المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد، فهذا كتاب يبحث في موضوع «الجزاء من جنس العمل»، وكنت فيما مضى قد جمعت منه شيئاً كثيراً؛ من كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكلام السلف، ومن كلام شيخ الإسلام وتلميذه الهمام، فقد مررت على كتبهما المطبوعة ودونت جل ما فيها من هذا الموضوع.
ثم شاء الله عز وجل أن يتأخر إتمام الكتاب، وذلك لعدة أسباب، منها أن البحث واسع في مادته غني في أمثلته، يوضح ذلك أن يقال:
إن الأمثلة في باب الجزاء من جنس العمل متنوعة، منها ما هو واضح جلي يفهمه كل أحد، كقوله تعالى:
+وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ ا÷ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قالُواْ "[المائدة:64].
وقوله تعالى: + فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ ا÷ قُلُوبَهُمْ" [ الصف: 5].
وقوله سبحانه: + لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ" [ يونس: 26].
وقوله سبحانه: + وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً" [ الإسراء: 72].
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَسّر على مُعْسِر يَسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»(1).
وغير ذلك مما لا يكاد يُستوعب.
__________
(1) بعض حديث أخرجه مسلم (2699) وغيره.(1/1)
ومنها ما هو غامض خفي أو هو خفي على أكثر الناس، فلا يكاد يفهمه اللبيب فضلاً عن غيره إلا بعد نظر وفكر، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يُحشر المتكبرون يومَ القيامة أمثالَ الذَّرِّ في صُوَر الرجال، يَغْشاهم الذلُّ من كل مكان، فيساقون إلى سجن في جهنم يُسَمَّى بُولَسَ تعلوهم نار الأَنْيار، يُسقون من عُصارة أهل النار؛ طينة الخَبَال»(1).
فحشرُهم أمثال الذر واضح في باب الجزاء من جنس العمل، فلما تكبروا على الله عز وجل وعلى خلقه أذلهم في الآخرة وصغرهم وحقرهم.
لكن تعذيبهم بسقيهم من طينة الخَبَال يحتاج إلى فكر لتظهر علاقته بمجازاة المتكبرين من جنس عملهم.
فيقال: (طينة الخبال): هي عصارة أهل النار ـ كما هي مفسرة في الحديث ـ وهي ما يسيل منهم من القيح والدم وغيره، و(الخبال) في الأصل: الفساد، ويكون ـ كما في «النهاية» ـ في الأفعال والأبدان والعقول.
وإنما سميت بذلك لشدة فسادها وقوة إفسادها، ولما كان المتكبرون من أشد الناس فساداً وأكثرهم إفساداً في الأرض، خاصة إذا كانوا ملوكاً وسلاطين، كان هذا الجزاء مناسباً لحالهم وأعمالهم.
وأيضاً، فإن المتكبرين لا يصدر عنهم كبرهم واحتقارهم للناس وللحق وأهله إلا عن فساد وخَبَل في عقولهم وفِطَرهم، فناسب أن يجازوا بسقيهم من طينة الخبال والفساد، جزاءً وفاقاً.
ومنها ما هو أقل خفاءً من هذا، كقوله تعالى: + وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً" [الإنسان:12].
فجعل سبحانه نعومة الحرير جزاء ما قاسوه من خشونة الصبر، وسعة الجنة جزاء ما كانوا فيه من حبس الصبر، كما نبه إليه الإمام ابن القيم، وسيأتي أثناء الكتاب.
وغير ذلك من الأمثلة، مما سيراه القارئ واضحاً جلياً، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) أخرجه الترمذي (2492)، وأحمد (2/179)، وقال الترمذي: «حسن صحيح»، وحسنه الألباني.(1/2)
فلهذا السبب وغيره رأيت الآن من باب «ما لا يدرك جله لا يترك كله» أن أكتفي بإتحاف القراء بما جمعته من كتاب الشيخ وتلميذه ـ كما أشرت ـ، وعسى أن أكون قد بلغت الأمل الذي أنشده من الاستفادة والإفادة من هذا البحث، ولذا سميته:
بلوغ الأمل
في تقرير قاعدة
الجزاء من جنس العمل
سائلاً الله عز وجل أن يجعله نافعاً كاتبه وقارئه، وأن يثيب شيخ الإسلام وتلميذه الإمام عن المسلمين خيراً، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وهو سبحانه حسبي، لا إله إلا هو، عليه توكلت وإليه أُنيب.
وكتب
محمد شومان
1423 هـ
بلوغ الأمل
في تقرير قاعدة
الجزاء من جنس العمل
(1) باب الثواب والعقاب من جنس العمل
في قدر الله وفي شرعه
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
«الثواب والعقاب يكونان من جنس العمل في قَدَر الله وفي شرعه، فإن هذا العدلُ الذي تقوم به السماء والأرض، كما قال الله تعالى: +إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ فَإِنَّ ا÷ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً" [ النساء: 149].
وقال: +وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ا÷ لَكُمْ" [النور:22].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من لا يرحم لا يرحم»(1).
وقال: «إن الله وتر يحب الوتر»(2).
وقال: «إن الله جميل يحب الجمال»(3).
وقال: «إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً»(4) .
وقال: «إن الله نظيف يحب النظافة»(5).
__________
(1) متفق عليه.
(2) متفق عليه، وعند البخاري: «وهو وتر يحب الوتر».
(3) أخرجه مسلم (رقم 91) وغيره.
(4) أخرجه مسلم (1015) وغيره.
(5) أخرجه الترمذي (2799) واستغربه، وضعفه الألباني.(1/3)
ولهذا قطع يد السارق، وشرع قطع يد المحارب ورجله، وشرع القصاص في الدماء والأموال والأبشار، فإذا أمكن أن تكون العقوبة من جنس المعصية كان ذلك هو المشروع بحسب الإمكان، مثل ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شاهد الزور أنه أمر بإركابه دابة مقلوباً وتسويد وجهه، فإنه لما قلب الحديث قلب وجهه، ولما سود وجهه بالكذب سود وجهه، وهذا قد ذكره في تعزير شاهد الزور طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم.
ولهذا قال الله تعالى: + وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً" [ الإسراء:72].
وقال تعالى: + وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى" [ طه: 124ـ 126].
وفي الحديث: «يحشر الجبارون والمتكبرون على صور الذر يطأهم الناس بأرجلهم»(1).
فإنهم لما أذلوا عباد الله أذلهم الله لعباده، كما أن «من تواضع لله رفعه الله»(2)، فجعل العباد متواضعين له».
«مجموع الفتاوى» (28/119- 120).
__________
(1) أخرجه الترمذي (2492) وغيره, عن عبد الله بن عمرو عن النبي × قال: «يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى بُولَسَ تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار؛ طينة الخَبَال». قال الترمذي: «حسن صحيح». وقد تقدم (صفحة 6).
ونحو اللفظ المذكور أعلاه مَرْوِيٌّ من حديث أبي هريرة (رضي الله عنه) مرفوعاً، ولا يصح. راجع «مجمع الزوائد» (10/33)، و«علل أحمد» (ص112).
(2) جاء عن النبي × أنه قال: «ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله»، أخرجه مسلم (2588) وغيره.(1/4)
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
«الجزاء [مماثل] للعمل، من جنسه في الخير والشر، فمن ستر مسلماً ستره الله، ومن يَسّر على مُعْسر يَسّر اللهُ عليه في الدنيا والآخرة، ومن نَفَّسَ عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نَفَّسَ الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن أقال نادماً أقال الله عثرته يوم القيامة، ومن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن ضارَّ مسلماً ضارَّ اللهُ به، ومن شاقَّ شاقَّ الله عليه، ومن خَذَلَ مسلماً في موضع يحب نُصرته فيه خَذَلَهُ اللهُ في موضع يحب نصرته فيه، ومن سَمَحَ سَمَحَ الله له، والراحمون يرحمهم الرحمن، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء، ومن أنفق أُنفِقَ عليه، ومن أَوْعَى أُوعِيَ عليه، ومن عفا عن حقه عفا اللهُ له عن حقه، ومن تجاوز تجاوز اللهُ عنه، ومن استقصى استقصى اللهُ عليه».
«إعلام الموقعين» (1/196).
(2) باب في أن العقوبات في الجنايات الواقعة
بين الناس من جنسها
قال ابن القيم: «… فكان من بعض حكمته سبحانه ورحمته: أن شرع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم على بعض، في النفوس والأبدان والأعراض والأموال، كالقتل والجراح والقذف والسرقة، فأحكم سبحانه وجوه الزَّجر الرادعة عن هذه الجنايات غاية الإحكام، وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الرَّدع والزجر، مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الرَّدع، فلم يشرع في الكذب قطع اللسان ولا القتل، ولا في الزنا الخصاء، ولا في السرقة إعدام النفس، وإنما شَرَعَ لهم في ذلك ما هو مُوجَبُ أسمائه وصفاته؛ من حكمته ورحمته ولطفه وإحسانه وعَدْله، لتزولَ النوائبُ، وتنقطعَ الأطماع عن التظالم والعدوان، ويقتنعَ كلُّ إنسان بما آتاه مالكه وخالقه، فلا يطمع في استلاب غيره حقه.
ومعلوم أن لهذه الجنايات الأربع مراتب متباينة في القلة والكثرة، ودرجاتٍٍ متفاوتة في شدة الضرر وخفته، كتفاوت سائر المعاصي في الكبر والصغر وما بين ذلك.(1/5)
ومن المعلوم أن النظرة المحرمة لا يصلُح إلحاقها في العقوبة بعقوبة مرتكب الفاحشة، ولا الخَدْشة بالعود بالضربة بالسيف، ولا الشتم الخفيف بالقذف بالزنا والقَدْح في الأنساب، ولا سرقة اللقمة والفَلْس بسرقة المال الخطير العظيم.
فلما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بُدٌّ من تفاوت مراتب العقوبات، وكان من المعلوم أن الناس لو وُكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنساً ووصفاً وقَدْراً لذهبت بهم الآراءُ كُلَّ مذهب، وتشعبت بهم الطرقُ كلَّ مَشْعَب، ولعَظُمَ الاختلاف واشتد الخَطبُ، فكفاهم أرحمُ الراحمين وأحكم الحاكمين مُؤنة ذلك، وأزال عنهم كُلفَتَه، وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديره نوعاً وقدراً، ورتَّبَ على كل جناية ما يناسبها من العقوبة ويليق بها من النَّكال، ثم بلغ من سَعَة رحمته وجوده أن جعل تلك العقوبات كفاراتٍ لأهلها وطُهرةً تزيل عنهم المؤاخذة بالجنايات إذا قَدِمُوا عليه، ولا سيما إذا كان منهم بعدها التوبة النَّصُوح والإنابة، فرحمهم بهذه العقوبات أنواعاً من الرحمة في الدنيا والآخرة، وجعل هذه العقوبات دائرة على ستة أصول: قَتْل، وقَطْع، وجَلْد، ونفي، وتغريم مال، وتعزير.
فأما القتل فجعله عقوبة أعظم الجنايات، كالجناية على الأنفس، فكانت عقوبته من جنسه، وكالجناية على الدٍّين بالطعن فيه والارتداد عنه، وهذه الجناية أولى بالقتل وكف عدوان الجاني عليه من كل عقوبة، إذ بقاؤه بين أظْهُرِ عباده مَفسدةٌ لهم، ولا خير يُرجى في بقائه ولا مصلحة، فإذا حُبِسَ شره وأُمسك لسانُه وكُفَّ أذاه والتزم الذل والصَّغار وجرَيَان أحكام الله ورسوله عليه وأداء الجزية لم يكن في بقائه بين أظْهُرِ المسلمين ضرر عليهم، والدنيا بلاغ ومتاع إلى حين.
وجَعَلَهُ أيضاً عقوبة الجناية على الفروج المحرمة لما فيها من المفاسد العظيمة واختلاط الأنساب والفساد العام.(1/6)
وأما القَطْع فجعله عقوبة مِثله عَدْلاً وعقوبةَ السارق، فكانت عقوبته به أبلغ وأردع من عقوبته بالجَلْد، ولم تبلغ جنايته حَدَّ العقوبة بالقتل، فكان أليقُ العقوبات به إبَانَةَ العضو الذي جعله وسيلة إلى أذى الناس وأخذِ أموالهم، ولما كان ضرر المحارب أشدَّ من ضرر السارق وعدوانه أعظم ضَمَّ إلى قطع يده قطع رجله، ليَكُفَّ عدوانَه وشرَّ يده التي بطش بها ورجله التي سعى بها، وشَرَعَ أن يكون ذلك من خلاف لئلا يُفَوِّتَ عليه منفعة الشِّق بكماله، فكَفَّ ضرره وعدوانه ورَحِمه بأن أبقى له يداً من شِق ورجلاً من شِق.
وأما الجَلْد فجعله عقوبة الجناية على الأعراض وعلى العقول وعلى الأبضاع، ولم تبلغ هذه الجنايات مبلغاً يُوجبُ القتل ولا إبانَةَ طَرَفٍ، إلا الجناية على الأبضاع فإن مفسدتها قد انتهضت سبباً لأشنع القتلات، ولكن عارَضَها في البكر شِدَّةُ الداعي وعدم المُعَوِّضِ، فانتهضَ ذلك المعارضُ سبباً لإسقاط القتل»(1) .
«إعلام الموقعين» (2/95-97).
وقال: «وتأمل كيف جاء إتلاف النفوس في مقابلة أكبر الكبائر وأعظمها ضرراً وأشدها فساداً للعالم، وهي الكفر الأصلي والطارئ، والقتل، وزِنى المُحصَن، وإذا تأمل العاقل فساد الوجود رآه من هذه الجهات الثلاث، وهذه هي الثلاث التي أجاب النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود بها حيث قال له : يا رسول الله، أيُّ الذنب أعظم ؟ قال: «أن تجعل لله ندّاً وهو خَلَقَك، قال: قلت: ثم أيٌّ؟ قال: «أن تقتل ولَدَكَ خشية أن يَطْعَمَ معك»، قال: قلت: ثم أيٌّ؟ قال: «أن تزاني بحليلة جارك»(2).
فأنزل الله عز وجل تصديق ذلك: + وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ا÷ إِلَهَا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ ا÷ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ" الآية.
[ الفرقان:68].
__________
(1) ولكلامه بقية، فمن شاء فليراجعه.
(2) متفق عليه.(1/7)
ثم لما كان سرقة الأموال تَلِي ذلك في الضرر وهو دونه جعل عقوبته قطع الطَّرَف، ثم لما كان القذف دون سرقة المال في المفسدة جعل عقوبته دون ذلك وهو الجَلْد، ثم لما كان شرب المسكر أقل مفسدة من ذلك جعل حَدَّه دون حَدِّ هذه الجنايات كلها، ثم لما كانت مفاسد الجرائم بعدُ متفاوتة غير منضبطة في الشدة والضعف والقلة والكثرة ـ وهي ما بين النظرة والخلوة والمعانقة ـ جُعِلَتْ عقوباتُها راجعة إلى اجتهاد الأئمة ووُلاة الأمور، بحسب المصلحة في كل زمان ومكان، وبحسب أرباب الجرائم في أنفسهم.
«إعلام الموقعين» (2/108-109).
وقال في موضع آخر: «قالوا: وقد دَلّ الكتاب والسنة في أكثر من مائة موضع على أن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر، كما قال تعالى: +جَزَاءً وِفَاقاً" [ النبأ: 26]؛ أي: وفق أعمالهم، وهذا ثابت شرعاً وقَدَراً، أما الشرع فلقوله تعالى: +وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنْفَ بِالأَنْفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ" [المائدة: 45] »(1).
«تهذيب السنن» (12/176).
(3) باب عام في جزاء الحسنات والسيئات
وجزاء ترك الصلاة واتباع الشهوات
قال شيخ الإسلام: «فالحسنات والسيئات في كتاب الله يُراد بها أعمال الخير وأعمال الشر، كما يُراد بها النعم والمصائب، والجزاء من جنس العمل، فمن عمل خيراً وحسناتٍ لقي خيراً وحسنات، ومن عمل شراً وسيئاتٍ لقي شراً وسيئات، كذلك من عمل غَيّاً لقي غَيّاً، وترك الصلاة غَيٌّ يلقى صاحبه غَيّاً، فلهذا قال الزمخشري: كل شر عند العرب غَيٌّ، وكل خير رشاد. كما قيل:
فمَنْ يلقَ خيراً يحمد الناسُ أمرَه ومَنْ يَغْوِ لا يُعْدَمُ على الغَيِّ لائماً»
«مجموع الفتاوى» (10/570).
(4) باب جزاء المهتدين والضالين
__________
(1) ولكلامه بقية، فمن شاء فليراجعه.(1/8)
قال شيخ الإسلام أثناء ذكره «أقسام الهدى»: «والقسم الرابع: الهدى في الآخرة، كما قال تعالى: +إِنَّ ا÷ يُدْخِلُ الَّذِينَ امَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَهُدُواْ إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُواْ إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ" [ الحج:23 و24].
وقال: +إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ" [ يونس:9].
فقوله: +يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ" كقوله: +وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ" [الطور: 21 ] على أحد القولين في الآية.
وهذا الهدى ثواب الاهتداء في الدنيا، كما أن ضلال الآخرة جزاء ضلال الدنيا، وكما أن قَصْدَ الشر في الدنيا جزاؤه الهدى إلى طريق النار، كما قال تعالى: +احْشُرُواْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ ا÷ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ" [الصافات: 22 و23].
وقال: +وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا"
[الإسراء: 72].
وقال: +فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى " [ طه: 123 ـ 126] .(1/9)
وقال: +وَمَن يَهْدِ ا÷ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً"الآية [ الإسراء:97].
فإن الجزاء أبداً من جنس العمل، كما قال صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَنْ في الأرض يرحمْكم مَنْ في السماء»(1).
وقال: «مَنْ سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، ومَنْ يسّر على مُعسر يَسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومَنْ ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»(2).
وقال: «مَنْ سئل عن علم يَعْلَمُهُ فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجامٍ من نار»(3).
وقد قال تعالى: +وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ا÷ لَكُمْ " [ النور: 22].
وقال: +إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ فَإِنَّ ا÷ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً" [النساء: 149].
وأمثال هذا كثير في الكتاب والسنة.
ولهذا أيضاً يجزى الرجل في الدنيا على ما فعله من خير الهدى بما يفتح عليه من هدى آخر، ولهذا قيل: من عَمِلَ بما عَلِمَ وَرَّثََهُ اللهُ علمَ ما لم يعلم.
__________
(1) أخرجه أبو داود (4941)، والترمذي (1924)، وغيرهما، وهو في «الصحيحة» (رقم 925).
(2) بعض حديث أخرجه مسلم (2699) وغيره.
(3) أخرجه أبو داود (3658) وغيره، وقال الألباني: «حسن صحيح».(1/10)
وقد قال الله تعالى: +وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً" إلى قوله: +مُّسْتَقِيماً"(1).
وقال: +قَدْ جَاءَكُمْ مِّنَ ا÷ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ ا÷ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ" [ المائدة: 15 و16] .
وقال: +يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ ا÷ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ" [ الحديد: 28] .
وقال: +إن تَتَّقُواْ ا÷ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً " [ الأنفال: 29]؛ فسروه بالنصر والنجاة، كقوله: +يَوْمَ الْفُرْقَانِ" [الأنفال: 41]، وقد قيل: نور يفرق به بين الحق والباطل.
ومثله قوله: +وَمَن يَتَّقِ ا÷ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ" [ الطلاق: 2 و3]، وعد المتقين بالمخارج من الضيق وبرزق المنافع.
ومن هذا الباب قوله: +وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ" [ محمد: 17] .
وقوله: +إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى" [ الكهف: 13] .
ومنه قوله: +إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِّيَغْفِرَ لَكَ ا÷ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً * وَيَنصُرَكَ ا÷ نَصْراً عَزِيزاً " [ الفتح: 1 ـ 3] .
__________
(1) ونص الآيات: +وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لآتَيْنَاهُمْ مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً"" [ النساء: 66 – 68].(1/11)
وبإزاء ذلك أن الضلال والمعاصي تكون بسبب الذنوب المتقدمة، كما قال الله: +فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ ا÷ قُلُوبَهُمْ " [ الصف: 5]، وقولهم: +قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ ا÷ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ" [ النساء: 155].
وقال: +فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً" [المائدة: 13] .
وقال: +وَأَقْسَمُواْ بِا÷ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ" إلى قوله: +لاَ يُؤْمِنُونَ" إلى قوله: +يَعْمَهُونَ"(1).
وهذا باب واسع.
ولهذا قال من قال من السلف: إن من ثواب الحسنةِ الحسنةَ بعدها، وإن من عقوبة السيئةِ السيئةَ بعدها.
وقد شاع في لسان العامة أن قوله: +وَاتَّقُواْ ا÷ وَيُعَلِّمُكُمُ ا÷" [البقرة: 282] من الباب الأول، حيث يستدلون بذلك على أن التقوى سبب تعليم الله، وأكثر الفضلاء يطعنون في هذه الدلالة؛ لأنه لم يربط الفعل الثاني بالأول ربط الجزاء بالشرط، فلم يقل: «واتقوا الله يعلمكم»، ولا قال «فيعلمكم»، وإنما أتى بواو العطف، وليس من العطف ما يقتضي أن الأول سبب الثاني، وقد يقال: العطف قد يتضمن معنى الاقتران والتلازم، كما يقال: زرني وأزورك، وسلم علينا ونسلم عليك، ونحو ذلك مما يقتضي اقتران الفعلين والتعاوض من الطرفين، كما لو قال لسيده: أعتقني ولك علي ألف، أو قالت المرأة لزوجها: طلقني ولك ألف، أو اخلعني ولك ألف، فإن ذلك بمنزلة قولها: بألف، أو علي ألف.
__________
(1) ونص الآيات: +وَأَقْسَمُواْ بِا÷ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ ا÷ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ" [الأنعام: 109 و110].(1/12)
وكذلك أيضاً لو قال: أنت حر وعليك ألف، أو أنتِ طالق وعليك ألف، فإنه كقوله: علي ألف أو بألف عند جمهور الفقهاء، والفرق بينهما قول شاذ.
ويقول أحد المتعاوضين للآخر: أعطيك هذا وآخذ هذا، ونحو ذلك من العبارات، فيقول الآخر: نعم، وإن لم يكن أحدهما هو السبب للآخر، دون العكس.
فقوله: +وَاتَّقُواْ ا÷ وَيُعَلِّمُكُمُ ا÷" قد يكون من هذا الباب(1)، فكلٌّ مِنْ تعليم الرب وتقوى العبد يقارب الآخر ويلازمه ويقتضيه، فمتى عَلَّمَهُ اللهُ العلمَ النافع اقترن به التقوى بحسب ذلك، ومتى اتقاه زاده من العلم، وهُلُمَّ جَرّاً».
«مجموع الفتاوى» (18/174 ـ 178)
(5) باب جزاء من سلك الصراط المستقيم
وجزاء من انصرف عنه
قال ابن القيم: «والرب تبارك وتعالى على صراط مستقيم(2) في قضائه وقدره، ونهيه وأمره، فيهدي من يشاء إلى صراط مستقيم بفضله ورحمته وجعله الهداية حيث تصلح، ويصرف من يشاء عن صراطه المستقيم بعدله وحكمته لعدم صلاحية المحل، وذلك مُوْجَب صراطه المستقيم الذي هو عليه، فإذا كان يوم القيامة نصب لخلقه صراطاً مستقيماً يوصلهم إليه.
__________
(1) وانظر كلام ابن القيم على هذه الآية فيما يأتي (صفحة 50).
(2) كما قال سبحانه على لسان نبيه هود ×: +ِإنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ"[هود:56] .(1/13)
فهو على صراط مستقيم، ونصب لعباده من أمره صراطاً مستقيماً دعاهم جميعاً إليه حجة منه وعدلاً، وهدى من شاء منهم إلى سلوكه نعمة منه وفضلاً، ولم يخرج بهذا العدل وهذا الفضل عن صراطه المستقيم الذي هو عليه، فإذا كان يوم لقائه نصب لخلقه صراطاً مستقيماً يوصلهم إلى جنته، ثم صرف عنه من صرف عنه في الدنيا، وأقام عليه مَنْ أقامه عليه في الدنيا، وجعل نور المؤمنين به ورسوله وما جاء به الذي كان في قلوبهم في الدنيا نوراً ظاهراً يسعى بين أيديهم وبأيمانهم في ظلمة الحشر، وحَفِظَ عليهم نورهم حتى قطعوه، كما حَفِظ عليهم الإيمان به حتى لقوه، وأطفأ نور المنافقين أحوج ما كانوا إليه، كما أطفأه من قلوبهم في الدنيا، وأقام أعمالَ العصاة بجنبتي الصراط كلاليب وحَسَكاً(1) تخطفهم كما خطفتهم في الدنيا عن الاستقامة عليه، وجعل قوة سيرهم وسرعتهم عليه على قدر قوة سيرهم وسرعتهم إليه في الدنيا، ونصب للمؤمنين حوضاً يشربون منه بإزاء شربهم من شرعه في الدنيا، وحرم من الشرب منه هناك من حرم من الشرب من شرعه ودينه هاهنا.
فانظر إلى الآخرة كأنها رأي عين، وتأمل حكمة الله سبحانه في الدارين، تعلم حينئذ علماً يقيناً لا شك فيه: أن الدنيا مزرعة الآخرة وعنوانها وأنموذجها، وأن منازل الناس فيها من السعادة والشقاوة على حسب منازلهم في هذه الدار في الإيمان والعمل الصالح وضِدهما، وبالله التوفيق».
«الجواب الكافي» (ص144 ـ 145).
__________
(1) كما جاء في حديث الصراط الطويل الذي في «الصحيحين» وغيرهما، وفيه: قلنا يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: «مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ، عليه خطاطِيفُ وكلاليبُ وحَسَكةٌ= =مُفَلْطَحَةٌ، لها شوكة عُقَيْفاءُ، تكون بنجد يقال لها: السَّعدانُ، المؤمن يمر عليها كالطرْف وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل والرِّكاب، فناجٍ مُسَلَّمٌ، وناجٍ مخدوشٌ ومكدوسٌ في نار جهنم، حتى يمر آخرهم يُسحب سحباً».(1/14)
وقال في موضع آخر: «فمن هُدِيَ في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم، الذي أرسل به رسلَه وأنزل به كتبه، هُدي هناك إلى الصراط المستقيم الموصل إلى جنته ودار ثوابه، وعلى قَدْر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار، يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على مَتن جهنم، وعلى قَدْر سيره على هذا الصراط يكون سيره على ذاك الصراط، فمنهم مَنْ يَمُرُّ كالبرق، ومنهم مَنْ يَمُرُّ كالطَّرْف، ومنهم مَنْ يَمُرُّ كالريح، ومنهم من يَمُرُّ كشدّ الرِّكاب، ومنهم مَنْ يسعى سعياً، ومنهم مَنْ يمشي مشياً، ومنهم مَنْ يحبو حَبواً، ومنهم المخدوش المُسَلَّم، ومنهم المُكَرْدَس في النار.
فلينظر العبدُ سيرَه على ذلك الصراط من سيره على هذا، حَذْو القُذَّة بالقُذَّة، جزاءً وفاقاً، +هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ " [ النمل:90]؟
ولينظر الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم، فإنها الكلاليب التي بجَنْبَتَي ذاك الصراط، تخطفه وتعوقه عن المرور عليه، فإن كثرت هنا وقويت فكذلك هي هناك، +وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ " [ فصلت:46] ».
«مدارج السالكين» (1/10).
(6) باب جزاء مخالفي الرسل
قال شيخ الإسلام: «... والله سبحانه يجزي الإنسان بجنس عمله، فالجزاء من جنس العمل، فمن خالف الرسل عوقب بمثل ذنبه، فإن كان قد قدح فيهم ونسب ما يقولونه إلى أنه جهل وخروج عن العلم والعقل ابتلي في عقله وعلمه، وظهر من جهله ما عوقب به.
ومن قال عنهم: إنهم تعمدوا الكذب أظهر الله كذبه، ومن قال: إنهم جهال أظهر الله جهله.(1/15)
ففرعون وهامان وقارون لما قالوا عن موسى: إنه ساحر كذاب، أخبر الله بذلك عنهم في قوله: +وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُواْ سَاحِرٌ كَذَّابٌ" [ غافر :24]، وطلب فرعون إهلاكه بالقتل وصار يصفه بالعيوب، كقوله: +وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ" [ غافر :26 ]، وقال: + أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ" [ الزخرف : 52]، أهلك الله فرعون وأظهر كذبه وافتراءه على الله وعلى رسله وأذله غاية الإذلال، وأعجزه عن الكلام النافع فلم يبيّن حجة.
وفرعون هذه الأمة أبوجهل كان يُسَمَّى أبا الحكم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم سماه أبا جهل، وهو كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو جهلٍ أهلك به(1) نفسه وأتباعه في الدنيا والآخرة.
والذين قالوا عن الرسول: إنه أبتر، وقصدوا أنه يموت فينقطع ذكره، عوقبوا بانبتارهم، كما قال تعالى: + إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ" [الكوثر :3]، فلا يوجد من شنأ الرسول إلا بتره الله حتى أهل البدع المخالفون لسنته.
قيل لأبي بكر بن عياش: إن بالمسجد قوماً يجلسون للناس ويتكلمون بالبدعة.
فقال: مَنْ جلس للناس جلس الناس إليه، لكنّ أهل السنة يبقون ويبقى ذكرهم، وأهل البدعة يموتون ويموت ذكرهم».
«مجموع الفتاوى» (13/171-173).
(7) باب جزاء الذين اعتدوا في السبت
قال ابن القيم: «… ولَعَن أصحاب السبت ومَسَخهم قردة وخنازير على احتيالهم على فعل ما حرمه عليهم.
__________
(1) أي: أهلك بجهله.(1/16)
قال الحسن البصري في قوله تعالى: +وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ" [البقرة :65]، قال : رَمَوُا الحيتان في السبت، ثم أرجؤوها في الماء، فاستخرجوها بعد ذلك فطبخوها، فأكلوها ـ واللهِ ـ أَوْخَمَ أكلة أسرعت في الدنيا عقوبة وأسرعت عذاباً في الآخرة، والله ما كانت لحوم الحيتان تلك بأعظم عند الله من دماء قوم مسلمين، إلا أنه عَجَّلَ لهؤلاء وأخَّر لهؤلاء.
وقوله: «رموها في السبت؛ يعني: احتالوا على وقوعها في الماء يوم السبت، كما بين غيرُه أنهم حفروا لها حياضاً ثم فتحوها عشية الجمعة، ولم يُرِدْ أنهم باشَروا رَمْيَها يوم السبت، إذ لو اجترؤوا على ذلك لاستخرجوها.
قال شيخنا: وهؤلاء لم يكفروا بالتوراة وبموسى وإنما فعلوا ذلك تأويلاً واحتيالاً، ظاهره ظاهر الاتقاء وحقيقته حقيقة الاعتداء، ولهذا ـ والله أعلم ـ مُسِخوا قردة؛ لأن صورة القرد فيها شَبَهٌ من صورة الإنسان، وفي بعض ما يذكر من أوصافه شَبَهٌ منه، وهو مخالف له في الحَدّ والحقيقة، فلما مسخ أولئك المعتدون دِينَ الله بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه الدين في بعض ظاهره دون حقيقته مَسَخَهم اللهُ قردة تشبه الإنسان في بعض ظاهره دون الحقيقة، +جزاءاً وفاقاً" ».
«إعلام الموقعين» (3/174).
وقال في موضع آخر: «إن الله تعالى أخبر عن أهل السبت من اليهود بمسخهم قردة لما احتالوا على إباحة ما حرمه الله تعالى عليهم من الصيد، بأن نصبوا الشِّباك يوم الجمعة، فلما وقع فيها الصيد أخذوه يوم الأحد.(1/17)
قال بعض الأئمة: ففي هذا زَجْرٌ عظيم لمن يتعاطى الحيل على المناهي الشرعية، مِمّن يَتَلَبَّسُ بعلم الفقه وهو غير فقيه، إذ الفقيه مَنْ يخشى الله تعالى؛ بحفظ حدوده وتعظيم حرماته والوقوف عندها، ليس المُتَحَيِّلَ على إباحة محارمه وإسقاط فرائضه، ومعلوم أنهم لم يستحلوا ذلك تكذيباً لموسى عليه السلام وكفراً بالتوراة، وإنما هو استحلال تأويل واحتيال، ظاهره ظاهر الاتقاء وباطنه باطن الاعتداء، ولهذا ـ والله أعلم ـ مُسِخوا قردة؛ لأن صورة القرد فيها شَبَهٌ من صورة الإنسان، وفي بعض ما يُذكر من أوصافه شَبَهٌ منه، وهو مخالف له في الحد والحقيقة، فلما مَسَخَ أولئك المعتدون دينَ الله تعالى بحيث لم يتمسكوا إلا بما يشبه الدّين في بعض ظاهره دون حقيقته مَسَخهم الله تعالى قردة، ـ إلى قوله ـ +جزاءاً وفاقاً"».
«إغاثة اللهفان» (1/379).
(8) باب جزاء المكر والكيد لعباد الله تعالى
قال ابن القيم في قوله تعالى: +وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ ا÷ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ" [ إبراهيم : 46]:
«قيل: جزاء مكرهم عنده، فمَكَرَ بهم كما مكروا برسله، ومَكْرُه تعالى بهم إنما كان بسبب مكرهم، فهو مَكْرُهم عاد عليهم وكيدهم عاد عليهم».
«مفتاح دار السعادة» (2/233).
(9) باب جزاء مَنْ لم يعرف الله ولم يعبده(1/18)
قال شيخ الإسلام: «إن الله تعالى قد هدى الناس هداية عامة بما جعل فيهم بالفطرة من المعرفة وأسباب العلم، وبما أنزل إليهم من الكتب، وأرسل إليهم من الرسل، قال تعالى: +اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِى عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ" [العلق: 1 ـ 5]، وقال تعالى: +الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْانَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ" [الرحمن: 1 ـ 4] ، وقال تعالى: +سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى " [الأعلى: 1 ـ 3]، وقال تعالى: +وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ" [البلد: 10].
ففي كل أحد ما يقتضي معرفته بالحق ومحبته له، وقد هداه ربه إلى أنواع من العلم يمكنه أن يتوصل بها إلى سعادة الأولى والآخرة، وجعل في فطرته محبة لذلك، لكن قد يُعرِض الإنسان ـ بجاهليته وغفلته ـ عن طلب علم ما ينفعه.
وكونه لا يطلب ذلك ولا يريده أَمْرٌ عدمي لا يضاف إلى الله تعالى، فلا يضاف إلى الله لا عدم علمه بالحق ولا عدم إرادته للخير.
لكن النفس… الإرادة والحركة من لوازمها، فإنها حية حياة طبيعية، لكن سعادتها ونجاتها إنما تتحقق بأن تحيى الحياة النافعة الكاملة، وكان ما لها من الحياة الطبيعية موجباً لعذابها، فلا هي حية متنعمة بالحياة، ولا هي ميتة مستريحة من العذاب، قال تعالى: +فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا" [ الأعلى: 9 – 13] .
فالجزاء من جنس العمل؛ لما كان في الدنيا ليس بحيٍّ الحياة النافعة التي خُلِقَ لأجلها، بل كانت حياته من جنس حياة البهائم، ولم يكن ميتاً عديم الإحساس: كان في الآخرة كذلك.(1/19)
فإن مقصود الحياة هو حصول ما يَنتفعُ به الحي ويستلذ به، والحي لا بد له من لذةٍ أو ألم، فإذا لم تحصل له اللذة لم يحصل له مقصود الحياة، فإن الألم ليس مقصوداً، كمن هو حي في الدنيا وبه أمراض عظيمة لا تدعه يتنعم بشيء مما يَتَنَعَّمُ به الأحياء، فهذا يبقى طول حياته يختار الموت ولا يحصل له» .
«مجموع الفتاوى» (14/296 – 298).
وأخذ هذا الكلام ابن القيم وأملاه بطريقته، فقال: «… وههنا حياة أخرى غير الحياة الطبيعية الحيوانية، نِسبَتُها إلى القلب كنسبة حياة البدن إليه، فإذا أمد [الله] عبدَه بتلك الحياة أثمرت له من محبته وإجلاله وتعظيمه والحياء منه ومراقبته وطاعته مثل ما تثمر حياة البدن له من التصرف والفعل، وسعادة النفس ونجاتها وفلاحها بهذه الحياة، وهي حياة دائمة سرمدية لا تنقطع، ومتى فقدت هذه الحياة واعتاضت عنها بحياتها الطبيعية الحيوانية كانت ضالة معذبة شقية، ولم تسترح راحة الأموات ولم تعش عَيشَ الأحياء، كما قال تعالى: +سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى * وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِى يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا" [ الأعلى: 10 – 13] .
فإن الجزاء من جنس العمل، فإنه في الدنيا لمّا لم يَحيَ الحياة النافعة الحقيقية التي خُلِقَ لها، بل كانت حياته من جنس حياة البهائم، ولم يكن ميتاً عديم الإحساس: كانت حياته في الآخرة كذلك.
فإن مقصود الحياة حصول ما يُنْتَفَعُ به ويُلتَذُّ به، والحي لا بد له من لذة أو ألم، فإذا لم تحصل له اللذة لم يحصل له مقصود الحياة، كمن هو حي في الدنيا وبه أمراض عظيمة تحول بينه وبين التنعم بما يَتَنَعَّمُ به الأصحاء، فهو يختار الموت ويتمناه ولا يحصل له، فلا هو مع الأحياء ولا مع الأموات».
«شفاء العليل» (ص173 ـ 174).
(10) باب جزاء الإعراض عن القرآن(1/20)
قال ابن القيم في قوله تعالى: +وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى" [ طه: 124 ـ 126]:
«… والذين رجحوا أنه مِنْ عَمَى البصر قالوا: السياق لا يدل إلا عليه، لقوله: +قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً"، وهو لم يكن بصيراً في كفره قط، بل قد تبين له حينئذ أنه كان في الدنيا في عمى عن الحق، فكيف يقول: +وقد كنت بصيراً"؟ وكيف يُجاب بقوله: +كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى"؟ بل هذا الجواب فيه تنبيه على أنه مِنْ عمى البصر، وأنه جوزي من جنس عمله؛ فإنه لما أعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله، وعميت عنه بصيرته: أعمى الله بَصَرَه يوم القيامة، وتركه في العذاب كما ترك الذكر في الدنيا، فجازاه على عمى بصيرته عمى بَصَرِه في الآخرة، وعلى تركه ذكره تَرْكَه في العذاب.
وقال تعالى: +وَمَن يَهْدِ ا÷ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً" [الإسراء: 97] ».
«مفتاح دار السعادة» (1/45).
(11) باب جزاء عدم الإيمان بالآيات
قال ابن القيم في كلامه على قول الله تعالى: +وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ" [ الأنعام: 110]:(1/21)
«وهذا عطف على: +أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ" [ الأنعام : 109]؛ أي: نحول بينهم وبين الإيمان، ولو جاءتهم تلك الآية فلا يؤمنون، واختُلِفَ في قوله: +كما لم يؤمنوا به أول مرة"، فقال كثير من المفسرين: المعنى: نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم الآية كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة.
قال ابن عباس في رواية عطاء عنه: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم حتى يرجعوا إلى ما سبق عليهم من علمي. قال: وهذا كقوله: +وَاعْلَمُواْ أَنَّ ا÷ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ" [ الأنفال: 24].
وقال آخرون: المعنى: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم لتركهم الإيمان به أول مرة، فعاقبناهم بتقليب أفئدتهم وأبصارهم.
وهذا معنىً حسن، فإن كاف التشبيه تتضمن نوعاً من التعليل، كقوله: +وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ ا÷ إِلَيْكَ" [ القصص: 77]، وقوله: +كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ" [البقرة: 151 و152]، والذي حَسّنَ اجتماعُ التعليل والتشبيه: الإعلامُ بأن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر، والتقليب: تحويل الشيء من وجه إلى وجه، وكان الواجب من مقتضى إنزال الآية ووصولهم إليها ـ كما سألوا ـ أن يؤمنوا إذا جاءتهم؛ لأنهم رأوها عِياناً، وعرفوا أدلتها وتحققوا صدقها، فإذا لم يؤمنوا كان ذلك تقليباً لقلوبهم وأبصارهم عن وجهها الذي ينبغي أن تكون عليه».
«شفاء العليل» (ص99).
(12) باب جزاء السعيد الطيب
وجزاء الشقي الخبيث(1/22)
قال ابن القيم: «إن الله سبحانه وتعالى جعل للسعادة والشقاوة عنواناً يُعرفان به، فالسعيد الطيب لا يليق به إلا الطيب، ولا يأتي إلا طيباً ولا يصدر منه إلا طيب، ولا يلابس إلا طيباً، والشقي الخبيث لا يليق به إلا الخبيث، ولا يأتي إلا خبيثاً، ولا يَصْدُر منه إلا الخبيث، فالخبيث يتفجر من قلبه الخبثُ على لسانه وجوارحه، والطَّيب يتفجر من قلبه الطِّيبُ على لسانه وجوارحه.
وقد يكون في الشخص مادتان، فأيهما غلب عليه كان من أهلها، فإن أراد الله به خيراً طهره من المادة الخبيثة قبل الموافاة، فيوافيه يوم القيامة مطهراً، فلا يحتاج إلى تطهيره بالنار، فيطهره منها بما يوفقه له من التوبة النصوح، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة، ويُمسك عن الآخر موادّ التطهير، فيلقاه يوم القيامة بمادّة خبيثة ومادة طيبة، وحكمته تعالى تأبى أن يجاوره أحد في داره بخبائثه، فيدخله النار طهرة له وتصفية وسَبْكاً، فإذا خَلَصَتْ سبيكةُ إيمانه من الخَبَث صلح حينئذ لجواره ومساكنة الطيبين من عباده.
وإقامة هذا النوع من الناس في النار على حسب سرعة زوال تلك الخبائث منهم وبطئها، فأسرعهم زوالاً وتطهيراً أسرعهم خروجاً، وأبطؤهم أبطؤهم خروجاً، +جزاءً وفاقاً"، +وما ربك بظلام للعبيد".
ولما كان المشرك خبيث العنصر خبيث الذات لم تُطَهِّرِ النارُ خَبَثَهُ، بل لو خرج منها لعاد خبيثاً كما كان، كالكلب إذا دخل البحر ثم خرج منه، فلذلك حرم اللهُ تعالى على المشرك الجنة.
ولما كان المؤمن الطيب المطيب مُبَرَّءاً من الخبائث كانت النار حراماً عليه، إذ ليس فيه ما يقتضي تطهيره بها، فسبحان من بَهَرَتْ حكمته العقول والألباب، وشهدت فِطَرُ عباده وعقولُهم بأنه أحكم الحاكمين ورَبّ العالمين، لا إله إلا هو».
«زاد المعاد» (1/67-68).
(13) باب جزاء من أحب لقاء الله تعالى
وجزاء من كره لقاءه
وأبواب أخرى(1/23)
قال شيخ الإسلام: «… وأما قول السائل: قد يعترض على هذا السؤال، وهو إذا كان حب اللقاء لما رآه من النعيم، فالمحبة حينئذ للنعيم العائد عليه، لا لمجرد لقاء الله.
فيقال له: ليس كذلك، ولكن لقاء الله على نوعين: «لقاء محبوب» و«لقاء مكروه»، كما قال سليمان بن عبد الملك لأبي حازم سلمة بن دينار الأعرج: كيف القدوم على الله تعالى؟ فقال: المحسن كالغائب يَقْدَمُ على مولاه، وأما المسيء كالآبق يُقْدَمُ به على مولاه.
فلما كان اللقاء نوعين ـ وإنما يُميَّز أحدهما عن الآخر في الإخبار بما يوصف به هذا اللقاء وهذا اللقاء ـ وصف النبي صلى الله عليه وسلم «اللقاء المحبوب» بما تتقدمه البشرى بالخير وما يقترن به من الإكرام، و«اللقاء المكروه» بما يتقدمه من البشرى بالسوء وما يقترن به من الإهانة(1)، فصار المؤمن مُخْبَراً بأن لقاءه لله لقاء محبوب، والكافر مُخْبَراً بأن لقاءه لله [لقاء] مكروه، فصار المؤمن يحب لقاء الله، وصار الكافر يكره لقاء الله، فأحب الله لقاء هذا، وكره لقاء هذا، +جزاءً وفاقاً".
فإن الجزاء من جنس العمل، كما قال صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) كما هو في «صحيح البخاري» (11/357 ـ فتح) معلقاً، و«صحيح مسلم» (2684)، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ×: «من أحبّ لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه». فقلت: يا نبي الله، أكراهية الموت؟ فكلنا نكره الموت. فقال: «ليس كذلك، ولكن المؤمن إذا بُشِّرَ برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله، فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بُشِّرَ بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه». وأخرجه البخاري (11/357ـ فتح) مسنداً، ومسلم (2683) مختصراً، وغيرهما، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.(1/24)
«الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا تُرحموا، ارحموا مَنْ في الأرض يرحمكم من في السماء»(1).
وكما قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَفَّسَ عن مؤمن كربة من كُرَبِ الدنيا نَفَّسَ اللهُ عنه كُرْبَةً من كُرَبِ يوم القيامة، ومَنْ يَسَّرَ على مُعْسِر يَسَّرَ اللهُ عليه في الدنيا والآخرة، ومَنْ ستر مسلماً ستره اللهُ في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»(2).
وفي الحديث الصحيح الإلهي: «مَنْ ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومَنْ ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خيرٍ منه، ومَنْ تَقَربَ إليّ شبراً تَقَربتُ منه ذراعاً، ومَنْ تَقَربَ إليّ ذراعاً تَقَرَِبتُ منه باعاً، ومَنْ أتاني يمشي أتيتُه هرولةً»(3).
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كان له لسانان في الدنيا كان له لسانان من نارٍ يوم القيامة»(4).
وقال صلى الله عليه وسلم: «من استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صُبّ في أُذنيه الآنُكُ يوم القيامة »(5).
__________
(1) أخرجه أبو داود (4941)، والترمذي (1924)، وغيرهما، وليس عندهما: «ارحموا ترحموا». والحديث في «الصحيحة» (رقم 925).
(2) بعض حديث أخرجه مسلم (2699) وغيره.
(3) أخرجه البخاري (13/384 و466 و512 ـ فتح)، ومسلم (2675) في كتاب الذكر والدعاء: باب الحث على ذكر الله تعالى، وباب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى. ولفظه: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي» إلخ، بنحوه.
(4) أخرجه أبو داود (4873) وغيره، ولفظه: «من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار». وهو في «الصحيحة» (رقم 892) .
(5) بعض حديث أخرجه البخاري (12/427 ـ فتح) وغيره، ولفظه: «ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون ـ أو يفرون منه ـ صُبّ في أُذنه الآنُكُ يوم القيامة». و(الآنُكُ): الرصاص المذاب.(1/25)
وقال: «لا تزال المسألة بالرجل حتى يجيء يوم القيامة وليس في وجهه مُزْعَةُ لحم»(1).
وقال تعالى: +وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ا÷ لَكُمْ"
[ النور: 22].
وقال تعالى: +إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهْ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوءٍ فَإِنَّ ا÷ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً" [ النساء ـ 149] .
ومثل هذا في الكتاب والسنة كثير، يُبَيَّنُ فيهما أن الجزاء من جنس العمل.
وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في «صحيحه»(2): عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«يقول الله مَنْ عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضتُ عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطش بها، ورجلَه التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يمشي، ولئن سألني لأُعطينه، ولئن استعاذني لأُعيذنه، وما ترددت عن شيءٍ أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مَساءته، ولا بد له منه».
فبيّن سبحانه أن العبد إذا تقرب إليه بمحابه من النوافل بعد الفرائض أحبّه الرب كما وَصَفَ».
«مجموع الفتاوى» (6/482 ـ 484).
(14) باب جزاء المنافقين في الآخرة
__________
(1) متفق عليه بنحوه.
(2) 11/340 ـ 341 ـ فتح). وليس فيه جملة: «فبي يسمع وبي يبصر وبي يمشي»، وانظر: «السلسلة الصحيحة» (4/191).
وهذه الجملة تعد تفسيراً لقوله تعالى: «كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به» إلخ.(1/26)
قال شيخ الإسلام: «… قال غير واحد من السلف في صفة المنافقين الذين ضُرِبَ لهم المثل في «سورة البقرة»: إنهم أبصروا ثم عَمُوا، وعرفوا ثم أنكروا، وآمنوا ثم كفروا. وكذلك قال قتادة ومجاهد: ضُرِبَ المثلُ لإقبالهم على المؤمنين، وسماعهم لما جاء به الرسول، وذهاب نورهم، قال: +مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ا÷ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ" [البقرة: 17 و18] إلى ما كانوا عليه.
وأما قول من قال: المراد بالنور ما حصل في الدنيا من حَقْنِ دمائهم وأموالهم فإذا ماتوا سُلِبُوا ذلك الضوء كما سُلِبَ صاحبُ النار ضَوءه، فلفظ الآية يدل على خلاف ذلك، فإنه قال: +وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ".
ويوم القيامة يكونون في العذاب، كما قال تعالى: +يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُم" الآية.
[الحديد: 13 و14].
وقد قال غير واحد من السلف: إن المنافق يُعطى يوم القيامة نوراً ثم يُطفأ، ولهذا قال تعالى: +يَوْمَ لاَ يُخْزِى ا÷ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا"
[التحريم: 8].
قال المفسرون: إذا رأى المؤمنون نور المنافقين يُطفأ، سألوا الله أن يُتِمَّ لهم نورهم ويبلغهم به الجنة.(1/27)
قال ابن عباس: ليس أحد من المسلمين إلا يعطى نوراً يوم القيامة، فأما المنافق فيُطفأ نورُه، وأما المؤمن فيشفق مما رأى من إطفاء نور المنافق، فهو يقول: +رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا".
وهو كما قال، فقد ثبت في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة وأبي سعيد ـ وهو ثابت من وجوه أُخر ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه مسلم من حديث جابر، وهو معروف من حديث ابن مسعود ـ وهو أطولها ـ ومن حديث أبي موسى في الحديث الطويل الذي يذكر فيه أنه يُنادى يوم القيامة: «لتتبع كل أمة ما كانت تعبد، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمس، ومن كان يعبد القمر القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم. فيقولون: نعوذ بالله منك، وهذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون، فيقول أنا ربكم. فيقولون: أنت ربنا، فيتبعونه».
وفي رواية: «فيكشف عن ساقه»، وفي رواية: «فيقول: هل بينكم وبينه آية، فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساقه، فلا يبقى من يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أُذن له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد نفاقاً ورياءً إلا جعل الله ظهره طبقةً واحدة، كلما أراد أن يسجد خرّ على قفاه، فتبقى ظهورهم مثل صياصي البقر، فيرفعون رؤوسهم فإذا نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، ويُطفأ نور المنافقين، فيقولون: ذرونا نقتبس من نوركم».
فبيّن أن المنافقين يحشرون مع المؤمنين في الظاهر، كما كانوا معهم في الدنيا، ثم وقت الحقيقة هؤلاء يسجدون لربهم وأولئك لا يتمكنون من السجود، فإنهم لم يسجدوا في الدنيا له، بل قصدوا الرياء للناس، والجزاء في الآخرة هو من جنس العمل في الدنيا، فلهذا أُعطوا نوراً ثم طُفىء، لأنهم في الدنيا دخلوا في الإيمان ثم خرجوا منه، ولهذا ضرب الله لهم المثل بذلك.(1/28)
وهذا المثل هو لمن كان فيهم آمن ثم كفر، وهؤلاء الذين يُعطَون في الآخرة نوراً ثم يُطفأ، ولهذا قال: +فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ" إلى الإسلام في الباطن.
وقال قتادة ومقاتل: لا يرجعون عن ضلالهم.
وقال السدّي: لا يرجعون إلى الإسلام. يعني: في الباطن، وإلا فهم يظهرونه.
وهذا المثل إنما يكون في الدنيا، وهذا المثل مضروب لبعضهم، وهم الذين آمنوا ثم كفروا، وأما الذين لم يزالوا منافقين فضرب لهم المثل الآخر، وهو قوله: +أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ" [البقرة: 19].
وهذا أصح القولين، فإن المفسرين اختلفوا؛ هل المثلان مضروبان لهم كلهم، أو هذا المثل لبعضهم؟ على قولين.
والثاني هو الصواب؛ لأنه قال: +أَوْ كَصَيِّبٍ"، وإنما يثبت بها أحد الأمرين، فدلّ ذلك على أنهم مثلهم هذا أو هذا، فإنهم لا يخرجون عن المثلين، بل بعضهم يشبه هذا وبعضهم يشبه هذا، ولو كانوا كلهم يشبهون المثلين لم يذكر «أو»، بل يذكر «الواو» العاطفة».
«مجموع الفتاوى» (7/273 ـ 276).
وقال ابن القيم: «قال ابن عباس وغيره من السلف: مثل هؤلاء في نفاقهم كمثل رجل أوقد ناراً في ليلة مظلمة في مفازة، فاستضاء ورأى ما حوله، فاتقى مما يخاف، فبينما هو كذلك إذ طُفئت نارُه، فبقي في ظلمة خائفاً مُتحيراً، كذلك المنافقون بإظهار كلمة الإيمان أمِنوا على أموالهم وأولادهم وناكحوا المؤمنين ووارثوهم وقاسموهم الغنائم، فذلك نورهم، فإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف.
قال مجاهد: إضاءة النار لهم: إقبالهم إلى المسلمين والهدى، وذهاب نورهم: إقبالهم إلى المشركين والضلالة.
وقد فُسِّرت تلك الإضاءة وذهاب النور بأنها في الدنيا، وفُسِّرت بالبرزخ، وفُسِّرت بيوم القيامة.(1/29)
والصواب: أن ذلك شأنهم في الدور الثلاث، فإنهم لما كانوا كذلك في الدنيا جُوزوا في البرزخ والقيامة بمثل حالهم، جزاءً وفاقاً، +وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ" [ فصلت: 46]، فإن المعاد يعود على العبد فيه ما كان حاصلاً له في الدنيا، ولهذا يُسَمَّى يومَ الجزاء: +وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً" [ الإسراء: 72]، +وَيَزِيدُ ا÷ الَّذِينَ اهْتَدَواْ هُدًى" [ مريم: 76] ».
«اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص75 ـ 76 ).
(15) باب جزاء المرائي
قال ابن القيم شارحاً قول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه: «ومن تَزَيَّنَ بما ليس فيه شَانَهُ الله»:
«لما كان المُتَزَيِّنُ بما ليس فيه ضد المخلص ـ فإنه يظهر للناس أمراً وهو في الباطن بخلافه ـ عامله اللهُ بنقيض قصده، فإن المعاقبة بنقيض القصد ثابتة شرعاً وقدراً، ولما كان المخلص يُعَجَّلُ له من ثواب إخلاصه الحلاوة والمحبة والمهابة في قلوب الناس عَجَّلَ للمتزين بما ليس فيه من عقوبته أن شَانَهُ الله بين الناس؛ لأنه شان باطنه عند الله، وهذا مُوجَبُ أسماء الرب الحسنى وصفاته العليا وحكمته في قضائه وشرعه.
هذا، ولما كان مَن تَزَيّن للناس بما ليس فيه من الخشوع والدين والنُّسك والعلم وغير ذلك قد نَصَبَ نفسه للوازم هذه الأشياء ومقتضياتها فلا بد أن تُطلبَ منه، فإذا لم توجد عنده افتضح، فيشينه ذلك من حيث ظن أنه يزينه، وأيضاً فإنه أخفى عن الناس ما أظهر لله خلافه، فأظهر الله من عيوبه للناس ما أخفاه عنهم، جزاء له من جنس عمله.
وكان بعض الصحابة يقول: أعوذ بالله من خشوع النفاق، قالوا: وما خشوع النفاق؟ قال: أن تَرَى الجسد خاشعاً والقلب غير خاشع.
وأساس النفاق وأصله هو التزين للناس بما ليس في الباطن من الإيمان.(1/30)
فعُلِمَ أن هاتين الكلمتين من كلام أمير المؤمنين مشتقة من كلام النبوة(1)، وهما من أنفع الكلام وأشفاه للسقام». «إعلام الموقعين» (2/161ـ162).
(16) باب جزاء طلب العلم
قال ابن القيم في كلامه على حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سَهَّلَ اللهُ له به طريقاً إلى الجنة»(2)، قال:
__________
(1) وذلك من مثل قول النبي × فيما رواه جندب بن عبد الله البَجَلي ثم العَلَقي رضي الله عنه قال: قال النبي ×: «مَنْ يُسَمَِّعْ يُسَمِّعِ اللهُ به، ومَنْ يُراء يُراء اللهُ به». متفق عليه. ومثل ما حدث به عبد ُالله بن عمرو عبدَ الله بن عمر رضي الله عنهم؛ أنه سمع رسول الله × يقول: «مَنْ سَمَّعَ الناس بعمله سَمَّعَ الله به سَامِعَ خَلْقِهِ وصغّره وحقّره». قال:= =فذرفت عينا عبد الله بن عمر. أخرجه أحمد (2/163 و195 و212 و223) وغيره، وهو في «صحيح الترغيب والترهيب» (رقم 23).
وقد جاء في «الندامة الكبرى» (ص79 ـ 80) بعد ذكر هذين الحديثين: فتأمل كيف جازاه الله تعالى من جنس عمله، فإنه لما أظهر عمله للناس وراءى به فضحه الله تعالى، وشَهَّر به أمام الخلائق، جزاءً وفاقاً.
ولما كان المرائي والمُسَمِّع بعمله إنما يريد محمدة الناس والمنزلة عندهم ليعظموه ويكرموه، عامله الله بعكس ذلك، ففضحه أمامهم، وصغّره فلم يعظمه، وحقّره فلم يكرمه.
وأيضاً، فإن سبب الرياء والتسميع تعظيم الخلق وضعف عظمة الله تعالى في القلوب، فحَرِصَ المرائي على المنزلة والجاه عند الناس الذين يعظمهم ويهتم بشأنهم ويراعي نظرهم إليه، ولم يحرص على المنزلة عند الله تعالى، ولم يراع اطلاعه عليه، فحقّره الله تعالى من أجل ذلك وصغّره، فسبحان من يجازي عباده من جنس أعمالهم، +وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً".
(2) بعض حديث أخرجه مسلم (2699) وغيره.(1/31)
«قد تظاهر الشرع والقدَر على أن الجزاء من جنس العمل، فكما سلك طريقاً يطلب فيه حياة قلبه ونجاته من الهلاك سلك اللهُ به طريقاً يُحَصِّلُ له ذلك».
«مفتاح دار السعادة» (1/71).
(17) باب جزاء معلم الناس الخير
قال شيخ الإسلام: «قال تعالى: +هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ" [الأحزاب: 43]، فدل ذلك على أن هذه الصلاة سبب لخروجهم من الظلمات إلى النور…
وفي الحديث: «إن الله وملائكته يصلون على معلمي الناس الخير»(1)، وذلك أن هذا بتعليمه الخير يخرج الناس من الظلمات إلى النور، والجزاء من جنس العمل، ولهذا كان الرسول أَحَقَّ الناس بكمال هذه الصلاة، كما قال تعالى: +إِنَّ ا÷ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ" [الأحزاب: 56] ».
«مجموع الفتاوى» (17/525) .
وقال ابن القيم بعد أن ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير»(2):
«وهذا لأن بتعليمهم الخير قد أنقذوهم من شر الدنيا والآخرة، وتسببوا بذلك إلى فلاحهم وسعادتهم، وذلك سببُ دخولهم في جملة المؤمنين الذين يصلي عليهم الله وملائكته، فلما تسبب معلمو الخير إلى صلاة الله وملائكته على من تعلم منهم صلى الله عليهم وملائكته.
ومن المعلوم أنه لا أحد من معلمي الخير أفضل ولا أكثر تعليماً له من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أنصح لأمته ولا أصبر على تعليمه منه، ولهذا نال أمته من تعليمه ما لم تَنَلْهُ أُمّةٌ من الأمم سواهم، وحصل للأمة من تعليمه من العلوم النافعة والأعمال الصالحة ما صارت به خير أمة أخرجت للناس».
«جلاء الأفهام» (ص164).
__________
(1) حديث: «إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت، ليصلون على مُعَلِّمِ الناس الخير» أخرجه الترمذي (2685) وغيره، وقال: «حديث حسن صحيح»، وصححه الألباني.
(2) تقدم لفظه وتخريجه الآن.(1/32)
وقال في موضع آخر: «وقوله: «إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض يصلون على معلم الناس الخير»؛ لما كان تعليمه للناس الخير سبباً لنجاتهم وسعادتهم وزكاة نفوسهم جازاه الله من جنس عمله؛ بأن جعل عليه من صلاته وصلاة ملائكته وأهل الأرض ما يكون سبباً لنجاته وسعادته وفلاحه.
وأيضاً، فإن معلم الناس الخير لمّا كان مظهراً لدين الرب وأحكامه، ومعرفاً لهم بأسمائه وصفاته، جعل الله من صلاته وصلاة أهل سمواته وأرضه عليه ما يكون تنويهاً وتشريفاً له وإظهاراً للثناء عليه بين أهل السماء والأرض».
«مفتاح دار السعادة» (1/63).
وقال: وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض، حتى الحيتان في الماء»(1)، فإنه لما كان العالم سبباً في حصول العلم الذي به نجاة النفوس من أنواع المهلكات، وكان سعيه مقصوراً على هذا، وكانت نجاة العباد على يديه؛ جوزي من جنس عمله، وجُعِلَ مَنْ في السموات والأرض ساعياً في نجاته من أسباب الهلكات باستغفارهم له، وإذا كانت الملائكة تستغفر للمؤمنين، فكيف لا تستغفر لخاصتهم وخلاصتهم؟!
وقد قيل: إن من في السموات ومن في الأرض المستغفرين للعالِم عام في الحيوانات ناطقها وبهيمها، طيرها وغيره، ويؤكد هذا قوله: «حتى الحيتان في الماء، وحتى النملة في جحرها (2).
__________
(1) هو بهذا اللفظ بعض حديث أخرجه الترمذي (2682)، وأخرجه أبو داود (3641)، ولفظه: «والحيتان في جوف الماء»، وأخرجه غيرهما، وهو في «صحيح الترغيب ـ ط3» برقم (67).
(2) تقدم بنحوه قريباً.(1/33)
فقيل: سبب هذا الاستغفار: أن العالم يُعلّم الخلق مراعاة هذه الحيوانات، ويعرّفهم ما يحل منها وما يحرم، ويعرفهم كيفية تناولها واستخدامها وركوبها والانتفاع بها، وكيفية ذبحها على أحسن الوجوه وأرفقها بالحيوان، والعالِم أشفق الناس على الحيوان وأقومهم ببيان ما خُلِق له، وبالجملة فالرحمة والإحسان التي خُلِق بهما ولهما الحيوان، وكتب لهما حظهما منه، إنما يُعرف بالعلم، فالعالِم مُعَرِّفٌ لذلك، فاستحق أن تستغفر له البهائم، والله أعلم».
«مفتاح دار السعادة» (1/64 – 65).
وقال في شرح قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «العلم يزكو على الإنفاق (وفي رواية: على العمل)، والمال تنقصه النفقة»(1):
قوله: «العلم يزكو على الإنفاق والمال تنقصه النفقة»؛ العالم كلما بَذَلَ علمه للناس وأنفق منه تفجرت ينابيعه، فازداد كثرة وقوة وظهوراً، فيكتسب بتعليمه حفظ ما علمه، ويحصل له به عِلْمُ ما لم يكن عنده، وربما تكون المسألة في نفسه غير مكشوفة ولا خارجة من حيز الإشكال، فإذا تكلم بها وعَلّمها اتضحت له وأضاءت، وانفتح له منها علومٌ أُخر.
وأيضاً، فإن الجزاء من جنس العمل، فكما عَلّم الخلق من جهالتهم جزاه الله بأن عَلّمهُ من جهالته، كما في «صحيح مسلم» من حديث عياض بن حمار، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث طويل: «وإنّ الله قال لي: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عليك»(2)، وهذا يتناول نفقة العلم إما بلفظه وإما بتنبيهه وإشارته وفحواه.
__________
(1) انظر قول علي رضي الله عنه بطوله في «المفتاح» (1/123).
(2) أخرجه مسلم (993)، وهو من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، لا من حديث عياض رضي الله عنه! وحديث أبي هريرة ليس بحديث طويل كما قال ابن القيم رحمه الله، فلا أدري أي حديث يريد؟! ولم أجد اللفظة المذكورة في «صحيح مسلم» إلا من حديث أبي هريرة الذي أشرت إليه.(1/34)
ولزكاء العلم ونموه طريقان؛ أحدهما: تعليمه، والثاني: العمل به، فإن العمل به أيضاً ينميه ويكثره ويفتح لصاحبه أبوابه وخباياه.
وقوله: «والمال تنقصه النفقة» لا ينافي قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما نقصت صدقة من مال»(1)، فإن المال إذا تصدقتَ منه وأنفقت ذهب ذلك القدر وخلفه غيرُه، وأما العلم فكالقبس من النار؛ لو اقتبس منها العالَم لم يذهب منها شيء، بل يزيد العلم بالاقتباس منه، فهو كالعين التي كلما أُخذ منها قَوِيََ يَنْبُوعُها وجاش مَعِينُها».
«مفتاح دار السعادة» (1/128 ـ 129).
(18) باب تابع لما قبله
في جزاء الذين يعلمون الناس ويهدونهم إلى الخير
قال ابن القيم: «والعبد مفتقر إلى الهداية في كل لحظة ونَفَس في جميع ما يأتيه ويَذَرُهُ، فإنه بين أمور لا ينفك عنها ـ إلى أن قال ـ وأمور قد فعلها على وجه الهداية وهو محتاج إلى أن يهدي غيره إليها ويرشده وينصحه، فإهماله ذلك يُفَوِّتُ عليه من الهداية بحسبه، كما أن هدايته للغير وتعليمه ونصحه يفتح له باب الهداية، فإن الجزاء من جنس العمل.
فكلما هدى غيره وعلمه هداه الله وعلمه، فيصير هادياً مَهْدِيّاً، كما في دعاء النبي الذي رواه الترمذي(2) وغيره: «اللهم زَيّنا بزينةِ الإيمان، واجعلنا هُداةً مُهتدين، غيرَ ضالين ولا مُضلِّين، سِلماً لأوليائك، حَرْباً لأعدائك، نحب بحبك مَنْ أحبك، ونعادي بعداوتك مَنْ خالفك».
__________
(1) أخرجه مسلم (2588) وغيره. وتمامه: «وما زاد اللهُ عبداً بعفوٍ إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله».
(2) رقم 3419)، واستغربه، وعنده: «سلماً لأوليائك وعدواً لأعدائك»، وضعفه الألباني. وقد أخرج النسائي في «سننه» (3/54 و55) وغيره، من قول النبي ×: «اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي» الحديث. وآخره: «اللهم زيّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هُداة مهتدين». وصحح إسناده الألباني في «تخريج الكلم» (ص66).(1/35)
«رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه» (ص8 – 10).
***
(19) باب مكمل لما قبله
في جزاء من ائتم بالسلف المتقين قبله
قال ابن القيم متابعاً الكلام المتقدم:
«وقد أثنى الله سبحانه على عباده المؤمنين الذين يسألونه أن يجعلهم أئمة يُهتَدى بهم، فقال تعالى في صفات عباده: +وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً" [الفرقان: 74] .
قال ابن عباس: يُهتدى بنا في الخير.
وقال أبو صالح: يُقتدى بهدانا.
وقال مكحول: أئمة في التقوى يَقتدي بنا المتقون.
وقال مجاهد: اجعلنا مؤتمين بالمتقين مقتدين بهم.
وأشكل هذا التفسير على من لم يَعرف قَدْرَ فهم السلف وعمق علمهم، وقال: يجب أن تكون الآية على هذا القول من باب المقلوب على تقدير: «واجعل المتقين لنا أئمة»، ومعاذ الله أن يكون شيء مقلوباً على وجهه، وهذا من تمام فهم مجاهد رحمه الله، فإنه لا يكون الرجل إماماً للمتقين حتى يَأتَمَّ بالمتقين، فنبه مجاهد على هذا الوجه الذي ينالون به هذا المطلوب، وهو اقتداؤهم بالسلف المتقين من قبلهم، فيجعلهم الله أئمةً للمتقين من بعدهم، وهذا من أحسن الفهم في القرآن وألطفه، ليس من باب القلب في شيء، فمن ائتمّ بأهل السنة قبله ائتمّ به من بعده ومن معه…».
«رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه» (ص11 ـ 13).
(20) باب جزاء ترك نشر العلم
قال ابن القيم: «… والمقصود بيان حرمان العلم من هذه الوجوه الستة؛ أحدها: ترك السؤال. الثاني: سوء الإنصات وعدم إلقاء السمع. الثالث: سوء الفهم . الرابع: عدم الحفظ. الخامس: عدم نشره وتعليمه، فإن مَن خزن علمه ولم ينشره ولم يعلمه ابتلاه الله بنسيانه وذهابه منه، جزاءً من جنس عمله، وهذا أمر يشهد به الحسّ والوجود. السادس: عدم العمل به، فإن العمل به يوجب تذكره وتدبره ومراعاته والنظر فيه، فإذا أهمل العمل به نسيه.(1/36)
قال بعض السلف: كنا نستعين على حفظ العلم بالعمل به.
وقال بعض السلف أيضاً: العلم يهتف بالعمل فإن أجابه حَلّ وإلا ارتحل.
فالعمل به من أعظم أسباب حفظه وثباته، وترك العمل به إضاعة له، فما استُدِرّ العلمُ ولا استُجلِبَ بمثل العمل، قال الله تعالى: +يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ ا÷ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ"
[الحديد: 28].
وأما قوله تعالى: +وَاتَّقُواْ ا÷ وَيُعَلِّمُكُمُ ا÷" [البقرة: 282]، فليس من هذا الباب، بل هما جملتان مستقلتان: «طلبية» وهي الأمر بالتقوى، و«خبرية» وهي قوله تعالى: +وَيُعَلِّمُكُمُ ا÷"؛ أي: والله يعلمكم ما تتقون، وليست جواباً للأمر بالتقوى، ولو أُريد بها الجزاء لأتى بها مجزومة مجردة عن الواو؛ فكان يقول: «واتقوا الله يعلمكم»، أو «إن تتقوه يعلمكم»، كما قال: +إَن تَتَّقُواْ ا÷ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً" [الأنفال: 29]، فتَدَبَّرْه».
«مفتاح دار السعادة» (1/172).
وقال في موضع آخر: «وتأمل حكمة الله تعالى في صرفه الهدى والإيمان عن قلوب الذين يصرفون الناس عنه، فصَدهم عنه كما صَدّوا عباده؛ صَدّاً بصد ومنعاً بمنع».
«مفتاح دار السعادة» (1/253) .
(21) باب عقوبة من كتم الحق أو كذب فيه
قال ابن القيم: «حُكْمُ الله ورسولِهِ يَظْهَرُ على أربعة ألسنة: لسان الراوي، ولسان المفتي، ولسان الحاكم، ولسان الشاهد.
فالراوي يظهر على لسانه لفظ حكم الله ورسوله، والمفتي يظهر على لسانه معناه وما استنبطه من لفظه، والحاكم يظهر على لسانه الإخبار بحكم الله وتنفيذه، والشاهد يظهر على لسانه الإخبار بالسبب الذي يُثبِْتُ حكم الشارع.(1/37)
والواجب على هؤلاء الأربعة أن يُخبِروا بالصدق المُستَنِد إلى العلم، فيكونون عالمين بما يخبرون به، صادقين في الإخبار به، وآفة أحدهم الكذب والكتمان، فمتى كتم الحق أو كذب فيه فقد حادّ الله في شرعه ودينه، وقد أجرى الله سنته أن يَمْحَقَ عليه بركة علمه ودينه ودنياه إذا فعل ذلك، كما أجرى عادته سبحانه في المتبايعَين إذا كَتَما وكذبا أن يمحق بركة بيعهما، ومن التزم الصدق والبيان منهم في مرتبته بُورك له في علمه ووقته ودينه ودنياه، وكان مع +النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً * ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ ا÷ وَكَفَى بِا÷ عَلِيماً" [النساء: 69 و70].
فبالكتمان يَعْزِلُ الحقَّ عن سلطانه، وبالكذب يَقْلِبُهُ عن وجهه، والجزاء من جنس العمل، فجزاء أحدهم أن يعزله الله عن سلطان المهابة والكرامة والمحبة والتعظيم الذي يُلْبِسُهُ أهلَ الصدق والبيان، ويُلْبِسُهُ ثوب الهوان والمَقْتِ والخزي بين عباده.
فإذا كان يوم القيامة جازى الله سبحانه مَنْ يشاء من الكاذبين الكاتمين بطمس الوجوه ورَدِّها على أدبارها، كما طَمَسُوا وجه الحق وقلبوه عن وجهه، جزاءً وفاقاً، +وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ" [ فصلت: 46] ».
«إعلام الموقعين» (4/174 ـ 175).
(22) باب جزاء الذاكرين الله تعالى المثنين عليه الحامدين له
وجزاء من كان ضد ذلك(1/38)
قال ابن القيم في كلامه على حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج معاوية على حَلْقة في المسجد، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك. قال: أما إني لم استحلفكم تهمةً لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أَقَلَّ عنه حديثاً مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حَلْقة من أصحابه فقال: «ما أجلسكم؟» قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومَنّ به علينا. قال: «آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟» قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك. قال: «أما إني لم أستحلفكم تهمةً لكم، ولكن أتاني جبريل فأخبرني: أن الله يباهي بكُمُ الملائكة» (1). قال ابن القيم:
«فهؤلاء كانوا قد جلسوا يحمدون الله بذكر أوصافه وآلائه، ويثنون عليه بذلك، ويذكرون حسن الإسلام، ويعترفون لله بالفضل العظيم إذ هداهم له، ومَنّ عليهم برسوله.
وهذا أشرف علم على الإطلاق، ولا يُعنى به إلا الراسخون في العلم، فإنه يتضمن معرفة الله وصفاته وأفعاله ودينه ورسوله، ومحبة ذلك وتعظيمه والفرح به، وأحرى بأصحاب هذا العلم أن يباهي اللهُ بهم الملائكة.
وقد بشر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الرجل الذي كان يحب سورة الإخلاص وقال: أحبها لأنها صفة الرحمن عز وجل، فقال: «حُبُّك إياها أدخلك الجنة»، وفي لفظ آخر: «أخبِروهُ أنّ الله يُحِبُّهُ»(2).
__________
(1) أخرجه مسلم (2701) وغيره، وقد فات الشيخ أن يعزوه إليه، فاكتفى في «المفتاح» بعزوه إلى الترمذي فقط.
(2) بهذا اللفظ أخرجه البخاري (13/347 ـ 348 ـ فتح)، ومسلم (رقم 813). واللفظ الذي قبله (أعني: «حبك إياها أدخلك الجنة»)، أخرجه البخاري معلقاً (2/255 ـ فتح)، ووصله الترمذي عنه برقم (2901 ـ شاكر)، وقال الألباني: «حسن صحيح».
قلت: ورجح الحافظ كون الروايتين قصتين متغايرتين، انظر: «الفتح» (2/258).(1/39)
فدل على أن من أحب صفات الله أحبه الله وأدخله الجنة.
والجهمية أشد الناس نَفرةً وتنفيراً عن صفاته ونعوت كماله، يعاقِبون ويذمّون من يذكرها ويقرؤها ويجمعها ويعتني بها، ولهذا لهم المَقتُ والذمُّ عند الأمة وعلى لسان كُلِّ عالم من علماء الإسلام، والله تعالى أشد بغضاً ومقتاً لهم، جزاءً وفاقاً».
«مفتاح دار السعادة» (1/77 ـ 78) .
(23) باب جزاء الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
وجزاء سؤال الله الوسيلة له
قال شيخ الإسلام: «... ثبت في «صحيح مسلم»(1) عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صَلُّوا عليّ، فإنه مَنْ صلى عليّ مرة صلى اللهُ عليه عشراً، ثم سَلُوا اللهَ لي الوسيلةَ، فإنها درجةٌ في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حَلَّتْ عليه شفاعتي يوم القيامة».
وفي «صحيح البخاري»(2): عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال حين سمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، إنك لا تخلف الميعاد، حَلَّتْ له شفاعتي يوم القيامة».
فقد رَغَّبَ المسلمين في أن يسألوا الله له الوسيلة، وبَيَّنَ أن مَنْ سألها له حَلَّتْ له شفاعته يوم القيامة، كما أنه مَنْ صلى عليه مرة صلى الله عليه عشراً، فإن الجزاء من جنس العمل».
«مجموع الفتاوى» (1/192).
__________
(1) رقم 384)، وفيه أحرف يسيرة مختلفة عن لفظه هنا.
(2) 2/94 و8/399- فتح)، ولفظه: «من قال حين يسمع النداء: اللهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته حَلَّتْ له شفاعتي يوم القيامة»، فليُتنبه!(1/40)
قال: «وهذه الوسيلة أُمرنا أن نسألها للرسول، وأخبر أن مَنْ سأل له هذه الوسيلة فقد حلت عليه الشفاعة يوم القيامة، لأن الجزاء من جنس العمل؛ فلما دَعَوْا للنبي صلى الله عليه وسلم استحقوا أن يَدْعُوَا هو لهم، فإن الشفاعة نوع من الدعاء، كما قال: إنه من صلى عليه مرة صلى اللهُ عليه بها عشراً».
«مجموع الفتاوى» (1/200)(1).
وقال: «فالجزاء من جنس العمل، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً، ومن سأل الله له الوسيلة حَلَّتْ عليه شفاعته يوم القيامة.
ولم يقل: كان أسعد الناس بشفاعتي. بل قال: «أسعدُ الناس بشفاعتي يوم القيامة مَنْ قال: «لا إلهَ إلا اللهُ» خالصاً من قلبه».
فعُلِمَ أن ما يحصل للعبد بالتوحيد والإخلاص من شفاعة الرسول وغيرها لا يحصل بغيره من الأعمال ـ وإن كان صالحاً كسؤاله الوسيلة للرسول ـ فكيف بما لم يأمر به من الأعمال، بل نهى عنه؟! فذاك لا يَنال به خيراً لا في الدنيا ولا في الآخرة، مثل غُلُوّ النصارى في المسيح عليه السلام، فإنه يضرهم ولا ينفعهم».
«مجموع الفتاوى» (27/440).
وقال ابن القيم في مَعرض إثباته أن معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هو «الثناء عليه» وليس «الرحمة»:
«وهذا موافق للقاعدة المستقرة في الشريعة أن «الجزاء من جنس العمل»، فصلاة الله على المصلي على رسوله جزاءٌ لصلاته هو عليه، ومعلوم أن صلاة العبد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست هي رحمة من العبد لتكون صلاة الله عليه من جنسها، وإنما هي ثناء على الرسول صلى الله عليه وسلم وإرادة من الله أن يُعْلِيَ ذِكره ويزيده تعظيماً وتشريفاً، والجزاء من جنس العمل، فمن أثنى على رسول الله صلى الله عليه وسلم جزاه الله من جنس عمله؛ بأن يثني عليه ويزيد تشريفه وتكريمه، فصحّ ارتباط الجزاء بالعمل ومشاكلته له ومناسبته له».
«جلاء الأفهام» (ص87 ـ 88).
__________
(1) وانظر «مجموع الفتاوى» (1/276 ـ 277).(1/41)
وقال في معرِض ذكر فوائد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:
«إنها سبب لإبقاء الله سبحانه الثناءَ الحسنَ للمُصلّي عليه بين أهل السماء والأرض، لأن المُصلّي طالبٌ من الله أن يثني على رسوله ويكرمَه ويُشَرّفَه، والجزاء من جنس العمل، فلا بد أن يحصل للمُصَلِّي نوعٌ من ذلك».
ثم قال: «إنها سبب للبركة في ذات المصلي وعمله وعمره وأسباب مصالحه، لأن المصلي داعٍ رَبَّه أن يبارك عليه وعلى آله، وهذا الدعاء مستجاب، والجزاء من جنسه».
«جلاء الأفهام» (ص264).
وقال: «إن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم من العبد هي دعاء، ودعاء العبد وسؤاله من ربه نوعان:
أحدهما: سؤاله حوائجه ومهماته وما ينوبه في الليل والنهار، فهذا دعاء وسؤال وإيثار لمحبوب العبد ومطلوبه.
والثاني: سؤاله أن يُثْنِيَ على خليله وحبيبه ويزيد في تشريفه وتكريمه وإثارة ذكره ورفعه، ولا ريب أن الله تعالى يحب ذلك ورسوله يحبه، فالمصلي عليه صلى الله عليه وسلم قد صرف سؤاله ورغبته وطلبه إلى محاب الله ورسوله، وآثَرَ ذلك على طلبه حوائجه ومحابّه هو، بل كان هذا المطلوب من أحبّ الأمور إليه وآثرها عنده؛ فقد آثر ما يحبه الله ورسوله على ما يحبه هو، فقد آثرَ الله ومَحَابَّه على ما سواه، والجزاء من جنس العمل، فَمَنْ آثََرَ اللهَ على غيره آثَرَهُ اللهُ على غيره.(1/42)
واعتبِر هذا بما تجد الناس يعتمدونه عند ملوكهم ورؤسائهم إذا أرادوا التقرب والمنزلة عندهم، فإنهم يسألون المُطاعَ أن يُنْعِمَ على مَنْ يعلمونه أَحَبَّ رعيته إليه، وكلما سألوه أن يزيد في حبائه وإكرامه وتشريفه عَلَتْ مَنزِلتُهم عنده وازداد قربهم منه وحَظُوا بهم لديه، لأنهم يعلمون منه إرادة الإنعام والتشريف والتكريم لمحبوبه، فأحبهم إليه أشدهم له سؤالاً ورغبة أن يُتِمَّ عليه إنعامه وإحسانه، هذا أمرٌ مشاهد بالحِسّ، ولا تكون منزلة هؤلاء ومنزلة من سأل المطاع حوائجه وهو فارغ(1) من سؤاله تشريف محبوبه والإنعام عليه واحدة، فكيف بأعظم مُحِبٍّ وأَجلِّه لأكرم محبوب وأحقه بمحبة ربه له؟! ولو لم يكن من فوائد الصلاة عليه إلا هذا المطلوب وحده لكفى المؤمنَ به شرفاً!».
«جلاء الأفهام» (ص270 ـ 271) .
(24) باب جزاء أئمة العدل
قال ابن القيم: «وهم أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله»(2)، وكما كان الناس في ظل عدلهم في الدنيا كانوا في ظل عرش الرحمن يوم القيامة؛ ظِلاًّ بظل، جزاءً وفاقاً». «طريق الهجرتين» (ص621).
(25) باب جزاء ظلم الضعفاء والجَوْر عليهم
قال ابن القيم: «وتأمل حكمته تعالى في تسليط العدو على العباد إذا جار قويُّهم على ضعيفهم، ولم يُؤْخَذْ للمظلوم حقُّه من ظالمه؛ كيف يسلط عليهم مَنْ يفعل بهم كفعلهم برعاياهم وضعفائهم سواء، وهذه سنة الله تعالى منذ قامت الدنيا إلى أن تُطوى الأرضُ ويعيدها كما بدأها».
«مفتاح دار السعادة» (1/253).
(26) باب تابع لما قبله
__________
(1) في الأصل المطبوع: «سأل المطاع حوائجه هو وفارغ»، والصواب ـ إن شاء الله ـ ما أثبتّه.
(2) كما جاء في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي × قال: «سبعة يظلهم الله في ظلّه يوم لا ظلَّ إلا ظله: الإمام العادل»، وذكر الستة الباقين. أخرجه البخاري (2/143 ـ فتح) وفي مواضع أخرى، ومسلم (1031)، وغيرهما.(1/43)
في مجازاة العباد بملوك وأمراء وولاة من جنس أعمالهم
قال ابن القيم: «وتأمل حكمته تعالى في أن جَعَلَ ملوكَ العباد وأُمراءهم وولاتهم من جنس أعمالهم، بل كأن أعمالهم ظهرت في صور ولاتهم وملوكهم، فإن استقاموا استقامت ملوكهم، وإن عدلوا عدلت عليهم، وإن جاروا جارت ملوكهم وولاتهم، وإن ظهر فيهم المكرُ والخديعة فولاتهم كذلك، وإن منعوا حقوق الله لديهم وبَخِلوا بها منعتْ ملوكُهم وولاتُهم ما لهم عندهم من الحق وبَخِلوا بها عليهم، وإن أخذوا ممن يستضعفونه ما لا يستحقونه في معاملتهم أَخذتْ منهم الملوك ما لا يستحقونه، وضربت عليهم المُكُوس والوظائف، وكل ما يستخرجونه من الضعيف يستخرجه الملوكُ منهم بالقوة، فعُمّالهم ظهرت في صور أعمالهم، وليس في الحكمة الإلهية أن يولَّى على الأشرار الفجارِ إلا مَنْ يكون من جنسهم.
ولما كان الصدر الأول خيارَ القرون وأبرَّها كانت ولاتُهم كذلك، فلمّا شابوا شِيبت لهم الولاةُ، فحكمة الله تأبى أن يُوَلَّى علينا في مثل هذا الزمان مثلَ معاوية وعمر بن عبد العزيز، فضلاً عن مثل أبي بكر وعمر، بل ولاتنا على قدرنا، وولاة مَنْ قبلنا على قدرهم، وكل من الأمرين مُوجَبُ الحكمة ومقتضاها.
ومَنْ له فطنة إذا سافر بفكره في هذا الباب رأى الحكمة الإلهية سائرة في القضاء والقدر، ظاهرة وباطنة فيه، كما في الخلق والأمر سواء، فإياك أن تظن بظنك الفاسد أن شيئاً من أقضيته وأقداره عارٍ عن الحكمة البالغة، بل جميع أقضيته تعالى وأقداره واقعة على أتم وجوه الحكمة والصواب، ولكن العقول الضعيفة محجوبة بضعفها عن إدراكها، كما أن الأبصار الخفاشية محجوبة بضعفها عن ضوء الشمس، وهذه العقول الضِّعاف إذا صادفها الباطل جالت فيه وصالت ونطقت وقالت، كما أن الخفاش إذا صادفه ظلام الليل طار وسار:
خفافيشُ أعشاها النهار بضوئه ولازَمَها قِطْعٌ من الليل مُظلِمُ»
«مفتاح دار السعادة» (1/253 ـ 254).(1/44)
(27) باب جزاء مانعي الزكاة وحارمي الفقراء والمساكين
قال ابن القيم: «وتأمل حكمة الله عز وجل في حبس الغيث عن عباده وابتلائهم بالقحط إذا مَنَعُوا الزكاة وحَرَمُوا المساكين(1)؛ كيف جُوزُوا على منع ما للمساكين قِبَلَهُم من القوت بمنع الله مادّة القوت والرزق وحبسها عنهم، فقال لهم بلسان الحال: مَنَعْتُمُ الحَقَّ فمُنِعْتُمُ الغيث، فهلاّ استنزلتموه ببذل ما لله قِبَلَكم».
«مفتاح دار السعادة» (1/253).
وقال في ضمن كلامه على قول الله عز وجل: +إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلاَ يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ" [القلم: 17 – 20]، قال:
«إن الله سبحانه عاقب أهل الجنة الذين أقسموا ليَصرِمُنّها مصبحين، وكان مقصودهم مَنْعَ حق الفقراء من الثمر المتساقط وقت الحصاد، فلما قصدوا منع حقهم منعهم الله الثمرة جملة».
__________
(1) كما جاء في الحديث الذي رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: أقبل علينا رسول الله × ، فقال: «يا معشر المهاجرين، خَمْسٌ إذا ابتلِيتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن:= =لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مَضَوْا. ولم يَنْقُصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين، وشدة المؤونة، وجَوْر السلطان عليهم. ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنِعوا القَطْرَ من السماء، ولولا البهائم لم يُمطروا. ولم يَنقضُوا عهد الله وعهد رسوله إلا سَلّط اللهُ عليهم عدواً من غيرهم، فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تحكم أئمتُهم بكتاب الله ويَتَخَيَّروا مما أنزل اللهُ إلا جعل اللهُ بأسهم بينهم».
أخرجه ابن ماجه (4019) وغيره، وحسنه بطرقه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (رقم 106).(1/45)
ثم قال ابن القيم: «… العقوبة من جنس العمل».
«تهذيب سنن أبي داود» (9/244).
(28) باب جزاء البخيل والمتصدق وأبواب أخرى
قال ابن القيم: «في «الصحيحين»(1) عن أبي هريرة قال: ضرب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَثَل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جُبَّتَان من حديد ـ أو جُنَّتَان من حديد ـ ، قد اضطُرَّت أيديهما إلى ثِدِيِّهِمَا وتراقيهما، فجعل المتصدقُ كلما تصدق بصدقةٍ انْبَسَطَتْ عنه، حتى تُغَشِّيَ أنامِلَهُ، وتَعْفُوَ أَثَرَه، وجعل البخيلُ كلما هَمّ بصدقة قَلَصَتْ وأخذت كلُّ حَلْقَةٍ مكانها». قال أبو هريرة: فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بأصبعه هكذا في جيبه، فلو رأيته يوسعها ولا تتسع.
ولما كان البخيل محبوساً عن الإحسان، ممنوعاً عن البر والخير، كان جزاؤه من جنس عمله، فهو ضيق الصدر، ممنوع من الانشراح، ضيق العَطَن صغير النفس، قليل الفرح، كثير الهم والغم والحزن، لا يكاد تُقضى له حاجة، ولا يعان على مطلوب.
فهو كرجل عليه جُبّةٌ من حديد قد جُمِعَتْ يداه إلى عنقه، بحيث لا يتمكن من إخراجها ولا حركتها، وكلما أراد إخراجها أو توسيع تلك الجبة لَزِمَتْ كُلُّ حلقة من حَلَقِها موضعها، وهكذا البخيل كلما أراد أن يتصدّق مَنَعَهُ بخلُه، فبقي قلبُه في سجنه كما هو.
والمتصدق كلما تصدق بصدقة انشرح لها قلبُه، وانفسح بها صدرُه، فهو بمنزلة اتساع تلك الجبة عليه، فكلما تصدق اتسع وانفسح وانشرح، وقَوِيَ فرحُه وعظم سروره، ولو لم يكن في الصدقة إلا هذه الفائدة وحدها لكان العبدُ حقيقاً بالاستكثار منها والمبادرة إليها» ـ إلى أن قال:
__________
(1) «صحيح البخاري» (3/305 و6/99 و9/437 و10/267- فتح)، و«صحيح مسلم» (1021).(1/46)
«وهو سبحانه وتعالى رحيم يحب الرحماء، وإنما يرحم من عباده الرحماء، وهو سِتِّير يحب من يستر على عباده، وعَفُوٌّ يحب من يعفو عنهم، وغفور يحب من يغفر لهم، ولطيف يحب اللطيف من عباده، ويبغض الفَظَّ الغليظ القاسي الجعظري(1) الجَوَّاظ(2)، ورفيق يحب الرفق، وحليم يحب الحلم، وبَرٌّ يحب البِِرَّ وأهله، وعدل يحب العدل، وقابل المعاذير يحب مَنْ يقبل معاذيره، ويجازي عبده بحسب هذه الصفات فيه وجوداً وعدماً، فمن عفا عفا عنه، ومن غفر غفر له، ومن سامح سامحه، ومن حاقق حاققه، ومن رفق بعباده رفق به ومن رحِمَ رحِمَهُ، ومن أحسن إليهم أحسن إليه، ومن جاد عليهم جاد عليه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن صفح عنهم صفح عنه, ومن تتبع عورتهم تتبع عورته، ومن هتكهم هتكه وفضحه، ومن منعهم خيره منعه خيره، ومن شاقّ شاقّ الله تعالى به، ومن مكر مكر به، ومن خادع خادعه، ومن عامل خلقه بصفةٍ عامله الله تعالى بتلك الصفة بعينها في الدنيا والآخرة، فالله تعالى لعبده على حسب ما يكون العبد لخلقه، ولهذا جاء في الحديث: «مَنْ سَتَرَ مسلماً سَتَرَهُ اللهُ تعالى في الدنيا والآخرة، ومَنْ نَفَّسَ عن مؤمن كُرْبَةً من كرب الدنيا نَفَّسَ اللهُ تعالى عنه كُرْبَةً من كُرَبِ يوم القيامة، ومَنْ يَسّرَ على مُعسرٍ يَسَّرَ الله تعالى حسابه»(3)، و«من أقال نادماً أقال الله تعالى عثرته»(4)، و«من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله تعالى في ظل عرشه»(5)
__________
(1) هو الفظ الغليظ، والمتكبر الجافي عن الموعظة. ويراجع «اللسان».
(2) الجموع المنوع، وقيل: الأكول. ويراجع «اللسان».
(3) بعض حديث أخرجه مسلم (2699) وغيره، وعنده: «ومن يسر على معسر يسر اللهُ عليه في الدنيا والآخرة»، وليراجع لفظه.
(4) أخرجه أبو داود (3460)، ولفظه: «مَنْ أقال مسلماً أقاله اللهُ عثرتَهُ»، وابن ماجه (2199)، وزاد: «يوم القيامة»، وغيرهما، وصححه الألباني.
(5) أخرجه مسلم (3006) عن أبي اليسر رضي الله عنه، ولفظه: «أظله اللهُ في ظله»، ولفظ «العرش» عند الترمذي (1306)، وأحمد (8354)، وغيرهما، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الألباني.(1/47)
؛ لأنه لما جعله في ظل الإنظار والصبر ونجاه من حر المطالبة وحرارة تكلف الأداء مع عسرته وعجزه نَجَّاهُ اللهُ تعالى من حَرّ الشمس يوم القيامة إلى ظِلّ العرش.
وكذلك الحديث الذي في «الترمذي» وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبته يوماً:
«يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان إلى قلبه، لا تُؤْذوا المسلمين ولا تَتَّبعُوا عَوراتهم، فإنه من تَتَبَّعَ عورة أخيه يَتَّبعِ اللهُ عورتَه، ومن يَتَّبعِ اللهُ عورتَه يَفْضَحْهُ ولو في جوف بيته»(1).
فكما تَدينُ تُدان، وكُنْ كيف شئتَ فإن الله تعالى لك كما تكون أنت له ولعباده.
ولما أظهر المنافقون الإسلام وأسرّوا الكفر أظهر اللهُ تعالى لهم يوم القيامة نوراً على الصراط، وأظهر لهم أنهم يجوزون الصراط، وأسَرّ لهم أن يُطْفِىء نورهم، وأن يحال بينهم وبين الصراط؛ من جنس أعمالهم.
وكذلك من يُظْهر للخلق خلاف ما يعلمه الله فيه فإن الله تعالى يُظْهِرُ له في الدنيا والآخرة أسباب الفلاح والنجاح والفوز، ويُبطنُ له خلافها.
وفي الحديث: «مَنْ راءى راءى اللهُ به، ومَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ به»(2).
والمقصود أن الكريم المُتَصَدِّقَ يعطيه الله ما لا يعطي البخيل الممسك، ويُوَسِّعُ عليه في ذاته وخلقه ورزقه ونفسه وأسباب معيشته، جزاءً له من جنس عمله».
«الوابل الصيب» (ص40 ـ46).
(29) باب جزاء الذي يغير طاعة الله بمعصيته
قال ابن القيم: «ومن عقوبات الذنوب أنها تُزِيلُ النِّعَمَ وتُحِلُّ النِّقَمَ، فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، ولا حَلَّتْ به نقمة إلا بذنب، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفِعَ إلا بتوبة.
__________
(1) أخرجه أبو داود (4880)، والترمذي (2032)، وغيرهما، وقال الألباني: «حسن صحيح».
(2) أخرجه البخاري (11/336 و13/128ـ فتح)، ومسلم (2987)، وغيرهما، وليراجع لفظه في «صحيحيهما».(1/48)
وقد قال تعالى: +وَمَا أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ"
[ الشورى: 30] .
وقال تعالى: +ذلِكَ بِأَنَّ ا÷ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ" [ الأنفال: 53].
فأخبر الله تعالى أنه لا يُغَيِّرُ نِعَمَه التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يغيّر ما بنفسه، فيغيّر طاعة الله بمعصيته، وشكره بكفره، وأسباب رضاه بأسباب سخطه، فإذا غَيَّرَ غُيِّرَ عليه، جزاءً وفاقاً، +وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ".
فإن غَيَّرَ المعصية بالطاعة غَيَّرَ اللهُ عليه العقوبة بالعافية، والذل بالعز.
وقال تعالى: +إِنَّ ا÷ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ ا÷ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ" [الرعد: 11] » .
«الجواب الكافي» (ص85 ـ 86).
(30) باب جزاء من غض بصره
وجزاء من أطلقه
قال شيخ الإسلام في ضمن الكلام على قوله تعالى:+قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ" [النور: 30]:
«في هذه السورة(1) ذكر «آية النور» بعد غض البصر وحفظ الفرج وأمْرِهِ بالتوبة مما لا بد منه أن يدرِك ابن آدم من ذلك.
__________
(1) يعني: «سورة النور»، وآية النور هي: +ا÷ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي ا÷ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ ا÷ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَا÷ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ" [النور: 35].(1/49)
وقال أبو عبد الرحمن السلمي: سمعت أبا الحسين الورّاق يقول: مَنْ غضّ بصرَه عن محرمٍ أورثه اللهُ بذلك حكمةً على لسانه يَهتدي بها، ويَهدي بها إلى طريق مرضاته.
وهذا لأن الجزاء من جنس العمل، فإذا كان النظر إلى محبوب فتركه لله عَوّضه الله ما هو أحب إليه منه، وإذا كان النظر بنور العين مكروهاً أو إلى مكروه فتركه لله أعطاه اللهُ نوراً في قلبه وبصراً يبصر به الحق.
قال شاه [ بن شجاع ] الكرماني: من غض بصره عن المحارم، وعَمّر باطنه بدوام المراقبة، وظاهره باتباع السنة، وعَوّدَ نفسه أكلَ الحلال، وكَفّ نفسه عن الشهوات، لم تخطىء له فراسة.
وإذا صلح علم الرجل فعرف الحق وعمله واتبع الحق صار زكياً تقياً مستوجباً للجنة…».
«مجموع الفتاوى» (15/396).
وقال: «والله تعالى يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله، فغضُّ بصره عما حُرّم يعوضه اللهُ عليه من جنسه بما هو خير منه، فيطلق نور بصيرته، ويفتح عليه باب العمل والمعرفة والكشوف، ونحو ذلك مما يُنال ببصيرة القلب».
«مجموع الفتاوى» (21/257 – 258).
وقال ابن القيم بعد ذكر قول أبي شجاع الكرماني: «وقد ذكر الله سبحانه قصة قوم لوط وما ابتلوا به، ثم قال بعد ذلك: +إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ" [الحجر: 75]، وهم المتفرسون الذين سلموا من النظر المحرم والفاحشة.
وقال تعالى عقيب أمره للمؤمنين بغض أبصارهم وحفظ فروجهم: +ا÷ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي ا÷ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ ا÷ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَا÷ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ"
[ النور : 35] .(1/50)
وسر هذا: أن الجزاء من جنس العمل، فمن غض بصره عما حَرَّمَ اللهُ عز وجل عليه عوضه الله تعالى من جنسه ما هو خير منه، فكما أمسك نور بصره عن المحرمات أطلق اللهُ نورَ بصيرته وقلبه، فرأى به ما لم يره من أطلق بصره ولم يغضه عن محارم الله تعالى.
وهذا أمر يحسه الإنسان من نفسه، فإن القلب كالمرآة، والهوى كالصدأ فيها، فإذا خَلَصَتِ المرآةُ من الصدأ انطبعت فيها صُوَرُ الحقائق كما هي عليه، وإذا صدئت لم تنطبع فيها صورُ المعلومات، فيكون علمه وكلامه من باب الخَرْصِ والظنون.
«إغاثة اللهفان» (1/58 ـ 59) .
وقال في موضع آخر: «والله سبحانه وتعالى يجزي العبد على عمله بما هو من جنسه، فمن غضّ بصره عن المحارم عوضه الله سبحانه وتعالى إطلاقَ نور بصيرته، فلما حَبَسَ بصره لله أطلق اللهُ نور بصيرته، ومن أطلق بصرَه في المحارم حَبَسَ اللهُ عنه بصيرته».
«روضة المحبين» (ص102).
وقال في موضع آخر: «الخامسة (يعني: من منافع غض البصر): أنه يُلبس القلبَ نوراً، كما أن إطلاقه يُلبسه ظلمة، ولهذا ذكر الله سبحانه «آية النور» عقيب الأمر بغض البصر، قال:
+قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ" [النور: 30].
ثم قال إثر ذلك : +ا÷ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي ا÷ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ ا÷ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَا÷ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ" [النور : 35]؛ أي: مثل نوره في قلب عبده المؤمن الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه.(1/51)
وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل ناحية، كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان، فما شئت من بدع وضلالة، واتباع هوى واجتناب هدى، وإعراض عن أسباب السعادة، واشتغال بأسباب الشقاوة، فإن ذلك إنما يكشفه له النور الذي في القلب، فإذا نفد ذلك النور بقي صاحبُه كالأعمى الذي يجوس في حنادس الظلام(1).
السادسة (يعني: من منافع غض البصر): أنه يورث فراسة صادقة يُمَيَّزُ بها بين الحق والباطل، والصادق والكاذب.
وكان شجاع الكرماني يقول: مَنْ عَمَّر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكفّ نفسه عن الشبهات، واغتذى بالحلال(2)، لم تخطىء له فراسة.
وكان شجاع هذا لا تخطىء له فراسة.
والله سبحانه يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله، ومن ترك لله شيئاً عوضه الله خيراً منه(3)، فإذا غض بصره عن محارم الله عوضه الله بأن يطلق نور بصيرته عوضاً عن حبس بصره لله، ويفتح عليه باب العلم والإيمان والمعرفة والفراسة الصادقة المصيبة التي إنما تُنال ببصيرة القلب.
__________
(1) أي: يتردد ويتخبط في الظلام الشديد.
(2) وفي نسخة: «اعتاد أكل الحلال».
(3) تكررت هذه العبارة في كلام الإمام ابن القيم وشيخه شيخ الإسلام، ونسبها بعضهم إلى النبي ×، ولم أجدها بهذا اللفظ من كلامه ×، فأحببت أن أنبه هنا على ما جاء من كلام النبي × مما يفيد معناها ويؤكد محتواها، حاثاً أهل العلم وغيرهم أن ينشروا ذلك ويبثوه بين الناس، وهو قوله ×: «إنك لن تَدَعَ شيئاً لله عز وجل إلا بَدَّلَكَ اللهُ به ما هو خَيرٌ لك منه»، أخرجه الإمام أحمد في«مسنده» (5/363) وغيره، وصححه الألباني تحت الحديث (رقم 5) من «السلسلة الضعيفة».(1/52)
وضِدُّ هذا ما وصف اللهُ به اللوطيين من العَمَهِ الذي هو ضد البصيرة، فقال تعالى:+لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ" [ الحجر: 72]، فوصفهم بالسكرة التي هي فساد العقل، والعَمَهِ الذي هو فساد البصيرة، فالتعلق بالصور يُوجب فسادَ العقل وعَمَهَ البصيرة وسكرَ القلب، كما قال القائل:
سكران سكر هوى وسكر مُدَامَةٍ ومتى مَنْ به إفاقة سكران؟
وقال الآخر:
قالوا جُنِنْتَ بمَنْ تهوى فقلت لهم العشق أعظمُ مما بالمجانين
العشقُ لا يستفيق الدهرَ صاحبُه وإنما يُصرع المجنونُ في الحين»
«الجواب الكافي» (ص212 ـ 213).
(31) باب عقوبة الزاني في الدنيا والآخرة
قال شيخ الإسلام أثناء تفسير قوله تعالى: +الزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً" [النور: 3]:
«فمَنْ نكح زانية فهو زان؛ أي: تزوجها، ومَنْ نكحت زانياً فهي زانية؛ أي: تزوجته، فإن كثيراً من الزناة قَصَروا أنفسهم على الزواني، فتكون المرأة خدناً وخليلاً له لا يأتي غيرها، فإن الرجل إذا كان زانياً لا يُعِفُّ امرأته، وإذا لم يُعِفَّها تشوقت هي إلى غيره فزنت به، كما هو الغالب على نساء الزواني أو مَنْ يلوط بالصبيان، فإن نساءه يزنين ليقضين إربهن ووَطَرَهن، ويراغمن أزواجهنّ بذلك حيث لم يَعِفُّوا أنفسهم عن غير أزواجهن، فهن أيضاً لم يَعْفِفْنَ أنفسَهن عن غير أزواجهن، ولهذا يقال: «عِفُّوا تَعِفَّ نساؤكم وأبناؤكم، وبرُّوا آباءكم تَبرَّكم أبناؤكم».
فإن الجزاء من جنس العمل، وكما تَدين تُدان، ومن عقوبة السيئة السيئةُ بعدها، فإن الرجل إذا رضي أن ينكح زانية رضي بأن تزني امرأته، والله تعالى قد جعل بين الزوجين مودة ورحمة، فأحدهما يحب لنفسه ما يحب للآخر، فإذا رضيت المرأة أن تنكح زانياً فقد رضيت عمله، وكذلك إن رضي الرجل أن ينكح زانية فقد رضي عملها، ومن رضي الزنا كان بمنزلة الزاني، فإن أصل الفعل هو الإرادة…».
«مجموع الفتاوى» (15/319).(1/53)
وقال ابن القيم: «أما الزاني فإنه يزني بجميع بدنه، والتلذذ بقضاء شهوته يعم البدن، والغالب من فعله وقوعه برضا المزني بها، فهو غير خائف ما يخافه السارق من الطلب، فعوقب بما يعم بدنه من الجَلْد مرة والقتل بالحجارة مرة، ولما كان الزنا من أمهات الجرائم وكبائر المعاصي، لما فيه من اختلاطِ الأنسابِ الذي يَبْطُل معه التعارفُ والتناصر على إحياء الدين، وفي هذا هلاك الحَرْثِ والنَّسل، فشاكَلَ في معانيه أو في أكثرها القتلَ الذي فيه هلاك ذلك، فزُجِرَ عنه بالقصاص ليرْتَدِعَ عن مثل فعله مَنْ يَهُمُّ به، فيعود ذلك بعمارة الدنيا وصلاح العالم الموصل إلى إقامة العبادات الموصلة إلى نعيم الآخرة.
ثم إن للزاني حالتين؛ إحداهما: أن يكون مُحْصَناً قد تزوج، فعَلِمَ ما يقع به من العفاف عن الفروج المحرمة، واستغنى به عنها، وأحرز نفسه عن التعرض لحد الزنا، فزال عذره من جميع الوجوه في تخطي ذلك إلى مواقعة الحرام.
والثانية: أن يكون بكراً لم يعلم ما علمه المُحْصَنُ ولا عمل ما عمله، فحصل له من العذر بعض ما أوجب له التخفيف؛ فحقن دمه، وزُجِرَ بإيلام جميع بدنه بأعلى أنواع الجَلْدِ رَدْعاً عن المعاودة للاستمتاع بالحرام، وبعثاً له على القنع بما رزقه الله من الحلال.
وهذا في غاية الحكمة والمصلحة، جامع للتخفيف في موضعه والتغليظ في موضعه».
ثم قال: «وقد حصلت جريمة الزنا بجميع أجزائه، فكان من العَدل أن تعمه العقوبة».
«إعلام الموقعين» (2/107 ـ 108).
وقال في موضع آخر: «واعلم أن الجزاء من جنس العمل، والقلب معلق بالحرام كلما هَمّ أن يفارقه ويخرج منه عاد إليه، ولهذا يكون جزاؤه في البرزخ وفي الآخرة هكذا.(1/54)
وفي بعض طرق حديث سمرة بن جندب الذي في «صحيح البخاري»(1): أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني، فانطلقت معهما، فإذا بيتٌ مبنيٌّ على مثل بناء التنور؛ أعلاه ضيق وأسفله واسع، يوقَد تحته نارٌ، فيه رجال ونساء عُراةٌ، فإذا أُوقدت النارُ ارتفعوا حتى يكادوا أن يخرجوا، فإذا أُخمدت رَجعوا فيها، فقلت: مَنْ هؤلاء؟ قال: هم الزناة».
فتأمل مطابقة هذا العذاب لحال قلوبهم في الدنيا، فإنهم كلما هَمُّوا بالتوبة والإقلاع والخروج من تَنُّور الشهوة إلى فضاء التوبة أُرْكِسُوا فيه(2)، وعادوا بعد أن كادوا يخرجون» .
«روضة المحبين» (ص442).
(32) باب في عقوبة الكفر والشرك والفسوق
قال ابن القيم بعد الكلام المتقدم:
«ولما كان الكفار في سجن الكفر والشرك وضيقه، وكانوا كلما هَمُّوا بالخروج منه إلى فضاء الإيمان وسَعَته ورَوْحه رجعوا على حوافرهم، كان عقوبتهم في الآخرة كذلك، قال الله تعالى: + كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا " [ السجدة :20]».
وقال في موضع آخر: «+كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا" [ الحج:22] .
__________
(1) 3/251و12/438- فتح)، وفي مواضع أخرى.
(2) أي: رُدُّوا إليه وأعيدوا فيه.(1/55)
فالكفر والمعاصي والفسوق كُلُّه غُمومٌ، وكلما عزم العبدُ أن يخرج منه أَبَتْ عليه نفسُه وشيطانُه ومَأْلفُه، فلا يزال في غَمّ ذلك حتى يموت، فإن لم يخرج من غمِّ ذلك في الدنيا بقي في غمه في البرزخ وفي القيامة، وإن خرج من غمه وضيقه هاهنا خرج منه هناك، فما حَبَسَ العبدَ عن الله في هذه الدار حَبَسَه عنه بعد الموت، وكان مُعَذَّباً به هناك كما كان قلبه مُعَذَّباً به في الدنيا، فليس العشاقُ والفَجَرةُ والظَّلَمَةُ في لذة في هذه الدار، وإنما هم يُعذَّبُون فيها وفي البرزخ وفي القيامة، ولكنّ سكر الشهوة وموت القلب حالَ بينهم وبين الشعور بالألم، فإذا حِيل بينهم وبين ما يشتهون أُحْضِرتْ نفوسُهم الألمَ الشديدَ، وصار يعمل فيها بعد الموت نظيرُ ما يعمل الدود في لحومهم، فالآلام تأكل أرواحهم غير أنها لا تفنى، والدُّود يأكل جسومَهم».
«روضة المحبين» (ص 442 ـ 443).
(33) باب جزاء المحسنين
قال شيخ الإسلام أثناء تفسير قوله تعالى: + ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَةَ ا÷ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ " [الأعراف: 55 و 56] ، قال:
«ولما كان قوله: +وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً" مشتملاً على جميع مقامات الإيمان والإحسان ـ وهي الحب والخوف والرجاء ـ عَقَّبَها بقوله: +إن رحمة الله قريب من المحسنين"؛ أي: إنما تَنال مَنْ دعاه خوفاً وطمعاً، فهو المحسن والرحمة قريب منه؛ لأن مدار الإحسان على هذه الأصول الثلاثة.
ولما كان دعاء التضرع والخفية يقابل الاعتداء بعدم التضرع والخفية عَقَّب ذلك بقوله تعالى: +إنه لا يحب المعتدين".
وانتصاب قوله: + تضرعاً وخفية" و+خوفاً وطمعاً" على الحال؛ أي: ادعوه متضرعين إليه مختفين خائفين مطيعين.(1/56)
وقوله: + إن رحمة الله قريب من المحسنين" فيه تنبيه ظاهر على أن فعل هذا المأمور هو الإحسان المطلوب منكم ومطلوبكم أنتم من الله رحمته، ورحمته قريب من المحسنين الذين فعلوا ما أُمِرُوا به من دعائه تضرعاً وخفية وخوفاً وطمعاً، فقرر مطلوبكم منه وهو الرحمة بحسب أدائكم لمطلوبه، وإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم.
وقوله تعالى: +إن رحمة الله قريب من المحسنين" له دلالة بمنطوقه، ودلالة بإيمائه وتعليله، و[دلالة] بمفهومه، فدلالته بمنطوقه على قرب الرحمة من أهل الإحسان، ودلالته بإيمائه وتعليله على أن هذا القرب مستحق بالإحسان، وهو السبب في قرب الرحمة منهم، ودلالته بمفهومه على بعده من غير المحسنين، فهذه ثلاث دلالات لهذه الجملة.
وإنما اختُص أهل الإحسان بقرب الرحمة؛ لأنها إحسان من الله عز وجل أرحم الراحمين، وإحسانه تبارك وتعالى إنما يكون لأهل الإحسان؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وكلما أحسنوا بأعمالهم أحسن إليهم برحمته، وأما مَنْ لم يكن من أهل الإحسان فإنه لما بَعُدَ عن الإحسان بَعُدَتْ عنه الرحمة، بُعْدٌ ببُعْدٍ، وقربٌ بقربٍ، فمن تقرب إليه بالإحسان تقرب الله إليه برحمته، ومن تباعد عن الإحسان تباعد الله عنه برحمته.
والله سبحانه يحب المحسنين، ويبغض مَنْ ليس من المحسنين، ومَنْ أحبه اللهُ فرحمته أقرب شيء منه، ومَنْ أبغضه الله فرحمته أبعد شيء منه، والإحسان ههنا هو فعل المأمور به، سواء كان إحساناً إلى الناس أو إلى نفسه، فأعظم الإحسان الإيمان والتوحيد والإنابة إلى الله تعالى، والإقبال إليه والتوكل عليه، وأن يعبد الله كأنه يراه إجلالاً ومهابة وحياءً ومحبة وخشية.
فهذا هو مقام الإحسان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وقد سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان، فقال: «أنْ تعبدَ اللهَ كأنك تراه»(1).
__________
(1) متفق عليه.(1/57)
فإذا كان هذا هو الإحسان فرحمته قريب من صاحبه، و+هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ" [ الرحمن: 60] ؟! يعني: هل جزاء من أحسن عبادة ربِّه إلا أن يُحسن ربُّه إليه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: هل جزاء من قال: لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إلا الجنة؟!
وقد ذكر ابن أبي شيبة وغيره من حديث الزبير بن عدي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: +هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ"، ثم قال: هل تدرون ما قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هل جزاء من أنعمتُ عليه بالتوحيد إلا الجنة؟!(1).
«مجموع الفتاوى» (15/26 ـ 28).
(34) باب جزاء الإحسان إلى الناس والتجاوز عنهم
قال ابن القيم أثناء ذكره الأسباب التي يندفع بها شَرُّ الحاسد عن المحسود:
«السبب التاسع: وهو من أصعب الأسباب على النفس وأشقها عليها، ولا يوفق له إلا مَنْ عَظُمَ حَظُّه من الله، وهو طَفْيُ نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه، فكلما ازداد أذى وشراً وبغياً وحسداً ازددت إليه إحساناً وله نصيحة وعليه شفقة، وما أظنك تصدق بأن هذا يكون فضلاً عن أن تتعاطاه، فاسمع الآن قوله عز وجل: +وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِا÷ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" [ فصلت: 34 – 36] .
__________
(1) عزاه السيوطي في «الدر المنثور» (7/714) إلى الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» والبغوي في «تفسيره» والديلمي في «مسند الفردوس» وابن النجار في «تاريخه»، وذكره من حديث ابن عمر رضي الله عنه وغيره.(1/58)
وقال: +أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ" [القصص: 54].
وتأمل حال النبي صلى الله عليه وسلم الذي ضربه قومُه حتى أَدْمَوْه، فجعل يسلت الدم عنه ويقول: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون»(1)؛ كيف جمع في هذه الكلمات أربع مقامات من الإحسان قابل بها إساءتهم العظيمة إليه.
أحدها: عفوه عنهم. والثاني: استغفاره لهم. والثالث: اعتذاره عنهم بأنهم لا يعلمون. الرابع: استعطافه لهم بإضافتهم إليه؛ فقال: «اغفر لقومي»، كما يقول الرجل لمن يشفع عنده فيمن يتصل به: هذا ولدي، هذا غلامي، هذا صاحبي، فهبه لي.
واسمع الآن ما الذي يُسَهِّلُ هذا على النفس ويُطَيِّبُهُ إليها وينعمها به:
اعلم أن لك ذنوباً بينك وبين الله تخاف عواقبها وترجوه أن يعفو عنها ويغفرها لك ويهبها لك، ومع هذا لا يقتصر على مجرد العفو والمسامحة حتى ينعم عليك ويكرمك، ويجلب إليك من المنافع والإحسان فوق ما تؤمله، فإذا كنت ترجو هذا من ربك أن يقابل به إساءتك، فما أولاك وأجدرك أن تعامل به خَلْقَهُ وتقابل به إساءتهم، ليعاملك الله هذه المعاملة، فإن الجزاء من جنس العمل، فكما تعمل مع الناس في إساءتهم في حقك يفعل اللهُ معك في ذنوبك وإساءتك، جزاءً وفاقاً، فانتقم بعد ذلك أو اعفُ وأحسن أو اترك، فكما تَدين تُدان، وكما تفعل مع عباده يفعل معك.
فمن تصور هذا المعنى وشغل به فكره هان عليه الإحسان إلى مَنْ أساء إليه، هذا مع ما يحصل له بذلك من نصر الله ومعيته الخاصة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي شكى إليه قرابته وأنه يحسن إليهم وهم يسيؤون إليه، فقال: «لا يزال معك من الله ظَهِيرٌ ما دمت على ذلك»(2).
__________
(1) متفق عليه.
(2) أخرجه مسلم (2558) وغيره.(1/59)
هذا مع ما يتعجله من ثناء الناس عليه، ويصيرون كلُّهم معه على خصمه، فإنه كُلُّ مَنْ سمع أنه محسنٌ إلى ذلك الغير وهو مُسيءٌ إليه وَجَدَ قَلبَه ودعاءه وهِمَّتَه مع المحسن على المسيء، وذلك أمر فِطري فطر اللهُ عليه عباده، فهو بهذا الإحسان قد استخدم عسكراً لا يعرفهم ولا يعرفونه، ولا يريدون منه إقطاعاً ولا خبزاً.
هذا مع أنه لا بد له مع عدوه وحاسده من إحدى حالتين: إما أن يملكه بإحسانه فيستعبده وينقاد له ويذل له ويبقى مِن أحبّ الناس إليه، وإما أن يفتت كبده ويقطع دابره إن أقام على إساءته إليه، فإنه يذيقه بإحسانه أضعاف ما ينال منه بانتقامه، ومَنْ جَرَّب هذا عرفه حق المعرفة، والله هو الموفق المعين بيده الخير كله، لا إله غيره، وهو المسؤول أن يستعملنا وإخواننا في ذلك بمَنِّه وكرمه.
وفي الجملة، ففي هذا المقام من الفوائد ما يزيد على مائة منفعة للعبد عاجلة وآجلة…».
«بدائع الفوائد» (2/243 ـ 244).
وقال في ضمن كلامه على مشاهد الناس في المعاصي والذنوب (المشهد الحادي عشر):
«أن يعامل عباد الله في إساءتهم إليه وزلاّتهم معه بما يحب أن يعامله الله به، فإن الجزاء من جنس العمل، فيعمل في ذنوب الخلق معه ما يحب أن يصنعه اللهُ بذنوبه».
«طريق الهجرتين» (ص308).
وذكر هذا المشهد في موضع آخر، فقال:
«مشهد الإحسان: … وهو أن يقابل إساءة المسيء إليه بالإحسان، فيحسن إليه كلما أساء هو إليه، ويُهَوِّنُ هذا عليه علمه بأنه قد ربح عليه، وأنه قد أهدى إليه حسناته ومحاها من صحيفته وأثبتها في صحيفة مَنْ أساء إليه، فينبغي لك أن تشكره وتحسن إليه بما لا نسبة له إلى ما أحسن به إليك.
وههنا ينفع استحضار مسألة اقتضاء الهبة الثواب، وهذا المسكين قد وهبك حسناته، فإن كنت من أهل الكرم فأَثِبْهُ عليها، لتَثبتَ الهبةُ وتأمنَ رجوع الواهب فيها، وفي هذا حكايات معروفة عن أرباب المكارم وأهل العزائم.(1/60)
ويُهَوِّنُهُ عليك أيضاً: علمك بأن الجزاء من جنس العمل، فإن كان هذا عملك في إساءة المخلوق إليك؛ عفوت عنه وأحسنت إليه مع حاجتك وضعفك وفقرك وذُلِّك، فهكذا يفعل المحسن القادر العزيز الغني بك في إساءتك؛ يقابلُها بما قابلتَ به إساءة عبدِه إليك، فهذا لا بد منه، وشاهده في السُّنة من وجوه كثيرة لمَنْ تأمَّلها ».
«مدارج السالكين» (2/320).
وقال في موضع آخر:
«ومنها: أن يعامل العبدُ بني جنسِه في إساءتهم إليه وزلاّتهم معه بما يحب أن يعامله الله به في إساءته وزلاّته وذنوبه، فإن الجزاء من جنس العمل، فمَنْ عفا عفا الله عنه، ومَنْ سامح أخاه في إساءته إليه سامحه اللهُ في سيئاته، ومَنْ أغضى وتجاوزَ تجاوزَ اللهُ عنه، ومَنْ استقصى استُقصي عليه، ولا تنس حال الذي قبضت الملائكة رُوحه فقيل له: هل عملتَ خيراً؟ هل عملتَ حسنة؟ قال: ما أعلمه. قيل: تَذَكَّرْ. قال: كنت أبايع الناس، فكنت أُنْظِرُ المُوسرَ وأتجاوزُ عن المُعسر، أو قال: كنت آمر فتياني أن يتجاوزوا في السِّكَّةِ، فقال الله: نحن أحق بذلك منك، وتجاوز الله عنه(1).
فاللهُ عز وجل يعاملُ العبدَ في ذنوبه بمثل ما يعاملُ العبدُ الناسَ في ذنوبهم، فإذا عَرَفَ العبدُ ذلك كان في ابتلائه بالذنوب من الحِكَم والفوائد ما هو أنفع الأشياء له».
«مفتاح دار السعادة» (1/291 ـ 292).
(35) باب جزاء الإحسان إلى الزوجة
(بعد الإيلاء)
قال ابن القيم بعد ذكر قوله تعالى:+ لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُوا فَإِنَّ ا÷ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [البقرة: 226 ] :
__________
(1) أخرجه البخاري (4/307 ـ فتح) وفي مواضع أخرى، ومسلم (1560)، وغيرهما، وله عدة ألفاظ، فلتراجَع.(1/61)
«فختم حكمَ الفيء ـ الذي هو الرجوع والعود إلى رضا الزوجة والإحسان إليها ـ بأنه غفور رحيم، يعود على عبده بمغفرته ورحمته إذا رجع إليه، والجزاء من جنس العمل، فكما رجع إلى التي هي أحسن رجع الله إليه بالمغفرة والرحمة».
«جلاء الأفهام» (ص93 ـ 94).
(36) باب جزاء الصادقين
قال ابن القيم أثناء كلام له في «الصدق» وفي «لسان الصدق» في حق النبي صلى الله عليه وسلم:
«وأما لسان الصدق: فهو الثناء الحسن عليه صلى الله عليه وسلم من سائر الأمم بالصدق ليس ثناء بالكذب، كما قال عن إبراهيم وذريته من الأنبياء والرسل عليهم صلوات الله وسلامه: +وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً" [ مريم: 50].
والمراد باللسان ههنا: الثناء الحسن، فلما كان الصدق باللسان وهو محله أطلق الله سبحانه ألسنة العباد بالثناء على الصادق، جزاءً وفاقاً…».
«مدارج السالكين» (2/272) .
وكان قد قال قبل: «وأخبر [تعالى] عن خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم أنه سأله أن يهب له لسان صدق في الآخرين، فقال: +وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ"
[الشعراء: 84]».
«مدارج السالكين» (2/270).
(37) جزاء الرضا بالله والرضا عنه تبارك اسمه
قال ابن القيم بعد ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ذاقَ طعمَ الإيمان مَنْ رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً»(1)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثٌ مَنْ كُنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: مَنْ كان الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، ومَنْ كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومَنْ كان يَكره أن يَرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يُلقى في النار»(2)، قال:
«فعَلَّقَ ذوق الإيمان بالرضى بالله رباً، وعَلَّقَ وجود حلاوته بما هو موقوف عليه ولا يَتِمُّ إلا به وهو كونه سبحانه أَحَبَّ الأشياء إلى العبد هو ورسوله.
__________
(1) أخرجه مسلم (رقم 34) وغيره .
(2) متفق عليه.(1/62)
ولما كان هذا الحب التام والإخلاص ـ الذي هو ثمرته ـ أعلى من مجرد الرضى بربوبيته سبحانه: كانت ثمرته أعلى، وهي وَجْدُ حلاوة الإيمان، وثمرة الرضى: ذوق طعم الإيمان، فهذا وَجْدُ حلاوة، وذلك ذوق طعم، والله المستعان.
وإنما ترتب هذا وهذا على الرضا به وحده رَبّاً، والبراءة من عبودية ما سواه، وميل القلب بكليته إليه، وانجذاب قُوى المحب كلها إليه.
ورضاه عن ربه تابع لهذا الرضا به، فمن رضي بالله رباً رضيه الله له عبداً، ومن رضي عنه في عطائه ومنعه وبلائه وعافيته لم يَنَلْ بذلك درجة رضى الرب عنه إن لم يَرْضَ به رباً، وبنبيه رسولاً، وبالإسلام ديناً، فإن العبد قد يرضى عن الله ربه فيما أعطاه وفيما منعه، ولكن لا يرضى به وحده معبوداً وإلهاً، ولهذا ضَمِنَ رضى العبد يوم القيامة لمن رضي به رباً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال كل يوم: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً: إلا كان حقاً على الله أن يرضيه يوم القيامة»(1)».
«مدارج السالكين» (2/ 186 – 187) .
إلى أن قال: «الرضى عن الله في جميع الحالات يثمر للعبد رضى الله عنه ـ كما تقدم بيانه في الرضى به ـ فإن الجزاء من جنس العمل، وفي أثر إسرائيلي؛ أن موسى صلى الله عليه وسلم سأل ربه عز وجل : ما يدني من رضاه؟ فقال: إن رضاي في رضاك بقضائي».
«مدارج السالكين» (2/210 ـ 211).
__________
(1) أخرجه أبو داود (5072) وغيره، وعنده: «من قال إذا أصبح وإذا أمسى» بدل: «من قال كل يوم»، وضعفه الألباني برقم (24) من «الكلم الطيب»، وبين هناك وجه تضعيفه، فليراجع.
قلت: وقد روى أبو داود عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله × قال: «من قال: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، وجبت له الجنة»، وهو في «السلسلة الصحيحة» (رقم 334).(1/63)
ثم قال: «الرضى بالقضاء أشق شيء على النفس، بل هو ذبحها في الحقيقة، فإنه مخالفةُ هواها وطبعها وإرادتها، ولا تصير مطمئنةً قَطُّ حتى ترضى بالقضاء، فحينئذ تستحق أن يقال لها: +يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي" [الفجر: 27 – 30] ».
«مدارج السالكين» (2/211).
(38) باب جزاء المتقين
قال ابن القيم في كلامه على قول الله تعالى: +إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ" [الطور: 17و18]:
«ذكر سبحانه أرباب العلوم النافعة والأعمال الصالحة والاعتقادات الصحيحة، وهم المتقون، فذكر مساكنهم وهم في الجنان، وحالهم في المساكن وهو النعيم، وذكر نعيم قلوبهم وراحتهم بكونهم: +فاكهين بما آتاهم ربهم"، والفاكه: المعجب بالشيء المسرور المغتبط به، وفعله: فَكِهَ ـ بالكسر ـ يَفْكَهُ فهو فَكِهٌ وفاكِهٌ: إذا كان طيب النفس، والفاكه البال، ومنه الفاكهة: وهي المرح الذي ينشأ عن طيب النفس، وتفكهت بالشيء: إذا تمتعت به، ومنه الفاكهة التي يتمتع بها، ومنه قوله: +فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ" [الواقعة: 65].
قيل: معناه تندمون، وهذا تفسير بلازم المعنى، وإنما الحقيقة: تزيلون عنكم التفكه، وإذا زال التفكه خلفه ضِدُّه، يقال: تحنّث: إذا زال الحنث عنه، وتحرّج وتحوّب وتأثّم، ومنه: تَفَكَّهَ، وهذا البناء يقال للداخل في الشيء: كتعلم وتحلم، وللخارج منه: كتحرج وتأثم.
والمقصود أنه سبحانه جمع لهم بين النعيمين: نعيم القلب بالتفكه، ونعيم البدن بالأكل والشرب والنكاح، +وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الجَحِيمِ" [الدخان:56]، فوقاهم مما يكرهون، وأعطاهم ما يحبون، جزاءً وفاقاً؛ لأنهم تركوا ما يكره وأَتَوْا بما يحب، فكان جزاؤهم مطابقاً لأعمالهم».
«التبيان في أقسام القرآن» (ص169).(1/64)
(39) باب جزاء من أتى الفتنة
وجزاء من خلص منها بالتقوى
قال ابن القيم في كلامه على قول الله تبارك وتعالى: +قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ * يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ"
[الذاريات: 10 ـ 16]:
«+يسألون أيان يوم الدين"؛ استبعاداً للوقوع وجحداً، فأخبر تعالى أن ذلك: +يوم هم على النار يفتنون"، والمشهور في تفسير هذا الحرف أنه بمعنى: يحرقون، ولكن لفظة «على» تعطي معنىً زائداً على ما ذكروه، ولو كان المراد نفس الحرق لقيل: يوم هم في النار يفتنون، ولهذا لما علم هؤلاء ذلك قال كثير منهم: «على» بمعنى «في»، كما تكون «في» بمعنى «على».
والظاهر أن فتنتهم على النار، قيل: فتنتهم فيها لهم عند عرضهم عليها، ووقوفهم عليها فتنة، وعند دخولهم والتعذيب بها فتنة أشد منها، ومن جعل الفتنة ههنا من الحريق أَخَذَهُ من قوله تعالى: +إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ" [البروج: 10]، واستشهد على ذلك أيضاً بهذه اللفظة التي في «الذاريات».(1/65)
وحقيقة الأمر أن الفتنة تطلق على العذاب وسببه، ولهذا سَمَّى اللهُ الكفر فتنة، فهم لمّا أَتَوْا بالفتنة التي هي أسباب العذاب في الدنيا سَمّى جزاءهم فتنة، ولهذا قال: +ذوقوا فتنتكم"، وكان وقوفهم على النار وعرضهم عليها من أعظم فتنتهم، وآخر هذه الفتنة دخول النار والتعذيب بها، ففُتِنوا أولاً بأسباب الدنيا وزينتها، ثم فُتِنوا بإرسال الرسل إليهم، ثم فُتِنوا بمخالفتهم وتكذيبهم، ثم فُتِنوا بعذاب الدنيا، ثم فُتِنوا بعذاب الموت، ثم يفتنون في موقف القيامة، ثم إذا حُشِروا إلى النار ووُقِفُوا عليها وعُرِضوا عليها، وذلك من أعظم فتنتهم، ثم الفتنة الكبرى التي أنْسَتْهم جميع الفتن قبلها.
ثم ذكر سبحانه جزاء من خلص من هذه الفتن بالتقوى، وهو الجنات والعيون، وأنهم: آخذون ما آتاهم ربهم من الخير والكرامة.
وفي ذلك دليل على أمور: منها قبولهم له، ومنها رضاهم به، ومنها وصولهم إليه بلا مانع ولا عائق، ومنها أن جزاءهم من جنس أعمالهم، فكما أَخذوا ما أمرهم به في الدنيا وقابلوه بالرضا والتسليم وانشراح الصدر، أَخذوا ما آتاهم من الجزاء كذلك».
«التبيان في أقسام القرآن» (ص179 ـ 180).
(40) باب جزاء التوابين
قال شيخ الإسلام: «وما يذكر في الإسرائيليات: «إن الله قال لداود: أما الذنب فقد غفرناه، وأما الود فلا يعود»، فهذا لو عُرِفَتْ صحته لم يكن شرعاً لنا، وليس لنا أن نبني ديننا على هذا، فإن دين محمد صلى الله عليه وسلم في التوبة جاء بما لم يجىء به شَرْعُ مَنْ قبله، ولهذا قال: «أنا نبي الرحمة، وأنا نبي التوبة»(1)، وقد رُفِعَ به من الآصار والأغلال ما كان على من قبلنا.
وقد قال تعالى في كتابه: +إِنَّ ا÷ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ"
[البقرة: 222].
__________
(1) أخرجه مسلم (2355) وغيره، ولفظه: كان رسول الله × يُسَمّي لنا نفسه أسماء، فقال: «أنا محمد، وأحمد، والمُقَفِّي، والحاشر، ونبي التوبة، ونبي الرحمة».(1/66)
وأخبر أنه تعالى يفرح بتوبة عبده التائب أعظم من فرح الفاقد لما يحتاج إليه من الطعام والشراب والمركب إذا وجده بعد اليأس(1).
فإذا كان هذا فرح الرب بتوبة التائب وتلك محبته؛ كيف يقال إنه لا يعود لمودته، +وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ" [البروج: 14 – 16] ؟!
ولكن وُدّه وحبه بحسب ما يتقرب إليه العبدُ بعد التوبة، فإن كان ما يأتي به من محبوبات الحق بعد التوبة أفضل مما كان يأتي به قبل ذلك كانت مودته له بعد التوبة أعظم من مودته له قبل التوبة، وإن كان أنقص كان الأمر أنقص، فإن الجزاء من جنس العمل، +وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ" [ فصلت: 46].
وقد ثبت في «الصحيح» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
__________
(1) وذلك كما ثبت عن النبي × أنه قال: « لَلَّهُ أشدُّ فرحاً بتوبة عبده حين يتوبُ إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه، فأيسَ منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أَيِسَ من راحلته، فبينا هو كذلك إذ هو بها قائمةً عنده، فأخذ بخِطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح». متفق عليه، انظر «صحيح البخاري» (11/ 102 - فتح)، و«صحيح مسلم» (2744 ـ 2747).(1/67)
«يقول الله تعالى: مَنْ عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أُحِبَّه، فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطش بها، ورجلَه التي يمشي بها؛ فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه»(1).
ومعلوم أن أفضل الأولياء بعد الأنبياء هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وكانت محبةُ الرب لهم ومودته لهم بعد توبتهم من الكفر والفسوق والعصيان أعظم محبةٍ ومودة، وكلما تقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض أحبَّهم ووَدَّهم...».
«مجموع الفتاوى» (10/304- 305).
ثم قال شيخ الإسلام: «ومَنْ علم أن ما أتاه ذنباً ثم تاب فلا بد أن يبدل وصفه المذموم بالمحمود، فإذا كان يبغض الحق فلا بد أن يحبه، وإذا كان يحب الباطل فلا بد أن يبغضه، فما يأتي به التائب من معرفة الحق ومحبته والعمل به، ومن بغض الباطل واجتنابه، هو من الأمور التي يحبها الله تعالى ويرضاها، ومحبة الله كذلك بحسب ما يأتي به العبد من محابّة، فكل مَنْ كان أعظم فعلاً لمحبوب الحق كان الحقُّ أعظم محبة له، وانتقاله من مكروهِ الحق إلى محبوبه مع قوة بغض ما كان عليه من الباطل، وقوة حب ما انتقل إليه من حب الحق، فوجب زيادةُ محبة الحق له ومَوَدَّتُه إياه، بل يبدل الله سيئاته حسنات، لأنه بَدّل صفاته المذمومة بالمحمودة، فيبدل الله سيئاته حسنات، فإن الجزاء من جنس العمل.
__________
(1) أخرجه البخاري في «صحيحه» (11/340 ـ 341 ـ فتح) وغيره. وليس في الحديث جملة: «فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي»، وانظر: «الصحيحة» (4/191)، وهذه الجملة تعد تفسيراً لقوله تعالى: «كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به» إلخ.(1/68)
وحينئذ؛ فإذا كان إتيان التائب بما يحب الحقُّ أعظم من إتيان غيره كانت محبةُ الحق له أعظم، وإذا كان فعله لما يَوَدُّه اللهُ منه أعظم من فعله له قبل التوبة كانت مودةُ الله له بعد ذلك أعظم من مودته له قبل التوبة، فكيف يقال: الوُّدُّ لا يعود؟! ».
«مجموع الفتاوى» (10/308- 309).
(41) باب جزاء الرجوع التام إلى الله تعالى
(التوبة النصوح)
قال ابن القيم: «[مسألة]: وهي أن العبد إذا كان له حال أو مقام مع الله، ثم نزل عنه إلى ذنب ارتكبه، ثم تاب من ذنبه، هل يعود إلى مثل ما كان؟ أو لا يعود، بل إن رَجَعَ رَجَعَ إلى أنزل من مقامه وأنقص من رتبته؟ أو يعود خيراً مما كان؟
فقالت طائفة: يعود بالتوبة إلى مثل حاله الأولى، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له(1)، وإذا مُحِيَ أَثَرُ الذنب بالتوبة صار وجوده كعدمه، فكأنه لم يكن ، فيعود إلى مثل حاله.
قالوا: ولأن التوبة هي الرجوع إلى الله بعد الإباق منه، فإن المعصية إباق العبد من ربه، فإذا تاب إلى الله فقد رجع إليه، وإذا كان مُسَمّى التوبة هو الرجوع فلو لم يَعُدْ إلى حالته الأولى مع الله لم تكن توبته تامة، والكلام إنما هو في التوبة النصوح.
قالوا: ولأن التوبة كما ترفع أَثَرَ الذنب في الحال بالإقلاع عنه وفي المستقبل بالعزم على أن لا يعود، فكذلك ترفع أَثَرَهُ في الماضي جملة، ومن أَثَرِهِ في الماضي انحطاط منزلته عند الله ونُقصانه عنده، فلا بد من ارتفاع هذا الأثَر بالتوبة، وإذا ارتفع بها عاد إلى مثل حاله.
__________
(1) «الندم توبة، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له» من كلام النبي ×، أخرجه عن أبي سعيد الأنصاري رضي الله عنه الطبراني في «الكبير» (22/306/ح 775) وغيره، وهو في «صحيح الجامع» برقم (6679).(1/69)
قالوا: ولأنه لو بقي نازلاً من مرتبته منحطاً عن منزلته بعد التوبة كما كان قبلها لم تكن التوبة قد مَحَتْ أثَرَ الذنب، ولا أفادت في الماضي شيئاً، وإن عاد إلى دون منزلته ولم يبلغها فبلوغه تلك الدرجة إنما كان بالتوبة، فلو ضعف تأثير التوبة عن إعادته إلى منزلته الأولى لضَعُفَ عن تبليغه تلك المنزلة التي وصل إليها، وإن لم تكن التوبة ضعيفة التأثير عن تبليغه تلك المنزلة لم تكن ضعيفة التأثير عن إعادته إلى المنزلة الأولى(1).
قالوا: وأيضاً؛ رَبَطَ سبحانه الجزاء بالأعمال ربط الأسباب بمسبباتها، فالجزاء من جنس العمل، فكما رجع التائب إلى الله بقلبه رجوعاً تاماً رجع الله عليه بمنزلته وحاله، بل ما رجع العبدُ إلى الله حتى رجع اللهُ بقلبه إليه أولاً، فرجع اللهُ إليه وتاب عليه ثانياً، فتوبة العبد محفوفة بتوبتين من الله: توبة منه إذناً وتمكيناً تاب بها العبدُ، وتاب الله عليه قبولاً ورضىً.
فتوبة العبد بين توبتين من الله، وهذا يدل على عنايته سبحانه وبرِّه ولطفه بعبده التائب، فكيف يقال: إنه لا يعيده مع هذا اللطف والبرِّ إلى حاله؟!». «طريق الهجرتين» (ص417 ـ 419).
(42 ) باب تابع جزاء التوبة النصوح
وذكر الفرح
وقال ابن القيم في ضمن كلامه على ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أن الله عز وجل يفرح بتوبة عبده(2):
«ويكفي في هذا: المثلُ الذي ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن فتح اللهُ عَيْنَ قلبه، فأبصر ما في طَيِّهِ وما في ضمنه، وعلم أنه ليس كلامَ مجاز ولا مبالغة ولا تخييل، بل كلام معصوم في منطقه وعلمه وقصده وعمله، كل كلمة منها في موضعها ومنزلها ومقرّها لا يتعدّى بها عنه ولا يُقْصَر بها.
__________
(1) هذا الكلام (في هذه الفقرة) فيه نظر لمن تأمله.
(2) كما تقدم قريباً، انظر (صفحة 87 ).(1/70)
والذي يزيد هذا المعنى تقريراً: أن محبة الرب لعبده سبقت محبة العبد له سبحانه، فإنه لولا محبة الله له لما جعل محبته في قلبه، فإنه ألهمه حُبَّهُ وآثره به، فلما أحبه العبد جازاه على تلك المحبة محبةً أعظم منها، فإنه مَنْ تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً، ومَنْ تقرب إليه ذراعاً تقرب إليه باعاً، ومَنْ أتاه ماشياً أتاه هرولة(1).
وهذا دليل على أن محبة الله لعبده الذي يحبه فوق محبة العبد له، وإذا تَعرضَ هذا المحبوب لمساخط حبيبه فهو بمنزلة المحبوب الذي فَرَّ من مُحِبِّه وآثر غيره عليه، فإذا عاوده وأقبل عليه وتخلى عن غيره فكيف لا يفرح به مُحِبُّهُ أعظمَ فرحٍ وأكملَه؟!
والشاهد أقوى شاهد، تؤيده الفطرة والعقل، فلو لم يخبر الصادق المصدوق بما أخبر به من هذا الأمر العظيم لكان في الفطرة والعقل ما يشهد به، فإذا انضافت الشرعة المنزلة إلى العقل المنور فذلك الذي لا غاية له بعده، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
ومتى أراد العبدُ شاهِدَ هذا من نفسه فلينظر إلى الفرحة التي يجدها بعد التوبة النصوح والسرور واللذة التي تحصل له، والجزاء من جنس العمل، فلما تاب إلى الله ففرح الله بتوبته أعْقَبَهُ فرحاً عظيماً».
«طريق الهجرتين» (ص436 ـ 437).
(تنبيه): ثم قال ابن القيم: «وهاهنا دقيقة قَلَّ مَنْ يتفطن لها إلا فقيه في هذا الشأن، وهي أن كل تائب لا بد له في أول توبته من عصرة وضغطة في قلبه من همّ أو غمّ أو ضيق أو حزن، ولو لم يكن إلا تألمه بفراق محبوبه؛ فينضغط لذلك وينعصر قلبه ويضيق صدره، فأكثر الخلق رجعوا من التوبة، ونكسوا على رؤوسهم لأجل هذه العصرة، والعارف الموفق يعلم أن الفرحة والسرور واللذة الحاصلة عقيب التوبة تكون على قدر هذه العصرة، فكلما كانت أقوى وأشدَّ كانت الفرحةُ واللذةُ أكمل وأتَمّ».
«طريق الهجرتين» (ص437 ـ 438).
__________
(1) هذا المعنى مروي في «الصحيحين» وغيرهما، راجع ما تقدم (صفحة 36).(1/71)
وقال في موضع آخر في ضمن كلامه على آثار التوبة النصوح:
«ومنها: أن الله سبحانه يحبه ويفرح بتوبته أعظم فرح، وقد تقرر أن الجزاء من جنس العمل، فلا ينسى الفرحة التي يظفر بها عند التوبة النصوح، وتأمل كيف تجد القلب يرقص فرحاً وأنت لا تدري بسبب ذلك الفرح ما هو؟ وهذا أمر لا يُحِسُّ به إلا حَيّ القلب، وأما ميت القلب فإنما يجد الفرح عند ظفره بالذنب، ولا يعرف فرحاً غيره.
فوازن إذاً بين هذين الفرحين، وانظر ما يُعْقِبُه فرحُ الظفر بالذنب من أنواع الأحزان والهموم والغموم والمصائب، فمَنْ يشتري فرحةَ ساعةٍ بغَمِّ الأبد؟! وانظر ما يُعْقِبُه فرحُ الظفر بالطاعة والتوبة النصوح من الانشراح الدائم والنعيم وطيب العيش، ووازن بين هذا وهذا، ثم اخْتَرْ ما يليق بك ويناسبك، وكلٌّ يعمل على شاكلته، وكل امرئ يصبو إلى ما يناسبه».
«مفتاح دار السعادة» (1/294).
(43) باب جزاء المقربين وجزاء الأبرار
قال شيخ الإسلام بعد ذكره قول الله عز وجل: +كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ" [ المطففين: 18 ـ 28]، وقال:(1/72)
«وعن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من السلف قالوا: يُمزج لأصحاب اليمين مزجاً، ويشرب بها المقربون صِرفاً، وهو كما قالوا، فإنه تعالى قال: +يشرب بها"، ولم يقل: يشرب منها، لأنه ضَمَّنَ ذلك ـ قوله: +يشرب" ـ معنى(1) يروى بها؛ فإن الشارب قد يشرب ولا يروى، فإذا قيل: «يشربون منها» لم يدل على الري، فإذا قيل: «يشربون بها» كان المعنى: يَرْوَوْن بها.
فالمقربون يَرْوَوْن بها فلا يحتاجون معها إلى ما دونها، فلهذا يشربون منها صِرفاً، بخلاف أصحاب اليمين فإنها مُزِجَتْ لهم مزجاً، وهو كما قال تعالى في «سورة الإنسان»:
+كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ا÷ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً" [الإنسان: 5 و6].
فعباد الله هم المقربون المذكورون في تلك السورة(2).
وهذا لأن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَفَّسَ عن مؤمن كُربةً من كُربِ الدنيا نَفَّس اللهُ عنه كُرْبَةً من كُرَبِ يوم القيامة، ومَنْ يَسَّر على مُعْسِرٍ يَسَّر اللهُ عليه في الدنيا والآخرة، ومَنْ سَتَرَ مسلماً سَتَرَهُ الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومَنْ سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سَهَّلَ الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينةُ وغَشِيَتْهم الرحمةُ وحَفَّتْهم الملائكةُ وذكرهم اللهُ فيمن عنده، ومَنْ بَطَّأ به عملُهُ لم يُسْرع به نسبه»، رواه مسلم في «صحيحه»(3).
__________
(1) في «مجموع الفتاوى»: «يعني»، ولعل ما أثبته هو الصواب، والله أعلم.
(2) يعني: في «سورة الواقعة»؛ في أولها وفي آخرها.
(3) رقم 2699).(1/73)
وقال صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا مَنْ في الأرض يرحمكم مَنْ في السماء»، قال الترمذي: حديث صحيح(1).
وفي الحديث الآخر الصحيح الذي في «السنن»: يقول الله تعالى: «أنا الرحمن، خلقتُ الرّحِمَ، وشققت لها اسماً من اسمي، فمَنْ وَصَلَها وصَلْتُه، ومَنْ قَطَعَها بَتَتُّهُ»(2).
وقال: «ومَنْ وصَلَها وَصَلَه اللهُ، ومَنْ قَطَعَها قَطَعَهُ اللهُ»(3).
ومثل هذا كثير».
«مجموع الفتاوى» (11/177 ـ 179).
وقال ابن القيم في كلامه على قول الله تعالى: +إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ا÷ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ا÷ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ ا÷ شَرَّ ذَلِكَ الْيَومِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً" [الإنسان: 5 ـ 12]، قال:
__________
(1) أخرجه أبو داود (4941)، والترمذي (1924)، وغيرهما، وهو في «الصحيحة» (رقم 925).
(2) أخرجه أبو داود (1694)، والترمذي (1907)، وغيرهما، وصححه الألباني.
(3) بعض حديث أخرجه الترمذي (1924) وغيره، وهو في «الصحيحة» (رقم 925)، وقد تقدم الآن.
وقد جاء في «صحيح مسلم» (2555): «الرَّحِمُ معلقةٌ بالعرش، تقول: مَنْ وصلني وصله اللهُ، ومَنْ قطعني قطعه اللهُ».(1/74)
«فأخبر سبحانه عن العين التي يَشرب بها المقربون صِرفاً أن شراب الأبرار يُمزج منها؛ لأن أولئك أخلصوا الأعمال كلَّها لله فأُخْلِصَ شرابُهم، وهؤلاء مَزَجُوا فمُزِج شرابُهم، ونظير هذا قوله تعالى: +إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ * يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ" [المطففين: 22 ـ 28] .
فأخبر سبحانه عن مِزاج شرابهم بشيئين؛ بالكافور في أول السورة، والزنجبيل في آخرها، فإن في الكافور من البَرْدِ وطِيب الرائحة، وفي الزنجبيل من الحرارة وطيب الرائحة، ما يُحْدِثُ لهم باجتماع الشرابين ومجيء أحدهما على إثْرِ الآخر حالة أخرى أكمل وأطيب وألذ من كل منهما بانفراده، ويُعَدِّل كيفية كُلٍّ منهما بكيفية الآخر، وما ألطفَ موقعَ ذكر «الكافور» في أول السورة و«الزنجبيل» في آخرها، فإن شرابهم مُزِجَ أولاً بالكافور وفيه من البرد ما يجيء الزنجبيل بعده فيُعَدِّله، والظاهر أن الكأس الثانية غير الأولى، وأنهما نوعان لذيذان من الشراب؛ أحدهما: مُزِجَ بكافور، والثاني: مُزِجَ بزنجبيل.(1/75)
وأيضاً؛ فإنه سبحانه أخبر عن مَزْجِ شرابهم بالكافور وبرده في مقابلة ما وصفهم به من حرارة الخوف والإيثار والصبر، والوفاء بجميع الواجبات التي نبه على وفائهم بأضعفها ـ وهو ما أوجبوه على أنفسهم بالنذر ـ على الوفاء بأعلاها ـ وهو ما أوجبه الله عليهم ـ ولهذا قال: +وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ جَنَّةً وَحَرِيراً"؛ فإن في الصبر من الخشونة وحَبْس النفس عن شهواتها ما اقتضى أن يكون في جزائهم من سَعَةِ الجنة ونعومة الحرير ما يقابل ذلك الحَبْس والخشونة، وجَمَعَ لهم بين النَّضْرة والسرور، وهذا جمال ظواهرهم وهذا حال بواطنهم، كما جَمَّلُوا في الدنيا ظواهرهم بشرائع الإسلام وبواطنهم بحقائق الإيمان».
«حادي الأرواح» (ص126 ـ 127).
(44) باب جزاء من تقرب إلى الله بكليته
وتنبيه إلى أن الله تعالى يعطي العبد أفضل مما قدم
وأبواب أخرى
قال ابن القيم بعد ذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم حاكياً عن ربه تبارك وتعالى: «من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة»(1)، قال:
__________
(1) متفق عليه، وعند البخاري: «إليَّ» بدل: «مني»، وعند مسلم اللفظان.(1/76)
«فذكر من مراتب القرب ثلاثة، ونبه بها على ما دونها وما فوقها، فذكر تقرب العبد إليه بالشبر وتقربه سبحانه إلى العبد ذراعاً، فإذا ذاق العبد حقيقة هذا التقرب انتقل منه إلى تقرب الذراع، فيجد ذوق تقرب الرب إليه باعاً، فإذا ذاق حلاوة هذا القرب الثاني أسرع المشي حينئذ إلى ربه، فيذوق حلاوة إتيانه إليه هرولة، وههنا منتهى الحديث، منبهاً على أنه إذا هرول عبده إليه كان قرب حبيبه منه فوق هرولة العبد إليه، فإما أن يكون قد أمسك عن ذلك لعظيم شاهد الجزاء، أو لأنه يدخل في الجزاء الذي لم تسمع به أُذُنٌ ولم يخطر على قلب بشر، أو إحالة له على المراتب المتقدمة، فكأنه قيل له: وقس على هذا، فعلى قدر ما تبذل منك متقرباً إلى ربك يَتقرب إليك بأكثر منه، وعلى هذا فلازم هذا التقرب المذكور في مراتبه؛ أي: مَنْ تَقَرَّبَ إلى حبيبه برُوحه وجميع قواه وإرادته وأقواله وأعماله تَقَرَّبَ الربُّ [سبحانه منه] بنفسه في مقابلة تَقَرُّبِ عبده إليه…».
قال: «وهذا الموضع هو سر السلوك وحقيقة العبودية، وهو معنى الوصول الذي يدندن حوله القوم.
وملاك هذا الأمر هو قصد التقرب أولاً، ثم التقرب ثانياً، ثم حال القرب ثالثاً، وهو الانبعاث بالكلية إلى الحبيب.
وحقيقة هذا الانبعاث: أن تفنى بمراده عن هواك، وبما منه عن حظك، بل يصير ذلك هو مجموع حظك ومرادك، وقد عرفت أن مَنْ تقرب إلى حبيبه بشيء من الأشياء جوزي على ذلك بقرب هو أضعافه، وعرفت أن أعلى أنواع التقرب: تقرب العبد بجملته ـ بظاهره وباطنه وبوجوده ـ إلى حبيبه، فمن فعل ذلك فقد تقرب بكله، ولم تبق منه بقية لغير حبيبه، كما قيل:
لا كان مَنْ لسواك فيه بقيةٌ يجد السبيلَ بها إليه العُذَّلُ(1/77)
وإذا كان المتقرب إليه بالأعمال يُعْطى أضعاف أضعاف ما تقرب به، فما الظن بمن أُعْطِيَ حال التقرب وذوقه ووجده؟ فما الظن بمن تقرب إليه برُوحه وجميع إرادته وهمته وأقواله وأعماله؟ وعلى هذا فكما جاد لحبيبه بنفسه، فإنه أهل أن يُجاد عليه؛ بأن يكون ربه سبحانه هو حظه ونصيبه، عوضاً عن كل شيء، جزاءً وفاقاً، فإن الجزاء من جنس العمل.
وشواهد هذا كثيرة.
منها: قوله تعالى: + وَمَن يَتَّقِ ا÷ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ا÷ فَهُوَ حَسْبُهُ" [الطلاق: 2 و3]، فَفَرَّقَ بين الجزاءين كما ترى، وجعل جزاء المتوكِّل عليه كونه سبحانه حسبَه وكافيَه.
ومنها: أن الشهيد لما بذل حياته لله أعاضه الله سبحانه حياةً أكمل منها عنده في محل قربه وكرامته.
ومنها: أن مَنْ بَذَلَ لله شيئاً أعاضه الله خيراً منه.
ومنها: قوله تعالى: +فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ"
[البقرة: 152].
ومنها: قوله في الحديث القدسي:
«مَنْ ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومَنْ ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خيرٍ منه»(1).
ومنها: قوله: «من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً» الحديث(2).
فالعبد لا يزال رابحاً على ربه بحياة لا تشبه ما الناس فيه من أنواع الحياة، بل حياة مَنْ ليس كذلك بالنسبة إلى حياته كحياة الجنين في بطن أُمه بالنسبة إلى حياة أهل الدنيا ولذتهم فيها، بل أعظم من ذلك».
«مدارج السالكين» (3/271 ـ 273).
(45) باب مكمل لما تقدم
في جزاء التوكل على الله عز وجل
__________
(1) متفق عليه .
(2) متفق عليه، وراجع (صفحة 36).(1/78)
وقال ابن القيم: «قال بعض السلف: جعل اللهُ لكل عمل جزاءً من جنسه، وجعل جزاء التوكل عليه نفس كفايته لعبده، فقال: +وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ا÷ فَهُوَ حَسْبُهُ" [الطلاق: 3]، ولم يقل: نؤته كذا وكذا من الأجر ـ كما قال في الأعمال ـ ، بل جعل نفسه سبحانه كافِيَ عبده المتوكِّل عليه وحسبَه وواقيَة، فلو توكل العبدُ على الله حق توكله وكادته السموات والأرض ومَنْ فيهنّ لجعل له مخرجاً من ذلك وكفاه ونَصَره».
«بدائع الفوائد» (2/239 ـ 240).
(46) باب جزاء أولياء الله تعالى
الذين تقربوا إليه بالنوافل بعد الفرائض
قال شيخ الإسلام: «روى البخاري في «صحيحه»(1) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:
«يقول الله تعالى: مَنْ عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطش بها، ورجلَه التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه».
... ولهذا كان هؤلاء لما أَتَوْا بمحبوب الحق من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، المنتظمة للمعارف والأحوال والأعمال، أحبهم الله تعالى، فقال: «ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه»، فعلوا محبوبه فأحبهم، فإن الجزاء من جنس العمل، مناسب له مناسبة المعلول لعلته.
__________
(1) 11/340 ـ 341 ـ فتح).(1/79)
ولا يُتَوهم أن المراد بذلك أن يأتي العبد بعين كل حركة يحبها الله؛ فإن هذا ممتنع، وإنما المقصود أن يأتي بما يقدر عليه من الأعمال الباطنة والظاهرة، والباطنة يمكنه أن يأتي منها بأكثر مما يأتي به من الظاهرة، كما قال بعض السلف: «قوة المؤمن في قلبه، وضعفه في جسمه، وقوة المنافق في جسمه، وضعفه في قلبه»، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ»(1).
وقال: «إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، حَبَسَهُمُ العذرُ»(2).
وقال: «فهما في الأجر سواء» في حديث القادر على الإنفاق والعاجز عنه الذي قال: «لو أنّ لي مثل ما لفلان لعملت فيه مثل ما عمل»(3).
فإنهما لما استويا في عمل القلب وكان أحدهما معذور الجسم استويا في الجزاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مرض العبد أو سافر كُتِبَ له من العمل مثل ما كان يعمل وهو صحيح مقيم»(4)».
«مجموع الفتاوى» ( 2/390 و 394- 395).
__________
(1) أخرجه البخاري (10/557- فتح)، ومسلم (2640)، وغيرهما، عن أبي وائل: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: جاء رجل إلى النبي × فقال: يا رسول الله، كيف تقول في رجل أحبّ قوماً ولم يلحق بهم؟ فقال رسول الله ×: «المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ».
(2) أخرجه البخاري (6/46- 47و 8/126- فتح ) وغيره.
(3) أخرجه الترمذي (2325)، وابن ماجه (4228)، وغيرهما، وهو في «صحيح الترغيب» (رقم 14).
(4) أخرجه البخاري (6/136ـ فتح) وغيره، ولفظه: «إذا مرض العبد أو سافر كُتِبَ له مثلُ ما كان يعمل مقيماً صحيحاً».(1/80)
وقال في موضع آخر: «فهذا محبوب الحق، ومن اتبع الرسول فهو محبوب الحق، وهو المتقرب إلى الله بما دعا إليه الرسول من فرض ونفل، ومعلوم أن مَنْ كان هكذا فهو يحب طاعة الله ورسوله، ويبغض معصية الله ورسوله، فإن الفرائض والنوافل كلها من العبادات التي يحبها الله ورسوله، ليس فيها كفر ولا فسوق، والرب تعالى أحبه لما قام بمحبوب الحق، فإن الجزاء من جنس العمل، فلما لم يزل متقرباً إلى الحق بما يحبه من النوافل بعد الفرائض أَحَبَّهُ الحقُّ، فإنه استفرغ وسعه في محبوب الحق، فصار الحق يحبه المحبة التامة التي لا يصل إليها مَنْ هو دونه في التقرب إلى الحق بمحبوباته، حتى صار يعلم بالحق ويعمل بالحق، فصار به يسمع وبه يبصر وبه يبطش وبه يمشي».
«مجموع الفتاوى» (8/339).
(47) باب تنويع العقوبات على الأمم الخالية
بحسب تنوع جرائمهم
قال ابن القيم: «وتأمل حكمته تبارك وتعالى في عقوبات الأمم الخالية وتنويعها عليهم بحسب تنوع جرائمهم، كما قال تعالى: + وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ" إلى قوله تعالى: +يَظْلِمُونَ"[العنكبوت: 38 ـ40].
وتأمل حكمته تعالى في مَسْخِ مَنْ مَسَخَ من الأمم في صُوَرٍ مختلفة مناسبة لتلك الجرائم، فإنها لما مُسِخَتْ قلوبهم وصارت على قلوب تلك الحيوانات وطباعها اقتضتْ الحكمةُ البالغةُ أنْ جُعِلَتْ صورهم على صورها، لتتم المناسبة ويَكْمُل الشَبَهُ، وهذا غاية الحكمة، واعتبر هذا بمن مُسِخوا قردةً وخنازير، كيف غَلَبتْ عليهم صفاتُ هذه الحيوانات وأخلاقُها وأعمالُها، ثم إن كنت من المتوسمين فاقرأ هذه النسخة من وجوه أشباههم ونظرائهم؛ كيف تراها باديةً عليها؟ وإن كانت مستورةً بصورة الإنسانية.
فاقرأ نسخة القردة من صور أهل المكر والخديعة والفِسق الذين لا عقول لهم، بل هم أَخَفُّ الناس عقولاً وأعظمهم مكراً وخداعاً وفِسقاً، فإن لم تقرأ نسخة القردة من وجوههم فلست من المتوسمين.(1/81)
واقرأ نسخة الخنازير من صور أشباههم، ولا سيما أعداء خيار خلق الله بعد الرسل، وهم أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم، فإن هذه النسخة ظاهرة على وجوه الرافضة يقرأها كلُّ مؤمن؛ كاتب وغير كاتب، وهي تظهر وتخفى بحسب خنزيرية القلب وخبثه، فإن الخنزير أخبثُ الحيوانات وأردؤها طباعاً، ومن خاصيته أنه يدع الطيبات فلا يأكلها، ويقوم الإنسان عن رجيعه فيبادر إليه، فتأمل مطابقة هذا الوصف لأعداء الصحابة؛ كيف تجده منطبقاً عليهم، فإنهم عمدوا إلى أطيب خلق الله وأطهرهم فعادوهم وتبرؤوا منهم، ثم والَوْا كلَّ عدوٍّ لهم من النصارى واليهود والمشركين، فاستعانوا في كل زمان على حرب المؤمنين الموالين لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمشركين والكفار، وصَرَّحُوا بأنهم خَيْرٌ منهم، فأيُّ شَبَهٍ ومناسبة أولى بهذا الضَّرْبِ من الخنازير؟! فإن لم تقرأ هذه النسخة من وجوههم فلست من المتوسمين.
وأما الأخبار التي تكاد تبلغ حَدّ التواتر بمَسْخِ مَنْ مُسِخَ منهم عند الموت خنزيراً فأكثر من أن تذكر، وقد أفرد لها الحافظ بن عبد الواحد المقدسي كتاباً.
وتأمل حكمته تعالى في عذاب الأمم السالفة بعذاب الاستئصال لما كانوا أطول أعماراً وأعظمَ قُوىً وأعتى على الله وعلى رسوله، فلما تقاصرت الأعمار وضعفت القوى رُفِعَ عذابُ الاستئصال وجُعِلَ عذابُهم بأيدي المؤمنين، فكانت الحكمة في كل واحد من الأمرين ما اقتضته في وقته».
«مفتاح دار السعادة» (2/254- 255).
(48) باب تنوُّع جزاء الأعمال المحبوبة لله والمسخوطة
بحسب تنوُّعها في الدنيا وتأكيد التقرير لقاعدة
«الجزاء من جنس العمل»(1/82)
قال ابن القيم: «ومَنْ كان مستوحشاً مع الله بمعصيته إياه في هذه الدار فوحشته معه في البرزخ ويوم المعاد أعظم وأشد، ومَنْ قَرَّتْ عينُه به في هذه الحياة الدنيا قَرَّتْ عينُه به يوم القيامة وعند الموت ويوم البعث، فيموت العبدُ على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه، ويعود عليه عمله بعينه، فينعم به ظاهراً وباطناً، فيورثه من الفرح والسرور واللذة والبهجة وقرة العين والنعيم وقوة القلب واستبشاره وحياته وانشراحه واغتباطه ما هو من أفضل النعيم وأجله وأطيبه وألذه، وهل النعيم إلا طيب النفس وفرح القلب وسروره وانشراحه واستبشاره هذا؟!
وينشأ له من أعماله ما تشتهيه نفسه وتلذ عينُه من سائر المشتهيات، وكمالها وبلوغها مرتبة الحسن والموافقة بحسب كمال عمله ومتابعته فيه وإخلاصه وبلوغه مرتبة الإحسان فيه وبحسب تنوُّعه.
فمن تنوعت أعماله المَرْضِيَّة المحبوبة له في هذه الدار تنوعت الأقسام التي يتلذذ بها في تلك الدار وتكثرت له بحسب تكثر أعماله هنا، وكان مزيده بتنوعها والابتهاج بها والالتذاذ هناك على حسب مزيده من الأعمال وتنوعه فيها في هذه الدار.
وقد جعل الله سبحانه لكل عمل من الأعمال المحبوبة له والمسخوطة أثراً وجزاءً ولذة وألماً يخصه لا يشبه أَثَرَ الآخر وجزاءه، ولهذا تنوعت لذات أهل الجنة وآلام أهل النار، وتنوع ما فيهما من الطيبات والعقوبات، فليست لَذَّةُ مَنْ ضَرَبَ في كل مرضاة لله بسهم وأخذ منها بنصيب كَلَذَّةِ من أنمى سهمه ونصيبه في نوعٍ واحد منها، ولا ألمُ مَنْ ضرب في كل مَسْخُوطٍ لله بنصيب وعقوبته كألم مَنْ ضرب بسهمٍ واحدٍ في مساخطه.(1/83)
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنّ كمال ما يُسْتَمْتَعُ به من الطيبات في الآخرة بحسب كمال ما قابله من الأعمال في الدنيا؛ فرأى قُِنْواً(1) من حَشَفٍ معلقاً في المسجد للصدقة، فقال: «إنّ صاحب هذا يأكل الحَشَفَ يوم القيامة»(2).
فأخبر أن جزاءه يكون من جنس عمله، فيجزى على تلك الصدقة بحشف من جنسها، وهذا الباب يفتح لك أبواباً عظيمة من فهم المعاد، وتفاوتِ الناس في أحواله، وما يجري فيه من الأمور.
فمنها: خفة حمل العبد على ظهره وثقله إذا قام من قبره، فإنه بحسب خفة وزره وثقله؛ إن خَفَّ خَفَّ وإن ثَقُلَ ثَقُلَ.
ومنها: استظلاله بظل العرش أو ضحاؤه للحر والشمس، إن كان له من الأعمال الصالحة الخالصة والإيمان مما يظلّه في هذه الدار من حرِّ الشِّرك والمعاصي والظلم استَظَلَّ هناك في ظل أعماله تحت عرش الرحمن، وإن كان ضاحياً هنا للمعاصي والمخالفات والبدع والفجور ضحى هناك للحَرِّ الشديد.
__________
(1) القُِنْوُ: العِذْقُ بما فيه من الرُّطب.
(2) أخرجه أبو داود (1608) وغيره، وحسنه الألباني، وليراجَع لفظُه.(1/84)
ومنها: طول وقوفه في الموقف ومشقته عليه وتهوينه عليه، إن طال وقوفه في الصلاة ليلاً ونهاراً لله وتحمل لأجله المشاقّ في مرضاته وطاعته خَفَّ عليه الوقوف في ذلك اليوم وسهل عليه، وإن آثر الراحة هنا والدَّعَةَ والبطالة والنَّعمة طال عليه الوقوف هناك واشتدت مشقته عليه، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله: +إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْانَ تَنزِيلاً * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ اثِماً أَوْ كَفُوراً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً * إِنَّ هَؤُلاَءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً" [الإنسان:23-27]، فمَنْ سَبَّحَ اللهَ ليلاً طويلاً لم يكن ذلك اليوم ثقيلاً عليه، بل كان أخَفَّ شيءٍ عليه.
ومنها: أن ثِقَلَ ميزانه هناك بحسب تَحَمُّلِ ثِقَلِ عَمَلِ الحق في هذه الدار، لا بحسب مجرد كثرة الأعمال، وإنما يثقل الميزان باتباع الحق والصبر عليه وبذله إذا سئل وأخذه إذا بُذل، كما قال الصدّيق في وصيته لعمر رضي الله عنهما: واعلم أن لله حقاً بالليل لا يقبله بالنهار، وله حق بالنهار لا يقبله بالليل، واعلم أنه إنما ثقلتْ موازينُ مَنْ ثقلتْ موازينهم باتباعهم الحق وثقل ذلك عليهم...(1/85)
ومنها: أن مَشْيهم على الصراط في السرعة والبطء بحسب سرعة سيرهم وبطئه على صراط الله المستقيم في الدنيا، فأسرعهم سيراً هنا أسرعهم هناك، وأبطؤهم هنا أبطؤهم هناك، وأشدهم ثباتاً على الصراط المستقيم هنا أثبتهم هناك، ومن خطفتْه كلاليبُ الشهوات والشبهات والبدع المضلة هنا خطفته الكلاليب التي كأنها شوك السعدان(1) هناك، ويكون تأثير كلاليب الشهوات والشبهات والبدع فيه هاهنا(2)؛ فناجٍ مُسَلَّم ومخدوش مُسَلَّم ومُخَرْدَل ـ أي: مقطع بالكلاليب مكردس في النار ـ كما أثر فيهم تلك الكلاليب في الدنيا، جزاءً وفاقاً، +وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ"».
«اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص 76-79).
*****
خاتمة
وختاماً أخي القارئ الفاضل، فقد تقرر عندك تماماً أن الجزاء من جنس العمل في الثواب والعقاب، عَلِمَ ذلك مَنْ عَلمه وجَهلَه مَنْ جَهِلَه.
ولْيُعْلَمْ ـ أيضاً ـ أن مِنْ هذا الباب ما يسلطه الله عز وجل على العصاة من الهم والحزن والضنك وضيق الصدر ووحشة القلب وكسف البال والاكتئاب(3)
__________
(1) انظر: (صفحة 23).
(2) كذا هي في الأصل المطبوع، ولعل صوابها: «هناك».
(3) اكتأب اكتئاباً: تَغيرتْ نفسه وانكسرتْ من شدة الهم والحزن. وكذلك: «كَئِبَ» يَكْأَبُ كَأْباً وكَأْبَةً وكآبة، كَنَشْأَة ونشاءَة، ورَأْفَة ورَآفَة. والكَأْباءُ: الحزن الشديد، على فَعْلاء.
هذا معناه اللغوي، وأما معناه المعنوي والنفسي فلا يكاد يجهله أحد، وبخاصة أهل الترف والنعمة من الأغنياء، فلا تزال تسمعهم يقولون: أنا مكتئب، فلان مكتئب، فلانة مكتئبة، رغم ما هم فيه من سعة العيش والغنى وكثرة الأعراض.
هذا، وكلما ازداد الناس بعداً عن الله عز وجل، وذهولاً عن ذكره تعالى، وإعراضاً عن الاستسلام له والاستعداد للدار الآخرة، ازدادوا كآبة وقلقاً وهماً وغماً وضنكاً، وعداً من الله حقاً لا يتبدل، كما قال سبحانه: +وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً" [طه: 124].
ومهما وصل بهم العلم الدنيوي والرقي المادي وما يدندنون به من «الحضارة» فإنه سيكون ـ ما لم يتصل بدين الله وشرعه ـ دماراً عليهم، والواقع أكبر شاهد، فإن نسبة القلق والاكتئاب في سكان دول أمريكا وأوروبا وغيرهما مُطّردة مع نمو ما يسمونه بـ «الحضارة» و«التكنولوجيا»، جزاءً وفاقاً، +وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ".(1/86)
، فإنه كما خرج العاصي عن حدود الله عز وجل طالباً للسعة والحرية (بزعمه) والفرح والسرور (برأيه)، ناشداً للشهوة المشؤومة، واللذة الموهومة، فإنه يعاقب مقابل ما تناول من لذة الحرام بهم القلب وحزنه ، ومقابل ما أراد من السعة بسجن القلب وضيقه ووحشته.
ومع أن هذه العقوبة أوضح من ضياء النهار وأظهر من شمس الظهيرة إلا أنّ مَنْ لا يبصرها قد ينكرها، لأن مَنْ لا يرى العقوبات الظاهرة يظنّ بجهله انعدام العقوبات الباطنة!
وتشتد هذه العقوبة على صاحبها بحسب ما توسع فيه من المعاصي وتناول منه من اللذات المحرمة، حتى يصل ضيق الصدر به إلى حالٍ لا تُحْتَمَل، فلا يجد له مُتنفساً، كأنما يصّعّد في السماء أو يتنفس تحت الماء.
ومِثل هذا لو خُيِّر بين ما هو فيه وبين السجن الحقيقي وراء القضبان وذهاب ألمه لاختار السجن، لذلك ترى مَنْ اشتد به الحال ولم يجد مخرجاً ولا فرجاً يلجأ إلى الانتحار طلباً لمتنفس بالموت، وغالباً لا يصدر هذا إلا ممن انعدم إيمانه وزال إيقانه أو ممن يأس من رحمة الله تعالى ورَوْحه، فلذلك لا تكاد تسمع به إلا في أمريكا ودول أوروبا الكافرة وما هو على شاكلتها.
فإن قال قائل: إنه ليذنب ويذنب ولا يعاقب؟!
قيل: لو صدقناك ـ وحاشا ـ وفرضنا أنك لا تعاقب ولا حتى باطناً (كما ذكرنا من الهموم والوحشة...) فاعلم أنك في الحقيقة تعاقب ولا تشعر، فإن مَنْ عَمِيَتْ بصيرته بغشاوة الغفلة، وحجب عقله بسكر الشهوة، إذا ما استيقظ من غفلته وصار بصره حديداً، وانفك من غول سكرته وصار عقله رشيداً؛ عَرَفَ حقيقة ما هو فيه، ورأى بأم عينه أنه كان يعاقب وهو لا يدري، ولكن:
ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ
كالسكران إذا طار السكرُ من رأسه شعر بألم السياط، والمُبَنَّجِ إذا رجع إليه حِسُّه شعر بوجع الجراح.
ثم إذا صار هذا المعاقب في عالم البرزخ ضُيِّقَ عليه أكثر وأكثر؛ ظاهراً وباطناً، واشتدت العقوبة عليه وبلغت الحَدَّ، فلينكرها هناك إن استطاع!(1/87)
ثم بعد ذلك ـ إن لم يُسَلِّمِ اللهُ تعالى ـ العذاب الأكبر والسجن الأصعب، وما هنالك من تنوع الآلام والعقوبات؛ بحسب تنوع المعاصي والشهوات هاهنا.
واسمع إن لم تُصَدِّقْ: +إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ"
[الهمزة:8 و9].
واسمع: +هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ"
[ص:57و 58].
والعكس بالعكس: مَنْ دخل سجن التقوى فلم يَتَعَدَّ حدودَها، والتزم الطاعات متحملاً أعباءها ومشاقَّها ـ إن صح التعبير ـ فإنه يُجازى مقابل ما سجن نفسه عليه من الطاعات بانشراح الصدر وسعته، حتى يصير صدره أوسع من الدنيا، ويُجازى مقابل المشقة بالسرور واللذة التي لا يعبر عنها بلسان، ولا توصف بخط بنان، ولا يعرفها إلا أهلها ومَنْ ذاقها.
كما كان بعضهم يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.
وكما قال آخر: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً.
وقال آخر: إنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب.
ثم إذا انتقل إلى عالم البرزخ وُسِّع عليه أكثر وأكثر؛ ظاهراً وباطناً.
ثم بعد ذلك ـ إذا رَحِمَ اللهُ تعالى ـ النعيمُ الأكبر والفضاء الأرحب، وما هنالك من تنوع اللذات والشهوات؛ مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؛ بحسب تنوع الطاعات والأعمال الصالحة هاهنا.
واسمع إن لم تُصَدِّقْ: +وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأَبْوَابُ * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ * إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ " [ ص :49- 54].
واسمع: + فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ" [ السجدة :17].(1/88)
وكتب: محمد شومان
الفهرس
الفهرس
المقدمة....................................................................... 5
باب الثواب والعقاب من جنس العمل في قدر الله وشرعه........... 11
باب في أن العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس من جنسها.......13
باب عام في جزاء الحسنات والسيئات وجزاء ترك الصلاة............17
باب جزاء المهتدين والضالين......................................... 18
باب جزاء من سلك الصراط المستقيم وجزاء من انصرف عنه....... 23
باب جزاء مخالفي الرسل............................................. 25
باب جزاء الذين اعتدوا في السبت................................... 26
باب جزاء المكر والكيد لعباد الله تعالى............................... 28
باب جزاء من لم يعرف الله ولم يعبده................................. 28
باب جزاء الإعراض عن القرآن..................................... 31
باب جزاء عدم الإيمان بالآيات...................................... 31
باب جزاء السعيد الطيب وجزاء الشقي الخبيث..................... 33
باب جزاء من أحب لقاء الله تعالى.................................. 34
باب جزاء المنافقين في الآخرة....................................... 38
باب جزاء المرائي................................................... 41
باب جزاء طلب العلم.............................................. 43
باب جزاء معلم الناس الخير........................................ 44
باب تابع لما قبله.................................................... 48
باب مكمل لما قبله في جزاء من ائتم بالسلف المتقين قبله............. 49
باب جزاء ترك نشر العلم............................................ 50
باب عقوبة من كتم الحق أو كذب فيه................................ 51(1/89)
باب جزاء الذاكرين الله تعالى......................................... 52
باب جزاء الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم......................................54
باب جزاء أئمة العدل................................................ 57
باب جزاء ظلم الضعفاء والجور عليهم............................... 58
باب تابع لما قبله في مجازاة العباد بولاة من جنس أعمالهم............. 58
باب جزاء مانعي الزكاة............................................... 59
باب جزاء البخيل والمتصدق.......................................... 61
باب جزاء الذي يغير طاعة الله بمعصيته............................... 64
باب جزاء من غض بصره وجزاء من أطلقه.......................... 65
باب عقوبة الزاني في الدنيا والآخرة................................. 70
باب في عقوبة الكفر والشرك والفسوق............................... 72
باب جزاء المحسنين.................................................... 73
باب جزاء الإحسان إلى الناس والتجاوز عنهم........................ 76
باب جزاء الإحسان إلى الزوجة (بعد الإيلاء)........................ 80
باب جزاء الصادقين...................................................81
باب جزاء الرضا بالله والرضا عنه تعالى.............................. 82
باب جزاء المتقين..................................................... 84
باب جزاء من أتى الفتنة وجزاء من خلص منها بالتقوى..............85
باب جزاء التوابين.....................................................86
باب جزاء التوبة النصوح..............................................89
باب تابع لما قبله وذكر الفرح..........................................91
باب جزاء المقربين وجزاء الأبرار......................................93(1/90)
باب جزاء من تقرب إلى الله تعالى بكليته وأبواب أخرى...............97
باب مكمل لما تقدم في جزاء التوكل على الله عز وجل..............100
باب جزاء أولياء الله تعالى...........................................100
باب تنويع العقوبات على الأمم بحسب تنوع جرائمهم..............102
باب تنوع جزاء الأعمال بحسب تنوعها في الدنيا.....................104
الخاتمة......................................................................109
الفهرس....................................................................115(1/91)