القرآن ، وذلك لأن القرآن نزل لهداية البشرية ، فهو يتناسب مع حالهم أين كانوا وأنى كانوا .
ومن هنا فالأمثلة التى سأذكرها هى على سبيل المثال لا على سبيل الحصر .
هذا وقد جمع الأستاذ أحمد بوعود بعضًا من هذه الأمثلة أذكر منها?( من فقه الواقع ، أحمد بوعود - كتاب الأمة) :
??–?المكى والمدنى :
وهو أول ما يسترعى انتباهنا عند قراءة كتاب الله جل جلاله ، وكلنا يعرف الفرق بين الوحى الذى كان ينزل بمكة وبين الذى كان ينزل بالمدينة ، اختلافًا فى الواقع الزمانى والمكانى .
ونكتفى للتوضيح بهذا المثال :
لم يفرض القتال على المسلمين إلا بعد الهجرة ، وعلى الرغم من إلحاح المسلمين وطلبهم الإذن بالقتال وهم فى مكة ، فإن القتال كان محظورًا .
فقد روى عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابًا له كانت أموالهم بمكة ، فقالوا : يا رسول الله كنا فى عز ومنعة ونحن مشركون ، فلما آمنا صرنا أذلاء ، فقال : " إنى أمرت بالعفو فلا نقاتل القوم " ( الجصاص ، أحكام القرآن ، 82/1) .
??–?لكل قوم هاد ، ولكل رسول قضية :
اختار الله جل جلاله?رسلاً لتبليغ دعوته من أفضل القوم ، وأمدهم بمميزات تؤهلهم لمقام النبوة ، يقول الله جل جلاله?????اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ ??(سورة الحج – الآية 75) .(1/128)
وقد سبقت الإشارة إلى أن الله جل جلاله?لم يبعث نبيًا –?فيما نعلم –?من أهل البادية لغلبة الجفاء والقسوة على أهل البدو ، ولأن أهل الأمصار والقرى أعقل وأحلم وأفضل وأعلم .
أ –?والله عز وجل?بعث الرسل لأقوامهم خاصة ، قبل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم?، يقول عز وجل?????وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ )( سورة الرعد - الآية 7) .
ويقول الله جل جلاله?????وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً )( سورة هود – الآية 50)??
ويقول عز وجل?????وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً ) سورة هود - الآية 84 ?، وقوله : ??وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً ? سورة هود – الآية 61 .
والمراد أخوهم فى النسب والقبيلة لا فى الدين ، لأن هودًا مثلاً كان رجلاً من قبيلة عاد .
ويقول الله تعالى : ??وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ? سورة إبراهيم – الآية 4.
ب –?والله عز وجل?لم يبعث رسولاً إلا لمعالجة قضية من قضايا الفساد والظلم ، ويصلح وضعًا من الأوضاع المنحرفة .
فأرسل شعيبًا عليه السلام?لإصلاح فساد سائد هو الفساد الاقتصادى ، إضافة إلى الدعوة إلى عبادة الله عز وجل?????وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ??وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ? سورة هود – الآية 84 ، 85 .(1/129)
دعا شعيب عليه السلام?قومه إلى عبادة الله جل جلاله?وتوحيده ، لكنه كرر عليهم مشكلة الفساد الاقتصادى أربع مرات : ??وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ? سورة هود – الآية 84 ??
وقوله : ??أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ? سورة هود - الآية 85?
وقوله : ??وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ ??
وقوله : ??وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ??
ولم يكن الله جل جلاله?ليهلك قومًا بالكفر وحده ، حتى ينضم إليه الفساد فى المعاملات والعلاقات الاجتماعية ، كما أهلك الله قوم شعيب بنقص المكيال والميزان ، وقوم لوط باللواط?(وهبة الزحيلى ، التفسير المنير ، 12/18) .
هكذا يخبرنا القرآن الكريم أن برنامج التغيير يكون بحسب ما فى الواقع من فساد أو انحراف ، حجمًا وكمًا وكيفًا?، ويتأكد لنا هذا فى قضية لوط عليه السلام?، وهى قضية فساد أخلاقى اجتماعى ، يقول الله عز وجل?????وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ??أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ??( سورة النمل – الآية 45 – 55)??
وموسى عليه السلام?بعث لإصلاح فساد سياسى وآخر اقتصادى?، إضافة إلى الشرك بالله جل جلاله??
فالفساد السياسى ممثل فى فرعون وملئه ??إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ??( سورة القصص – الآية 4) .(1/130)
والطغيان الاقتصادى ممثل فى قارون ، يقول الله جل جلاله?????إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ??وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآْخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ )( سورة القصص – الآية 76 ، 77) .
جـ – واختار الله العرب لحمل شريعة الإسلام خاتمة الرسالات إلى سائر المخاطبين بها ، لأنهم يومئذ امتازوا من بين الأمم باجتماع صفات أربع لم تجتمع فى التاريخ لأمة من الأمم ، وتلك هى :
* جودة الأذهان .
* وقوة الحوافظ .
* وبساطة الحضارة والتشريع .
* والبعد عن الاختلاط ببقية أمم العالم (ابن عاشور ، مقاصد الشرعية الإسلامية ، ص89) .
فى القرآن الكريم جزء عظيم للقصص ، تتنوع من قصص الأنبياء وقصص الأمم السالفة ، وحوادث مواكبة للدعوة الإسلامية ، ولم يقصها علينا القرآن الكريم من أجل التسلى والاستئناس ، ولكن من أجل التفكر وأخذ العبر ، كما يقول تعالى : ??فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )( سورة الأعراف – الآية 176) .(1/131)
وللقصص أثر بالغ فى النفوس ، تعوض عن الكثير من الكلام إذ هى واقع حى مماثل يستعرضه علينا القرآن وكأننا نشاهده ؛ يقول تعالى : ??وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ )( سورة هود – الآية 119) ، قال الدكتور وهبة الزحيلى عند تفسيره لهذه الآية ????فى إيراد قصص الأنبياء وما كابدوه من مشاق من أجل دعوتهم تسلية للنبى?صلى الله عليه وسلم?، وتثبيت له على أداء الرسالة والصبر على ما يناله فيها من الأذى .. وفيها بما تضمنته من بيان ما هو الحق واليقين عظة وعبرة وذكرى لكل مؤمن . والموعظة ما يتعظ به من إهلاك الأمم الماضية ، والذكرى تذكر المؤمنين ما نزل بمن هلك فيتوبون ، وخص الله تعالى المؤمنين لأنهم المتعظون إذا سمعوا قصص الأنبياء "( الزحيلى ، التفسير المنير ، 12/186) .
وينقل لنا القرآن الكريم واقع الأمم السابقة ، حتى نعرف أسباب الهلاك فنتجنبها وأسباب النجاة فنتبعها ، يقول الله عز وجل?????وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ??فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ??فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ??فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )( سورة الأنعام – الآية 42 – 45) ، فمن رحمه الله تعالى بعباده تذكيره بأحوال الأمم السابقة للعبرة والعظة (الزحيلى ، التفسير المنير ، 7/201) .(1/132)
ويقول جل جلاله?????ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ ??وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ??وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ??إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآْخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ??(سورة هود – الآية 100 – 103) .
والقرآن الكريم عندما يقص علينا قصة ، فإننا نجد أثناء القصة عبارات من مثل قوله : ??كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ??( سورة الأعراف – الآية 101)?، ??وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ ??( سورة الأعراف – الآية 101)?، ??قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ??( سورة النمل - الآية 69) ، وذلك تذكير للناس إن هم اتبعوا طريق تلك القرى والأمم السابقة ، وكانوا فى واقع مثل واقعهم ، فإنهم سيلقون حتمًا نفس المصير .
فمن القصص القرآنى نكتشف سنن السير فى هذا الكون ومناهج التعامل مع نعم الله جل جلاله?يقول عز وجل?????قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ )( سورة آل عمران – الآية 137) .
فمشيئة الله تسير على نظم ثابتة وسنن حكيمة ترتبط فيها الأسباب بالمسببات ، والمقدمات بالنتائج ، وإن كان الله قادرًا على كل شىء .. وتلك السنة فى الماضين واللاحقين هى أن من سار على منهاج الطائعين المؤمنين الموفقين حظى بالسعادة والنصر والفلاح ، ومن سار فى طريق العصاة المكذبين كانت عاقبته خسرانًا ودمارًا وهلاكًا ...(1/133)
ومن سار فى الأرض ، وتعقب أحوال الأمم ، وتدبر التاريخ وعرف الأخبار ، يجد مصداق تلك السنة الإلهية الثابتة ، وهى الفوز لمن أحسن ، والخيبة لمن أساء?(الزحيلى ، التفسير المنير ، 4/89)?، يقول الله عز وجل?????وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ??ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ )( سورة الأعراف – الآية 94 ، 95) .
الحلم والإمهال من خصائص صنع الله وسنته الدائمة فى خلقه ، لكى يتعظوا بالأحداث ، ويصححوا مسيرتهم فى الحياة ، ويقلعوا عما هم عليه من معاص وموبقات .. والابتلاء يكون بالشر وبالخير ، كما قال الله تعالى : ??وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ??( سورة الأنبياء – الآية 35)????والعاقل المفكر المتدبر أحوال الماضى وتقلبات المستقبل هو الذى يستفيد من دروس الحياة ، قال الله?عز وجل?????وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ??( سورة الأعراف – الآية 168) .
3 – تقرير أحوال صالحة :
يقول ابن عاشور : " إن للتشريع مقامين :
- المقام الأول : تغيير الأحوال الفاسدة وإعلان فسادها ، هذا المقام هو المشار إليه بقوله تعالى : ??اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ??( سورة البقرة- الآية 257) ، وقوله تعالى : ??وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ??(سورة المائدة – الآية 16) .(1/134)
- المقام الثانى : تقرير أحوال صالحة قد اتبعها الناس ، وهى الأحوال المعبر عنها بالمعروف فى قوله عز وجل?????يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ??( سورة الأعراف – الآية 157 ؛ الزحيلى ، التفسير المنير ، 3/16) " .
فما كان صالحًا من الأحوال لم يلغه القرآن ، بل أبقى عليه ما دام لا يعارض مبادئ الإسلام ومصلحة المسلمين ، كالطواف والسعى ، أما ما كان مناقضًا لذلك فالإسلام ألغاه أو عدله حتى يصبح وفق الإسلام ، كتعدد الزوجات وعقوبة القاتل .
وكغيره من الأحكام أحال القرآن الحكم والتقدير فيها للعرف ، والمعروف بين الناس ، وذلك لحساسيتها وخطورتها ... والعرف ما تألفه الطباع السليمة ويستحسنه العقلاء ، يقول الدكتور وهبة الزحيلى : " ولا يذكر المعروف فى القرآن إلا فى الأحكام المهمة ، مثل قوله تعالى فى وصف الأمة الإسلامية : ??وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ??( سورة آل عمران – الآية 104) ، وفى تبيان الحقوق الزوجية : ??وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ )( سورة البقرة – الآية 228) ، وفى الحفاظ على رباط الزوجية قوله : ??فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ )( سورة البقرة – الآية 229) "( الزحيلى ، التفسير المنير ، 4/299) .
وقد شرع الله جل جلاله?لنبيه صلى الله عليه وسلم?الأمر بالعرف فى قوله تعالى : ??خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ??(سورة الأعراف – الآية 199) ، ومن هنا اعتبر العرف سبيلاً لمعرفة الحكم ، وعده بعض الأصوليين مصدرًا من مصادر التشريع الإسلامى ما لم يخالف نصًا .(1/135)
وكما بدأنا مع ابن عاشور نختم معه ، إذ يقول : " وأكثر ما يحتاج إليه فى مقام التقرير هو الحكم بالإباحة ، لإبطال غلو المتغالين بحملهم على مستوى السواد الأعظم من البشر الصالح ، كما قال تعالى : ??وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ??( سورة الأعراف – الآية 157) ، فإن الطيبات تناولها الناس ، وشذ فيها بعض الأمم وبعض القبائل ، فحرموا على أنفسهم طيبات كثيرة "( ابن عاشور ، مقاصد الشريعة الإسلامية ، ص130) .
4 – الوفاء بحاجات الناس :
نشير بدءا إلى أن أحكام القرآن إنما نزلت بأسبابها ، ولم تنزل ابتداء إلا القليل جدًا . وفى هذا دليل على أن القرآن الكريم كان ينزل بحسب حاجات الناس ومتطلباتهم ، أى بحسب واقعهم ، لذا نجد كثيرًا من الآيات تبدأ بعبارات مثل ??وَيَسْأَلونَكَ ??أو ??وَيَسْتَفْتُونَكَ ?????وهى إجابات عن أسئلة كان يطرحها الناس ، وكانت تشغلهم ، فينزل القرآن مجيبًا ومقومًا ومصلحًا وموجهًا من ذلك قوله جل جلاله?????يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا )( سورة البقرة - الآية 219)??
وسبب نزول هذه الآية أن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفرا من الأنصار أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم?فقالوا : أفتنا فى الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل ، مسلبة للمال ، فأنزل الله جل جلاله?هذه الآية (ابن حبان ، البحر المحيط 2/156 ، نقلاً عن الزحيلى ، التفسير المنير 2/270) .(1/136)
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى : ??وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ )( سورة النساء – الآية 127) " (صحيح البخارى بشرح فتح البارى ، 4600) .
فقد أخرج البخارى أن عائشة صلى الله عليه وسلم?قالت : هو الرجل تكون عنده اليتيمة وهو وليها ووارثها فأشركته فى ماله حتى فى العَذْق ، فيرغب أن ينكحها ، ويكره أن يزوجها آخر فيشركه فى ماله بما شركته ، فيعضلها –?يمنعها عن الزواج –?فنزلت الآية .
والأمثلة فى كتاب الله كثيرة ، منها قوله جل جلاله?????وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ??( سورة البقرة – الآية 219) ، وقوله الله :???يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ )( سورة البقرة – الآية 222) ، وغير ذلك من الآيات .
والقرآن عندما يعطينا حكمًا ما فإنه يترك مجالاً للحالات الاستثنائية التى تعرض للإنسان .
فالإنسان فى حالة الاضطرار يباح له أكل الميتة وتناول المحرم ، يقول تعالى : ??يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ??إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ??(سورة البقرة – الآية 172 ، 173) .(1/137)
والمضطر فى رأى الجمهور هو من ألجأه الجوع إلى الأكل ، وأضيف إليه عند بعضهم من أكره على أكل الحرام ، كالرجل يأخذه العدو فيكرهونه على أكل لحم الخنزير ، وغيره من معصية الله تعالى (التفسير المنير ، 2/87) .
وليس أكل الميتة عند الضرورة رخصة ، بل هو عزيمة واجبة ، ولو امتنع من أكل الميتة كان عاصيًا (الجصاص ، أحكام القرآن 1/24) ، وهذا مراعاة للنفس البشرية وأحوالها ، والتيسير عليها ، ورفع الحرج عنها ، مصداقًا لقول الله تعالى : ??مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ??( سورة المائدة – الآية 6)?،
وقول الله جل جلاله?????يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً ??( سورة النساء – الآية 28)?، وقوله : ???لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا )( سورة البقرة – الآية 286) .
مكانة فقه الواقع فى المنهاج النبوى
إن الله جل جلاله?خاطب نبيه بالقرآن ، وكانت مهمته التبليغ والتبيين لما جاء فى الكتاب العزيز ، وكان عليه الصلاة والسلام قرآنًا يمشى على الأرض ، لما كان يتمتع به من صفات قرآنية عليا ، فكانت سيرته منهاجًا واقعيًا .
وقد رأينا مكانة الواقع فى القرآن الكريم ، ونبحث الآن فى السيرة النبوية عن بعض مظاهر تقدير الواقع ، لتكون لنا منارًا نستضئ به فى صحوتنا المباركة ، ذلك أن ??العودة إلى بعض مراحل السيرة فيما قبل مرحلة الاكتمال والكمال للمجتمع القدوة ، ومحاولة الاستفادة بها لحل المشكلات المشابهة ، من واقع المجتمع واستطاعته ، لا تعنى هنا النكوص والتراجع ، بمقدار ما تعنى المراجعة للواقع وظروفه واستطاعته ومحاولة تحضيره ، والنهوض به فى ضوء الرؤية الشاملة لمسيرة مجتمع القدوة "?(عمر عبيد حسنه فى تقديمه : " المنهج النبوى فى التغيير الحضارى " ، لبرغوث عبد العزيز بن مبارك ، ص11) .(1/138)
وسيرة النبى صلى الله عليه وسلم?خصبة بمظاهر التعامل مع الواقع واعتباره ، ذلك أنها التطبيق الفعلى للقرآن الكريم . وسنبين هنا وجهين لمظاهر الواقع ، يتمثل الأول فى الإجابات المختلفة عن السؤال الواحد الذى كان يوجه للنبى صلى الله عليه وسلم?من سائلين مختلفين .. ويتمثل الوجه الثانى فى صور التعامل مع الواقع فى السيرة النبوية الشريفة .
أجوبة متعددة وسؤال واحد :
إن المتتبع لكلام النبى صلى الله عليه وسلم?يجد أجوبة متعددة للسؤال الواحد ، نظرًا لتعدد السائلين واختلاف أحوالهم .
مثلاً : عندما سئل النبى صلى الله عليه وسلم???أى الأعمال أفضل ؟ نجد أجوبة متعددة ، حتى يخيل إلينا أن هناك تناقضًا . وكذلك عندما سئل : أى الناس أفضل ؟ وحين يقال له : أوصنى . أو طُلب منه عمل ينتفع به ، وغير ذلك .
نعم ، يخيل إلى من يسمع أجوبته وتوجيهاته المختلفة أن هناك تناقضًا –?كما سنرى –?ولا يصح أن يكون التناقض فى رسالة ربانية إلهية هى خاتمة الرسالات ، فإذا وضعنا فى اعتبارنا اختلاف أحوال السائلين زال ما قد يتوهم من تناقض ، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم?أفقه الدعاة بواقع الناس وأحوالهم .
أ –?علمنى شيئًا أقوله :
صحابة كثر جاؤا إلى النبى صلى الله عليه وسلم?يسألونه : علمنا شيئًا نقوله ، أو : قل لنا قولاً .. فيجيب أجوبة مختلفة .
فهذا فروة بن نوفل صلى الله عليه وسلم?أتى النبى صلى الله عليه وسلم?فقال :
يا رسول الله ، علمنى شيئًا أقوله إذا أويت إلى فراشى ، فقال : «?إذا أخذت مضجعك من الليل فاقرأ :???قل يا أيها الكافرون ??، فإنها براءة من الشرك »??(1/139)
وعن أبى هريرة?صلى الله عليه وسلم أن أبا بكر?صلى الله عليه وسلم?سأل رسول الله?صلى الله عليه وسلم?فقال : مرنى بكلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت ، فقال :?«?قل اللهم فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، رب كل شىء ومليكه ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أعوذ بك من شر نفسى وشر الشيطان وشركه »?(صحيح مسلم بشرح النووى - كتاب الدعاء - باب ما قالوا فى الرجل إذا أخذ مضجعه وأوى إلى فراشه ما يدعو به - شعب الإيمان ، 2520) .
فانظر كيف اختلف الأمر بين الإيجاز والإطالة ، وكيف اختلف المضمون ! وما كان ذلك عبثًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم??
وعن سعد بن أبى وقاص صلى الله عليه وسلم?أن أعربيًا قال للنبى صلى الله عليه وسلم???علمنى دعاء لعل الله ينفعنى به ، قال : «?قل : اللهم لك الحمد ولك الشكر كله ، وإليك يرجع الأمر كله »?(المستدرك للحاكم ، 1892 " قال فى التخليص : صحيح " ، 1/694) .
ولعل الاختلاف واضح بين هذا الحديث وما سبق ، فما سبق كان خاصًا عند الاضطجاع ، وهذا عام .. لذا اختلف عن سابقيه ، فهو يختلف كذلك عن إجابته صلى الله عليه وسلم?على من جاء يسأله أن يعلمه دعاء جامعًا يدعو به ، فقال له : «?قل اللهم إنى أسألك باسمك الطاهر المبارك الأحب إليك ، الذى إذا دعيت به أجبت ، وإذا سئلت به أعطيت ، وإذا استرحمت به رحمت ، وإذا استفرجت به فرجت »?( سنن ابن ماجة ، 3859) .
وإذا كان هؤلاء الصحابة رضى الله?يسألون النبى صلى الله عليه وسلم?أن يعلمهم قولاً ودعاءً ، فيقول لهم ما سمعنا ، فإن سفيان بن عبد الله الثقفى صلى الله عليه وسلم?، قال : قلت يا رسول الله قل لى فى الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا بعدك ، فقال : «?قل : آمنت بالله ، ثم استقم »( صحيح مسلم بشرح النووى - باب جامع أوصاف الإسلام ، 8/2 ؛ مسند الإمام أحمد " 19448 ، 15416 ، 15417 " ؛ سنن ابن ماجة ، 3972) .(1/140)
إن رسول الله كان واعيًا بطبيعة الاختلاف من شخص إلى آخر ، ومن حال إلى آخر بفراسته صلى الله عليه وسلم????كان يدرى أى أمر يصلح لهذا ، وأى كلام يناسب ذاك .. وما يوضح لنا هذا أكثر ما قاله صلى الله عليه وسلم?لمريض عاده : «?هل كنت تدعو الله بشىء أو ، تسأله إياه ؟ قال : نعم ، كنت أقول : اللهم ما كنت معاقبنى به فى الآخرة فعجله لى فى الدنيا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم???سبحان الله ، لا تطيقه [ أو : لا تستطيعه ] أفلا قلت : اللهم ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .. فدعا الله له فشفاه »?(صحيح مسلم بشرح النووى - باب كراهة الدعاء بتعجيل العقوبة فى الدنيا ، 17/13) .
ب –?أى المسلمين خير ؟
سئل النبى عدة مرات عن أى المسلمين خير ؟ وأى المؤمنين أفضل ؟ فاختلفت الأجوبة باختلاف السائلين والمناسبات والأحوال . فقد سأل رجل النبى : أى المسلمين خير ؟ قال : «?خير المسلمين من سلم المسلمون من لسانه ويده »?(صحيح البخارى بشرح فتح البارى ، 11 ؛ صحيح مسلم بشرح النووى - باب بيان تفاضل الإسلام ، 2/10) .
كما سئل النبى صلى الله عليه وسلم?أيضًا : أى الناس أفضل ؟ فقال : «?رجل يجاهد فى سبيل الله بماله ونفسه ، قال : ثم من ؟ قال : مؤمن فى شعب من الشعاب يعبد الله ربه ويدع الناس من شره »?(شعب الإيمان ، البيهقى ، 9714)??
فانظر كيف اختلف الجواب من مؤمن يجاهد فى سبيل الله بماله ونفسه ، ومؤمن فى شعب من الشعاب ، إلى من سلم المسلمون من لسانه ويده .
جـ–?أى الجهاد أفضل ؟(1/141)
عن أبى أمامة الباهلى صلى الله عليه وسلم?قال : " أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم?وهو يرمى الجمرة ، فقال : يا رسول الله ، أى الجهاد أحب إلى الله جل جلاله?؟ فسكت عنه حتى إذا رمى الجمرة الثانية عرض له فقال : يا رسول الله ، أى الجهاد أحب إلى الله جل جلاله?؟ قال : فسكت عنه ، ثم مضى رسول الله حتى إذا اعترض فى الجمرة الثالثة عرض له فقال : يا رسول الله ، أى الجهاد أحب إلى الله جل جلاله?؟ قال : «?كلمة حق تقال لإمام جائر »?(مسند الإمام أحمد ، 2222 ؛ شعب الإيمان ، البيهقى " 7581 ، 9424) .
فالجهاد ليس سيفًا فقط ، بل يكون أيضًا كلمة تقال لسلطان جائر ليكف عن جوره .
ويذكر هذا الحديث بحديث آخر عن عائشة رضى الله عنها?، قالت : يا رسول الله ، نرى الجهاد أفضل العمل ، أو لا نجاهد ؟ قال : «?لكن أفضل الجهاد حج مبرور » ( صحيح البخارى بشرح الفتح ، " 1520 ، 1861) .
انظر كيف راعى النبى صلى الله عليه وسلم?حال كل سائل .
د –?أوصنى :
تعدد الناس الذين أتوا النبى صلى الله عليه وسلم?يسألونه الوصايا : أوصنى ، فتعددت وصاياه بتعدد أحوالهم وأشخاصهم .
فعن معاذ بن جبل صلى الله عليه وسلم?قال : أردت سفرًا فقلت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم?أوصنى ، فقال : «?اعبد الله ولا تشرك به شيئًا ، واعمل لله كأنك تراه ، واعدد نفسك فى الموتى ، واذكر الله عند كل حجر وكل شجر ، وإذا عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة ، السر بالسر ، والعلانية بالعلانية » شعب الإيمان ، البيهقى ، " 548 " ??(1/142)
وكان معاذ رضى الله عنه ?قد طلب وصية عندما بعثه –?رسول الله صلى الله عليه وسلم?إلى اليمن ، فقال له : «?أخلص دينك يكفك القليل من العمل »?(شعب الإيمان البيهقى ، " 6859 ")???فربما كان معاذ ، وهو عامل فى اليمن ، يقضى حوائج الناس ، لا يجد الوقت الكثير للاستغراق فى العبادة وقضاء الوقت كله متنفلاً متبتلاً ، فأمره النبى صلى الله عليه وسلم?بالإخلاص حيث يكفيه القليل من العمل ...
وهذه الوصية تختلف عن سابقتها ..
وقال رجل للنبى صلى الله عليه وسلم???أريد السفر ، فأوصنى ، فقال : «?أوصيك بتقوى الله تعالى والتكبير على كل شرف »?) مسند الإمام أحمد ، " 8318 ، 8393 ، 973 " ؛ سنن ابن ماجة ، " 2771 " ؛ الحاكم المستدرك ، " 2481 ، 1633 ") .
اختلفت الوصية فى السفر بتعدد أسفار الشخص الواحد ، واختلفت كذلك باختلاف الشخصين فى الموضوع الواحد ، وهو السفر كما رأينا .
وقال حرملة رضى الله عنه ???أتيت النبى صلى الله عليه وسلم?فى ركب من الحى فصلى بنا صلاة الصبح ، فجعلت أنظر إلى الذى يحبنى ولا أكاد أعرفه من الغلس ، فلما أردت الرجوع ، قلت : أوصنى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم?قال : «?اتق الله ، وإذا كنت فى مجلس فقمت فسمعتهم يقولون ما يعجبك فائته ، وإذا سمعتهم يقولون ما تكره فاتركه »?(مسند الإمام أحمد ، " 18745 " ؛ شعب الإيمان ، البيهقى ، " 9451 ") .
وعن سعيد بن يزيد بن الأزور الأزدى رضى الله عنه ?قال : قلت للنبى صلى الله عليه وسلم???أوصنى ، فقال ????أوصيك باتقاء الله ، وأن تستحى من الله كما تستحى من الرجل الصالح من قومك "?(شعب الإيمان ، البيهقى " 7738 " ، قال الهيثمى : " رجاله وثقوا على ضعف فيهم " " ابن حمزة ، البيان ، التعريف 1/306 ") .
وصايا مختلفة لأناس مختلفين ، لكل ما يناسب أحواله وأوضاعه .. إنها دعوة الإسلام ، وإنه نبى الرحمة .. صيدلية واحدة بها أدوية متنوعة لكل الناس فى مختلف الأحوال !(1/143)
??–?صور من تقدير الواقع فى الهدى النبوى :
فى سيرة النبى صلى الله عليه وسلم?السمات الأساسية للدعوة الإسلامية ومنهاجها الواضح ، إذا ما درسناها وتعمقنا فى فهمها استخلصنا فقهًا واقعيًا ينير لنا سبيل الدعوة فى هذا العصر .
ولقد لاحظنا فيما سبق كيف كانت أجوبة النبى صلى الله عليه وسلم?تختلف من شخص إلى آخر ، ومن حالة إلى أخرى ، ومن وضع إلى آخر . ومن قبل رأينا كيف اهتم القرآن بواقع الناس ، فتبينت بذلك رحمة الإسلام وسعته وصلاحيته لكل زمان ومكان .
ومن يستعرض السيرة النبوية الشريفة يجد النبى صلى الله عليه وسلم?يخاطب الناس حسب أفهامهم ، ويعاملهم ويخاطبهم حسب قدراتهم ، كما كان يراعى أحوالهم فى المنشط والمكره ، ويعتبر حاجاتهم ويرأف بهم وييسر عليهم ويرفع عنهم الحرج .. إنها ملامح أساسية للدعوة النبوية ، نعرض بعضًا منها لاستخلاص العبر والحكم ، لتكون بذلك منهاجًا واقعيًا واسعًا شاملاً وكاملاً للدعوة إلى الله جل جلاله??
أ –?مخاطبة الناس حسب الأفهام ودرجات الوعى :
كان النبى صلى الله عليه وسلم?أدرى بأفهام الناس ودرجات وعيهم ، ومن ثم كان يخاطبهم بحسبها ، وهذا موافق لما أخرجه البخارى موقوفًا على علىّ رضى الله عنه??????حدثوا الناس بما يفهمون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله " ( صحيح البخارى بفتح البارى ، " 127 ")???ويتضح هذا مما يلى :
عن ابن عمر رضى الله عنه??قال : قال رجل : يا رسول الله ، حدثنى بحديث واجعله موجزًا فقال صلى الله عليه وسلم???«?صل صلاة مودع ، فإن كنت لا تراه ، فإنه يراك ، وإياك مما فى أيدى الناس تعش غنيًا ، وإياك وما يعتذر منه »?(الطبرانى الأوسط ، " 4424 ") .
فالرجل يطلب من النبى صلى الله عليه وسلم?حديثًا ولكن موجزًا ، ويراعى صلى الله عليه وسلم?قدرة الرجل على الاستيعاب فلا يزده على ثلاث جمل .(1/144)
وجاء أعرابى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم?فقال : علمنى كلامًا أقوله ، قال : «?قل : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، الله أكبر كبيرًا ، والحمد لله كثيرًا ، سبحان الله رب العالمين ، لا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم .. فقال : هؤلاء لربى فمالى ؟ قال : قل : اللهم اغفر لى وارحمنى واهدنى وارزقنى وعافنى »?(صحيح مسلم بشرح النووى - باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء ، " 17/19 ") .
فانظر إلى الأعرابى ، وهو المعروف بالطبع الحاد والفهم الساذج والانفعال السريع ، يقول : هذا لربى ، فما لى ؟ والنبى صلى الله عليه وسلم لم يعنفه ، بل علمه دعاء وقدر فهمه ، فلا يمكنه أن يعلمه ما لا يطيق ، أو ما يسبب له حنقًا وغضبًا على الإسلام .
وإذ أتكلم عن هذا الأعرابى ، أتذكر الأعرابى الآخر الذى تبول فى المسجد ، وأتذكر تلك المعاملة اللطيفة التى عامله بها صلى الله عليه وسلم??
وهذا يزيد بن سلمة رضى الله عنه??قال : يا رسول الله ، إنى قد سمعت منك حديثًا كثيرًا أخاف أن ينسينى أوله آخره ، فحدثنى بكلمة تكون جماعًا ، فقال : «?اتق الله فيما تعلم »?(سنن الترمذى ، " 3683 ")??
فيزيد بن سلمة يريد كلمة جامعة تغنيه عن تذكر واستحضار ما سبق ، حتى إن نسيه كفته ، ويجيبه النبى صلى الله عليه وسلم?بأنه غير مجبر على ما لا يعلم وما قد نسى ، وذلك بقوله : «?اتق الله فيما تعلم »?، وكم هو موجز هذا الكلام ! وكم هو بليغ !
ب –?مخاطبة الناس حسب قدراتهم :
عن أم هانئ رضى الله عنها?، قالت : " أتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم?فقلت : يا رسول الله دلنى على عمل فإنى كبرت وضعفت فقال : «?كبرى الله مائة مرة ، واحمدى الله مائة مرة ، وسبحى الله مائة مرة ، خير من مائة فرس ملجم مسرج فى سبيل الله ، وخير من مائة بدنة ، وخير من مائة رقبة »?( سنن ابن ماجة ، " 3810 " ؛ شعب الإيمان ، البيهقى ، " 621 ") .(1/145)
ولعل هذا الحديث غنى عن كل تعليق ، امرأة كبيرة وضعيفة ، لم تعد تقوى على أعمال البر ، والرسول صلى الله عليه وسلم?يصف لها ما يناسب كبرها وضعفها ، وما هو خير لها من مائة فرس ملجم فى سبيل الله ، وخير من مائة بدنة ، وخير من مائة رقبة .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضى الله?، قال : كنا عند النبى صلى الله عليه وسلم?فجاء شاب فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم?، أقبل وأنا صائم ؟ قال : لا ، فجاء شيخ فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم?، أقبل وأنا صائم ؟ قال : نعم ، فنظر بعضنا إلى بعض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ??«?قد علمت نظر بعضكم إلى بعض ، إن الشيخ يملك نفسه »?(مسند الإمام أحمد ، " 6751 – 7074 ")?، وقدرة الشيخ ليست هى قدرة الشاب .
وعن عائشة رضى الله عنها?قالت : يا رسول الله ، نرى الجهاد أفضل العمل ؛ أو لا نجاهد ؟ قال : «?لكُنَّ أفضل الجهاد حج مبرور »?(سبق تخريجه)?، فالمرأة لم تحرم الجهاد ثوابًا وأجرًا ، فالحج بالنسبة لها أفضل الجهاد .
نعم ، صدق الله عز وجل?حيث قال : ??لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ??(سورة التوبة – الآية 128)
وقال كعب صلى الله عليه وسلم???لما نزلت : ??وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ??(سورة الشعراء – الآية 224)?، أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم?، فقلت : ما ترى فى الشعر ؟ قال : «?إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه »?(مسند الإمام أحمد ، " 15785 ") .
فانظر أخى كيف تعددت صور الجهاد بتعدد قدرات المخاطب ومؤهلاته !(1/146)
وعن أبى ذر الغفارى صلى الله عليه وسلم?، أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم?، قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم???ذهب أهل الدثور بالأجور ، يصلون كما نصلى ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون بفضول أموالهم ، فقال : «?أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون ؟ إن بكل تسبيحة صدقة ، وكل تكبيرة صدقة ، وكل تحميدة صدقة ، وكل تهليلة صدقة ، وأمر بالمعروف صدقة ، ونهى عن منكر صدقة ، وفى بضع أحدكم صدقة »?، فقالوا : يا رسول الله ، أيأتى أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ قال صلى الله عليه وسلم???«?أرأيتم لو وضعها فى حرام أكان عليه فيها وزر ؟ فكذلك إذا وضعها فى الحلال كان له أجر »?(أخرجه مسلم - باب الزكاة) .
فهؤلاء لا يملكون ما يتصدقون به ، وأهل الدثور يعملون الأعمال نفسها ويفوقونهم بصدقاتهم ومن ثم يفوقونهم فى الأجر ، والنبى صلى الله عليه وسلم?مراعاة لقدراتهم يذكرهم بأعمال بسيطة فى قدرها ، عظيمة فى ثوابها بمثابة ثواب الصدقة .
جـ–?مراعاة أحوال الناس فى المنشط والمكره :
وكما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم?يخاطب الناس ويعاملهم حسب أفهامهم وقدراتهم ، كان أيضًا يراعى أحوالهم فى المنشط والمكره ، فى الشدة والرخاء ، فيقينًا أن ما لا يصلح للإنسان فى الرخاء قد يصلح له عند الشدة ، وقد رأينا أمثلة من هذا فى بعض التشريعات القرآنية .
من ذلك : منع النبى صلى الله عليه وسلم?إقامة حد السرقة فى الحرب حفاظًا على موقع المسلمين وقوتهم .
فقد أتى بسر بن أرطاة بسارق يقال له مصدر ، قد سرق –?وكان?ذلك فى الغزو –?فقال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم?يقول : «?لا تقص الأيدى فى السفر ، ولولا ذلك لقطعته »?(أخرجه أبو داود - كتاب الحدود - باب السارق يسرق فى الغزو ، أيقطع ؟) .(1/147)
قال العزيزى فى شرح الجامع الصغير : قوله : فى السفر ، أى سفر الغزو ، مخافة أن يلحق المقطوع بالعدو ، فإذا رجعوا قطع ، وبه قال الأوزاعى?(عون المعبود شرح أبى داود ، 12/28) .
واحتلم على عهد النبى صلى الله عليه وسلم?رجل فأمر بالاغتسال ، فاغتسل ، وكان مصابًا بجرح فمات ، وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم?فقال : «?قتلوه قتلهم الله ، ألم يكن شفاء العى السؤال ! »?(مسند الإمام أحمد ، " 3057 " ؛ سنن ابن ماجة ، " 577 " ، قال فى الزوائد : " إسناده منقطع ") .
وعن أبى هريرة صلى الله عليه وسلم?قال : " مات ميت فى آل رسول الله صلى الله عليه وسلم?، فقام عمر ينهاهن ويطردهن ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم???«?دعهن يا عمر ، فإن العين دامعة ، والقلب مصاب ، والعهد قريب »?(مسند الإمام أحمد ، " 7695 ، 8409 ، 9737 " ؛ سنن ابن ماجه ، " 1587 " ؛ معرفة السنن ، البيهقى " 7780 ")???فالرسول صلى الله عليه وسلم?قدر الحالة النفسية للنساء، والمصيبة التى حلت، فطلب من عمر صلى الله عليه وسلم?أن يتركهن وشأنهن .
كما يعلمنا عليه الصلاة والسلام?أن نقدر حالة المسلم فى مرضه ، عندما عاد مريضًا فقال له : " ما تشتهى ؟ قال : اشتهى خبز بر ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم???«?من كان عنده خبز بر فليبعث إلى أخيه »?، ثم قال النبى صلى الله عليه وسلم???«?إذا اشتهى مريض أحدكم شيئًا فليطعمه »?(سنن ابن ماجه ، " 1439 ، 3440 ") .
د –?اعتبار حاجات الناس والرأفة بهم :
جاء الإسلام رحمة للعالمين ، يلبى حاجات الناس ما دامت لا تخالف الشرع .. ورأينا فى ذلك أمثلة من القرآن الكريم ، ونعرض هنا أمثلة من السنة الشريفة .
- كان النبى صلى الله عليه وسلم?يأمر الناس أن يؤدوا زكاة الفطر قبل أن يخرجوا إلى المصلى ، وقال : «?أغنوهم عن السؤال ... ?»?(ابن رشد ، بداية المجتهد ونهاية المقتصد ، " 1/281 ") .(1/148)
انظر كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم?فى توجيهاته يراعى حاجات الناس ومتطلباتهم ، ولا يخرج عنها .. وهنا قدر حاجة الضعفاء بأمر المسلمين تأدية صدقة الفطر أول يوم العيد ، حتى يتحقق الإغناء ، فلا يطوفوا فى الأزقة والأسواق لطلب المعاش?(الصنعانى ، سبل السلام " 2/282 ") .
وعن جابر بن عبد الله قال : أقبل رجلٌ بناضحين وقد جنح الليل فوافق معاذًا أن يصلى ، فترك ناضحه وأقبل إلى معاذ ، فقرأ بسورة البقرة أو النساء ، فانطلق الرجل وبلغه أن معاذًا نال منه ، فأتى النبى صلى الله عليه وسلم?فشكا إليه معاذًا ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم???«?يا معاذ أفتان أنت [ أو : أفاتن ثلاث مرات ] فلولا صليت بسبح اسم ربك والشمس وضحاها والليل إذا يغشى ، فإنه يصلى وراءك الكبير والضعيف وذو الحاجة »?(أخرجه البخارى) .
وفى رواية أخرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم?قال : «?إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف ، فإن فيهم الضعيف والسقيم ، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطول ما شاء »?(أخرجه البخارى بشرح الفتح ، " 703 ") .
- فالرسول صلى الله عليه وسلم?يحث على طلب الرأفة بأصحاب الحالات الخاصة , بالصغير والكبير والضعيف والسقيم وذي الحاجة ... ?إنها رحمة الإسلام وسعته .. واقرأ معي هذا الحديث تتضح لك واحدة من أسمى سمات الإسلام .(1/149)
فعن أبى هريرة صلى الله عليه وسلم?قال : " جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم?فقال : " هلكت يا رسول الله " ، فقال : «?وما أهلكك »?؟ قال : وقعت على امرأتى فى رمضان ، فقال : «?هل تجد رقبة ؟ »?قال : لا ، قال : «?فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ »?قال : لا ، قال ??«?فهل تجد ما تطعم ستين مسكينًا ؟ »?قال : لا ، ثم جلس فأتى النبى صلى الله عليه وسلم?بعرق فيه تمر ، قال : تصدق بهذا ، قال : على أفقر منا ؟ فما بين لابتيها أحوج إليه منا ، فضحك النبى صلى الله عليه وسلم?حتى بدت أنيابه ، ثم قال : أطعمه أهلك »?(صحيح مسلم بشرح النووى - باب تحريم الجماع فى نهار رمضان ووجوب الكفارة الكبرى فيه ، " 75/235 ")??
هذا الحديث وأمثاله يفتح لنا آفاقًا واسعة للدعوة إلى الله جل جلاله?برحمة ولين ورفق ، وما أحوج الدعوة إلى مثل هذه المواقف .
وعن أبى ذر الغفارى صلى الله عليه وسلم?قال : " كنا مع النبى صلى الله عليه وسلم?فى سفر ، فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم???«?أبرد »?، ثم أراد أن يؤذن ، فقال صلى الله عليه وسلم???«?أبرد »?، حتى رأينا فئ التلول ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم???«?إن شدة الحر من فيح جهنم ، فإذا اشتد الحر فـ أبردوا بالصلاة »?(صحيح البخارى بشرح الفتح ، " 535 ، 539 " ؛ صحيح مسلم بشرح النووى - باب استحباب الإبراد بالظهر ، " 5/119 ") وهذا اتقاء للحر الشديد الذى يضر بالجسم .
وعن عمران بن حصين صلى الله عليه وسلم قال?????كانت بى بواسير ، فسألت النبى صلى الله عليه وسلم?عن الصلاة ، فقال : «?صل قائمًا ، فإن لم تستطع فقاعدًا ، فإن لم تستطع فعلى جنب »?(صحيح البخارى بشرح الفتح ، " 1117 " ؛ مسند الإمام أحمد ، " 1984 " ؛ سنن ابن ماجه ، " 1223 ") .
ونستفيد من هذا الحديث :(1/150)
??أن الواجب يؤدي في أي حال من الأحوال , وبالقدر الممكن والمستطاع , مصداقاً لقول الله جل جلاله?????لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ??(سورة البقرة - الآية 285) .
??أن الواجب لا يجوز أن يهمل كلية إذا تعذر القيام به على المطلوب .
هـ -?التيسير ورفع الحرج :
من خصائص التشريع الإسلامى رفع الحرج ، يقول الله جل جلاله?????وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ??(سورة الحج – الآية 78)???وقال صلى الله عليه وسلم???«?يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا »?(صحيح البخارى بشرح الفتح ، " 6125 ") .
وعن أبى هريرة صلى الله عليه وسلم?أن أعرابيًا بال فى المسجد ، فثار إليه الناس ليقعوا فيه ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم???«?دعوه وأريقوا على بوله ذنوبًا من ماء أو سجلاً من ماء ، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين »?(صحيح البخارى بشرح الفتح ، " 6128 ") .
وتيسير النبى صلى الله عليه وسلم?لم يكن أمرًا خفيًا أو خاصًا مع قوم ، وإنما كان عامًا يشهد به الجميع ، فهذا الأزرق بن قيس ، قال : كنا على شاطئ نهر بالأهواز قد نضب عنه الماء ، فجاء أبو برزة الأسلمى على فرس فصلى وخلى فرسه ، فانطلقت الفرس ، فترك صلاته وتبعها حتى أدركها فأخذها ، ثم جاء فقضى صلاته ، وفينا رجل له رأى فاقبل يقول : انظروا إلى هذا الشيخ ترك صلاته من أجل فرس ، فاقبل ، فقال : ما عنفنى أحد منذ فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم?، وقال : إن منزلى متراخ فلو صليت وتركت الفرس لم آت أهلى إلى الليل ، وذكر أنه صحب النبى صلى الله عليه وسلم?ورأى من تيسيره الكثير?(صحيح البخارى بشرح الفتح ، " 6127 ") .
مكانة الواقع فى سنن الراشدين
«(1/151)
????فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء المهديين الراشدين ، تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ »?(أخرجه أبو داود)?وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم?بإتباع نهج الخلفاء الراشدين ، فكان اختيارنا دراسة بعض مظاهر تقدير الواقع فى سنة الراشدين ، والعناية به فى توجيهاتهم وسياستهم باعتبارهم أئمة الفقه وحكام الدولة .
وسيكون الكلام مركزًا على اجتهادات عمر بن الخطاب صلى الله عليه وسلم?، لما أثير حولها من كلام وجدال وأفكار بعيدة عما قصد إليه صلى الله عليه وسلم??
وفهم الواقع هو الذى أعان الصحابة رضى الله عنهم?على معرفة مسؤولياتهم وواجباتهم ، وحدود أماناتهم ، على أساس من إيمانهم وعلمهم بمنهاج الله??عدنان رضا النحوى ، الحوافز الإيمانية بين المبادرة والالتزام ، ص70)?، فقد كانوا يعلمون أسباب التنزيل ، ومقاصد الشريعة العامة ، وعادات العرب فى أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم ، ودخائل العدو الذى كانوا يجاهدونه ، ومراتب التكليف من واجب الفعل أو الترك فما دونه?(عبد السلام ياسين نظرات فى الفقه والتاريخ ، ص22) .
فهذا معاذ بن جبل رضى الله عنه?أخذ الثياب اليمنية بدل العين من زكاة الحبوب والثمار ، وقال : ??ائتونى بخميص أو لبيس آخذه منكم مكان الصدقة ، فإنه أهون عليكم وخير للمهاجرين بالمدينة "?(السنن الكبرى ، البيهقى - كتاب الزكاة - باب من أجاز أخذ القيم فى الزكوات ، 4/113) .
انظر مدى اعتبار الواقع وظروف الناس . فالثياب أهون على أهل اليمن لأنهم بها اشتهروا ، وهى خير للمهاجرين بالمدينة لأنهم فى حاجة إليها .
وهذا علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه?ضمَّن الصناع ما يكون بأيديهم من أموال ، إذا لم يقدموا بينة على أن ما هلك إنما هلك بغير سبب منهم ، قائلاً ????لا يصلح للناس إلا ذلك "?(السنن الكبرى ، البيهقى - كتاب الإجارة - باب من جاء فى تضمين الأجراء ، 6/122) .
فلو لم يثبت تضمينهم مع مساس الحاجة إلى استعمالهم لأفضى ذلك إلى أمرين :(1/152)
- إما ترك الاستصناع بالكلية ، وذلك شاق على الخلق .
??وإما أن يعملوا ولا يضمنوا ذلك بدعواهم الهلاك والضياع ، فتضيع الأموال ، ويقل الاحتراز ، وتتطرق الخيانة ، فكانت المصلحة التضمين .
هذا معنى قوله : ??لا يصلح للناس إلا ذلك "?(الشاطبى الاعتصام ، " 2/119 ") .
انظر كيف جعلتهم المقاصد يفعلون أمورًا لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم?، معتبرين فى ذلك مصلحة الأمة ومتطلبات واقعها ... ?وهذا ما جعل أبا بكر يستخلف عمر ويحارب مانعى الزكاة ، ويجمع المصحف ، وعثمان يكتبه ... ?رضى الله .
وتحدثنا كتب الفقه والسير والتاريخ عن اجتهادات عمر رضى الله عنه ?المأخوذة من واقع الناس والمكيفة معه .. ولكننا نجد كثيرين يجعلونها قدوتهم فيما يرون أن يجتهدوا طبقًا للواقع .. من هنا ارتأينا الكلام عن أهم اجتهادات عمر رضى الله عنه ، لنزيل – ما أمكننا ذلك – انتحال المبطلين ، وتأويل الغالين ، وخطأ الجاهلين ، وتعصب الجامدين .
- عن هشام بن عروة عن أبيه عن أبى حاطب ، أن غلمة لحاطب بن أبى بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة ، فأتى بهم عمر فأقروا ، فأرسل إلى عبد الرحمن بن حاطب فجاء ، فقال له : إن غلمان حاطب سرقوا ناقة رجل من مزينة وأقروا على أنفسهم ، فقال عمر : يا كثير بن الصلت ، اذهب فاقطع أيديهم . فلما ولى بهم ردهم عمر ، ثم قال : أما – والله أعلم – أنكم تستعملونهم وتجيعونهم ، حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه حل له ولولا ذلك لقطعت أيديهم ، وأيم الله ، إذ لم أفعل لأغرمنك غرامة توجعك .
ثم قال : " يا مزنى بكم أريدت منك ناقتك ، قال : بأربعمائة ، قال عمر رضى الله عنه ?????اذهب فأعطه ثمانمائة "?(ابن القيم ، إعلام الموقعين ، " 3/8 ")?، ونستفيد من هذه الواقعة : - أن عمر صلى الله عليه وسلم?لم يبن حكمه على ظن أو احتمال ، بل على علم ، وهذا ما يستفاد من قوله : " أما –?والله أعلم –?أنكم تستعملونهم وتجيعونهم ... ????(1/153)
??إن الحالة التى تشخصها هذه الواقعة ليست من الأحوال العامة ، وإنما هى حالة استثنائية?،?وهنا?نطرح سؤالاً?على?أولئك الذين يريدون?أن نحمل ما لا نطيقه ويجعلونها عامة : هل وصل لنا أن عمر لم يقم حدًا بعد هذه الواقعة ؟ ومن له يسير علم بالأصول يستطيع أن يكتشف أن هذه الحالة استثناء من قوله : ??وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ??(سورة المائدة – الآية 38)?، الذى خصصه قول الرسول صلى الله عليه وسلم???«?ادرأوا الحدود الشبهات »?(الجامع الصغير ، السيوطى ، رقم " 314 ")?، والشبهة هنا تجويع الرقيق . وهذا لا يعنى أبدًا أن عمر صلى الله عليه وسلم?اجتهد مع وجود النص كما يتوهم بعضهم?(انظر مقالاً بعنوان : " لا اجتهاد مع النص " ، جريدة العلم ، الفكر الإسلامى ، أحمد بوعيد ، 5/3/1999م) .
??–?خرج عمر رضى الله عنه?من الليل فسمع امرأة تقول :
??تطاول هذا الليل واسودت جوانبه ... وأرقنى ألا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله أنى أراقبه ... لحرك من هذا السرير جوانبه
فسأل عمر ابنته حفصة : كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها ؟ . فقالت : ستة أشهر أو أربعة أشهر ، فقال : لا أحبس أحدًا فى الجيش أكثر من ذلك?(ابن كثير ، تفسير القرآن العظيم ، " 1/333 " ، فى تفسير الآية 224 من سورة البقرة)??
إن عمر بن الخطاب رضى الله عنه ?بفعله هذا يريد أن يجنب نساء المسلمين الوقوع فى الفاحشة ، والجميل فى هذا الأمر أنه لم يبرر وقوع الفاحشة أو إمكانية وقوعها بحبس الرجال فى الجيش –?وهو أمر اقتضت مصلحة المسلمين العامة –?ولكن درء المفسدة أولى من جلب المصلحة .
??–?وعن وبرة الكلبى قال :(1/154)
أرسلنى خالد بن الوليد إلى عمر رضى الله عنه??، فأتيته وهو فى المسجد معه عثمان بن عفان وعلى وعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن الزبير رضى الله عنه??، متكئ معهم فى المسجد ، فقلت : إن خالد بن الوليد أرسلنى إليك ، وهو يقرأ عليك السلام ، ويقول ك إن الناس انهمكوا فى الخمر وتحاقروا العقوبة ، فقال عمر : هم هؤلاء عندك فسلهم ، فقال : على رضى الله عنه????تراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى ، وعلى المفترى ثمانون . فقال عمر : أبلغ صاحبك ما قال .. فجلد خالد ثمانين وجلد عمر ثمانين . وكان عمر إذا أتى بالرجل القوى المنهمك فى الشراب جلده ثمانين ، وإذا أتى بالرجل الضعيف الذى كانت منه الزلة جلد أربعين ، ثم جلد عثمان ثمانين وأربعين?(المستدرك للحاكم ، " 8131 ") .
إن العقوبة التى كانت محددة لشاربى الخمر لم تردع هؤلاء عن شربه ، فرأى عمر مضاعفة العقوبة ، بناء على رأى على .
ولعله من المناسب القول هنا : إن تقدير الواقع ليس معناه تخفيف التكاليف أو إسقاط العقوبة فقط ، بل مضاعفتها أيضًا .
وأصاب الشيخ على حسب الله – رحمه الله –?حين قال : ??إن التدهور الروحى أو الانحدار الخلقى لا يصح أن يعد تطورًا توضع القوانين على أساس الاعتراف به وحمايته ، بل ينبغى أن توضع لحماية الإنسان وتوجيهه إلى الكمال الذى أعده الله له "?(على حسب الله ، أصول التشريع الإسلامى ، ص185) .
??–?يقول الله جل جلاله?????إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ??(سورة التوبة – الآية 60) .(1/155)
وعن صفوان بن أمية رضى الله عنه??قال ??أعطانى رسول الله?صلى الله عليه وسلم?يوم حنين وإنه لأبغض الناس إلىّ ، فما زال يعطينى حتى إنه لأحب الخلق إلىّ (سنن الترمذى ، " 166 ")???وقد أسلم وحَسُن إسلامه .
وكان الناس يتألفون بجهات ثلاث :
??إحداها للكفار بدفع مضرتهم ، وكف أذيتهم عن المسلمين ، والاستعانة بهم على غيرهم من المشركين .
- والثانية لاستمالة قلوبهم وقلوب غيرهم من الكفار إلى الدخول فى الإسلام ، ولئلا يمنعوا من أسلم من قومهم من الثبات والإسلام ، ونحو ذلك من الأمور .
??والثالثة إعطاء قوم من المسلمين حديثى العهد بالكفر ، لئلا يرجعوا إلى الكفر?(الجصاص ، أحكام القرآن ، " 3/181 ") .
وقد فصل الدكتور القرضاوى فى أصناف المؤلفة قلوبهم ، فجعلها سبعة أصناف?(راجع فقه الزكاة للقرضاوى ، " 2/295 ")??
وتأليف القلوب استمر من عهد النبوة إلى عهد عمر رضى الله عنه??، فأسقط سهم المؤلفة قلوبهم حيث إن الناس لم يعودوا فى حاجة إلى تأليف . يقول الشيخ القرضاوى : ??فإن عمر إنما حرم قومًا من الزكاة كانوا يتألفون على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم?، ورأى أنه لم يعد هناك حاجة لتأليفهم وقد أعز الله الإسلام وأغنى عنهم . ولم يجاوز الفاروق الصواب فيما صنع ، فإن التأليف ليس وصفًا ثابتًا دائمًا ، ولا كل من كان مؤلفًا فى عصر يظل مؤلفًا فى غيره من العصور . وإن تحديد الحاجة إلى التأليف ، وتحديد الأشخاص المؤلفين ، أمر يرجع إلى أولى الأمر ، وتقديرهم لما فيه خير الإسلام ومصلحة المسلمين "?(الخادمى ، الاجتهاد المقاصدى ، " 1/98 ") .
فعدم الإعطاء ليس تعطيلاً للنص كما يدعى بعضهم ، وإنما هو تطبيق له بعمق ونظر ، واجتهاد دقيق فى مدلولاته وصوره ، ووقوف على علته ومقصده وجودًا وعدمًا?(القرضاوى ، فقه الزكاة ، " 2/296 ") .(1/156)
إن هذه الصور تؤكد لنا الهدف السامى للرسالة الإسلامية ، ذلك الهدف الذى أعلن عنه القرآن الكريم : ??وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ??(سورة الأنبياء – الآية 107) ، هذه الرحمة التى تبين لنا كيف يتعامل الإسلام مع واقع أتباعه بلطف وحكمة ، ويقيم شرعه وأحكامه على ضوئه وبقدر ما يتحمل .
(2) رعاية الأولويات والمهمات
إن فهم مراتب الأحكام ودرجات الإيمان من أهم المعارف التى يجب أن يحيط بها الداعية ، وذلك حتى لا يحدث خلل فى مراتب دعوته فيُفسد وهو ظان أنه المصلح ، ويهدم ويحسب أنه البناء ، وقد ينحدر فى الأودية السحيقة ويزعم أنه ارتقى إلى المقامات العالية والمكانة السامقة !!
وإن أكبر خلل حدث فى واقع الدعوة المعاصرة يكمن فى عدم ترتيب الأولويات مما أدى إلى اضطراب فى المواقف ، وشذوذ فى الفتاوى ، واهتمام ببعض السنن والنوافل وتضييع للأركان والفرائض ، واهتمام بالمظاهر وترك للمقاصد الخ .. هذه المآسى والترَّهات !!
وأظن أن هذا الخلل نتج عن عدم فهم ، ولا أقول عن قصد .
عدم فهم لطبيعة الإسلام ، عدم فهم لدلالة نصوص القرآن ، وعدم فهم لدلالة نصوص السنة . وعدم استيعاب لمنهج سيد الدعاة صلى الله عليه وسلم?فى الدعوة إلى الله تعالى .
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم?يبعث معاذًا إلى اليمن داعيًا ومعلمًا ، ويعلمه مراتب الدعوة فيقول : «?أنك تقدم على قوم أهل كتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا أله إلا الله وأنى رسول الله ، فإن هم أطاعوك لذلك فـ أعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات فى كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوك لذلك فـ أعلمهم إن الله تعالى افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم ، فإذا هم أطاعوك بها فخذ منهم وتوَّق كرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب »??أخرجه البخارى فى صحيحه - كتاب الزكاة) .(1/157)
من هذا النص يتبين أنه على الداعية أن يبدأ بالأهم ثم المهم ، أن يبدأ فى الدعوة بالعقيدة قبل العبادة ، وبالعبادة قبل مناهج الحياة ، وبالكليات قبل الجزئيات ، وبالتكوين الفردى قبل الخوض فى الأمور العامة??انظر مدرسة الدعاة ، جـ1 ص344) .
ومن هنا كان لابد أن يفهم الداعية أن الإيمان ليس درجة واحدة ولكنه درجات كما قال صلى الله عليه وسلم???«?الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الإيمان »??الحديث متفق عليه) .
ويخطئ من يسوى بين درجات الإيمان سواء فى الدعوة أو فى الإنكار
وهذه قواعد عامة لابد من مراعاتها :
العلم قبل العمل :
قال الله تعالى ????فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ???
وهنا قدم الله تعالى العلم على مجرد القول ، بل إن المتعبد لله على غير علم ومعرفة ربما يتقرب إلى الله بمعصية الله تعالى !!
وقد ترجم الإمام البخارى لهذا المعنى فقال : باب العلم قبل القول والعمل لقول الله تعالى : ??فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ????سورة محمد –?الآية 19) .
" فبدأ بالعلم ، وأن العلماء هم ورثة الأنبياء ???فتح البارى ، جـ1 ص160) .
الأصول قبل الفروع
قال تعالى : ??لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ ???سورة البقرة –?الآية 177)??
وهكذا بينت الآية أن العبرة الأساسية ليست بمجرد اتجاه الوجه فى الصلاة ، ولكن العبرة بالتوجه الحقيقى لله بالقلب عن طريق اكتمال أركان الإيمان فى نفس المسلم .(1/158)
لذا كان من الواجب على الداعية أن يقدم الفرائض على السنن ، وفرض العين على فرض الكفاية ، وأن يقدم متعدى النفع على القاصر?، وأن يقدم العمل الدائم على المنقطع ، وأن يعتبر مصلحة جماعة المسلمين ويقدمها على مصلحة الأفراد .
ومن هذا المنطلق نجد أن الإمام ابن القيم يعيب على هؤلاء الذين اختلطت عندهم الأولويات فيقول : ??رأيت كثيرًا من الناس يتحرزون من رشاش النجاسة ، ولا يتحاشون عن الغيبة ، ويكثرون من الصدقة ، ولا يبالون بمعاملات الربا ، ويتهجدون بالليل ويؤخرون الفريضة عن الوقت ، فى أشياء يطول عدها من حفظ فروع وتضيع أصول .. فالله الله فى تضيع الأصول "??صيد الخاطر ، ص156) .
ويشير الجاحظ إلى مراعاة الأولويات فى المجال النظرى فيقول?????ولا تلتمس الفروع إلا بعد إحكام الأصول ، ولا تنظر فى الطُرف والغرائب ، وتؤثر رواية الملح والنوادر "??البرهان والعرجان للجاحظ ، ص3)??
وفى الدعوة أولويات
إن البدء فى الدعوة بالأساسيات من دلائل فقه الدعوة ، وأن البدء بإصلاح العقيدة فى قلوب المسلمين ، وبإنشائها فى قلوب غير المسلمين لمن أهم الأولويات التى يجب البدء بها .
والعقيدة التى أعنى البدء بها هى أركان الإيمان التى تربط الفرد بربه عز وجل?، وليست تلك الفلسفات ، ودروب علم الكلام ومزالقه .
ويجب علينا فى هذا الجانب أن نراعى الفرق الكبير بين العقيدة كأركان عامة يجب على كل مسلم الإحاطة بها ، ولا يقبل الخلاف عليها ، وبين شرح العلماء لهذه الأركان ، فشروح العلماء رؤية بشرية تحتمل الإصابة والخطأ ، وليس الكفر والإيمان .
ومن هنا ضل من نسب العقيدة إلى شخص بعينه ، أو شرح بعينه ، أو قسم الناس من ناحية العقيدة على حسب الرؤية الفكرية أو الدراسية .
ومن المعايير التى ينبغى الرجوع إليها أن نهتم بما اهتم به القرآن والسنة(1/159)
فما اهتم به القرآن ، وكرره فى سورة وآياته ، وأكده فى أمره ونهيه ، ووعده وعيده ، يجب أن تكون له الأولوية وتقديم العناية فى تفكيرنا ، وفى سلوكنا وفى تقويمنا وفى تقديرنا .
وذلك مثل الإيمان بالله تعالى ورسالاته وأنبيائه ، ومثل أصول العبادات وما فيها من ثواب وعقاب وجنة ونار ، أما ما اهتم به القرآن اهتمامًا قليلاً نعطيه مثل ذلك القدر من الاهتمام ، ولا نبالغ فيه مثل الإسراء بالنبى صلى الله عليه وسلم?الذى أعطاه القرآن آية واحدة ، وليس كالغزوات التى أخذت سورًا كاملة .
أما مولد النبى صلى الله عليه وسلم?فلم يعره القرآن التفاتًا ، فدل على أنه أمر غير ذى بال فى الحياة الإسلامية .
وذلك لأن القرآن هو عمدة الملة وأصل الدين ، وينبوع الإسلام ، والسنة تأتى شارحة ومبينة (انظر : فقه الأولويات ، الدكتور القرضاوى - الفصل الخامس ، ص85) .
??وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ???سورة النحل –?الآية 89)
وأعجب من أقوام ينشغلون بقضايا يعلونها ويعبثون داخل إطارها آناء الليل وأطراف النهار ، ويعادون ، ويوالون عليها ، وربما يُكفرون ويفسقون ، ويبدعون عليها ، ثم انظر فى القرآن الكريم فلا أجد له بها كثير اهتمام ، بل وربما لم يشر إليها من قريب ولا بعيد .
وانظر إلى هدى سيد الدعاة صلى الله عليه وسلم?فلا أجد له فيها هديًا ، ولا فى قائمة اهتماماته ، بل وربما لم يشر إليها النبى صلى الله عليه وسلم?من قريب أو بعيد !!
لذا فالداعية يقدم ما قدمه القرآن والسنة ، ويهتم بما اهتم به القرآن والسنة ، ومن لم يهتد بالقرآن والسنة فأنّى له أن يهتدى ، ومن لم يسلك طريق الكتاب والسنة فأنّى له أن يصل ، وأنى له أن يؤثر ، وأنى له أن يبنى أمة !!(1/160)
وذلك أن القاعدة الأساسية المتفق عليها تقرر : أن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة ، ويقول السلف : من شغله الفرض عن النفل فهو معذور ، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور .
ولهذا أتعجب ممن يحرص على أداء السنن والنوافل ولا يضيع شيئًا منها ، ويحرص على ختم الصلاة والتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل ، ومع هذا لا يؤدى الفرض كما ينبغى ، قد يتهاون فى بعض الشروط ، أو فى بعض الأركان !!
بل إنك ترى أحيانًا من المتدينين من يحرصون على الحج فى كل موسم ، وعلى العمرة فى رمضان ، بل ربما يعتمر فى العام أكثر من مرة ، وينفق فى ذلك الكثير من المال ، ولكن مع هذا يماطل فى الوفاء بديون عليه لعباد الله مع ما جاء فى الحديث الصحيح : «?يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين »??انظر : مجلة الرسالة ، الدكتور القرضاوى ، ص4–?????العدد الثالث - ذو الحجة سنة 1422هـ) .
فإذا كانت الشهادة فى سبيل الله –?على ما لها من عظيم الفضل –?لا تكفر أكل ديون الناس بالباطل ، فكيف بغير الشهادة من الأعمال ، وهى دونها يقينًا ؟
وهكذا فلابد للداعية أن يكون على استيعاب كامل لفقه الأولويات حتى لا يكون عقبه من عقبات الدعوة إلى الله تعالى ، وحتى نعيد للأمة اهتماماتها الحقيقية ، ولنُشغل بمعالى الأمور ونتعالى عن السفاسف وتوافه الأمور .
????التخطيط للدعوة
إن الناظر فى حقل الدعوة الإسلامية يجد ركنًا هامًا من أركان الدعوة ووسيلة هامة من وسائل نجاحها غائبًا ، والعجب أن غيابه ليس لعجز إنما لقصور .
إن غياب الدراسة والتخطيط لمن أهم الآفات التى تعرض للدعوة الإسلامية ، ومن مظاهر ذلك ضعف التخطيط للمستقبل الدعوى ، وغلبة الارتجال ، وترك الأمور تجرى فى أعنتها على طريق الجبريين الذين يعيشون وكأنهم لا خيار لهم فى الحياة ، وكأنهم ريشة تقذفها الريح حيث تشاء !! أو طريق الآنيين الذين يستمتعون بالحاضر دون اعتبار بالماضى ولا بالمستقبل .(1/161)
إن العلة الضاربة بأطنابها فى جذور المجتمع هى العشوائية فى التفكير ! العشوائية فى التخطيط ! والعشوائية فى التنفيذ !
ولطالما سمعنا الشكوى من الخطط الجهنمية المحكمة التى تحاك للمسلمين ، وطالما اعتذر أهل الإسلام ورجاله عندما تصيبهم الفتن والمحن ، أو تأخذ بخناقهم الأزمات والشدائد . إن هذا من مخططات أعداء الإسلام ، فالصهيونية تخطط ، الشيوعية تخطط ، الصليبية تخطط ، والاستعمار بمختلف ألوانه يخطط ، حتى الوثنية تخطط !!
والجميع يخططون لضربنا نحن ..
ولكن إلى متى نظل نحن الأمة التى يخطط عدوها لضربها فينجح ؟
لماذا لا نخطط نحن لأنفسنا ؟ لماذا لا نفسد على عدونا خطته ؟
أليست لنا عقول كما لهم عقول ؟ أليست لنا طاقات كما لهم طاقات ؟
أليست لنا عقيدة تمدنا بالهداية ، وتاريخ يمدنا بالقوة ، وحضارة تشعرنا بأننا أهل لأن نسود ونقود ؟ بلى والله .
إن الذى ينقصنا هو جدية التفكير ، وجدية العمل ، وصدق الاتجاه ، وتجميع المواهب والقدرات لننظر بأناة ، ونفكر بهدوء ، ونتحرك بحكمة??انظر : الحل الإسلامى فريضة وضرورة ، " 231،232 ") .
والمتأمل فى سيرة النبى صلى الله عليه وسلم?يجد التخطيط سمة بارزة فى دعوته حيث لم تمض الدعوة ارتجالاً ، بل تمت بتخطيط محكم وبعد تفكير عميق ، وأخذ كامل بالأسباب والتوكل على الله بعد ذلك .
فإذا نظرنا إلى هجرة أصحابه إلى الحبشة أو هجرته إلى المدينة وجدنا خطة واضحة وراء ذلك ، لا يصعب على الدارس استنباطها ، وإلا فلماذا أمر أصحابه بالهجرة إلى الحبشة خاصة ؟ لماذا لم يختر لهم بلدًا قريبًا أو أرضًا عربية ؟ ولماذا أذن للبعض بالهجرة دون البعض ؟ ولماذا لم يلحق بهم مهاجرًا إلى الحبشة ؟
إن الجواب عن هذا كله يدل على أن الأمر لم يكن مرتجلاً ، بل وراءه هدف وخطة . بل إنك تعجب حينما تطلع على خطته صلى الله عليه وسلم?فى الهجرة إلى المدينة حيث ترى دقة الدراسة وإحكام التخطيط مع التوكل على الله تعالى .(1/162)
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم?يذهب لأبى بكر فى ساعة يغفل فيها الناس ويقيلون فى منازلهم ، فتقول السيد عائشة?رضى الله عنها?????بينما نحن جلوس فى بيت أبى بكر فى نحو الظهيرة قال قائل لأبى بكر : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم?متقنعًا فى ساعة لم يكن يأتينا فيها ، فقال أبو بكر : فداء له أبى وأمى ، والله ما جاء به فى هذه الساعة إلا أمر .. ???صحيح البخارى - باب هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ?، " 1/553 ") .
ثم تجد النبى صلى الله عليه وسلم?يقول لعلى ابن أبى طالب : «?نم على فراشى ، وتسج ببردى هذا الحضرمى الأخضر ، فنم فيه ، فإنه لن يخلص إليك شىء تكرهه منهم »?، وكان رسول الله ينام فى برده ذلك??ابن هشام ، " 1/482،483 ") .
كما أنك تجد براعة التخطيط ، ودقة التفكير تتجلى فى سلوك النبى صلى الله عليه وسلم?مسلكًا يختلف عما يتبادر إلى ذهن كل الناس ، فبدلاً من أن يسير على طريق المدينة الرئيسى المتجه شمالاً ، تراه يسلك الطريق الذى يضاده تمامًا ، وهو الطريق الواقع جنوب مكة ، والمتجه نحو اليمن??مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه ، للشيخ عبد الله النجدى ، " 167 " ؛ وانظر : الرحيق المختوم ، لصفى الرحمن المباركفورى ، " 183 ") !!
ثم تعجب من دقة التخطيط والتنفيذ الجماعى للمساعدين فى هذه الحادثة ، فتجد رسول الله صلى الله عليه وسلم?وصحبه المبارك صلى الله عليه وسلم?يكمنا فى ليال ، وكان عبد الله بن أبى بكر يبيت عندهما فيدلج من عندهما بسحر ، فيصبح مع قريش بمكة كأنه بات معهم فلا يسمع خطة لقريش ومكيدة وعاها حتى يأتيهما بخبر ذلك حينما يختلط الظلام .
كما كان عامر بن فهيرة يتبع بغنمه أثر عبد الله بن أبى بكر بعد ذهابه إلى مكة ، حتى لا تعرف قريش موضع أقدامه فتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم??انظر : فتح البارى ، " 7 /336 " ؛ وصحيح البخارى ، " 1/553،554 " ؛ وابن هشام ، " 1/486 " ؛ والرحيق المختوم ، " 184 ") .(1/163)
أين هذا التخطيط ، وتلك الدقة والأخذ بالأسباب مما نحن فيه الآن من ارتجال وعشوائية ولا مبالاة فى كل شىء فى أمور ديننا أو دنيانا ؟!!
فإذا أراد المسلمون أن يستأنفوا حياتهم ، ويتحرروا من سطوة غيرهم ، فلابد إذن من العودة إلى الفهم الصحيح للإسلام ، والأخذ بالأسباب ، والتخطيط لصالح الدنيا والدين لينالوا سعادة الدارين .
وإنى لأعجب من أمة ودعاة قد يخطط أحدهم لمستقبله وآماله وأحلامه الدنيوية على مدار سنوات طوال ، وماذا أفعل بعد عشر سنوات ؟ وماذا أفعل بعد الخروج على المعاش ؟ وماذا أفعل بعد زواج الأبناء والبنات ؟!! والخطة الاقتصادية الخمسية ، أى لمدة خمس سنوات ، أو الخطة العشرية ، أى لمدة عشرة سنوات وهذا أمر لاشك جيد ، ولكن موطن عجبى وسبب اندهاشى هو أننى لم أجد خطة للدعوة على المستوى القريب أو البعيد !!
لا أجد خطة للدعوة لنشر الإسلام والدعوة إليه ، لا على المستوى الفردى ولا على مستوى الأمة ، بل ولا على مستوى المعاهد والجامعات المتخصصة !!
إذا كنا نخطط للدنيا أليس الأجدر بنا أن نخطط لديننا ودعوتنا ؟!!
أو ليس الأجدر أن يجلس الداعية فيخطط كيف ينهض بالدعوة فى المنطقة التى يقطن فيها ، وكيف تصل دعوته إلى كل الناس وتؤثر فيهم ، وما هى السبل التى تُعين على تحقق ذلك وتؤثر فيهم ، أليس الأجدر بالداعية حينما يرى الناس على معصية معينة أن يخطط كيف يقنع الناس بالإقلاع عنها ، دون أن يؤدى ذلك إلى منكر أشد ومعاصى أكثر ؟؟
أليس الأجدر بالأمة حاملة الرسالة أن تخطط كيف تحافظ على دينها وهويتها ، وكيف تستطيع حمل الإسلام إلى الأمم الأخرى والأجيال التالية نقيًا كما حُمل إلينا ؟!
أليس الأجدر بالجماعات والمعاهد الإسلامية المختصة بشؤون الدعوة الإسلامية أن تضع لنفسها وللناس خطة واضحة المعالم محددة الوسائل والأساليب للارتقاء بالمسلمين ودعوة غير المسلمين ، ورفع راية الإسلام فى الدنيا ، وإعلاء كلمة التوحيد فى كل مكان ؟!(1/164)
إن المبشرين والمنصرين يخططون لأزمان بعيدة كيف يحولون المسلمين عن دينهم ! ويصدونهم عن السبيل ويشككونهم فى عقيدتهم وإسلامهم ، ويخططون كيف يحتلون أرض المسلمين ، وينتهبون ثرواتهم ، ويستعبدونهم أو يخرجونهم من دينهم ؟!
وتُعقد لذلك المؤتمرات والندوات والمُدارسات ، وتوضع لذلك الوسائل الواضحة والأساليب المناسبة !!
أليس الأجدر بنا ونحن أمة وعُدت بالنصر ، ومعها الله العظيم الكريم الذى يُعلى الكلمة الصادقة فيصك بها الآذان ، ويطلع على النية الصادقة فيعطى عليها الأجر وإن حالت الظروف دون تنفيذها .
إن ديننا أمرنا أن نأخذ بالأسباب ونبذل ما فى الوسع ، أما التوفيق فهو من الله سبحانه كما قال شعيب عليه السلام?????إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الأْصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ???سورة هود –?الآية 88) .
وبعد فهذا تصور عملى للتخطيط الدعوى على المستوى الصغير ، والذى يمكن أن يطبقه مجموعة من الدعاة فى الحى أو المنطقة التى يعملون بها .
خطوط وضع خطة عمل لمجموعة من الدعاة
مع التطور الكبير الذى شهده حقل الإعلام والتسويق خلال الفترة الحالية ؛ فقد أصبح لزامًا على الدعاة أن يكونوا أكثر تنظيمًا وترتيبًا أثناء ممارسة عملهم الدعوى ، وخصوصًا مع زيادة أعداد الجمهور المستهدف بالدعوة وانتشاره فى مساحات واسعة ، وفى ظل جو مشحون بالمؤثرات الإعلامية والمغريات التسويقية .
وبشىء من التنظيم يمكن للدعاة أن يحققوا أعلى نتائج فى أقل وقت ممكن بالإمكانات المتاحة لديهم ، كما يمكنهم أن يقفوا على درجة مستوى الإنجاز فى أى وقت أرادوا خلال الدورة الزمنية للعمل الدعوى ، وبالتالى يصبح من الممكن تقييم وتقويم العمل أثناء سيره ، واستدراك ما قد يشوبه من تقصير ، وضبط مساره حين يحيد عن الخط المرسوم .(1/165)
ويمكن من خلال الخطوات المقترحة التالية أن يضع الدعاة خطة للعمل الدعوى خلال دورة زمنية محددة ??ستة أشهر أو عام ) ، وأيضًا متابعة تلك الخطة أثناء سيرها ، وتقييمها أثناء وبعد انتهاء الدورة الزمنية المحددة لها .
??–?النظر فى واقع وأحوال الجمهور المستهدف بالعمل الدعوى ودراسته جيدًا لتحديد مستوى تمسك الجمهور بالقيم الإسلامية ، ومعرفة الأمراض الشائعة التى فى حاجة إلى علاج ، ومعرفة الواقع الذى يعيشه ذلك الجمهور ومدى قربه أو بعده عن الإسلام .
??–?تحديد الأهداف المراد تحقيقها خلال الدورة الزمنية للخطة ، مع الاسترشاد بتوجيهات وأهداف المؤسسات الدعوية التى يعمل الدعاة من خلالها إن وجدت .
??–?تحديد المستهدفين بالدعوة –?كمًا وكيفًا –?والدعاة المسئولين عن تنفيذ العملية الدعوية ، ويمكن الاسترشاد فى ذلك بالجدول التالى :
??اسم ... مهارات ... أماكن ... أفراد
الداعية ... يجيدها
عدد ... عدد ... عدد ... اسم ... مساجد ... عدد ... عدد ... عدد ... عدد ... أفراد
المنازل ... العقارات ... الورش والمحال ... المسجد ... أخرى ... الأيتام ... الأئمة ... التجار ... الشباب ... آخرين
الأساسى ... والخطباء
??
2-
??
4 – طرح جميع الأنشطة الممكن عملها لتحقيق الأهداف المحددة سابقًا
5 – اختيار وانتقاء أفضل الأنشطة المناسبة للظروف الزمانية والمكانية ، والتى تحقق الأهداف بصورة أكبر وتكون فى حدودها الإمكانات الموجودة .
6 – وضع الأنشطة التى تم اختيارها فى جدول تنفيذى موزعة على الفترة الزمنية المحددة للعمل الدعوى فيما يسمى بجدول النشاط :
التاريخ ... اسم ... المسئول ... الأفراد ... تاريخ الإعداد ... تاريخ ... التكاليف ... تاريخ ... ملاحظات
النشاط ... المساعدين ... التنفيذ ... التقييم
5/10
25/10
10/11
7 – العناية بالعوامل المؤثرة على تنفيذ الخطة ، ومنها :
أ – أماكن التنفيذ ( مركز إسلامى – جمعية خيرية – مسجد ) وذلك بإعدادها جيدًا لتكون مركزًا إعلاميًا .(1/166)
ب– العناية بإعداد الأفراد القائمين على العمل الدعوى جيدًا وتأهيلهم للقيام الأمثل بدورهم وذلك من خلال إعداد برامج تربوية وتدريبية خاصة بهم .
جـ– دراسة تدوين الأنشطة – كل على حدة – بصورة تفصيلية تحدد الهدف من النشاط ، والمستهدفين به ، وخطوات تنفيذه ، ومستلزماته ، والأفراد القائمين على التنفيذ .
8 – متابعة وتقييم وقياس فاعلية الأعمال والأنشطة الدعوية بصورة دورية وذلك أثناء وبعد تنفيذها .
ملحوظة : مرفق نموذج لجدول متابعة يمكن لمشرفى الهيئات والمؤسسات الدعوية إجراء عملية المتابعة والتقييم من خلاله .
نموذج لجدول متابعة وتقييم الأعمال والأنشطة :
الأعمال ... مدى التنفيذ ... الهدف المراد ... نسبة ... المعوقات
تحققه فى
1 -
2 -
3 -
4 -
5 -
وهكذا لابد أن يخطط الداعية لدعوته ، لينجح فى الميدان ، ولا يستحقر خطوة يخطوها أو كلمة يلقيها ، ولكن يتيقن أن الهداية والتوفيق من الله تعالى ، فعليه أن يبذل الجهد ويأخذ بالأسباب والتوفيق من الله عز وجل .
(4) الجماعية لا الفردية
إذا كان القيام بالدعوة الإسلامية على الوجه الصحيح يحتاج إلى تخطيط ودراسة فإنه بعد ذلك يحتاج إلى جيوش من الدعاة ينتظمون تحت إطار محدد المعالم واضح الأهداف .
لذلك كان منهج العمل الجماعى والذى أعنى به :
حب المسلم للاجتماع مع إخوانه المؤمنين ، والدعاة الصالحين ، للتواصى معهم بالحق والتواصى بالصبر ، والتعاون على البر والتقوى ، مثل :
* اجتماع المسلم مع جماعة المسجد للدعوة والتناصح بينهم ، وتفقد المحتاجين ، والقيام على الأرامل والمعوزين .
* اجتماع المسلم بالعلماء العاملين والمشايخ المخلصين فى حلق العلم ؛ للأخذ عنهم ، والتتلمذ عليهم .
* اجتماع المسلم بالدعاة العاملين فى هيئات الإغاثة والمؤسسات الخيرية ، وضمُ جهدهِ إلى جهودهم فى إغاثة الملهوفين وإنقاذ المتضررين ومساعدة الضعفاء والمساكين من المسلمين .(1/167)
* اجتماع المسلم بإخوانه الدعاة الموثوقين ؛ لهداية الضال ، وتعليم الجاهل ، وتذكير الغافل ، والأمر بالمعروف ، والنهى عن المنكر ، والتناصح بينهم فى الأسلوب الأقوم فى ذلك .. وغيرها من الاجتماعات النافعة ، البعيدة عن الغلو والشطط والتعصب والابتداع .
فالناظر إلى آيات القرآن يجد أن الآيات التى تحدثت عن الدعوة بصورة مباشرة لم تكن ذات خطاب فردى وإنما كانت ذات طابع جماعى على ما سيأتى بيانه .
وأذكر هنا فقط سورة العصر حيث يقول المولى عز وجل : ( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِْنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) (سورة العصر – الآية 1 – 3)
فالآيات تبين أن كل إنسان فى خسر إلا الذين آمنوا ، فتعبير الآية بقوله الله تعالى : ( إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا ) يؤكد على هذا المعنى ، فالذى سينجو من الخسران كما تذكر السورة هو من كان من ( الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) وتجد التعبيرات الأخرى المباشرة : ( وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) ففى هذه التعبيرات الواضحة نجد أن الناجى من الخسران هو من كان فى مجموعة ( الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) ، وكان فى منظومة الذين تواصوا بالحق ، وكان فى بوتقة الذين تواصوا بالصبر .
يقول الأستاذ سيد قطب – رحمه الله – فى تفسير سورة العصر : " أما التواصى بالحق والتواصى بالصبر فتبرز من خلاله صورة الأمة المسلمة أو الجماعة المسلمة ذات الكيان الخاص ، والرابطة المميزة ، والواجهة الموحدة ، والجماعة التى تشعر بكيانها كما تشعر بواجبها .. فمن خلال لفظ التواصى ومعناه وطبيعته وحقيقته تبرز صورة الأمة ، إذ الجماعة المتضامنة ، والأمة الخيرة الواعية القيمة فى الأرض على الحق والخير ، متواصية بالحق والصبر فى مودة وتعارف وتآخ (فى ظلال القرآن ، جـ6 ص3968) .(1/168)
مشروعية العمل الجماعى :
لقد جاءت النصوص الكثيرة فى الكتاب والسنة تدعو المسلمين للاجتماع على البِرِّ والتكاتف على الخير ، وإليك بعض هذه النصوص وما ذكره أهل العلم فى تأويلها :
قال تعالى : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) (سورة آل عمران – الآية 103) . قال القرطبى – رحمه الله – فى حبل الله : وقال ابن مسعود : حبل الله القرآن . ورواه على وأبو سعيد الخدرى عن النبى صلى الله عليه وسلم ، وعن مجاهد وقتادة مثل ذلك ... وروى عن عبد الله بن مسعود ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) ، قال : الجماعة ؛ روى عنه وعن غيره من وجوه ، والمعنى كله متقارب مُتداخل ؛ فإن الله تعالى يأمر بالألفة ، وينهى عن الفُرْقة ، فإن الفرقة هلكة والجماعة نجاة . ورحم الله ابن المبارك حيث يقول :
إن الجماعة حبل الله فاعتصموا ... منه بعُرْوته الوثقى لمن دانا (الجامع لأحكام القرآن ، القرطبى ، جـ4 ص159 " باختصار ")
قال الله تعالى : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) (سورة المائدة - الآية 2) . قال الإمام ابن كثير – رحمه الله - : " يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات ؛ وهو البر وترك المنكرات
وهو التقوى ، وينهاهم عن التناصر على الباطل ، والتعاون على المآثم والمحارم " (تيسير العلى القدير لاختصار ابن كثير ، للرفاعى ، جـ1 ص484) .
وقال بعض أهل العلم فى تفسير الآية السابقة : " وليعن بعضكم بعضًا أيُّها المؤمنون على البر ؛ وهو العمل بما أمر الله ، والتقوى : هو اتقاء ما أمر الله باتقائه واجتنابه من معاصيه ، وعلى هذا فقد أمر الله بالتعاون على أمر دينه ، والأمر للوجوب " (انظر أيضًا : تيسير الكريم الرحمن فى تفسير كلام المنان ، ص182) .(1/169)
ولقد أكدت أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم مشروعية الجماعة فى تأدية جُلِّ شعائر الإسلام وكثير من فرائضه – كما سيأتى الحديث عنه إن شاء الله – وبيّن عليه أفضل الصلاة والسلام أهمية اجتماع المسلم بإخوانه المسلمين ، واختلاطه معهم فى ثباته على الحق ، وعدم استحواذ الشيطان عليه فقال صلى الله عليه وسلم : « ما من ثلاثة فى قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان ، فعليكم بالجماعة ، فإنما يأكل الذئب القاصية » ( رواه أحمد ، جـ5 ص198 ، جـ6 ص446) ، والقاصية هى الشاة المنفردة عن القطيع .
وفى رواية « فأنما يأكل الذئب من الغنم القاصية » .
ودعَا صلى الله عليه وسلم إلى حماية المجتمع المسلم من معاول الهدم والتشتت ، فحياة التفرق والتمزق هى حياة الفوضى التى يأباها الإسلام ، ويربى أتباعه على البعد عنها ومحاربتها .
« من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرّق جماعتكم فاقتلوه بالسيف كائنًا من كان » (رواه مسلم - كتاب الإمارة - باب حكم من فرق أمر المسلمين وهو مجتمع ، برقم 1852) .
وكَدَر الجماعة خير من صفو الفردية : ونقصد بالكدر ذلك الأذى الذى يصيب المؤمن من اختلاطه بإخوانه المسلمين ، فى ماله أو عرضه أو فى غيرهما من حقوقه ، فيصبر على ذلك مُؤْثرًا الاجتماع بهم وخلطتهم ؛ لما فيها من أمر بمعروف ، ونهى عن منكر ، ودعوة إلى الخير ، وغيرها من المنافع العظيمة والمصالح الجسيمة ، فإن منزلته خير من منزلة من اعتزلهم ولم يصبر على أذاهم وأعظم أجرًا ؛ قال صلى الله عليه وسلم : « المؤمن الذى يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذى لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم » ( رواه ابن ماجة ، جـ2 ص493 ، غير أن سياقه " أعظم أجرًا " بدل " خير ") .(1/170)
وعلى هذا سار السلف الذين بيَّن معتقدهم صاحب الطحاوية فقال : " ونرى الجماعة حقًّا وصوابًا ، والفرقة زيغًا وعذابًا " (العقيدة الطحاوية ، ابن أبى العز ، ص512) .
أهمية صفة " الجماعية " وفوائدها :
لابد من تنشئة الفرد المسلم على حب الجماعية ، وتبصيره بما يترتب عليها من مصالح عظيمة وفوائد جسيمة فى الدنيا والآخرة ، وتبدو أهمية صفة الجماعية من خلال أمور كثيرة منها :
- الجماعية مطلب شرعى فى تأدية شعائر الإسلام والكثير من فرائضه ، وقد جاءت نصوص كثيرة لتأكيدها ، وحث النفوس عليها ، لما للجماعية من آثار حميدة ، وفوائد جليلة .
- الجماعية دافع لِتَحلِّى المسلم بكثير من الفضائل التى دعا إليها الإسلام : كالإيثار ، والأخوة ، والعفو ، والإحسان إلى الناس .. إلى آخر صفات المتقين التى بيّنها ربُ العالمين فى كتابه المبين ؛ فلا سبيل للاتصاف بها ، واختبار النفس فيها إلا من خلال وسط جماعى .
إن جلائل الأعمال ، وعظائم الأهداف لا يمكن تحقيقها – عادة – إلا من خلال العمل الجماعى الذى تتكاتف فيه الجهود ، بخلاف العمل الفردى ، فإنه لا يثمر فى الغالب إلا أعمالاً تتناسب مع مستوى طاقات الأفراد شدةً وضعفًا ؛ ولهذا نرى إبراهيم عليه السلام فى بناء البيت يعينه ولده إسماعيل ، وموسى عليه السلام يدعو ربَّه أن يَشُدَّ عَضُدَهُ بأخيه ..
إن كثيرًا من مطالب الإنسان الحياتية ، وحاجاته المادية ، بل والمعنوية ، تحتاج إلى جهود جماعية : كالتماس النصرة ، وتبادل المنفعة ، والإفادة من التجارب .. بل حتى عالم الحيوان نرى فيه هذا التكاتف الجماعى : كالنحل ، والنمل ، وغيرها ، على حد قول القائل :
النمل تبنى قراها فى تماسكها ... والنحل تجنى رحيق الشهد أعوانًا
وقد بوَّب صاحب الذريعة إلى مكارم الشريعة بابًا فقال : الباب الأول فى حاجة الناس إلى اجتماعهم للتظاهر .(1/171)
اعلم أنَّه لما صعب على كل أحد أن يحصِّل لنفسه أدنى ما يحتاج إليه إلا بمعاونة عدة رجال له ؛ فلقمة طعامه لو عددنا تعب محصليها من الزرَّاع والطحَّان والخبَّاز وصنَّاع آلاتها لصعب حصره ؛ ولهذا احتاج الناس أن يجتمعوا فرقة فرقة فيتظاهروا ؛ ولأجل ذلك قيل : الإنسان مدنى بالطبع ، أى لا يمكنه التفرد عن الجماعة بعيشه ، بل يفتقر بعضهم إلى بعض فى مصالح الدين والدنيا ، وعلى ذلك نَّبه صلى الله عليه وسلم بقوله : « المؤمنون كالبنيان يشد بعضهم بعضًا » ، وقال : « مثل المؤمنين فى توادِّهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد الواحد إذا تألّم بعضه تداعى سائره » ، وقيل : « الناس كجسد واحدٍ ؛ متى عاون بعضُه بعضًا استقل ، ومتى خَذَل بعضُه بعضًا اختل » (الذريعة للأصفهانى ، ص262) .
- الجماعية دافع للحركة ، وتوظيف الداعية لملكاته وجهوده وطاقاته فى خدمة دعوته ونشر عقيدته ، بعكس الفردية والانعزالية ، فإن المرء يشعر غالبًا معها بالفتور والكسل والدعة والملل .
- الجماعية فى العمل تعطى الدعوة قوة تستعصى معها على الاستئصال أو الاحتواء ، فلا يستطيع الأعداء الظفر بها أو التغلب عليها .(1/172)
- الجماعية تحقق مبدأ التكامل فى الدعوة ؛ إذ تتكاتف فيها الجهود والطاقات ، وتتضافر فيها المواهب والملكات ، فَتسْتوفى بالاجتماع شروط نجاح العمل وإتمامه وإتقانه . قال الله عن نبيه موسى عليه السلام وهو يسأل ربه : ( قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ * وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ) (سورة القصص – الآية 33 ، 34) ، فقد سأل موسى عليه السلام ربه أن يجعل معه أخاه هارون مساعدًا ومعاونًا له فى الدعوة (الردء : العون والمساعدة) ، وذكر أسباب هذا الدعاء ؛ وهى أنه يخشى أن يُقتَل ، فتنقطع بمقتله الدعوة ، وكذلك من عدم الإبانة فى الحجج والدلائل على صدق دعوته ورسالته بسبب عقدة لسانه ؛ فيريد أن يعينه هارون فى هذه المهمة ، فهو أفصح منه لسانًا ، وأحسنُ بيانًا ؛ فتتكامل الطاقات أو الجهود فى الوصول إلى الهدف المنشود .
- الجماعية من أهم عوامل ثبات الداعية على الحق الذى يؤمن به ويدعو إليه إذ من خلالها يتواصى مع إخوانه بالحق ويتناصحون بالصبر على عقبات الطريق ، لاسيما فى زماننا هذا الذى كثرت فيه الشهوات والفتن والشبهات والمحن : ( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِْنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) (سورة العصر – الآية 1 – 3) ..
- الجماعية وسيلة للتعرف على الحق والوصول إليه ، والبعد عن الباطل والنفور منه ؛ فمن خلال تشاور المرء مع إخوانه وتداول الآراء والأفكار ، يستنير الطريق ، وتتضح الرؤية ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : « الشيطان مع الواحد ، وهو من الاثنين أبعد » (رواه ابن ماجة ، جـ2 ص64) .(1/173)
- الجماعية مجال واسع لأعمال البر ، وميدان رحب لاكتساب الأجر والثواب . فالمسلم يزور إخوانه فى الله مبتغيًا محبة الله ، ففى الحديث القدسى « حقت محبتى للذين يتزاورون من أجلى ، وقد حقت محبتى للذين يتباذلون من أجلى » (قال الهيثمى فى المجمع ، جـ10 ص179 : " رواه الطبرانى فى الثلاثة ، ورواه أحمد بنحوه ، ورجال أحمد ثقات " ؛ قال ابن حجر فى الفتح ، جـ10 ص500 : " وعند مالك ، وصححه ابنُ حبان من حديث معاذ مرفوعًا : " وحقت محبتى للمتزاورين فىّ " الحديث ، وأخرجه أحمد بسند صحيح من حديث عتبان بن مالك " وتتفتح أمامه أبواب الخير فهو يسلم على المؤمنين ، وينصح لهم ، ويلبى دعوتهم ، ويشمّت عاطسهم ، ويعود مريضهم ، ويُشيِّع ميتهم ، ويتفقد غائبهم ، ويودِّع مسافرهم ، ويستقبل قادمهم ، ويقرض محتاجهم ، ويفرج عن مكروبهم ، ويهدى لهم ، ويقبل هديتهم ، ويشير عليهم ، ويعلم جاهلهم ، ويتعلم من عالمهم (شخصية المسلم بين الفردية والجماعية ، السيد محمد نوح ، ص36،37) .. خير عظيم وثواب كبير لا يجده المرء عندما يكون وحده .
- الجماعية صفة ترفعُ منزلةَ صاحبها فى الآخرة ، وتعلى درجته ..
جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، كيف تقول فى رجل أحبَّ قومًا ولم يلحق بهم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « المرء مع من أحب » (رواه البخارى - كتاب الأدب - باب علامة الحب فى الله) ، بل ربما دخل النار فيشفع له إخوانه الذين كان معهم فيُشَفِّعهم الله جل جلاله فيه .
صورة من الجماعة فى القرآن والسنة :
هناك نماذج فريدة فى القرآن والسنة المطهرة أبرزت لنا أهمية التكاتف والاتحاد والعمل المتكامل للإسلام تحدث عنها الشيخ مازن عبد الكريم فقال :
ذو القرنين وحاجته للجماعية .(1/174)
هذه طائفة من المواقف الفذة التى نرى فيها بوضوح استعانة الصالحين بإخوانهم فى دعوتهم ، وتربيتهم لأنفسهم ، وحرصهم على الجماعية فى الكثير من شؤون حياتهم .
ذو القرنين وحاجته للجماعية :
لقد مكن الله لذى القرنين فى الأرض كما أخبر بذلك جل جلاله فقال : ( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ) (سورة الكهف – الآية 84) .
قال الإمام ابن كثير – رحمه الله - : " أى أعطيناه ملكًا عظيمًا ، مُمكَّنًا فيه من جميع ما يؤتَى الملوك من التمكين والجنود وآلات الحرب والحضارات ولهذا مَلَكَ المشارقَ والمغاربَ من الأرض ، ودانت له البلاد ، وخضعت له ملوك العباد ، وخدمته الأمم من العرب والعجم " (مختصر تفسير ابن كثير ، للصابونى ، جـ2 ص433)
وعلى الرغم من هذا التمكين فإنه لم يستغن عن الجماعية عند عمل السد فقال : ( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً ) (سورة الكهف – الآية 95) .. أعينونى من المعاونة ، وهى المظاهرة والمساعدة ، فهو يطلب أن يساعدوه ويمدوه بالقوة العضلية والمادية لعمل السد ، وكأنه يقول : علىَّ القوة المالية ، وعلىَّ القوة الفكرية ، وعليكم أنتم القوةُ المادية العملية ، فيجتمع ما عندى مع ما عندكم ، وبذلك يتم إنجاز العمل .
وتُعتبر هذه العبارة القرآنية الموجزة : ( أَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ) ، مَعْلَمًا قرآنيًا بارزًا فى تضافر الجهود وتوحيد الطاقات والقدرات والقوى ، كما تُقدِّم لنا قاعدة قرآنية مطردة فى إنجاز الأعمال والقيام بالمطلوب .
إن المجتمع المتكامل الناجح ، هو الذى تجتمع كافة القوى والطاقات فيه ، لتحقيق الخير فيه . وإن القيادة الناجحة الواعية هى التى تستقطب كافة الإمكانيات والقدرات لتحقيق الغايات المنشودة .(1/175)
هناك فئات فى المجتمع تملك القوة الفكرية ؛ فتستطيع أن تُفكِّر ، وأن تُبرمج ، وأن تُنظِّرَ ، ولو تُركت هذه الفئات وحدها ، فإنها قد لا تحقق ما خططته وفكرتْ فيه .. وهناك فئات فى المجتمع تملك المال والاقتصاد الكافى للعمل لكنها قد لا تملك الفكر والتخطيط ، كما أنها قد لا تملك الجهد المناسب للعمل . وهناك فئاتٌ لا تملك مالاً ولا تقدر على تخطيط ؛ ولكنها تملك الوقت والجهد ، وتقدر على العمل بالسعى والكسب بالبدن .
فلابد من التنسيق والتعاون بين هذه الفئات ، وجمْعِ ما تملكه من قوى وطاقات وقدرات ، والتوجه به نحو خير الأمة ورفعتها .. لابد من اجتماع صاحب الفكر ، ومالك المال ، والقادر على العمل والكسب ، وتوجُّه الجميع نحو الخير .
والقيادة الواعية فى الأمة ، هى تلك التى تقدر على الربط بين كل الخيوط والخطوط ، والتنسيق بين المواهب والطاقات ؛ فهل أمتُنا فى واقعها المعاصر تجمع بين القوى والطاقات أم تُفرقِّ بينها ؟ وهل تلتقى كلُّ المواهب والقدرات على خير الأمة ، أم هى ممزقة متفرقة ؟
كم من مواهب ضائعة فى الأمة ! وكم من طاقات معطَّلة ! وكم من أموال مهدرة ! وكم من أوقات مبدَّدة ! وكم من شباب حيارى ! ... لابد أن تأخذ الأمة قاعدة ذى القرنين فى الجمع والتنسيق والتعاون ، ولابد أن يكون شعارها بكافة فئاتها وطاقاتها وقواها : ( أَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ) (مع قصص السابقين فى القرآن ، للخالدى ، جـ2 ص341،342)
الجماعية فى غزوة الخندق :
* سلمان الفارسى صلى الله عليه وسلم يقترح حفر الخندق .
* الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المهاجرين والأنصار يحفرون الخندق فى جوٍّ بارد خلال أربعة أيام بلياليهن .(1/176)
* جابر بن عبد الله يُعد طعامًا للنبى صلى الله عليه وسلم ولرجل أو رجلين معه ، فيدعو النبى صلى الله عليه وسلم المهاجرين والأنصار ، فيأكل ألف من المجاهدين فى بيت جابر ، ويكفيهم طعام ثلاثة ! وهى معجزة من معجزات رسولنا صلى الله عليه وسلم .
* على بن أبى طالب والزبير – رضى الله - يقاتلان بعض المشركين الذين حاولوا اقتحام الخندق .
* زيد بن حارثة ، ومعه ثلاثمائة رجل ، يحرسون المدينة ، ويظهرون التكبير لِيُرْهبوا بنى قريظة ؛ لئلا يُسوِّل لهم الغدرُ نقضَ عهدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيهجموا على المدينة ، وفيها النساء والأطفال والعجزة .
* سعد بن عبادة وسعد بن معاذ يذهبان ليتعرفا حال بنى قريظة ، وهل نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا .
* حذيفة بن اليمان يبعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأحزاب ليأتى بأخبارهم (انظر : محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لمحمد الصادق عرجون ، جـ4 ص131–202) .
الجماعية فى المدارسة والمذاكرة :(1/177)
عن أبى هريرة صلى الله عليه وسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن لله تعالى ملائكة يطوفون فى الطرق يلتمسون أهل الذكر ، فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله – عزَّ وجلَّ – تنادوا : هلموا إلى حاجتكم ، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا ، فيسألهم ربهم – وهو أعلم - : ما يقول عبادى ؟ قال : يقولون : يُسَبِّحونَكَ ، ويُكَبِّرونَكَ ، ويُحَمِّدُونَكَ ، ويُمجِّدُونَكَ . فيقول : هل رأونى ؟ فيقولون : لا والله ما رأوك . فيقول : كيف لو رأونى ؟ قال : يقولون : لو رأوك كانوا أشد لك عبادة ، وأشدَّ لك تمجيدًا ، وأكثر لك تسبيحًا . فيقول : فماذا يسألون ؟ قال : يقولون : يسألونك الجنة . قال : يقول : وهل رأوها ؟ قال : يقولون : لا والله يارب ، وما رأوها . قال : يقول : فكيف لو رأوها ؟ قال : يقولون : لو أنهم رأوها كانوا أشدَّ عليها حِرصًا ، وأشد لها طلبًا ، وأعظم فيها رغبة . قال : فمم يتعوَّذون ؟ قال : يقولون : يتعوَّذون من النار . قال : فيقول : وهل رأوها ؟ قال : يقولون : لا والله ، وما رأوها . فيقول : فكيف لو رأوها ؟ قال : يقولون : لو رأوها كانوا أشد منها فرارًا ، وأشد لها مخافة . قال : فيقول : فأُشْهِدُكُم أنى قد غَفَرْتُ لهم . قال : يقول مَلَكٌ من الملائكة : فيهم فلان ليس منهم ؛ إنما جاء لحاجة ، قال : هم الجلساء لا يشقى بهم جَلِيسُهُم » (رواه البخارى - كتاب الدعوات - باب فضل ذكر الله عز وجل ، برقم 6408 . ورواه مسلم - كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار - باب فضل مجالس الذكر ، برقم 2689) .
قال ابن حجر : " وفى الحديث فضل مجالس الذكر والذاكرين ، وفضل الاجتماع على ذلك ، وأن جَليسهم مُكْرَمٌ معهم فى جميع ما يَتَفَضَّل الله تعالى به عليهم إكرامًا لهم ، ولو لم يشاركهم فى أصل الذكر " (الفتح ، جـ11 ص213) .(1/178)
قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه : " كنت أنا وجارٌ لى من الأنصار فى بنى أمية بن زيد – وهى من عوالى المدينة – وكنا نتناوبُ النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ينزل يومًا وأنزل يومًا ، فإذا نزلت جئتُهُ بخبر ذلك اليوم من الوحى وغيره ، وإذا نزل فعل مثل ذلك " (رواه البخارى - كتاب العلم - باب التناوب فى العلم ، برقم 89) .
وعن فضالة بن عبيد أنه كان إذا أتاه أصحابه قال : " تدارسوا وأبشروا وزيدوا زادكم الله خيرًا ، وأُحبُّكم وأُحِبُّ من يُحبُّكم ، رُدّوا علينا المسائل ، فإن أجر آخرها كأجر أولها ، واخلطوا حديثكم بالاستغفار " (قال الهيثمى فى المجمع ، جـ1 ص161 : " رواه الطبرانى فى الكبير ورجاله موثقون) .
الجماعية فى دعوة الناس إلى الخير
قال أنس رضى الله عنه : " جاء ناسٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : ابعث معنا رجالاً يُعلّموننا القرآن والسنَّة ، فبعث إليهم سبعين رجلاً من الأنصار ، يُقال لهمُ القُرَّاءُ ؛ يَقَرؤُنَ القرآن ، ويُتدارسون بالليل يتعلمون ، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه فى المسجد ، ويحتطبون فيبيعونه ، ويشترون به الطعام لأهلِ الصُّفَّة وللفقراء ، فبعثهم النبىُّ صلى الله عليه وسلم إليهم [ أى لدعوتهم ولتعليمهم القرآن والسنة ] ، فعرضوا لهم ، فقتلوهم قبل أن يبلغوا المكان [ أى عرض المشركون لهؤلاء الدعاة وهم فى طريقهم لأولئك القوم من أجل دعوتهم وتعليمهم فقتلوهم قبل أن يصلوا إلى المكان الذى يريدون الدعوة فيه ] ، فقالوا [ أى هؤلاء الدعاة ] : اللهم بلَّغْ عنَّا نبينا أنا قد لقيناك فَرضيِنا عنك ورَضيِت عنا " (رواه مسلم - كتاب الإمارة - باب ثبوت الجنة للشهيد ، برقم 677) .
ومن فوائد الجماعية فى الدعوة
* التكامل فى التخصص واستثمار المواهب والملكات :(1/179)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أرحم أمتى بأمتى أبو بكر ، وأشدهم فى أمر الله عمر ، وأصدقهم حياءً عثمان ، وأقرؤهم لكتاب الله أبىُّ بن كعب ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، وأعلمهُم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، ألا وإن لكل أمةٍ أمينًا وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح » (رواه الترمذى ، جـ2 ص309) ، فانظر كيف استثمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قدرات أصحابه ووظفها فى خدمة الإسلام ! .
الجماعية فى الشورى
لقد كان من الصفات البارزة عند السلف الإفادة من خبرات الأفراد وتجاربهم فى الإقدام على عمل أو الإحجام عنه .(1/180)
عن عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام ، حتى إذا كان بِسَرْغ لَقِيَه أهل الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابُهُ ، فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام . قال ابن عباس : قال عمر : ادْعُ لى المهاجرين ؛ فدعوتهم ، فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام ، فاختلفوا . فقال بعضهم : قد خرجت لأمرٍ ولا نرى أن ترجع عنه ، وقال بعضهم : معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نرى أن تُقْدِمَهم على هذا الوباء . فقال : ارتفعوا عنى . ثم قال : ادع لى الأنصار ، فدعوتهم له فاستشارهم ، فسلكوا سبيل المهاجرين ، واختلفوا كاختلافهم ، فقال : ارتفعوا عنى . ثم قال : ادعُ لى من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح ، فدعوتهم فلم يختلف عليه رجلان ، فقالوا : نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوباء ، فنادى عمر فى الناس : إنى مُصْبِحٌ على ظهر فأصبحوا عليه ، فقال أبو عبيدة بن الجراح : أفرارًا من قدر الله ؟ قال عمر : لو غيرُك قالها يا أبا عبيدة ( وكان عمر يكره خلافه ) .. نعم ، نَفِرُّ من قدر الله إلى قدر الله . أرأيت لو كانت لك إبل فهبطت واديًا له عُدْوَتَان : إحداهما خِصْبَةٌ ، والأخرى جَدْبَةٌ ؛ أليس إن رَعَيْتَ الخصبة رعيتها بقدر الله ، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله ؟ قال : فجاء عبد الرحمن بن عوف ، وكان متغيبًا فى بعض حاجته ، فقال : إن عندى من هذا علمًا ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إذا سمعتم به بـ أرض ، فلا تقدموا عليه ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه » . قال : " فحمِدَ الله عمرُ بنُ الخطاب ، ثم انصرف " (رواه البخارى - كتاب الطب - باب ما يُذكر فى الطاعون ، برقم 5729) .
(5) التدرج(1/181)
يعد التدرج فى الدعوة إلى الله تعالى من أبرز المناهج القرآنية العظيمة ، ومن أوضح سمات المنهج النبوى المبارك ، وهو أحد المعالم البارزة فى مناهج الدعوة المؤثرة الصادقة على مدار العصور والأزمنة ،
وذلك لأن التدرج يتوائم مع الفطرة ، ويتناسب مع الطبيعة النفسية البشرية ، ومن هنا كان التدرج سمتًا لازمًا ، ومنهجًا لا يجوز إغفاله .
فها هو القرآن الكريم يرسى دعائم التدرج فى الدعوة فيبدأ بسور من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام وهو ما قالته السيدة عائشة رضى الله عنها : " إنما أنزل أول ما أنزل منه سور من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ، ولو نزل أول شىء لا تشربوا الخمر ، لقالوا لا ندع الخمر أبدًا ، ولو نزل لا تزنوا ، لقالوا لا ندع الزنا أبدًا ، لقد نزل على محمد صلى الله عليه وسلم بمكة وأنا جارية ألعب ( بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ) (سورة القمر – الآية 46) وما نزلت سورة البقرة إلا وأنا عنده ... " (الحديث أخرجه البخارى فى صحيحه ، جـ3 - باب تأليف القرآن ، حديث رقم 4707) .
ويظهر ذلك تطبيقًا فى منهج القرآن فى تحريم الخمر .
فالقرآن لم يبدأ القوم بتحريمها ، ولكنه بدأ يمهد لهم ، وذلك لأن الناس وقتها كانوا قد تعودا عليها كتعودهم على الماء ، فكان الأرفق والأوفق والأنسب لنفوسهم وقلوبهم أن يبدأ التحريم متدرجًا .
لذلك بدأت الإشارة إلى التحريم بالتحقير من شأنها بقول الله تعالى : ( وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) (سورة النحل – الآية 67) .(1/182)
فأشار القرآن إلى أن الرزق الحسن فى كفة والسكر فى كفة أخرى ، ثم جاءت الخطوة الثانية : ( يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ) (سورة البقرة – الآية 219) .
هنا ازدادت حدة التغيير درجة ، حيث بينت الآيات أن الإثم فى الخمر يغلب على المنفعة ، وهو ما يدفع الإنسان السليم الطبع إلى تركها أو على الأقل يشربها وهو متأثم ثم جاءت الخطوة الثالثة : ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ) (سورة النساء – الآية 43) ، وهنا ضيق القرآن وقت الشراب حتى ينتهى الناس إلى الخطوة الأخيرة والحكم الحاسم .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) (سورة المائدة – الآية 90 ، 91) .
فماذا كانت النتيجة ؟ وكيف تعامل قوم تعودوا على الخمر مع هذا الأمر القاطع بالتحريم ؟
نعم التدرج الحكيم أعانهم على أن يعلنوها مدوية : انتهينا يا ربنا ، وأريقت الخمر فى شوارع المدينة !!
هكذا نرى أن القرآن تدرج فى إصلاح البشرية ودعوة الناس إلى الخير(1/183)
ثم إن الناظر فى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى كيف كان التدرج سمتًا فيقول ابن عباس صلى الله عليه وسلم إن النبى صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال : « ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله ، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات فى كل يوم وليلة ، فإن هم أطاعوا لذلك فاعلمهم إن الله فرض عليهم صدقة فى أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم » (الحديث أخرجه البخارى - كتاب الزكاة - باب وجوب الزكاة) .
وعن هذا المنهج نستمع إلى السيدة عائشة رضى الله عنها وهى تروى لنا : كيف كان التدرج سمتًا لنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا يقول لها صلى الله عليه وسلم : « لولا أن قومك حديث عهدهم بجاهلية أو قال بكفر لنقضت كنز الكعبة فى سبيل الله » .
وفى رواية : « لو لا أن قومك حديث عهدهم فى الجاهلية فـ أخاف أن تنكره قلوبهم لنظرت أن أدخل الجدار فى البيت » .
وفى رواية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لولا حداثة عهد قومك بالكفر ، لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم فإن قريشًا حين بنت البيت ، استقصرت .. » .
وفى رواية : « ولجعلت بابها بالأرض ولأدخلت فيها من الحجر » (صحيح مسلم - كتاب الحج - باب نقض الكعبة وبنائها ؛ والترمذى فى سننه - المجلد الثانى - باب ما جاء فى كسر الكعبة ، حديث رقم 46 ؛ وانظر : الجامع الصغير للسيوطى - حرف اللام ، حديث رقم 269) .(1/184)
لذلك كان التدرج سمتًا ثابتًا لكل الدعاة المخلصين الفاهمين فهذا سيدنا عمر بن عبد العزيز صلى الله عليه وسلم لما ولى الخلافة ، وعاد فى أول يوم فى خلافته من المقابر حيث دُفن سليمان بن عبد الملك الخليفة السابق . فأراد عمر صلى الله عليه وسلم أن ينام ليرتاح قليلاً فى قيلولته فإذا بولده الصالح يأتيه ويقول له : كيف تنام وهناك مظالم ؟ قم فعاقب كل ظالم ، وحاسب كل مقصر ، فقال عمر معلمًا لولده ولنا : " يا بنى والله لا أبالى لو غلت بى وبك القدور ، ولكنى أخاف أن أدفع الناس إلى الحق مرة واحدة فيردوه دفعة واحدة " .
وهكذا فليكن الدعاة .
وأخيرًا فإن لى كلمة
إن التدرج الذى نتحدث عنه الآن ليس تدرجًا فى التشريع ، فالتشريع قد ثبت وكمل ولا مجال للتدرج فيه .
وقال الله تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإْسْلامَ دِيناً ) (سورة المائدة – الآية 3) .
أما التدرج الذى نبحث عنه ونطالب به هو تدرج الدعوة وتدرج التطبيق ، وتدرج الاهتمامات وتدرج البدايات ، ومراعاة الأولى فى البداية .
فالمدعو الغارق فى المعاصى إذا نهيته عن كل شىء فى وقت واحد دفع كل شىء وفى وقت واحد ، لذلك يتدرج الداعية فى دعوته حيث يبدأ بالكليات قبل الجزئيات . وبالأهم ثم المهم .
ولو أن الدعاة بدءوا بالتدرج لكان من اليسير أن يستجيب الناس لهم ، ويلتف الناس حول دعوتهم .
هذا هو الطريق فإياك أن تحيد .
الخاتمة
أخى الداعية .
كانت هذه بعض جوانب قفه الدعوة التى استهدفت الوقوف على أفضل السبل لتحقيق النجاح فى حياتنا نحن الدعاة ، ولا ندِّعى أننا طرقنا كافة الأبواب اللازمة فى هذا المجال فلا تزال بعض الجوانب تحتاج إلى مزيد من الدراسة ، وتستدعى التنبيه على نقاط لم يرد لها ذكر فى هذا الكتاب .(1/185)
لكننا اجتهدنا أن نطرق أهم المسائل ، ونشير إلى أهم النقاط ، ولعلَّ الفرصة تتاح فيما بعد بإذن الله تعالى لتعميق هذه الدراسة بصورة أوسع مما هى عليه .
ويبقى أن يشمر كل منا عن ساعد الجدِّ ليقدم للدعوة أقصى جهد ممكن ، وبذلك تتحقق الخيرية التى أرادها الله لهذه الأمة ، والتى لا تتحقق دون قيامها بواجب الدعوة ، وصدق الله : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ))) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
المؤلفان(1/186)