جميلة المصريجمع وترتيبمراجعة وتقديمفضيلة الشيخ / أحمد المحلاويبشريات السلامةمنأهوال القيامة
بسم الله الرحمن الرحيم
الطبعة الأولى 1429هـ/2008 م
جميع الحقوق محفوظة
دار البيان للنشر والتوزيع
84 ش محرم بك - محطة ترام بوالينو - الإسكندرية
ت/ 033929289 - 0166239259
إهداء
ملخص مقدمة فضيلة الشيخ/ أحمد المحلاوي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أحسن كلَّ شيءٍ خَلَقَه، الذي خَلَقَ فسَوَّى، وقَدَّرَ فهَدَى، والصلاة والسلام على نبينا محمد الذي أدبه ربُّه فأحسن تأديبه، وبعثه رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين إلى يوم الدين.. أما بعد..
إنَّ الإيمان بيوم القيامة يصوب الأخطاء، ويحل المتناقضات، ويعدل سير الحياة؛ فإنه لا يدفع إلى إتقان العمل وإحسانه إلا انتظار حسن جزائه، ولا يكبح الشهوات الجامحة إلا خشية العقاب، ويأتي في الذروة من ذلك الإيمان بيوم القيامة، لقد قال سيد الخلق محمد - صلى الله عليه وسلم - لجارية أبطأت في تلبيته: "لولا خوف العقاب لأوجعتُك بهذا".وهذا الذي يهددها به سواك لا يؤلم ولا يوجع، يخاف العقاب فلا يوجع الجارية بالسواك، وهو نبي غُفِر له ذنبه، فماذا يفعل مَن ليس بنبي، ومَن لم يَنَلْ ضمانًا بمغفرة الذنوب إذا خاف يوم القيامة؟
ويوم القيامة هو يوم الفصل، الذي أُجِّلَت إليه كل تناقضات الحياة وقضاياها ليحكم الله بين الناس بالحق فيما كانوا فيه يختلفون. قال الله عز من قائل: { وَنَضَعُ tûïخ-¨uqyJّ9$# الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا مNn=ّàè? نَفْسٌ $Z"ّx© وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ 7p6xm مِنْ خَرْدَلٍ $sY÷ s?r& بِهَا وَكَفَى $sYخ/ ڑْüخ7إ،"xm } [الأنبياء:47]
إنَّ يومًا كهذا اليوم جدير أن تحتشد حوله الآيات والأحاديث، وإنَّ أهواله وطرائق النجاة من هذه الأهوال لجديرة أنْ تكون موضوع هذا الكتاب.(1/1)
وما من إنسان لنفسه عنده قيمة وكرامة، إلا كان خليقًا أنْ تشغله أهوال هذا اليوم عن كل شاغل، وأنْ يكون بحثه عن سبل الخلاص منها أسبق من كل بحث، هذا.. على أنَّ الحديث عن الموت وأهواله، لا يعني استجرار الأحزان واستدرار المدامع، والعزوف عن الطيبات من الرزق، والزهادة في الزخرف والزينة، وإنما يعني عمارة القلب بخشية الله واليقين بلقائه، وإيقاظ الوازع الإيماني الوقَّاف عند حدود الله، والتمكن من الأرض وعمارتها عبادةً لله، وإصلاح الحياة بالسير على منهج الله، وإتقان العمل وإجادته ابتغاء ما عند الله مخلصين له الدين حنفاء.
وفي هذا الكتاب نماذج مشرقة مضيئة لرجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ترسم لنا الطريق، وتحدد لنا المعالم، وتحدونا إلى عزة سبقونا إليها استحقت بجدارة مدحة الله لها: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ôMy_حچ÷zé& لِلنَّاسِ tbrقگكDù's? بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ حچx6ZكJّ9$# وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } [آل عمران:110]
وفي هذا الكتاب كذلك نماذج معاصرة مضيئة مشرقة من قوافل المجاهدين والمرابطين والشهداء في فلسطين، لهم نظائر معاصرون أيضًا في غيرها، وهؤلاء لم يرزقوا الشهادة فلتة أو صدفة، وإنما أعدوا أنفسهم لها، وطلبوها في مَظانِّها، ونشدوها في ساحاتها؛ لعل في استحياء قصصهم ما يذهب بـ(الوَهَن) القائم، ويدفع اليأس الغالب، ويشرق بالأمل المرتقب، ويأتي بالنصر العاجل.. لعله يدفع الأمة إلى أنْ تغير ما بأنفسها ليغير الله ما بها، وأنْ تنصر الله لينصرها.. لعله يعيد ثقة الأمة في نفسها، وفي شبابها وشِيبها، الذين يتصدون بإيمانهم بالله وثقتهم في دينه لأقوى آلة حربية في الأرض، وما وهنوا ولا استكانوا.
ورائع من الأخت أنْ تهدي كتابها إلى الشيخ/ أحمد ياسين فخر هذا الجيل، ذلك الشيخ من القاعدين من أولي الضرر، الذين أعفاهم الله من الجهاد، فلم يعفوا أنفسهم من هذا الشرف، ألا لا نامت أعين الجبناء.(1/2)
أرجو أنْ يُلبي هذا الكتاب للمطالعين له الرغبة الملحة، وأنْ يجدوا في مطالعته ما يُشبِع نهمتهم في هذا المجال.. تشخيصًا للداء، وإرشادًا إلى الدواء، ومتعة للنفس والحس.
كما أرجو لصاحبته أنْ يتقبل الله عملها، ويجزل جزاءها، ويديم توفيقها، ويتابع في سبيل الله خطوها..
وأرجو للأمة الإسلامية أن يجمع الله كلمتها، ويصلح ذات بينها، ويرفع فوق الرايات عَلَمها، وأنْ يُمَسِّكها بكتابه، ويعقد خناصرها على الاقتداء بنبيه، وأنْ ينزع من قلوبها الوَهَن، ويزرع في قلوب أعدائها المهابة من عدالتها وسلطانها، وأنْ يحقق بخيريتها ونصرها رحمته للعالمين، إنه تعالى أهل ذلك والقادر عليه..
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أحمد المحلاوي
18 ربيع أول 1425 - 8 مايو 2004
تنويه:
مقدمة فضيلة الشيخ/ أحمد المحلاوي -حفظه الله تعالى- منشورة كاملة في الكتاب الأول من هذه السلسلة.
هذا هو الكتاب الخامس في سلسلة "بشريات السلامة من أهوال القيامة"، وموضوعه: "الوقوف بين يدي الله للحساب"..
فبعد أن يأخذ العباد صحائف أعمالهم التي فيها كل صغير وكبير مستطر؛ يبدأ المشهد الثاني للحساب والجزاء.. ويقف العباد فردًا فردًا بين يدي علام الغيوب ليقررهم بما في صحائف أعمالهم..
ويظهر عدل الله في العباد؛ حيث يُطلعهم على ما قَدَّموا من أعمال سُجِّلَت عليهم في صحائفهم: { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا #[ژإر%tn وَلَا قOد=ّàtƒ y7ڑ/u' أَحَدًا } [الكهف: 49]، فتُحصَى أعمال العباد، ويُوقَفون عليها، ويُقِرون بها، ويُجزَون عليها.
وينقسم الخلق فريقين: مؤمنين يحاسبهم الله بالفضل والإحسان.. وكافرين ومنافقين؛ يُقال فيهم: { هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى tûüدJد="©à9$# } [هود:18](1/3)
فيا مُطالَبًا بأعماله، يا مسئولا عن أفعاله، يا مكتوبًا عليه جميع أقواله، يا مناقَشًا على كل أحواله.. كل المعاصي قد سُطِّرت وكُتبَت، والنفوس رهينة بما جنت؛ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت..
فتفكر في ارتحالك وأنت على حالك، واحذر يوم التلاقي؛ { يَوْمَ هُمْ tbrم-حچ"t/ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ د‰دn¨uqّ9$# الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ 3"u"ّgéB كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِن اللَّهَ سَرِيعُ ة>$|،دtù:$# } [غافر: 16-17]
فيا حنَّانُ..! يا مَنَّانُ..! عفوًا وجُدْ بالعِتقِ مِن سُوءِ الحسابِ
الهول الخامس
الوقوف بين يدي
الله عز وجل
للحساب
اقترب للناس حسابهم..
قال تعالى: { z>uژyIّ%$# لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ tbqàتحچ÷è-B (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ }
[الأنبياء:1-3]
[مطلع قوي يهز الغافلين هزًّا.. الحساب يقترب وهم في غفلة.. والآيات تعرض وهم معرضون عن الهدى.. والموقف جَد وهم لا يشعرون بالموقف وخطورته.. وكلما جاءهم من القرآن جديد قابلوه باللهو والاستهتار، واستمعوه وهم هازلون يلعبون.. لاهية قلوبهم.. والقلوب هي موضع التأمل والتدبر والتفكير..
إنها صورة للنفوس الفارغة التي لا تعرف الجد؛ فتلهو في أخطر المواقف، وتهزل في مواطن الجد، وتستهتر في مواقف القداسة.. فالذكر الذي يأتيهم مِن ربهم يستقبلونه لاعبين، بلا وقار ولا تقديس..! والنفس التي تفرغ من الجد والقداسة تنتهي إلى حالة من التفاهة والجدب والانحلال؛ فلا تصلح للنهوض بعبء، ولا الاضطلاع بواجب، ولا القيام بتكليف.. وتغدو الحياة فيها عاطلة هينة رخيصة..!(1/4)
إنَّ روح الاستهتار التي تلهو بالمقدسات روح مريضة.. والاستهتار غير الاحتمال، فالاحتمال قوة جادة شاعرة، والاستهتار فقدان للشعور واسترخاء..
وهؤلاء الذين يصفهم القرآن الكريم كانوا يواجهون ما ينزل من القرآن ليكون دستورًا للحياة، ومنهاجًا للعمل، وقانونًا للتعامل؛ باللعب.. ويواجهون اقتراب الحساب بالغفلة..! وأمثال هؤلاء موجودون في كل زمان؛ فحيثما خلت الروح من الجد والقداسة صارت إلى هذه الصورة المريضة الشائهة التي يرسمها القرآن، والتي تحيل الحياة كلها إلى هزل فارغ، لا هدف له ولا قوام..!
ذلك بينما كان المؤمنون الصادقون يتلقون هذه السورة بالاهتمام الذي يذهل القلوب عن الدنيا وما فيها:
جاء في ترجمة الآمدي لعامر بن ربيعة أنه كان قد نزل به رجل من العرب فأكرم مثواه.. ثم جاءه هذا الرجل وقد أصاب أرضًا فقال له: إني استقطعت من رسول الله واديًا في العرب، وقد أردت أنْ أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك.. فقال عامر: لا حاجة لي في قطيعتك؛ نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا: { z>uژyIّ%$# لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ tbqàتحچ÷è-B } .
وهذا هو فرق ما بين القلوب الحية المتلقية المتأثرة، والقلوب الميتة المغلقة الخامدة، التي تُكَفِّن ميتتها باللهو، وتواري خمودها بالاستهتار، ولا تتأثر بالذكر؛ لأنها خاوية من مقومات الحياة..] [في ظلال القرآن (ملخصًا)](1/5)
و[هذا تعجب من حالة الناس، وأنه لا ينجع فيهم تذكير، ولا يُرعون(1) إلى نذير، وأنهم قد قرب حسابهم ومجازاتهم على أعمالهم الصالحة والطالحة، والحال أنهم في غفلة معرضون، أي: غفلة عما خُلقوا له، وإعراض عما زُجروا به. كأنهم للدنيا خُلقوا، وللتمتع بها وُلدوا، وأن الله تعالى لا يزال يجدد لهم التذكير والوعظ، ولا يزالون في غفلتهم وإعراضهم، ولهذا قال: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) يذكرهم ما ينفعهم ويحثهم عليه، وما يضرهم ويرهبهم منه (إلا استمعوه) سماعًا؛ تقوم عليهم به الحجة؛ (وهم يلعبون. لاهية قلوبهم) أي: قلوبهم غافلة معرضة لاهية بمطالبها الدنيوية، وأبدانهم لاعبة، قد اشتغلوا بتناول الشهوات والعمل بالباطل، والأقوال الردية، مع أن الذي ينبغي لهم أن يكونوا بغير هذه الصفة، تُقبل قلوبهم على أمر الله ونهيه، وتستمعه استماعًا، تفقه المراد منه، وتسعى جوارحهم في عبادة ربهم، التي خُلقوا لأجلها، ويجعلون القيامة والحساب والجزاء منهم على بال، فبذلك يتم لهم أمرهم، وتستقيم أحوالهم، وتزكو أعمالهم.
وفي معنى قوله: (اقترب للناس حسابهم) قولان: أحدهما: أن هذه الأمة هي آخر الأمم، ورسولها آخر الرسل، وعلى أمته تقوم الساعة، فقد قرب الحساب منها بالنسبة
لما قبلها من الأمم، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "بُعِثتُ أنا والساعةُ كهاتين" وقرن بين إصبعيه: السبابة والتي تليها.
والقول الثاني: أن المراد بقرب الحساب الموت، وأن مَن مات قامت قيامته، ودخل في دار الجزاء على الأعمال، وأن هذا تعجب من كل غافل معرض، لا يدري متى يفجأه الموت، صباحًا أو مساءً، فهذه حالة الناس كلهم، إلا من أدركته العناية الربانية، فاستعد للموت وما بعده.] [تيسير الكريم الرحمن]
__________
(1) يلتفتون(1/6)
فـ[مَن علم اقتراب الساعة قصر أمله، وطابت نفسه بالتوبة، ولم يركن إلى الدنيا؛ فكأن ما كان لم يكن إذا ذهب، وكل آتٍ قريب، والموت لا محالة آتٍ، وموت كل إنسان قيام ساعته، والقيامة أيضًا قريبة بالإضافة إلى ما مضى مِن الزمان؛ فما بقي مِن الدنيا أقل مما مضى..] [الجامع لأحكام القرآن]
تفكَّرتُ في حَشري ويومِ قيامتي فريدًا وحيدًا بعدَ عِزٍّ ورِفعَةٍ
تَفكَّرتُ في طولِ الحسابِ وعرضِهِ
ولكنْ رجائي فيكَ ربي وخالقي ڑڑوإصباحِ خَدِّي في المقابرِ ثاويَا
رهينًا بجُرمي والترابُ وِسادِيَا
وذُلِّ مَقامي حين أُعطَى كتابيَا
بأنكَ تعفُو يا إلهي خطائيَا
- - -
وكلهم آتيه يوم القيامة فردا:
قال تعالى: { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا 3"yٹ¨uچèù كَمَا ِNن3"sYّ)n=yz أَوَّلَ مَرَّةٍ NçFّ.uچs?ur مَا ِNن3"sYّ9qyz وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } [الأنعام:94]
[ذم الله الظالمين، وذكر ما أعد لهم من العقوبة في حال الاحتضار، ويوم القيامة.. أما يوم القيامة، فإنهم إذا وردوها، وردوها مفلسين فرادى بلا أهل ولا مال، ولا أولاد ولا جنود، ولا أنصار، كما خلقهم الله أول مرة، عارين من كل شيء.
فإن الأشياء إنما تتمول وتحصل بعد ذلك بأسبابها، وفي ذلك اليوم تنقطع جميع الأمور التي كانت مع العبد في الدنيا، سوى العمل الصالح والعمل السيء، الذي هو مادة الدار الآخرة، الذي تنشأ عنه، ويكون حسنها وقبحها، وسرورها وغمومها، وعذابها ونعيمها، بحسب الأعمال. فهي التي تنفع أو تضر، وتسوء أو تسر، وما سواها من الأهل والولد، والمال والأنصار، فعوارٍ خارجية، وأوصاف زائلة، وأحوال حائلة..(1/7)
فكيف بكم إذا وقفتم بين يدي ربكم منفردين عن أموالكم وأولادكم وما حرصتم عليه وآثرتموه من دنياكم، وعن أوثانكم التي زعمتم أنها شفعاؤكم وشركاء لله (كما خلقناكم أول مرة) على الهيئة التي وُلِدتم عليها في الانفراد (وتركتم ما خولناكم) ما تفضلنا به عليكم في الدنيا، فشغلتم به عن الآخرة (وراء ظهوركم) لم ينفعكم، ولم يُغنِ عنكم شيئًا، ولم تحتملوا منه نقيرًا ولا قدمتموه لأنفسكم.] [تيسير الكريم الرحمن - الكشاف]
وقال تعالى: { إِنْ كُلُّ مَنْ فِي دN¨uq"yJ،،9$# وَالْأَرْضِ إِلَّا 'دA#uن الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [مريم: 93-95]
[إنْ كل مَن في السماوات والأرض إلا عبد يأتي معبوده خاضعًا طائعًا، فلا ولد ولا شريك، إنما خلق وعبيد.
وإن الكيان البشري ليرتجف وهو يتصور مدلول هذا البيان: (لقد أحصاهم وعدهم عدا)؛ فلا مجال لهرب أحد ولا لنسيان أحد.. (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا)؛ فعين الله على كل فرد. وكل فرد يقدم وحيدًا لا يأنس بأحد ولا يعتز بأحد. حتى روح الجماعة ومشاعر الجماعة يُجرَّد منها، فإذا هو وحيد فريد أمام الديان.] [في ظلال القرآن]
الكل [ذليل منقاد، غير متعاصٍ ولا ممتنع؛ الملائكة، والإنس، والجن وغيرهم.. الجميع مماليك، متصرف فيهم، ليس لهم من الملك شيء، ولا من التدبير شيء.. (لقد أحصاهم وعدهم عدا) أي: لقد أحاط علمه بالخلائق كلهم؛ أهل السماوات والأرض، وأحصاهم وأحصى أعمالهم، فلا يضل ولا ينسى، ولا تخفى عليه خافية.. (وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) أي: لا أولاد، ولا مال، ولا أنصار، ليس معه إلا عمله، فيجازيه الله ويوفيه حسابه، إنْ خيرًا فخير، وإنْ شرًّا فشر، كما قال تعالى: { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا 3"yٹ¨uچèù كَمَا ِNن3"sYّ)n=yz أَوَّلَ مَرَّةٍ } [الأنعام: 94]] [تيسير الكريم الرحمن](1/8)
و[خرج الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن منده في كتاب التوحيد عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ اللهَ تبارك وتعالى ينادي يومَ القيامةِ بصوتٍ رفيعٍ غيرِ فظيعٍ: يا عبادي! أنا اللهُ لا إلهَ إلا أنا أرحمُ الراحمينَ وأحكمُ الحاكمينَ وأسرعُ الحاسبينَ.. يا عبادي! لاخوفٌ عليكمُ اليومَ ولاأنتمْ تحزنون، أحضِروا حُجَّتَكم، ويَسروا جوابًا؛ فإنكم مسئولونَ محاسبونَ.. يا ملائكتي! أقيموا عبادي صفوفًا على أطرافِ أناملِ أقدامِهم للحسابِ".] [الجامع لأحكام القرآن]
فيا مَن يرحلُ في كلِّ يومٍ مرحلة.. وكتابُهُ قد حوى حتى الخردلة.. نور الهدى قد بدا، ولكن ما رآه ولا تأمَّله.. فيا عجبًا من فتور مؤمن موقن بالحساب والمسألة.. بادر ما بقي من عمرك، واستدرك أوله..
- - -
ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين:
قال تعالى: { ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ مNُ3çtù:$# وَهُوَ أَسْرَعُ tûüخ7إ،"utù:$# } [الأنعام:62](1/9)
[بعد الموت والحياة البرزخية وما فيها من الخير والشر رُدُّوا إلى الله مولاهم الحق؛ أي الذي تولاهم بحكمه القدري فنفذ فيهم ما شاء من أنواع التدبير، ثم تولاهم بأمره ونهيه، وأرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، ثم رُدُّوا إليه ليتولى الحكم فيهم بالجزاء، ويثيبهم على ما عملوا من الخيرات، ويعاقبهم على الشرور والسيئات؛ ولهذا قال: (ألا له الحكم) وحده لا شريك له (وهو أسرع الحاسبين) لكمال علمه وحفظه لأعمالهم بما أثبته في اللوح المحفوظ، ثم أثبته ملائكته في الكتاب الذي بأيديهم.. فإذا كان تعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير، وهو القاهر فوق عباده، وقد اعتنى بهم كل الاعتناء في جميع أحوالهم، وهو الذي له الحكم القدري والحكم الشرعي والحكم الجزائي.. فأين للمشركين العدول عمَن هذا وصفه ونعته إلى عبادة مَن ليس له مِن الأمر شيء، ولا عنده مثقال ذرة مِن النفع، ولا له قدرة وإرادة؟
إن الله وحده هو مولاهم الحق من دون الآلهة المدعاة.. مولاهم الذي أنشأهم، والذي أطلقهم للحياة ما شاء.. في رقابته التي لا تغفل ولا تفرط.. ثم ردهم إليه عندما شاء؛ ليقضي فيهم بحكمه بلا معقب: )ألا له الحكم، وهو أسرع الحاسبين).. فهو وحده يحكم، وهو وحده يحاسب. وهو لا يبطيء في الحكم، ولا يمهل في الجزاء.. ولذكر السرعة هنا وقعه في القلب البشري؛ فهو ليس متروكًا ولو إلى مهلة في الحساب!
وتصور المسلم للأمر على هذا النحو الذي توحي به أصول عقيدته في الحياة والموت والبعث والحساب، كفيل بأن ينزع كل تردد في إفراد الله سبحانه بالحكم -في هذه الأرض- في أمر العباد..
إن الحساب والجزاء والحكم في الآخرة؛ إنما يقوم على عمل الناس في الدنيا، ولا يُحاسَب الناس على ما اجترحوا في الدنيا إلا أن تكون هناك شريعة من الله تُعَيِّن لهم ما يحل وما يحرم؛ مما يُحاسَبون يوم القيامة على أساسه، وتوحد الحاكمية في الدنيا والآخرة على هذا الأساس..(1/10)
فأما حين يحكم الناس في الأرض بشريعة غير شريعة الله؛ فعلام يُحاسَبون في الآخرة؟ أيُحاسَبون وفق شريعة الأرض البشرية التي كانوا يحكمون بها؛ ويتحاكمون إليها؟ أم يُحاسَبون وفق شريعة الله السماوية التي لم يكونوا يحكمون بها؛ ولا يتحاكمون إليها ؟
إنه لا بد أن يستيقن الناس أن الله محاسبهم على أساس شريعته هو لا شريعة العباد.. وأنهم إن لم ينظموا حياتهم، ويقيموا معاملاتهم -كما يقيمون شعائرهم وعباداتهم- وفق شريعة الله في الدنيا؛ فإن هذا سيكون أول ما يُحاسَبون عليه بين يدي الله.] [تيسير الكريم الرحمن - في ظلال القرآن]
فاحذروا يوم التلاقي { يَوْمَ هُمْ tbrم-حچ"t/ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ د‰دn¨uqّ9$# الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ 3"u"ّgéB كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِن اللَّهَ سَرِيعُ ة>$|،دtù:$# } [غافر: 16-17]
فـ[في هذا اليوم يتلاقى البشر جميعًا. ويتلاقى الناس وأعمالهم التي قدموا في الحياة الدنيا. ويتلاقى الناس والملائكة والجن وجميع الخلائق التي تشهد ذلك اليوم المشهود، وتلتقي الخلائق كلها بربها في ساعة الحساب؛ فهو يوم التلاقي بكل معاني التلاقي.
ثم هو اليوم الذي يبرزون فيه بلا ساتر ولا واقٍ ولا تزييف ولا خداع: (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء).. والله لا يخفى عليه منهم شيء في كل وقت وفي كل حال. ولكنهم في غير هذا اليوم قد يحسبون أنهم مستورون، وأن أعمالهم وحركاتهم خافية، أما اليوم فيحسون أنهم مكشوفون، ويعلمون أنهم مفضوحون؛ ويقفون عارين مِن كل ساتر حتى ستار الأوهام..!(1/11)
ويومئذ يتضاءل المتكبرون، وينزوي المتجبرون، ويقف الوجود كله خاشعًا، والعباد كلهم خضعًا. ويتفرد مالك الملك الواحد القهار بالسطان. وهو سبحانه متفرد به في كل آن. فأما في هذا اليوم فينكشف هذا للعيان، بعد انكشافه للجنان. ويعلم هذا كل مُنكِر، ويستشعره كل متكبر. وتصمت كل نأمة(1)، وتسكن كل حركة. وينطلق صوت جليل رهيب يسأل ويجيب؛ فما في الوجود كله يومئذ من سائل غيره ولا مجيب: (لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار)..
(اليوم تجزى كل نفس بما كسبت. لا ظلم اليوم. إن الله سريع الحساب): اليوم يوم الجزاء الحق. اليوم يوم العدل. اليوم يوم القضاء الفصل. بلا إمهال ولا إبطاء. ويخيم الجلال والصمت، ويغمر الموقف رهبة وخشوع، وتسمع الخلائق وتخشع، ويُقضى الأمر، وتُطوى صحائف الحساب. ويتسق هذا الظل مع قوله عن الذين يجادلون في آيات الله -في مطلع السورة-: (فلا يغررك تقلبهم في البلاد).. فهذه نهاية التقلب في الأرض، والاستعلاء بغير الحق، والتجبر والتكبر والثراء والمتاع.][في ظلال القرآن]
و[اليوم تجزى كل نفس بما كسبت في الدنيا، من خير وشر، قليل وكثير. لا ظلم اليوم على أحد، بزيادة في سيئاته، أو نقص من حسناته. إن الله سريع الحساب أي: لا تستبطئوا ذلك اليوم فإنه آتٍ، وكل آتٍ قريب. وهو أيضًا سريع المحاسبة لعباده يوم القيامة، لإحاطة علمه وكمال قدرته.
(إن الله سريع الحساب) أي: سريع المحاسبة؛ فيحاسب الخلق في ساعة واحدة، كما يرزقهم ويدبرهم بأنواع التدابير في لحظة واحدة؛ لا يشغله شأن عن شأن، وليس ذلك بعسير عليه.] [تيسير الكريم الرحمن]
يا غافلاً عما يُرادُ بهِ غَدًا
كيفَ النجاةُ لعبدِ سوءٍ عاجزٍڑڑفي موقفٍ صعبٍ على الوُرَّادِ
وعلى الجرائمِ قادرٍ مُعْتَادِ
- - -
ليس بينك وبين الله ترجمان:
__________
(1) النأمة: الصوت الضعيف الخفي. يقال: نأَمَ الرجل يَنْئِمُ ويَنْاَمُ نئيمًا. [لسان العرب](1/12)
عن عدي بن حاتم قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما منكم مِن أحدٍ إلا وسيكلمُهُ اللهُ يومَ القيامةِ ليس بينَ اللهِ وبينَهُ تُرجُمانُ، فينظرُ أيمنَ منهُ فلا يرى إلا ما قَدَّمَ مِن عملِهِ، وينظرُ أشأمَ منهُ فلا يرى إلا ما قَدَّمَ، وينظرُ بينَ يَديْهِ فلا يرى إلا النارَ تلقاءَ وجهِهِ؛ فاتقوا النارَ ولو بشِقِّ تمرةٍ" [رواه مسلم]
وفي رواية للبخاري: "ما منكم أحَدٌ إلا سيكلمُهُ ربُّهُ ليس بينهُ وبينهُ تُرجمانُ فينظرُ أيمنَ منهُ فلا يرى إلا ما قَدَّمَ مِن عملِهِ، وينظرُ أشأمَ منهُ فلا يرى إلا ما قَدَّمَ وينظرُ بينَ يديهِ فلا يرى إلا النارَ تِلقاءَ وجهِهِ فاتقوا النارَ ولو بِشِقِّ تمرةٍ" .قال الأعمش: وحدثني عمرو بن مرة عن خيثمة مثله، وزاد فيه: "ولو بكلمةٍ طيبةٍ".
قال ابن حجر في "فتح الباري": [قوله: (ما منكم من أحد) ظاهر الخطاب للصحابة، ويلتحق بهم المؤمنون كلهم؛ سابقهم ومقصرهم. أشار إلى ذلك ابن أبي جمرة.
قال ابن هبيرة: نظر اليمين والشمال هنا كالْمَثَل؛ لأنَّ الإنسان من شأنه إذا دهمه أمر أنْ يلتفت يمينًا وشمالا يطلب الغوث.
قلت(1): ويحتمل أن يكون سبب الالتفات أنه يترجى أنْ يجد طريقًا يذهب فيها ليحصل له النجاة من النار؛ فلا يرى إلا ما يفضي به إلى النار!
قال ابن هبيرة: والسبب في ذلك أن النار تكون في ممره؛ فلا يمكنه أنْ يحيد عنها إذ لا بد له مِن المرور على الصراط.
قوله: (فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة) أي اجعلوا بينكم وبينها وقاية مِن الصدقة وعمل البر، ولو بشيء يسير.
وقال ابن هبيرة: المراد بالكلمة الطيبة هنا؛ يدل على هدى، أو يرد عن رَدَى، أو يصلح بين اثنين، أو يفصل بين متنازعين، أو يحل مشكلاً، أو يكشف غامضًا، أو يدفع ثائرًا، أو يسكن غضبًا. والله سبحانه وتعالى أعلم.] أ.هـ
__________
(1) ابن حجر(1/13)
قال العلامة السعدي: [هذا حديث عظيم تضمن من عظمة الباري ما لا تحيط به العقول ولا تعبر عنه الألسن.
أخبر فيه أن جميع الخلق سيكلمهم الله مباشرة من دون ترجمان ولا واسطة، ويسألهم عن جميع أعمالهم؛ خيرها وشرها، دقيقها وجليلها، سابقها ولاحقها، ما علمه العباد وما نسوه منها، وذلك أنه لعظمته وكبريائه كما يخلقهم ويرزقهم في ساعة واحدة، ويبعثهم في ساعة واحدة؛ فإنه يحاسبهم جميعهم في ساعة واحدة، فتبارك مَن له العظمة والمجد، والملك العظيم والجلال.
وفي هذه الحالة التي يحاسبهم فيها ليس مع العبد أنصار، ولا أعوان، ولا أولاد، ولا أموال.. قد جاءه فردًا كما خلقه أول مرة، قد أحاطت به أعماله تطلب الجزاء بالخير أو الشر، عن يمينه وشماله، وأمامه النار لابد له من ورودها، فهل إلى صدوره منها سبيل؟ لا سبيل إلى ذلك إلا برحمة الله، وبما قدمت يداه من الأعمال المنجية منها.
ولهذا حث النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته على اتقاء النار ولو بالشيء اليسير، كشق تمرة، فمَن لم يجد فبكلمة طيبة.
وفي هذا الحديث أن من أعظم المنجيات من النار الإحسان إلى الخلق بالمال والأقوال، وأن العبد لا ينبغي له أن يحتقر من المعروف ولو شيئًا قليلاً، والكلمة الطيبة تشمل النصيحة للخلق بتعليمهم ما يجهلون، وإرشادهم إلى مصالحهم الدينية والدنيوية.
وتشمل الكلام المسر للقلوب، الشارح للصدور، المقارن للبشاشة والبشر، وتشمل الذكر لله والثناء عليه، وذكر أحكامه وشرائعه.. فكل كلام يُقرِّب إلى الله ويحصل به النفع لعباد الله؛ فهو داخل في الكلمة الطيبة.. قال تعالى: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ قOد=s3ّ9$# الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ كxد="¢ء9$# } يَرْفَعُهُ [فاطر: 10]، وقال تعالى: { وَالْبَاقِيَاتُ àM"ysد="¢ء9$# يژِچyz عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا يژِچyzur أَمَلًا } [الكهف: 46] وهي كل عمل وقول يُقرِّب إلى الله، ويحصل به النفع لخلقه. والله أعلم.] [بهجة قلوب الأبرار](1/14)
فـ[تفكر يا مسكين فيما يتوجه عليك من السؤال شفاهًا مِن غير ترجمان؛ فتُسأَل عن القليل والكثير، والنقير والقطمير..
وتوهم نفسك وقد أخذت الملائكة بعضديك، وأنت واقف بين يدي الله تعالى يسألك شفاهًا؛ فيقول لك: ألم أنعم عليك بالشباب؟ ففيمَ أبليتَه..؟ ألم أمهل لك فى العمر؟ ففيمَ أفنيتَه..؟ ألم أرزقك المال؟ فمن أين اكتسبته..؟ وفيمَ أنفقتَه..؟ ألم أكرمك بالعلم؟ فماذا عملت فيما علمت..؟] [إحياء علوم الدين]
- - -
أتعرف ذنب كذا..؟
في الصحيحين عن عبد الله بن عمر ب قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ اللهَ يُدني المؤمنَ، فيَضَعُ عليهِ كَنَفَهُ، ويستُرُهُ، فيقولُ: أتعرفُ ذنبَ كذا..؟ أتعرفُ ذنبَ كذا..؟ فيقولُ: نعم..أيْ ربِّ! حتى إذا قَرَّرَهُ بذنوبِهِ، ورأى في نفسِهِ أنهُ هَلَكَ؛ قال: سترتُها عليكَ في الدنيا، وأنا أغفِرُها لكَ اليومَ؛ فيُعطَى كتابَ حسناتِهِ. وأما الكافرون والمنافقون فيقول الأشهاد: { هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى tûüدJد="©à9$# } [هود:18]" .
قال القرطبي في "التذكرة": [قوله: (حتى يضع عليه كنفه) أي ستره ولطفه وإكرامه، فيُخاطبه خطاب الملاطفة، ويناجيه مناجاة المصافاة والمحادثة، فيقول: هل تعرف؟ فيقول: ربِّ.. أعرف! فيقول الله تعالى ممتنًّا عليه، ومُظهِرًا فضله لديه: (فإني قد سترتُها عليك في الدنيا) أي لم أفضحك بها، (وأنا أغفرها لك اليوم). قيل: هذه ذنوب تاب منها، كما ذكره أبو نعيم عن الأوزاعي عن هلال بن سعد قال: إن الله يغفر الذنوب ولكن لا يمحوها من الصحيفة حتى يُوقِفه عليها يوم القيامة وإنْ تاب منها.
ولا يعارض هذا ما جاء في التنزيل والحديث من أن السيئات تُبدَّل بالتوبة حسنات، فلعل ذلك يكون بعد ما يوقفه عليها، والله أعلم.] أ.هـ(1/15)
عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني لَأَعلَمُ آخِرَ أهلِ الجنةِ دخولاً الجنةَ، وآخِرَ أهلِ النارِ خروجًا منها: رَجُلٌ يُؤتَى بِهِ يومَ القيامةِ فيقالُ: اعرِضُوا عليهِ صغارَ ذنوبِهِ، وارفعوا عنه كِبارَها، فتُعرَضُ عليهِ صغارُ ذنوبِهِ، فيقالُ: عملتَ يومَ كذا وكذا؛ كذا وكذا.. وعملتَ يومَ كذا وكذا؛ كذا وكذا.. فيقولُ: نعم! وهو مُشفِقٌ من كبارِ ذنوبِهِ أنْ تُعرَضَ عليهِ. فيُقالُ لهُ: فإن لك مكانَ كلِّ سيئةٍ حسنةً، فيقولُ: رَبِّ! قد عَمِلتُ أشياءَ لا أراهَا ها هُنَا.. قال: فلقد رأيتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -
ضحكَ حتى بَدَتْ نواجِذُهُ". [رواه مسلم]
و[مَن ستر الله تعالى عليه في الدنيا يستر عليه في الآخرة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يسترُ اللهُ عبدًا في الدنيا إلا سترَهُ اللهُ يومَ القيامةِ".
قال القاضي: يحتمل وجهين: أحدهما: أنْ يستر معاصيه وعيوبه عن إذاعتها في أهل الموقف، والثاني: ترك محاسبته عليها، وترك ذكرها.
قال: والأول أظهر لما جاء في الحديث الآخر: ".. يقرره بذنوبه ويقول: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم".] [فتح الباري](1/16)
[فهذا إنما يُرجَى لعبد مؤمن ستر على الناس عيوبهم، واحتمل فى حق نفسه تقصيرهم، ولم يحرك لسانه بذكر مساويهم، ولم يذكرهم فى غيبتهم بما يكرهون لو سمعوه؛ فهذا جدير بأن يُجازَى بمثله فى القيامة.. وهَب أنه قد ستره عن غيرك أليس قد قرع سمعك النداء إلى العرض؟ فيكفيك تلك الروعة جزاءً عن ذنوبك؛ إذ يؤخذ بناصيتك فتُقاد وفؤادك مضطرب، ولُبُّك طائر، وفرائصك مرتعدة، وجوارحك مضطربة، ولونك متغير، والعالَم عليك من شدة الهول مظلم.. فقَدِّر نفسك وأنت بهذه الصفة تتخطى الرقاب، وتخرق الصفوف، وقد رفع الخلائق إليك أبصارهم.. فتوهم نفسك أنك فى أيدى الموكلين بك على هذه الصفة حتى انتهي بك إلى عرش الرحمن، فرموك من أيديهم، وناداك الله سبحانه وتعالى بعظيم كلامه: يا ابن آدم! ادنُ مِنِّي.. فدنوتَ منه بقلب خافق محزون وَجِل، وطرف خاشع ذليل، وفؤاد منكسر.. وأُعطيتَ كتابك الذى لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها؛ فكم من فاحشة نسيتَها فتذكرتَها، وكم من طاعة غفلتَ عن آفاتها فانكشف لك عن مساويها.. فليت شِِعري بأي قدم تقف بين يديه.. وبأي لسان تجيب.. وبأي قلب تعقل ما تقول.. ثم تفكر فى عظم حيائك إذا ذَكَّرَكَ ذنوبك شفاهًا إذ يقول: يا عبدي! أما استحييتَ مني فبارزتني بالقبيح؟! واستحييتَ من خَلقي فأظهرتَ لهم الجميل؟! أكنتُ أهون عليك من سائر عبادي؟! استخففتَ بنظري إليك فلم تكترث، واستعظمتَ نظر غيري..!
فأعظم يا مسكين بحيائك عند ذلك، وبخطرك؛ فإنك بين أنْ يقال لك: (سترتها عليك فى الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم)؛ فعند ذلك يعظم سرورك وفرحك، ويغبطك الأولون والآخرون.. وإما أنْ يقال للملائكة: (خذوا هذا العبد السوء فغلوه، ثم الجحيم صلوه)؛ وعند ذلك لو بكت السماوات والأرض عليك لكان ذلك جديرًا بعظم مصيبتك، وشدة حسرتك على ما فرطتَ فيه مِن طاعة الله، وعلى ما بعت آخرتك من دنيا دنيئة لم تبقَ معك..!] [إحياء علوم الدين](1/17)
وسئل فضيلة الشيخ العثيمين: كيف نجمع بين قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَن نوقش الحساب عذب"، ومناقشة المؤمن في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يُدني المؤمنَ فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب! حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك قال: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم فيعطى كتاب حسناته".
فأجاب / بقوله: [ليس في هذا إشكال؛ لأن المناقشة معناها أن يُحاسَب فيطالَب بهذه النعم التي أعطاه الله إياها؛ لأن الحساب الذي فيه المناقشة معناه أنك كما تأخذ تعطي، ولكن حساب الله لعبده المؤمن يوم القيامة ليس على هذا الوجه، بل إنه مجرد فضل من الله تعالى إذا قرره بذنوبه، وأقر واعترف؛ قال: "سترتُها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم". وكلمة (نوقش) تدل على هذا؛ لأن المناقشة الأخذ والرد في الشيء والبحث على دقيقه وجليله، وهذا لا يكون بالنسبة لله عز وجل مع عبده المؤمن، بل إن الله تعالى يجعل الحساب للمؤمنين مبنيًّا على الفضل والإحسان، لا على المناقشة والأخذ بالعدل.] [فتاوى العثيمين في اليوم الآخر]
ذنوبي قَطَّعَتْ عني جَوابي
إذا نُوديتُ: قُمْ للعرضِ واقرا
فيا أسفي على بُعْدِي وكَدِّي
فيا حنَّانُ.. يا مَنَّانُ.. عفوًاڑڑفما عُذري غدًا يومَ الحسابِ
فضائحَ، والفضائحُ في الكتابِ
وخوفي منه أعظمُ مِن عذابي
وجُدْ بالعِتقِ مِن سُوءِ الحسابِ
- - -
لم شهدتم علينا..؟
قال تعالى: { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا tbqàےد=َsuٹsù لَهُ كَمَا tbqàےد=ّts† لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ ِNهk®Xr& عَلَى شَيْءٍ أَلَا ِNهk®Xخ) هُمُ الْكَاذِبُونَ } [المجادلة: 18](1/18)
[كان "عبد الله بن نبتل" المنافق يجالس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسًا في ظل حجرته، إذ قال لأصحابه: "يجيئكم رجلٌ ينظرُ إليكم بعينِ شيطانٍ، فإذا رأيتموه فلا تكلموه". فجاء رجل أزرق! فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - دعاه، فقال: "علامَ تشتمُني أنتَ وأصحابُكَ؟" قال: كما أنت حتى آتيك بهم! قال: فذهب فجاء بهم، فجعلوا يحلفون بالله ما قالوا، وما فعلوا! وأنزل الله عز وجل: { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا tbqàےد=َsuٹsù لَهُ كَمَا tbqàےد=ّts† لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ ِNهk®Xr& عَلَى شَيْءٍ أَلَا ِNهk®Xخ) هُمُ الْكَاذِبُونَ } [رواه أحمد بإسناد حسن] ورُوي أنّ رجلاً منهم قال: لنُنصرَنَّ يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا وأولادنا (فيحلفون) لله تعالى على أنهم مسلمون في الآخرة (كما يحلفون لكم) في الدنيا على ذلك (ويحسبون أنهم على شىء) من النفع، يعني: ليس العجب من حلفهم لكم، فإنكم بشر تخفى عليكم السرائر، وأن لهم نفعًا في ذلك: دفعًا عن أرواحهم، واستجرار فوائد دنيوية، وأنهم يفعلونه في دار لا يضطرون فيها إلى علم ما يوعدون، ولكن العجب من حلفهم لله عالم الغيب والشهادة؛ مع عدم النفع والاضطرار إلى علم ما أنذرتهم الرسل، والمراد: وصفهم بالتوغل في نفاقهم ومرونهم عليه، وأن ذلك بعد موتهم وبعثهم باقٍ فيهم لا يضمحل، كما قال: { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ } [الأنعام: 28] وقد اختلف العلماء في كذبهم في الآخرة، والقرآن ناطق بثباته نطقًا مكشوفًا كما ترى في هذه الآية، وفي قوله تعالى: { وَاللَّهِ $sYخn/u' مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى ِNخkإ¦àےRr& وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا tbrمژyIّےtƒ } [الأنعام: 23-24] ونحو حسبانهم أنهم على شيء من النفع إذا حلفوا استنظارهم المؤمنين ليقتبسوا من نورهم، لحسبان أن(1/19)
الإيمان الظاهر مما ينفعهم. وقيل عند ذلك يُختم على أفواههم (ألا إنهم همُ الكاذبون) يعني أنهم الغاية التي لا مطمح وراءها في قول الكذب، حيث استوت حالهم فيه في الدنيا والآخرة.]
[الكشاف (بتصرف)]
[(ويحسبون) في الآخرة (أنهم) بتلك الأيمان الفاجرة (على شىء) من جلب منفعة أو دفع مضرة كما كانوا عليه في الدنيا؛ حيث كانوا يدفعون بها عن أرواحهم وأموالهم، ويستجرون بها فوائد دنيوية (ألا إنهم هم الكاذبون) البالغون في الكذب إلى غاية ليس وراءها غاية؛ حيث تجاسروا على الكذب بين يدي علام الغيوب، وزعموا أن أيمانهم الفاجرة تروج الكذب لديه عز وجل كما تروّجه عند المؤمنين.] [روح المعاني]
[وهذا من شدة شقاوتهم، ومزيد الطبع على قلوبهم؛ فإن يوم القيامة قد انكشفت الحقائق، وصارت الأمور معلومة بضرورة المشاهدة؛ فكيف يجترئون على أن يكذبوا في ذلك الموقف؟] [فتح القدير]
[وهذا يقتضي توغّلهم في النفاق، ومرونتهم عليه، وأنه باقٍ في أرواحهم بعد بعثهم؛ لأن نفوسهم خرجت من عالم الدنيا متخلِّقة به، فإن النفوس إنما تكتسب تزكية أو خبثًا في عالم التكليف. وحكمة إيجاد النفوس في الدنيا هي تزكيتها وتصفية أكدارها لتخلص إلى عالم الخلود طاهرة، فإن هي سلكت مسلك التزكية تخلصت إلى عالم الخلود زكية، ويزيدها الله زكاءً يوم البعث. وإن انغمست مدة الحياة في حمأة النقائص وصلصال الرذائل جاءت يوم القيامة على ما كانت عليه تشويهًا لحالها لتكون مهزلة لأهل المحشر.(1/20)
وختم هذا الكلام بقوله تعالى: (ألا إنهم هم الكاذبون) وهو تذييل جامع لحال كذبهم الذي ذكره الله بقوله: { tbqàےد=ّts†ur عَلَى الْكَذِبِ } [المجادلة: 14]. فالمراد أن كذبهم عليكم لا يماثله كذب، حتى قُصرت صفة الكاذب عليهم بضمير الفصل في قوله: (إنهم هم الكاذبون) وهو قصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بكذب غيرهم. وأكد ذلك بحرف التوكيد توكيدًا لمفاد الحصر الادعائي، وهو أن كذب غيرهم كلا كذب في جانب كذبهم، وبأداة الاستفتاح المقتضية استمالة السمع لخبرهم
لتحقيق تمكن صفة الكذب منهم حتى أنه يلازمهم يوم البعث.] [التحرير والتنوير]
فلا جرم والحال هكذا؛ أن يدلي الشهداء بشهادتهم على هؤلاء الذين مردوا على الكذب، و[أعظم الشهداء في يوم المعاد على العباد هو ربهم وخالقهم وفاطرهم، الذي لا تخفى عليه خافية من أحوالهم، قال تعالى: { وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } [يونس: 61]
ولكن الله يحب الإعذار إلى خلقه، فيبعث من مخلوقاته شهداء على المكذبين الجاحدين حتى لا يكون لهم عذر.. وأول من يشهد على الأمم رسلها، فيشهد كل رسول على أمته بالبلاغ: { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ ِNخkإ¦àےRr& وَجِئْنَا بِكَ #´‰خky عَلَى هَؤُلَاءِ } [النحل: 89]
ومن الأشهاد الأرض والأيام والليالي؛ تشهد بما عمل فيها وعليها، ويشهد المال على صاحبه.. روى الترمذي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: { يَوْمَئِذٍ ك^دd‰utéB أَخْبَارَهَا (4) } قال: "أتدرون ما أخبارُها؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنَّ أخبارَها أنْ تشهدَ على كلِّ عبدٍ أو أمةٍ بما عملَ على ظهرِها؛ تقولُ: عملَ يومَ كذا؛ كذا وكذا.. فهذه أخبارُها".(1/21)
ويشهد على العبد أيضًا ملائكة الرحمن الذين كانوا يسجلون عليه صالح أعماله وطالحها، كما قال تعالى: { وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا ×,ح!$y™ س‰ٹخkyur } [ق: 21]، والسائق والشهيد المَلَكان اللذان كانا موكلين بتلك النفس. فإذا لَجَّ العبد في الخصومة، وكذّب ربه، وكذّب الشهود الذين شهدوا عليه؛ أقام الله عليه شاهدًا منه؛ فتشهد على المرء أعضاؤه..] [القيامة الكبرى (ملخصًا)]
قال تعالى: { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى ِNخgدd¨uqّùr& وَتُكَلِّمُنَا ِNخk‰د‰÷ƒr& وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [يس:65]
قال الشوكاني في "فتح القدير": [في الآية (التفات) من الخطاب إلى الغيبة للإيذان بأنّ أفعالهم القبيحة مستدعية للإعراض عن خطابهم.] ففي الآيتين قبلها قال تعالى: { ¾دnة"yd مL©èygy_ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } [يس:63-64]
و[قيل في سبب الختم أربعة أوجه: أحدها: قال أبو موسى الأشعري: لأنهم قالوا: (والله ربنا ما كنا مشركين) فختم الله على أفواههم حتى نطقت جوارحهم. الثاني: قال ابن زياد: ليعرفهم أهل الموقف فيتميزون منهم. الثالث: لأن إقرار غير الناطق أبلغ في الحجة من إقرار الناطق؛ لخروجه مخرج الإعجاز، وإنْ كان يومًا لا يحتاج إلى إعجاز. الرابع: ليعلم أن أعضاءه التي كانت أعوانًا في حق نفسه صارت عليه شهودًا في حق ربه.
فإن قيل: لم قال: (وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم) فجعل ما كان من اليد كلامًا، وما كان من الرِّجْل شهادة؟ قيل: إن اليد مباشِرة لعمله، والرِّجْل حاضرة، وقول الحاضر على غيره شهادة، وقول الفاعل على نفسه إقرار بما قال أو فعل؛ فلذلك عبر عما صدر من الأيدي بالقول، وعما صدر من الأرْجُل بالشهادة.]
[الجامع لأحكام القرآن](1/22)
أما الكفار والمنافقون فـ[يجحدون ويخاصمون؛ فتشهد عليهم جيرانهم وأهاليهم وعشائرهم.. فيحلفون ما كانوا مشركين! فحينئذ يُختَم على أفواههم، وتكلم أيديهم وأرجلهم.] [الكشاف]
قال تعالى: { وَيَوْمَ مژ|³َsمƒ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) #س®Lxm إِذَا مَا جَاءُوهَا y‰خky ِNخkِژn=tم سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ $sYّn=tم (#ûqن9$s% أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ tbrمژدItGَ،n@ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ َOçF^sYsك أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ #[ژچدWx. مِمَّا تَعْمَلُونَ } [فصلت: 19-22]
[أي: واذكر (يَومَ يُحشَرُ أعدآءُ الله) أي يُجمعون إلى النار، وقد دلت الآية على أنّ لله أعداء، وأنهم يُحشرون يوم القيامة إلى النار. وقوله تعالى: (فهُمْ يُوزَعُونَ) أي: يُرَدُّ أولُهم إلى آخرِهم، ويَلحق آخرُهم بأولِهم، حتى يجتمعوا جميعًا، ثم يُدفعون في النار، وهو من قول العرب: وَزَعْت الجيش، إذا حبست أوله على آخره حتى يجتمع. وأصل الوَزْع الكف، تقول العرب: وَزَعَه يَزَعُه وَزْعًا، فهو وازِع له، إذا كَفَّه عن الأمر.
وبما ذكرنا تعلم أن أصل معنى (يوزعون) أي: يَكُف أولَهم عن التقدم، وآخرَهم عن التأخر حتى يجتمعوا جميعًا. وذلك يدل على أنهم يُساقون سوقًا عنيفًا، يُجمَع به أولُهم مع آخرِهم.] [أضواء البيان](1/23)
[(حتى إذا ما جاءوها) أي وقفوا عليها (النار)، (شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون) أي بأعمالهم مما قَدَّموه وأخَّروه لا يُكتَم منه حرف، (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا) أي لاموا أعضاءهم وجلودهم حين شهدوا عليهم؛ فعند ذلك أجابتهم الأعضاء: (قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة) أي فهو لا يُخالَف ولا يُمانَع، وإليه تُرجَعون.
وقال ابن أبي حاتم: قال أبو موسى: يُدعَى الكافر والمنافق للحساب، فيَعرِض عليه ربه عز وجل عمله؛ فيجحد، ويقول: أي رَبِّ! وعِزَّتك.. لقد كتب عليّ هذا المَلَك ما لم أعمل! فيقول له المَلَك: أما عملتَ كذا، في يوم كذا، في مكان كذا؟ فيقول: لا وعِزَّتكَ، أي رَبِّ! ما عملتُه! قال: فإذا فعل ذلك خُتِم على فِيه. قال الأشعري - رضي الله عنه -: فإني لأحسب أول ما ينطق منه فخذه اليمنى.
(وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم) أي: تقول لهم الأعضاء والجلود حين يلومونها على الشهادة عليهم: ما كنتم تكتمون منا الذي كنتم تفعلونه، بل كنتم تجاهرون الله بالكفر والمعاصي، ولا تبالون منه في زعمكم؛ لأنكم كنتم لا تعتقدون أنه يعلم جميع أفعالكم، ولهذا قال تعالى: (ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون. وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم) أي هذا الظن الفاسد؛ وهو اعتقادكم أن الله تعالى لا يعلم كثيرًا مما تعملون هو الذي أتلفكم وأرداكم عند ربكم (فأصبحتم من الخاسرين) أي في مواقف القيامة خسرتم أنفسكم وأهليكم.] [تفسير القرآن العظيم](1/24)
[ومعنى (تستترون) تستخفون في قول أكثر العلماء؛ أي ما كنتم تستخفون من أنفسكم حذرًا من شهادة الجوارح عليكم؛ لأن الإنسان لا يمكنه أنْ يُخفي من نفسه عمله، فيكون الاستخفاء بمعنى ترك المعصية. وقيل: الاستتار بمعنى الاتقاء؛ أي ما كنتم تتقون في الدنيا أنْ تشهد عليكم جوارحكم في الآخرة فتتركوا المعاصي خوفًا من هذه الشهادة.] [الجامع لأحكام القرآن]
[شهدنا عليكم بما عملتم مِن القبائح. وما نطقنا باختيارنا، بل أنطقنا الله. (وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون) قيل: هذا من تمام كلام الجلود. وقيل: مستأنف من كلام الله. والمعنى: أن مَن قدر على خلقكم وإنشائكم ابتداءً قدر على إعادتكم، ورجعكم إليه.
(وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم) هذا تقريع لهم وتوبيخ من جهة الله سبحانه، أو من كلام الجلود. وكنتم تظنون أنّ الله لا يعلم كثيرًا مما تعملون من المعاصي؛ فاجترأتم على فعلها. قيل: كان الكفار يقولون: إن الله لا يعلم ما فى أنفسنا، ولكن يعلم ما نُظهر دون ما نُسر.] [فتح القدير]
[إنها المفاجأة الهائلة في الموقف العصيب، إذا شهود عليهم لم يكونوا لهم في حساب. إن ألسنتهم معقودة لا تنطق، وقد كانت تكذب وتفتري وتستهزئ. وإن أسماعهم وأبصارهم وجلودهم تخرج عليهم؛ لتستجيب لربها طائعة مستسلمة، تروي عنهم ما حسبوه سرًّا. فقد يستترون من الله، ويظنون أنه لا يراهم وهم يتخفون بنواياهم، ويتخفون بجرائمهم. ولم يكونوا ليستخفوا من أبصارهم وأسماعهم وجلودهم؛ كيف وهي معهم؟ بل كيف وهي أبعاضهم؟! وها هي ذي تفضح ما حسبوه مستورًا عن الخلق أجمعين، وعن الله رب العالمين!
يا للمفاجأة بسلطان الله الخفي، يغلبهم على أبعاضهم؛ فتلبي وتستجيب..!(1/25)
(وقالوا لجلودهم:لم شهدتم علينا؟).. فإذا هي تجبههم بالحقيقة التي خفيت عليهم في غير مواربة ولا مجاملة: (قالوا:أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء) أليس هو الذي جعل الألسنة هي الناطقة؟ وإنه لقادر على أن يجعل سواها، وقد أنطق كل شيء فهو اليوم يتحدث وينطق ويبين.
(وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون).. فإليه المنشأ وإليه المصير، ولا مفر من قبضته في الأول وفي الأخير. وهذا ما أنكروه بالعقول. وهذا ما تقرره لهم الجلود..!
ما كان يخطر ببالكم أن جوارحكم ستخرج عليكم، وما كنتم بمستطيعين أن تستتروا منها لو أردتم! ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرًا مما تعملون.. وخدعكم هذا الظن الجاهل الأثيم وقادكم إلى الجحيم.] [في ظلال القرآن (بتصرف)]
لقد [كنتم تستترون بالحيطان والحجب عند ارتكاب الفواحش، وما كان استتاركم ذلك خيفة أن تشهد عليكم جوارحكم؛ لأنكم كنتم غير عالمين بشهادتها عليكم، بل كنتم جاحدين بالبعث والجزاء أصلا، ولكنكم استترتم لظنكم أن الله لا يعلم كثيرًا مما كنتم تعملون، وهو الخفيات من أعمالكم، وذلك الظن هو الذي أهلككم.
وفي هذا تنبيه على أنَّ من الواجب على المؤمن أن لا يذهب عن ذهنه أنَّ عليه من الله عينًا كالئة، ورقيبًا مهيمنًا، حتى يكون في أوقات خلواته من ربه أهيب، وأحسن احتشامًا، وأوفر تحفظًا وتصونًا منه مع الملأ، ولا يتبسط في سره خوفًا من التشبه بهؤلاء الظانين.] [الكشاف]
قال تعالى: { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى مNخkح5 الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } [النساء:42](1/26)
[(لو تسوى بهم الأرض) لو يُدفنون فتُسوَّى بهم الأرض كما تُسوَّى بالموتى. وقيل: يودون أنهم لم يُبعَثوا، وأنهم كانوا والأرض سواء. (ولا يكتمون الله حديثا) ولا يقدرون على كتمانه لأن جوارحهم تشهد عليهم. وقيل: الواو للحال، أي يودون أنْ يُدفَنوا تحت الأرض وأنهم لا يكتمون الله حديثًا. ولا يكذبون في قولهم: (والله ربِّنا ما كنا مشركين)؛ لأنهم إذا قالوا ذلك وجحدوا شركهم، ختم الله على أفواههم عند ذلك، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بتكذيبهم والشهادة عليهم بالشرك؛ فلشدة الأمر عليهم يتمنون أنْ تُسوَّى بهم الأرض.] [الكشاف]
وفي صحيح مسلم عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: "هل تُضارون في رؤيةِ الشمسِ في الظهيرةِ ليست في سحابةٍ؟". قالوا: لا.. قال: "فهل تُضارون في رؤية القمرِ ليلةَ البدرِ ليس في سحابةٍ؟". قالوا: لا.. قال: "فوالذي نفسي بيدِهِ لا تُضارون في رؤيةِ ربِّكم إلا كما تُضارون في رؤيةِ أحدهما.. فيلقى العبدَ فيقولُ: أي فُلُ!(1) ألم أكرمْكَ وأسودْكَ وأزوجْكَ، وأسخرْ لكَ الخيلَ والإبلَ، وأذركَ ترأسُ وتربعُ؟ فيقولُ: بلى.. قال: فيقول: أفظننتَ أنك ملاقيّ؟ فيقول: لا.. فيقولُ: فإني أنساكَ كما نسيتَني.
ثم يلقى الثاني، فيقولُ: أي فُلُ! ألم أكرمْكَ وأسودْكَ وأزوجْكَ وأسخرْ لكَ الخيلَ والإبلَ، وأذركَ ترأسُ وتربعُ؟ فيقولُ: بلى.. أي رَبِّ! فيقولُ: أفظننتَ أنك ملاقيّ؟ فيقولُ: لا.. فيقولُ: فإني أنساكَ كما نسيتَني.
__________
(1) أي: يا فلان.(1/27)
ثم يلقى الثالث، فيقولُ له مثلَ ذلك، فيقولُ: يا ربِّ! آمنتُ بكَ وبكتابِكَ وبرُسُلِكَ، وصلَّيتُ وصُمتُ وتصدقتُ.. ويُثني بخيرِ ما استطاعَ. فيقولُ: ها هنا إذن.. قال: ثم يُقالُ له: الآنَ نبعثُ شاهدًا عليكَ. ويتفكرُ في نفسِهِ: مَن ذا الذي يشهدُ عليّ؟ فيُختَمُ على فِيهِ، ويُقالُ لفخذِهِ ولحمِهِ وعظامِهِ: انطِقي؛ فتنطقُ فخذُهُ ولحمُهُ وعظامُهُ بعملِهِ، وذلك ليعذرَ مِن نَفْسِهِ. وذلك المنافقُ، وذلك الذي يسخطُ اللهُ عليهِ."
[فكيف ترى حياءك وخجلتك؛ وهو يَعُدُّ عليك إنعامه ومعاصيك، وأياديه ومساويك..! فإن أنكرت شهدت عليك جوارحك..! قال أنس :كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فضحك ثم قال: "أتدرون ممَّ أضحكُ؟" قلنا: الله ورسوله أعلم.. قال: "مِن مخاطبةِ العبدِ ربَّهُ، يقولُ: يا رَبِّ ألم تُجِرنى مِنَ الظلمِ؟ قال: يقول: بلى.. قال: فيقول: فإنى لا أُجيزُ على نفسي إلا شاهدًا مني.. فيقول: كفى بنفسِكَ اليومَ عليكَ حسيبًا وبالكرام الكاتبين شهودًا.. قال: فيُختَم على فِيهِ.. ويُقالُ لأركانِه: انطِقي.. قال: فتنطِق بأعمالِهِ، ثم يُخلي بينَه وبينَ الكلامِ، فيقولُ
لأعضائهِ: بُعدًا لَكُنَّ وسُحقًا؛ فعنكنَّ كنتُ أناضلُ". [رواه مسلم]
فنعوذ بالله من الافتضاح على ملأ الخلق بشهادة الأعضاء إلا أن الله تعالى وعد المؤمن بأن يستر عليه ولا يطلع عليه غيره.] [الإحياء]
فيا مَن قد وَهى شبابُه، و امتلأ بالزَّلل كتابُه.. أما بلغك أن الجلود إذا استُشهدت نطقت؟! أما علمت أن النار للعصاة خلقت؟! إنها لتحرق كل ما يُلقى فيها؛ فتذكر أن التوبة تحجب عنها، والدمعة تطفيها..
العمرُ ينقصُ والذنوبُ تزيدُ
والمرءُ يُسألُ عن سِنِيهِ فيشتهي
هل يستطيعُ جحودَ ذنبٍ واحدٍڑڑوتُقالُ عَثَراتُ الفتى فيعودُ
تقليلَها وعن المماتِ يَحيدُ
رَجُلٌ جوارحُهُ عليهِ شهودُ
- - -
فوربك لنسألنهم أجمعين:
يُسأل العباد عن أعمالهم:(1/28)
قال تعالى: { y7خn/u'uqsù َOكg¨Yn=t"َ،sYs9 أَجْمَعِينَ (92) $Hxه كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الحجر:92-93]
[روى الترمذي الحكيم عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون) قال: "عن قول: لا إله إلا الله".
قال أبو عبد الله: معناه عندنا عن صدق "لا إله إلا الله"، ووفائها؛ وذلك أن الله تعالى ذكر في تنزيله العمل، فقال: (عما كانوا يعملون)، ولم يقل: عما كانوا يقولون.. وإن كان قد يجوز القول أيضًا: عمل اللسان؛ فإنما المعني به ما يعرفه أهل اللغة أن القول قول، والعمل عمل، وإنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عن لا إله إلا الله"، أي عن الوفاء بها، والصدق لمقالها.. كما قال الحسن البصري: ليس الإيمان بالتحلي، ولا الدين بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب، وصدقته الأعمال..
والآية بعمومها تدل على سؤال الجميع ومحاسبتهم؛ كافرهم، ومؤمنهم.. إلا مَن دخل الجنة بغير حساب..
فإن قيل: وهل يُسأَل الكافر، ويحاسب؟ قلنا: فيه خلاف، والذي يظهر سؤاله للآية، وقوله: { وَقِفُوهُمْ Nهk®Xخ) مَسْئُولُونَ } [الصافات:24] وقوله: { إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } [الغاشية:25-26]
فإن قيل: فقد قال تعالى: { وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ ڑcqمBحچôfكJّ9$# } [القصص:78]
وقال: { وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } [البقرة:174] وقال: { ِNهk®Xخ) عَنْ ِNخkحh5' يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } [المطففين:15](1/29)
قلنا: القيامة مواطن، فموطن يكون فيه سؤال وكلام، وموطن لا يكون ذلك فيه. قال عكرمة: القيامة مواطن، يُسأل في بعضها، ولا يُسأل في بعضها. وقال ابن عباس: لا يسألهم سؤال استخبار واستعلام: هل عملتم كذا وكذا؛ لأن الله عالم بكل شيء.. ولكن يسألهم سؤال تقريع وتوبيخ؛ فيقول لهم: لم عصيتم القرآن؟ وما حجتكم فيه؟] [الجامع لأحكام القرآن]
[أي لنسألن هؤلاء الكفرة أجمعين يوم القيامة عما كانوا يعملون في الدنيا من الأعمال التي يحاسبون عليها، ويُسألون عنها. وقيل: إن المراد سؤالهم عن كلمة التوحيد. والعموم في (عما كانوا يعملون) يفيد ما هو أوسع من ذلك. وقيل: إن المسئولين ها هنا هم جميع المؤمنين والعصاة والكفار.
ويمكن أنْ يقال: إنَّ قصر هذا السؤال على المذكورين في السياق، وصرف العموم إليهم لا ينافى سؤال غيرهم.] [فتح القدير]
[روى ابن أبي الدنيا عن عمر - رضي الله عنه - قال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن تُوزنوا؛ فإنه أخف عليكم في الحساب غدًا أن تُحاسبوا
أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر.
وروى الإمام أحمد عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقرأ عليه: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ #Xچّyz ¼çnuچtƒ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا çnuچtƒ }
[الزلزلة: 7 -8] قال: "حسبي لا أبالي أن لا أسمع غيرها".(1/30)
وروى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان أبو بكر - رضي الله عنه -يأكل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ #Xچّyz ¼çnuچtƒ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا çnuچtƒ } [الزلزلة 7-8] فرفع أبو بكر يده، وقال: يا رسول الله! أُجزَى بما عملتُ مِن مثقال ذرة مِن شر؟ فقال: يا أبا بكر! "ما رأيتَ في الدنيا مما تكرهُ فبمثاقيلِ ذَرِّ الشرِّ، ويَدَّخِرُ اللهُ لكَ مثاقيلَ ذرِّ الخيرِ حتى تُوفَّاهُ يومَ القيامةِ"
وعن أبي العالية في قوله تعالى: { y7خn/u'uqsù َOكg¨Yn=t"َ،sYs9 أَجْمَعِينَ (92) $Hxه كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الحجر:92-93] قال: يُسأل العبادُ كلُّهم عن خَلتين يوم القيامة: عما كانوا يعبدون، وعماذا أجابوا المرسلين.
وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: والذي لا إله غيره، ما منكم مِن أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر، فيقول: ابن آدم! ماذا غَرَّك مني بي؟ ابن آدم! ماذا عملتَ فيما علمتَ؟ ابن آدم! ماذا أجبتَ المرسلين؟
وعن ابن عباس ب قال: لا يسألهم: هل عملتم كذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول: لِمَ عملتم كذا وكذا؟
وفي الصحيح عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "يُجاءُ بالكافرِ يومَ القيامةِ، فيُقالُ له: أرأيتَ لو كانَ لكَ مِلءَ الأرضِ ذهبًا أكنتَ تفتدي به؟ فيقولُ: نعم.. فيُقالُ له: قد كنتَ سُئلتَ ما هو أيسر مِن ذلك."] [معارج القبول]
قال تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ îpsYدdu' } [المدثر: 38] وقال تعالى: { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } [الطور:21](1/31)
قال الزمخشري في "الكشاف": [أي مرهون؛ كأن نَفْس العبد رهن عند الله تعالى بالعمل الصالح الذي هو مطالَب به، كما يرهن الرجل عبده بدَيْن عليه. فإنْ عمل صالحًا فكها وخلصها، وإلا أوبقها.] أ.هـ
فـ[كل إنسان رَهْن بما كسب من التقدم أو التأخر أو غير ذلك، فهو على نفسه بصيرة ليكسب ما يفضي به إلى النعيم أو إلى الجحيم. و(رهينة): خبر عن (كل نفس) وهو بمعنى مرهونة. والرهن الوثاق والحبس ومنه الرهن في الدَّيْن، وقد يطلق على الملازمة والمقارنة، ومنه فَرَسا رِهَانٍ، وكِلا المعنيين يصح الحمل عليه هنا على اختلاف الحال، وإنما يكون الرهن لتحقيق المطالبة بحق يخشى أن يتفلت منه المحْقوق به، فالرهن مُشعِر بالأخذ بالشدة، ومنه رهائن الحرب الذين يأخذهم الغالب من القوم المغلوبين ضمانًا لئلا يخيس القومُ بشروط الصلح، وحتى يعطوا ديات القتلى فيكون الانتقام من الرهائن.] [التحرير والتنوير]
فالمسلم مرهون أي موثوق ومحبوس بمسئوليته التي يتعلق بها كسبه؛ فإن شاء أن يعتق نفسه ويفك رهنه فلا بد من أداء الواجب والقيام بالمسئولية، وإلا فإنه سيؤاخذ بمقابل تفريطه، هذا المعنى يتطابق مع الحديث الوارد عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ الناسِ يغدو فبائعٌ نفسَه فمُعتِقُها أو مُوبِقُها" [رواه مسلم] فكل إنسان يسعى لنفسه، فمنهم مَن يبيعها لله بطاعته له؛ فيعتقها من العذاب كما قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ 3"uژyIô©$# مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ Nçlm;¨uqّBr&ur بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } [التوبة: 111] ومَن يبيعها للشيطان والهوى باتباعها؛ فيوبقها أي: يهلكها. اللهم وفقنا للعمل بطاعتك وجنبنا أن نوبق أنفسنا بمخالفتك. [جامع العلوم والحكم]
فيا عباد الله. .
كل المعاصي قد سُطِّرت وكُتبَت.. والنفوس رهينة بما جنت، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت..(1/32)
يا مَن يغتر بالأماني والآمال الكواذب، ويبارز بالقبائح وما يدري مَن يحارب..! يا حاضر البدن غير أن القلب غائب، أرضيتَ أن تفوتك الخيرات والرغائب..؟! يا مَن عمره يفنى في ممره ويسري كالنجائب.. يا مَن شاب وما تاب؛ هذا مِن العجائب.. يا عجبا كيف نام المطلوب وما غفل الطالب..؟!
- - -
ويُسألون عن أربع..
عن أبي بزرة الأسلمي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزولُ قدمَا عبدٍ حتى يُسألَ عن: عمرِهِ فيمَ أفناهُ، وعن علمِهِ ما عملَ فيهِ، وعن مالِهِ من أين اكتسبهُ وفيمَ أنفقهُ، وعن جسمه فيمَ أبلاه". [رواه الطبراني، وصححه الألباني في "صحيح الجامع"]
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تزولُ قَدَمَا ابنِ آدمَ يومَ القيامةِ مِن عِندِ ربِّهِ حتى يُسأَلَ عن خمسٍ: عن عمرِهِ فيمَ أفناهُ؟ وعن شبابِهِ فيمَ أبلاهُ؟ وعن مالِهِ مِن أين اكتسبَهُ، وفيمَ أنفقَهُ؟ وماذا عملَ فيما علمَ." [رواه الترمذي وحسنه الألباني]
[إن شأن الناس في الدنيا غريب؛ يلهون والقَدَر معهم جاد، وينسون وكل ذرة من أعمالهم محسوبة.. ومن الخداع أنْ يحسب المرء نفسه واقفًا والزمن يسير! إنه خداع النظر حين يخيل لراكب القطار أنّ الأشياء تجري وهو جالس، والواقع أن الزمن يسير بالإنسان نفسه إلى مصيره العتيد.
إن عمرك رأس مالك الضخم، ولسوف تُسأل عن إنفاقك منه، وتصرفك فيه.. والإسلام نظر إلى قيمة الوقت في كثير من أوامره ونواهيه؛ فعندما جعل الإعراض عن اللغو من معالم الإيمان كان حكيمًا في محاربة طوائف المتبطلين؛ الذين ينادي بعضهم بعضًا: تعالَ نقتل الوقت بشيء من التسلية!! وما درى الحمقى أن هذا لعب بالعمر، وأنّ قتل الوقت على هذا النحو إهلاك للفرد، وإضاعة للجماعة.(1/33)
قال الحسن البصري: ما مِن يوم ينشق فجره إلا نادى منادٍ: يا ابن آدم! أنا خَلْقٌ جديد، وعلى عملك شديد، فتزوَّدْ مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة.
وإنه لمن فضل الله ودلائل توفيقه أنْ يُلهَم المرء استغلال كل ساعة من عمره في العمل، والاستجمام من جهد استعدادًا لجهد آخر.. وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعمتانِ مغبونٌ فيهِما كثيرٌ من الناسِ: الصحةُ والفراغُ" [متفق عليه].
ومن استغلال الإسلام للوقت بأفضل الوسائل حثه على مداومة العمل وإنْ كان قليلاً، وكراهيته للكثير المنقطع؛ وذلك أن استدامة العمل القليل مع اطِّراد الزمن وسيره الموصول يجعل من التافه الضئيل زنة الجبال من حيث لا يشعر المرء.
أما أنْ تهيج بالإنسان رغبة سريعة فتدفعه إلى الإكثار والإسراف، ثم يغلب عليه السآمة فينقطع، فهذا ما يكرهه الإسلام.
وفي الحديث: "يا أيها الناسُ خذوا مِنَ الأعمالِ ما تُطيقون، فإنَّ اللهَ تعالى لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا، وإنَّ أحبَّ الأعمالِ إلى اللهِ ما دامَ وإنْ قَلََّ". [متفق عليه]
والذي يجب أنْ نعقله أن حياتنا هذه ليست سدى.. وأن الله أجل من أنْ يجعلها كذلك.. وإذا انتفعنا بمرور الزمن على خير وجه؛ سجلنا لأنفسنا خلودًا لا يناوشه الزمن بِهَرَم ولا بِلَى عند الرفيق الأعلى..] [خلق المسلم للغزالي (ملخصًا)]
قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ما ندمتُ على شيء إلا على يوم غربت شمسه؛ نقص فيه أجَلِي، ولم يزد فيه عملي.
وقال الحسن البصري: أدركتُ أقوامًا كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصًا على دراهمكم ودنانيركم!
وقال يحيى بن معاذ: المغبون مَن عطَّل أيامه بالبطالات، وسلَّط جوارحه على الهلكات، ومات قبل إفاقته من الجنايات.(1/34)
وقال بعض السلف: مَن أمضى يومه في غير حق قَضَاه، أو فرض أدَّاه، أو مجد أثَّلَه(1)، أو حمد حَصَّله، أو خير أسَّسه، أو علم اقتبسه؛ فقد عَقَّ يومه، وظلم نفسه.
قال أبو الوفاء ابن عقيل: إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة أُعمِل فكري في حال راحتي وأنا مستطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنتُ أجده وأنا ابن عشرين!
وكان / دائم الاشتغال بالعلم، قد جمع علوم الأصول والفروع، وصنف فيها الكتب الكبار.
[قال الحسن: إنما أنت أيام مجموعة، كلما مضى يوم مضى بعضك. وقال: ابن آدم! إنما أنت بين مطيتين يوضعانك؛ يوضعك الليل إلى النهار، والنهار إلى الليل حتى يسلمانك إلى الآخرة.. فمَن أعظم منك يا ابن آدم خطرًا؟!
وكتب بعض السلف إلى أخ له: ياأخي! يُخيل لك أنك مقيم؛ بل أنت دائب السير، تُساق مع ذلك سوقًا حثيثًا.. الموت متوجه إليك، والدنيا تُطوَى مِن ورائك، ومامضى من عمرك فليس بعائد عليك إلى يوم التغابن.
وقال بعض الحكماء: كيف يفرح بالدنيا مَن يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره؟! كيف يفرح مَن يقوده عمره إلى أجله، وتقوده حياته إلى موته؟
وما المرءُ إلا راكبٌ ظَهرَ عمرِهِ
يَبِيتُ ويُضحِي كلَّ يومٍ وليلةٍڑڑعلى سَفَرٍ يُفنِيهِ باليومِ والشهرِ
بعيدًا عن الدنيا قريبًا إلى القبرِ
__________
(1) أثَّل: بنى وأصَّل، وتأثيل المجد: بناؤه، ومجد مُؤَثَّل وأثيل أي: قديم. [لسان العرب](1/35)
وقال الفضيل بن عياض لرجل: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة. قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك؛ يوشك أن تبلغ! فقال الرجل: إنا لله، وإنا إليه راجعون. فقال الفضيل: أتعرف تفسيره؟ مَن عرف أنه لله عبد، وأنه إليه راجع، فليعلم أنه موقوف، ومَن علم أنه موقوف، فليعلم أنه مسئول، ومَن علم أنه مسئول؛ فليُعِدّ للسؤال جوابًا.. قال الرجل: فما الحيلة؟ قال: يسيرة.. تُحسِن فيما بقي؛ يُغفَر لك ما مضى.. فإنك إنْ أسأتَ فيما بقي؛ أُخِذتَ بما مضى وما بقي.
وفي صحيح الحاكم عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل وهو يعظه: "اغتنِمْ خمسًا قبلَ خمسٍ: شبابَكَ قبلَ هَرَمِكَ، وصحتَكَ قبلَ سَقمِكَ، وغِناكَ قبلَ فقرِكَ، وفَراغَكَ قبلَ شُغلِكَ، وحياتَكَ قبلَ موتِكَ".
وقال غنيم بن قيس: كنا نتواعظ في أول الإسلام: ابن آدم! اعمل في فراغك قبل شغلك، وفي شبابك لكبرك، وفي صحتك لمرضك، وفي دنياك لآخرتك، وفي حياتك لموتك.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بادروا بالأعمالِ سِتًّا: طلوعَ الشمسِ مِن مغربِها، والدخانَ، والدجالَ، والدابةَ، وخاصةَ أحدِكم، وأمرَ العامةِ"(1). أي: سابقوا ست آيات دالة على وجود القيامة قبل وقوعها وحلولها؛ فإن العمل بعد وقوعها وحلولها لا يُقبل ولا يُعتبر.
والمراد من هذا أن هذه الأشياء كلها تعوق عن الأعمال، فبعضها يشغل عنه إما في خاصة الإنسان، كفقره وغناه، ومرضه وهرمه وموته، وبعضها عام كقيام الساعة، وخروج الدجال، وكذلك الفتن المزعجة، وجاء في حديث آخر: "بادروا بالأعمالِ فِتَنًا كقِطَعِ الليلِ المظلمِ".
__________
(1) خاصة أحدكم: الموت - أمر العامة: القيامة.(1/36)
وبعض هذه الأمور العامة لا ينفع بعدها عمل، كما قال تعالى: { يَوْمَ 'دAù'tƒ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا #[ژِچyz قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ } [الأنعام: 158]
وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقومُ الساعةُ حتى تطلعَ الشمسُ من مَغربِها، فإذا طلعتْ ورآها الناسُ آمنوا أجمعون؛ فذلك حين لا يَنفعُ نفسًا إيمانُها لم تكنْ آمنتْ مِن قبلُ أو كسبتْ في إيمانِها خيرًا". وفي صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ثلاثٌ إذا خرجن لم ينفعْ نفسًا إيمانُها لم تكن آمنتْ مِن قبلُ أو كسبتْ في إيمانِها خيرًا: طلوعُ الشمسِ مِن مَغربِها، والدجالُ، ودابةُ الأرضِ". ورُوي عن عائشة ل قالت: إذا خرج أول الآيات طُرِحَت الأقلام، وحُبِسَت الْحَفَظَة، وشهدت الأجساد على الأعمال. [خرجه ابن جرير الطبري]
فالواجب على المؤمن المبادرة بالأعمال الصالحة قبل أن لا يقدر عليها، ويُحال بينها وبينه؛ إما بمرض أو موت، أو بأن يدركه بعض هذه الآيات التي لا يُقبَل معها عمل. قال أبو حازم: متي حيل بين الإنسان والعمل لم يبقَ له إلا الحسرة والأسف عليه، ويتمني الرجوع إلى حال يتمكن فيها من العمل؛ فلا تنفعه الأمنية..(1/37)
قال تعالى: { (#ûqç7 دRr&ur إِلَى رَبِّكُمْ (#qكJد=َ™r&ur لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا ڑcrمژ|اZè? (54) (#ûqمèخ7¨?$#ur أَحْسَنَ مَا tAح"Ré& إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ 4'sAuژô£ys"tƒ عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ tûïحچد‚"،،9$# (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَن اللَّهَ سة_1y‰yd لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ "uچs? الْعَذَابَ لَوْ أَن لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [الزمر: 54-58] وقال تعالى: { #س®Lxm إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ $[sد="|¹ فِيمَا àMّ.uچs? كَلَّا إِنَّهَا îpyJد=x. هُوَ $ygè=ح!$s% وَمِنْ Nخgح!#u'ur بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [المؤمنون: 99-100]
فإذا كان الأمر على هذا فيتعين على المؤمن اغتنام ما بقي من عمره. قال سعيد ابن جبير: كل يوم يعيشه المؤمن غنيمة. وقال أبو بكر المزني: ما من يوم أخرجه الله إلى الدنيا إلا يقول: ابن آدم! اغتنمني لعله لا يوم لك بعدي.. ولا ليلة إلا تنادي: ابن آدم! اغتنمني لعله لا ليلة لك بعدي..
اغتنِمْ في الفراغِ فَضلَ ركوعٍ فعسي أنْ يكونَ مَوتُكَ بَغْتَه
كم صحيحٍ ماتَ مِن غيرِ سقمٍ ذَهبَتْ نَفْسُهُ الصحيحةُ فَلْتَه] (1)
قال ابن عطاء الله: رُبَّ عُمر اتسعت آماده، وقلَّت أمداده. ورُبَّ عُمر قليلة آماده، كثيرة أمداده..
[أي: رُبَّ عمر لشخص اتسعت آماده؛ أي اتسع زمنه حتى طال، وقلت أمداده أي فوائده؛ بأن كان الشخص من الغافلين.
__________
(1) جامع العلوم والحِكَم: الحديث الأربعون (بتصرف)(1/38)
ورُبَّ عمر لشخص آخر قليلة آماده، كثيرة أمداده؛ بأن كان من الذاكرين. كما وضح ذلك بقوله: مَن بورك له في عمره؛ أدرك في يسير مِن الزمن مِن منن الله تعالى ما لا يدخل تحت دوائر العبارة، ولا تلحقه الإشارة.
يعني أن مَن بورك له في عمره؛ بأنْ رُزِق مِن الفطنة واليقظة ما يحمله على اغتنام الأوقات، وانتهاز فرصة الإمكان؛ خشية الفوات؛ فبادر إلى الأعمال القلبية والبدنية، واستفرغ في ذلك مجهوده بالكلية.. أدرك في يسير من الزمن مِن المنن الإلهية، والمعارف الربانية ما لا يدخل تحت دوائر العبارة؛ لقصورها عن الإحاطة به.. ولا تلحقه الإشارة إليه؛ لعلوه في مقامه ومنصبه.. فيرتفع له في كل ليلة من لياليه من الأعمال الصالحة ما لا يرتفع لغيره في ألف شهر؛ فتكون لياليه كلها بمنزلة ليلة القدر.
فالعبرة بالبركة بالعمر لا بطوله. وعلى هذا يحمل حديث: "البِرُّ يَزيدُ في العُمر" فإن المراد البركة فيه؛ بحيث يفعل فيه من الخيرات ما لا يفعله غيره في الأزمنة الطويلة الخالية من البركات..] [شرح الحكم العطائية]
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه كان يقول: إنكم في ممر الليل والنهار في آجال منقوصة وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة.. فمَن زرع خيرًا فيوشك أن يحصد رغبة.. ومَن زرع شرًّا فيوشك أن يحصد ندامة.. ولكل زارع ما زرع.
قال علي بن أبى طالب - رضي الله عنه -: يا حملة العلم! اعملوا به؛ فإن العالم مَن علم ثم عمل، ووافق علمه عمله، وسيأتي أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، يخالف علمهم عملهم، وتخالف سريرتهم علانيتهم، يقعدون جلفاء(1) يباهى بعضهم بعضًا، حتى إن أحدهم ليغضب على جليسه إن تركه وجلس إلى غيره؛ أولئك لا ترفع أعمالهم تلك إلى الله عز وجل.
__________
(1) الجِلف: الأحمق ضعيف العقل.(1/39)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقول العبد: مالي.. مالي.. وإنما له من مالِهِ ثلاثٌ: ما أكلَ فأفنَى، أو لبسَ فأبلَى، أو أعطى فأقنَى، وما سوى ذلك فهو ذاهبٌ وتاركُهُ للناسِ". [رواه مسلم]
ابن آدم . . رأس مالك قلبك ووقتك، وقد شغلت قلبك بهواجس الظنون، وضيعت أوقاتك بارتكاب مالا يعنيك.. فمتى يربح مَن خسر رأس ماله؟!
تَأهَّبْ للذي لا بُدَّ مِنهُ
أتَرضى أنْ تكونَ رفيقَ قومٍڑڑمِنَ الموتِ المُوَكَّلِ بالعبادِ
لهم زادٌ، و أنتَ بغيرِ زادِ
- - -
… ويُسألون عن السمع والبصر والفؤاد :
قال تعالى: { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا }
[الإسراء:36]
[فيه وجهان من التفسير: الأول: أن الإنسان يُسأل يوم القيامة عن أفعال جوارحه؛ فيُقال له: لِمَ سمعتَ ما لا يَحِلُّ لك سماعه؟ ولِمَ نظرتَ إلى ما لا يَحِلُّ لك النظر إليه؟ ولِمَ عزمتَ على ما لم يَحِلُّ لك العزم عليه؟
والوجه الثاني: أن الجوارح هي التي تُسأل عن أفعال صاحبها؛ فتشهد عليه جوارحه بما فعل.
والمعنى: انتهِ عما لا يَحِلُّ لك؛ لأن الله أنعم عليك بالسمع والبصر والعقل لتشكره، وهو مختبرك بذلك وسائلك عنه؛ فلا تستعمل نعمه في معصية.] [أضواء البيان]
والفؤاد هو القلب، وهو لهذه الأعضاء كالملِك المتصرف في الجنود؛ فكلها تحت مشيئته وقهره؛ تكتسب منه الزيغ والاستقامة، كما أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"ألا وإنَّ في الجسدِ مُضغَةً إذا صلحتْ صلحَ الجسدُ كلُّهُ، وإذا فسدتْ فسدَ الجسدُ كلُّهُ؛ ألا وهي القلبُ" [متفق عليه]..(1/40)
يقول د. خالد الجبير: [وكما أن القلب لأعضاء الجسم هو الملك المتصرف فيها؛ إذا صلح معنويًا صلحت باقي أعضاء الجسم وجوارحه، كذلك إذا مرض القلب عضويًا، وأصيب بأحد الأمراض التي تؤثر على وظيفته؛ فإن باقي أعضاء الجسم الأخرى تتأثر، فالرئة تمتلئ بالماء وتتأثر وظيفتها، ويتضخم الكبد وتتأثر وظيفته، وكذلك الكلى قد تتوقف، وتقل الهمة، وتزيد الغمة، وتتورم الأطراف، وينتفخ البطن، ويجهد المخ.. إذًا هو تأثير القلب؛ الذي هو فعلاً ملك الأعضاء، والمسيطر على صحتها؛ إذا صلح صلحت، وإذا فسد فسدت.] [من محاضرة أمراض القلوب]
ومن هنا كان الحرص على سلامة القلب؛ فإنه دليل النجاة { يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ 'sAr& اللَّهَ بِقَلْبٍ 5Oٹد=y™ } [الشعراء: 88-89]
[والقلب السليم هو الذي قد صارت السلامة صفة ثابتة له، وهو ضد المريض والسقيم والعليل. وقد اختلفت العبارات في معنى القلب السليم. والأمر الجامع لذلك: أنه الذي قد سلم مِن كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومِن كل شبهة تعارض خبره؛ فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
فالقلب السليم هو الذي سلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما، بل قد خلصت عبوديته لله تعالى: إرادة ومحبة، وتوكلاً وإنابة، وإخباتًا وخشية ورجاءً.. وخلص عمله لله؛ فإن أحب أحب في الله، وإن أبغض أبغض في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله.. ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل مَن عدا رسوله - صلى الله عليه وسلم - ؛ فيعقد قلبه معه عقدًا محكمًا على الائتمام والاقتداء به وحده دون كل أحد في الأقوال والأعمال من أقوال القلب؛ وهي العقائد، وأقوال اللسان؛ وهي الخبر عما في القلب، وأعمال القلب؛ وهي الإرادة والمحبة والكراهة وتوابعها، وأعمال الجوارح.. فيكون الحاكم عليه في ذلك كله؛ هو ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -.(1/41)
قال بعض السلف: ما مِن فعلة وإنْ صغرت، إلا يُنشر لها ديوانان: لِمَ..؟ وكيف..؟ أي: لِمَ فعلتَ؟ وكيف فعلتَ؟ فالأول: سؤال عن علة الفعل وباعثه وداعيه: هل هو حظ عاجل من حظوظ العامل، وغرض من أغراض الدنيا في محبة المدح من الناس، أو خوف ذمهم، أو استجلاب محبوب عاجل، أو دفع مكروه عاجل، أم الباعث على الفعل القيام بحق العبودية، وطلب التودد والتقرب إلى الرب سبحانه وتعالى، وابتغاء الوسيلة إليه..؟ ومحل هذا السؤال: أنه هل كان عليك أن تفعل هذا الفعل لمولاك، أم فعلته لحظك وهواك؟؟ والثاني: سؤال عن متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في ذلك التعبد؛ أي: هل كان ذلك العمل مما شرعتُه لك على لسان رسولي، أم كان عملاً لم أشرعه، ولم أرضه؟؟
فالأول سؤال عن الإخلاص، والثاني عن المتابعة؛ فإن الله سبحانه لا يقبل عملاً إلا بهما.. وطريق التخلص من السؤال الأول بتجريد الإخلاص، وطريق التخلص من السؤال الثاني بتحقيق المتابعة، وسلامة القلب من إرادة تعارض الإخلاص، وهوى يعارض الاتباع.. فهذا حقيقة سلامة القلب الذي ضُمنت له النجاة والسعادة.] [إغاثة اللهفان (بتصرف يسير)](1/42)
فـ[القلب هو العالم بالله، وهو المتقرب إلى الله، وهو العامل لله، وهو الساعي إلى الله، وإنما الجوارح أتباع وخدم وآلات يستخدمها القلب، ويستعملها استعمال المالك للعبد، واستخدام الراعي للرعية، والصانع للآلة.. فالقلب هو المقبول عند الله إذا سلم من غير الله، وهو المحجوب عن الله إذا صار مستغرقًا بغير الله، وهو المطالَب، وهو المخاطَب، وهو المعاتَب، وهو الذي يسعد بالقرب من الله؛ فيفلح إذا زكاه، وهو الذي يخيب ويشقى إذا دنسه ودساه، وهو المطيع بالحقيقة لله تعالى وإنما الذي ينتشر على الجوارح من العبادات أنواره، وهو العاصي المتمرد على الله تعالى وإنما الساري إلى الأعضاء من الفواحش آثاره.. وبإظلامه واستنارته تظهر محاسن الظاهر ومساويه؛ إذ كل إناء ينضح بما فيه.. وهو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه، وإذا عرف نفسه فقد عرف ربه، وهو الذي إذا جهله الإنسان فقد جهل نفسه، وإذا جهل نفسه فقد جهل ربه.. ومن جهل قلبه فهو بغيره أجهل؛ إذ أكثر الخلق جاهلون بقلوبهم وأنفسهم، وقد حيل بينهم وبين أنفسهم؛ فإن الله يحول بين المرء وقلبه، وحيلولته بأن يمنعه عن مشاهدته ومراقبته ومعرفة صفاته، وكيفية تقلبه بين أصبعين مع أصابع الرحمن، وأنه كيف يهوي مرة إلى أسفل السافلين، وينخفض إلى أفق الشياطين، وكيف يرتفع أخرى إلى أعلى عليين، ويرتقي إلى عالم الملائكة المقربين..] [الإحياء]
وبغية الصادق الموفَّق تزكية القلب الذي هو موضع نظر الله من العبد كما في الحديث: "إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ". [رواه مسلم](1/43)
يقول د. خالد الجبير: [اعلموا أنَّ الطاعات لازمة لحياة قلب العبد لزوم الطعام والشراب لحياة الجسد، والمعاصي بمثابة السموم التي تُفسد القلب كما تفسد الأطعمة المسمومة الجسد، وقد تُميته. وكما يأخذ العبد الأسباب لحياة جسده من المداومة على تناول الأغذية النافعة في أوقات متقاربة، وإذا تبين له أنه تناول طعامًا مسمومًا عن طريق الخطأ أسرع بتخليص نفسه منه؛ فحياة قلب العبد أولى بالاهتمام من جسده، وهذا لايعني أن نترك الجسد يمرض ولا نبحث عن علاجه. ولكن كما أننا نهتم بعلاج الجسد، يجب أن نهتم بعلاج القلب على قدم المساواة مع الجسد؛ لأن العبد إن مات وجسده مريض وهو صابر محتسب؛ فإن مصيره إلى ماذا؟ مصيره بأمر الله ورحمته إلى الجنة.. أما إن مات وقلبه مريض ولم يعالجه، ومات قلبه قبل أن يموت جسده؛ فإن مصيره إلى النار إنْ مات على ذلك..
إنني أتعجب لكثيرٍ من الناس عندما يصابون بمرض بسيط في الجسد كوخزات بسيطة في القفص الصدري، أو ألم بسيط في القلب؛ فإنه يقلق، ويبحث بأسرع وقت عن أمهر الأطباء.. ولكن إذا مرض القلب في معصية؛ كم منا يبادر إلى علاج قلبه بالتوبة والندم..؟!
إخواني.. إذا كانت حياة الجسد تؤهل لمعيشة غير منغصة بالمرض في الدنيا؛ فإن حياة القلب تؤهل لحياة طيبة في الدنيا، وسعادة غير محدودة في الآخرة..
قال عبدالله بن المبارك:
رأيتُ المعاصي تُميتُ القلوبَ وقد يُورِثُ الذُّلَّ إدمانُها
وتَركُ المعاصي حياةُ القلوبِ وخيرٌ لنفسِكَ عِصيانُها] أ.هـ (بتصرف)
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: ما منكم مِن أحد إلا سيخلو الله عز وجل به كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر، ثم يقول: يا ابن آدم! ما غَرَّك بي؟ يا ابن آدم! ما عملتَ فيما علمتَ؟ يا ابن آدم! ماذا أجبتَ المرسلين؟ يا ابن آدم! ألم أكن رقيبًا على عينك؛ وأنت تنظر بها إلى ما لا يحل لك؟ ألم أكن رقيبًا على أذنيك؟ وهكذا حتى عَدَّ سائر أعضائه.
- - -(1/44)
… ويُسألون عن العهود :
قال تعالى: { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا } [الإسراء: 34]
[قال الزجاج: كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد، فيدخل في ذلك ما بين العبد وربه، وما بين العباد بعضهم البعض.
والوفاء بالعهد هو القيام بحفظه على الوجه الشرعي والقانون الْمَرضِي، إلا إذا دلَّ دليل خاص على جواز النقض. (إن العهد كان مسئولا) أي مسئولاً عنه، فالمسئول هنا هو صاحبه.
وقيل: إنَّ العهد يُسأل تبكيتًا لناقضه، فيقال: نُقضتُ! كما تُسأل الموءودة تبكيتًا لوائدها.] [فتح القدير - الجامع لأحكام القرآن]
فالله جل جلاله [يسأل عن الوفاء بالعهد، ويحاسب مَن ينكث به وينقضه.
وقد أكد الإسلام على الوفاء بالعهد وشدد؛ لأن هذا الوفاء مناط الاستقامة والثقة والنظافة في ضمير الفرد وفي حياة الجماعة. وقد تكرر الحديث عن الوفاء بالعهد في صور شتى في القرآن والحديث؛ سواءٌ في ذلك عهد الله وعهد الناس، عهد الفرد وعهد الجماعة وعهد الدولة، عهد الحاكم وعهد المحكوم.. وبلغ الإسلام في واقعه التاريخي شأوًا بعيدًا في الوفاء بالعهود لم تبلغه البشرية إلا في ظل الإسلام.] [في ظلال القرآن]
قال تعالى: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } [النحل: 91]
[والوفاء بعهد الله يشمل بيعة المسلمين للرسول - صلى الله عليه وسلم - ويشمل كل عهد على معروف يأمر به الله. والوفاء بالعهود هو الضمان لبقاء عنصر الثقة في التعامل بين الناس، وبدون هذه الثقة لا يقوم مجتمع، ولا تقوم إنسانية. والنص يُخجل المتعاهدين أنْ ينقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلوا الله كفيلاً عليهم، وأشهدوه عهدهم، وجعلوه كافلاً للوفاء بها. ثم يهددهم تهديدًا خفيًّا: (إن الله يعلم ما تفعلون).(1/45)
وقد تشدد الإسلام في مسألة الوفاء بالعهود فلم يتسامح فيها أبدًا؛ لأنها قاعدة الثقة التي ينفرط بدونها عقد الجماعة ويتهدم، والنصوص القرآنية هنا لا تقف عند حد الأمر بالوفاء والنهي عن النقض إنما تستطرد لضرب الأمثال، وتقبيح نكث العهد، ونفي الأسباب التي قد يتخذها بعضهم مبررات: { وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا ِNن3sY÷ t/ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ tbqàےد=tGّƒrB }
فمَثل مَن ينقض العهد مَثل امرأة حمقاء ملتاثة ضعيفة العزم والرأي، تفتل غزلها ثم تنقضه، وتتركه مرة أخرى قطعًا منكوثة ومحلولة! وكل جزيئة من جزئيات التشبيه تشي بالتحقير والترذيل والتعجيب. وتشوه الأمر في النفوس وتقبحه في القلوب. وهو المقصود. وما يرضى إنسان كريم لنفسه أن يكون مثله كمثل هذه المرأة الضعيفة الإرادة الملتاثة العقل، التي تقضي حياتها فيما لا غناء فيه!
وكان بعضهم يبرر لنفسه نقض عهده مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن محمدًا ومَن معه قلة ضعيفة، بينما قريش كثرة قوية. فنبههم إلى أنّ هذا ليس مبررًا لأن يتخذوا أقسامهم غشًّا وخديعة فيتخلوا عنها: (تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة) أي بسبب كون أمة أكثر عددًا وقوة مِن أمة. وطلبًا للمصلحة مع الأمة الأربى.(1/46)
ويدخل في مدلول النص أن يكون نقض العهد تحقيقًا لما يسمى الآن (مصلحة الدولة) فتعقد دولة معاهدة مع دولة أو مجموعة دول، ثم تنقضها بسبب أن هناك دولة أربى أو مجموعة دول أربى في الصف الآخر، تحقيقًا (لمصلحة الدولة)! فالإسلام لا يقر مثل هذا المبرر، ويجزم بالوفاء بالعهد، وعدم اتخاذ الأيمان ذريعة للغش والدخل. ذلك في مقابل أنه لا يقر تعاهدًا ولا تعاونًا على غير البر والتقوى. ولا يسمح بقيام تعاهد أو تعاون على الإثم والفسوق والعصيان، وأكل حقوق الناس، واستغلال الدول والشعوب.. وعلى هذا الأساس قام بناء الجماعة الإسلامية وبناء الدولة الإسلامية؛ فنَعِمَ العالم بالطمأنينة والثقة والنظافة في المعاملات الفردية والدولية يوم كانت قيادة البشرية إلى الإسلام.
والنص هنا يحذر من مثل ذلك المبرر، وينبه إلى أن قيام مثل هذه الحالة: (أن تكون أمة هي أربى من أمة) هو ابتلاء من الله لهم؛ ليمتحن إرادتهم ووفاءهم، وكرامتهم على أنفسهم، وتحرجهم من نقض العهد الذي أشهدوا الله عليه: (إنما يبلوكم الله به)..
ثم يكل أمر الخلافات التي تنشب بين الجماعات والأقوام إلى الله في يوم القيامة للفصل فيه: (وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون) يمهد بهذا لترضية النفوس بالوفاء بالعهد حتى لمخالفيهم في الرأي والعقيدة:(1/47)
{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً Zoy‰دn¨ur وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) } ولو شاء الله لخلق الناس باستعداد واحد، ولكنه خلقهم باستعدادات متفاوتة، نسخًا غير مكررة ولا معادة، وجعل نواميس للهدى والضلال تمضي بها مشيئته في الناس. وكلٌّ مسئول عما يعمل. فلا يكون الاختلاف في العقيدة سببًا في نقض العهود. فالاختلاف له أسبابه المتعلقة بمشيئة الله. والعهد مكفول مهما اختلفت المعتقدات. وهذه قمة في نظافة التعامل، والسماحة الدينية، لم يحققها في واقع الحياة إلا الإسلام في ظل هذا القرآن.
ويمضي السياق في توكيده للوفاء بالعهود، ونهيه عن اتخاذ الأيمان للغش والخديعة، وبث الطمأنينة الكاذبة للحصول على منافع قريبة من منافع هذه الدنيا الفانية. ويحذر عاقبة ذلك في زعزعة قوائم الحياة النفسية والاجتماعية، وزلزلة العقائد والارتباطات والمعاملات. وينذر بالعذاب العظيم في الآخرة، ويلوح بما عند الله من عِوَض عما يفوتهم بالوفاء من منافع هزيلة، وينوه بفناء ما بأيديهم وبقاء ما عند الله الذي لا تنفد خزائنه، ولا ينقطع رزقه: { وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا ِNن3sY÷ t
ح"yIsù قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا uنûq ،9$# بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا (#rمژyIô±n@ بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا ¸xٹد=s% إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ ضژِچyz لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ْtïح"ôfuZs9ur الَّذِينَ (#ےrمژy9|¹ Oèduچô_r& بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) }(1/48)
واتخاذ الأيمان غشًّا وخداعًا يزعزع العقيدة في الضمير، ويشوه صورتها في ضمائر الآخرين. فالذي يُقسم وهو يعلم أنه خادع في قَسَمه، لا يمكن أنْ تثبت له عقيدة، ولا أنْ تثبت له قدم على صراطها. وهو في الوقت ذاته يشوه صورة العقيدة عند مَن يُقسِم لهم ثم ينكث، ويعلمون أنّ أقسامه كانت للغش والدخل؛ ومِن ثَم يصدهم عن سبيل الله بهذا المثل السييء الذي يضربه للمؤمنين بالله.
ولقد دخلت في الإسلام جماعات وشعوب بسبب ما رأوا من وفاء المسلمين بعهدهم، ومِن صدقهم في وعدهم، ومِن إخلاصهم في أيمانهم، ومِن نظافتهم في معاملاتهم.. فكان الكسب أضخم بكثير من الخسارة الوقتية الظاهرية التي نشأت عن تمسكهم بعهودهم.
ولقد ترك القرآن وسنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في نفوس المسلمين أثرًا قويًّا وطابعًا عامًّا في هذه الناحية ظل هو طابع التعامل الإسلامي الفردي والدولي المتميز..
وقد ترك القرآن في النفوس ذلك الطابع الإسلامي البارز؛ وهو يرغب ويرهب، وينذر ويحذر، ويجعل العهد عهد الله، ويصور النفع الذي يجره نقضه ضئيلاً هزيلاً، وما عند الله على الوفاء عظيمًا جزيلاً: (ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا. إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون).. ويُذَكِّر بأن ما عند البشر ولو ملكه فرد فإنه زائل، وما عند الله باق دائم: (ما عندكم ينفد وما عند الله باق)، ويقوي العزائم على الوفاء، والصبر لتكاليف الوفاء، ويعد الصابرين أجرًا حسنًا: (ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون) والتجاوز عما وقع منهم من عمل سيء، ليكون الجزاء على أحسن العمل دون سواه.] [في ظلال القرآن]
- - -
… ويُسألون عن النعيم :
قال تعالى: { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } [التكاثر:8](1/49)
[روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر؛ فقال: "ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟" قالا: الجوع يا رسول الله.. قال: "وأنا والذي نفسي بيده؛ لأخرجني الذي أخرجكما.. قُومَا". فقاما معه؛ فأتى رجلاً من الأنصار فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة قالت: مرحبًا وأهلاً. فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أين فلان؟" قالت: يستعذب لنا من الماء. إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه، ثم قال: الحمد لله؛ ما أَحَدٌ اليوم أكرم أضيافًا مني.. قال: فانطلق، فجاءهم بعِِذق فيه بُسر وتمر ورُطب.. فقال: كلوا من هذه. وأخذ الْمُدية، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إياك والحلوب". فذبح لهم، فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العِذق، وشربوا.. فلما أنْ شبعوا ورَووا؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمر: "والذي نفسي بيدِهِ؛ لتسألُنَّ عن نعيمِ هذا اليومِ يومَ القيامةِ؛ أخرجكمْ مِن بيوتِكم الجوعُ، ثم لم ترجعوا حتى أصابَكم هذا النعيمُ". أخرجه الترمذي وقال فيه: "هذا والذي نفسي بيدِهِ مِنَ النعيمِ الذي تُسألون عنهُ يومَ القيامةِ؛ ظلٌّ باردٌ، ورُطَبٌ طيبٌ، وماءٌ باردٌ".] [الجامع لأحكام القرآن]
[قال قتادة: إن الله سبحانه سائل كل ذي نعمة عما أنعم عليه. ومجرد السؤال لا يستلزم تعذيب المسئول عن النعمة. فقد يسأل الله المؤمن عن النعم التي أنعم بها عليه؛ فيم صرفها؟ وبم عمل فيها؟ ليعرف تقصيره، وعدم قيامه بما يجب عليه من الشكر. وقيل: السؤال عن الأمن والصحة. وقيل: عن الصحة والفراغ. وقيل: عن الإدراك بالحواس. وقيل: عن ملاذ المأكول والمشروب. وقيل: عن الغداء والعشاء. وقيل: عن بارد الشراب وظلال المساكن. وقيل: عن اعتدال الخلق. وقيل: عن لذة النوم..(1/50)
وأخرج أحمد، والترمذي، والبيهقي في "الشعب" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أولَ ما يُسألُ العبدُ عنه يومَ القيامةِ من النعيمِ أنْ يُقالَ لهُ: ألم نصحْ لكَ جسدَكَ، ونروكَ مِنَ الماءِ الباردِ؟"][فتح القدير]
لتسألن [عن اللهو والتنعم الذي شغلكم الالتذاذ به عن الدين وتكاليفه. فإنْ قلتَ: ما النعيم الذي يُسأل عنه الإنسان، ويُعاتَب عليه؟ فما مِن أحد إلا وله نعيم! قلتُ: هو نعيم مَن عكف همته على استيفاء اللذات، ولم يعش إلا ليأكل الطيب ويلبس اللين، ويقطع أوقاته باللهو والطرب، لا يعبأ بالعلم والعمل، ولا يحمل نفسه مشاقهما.. فأما مَن تمتع بنعم الله وأرزاقه التي لم يخلقها إلا لعباده، وتَقَوَّى بها على دراسة العلم والقيام بالعمل، وكان ناهضًا بالشكر؛ فهو مِن ذاك بمعزل.] [الكشاف]
[لتسألن عن النعيم: مِن أين نلتموه؟ وفيم أنفقتموه؟ أمن طاعة وفي طاعة؟ أم من معصية وفي معصية؟ أمن حلال وفي حلال؟ أم من حرام وفي حرام؟ هل شكرتم؟ هل أديتم؟ هل شاركتم؟ هل استأثرتم؟
لتسألن عما تتكاثرون به وتتفاخرون.. فهو عبء تستخفونه في غمرتكم ولهوكم ولكن وراءه ما وراءه من هم ثقيل!
إن السورة تلقي في الحس ما تلقي بمعناها وإيقاعها. وتَدَع القلب مثقلاً مشغولاً بهم الآخرة عن سفساف الحياة الدنيا وصغائر اهتماماتها التي يهش لها الفارغون!
إنها تصور الحياة الدنيا كالومضة الخاطفة في الشريط الطويل.. (ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر).. وتنتهي ومضة الحياة الدنيا، وتنطوي صفحتها الصغيرة.. ثم يمتد الزمن بعد ذلك وتمتد الأثقال..] [في ظلال القرآن]
فالنعيم المسئول عنه نوعان: نوع أُخذ مِن حِله وصُرِف في حقه؛ فيُسأل عن شكره.. ونوع أُخذ بغير حِله وصُرف في غير حقه؛ فيُسأل عن مستخرجه ومصرفه.
- - -
… وكلكم مسئول عن رعيته :(1/51)
روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر ب أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كُلُّكم راعٍ ومسئولٌ عن رَعيتِهِ؛ فالإمامُ راعٍ وهو مسئولٌ عن رعيتِهِ، والرَّجُلُ في أهلِهِ راعٍ وهو مسئولٌ عن رعيتِهِ، والمرأةُ في بيتِ زوجِها راعيةٌ وهي مسئولةٌ عن رعيتِها، والخادمُ في مالِ سيدِهِ راعٍ وهو مسئولٌ عن رعيتِهِ". قال: فسمعتُ هؤلاء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحسب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "والرَّجُلُ في مالِ أبيهِ راعٍ وهو مسئولٌ عن رعيتِهِ؛ فكُلُّكم راعٍ، وكُلُّكم مسئولٌ عن رعيتِهِ".
قال ابن حجر في "فتح الباري": [قوله: (كلكم راعٍ) الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما اؤتمن على حفظه؛ فهو مطلوب بالعدل فيه والقيام بمصالحه.
قال الخطابي: اشتركوا أي: الإمام والرَّجُل ومَن ذكر في التسمية أي في الوصف بـ(الراعي)، ومعانيهم مختلفة. فرعاية الإمام الأعظم حياطة الشريعة بإقامة الحدود والعدل في الحكم، ورعاية الرَّجُل أهله سياسته لأمرهم وإيصالهم حقوقهم، ورعاية المرأة تدبير أمر البيت والأولاد والخدم والنصيحة للزوج في كل ذلك، ورعاية الخادم حفظ ما تحت يده والقيام بما يجب عليه مِن خدمته.
قال الطيبي: في هذا الحديث أنَّ الراعي ليس مطلوبًا لذاته، وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه المالك، فينبغي أن لا يتصرف إلا بما أذن الشارع فيه. وهو تمثيل ليس في الباب ألطف ولا أجمع ولا أبلغ منه؛ فإنه أجمل أولاً، ثم فَصَّل.
وقال غيره: دخل في هذا العموم المنفرد الذي لا زوج له ولا خادم ولا ولد؛ فإنه يصدق عليه أنه راعٍ على جوارحه حتى يعمل المأمورات ويجتنب المنهيات فعلاً ونطقًا واعتقادًا؛ فجوارحه وقواه وحواسه رعيته. ولا يلزم مِن الاتصاف بكونه راعيًا أنْ لا يكون مرعيا باعتبار آخر.(1/52)
وجاء في حديث أنس مثل حديث ابن عمر، فزاد في آخره: "فأعِدُّوا للمسألةِ جوابًا". قالوا: وما جوابها؟ قال: "أعمالُ البرِّ" أخرجه ابن عدي، والطبراني في "الأوسط" وسنده حسن، وله من حديث أبي هريرة: "ما مِن راعٍ إلا يُسألُ يومَ القيامةِ أقامَ أمرَ اللهِ أم أضاعَهُ؟". ولابن عدي بسند صحيح عن أنس: "إنَّ اللهَ سائلٌ كلَّ راعٍ عما استرعاهُ: حفظَ ذلك أو ضَيَّعَهُ؟" واستدل به على أن المكلَّف يؤاخَذ بالتقصير في أمر مَن هو في حكمه، وعلى أنّ للعبد أن يتصرف في مال سيده بإذنه، وكذا المرأة والولد.] أ.هـ (بتصرف)
والمرأة في بيت زوجها لها [مهمة متعددة الجوانب، منها الاقتصادي، ومنها الصحي، ومنها الاجتماعي، ومنها التربوي، ومنها الإداري.. فكيف ترتب لبيتها "ميزانية" شهرية؛ فإن للعامل الاقتصادي تأثيره في الاستقرار والمصير. وتخطيطه الحق يقتضي اعتبارات وثقافات لا بد من تيسيرها وتوفيرها للمرأة لتسلم لها مسئوليتها عن هذا الجانب.
وكيف تسوس الطفل؟ ولا أعني سياسته في طعامه وشرابه، ولباسه، ونومه ومرضه فحسب؛ بل أعني إلى ذلك سياسة عقله وخُلُقه، فالطفل جهاز حي لاقط -بغير وعي- لكل ما يبدر منها من سمات الفكر والخلق، فكيف تجعل سلوكها سياسة تربوية مرتبة للإيحاء بأقوم مناهج الفكر والخُلُق؟
إن مكانتها منه وهو في دور امتصاص الإيحاء بلا حساب هو أخطر موقف يقومه إنسان من إنسان.. فكيف توحي إليه أفضل العقائد والقيم والسلوك؟ إن ذلك وحده يقتضي منها دراسات جادة متعددة الجوانب في الدين، وعلم النفس، والأخلاق.. على ألا تكون دراسات نظرية للتكمل بالمعرفة؛ بل لتزكي نفسها، وخصائصها، وتترجمها التزامات تندمج فيها بفكرها ووجدانها، حتى تحقق نموذج القدوة الكامل الذي يكون سلوكه صورة غير متكلفة لما يراد إيحاؤه للطفل.(1/53)
ومسئولية المرأة عن عامة أماناتها في بيت زوجها تقتضي جملة من ألوان الثقافة والعلم، كما أن اعتبار المرأة "ذات مسئولية" له أثره في حياتها الفكرية والنفسية؛ فإن الإحساس بالمسئولية هو في الواقع "إحساس بالذات" وباعث الاستجابة إلى الواجب، ومِن ثَم فهو مناط الإحساس بالكرامة وأهمية الوجود.. ذلك أنه ينبه فيها جوانب غافلة أو خاملة إلى التزامات في آفاق عدة، فتدب في نواحي النفس ألوان من النشاط والحركة، ويمتاز الفكر بتعدد جوانب النظر.. فهو اعتبار له أثره في دعم الوجود واكتمال الشخصية.] [الإسلام وقضايا المرأة المعاصرة]
وعن معقل بن يسار - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما مِن عبدٍ يَسترعِيهِ اللهُ رَعيةً، فلم يَحُطْها بنصيحتِهِ، إلا لم يَجدْ رائحةَ الجنةِ".[متفق عليه]
فعلى كل مسلم في موقع المسئولية -سياسية أو اجتماعية أو دعوية- أنْ يُصلح نفسه بالطاعة، ويُصلح مَن هم تحت سلطانه إصلاح الراعي للرعية؛ يُعلمهم الدين والخير وما لا يُستغنى عنه مِن الأدب. يأمرهم وينهاهم، ويعلمهم الحلال والحرام،
وسائر الأحكام، ويجنبهم المعاصي والآثام.
وقد استشعرها أئمة العدل في زمن الخلافة الراشدة، ومَن تبعهم بإحسان من الهداة الراشدين :
روى ابن سعد في طبقاته أن عمر - رضي الله عنه - كان في سفر، فلما كان قريبًا من "الروحاء" سمع صوت راعٍ في جبل، فعدل إليه ونادى عمر: يا راعي الغنم! فقال له الراعي؛ وقد عرفه: نعم يا راعيها! (يعني يا راعي الأمة). قال عمر: لقد مررتُ بمكان هو أخصب مِن مكانك؛ هذا هو المكان الفلاني؛ وإنّ كلَّ راعٍ مسئول عن رعيته.. ثم مضى عمر في طريقه!(1/54)
كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري ب: أما بعد.. فإنّ أسعد الرعاة مَن سعدت به رعيته، وإنّ أشقى الرعاة عند الله عز وجل مَن شقيت به رعيته، وإياك أنْ ترتع فيرتع عمالك؛ فيكون مَثلك عند الله عز وجل مثل البهيمة نظرت كل خضرة مِن الأرض، فرعت فيها تبتغي بذلك السمن، وإنما حتفها في سمنها.. والسلام عليك.
وعن الفضل بن عميرة أن الأحنف بن قيس قدم على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في وفد من العراق في يومٍ صائفٍ شديد الحر؛ وهو محتجز بعباءة، يهنأ(1) بعيرًا من إبل الصدقة، فقال: يا أحنف! ضع ثيابك، وهلمَّ فَأَعِنْ أمير المؤمنين على هذا البعير؛ فإنه من إبل الصدقة، فيه حق لليتيم والمسكين والأرملة.. فقال رجل من القوم: يغفر الله لك يا أمير المؤمنين؛ هلا أمرت عبدًا من عبيد الصدقة يكفيك هذا؟! قال عمر: ثكلتك أمك، وأيُّ عبدٍ هو أعبد مني ومن الأحنف؟! إنه مَن وَلي أمر المسلمين فهو عبد المسلمين؛ يجب عليه ما يجب على العبد لسيده من النصيحة
وأداء الأمانة.
وروى ابن جرير عن عمارة بن خزيمة بن ثابت قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي: ما يمنعك أن تغرس أرضك؟ فقال له أبي: أنا شيخ كبير أموت غدًا! فقال عمر: أعزم عليك لتغرسنها! يقول عمارة: فقد رأيت عمر بن الخطاب يغرسها بيده مع أبي.
فعمر الخليفة الراعي يرى ألا تترك أرض صالحة للغرس والزرع دون أن يستفاد منها، وينبه أصحابه على ذلك، ويساعدهم بنفسه.
__________
(1) يهنأ بعيرًا: يطليه بالهِناء؛ وهو القطران. والعرب يعالجون جرب الإبل بالقطران. [لسان العرب](1/55)
وهذا عمر بن عبد العزيز يوم تولى الخلافة [لم يذهب إلى زاوية ليقرأ الأوراد، بل قعد مِن فوره يُملي الكتب إلى الأطراف، ويضع البرنامج للحكومة الجديدة.. وكان أول أمر أصدره؛ الأمر بفك الحصار عن "القسطنطينية"، ورجوع الجيش؛ فرجع بعدما قاسى الجند الإسلامي الويلات من هذا الحصار.. ثم أمر بعزل الأمراء الظَّلَمَة الطغاة؛ وكان منهم والي إفريقية "يزيد بن أبي مسلم" المتهم بحبس الناس وتعذيبهم وضربهم بلا وجه شرعي.. و"أسامة بن زيد التنوخي" رئيس المالية في مصر؛ الذي كان يقطع الأيدي ويشق البطون، ويرتكب الجرائم الكبار! وحكم عليه بالحبس سنة في كل مركز مِن مراكز الدولة؛ أي بالسجن المؤبد.. وعزل عمال "الحجاج" جميعًا، وولَّى ناسًا صالحين أهل مقدرة وأمانة وحزم.
وكان قد مَرَّ عليه ليلتان بلا منام؛ فأغفى يستريح قليلاً، فدخل عليه ابنه "عبد الملك" وقال له: تنام ولا ترد المظالم؟! قال: يا بنُي! إنما هي ساعة، فإذا قمتُ الظهر رددتُها.قال: ومَن لك بأنْ تعيش إلى الظهر؟! فنهض لرد المظالم..
أتدرون ما هذه المظالم؟ هي الأموال الهائلة، والثروات العظيمة التي تملكها أسرته؛ إخوته وحاشيته.. لقد عزم على ردها إلى أصحابها إن عرف أصحابها، أو إلى الخزانة العامة، وأنْ يُنفذ على الجميع قانون "مِن أين لك هذا"؟ وبدأ في ذلك
بنفسه..
وتوجه إلى أمراء البيت الأموي، فجمعهم وحاول أن يعظهم، ويخوفهم الله، وبَيَّن لهم أنْ ليس لهم مِن الحق في أموال الخزانة العامة أكثر مما للأعرابي في صحرائه، والراعي في جبله، والزارع في مزرعته، وأنّ ما بأيديهم من أموال جمعوها من حرام ليس لهم، وإنما هي لله، وأرادهم على رَدِّها فأبوا..!(1/56)
ودعاهم مرة أخرى إلى وليمة أعدها لهم، فتركهم حتى يبلغ منهم الجوع، ثم قَدَّم لهم عدسًا وتمرًا وبصلاً، وطعامًا من طعام الفقراء؛ فأكلوا منه حتى إذا شبعوا جاءهم بالطعام الطيب؛ فلم يستطيعوا أنْ ينالوا منه.. قال: أرأيتم؟ فلم التقحم في النار من أجل أكلة وشربة؟!
ولما عجزت معهم أساليب اللين، عمد إلى الشدة، وبدأ يُجردهم مِن الثروات التي أخذوها بغير وجهها.. ثم ما لبثوا أن خضعوا جميعًا، ورَدُّوا ما كان في أيديهم من الأموال.. ولم يكتفِ عمر بذلك بل أمر بقطع رواتبهم الكثيرة التي كانوا يأخذونها من الخزانة، وأمر بإعطائهم عطاء أمثالهم، وأمرهم بالعمل كما يعمل الناس.] [رجال من التاريخ]
وهذا الشيخ الصالح الزاهد "عمر الملا" من "الموصل" يكتب إلى السلطان "نور الدين محمود" يقول: [إن المفسدين قد كثروا، والأمر يحتاج إلى سياسة، ومثل هذا لا يجيء إلا بقتل وصلب وضرب؛ فإنه إذا أُخذ إنسان في البرية مَن يجيء يشهد له؟! فكتب إليه الملك "نور الدين" على ظهر كتابه: إنّ الله خلق الخلق، وشرع لهم شريعة؛ وهو أعلم بما يصلحهم. ولو علم أنّ في الشريعة زيادة في المصلحة لشرعها لنا؛ فلا حاجة بنا إلى الزيادة على ما شرعه الله تعالى.. فمَن زاد فقد زعم أنّ الشريعة ناقصة فهو يكملها بزيادته، وهذا مِن الجرأة على الله وعلى ما شرعه. والعقول المظلمة لا تهتدي. والله سبحانه يهدينا وإياك إلى صراط مستقيم.
فلما وصل الكتاب إلى الشيخ "عمر الملا" جمع الناس بـ"الموصل"، وقرأ عليهم الكتاب وجعل يقول: انظروا إلى كتاب الزاهد إلى الملك وكتاب الملك إلى الزاهد.][البداية والنهاية](1/57)
وهذا جزء من رسالة للإمام "الطرطوشي" المالكي يخاطب فيها الأمير "يوسف ابن تاشفين" (1)
__________
(1) يوسف بن تاشفين هو أول من تسمى بـ"أمير المسلمين"، خاطب الخليفة المستظهر بالله العباسي ببغداد، وبعث إليه طالبًا أن يعقد له بالمغرب والأندلس؛ فعقد له. وإنما احتاج أمير المسلمين إلى التقليد من الخليفة المستظهر بالله مع أنه كان بعيدًا عنه، وأقوى شوكة منه؛ لتكون ولايته مستندة إلى الشرع، وهذا من ورعه رحمه الله.. وإنما تسمى بـ"أمير المسلمين" دون أمير المؤمنين أدبًا مع الخليفة حتى لا يشاركه في لقبه؛ لأن لقب أمير المؤمنين خاص بالخليفة. وهو صاحب النصر الأغر على الصليبيين بزعامة ألفونس السادس في معركة "الزلاقة"؛ التي حالت دون سقوط الأندلس كلها في يد النصارى، ومدت في عمر الإسلام بالأندلس حوالي القرنين ونصف القرن.
لم يُرَ في بلد من بلاده ولا عمل من أعماله على طول أيامه رسم مكس ولا خراج إلا ما أمر الله به، وأوجبه حكم الكتاب والسنة من الزكوات والأعشار وجزيات أهل الذمة وأخماس الغنائم. وقد جبى في ذلك من الأموال على وجهها ما لم يجبه أحد قبله. وكان رحمه الله زاهدًا في زينة الدنيا وزهرتها، ورعًا متقشفًا، لباسه الصوف لم يلبس قط غيره، ومأكله الشعير ولحوم الإبل وألبانها مقتصرًا على ذلك؛ على ما منحه الله من سعة الملك، وخوله من نعمة الدنيا. وقد رد أحكام البلاد إلى القضاة، وأسقط ما دون الأحكام الشرعية، وكان يسير في أعماله بنفسه فيتفقد أحوال الرعية في كل سنة. وكان محبًّا للفقهاء وأهل العلم والفضل، مكرمًا لهم، صادرًا عن رأيهم، يُجري عليهم أرزاقهم مِن بيت المال. وكان مع ذلك حسن الأخلاق متواضعًا، كثير الحياء، جامعا لخصال الخير.. رحمه الله تعالى ورضي عنه. [الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (بتصرف)](1/58)
-رحمهما الله-: [.. فاتقِ الله يا أبا يعقوب في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنّ لك مع الله تعالى موقفًا يسائلك فيه عنهم شخصًا.. شخصًا؛ ذكرًا وأنثى، صغيرًا وكبيرًا، حرًّا وعبدًا، مسلمًا وذِميًّا.. فأعد لذلك المقام كلامًا، ولذلك السؤال جوابًا..
واعلم يا أبا يعقوب أنه لا يزني فرج في ولايتك، ومدى سلطانك، وطول عمرك، إلا كنت المسئول عنه، والمرتهن بجريرته.. وكذلك لا يُشرَب فيها نقطة مُسكِر إلا وأنت المسئول عنها.. ولا يُنتَهك عرض امرئ مسلم إلا وأنت المطالَب به.. ولا يُتعامَل بالربا إلا وأنت المأخوذ به.. وكذلك سائر المظالم، وكل حرمة
انتُهِكت مِن حرمات الله تعالى؛ فعُهدتها عليك، لأنك القادر على تغييرها..
فأما ما خفي من ذلك ولم يكن ظاهرًا يراه المسلمون فأنت المبرأ منه إن شاء الله تعالى، ألا ترى إلى عمر بن الخطاب كيف أشفق أن يطالبه الله ببعير من إبل الصدقة؟ وإنما هو البعير للمسلمين، فركب على بعيره، وجعل يطلبه بنفسه.. ولا عذر لك عند الله تعالى أن تقول: لم يبلغني..! فإنك إذا احتجبت عن المسلمين فكيف تعلمه وتراه؟! ولقد بلغني يا أبا يعقوب أنك احتجبت عن المسلمين بالحجارة والطين، واتخذت دونهم حجابًا، وأن طالب الحاجة ليظل يومه ببابك فما يلقاك..!
واعلم يا أبا يعقوب أن الله تعالى فرض الجهاد على كافة المسلمين، ولا يرده جور جائر ولا فسق فاسق إلى أن تقوم الساعة، فجهاد الكفار فرض عليك فيما يليك من ثغور؛ لأنك أقرب الملوك إليها، وعندك الكراع والسلاح، ولأمة الحرب وآلتها، وجيوش المسلمين، وحُماة البيضة طائعون لك.. فاحذر يا أبا يعقوب أن ترد على جنة عرضها السموات والأرض فلا يكون لك فيها موقف قدم..! أعاذنا الله وإياك من هذا الموقف.]
فيا عباد الله.. ما أشرف الأوقات وقد ضيعتموها، وما أجهل النفوس وقد أطعتموها، وما أدق السؤال عن الأموال فانظروا كيف جمعتموها، وما أحفظ الصحف بالأعمال فتدبروا ما أودعتموها..(1/59)
ڑٹ
لو وافَيْتَ ربَّكَ دونَ ذنبٍ
ولم يَظلِمْكَ في عملٍ ولكن
ولو قدْ جئتَ يومَ الحشرِ فردًا
لأعظمتَ الندامةَ فيهِ لَهْفًا
فلا تُنْكِرْ.. فإنَّ الأمرَ جَدٌّڑڑونُوقِشتَ الحسابَ إذًا هلكتَا
عسيرٌ أنْ تَقومَ بما حملتَا
وأبصرتَ المنازلَ فيهِ شَتَّى
على ما في حياتِكَ قد أضعتَا
وليس كما حَسِبْتَ ولا ظَنَنْتَ
ڑ
أول ما يُحاسب عليه المرء
الصلاة عماد الدين، وغُرة الطاعات ، وقد [اشتملت على جُل أنواع العبادة؛ من الاعتقاد بالقلب والانقياد والإخلاص والمحبة، والخشوع والخضوع، والمشاهدة والمراقبة، والإقبال على الله عز وجل، وإسلام الوجه له، والاطراح بين يديه.. وعلى أقوال اللسان وأعماله من الشهادتين، وتلاوة القرآن، والتسبيح والتحميد، والتقديس والتمجيد، والتهليل والتكبير، والأدعية والتعوذ، والاستغفار والاستغاثة والاستعانة، والافتقار إلى الله تعالى والثناء عليه، والاعتذار من الذنب إليه، والإقرار بالنعم له، وسائر أنواع الذكر..
وعلى عمل الجوارح من الركوع والسجود، والقيام والاعتدال، والخفض والرفع، وغير ذلك.. هذا مع ما تضمنته من الشرائط والفضائل، منها: الطهارة الحسية من الأحداث والأنجاس الحسية والمعنوية من الإشراك، والفحشاء والمنكر، وسائر الأرجاس، وإسباغ الوضوء علي المكاره، ونقل الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وغير ذلك مما لم يجتمع في غيرها من العبادات.. ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - "وجُعلَتْ قُرَّةُ عيني في الصلاةِ".(1/60)
ولاشتمالها على معاني الإيمان سماها الله (إيمانًا) في قوله عز وجل: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ ِNن3sY"yJƒخ) } [البقرة: 143]، وهي ثانية أركان الإسلام في الفريضة؛ فإنها فرضت في ليلة المعراج بعد عشر من البعثة، لم يُدعَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - قبلها إلى شيء غير التوحيد الذي هو الركن الأول، ففرضت خمسين، ثم خففها الله عز وجل إلى خمس كما تواترت النصوص بذلك في الصحيحين وغيرهما، وهي ثانية في الذكر؛ فما ذكرت شرائع الإسلام في آية من الآيات أو حديث من السنة إلا وبدئ بها بعد التوحيد قبل غيرها. وهي ثانية في آيات الأمر بالجهاد، وفي آيات وعيد الكفار كما في قوله تعالى: { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ } [التوبة: 5]، وهي ثانية في مدح المؤمنين كما في قوله تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي ِNخkجEںx|¹ خَاشِعُونَ } [المؤمنون: 1-2]، وفي ذم الكفار بتركها كما في قوله عز وجل: { فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا x-حچè% مNخkِژn=tم الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ } [الانشقاق: 20-21]، وقوله: { فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [القيامة: 31-32]
وهي ثانية في حساب العبد يوم القيامة كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أولُ ما يُسألُ عنهُ العبدُ يومَ القيامةِ صلاتُهُ، فإنْ تُقُبِّلَتْ منهُ تُقُبِّلَ منهُ سائرُ عملِهِ، وإنْ رُدَّتْ عليهِ رُدَّ عليهِ سائرُ عملِهِ". ومعنى قوله: "أولُ ما يسألُ عنه العبدُ" أي بعد التوحيد] (1)
__________
(1) معارج القبول (ملخصًا)(1/61)
روى أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ كَانَ أَتَمَّهَا كُتِبَتْ لَهُ تَامَّةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَتَمَّهَا قَالَ لِمَلَائِكَتِهِ: اُنْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ؟ فَيُكْمِلُونَ بِهَا فَرِيضَتَهُ، ثُمَّ الزَّكَاةُ كَذَلِكَ، ثُمَّ تُؤْخَذُ الْأَعْمَالُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ".
- - -
لا حَظَّ لأحد في الإسلام أضاع الصلاة :
[قال تعالى: { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا دN¨uqpk
# فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ $[sد="|¹ } [مريم: 59-60]
قال ابن عباس ب: ليس معنى أضاعوها تركوها بالكلية، ولكن أخروها عن أوقاتها. وقال سعيد بن المسيب: هو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر، ولا يصلي العصر إلى المغرب، ولا يصلي المغرب إلى العشاء، ولا يصلي العشاء إلى الفجر، ولا يصلي الفجر إلى طلوع الشمس.. فمن مات وهو مصر على هذه الحالة ولم يتب؛ وعده الله بـ(غَيّ)؛ وهو وادٍ في جهنم بعيد قعره خبيث طعمه.
وقال الله تعالى: { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ ِNخkجEںx|¹ سَاهُونَ } [الماعون: 4-5] أي غافلون عنها متهاونون بها. وقال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن (الذين هم عن صلاتهم ساهون)، قال: "هو تأخير الوقت". أي تأخير الصلاة عن وقتها، سماهم (مصلين)، لكنهم لما تهاونوا وأخَّروها عن وقتها وعدهم بـ(ويل)؛ وهو شدة العذاب. وقيل: هو وادٍ في جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لذابت من شدة حره. وهو مَسكن مَن يتهاون بالصلاة، ويؤخرها عن وقتها إلا أن يتوب إلى الله تعالى، ويندم على ما فرط.(1/62)
وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ ِNن3ن9¨uqّBr& وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ حچٍ2دŒ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ y7د9¨sŒ فَأُولَئِكَ هُمُ tbrمژإ£"y‚ّ9$# } [المنافقون: 9] قال المفسرون: المراد بذكر الله في هذه الآية الصلوات الخمس. فمن اشتغل بماله في بيعه وشرائه ومعيشته وضَيْعته وأولاده عن الصلاة في وقتها كان من الخاسرين. وهكذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أولُ ما يُحاسَبُ به العبدُ يومَ القيامةِ مِن عملِهِ الصلاةُ، فإنْ صلحتْ فقد أفلحَ وأنجحَ، وإنْ نقصتْ فقد خابَ وخسرَ. فإنِ انتقصَ مِنَ الفريضةِ شيءٌ يقولُ اللهُ تعالى: انظروا هل لعبدي مِن تطوعٍ؟ فيكملُ بهِ ما انتقصَ مِنَ الفريضةِ، ثم يكونُ سائرُ عملِهِ". [رواه الترمذي، وغيره، وصححه الألباني]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "العهدُ الذي بيننا وبينهمُ الصلاةُ فمَن تركَها فقد كفرَ". [رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي، وصححه الألباني] وقال - صلى الله عليه وسلم -: "بينَ العبدِ وبينَ الكفرِ تركُ الصلاةِ".[رواه مسلم]
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَن حافظَ عليها كانتْ لهُ نورًا وبرهانًا ونجاةً يومَ القيامةِ، ومَن لم يحافظْ عليها لم يكنْ لهُ نورٌ ولا برهانٌ ولا نجاةٌ يومَ القيامةِ، وكان يومَ القيامةِ مع فرعونَ وقارونَ وهامانَ وأُبَيِّ بنِ خَلَفٍ". [رواه أحمد، والدارمي، والبيهقي في "شعب الإيمان"، وصححه الألباني في "مشكاة المصابيح"]
قال بعض العلماء: إنما يُحشر تارك الصلاة مع هؤلاء الأربعة؛ لأنه إنما يشتغل عن الصلاة بماله أو بملكه أو بوزارته أو بتجارته. فإن اشتغل بماله حُشر مع قارون، وإن اشتغل بمُلكه حُشر مع فرعون، وإن اشتغل بوزارته حُشر مع هامان، وإن اشتغل بتجارته حُشر مع أُبَيّ بن خلف تاجر الكفار بمكة.(1/63)
ولما طُعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قيل له: الصلاة يا أمير المؤمنين! قال: نعم.. أما إنه لا حَظَّ لأحد في الإسلام أضاع الصلاة، وصلى - رضي الله عنه - وجرحه يثعب دمًا.
وقال عبد الله بن شقيق التابعي: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة. وقال ابن عباس ب: مَن ترك صلاة واحدة متعمدًا لقي الله تعالى وهو عليه غضبان.
وروى البخاري عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أنه رأى رَجُلاً يصلي ولا يُتِم ركوع الصلاة ولا سجودها. فقال له حذيفة: صليتَ، ولو مُتَّ وأنت تُصلي هذه الصلاة مُتَّ على غير فطرة محمد - صلى الله عليه وسلم -. وفي رواية لأبي داود أنه قال: منذ كم تصلي هذه الصلاة؟ قال: منذ أربعين سنة! قال: ما صليتَ منذ أربعين سنة شيئًا! ولو مُتَّ مُتَّ على غير فطرة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وكان الحسن البصري يقول: يا ابن آدم.. أي شيء يعز عليك من دينك إذا هانت عليك صلاتك؟ وأنت أول ما تسأل عنها يوم القيامة.] [الكبائر (بتصرف)]
وفي السنن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن تركَ الصلاةَ متعمدًّا فقد بَرِئتْ منهُ ذِمةُ اللهِ". وفي صحيح البخاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن فاتته صلاةُ العصرِ حَبِطَ عملُهُ".
قال ابن القيم: [الذي يظهر في الحديث -والله أعلم بمراد رسوله- أن الترك نوعان: ترك كلي لا يصليها أبدا؛ فهذا يُحبط العمل جميعه. وترك معين في يوم معين؛ فهذا يُحبط عمل ذلك اليوم. فالحبوط العام في مقابلة الترك العام، والحبوط المعين في مقابلة الترك المعين.
فإن قيل: كيف تحبط الأعمال بغير الردة؟ قيل: نعم.. قد دل القرآن والسنة والمنقول عن الصحابة أن السيئات تُحبط الحسنات، كما الحسنات يُذهبن السيئات.
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى } [البقرة: 264](1/64)
وقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا (#ûqمèsùِچs? ِNن3s?¨uqô¹r& فَوْقَ إVِq|¹ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ حچôgyfx. بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا tbrقگكêô±s? } [الحجرات: 2]
وقالت عائشة ل لأم زيد بن أرقم: أخبري زيدًا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يتوب لما باع بالعينة(1). ونَصَّ الإمام أحمد على هذا فقال: ينبغي للعبد في هذا الزمان أن يستدين ويتزوج لئلا ينظر ما لا يحل؛ فيحبط عمله!
وآيات الموازنة في القرآن على هذا، فكما أن السيئة تُذهِبها حسنة أكبر منها، فالحسنة يَحبط أجرها بسيئة أكبر منها.
__________
(1) العينة) بالكسر، وفسرها الفقهاء بأن يبيع الرجل متاعه إلى أجل، ثم يشتريه في المجلس بثمن حالٍّ ليسلم به من الربا. وذلك حرام إذا اشترط المشتري على البائع أن يشتريها منه بثمن معلوم، فإن لم يكن بينهما شرط فأجازها الشافعي لوقوع العقد سالما من المفسدات، ومنعها بعض المتقدمين، وكان يقول: هي أخت للربا. [المصباح المنير في غريب الشرح الكبير] وسميت عينة لحصول النقد لصاحب العينة، لأن العين هو المال الحاضر من النقد، والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضرة تصل إليه معجلة [النهاية في غريب الأثر] كأن يشتري سيارة بالتقسيط، ثم يبيعها لنفس البائع بثمن نقدى، مثلا يشترى السيارة بمائة ألف جنيه بالتقسيط، ثم يبيعها لنفس البائع بثمانين ألف جنيه نقدا؛ فيكون قد اشترى النقود بمائة ألف جنيه، وأخذ ثمانين ألف جنيه، وهذا هو الربا لأنه لم يشتر سلعة. [فتاوى أون لاين: أ/ محمد حسين عيسى](1/65)
فإن قيل: فأي فائدة في تخصيص صلاة العصر بكونها محبطة دون غيرها من الصلوات؟ تخصيص (العصر) بالذكر لشرفها من بين الصلوات، ولهذا كانت هي (الصلاة الوسطى) بنص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحيح الصريح؛ ولهذا خصها بالذكر في الحديث الآخر وهو قوله: "الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله". [متفق عليه] أي فكأنما سُلب أهله وماله؛ فأصبح بلا أهل ولا مال. وهذا تمثيل لحبوط عمله بتركها، كأنه شبه أعماله الصالحة بانتفاعه وتمتعه بها؛ بمنزلة أهله وماله.. فإذا ترك صلاة العصر؛ فهو كمَن له أهل ومال، فخرج من بيته -لحاجة- وفيه أهله وماله، فرجع وقد اجتيح الأهل والمال؛ فبقي وترًا دونهم، وموتورًا بفقدهم.. فلو بقيت عليه أعماله الصالحة لم يكن التمثيل مطابقًا.
والحبوط نوعان: عام وخاص.
فالعام: حبوط الحسنات كلها بالردة، والسيئات كلها بالتوبة.
والخاص: حبوط السيئات والحسنات بضعها ببعض، وهذا حبوط مُقيَّد جزئي، وقد تقدم دلالة القرآن والسنة والآثار وأقوال الأئمة عليه.
ولما كان الكفر والإيمان كل منهما يُبطل الآخر ويُذهبه؛ كانت شعبة كل واحد منهما لها تأثير في إذهاب بعض شعب الآخر، فإن عظمت الشعبة ذهب في مقابلتها شعب كثيرة.. وتأمل قول أم المؤمنين في مُستحِل (العينة) إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ كيف قويت هذه الشعبة التي أذن الله فاعلها بحربه وحرب رسوله على إبطال محاربة الكفار؛ فأبطل الحراب المكروه الحراب المحبوب، كما تبطل محاربة أعدائه التي يحبها محاربته التي يبغضها. والله المستعان.] [الصلاة وأحكام تاركها]
وقال ابن حجر في "فتح الباري": [قيل: الموتور مَن أُخذ أهله أو ماله وهو ينظر إليه؛ وذلك أشد لغمه. فوقع التشبيه بذلك لمن فاتته الصلاة؛ لأنه يجتمع عليه غمان: غم الإثم، وغم فقد الثواب، كما يجتمع على الموتور غمان: غم السلب، وغم الطلب بالثأر.(1/66)
وحمل الترمذي الحديث على الساهي عن صلاة العصر، وعلى هذا فالمراد بالحديث: أنه يلحقه من الأسف عند معاينة الثواب لمن صلى ما يلحق مَن ذهب منه أهله وماله. ويؤخذ منه التنبيه على أن أسف العامِد أشد؛ لاجتماع فقد الثواب وحصول الإثم. وقال ابن عبد البر: في هذا الحديث إشارة إلى تحقير الدنيا، وأن قليل العمل خير من كثير منها.] أ.هـ (ملخصًا)
- - -
لا أجد لك رُخصة..!
قال تعالى: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ط'©!دŒ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ tbqكJد="y™ } [القلم: 42-43] يغشاهم ذل الندامة يوم القيامة، وقد كانوا في الدنيا يدعون إلى السجود. قال إبراهيم التيمي: يعني إلى الصلاة المكتوبة بالأذان والإقامة. وقال سعيد بن المسيب: كانوا يسمعون "حي على الصلاة.. حي على الفلاح"؛ فلا يجيبون، وهم أصحاء سالمون. وقال كعب الأحبار: والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين تخلفوا عن الجماعة. فأي وعيد أشد وأبلغ مِن هذا لمن ترك الصلاة في الجماعة مع القدرة على إتيانها!
وثبت في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لقد هممتُ أن آمرَ بالصلاةِ فتقامُ، ثم آمرُ رَجُلاً فيؤمُّ الناسَ، ثم أنطلقُ معي برجالٍ معهم حزمٌ مِن حطبٍ إلى قومٍ لا يشهدون الصلاةَ في الجماعةِ، فأحرقُ بيوتَهم عليهم بالنارِ". ولا يتوعد بحرق بيوتهم عليهم إلا على ترك واجب مع ما في البيوت من الذرية والمتاع.
قال ابن حجر في "فتح الباري": [في كتاب الصيام للحسين بن الحسن المروزي بإسناد صحيح: "عن الحسن في رجل يصوم -يعني تطوعًا- فتأمره أمه أن يفطر. قال: فليفطر ولا قضاء عليه، وله أجر الصوم وأجر البر. قيل: فتنهاه أنْ يصلي العشاء في جماعة. قال: ليس ذلك لها، هذه فريضة".(1/67)
وأما الحديث فظاهر في كونها (صلاة الجماعة) فرض عين؛ لأنها لو كانت سُنَّة لم يهدد تاركها بالتحريق، ولو كانت فرض كفاية لكانت قائمة بالرسول ومَن معه.
والذي يظهر لي أن الحديث ورد في المنافقين لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس صلاةٌ أثقلَ على المنافقين مِنَ العشاءِ والفجرِ". لأن هذا الوصف لائق بالمنافقين لا بالمؤمن الكامل، لكن المراد به نفاق المعصية لا نفاق الكفر بدليل قوله في حديث أسامة: "لا يشهدون الجماعة". وأصرح من ذلك قوله في رواية يزيد بن الأصم عن أبي هريرة عند أبي داود: "ثم آتي قومًا يُصلُّون في بيوتِهم ليستْ بِهِم عِلَّةٌ"؛ فهذا يدل على أن نفاقهم نفاق معصية لا كفر، لأن الكافر لا يصلي في بيته إنما يصلي في المسجد رياءً وسُمعة، فإذا خلا في بيته كان كما وصفه الله به من الكفر والاستهزاء. [نَبَّه عليه القرطبي]
قال الطيبي: خروج المؤمن من هذا الوعيد ليس من جهة أنهم إذا سمعوا النداء جاز لهم التخلف عن الجماعة، بل مِن جهة أن التخلف ليس مِن شأنهم، بل هو من صفات المنافقين، ويدل عليه قول ابن مسعود: لقد رأيتنا وما يتخلف عن الجماعة إلا منافق. [رواه مسلم].
وروى ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور بإسناد صحيح عن أبي عمير بن أنس: حدثني عمومتي من الأنصار قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما يشهدهما منافق" يعني العشاء والفجر.
وقد ورد الوعيد في حق مَن تخلف؛ فالذي خرج هو المؤمن الكامل، لا العاصي الذي يجوز إطلاق النفاق عليه مجازًا لما دل عليه مجموع الأحاديث.] أ.هـ(1/68)
وفي صحيح مسلم أن رجلاً أعمى أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! ليس لي قائد يقودني إلى المسجد. وسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُرخِّص له أنْ يصلي في بيته؛ فرَخَّص له، فلما وَلَّى دعاه، فقال: "هل تسمعُ النداءَ بالصلاةِ؟" قال: نعم.. قال: "فأجِبْ" ورواه أبو داود عن عمرو بن أم مكتوم أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إنّ المدينة كثيرة الهوام والسباع، وأنا ضرير البصر، شاسع الدار(1)، ولي قائد لا يلائمني؛ فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ فقال: "هل تسمعُ النداءَ؟" قال: نعم.. قال: "لا أجدُ لكَ رُخصةً". [قال الألباني: حسن صحيح]
فهذا رجل ضرير البصر شكا ما يجد من المشقة في مجيئه إلى المسجد، وليس له قائد يقوده إلى المسجد، ومع هذا لم يُرَخِّص له النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة في بيته؛ فكيف بمن يكون صحيح البصر سليمًا لا عذر له؟! ولهذا قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: لأن تمتلئ أذن ابن آدم رصاصًا مذابًا خير له من أنْ يسمع النداء ولا يجيب! وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد. قيل: ومَن جار المسجد؟ قال: مَن سمع الأذان.
وفي "صحيح الترغيب والترهيب": [قال الحافظ أبو بكر بن المنذر: روينا عن غير واحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم قالوا: "مَن سمع النداء ثم لم يُجِب مِن غير عذر فلا صلاة له". منهم: ابن مسعود وأبو موسى الأشعري، وقد رُوي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومَن كان يرى أنَّ حضور الجماعات فرض: عطاء، وأحمد بن حنبل، وأبو ثور. وقال الشافعي: لا أُرَخِّص لمن قدر على صلاة الجماعة في ترك إتيانها إلا مِن عذر.
__________
(1) بعيد الدار(1/69)
وقال الخطابي بعد ذِكر حديث ابن أم مكتوم: وفي هذا دليل على أن حضور الجماعة واجب، ولو كان ذلك ندبًا لكان أولى مَن يسعه التخلف عنها أهل الضرورة والضعف، ومَن كان في مثل حال ابن أم مكتوم.
وكان عطاء بن أبي رباح يقول: ليس لأحد من خلق الله في الحضر وبالقرية رخصة إذا سمع النداء في أن يدع الصلاة.
وقال الأوزاعي: لا طاعة للوالد في ترك الجمعة والجماعات.] أ.هـ
وروى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: مَن سره أنْ يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث يُنادى بهن؛ فإنَّ الله شرع لنبيكم سُنن الهدى، وإنهن مِن سُنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يُصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سُنة نبيكم، ولو تركتم سُنة نبيكم لضللتم.. ولقد رأيتُنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، أومريض. ولقد كان الرجل يؤتَى به يهادى بين رَجُلَين حتى يُقام في الصف، أو حتى يجيء إلى المسجد لأجل صلاة الجماعة.
وكان بعض السلف يقول: ما فاتت أحدًا صلاةُ الجماعة إلا بذنب أصابه.
وعن أُبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا الصبح، فقال: "أشاهدٌ فلانٌ؟" قالوا: لا.. قال: "أشاهدٌ فلانٌ؟" قالوا: لا.. قال: "إن هاتينِ الصلاتينِ أثقلُ الصلواتِ على المنافقينَ، ولو تعلمونَ ما فيهِما لأتيتُموهما ولو حَبوًا على الرُّكَبِ، وإنَّ الصفَّ الأولَ على مثلِ صفِّ الملائكةِ، ولو علِمتُم ما فضيلتُهُ لابتدرتُموهُ، وإنَّ صلاةَ الرَّجُلِ معَ الرَّجُلِ أزكَى مِن صلاتِهِ وحدَهُ، وصلاتَهُ معَ الرَّجُلَينِ أزكَى مِن صلاتِهِ معَ الرَّجُلِ، وكلما كثرَ فهوَ أحبُّ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ".[رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وقال الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب": حسن لغيره](1/70)
وقال عثمان - رضي الله عنه -: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن صلَّى العشاءَ في جماعةٍ فكأنما قامَ نصفَ الليلِ، ومَن صلَّى الصبحَ في جماعةٍ فكأنما صلَّى الليلَ كلَّهُ". [رواه مالك ومسلم واللفظ له]
وقال ابن عمر ب: كنا إذا تخلف منا إنسان في صلاة العشاء والصبح في الجماعة أسأنا به الظن أن يكون قد نافق!
ذكر ابن حجر في "فتح الباري": [عن أم الدرداء: دخل عليَّ أبو الدرداء وهو مغضب، فقلتُ: ما أغضبك؟ فقال: والله؛ ما أعرف مِن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - شيئًا إلا أنهم يُصلُّون جميعًا.
قوله: (من أمة محمد) يريد: مِن شريعة محمد شيئًا لم يتغير عما كان عليه إلا الصلاة في جماعة. قوله: (يصلون جميعًا) أي مجتمعين، وحذف المفعول، وتقديره: (الصلاة) أو (الصلوات). ومراد أبي الدرداء أن أعمال المذكورين حصل في جميعها النقص والتغيير إلا التجميع في الصلاة، وهو أمر نسبي لأن حال الناس في زمن النبوة كان أتم مما صار إليه بعدها، ثم كان في زمن الشيخين أتم مما صار إليه بعدهما. وكأن ذلك صَدَر مِن أبي الدرداء في أواخر عمره، وكان ذلك في أواخر خلافة عثمان - رضي الله عنه -.
فيا ليت شعري إذا كان ذلك العصر الفاضل بالصفة المذكورة عند أبي الدرداء، فكيف بمن جاء بعدهم من الطبقات إلى هذا الزمان؟
وفي هذا الحديث جواز الغضب عند تغير شيء مِن أمور الدين، وإنكار المنكر بإظهار الغضب إذا لم يستطع أكثر منه، والقسم على الخبر لتأكيده في نفس السامع.] أ.هـ
عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن صلى للهِ أربعينَ يومًا في جماعةٍ يُدرِكُ التكبيرةَ الأولى كُتِبَ له براءتانِ: براءةٌ من النارِ و براءةٌ من النفاقِ". [حسنه الألباني في "صحيح الجامع"]
وروي أن ميمون بن مهران أتى المسجد، فقيل له: إن الناس قد انصرفوا! فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، لفضل هذه الصلاة أحب إليّ من ولاية العراق.(1/71)
قال محمد بن واسع: ما أشتهي من الدنيا إلا ثلاثًا: أخًا إنْ تعوجت قوَّمني، وقُوتًا من الرزق عفوًا مِن غير تَبِعة، وصلاة في جماعة يُرفَع عني سهوُها، ويُكتَب لي فضلُها.
وروي أن السلف كانوا يعزون أنفسهم ثلاثة أيام إذا فاتتهم التكبيرة الأولى، ويعزون سبعًا إذا فاتتهم الجماعة.
قال وكيع بن الجراح: مَن لم يأخذ أهبة الصلاة قبل وقتها لم يكن وَقَّرها. ومَن تهاون بالتكبيرة الأولى فاغسل يديك منه!
- - -
أقباس نورانية من حرص السلف على صلاة الجماعة:
قال ابن عمر ب: خرج عمر يومًا إلى حائط له، فرجع وقد صلى الناس العصر. فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون؛ فاتتني صلاة العصر في الجماعة؛ أُشهدكم أنّ حائطي(1) على المساكين صدقة ليكون كفارة لما صنع عمر.
وعن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فَقَدَ "سليمان بن أبي حثمة" في صلاة الصبح، وإن عمر غَدَا إلى السوق؛ ومسكن "سليمان" بين المسجد والسوق. فمَرَّ على "الشفاء" أم سليمان، فقال لها: لم أرَ سليمان في الصبح! فقالت له: إنه بات يصلي؛ فغلبته عيناه.. قال عمر له: لأنْ أشهد صلاة الصبح في جماعة أحبُّ إليَّ مِن أنْ أقومَ ليلة. [رواه مالك]
عن أُبَي بن كعب - رضي الله عنه - قال: كان رَجُلٌ مِن الأنصار بيته أقصى بيت فى المدينة، فكان لا تُخطئه الصلاة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فتوجعنا له؛ فقلت له: يا فلان! لو أنك اشتريت حمارًا يَقيكَ مِن الرمضاء، ويَقيكَ مِن هوام الأرض! قال: أما والله ما أحب أن بيتي مُطنب ببيت محمد - صلى الله عليه وسلم -! قال: فحملتُ به حملاً حتى أتيتُ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته قال: فدعاه، فقال له مثل ذلك، وذكر له أنه يرجو فى أثره الأجر. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ لكَ ما احتسبتَ". [رواه مسلم]
__________
(1) بستان فيه نخل.(1/72)
عن عبيد الله بن عمر القواريري قال: لم تكن تفوتني صلاة العشاء في الجماعة قط، فنزل بي ليلة ضيف؛ فشغلت بسببه، وفاتتني صلاة العشاء في الجماعة، فخرجت أطلب الصلاة في مساجد البصرة، فوجدت الناس كلهم قد صلوا، وغُلِّقت المساجد، فرجعت إلى بيتي، وقلتُ: قد ورد في الحديث: "إنَّ صلاةَ الجماعةِ تزيدُ على صلاةِ الفردِ بسبعٍ وعشرين درجةً". فصليتُ العشاءَ سبعًا وعشرين مرة، ثم نمتُ فرأيتُ في المنام كأني مع قوم على خيل، وأنا أيضا على فرس، ونحن نستبق، وأنا أُرَكِّض فَرَسي فلا ألحقهم! فالتفت إليّ أحَدُهم فقال لي: لا تُتعب فَرسك فلستَ تلحقنا! قلتُ: ولم؟ قال: لأنا صلينا العشاء في جماعة، وأنت صليت وحدك! فانتبهت وأنا مغموم حزين لذلك.
وكان الربيع بن خثيم قد سقط شقه في الفالج، فكان يخرج إلى الصلاة يتوكأ على رَجُلَين، فيقال له: يا أبا محمد! قد رُخِّص لك أنْ تصلي في بيتك؛ أنت معذور.. فيقول: هو كما تقولون، ولكني أسمع المؤذن يقول: "حي على الصلاة".. "حي على الفلاح".. فمَن استطاع أنْ يجيبه ولو زحفًا أو حَبوًا فليفعل.
ذكر وكيع أن "الأعمش" كان قريبًا من سبعين سنة، ولم تفته التكبيرة الأولى.
كان سعيد بن عبد العزيز إذا فاتته صلاة الجماعة بكى!
وهذا سليمان بن مهران لما حضرته الوفاة بكى أطفاله، فقال: ابكوا.. أو لا تبكوا.. والله ما فاتتني تكبيرة الإحرام مع الجماعة ستين سنة.
قال حاتم الأصم: فاتتني مرة صلاة الجماعة؛ فعزاني أبو إسحاق البخاري وحده، ولو مات لي ولد لعزاني أكثر من عشرة آلاف إنسان؛ لأن مصيبة الدين عند الناس أهون من مصيبة الدنيا!
سئل سليمان المقدسي عن صلاة الجماعة وقد قارب عمره التسعين، قال: لم أصلِّ الفريضة قط منفردًا إلا مرتين وكأني لم أصلهما!
كان المحدث الثقة "بشر بن الحسن" يقال له: (الصَّفِّي) لأنه كان يلزم الصف الأول في مسجد البصرة خمسين سنة.(1/73)
قال سعيد بن المسيب: ما أذن مؤذن منذ عشرين سنة إلا وأنا في المسجد.
كان أبو هريرة - رضي الله عنه - إذا خرج للصلاة مَرَّ ببيوت أهله يصيح ويُخرجهم معه إلى المسجد؛ وهو يقرأ: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ دo4qn=¢ء9$$خ/ ِژة9sـô¹$#ur عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } [طه: 132]
قال مجاهد: سمعت رجلاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن شهد بدرًا قال لابنه: أدركتَ الصلاة معنا؟ قال: نعم.. قال: أدركتَ التكبيرة الأولى؟ قال: لا.. قال: لما فاتك منها خير مِن مائة ناقة كلها سود العين..!
فَقَدَ عبد الملك بن مروان ولده هشام يومًا في صلاة جمعة، فبعث إليه بعد الصلاة يسأله عن تغيبه، فقال: عجزت بغلتي عن حملي، ولم أجد دابة! فقال: وإذا لم تجد دابة تغيب عن الجمعة؟! أقسمت عليك ألا تركب دابة سنة كاملة.
كان محمد بن خفيف الشيرازي به وجع الخاصرة، فكان إذا أخذه أقعده عن الحركة. فكان إذا أُقيمت الصلاة يُحمَل على الظهر إلى المسجد ليصلي، فقيل له: لو خففت على نفسك؟ فقال: إذا سمعتم: "حيّ على الصلاة" ولم تروني في الصف فاطلبوني في المقابر.
عن يعقوب بن سفيان أن "عبد العزيز بن مروان" بعث ابنه "عمر بن عبد العزيز" إلى المدينة يتأدب بها، وكتب إلى "صالح بن كيسان" يتعاهده، وكان صالح بن كيسان يلزمه الصلاة.. فأبطأ يومًا عن الصلاة، فقال: ما حبسك؟ قال: كانت مُرَجِّلتي تُسَكِّن شعري..! فقال: بلغ بك حبك تسكين شعرك أنْ تؤثره على الصلاة؟! وكتب إلى عبد العزيز بذلك. فبعث إليه عبد العزيز رسولاً؛ فلم يكلمه حتى حلق شعره..!(1/74)
سجل المؤرخ التركي "عثمان نزار" في كتاب "حديقة السلاطين" أن السلطان العثماني "بايزيد" الملقب بـ (الصاعقة)، فاتح بلاد (البلغار) و(البوسنة) و(سلانيك) و(ألبانيا).. ذلك السلطان سجل انتصارًا ساحقًا على الجيوش الصليبية التي دعا إلى حشدها البابا "بونيفاس التاسع" لطرد المسلمين من أوروبا، والتي اشتركت فيها خمس عشرة دولة أوروبية؛ كانت "إنجلترا" و"فرنسا" و"المجر" مِن بينها؛ وذلك في المعركة التاريخية المشهورة "نيكوبوليس" سنة 1396م.
هذا السلطان الفاتح حضر للإدلاء بشهادة في أمر مِن الأمور أمام القاضي والعالم المعروف "شمس الدين فناري".. دخل السلطان المحكمة، ووقف أمام القاضي، وقد عقد يديه أمامه كأي شاهد..
رفع القاضي بصره إلى السلطان، وأخذ يتطلع إليه بنظرات حادة قبل أن يقول له: "إنَّ شهادتك لا يمكن قبولها؛ لأنك لا تصلي مع الجماعة، والشخص الذي لا يؤدي صلاته جماعة دون عذر شرعي يمكن أنْ يكذب في شهادته"..!
تسمر الحاضرون في أماكنهم؛ وقد أمسكوا بأنفاسهم ينتظرون أنْ يطير رأس القاضي بإشارة واحدة من السلطان..! لكن السلطان لم يَقُل شيئًا، بل استدار وخرج من المحكمة بكل هدوء!
أصدر السلطان في اليوم نفسه أمرًا ببناء جامع ملاصق لقصره، وعندما تم تشييد الجامع، بدأ السلطان يؤدي صلواته في جماعة. (1)
إذا تَمَثَّلَ ماضِينا لحَاضِرِنا تكادُ أكبادُنا بالغَيْظِ تَنفَطِرُ
- - -
أول مَن يُحاسَب
__________
(1) روائع من التاريخ العثماني لأورخان محمد علي (نقلا عن موقع التاريخ) - الدولة العثمانية للصلابي(1/75)
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "إنَّ أولَ الناسِ يُقضَى عليهِ يومَ القيامةِ رَجُلٌ استُشهِدَ في سبيلِ اللهِ، فأُتِيَ بهِ فعرَّفَهُ نِعمَهُ، فعَرَفَها. قال: فما عملتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيكَ حتى استُشهِدتَ. قال: كذبتَ! ولكنكَ فعلتَ ليقالَ: هو جريءٌ؛ وقد قيل. ثم أُمِرَ بهِ فسُحِبَ على وجهِهِ حتى أُلقِيَ في النارِ.. ورَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عليهِ، وأعطاهُ مِن أصنافِ المالِ، فأُتِيَ بهِ فعرَّفَهُ نِعمَهُ، فعَرَفَها. قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ مِن سبيلٍ تُحبُّ أنْ يُنفَقَ فيها إلا أنفقتُ فيها لكَ. قال: كذبتَ! ولكنكَ فعلتَ ليقالَ: هو جَوادٌ؛ فقد قيل. ثم أُمِرَ بهِ فسُحِبَ على وجهِهِ حتى أُلقِيَ في النار.. ورَجُلٌ تَعَلَّمَ العلمَ وعلَّمَهُ، وقرأَ القرآنَ، فأُتِيَ بهِ فعَرَّفَهُ نِعمَهُ، فعَرَفَها. قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلمتُ العلمَ وعلَّمتُهُ، وقرأتُ فيكَ القرآنَ. قال: كذبت! ولكنكَ تَعلَّمتَ ليقالَ: هو عالِمٌ، وقرأتَ ليقالَ: هو قارئٌ. ثم أُمِرَ بهِ فسُحِبَ على وجهِهِ حتى أُلقِيَ في النارِ". [رواه مسلم]
وروى الترمذي عن أبي عثمان المدائني قال: حدَّثني العلاء بن أبي حكيم أنه كان سيافًا لمعاوية، فدخل عليه رَجُل فأخبره بحديث أبي هريرة، فقال معاوية: قد فُعِل بهؤلاء هكذا، فكيف بمن بقي مِن الناس؟ ثم بكى معاوية بكاءً شديدًا، حتى ظننا أنه هالك، وقلنا: قد جاء هذا الرجل بشر! ثم أفاق معاوية، ومسح عن وجهه، وقال: صدق الله ورسوله: { مَنْ كَانَ ك‰ƒحچمƒ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ ِNخkِژs9خ) أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي دouچ½zFy$# إِلَّا النَّارُ xفخ7xmur مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [هود: 15-16](1/76)
قال ابن كثير: [قال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية: إنّ أهل الرياء يُعطَوْن بحسناتهم في الدنيا؛ وذلك أنهم لا يُظلَمون نقيرًا. يقول: مَن عمل صالحًا التماس الدنيا؛ صومًا أو صلاة أوتهجدًا بالليل؛ لا يعمله إلا التماس الدنيا، يقول الله تعالى: أوفيه الذي التمس في الدنيا من المثابة، وحبط عمله الذي كان يعمله لالتماس الدنيا، وهو في الآخرة من الخاسرين.
وقال قتادة: مَن كانت الدنيا هَمَّه ونيته وطلبته جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يُفضِي إلى الآخرة وليس له حسنة يُعطَى بها جزاءً. وأما المؤمن فيُجازَى بحسناته في الدنيا، ويُثاب عليها في الآخرة.] [تفسير القرآن العظيم]
وقال القرطبي: [قال الضحاك: نزلت في الكفار. فمَن أتى منهم بصلة رحم أو صدقة نكافئه بها في الدنيا بصحة الجسم وكثرة الرزق، لكن لا حسنة له في الآخرة. وقيل: المراد بالآية المؤمنون؛ أي مَن أراد بعمله ثواب الدنيا عُجِّل له الثواب، ولم ينقص شيئًا في الدنيا، وله في الآخرة العذاب؛ لأنه جرد قصده إلى الدنيا. وهذا كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمالُ بالنياتِ.." فالعبد إنما يُعطَى على وجه قصده وبحكم ضميره. وهذا أمر متفق عليه في الأمم بين كل ملة. وقيل: هو لأهل الرياء. وفي الخبر أنه يقال لأهل الرياء: "صمتم، وتصدقتم، وجاهدتم، وقرأتم.. ليقال ذلك؛ فقد قيل ذلك!
وقال ميمون بن مهران: ليس أحد يعمل حسنة إلا وُفِّيَ ثوابها، فإنْ كان مسلمًا مخلصًا وُفِّيَ في الدنيا والآخرة. وإنْ كان كافرًا وُفِّيَ في الدنيا. وقال بعض العلماء: معنى هذه الآية قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمالُ بالنياتِ.."] [الجامع لأحكام القرآن](1/77)
وقال السعدي: [(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا) أي: كل إرادته مقصورة على الحياة الدنيا، وعلى زينتها من النساء والبنين، والقناطير المقنطرة، من الذهب، والفضة، والخيل المسومة، والأنعام والحرث. قد صرف رغبته وسعيه وعمله في هذه الأشياء، ولم يجعل لدار القرار من إرادته شيئًا، فهذا لا يكون إلا كافرًا، لأنه لو كان مؤمنًا، لكان ما معه مِن الإيمان يمنعه أنْ تكون جميع إرادته للدار الدنيا، بل نفس إيمانه وما تيسر له من الأعمال أثر من آثار إرادته الدار الآخرة. ولكن هذا الشقي، الذي كأنه خُلق للدنيا وحدها (نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا) أي: نعطيهم ما قُسم لهم في أم الكتاب من ثواب الدنيا. (وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ) أي: لا ينقصون شيئًا مما قُدِّر لهم، ولكن هذا منتهى نعيمهم. (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ) خالدين فيها أبدًا، لا يُفتَّر عنهم العذاب، وقد حُرموا جزيل الثواب. (وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا) أي: في الدنيا، أي: بطل واضمحل ما عملوه مما يكيدون به الحق وأهله، وما عملوه مِن أعمال الخير التي لا أساس لها، ولا وجود لشرطها، وهو الإيمان.] [تيسير الكريم الرحمن]
و[قال - صلى الله عليه وسلم -: "مَن سَمَّعَ سَمَّعَ اللهُ بهِ، ومَن يُرائي يُراءَى بهِ". قال الخطابي: معناه مَن عمل عملاً على غير إخلاص إنما يريد أنْ يراه الناس ويسمعوه؛ جوزي على ذلك بأنه يَشهره ويَفضحه؛ فيبدو عليه ما كان يُبطنه ويُسره من ذلك. والله أعلم.(1/78)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "اليسيرُ مِنَ الرياءِ شِركٌ". وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أخوفُ ما أخافُ عليكم الشركُ الأصغرُ". فقيل: وما هو يا رسول الله؟ قال: "الرياء، يقولُ اللهُ تعالى يومَ يُجازي العبادَ بأعمالِهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءونَهم بأعمالِكم، فانظروا هل تجدونَ عندهم جزاءً". وقيل في قول الله تعالى: { وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } [الزمر:47] قيل: كانوا عملوا أعمالاً كانوا يرونها في الدنيا حسنات بدت لهم يوم القيامة سيئات! وكان بعض السلف إذا قرأ هذه الآية يقول: ويل لأهل الرياء!] [الكبائر]
و[الرياء مشتق مِن الرؤية، والسمعة مشتقة من السماع. وإنما الرياء أصله طلب المنزلة في قلوب الناس بإيرائهم خصال الخير، إلا أنّ الجاه والمنزلة تُطلَب في القلب بأعمال سوى العبادات، وتُطلَب بالعبادات. واسم الرياء مخصوص بحكم العادة بطلب المنزلة في القلوب بالعبادة وإظهارها.
فحَدُّ الرياء هو إرادة العباد بطاعة الله؛ فالمرائي هو العابد، والمراءَى هو الناس المطلوب رؤيتهم بطلب المنزلة في قلوبهم، والمراءَى به هو الخصال التي قصد المرائي إظهارها، والرياء هو قصده إظهار ذلك.. والمراءَى به كثير..] [الإحياء]
[وقد أعلن الإسلام كراهيته العنيفة للرياء في الأعمال الصالحة، واعتبره شركًا بالله رب العالمين.. والحق أن الرياء مِن أفتك العلل بالأعمال، وهو إذا استكمل أدواره وأتمَّ دورته في النفس كما تستكمل جراثيم الأوبئة أطوارها ودورتها؛ أصبح ضربًا من الوثنية التي تقذف بصاحبها في سواء الجحيم.
وإنما كانت حملات الإسلام على الرياء -وغيره من العلل الناشئة عن فقدان الإخلاص- على ما هي عليه من الشدة؛ لأنها فساد معقَّد، وطريقة ملتوية في التنفيس عن الشهوات المكبوتة.(1/79)
فالرذيلة السافرة تولد جريمة، وهي منكورة محقورة، ولعل صاحبها -لشعوره بسوئها- يتوب منها على عجل أو على مهل.. أما الرذيلة التي تظهر في لباس من الطاعة المطلوبة؛ فهي رذيلة مرهوبة الشر على صاحبها وعلى المجتمع! ذلك أن صاحبها يقترفها وهو يُشبِع نَهَم نفسه؛ في الوقت الذي يتوهم فيه أنه يُرضي الله! فكيف يحس أنه ارتكب إثمًا؟ وكيف يتوب مما يفترض أنه خير؟!
أما المجتمع العام فمصائبه من الفضلاء المنافقين أنكى من مصائبه التي يُنزِلها به معتاد الإجرام من الصعاليك! إنّ ضعف الإخلاص عند كثير من ذوي المواهب جعل البلاد تشقى بمواهبهم وترجع القهقرى!
ثم إن تلويث الفضيلة بأقذار الهوى عدوان على منزلتها، ومحاولة متعمدة لإسقاط قيمتها، وهذا جرم آخر ينشأ عن فقدان الإخلاص.. فطبيعة الفضيلة كطبيعة الثمرة الناضجة، يجب لسلامتها والإبقاء على نظافتها وحلاوتها؛ أنْ تكون خالية مِن العطوب والآفات!
والرجل الذي يقصد بعمله وجه الناس، ويذهل عن وجه ربه؛ لا يدري لسفاهته حِطة ما يصنع! إنه ينصرف عن القوي الغني ذي الجلال والإكرام إلى الضعاف الفقراء الذين لا حول لهم ولاطول؛ ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جمعَ اللهُ الأولين والآخِرين ليومِ القيامةِ؛ ليومٍ لا ريبَ فيهِ نادى منادٍ: مَن كانَ أشركَ في عملِهِ للهِ أحدًا، فليطلبْ ثوابَهُ مِن عِندِهِ؛ فإنّ اللهَ أغنى الشركاءِ عن الشِّركِ"(1)]
[خلق المسلم]
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قال اللهُ تباركَ وتعالى: أنا أغنى الشركاءِ عن الشِّركِ، مَن عملَ عملاً أشركَ فيهِ معي غيري تركتُه وشِرْكَه". [رواه مسلم] ورواه ابن ماجه بلفظ: "قال اللهُ عزَّ وجلَّ: أنا أغنى الشركاءِ عن الشِّركِ، فمَن عملَ لي عملاً أشركَ فيهِ غيري فأنا منه بريءٌ، وهوَ للذي أشركَ".
__________
(1) رواه الترمذي، وابن ماجه، وابن حبان، والبيهقي، وحسنه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب".(1/80)
قال بعض الحكماء: مَثَلُ مَنْ يعملُ رِياءً وسُمعَةً كَمَثَلِ مَن مَلأَ كيسَهُ حَصًى ثُمَّ دخل السوق ليشتري به، فإذا فتحه بين يدي البائع افتضح، وضرب به وجهه فلم يحصل له به مَنفعة سِوى قول الناس: مَا أملأَ كِيسَهُ! ولا يُعْطَى بِهِ شَيئًا؛ فكذلك مَن عمل للرياء والسُّمعَة لا مَنفعةَ له في عمله سِوى مَقالَة الناس ولا ثوابَ له في الآخرة.
قَالَ تَعَالَى: { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ 5@yJtم çm"sYù=yèyfsù هَبَاءً مَنْثُورًا } [الفرقان: 23]
أي الأعمال التي قصد بها غير الله تعالى يَبْطُل ثَوابُها صارتْ كالهبَاء المنثور؛ وهو الغبار الذي يُرَى في شعاع الشمس.
قال ابن القيم: رجل مضرور سأل قومًا ما هو محتاج إليه، فعلم رجل منه أنه إن أعطاه سرًّا حيث لا يراه أحد لم يقتدِ به أحد، ولم يحصل له سوى العطية، وأنه إن أعطاه جهرًا يُقتدَى به ويتبع، وأنف الحاضرون مِن تفرده عنهم بالعطية؛ فجهر له بالعطاء.. فكان الباعث له على الجهر إرادة سعة العطاء عليه من الحاضرين، فهذه مراءاة محمودة، حيث لم يكن الباعث عليها قصده التعظيم والثناء، وصاحبها جدير بأن يحصل له مثل أجور أولئك المعطين.
قال الحسن: المرائي يريد أن يغلب قدر الله فيه، هو رجل سوء، يريد أن يقول الناس: هو صالح! فكيف يقولون وقد حل مِن ربه محل الأردياء؟! فلا بد من قلوب المؤمنين أن تعرفه.
وقال قتادة: إذا راءى العبد يقول الله: انظروا إلى عبدي كيف يستهزئ بي!
وروي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - نظر إلى رجل وهو يطأطئ رقبته، فقال: يا صاحب الرقبة! ارفع رقبتك؛ ليس الخشوع في الرقاب، إنما الخشوع في القلوب.
وقيل: إن أبا أمامة الباهلي - رضي الله عنه - أتى على رجل في المسجد وهو ساجد يبكي في سجوده ويدعو. فقال له أبو أمامة: أنتَ.. أنتَ.. لو كان هذا في بيتك!(1/81)
وقال محمد بن المبارك الصوري: أظهِرْ السمتَ بالليل؛ فإنه أشرف مِن إظهاره بالنهار؛ لأن السمت بالنهار للمخلوقين، والسمت بالليل لرب العالمين.
وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: للمرائي ثلاث علامات: يكسل إذا كان وحده، وينشط إذا كان في الناس، ويزيد في العمل إذا أُثني عليه ويُنقص إذا ذُمَّ به.
وقال الفضيل بن عياض: ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما.
سأل رجل سعيد بن المسيب فقال: إنّ أحدنا يصطنع المعروف يحب أنْ يُحمَد ويُؤجَر! فقال له: أتحب أنْ تُمقَت؟ قال: لا.. قال: فإذا عملت لله عملاً فأخلصه.
وقال الضحاك: لا يقولن أحدكم: هذا لوجه الله ولوجهك! ولا يقولن: هذا لله وللرحم! فإنّ الله تعالى لا شريك له.
وضرب عمر رَجُلاً بالدِّرَّة، ثم قال له: اقتص مني! فقال: لا.. بل أدعها لله ولك. فقال له عمر: ما صنعتَ شيئًا! إما أنْ تدعها لي فأعرف ذلك، أو تدعها لله وحده. فقال: ودعتُها لله وحده. فقال: فنعم إذن.
وقال الحسن: لقد صحبتُ أقوامًا إنْ كان أحدهم لتعرض له الحكمة؛ لو نطق بها لنفعته ونفعت أصحابه، وما يمنعه منها إلا مخافة الشهرة..
وقال الفضيل بن عياض: كانوا يراءون بما يعملون، وصاروا اليوم يراءون بما لا يعملون!
وقال إبراهيم بن أدهم: ما صدق الله مَن أراد أنْ يشتهر.
كان السلطان العادل "نور الدين محمود" يُكثر اللعب بالكرة، فعاتبه رجل من كبار الصالحين في ذلك! فقال: إنما الأعمال بالنيات، وإنما أريد بذلك تمرين الخيل على الكر والفر وتعليمها ذلك، ونحن لا نترك الجهاد.
- - -
أنا لم أعد أسعى لغير رضاكَ :(1/82)
إن الله عز وجل لا يحب العمل المشترك ولا القلب المشترك؛ العمل المشترك لا يَقبله، والقلب المشترك لا يُقبِل عليه.. فالله سبحانه كما لا يحب العمل المشوب بالرياء وملاحظة الخلق، كذلك لا يحب القلب الذي فيه محبة غيره. فالعمل المشترك لا يَقبله؛ أي لا يثيب عليه لفقد الإخلاص منه، والقلب المشترك لا يُقبل عليه؛ أي لا يرضى عن صاحبه لعدم صدقه في محبته.
فالقلب المقفِر من الإخلاص لا يُنبِت قَبولاً، كالحَجَر المكسو بالتراب لا يُخرِج زرعًا!! كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ حچ½zFy$# فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ ز>#uچè? فَأَصَابَهُ وَابِلٌ ¼çmں2uژyIsù صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ z`ƒحچدے"s3ّ9$# } [البقرة: 264]
فإن الذي يُنفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر [لا يستشعر نداوة الإيمان وبشاشته، ولكنه يغطي صلادة قلبه بغشاء من الرياء!!
هذا القلب الصلد المغشى بالرياء يمثله صفوان عليه تراب؛ حجر لا خصب فيه ولا ليونة، يغطيه تراب خفيف يحجب صلادته عن العين، كما أن الرياء يحجب صلادة القلب الخالي من الإيمان.. (فأصابه وابل فتركه صلدا).. وذهب المطر الغزير بالتراب القليل! فانكشف الحجر بجدبه وقساوته، ولم ينبت زرعًا، ولم يثمر ثمرة.. كذلك القلب الذي أنفق ماله رئاء الناس، فلم يُثمر خيرًا ولم يعقب مثوبة!]
[في ظلال القرآن](1/83)
و[الرياء جَلي وخَفي. فالجلي هو الذي يَبعث على العمل، ويَحمل عليه؛ ولو قصد الثواب، وهو أجلاه. وأخفى منه قليلاً هو ما لا يحمل على العمل بمجرده، إلا أنه يخفف العمل الذي يريد به وجه الله، كالذي يعتاد التهجد كل ليلة ويثقل عليه، فإذا نزل عنده ضيف تنشط له وخف عليه، وعلم أنه لولا رجاء الثواب لكان لا يصلي لمجرد رياء الضيفان. وأخفى من ذلك ما لا يؤثر في العمل، ولا بالتسهيل والتخفيف أيضًا، ولكنه مع ذلك مستبطن في القلب، ومهما لم يؤثر في الدعاء إلى العمل لم يمكن أنْ يُعرف إلا بالعلامات. وأجلى علاماته أنْ يُسَرَّ باطلاع الناس على طاعته؛ فرُبَّ عبد يُخلص في عمله، ولا يعتقد الرياء، بل يكرهه ويَرُدُّه، ويتمم العمل كذلك. ولكن إذا اطلع عليه الناس سَرَّه ذلك، وارتاح له، وروح ذلك عن قلبه شدة العبادة.. وهذا السرور يدل على رياء خفي؛ منه يرشح السرور، ولولا التفات القلب إلى الناس لما ظهر سروره عند اطلاع الناس.. فلقد كان الرياء مستكنًّا في القلب استكنان النار في الحجر؛ فأظهر عنه اطلاع الخلق أثر الفرح والسرور، ثم إذا استشعر لذة السرور بالاطلاع، ولم يقابل ذلك بكراهية؛ فيصير ذلك قوتًا وغذاءً للعِرْق الخفي مِن الرياء حتى يتحرك على نفسه حركة خفية فيتقاضى تقاضيًا خفيًّا أن يتكلف سببًا يطلع عليه بالتعريض، وإلقاء الكلام عرضًا، وإنْ كان لا يدعو إلى التصريح.. وقد يخفى فلا يدعو إلى الإظهار بالنطق تعريضًا وتصريحًا، ولكن بالشمائل كآثار الدموع، وغلبة النعاس الدال على طول التهجد..(1/84)
وأخفى من ذلك أنْ يختفي بحيث لا يريد الاطلاع، ولا يُسَر بظهور طاعته، ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدأوه بالسلام، وأنْ يقابلوه بالبشاشة والتوقير، وأنْ يثنوا عليه، وأنْ ينشطوا في قضاء حوائجه، وأنْ يسامحوه في البيع والشراء، وأنْ يوسعوا له في المكان.. فإن قصَّر فيه مُقصر ثقل ذلك على قلبه، ووجد لذلك استبعادًا في نفسه؛ كأنه يتقاضى الاحترام مع الطاعة التي أخفاها! مع أنه لم يطلع عليه، ولو لم يكن قد سبق منه تلك الطاعة لما كان يستبعد تقصير الناس في حقه! ومهما لم يكن وجود العبادة كعدمها في كل ما يتعلق بالخلق؛ لم يكن قد قنع بعلم الله، ولم يكن خاليًا عن شوب خفي من الرياء أخفى من دبيب النمل. وكل ذلك يوشك أنْ يُحبِط الأجر، ولا يسلم منه إلا الصديقون!
ولم يزل المخلصون خائفين من الرياء الخفي؛ يجتهدون لذلك في مخادعة الناس عن أعمالهم الصالحة؛ يحرصون على إخفائها أعظم مما يحرص الناس على إخفاء فواحشهم، كل ذلك رجاء أن تخلص أعمالهم الصالحة؛ فيجازيهم الله في القيامة بإخلاصهم على ملأ من الخلق؛ إذ علموا أن الله لا يقبل في القيامة إلا الخالص، وعلموا شدة حاجتهم وفاقتهم في القيامة، وأنه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، ولا يجزي والد عن ولده، ويشتغل الصديقون بأنفسهم فيقول كل واحد: نَفْسي.. نَفْسي.. فضلاً عن غيرهم] [الإحياء]
وإذا ورد على العبد وارد الرياء فإما أن يكون: [بعد الفراغ من العبادة: فإذا ورد عليه سرور بالظهور من غير إظهار منه، فهذا لا يحبط العمل؛ لأنه قد تَمَّ على نعت الإخلاص؛ فلا ينعطف ما طرأ عليه بعده، لا سيما إذا لم يتكلف هو إظهاره والتحدث به. أما إنْ تحدَّث به بعد تمامه وأظهره؛ فهذا مخوف، والغالب عليه أنه كان في قلبه وقت مباشرة العمل نوع رياء، فإنْ سلم من الرياء نقص أجره؛ فإنّ بين عمل السر والعلانية سبعين درجة.(1/85)
وإذا ورد الرياء قبل الفراغ من العبادة: كالصلاة التي عقدها على إخلاص؛ فإن كان مجرد سرور لم يؤثر في العمل، وإنْ كان رياءً باعثًا على العمل؛ مثل أنْ يطيل الصلاة ليُرى مكانه؛ فهذا يُحبط الأجر.
وأما ما يقارن العبادة مثل أنْ يبتدئ الصلاة على قصد الرياء؛ فإنْ أتمها على ذلك لم يُعتَد بها، وإنْ ندم فيها على فعله؛ فالذي ينبغي له أنْ يبتدئها. والله أعلم] (1)
وكيف نتقيه..؟
روى أحمد والطبراني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيُّها الناسُ اتَّقُوا الشِّركَ فإنهُ أخفَى مِن دَبِيبِ النَّملِ، قالوا: وكيفَ نَتَّقِيهِ يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: قولوا: اللهمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِن أنْ نُشْرِكَ بِكَ شَيئًا نَعلَمُهُ ونستغفِرُكَ لِمَا لا نعلمُهُ". [قال الألباني في "صحيح الترغيب": حسن لغيره]
إني أويتُ لكلِّ مأوى في الحياةِ
وتَلَمَّسَتْ نَفْسي السبيلَ إلى النجاةِ
وبحثتُ عن سِرِّ السعادةِ جاهِدًا
فليرضَ عني الناسُ أو فليسخَطُواڑڑفما رأيتُ أعزَّ مِن مَأواكَا
فلم تَجِدْ مَنجَى سِوى مَنجاكَا
فوجدتُ هذا السِّرَّ في تقواكَا
أنا لم أَعُدْ أسعَى لغيرِ رضاكَا
الحسابمنبشريات السلامة
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا
سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب
الصلاة - الإخلاص
أولا: حاسبوا أنفسكم
من حضر عند السؤال جوابه؛ حسن منقلبه ومآبه:
قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا (#qà)¨?$# اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } [الحشر: 18]
__________
(1) مختصر منهاج القاصدين (ملخصًا)(1/86)
أمر سبحانه العبد أن ينظر ما قدم لغد، وذلك يتضمن محاسبة نفسه على ذلك، والنظر هل يصلح ما قدمه أن يلقى الله به، أو لا يصلح؟ والمقصود من هذا النظر ما يوجبه ويقتضيه من كمال الاستعداد ليوم المعاد، وتقديم ما ينجيه من عذاب الله، ويبيض وجهه عند الله.. [(ولتنظر نفس): نَكَّر "النفس" تقليلا للأنفس النواظر فيما قدمن للآخرة! (ما قدمت لغد): يعني يوم القيامة، سماه باليوم الذي يلي يومك؛ تقريبًا له. أو عبر عن الآخرة بالغد؛ كأن الدنيا والآخرة نهاران: يوم وغد..! وتنكيره لتعظيم أمره. أي أنه لا يُعرَف كنهُه لعظمه. (واتقوا الله): كرر الأمر بالتقوى تأكيدًا.] [تفسير النسفي]
فالله عز وجل [يأمر عباده المؤمنين بما يوجبه الإيمان ويقتضيه من لزوم تقواه، سرًّا وعلانية، في جميع الأحوال، وأن يراعوا ما أمرهم الله به من أوامره وشرائعه وحدوده، وينظروا ما لهم وما عليهم، وماذا حصلوا عليه من الأعمال التي تنفعهم أو تضرهم في يوم القيامة، فإنهم إذا جعلوا الآخرة نصب أعينهم وقِبلة قلوبهم، واهتموا بالمقام بها، اجتهدوا في كثرة الأعمال الموصلة إليها، وتصفيتها من القواطع والعوائق التي توقفهم عن السير أو تعوقهم أو تصرفهم. وإذا علموا أيضًا، أن الله خبير بما يعملون، لا تخفى عليه أعمالهم، ولا تضيع لديه ولا يهملها، أوجب لهم الجد والاجتهاد.
وهذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه، وأنه ينبغي له أن يتفقدها، فإن رأى زللاً تداركه بالإقلاع عنه، والتوبة النصوح، والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه، وإن رأى نفسه مقصرًا في أمر من أوامر الله، بذل جهده واستعان بربه في تكميله وتتميمه، وإتقانه، ويقايس بين منن الله عليه وإحسانه وبين تقصيره، فإن ذلك يوجب له الحياء بلا محالة.(1/87)
والحرمان كل الحرمان، أن يغفل العبد عن هذا الأمر، ويشابه قومًا نسوا الله وغفلوا عن ذكره والقيام بحقه، وأقبلوا على حظوظ أنفسهم وشهواتها، فلم ينجحوا، ولم يحصلوا على طائل، بل أنساهم الله مصالح أنفسهم، وأغفلهم عن منافعها وفوائدها، فصار أمرهم فرطًا، فرجعوا بخسارة الدارين، وغبنوا غبنًا لا يمكنهم تداركه، ولا يجبر كسره، لأنهم هم الفاسقون، الذين خرجوا عن طاعة ربهم وأوضعوا في معاصيه، فهل يستوي مَن حافظ على تقوى الله ونظر لما قدم لغده، فاستحق جنات النعيم، والعيش السليم -مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين- ومَن غفل عن ذكر الله، ونسي حقوقه، فشقي في الدنيا، واستحق العذاب في الآخرة، فالأولون هم الفائزون، والآخرون هم الخاسرون.] [تيسير الكريم الرحمن]
[والتقوى حالة في القلب يشير إليها اللفظ بظلاله، ولكن العبارة لا تبلغ تصوير حقيقتها. حالة تجعل القلب يقظًا حساسًا شاعرًا بالله في كل حالة. خائفًا متحرجًا مستحييًا أنْ يطلع عليه الله في حالة يكرهها. وعين الله على كل قلب في كل لحظة؛ فمتى يأمن أنْ لا يراه؟!
(ولتنظر نفس ما قدمت لغد..) وهو تعبير كذلك ذو ظلال وإيحاءات أوسع من ألفاظه.. ومجرد خطوره على القلب يفتح أمامه صفحة أعماله، بل صفحة حياته، ويمد ببصره في سطورها كلها يتأملها وينظر رصيد حسابه بمفرداته وتفصيلاته. لينظر ماذا قدم لغده في هذه الصفحة.. وهذا التأمل كفيل بأنْ يوقظه إلى مواضع ضعف ومواضع نقص ومواضع تقصير، مهما يكن قد أسلف من خير وبذل من جهد. فكيف إذا كان رصيده من الخير قليلاً، ونصيبه من البر ضئيلاً؟ إنها
لمسة لا ينام بعدها القلب أبدًا، ولا يكف عن النظر والتقليب..!
ولا تنتهي الآية التي تثير كل هذه المشاعر حتى تلح على القلوب المؤمنة بمزيد من الإيقاع: (واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون..) فتزيد هذه القلوب حساسية ورهبة واستحياء.. (والله خبير بما يعملون..)(1/88)
وبمناسبة ما تدعوهم إليه هذه الآية من يقظة وتذكر يحذرهم في الآية التالية من أن يكونوا (كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم..) وهي حالة عجيبة، ولكنها حقيقة.. فالذي ينسى الله يهيم في هذه الحياة بلا رابطة تشده إلى أفق أعلى، وبلا هدف لهذه الحياة يرفعه عن السائمة التي ترعى. وفي هذا نسيان لإنسانيته. وهذه الحقيقة تضاف إليها أو تنشأ عنها حقيقة أخرى، وهي نسيان هذا المخلوق لنفسه فلا يدخر لها زادًا للحياة الطويلة الباقية، ولا ينظر فيما قدم لها في الغداة من رصيد.
(أولئك هم الفاسقون..) المنحرفون الخارجون.] [في ظلال القرآن]
وقد [عرف أرباب البصائر من جملة العباد أن الله تعالى لهم بالمرصاد، وأنهم سيناقَشون في الحساب، ويطالَبون بمثاقيل الذر من الخطرات واللحظات، وتحققوا أنه لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة، وصدق المراقبة، ومطالبة النفس في الأنفاس والحركات، ومحاسبتها في الخطرات واللحظات.. فمَن حاسب نفسه قبل أن يُحاسَب خَفَّ في القيامة حسابه، وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه.. ومَن لم يحاسب نفسه دامت حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزى والمقت سيئاته..] [الإحياء (ملخصًا)]
فإذا كان العبد مسئولاً ومحاسبًا على كل شىء حتى على سمعه وبصره وقلبه كما قال تعالى: { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا }
[الإسراء:36] فهو حقيق أن يحاسب نفسه قبل أن يُناقَش الحساب.
فإن [هلاك القلب من إهمال محاسبة النفس، ومن موافقتها واتباع هواها، وفي الحديث: "الكَيِّسُ مَن دانَ نفسَهُ(1)، وعملَ لما بعدَ الموتِ، والعاجزُ مَن أتبعَ نفسَهُ هواها، وتَمَنَّى على اللهِ". [رواه أحمد والترمذي عن شداد بن أوس، وضعفه الألباني]
__________
(1) دان نفسه أي: حاسبها.(1/89)
وذكر الإمام أحمد عن وهب قال: مكتوب في حكمة آل داود: حق على العاقل أن لا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصدقونه عن نفسه، وساعة يتخلى فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل؛ فإن في هذه الساعة عونًا على تلك الساعات، وإجمامًا للقلوب. [رواه البيهقي في "شعب الإيمان"]
وكان الأحنف بن قيس يجيء إلى المصباح، فيضع أصبعه فيه ثم يقول: حِس يا حُنَيف! ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟
وقد مثلت النفس مع صاحبها بالشريك في المال، فكما أنه لا يتم مقصود الشركة من الربح إلا بالمشارطة على ما يفعل الشريك أولاً، ثم بمطالعة ما يعمل والإشراف عليه ومراقبته ثانيًا، ثم بمحاسبته ثالثًا، ثم يمنعه من الخيانة إن اطلع عليه رابعًا.. فكذلك النفس: يشارطها أولاً على حفظ الجوارح السبعة، التي حفظها هو رأس المال، والربح بعد ذلك، فمَن ليس له رأس مال فكيف يطمع في الربح؟ وهذه الجوارح السبعة؛ وهي: العين والأذن والفم والفرج واليد والرجل هي مراكب العطب والنجاة؛ فمنها عطب مَن عطب بإهمالها وعدم حفظها، ونجا مَن نجا بحفظها
ومراعاتها.. فحفظها أساس كل خير، وإهمالها أساس كل شر..
فإذا شارطها على حفظ هذه الجوارح، انتقل منها إلى مطالعتها والإشراف عليها ومراقبتها، فلا يهملها؛ فإنه إن أهملها لحظة رتعت في الخيانة ولا بد.. فإنْ
تمادى على الإهمال تمادت في الخيانة حتى تُذهب رأس المال كله!!
فمتى أحس بالنقصان انتقل إلى المحاسبة؛ فحينئذ يتبين له حقيقة الربح والخسران.. فإذا أحس بالخسران وتيقنه استدرك منها ما يستدركه الشريك من شريكه؛ مِن الرجوع عليه بما مضى، والقيام بالحفظ والمراقبة في مراقبته ومحاسبته، وليحذر مِن إهماله.(1/90)
ويعينه على هذه المراقبة والمحاسبة معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غدًا؛ إذا صار الحساب إلى غيره.. وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غدًا.
ويعينه عليها أيضًا معرفته أن ربح هذه التجارة سكنى الفردوس، والنظر إلى وجه الرب سبحانه.. وخسارتها دخول النار، والحجاب عن الرب تعالى.. فإذا تيقن هذا هان عليه الحساب اليوم.
فحق على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه، والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها، وخطراتها وخطواتها.. فكل نَفَس مِن أنفاس العمر جوهرة نفيسة، يمكن أن يشتري بها كنزًا من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبد الآباد.. فإضاعة هذه الأنفاس، أو اشتراء صاحبها بها ما يجلب هلاكه خسران عظيم، لا يسمح بمثله إلا أجهل الناس، وأحمقهم، وأقلهم عقلاً.. وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن: { يَوْمَ ك‰إfs? كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ #Xچںزّt'C وَمَا عَمِلَتْ مِنْ &نûqك™ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ $ygsY÷ t/ وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا } ] [إغاثة اللهفان ]
والمحاسبة تتوقف على نور الحكمة؛ وهو النور الذي نَوَّر الله به قلوب أتباع الرسل، وهو العلم الذي يميز به العبد بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والضار والنافع، والكامل والناقص، والخير والشر.. وكلما كان حظ العبد من هذا النور أقوى كان حظه من المحاسبة أكمل وأتم.(1/91)
فـ[الحمد لله القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على كل جارحة بما اجترحت، المطلع على ضمائر القلوب إذا هجست، الحسيب على خواطر عباده إذا اختلجت، الذى لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات والأرض تحركت أو سكنت، المحاسب على النقير والقِطمير والقليل والكثير من الأعمال وإن خفيت، المتفضل بقبول طاعات العباد وإن صغرت، المتطول بالعفو عن معاصيهم وإن كثرت، وإنما يحاسبهم لتعلم كل نفس ما أحضرت، وتنظر فيما قدمت وأخرت، فتعلم أنه لولا لزومها للمراقبة والمحاسبة في الدنيا لشقيت في صعيد القيامة وهلكت، وبعد المجاهدة والمحاسبة والمراقبة لولا فضله بقبول بضاعتها المزجاة لخابت وخسرت..
وسبحان من عمت نعمته كافة العباد وشملت، واستغرقت رحمته الخلائق في الدنيا والآخرة وغمرت، فبنفحات فضله اتسعت القلوب للإيمان وانشرحت، وبيمن توفيقه تقيدت الجوارح بالعبادات وتأدبت، وبحسن هدايته انجلت عن القلوب ظلمات الجهل وانقشعت، وبتأييده ونصرته انقطعت مكايد الشيطان واندفعت، وبلطف عنايته تترجح كفة الحسنات إذا ثقلت، وبتيسيره تيسرت من الطاعات ما تيسرت.. فمنه العطاء والجزاء، والإبعاد والإدناء، والإسعاد والإشقاء..] [إحياء علوم الدين]
- - -
من بديع أقوالهم في المحاسبة:
ذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: حاسبوا أنفسكم قبل أنْ تُحاسَبوا، وزنوا أنفسكم قبل أنْ تُوزنوا؛ فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أنْ تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر، يومئذ تُعرضون لا تخفى منكم خافية.
قال الحسن البصري: - لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه: ماذا أردتِ تعملين؟ وماذا أردتِ تأكلين؟ وماذا أردتِ تشربين؟ والفاجر يَمضي قُدُمًا لا يحاسب نفسه.(1/92)
- يا ابن آدم! دينك.. دينك؛ فإنه هو لحمك ودمك.. إن يسلم لك دينك يسلم لك لحمك ودمك، وإن تكن الأخرى فنعوذ بالله؛ فإنها نار لا تطفأ وجرح لا يبرأ، وعذاب لا ينفد أبدًا، ونفس لا تموت.. يا ابن آدم! إنك موقوف بين يدي ربك، ومرتهن بعملك؛ فخذ مما في يديك لما بين يديك.. عند الموت يأتيك الخبر؛ إنك مسئول ولا تجد جوابًا.. إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همه.
- المؤمن قَوَّام على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة.. إن المؤمن يفاجئه الشيء ويعجبه فيقول: والله إني لأشتهيك، وإنك لمن حاجتي، ولكن والله ما من صلة إليك.. هيهات هيهات.. حيل بيني وبينك. ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا؟ مالي ولهذا؟ والله لا أعود إلى هذا أبدًا.. إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن، وحال بينهم وبين هلكتهم.. إن المؤمن أسير في الدنيا، يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئًا حتى يلقى الله، يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه، وفي بصره، وفي لسانه، وفي جوارحه، مأخوذ عليه في ذلك كله..
وقال قتادة في قوله تعالى: { وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } [الكهف: 28]: أضاع نفسه؛ مع ذلك تراه حافظًا لماله، مُضيعًا لدينه.
وقال ميمون بن مهران: لا يكون العبد تقيًّا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة مِن الشريك لشريكه؛ ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوان إنْ لم تحاسبه ذهب
بمالك.
وقال في لفظ آخر: إن التقي أشد محاسبة لنفسه مِن سلطان غاشم، ومِن شريك شحيح.
وكتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى بعض عماله: حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة؛ فإن مَن حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومَن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة.(1/93)
قال مالك بن دينار: رحم الله عبدًا قال لنفسه: ألستِ صاحبة كذا؟ ألستِ صاحبة كذا؟ ثم زَمَّها، ثم خَطَمها، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل؛ فكان لها قائدًا.
وقال أيضًا: سمعت الحجاج يخطب، وهو يقول: رحم الله امرءًا حاسب نفسه قبل أن يصير الحساب إلى غيره، رحم الله امرءًا أخذ بعنان عمله فنظر ماذا يريد به، رحم الله امرءًا نظر في مكياله، رحم الله امرءًا نظر في ميزانه.. فما زال يقول حتى أبكاني.
- - -
محاسبة النفس نوعان:
محاسبة النفس قبل العمل : [وهو أن يقف عند أول همه وإرادته، ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه.
قال الحسن: رحم الله عبدًا وقف عند همه، فإنْ كان لله مضى، وإن كان لغيره تأخر.
وشرح هذا بعضهم فقال: إذا تحركت النفس لعمل من الأعمال، وهمَّ به العبد وقف أولاً، ونظر: هل ذلك العمل مقدور له، أو غير مقدور ولا مستطاع؟ فإن لم يكن مقدورًا لم يقدم عليه، وإن كان مقدورًا وقف وقفة أخرى، ونظر: هل فعله خير له مِن تركه، أو تركه خير له مِن فعله، فإن كان الثاني تركه، ولم يُقدِم عليه، وإنْ كان الأول وقف وقفة ثالثة، ونظر: هل الباعث عليه إرادة وجه الله عز وجل وثوابه، أو إرادة الجاه والثناء والمال من المخلوق؟ فإن كان الثاني لم يُقدِم عليه، وإن أفضى به إلى مطلوبه لئلا تعتاد النفس الشرك، ويخف عليها العمل لغير الله، فبقدر ما يخف عليها ذلك يثقل عليها العمل لله تعالى، حتى يصير أثقل شيء عليها! وإن كان الأول وقف وقفة أخرى ونظر: هل هو معان عليه، وله أعوان يساعدونه وينصرونه إذا كان العمل محتاجًا إلى ذلك أم لا؟ فإنْ لم يكن له أعوان أمسك عنه كما أمسك النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الجهاد بمكة حتى صار له شوكة وأنصار، وإن وجده معانًا عليه فليُقدِم عليه؛ فإنه منصور.(1/94)
ولا يُفَوِّت النجاح إلا مَن فَوَّت خصلة مِن هذه الخصال، وإلا فمع اجتماعها لا يفوته النجاح، فهذه أربعة مقامات يحتاج إلى محاسبة نفسه عليها قبل العمل:
- فما كل ما يريد العبد فعله يكون مقدورًا له.
- ولا كل ما يكون مقدورًا له يكون فعله خيرًا له مِن تركه.
- ولا كل ما يكون فعله خيرًا له مِن تركه يفعله لله.
- ولا كل ما يفعله لله يكون معانًا عليه.
فإذا حاسب نفسه على ذلك تبين له ما يُقدِم عليه، وما يُحجِم عنه.
محاسبة النفس بعد العمل : وهو ثلاثة أنواع:
أحدها: محاسبتها على طاعة قصرت فيها من حق الله تعالى، فلم توقعها على الوجه الذي ينبغي. وحق الله تعالى في الطاعة ستة أمور؛ وهي: الإخلاص في العمل، والنصيحة لله فيه، ومتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه، وشهود مشهد الإحسان فيه، وشهود منة الله عليه، وشهود تقصيره فيه بعد ذلك كله.. فيحاسب نفسه: هل وَفَّى هذه المقامات حقها؟ وهل أتى بها في هذه الطاعة؟
الثاني: أن يحاسب نفسه على كل عمل كان تركه خيرًا له مِن فعله.
الثالث: أن يحاسب نفسه على أمر مباح أو معتاد؛ لِمَ فعله؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة؛ فيكون رابحًا؟ أو أراد به الدنيا وعاجلها؛ فيخسر ذلك الربح، ويفوته الظفر به؟
وأضر ما عليه الإهمال، وترك المحاسبة والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتها؛ فإن هذا يؤول به إلى الهلاك، وهذه حال أهل الغرور.. يُغمض عينيه عن العواقب ويمشي الحال، ويتكل على العفو؛ فيهمل محاسبة نفسه، والنظر في العاقبة.. وإذا فعل ذلك سهل عليه مواقعة الذنوب، وأنس بها، وعسر عليها فطامها، ولو حضره رشده لعلم أنّ الحِمية أسهل من الفطام وترك المألوف والمعتاد.(1/95)
قال ابن أبي الدنيا: حدثني رجل من قريش ذكر أنه من ولد طلحة بن عبيد الله قال: كان "توبة بن الصمة" بـ"الرَّقَّة"، وكان محاسبًا لنفسه، فحسب يومًا فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيامها فإذا هي واحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم.. فصرخ وقال: يا ويلتي..! ألقى ربي بواحد وعشرين ألف ذنب..! كيف، وفي كل يوم آلاف من الذنوب..؟! ثم خر مغشيًّا عليه؛ فإذا هو ميت! فسمعوا قائلاً يقول: يا لكِ ركضة إلى الفردوس الأعلى!
وجماع ذلك أن يحاسب نفسه أولاً على الفرائض، فإن تذكر فيها نقصًا تداركه إما بقضاء أو إصلاح، ثم يحاسبها على المناهي فإنْ عرف أنه ارتكب منها شيئًا تداركه بالتوبة والاستغفار، والحسنات الماحية.. ثم يحاسب نفسه على الغفلة؛ فإن كان قد غفل عما خُلِق له تداركه بالذكر والإقبال على الله تعالى.. ثم يحاسبها بما تكلم به، أو مشت إليه رجلاه، أو بطشت يداه، أو سمعته أذناه: ماذا أرادت بهذا؟ ولمن فعلته؟ وعلى أي وجه فعلته؟
ويعلم أنه لابد أنْ يُنشَر لكل حركة وكلمة منه ديوانان: ديوان لمن فعلته؟ وكيف فعلته؟ فالأول سؤال عن الإخلاص، والثاني سؤال عن المتابعة.] [إغاثة اللهفان]
حقيقة المحاسبة بعد العمل :
فـ[ينبغى أن يكون للعبد في آخر النهار ساعة يطالب فيها النفس، ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كل سنة أو شهر أو يوم حرصًا منهم على الدنيا، وخوفًا من أنْ يفوتهم منها ما لو فاتهم لكانت الخيرة لهم في فواته، ولو حصل ذلك لهم فلا يبقى إلا أيامًا قلائل! فكيف لا يحاسب العاقل نفسه فيما يتعلق به خطر الشقاوة والسعادة أبد الآباد؟ ما هذه المساهلة إلا عن الغفلة والخذلان وقلة التوفيق؛ نعوذ بالله من ذلك.(1/96)
ومعنى المحاسبة مع الشريك أن ينظر في رأس المال وفي الربح والخسران ليتبين له الزيادة من النقصان.. فإن كان من فضل حاصل استوفاه وشكره، وإن كان من خسران طالبه بضمانه، وكلفه تداركه في المستقبل.. فكذلك رأس مال العبد في دينه الفرائض، وربحه النوافل والفضائل، وخسرانه المعاصي.. وموسم هذه التجارة جملة النهار، وعامله نفسه الأمارة بالسوء، فيحاسبها على الفرائض أولا؛ فإن أداها على وجهها شكر الله تعالى عليه، ورغبها في مثلها، وإن فوتها من أصلها طالبها بالقضاء، وإن أداها ناقصة كلفها الجبران بالنوافل.. وإن ارتكب معصية اشتغل بعقوبتها ومعاتبتها ليستوفي منها ما يتدارك به ما فرط، كما يصنع التاجر بشريكه، وكما أنه يفتش في حساب الدنيا عن الحبة والقيراط؛ فيحفظ مداخل الزيادة والنقصان حتى لا يُغبَن في شيء منها.. فينبغي أنْ يتقي غبينة النفس ومكرها؛ فإنها خداعة مكارة.. فليطالبها أولا بتصحيح الجواب عن جميع ماتكلم به طول نهاره، وليتكفل بنفسه من الحساب ما سيتولاه غيره في صعيد القيامة، وهكذا عن نظره، بل عن خواطره وأفكاره، وقيامه وقعوده، وأكله وشربه، ونومه.. حتى عن سكوته
أنه؛ لِمَ سكت؟ وعن سكونه؛ لِمِ سكن؟
فإذا عرف مجموع الواجب على النفس، وصح عنده قدر أدى الواجب فيه؛ كان ذلك القدر محسوبًا له، فيظهر له الباقي على نفسه، فليثبته عليها، وليكتبه على صحيفة قلبه؛ كما يكتب الباقي الذي على شريكه على قلبه وفي جريدة حسابه..
ثم النفس غريم يمكن أن يستوفي منه الديون؛ أما بعضها فبالغرامة والضمان، وبعضها برد عينه، وبعضها بالعقوبة لها على ذلك.. ولا يمكن شيء من ذلك إلا بعد تحقيق الحساب، وتمييز الباقي من الحق الواجب عليه؛ فإذا حصل ذلك اشتغل بعده بالمطالبة والاستيفاء..
ثم ينبغي أن يحاسب النفس على جميع العمر؛ يومًا.. يوما، وساعة.. ساعة في جميع الأعضاء الظاهرة والباطنة.(1/97)
وينبغى أن يحاسب العبد نفسه على الأنفاس، وعلى معصيته بالقلب والجوارح في كل ساعة، ولو رمى العبد بكل معصية حجرًا في داره لامتلأت داره في مدة يسيرة قريبة من عمره، ولكنه يتساهل في حفظ المعاصي؛ والملكان يحفظان عليه ذلك؛ أحصاه الله ونسوه. ] [إحياء علوم الدين]
إلى كم ذا التراخي والتمادي
تُحاذِينا المَنِيَّةُ كلَّ وقتٍ
وأنفاسُ النفوسِ إلى انفضاضٍ
إذا ما الزرعُ قارنَهُ اصفرارٌ
كأني بالمَشيبِ وقد تَبَدَّى
وقالوا: قد مضى فاقروا عليهِ
ڑڑوحادي الموتِ بالأرواحِ حادي
وما نُصغي لقولٍ مِن منادي
ولكنَّ الذنوبَ لفي ازديادِ
فليس دواؤه غيرَ الحَصادِ
وبالأخرى يناديها المنادي
سلاماتٍ إلى يومِ التنادِ
- - -
فوائد محاسبة النفس :
و[في محاسبة النفس عدة مصالح، منها: الاطلاع على عيوبها، ومَن لم يطلع على عيب نفسه، لم يمكنه إزالته، فإذا اطلع على عيبها مقتها في ذات الله تعالى.
ومن فوائد محاسبة النفس أنه يعرف بذلك حق الله تعالى، ومَن لم يعرف حق الله تعالى عليه؛ فإن عبادته لا تكاد تجدي عليه، وهي قليلة المنفعة جدا!
ومن أنفع ما للقلب النظر في حق الله على العباد؛ فإن ذلك يورثه مقت نفسه والإزراء عليها، ويخلصه من العجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربه، واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ومغفرته ورحمته؛ فإن من حقه أن يُطاع ولا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر.. فمَن نظر في هذا الحق الذي لربه عليه علم علم اليقين أنه غير مؤدٍّ له كما ينبغي، وأنه لا يسعه إلا العفو والمغفرة، وأنه إن أحيل على عمله هلك..(1/98)
فهذا محل نظر أهل المعرفة بالله تعالى وبنفوسهم، وهذا الذي أيأسهم من أنفسهم، وعَلَّق رجاءهم كله بعفو الله ورحمته.. وإذا تأملت حال أكثر الناس وجدتهم بضد ذلك ينظرون في حقهم على الله، ولا ينظرون في حق الله عليهم، ومِن ههنا انقطعوا عن الله، وحُجِبت قلوبهم عن معرفته ومحبته، والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره.. وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه.
فمحاسبة النفس هو نظر العبد في حق الله عليه أولا، ثم نظره: هل قام به كما ينبغي ثانيا؟ وأفضل الفكر الفكر في ذلك؛ فإنه يسير القلب إلى الله، ويطرحه بين يديه ذليلاً خاضعًا منكسرًا كسرًا؛ فيه جبره، ومفتقرًا فقرًا؛ فيه غناه، وذليلاً ذلاًّ؛ فيه عزه.. ولو عمل من الأعمال ما عساه أن يعمل؛ فإنه إذا فاته هذا فالذي فاته مِن البر أفضل من الذي أتى!] [إغاثة اللهفان]
وليعلم العبد أن [أصل كل معصية وغفلة وشهوة؛ الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة ويقظة وعفة؛ عدم الرضا عنها.
يعني أن النظر إلى النفس بعين الرضا يوجب تغطية عيوبها، ويصير قبيحها حسنًا. والنظر إليها بعين السخط يكون بضد ذلك.
فمن رضي عن نفسه استحسن حالها، فتستولي عليه الغفلة عن الله تعالى؛ فينصرف قلبه عن مراعاة خواطره؛ فتثور عليه الشهوة وتغلبه لعدم وجود المراقبة القلبية التي تدفعها؛ فيقع في المعاصي لا محالة.
وعطف (الغفلة) و(الشهوة) على (المعصية) من عطف السبب على المسبب، وكذا عطف (اليقظة) و(العفة) على (الطاعة)؛ فإن اليقظة التي هي التنبه لما يرضي الله تعالى، والعفة التي هي علو الهمة عن الشهوات يتسبب عنهما الطاعة التي هي اتباع المأمورات واجتناب المنهيات. وإنما كان الرضا عن النفس أصل كل المعصية لأنها أمارة بالسوء فهي العدو الملازم. ولله در الإمام البوصيري حيث قال:
وخالفِ النفسَ والشيطانَ واعصِهِما وإنْ هما مَحضَاكَ النُّصحَ فاتَّهِمِ(1/99)
ولا تُطِعْ منهما خَصمًا ولا حكمًا فأنتَ تعرفُ كيدَ الخَصمِ والحَكَمِ](1)
[وأما سوء الظن بالنفس فإنما احتاج إليه؛ لأن حسن الظن بالنفس يمنع من كمال التفتيش، ويُلبِّس عليه؛ فيرى المساوىء محاسن، والعيوب كمالاً.. فإن المحب يرى مساوئ محبوبه وعيوبه كذلك:
فعين ُالرضا عن كلِّ عيبٍ كليلةٌ كما أنَّ عين َالسُّخطِ تُبدِي المساويا
ولا يسيء الظن بنفسه إلا من عرفها، ومَن أحسن ظنه بنفسه فهو من أجهل الناس بنفسه.
ولا بد أن يميز العبد بين المنة والحُجة؛ فكم تلتبس إحداهما عليه بالأخرى؛ فإنّ العبد بين مِنَّة مِن الله عليه، وحُجَّة منه عليه، ولا ينفك عنهما.. فكل عِلم صحبه عمل يُرضِي الله سبحانه فهو مِنة، وإلا فهو حُجة. وكل قوة ظاهرة وباطنة صحبها تنفيذ لمرضاته وأوامره فهي مِنة، وإلا فهي حُجة. وكل حال صحبه تأثير في نصرة دينه والدعوة إليه فهو مِنة منه، وإلا فهو حُجة. وكل مال اقترن به إنفاق في سبيل الله وطاعته؛ لا لطلب الجزاء ولا الشكور فهو مِنة مِن الله عليه، وإلا فهو حُجة. وكل فراغ اقترن به اشتغال بما يريد الرب من عبده فهو مِنة عليه، وإلا فهو حُجة. وكل قبول في الناس وتعظيم ومحبة له؛ اتصل به خضوع للرب وذل وانكسار ومعرفة بعيب النفس والعمل، وبذل النصيحة للخلق فهو مِنة، وإلا فهو حُجة. وكل بصيرة وموعظة وتذكير وتعريف من تعريفات الحق سبحانه إلى العبد؛ اتصل به عِبرة ومزيد في العقل، ومعرفة في الإيمان فهي مِنة، وإلا فهي حُجة.. فليتأمل العبد هذا الموضع العظيم الخطر، ويميز بين مواقع المنن والمحن، والحجج والنعم؛ فما أكثر ما يلتبس ذلك على خواص الناس وأرباب السلوك، والله يهدي مَن يشاء إلى صراط مستقيم.] [مدارج السالكين]
فيا عبد الله..
حاسب نفسك في خلوتك، وتفكر في انقراض مدتك، واعمل في زمان فراغك لوقت شدتك، وتدبر قبل الفعل ما يُملَى في صحيفتك..
__________
(1) شرح الحكم العطائية(1/100)
وانظر.. هل نفسك معك أو عليك في مجاهدتك، لقد سعد مَن حاسبها، وفاز والله مَن حاربها، وقام باستيفاء الحقوق منها وطالبها..
إن القلوبَ يدُ الباري تُقلِّبُها فنسألُ اللهَ توفيقًا وتَثبيتَا
- - -
أقباس نورانية من سيرة السلف في محاسبة النفس:
روي عن عائشة ل أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال لها عند الموت: ما أحد من الناس أحب إليّ من عمر. ثم قال لها: كيف قلت؟ فأعادت عليه ما قال. فقال: لا أحد أعز عليّ من عمر!
فانظر كيف نظر بعد الفراغ من الكلمة فتدبرها، وأبدلها بكلمة غيرها.
كان عمر - رضي الله عنه - يضرب قدميه بالدِّرة إذا جَنَّه الليل، ويقول لنفسه: ماذا عملتِ اليوم؟
وفي "الطبقات الكبرى": [قال الحسن: إنّ عمر بن الخطاب أَبَى إلا شدة وحصرًا على نفسه، فجاء الله بالسعة، فجاء المسلمون فدخلوا على "حفصة"، فقالوا: أبى عمر إلا شدة على نفسه وحصرًا؛ وقد بسط الله في الرزق؛ فليبسط في هذا الفيء فيما شاء منه، وهو في حِلٍّ من جماعة المسلمين.. فكأنها قاربتهم في هواهم، فلما انصرفوا من عندها دخل عليها عمر، فأخبرته بالذي قال القوم؛ فقال لها عمر: يا حفصة بنت عمر! نصحتِ قومك، وغششتِ أباك! إنما حق أهلي في نفسي ومالي، فأما في ديني وأمانتي فلا..
وكان - رضي الله عنه - يتجر وهو خليفة، فجهز عِيرًا إلى الشام، فبعث إلى رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يستقرضه أربعة آلاف درهم، فقال للرسول: قل له يأخذها من بيت المال، ثم ليردها! فلما جاءه الرسول فأخبره بما قال؛ شق ذلك عليه! فلقيه عمر فقال: أنت القائل: ليأخذها من بيت المال؟! فإنْ متُّ قبل أنْ تجيء قلتم: أخذها أمير المؤمنين؛ دعوها له!! وأوخذ بها يوم القيامة؟! لا.. ولكن أردتُ أنْ آخذها مِن رجل حريص شحيح مثلك؛ فإنْ متُّ أخذها من ميراثي.(1/101)
وقال أنس بن مالك - رضي الله عنه -: سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يومًا وقد خرج وخرجتُ معه حتى دخل حائطًا، فسمعتُه يقول -وبيني وبينه جدار وهو في الحائط-: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين! بخ.. بخ.. واللهِ لتتقينَّ الله أو ليعذبنَّك!
وعن محمد بن سيرين أن صهرًا لعمر بن الخطاب قدم عليه، فعرض له أن يُعطيه من بيت المال؛ فانتهره عمر، وقال: أردتَ أن ألقى الله مَلِكًا خائنًا؟!
فلما كان بعد ذلك أعطاه من صلب ماله عشرة آلاف درهم.] أ.هـ
وعن ابن عمر ب قال: قدمت رفقة من التجار فنزلوا المصلى، فقال عمر لعبد الرحمن: هل لك أن تحرسهم الليلة من السرق؟ فباتا يحرسانهم، ويصليان ما كتب الله لهما. فسمع عمر بكاء صبي، فتوجه نحوه، فقال لأمه: اتقي الله وأحسني إلى صبيك! ثم عاد إلى مكانه، فسمع بكاءه، فعاد إلى أمه، فقال لها مثل ذلك! ثم عاد إلى مكانه، فلما كان من آخر الليل سمع بكاءه، فأتى أمه، فقال لها: ويحك! إني لأراك أُمَّ سوء! مالي أرى ابنك لا يقر منذ الليلة؟ قالت: يا عبد الله! قد أبرمتني منذ الليلة! إني أريغه(1) على الفطام فيأبى. قال: ولم؟ قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للفطم! قال: وكم له؟ قالت: كذا وكذا شهرا..! قال: ويحك! لا تعجليه..
فصلى الفجر؛ وما يستبين الناس قراءته من غلبة البكاء.. فلما سلم قال: يا بؤسًا لعمر؛ كم قتل من أولاد المسلمين! ثم أمر مناديًا، فنادى: أن لا تعجلوا صبيانكم عن الفطام؛ فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام. وكتب بذلك إلى الآفاق أنْ يُفرض لكل مولود في الإسلام. [صفة الصفوة]
__________
(1) أي أديره عليه وأريده منه [لسان العرب](1/102)
وعن الأحنف بن قيس قال: لقي رجل عمر - رضي الله عنه - فقال: يا أمير المؤمنين! انطلق معي فأعدِني على فلان؛ فإنه ظلمني! قال: فرفع الدِّرة فخفق بها رأسه، وقال: تَدَعون عمر وهو معرض لكم حتى إذا اشتغل بأمر من أمور المسلمين أتيتموه؛ أعدِني.. أعدِني؟! فانصرف الرجل وهو يتذمر. فقال عمر: عليّ بالرجل.. فألقى إليه المخفقة، وقال: امسك واضربني! قال: لا.. ولكن أدَعها لله ولك. قال: ليس كذلك؛ إما أن تدَعها لله وإرادة ما عنده، أو تدَعها لي؛ فاعلم ذلك. قال: أدَعها لله. قال: انصرف.
ثم جاء يمشي حتى دخل منزله ونحن معه، فافتتح الصلاة، فصلى ركعتين، ثم جلس، وقال: يا ابن الخطاب! كنتَ وضيعًا فرفعك الله، وكنتَ ضالا فهداك الله، وكنتَ ذليلا فأعزك الله، ثم حملك على رقاب المسلمين، فجاءك رجل يستعديك فضربته! ما تقول لربك غدًا إذا أتيته؟!
وظل يعاتب نفسه معاتبة ظننت أنه من خير أهل الأرض. [مناقب عمر لابن الجوزي]
وأخرج الحافظ ابن عساكر من خبر عمر المخزومي عن أبيه، قال: نادى عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - بالصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله وصلى على نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: أيها الناس! لقد رأيتُني أرعى على خالات لي من بني مخزوم، فيقبضن لي القبضة من التمر أو الزبيب، فأظل يومي، وأي يوم! ثم نزل.. فقال له عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: ياأمير المؤمنين! مازدتَ على أن قميتَ نفسك -يعني عبتَ- فقال: ويحك يا ابن عوف! إني خلوتُ فحدثتني نفسي؛ قالت: أنتَ أمير المؤمنين؛ فمن ذا أفضل منك؟ فأردتُ أن أعرفها نفسها.
وفي رواية: إني وجدتُ في نفسي شيئًا فأردتُ أن أطأطئ منها. [تاريخ دمشق]
قِفْ أيها التاريخُ.. سَجِّلْ صفحةً
حَرِّك بسيرتِهِ القلوبَ وقد قَسَتْڑڑغَراءَ تنطِقُ بالخلودِ الكاملِ
وغَدَتْ بقسوتِها كصُمِّ جَنادلِ(1/103)
ذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" أن: السلطان "محمود بن سبكتكين" لما [دخل بلاد الهند، كسر الصنم الأعظم الذي لهم؛ المسمَّى بـ"سومنات"، وقد كانوا يَفِدون إليه من كل فج عميق، كما يفد الناس إلى الكعبة؛ البيت الحرام وأعظم! وينفقون عنده النفقات والأموال الكثيرة التي لا تُوصف ولا تُعد، وكان عليه من الأوقاف عشرة آلاف قرية ومدينة مشهورة! وقد امتلأت خزائنه أموالاً، وعنده ألف رجل يخدمونه، وثلاثمائة رجل يحلقون رءوس حجيجه، وثلاثمائة رجل يغنون ويرقصون على بابه! وكان عنده من المجاورين ألوف يأكلون من أوقافه، وقد كان البعيد من الهنود يتمنى لو بلغ هذا الصنم، وكان يعوقه طول المفاوز وكثرة الموانع والآفات..!!
ثم استخار اللّهَ السلطانُ "محمود" أن يقطع تلك الأهوال إلى هذا الصنم، فندب جيشه لذلك؛ فانتدب معه ثلاثون ألفًا من المقاتلة، ممن اختارهم لذلك سوى المتطوعة.. فسلَّمهم اللّه حتى انتهوا إلى بلد هذا الوثن، ومكنهم الله من قلعه، وأوقدوا تحته النار.
وقد ذكر غير واحد أن الهنود بذلوا للسلطان "محمود" أموالاً جزيلة؛ ليترك لهم هذا الصنم الأعظم! فأشار مَن أشار من الأمراء على السلطان محمود بأخذ الأموال وإبقاء هذا الصنم لهم؛ فقال: حتى أستخير الله عز وجل.. فلما أصبح قال: إني فكرتُ في الأمر الذي ذُكِر؛ فرأيتُ أنه إذا نُوديتُ يومَ القيامةِ: أين "محمود" الذي كسر الصنم؟ أحب إليَّ مِن أنْ يُقال: الذي ترك الصنم لأجل ما يناله من الدنيا!
ثم عزم فكسره؛ فوجد عليه وفيه من الجواهر واللآلئ والذهب والجواهر النفيسة ما ينيف على ما بذلوه له بأضعاف مضاعفة!! ونرجو من الله له في الآخرة الثواب الجزيل الذي مثقال دانق منه خير من الدنيا وما فيها؛ مع ما حصل له من الثناء الجميل الدنيوي، فرحمه الله وأكرم مثواه.] [حوادث سنة 418 هـ](1/104)
أخرج أبو عبد الله الحاكم من حديث المقداد بن عمرو - رضي الله عنه - قال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَبْعَثًا، فلما رجعت قال: كيف تجد نفسك؟ قلت: مازلت حتى ظننت أنَّ مَن معي خَوَلي..(1) وايم الله؛ لا أعمل على رجلين بعدها. [قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وأقره الذهبي]
فهذا مثال للورع والشدة في محاسبة النفس، فحينما أحس المقداد - رضي الله عنه - بأن نفسه قد تعاظمت بعض الشيء من أثر احترام الناس وتقديرهم له نفرَ من تلك الولاية التي خاف على دينه منها، وآلي على نفسه أن لا يتولى عملا في حياته.
وإن في هذا الخبر درسًا حيًّا للمسئولين الذين يُخدعون بمناصبهم؛ فتتغير حالهم بعد توليهم المسئولية، ويداخلهم شيء من الغرور والكبرياء، وربما تلا ذلك شيء من ظلم الناس وتأخير حقوقهم.. فليَعْلَم هؤلاء أنهم قد اختاروا الدنيا على الآخرة، وآثروا حظ أنفسهم على ابتغاء رضوان الله تعالى، ولئن خُيِّل إليهم أنهم قد كسبوا شيئًا من الجاه الدنيوي؛ فلقد خسروا كثيرًا حينما لم يضعوا في حسابهم العمل لما بعد الموت. [مواقف في الورع للحميدي]
أخرج أبو عيسى الترمذي والنسائي من حديث أبي وائل - رضي الله عنه - قال: جاء معاوية إلى أبي هاشم بن عتبة؛ وهو مريض يعوده، فوجده يبكي، فقال: ياخالُ! مايبكيك؟ أَوَجعٌ يُشئزك (أي: يقلقك)؟ أم حرصٌ على الدنيا؟ قال: كلا.. ولكنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عهد إلينا عهدًا لم آخذ به! قال: وما ذلك؟ قال: سمعته يقول: "إنما يكفي مِن جمعِ المالِ خادمٌ ومركبٌ في سبيل الله". وأجدني اليوم قد جمعت!
وفي رواية: فلما مات حُصِّل ما خلَّف فبلغ ثلاثين درهمًا، وحُسبتْ فيه القصعة التي كان يعجن فيها، وفيها كان يأكل.(2)
__________
(1) خدم لي.
(2) قال الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب": حسن لغيره.(1/105)
فهذا مثل من الخوف من الله تعالى، وإحساس قوي ودقة في محاسبة النفس من هذا الصحابي الجليل "أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة القرشي"؛ حيث ذكر وهو مريض ما أوصاهم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الزهد في الدنيا والتقلل منها، فبكى من خشية الله تعالى، مع أنه كان من الزاهدين؛ حيث لم يبلغ ما خلَّفه بعد موته ثلاثين درهمًا! ولكن من شدة خشيته تصور ماعنده من القليل كثيرًا؛ وهذا دليل على قوة الإيمان وشدة استحضار عظمة الله تعالى والدار الآخرة.
وهذا الذي بكى مما تصوَّر عدم تحقيقه ليس واجبًا شرعًا؛ لأنه لم يترك واجبًا ولم يرتكب محرمًا، وإنما هو من كمال الدين، ولكنَّ أهلَ الطموح نحو الكمال في الدين يسوؤهم ويقضُّ مضاجعهم مايشعرون به من نقص في الحسنات؛ وهم قادرون على أن يبلغوا الكمال. [مواقف في الورع]
ثانيا: سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب
روى البخاري في صحيحه عن شعبة قال: سمعتُ حصين بن عبد الرحمن قال: كنتُ قاعدًا عند سعيد بن جبير فقال عن ابن عباس ب: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يدخلُ الجنةَ مِن أُمَّتي سبعونَ ألفًا بغيرِ حسابٍ، همُ الذينَ لا يَسترقون، ولا يَتطيرون، وعلى ربِّهِم يتوكلون".
وفي صحيح مسلم عن محمد بن سيرين قال: حدثني عمران قال: قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: "يدخلُ الجنةَ مِن أُمَّتي سبعونَ ألفًا بغيرِ حسابٍ". قالوا: ومَن هُم يا رسولَ اللهِ؟ قال: "هُمُ الذينَ لا يَكتوونَ، ولا يَسترقونَ، وعلى ربِّهِم يتوكلونَ". فقام عُكَّاشَةُ فقال: اِدْعُ اللهَ أنْ يجعلني منهم. قال: "أنتَ منهم". قال: فقامَ رجلٌ فقال: يا نبيَّ اللهِ! اِدْعُ اللهَ أنْ يجعلني منهم. قال: "سبقَكَ بها عُكَّاشَةُ".
[قوله: (يدخل الجنة سبعون ألفًا بغير حساب) فيه إشارة إلى أنَّ مِن المكلَّفين مَن لا يُحاسَب أصلاً، ومنهم مَن يُحاسَب حسابًا يسيرًا، ومنهم مَن يُناقَش الحساب.(1/106)
قوله: (كانوا لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) اتفق على ذكر هذه الأربع معظم الروايات، وإن كان عند البعض تقديم وتأخير.
(الرُّقْيَة) في ذاتها ليست ممنوعة وإنما منع منها ما كان شركًا أو احتمله، ومِن ثَم قال - صلى الله عليه وسلم -: "اعرِضوا عليَّ رُقاكم، ولا بأسَ بالرُّقَى ما لم يكنْ شركٌ". ففيه إشارة إلى علة النهى.
قال القرطبي: الرقى بأسماء الله تعالى تقتضي التوكل عليه، والالتجاء إليه والرغبة فيما عنده، والتبرك بأسمائه. فلو كان ذلك قادحًا في التوكل لقدح الدعاء؛ إذ لا فرق بين الذكر والدعاء. وقد رَقَى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ورُقِي، وفعله السلف والخلف. فلو كان مانعًا من اللحاق بالسبعين أو قادحًا في التوكل لم يقع مِن هؤلاء؛ وفيهم مَن هو أعلم وأفضل ممن عداهم. وتعقب بأنه بنى كلامه على أن السبعين المذكورين أرفع رتبة من غيرهم مطلقًا.
وقد أخرج أحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان من حديث رفاعة الجهني قال: أقبلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر حديثًا وفيه: "وعدني ربي أنْ يُدخِل الجنةَ مِن أمتي سبعينَ ألفًا بغيرِ حسابٍ، وإني لأرجو أنْ لا يدخلوها حتى تبوءوا أنتم ومَن صلحَ مِن أزواجِكم وذرياتِكم مساكنَ في الجنةِ". فهذا يدل على أنّ مزية السبعين بالدخول بغير حساب لا يستلزم أنهم أفضل من غيرهم، بل فيمن يُحاسَب في الجملة مَن يكون أفضل منهم، وفيمن يتأخر عن الدخول ممن تحققت نجاته وعَرف مقامه مِن الجنة يشفع في غيره مَن هو أفضل منهم.(1/107)
قوله: (فقام إليه عُكَّاشة) بضم العين وتشديد الكاف ويجوز تخفيفها. كان "عكاشة" من السابقين إلى الإسلام، وكان من أجمل الرجال، وكنيته "أبو مِحْصَن"، وهاجر، وشهد "بدرًا"، وقاتل فيها. قال ابن إسحاق: بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خيرُ فارسٍ في العربِ عُكَّاشة". وقال أيضًا: قاتل يوم بدر قتالاً شديدًا حتى انقطع سيفه في يده، فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جزلاً مِن حطب، فقال: "قاتِلْ بهذا.."، فقاتل به؛ فصار في يده سيفًا طويلاً شديدَ المتن أبيضَ، فقاتل به حتى فتح الله؛ فكان ذلك السيف عنده حتى استشهد في قتال الرِّدة مع خالد بن الوليد سنة اثنتي عشرة.
قوله: (سبقك بها عُكَّاشة) اتفق جمهور الرواة على ذلك. وقد اختلفت أجوبة العلماء في الحكمة في قوله: (سبقك بها عكاشة)، فأخرج ابن الجوزي في "كشف المشكل" من طريق أبي عمر الزاهد أنه سأل أبا العباس أحمد بن يحيى المعروف بـ"ثعلب" عن ذلك، فقال: كان منافقًا. وكذا نقله الدارقطني عن القاضي أبي العباس البِرْتي، فقال: كان الثاني منافقًا، وكان - صلى الله عليه وسلم - لا يُسأل في شيء إلا أعطاه فأجابه بذلك. ونقل ابن عبد البر عن بعض أهل العلم نحو قول "ثعلب".
وقال ابن بطال: معنى قوله: (سبقك..) أي إلى إحراز هذه الصفات؛ وهي التوكل وعدم التطير وما ذكر معه، وعَدَلَ عن قوله: (لست منهم.. أو لست على أخلاقهم..) تلطفًا بأصحابه - صلى الله عليه وسلم - وحسن أدبه معهم.
وقال ابن الجوزي: يظهر لي أن الأول سأل عن صدق قلب فأجيب، وأما الثاني فيحتمل أن يكون أريد به حسم المادة؛ فلو قال للثاني: نعم.. لأوشك أن يقوم ثالث ورابع إلى ما لا نهاية له، وليس كل الناس يصلح لذلك.
وقال القرطبي: لم يكن عند الثاني من تلك الأحوال ما كان عند "عكاشة"؛ فلذلك لم يُجَب؛ إذ لو أجابه لجاز أن يطلب ذلك كل مَن كان حاضرًا، فيتسلسل.. فسدَّ الباب بقوله ذلك.(1/108)
وهذا أولى مِن قول مَن قال: كان منافقًا لوجهين: أحدهما: أن الأصل في الصحابة عدم النفاق؛ فلا يثبت ما يخالف ذلك إلا بنقل صحيح. والثاني: أنه قلَّ أن يصدر مثل هذا السؤال إلا عن قصد صحيح ويقين بتصديق الرسول، وكيف يصدر ذلك من منافق؟ وإلى هذا جنح ابن تيمية، وصحح النووي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم بالوحي أنه يُجاب في "عكاشة"، ولم يقع ذلك في حق الآخر.
وقال السهيلي: الذي عندي في هذا أنها كانت ساعة إجابة علمها - صلى الله عليه وسلم - واتفق أن الرجل قال بعد ما انقضت، ويبينه ما وقع في حديث أبي سعيد: "..ثم جلسوا ساعة يتحدثون.."، وفي رواية ابن إسحاق بعد قوله: "سبقك بها عكاشة، وبردت الدعوة.." أي انقضى وقتها.
قلتُ(1): فتحصل لنا من كلام هؤلاء الأئمة على خمسة أجوبة، والعلم عند الله تعالى. ثم وجدتُ لقول "ثعلب" ومَن وافقه مستندًا؛ وهو ما أخرجه الطبراني ومحمد ابن سنجر في مسنده وعمر بن شيبة في أخبار المدينة من طريق "نافع" مولى "حمنة" عن "أم قيس بنت محصن"؛ وهي أخت "عكاشة": أنها خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى البقيع، فقال: "يُحشرُ مِن هذهِ المقبرةِ سبعون ألفًا يدخلون الجنةَ بغيرِ حسابٍ؛ كأنَّ وجوهَهمُ القمرُ ليلةَ البدرِ". فقام رجل فقال: يا رسول الله! وأنا؟ قال: "وأنت". فقام آخر، فقال: أنا؟ قال: "سبقك بها عكاشة". قال: قلتُ لها: لِمَ لم يقل للآخر؟ فقالت: أراه كان منافقًا.
فإن كان هذا أصل ما جزم به مَن قال: كان منافقًا؛ فلا يدفع تأويل غيره؛ إذ ليس فيه إلا الظن.] [فتح الباري (ملخصًا)]
وهؤلاء السبعون ألفًا صفاتهم هي:
(1) لا يَسترقون
__________
(1) ابن حجر في "فتح الباري".(1/109)
قال العلامة السعدي: [الرقى فيها تفصيل: إن كانت من القرآن أو السنة أو الكلام الحسن؛ فإنها مندوبة في حق الراقي؛ لأنها من باب الإحسان، ولما فيها من النفع. وهي جائزة في حق المرقي؛ إلا أنه لا ينبغي له أن يبتدئ بطلبها؛ فإن مِن كمال توكل العبد وقوة يقينه أنْ لا يسأل أحدًا مِن الخلق لا رقية ولا غيرها. بل ينبغي له إذا سأل أحدًا أن يدعو له أن يلحظ مصلحة الداعي، والإحسان إليه بتسببه لهذه العبودية له مع مصلحة نفسه، وهذا من أسرار تحقيق التوحيد ومعانية البديعة التي لا يُوفَّق للتفقه فيها والعمل بها إلا الكُمَّل من العباد.
وإنْ كانت الرقية يُدعَى بها غير الله، ويُطلَب الشفاء مِن غيره؛ فهذا هو الشرك الأكبر؛ لأنه دعاء واستغاثة بغير الله. فافهم هذا التفصيل، وإياك أن تحكم على الرقى بحكم واحد؛ مع تفاوتها في أسبابها وغاياتها.] [القول السديد في مقاصد التوحيد]
والرقى جمع رقية، وهي القراءة والنفث طلبًا للشفاء والعافية، سواء كانت من القرآن الكريم أو من الأدعية النبوية المأثورة. أي: [من خالص الوحيين: الكتاب والسنة. ومعنى من الوحي الخالص أن لا يدخل فيه غيره من شعوذة المشعبذين، ولا يكون بغير اللغة العربية بل يتلو الآيات على وجهها، والأحاديث كما رُويت، وعلى ما تُلُقيت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلا همز ولا رمز؛ فذلك أي الرقى من الكتاب والسنة هو مِن هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي كان عليه هو وأصحابه والتابعون بإحسان، ومِن شرعته التي جاء بها مؤديًا عن الله عز وجل. ولا اختلاف في سنيته بين أهل العلم؛ إذ قد ثبت ذلك من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوله وتقريره، فرقاه جبريل - عليه السلام -، ورقَى هو - صلى الله عليه وسلم - أصحابَه، وأمر بها، وأقر عليها..(1/110)
ذكر البخاري في صحيحه حديث عائشة ل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينفث على نفسه في المرض الذي مات فيه بالمعوذات، فلما ثقل كنتُ أنفث عليه بهن، وأمسح بيد نفسه لبركتها.
وذكر حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنَّ ناسًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أتوا على حي من أحياء العرب، فلم يُقرُوهم، فبينما هم كذلك إذ لُدغ سيد أولئك، فقالوا: هل معكم من دواء أو راقٍ؟ فقالوا: إنكم لم تُقرونا، ولا نفعل حتى تجعلوا لنا جُعْلاً(1). فجعلوا لهم قطيعًا مِن الشاء، فجعل يقرأ بأم القرآن، ويجمع بُزاقَه ويتفل؛ فبرأ؛ فأتوا بالشاء. فقالوا: لا نأخذه حتى نسأل النبي - صلى الله عليه وسلم -. فسألوه، فضحك وقال:
"وما أدراك أنها رقية؟ خذوها، واضربوا لي بسهم".
وذكر حديث أم سلمة ل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأي في بيتها جارية في وجهها سفعة(2)، فقال: "استرقوا لها؛ فإن بها النظرة".
وذكر حديث عبد الرحمن بن الأسد عن أبيه قال: سألتُ عائشة ل عن الرقية مِن الحُمَة، فقالت: رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرقية من كل ذي حُمَة.
وذكر حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - إذ قال لثابت: ألا أرقيك برقية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: بلى.. قال: "اللهم رَبَّ الناسِ، مُذهبَ الباسِ، اشفِ أنتَ الشافي، لا شافيَ إلا أنتَ، شفاءً لا يُغادرُ سقمًا".
وذكر حديث عائشة ل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول للمريض: "بسمِ اللهِ تربةُ أرضِنا بِرِيقَةِ بعضِنا، يُشفَى سقيمُنا بإذنِ رَبِّنا".
__________
(1) لم تُقرونا: لم تُضيِّفونا - الجُعْل: الأجر على الشيء.
(2) سفعة أي نظرة، يعني: مِن الجن. يقول: بها عين أصابتها من نظر الجن أنفذ من أسنة الرماح. [زاد المعاد](1/111)
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرُّقَى، فجاء آل عمرو بن حزم فقالوا: يارسول الله! إنها كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب، وإنك نهيت عن الرُّقى. قال: فاعرضوها.. فقال: "ما أرى بأسًا؛ مَنِ استطاعَ منكم أنْ ينفعَ أخاهُ فليفعلْ". [رواه مسلم]
ولمسلم عن أبي سعيد الخدري أن جبريل - عليه السلام - أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد! اشتكيتَ؟ قال: نعم. قال: "بسمِ اللهِ أرقيكَ مِن كلِّ شيءٍ يُؤذيكَ، ومِن شَرِّ كلِّ نفسٍ أو عينِ حاسدٍ اللهُ يشفيكَ".] [معارج القبول]
و[قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا رُقيةَ إلا مِن عَينٍ أو حُمَةٍ): أما الحمة، فهي بضم الحاء، وتخفيف الميم، وهي سم العقرب وشبهها. وقيل: حِدَّة السم وحرارته. والمراد: (أو ذي حُمَّة) كالعقرب وشبهها. أي: لا رقية إلا مِن لدغ ذي حمة. وأما العين فهي إصابة العائن غيره بعينه. والعين حق.
قال الخطابي: ومعنى الحديث: لا رُقية أشفى وأولى مِن رُقية العين وذي الحمة. وقد رُقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر بها، فإذا كانت بالقرآن وبأسماء الله تعالى؛ فهي مباحة. وإنما جاءت الكراهة منها لما كان بغير لسان العرب؛ فإنه ربما كان كفرًا، أو قولا يدخله الشرك. قال: ويحتمل أن يكون الذي كُره مِن الرقية ما كان منها على مذاهب الجاهلية في العُوذ التي كانوا يتعاطونها، ويزعمون أنها تدفع عنهم الآفات، ويعتقدون أنها مِن قِبَل الجن ومعونتهم. هذا كلام الخطابي رحمه الله تعالى والله أعلم.] [شرح النووي على مسلم]
[والرُّقَى الموصوفة بكونها شركًا؛ هي الرقى التي منها شرك مِن دعاء غير الله، والاستغاثة والاستعاذة به، كالرقى بأسماء الملائكة والأنبياء والجن، ونحو ذلك. أما الرقى بالقرآن، وأسماء الله وصفاته، ودعائه، والاستعاذة به وحده لا شريك له؛ فليست شركًا، ولا ممنوعة، بل مستحبة أو جائزة.(1/112)
وفي صحيح مسلم عن عوف بن مالك قال: كنا نرقي في الجاهلية، فقلنا: يا رسول الله! كيف ترى في ذلك؟ فقال: "اعرِضوا عليَّ رُقاكم، لا بأسَ بالرُّقَى ما لم يكنْ فيهِ شِركٌ". وفيه عن أنس قال: رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرقية مِن العين والحمة والنملة. وعن عمران بن حصين مرفوعًا: "لا رُقيةَ إلا مِن عينٍ أو حُمَةٍ أو دمٍ". [رواه أبو داود]
وقال ابن التين: الرُّقى بالمعوذات وغيرها من أسماء الله تعالى هو الطب الرباني، فإذا كان على لسان الأبرار مِن الخلق حصل الشفاء بإذن الله تعالى.
فلما عفا (1) هذا النوع فزع الناس إلى الطب الجسماني، وتلك الرُّقَى المنهي عنها؛ التي يستعملها المعزم وغيره ممن يدعي تسخير الجن له، فيأتي بأمور مشتبهة مركبة مِن حق وباطل، يجمع إلى ذكر الله تعالى وأسمائه ما يشوبه من ذكر الشياطين والاستعانة بهم، والتعوذ بِمَرَدَتِهم.
ويقال: إنّ الحية لعداوتها الإنسان بالطبع تُصادق الشياطين لكونهم أعداء بني آدم، فإذا عزم على الحية بأسماء الشياطين جابت وخرجت من مكانها!! وكذا اللديغ إذا رُقي بتلك الأسماء سالت سمومها من بدن الإنسان. ولذلك كره الرُّقى ما لم تكن بآيات الله وأسمائه خاصة، وباللسان العربي الذي يُعرف معناه؛ ليكون بريئًا من شوب الشرك.
وعلى كراهية الرقى بغير كتاب الله علماء الأمة، قال شيخ الإسلام: كل اسم مجهول فليس لأحد أنْ يرقي به، فضلا عن أنْ يدعو به؛ ولو عرف معناه؛ لأنه يُكره الدعاء بغير العربية. وإنما يرخص لمن لا يعرف العربية.] [تيسير العزيز الحميد]
__________
(1) عفا: دَرَسَ، وانقطع أثره.(1/113)
وعليه؛ فإن [الرُّقَى التي ليست بعربية الألفاظ، ولا مفهومة المعاني، ولا مشهورة، ولا مأثورة في الشرع البتة؛ فليست من الله في شيء، ولا من الكتاب والسنة في ظل ولا فيء.. بل هي وسواس من الشيطان، أوحاها إلى أوليائه، وعليه يحمل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعود: "إنَّ الرُّقَى والتمائمَ والتِّوَلَةَ شِركٌ". وذلك لأن المتكلم به لا يدري أهو من أسماء الله تعالى، أو من أسماء الملائكة، أو من أسماء الشياطين؟ ولا يدري هل فيه كفر أو إيمان؟ وهل هو حق أو باطل؟ أو فيه نفع أو ضر؟ أو رقية أو سحر؟
ولعمر الله؛ لقد انهمك غالب الناس في هذه البلوى غاية الانهماك، واستعملوه على أضرب كثيرة وأنواع مختلفة.. وكلما شعوذ مشعبذ، وتحذلق متحذلق، وأراد الدجل على الناس، والتحيل لأخذ أموالهم؛ طلب السبل إلى وجه تلك الحيلة، ورام لها أصلا ترجع إليه.. فإنْ وجد شبهة تروج على ضعفاء العقول وأعمياء البصائر، وإلا كذب لهم كذبًا محضًا، وقاسمهم بالله إنه لهم لمن الناصحين؛ فيصدقونه لحسن ظنهم به..!
وما هي إلا وساوس شيطانية زخرفوها، وخرافات مُضِلَّة ألفوها، وأكاذيب مختلفة لفقوها؛ لم يُنزل الله بها من سلطان، ولا يُعرَف لها أصل في سنة ولا قرآن، ولم تُنقَل عن أحد من أهل الدين والإيمان.. إنْ هؤلاء إلا كاذبون أفاكون مفترون، وسيجزون على ما كانوا يعملون..
فتحصل من هذا أن الرقى لا تجوز إلا باجتماع ثلاثة شروط، فإذا اجتمعت فيها كانت رقية شرعية، وإن اختل منها شيء كان بضد ذلك..
الأول: أن تكون من الكتاب والسنة، فلا تجوز من غيرهما.
الشرط الثاني: أن تكون باللغة العربية، محفوظة ألفاظها، مفهومة معانيها، فلا يجوز تغييرها إلى لسان آخر.
الثالث: أنْ يُعتقَد أنها سبب مِن الأسباب، لا تأثير لها إلا بإذن الله عز وجل، فلا يُعتقَد النفع فيها لذاتها، بل فعل الراقي السبب، والله هو المسبب إذا شاء.] [معارج القبول]
- - -
(2) ولا يتطيرون(1/114)
قال تعالى: { فَإِذَا جَاءَتْهُمُ èpuZ|،utù:$# قَالُوا لَنَا ¾دnة"yd وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ (#rمژ£چ©ـtƒ بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا ِNèdمژبµ¯"sغ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ ِNèduژnYٍ2r& لَا tbqكJn=÷ètƒ }
[الأعراف: 131]
[المراد بـ(الحسنة) كما يفهمه ظاهر كلام البعض الخصب والرخاء، وفسرها مجاهد بالرخاء والعافية، وبعضهم بأعم من ذلك، أي: إذا جاءهم ما يستحسنونه قالوا: لنا هذه، أي: إنا مستحقوها بيُمن الذات.. (وإن تصبهم سيئة) أي: ضيق وجدب، أو جدب ومرض، أو عقوبة وبلاء.. (يطيروا بموسى ومَن معه..) أي: يتشاءموا بهم ويقولوا: ما حدث ذلك إلا بشؤمهم.
وفي الآية إغراق في وصف آل فرعون بالغباوة والقساوة؛ فإن الشدائد ترقق القلب، وتذلل العرائك، وتزيل التماسك؛ لاسيما بعد مشاهدة الآيات.. وقد كانوا بحيث لم يؤثر فيهم شيء منها، بل ازدادوا عُتُوًّا وعنادًا.
وتعريف (الحسنة)، وذكرها بأداة التحقيق (إذا)؛ لكثرة وقوعها، وتعلق الإرادة بإحداثها بالذات؛ لأن العناية الإلهية اقتضت سبق الرحمة، وعموم النعمة قبل حصول الأعمال. وتنكير (السيئة)، وذكرها بأداة الشك (إنْ)؛ لندورها، وعدم تعلق الإرادة بإحداثها إلا بالتبع؛ فإنَّ النقمة بمقتضى تلك العناية إنما تُستَحق بالأعمال.
(ألا إنما طائرهم عند الله..) استئناف مسوق مِن قِبَله تعالى لرد مقالتهم الباطلة، وتحقيق للحق في ذلك، وتصديره بكلمة التنبيه (ألا)؛ لإبراز كمال العناية بمضمونه، أي: ليس شؤمهم إلا عند الله، أي: مِن قِبَله. وحُكمه كما قال ابن عباس، وقال الزجاج: المعنى ليس الشؤم الذي يَلحقهم إلا الذي وُعدوا به مِن العقاب عنده، لا ما ينالهم في الدنيا. وقال الحسن: المعنى: ألا إنّ ما تشاءموا محفوظ عليهم حتى يجازيهم الله تعالى به يوم القيامة. وفسر بعضهم (الطائر) هنا بالحظ، أي: إنما حظهم، وما طار إليهم من القضاء والقدر بسبب شؤمهم عند الله.(1/115)
(ولكن أكثرهم لا يعلمون) ذلك؛ فيقولون ما يقولون. وإسناد عدم العلم إلى أكثرهم للإشعار بأنّ بعضهم يعلم، ولكن لا يعمل بمقتضى علمه.] [روح المعاني]
[لم ينتبه آل فرعون إلى العلاقة بين كفرهم وفسقهم عن دين الله، وبغيهم وظلمهم لعباد الله؛ وبين أخذهم بالجدب ونقص الثمرات في مصر التي تفيض بالخصب والعطاء، ولا تنقص غلتها عن إعالة أهلها إلا لفسوق أهلها وأخذهم بالابتلاء لعلهم يتذكرون..!
لم ينتبهوا لهذه الظاهرة التي شاءت رحمة الله بعباده أن تبرزها لأعينهم. ولكنهم كانوا إذا أصابتهم الحسنة والرخاء حسبوها حقًّا طبيعيًا لهم! وإذا أصابتهم السيئة والجدب نسبوا هذا إلى شؤم موسى - عليه السلام - ومَن معه عليهم.
وحين تنحرف الفطرة عن الإيمان بالله؛ فإنها لا ترى يده -سبحانه- في تصريف هذا الوجود؛ ولا ترى قَدَرَه الذي تنشأ به الأشياء والأحداث. وعندئذ تفقد إدراكها وحساسيتها بالنواميس الكونية الثابتة النافذة. فتفسر الحوادث تفسيرات منفصلة منعزلة. لا صلة بينها ولا قاعدة ولا ترابط؛ وتهيم مع الخرافة في دروب ملتوية متفرقة؛ لا تلتقي عند قاعدة، ولا تجتمع وفق نظام..
وهكذا مضى فرعون وآله يعللون الأحداث؛ الحسنة التي تصيبهم هي من حُسن حظهم وهم يستحقونها. والسيئة التي تصيبهم هي بشؤم موسى ومَن معه عليهم، ومِن تحت رأسهم!
وأصل (التطير) في لغة العرب ما كان الجاهليون في وثنيتهم وشركهم وبُعدهم عن إدراك سنن الله وقدره يزاولونه.. فقد كان الرجل منهم إذا أراد أمرًا جاء إلى عش طائر فهيجه عنه، فإذا طار عن يمينه -وهو السانح- استبشر بذلك، ومضى في الأمر الذي يريده. وإذا طار الطائر عن شماله -وهو البارح- تشاءم به، ورجع عما عزم عليه!(1/116)
فأبطل الإسلام هذا التفكير الخرافي، وأحل محله التفكير العلمي الصحيح، وأرجع الأمور إلى سنن الله الثابتة في الوجود، وإلى قَدَر الله الذي يُحقق هذه السنن في كل مرة تتحقق فيها، وأقام الأمور على أسس علمية يحسب فيها نية الإنسان وعمله وحركته وجهده، وتُوضع في موضعها الصحيح؛ في إطار المشيئة الإلهية الطليقة، وقَدَره النافذ المحيط: ألا إنما طائرهم عند الله؛ ولكن أكثرهم لا يعلمون..
إن ما يقع لهم مصدره كله واحد.. إنه من أمر الله.. ومِن هذا المصدر تصيبهم (الحسنة) للابتلاء، وتصيبهم (السيئة) للابتلاء: { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ خژِچsƒù:$#ur فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [الأنبياء: 35]. ويصيبهم النكال للجزاء، ولكن أكثرهم لا يعلمون.][الظلال]
فـ[(الطيرة) هي ترك الإنسان حاجته، واعتقاده عدم نجاحها تشاؤمًا بسماع بعض الكلمات القبيحة، كـ(يا هالك!) أو (يا ممحوق!)، ونحوها. وكذا التشاؤم ببعض الطيور كالبومة وما شاكلها. إذا صاحت؛ قالوا: إنها ناعبة، أو مخبرة بشر..! وكذا التشاؤم بملاقاة الأعور، أو الأعرج، أو المهزول، أو الشيخ الهرم، أو العجوز الشمطاء..! وكثير مِن الناس إذا لقيه وهو ذاهب لحاجة؛ صدَّه ذلك عنها، ورجع معتقدًا عدم نجاحها..! وكثير مِن أهل البيع لا يبيع ممن هذه صفته إذا جاءه أول النهار؛ حتى يبيع من غيره؛ تشاؤمًا به، وكراهة له..! وكثير منهم يعتقد أنه لا ينال في ذلك اليوم خيرًا قط..! وكثير من الناس يتشاءم بما يَعرض له في حال خروجه، كما إذا عثر، أو شِيك؛ يرى أنه لا يجد خيرًا..!(1/117)
ومن ذلك التشاؤم ببعض الأيام، أو ببعض الساعات، كالحادي والعشرين من الشهر، وآخر أربعاء فيه، ونحو ذلك.. فلا يسافر فيها كثير من الناس، ولا يعقد فيها نكاحًا، ولا يعمل فيها عملا مُهِمًّا ابتداءً؛ يظن أو يعتقد أن تلك الساعة نحس..! وكذا التشاؤم ببعض الجهات في بعض الساعات، فلا يستقبلها في سفر ولا أمر حتى تنقضي تلك الساعة أو الساعات.. وهي من أكاذيب المنجمين الملاعين؛ يزعمون أن هناك فلكًا دوارًا يكون كل يوم أو ليلة في جهة مِن الجهات، فمَن استقبل تلك الجهة في الوقت الذي يكون فيها هذا الفلك؛ لا ينال خيرًا، ولا يأمن شرًّا.. وهم في ذلك كاذبون مفترون، قبحهم الله ولعنهم؛ قد ضلوا مِن قبل وأضلوا كثيرًا، وضلوا عن سواء السبيل..
ومن ذلك التشاؤم بوقوع بعض الطيور على البيوت؛ يرون أنها مُعلِمَة بشر، وكذا صوت الثعلب عندهم، ومِن ذلك الاستقسام بتنفير الطير والظباء، فإنْ تيامنت ذهبوا لحاجتهم، وإنْ تياسرت تركوها..! وهذا مِن الاستقسام بالأزلام الذي أمر الله تعالى باجتنابه، وأخبر أنه رجس من عمل الشيطان.
وهذا وما شاكله كثير منه كان في الجاهلية قبل النبوة، وقد أبطله الإسلام؛ فأعاده الشيطان في هذا الزمان أكثر مما كان عليه في الجاهلية بأضعاف مضاعفة، ووسع دائرة ذلك، وساعده عليه شياطين الإنس من الكهنة والمنجمين وأضرابهم وأتباعهم؛ أرداهم الله وألحقهم به آمين.] [معارج القبول](1/118)
فـ[الطيرة باب من الشرك ينافي كمال التوحيد؛ لأنها من إلقاء الشيطان وتخويفه ووسوسته. ومن كان معتنيًا بها، قابلاً لها؛ كانت إليه أسرع من السيل إلى منحدره! وتفتحت له أبواب الوساوس فيما يسمعه ويراه ويُعطاه، ويفتح له الشيطان فيها من المناسبات البعيدة والقريبة في اللفظ والمعنى ما يُفسد عليه دينه، وينكد عليه عيشه! فالواجب على العبد التوكل على الله، ومتابعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنْ يمضي لشأنه؛ لا يرده شيء من الطيرة عن حاجته؛ فيدخل في الشرك.] [تيسير العزيز الحميد]
وفي صحيح البخاري [عن ابن عمر ب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا عَدوَى، ولا طِيَرَة، والشؤمُ في ثلاثٍ: في المرأةِ والدارِ والدابةِ". والشؤم ضد اليُمْن، وهو عدم البركة، والمراد به الأمر المحسوس المشاهَد، كالمرأة العاقر التي لا تلد، أو اللَسِنة المؤذية، أو المبذرة بمال زوجها سفاهة، ونحو ذلك.. وكذا الدار الجدبة، أو الضيقة، أو الوبيئة الوخيمة المشرب، أو السيئة الجيران، وما في معنى ذلك.. وكذا الدابة التي لا تلد، ولا نسل لها، أو الكثيرة العيوب الشَّيِّنة الطبع، وما في معنى ذلك.. فهدا كله شيء ضروري مشاهَد معلوم، ليس هو من باب الطِّيَرة المنفية..(1/119)
فإن ذلك أمر آخر عند مَن يعتقده ليس من هذا؛ لأنهم يعتقدون أنها نحس على صاحبها لذاتها، لا لعدم مصلحتها وانتفائها.. فيعتقدون أنه إنْ كان غنيًا افتقر، ليس بتبذيرها، بل لنحاستها عليه.. وإنه إنْ يأخذها يموت بمجرد دخولها عليه، لا بسبب محسوس، بل عندهم أنَّ لها نجمًا لا يوافق نجمه، بل ينطحه ويكسره!! وذلك من وحي الشيطان يوحيه إلى أوليائه من المشركين. قال تعالى: { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى َOخgح!$uد9÷rr& } [الأنعام: 121] حتى إنَّ رجلا في زماننا هذا كان يشعوذ على الناس بذلك، ويفرق به بين المرء وزوجه، فتنبه له بعض العامة ممن يحضر مجالس الذكر، ويسمع ذم المنجمين وتكذيبهم بالآيات والأحاديث.. فقال له: إني أريد أن أنكح امرأة، ما ترى فيها؟ هل هي سعد لي، أو نحس عليّ؟ فعرض ذلك على قواعده الشيطانية، ثم قال له: دعها؛ فإنك إنْ أخذتها لا تُبلي معها ثوبًا! يعني: يموت سريعًا، ولا تطول معها صحبته! وكانت تلك المرأة التي سأله عنها، وسماها له هي زوجته، وقد طالت صحبته معها، وله منها نحو خمسة من الأولاد! فدعاهم كلهم بأسمائهم حتى حضروا، فقال له: هؤلاء أولادي منها! ولهذا نظائر كثيرة من خرافاتهم.
والمقصود أن الشؤم المثبَت في هذا الحديث أمر محسوس ضروري مشاهَد، ليس مِن باب الطيرة المنفية، التي يعتقدها أهل الجاهلية ومَن وافقهم.] [معارج القبول](1/120)
و[قال ابن القيم: إخباره - صلى الله عليه وسلم - بالشؤم في هذه الثلاثة ليس فيه إثبات الطيرة التي نفاها الله سبحانه، وإنما غايته أن الله سبحانه قد يخلق منها أعيانًا مشئومة على مَن قاربها وساكنها، وأعيانًا مباركة لا يلحق مَن قاربها شؤم ولا شر. وهذا كما يُعطي سبحانه الوالدين ولدًا مباركًا يريان الخير على وجهه، ويعطي غيرهما ولدًا مشئومًا يريان الشر على وجهه. وكذلك ما يعطاه العبد مِن ولاية وغيرها، فكذلك الدار والمرأة والفرس.. والله سبحانه خالق الخير والشر، والسعود والنحوس؛ فيخلق بعض هذه الأعيان سعودًا مباركة، ويقضي بسعادة مَن قاربها، وحصول اليمن والبركة له. ويخلق بعضها نحوسًا يتنحس بها مَن قاربها.. وكل ذلك بقضائه وقدره، كما خلق سائر الأسباب، وربطها بمسبباتها المتضادة والمختلفة. كما خلق المسك وغيره مِن الأرواح الطيبة، ولذذ بها مَن قاربها مِن الناس، وخلق ضدها، وجعلها سببًا لألم مَن قاربها مِن الناس. والفرق بين هذين النوعين مُدرَك بالحس، فكذلك الديار والنساء والخيل.. فهذا لون، والطيرة الشركية لون.
ولهذا يُشرع لمن استفاد زوجة أو أمة أو دابة؛ أنْ يسأل الله مِن خيرها وخير ما جُبِلَت عليه، ويستعيذ مِن شرها وشر ما جُبِلَت عليه. وكذلك ينبغي لمن سكن دارًا أنْ يفعل ذلك. ولكن يبقى على هذا أنْ يقال: هذا جارٍ في كل مشئوم؛ فما وجه خصوصية هذه الثلاثة بالذكر؟ وجوابه: أن أكثر ما يقع التطير في هذه الثلاثة؛ فخصت بالذكر لذلك.
ومنها ما روى مالك عن يحيى بن سعيد قال: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله! دار سكناها؛ والعدد كثير، والمال وافر؛ فقَلَّ العدد، وذهب المال. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دعوها ذميمة" [رواه أبو داود عن أنس بنحوه](1/121)
وجوابه أن هذا ليس مِن الطيرة المنهي عنها، بل أمرهم بالانتقال؛ لأنهم استثقلوها، واستوحشوا منها لما لحقهم فيها؛ ليتعجلوا الراحة مما دخلهم من الجزع؛ لأن الله قد جعل في غرائز الناس استثقال ما نالهم الشر فيه، وإن كان لا سبب له في ذلك، وحُب مَن جرى على يديه الخير لهم؛ وإنْ لم يُردهم به.. ولأنَّ مقامهم فيها قد يقودهم إلى الطيرة فيوقعهم ذلك في الشرك والشر الذي يلحق المتطير بسبب طيرته.] [تيسير العزيز الحميد]
[وفي البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا طِيَرَة، وخيرُها الفألُ". قالوا: وما الفأل؟ قال: "الكلمةُ الصالحةُ يسمعُها أحدُكم".
وعن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا عدوى، ولا طيرة، ويُعجبُني الفألُ الصالحُ الكلمةُ الحسنةُ".
قلتُ(1): ومِن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - يوم صلح الحديبية حين جاء "سهيل بن عمرو" وقال: "سَهَّلَ اللهُ أمرَكم".
ومن شرط الفأل أنْ لا يُعتمَد عليه، وأنْ لا يكون مقصودًا، بل أنْ يتفق للإنسان ذلك مِن غير أنْ يكون له على بال. ومِن البدع الذميمة والمحدَثات الوخيمة مأخذ الفأل مِن المصحف؛ فإنه مِن اتخاذ آيات الله هزوًا ولعبًا ولهوًا؛ ساء ما يعملون.
والفأل إذا قصده المتفائل؛ فهو طيرة، كالاستقسام بالأزلام. وكفارتها ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: "مَن ردَّتْهُ الطيرةُ عن حاجتِهِ فقد أشركَ". قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: أنْ تقولَ: "اللهم لا خيرَ إلا خيرُكَ، ولا طيرَ إلا طيرُكَ، ولا إلهَ غيرُكَ".] [معارج القبول]
__________
(1) الشيخ/ حافظ بن أحمد حَكَمي في "معارج القبول".(1/122)
وقد [بين النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته فساد الطيرة؛ ليعلموا أن الله سبحانه لم يجعل لهم عليها علامة، ولا فيها دلالة، ولا نصبها سببًا لما يخافونه ويحذرونه، ولتطمئن قلوبهم وتسكن نفوسهم إلى وحدانيته تعالى؛ التي أرسل بها رسله، وأنزل بها كتبه، وخلق لأجلها السماوات والأرض، وعمر الدارين: الجنة والنار بسبب التوحيد.. فقطع - صلى الله عليه وسلم - علق الشرك في قلوبهم؛ لئلا يبقى فيها عَلَقَة منها، ولا يتلبسوا بعمل من أعمال أهل النار البتة..
فمَن استمسك بعروة التوحيد الوثقى، واعتصم بحبله المتين، وتوكل على الله؛ قطع هاجس الطيرة مِن قَبل استقرارها، وبادر خواطرها مِن قَبل استكمانها.. قال عكرمة: كنا جلوسًا عند ابن عباس، فمر طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير.. خير.. فقال له ابن عباس: لاخير، ولا شر.. فبادره بالإنكار عليه؛ لئلا يعتقد تأثيره في الخير والشر.] [فتح المجيد]
[وفي الجملة: فلا شؤم إلا المعاصي والذنوب؛ فإنها تسخط الله عز وجل. فإذا سخط على عبده شقي في الدنيا والآخرة، كما إنه إذا رضي عن عبده سعد في الدنيا والآخرة. قال بعض الصالحين؛ وقد شُكي بلاءٌ وقع في الناس، فقال: ما أرى ما أنتم فيه إلا بشؤم الذنوب. وقال أبو حازم: كل ما يشغلك عن الله مِن أهل، أو مال، أو ولد؛ فهو عليك مشئوم.
فالشؤم في الحقيقة هو معصية الله، واليُمن هو طاعة الله وتقواه، كما قيل :
إنَّ رَأْيًا دَعَا إلى طاعةِ اللهِ لَرَأْيٌ مبارَكٌ مَيمونُ(1/123)
والعدوى التي تُهلِك مَن قاربها هي المعاصي؛ فمَن قاربها، وخالطها، وأصرَّ عليها هلك. وكذلك مخالطة أهل المعاصي، ومَن يُحَسِّن المعصية ويُزيِّنها، ويدعو إليها مِن شياطين الإنس؛ وهم أضرُّ مِن شياطين الجن!! قال بعض السلف: شيطان الجن نستعيذ بالله منه؛ فينصرف.. وشيطان الإنس لا يبرح حتى يوقعك في المعصية! وفي الحديث: "المرءُ على دِينِ خليلِهِ فلينظرْ أحدُكم مَن يُخالِلُ". [أخرجه أبو داود، والترمذي، وحسنه، والحاكم من حديث أبي هريرة، وحسنه الألباني]، وفي حديث آخر: "لا تصاحبْ إلا مؤمنًا، ولا يأكلْ طعامَكَ إلا تَقي". [أخرجه أبو داود، والترمذي من حديث أبي سعيد، وحسنه الألباني] ومما يروى لعلي - رضي الله عنه -:
فلا تَصْحَبْ أخا الجهلِ، و إياكَ و إياهُ
فكم مِن جاهلٍ أردَى حكيمًا حِينَ آخاهُ
يُقاسُ المَرءُ بالمَرءِ إذا ما المَرءُ مَاشَاهُ
وللشيءِ على الشيءِ مقاييسٌ وأشباهُ
وللقلبِ على القلبِ دليلٌ حِينَ يلقَاهُ
فالعاصي مشئوم على نفسه، وعلى غيره؛ فإنه لا يؤمَن أنْ ينزِل عليه عذاب فيعم الناس؛ خصوصًا مَن لم يُنكِر عليه عمله.. فالبُعد عنه مُتَعَيِّن؛ فإذا كثر الخبث هلك الناس عمومًا.. وكذلك أماكن المعاصي وعقوباتها يتعين البعد عنها، والهرب منها خشية نزول العذاب، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه لما مَرَّ على ديار ثمود بالحِجْر: "لا تدخلوا ديارَ الذينَ ظلموا؛ إلا أنْ تكونوا باكين؛ خشية أنْ يُصيبَكم ما أصابَهم". ولما تاب الذي قتل مائة نفس مِن بني إسرائيل، وسأل العالم: هل له من توبة؟ قال له: نعم.. فأمره أن ينتقل مِن قرية السوء إلى القرية الصالحة؛ فأدركه الموت بينهما، فاختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب؛ فأوحى الله إليهم أن: قيسوا بينهما، فإلى أيِّهما كان أقرب؛ فألحقوه بها. فوجدوه إلى القرية الصالحة أقرب برمية حَجَر؛ فغُفِر له.(1/124)
فهجران أماكن المعاصي وأخواتها مِن جملة الهجرة المأمور بها؛ فإنَّ المهاجِر مَن هجر ما نَهى الله عنه. قال إبراهيم بن أدهم: مَن أراد التوبة فليخرج مِن المظالم، وليدَعْ مخالطة مَن كان يخالطه، وإلا لم ينل ما يريد.. احذروا الذنوب؛ فإنها مشئومة، عواقبها ذميمة، وعقوباتها أليمة، والقلوب المحبة لها سقيمة، السلامة منها غنيمة، والبلية بها لا سيما بعد نزول الشيب داهية عظيمة..] [لطائف المعارف]
- - -
(3) ولا يكتوون
في صحيح البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشفاءُ في ثلاثٍ: شَربةِ عسلٍ، وشَرطَةِ مِحْجَمٍ، وكَيَّةِ نارٍ، وأنا أنهى أمتي عن الكي".
[قال أبو عبد الله المازري: الأمراض الامتلائية إما أن تكون: دموية، أو صفراوية، أو بلغمية، أو سوداوية. فإن كانت دموية فشفاؤها إخراج الدم. وإنْ كانت من الأقسام الثلاثة الباقية؛ فشفاؤها بالإسهال الذي يليق بكل خلط منها. وكأنه - صلى الله عليه وسلم - نبَّه بالعسل على المسهلات، وبالحجامة على الفصد.
وقد قال بعض الناس: إن الفصد يدخل في قوله: "شرطة محجم.." فإذا أعيا الدواء؛ فآخر الطب الكي. فذكره - صلى الله عليه وسلم - في الأدوية لأنه يُستعمل عند غلبة الطباع لقوى الأدوية، وحيث لا ينفع الدواء المشروب.
وقوله: "وأنا أنهى أمتي عن الكي"، وفي الحديث الآخر: "وما أحبُّ أنْ أكتوي"؛ إشارة إلى أن يُؤخَّر العلاج به حتى تَدفع الضرورةُ إليه، ولا يُعجَّل التداوي به؛ لما فيه من استعجال الألم الشديد في دفع ألم قد يكون أضعف مِن ألم الكي.] [زاد المعاد](1/125)
[والكي يقع آخرًا لإخراج ما يتعسر إخراجه من الفضلات. وإنما نهى عنه مع إثباته الشفاء فيه؛ إما لكونهم كانوا يرون أنه يحسم المادة بطبعه؛ فكرهه لذلك. ولذلك كانوا يبادرون إليه قبل حصول الداء؛ لظنهم أنه يحسم الداء؛ فيتعجل الذي يكتوي التعذيب بالنار لأمر مظنون، وقد لا يتفق أن يقع له ذلك المرض الذي يقطعه الكي.
ويؤخذ من الجمع بين كراهته - صلى الله عليه وسلم - للكي، وبين استعماله له؛ أنه لا يُترك مطلقًا، ولا يُستعمل مطلقًا، بل يُستعمل عند تَعَيُّنه طريقًا إلى الشفاء؛ مع مصاحبة اعتقاد أن الشفاء بإذن الله تعالى.
وقال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: عُلم مِن مجموع كلامه - صلى الله عليه وسلم - في الكي أنّ فيه نفعًا، وأنّ فيه مضرة. فلما نهى عنه؛ عُلم أنّ جانب المضرة فيه أغلب. وقريب منه إخبار الله تعالى أن في الخمر منافع، ثم حرَّمها لأنّ المضار التي فيها أعظم مِن المنافع.
وأما قوله: (وما أحب أن أكتوي) فهو من جنس تركه أكل الضَّب؛ مع تقريره أكله على مائدته، واعتذاره بأنه يعافه.] [فتح الباري (ملخصًا)]
وقد[ثبت في الصحيح من حديث جابر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى أُبَي ابن كعب طبيبًا، فقطع له عِرقًا، وكواه عليه. ولما رُمي سعد بن معاذ في أكحله؛ حسمه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم ورمتْ؛ فحسمه الثانية. والحسم: هو الكي.
وقال أبو عبيد: وقد أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل؛ نَعَت له الكي، فقال: "اكووه، وارضفوه". قال أبو عبيد: الرضف: الحجارة تُسخَّن، ثم يُكمد بها.
وفي صحيح البخاري من حديث أنس أنه كُوي من ذات الجنب، والنبي - صلى الله عليه وسلم - حي.
وفي جامع الترمذي وغيره عن عمران بن حصين أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الكي قال: فابتُلينا؛ فاكتوينا؛ فما أفلحنا ولا أنجحنا. وفي لفظ: نُهينا عن الكي. وقال: فما أفلحن ولا أنجحن.(1/126)
قال الخطابي: إنما كوى سعدًا ليرقأ الدم من جرحه، وخاف عليه أن ينزف؛ فيهلك. والكي مستعمل في هذا الباب، كما يُكوى مَن تُقطع يده أو رجله.
وأما النهي عن الكي؛ فهو أن يكتوي طلبًا للشفاء. وكانوا يعتقدون أنه متى لم يكتوِ هلك؛ فنهاهم عنه لأجل هذه النية.
وقيل: إنما نهى عنه عمران بن حصين خاصة؛ لأنه كان به ناصور، وكان موضعه خطرًا؛ فنهاه عن كيه؛ فيُشبه أن يكون النهي منصرفًا إلى الموضع المخوف منه، والله أعلم.
وقال ابن قتيبة: "الكي جنسان: كي الصحيح لئلا يعتل. فهذا الذي قيل فيه: لم يتوكل من اكتوى؛ لأنه يريد أن يدفع القدر عن نفسه. والثاني: كي الجرح إذا نغل أي: فسد، والعضو إذا قُطع؛ ففي هذا الشفاء. وأما إذا كان الكي للتداوي الذي يجوز أن ينجع، ويجوز أن لا ينجع؛ فإنه إلى الكراهة أقرب." أ.هـ
وثبت في الصحيح في حديث السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب؛ أنهم "الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون".
فقد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع: أحدها: فعله. والثاني: عدم محبته له. والثالث: الثناء على مَن تركه. والرابع: النهي عنه.
ولا تعارض بينها بحمد الله تعالى؛ فإنّ فعله يدل على جوازه. وعدم محبته له لا يدل على المنع منه. وأما الثناء على تاركه فيدل على أن تركه أولى وأفضل. وأما النهي عنه فعلى سبيل الاختيار والكراهة، أو عن النوع الذي لا يُحتاج إليه، بل يُفعل خوفًا من حدوث الداء. والله أعلم.] [زاد المعاد (ملخصًا)]
- - -
(4) وعلى ربهم يتوكلون
[أصل التوكل الوكول، يقال: وكلت أمري إلى فلان، أي ألجأتُه إليه، واعتمدتُ فيه عليه. ووكَّل فلانٌ فلانًا استكفاه أمره ثقة بكفايته.(1/127)
والمراد بالتوكل اعتقاد ما دلت عليه هذه الآية: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } [هود: 6] وليس المراد به ترك التسبب، والاعتماد على ما يأتي من المخلوقين؛ لأن ذلك قد يجر إلى ضد ما يراه من التوكل. (وقد سئل الإمام أحمد عن رجل جلس في بيته، أو في المسجد، وقال: لا أعمل شيئًا حتى يأتيني رزقي! فقال: هذا رجل جهل العلم، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللهَ جعلَ رزقي تحتَ ظلِّ رُمحي". وقال: "لو توكلتُم على اللهِ حقَّ تَوكُّلِهِ لرزقَكم كما يرزقُ الطيرَ تَغدو خِماصًا وتَروحُ بِطانًا". فذكر أنها تغدو وتروح في طلب الرزق. قال: وكان الصحابة يتجرون، ويعملون في نخيلهم، والقدوة بهم.) أ.هـ] [فتح الباري]
فالتوكل هو اعتماد القلب على الله تعالى في جلب المنافع، ودفع المضار؛ مع ثقته به، وحسن ظنه بحصول مطلوبه؛ فإنه عزيز رحيم، بعزته يقدر على إيصال الخير، ودفع الشر عن عبده، وبرحمته به، يفعل ذلك.
قال تعالى: { وَمَا !$sYs9 أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا $sYn=ç7ك™ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ ب@ھ.uqtGuٹù=sù الْمُتَوَكِّلُونَ } [إبراهيم: 12](1/128)
[(وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا) أي: أي شيء يمنعنا من التوكل على الله؛ والحال أننا على الحق والهدى، ومَن كان على الحق والهدى؛ فإنَّ هُداه يوجب له تمام التوكل. وكذلك ما يعلم من أنَّ الله متكفل بمعونة المهتدي وكفايته يدعو إلى ذلك، بخلاف مَن لم يكن على الحق والهدى؛ فإنه ليس ضامنًا على الله، فإن حاله مناقضة لحال المتوكل. وفي هذا كالإشارة من الرسل ? لقومهم بآية عظيمة؛ وهو أن قومهم -في الغالب- لهم القهر والغلبة عليهم، فتحدتهم رسلهم بأنهم متوكلون على الله في دفع كيدهم ومكرهم، وجازمون بكفايته إياهم، وقد كفاهم الله شرهم مع حرصهم على إتلافهم، وإطفاء ما معهم من الحق . فيكون هذا كقول نوح لقومه: (وعلى الله) وحده لا على غيره (فليتوكل المتوكلون) فإن التوكل عليه مفتاح لكل خير.
واعلم أن الرسل ? توكُّلُهم في أعلى المطالب وأشرف المراتب؛ وهو التوكل على الله في إقامة دينه ونصره، وهداية عبيده، وإزالة الضلال عنهم. وهذا أكمل ما يكون من التوكل.] [تيسير الكريم الرحمن]
و[التوكل نصف الدين، والنصف الثاني الإنابة؛ فإن الدين استعانة وعبادة. فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة.
ومنزلته أوسع المنازل، وأجمعها. ولا تزال معمورة بالنازلين لسعة متعلِّق التوكل، وكثرة حوائج العالمين، وعموم التوكل، ووقوعه من المؤمنين والكفار، والأبرار والفجار، والطير والوحش والبهائم.. فأهل السموات والأرض المكلفون وغيرهم في مقام التوكل؛ وإن تباين متعلِّق توكلهم.(1/129)
فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في حصول ما عليه في الإيمان ونصرة دينه، وإعلاء كلمته، وجهاد أعدائه، وفي محابِّه، وتنفيذ أوامره.. ودون هؤلاء مَن يتوكل عليه في استقامته في نفسه، وحفظ حاله مع الله فارغًا عن الناس.. ودون هؤلاء مَن يتوكل عليه في معلوم يناله منه؛ مِن رزق، أو عافية، أو نصر على عدو، أو زوجة أو ولد، ونحو ذلك.. ودون هؤلاء مَن يتوكل عليه في حصول الإثم والفواحش؛ فإن أصحاب هذه المطالب لا ينالونها غالبًا إلا باستعانتهم بالله، وتوكلهم عليه! بل قد يكون توكلهم أقوى مِن توكل كثير من أصحاب الطاعات! ولهذا يُلقون أنفسهم في المتالف والمهالك؛ معتمدين على الله أنْ يُسَلِّمهم، ويُظفرهم بمطالبهم!
فأفضل التوكل التوكل في الواجب. أعني و(3) الحق، وواجب الخلق، وواجب النفس. وأوسعه وأنفعه التوكل في التأثير في الخارج فى مصلحة دينية، أو في دفع مفسدة دينية؛ وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله، ودفع فساد المفسدين في الأرض. وهذا توكل ورثتهم. ثم الناس بعد في التوكل على حسب هِممهم ومقاصدهم؛ فمِن متوكل على الله في حصول الْمُلك، ومِن متوكل في حصول رغيف..!
ومَن صدق توكله على الله في حصول شيء ناله.. فإنْ كان محبوبًا له، مَرضيًّا كانت له فيه العاقبة المحمودة، وإنْ كان مسخوطًا مبغوضًا كان ما حصل له بتوكله مَضرة عليه.. وإنْ كان مباحًا حصلت له مصلحة التوكل؛ دون مصلحة ما تَوَكَّل فيه؛ إن لم يستعن به على طاعاته. والله أعلم.] [مدارج السالكين]
والتوكل محله القلب، والحركة بالظاهر لا تنافي التوكل بالقلب، بعدما تحقق العبد أن التقدير من قِبَل الله تعالى؛ فإن تعسر شيء فبتقديره، وإن اتفق شيء فبتيسيره.
ألا ترى أن الله تعالى قال لمريم: { ü"حh"èdur إِلَيْكِ بِجِذْعِ 's#÷‚¨Z9$# تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا } [مريم: 25] فهلا أمرها بالسكون، وحُمِل الرطب إلى فمها؟
ألم ترَ أنَّ اللهَ قالَ لمريمَ:(1/130)
ولو شاءَ أنْ تَجنيَهِ مِن غيرِ هَزِّها ڑڑوهُزِّي إليكِ الجِذعَ يَسَّاقطِ الرُّطَبُ
جَنَتْهُ، ولكنْ كلُّ شيءٍ لهُ سببُ
- - -
ومن يتوكل على الله فهو حسبه:
قال تعالى: { وَمَنْ ِ@ھ.uqtGtƒ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ ے¼çmç7َ،xm إِنَّ اللَّهَ à÷د="t/ ¾دnحچّBr& قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } [الطلاق:3]
[(ومن يتوكل على الله..) في أمر دينه ودنياه، بأن يعتمد على الله في جلب ما ينفعه، ودفع ما يضره، ويثق به في تسهيل ذلك؛ (فهو حسبه) أي: كافيه الأمر الذي توكل عليه فيه. وإذا كان الأمر في كفالة الغني القوي، العزيز الرحيم، فهو أقرب إلى العبد من كل شيء. ولكن ربما أن الحكمة الإلهية اقتضت تأخيره إلى الوقت المناسب له، فلهذا قال تعالى: (إن الله بالغ أمره..)، أي: لا بد من نفوذ قضائه وقدره. ولكن (قد جعل الله لكل شيء قدرا)، أي: وقتًا ومقدارًا لا يتعداه، ولا يقصر عنه.] [تيسير الكريم الرحمن]
و[التوكل فريضة يجب إخلاصه لله تعالى؛ لأنه من أفضل العبادات، وأعلى مقامات التوحيد. بل لا يقوم به على وجه الكمال إلا خواص المؤمنين، كما تقدم في صفة السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب؛ ولذلك أمر الله به في غير آية من القرآن أعظم مما أمر بالوضوء والغسل من الجنابة، بل جعله شرطًا في الإيمان والإسلام. ومفهوم ذلك انتفاء الإيمان والإسلام عند انتفائه، كما في الآية: { وَعَلَى اللَّهِ (#ûqè=ھ.uqtGsù إِنْ كُنْتُمْ tûüدZدB÷s-B } [المائدة: 23]، وقوله تعالى: { إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ (#ûqè=ھ.uqs? إِنْ كُنْتُمْ tûüدJد=َ،-B } [يونس: 84]، وقوله تعالى: { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [هود: 123]، وقوله: { رَبُّ الْمَشْرِقِ ة>حچَّpRùQ$#ur لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا } [المزمل: 9]] [تيسير العزيز الحميد](1/131)
و[يحصل التوكل بأن يثق بوعد الله، ويوقن بأن قضاءه واقع، ولا يترك اتباع السنة في ابتغاء الرزق مما لا بد له منه؛ من مطعم ومشرب، وتحرز من عدو بإعداد السلاح، وإغلاق الباب، ونحو ذلك.. ومع ذلك فلا يطمئن إلى الأسباب بقلبه، بل يعتقد أنها لا تجلب بذاتها نفعًا، ولا تدفع ضرًّا، بل السبب والمسبب فعل الله تعالى، والكل بمشيئته.
فإذا وقع من المرء ركون إلى السبب قَدَح في توكله، وهم مع ذلك فيه على قسمين: واصل، وسالك. فالأول صفة الواصل؛ وهو الذي لا يلتفت إلى الأسباب؛ ولو تعاطاها. وأما السالك فيقع له الالتفات إلى السبب أحيانًا، إلا أنه يدفع ذلك عن نفسه بالطرق العلمية، والأذواق الحالية إلى أن يرتقى إلى مقام الواصل.
وقال أبو القاسم القشيري: التوكل محله القلب، وأما الحركة الظاهرة فلا تنافيه؛ إذا تحقق العبد أن الكل مِن قِبَل الله. فإنْ تيسر شيء فبتيسيره، وإنْ تعسر فبتقديره.] [فتح الباري (ملخصًا)]
قال ابن القيم: وأول التوكل معرفة بالرب وصفاته؛ من قدرته وكفايته وقيوميته، وانتهاء الأمور إلى علمه، وصدورها عن مشيئته وقدرته. وهذه المعرفة أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل.
قال ابن عطاء الله: [ما توقف مطلب أنت طالبه بربك، ولا تيسر مطلب أنت طالبه بنفسك.
أي: ما تعسر مطلب من مطالب الدنيا والآخرة أنت طالبه بربك؛ أي بالاعتماد عليه، والتوسل إليه. فمتى أنزلت حوائجك به؛ فقد تمسكت بأقوى سبب، وفزت بقضائها من أفضاله بغير تعب. ومعنى قوله: ولا تيسر مطلب أنت طالبه بنفسك أنك لو اعتمدت على حولك وقوتك؛ تعسرت عليك المطالب، ولم تتحصل على بغيتك.] [شرح الحكم العطائية](1/132)
ومن الجزاء الحسن للمتوكل على الله أنه [لم تتشعب به المذاهب، وقد عدّه الله في عباده المقبولين، وفتح الله عليه طريق الهداية وهدى قلبه، فأذاقه حلاوة الإيمان، وغشيته غاشية السكينة، ورُزق من اجتماع الخاطر ورباطة الجأش وهدوء النفس مالا سبيل إليه لمن تشتت فكرهُ وتفرق هداه. ثم إنه لا يُخطئه ما قُدِّر له وقُسم. ولكن ضعيف العقيدة متشتت البال، يعاني من الحزن والقلق من غير جدوى. والمؤمن المتوكل الموحِّد ينعم بالهدوء والطمأنينة والسكينة.] [صلاة الاستخارة للبيضاني]
ومن الجزاء الحسن للمتوكلين؛ ما ذكره الله عز وجل في قوله تعالى: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ y7tRqèùبcqsƒن†ur بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ ب@د=ôزمƒ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ @e@إز-B أَلَيْسَ اللَّهُ 9"ƒح"yèخ/ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ دN¨uq"yJ،،9$# وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ OçF÷ƒuنuچsùr& مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ z'دTyٹ#u'r& اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ے¾دnخhژàر أَوْ 'دTyٹ#u'r& >pyJômuچخ/ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ zسة<َ،xm اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ دQِqs)"tƒ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ 'دoTخ) عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ زU#xtم دmƒح"ّƒن† وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ îLىة)-B } [الزمر: 36-40]
هذه الآيات [قيل في سبب نزولها أن مشركي قريش كانوا يخوفون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من آلهتهم، ويحذرونه من غضبها؛ وهو يصفها بتلك الأوصاف المزرية بها، ويوعدونه بأنه إن لم يسكت عنها فستصيبه بالأذى..(1/133)
ولكن مدلول هذه الآيات أوسع وأشمل؛ فهي تصور حقيقة المعركة بين الداعية إلى الحق وكل ما في الأرض من قوى مضادة. كما تصور الثقة واليقين والطمأنينة في القلب المؤمن، بعد وزن هذه القوى بميزانها الصحيح.
(أليس الله بكاف عبده)؟ بلى! فمن ذا يخيفه؟ وماذ يخيفه؛ إذا كان الله معه؟ وإذا كان هو قد اتخذ مقام العبودية وقام بحق هذا المقام؟ ومن ذا يشك في كفاية الله لعبده وهو القوي القاهر فوق عباده؟
(ويخوفونك بالذين من دونه).. فكيف يخاف؟ والذين من دون الله لا يخيفون من يحرسه الله. وهل في الأرض كلها إلا من هم دون الله؟
إنها قضية بسيطة واضحة، لا تحتاج إلى جدل ولا كد ذهن.. إنه الله. ومَن هم دون الله. وحين يكون هذا هو الموقف لا يبقى هنالك شك ولا يكون هناك اشتباه
وإرادة الله هي النافذة ومشيئته هي الغالبة. وهو الذي يقضي في العباد قضاءه؛ في ذوات أنفسهم، وفي حركات قلوبهم ومشاعرهم:
(ومن يضلل الله فما له من هاد. ومن يهد الله فما له من مضل).. وهو يعلم من يستحق الضلالة فيضله، ومن يستحق الهدى فيهديه. فإذا قضى بقضائه هكذا أو هكذا فلا مبدل لما يشاء.
(أليس الله بعزيز ذي انتقام)؟ بلى. وإنه ليجازي كلاًّ بما يستحق. وإنه لينتقم ممن يستحق الانتقام. فكيف يخشى أحدًا أو شيئًا من يقوم بحق العبودية له، وهو كافله وكافيه؟
ثم يقرر هذه الحقيقة في صورة أخرى منتزعة من منطقهم هم أنفسهم، ومن واقع ما يقررونه من حقيقة الله في فطرتهم:
(ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض؟ ليقولن الله. قل: أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره؟ أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته؟ قل: حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون)..(1/134)
لقد كانوا يقرون حين يُسألون أن الله هو خالق السماوات والأرض. وما تملك فطرة أن تقول غير هذا، وما يستطيع عقل أن يعلل نشأة السماوات والأرض إلا بوجود إرادة عليا. فهو يأخذهم ويأخذ العقلاء جميعًا بهذه الحقيقة الفطرية الواضحة.. إذا كان الله هو خالق السماوات والأرض؛ فهل يملك أحد أو شيء في هذه السماوات والأرض أن يكشف ضرًّا أراد الله أن يصيب به عبدًا من عباده؟ أم يملك أحد أو شيء في هذه السماوات والأرض أن يحبس رحمة أراد الله أن تنال عبدًا من عباده؟ والجواب القاطع: أن لا..
فإذا تقرر هذا فما الذي يخشاه داعية إلى الله؟ ما الذي يخشاه وما الذي يرجوه؟ وليس أحد بكاشف الضر عنه؟ وليس أحد بمانع الرحمة عنه؟ وما الذي يقلقه أو يخيفه أو يصده عن طريقه؟ إنه متى استقرت هذه الحقيقة في قلب مؤمن فقد انتهى الأمر بالنسبة إليه. وقد انقطع الجدل. وانقطع الخوف وانقطع الأمل؛ إلا في جناب الله سبحانه؛ فهو كاف عبده، وعليه يتوكل وحده:
(قل: حسبي الله. عليه يتوكل المتوكلون).. ثم إنها الطمأنينة بعد هذا والثقة واليقين. الطمأنينة التي لا تخاف. والثقة التي لا تقلق. واليقين الذي لا يتزعزع والمضي في الطريق على ثقة بنهاية الطريق:
(قل: يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل. فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم).. يا قوم! اعملوا على طريقكم وعلى حالكم. إني ماضٍ في طريقي لا أميل ولا أخاف ولا أقلق. وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه في الدنيا، ويحل عليه عذاب مقيم في الآخرة.] [في ظلال القرآن]
أمْري إليكَ عَشِيَّتي وغَداتي
يا ذا الجلالِ قَصدتُ بابَك راجِيًا
يا ذا الفضائلِ والعطاءِ تَولَّني
وأنِر سبيلي بالرضاءِ وبالهدىڑڑوعليكَ يا ربَّ السماءِ نجاتي
عَفوًا وغفرانًا يُطَهِّرُ ذاتي
وابسُطْ يديكَ برحمةٍ لحياتي
فرضاكَ عني مُنتهَى الغاياتِ
- - -
وتوكل على الحي الذي لا يموت:(1/135)
قال تعالى: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ ¾دnد‰ôJut؟2 وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ ¾دnدٹ$t6دم #¶ژچخ7yz } [الفرقان: 58]
[(وتوكل على الحي الذى لا يموت) اتخذ مَن لا يموت وكيلاً؛ لا يكلك إلى مَن يموت ذليلا.. يعنى ثق به، واسند أمرك إليه فى استكفاء شرورهم، ولا تتكل على حي يموت. وقرأها بعض الصالحين، فقال: لا يصح لذى عقل أن يثق بعدها بمخلوق.
(وسبح..) عن أن يكل إلى غيره مَن توكل عليه بتوفيقه الذى يوجب الحمد. أو قل: (سبحان الله وبحمده) أو نزهه عن كل العيوب بالثناء عليه.
أمره سبحانه بأن يثق به، ويسند أمره إليه في استكفاء شرورهم، مع التمسك بقاعدة التوكل، وأساس الالتجاء؛ وهو طاعته وعبادته، وتنزيهه وتحميده.. عَرَّفه أن الحي الذي لا يموت حقيق بأن يُتَوَكل عليه وحده، ولا يَتكل على غيره من الأحياء الذين يموتون. لأن مَن توكل على الحي الذي يموت، إذا مات المتوكَّل عليه صار المتوكِّل ضائعًا، أما هو سبحانه وتعالى فإنه حي لا يموت؛ فلا يضيع المتوكِّل عليه البتة.] [مدارك التنزيل - الكشاف - مفاتيح الغيب]
روى ابن أبي الدنيا عن أبي قدامة الرملي قال: قرأ رجل هذه الآية: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ ¾دnد‰ôJut؟2 وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ ¾دnدٹ$t6دم #¶ژچخ7yz } [الفرقان: 58] فأقبل عليّ سليمان الخواص فقال: يا أبا قدامة! ما ينبغي لعبد بعد هذه الآية أن يلجأ إلى أحد غير الله في أمره، ثم قال: انظر كيف قال الله تبارك وتعالى: { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ } فأعلمك أنه لا يموت، وأن جميع خلقه يموتون، ثم أمرك بعبادته فقال: { وَسَبِّحْ ¾دnد‰ôJut؟2 4 } ثم أخبرك أنه خبير بصير.. ثم قال: والله يا أبا قدامة! لو عامل عبدٌ اللهَ بحسن التوكل، وصدق النية له بطاعته؛ لاحتاجت إليه الأمراء، فمَن دونهم..! فكيف يكون هذا محتاجًا؛ وموئله وملجؤه إلى الغني الحميد؟!(1/136)
و[التوكل على الله نوعان: أحدهما: توكل عليه في جلب حوائج العبد، وحظوظه الدنيوية، أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية. والثاني: التوكل عليه في حصول ما يحبه هو ويرضاه؛ من الإيمان واليقين، والجهاد، والدعوة إليه.
وبين النوعين من الفضل ما لا يحصيه إلا الله.. فمتى توكل عليه العبد في النوع الثاني حق توكله؛ كفاه النوع الأول تمام الكفاية. ومتي توكل عليه في النوع الأول دون الثاني؛ كفاه أيضًا، لكن لا يكون له عاقبة المتوكل عليه فيما يحبه ويرضاه. فأعظم التوكل عليه التوكل في الهداية، وتجريد التوحيد، ومتابعة الرسول، وجهاد أهل الباطل.. فهذا توكل الرسل، وخاصة أتباعهم.
التوكل تارة يكون توكل اضطرار وإلجاء؛ بحيث لا يجد العبد ملجأ إلا التوكل، كما إذا ضاقت عليه الأسباب، وضاقت عليه نفسه، وظن أنْ لا ملجأ من الله إلا إليه. وهذا لا يتخلف عنه الفرج والتيسير البتة.. وتارة يكون توكل اختيار، وذلك التوكل مع وجود السبب المفضي إلى المراد..
وسر التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب علي الله وحده، فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها، والركون إليها، كما لا ينفعه قوله: توكلت علي الله؛ مع اعتماده على غيره، وركونه إليه، وثقته به..! فتوكل اللسان شيء، وتوكل القلب شيء.. كما أن توبة اللسان مع إصرار القلب شيء، وتوبة القلب وإن لم ينطق اللسان شيء.. فقول العبد: توكلتُ على الله؛ مع اعتماد قلبه على غيره، مثل قوله: تبتُ إلي الله؛ وهو مُصِر على معصيته، مرتكب لها..] [الفوائد]
والتوكل من حيث [القوة والضعف ثلاث درجات:
الأولى: أن يكون حاله فى حق الله تعالى الثقة بكفالته وعنايته، كحاله فى الثقة بالوكيل.(1/137)
الدرجة الثانية: وهى أقوى، أن يكون حاله مع الله تعالى كحال الطفل مع أمه فإنه لا يعرف غيرها ولا يفزع إلى سواها، ولا يعتمد إلا إياها، وإن نابه أمر كان أول خاطر يخطر على قلبه، وأول سابق إلى لسانه: يا أماه. فمن كان تألهه إلى الله، ونظره إليه، واعتماده عليه، كلف به كما يكلف الصبي بأمه، فيكون متوكلاً حقًّا. والفرق بين هذا وبين الأول، أن هذا متوكل لا يلتفت إلى غير المتوكَّل عليه، ولا مجال فى قلبه لغيره. وأما الأول، فهو متوكل بالتكليف والكسب، له التفات إلى توكله، وذلك شغل صارف عن ملاحظة المتوكَّل عليه وحده.
الدرجة الثالثة: وهى أعلى منهما، أن يكون بين يدي الله تعالى مثل الميت بين يدي الغاسل، لا يفارقه إلا أنه لا يرى نفسه ميتًا، وهذا يفارق حال الصبي مع أمه فإنه يفزع إلى أمه، ويصيح ويتعلق بذيلها. وهذه الأحوال توجد فى الخلق، إلا أن الدوام يبعد، ولاسيما المقام الثالث.] [مختصر منهاج القاصدين]
قال أبو حاتم: الواجب على العاقل لزوم التوكل على مَن تكفل بالأرزاق؛ إذ التوكل هو نظام الإيمان، وقرين التوحيد، وهو السبب المؤدي إلى نفي الفقر، ووجود الراحة. وما توكل أحد على الله جل وعلا مِن صحة قلبه؛ حتى كان الله جل وعلا بما تضمن مِن الكفالة أوثق عنده بما حوته يده؛ إلا لم يكله الله إلى عباده، وآتاه رزقه مِن حيث لم يحتسب. [روضة العقلاء]
توكلتُ في رزقي على اللهِ خالقي
وما يَكُ مِنْ رزقٍ فليسَ يَفوتُني ڑڑوأيقنتُ أنَّ اللهَ لا شكَّ رَازِقِي
ولَوْ كانَ في قاعِ البِحارِ العَوَامِقِ
- - -
إليكَ وجهتُ يا مولاي آمالي:
[عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو أنكم توكلون على اللهِ حقَّ تَوَكُّلِهِ لرزقَكم كما يرزقُ الطيرَ تَغدو خِماصًا وتَروح بِطانًا". [رواه الإمام أحمد والترمذى والنسائى وابن ماجه وابن حبان والحاكم. وقال الترمذي: حسن صحيح.](1/138)
قال أبو حاتم الرازي: هذا الحديث أصل في التوكل، وأنه من أعظم الأسباب التي يُستجلب بها الرزق. قال الله عز وجل: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ %[`uچّƒxC (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ ك]ّxm لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ ِ@ھ.uqtGtƒ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ ے¼çmç7َ،xm } [الطلاق: 2-3] وقال بعض السلف: فحسبك من التوسل إليه أن يعلم مِن قلبك حسن توكلك عليه؛ فكم مِن عبد مِن عباده قد فوض إليه أمره، وكفاه منه ما أهمَّه. ثم قرأ: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ %[`uچّƒxC (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ ك]ّxm لَا يَحْتَسِبُ }
والأعمال التي يعملها العبد ثلاثة أقسام: أحدها: الطاعات التي أمر الله عباده بها، وجعلها سببًا للنجاة من النار، ودخول الجنة. فهذا لابد من فعله مع التوكل على الله فيه، والاستعانة به عليه؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا به، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.. فمَن قصر في شيء مما وجب عليه من ذلك؛ استحق العقوبة في الدنيا والآخرة شرعًا وقدرًا.
قال يوسف بن أسباط: يُقال: اعمل عمل رجل لا ينجيه إلا عمله، وتَوَكَّل تَوَكُّل رجل لا يصيبه إلا ما كُتب له.(1/139)
والثاني: ما أجرى الله العادة به في الدنيا، وأمر عباده بتعاطيه، كالأكل عند الجوع، والشرب عند العطش، والاستظلال من الحر، والتدفؤ من البرد، ونحو ذلك.. فهذا أيضًا واجب على المرء تعاطي أسبابه. ومَن قصَّر فيه حتى تضرر بتركه مع القدرة على استعماله؛ فهو مُفَرِّط يستحق العقوبة. لكن الله سبحانه وتعالى قد يُقوي بعض عباده من ذلك مالا يُقوي عليه غيره، فإذا عمل بمقتضى قوته التي اختُص بها عن غيره؛ فلا حرج عليه. ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يواصل في صيامه، وينهى عن ذلك أصحابه، ويقول لهم: "إني لستُ كهيئتِكم؛ إني يُطعمُني ربي ويَسقيني".[متفق عليه] والأظهر أنه أراد بذلك أن الله يقوته ويغذيه بما يورده على قلبه مِن الفتوح القدسية، والمنح الإلهية، والمعارف الربانية التي تُغنيه عن الطعام والشراب بُرهة من الدهر. وقد كان كثير من السلف لهم من القوة على ترك الطعام والشراب ما ليس لغيرهم، ولا يتضررون بذلك. فمَن كان له قوة على مثل هذه الأمور فعمل بمقتضى قوته، ولم يضعفه عن طاعة الله؛ فلا حرج عليه. ومَن كلَّف نفسه ذلك حتى أضعفها عن بعض الواجبات؛ فإنه يُنكَر عليه ذلك. وكان السلف ينكرون على عبد الرحمن بن غنم؛ حيث كان يترك الأكل مدة حتى يُعاد مِن ضعفه.
القسم الثالث: ما أجرى الله العادة به في الدنيا في الأعم الأغلب كالأدوية.
وحديث "عمر" هذا يدل على أن الناس إنما يُؤتَوْنَ مِن قلة تحقيق التوكل، ووقوفهم مع الأسباب الظاهرة بقلوبهم، ومساكنتهم لها؛ فلذلك يُتعبون أنفسهم في الأسباب، ويجتهدون فيها غاية الاجتهاد؛ ولا يأتيهم إلا ما قُدِّر لهم. فلو حققوا التوكل على الله بقلوبهم؛ لساق إليهم أرزاقهم مع أدني سبب، كما يسوق الطير إلى أرزاقها بمجرد الغدو والرواح؛ وهو نوع من الطلب والسعي، لكنه سعي يسير.(1/140)
وفي حديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لن تموتَ نفسٌ حتى تستكملَ رزقَها، فاتقوا اللهَ وأجمِلوا في الطلب، خذوا ما حَلَّ، ودعوا ما حرمَ".
وقال عمر: بين العبد وبين رزقه حجاب، فإنْ قنع، ورضيت نفسه؛ آتاه الله رزقه. وإن اقتحم، وهتك الحجاب؛ لم يزد فوق رزقه.
قال المروزي: قيل لأبي عبد الله: أي شيء صدق التوكل على الله؟ قال: أن يتوكل على الله، ولا يكون في قلبه أحد من الآدميين يَطمع أن يجيبه بشيء. فإذا
كان كذلك كان الله يرزقه، وكان متوكلاً.
والتوكل لا ينافي الإتيان بالأسباب، بل قد يكون جمعهما أفضل. قال معاوية بن قرة: لقي عمر بن الخطاب ناسًا من أهل اليمن، فقال: مَن أنتم؟ قالوا: نحن المتوكلون! قال: بل أنتم المتأكلون! إنما المتوكل الذي يُلقي حبه في الأرض، ويتوكل على الله.
والمتوكل على الله حق التوكل لا يأتي بالتوكل ويجعله سببًا لحصول الكفاية له من الله بالرزق وغيره؛ فإنه لو فعل ذلك لكان كمن أتى سائر الأسباب لاستجلاب الرزق والكفاية بها، وهذا نوع نقص في تحقيق التوكل. وإنما التوكل حقيقة مَن يعلم أن الله قد ضمن لعبده برزقه وكفايته؛ فيُصدِّق الله فيما ضمنه، ويثق بقلبه، ويحقق الاعتماد عليه فيما ضمنه من الرزق؛ مِن غير أن يخرج التوكل مخرج الأسباب في استجلاب الرزق به، والرزق مقسوم لكل أحد مِن بر وفاجر، ومؤمن وكافر، كما قال تعالى: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } [هود: 6] هذا مع ضعف كثير من الدواب وعجزها عن السعي في طلب الرزق. وقال تعالى:
{ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا ِNن.$ƒخ)ur } [العنكبوت: 60] فما دام العبد حيًّا فرزقه على الله، وقد ييسره الله له بكسب، وبغير كسب. فمَن توكل على الله لِطلب الرزق؛ فقد جعل التوكل سببًا وكسبًا. ومَن توكل عليه لثقته بضمانه؛ فقد توكل عليه ثقة به، وتصديقًا بوعده.(1/141)
وما أحسن قول المثني الأنباري -وهو من أعيان أصحاب الإمام أحمد-: لا تكونوا بالمضمون مهتمين؛ فتكونوا للضامن مُتَّهِمين، وبرزقه غير راضين.
واعلم أن ثمرة التوكل الرضا بالقضاء، فمَن وكل أموره إلى الله، ورضي بما يقضيه له ويختاره؛ فقد حقَّق التوكل. ولذلك كان الحسن والفضيل وغيرهما
يفسرون التوكل على الله بالرضا.
المتوكل على الله إن صبر على ما يقدره الله له من الرزق أو غيره؛ فهو صابر. وإن رضي بما يقدر له بعد وقوعه؛ فهو الراضي. وإن لم يكن له اختيار بالكلية، ولا رضا إلا فيما يقدر له؛ فهو درجة المحبين العارفين، كما كان عمر بن عبد العزيز يقول: أصبحت ومالي سرور إلا في مواضع القضاء والقدر.] [جامع العلوم والحكم (ملخصًا)]
[والحق أنّ مَن وثق بالله، وأيقن أن قضاءه عليه ماضٍ؛ لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب؛ اتباعًا لسنته وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فقد ظاهر - صلى الله عليه وسلم - في الحرب بين دِرعين، ولبس على رأسه المغفر، وأقعد الرماة على فَم الشِّعب، وخندق حول المدينة، وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وهاجر هو، وتعاطى أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قُوتَهم، ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء؛ وهو كان أحق الخلق أن يحصل له ذلك. وقال للذي سأله: أعقل ناقتي، أو أدعها؟ قال: "اعقلها، وتوكل"؛ فأشار إلى أنّ الاحتراز لا يدفع التوكل، والله أعلم.] [فتح الباري (ملخصًا)]
قال ابن القيم: أجمع القوم على أن التوكل لا ينافي القيام بالأسباب؛ فلا يصح التوكل إلا مع القيام بها، وإلا فهو بطالة وتوكل فاسد.(1/142)
فتحقيق التوكل لا ينافي السعي في الأسباب التي قدر الله سبحانه وتعالى المقدورات بها، وجرت سنته في خلقه بذلك؛ فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكل. فالسعي في الأسباب بالجوارح طاعة له، والتوكل بالقلب عليه إيمان به. قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ } [النساء: 71]، وقال تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ } [الأنفال: 60]، وقال: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } [الجمعة: 10]
إليكَ وَجَّهْتُ يا مولاي آمالي
ولا تَكِلني إلى مَن ليس يَكْلَؤُنيڑڑفاسمعْ دُعائي وارحمْ ضَعفَ أحوالي
وكُنْ كَفيلي فأنتَ الكافِلُ الكالي
من بديع أقوالهم في التوكل:
قال الإمام أحمد: التوكل عمل القلب.
قال ابن القيم: معنى ذلك أنه عمل قلبي، ليس بقول اللسان، ولا عمل الجوارح، ولا هو من باب العلوم والإدراكات. ومن الناس من يجعله من باب المعارف والعلوم، فيقول: هو علم القلب بكفاية الرب للعبد.
ومنهم من يفسره بالسكون وخمود حركة القلب، فيقول: التوكل هو انطراح القلب بين يدي الرب، كانطراح الميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء. وهو ترك الاختيار، والاسترسال مع مجاري الأقدار.
قال سهل: التوكل الاسترسال مع الله مع ما يريد.
قال بشر الحافي: يقول أحدهم: توكلت على الله. يكذب على الله! لو توكل على الله رضي بما يفعل الله.
قال سعيد بن جبير: التوكل جماع الإيمان.
وقال وهب بن منبه: الغاية القصوى التوكل.
وقال الحسن: إنَّ تَوَكُّل العبد على ربه أن يعلم أن الله هو ثقته.
سئل يحيى بن معاذ: متى يكون الرجل متوكلا؟ فقال: إذا رضي بالله وكيلاً.(1/143)
ومنهم: من يفسره بالثقة بالله والطمأنينة إليه والسكون إليه. قال ابن عطاء: التوكل أن لا يظهر فيك انزعاج إلى الأسباب؛ مع شدة فاقتك إليها. ولا تزول عن حقيقة السكون إلى الحق؛ مع وقوفك عليها.
قال ذو النون: هو ترك تدبير النفس، والانخلاع من الحول والقوة. وإنما يقوى العبد على التوكل إذا علم أن الحق سبحانه يعلم ويرى ما هو فيه.
وقال بعضهم: التوكل التعلق بالله في كل حال.
وقيل: التوكل أن تَرِد عليك موارد الفاقات؛ فلا تسمو إلا إلى مَن إليه الكفايات.
وقيل: نفي الشكوك، والتفويض إلى مالك الملوك.
وقال ذو النون: خلع الأرباب، وقطع الأسباب. يريد قطعها مِن تعلق القلب بها، لا من ملابسة الجوارح لها.
وقال أبو تراب النخشبي: هو طرح البدن في العبودية، وتعلق القلب بالربوبية، والطمأنينة إلى الكفاية. فإنْ أُعطي شكر، وإنْ مُنع صبر.
قال أبو بكر الدقاق: التوكل رد العيش إلى يوم واحد، وإسقاط همِّ غد. قال أبو يعقوب النهرجوري: التوكل على الله بكمال الحقيقة، كما وقع لإبراهيم الخليل - عليه السلام - في الوقت الذي قال لجبريل - عليه السلام -: أمَّا إليك فلا؛ لأنه غائب عن نفسه بالله؛ فلم يَرَ مع الله غير الله.
قال سهل بن عبد الله: مَن طعن في الحركة (يعني في السعي والكسب) فقد طعن في السُّنة، ومَن طعن في التوكل فقد طعن في الإيمان. فالتوكل حال النبي - صلى الله عليه وسلم - والكسب سُنته، فمن عمل على حاله فلا يتركنَّ سُنته.
وقيل: التوكل قطع علائق القلب بغير الله.
وقيل: التوكل هجر العلائق، ومواصلة الحقائق.
وقيل: التوكل أن يستوي عندك الإكثار والإقلال.
وقيل: هو إلقاء النفس في العبودية، وإخراجها من الربوبية. يريد: استرسالها مع الأمر، وبراءتها من حولها وقوتها، وشهود ذلك بها بل بالرب وحده.(1/144)
قال ابن أبي الدنيا: بلغني عن بعض الحكماء قال: "التوكل على ثلاث درجات: أولها: ترك الشكاية. والثانية: الرضا. والثالثة: المحبة بترك الشكاية. ودرجة الصبر والرضا سكون القلب بما قسم الله له، وهي أرفع من الأولي. والمحبة أن يكون حبه لما يصنع الله به. فالأولى للزاهدين. والثانية للصادقين. والثالثة للمرسلين".
قال أبو علي الدقاق: التوكل ثلاث درجات: التوكل، ثم التسليم، ثم التفويض. فالمتوكل يسكن إلى وعده. وصاحب التسليم يكتفي بعلمه. وصاحب التفويض يرضى بحكمه.
فالتوكل بداية، والتسليم واسطة، والتفويض نهاية. فالتوكل صفة المؤمنين، والتسليم صفة الأولياء، والتفويض صفة الموحدين. التوكل صفة العوام، والتسليم صفة الخواص، والتفويض صفة خاصة الخاصة. التوكل صفة الأنبياء، والتسليم صفة إبراهيم الخليل - عليه السلام -، والتفويض صفة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
قال ابن القيم: ومعنى هذا التوكل اعتماد على الوكيل. وقد يعتمد الرجل على وكيله مع نوع اقتراح عليه، وإرادة، وشائبة منازعة.. فإذا سلَّم إليه زال عنه ذلك، ورضي بما يفعله وكيله.. وحال المفوِّض فوق هذا؛ فإنه طالب مريد ممن فوَّض إليه، ملتمس منه أن يتولى أموره؛ فهو رضا، واختيار، وتسليم، واعتماد. فالتوكل يندرج في التسليم، وهو والتسليم يندرجان في التفويض. والله سبحانه
- - -
حسبنا الله ونعم الوكيل:(1/145)
عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا خرجَ الرجلُ مِن بيتِهِ فقالَ: بسمِ اللهِ، توكلتُ على اللهِ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ؛ يقالُ لهُ: حَسبُكَ.. هُدِيتَ، وكُفِيتَ، ووُقِيتَ، وتَنَحَّى عنهُ الشيطانُ". [رواه الترمذي وحسنه، والنسائي، وابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني] ورواه أبو داود، ولفظه: "إذا خرجَ الرجلُ مِن بيتِهِ فقالَ: بسمِ اللهِ، توكلتُ على اللهِ، لا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ. يقالُ لهُ حينئذٍ: هُدِيتَ، وكُفيتَ، ووُقِيتَ، وتَنَحَّى عنه الشيطانُ. فيقولُ لهُ شيطانٌ آخر: كيفَ لكَ برجلٍ هُدِيَ، وكُفِيَ، ووُقِيَ؟". وهذا جزاء التوكل في الدنيا.
وقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله" يورث القلب عبادتين: فإذا ذكره العبد قبل الإقدام على العمل؛ علم أنه لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فلن يعينه على إتمام عمله إلا الله؛ فأورثه التوكل.. وإذا ذكره بعد إتمام العمل؛ علم أنه لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فلم يكن العمل ليتم إلا بتوفيق الله؛ فأورثه الشكر.
وقال تعالى: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ِNèdyٹ#u"sù إِيمَانًا وَقَالُوا $uZç6َ،xm اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ 5@ôزsùur لَمْ يَمْسَسْهُمْ ضنûqك™ وَاتَّبَعُوا tb¨uqôتح' اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } [آل عمران: 173-174](1/146)
[لما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من "أُحد" إلى المدينة، وسمع أن أبا سفيان ومن معه من المشركين قد هموا بالرجوع إلى المدينة، ندب أصحابه إلى الخروج، فخرجوا -على ما بهم من الجراح- استجابة لله ولرسوله، وطاعة لله ولرسوله، فوصلوا إلى "حمراء الأسد"، وجاءهم مَن جاءهم وقال لهم: (إن الناس قد جمعوا لكم)، وهموا باستئصالكم، تخويفًا لهم وترهيبًا، فلم يزدهم ذلك إلا إيمانًا بالله واتكالاً عليه. (وقالوا حسبنا الله) أي: كافينا كل ما أهمنا (ونعم الوكيل) المفوض إليه تدبير عباده، والقائم بمصالحهم. (فانقلبوا) أي: رجعوا (بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء).
وجاء الخبر المشركين أن الرسول وأصحابه قد خرجوا إليكم، وندم مَن تخلف منهم، فألقى الله الرعب في قلوبهم، واستمروا راجعين إلى مكة، ورجع المؤمنون بنعمة من الله وفضل، حيث مَنَّ عليهم بالتوفيق للخروج بهذه الحالة والاتكال على ربهم، ثم إنه قد كتب لهم أجر غزاة تامة، فبسبب إحسانهم بطاعة ربهم، وتقواهم
عن معصيته، لهم أجر عظيم، وهذا فضل الله عليهم.] [تيسير الكريم الرحمن]
قال القشيري: ازدادوا يقينًا على يقين. ومِن أمارات اليقين استقلالُ القلوب بالله عند انقطاع المُنَى مِن الخَلْق في توهم الإنجاد والإعانة.
[(حسبي الله ونعم الوكيل) النطق بهذا اللفظ مع اعتقاد معناه بالقلب والإخلاص وقوة الرجاء (أمان لكل خائف) { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [الزمر: 36]، { وَمَنْ ِ@ھ.uqtGtƒ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ ے¼çmç7َ،xm } [الطلاق: 3]
فمتى اعتقد العبد أن لا فاعل إلا الله، وأن كل موجود من خلق ورزق، وعطاء ومنع، وحياة وموت، وفقر وغنى.. هو المنفرد به؛ اكتفى به عن كل موجود، ولم ينظر إلى غيره، بل كان منه خوفه ورجاؤه، وبه ثقته، وعليه اتكاله، وكفى بالله وكيلا..] [فيض القدير](1/147)
و(حسبنا الله ونعم الوكيل) كلمة يُدفع بها ما يُخاف ويُكره، عن ابن عباس ب: (حسبُنا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ) قالها إبراهيم حين أُلقِيَ في النارِ، وقالها محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا: (إنَّ الناسَ قَد جَمَعُوا لكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وقالُوا حَسْبُنَا اللهُ ونِعْمَ الوكيلُ) [رواه البخاري]
والوكيل [هو الموكول إليه الأمور، ولكن الموكول إليه ينقسم إلى: مَن يوكل إليه بعض الأمور؛ وذلك ناقص. وإلى مَن يوكل إليه الكل؛ وليس ذلك إلا الله سبحانه وتعالى. والموكول إليه ينقسم إلى: مَن يستحق أن يكون موكولاً إليه لا بذاته، ولكن بالتفويض والتوكيل، وهذا ناقص؛ لأنه فقير إلى التفويض والتولية.. وإلى مَن يستحق بذاته أن تكون الأمور موكولة إليه، والقلوب متوكلة عليه؛ لا بتولية وتفويض مِن جهة غيره، وذلك هو الوكيل المطلق.
والوكيل أيضا ينقسم إلى: مَن يفي بما وُكل إليه وفاءً تامًا من غير قصور، وإلى مَن لا يفي بالجميع.. والوكيل المطلق هو الذي الأمور موكولة إليه، وهو قوي على القيام بها، وفي بإتمامها، وذلك هو الله تعالى فقط.] [المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى]
[إنَّ الإنسان وحده لا يستطيع أنْ يصارع الأحداث، ولا يقاوم الملمَّاتِ، ولا ينازل الخطوبَ؛ لأنه خُلِقَ ضعيفًا عاجزًا، إلا حينما يتوكلُ على ربِّه ويثقُ بمولاه، ويفوِّضُ الأمرَ إليه، وإلا فما حيلةُ هذا العبدِ الفقيرِ الحقيرِ إذا احتوشتْهُ المصائب، وأحاطتْ به النكباتُ؟ { وَعَلَى اللَّهِ (#ûqè=ھ.uqtGsù إِنْ كُنْتُمْ tûüدZدB÷s-B } [المائدة: 23](1/148)
فيا من أراد أن ينصح نفسه: توكلْ على القويِّ الغنيِّ ذي القوة المتين، لينقذك من الويلاتِ، ويخرجك من الكُرُباتِ، واجعلْ شعِارَك ودِثارك: حسبنا الله ونعم الوكيل.. فإن قلَّ مالُك، وكثُرَ دينك، وجفَّت موارِدك، وشحّت مصادِرُك؛ فنادِ: حسبنا الله ونعم الوكيل.. وإذا خفتَ من عدو، أو رُعبتَ من ظالم، أو فزعت من خَطْبٍ؛ فاهتفْ: حسبنا الله ونعم الوكيل.. { وَكَفَى y7خn/uچخ/ هَادِيًا #[ژچإءtRur } ] [لا تحزن]
- - -
اللهم إني أستخيرك بعلمك:
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلم السورة من القرآن، يقول: "إذا هَمَّ أحدُكم بالأمرِ فليركعْ ركعتينِ مِن غيرِ الفريضةِ، ثم ليقُلْ: اللهمَّ إني أستخيرُكَ بعلمِكَ، وأستقدِرُكَ بقُدرتِكَ، وأسألُكَ مِن فضلِكَ؛ فإنكَ تَقدِرُ ولا أقدِرُ، وتعلمُ ولا أعلمُ، وأنتَ علامُ الغيوبِ.. اللهمَّ فإنْ كنتَ تعلمُ هذا الأمرَ - ثم تسميه بعينه - خيرًا لي في عاجلِ أمري وآجلِهِ - قال: أو في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - فاقدُرْهُ لي، ويَسِّرْهُ لي، ثُمَّ بارِكْ لي فيهِ.. اللهمَّ وإنْ كنتَ تعلمُ أنه شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: في عاجل أمري وآجله - فاصرفني عنه، واقدُرْ ليَ الخيرَ حيثُ كانَ ثُمَّ رَضِّني بهِ". [رواه البخاري](1/149)
قال ابن حجر في "فتح الباري": [قوله: (كالسورة مِن القرآن) قيل: وجه التشبيه عموم الحاجة في الأمور كلها إلى الاستخارة، كعموم الحاجة إلى القرآن في الصلاة. وقال ابن أبي جمرة: التشبيه في تَحفُّظ حروفه، وتَرتُّب كلماته، ومنع الزيادة والنقص منه، والدَّرْس له والمحافظة عليه، ويحتمل أنْ يكون مِن جِهة الاهتمام به، والتحَقُّق لبركته والاحترام له، ويحتمل أنْ يكون مِن جهة كون كل منهما عُلِمَ بالوحي. قال الطيبي فيه إشارة إلى الاعتناء التام البالغ بهذا الدعاء وهذه الصلاة لِجعلهما تِلْوَيْنِ لِلفريضة والقرآن.
قوله: (إذا هَمَّ) قال ابن أبي جمرة: ترتيب الوارد على القلب على مراتب: الهِمَّة، ثُمَّ اللَّمَّة، ثُمَّ الخَطْرَة، ثُمَّ النِِّيَّة، ثُمَّ الإرادة، ثُمَّ العزيمة. فالثلاثة الأولى لا يُؤَاخَذ بها بخلاف الثلاثة الأخرى، فقوله: (إذا هَمَّ) يشير إلى أول ما يَرِد على القلب يستخير فيظهر له ببركة الصلاة والدعاء ما هو الخير، بخلاف ما إذا تمكن الأمر عنده، وقَوِيَت فيه عزيمته وإرادته فإنه يصير إليه مَيْل وحبّ، فيُخشَى أنْ يَخفَى عنه وجه الأرشدية لغلبة مَيْله إليه. قال: ويحتمل أنْ يكون المراد بالْهَمّ العزيمة؛ لأنَّ الخاطر لا يَثْبُت فلا يستمر إلا على ما يقصد التصميم على فعله، وإلا لو استخار في كل خاطر لاستخار فيما لا يعبأ به فتضِيع عليه أوقاته.
قال ابن أبي جمرة: الحكمة في تقديم الصلاة على الدعاء أنَّ المراد بالاستخارة حصول الجمع بين خيري الدنيا والآخرة؛ فيحتاج إلى قَرْع باب الْمَلِك، ولا شيء لذلك أنجع ولا أنجح مِن الصلاة؛ لما فيها مِن تعظيم الله، والثناء عليه، والافتقار إليه مآلاً وحالاً.
قوله: (وأستقدِرُك) أي: أطلب منك أنْ تجعل لي على ذلك قدرة، ويحتمل أنْ يكون المعنى: أطلب منك أنْ تَقْدُرهُ لي، والمراد بالتقدير التيسير.(1/150)
قوله: (وأسألك مِن فضلك) إشارة إلى أنَّ إعطاء الرب فضل منه، وليس لأحَد عليه حق في نِعَمه، كما هو مذهب أهل السنة.
قوله: (فإنك تَقدِرُ ولا أقْدِرُ، وتعلَم ولا أعلَم) إشارة إلى أنَّ العِلم والقدرة لله وَحْده، وليس للعبد من ذلك إلا ما قَدَّرَ الله له، وكأنه قال: أنتَ يا رَبِّ تُقَدِّر قَبْل أنْ تَخْلُق فِيّ القُدْرَة، وعندما تَخْلُقها فِيَّ، وبعدما تَخْلُقها.
قوله: (فاقْدُره لي) أي: اجعله مَقْدُورًا لي أو قَدِّره، وقيل: معناه يَسِّرْهُ لي.
قوله: (فاصرِفْه عني واصرِفْني عنه) أي حتى لا يَبقَى قلبه بعد صَرْف الأمر عنه مُتعلِّقًا به، وفيه دليل لأهل السُّنَّة أنَّ الشَّرّ مِن تَقدير الله على العبد لأنه لو كان يقدر على اختراعه لقدر على صرفه، ولم يحتج إلى طلب صَرْفه عنه.
قوله: (ثُمَّ رَضِّنِي) به أي: اجعلني به راضيًا، والسِّرّ فيه أنْ لا يَبْقَى قلبه مُتعلِّقًا به فلا يطمئن خاطره. والرِّضَا سكون النَّفْس إلى القضاء.
وفي الحديث: شفقة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته وتعليمهم جميع ما ينفعهم في دينهم ودنياهم.] أ.هـ (ملخصًا)
فـ[يجب على المؤمن رد الأمور كلها إلى الله، وصرف أزِمَّتها والتبرؤ من الحول والقوة إليه، وينبغى له أن لا يروم شيئًا من دقيق الأمور وجليلها، حتى يستخير الله فيه ويسأله أن يحمله فيه على الخير ويصرف عنه الشر؛ إذعانًا بالافتقار إليه فى كل أمر والتزامًا لذلة العبودية له، وتبركًا باتباع سُنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فى الاستخارة، ولذلك كان النبى - صلى الله عليه وسلم - يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن؛ لشدة حاجتهم إلى الاستخارة فى الحالات كلها، كشدّة حاجتهم إلى القراءة فى كل الصلوات.] [شرح البخاري لابن بطال](1/151)
[الألفاظ الواردة في الدعاء كإثبات العلم والقدرة والفضل العظيم للخالق - سبحانه وتعالى -، ثم نفي العلم والقدرة والحول والقوة عن المخلوق، وطلب خير الأمرين؛ تجعل الاستخارة مبنية على التوكل، وبالتالي يلزم المستخير التوكل عليه - سبحانه وتعالى - في مسألته ومن ثم سيكفيه الله هذا الأمر في الدنيا قبل الآخرة، وهذا هو جوهر الفرق بين الدعاء المحض والاستخارة.
وليس من شرط الاستخارة أن يرى المستخير رؤيا في منامه كما يعتقده كثير من العوام، بل هي قرينة كبقية قرائن التيسير أو الصرف. ولا يجوز بعد الاستخارة الدعاء بتيسير أمر بعينه؛ لأنه ينافي طلب الخيرة، ولكن عليه الإكثار من الدعاء بأن يختار الله له خير الأمرين. ويجتهد المستخير في تحقيق صدق النية في طلب الخيرة، وأن تكون الاستخارة نابعة عن اعتقاد جازم بأن الله سوف يختار له خير الأمرين، وإلا لا يُعد مستخيرًا.
ويجوز الاستخارة بالدعاء في حال تعذر الصلاة كالحائض والنفساء والخوف من فوات الأمر، فإذا زال المانع قبل أن ينقضي الأمر، فالأفضل أن يعيدها مع الصلاة إذا كان قلبه لا يطمئن إلا بذلك، فالسلامة لا يعدلها شيء، ويجوز الاستخارة بالدعاء أيضًا عند الحاجة إذا كان من المكثرين منها.
وكلما أكثر العبد من الاستخارة، ورأى ثمارها زاد توكله، وكلما زاد توكله زادت بصيرته وإيمانه ويقينه، مما يجعله محافظًا عليها ومكثرًا منها، وهذه المحافظة والإكثار تحافظ على مستوى الإيمان وتزيده وتجدده؛ إلى أن يصبح قلبه معلقًا بها بإذن الله، وهذه الصلاة من أسهل العبادات التي تساعد على تقوية التوكل.
ومن علامات حسن التوكل في الاستخارة: طمأنينة القلب بموعود الله تعالى؛ لأنك تعتقد بأن شرًّا سيُصرف عنك، أو خيرًا سيتيسر لك، فإذا حصل ضعف في التوكل ظهرت علامات تدل عليه.
والتوكل يتضمن الطمأنينة، قال شيخ الإسلام: فالتوكل عليه يتضمن الطمأنينة إليه، والاكتفاء به عما سواه.(1/152)
وكلما أكثر العبد من الاستخارة، ورأى ثمارها في زيادة حصول الخير أو زيادة الشر المصروف عنه، ازداد باله صلاحًا؛ حتى يصبح قلبه معلقًا بها، فحينئذٍ لن يُقدِم على شيء بإذن الله إلا بعد أن يستخير ربه. ومثل هذا الإكثار يدخل في عموم تتابع الحسنات.] [صلاة الاستخارة للبيضاني (بتصرف)]
وصلاة الاستخارة هي الملجأ الذي يركن إليه الأكابر؛ مهما كان الأمر الذي يُقدمون عليه قد بدا خيره؛ ففي مسند الإمام أحمد عن أنس - رضي الله عنه - قال: لما انقضت عِدَّة زينب ل قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزيد: "اذهب فاذكرها علَيَّ". قال: فانطلق حتى أتاها، قال: وهي تُخَمِّر عجينها، فلما رأيتُها عَظُمَتْ في صدري حتى ما أستطيع أنْ أنظر إليها أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرها، فوليتُها ظهري، وركضتُ على عَقِبَيَّ، فقلتُ: يا زينب! أبشري.. أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرك. قالتْ: "ما أنا بصانعة شيئًا حتى أُؤَامِرَ ربي عز وجلّ، فقامتْ إلى مسجدها.." الحديث
- - -
أقباس نورانية من أخبار المتوكلين:(1/153)
قال تعالى: { قَالُوا çnqè%حhچxm (#ےrمژفاR$#ur آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ ڑْüد=دè"sù (68) قُلْنَا يَا نَارُ 'دTqن. بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى zOٹدd¨uچِ/خ) (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا مNكg"sYù=yèyfsù الْأَخْسَرِينَ } [الأنبياء: 68-70]. [وذلك أنهم شرعوا يجمعون حطبًا من جميع ما يمكنهم مِن الأماكن، فمكثوا مدة يجمعون له حتى أن المرأة منهم كانت إذا مرضت تنذر: لئن عُوفِيَتْ لتحملنَّ حطبًا لحريق إبراهيم! ثم عمدوا إلى جوبة (حفرة) عظيمة، فوضعوا فيها ذلك الحطب، وأطلقوا فيه النار؛ فاضطرمت، وتأججت، والتهبت، وعلا لها شرر لم يُرَ مثله قط.. ثم وضعوا إبراهيم - عليه السلام - في كفة منجنيق صنعه لهم رجل من الأكراد يقال له: "هزن" (في الطبري والكامل: هيزن)، وكان أول مَن صنع المجانيق؛ فخسف الله به الأرض؛ فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. ثم أخذوا يقيدونه ويكتفونه؛ وهو يقول: لا إله إلا أنت سبحانك، لك الحمد، ولك الملك، لا شريك لك.. فلما وضع الخليل - عليه السلام - في كفة المنجنيق مقيدًا مكتوفًا، ثم ألقوه منه إلى النار؛ قال: حسبنا الله ونعم الوكيل.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "لما أُلقيَ إبراهيمُ في النارِ قال: اللهمَّ إنكَ في السماءِ واحدٌ، وأنا في الأرضِِ واحدٌ أعبدُكَ". [رواه ابن عساكر في تاريخه](1/154)
وذكر بعض السلف أن جبريل - عليه السلام - عرض له في الهواء، فقال: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا.. ويروى عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، أنه قال: جعل مَلَك المطر يقول: متى أومر؛ فأرسل المطر؟ فكان أمر الله أسرع: { قُلْنَا يَا نَارُ 'دTqن. بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى zOٹدd¨uچِ/خ) } [الأنبياء: 69] قال علي بن أبي طالب: أي لا تضريه. وقال ابن عباس وأبو العالية: لولا أن الله قال: (وسلامًا على إبراهيم) لأذى إبراهيمَ بردُها. وقال كعب الأحبار: لم ينتفع أهل الأرض يومئذ بنار، ولم يُحرَق منه سوى وثاقه! وقال الضحاك: يروى أن جبريل - عليه السلام - كان معه يمسح العرق عن وجهه، لم يصبه منها شئ غيره. وقال السدي: كان معه أيضًا مَلَك الظل.
وصار إبراهيم - عليه السلام - في ميل الجوبة (الحفرة)، حوله النار، وهو في روضة خضراء، والناس ينظرون إليه لا يقدرون على الوصول إليه، ولا هو يخرج إليهم. فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: أحسن كلمة قالها أبو إبراهيم؛ إذ قال لما رأى ولده على تلك الحال: نعم الرب ربك يا إبراهيم!
وروى ابن عساكر عن عكرمة أن أم ابراهيم نظرت إلى ابنها - عليه السلام - فنادته: يا بُني! إني أريد أن أجئ إليك؛ فادعُ الله أن ينجيني من حر النار حولك. فقال: نعم.. فأقبلت إليه، لا يمسها شئ من حر النار.. فلما وصلت إليه اعتنقته وقبلته ثم عادت.
وعن المنهال بن عمرو أنه قال: أُخبرت أن إبراهيم - عليه السلام - مكث هناك إما أربعين، وإما خمسين يومًا، وأنه قال: ما كنت أيامًا وليالي أطيب عيشًا؛ إذ كنت فيها، ووددت أن عيشي وحياتي كلها مثل إذ كنت فيها!! صلوات الله وسلامه عليه.(1/155)
فأرادوا أن ينتصروا فخُذِلوا، وأرادوا أن يرتفعوا فاتضعوا، وأرادوا أن يَغلبوا فغُلبوا.. قال الله تعالى: { وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا مNكg"sYù=yèyfsù الْأَخْسَرِينَ } وفي آية أخرى: (الأسفلين)؛ ففازوا بالخسارة والسفال.. هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فإن نارهم لا تكون عليهم بردًا ولا سلامًا، ولا يُلَقَّوْنَ فيها تحية ولا سلامًا، بل هي كما قال تعالى: { إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا } [الفرقان: 66]] [البداية والنهاية]
عن سعيد بن جبير، قال ابن عباس ب: أول ما اتخذ النساء المنطق من قِبَل أم إسماعيل؛ اتخذت منطقًا لتُعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابًا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم منطلقًا؛ فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إيراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟! فقالت له ذلك مرارًا، وجعل لا يتلفت إليها! فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا؟ قال: نعم.. قالت: إذن لا يضيعنا..
ثم رجعت، فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه؛ استقبل(1/156)
بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الكلمات، ورفع يديه فقال: { رَبَّنَا 'دoTخ) أَسْكَنْتُ مِنْ سةLƒحh'èŒ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ ü"بq÷ksE ِNخkِژs9خ) وَارْزُقْهُمْ مِنَ دN¨uچyJ¨W9$# لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [إبراهيم: 37] وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل، وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفذ ما في السقاء؛ عطشت، وعطش ابنها.. وجعلت تنظر إليه يتلوى (أو قال: يتلبط) فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر: هل ترى أحدًا؟ فلم تر أحدًا، فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي؛ رفعت طرف دِرعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى إذا جاوزت الوادي، ثم أتت المروة، فقامت عليها، ونظرت: هل ترى أحدًا؟ فلم تر أحدًا.. ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فذلك سعي
الناس بينهما".(1/157)
فلما أشرفت على المروة؛ سمعت صوتًا، فقالت: صه! -تريد نفسها- ثم تسمعت؛ فسمعت أيضًا، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث؛ فإذا هي بالملَك عند موضع زمزم. فبحث بعقِبه، أو قال بجناحه؛ حتى ظهر الماء؛ فجعلت تحوضه(1)، وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها؛ وهو يفور بعد ما تغرف.
قال ابن عباس: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يرحمُ اللهُ أمَّ إسماعيلَ لو كانتْ تركتْ زمزمَ -أو قال: لو لم تغرف من الماء- لكانتْ زمزمُ عينًا مَعينًا".
قال: فشربتْ، وأرضعتْ ولدها. قال لها الملَك: لا تخافوا الضيعة؛ فإن ها هنا
بيتُ الله؛ يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لا يُضيِّعُ أهله. [رواه البخاري]
__________
(1) المنطق): ما يُشد به الوسط. (لتعفي أثرها): أي لتجره على الأرض، وتخفي أثرها على سارة. (دوحة): شجرة كبيرة. (جِرابًا): ما يُتخذ من الجلد لتوضع فيه الزوادة. (قَفَّى): من التقفية، وهي الإعراض والتولي، يعني وَلَّى راجعًا. (الثَّنِيَّة) الطريق العالي في الجبل. (أفئدة): جمع فؤاد، وهو القلب، والمراد الناس أصحاب القلوب. (تهوي إليهم): تقصدهم وتسكن إليهم. (يتلوى): يتمرغ وينقلب ظهرًا لبطن ويمينًا وشمالاً. (يتلبط): يتمرغ، ويضرب بنفسه الأرض، وقيل: يحرك لسانه وشفتيه كأنه يموت. (دِرعها): قميصها. (سعت): هرولت وأسرعت في خطاها. (المجهود): الذي أصابه الجهد وهو الأمر الشاق. (فذلك سعي الناس بينهما): أي سبب مشروعية السعي بين الصفا والمروة لإحياء تلك الذكرى في النفوس؛ لتنشط في الالتجاء إلى الله عز وجل في كل حال. (صه): أي قالت لنفسها: اسكتي. (غواث): من الغوث، أي إن كان غوث فأغثني. (بالملك): أي جبريل = = عليه السلام. (فبحث بعقبه): البحث طلب الشيء في التراب، وكأنه حفر بطرف رجله. (تحوضه): تجعله كالحوض لئلا يذهب الماء. (تقول بيدها): هو حكاية لفعلها.(1/158)
قال البخاري: حدثنا خلاد بن يحيى، حدثنا عبد الواحد ابن أيمن، عن أبيه قال: أتيتُ جابرًا فقال: إنا يوم الخندق نحفر، فعرضت كُدْيَة(1) شديدة، فجاءوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: هذه كُدية عَرَضَت في الخندق. فقال: أنا نازل. ثم قام؛ وبطنه معصوب بحجر. ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقًا، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - المِعْوَل فضرب، فعاد كثيبًا أهيل (أو: أهيم). فقلتُ: يا رسول الله! ائذن لي إلى البيت، فقلتُ لامرأتي: رأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا ما كان في ذلك صبر؛ فعندك شيء؟ قالت: عندي شعير وعَناق. فذبحت العناق، وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم في البرمة، ثم جئتُ النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ والعجين قد انكسر، والبرمة بين الأثافي(2) كادت أن تنضج. فقلتُ: طُعَيم لي، فقم أنت يا رسول الله، ورجل أو رجلان.. قال: كم هو؟ فذكرتُ له، فقال: كثير طيب.. قُل لها: لا تنزع البرمة، ولا الخبز من التنور؛ حتى آتي.. فقال: قوموا؛ فقام المهاجرون والأنصار..
فلما دخل على امرأته، قال: ويحك! جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمهاجرين والأنصار ومَن معهم.. قالت: هل سألك؟ قلتُ: نعم.. فقال ادخلوا ولا تضاغطوا، فجعل يكسر الخبز، ويجعل عليه اللحم، ويُخَمِّر(3) البرمة والتنور إذا أخذ منه، ويُقرِّب إلى أصحابه، ثم ينزع.. فلم يزل يكسر الخبز ويغرف، حتى شبعوا.. وبقي بقية؛ قال: كلي هذا، وأهدي؛ فإن الناس أصابتهم مجاعة. [رواه البخاري]
__________
(1) الكُدْية الأَرض الغليظة، وقيل: الأَرض الصلبة، وقيل: الارتفاع من الأَرض، وقيل: صَلابة تكون في الأَرض.
(2) الأُثْفِيَّة والإثْفِيّة: الحجر الذي تُوضَع عليه القِدْر، وجمعها: أثافيُّ وأثافٍ. (3) يُغَطي.(1/159)
ورواه البيهقي في "الدلائل" عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن يونس بن بكير، عن عبد الواحد بن أيمن، عن أبيه، عن جابر: "قصة الكُدية والطعام"، وطوله أتم من رواية البخاري، قال فيه: لما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - بمقدار الطعام قال للمسلمين جميعًا: قوموا إلى جابر، فقاموا. قال: فلقيتُ مِن الحياء مالا يعلمه إلا الله! وقلتُ: جاءنا بخَلق على صاع من شعير وعَناق! ودخلتُ على امرأتي أقول: افتضحتِ؛ جاءك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالخندق أجمعين.. فقالت: هل كان سألك: كم طعامك؟ قلتُ: نعم.. فقالتْ: الله ورسوله أعلم. قال: فكشفت عني غمًّا شديدًا.. قال: فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: خدمي، ودعيني من اللحم. وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يثرد ويغرف اللحم، ويخمر هذا، ويخمر هذا، فما زال يُقرِّب إلى الناس؛ حتى شبعوا أجمعين.. ويعود التنور والقِدر أملأ ما كانا.. ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كلي، وأهدي. فلم تزل تأكل وتُهدي يومها.] [البداية والنهاية](1/160)
عن علي بن الموفق قال: سمعت حاتم الأصم يقول: لقينا الترك، وكان بيننا جولة؛ فرماني بوَهَق(1)؛ فقلبني عن فرسي، ونزل عن دابته؛ فقعد على صدري، وأخذ بلحيتي هذه الوافرة، وأخرج من خُفه سكينًا ليذبحني..! فوحق سيدي؛ ما كان قلبي عنده، ولا عند سكينه! إنما كان قلبي عند سيدي؛ أنظر ماذا ينزل به القضاء منه؟! فقلت: سيدي! إنْ قضيتَ عليَّ أن يذبحني هذا؛ فعلى الرأس والعين.. وإنما أنا لك، وملكك.. فبينا أنا أخاطب سيدي؛ وهو قاعد على صدري، آخذ بلحيتي ليذبحني؛ إذ رماه بعض المسلمين بسهم، فما أخطأ حلقه؛ فسقط عني؛ فقمت أنا إليه؛ فأخذت السكين من يده، وذبحته.. فما هو إلا أن تكون قلوبكم عند السيد؛ حتى تروا من عجائب لطفه مالم تروا من الآباء والأمهات. [صفة الصفوة]
كان حاتم الأصم حاله التوكل على الله عز وجل، وكان كثير العيال، وذات ليلة جلس مع أصحابه يتحدث، فتعرضوا لذكر الحج؛ فداخل الشوق قلبه، ثم دخل على أولاده، وقال لهم: لو أذنتم لأبيكم أن يذهب إلى بيت ربه هذا العام حاجًّا، ويدعو لكم؟ فقالت زوجته وأولاده: أنت على هذه الحال لا تملك شيئًا، ونحن على ما ترى من الفاقة؛ فإلى مَن تتركنا؟!
وكان له ابنة صغيرة، فقالت: دعوه يذهب؛ فإنه مناول للرزق وليس برزاق، وإنه إنْ ذهب الأكَّال فقد بقي الرزاق.. فقالوا: صدقتْ والله الصغيرة.. يا أبانا! انطلق حيث أحببت! فقام من ساعته، وأحرم بالحج.
وبعد فترة وجيزة نفد ما تركه لهم أبوهم من مال، فجعلوا يلومون تلك الصغيرة، ويقولون: لو سكتِّ ما تكلمنا.. فرفعت الصغيرة طرفها إلى السماء وقالت: إلهي وسيدي ومولاي.. عوَّدتَ القوم بفضلك؛ فلا تضيعهم ولا تخيبهم، ولا تُخجلني معهم..
__________
(1) الوَهَق الحبل المُغاز يُرْمى فيه أُنشوطة فتؤخذ فيه الدابة والإنسان، والجمع أَوْهاق. والأُنْشُوطة عُقْدة يَسْهُل انحلالها يقال: ما عِقالُك بأُنْشوطة، أَي: ما مَوَدَّتُك بوَاهِية. [لسان العرب](1/161)
وبينما هم على تلك الحال؛ إذ خرج أمير البلد متصيدًا، وحصل له عطش شديد، فاجتاز ببيت الرجل الصالح حاتم الأصم، واستسقى منهم ماءًا، فأخرجوا له كوزًا به ماء بارد؛ فاستطابه الأمير، وأحب أن يكافئهم؛ فحلِّ منطقته من وسطه، ورمى بها في الدار، ثم قال لأصحابه: مَن أحبني وافقني..! فحلَّ أصحابه مناطقهم، ورموا بها إليهم، ثم انصرفوا.. وبعد قليل رجع إليهم الوزير، ودفع إليهم ثمن المناطق مالاً جزيلاً، واستردها منهم..
فلما رأت الصبية ذلك بكت بكاءًا شديدًا، فتعجبت الأم من أمرها، وقالت: لماذا تبكين وقد وسَّع الله علينا؟! قالت: لأن مخلوقًا نظر إلينا فاستغنينا؛ فكيف إذا
نظر الخالق عز وجل؟ اللهم انظر إلى أبينا، ودبِّره بأحسن التدبير..
في صحيح البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار، فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم. فقال: كفى بالله شهيدًا. قال: فائتني بالكفيل. قال: كفى بالله كفيلا.. قال: صدقت.. فدفعها إليه إلى أجل مسمى. فخرج في البحر فقضى حاجته، ثم التمس مركبًا يركبها؛ يُقدِمُ عليه للأجلِ الذي أجَّلَه، فلم يجد مركبًا.. فأخذ خشبة، فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه، ثم زَجَّجَ(1) موضعها، ثم أتى بها إلى البحر، فقال: اللهم إنك تعلم أني كنتُ تسلفتُ فلانًا ألف دينار، فسألني كفيلا فقلتُ: كفى بالله كفيلا؛ فرضي بك.. وسألني شهيدًا، فقلتُ: كفى بالله شهيدًا؛ فرضي بك.. وأني جهدتُ أن أجد مركبًا أبعث إليه الذي له، فلم أقدر، وإني أستودعكها..
__________
(1) أي سَوَّى موضع النَّقْرِ وأَصلحه مِن تزجيج الحواجب، وهو حذف زوائد الشعر. قال ابن الأَثير: ويحتمل أَن يكون مأخوذًا من الزُّجِّ النصل، وهو أَن يكون النَّقْرُ في طرف الخشبة فترك فيه زُجًّا ليمسكه ويحفظ ما في جوفه. [لسان العرب](1/162)
فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه، ثم انصرف؛ وهو في ذلك يلتمس مركبًا يخرج إلى بلده، فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبًا قد جاء بماله فإذا بالخشبة التي فيها المال، فأخذها لأهله حطبًا، فلما نشرها وجد المال والصحيفة.. ثم قَدِم الذي كان أسلفه، فأتى بالألف دينار، فقال: والله ما زلتُ جاهدًا في طلب مركب لآتيك بمالك، فما وجدتُ مركبًا قبل الذي أتيتُ فيه. قال: هل كنتَ بعثتَ إليّ بشيء؟ قال: أخبرك أني لم أجد مركبًا قبل الذي جئتُ فيه.. قال: فإنَّ الله قد أدَّى عنك الذي بعثتَ في الخشبة، فانصرِف بالألف الدينار راشدًا.
- - -
ثالثا: الصلاة
واصطبر عليها:
قال تعالى: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ دo4qn=¢ء9$$خ/ ِژة9sـô¹$#ur عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } [طه: 132]
[أُمر - صلى الله عليه وسلم - أنْ يأمر أهله بالصلاة بعدما أُمِر هو بها؛ ليتعاونوا على الاستعانة على خصاصتهم، ولا يهتموا بأمر المعيشة، ولا يلتفتوا لفت ذوي الثروة.
(واصطبر عليها..) أي وداوم عليها، فالصبر مجاز مرسل عن المداومة. وفيه إشارة إلى أن العبادة في رعايتها حق الرعاية مشقة على النفس. والخطاب عام شامل للأهل؛ وإن كان في صورة الخاص.
(لا نسألك رزقا نحن نرزقك..) دفع لما عسى أن يخطر ببال أحد من أن المداومة على الصلاة ربما تضر بأمر المعاش، فكأنه قيل: داوموا على الصلاة غير مشتغلين بأمر المعاش عنها؛ إذ لا نكلفكم رزق أنفسكم؛ إذ نحن نرزقكم.(1/163)
قد يستشعر من الآية أن الصلاة مطلقًا تكون سببًا لإدرار الرزق وكشف الهم، وعلى ذلك يُحمل ما جاء في الأخبار: أخرج أبو عبيد، وسعيد بن منصور، وابن المنذر، والطبراني في "الأوسط"، وأبو نعيم في "الحلية"، والبيهقي في "شعب الإيمان" بسند صحيح عن عبد الله بن سلام قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نزلت بأهله شدة أو ضِيق؛ أمَرَهم بالصلاة، وتلا: (وأمر أهلك بالصلاة..).] [روح المعاني (ملخصًا)]
وذكر القرطبي في تفسيره: أن الله تعالى أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - [بأن يأمر أهله بالصلاة ويمتثلها معهم، ويصطبر عليها ويلازمها. وهذا خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ويدخل في عمومه جميع أمته؛ وأهل بيته على التخصيص. وكان - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هذه الآية
يذهب كل صباح إلى بيت فاطمة وعلي رضوان الله عليهما فيقول: "الصلاة"..
وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يوقظ أهل داره لصلاة الليل، ويصلي وهو يتمثل بالآية. ] أ.هـ
[فأول واجبات الرجل المسلم أن يحول بيته إلى بيت مسلم، وأن يوجه أهله إلى أداء الفريضة التي تصلهم معه بالله، فتوحد اتجاههم العلوي في الحياة. وما أروح الحياة في ظلال بيت أهله كلهم يتجهون إلى الله.
(واصطبر عليها..) على إقامتها كاملة، وعلى تحقيق آثارها. إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ وهذه هي آثارها الصحيحة. وهي في حاجة إلى اصطبار على البلوغ بالصلاة إلى الحد الذي تثمر فيه ثمارها هذه في المشاعر والسلوك. وإلا فما هي صلاة مقامة. إنما هي حركات وكلمات.(1/164)
هذه الصلاة والعبادة والاتجاه إلى الله هي تكاليفك، والله لا ينال منها شيئًا. فالله غني عنك وعن عبادة العباد: (لا نسألك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى..) إنما هي العبادة تستجيش وجدان التقوى، (والعاقبة للتقوى..). فالإنسان هو الرابح بالعبادة في دنياه وأخراه. يعبد فيرضى ويطمئن ويستريح. ويعبد فيجزى بعد ذلك الجزاء الأوفى. والله غني عن العالمين. ] [الظلال]
فـ[الصلاة قرة عُيون المحبين، ولذة أرواح الموحدين، وبستان العابدين، ولذة نفوس الخاشعين، ومحك أحوال الصادقين، وميزان أحوال السالكين، وهي رحمةُ الله المهداة إلى عباده المؤمنين.
هداهم إليها، وعرَّفهم بها، وأهداها إليهم على يد رسوله الصادق الأمين، رحمة بهم، وإكرامًا لهم، لينالوا بها شرف كرامته، والفوز بقربه لا لحاجة منه إليهم، بل مِنَّة منه وتفضُّلا عليهم، تعبَّد بها قلوبهم وجوارحهم جميعًا، وجعل حظ القلب العارف منها أكمل الحظين وأعظمهما؛ وهو إقباله على ربِّه سبحانه، وفرحه وتلذذه بقربه، وتنعمه بحبه، وابتهاجه بالقيام بين يديه، وانصرافه حال القيام له بالعبودية عن الالتفات إلى غير معبوده، وتكميله حقوق عبوديته ظاهرًا وباطنًا حتى تقع على الوجه الذي يرضاه ربه سبحانه.(1/165)
ولما امتحن الله سبحانه عبده بالشهوة وأشباهها من داخلٍ فيه وخارجٍ عنه، اقتضت تمام رحمته به وإحسانه إليه أن هيأ له مأدبة قد جمعت من جميع الألوان والتحف والخُلَع والعطايا، ودعاه إليها كل يوم خمس مرَّات، وجعل في كل لون مِن ألوان تلك المأدبة لذة ومنفعة ومصلحة ووقارًا لهذا العبد ليست في اللون الآخر؛ لتكمل لذة عبده في كل من ألوان العبودية، ويُكرمه بكلِّ صنفٍ من أصناف الكرامة، ويكون كل فعل من أفعال تلك العبودية مُكفّرًا لمذموم كان يكرهه بإزائه، ويثيبه عليه نورًا خاصًّا؛ فإنّ الصلاة نور وقوة في قلبه وجوارحه، وسعة في رزقه، ومحبة في العباد له، وإن الملائكة لتفرح، وكذلك بقاع الأرض، وجبالها وأشجارها، وأنهارها تكون له نورًا و ثوابًا خاصًّا يوم لقائه.
فيصدر المدعو من هذه المأدبة وقد أشبعه وأرواه، وخلع عليه بخلع القبول وأغناه، وذلك أن قلبه كان قبل أن يأتي هذه المأدبة قد ناله من الجوع والقحط والجدب والظمأ والعري والسقم ما ناله، فصدر من عنده وقد أغناه وأعطاه مِن الطعام والشراب واللباس والتحف ما يُغنيه.
ولما كانت الجدُوب متتابعة على القلوب، وقحطُ النفوس متواليًا عليها، جدّد له الدعوة إلى هذه المأدبة وقتًا بعد وقت رحمة منه به، فلا يزال مُستسقيًا، طالبًا إلى مَن بيده غيثُ القلوب وسَقيُها، مستمطرًا سحائب رحمته لئلا يَيبس ما أنبتته له تلك الرحمة من نبات الإيمان، وكلأ الإحسان وعُشبه وثماره، ولئلا تنقطع مادة النبات من الروح والقلب؛ فلا يزال القلب في استسقاء واستمطار هكذا دائمًا، يشكو إلى ربه جدبه، وقحطه، وضرورته إلى سُقيا رحمته، وغيث برِّه، فهذا دأب
العبد أيام حياته.] [أسرار الصلاة لابن القيم]
ومن ثم كان التأكيد بالمحافظة عليها في الحضر والسفر، والأمن والخوف، والسلم والحرب:(1/166)
قال تعالى: { وَإِذَا كُنْتَ ِNخkژدù فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ ×pxےح!$sغ مِنْهُمْ y7yè¨B وَلْيَأْخُذُوا ِNهkyJysد=َ™r& فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ ِNà6ح!#u'ur وَلْتَأْتِ îpxےح!$sغ 2"uچ÷zé& لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ ِNهkyJysد=َ™r&ur } [النساء: 102]
[إن المتأمل في أسرار هذا القرآن؛ وفي أسرار المنهج الرباني للتربية، المتمثل فيه، يطلع على عجب من اللفتات النفسية، النافذة إلى أعماق الروح البشرية. ومنها هذه اللفتة في ساحة المعركة إلى الصلاة..
إن السياق القرآني لا يجيء بهذا النص هنا لمجرد بيان الحكم "الفقهي" في صفة صلاة الخوف. ولكنه يحشد هذا النص في حملة التربية والتوجيه والتعليم والإعداد للصف المسلم وللجماعة المسلمة.
وأول ما يلفت النظر هو الحرص على الصلاة في ساحة المعركة! ولكن هذا طبيعي بل بديهي في الاعتبار الإيماني. إن هذه الصلاة سلاح من أسلحة المعركة. بل إنها السلاح! فلا بد من تنظيم استخدام هذا السلاح بما يتناسب مع طبيعة المعركة، وجو المعركة!
ولقد كان أولئك الرجال -الذين تربوا بالقرآن وفق المنهج الرباني- يلقون عدوهم بهذا السلاح الذي يتفوقون فيه قبل أي سلاح. لقد كانوا متفوقين في إيمانهم بإله واحد يعرفونه حق المعرفة؛ ويشعرون أنه معهم في المعركة. متفوقين كذلك في إيمانهم بهدف يقاتلون من أجله؛ ويشعرون أنه أرفع الأهداف جميعًا. متفوقين أيضًا في تصورهم للكون والحياة ولغاية وجودهم الإنساني، تفوقهم في تنظيمهم الاجتماعي الناشئ من تفوق منهجهم الرباني.. وكانت الصلاة رمزًا لهذا كله، وتذكيرًا بهذا كله. ومِن ثَمَّ كانت سلاحًا في المعركة. بل كانت هي السلاح!(1/167)
والأمر الثاني الذي يلفت النظر في هذا النص هو هذه التعبئة الروحية الكاملة تجاه العدو. وهذا الحذر الذي يوصَّى المؤمنون به تجاه عدوهم الذي يتربص بهم لحظة غفلة واحدة عن أسلحتهم وأمتعتهم؛ ليميل عليهم ميلة واحدة! ومع هذا التحذير والتخويف، التطمين والتثبيت؛ إذ يخبرهم أنهم إنما يواجهون قومًا كتب الله عليهم الهوان: (إنَّ اللهَ أعدَّ للكافرينَ عذابًا مهينًا).. وهذا التقابل بين التحذير والتطمين؛ وهذا التوازن بين استثارة حاسة الحذر وسكب فيض الثقة؛ هو طابع هذا المنهج في تربية النفس المؤمنة والصف المسلم، في مواجهة العدو الماكر العنيد اللئيم!] [الظلال (ملخصًا)]
[فلله أعظم حمد وثناء على ما مَنَّ به على المؤمنين، وأيَّدَهم بمعونته وتعاليمه التي لو سلكوها على وجه الكمال لم تُهزَم لهم راية، ولم يظهر عليهم عدو في وقت من الأوقات.
{ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } [النساء: 103]
أي: فإذا فرغتم من صلاتكم، صلاة الخوف وغيرها، فاذكروا الله في جميع أحوالكم وهيئاتكم، ولكن خُصت صلاة الخوف بذلك لفوائد؛ منها: أن القلب صلاحه وفلاحه وسعادته بالإنابة إلى الله تعالى في المحبة، وامتلاء القلب من ذكره والثناء عليه.. وأعظم ما يحصل به هذا المقصود الصلاة، التي حقيقتها أنها صلة بين العبد وبين ربه.
ومنها: أن فيها من حقائق الإيمان ومعارف الإيقان ما أوجب أن يفرضها الله
على عباده كل يوم وليلة. ومن المعلوم أن صلاة الخوف لا تحصل فيها هذه المقاصد الحميدة بسبب اشتغال القلب والبدن والخوف؛ فأمر بجبرها بالذكر بعدها.(1/168)
ومنها: أن الخوف يوجب من قلق القلب وخوفه ما هو مظنة لضعفه، وإذا ضعف القلب ضعف البدن عن مقاومة العدو، والذكر لله والإكثار منه من أعظم مقويات القلب.
ومنها: أن الذكر لله تعالى مع الصبر والثبات سبب للفلاح والظفر بالأعداء، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ (#ûqمZtB#uن إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ #[ژچدWں2 لَعَلَّكُمْ ڑcqكsد=ّےè? } [الأنفال: 45] فأمر بالإكثار منه في هذه الحال إلى غير ذلك من الحِكَم.
وقوله: (فإذا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأقيمُوا الصَّلاةَ) أي: إذا أمنتم من الخوف واطمأنت قلوبكم وأبدانكم فأتموا صلاتكم على الوجه الأكمل ظاهرًا وباطنًا، بأركانها وشروطها وخشوعها وسائر مكملاتها.
(إنَّ الصلاةَ كانتْ على المؤمنينَ كتابًا موقوتًا) أي: مفروضًا في وقته، فدل ذلك على فرضيتها، وأنَّ لها وقتًا لا تصح إلا به، وهو هذه الأوقات التي قد تقررت عند المسلمين صغيرهم وكبيرهم، عالمهم وجاهلهم، وأخذوا ذلك عن نبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، ودل قوله: (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) على أن الصلاة ميزان الإيمان، وعلى حسب إيمان العبد تكون صلاته وتتم وتكمل.] [تيسير الكريم الرحمن]
وقال تعالى: { (#qفàدے"xm عَلَى دN¨uqn=¢ء9$# دo4qn=¢ء9$#ur الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ َOçFّے½z "w$y_حچsù أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ } [البقرة: 238-239]
[الأمر بالقنوت الأرجح أنه يعني الخشوع لله، والتفرغ لذكره في الصلاة. وقد كانوا يتكلمون في أثناء الصلاة فيما يعرض لهم من حاجات عاجلة. حتى نزلت هذه الآية فعلموا منها أن لا شغل في الصلاة بغير ذكر الله والخشوع له والتجرد لذكره.(1/169)
فأما إذا كان الخوف الذي لا يدع مجالاً لإقامة الصلاة تجاه القبلة، فإن الصلاة تؤدَّى ولا تتوقف. يتجه الراكب على الدابة، والراجل المشغول بالقتال ودفع الخطر حيث يقتضيه حاله، ويومئ إيماءة خفيفة للركوع والسجود. وهذه غير صلاة الخوف التي تتم في حالة ما إذا كان الموقف يسمح بإقامة صف من المصلين يصلي ركعة خلف الإمام بينما يقف وراءه صف يحرسه. ثم يجيء الصف الثاني فيصلي ركعة بينما الصف الأول الذي صلى أولا يحرسه.. أما إذا زاد الخوف وكانت الموقعة والمسايفة فعلاً، فتكون الصلاة المشار إليها هنا.
وهذا الأمر عجيب حقًّا. وهو يكشف عن مدى الأهمية البالغة التي ينظر الله بها إلى الصلاة، ويوحي بها لقلوب المسلمين. إنها عُدَّة في الخوف والشدة؛ فلا تُترَك في ساعة الخوف البالغ؛ وهي العُدَّة. ومِن ثَم يؤديها المحارب في الميدان؛ والسيف في يده، والسيف على رأسه. يؤديها؛ فهي سلاح للمؤمن كالسيف الذي في يده. وهي جُنَّة له كالدرع التي تقيه. يؤديها؛ فيتصل بربه أحوج ما يكون للاتصال به، وأقرب ما يكون إليه والمخافة من حوله..
إن هذا الدين عجيب. إنه منهج العبادة. العبادة في شتى صورها؛ والصلاة عنوانها. وعن طريق العبادة يصل بالإنسان إلى أرفع درجاته. وعن طريق العبادة يثبته في الشدة، ويهذبه في الرخاء. وعن طريق العبادة يدخله في السِّلم كافة ويفيض عليه السلام والاطمئنان.. ومن ثم هذه العناية بالصلاة والسيوف في الأيدي وفي الرقاب لِلَّهِ ] [الظلال]
عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خمسُ صلواتٍ كتبهنَّ اللهُ على العبادِ، فمَن جاءَ بهنَّ ولم يُضيعْ منهنَّ شيئًا استخفافًا بحقِّهِنَّ كانَ لهُ عندَ اللهِ عهدٌ أنْ يُدخلَهُ الجنةَ، ومَن لم يأتِ بهنَّ فليسَ لهُ عندَ اللهِ عهدٌ؛ إنْ شاءَ عذَّبَهُ، وإنْ شاءَ أدخلَهُ الجنةَ". [رواه مالك، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان، وصححه الألباني](1/170)
نحن الذين إذا دُعوا لصلاتِهم
جعلوا الوجوهَ إلى الحجازِ فكبرواڑڑوالحربُ تسقي الأرضَ دمًا أحمرَا
في مَسمَعِ الروحِ الأمينِ فكبَّرَا
- - -
يمحو الله بهن الخطايا:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أرأيتُم لو أنَّ نهرًا ببابِ أحدِكم يغتسلُ فيهِ كلَّ يومٍ خمسَ مراتٍ هل يَبقَى مِن دَرَنِهِ شيءٌ؟" قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: "فكذلك مَثلُ الصلواتِ الخمسِ يمحُو اللهُ بِهِنَّ الخطايَا". [رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي]
قال ابن العربي: وجه التمثيل أن المرء كما يتدنس بالأقذار المحسوسة في بدنه وثيابه، ويطهره الماء الكثير؛ فكذلك الصلوات الخمس تطهر العبد من أقذار الذنوب حتى لا تُبقِي له ذنبًا إلا أسقطته.
فـ[ما بين الصلاتين تحدث للعبد الغفلة والجفوة والقسوة، والإعراض والزَّلات، والخطايا؛ فيبعده ذلك عن ربه، و ينحّيه عن قربه، فيصير بذلك كأنه أجنبيًا من عبوديته، ليس من جملة العبيد، وربما ألقى بيده إلى أسر العدو له؛ فأسره، وغلَّه، وقيَّده، وحبسه في سجن نفسه وهواه.. فحظه ضيق الصدر، ومعالجة الهموم والغموم، والأحزان والحسرات؛ ولا يدري السبب في ذلك.. فاقتضت رحمة ربه الرحيم الودود أن جعل له مِن عبوديته عبودية جامعة، مختلفة الأجزاء والحالات بحسب اختلاف الأحداث التي كانت من العبد، و بحسب شدَّة حاجته إلى نصيبه من كل خير من أجزاء تلك العبودية.(1/171)
فبالوضوء يتطَّهر من الأقذار، ويُقدِم على ربِّه متطهرًا، والوضوء له ظاهر وباطن: فظاهره طهارة البدن وأعضاء العبادة. وباطنه وسره طهارة القلب مِن الذنوب والمعاصي وأدرانه بالتوبة؛ و لهذا يقرن تعالى بين التوبة والطهارة في قوله تعالى: { إِنْ اللَّهَ يُحِبُّ tûüخ/¨qG9$# وَيُحِبُّ ڑْïحچخdgsـtFكJّ9$# } [البقرة: 222] وشرع النبي - صلى الله عليه وسلم - للمتطهِّر أن يقول بعد فراغه من الوضوء: "أشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.. اللهم اجعلني من التوّابين، واجعلني من المتطهرين".
فكمَّل له مراتب العبودية والطهارة باطنًا وظاهرًا؛ فإنه بالشهادة يتطهر من الشرك، وبالتوبة يتطهر من الذنوب، وبالماء يتطهر من الدرن الظاهر.
فشرع له أكمل مراتب الطهارة قبل الدخول على الله عز وجل، والوقوف بين يديه، فلما طهر ظاهرًا وباطنًا، أذن له بالدخول عليه بالقيام بين يديه، وبذلك يخلص من الإباق.. وبمجيئه إلى داره، ومحل عبوديته يصير من جملة خدمه، ولهذا كان المجيء إلى المسجد من تمام عبودية الصلاة الواجبة عند قوم، والمستحبة عند آخرين.
والعبد في حال غفلته كالآبق من ربه، قد عطّل جوارحه وقلبه عن الخدمة التي خُلق لها، فإذا جاء إليه فقد رجع من إباقه، فإذا وقف بين يديه موقف التذلل والانكسار فقد استدعى عطف سيِّده عليه، و إقباله عليه بعد الإعراض عنه.] [أسرار الصلاة لابن القيم]
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصلواتُ الخمسُ والجمعةُ إلى الجمعةِ كفارةٌ لما بينهنَّ ما لم تُغْشَ الكبائرُ". [رواه مسلم والترمذي](1/172)
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تحترقون.. تحترقون.. فإذا صليتُمُ الصبحَ غسلتْها، ثم تحترقون.. تحترقون.. فإذا صليتُمُ الظهرَ غسلتْها، ثم تحترقون.. تحترقون.. فإذا صليتُمُ العصرَ غسلتْها، ثم تحترقون.. تحترقون.. فإذا صليتُمُ المغربَ غسلتْها، ثم تحترقون.. تحترقون.. فإذا صليتُمُ العشاءَ غسلتْها، ثم تنامون فلا يُكتَبُ عليكمْ حتى تستيقظوا". [رواه الطبراني في الصغير والأوسط وإسناده حسن، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب"]
وفي "صحيح الترغيب والترهيب" عن أبي عثمان قال:كنتُ مع سلمان - رضي الله عنه - تحت شجرة، فأخذ غصنًا منها يابسًا فهزَّه حتى تحاتَّ ورقُه، ثم قال: يا أبا عثمان! ألا تسألني لِمَ أفعل هذا؟ قلت: ولِمَ تفعله؟ قال: هكذا فعل بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا معه تحت شجرة، وأخذ منها غصنًا يابسًا فهزَّه حتى تحاتَّ ورقُه، فقال: يا سلمان! ألا تسألني لِمَ أفعل هذا؟ قلت: ولِمَ تفعله؟ قال: "إنَّ المسلمَ إذا توضأَ فأحسنَ الوضوءَ، ثم صلَّى الصلواتِ الخمسِ تحاتَّتْ خطاياهُ كما تحاتَّ هذا الورقُ". وقال: { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ا'nûuچsغ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ دM"uZ|،utù:$# يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ y7د9¨sŒ 3"uچّ.دŒ ڑْïحچد.¨©%#د9 } [هود: 114] [رواه أحمد والنسائي والطبراني]
[وأي إنسان يمر عليه يوم من غير خطايا وهفوات؟! لقد خلق الله الإنسان خلقًا عجيبًا؛ فيه من المَلَك روحانيته، ومن البهيمة شهوتها، ومن السباع حميتها. وكثيرًا ما تغلبه الشهوة، ويستفزه الغضب، ويجذبه تراب الأرض الذي خُلِق منه؛ فيقع في الأخطاء، ويتردى في الخطايا. وليس العيب أنْ يخطئ الإنسان؛ فكل بني آدم خطَّاء، ولكن العيب أنْ يتمادى في الخطأ، ويستمر في الانحدار، حتى يصير كالأنعام أو أضل سبيلا!(1/173)
وفي الصلوات الخمس فرصة يثوب فيها المخطئ إلى رشده، ويفيق المغرور مِن
سُباته، ويرجع الإنسان إلى ربه، ويطفئ هذا السعار المادي الذي أججته المطامع والشهوات، ونسيان الله والدار الآخرة.] [العبادة في الإسلام]
عن عثمان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن توضأَ للصلاةِ فأسبغَ الوضوءَ، ثم مشى إلى الصلاةِ المكتوبةِ فصلاَّها معَ الناسِ -أو معَ الجماعةِ أو في المسجدِ- غُفِرَ لهُ ذنبُهُ". [رواه مسلم]
وفي رواية أيضًا عن عثمان - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما مِن امرئٍ مسلمٍ تحضرُهُ صلاةٌ مكتوبةٌ فيُحسنُ وُضوءَها وخشوعَها وركوعَها إلا كانتْ كفارةً لما قبلَها مِنَ الذنوبِ ما لم تُؤتَ كبيرةٌ وذلكَ الدهرَ كلَّهُ". [رواه مسلم]
قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: مَن توضأ فأحسن وضوءه، ثم خرج عامدًا إلى الصلاة؛ فإنه في صلاة ما كان يعمد إلى الصلاة، وأنه يُكتَب له بإحدى خطوتيه حسنة، وتُمحَى عنه بالأخرى سيئة، فإذا سمع أحدكم الإقامة فلا ينبغي له أنْ يتأخر؛ فإن أعظمكم أجرًا أبعدكم دارًا. قالوا: لِمَ يا أبا هريرة؟ قال: مِن أجل كثرة الخُطا.
وإذا كانت الصلاة سببًا لتكفير الذنوب الحاصلة فعلاً؛ فإنها كذلك تمنع العبد مِن مقارفة الآثام، وتحول بينه وبين فعل الفواحش:
قال تعالى: { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِن الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ حچs3ZكJّ9$#ur وَلَذِكْرُ اللَّهِ مژy9ٍ2r& } [العنكبوت: 45]
[يأمر تعالى بتلاوة وحيه وتنزيله، وهو هذا الكتاب العظيم. ومعنى تلاوته اتباعه بامتثال ما يأمر به، واجتناب ما ينهى عنه، والاهتداء بهداه، وتصديق أخباره،
وتدبر معانيه، وتلاوة ألفاظه، فصار تلاوة لفظه جزء المعنى وبعضه.(1/174)
وإذا كان هذا معنى تلاوة الكتاب؛ عُلم أن إقامة الدين كلها داخلة في تلاوة الكتاب. فيكون قوله: (وأقم الصلاة..) من باب عطف الخاص على العام ، لفضل
الصلاة وشرفها، وآثارها الجميلة؛ وهي: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر..)
فالفحشاء كل ما استُعظِم واستُفحِش مِن المعاصي التي تشتهيها النفوس. والمنكر كل معصية تنكرها العقول والفِطَر.
ووجه كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر؛ أن العبد المقيم لها، المتمم لأركانها وشروطها وخشوعها؛ يستنير قلبه، ويتطهر فؤاده، ويزداد إيمانه، وتقوى رغبته في الخير، وتقل أو تنعدم رغبته في الشر. فبالضرورة؛ مداومتها والمحافظة عليها على هذا الوجه تنهى عن الفحشاء والمنكر.
فهذا من أعظم مقاصد الصلاة وثمراتها. وثَم في الصلاة مقصود أعظم مِن هذا وأكبر، وهو ما اشتملت عليه من ذكر الله بالقلب، واللسان، والبدن. فإن الله تعالى إنما خلق العباد لعبادته، وأفضل عبادة تقع منهم الصلاة. وفيها من عبوديات الجوارح كلها ما ليس في غيرها، ولهذا قال: (ولذكر الله أكبر..).
ويحتمل أنه لما أمر بالصلاة ومَدَحَها، أخبر أن ذكره تعالى خارج الصلاة أكبر مِن الصلاة -كما هو قول جمهور المفسرين-. لكن الأول أولى؛ لأن الصلاة أفضل من الذكر خارجها، ولأنها بنفسها من أكبر الذكر.] [تيسير الكريم الرحمن]
و[قيل: مَن كان مراعيًا للصلاة جَرَّه ذلك إلى أن ينتهي عن السيئات يومًا ما. فقد رُويَ أنه قيل يومًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن فلانًا يُصلي بالنهار، ويسرق بالليل! فقال: "إن صلاته لتردعه". ورُويَ أنّ فتى مِن الأنصار كان يُصلي معه الصلوات، ولا يدع شيئًا مِن الفواحش إلا ركبه، فوصف له، فقال: "إنّ صلاته ستنهاه". فلم يلبث أنْ تاب.
وقال ابن عوف: إن الصلاة تنهى إذا كنت فيها؛ فأنت في معروف وطاعة، وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر. وعن الحسن: مَن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر؛ فليست صلاته بصلاة، وهي وبال عليه!(1/175)
(ولذكر الله أكبر..) أي الصلاة أكبر من غيرها من الطاعات. وإنما قال: (ولذكر الله) ليستقل بالتعليل، كأنه قال: (والصلاة أكبر) لأنها ذكر الله.
وعن ابن عباس ب: ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته. وقال ابن عطاء: ذكر الله لكم أكبر مِن ذكركم له؛ لأن ذكره بلا علة، وذكركم مشوب بالعلل والأماني. ولأنَّ ذكره لا يفني، وذكركم لا يَبقى.
أو ذكر الله أكبر مِن أنْ تحويه أفهاكم وعقولكم. أو ذكر الله أكبر مِن أنْ تلقى معه معصية. أو ذكر الله أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر مِن غيره.] [تفسير النسفي]
- - -
أرحنا بها.. إن كنتَ حقًّا مصليًا:
[كما أن الصوم ثمرته تطهير النفس، وثمرة الزكاة تطهير المال، وثمرة الحج وجوب المغفرة، وثمرة الجهاد تسليم النفس إليه التي اشتراها سبحانه من العباد، وجعل الجنة ثمنها؛ فالصلاة ثمرتها الإقبال على الله، وإقبال الله سبحانه على العبد، وفي الإقبال على الله في الصلاة جميع ما ذُكِر من ثمرات الأعمال، وجميع ثمرات الأعمال في الإقبال على الله فيها.. ولهذا لم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم -: جُعلَت قرة عيني في الصوم، ولا في الحج والعمرة، ولا في شيء من هذه الأعمال.. وإنما قال: "وجُعِلَتْ قرةُ عيني في الصلاةِ".
وتأمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وجعلت قرة عيني في الصلاة" ولم يقل: "بالصلاة"، إعلامًا منه بأن عينه لا تقر إلا بدخوله، كما تقر عين المحب بملابسته لمحبوبه، وتقر عين الخائف بدخوله في محل أنسه وأمنه.. فقرة العين بالدخول في الشيء أتم وأكمل مِن قرة العين به قبل الدخول فيه.
ولما جاء إلى راحة القلب مِن تعبه ونصبه قال - صلى الله عليه وسلم -: "يا بلال! أرِحْنا بالصلاةِ".
أي أقمها لنستريح بها من مقاساة الشواغل، كما يستريح التعبان إذا وصل إلى مأمنه ومنزله، وقرَّ فيه وسكن، وفارق ما كان فيه من التعب والنصب.(1/176)
وتأمل كيف قال - صلى الله عليه وسلم -: "أرحنا بالصّلاة"، ولم يقل: "أرحنا منها" كما يقوله المتكلف الكاره لها، الذي لا يصليها إلا على تكلف؛ فهو في عذاب ما دام فيها، فإذا خرج منها وجد راحة قلبه ونفسه!! وذلك أنَّ قلبه ممتلئ بغيره، والصلاة قاطعة له عن أشغاله ومحبوباته الدنيوية؛ فهو معذَّب بها حتى يخرج منها، وذلك ظاهر في أحواله فيها، مِن نَقرها، والتفات قلبه إلى غير ربه، وترك الطمأنينة والخشوع فيها.. ولكن قد عَلِمَ أنَّه لا بدّ له من أدائها، فهو يؤديها على أنقص الوجوه، قائل بلسانه ما ليس في قلبه، ويقول بلسان قلبه: حتى نصلي فنستريح من الصلاة؛ لا بها!!
فهذا لونٌ، وذاك لونٌ آخر.. وفرق بين مَن كانت الصلاة لجوارحه قيدًا ثقيلاً، ولقلبه سجنًا ضيقًا حرجًا، ولنفسه عائقًا.. وبين مَن كانت الصلاة لقلبه نعيمًا، ولعينه قرة، ولجوارحه راحة، ولنفسه بستانًا ولذة.
فالأول: الصلاة سجن لنفسه، وتقييد لجوارحه عن التورط في مساقط الهلكات، وقد ينال بها التكفير والثواب، أو ينال من الرحمة بحسب عبوديته لله تعالى فيها، وقد يُعاقَب على ما نقص منها.
والثاني: الصلاة بستان له، يجد فيها راحة قلبه، وقرّة عينه، ولذَّة نفسه، وراحة جوارحه، ورياض روحه؛ فهو فيها في نعيم يتقلَّب يوجب له القرب الخاص، والمنزلة العالية من الله عزَّ وجل، ويشارك الأولين في ثوابهم، بل يختص بأعلاه، وينفرد دونهم بعلو المنزلة والقربة التي هي قدر زائد على مجرد الثواب.][أسرار الصلاة]…
وقلْ لبلالِ العزمِ مِن قلبِ صادقٍ:
تَوضَّأْ بماءِ التوبةِ اليومَ مُخلِصَاڑڑأرِحْنا بها إنْ كنتَ حقًّا مُصليَا
بهِ تَلقَى أبوابَ الجِنانِ الثمانيَا
أخرج أحمد في "الزهد"، وغيره عن ثابت قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أصابت أهله خصاصة نادى: "يا أهلاه! صلوا.. صلوا.."، قال ثابت: وكانت الأنبياء ? إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة..(1/177)
قال تعالى: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ دo4qn=¢ء9$#ur $pk®Xخ)ur لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى tûüدèد±"sƒù:$# } [البقرة: 45]
[واستعينوا على حوائجكم إلى الله بالصبر والصلاة، أى بالجمع بينهما، وأن تُصلوا صابرين على تكاليف الصلاة، محتملين لمشاقها وما يجب فيها مِن إخلاص القلب، ودفع الوساوس الشيطانية والهواجس النفسانية، ومراعاة الآداب والخشوع، واستحضار العلم بأنه انتصاب بين يدي جبار السماوات والأرض.
أو استعينوا على البلايا والنوائب بالصبر عليها، والالتجاء إلى الصلاة عند وقوعها، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
(وإنها) الضمير للصلاة، أو للاستعانة؛ (لكبيرة) لشاقة ثقيلة، مِن قولك: كَبُر عليّ هذا الأمر. (إلا على الخاشعين) لأنهم يتوقعون ما ادخر للصابرين على متاعبها؛ فتهون عليهم.] [تفسير النسفي]
و[الاستعانة بالصبر على أمور الدنيا والآخرة لا إشكال فيها، وأما نتيجة الاستعانة بالصلاة، فقد أشار لها تعالى في آيات مِن كتابه، فذكر أن من نتائج الاستعانة بها النهي عما لا يليق، وذلك في قوله: { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِن الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ حچs3ZكJّ9$#ur } [العنكبوت: 45] وأنها تجلب الرزق وذلك في قوله: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ دo4qn=¢ء9$$خ/ ِژة9sـô¹$#ur عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } [طه: 132]؛ ولذا كان - صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة.
وإيضاح ذلك: أنّ العبد إذا قام بين يدي ربه يناجيه، ويتلو كتابه؛ هان عليه كل ما في الدنيا رغبة فيما عند الله، ورهبة منه.. فيتباعد عن كل ما لا يُرضي الله؛ فيرزقه الله ويهديه.] [أضواء البيان](1/178)
قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: لقد رأيتنا ليلة بدر، وما فينا إنسان إلا نائم، إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان يصلي إلى شجرة ويدعو حتى أصبح. وقال حذيفة - رضي الله عنه -: رجعتُ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الأحزاب وهو مشتمل في شَملة يُصلي، وكان رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - إذا حزبه(1) أمر صلَّى.
__________
(1) حَزَبَهُ أمر: نزل به مُهم، أو أصابه غَم، وحَزَبَه الأَمرُ يَحْزُبه حَزْبًا: نابَه، واشتد عليه، وقيل: ضَغَطَه. وحَوازِبُ الخُطُوب جمع حازِب، وهو الأَمر الشديد. (لسان العرب)(1/179)
وروى البخاري عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات؛ ثنتين منهن في ذات الله عز وجل. قوله: (إني سقيم). وقوله: (بل فعله كبيرهم هذا) وقال: بينا هو ذات يوم وسارة، إذ أتى على جبار من الجبابرة، فقيل له: إن هاهنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس. فأرسل إليه، فسأله عنها، فقال: مَن هذه؟ قال: أختي. فأتى سارة، فقال: يا سارة! ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، وإن هذا سألني، فأخبرته أنك أختي؛ فلا تكذبيني. فأرسل إليها، فلما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده؛ فأُخِذَ! فقال: ادعي الله ولاأضرك! فدعت الله؛ فأُطلِق. ثم تناولها الثانية؛ فأُخِذَ مثلها أو أشد! فقال: ادعي الله لي ولا أضرك! فدعت؛ فأُطلِق. فدعا بعض حجبته فقال: إنكم لم تأتوني بإنسان إنما أتيتموني بشيطان؛ فأخدمها "هاجر"! فأتته وهو يصلي، فأومأ بيده مهيا..؟! قالت: رد الله كيد الكافر -أو الفاجر- في نحره، وأخدم "هاجر").(1)
فتأمل كيف فزع إبراهيم - عليه السلام - إلى الصلاة لما حزبه الأمر.
__________
(1) كذبات) أي فيما يظهر للناس، وبالنسبة لفهم السامعين، وهي ليست كذبًا في حقيقة الأمر لأنها من المعاريض. (ذات الله) أي لأجله. (سقيم) مريض. قال ذلك لقومه حتى لا يخرج معهم، ويبقى ليكسر الأصنام. (فأُخِذ) اختنق حتى ضرب برجله الأرض كأنه مصروع. (مهيا) كلمة يستفهم بها، معناها: ما حالك؟ وما شأنك؟(1/180)
واسمع إلى نبي الله زكريا - عليه السلام -: { إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ 'دoTخ) وَهَنَ مNّàyèّ9$# سةi_دB وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ y7ح!%tوك‰خ/ رَبِّ شَقِيًّا (4) 'دoTخ)ur àMّے½z z'ح<¨uqyJّ9$# مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ 'دAr&uچّB$# #Xچد%%tو فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) سة_èOحچtƒ ك^حچtƒur مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ $wإتu' (6) } [مريم: 3-6] فنزلت عليه الملائكة بالبشارة من الله عز وجل [وهو قائم يصلي فى المحراب، وفيه دليل على أن المرادات تُطلَب بالصلوات؛ وفيها إجابة الدعوات وقضاء الحاجات. قال ابن عطاء: ما فتح الله تعالى على عبد حالة سَنِيَّة إلا باتباع الأوامر، وإخلاص الطاعات، ولزوم المحاريب.]
[تفسير النسفي]
قال تعالى: { çmّ?yٹ$sYsù الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ ضNح!$s% يُصَلِّي فِي ة>#uچَsدJّ9$# أَنَّ اللَّهَ x8مژإe³u;مƒ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا 7pyJد=s3خ/ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا #Y'qفءxmur وَنَبِيًّا مِنَ tûüإsد="¢ء9$# } [آل عمران: 39]
اللهُ أكبرُ وانتهَى نَصَبِي وزالت شِقوَتي
اللهُ أكبرُ وارتَمَى قلبِي ببابِ الرّحمَةِ
حَلَّقتُ في أفُقِ الخُشُوعِ وقَد شرَقتُ بدمعَتِي
ونَفَضتُ عَن قلبِي جِبَالاً مِن ذنُوبِ الغَفلةِ
وتركتُ أوصالي يجُول بِهَا ارتِعَادُ الخَشيَةِ
وبدأتُ أبكِي مِثلَ طِفلٍ خَائفٍ في الظُّلمَةِ
فوَجَدتُ في المِحراب أُنسِي بَعد طُول الوَحشةِ
وغَدَوتُ قلبًا نابضًا يَهتَزُّ مِثلَ الشُّعلَةِ
فإذا أنَا واللهُ.. لا أحدٌ يُعَجِّلُ صُحبَتِي
وإذا العَوَالِمُ قَد رَنَت نَحوي بِعَينِ الغَيْرَةِ
إن الصَّلاة بِها ثبَاتُ القَلب عندَ المِحنَةِ
وَهِي العَفَافُ إذا دُعِيتَ إلى سعِيرِ الشهْوَةِ
يَارَبِّ فَاجعَلْ فِي الصَّلاة حَيَاتَها للأمَّةِ
يُجزَى المُصَلِّي بِالجِنانِ، وفي صَلاتي جَنَّتي(1/181)
اللهُ أكبَرُ وانتَهى نَصَبِي وزالَتْ شِقوتِي
اللهُ أكبرُ وارتَمَى قلبِي بِبَابِ الرَّحمَةِ
- - -
واسجد.. واقترب:
[السجود سر الصلاة، وركنها الأعظم، وخاتمة الركعة، وما قبله من الأركان كالمقدمات له.. فهو شبه طواف الزيارة في الحج؛ فإنه مقصود الحج، ومحل الدخول على الله وزيارته، وما قبله كالمقدمات له.. ولهذا أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
والله سبحانه خلق العبد من الأرض، فكان جديرًا بأنْ لا يخرج عن أصله، بل يرجع إليه إذا تقاضاه الطبع والنفس بالخروج عنه؛ فإنّ العبد لو تُرك لطبعه ودواعي نفسه لتكبر، وخرج عن أصله الذي خُلق منه، ولوثب على حق ربه مِن الكبرياء والعظمة؛ فنازعه إياهما.. وقد أُمر بالسجود خضوعًا لعظمة ربه وفاطره، وخشوعًا له، وتذللاً بين يديه، وانكسارًا له.. فيكون هذا الخشوع والخضوع والتذلل ردًّا له إلى حكم العبودية، ويتدارك ما حصل له من الهفوة والغفلة والإعراض الذي خرج به عن أصله.. فتمثل له حقيقة التراب الذي خُلق منه؛ وهو يضع أشرف شيء منه وأعلاه وهو الوجه، وقد صار أعلاه أسفله خضوعًا بين يدي ربه الأعلى، وخشوعًا له، وتذللا لعظمته، واستكانة لعزته.. وهذا غاية خشوع الظاهر. فإن الله سبحانه خلقه مِن الأرض التي هي مُذلَّلة للوطء بالأقدام، واستعمله فيها، ورده إليها، ووعده بالإخراج منها؛ فهي أمه وأبوه، وأصله وفصله.. ضمته حيًّا على ظهرها، وميتًا في بطنها، وجُعلت له طهورًا ومسجدًا.. فأُمر بالسجود؛ إذ هو غاية خشوع الظاهر، وأجمع العبودية لسائر الأعضاء؛ يُعفِّر وجهه في التراب استكانة وتواضعًا وخضوعًا.. ومن تمام السجود أن يكون على هيئة يأخذ فيها كل عضو من البدن بحظه من الخضوع.(1/182)
ولما كانت العبودية غاية كمال الإنسان، وقربه من الله بحسب نصيبه من عبوديته، وكانت الصلاة جامعة لمتفرق العبودية، متضمنة لأقسامها؛ فهي أفضل أعمال العبد، ومنزلتها من الإسلام بمنزلة عمود الفسطاط منه، وكان السجود أفضل أركانها الفعلية، وسِرَّها الذي شُرعت لأجله، وكان تكرره في الصلاة أكثر من تكرر سائر الأركان.] [الصلاة وحكم تاركها لابن القيم (ملخصًا)]
قال تعالى: { وَاسْجُدْ >خژyIّ%$#ur } [العلق: 19] يقول د. علي بادحدح: [تأمل هذه الآية على قلة كلماتها ووجازة ألفاظها كم فيها من الدلالة على سر الصراع في هذه الحياة الدنيا، وخلاصة العبودية بالنسبة للإنسان؛ إذ أن الآية تأتي في أعقاب الحديث عن الذي ينهى المؤمنين عن عبادة الله: { أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى } [العلق: 9-10]، وهو المعنى الذي فيه صراع الباطل للحق، وتضييق أهل الضلال على أهل الخير، ونوع المواجهة والمحاربة لكل صورة إيمانية ولكل عبادة يتقرب بها الناس لله سبحانه وتعالى.. فهنا تأتي المفاصلة: (كلا لا تطعه) أي: لا تطعه فيما ينهاك عنه من المداومة على العبادة وكثرتها، وصلِّ حيث شئت ولا تباله؛ فإن الله حافظك وناصرك، وهو يعصمك من الناس. [تفسير القرآن العظيم]
وفي الآية بيان لكيفية الحصول على القدرة على المواجهة والمجابهة لهذا السيل الجارف العارم من العداء والإيذاء.. إنه الاستمساك بالعبادة، والاستعانة بهذا
السجود كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ دo4qn=¢ء9$#ur } [البقرة: 153]
وفي هذه الآية جعل السجود نوعًا من المدافعة للبغي والباطل، والصبر والمصابرة على أمر الله.. وكأن السجود مراد للقرب من الله عز وجل.(1/183)
وفي صحيح مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أقربُ ما يكونُ العبدُ مِنْ ربِّهِ وهو ساجدٌ فأكثروا مِنَ الدعاءِ".. ففي ذلك الموضع الذي يمرغ فيه الإنسان جبهته في التراب، ويحني جسمه كله، ويخضع قلبًا وقالبًا، روحًا وجسدًا؛ يقول حينئذ: "سبحان ربي الأعلى".. وهذا جزء أساسي من فقه السجود يربط بين الصورة الحسيه والدلالة المعنوية للعبادة في ذِلة العبد وعظمة الرب، وافتقار العبد للرب، وهي أبلغ صورة للعبودية، وبمقدار تحقق الذلة والخضوع لله عز وجل تتحقق أهلية الإنسان لوصف العبودية. فإذا عرفنا أن العبودية هي أعلى مراتب المؤمن في هذه الحياة ظهر لنا سر اختصاص السجود بالقرب.
والسجود يفرق ما بين الإنسان والشيطان، إذ هو في الحقيقة مراغمة للشيطان ودحر له؛ لأن الشيطان أمر بالسجود فأبى، وكان ذلك سبب حلول لعنة الله عليه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ثم يكون له العقاب في الآخرة، وأما المؤمن فيسجد استجابة لأمر الله تعالى متحققًا بالعبودية، معلنًا مراغمته وخصومته للشيطان.(1/184)
وسجود الدنيا يذكر بسجود الآخرة، والفرق بين المؤمن الساجد والكافر الجاحد. فالعبد المؤمن دعي للسجود في الدنيا فسجد، والكافرون دعوا فأبوا أن يسجدوا، ويوم القيامة يتمنون السجود مع إرادتهم له ورغبتهم فيه؛ لأن ظهورهم تصير طبقًا واحدًا فلا يستطيع الواحد منهم أن يحني ظهره ليسجد، وهذا هو ما ذكره أهل التفسير عند بيان معنى قوله تعالى: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ } [القلم: 42]، أي حَالَ بينهم وبين ما يريدون، في يوم القيامة الذي يُكشَف فيه عن الساق، ويشتد الكرب والضيق، ويُدعَى هؤلاء المتكبرون إلى السجود فلا يملكون السجود، إما لأن وقته قد فات، وإما لأنهم كما وصفهم في موضع آخر يكونون { مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ } [إبراهيم: 43] وكأن أجسامهم وأعصابهم مشدودة من الهول على غير إرادة منهم، وعلى أية حال فهو تعبير يشي بالكرب والعجز والتحدي المخيف..
قال - صلى الله عليه وسلم -: "يكشفُ ربُّنا عن ساقِهِ، فيسجدُ لهُ كلُّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ، ويبقَى مَن كانَ يسجدُ في الدنيا رياءً وسمعةً فيذهبُ ليسجدَ فيعودُ ظهرُهُ طبقًا واحدًا" [رواه البخاري]
فإذا تذكر العبد المؤمن هذا المقام فإنه يرى أن مسابقته للسجود نوع نجاة وخلاص من ذلك الموقف الرهيب، ونوع تقرب لله العظيم لينجيه من العذاب الأليم.
وقد اقترن ذكر البكاء بالسجود كما في قوله عز وجل: { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ
الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا $wإ3ç/ur } [مريم:58] فهم أتقياء شديدو الحساسية بالله، ترتعش وجداناتهم حين تتلى عليهم آياته، فلا تسعفهم الكلمات للتعبير عما يخالج مشاعرهم من التأثر، فتفيض عيونهم بالدموع ويخرون سجدًا وبكيًّا، قرأ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سورة مريم فسجد وقال: هذا السجود، فأين البكيّ؟!(1/185)
وقوله جل وعلا: { وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ َOèdك‰ƒح"tƒur خُشُوعًا } [الإسراء: 109] وهو مشهد موحٍ يلمس الوجدان. مشهد الذين أوتوا العلم من قبله، وهم يسمعون القرآن فيخشعون، (ويخرون للأذقان سجدًا)؛ إنهم لا يتمالكون أنفسهم، فهم لا يسجدون ولكن (يخرون للأذقان سجدًا) ثم تنطق ألسنتهم بما خالج مشاعرهم من إحساس بعظمة الله وصدق وعده: { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا } [الإسراء: 108] ويغلبهم التأثر فلا تكفي الألفاظ في تصوير ما يجيش في صدورهم منه، فإذا الدموع تنطلق معبرة عن ذلك التأثر الغامر الذي تصوره الألفاظ، فصفة الخشوع الكامل في السجود أن يكون مقترنًا بكمال الذل والبكاء لله سبحانه وتعالى.
ومن آثار السجود وفيض خيره وبركته ما يشير إليه قول الله تعالى: { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ حچrOr& السُّجُودِ } [الفتح: 29] قال أهل العلم: هو الخشوع، وقال بعضهم: هو نور الوجه، وقال بعضهم: هو أن لا يظهر على وجهه ما يظهر على العصاة من ظُلمة وقَتَر وقَتام كما أخبر الله عنهم: { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ "uچs? الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ îo¨ٹuqَ،-B } [الزمر: 60]، وهذا قد لا يفطن إليه الإنسان لكنه يراه -عياذًا بالله- فيمن يعرضون عن الطاعة ويتركون الصلاة، فإذا وجوههم كالحة، وعيونهم غائرة، وقد يكون ذلك أحيانًا يُرَى رؤية حسية، وأحيانًا يكون معنويًا حيث لا يكون لأولئك محبة في القلوب، ولا قبول في النفوس، كما يُحرَمون التوفيق.] [فقه السجود (ملخصًا)](1/186)
قال الطبري في قوله تعالى: { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ حچrOr& السُّجُودِ } : [سيماهم الذي كانوا يُعرَفون به في الدنيا أثر الإسلام؛ وذلك خشوعه وهديه وزهده وسَمْته، وآثار أداء فرائضه وتطوّعه.. وفي الآخرة ما أخبر أنهم يُعرفون به؛ وذلك الغُرَّة في الوجه، والتحجيل في الأيدي والأرجل من أثر الوضوء، وبياض الوجوه من أثر السجود.] أ.هـ (ملخصًا)
سُدَّتْ جِهاتُ الأرضِ إلا وِجهةً
فسجدتُ للباري الودودِ أبُثُّهُ
هي سجدةٌ غَمَرَتْ حياتي بالسَّنا
هي سجدةٌ أحيتْ لروحي زهرَهاڑڑلاحتْ لقلبي بالنعيمِ الآتي
هَمّي؛ فطالتْ بالسجودِ شَكاتي
والطُّهرِ والإيمانِ والرحَماتِ
فتضوَّعَتْ عِطرًا بها زهراتي
- - -
لا ينصرف القلب إلى الله إلا بالانصراف عما سواه :(1/187)
فإن [سرّ الصلاة ولُبَّها إقبال القلب فيها على الله، وحضوره بكلِّيته بين يديه، فإذا لم يقبل عليه واشتغل بغيره ولَهَا بحديث نفسه، كان بمنزلة وافد وفد إلى باب الملك معتذرًا من خطاياه وزَلَله، مستمطرًا سحائب جوده وكرمه ورحمته، مستطعمًا له ما يُقِيت قلبه؛ ليقوى به على القيام في خدمته.. فلما وصل إلى باب الملك، ولم يبقَ إلا مناجاته له، التفت عن الملك وزاغ عنه يمينًا وشمالاً، أو وَلاَّه ظهره، واشتغل عنه بأمقت شيء إلى الملك، وأقلّه عنده قدرًا عليه؛ فآثره عليه، وصيَّره قِبلة قلبه، ومحلَّ توجهه، وموضع سرِّه.. وبعث غلمانه وخدمه ليقفوا في خدم طاعة الملك عوضًا عنه، وينوبوا عنه في الخدمة!! والملك يشاهد ذلك ويرى حاله.. ومع هذا؛ فكرم الملك وجوده وسعة برّه وإحسانه تأبي أنْ يصرف عنه تلك الخدم والأتباع؛ فيصيبه من رحمته وإحسانه.. لكن فرق بين قسمة الغنائم على أهل السُّهمان من الغانمين، وبين الرَّضْخ(1) لمن لا سهم له: { 5e@à6د9ur دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا tbqçHs>ّàمƒ } [الأحقاف :19]، والله سبحانه وتعالى خلق هذا النوع الإنساني لنفسه واختصه له، وخلق كل شيء له ومِن أجله، كما في الأثر الإلهي: "ابنَ آدم! خلقتُكَ لنفسي، وخلقتُ كلَّ شيءٍ لك، فبحقي عليك لا تشتغل بما خلقتُه لك عمَّا خلقتُك له".
وفي أثر آخر: "ابنَ آدم! خلقتُك لنفسي فلا تلعبْ، وتكفلتُ برزقِك فلا تتعبْ. ابن آدم! اطلبْني تجدْني، فإنْ وجدتَني وجدتَ كلَّ شيءٍ، وإنْ فُتُّكَ فاتَكَ كلُّ شيءٍ، وأنا أَحَبُّ إليكَ مِن كلِّ شيءٍ".
وجعل سبحانه وتعالى الصلاة سببًا موصلاً إلى قُربه ومناجاته، ومحبته والأنس به.] [أسرار الصلاة لابن القيم]
__________
(1) السُّهمان: جمع (سهم)، ويُجمَع على: أسهُم، وسِهام، وسُهمان. والرَّضْخ: العطية القليلة. يقال: رضخَ له من ماله يَرْضَخُ رضْخًا أي: أعطاه. [لسان العرب](1/188)
فينبغي أن يُحضِر المصلِّي قلبه عند كل ركن وشرط من أعمال الصلاة، فلا يغفل عن التنبيهات التي في شروط الصلاة وأركانها، أما الشروط السوابق فهي الأذان، والطهارة، وستر العورة، واستقبال القبلة، والانتصاب قائمًا، والنية..
أما الأذان: فهو [طلب انتقال من أحوال الدنيا وشواغلها إلى أحوال الآخرة ومطالبها، إنه طلب تغيير للواقع الذي يعيشه العبد مما لا يُسخط الله سبحانه وتعالى من طلب معاشه إلى أمر هو أزكى لنفسه، وأطهر لقلبه، وأعظم عون له في حياته.. ذلك النداء الذي يدعوكم -أيها المسلمون- إلى أن تتحلوا بالتميز، وأن تتخلوا عن التميع، لقد أراد الله سبحانه وتعالى لكم أن تكونوا متميزين عن سائر أصحاب كل ملة ودين.
وفي الأذان موازين ومقومات غير موازين الدنيا ومقوماتها.. إن الفلاح عند أرباب الدنيا في أموالها، وإن النجاح عند أصحاب الشهوات في العب منها، أما أنت -أيها العبد المؤمن- فالنداء من فوق سبع سماوات عندما قرره سبحانه وتعالى شريعة وسنة ماضية في هذه الأمة؛ يناديك: "حي على الفلاح.. حي على الفلاح.."، ثم يخبرك أن فلاح الدنيا ونجاة الآخرة، وأن نجاح المقاصد والفوز بالغايات إنما هو في هذه الصلوات.. لتفيء إلى ظلال العبادة، وترجع إلى كنف الرحمن، وتسرع وتبادر إلى بيوت الله سبحانه وتعالى.. فما أعظم هذا النداء..!
وإذا كانت القلوب حية فإنها تجد لها به شغفًا وتعلقًا؛ فتُقبِل عليه إقبال الصادي -الذي بلغ به العطش مبلغًا- على الماء الصافي النمير الذي قد حُجب عنه وقتًا طويلاً، فإذا بها تشتاق إليه اشتياق الأرض الجدباء إلى القطر من السماء.] (1)
__________
(1) موعظة الصلاة للدكتور/ علي بن عمر بادحدح - موقع "إسلاميات".(1/189)
فإذا سمعت نداء المؤذن فأحضر في قلبك هول النداء يوم القيامة، وتشمر بظاهرك وباطنك للإجابة والمسارعة؛ فإن المسارعين إلى هذا النداء هم الذين ينادون باللطف يوم العرض الأكبر.. فأعرِض قلبك على هذا النداء، فإن وجدتَه مملوءًا بالفرح والاستبشار، مشحونًا بالرغبة إلى الابتدار؛ فاعلم أنه يأتيك النداء بالبشرى والفوز يوم القضاء..
وأما الطهارة فإذا أتيت بها في مكانك، ثم في ثيابك، ثم في بشرتك.. فلا تغفل عن لُبِّك الذي هو ذاتك، وهو قلبك؛ فاجتهد له تطهيرًا بالتوبة والندم على ما فرطتَ، وتصميم العزم على الترك في المستقبل.. فطهر بها باطنك؛ فإنه موضع نظر معبودك..
قال ابن الجوزي: يا هذا..! إذا توضأتَ بغير نية فإن الماء يبذل لك البلل لا الطهارة، فإذا نويتَ فهي طهارة الظاهر، فإذا صفا قلبك فقد حصلتَ على طهارتك حقيقة..
عن أحمد بن أبي الحواري قال: بات أبو سليمان ذات ليلة، فلما انتصف الليل قام ليتوضأ، فلما أدخل يده في الإناء بقي على حاله حتى انفجر الصبح؛ وكان وقت الإقامة! فخشيتُ أن تفوت صلاته، فقلتُ: الصلاة يرحمك الله! فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله.. أدخلتُ يدي في الإناء، فعارضني عارض من سِرِّي: هَبْ أنك غسلتَ بالماء ما ظهر منك؛ فبماذا تغسل قلبك؟! فبقيتُ متفكرًا حتى قلتُ: بالهموم والأحزان فيما يفوتني من الأنس بالله عز وجل.
ثم استشعر لقاءك برسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة مع الغُر المحجلين.. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أمتي يُدعَونَ يومَ القيامةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِن آثارِ الوضوءِ، فمَنِ استطاعَ منكمْ أنْ يُطيلَ غُرَّتَهُ فليفعلْ" [متفق عليه](1/190)
وأما ستر العورة فاعلم أن معناه تغطية مقابح بدنك عن أبصار الخلق، فإن ظاهر بدنك مرتع لنظر الخلق، فما بالك في عورات باطنك، وفضائح سرائرك التي لا يطلع عليها إلا ربك عز وجل؟ فأحضر تلك الفضائح ببالك، وطالب نفسك بسترها، وتحقق أنه لا يستر عن عين الله سبحانه ساتر، وإنما يغفرها الندم والحياء والخوف؛ فتستفيد بإحضارها في قلبك انبعاث جنود الخوف والحياء من مكامنهما؛ فيستكين تحت الخجلة قلبك، وتقوم بين يدي الله عز وجل قيام العبد المجرم المسيء الآبق؛ الذي ندم فرجع إلى مولاه ناكسًا رأسه من الحياء والخوف..
وأما الاستقبال فهو صرف ظاهر وجهك عن سائر الجهات إلى جهة بيت الله تعالى، أفترى أن صرف القلب عن سائر الأمور إلى الله عز وجل ليس مطلوبًا منك؟ هيهات.. فلا مطلوب سواه، وإنما هذه الظواهر تحريكات للبواطن، وضبط للجوارح، وتسكين لها بالإثبات في جهة واحدة حتى لا تبغي على القلب؛ فإنها إذا بغت وظلمت في حركاتها والتفاتها إلى جهاتها استتبعت القلب، وانقلبت به عن وجه الله عز وجل.. فليكن وجه قلبك مع وجه بدنك، واعلم أنه كما لا يتوجه الوجه إلى جهة البيت إلا بالانصراف عن غيرها، فلا ينصرف القلب إلى الله عز وجل إلا بالتفرغ عما سواه..
وأما الاعتدال قائمًا فإنما هو مثول بالشخص والقلب بين يدي الله عز وجل، فليكن رأسك الذي هو أرفع أعضائك مطرقًا مطأطئًا متنكسًا، وليكن وضع الرأس عن ارتفاعه تنبيهًا على إلزام القلب التواضع والتذلل، والتبرؤ من الترؤس والتكبر، وليكن على ذكرك ههنا خطر القيام بين يدي الله عز وجل في هول المطلع عند العرض للسؤال، واعلم في الحال أنك قائم بين يدي الله عز وجل، وهو مطلع عليك..(1/191)
وأما النية فاعزم على إجابة الله عز وجل في امتثال أمره بالصلاة، وإتمامها، والكف عن نواقضها ومفسداتها، وإخلاص جميع ذلك لوجه الله سبحانه رجاءً لثوابه، وخوفًا من عقابه، وطلبًا للقرب منه، متقلدًا للمنة منه بإذنه إياك في المناجاة مع سوء أدبك، وكثرة عصيانك.. وعَظِّم في نفسك قدر مناجاته، وانظر مَن تناجي، وكيف تناجي، وبماذا تناجي.. وعند هذا ينبغي أن يعرق جبينك من الخجل، وترتعد فرائصك من الهيبة، ويصفر وجهك من الخوف..
وأما التكبير فإذا نطق به لسانك، فينبغي أن لا يكذبه قلبك، فإن كان في قلبك شيء هو أكبر من الله سبحانه؛ فالله يشهد إنك لكاذب، وإن كان الكلام صدقًا! فإن كان هواك أغلب عليك من أمر الله عز وجل؛ فأنت أطوع له منك لله تعالى، وقد اتخذته إلهك، وكبرتَه؛ فيوشك أنْ يكون قولك: "الله أكبر" كلامًا باللسان المجرد، وقد تخلف القلب عن مساعدته، وما أعظم الخطر في ذلك لولا التوبة والاستغفار، وحسن الظن بكرم الله تعالى وعفوه..
وتأمل أنك تكرر التكبير كل يوم أكثر من مائة مرة، فإذا تواطأ ذكر القلب مع اللسان بالتكبير -كل هذا العدد يوميًّا- استقر في النفس تعظيم الله جل في علاه، وإجلاله تبارك وتعالى؛ ومن ثَمَّ يكون الله -حقًّا وصدقًا- أكبر في نفسك من كل شيء.
وأما دعاء الاستفتاح فأول كلماته قولك: "وجهتُ وجهيَ للذي فطرَ السمواتِ والأرضَ.."، ولن ينصرف الوجه إلى الله تعالى إلا بانصرافه عما سواه، فاجتهد في الحال في صرفه إليه، وإن عجزت عنه على الدوام؛ فليكن قولك في الحال صادقًا..(1/192)
وإذا استفتحتَ بـ"سبحانك اللهمَّ وبحمدِكَ، وتباركَ اسمُكَ، وتعالى جَدُّكَ، ولا إلهَ غيرُكَ" فهو ثناء على الله عز وجل، متضمن للإخبار عن صفات كماله ونعوت جلاله. وغيره من أذكار الاستفتاح متضمن للدعاء. والثناء أفضل من الدعاء؛ ولهذا كانت سورة "الإخلاص" تعدل ثلث القرآن؛ لأنها أخلصت لوصف الرحمن تبارك وتعالى والثناء عليه.. ولهذا كان: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" أفضل الكلام بعد القرآن.
وإذا قلت: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" فاعلم أنه عدوك، ومترصد لصرف قلبك عن الله عز وجل حسدًا لك على مناجاتك مع الله عز وجل، وسجودك له.. وأن استعاذتك بالله سبحانه منه بترك ما يحبه، وتبديله بما يحب الله عز وجل، لا بمجرد قولك.. واعلم أن كل ما يشغلك عن فهم معاني قراءتك فهو وسواس؛ فإن حركة اللسان غير مقصودة، بل المقصود معانيها..
ثم تأتيك الفاتحة؛ وما أدراك ما الفاتحة؟! هي فاتحة كل خير.. هي فاتحة القلب بالتوحيد.. وفاتحة الجوارح بالعبادة.. وفاتحة العقل بالتدبر والتفكر.. وفاتحة الأذن بالاستماع والإنصات.. وفاتحة اللسان بالذكر والتلاوة.. هي الابتداء الذي يذكرك بأنه لابد أن تستعين بالله في طلب التوفيق منه سبحانه في كل أمر، وأن تبدأ باسمه في كل آن؛ وإلا فإنك محروم من التوفيق، مقطوع عن البركة، تبذل الجهد ولا ترى ثمرته، وتصرف الوقت ولا ترى له أثرًا ..(1/193)
وعند تلاوتك الفاتحة استشعر أن الله تعالى يرد عليك آية، آية.. قال الله تعالى فيما أخبر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قسمتُ الصلاةَ بيني وبينَ عبدي نصفين: نصفُها لي، ونصفُها لعبدي، ولعبدي ما سأل. يقول العبد: (الحمد لله رب العالمين)، فيقول الله عز وجل: "حمدني عبدي". ويقول العبد: (الرحمن الرحيم)، فيقول الله: أثنى عليّ عبدي. ويقول العبد: (مالك يوم الدين)، يقول الله تعالى: "مجدَّني عبدي". يقول العبد: (إياك نعبد وإياك نستعين)، قال: "فهذه بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل". يقول العبد: (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)، قال: "فهؤلاء لعبدي، ولعبدي ما سأل" [رواه مسلم]
فيا لذة القلب، وقرة العين، وسرور النفس بقول الرب عز وجل: (عبدي) ثلاث مرات.. فوالله لولا ما على القلوب من دخان الشهوات وغيم النفوس لاستطيرت فرحًا وسرورًا بقول ربها وفاطرها ومعبودها: "حمدني عبدي"، و"أثنى عليّ عبدي"، و"مجدني عبدي".
كان الربيع يقول: ما دخلتُ في صلاة قط فأهمني فيها إلا ما أقول وما يقال لي.
ثم تركع بعد ذلك، وما أعجب الركوع وما أعظمه! فيه تحقق عبوديتك؛ لأنك تركع وتنحني وتخضع تعظيمًا لله عز وجل صاحب العزة والكبرياء جل في علاه، ثم تكرر بلسان الهيبة والإجلال والحياء: "سبحان ربي العظيم"..
ثم بعد ذلك ترفع من ركوعك وتقول: "ربنا ولك الحمد.."، و[الكلام في تقدير جملتين قائمتين بأنفسهما؛ فإن قوله: "ربنا.." متضمن في المعنى: أنت الرب والملك القيوم الذي بيديه أَزِمَّة الأمور، وإليه مرجعها.. فعطف على هذا المعنى المفهوم من قوله: "ربنا.." قوله: "ولك الحمد.." فتضمن ذلك معنى قول الموحِّد: له الملك، وله الحمد..](1) تحمده بعد أن تذللت له لأنه وفقك لتكون عبدًا من عباده؛ وغيرك جاحد كفور.. وفقك لتخضع له؛ وغيرك قد خضع لغيره..
__________
(1) الصلاة وأحكام تاركها لابن القيم(1/194)
ثم تخر ساجدًا في دنو الاستعلاء مرددًا: "سبحان ربي الأعلى.."، ووصف الرب بالعلو في هذه الحال في غاية المناسبة لحال الساجد الذي قد انحط إلى السفل على وجهه فذكر علو ربه في حال سقوطه.. واستشعر أن السجود أفضل أركان الصلاة الفعلية، وسرها الذي شرعت لأجله، وهو خاتمة الركعة وغايتها.. فأنت أقرب ما تكون من ربك حينئذ؛ ولهذا كان الدعاء في هذا المحل أقرب إلى الإجابة.
قال "مسروق" لسعيد بن جبير: ما بقي شيء يُرغَب فيه إلا أن نعفر وجوهنا في التراب له.
و[لما شرع السجود بوصف التكرار لم يكن بد من الفصل بين السجدتين، ففصل بينهما بركن مقصود؛ يقعد العبد جاثيًا على ركبتيه؛ كهيئة المقلي نفسه بين يدي سيده؛ راغبًا راهبًا معتذرًا إليه، مستعديًا إليه على نفسه الأمارة بالسوء..
وقد شرع في هذا الركن من الدعاء ما يليق به ويناسبه؛ وهو سؤال العبد المغفرة والرحمة والهداية والعافية والرزق.. فإن هذه تتضمن جلب خير الدنيا والآخرة، ودفع شر الدنيا والآخرة.. فالرحمة تحصل الخير، والمغفرة تقي الشر، والهداية توصل إلى هذا وهذا، والرزق إعطاء ما به قوام البدن من الطعام والشراب، وما به قوام الروح والقلب من العلم والإيمان..(1/195)
ثم شرع له أن يجلس في آخر صلاته جلسة المتخشع المتذلل المستكين، جاثيًا على ركبتيه، ويأتي في هذه الجلسة بأكمل التحيات وأفضلها للحي الذي لا يموت، وهو سبحانه أولى بتلك التحيات من كل ما سواه؛ فإنها تتضمن الحياة والبقاء والدوام، ولا يستحق أحد هذه التحيات إلا الحي الباقي الذي لا يموت، ولا يزول ملكه.. وكذلك قوله: "والصلوات.." فإنه لا يستحق أحد الصلاة إلا الله عز وجل، والصلاة لغيره من أعظم الكفر والشرك به.. وكذلك قوله: "والطيبات.." أي الطيبات من الكلمات والأفعال والصفات والأسماء لله وحده؛ فهو طيِّب، وأفعاله طيبة، وصفاته أطيب شيء، وأسماؤه أطيب الأسماء، وإليه يصعد الكلم الطيب.. فالطيبات كلها له، ومضافة إليه، وصادرة عنه، ومنتهية إليه.. بل ما طاب شيء قط إلا بطيبته سبحانه؛ فطيب كل ما سواه من آثار طيبته، ولا تصلح هذه التحية الطيبة إلا له..
وجُعلت كلمات التحيات في آخر الصلاة بمنزلة خطبة الحَاجَة(1) أمامها؛ فإن المصلي إذا فرغ من صلاته جلس جلسة الراغب الراهب يستعطي مِن ربه ما لا غنى به عنه؛ فشرع له أمام استعطائه كلمات التحيات مقدمة بين يدي سؤاله، ثم يتبعها بالصلاة على من نالت أمته هذه النعمة على يده.. فكأن المصلي توسل إلى الله سبحانه بعبودتيه، ثم بالثناء عليه والشهادة له بالوحدانية، ولرسوله بالرسالة، ثم الصلاة على رسوله.. ثم قيل له: تخير من الدعاء أحبه إليك؛ فذاك الحق الذي عليك، وهذا الحق الذي لك..
__________
(1) خطبة الحاجة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه، وكان السلف الصالح يقدمونها بين يدي دروسهم وكتبهم ومختلف شئونهم. وأولها: "إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.."(1/196)
وشُرع للمصلي من الدعاء ما يختاره من مصالح دنياه وآخرته؛ والدعاء في هذا المحل قبل السلام أفضل من الدعاء بعد السلام، وأنفع للداعي.. وهكذا كانت عامة أدعية النبي - صلى الله عليه وسلم - كلها في الصلاة من أولها إلى آخرها؛ فكان يدعو في الاستفتاح أنواعًا من الدعاء، وفي الركوع، وبعد رفع رأسه منه، وفي السجود، وبين السجدتين، وفي التشهد قبل التسليم.. فإن المصلي قبل سلامه في محل المناجاة والقربة بين يدي ربه، فسؤاله في هذا الحال أقرب إلى الإجابة من سؤاله بعد انصرافه من بين يديه.
ثم خُتمت بالتسليم، وجُعل تحليلاً لها، يخرج به المصلي منها كما يخرج بتحليل الحج منه، وجُعل هذا التحليل دعاء الإمام لمن وراءه بالسلامة التي هي أصل الخير وأساسه، فشرع لمن وراءه أن يتحلل بمثل ما تحلل به الإمام، وفي ذلك دعاء له وللمصلين معه بالسلام. ثم شُرع ذلك لكل مصلٍ وإن كان منفردًا.] [الصلاة وأحكام تاركها]
وأقم الصلاة لذكري:
قال تعالى: { وَأَنَا y7è?ِژyI÷z$# فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) ûسة_¯Rخ) أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا 'دTô‰ç6ôم$$sù وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ü"حچٍ2د%د! } [طه: 13-14]
[(وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) أي: تخيرتك واصطفيتك من الناس، وهذه أكبر نعمة ومنة أنعم الله بها عليه، تقتضي من الشكر ما يليق بها، ولهذا قال: (فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى) أي: ألقِ سمعك للذي أُوحي إليك، فإنه حقيق بذلك، لأنه أصل الدين ومبدأه، وعماد الدعوة الإسلامية، ثم بين الذي يوحيه إليه بقوله: (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إلَهَ إلا أَنَا) أي: الله المستحق الألوهية المتصف بها، لأنه الكامل في أسمائه وصفاته، المنفرد بأفعاله، الذي لا شريك له ولا مثيل ولا كفو ولا سمي، (فَاعْبُدْنِي) بجميع أنواع العبادة، ظاهرها وباطنها، أصولها وفروعها، ثم خص الصلاة بالذكر وإن كانت داخلة في العبادة، لفضلها وشرفها، وتضمنها عبودية القلب واللسان والجوارح.(1/197)
وقوله: (لِذِكْرِي) اللام للتعليل أي: أقم الصلاة لأجل ذكرك إياي؛ لأن ذكره تعالى أجَلُّ المقاصد، وهو عبودية القلب، وبه سعادته، فالقلب المعطَّل عن ذكر الله، معطَّل عن كل خير، وقد خرب كل الخراب، فشرع الله للعباد أنواع العبادات، التي المقصود منها إقامة ذكره، وخصوصا الصلاة.] [تيسير الكريم الرحمن]
وعلامة تعظيم العبد لأمر الصلاة [رعاية أوقاتها وحدودها والتفتيش على أركانها وواجباتها وكمالها، والحرص على تحينها في أوقاتها، والمسارعة إليها عند وجوبها، والحزن والكآبة والأسف عند فوت حق من حقوقها، كمن يحزن على فوت الجماعة، ويعلم أنه إنْ تقبلت منه صلاته منفردًا فإنه قد فاته سبعة وعشرون ضعفًا، ولو أن رجلاً يعاني البيع والشراء تفوته صفقة واحدة في بلده من غير سفر ولا مشقة قيمتها سبعة وعشرون دينارًا لأكل يديه ندمًا وأسفًا، فكيف وكل ضعف مما تضاعف به صلاة الجماعة خير من ألف وألف ألف وما شاء الله تعالى!! فإذا فوت العبد عليه هذا الربح قطعًا كان من الخاسرين.
وكثير من العلماء لا صلاة له، وهو بارد القلب فارغ مِن هذه المصيبة، غير مرتاع لها! فهذا عدم تعظيم أمر الله تعالى في قلبه، وكذلك إذا فاته أول الوقت الذي هو رضوان الله تعالى، أو فاته الصف الأول الذي يصلي الله وملائكته على ميامنه؛ ولو يعلم العبد فضيلته لجالد عليه، ولكانت قرعة! وكذلك فوت الجمع الكثير الذي تضاعف الصلاة بكثرته وقلته، كلما كثر الجمع كان أحب إلى الله عز وجل، وكلما بعدت الخطا كانت خطوة تحط خطيئة، وأخرى ترفع درجة.(1/198)
وكذلك فوت الخشوع في الصلاة وحضور القلب فيها بين يدي الرب تبارك وتعالى الذي هو روحها ولبها؛ فصلاة بلا خشوع ولا حضور كبدن ميت لاروح فيه! أفلا يستحي العبد أنْ يُهدي إلى مخلوق مثله عبدًا ميتًا، أو جارية ميتة؟! فما ظن هذا العبد أنْ تقع تلك الهدية ممن قصده بها مِن ملك أو أمير أوغيره؟! فهكذا سواء؛ الصلاة الخالية عن الخشوع والحضور وجمع الهمة على الله تعالى فيها؛ بمنزلة هذا العبد أو الأمة الميت الذي يريد إهداءه إلى بعض الملوك!! ولهذا لا يقبلها الله تعالى منه، وإنْ أسقطت الفرض في أحكام الدنيا، ولا يثيبه عليها؛ فإنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها، كما في السنن ومسند الإمام أحمد وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنَّ العبدَ ليصلي الصلاةَ وما كُتِب له إلا نصفُها، إلا ثلُثُها، إلا رُبعُها، إلا خُمسُها.." حتى بلغ عُشرها.] [الوابل الصيب]
قال تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي ِNخkجEںx|¹ خَاشِعُونَ } [المؤمنون: 1-2]
[(خَاشِعُون) خائفون بالقلب، ساكنون بالجوارح. وقيل: الخشوع في الصلاة جمع الهمة لها، والإعراض عما سواها. وأن لا يجاوز بصره مصلاه. وأن لا يلتفت ولا يعبث. وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه -: هو إخلاص المقال، وإعظام المقام، واليقين التام، وجمع الاهتمام.
وأضيفت الصلاة إلى المصلين لا إلى المصلَّى له؛ لانتفاع المصلِّي بها وحده، وهي عُدته وذخيرته، وأما المصلَّى له فغنيّ عنها.] [تفسير النسفي](1/199)
و[هذا تنويه من الله بذكر عباده المؤمنين، وذكر فلاحهم وسعادتهم، وبأي شيء وصلوا إلى ذلك. وفي ضمن ذلك الحث على الاتصاف بصفاتهم، والترغيب فيها. فليزن العبد نفسه وغيره على هذه الآيات، يعرف بذلك ما معه وما مع غيره من الإيمان، زيادة ونقصًا، كثرة وقلة، فقوله: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) أي: قد فازوا وسعدوا ونجحوا، وأدركوا كل ما يرام. المؤمنون الذين آمنوا بالله وصَدَّقوا المرسلين؛ الذين مِن صفاتهم الكاملة أنهم: (فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ)
والخشوع في الصلاة: هو حضور القلب بين يدي الله تعالى، مستحضرًا لقربه، فيسكن لذلك قلبه، وتطمئن نفسه، وتسكن حركاته، ويقل التفاته، متأدبًا بين يدي ربه، مستحضرًا جميع ما يقوله ويفعله في صلاته، من أول صلاته إلى آخرها، فتنتفي بذلك الوساوس والأفكار الردية، وهذا روح الصلاة، والمقصود منها، وهو الذي يُكتب للعبد، فالصلاة التي لا خشوع فيها ولا حضور قلب، وإنْ كانت مجزئة مُثابًا عليها، فإن الثواب على حسب ما يعقل القلب منها.
{ وَالَّذِينَ َOèd عَلَى ِNخkجE¨uqn=|¹ tbqفàدù$utن† (9) } أي: يداومون عليها في أوقاتها وحدودها وأشراطها وأركانها، فمدحهم بالخشوع بالصلاة، وبالمحافظة عليها، لأنه لا يتم أمرهم إلا بالأمرين، فمن يداوم على الصلاة من غير خشوع، أو على الخشوع من دون محافظة عليها، فإنه مذموم ناقص.] [تيسير الكريم الرحمن](1/200)
فهم [لا يفوتونها كسلاً، ولا يضيعونها إهمالاً، ولا يقصرون في إقامتها كما ينبغي أن تقام؛ إنما يؤدونها في أوقاتها كاملة الفرائض والسنن، مستوفية الأركان والآداب، حية يستغرق فيها القلب، وينفعل بها الوجدان. والصلاة صلة ما بين القلب والرب، فالذي لا يحافظ عليها لا ينتظر أن يحافظ على صلة ما بينه وبين الناس محافظة حقيقية مبعثها صدق الضمير.. ولقد بدأت صفات المؤمنين بالصلاة وختمت بالصلاة للدلالة على عظيم مكانتها في بناء الإيمان، بوصفها أكمل صورة من صور العبادة والتوجه إلى الله.] [في ظلال القرآن]
و[الناس في الصلاة على مراتب خمسة: أحدها: مرتبة الظالم لنفسه، المُفَرِّط، وهو الذي انتقص من وضوئها ومواقيتها وحدودها وأركانها.
الثاني: مَن يحافظ على مواقيتها وحدودها، وأركانها الظاهرة، ووضوئها، لكن قد ضيَّع مجاهدة نفسه في الوسوسة؛ فذهب مع الوساوس والأفكار.
الثالث: مَن حافظ على حدودها وأركانها، وجاهد نفسه في دفع الوساوس والأفكار؛ فهو مشغول بمجاهدة عدوه لئلا يسرق صلاته؛ فهو في صلاة وجهاد.
الرابع: مَن إذا قام إلى الصلاة أكمل حقوقها وأركانها وحدودها، واستغرق قلبه مراعاة حدودها وحقوقها لئلا يُضيِّع شيئًا منها، بل همه كله مصروف إلى إقامتها
كما ينبغي، وإكمالها وإتمامها، قد استغرق قلبه شأن الصلاة وعبودية ربه تبارك وتعالى فيها.
الخامس: مَن إذا قام إلى الصلاة قام إليها كذلك، ولكن مع هذا قد أخذ قلبه، ووضعه بين يدي ربه عز وجل، ناظرًا بقلبه إليه، مراقبًا له، ممتلئًا مِن محبته وعظمته؛ كأنه يراه ويشاهده، وقد اضمحلت تلك الوساوس والخطرات، وارتفعت حُجُبها بينه وبين ربه.. فهذا بينه وبين غيره في الصلاة أفضل وأعظم مما بين السماء والأرض، وهذا في صلاته مشغول بربه عز وجل، قرير العين به.(1/201)
فالقسم الأول مُعاقَب، والثاني محاسَب، والثالث مُكفَّر عنه، والرابع مُثاب، والخامس مُقرَّب من ربه؛ لأن له نصيبًا ممن جُعلَت قرة عينه في الصلاة.. فمَن قرت عينه بصلاته في الدنيا؛ قرت عينه بقربه من ربه عز وجل في الآخرة، وقرت عينه أيضًا به في الدنيا، ومَن قرت عينه بالله قرت به كل عين.. ومَن لم تقر عينه بالله تعالى تقطعت نفسه على الدنيا حسرات..
وقد روي أن العبد إذا قام يصلي قال الله عز وجل: ارفعوا الحجب.. فإذا التفت؛ قال: أرخوها.. وقد فُسِّر هذا الالتفات بالتفات القلب عن الله عز وجل إلى غيره، فإذا التفت إلى غيره أرخى الحجاب بينه وبين العبد، فدخل الشيطان، وعرض عليه أمور الدنيا، وأراه إياها في صورة المرآة.. وإذا أقبل بقلبه على الله، ولم يلتفت لم يقدر الشيطان على أنْ يتوسط بين الله تعالى وبين ذلك القلب، وإنما يدخل الشيطان إذا وقع الحجاب.. فإن فَرَّ إلى الله تعالى، وأحضر قلبه فَرَّ الشيطان، فإن التفت حضر الشيطان؛ فهو هكذا شأنه وشأن عدوه في الصلاة.] [الوابل الصيب]
- - -
إذا خشع قلبُك وحضر.. انطرد وسواسك :
عن أبي أيوب قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله.. عَلِّمني وأوجز! قال: "إذا قمتَ في صلاتِك فصَلِّ صلاةَ مُوَدِّع.." [رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني] أي مودع لنفسه، مودع لهواه، مودع لعُمره، سائر إلى مولاه، كما قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ y7¯Rخ) كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ } [الانشقاق: 6] وقال:
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ (#ûqكJn=ôم$#ur أَنَّكُمْ çnqà)"n=-B } [البقرة: 223]
قال ابن القيم: للعبد بين يدي الله موقفان: موقف بين يديه في الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه. فمَن قام بحق الموقف الأول هُوِّن عليه الموقف الآخر، ومَن استهان بهذا الموقف، ولم يُوفِّه حقه؛ شُدِّد عليه ذلك الموقف.(1/202)
وإذا خشع قلبُك وحضر انطرد وسواسك، وقصُر عليك من الصلاة ما طال على غيرك..
عن عائشة ل قالت: سألتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الالتفات في الصلاة، فقال: "هو اختلاسٌ يختلسُهُ الشيطانُ مِن صلاةِ العبدِ". [رواه البخاري]
قال ابن حجر في "فتح الباري": [قوله: (هو اختلاس) أي اختطاف بسرعة.
وقيل: المختلس الذي يخطف من غير غلبة ويهرب ولو مع معاينة المالك له، والناهب يأخذ بقوة، والسارق يأخذ في خفية.
فلما كان الشيطان قد يشغل المصلي عن صلاته بالالتفات إلى شيء ما بغير حجة يقيمها أشبه المختلس.
قال الطيبي: سمي اختلاسًا تصويرًا لقبح تلك الفعلة بالمختلس؛ لأن المصلي يُقبل عليه الرب سبحانه وتعالى، والشيطان مرتصد له ينتظر فوات ذلك عليه، فإذا التفت اغتنم الشيطان الفرصة فسلبه تلك الحالة.] أ.هـ
قال ابن القيم: [وقوله في الحديث: "وأمركم بالصلاةِ، فإذا صليتُم فلا تلتفتوا؛ فإنَّ اللهَ يَنصِبُ وجهَهُ لوجهِ عبدِهِ في صلاتِهِ ما لم يلتفتْ".
الالتفات المنهي عنه في الصلاة قسمان: أحدهما: التفات القلب عن الله عز وجل إلى غير الله تعالى. الثاني: التفات البصر. وكلاهما منهى عنه.
ولا يزال الله مُقبِلاً على عبده ما دام العبد مُقبِلاً على صلاته، فإذا التفت بقلبه أو بصره أعرض الله تعالى عنه. وقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التفات الرجل في صلاته، فقال: "اختلاسٌ يختلسُهُ الشيطانُ مِن صلاةِ العبدِ". وفي أثر يقول الله تعالى: إلى خيرٍ مِنِّي؟ إلى خيرٍ مِنِّي؟
ومثل مَن يلتفت في صلاته ببصره أو بقلبه مثل رجل قد استدعاه السلطان فأوقفه بين يديه، وأقبل يناديه ويخاطبه؛ وهو فى خلال ذلك يلتفت عن السلطان يمينًا و شمالاً، وقد انصرف قلبه عن السلطان؛ فلا يفهم ما يخاطبه به؛ لأن قلبه ليس حاضرًا معه.. فما ظن هذا الرجل أنْ يفعل به السلطان؟ أفليس أقل المراتب فى حقه أنْ ينصرف مِن بين يديه ممقوتًا مبعَدًا قد سقط من عينيه؟(1/203)
فهذا المصلي لا يستوي والحاضر القلب، المقبل على الله تعالى فى صلاته، الذي قد أشعر قلبه عظمة مَن هو واقف بين يديه؛ فامتلأ قلبه مِن هيبته، وذلَّت عنقه له، واستحيى مِن ربه تعالى أنْ يُقبِل على غيره، أو يلتفت عنه.. وبين صلاتيهما كما قال حسان بن عطية: إن الرجلين ليكونان في الصلاة الواحدة، وإن ما بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض. وذلك أن أحدهما مُقبِل على الله عز وجل، والآخر ساهٍ غافل..
فإذا أقبل العبد على مخلوق مثله وبينه حجاب لم يكن إقبالاً ولا تقريبًا؛ فما الظن بالخالق عز وجل؟ وإذا أقبل على الخالق عز وجل وبينه وبينه حجاب الشهوات والوساوس، والنفس مشغوفة بها، ملأى منها.. فكيف يكون ذلك إقبالاً وقد ألهته الوساوس والأفكار، وذهبت به كل مذهب؟
والعبد إذا قام في الصلاة غار الشيطان منه؛ فإنه قد قام في أعظم مقام وأقربه، وأغيظه للشيطان، وأشده عليه؛ فهو يحرص ويجتهد أن لا يقيمه فيه، بل لايزال به يعده ويمنيه وينسيه، ويجلب عليه بخيله ورَجِله حتى يُهوِّن عليه شأن الصلاة، فيتهاون بها فيتركها.. فإن عجز عن ذلك منه، وعصاه العبد، وقام في ذلك المقام أقبل عدو الله تعالى حتى يخطر بينه وبين نفسه، ويحول بينه وبين قلبه؛ فيذكره في الصلاة مالم يذكر قبل دخوله فيها، حتى ربما كان قد نسي الحاجة وأيس منها، فيُذَكِّره إياها في الصلاة ليشغل قلبه بها، ويأخذه عن الله عز وجل؛ فيقوم فيها بلا قلب؛ فلا ينال من إقبال الله تعالى وكرامته وقربه ما يناله المقبل على ربه عز وجل الحاضر بقلبه في صلاته؛ فينصرف من صلاته مثل ما دخل فيها بخطاياه وذنوبه وأثقاله؛ لم تَخِفّ عنه بالصلاة..(1/204)
فإن الصلاة إنما تكفر سيئات مَن أدى حقها، وأكمل خشوعها، ووقف بين يدي الله تعالى بقلبه وقالبه؛ فهذا إذا انصرف منها وجد خفة مِن نفسه، وأحسَّ بأثقال قد وُضعَت عنه؛ فوجد نشاطًا وراحة وروحًا حتى يتمنى أنه لم يكن خرج منها؛ لأنها قرة عينه، ونعيم روحه، وجنة قلبه، ومستراحه في الدنيا.. فلا يزال كأنه في سجن وضيق حتى يدخل فيها؛ فيستريح بها لا منها.. فالمحبون يقولون: نصلي فنستريح بصلاتنا، كما قال إمامهم وقدوتهم ونبيهم - صلى الله عليه وسلم -: "يا بلال! أرحنا بالصلاة". وقال - صلى الله عليه وسلم -: "جعلت قرة عيني في الصلاة". فمَن جُعلَت قرة عينه في الصلاة كيف تقر عينه بدونها؟ وكيف يطيق الصبر عنها؟] [الوابل الصيب]
وقال عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا (#qç/uچّ)s? الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ 3"uچ"s3ك™ 4س®Lxm تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } [النساء: 43]
قيل: سكارى من كثرة الهم. وقيل: من حب الدنيا. وقال وهب: المراد به ظاهره ففيه تنبيه على سكر الدنيا؛ إذ بين فيه العلة، فقال: { 4س®Lxm تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } وكم من مصلٍ لم يشرب خمرًا، وهو لا يعلم ما يقول في صلاته..
وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما فُرضَتِ الصلاةُ، وأُمِرَ بالحجِّ والطوافِ، وأُشعِرَتِ المناسكُ لإقامةِ ذكرِ اللهِ". [أخرجه أبو داود والترمذي من حديث عائشة نحوه دون ذكر الصلاة، قال الترمذي: حسن صحيح] فإذا لم يكنْ في قلبِك للمذكورِ الذي هو المقصودُ والمبتغَى عظمةٌ ولا هيبةٌ، فما قيمةُ ذكرِك؟!
قال ابن عباس ب: ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة والقلب ساهٍ.(1/205)
وقيل عن محمد بن نصر المروزي: ما رأيت أحسن صلاة منه، وبلغني أن زنبورًا قعد على جبهته فسال الدم على وجهه ولم يتحرك! ولقد كنا نتعجب من حسن صلاته وخشوعه وهيئته للصلاة، كان يضع ذقنه على صدره فينتصب كأنه خشبة منصوبة.. ولعلنا لا نعجب حينئذ من قول سفيان الثوري: لو رأيتَ منصور بن المعتمر يصلي لقلتَ: يموت الساعة! ولا من قول أبي بكر بن عياش: رأيتُ حبيب ابن أبي ثابت يصلي وكأنه ميت! -يعني من خوفه وخشوعه- لأن القوم قد ملأ الخشوع قلوبهم فسكنت جوارحهم.
ولا عجب من ذلك فقد سبقهم إليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وصاياهم وأعمالهم؛ فهذا "جندب بن عبد الله" يقول: إذا وقفتم بين يدي ربكم للصلاة فاجعلوا الجنة والنار بين أيديكم، والميزان والصراط حولكم كأنكم تقولون: { !$sY/u' $tRِژ|اِ/r& وَسَمِعْنَا $sY÷èإ_ِ'$$sù نَعْمَلْ $·sد="|¹ إِنَّا مُوقِنُونَ } [السجدة: 12]، وهذا عمر - رضي الله عنه - غلبه البكاء في صلاة الصبح حتى سُمِع نحيبه مِن وراء ثلاثة صفوف..
والجميع مقتدٍ برسول الهدى - صلى الله عليه وسلم -، مستضيء بهديه؛ فقد ذكر مالك في "الموطأ" أَنَّ عائشة ل قالت: أَهدى "أبو جَهْمِ بن حذيفة" لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خَمِيصَةً شَامِيَّةً لَهَا عَلَمٌ، فَشَهِدَ فِيهَا الصلاة، فلما انصرف قال: "رُدِّي هَذِهِ الخَميصَةَ إلى أبي جَهْمٍ؛ فإني نَظَرتُ إلى عَلَمِها فِي الصلاةِ فكادَ يَفْتِنُنِي"، وذلك لتقتدي به في ذلك أمته، يتفرغون لصلاتهم بترك ما يشغلهم عنها، ويفتنهم فيها.
يا خالقَ الأكوانِ أنتَ المُرتَجَى وإليكَ وحدَكَ ترتقي صلواتي
- - -
من صفات القلوب تصاغ الصور في الدار الآخرة:(1/206)
قال الغزالي في "الإحياء": [حظ كل واحد من صلاته بقدر خوفه وخشوعه وتعظيمه؛ فإنَّ موضع نظر الله سبحانه القلوب دون ظاهر الحركات، ولذلك قال بعض الصحابة - رضي الله عنهم -: يُحشَر الناس يوم القيامة على مثال هيئتهم في الصلاة من الطمأنينة والهدوء، ومن وجود النعيم بها واللذة.. ولقد صدق؛ فإنه يُحشَر كل عبد على ما مات عليه، ويموت على ما عاش عليه، ويراعى في ذلك حال قلبه لا حال شخصه؛ فمِن صفات القلوب تُصاغ الصور في الدار الآخرة، ولا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم.] أ.هـ
[وإنما يَقوَى العبد على حضوره في الصلاة، واشتغاله فيها بربه عز وجل إذا قهر شهوته وهواه، وإلا فقلب قد قهرته الشهوة، وأسره الهوى، ووجد الشيطان فيه مقعدًا تمكن فيه؛ كيف يخلص من الوساوس والأفكار؟!
والقلوب ثلاثة: قلب خالٍ من الإيمان وجميع الخير؛ فذلك قلب مظلم، قد استراح الشيطان من إلقاء الوساوس إليه؛ لأنه قد اتخذه بيتًا ووطنًا، وتحكَّم فيه بما يريد، وتمكَّن منه غاية التمكن.
القلب الثاني: قلب قد استنار بنور الإيمان، وأُوقِد فيه مصباحه، لكن عليه ظلمة الشهوات، وعواصف الأهوية؛ فللشيطان هناك إقبال وإدبار، ومجالات ومطامع.. فالحرب دول وسِجال، وتختلف أحوال هذا الصنف بالقلة والكثرة؛ فمنهم مَن أوقات غلبته لعدوه أكثر، ومنهم مَن أوقات غلبة عدوه له أكثر، ومنهم مَن هو تارة وتارة.(1/207)
القلب الثالث: قلب محشو بالإيمان، قد استنار بنور الإيمان، وانقشعت عنه حُجُب الشهوات، وأقلعت عنه تلك الظلمات؛ فلنوره في صدره إشراق، ولذلك الإشراق إيقاد، لو دنا منه الوَسواس احترق به؛ فهو كالسماء التي حُرِسَت بالنجوم؛ فلو دنا منها الشيطان يتخطاها رُجِم فاحترق، وليست السماء بأعظم حرمة مِن المؤمن، وحراسة الله تعالى له أتم من حراسة السماء، والسماء متعبد الملائكة، ومُستقَر الوحي، وفيها أنوار الطاعات.. وقلب المؤمن مُستقَر التوحيد والمحبة، والمعرفة والإيمان، وفيه أنوارها؛ فهو حقيق أن يُحرَس ويُحفَظ من كيد العدو..
وقد مثل ذلك بمثال حسن، وهو ثلاثة بيوت: بيت للملِك فيه كنوزه وذخائره
وجواهره.. وبيت للعبد فيه كنوز العبد وذخائره، وليس جواهر الملك وذخائره.. وبيت خالٍ صِفر لاشيء فيه.. فجاء اللص يسرق من أحد البيوت؛ فمِن أيها يسرق؟ فإن قلت: مِن البيت الخالي كان مُحالاً؛ لأن البيت الخالي ليس فيه شيء يُسرَق، ولهذا قيل لابن عباس ب: إن اليهود تزعم أنها لا توسوس في صلاتها! فقال: وما يصنع الشيطان بالقلب الخراب؟
وإن قلت: يسرق من بيت الملك كان ذلك كالمستحيل الممتنع؛ فإن عليه مِن الحرس ما لا يستطيع اللص الدنو منه؛ كيف وحارسه الملك بنفسه؟ وكيف يستطيع اللص الدنو منه وحوله مِن الحرس والجند ما حوله؟ فلم يبق للص إلا البيت الثالث؛ فهو الذي يشن عليه الغارات..
فليتأمل اللبيب هذا المثال حق التأمل، ولينزله على القلوب؛ فإنها على منواله.. فقلب خلا مِن الخير كله، وهو قلب الكافر والمنافق؛ فذلك بيت الشيطان قد أحرزه لنفسه، واستوطنه، واتخذه سكنًا ومُستقَرًّا.. فأي شيء يسرق منه؟ وفيه خزائنه وذخائره، وشكوكه وخيالاته ووساوسه..(1/208)
وقلب قد امتلأ مِن جلال الله عز وجل، وعظمته ومحبته، ومراقبته والحياء منه؛ فأي شيطان يجترئ على هذا القلب؟ وإن أراد سرقة شيء منه؛ فماذا يسرق منه؟! وغايته أن يظفر في الأحايين منه بخطفة ونهب يحصل له على غِرَّة مِن العبد وغفلة لا بُدَّ له؛ إذ هو بشر، وأحكام البشرية جارية عليه من الغفلة والسهو، والذهول وغلبة الطبع..
وقلب فيه توحيد الله تعالى، ومعرفته و محبته، والإيمان به، والتصديق بوعده ووعيده، وفيه شهوات النفس، وأخلاقها، ودواعي الهوى والطبع، وقلب بين هذين الداعيين؛ فمرة يميل بقلبه داعي الإيمان والمعرفة، والمحبة لله تعالى، وإرادته وحده، ومرة يميل بقلبه داعي الشيطان والهوى والطباع.. فهذا القلب للشيطان فيه مطمع، وله منه منازلات ووقائع.. ويعطي الله النصر مَن يشاء؛ وما النصر إلا مِن عند الله العزيز الحكيم.. وهذا لايتمكن الشيطان منه إلا بما عنده مِن سلاحه!! فيدخل إليه الشيطان فيجد سلاحه عنده، فيأخده ويقاتله!! فإن أسلحته هي الشهوات والشبهات والخيالات، والأماني الكاذبة.. وهي في القلب؛ فيدخل الشيطان فيجدها عتيدة، فيأخدها ويصول بها على القلب!! فإن كان عند العبد عُدَّة عتيدة مِن الإيمان تقاوم تلك العُدَّة، و تزيد عليها انتصف من الشيطان، وإلا فالدولة لعدوه عليه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.. فإذا أذن العبد لعدوه، وفتح له باب بيته، وأدخله عليه، ومكَّنه مِن السلاح يقاتله به؛ فهو الملوم..
فنَفْسَكَ لُمْ ولا تَلُمِ المَطايَا ومُتْ كَمَدًا فليس لكَ اعتذارُ] [الوابل الصيب](1/209)
فالحذر.. الحذر من حب الدنيا؛ فإنّ [مَن انطوى باطنه على حب الدنيا حتى مال إلى شيء منها؛ لا ليتزود منها، ولا ليستعين بها على الآخرة؛ فلا يطمعن في أن تصفو له لذة المناجاة في الصلاة؛ فإن مَن فرح بالدنيا لا يفرح بالله سبحانه وبمناجاته، وهمة الرجل مع قرة عينه.. فإن كانت قرة عينه في الدنيا انصرف لا محالة إليها همه، ولكن مع هذا فلا ينبغي أن يترك المجاهدة، ورَدّ القلب إلى الصلاة، وتقليل الأسباب الشاغلة.. فهذا هو الدواء المر، ولمرارته استبشعته الطباع، وبقيت العلة مزمنة، وصار الداء عضالا حتى إنَّ الأكابر اجتهدوا أن يصلوا ركعتين لا يُحدِّثوا أنفسهم فيها بأمور الدنيا؛ فعجزوا عن ذلك.. فإذن لا مطمع فيه لأمثالنا، وليته سلم لنا من الصلاة شطرها أو ثلثها من الوسواس لنكون ممن خلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا، وعلى الجملة فهمة الدنيا وهمة الآخرة في القلب مثل الماء الذي يُصَب في قدح مملوء بخل، فبقدر ما نُدخِل فيه من الماء يخرج منه من الخل لا محالة، ولا يجتمعان.] [إحياء علوم الدين]
وروي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال على المنبر: إن الرجل ليشيب عارضاه في الإسلام وما أكمل لله تعالى صلاة! قيل: وكيف ذلك؟! قال: لا يتم خشوعها وتواضعها وإقباله على الله عز وجل فيها.
- - -
إن قرآن الفجر كان مشهودا:
قال تعالى: { حچôfxےّ9$#ur (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ } [الفجر:1-2](1/210)
قال العلامة السعدي في تفسيره: [الظاهر أن المقسَم عليه هو المقسَم به، وذلك جائز مستعمل إذا كان أمرًا ظاهرًا مهمًّا، وهو كذلك في هذا الموضع. فأقسم تعالى بالفجر الذي هو آخر الليل، ومقدمة النهار؛ لما في إدبار الليل وإقبال النهار مِن الآيات الدالة على كمال قدرة الله تعالى، وأنه تعالى هو المدبر لجميع الأمور، الذي لا تنبغي العبادة إلا له. ويقع في الفجر صلاة فاضلة معظمة، يحسن أن يقسم الله بها. ولهذا أقسم بعده بالليالي العشر، وهي على الصحيح: ليالي عشر رمضان، أو عشر ذي الحجة؛ فإنها ليالٍ مشتملة على أيام فاضلة، ويقع فيها من العبادات والقربات ما لا يقع في غيرها. وفي ليالي عشر رمضان ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر، وفي نهارها صيام آخر رمضان الذي هو أحد أركان الإسلام العظام. وفي أيام عشر ذي الحجة الوقوف بعرفة، الذي يغفر الله فيه لعباده مغفرة يحزن لها الشيطان؛ فإنه ما رئي الشيطان أحقر ولا أدحر منه في يوم عرفة، لما يرى من تنزل الأملاك والرحمة من الله على عباده. ويقع فيها كثير من أفعال الحج والعمرة. وهذه أشياء معظمة، مُستحِقَّة أنْ يُقسِم الله بها .] أ.هـ
وقال تعالى: { أَقِمِ الصَّلَاةَ د8qن9à$د! الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآَنَ حچôfxےّ9$# إِنَّ قُرْآَنَ حچôfxےّ9$# كَانَ مَشْهُودًا } [الإسراء: 78]
أضاف الله تبارك وتعالى [(القرآن) إلى (الفجر)، والتقدير: أقم قرآن الفجر، فوجب أن تتعلق القراءة بحصول الفجر، وفي أول طلوع الصبح قد حصل الفجر؛ لأن الفجر سُمي فجرًا لانفجار ظلمة الليل عن نور الصباح.
وقد بين الفقهاء أن السُّنة أن تكون القراءة في هذه الصلاة أطول من القراءة في سائر الصلوات، فالمقصود من قوله: (وقرآن الفجر) الحث على تطويل القراءة في هذه الصلاة؛ لأن التخصيص بالذكر يدل على كونه أكمل من غيره.(1/211)
وقد وصف قرآن الفجر بكونه مشهودًا. قال الجمهور: معناه أن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الصبح خلف الإمام؛ تنزل ملائكة النهار عليهم وهم في صلاة الغداة، وقبل أن تعرج ملائكة الليل، فإذا فرغ الإمام من صلاته عرجت ملائكة الليل، ومكثت ملائكة النهار، ثم إن ملائكة الليل إذا صعدت قالت: يا رب.. إنا تركنا عبادك يصلون لك، وتقول ملائكة النهار: ربنا.. أتينا عبادك وهم يصلون. فيقول الله تعالى للملائكة: اشهدوا أني قد غفرت لهم.
وأقول: هذا أيضًا دليل قوي في أن التغليس أفضل من التنوير؛ لأن الإنسان إذا شرع فيها من أول الصبح ففي ذلك الوقت الظلمة باقية، فتكون ملائكة الليل حاضرين، ثم إذا امتدت الصلاة بسبب ترتيل القراءة وتكثيرها زالت الظلمة وظهر الضوء وحضرت ملائكة النهار؛ فبهذا الطريق تحضر في هذه الصلاة ملائكة الليل وملائكة النهار. أما إذا ابتدأ بهذه الصلاة في وقت التنوير؛ فهناك ما بقيت الظلمة، فلم يبق في ذلك الوقت أحد من ملائكة الليل؛ فلا يحصل المعنى المذكور. فثبت أن قوله تعالى: (إنه كان مَشهودًا) دليل قوي على أن التغليس أفضل.
وعندي في تفسير قوله تعالى: (إنه كان مَشهُودًا) احتمال آخر؛ وذلك لأنه كلما كانت الحوادث الحادثة أعظم وأكمل كان الاستدلال بها على كمال قدرة الله تعالى أكمل. فالإنسان إذا شرع في أداء صلاة الصبح من أول هذا الوقت كانت الظلمة القوية باقية في العالم، فإذا امتدت القراءة في أثناء هذا الوقت ينقلب العالم من الظلمة إلى الضوء، والظلمة مناسبة للموت والعدم، والضوء مناسب للحياة والوجود. وعلى هذا التقدير فالإنسان لما قام من منامه فكأنه انتقل من الموت إلى الحياة، ومن العدم إلى الوجود. ثم إنه مع ذلك يشاهد في أثناء صلاته انقلاب كلية هذا العالم من الظلمة إلى الضوء، ومن الموت إلى الحياة، ومن السكون إلى الحركة، ومن العدم إلى الوجود.(1/212)
وهذه الحالة حالة عجيبة تشهد العقول والأرواح بأنه لا يقدر على هذا التقليب والتحويل والتبديل إلا الخالق المدبر بالحكمة البالغة والقوة الغير المتناهية وحينئذ يستنير العقل بنور هذه المعرفة، وينفتح على العقل والروح أبواب المكاشفات الروحانية الإلهية؛ فتصير الصلاة التي هي عبارة عن أعمال الجوارح مشهودًا عليها بهذه المكاشفات الإلهية المقدسة، ولذلك فكل مَن له ذوق سليم وطبع مستقيم إذا قام من منامه وأدى صلاة الصبح في أول الوقت، واعتبر اختلاف أحوال العالم من الظلمة الحاصلة إلى النور، ومن السكون إلى الحركة؛ فإنه يجد في قلبه روحًا وراحة ومزيدًا في نور المعرفة وقوة اليقين؛ فهذا هو المراد من قوله: (إن قرآن الفجر كان مشهودًا) وظهر أن هذا الاعتبار لا يحصل إلا عند أداء صلاة الفجر على سبيل التغليس فهذا ما خطر بالبال، والله أعلم بمراده.
وفي الآية احتمال ثالث، وهو أن يكون المراد من قوله: (إن قرآن الفجر كان مشهودًا) الترغيب في أن تُؤدَّى هذه الصلاة بالجماعة، ويكون المعنى كونه مشهودًا بالجماعة الكثيرة.
ومزيد التحقيق فيه أنا بينا أن تأثير هذه الصلاة في تصفية القلب وفي تنويره أكثر من تأثير سائر الصلوات، فإذا حضر جمع من المسلمين في المسجد لأداء هذه العبادة استنار قلب كل واحد منهم بسبب ذلك الاجتماع؛ كأنه ينعكس نور معرفة الله تعالى ونور طاعته في ذلك الوقت من قلب كل واحد إلى قلب الآخر فتصير أرواحهم كالمرايا المشرقة المتقابلة إذا وقعت عليها أنوار الشمس؛ فإنه ينعكس النور من كل واحدة من تلك المرايا إلى الأخرى؛ فكذا في هذه الصورة ولهذا السبب فإن كل مَن له ذوق سليم، وأدى هذه الصلاة في هذا الوقت بالجماعة وجد من قلبه فسحة ونورًا وراحة.(1/213)
ويحتمل أن يكون السبب في كونه مشهودًا هو أن الإنسان لما نام طول الليل فصار كالغافل في هذه المدة عن مراقبة أحوال الدنيا؛ فزالت صورة الحوادث الجسمانية عن لوح خياله وفكره وعقله، وصارت هذه الألواح كألواح سُطرت فيها نقوش فاسدة، ثم غُسلت وأُزيلت تلك النقوش عنها، ففي أول وقت القيام من المنام صارت ألواح عقله وفكره وخياله مطهرة عن النقوش الفاسدة الباطلة. فإذا تسارع الإنسان في ذلك الوقت إلى عبادة الله تعالى، وقراءة الكلمات الدالة على تنزيهه، والإقدام على الأفعال الدالة على تعظيم الله تعالى؛ انتقش في لوح عقله وفكره وخياله هذه النقوش الطاهرة المقدسة. ثم إن حصول هذه النقوش يمنع من استحكام النقوش الفاسدة؛ وهي النقوش المتولدة من الميل إلى الدنيا وشهواتها. فبهذا الطريق يترشح الميل إلى معرفة الله تعالى ومحبته وطاعته، ويضعف الميل إلى الدنيا وشهواتها.
إذا عرفت هذا فنقول: هذه الحكمة إنما تحصل إذا شرع الإنسان في الصلاة من أول قيامه من النوم عند التغليس. وذلك يدل على المقصود.
واعلم أن أكثر الخلق وقعوا في أمراض القلوب؛ وهي حب الدنيا والحرص والحسد، والتفاخر والتكاثر.. وهذه الدنيا مثل دار المرضى إذا كانت مملوءة من المرضى، والأنبياء كالأطباء الحاذقين، والمريض ربما قد قوي مرضه فلا يعود إلى الصحة إلا بمعالجات قوية، وربما كان المريض جاهلاً فلا ينقاد للطبيب ويخالفه في أكثر الأمر، إلا أن الطبيب إذا كان مشفقًا حاذقًا؛ فإنه يسعى في إزالة ذلك المرض بكل طريق يقدر عليه، فإن لم يقدر على إزالته فإنه يسعى في تقليله وتخفيفه.(1/214)
إذا عرفت هذا فنقول: مرض حب الدنيا مستولٍ على الخلق ولا علاج له إلا بالدعوة إلى معرفة الله تعالى وخدمته وطاعته؛ وهذا علاج شاق على النفوس، وقَلَّ مَن يَقْبَله وينقاد له. ولا جرم أن الأنبياء اجتهدوا في تقليل هذا المرض، وحمل الخلق على الشروع في الطاعة والعبودية من أول وقت القيام من النوم؛ مما ينفع في إزالة هذا المرض من الوجه الذي قررناه، فوجب أن يكون مشروعًا، والله أعلم بأسرار كلامه.] [مفاتيح الغيب للرازي]
وقد خص الله عز وجل المؤمنين الذين يحرصون على صلاة الفجر بجملة من المنح والعطايا؛ منها:
صلاة الفجر وقاية من النار.. عن زهير بن عمارة بن رويبة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لن يَلِجَ النارَ أحدٌ صلَّى قبلَ طلوعِ الشمسِ وقبلَ غروبِها". يعني الفجر والعصر [رواه مسلم] فمن حافظ على صلاتي الفجر والعصر لن يدخل النار ببركة المداومة عليهما.
صلاة الفجر تفتح أبواب الجنات.. عن أبي موسى - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن صلَّى البَرْدَينِ دخلَ الجنةَ". [متفق عليه] البردان الصبح والعصر.
قال ابن حجر في "فتح الباري": [قوله: (مَن صلى البَردين) بفتح الباء وسكون الراء تثنية "برد"، والمراد صلاة الفجر والعصر. وسميتا "بردين" لأنهما تصليان في بردي النهار وهما طرفاه، حين يطيب الهواء، وتذهب سَوْرَة الحر.
و(مَن) في الحديث شرطية،.وقوله: (دخل) جواب الشرط، وعدل عن الأصل وهو فعل المضارع كأن يقول: (يدخل الجنة) إرادة للتأكيد في وقوعه بجعل ما سيقع كالواقع.] أ.هـ
صلاة الفجر حماية ربانية.. عن جندب بن سفيان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن صلَّى الصبحَ فهو في ذمةِ اللهِ، فانظرْ يا ابنَ آدمَ لا يطلبنَّكَ اللهُ مِن ذمتِهِ بشيءٍ". [رواه مسلم](1/215)
[إنها حصانة إلهية، وحماية ربانية تكون بها -إذا صليت الفجر- في ذمة الله أي في حفظه، يصرف عنك الشرور، ويبعد عنك الأذى، ويسلمك من مهاوي الردى.. إنه حفظ عظيم فريد، وإنه لشرف كبير أن تكون أيها العبد الضعيف في حماية الملك العظيم رب الأرباب، وملك الملوك، وجبار السماوات والأرض سبحانه وتعالى.
إن الله يدافع عنك، ويُحَذِّر مَن يتعرض لك بالأذى؛ فأنت في ذمة الله، أي في أمان الله وفي جواره؛ فمَن صلى الفجر فقد استجار بالله تعالى، والله تعالى قد أجاره، فلا ينبغي لأحد أن يتعرض له بضر أو أذى، فمَن فعل ذلك فالله يطلب بحقه، ومَن يطلبه لم يجد له مفرًّا ولا ملجأ، وهذا وعيد شديد لمن يتعرض للمصلين. [المفهم].
ومن جهة أخرى: في الحديث تنبيه مهم لا بد من العناية به والانتباه له؛ فإن صلاة الفجر هي سبب ذلك الأمان والجوار؛ فإنْ تركتها لم يكن أمان ولا جوار؛ والمعنى الضمني في الحديث: لا تتركوا صلاة الصبح فينتقض العهد الذي بينكم وبين الله عز وجل. [حاشية إكمال المعلم].] (1)
صلاة الفجر شهادة الملائكة لك بالعبودية.. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يتعاقبونَ فيكم ملائكةٌ بالليلِ وملائكةٌ بالنهارِ، ويجتمعونَ في صلاةِ الصبحِ وصلاةِ العصرِ، ثم يَعرُجُ الذينَ باتوا فيكم فيسألُهم اللهُ وهوَ أعلمُ بهم: كيفَ تركتُم عبادي؟ فيقولونَ: تركناهم وهم يُصلُّون، وأتيناهم وهم يُصلُّون". [متفق عليه] قال الألوسي في تفسيره: [ولا يخفى ما في هذه الجملة من الترغيب والحث على الاعتناء بأمر صلاة الفجر؛ لأن العبد في ذلك الوقت يُشَيِّع كرامًا، ويتلقى كرامًا، فينبغي أن يكون على أحسن حال يتحدث به الراحل، ويرتاح إليه النازل.] أ.هـ
__________
(1) د. علي بن عمر بادحدح في كتابه القيِّم: "الغنائم.. أيها النائم" / موقع "إسلاميات".(1/216)
وقال ابن حجر في "فتح الباري": [قوله: (يتعاقبون) أي تأتي طائفة عقب طائفة، ثم تعود الأولى عقب الثانية.
قال ابن عبد البر: وإنما يكون التعاقب بين طائفتين أو رَجُلَين بأنْ يأتي هذا مرة ويعقبه هذا، ومنه تعقيب الجيوش أن يجهز الأمير بعثًا إلى مدة، ثم يأذن لهم في
الرجوع بعد أن يجهز غيرهم إلى مدة، ثم يأذن لهم في الرجوع بعد أن يجهز الأولين.
قوله: (فيكم) أي المصلين أو مطلق المؤمنين.
قوله: (ملائكة) قيل: هم الحفظة. وقال القرطبي: الأظهر عندي أنهم غيرهم، ويقويه أنه لم يُنقَل أن الحفظة يفارقون العبد، ولا أن حفظة الليل غير حفظة النهار، وبأنهم لو كانوا هم الحفظة لم يقع الاكتفاء في السؤال منهم عن حالة الترك دون غيرها في قوله: (كيف تركتم عبادي؟).
قوله: (ثم يعرجُ الذينَ باتوا فيكم فيسألُهم..) قيل: يحتمل أن يكون العروج إنما يقع عند صلاة الفجر خاصة، وأما النزول فيقع في الصلاتين معا، وفيه التعاقب، وصورته أن تنزل طائفة عند العصر وتبيت، ثم تنزل طائفة ثانية عند الفجر، فيجتمع الطائفتان في صلاة الفجر، ثم يعرج الذين باتوا فقط ويستمر الذين نزلوا وقت الفجر إلى العصر فتنزل الطائفة الأخرى، وحصل اجتماعهم عند العصر أيضًا، ولا يصعد منهم أحد، بل تبيت الطائفتان أيضًا، ثم تعرج إحدى الطائفتين، ويستمر ذلك فتصح صورة التعاقب مع اختصاص النزول بالعصر والعروج بالفجر، فلهذا خص السؤال بالذين باتوا، والله أعلم.
قوله: (فيسألهم) قيل: الحكمة فيه استدعاء شهادتهم لبني آدم بالخير، واستنطاقهم بما يقتضي التعطف عليهم، وذلك لإظهار الحكمة في خلق نوع الإنسان في مقابلة مَن قال مِن الملائكة: { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ x8د‰ôJut؟2 وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ 'دoTخ) أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ } [البقرة: 30] أي وقد وُجد فيهم مَن يُسَبِّح ويُقَدِّس مثلكم بنص شهادتكم.(1/217)
وقال عياض: هذا السؤال على سبيل التعبد للملائكة كما أمروا أن يكتبوا أعمال بني آدم، وهو سبحانه وتعالى أعلم من الجميع بالجميع.
قوله: (كيف تركتم عبادي؟) قال ابن أبي جمرة:.وقع السؤال عن آخر الأعمال لأن الأعمال بخواتيمها. قال: والعباد المسئول عنهم هم المذكورون في قوله
تعالى: { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ ِNخkِژn=tم سُلْطَانٌ } [الحجر: 42]
قوله: (تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون) قال ابن أبي جمرة: أجابت الملائكة بأكثر مما سئلوا عنه؛ لأنهم علموا أنه سؤال يستدعى التعطف على بني آدم فزادوا في موجب ذلك.
ويستفاد منه أن الصلاة أعلى العبادات؛ لأنه عنها وقع السؤال والجواب، وفيه الإشارة إلى عظم هاتين الصلاتين لكونهما تجتمع فيهما الطائفتان وفي غيرهما طائفة واحدة، والإشارة إلى شرف الوقتين المذكورين، وقد ورد أن الرزق يقسم بعد صلاة الصبح، وأن الأعمال ترفع آخر النهار، فمن كان حينئذ في طاعة بورك في رزقه وفي عمله، والله أعلم.
ويترتب عليه حكمة الأمر بالمحافظة عليهما والاهتمام بهما، وفيه تشريف هذه الأمة على غيرها، ويستلزم تشريف نبيها على غيره. وفيه الإخبار بالغيوب، ويترتب عليه زيادة الإيمان. وفيه الإخبار بما نحن فيه من ضبط أحوالنا حتى نتيقظ ونتحفظ في الأوامر والنواهي ونفرح في هذه الأوقات بقدوم رسل ربنا وسؤال ربنا عنا. وفيه إعلامنا بحب ملائكة الله لنا لنزداد فيهم حبًّا ونتقرب إلى الله بذلك.
وفيه كلام الله تعالى مع ملائكته. وغير ذلك من الفوائد والله أعلم.] أ.هـ (بتصرف)
صلاة الفجر تبلغك الغاية برؤية الله عز وجل.. عن جرير ابن عبد الله البجلي - رضي الله عنه - قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال: "إنكم سترونَ ربَّكم كما ترونَ هذا القمرَ لا تُضامونَ في رؤيتِهِ، فإنِ استطعتُمْ أنْ لا تُغلَبوا على صلاةٍ قبلَ طلوعِ الشمسِ وقبلَ غروبِها فافعلوا". [متفق عليه](1/218)
قال ابن حجر في "فتح الباري": [قوله (لا تُضامون) بضم أوله مخففًا، أي لا يحصل لكم ضيم حينئذ، ورُويَ بفتح أوله والتشديد من الضم (تَضامُّون)، والمراد نفي الازدحام.
قوله: (فإن استطعتم أن لا تغلبوا) فيه إشارة إلى قطع أسباب الغلبة المنافية للاستطاعة كالنوم والشغل ومقاومة ذلك بالاستعداد له.
وقوله: (فافعلوا) أي عدم الغلبة، وهو كناية عما ذكر من الاستعداد.
وقال ابن بطال: قال المهلب: قوله: (فإن استطعتم أن لا تغلبوا عن صلاة) أي في الجماعة.
قال: وخص هذين الوقتين لاجتماع الملائكة فيهما، ورفعهم أعمال العباد لئلا يفوتهم هذا الفضل العظيم.
قوله: (فافعلوا) قال الخطابي: هذا يدل على أن الرؤية قد يُرجَى نيلها بالمحافظة على هاتين الصلاتين.
قال العلماء: ووجه مناسبة ذكر هاتين الصلاتين عند ذكر الرؤية أن الصلاة أفضل الطاعات، وقد ثبت لهاتين الصلاتين من الفضل على غيرهما ما ذكر من اجتماع الملائكة فيهما ورفع الأعمال وغير ذلك، فهما أفضل الصلوات، فناسب أن يُجازَى المحافظ عليهما بأفضل العطايا؛ وهو النظر إلى الله تعالى.] أ.هـ (ملخصًا)
صلاة الفجر في جماعة تعدل قيام نصف الليل.. عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن صلَّى العشاءَ في جماعةٍ فكأنما قامَ نصفَ الليلِ، ومَن صلَّى الصبحَ في جماعةٍ فكأنما صلَّى الليلَ كلَّه". [رواه مسلم] وفي رواية الترمذي عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن شهدَ العشاءَ في جماعةٍ كان له قيامُ نصفِ ليلةٍ، ومَن صلَّى العشاءَ والفجرَ في جماعةٍ كان له كقيامِ ليلةٍ". [قال الترمذي: حديث حسن صحيح](1/219)
صلاة الفجر في المسجد تمنحك النور التام يوم القيامة.. في "صحيح الترغيب والترهيب" عن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بَشِّرِ المشَّائينَ في الظُّلَمِ إلى المساجدِ بالنورِ التامِّ يومَ القيامةِ".[رواه ابن ماجه، وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم واللفظ له، وقال: صحيح على شرط الشيخين.]
فـ[الجزاء من جنس العمل، والحق جل وعلا يقول: { هَلْ âن!#u"y_ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ } [الرحمن: 60]، وأنت عندما خرجت لصلاة الفجر، والظلام مازال يلف الكون، والدنيا مازالت في الغَلَس؛ فإن جزاءك ومكافأتك نور تام يوم القيامة؛ لأنك خرجت لطاعة ربك، وأقبلت على مولاك، وطلبت النور لقلبك وروحك، تأمل معي لفظ الحديث: "بشر المشائين.." أي مَن تكرر منه المشي إلى إقامة الجماعة، "في الظُّلَم.." أي ظلمة الليل، والبشرى هي "النور التام يوم القيامة"؛ لأنهم لما قاسوا مشقة ملازمة المشي في ظلمة الليل إلى الطاعة جوزوا بنور يضيء لهم يوم القيامة، وهو النور المضمون لكل مشَّاء إلى الجماعة في الظُّلَم.
ولماذا وصف النور بالتام؟ الجواب: أن أصل النور يُعطَى لكل مَن تلفظ بالشهادتين مِن مؤمن أو منافق لظاهر حرمة الكلمة، ثم يُقطَع نور المنافقين.
الله أكبر..متى يأتيك النور؟ إنه يقدم لك في موقف عصيب، وهول رهيب، إنه يسطع بين يديك في وقت أحوج ما تكون إليه يوم القيامة.] [الغنائم أيها النائم]
وعن أبي موسى قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أعظمُ الناسِ أجرًا في الصلاةِ أبعدُهم فأبعدُهم مَمشَى، والذي ينتظرُ الصلاةَ حتى يُصليها مع الإمامِ أعظمُ أجرًا مِنَ الذي يُصلي ثم ينامُ".(1/220)
وقد دل على أن السبب في زيادة الأجر وجود المشقة بالمشي إلى الصلاة، وإذا كان كذلك فالمشي إلى صلاة الفجر في جماعة أشق من غيرها، لأنها وإن شاركتها العشاء في المشي في الظلمة فإنها تزيد عليها بمفارقة النوم المشتهى طبعًا.
صلاة ركعتين قبل الفجر خير من الدنيا.. وعن عائشة ل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ركعتا الفجرِ خيرٌ مِنَ الدنيا وما فيها". [رواه مسلم] وفي وراية: "لهما أحبُّ إليَّ مِنَ الدنيا جميعًا".
وعنها ل قالت: "لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل أشد تعاهدًا منه على ركعتي الفجر". [متفق عليه]
وذكر ابن حجر في "فتح الباري": [لم يُحفَظ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى سُنَّة الصلاة قبلها ولا بعدها في السفر إلا ما كان مِن سُنَّة الفجر.]
ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم - إذا فات موعدها قبل الصلاة صلاها بعد صلاة الصبح.. وكل هذا التعظيم لهذه النافلة يعطيك التفخيم والتعظيم للفرض (وهو صلاة الفجر)؛ فإذا كانت النافلة خيرٌ من الدنيا وما فيها فما تقول في الفرض؟
[خير بلا حد، وفضل بلا سد، وحسنات بلا عد، عطاء يفوق الوصف، وهبات تزيد على الضعف، لا تقل: إنها مبالغات؛ كلا..! فهذا جُود رَبِّ الأرض والسماوات، إنه الذي لا تنفذ خزائنه، ولا ينقص ملكه؛ وإنْ أعطى كل سائل مسألته { وَلِلَّهِ مُلْكُ دN¨uq"yJ،،9$# وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } .[المائدة: 18]] [الغنائم أيها النائم]
صلاة الفجر في جماعة أمان من النفاق.. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس صلاةٌ أثقلَ على المنافقينَ مِن صلاةِ الفجرِ والعشاءِ، ولو يعلمون ما فيهِما لأَتَوْهُما ولو حَبْوًا". [متفق عليه](1/221)
بصلاة الفجر تُكتَب مِن الأبرار ومِن وفد الرحمن.. عن أبي أُمامة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن توضأَ في بيتِهِ ثم أتى المسجدَ فصلَّى ركعتينِ قبلَ الفجرِ، ثم جلسَ حتى يصليَ الفجرَ، ثم خرجَ مِنَ المسجدِ كُتبَتْ صلاتُهُ يومئذٍ في صلاةِ الأبرارِ وكُتبَ في وفدِ الرحمنِ". [أخرجه الطبراني بسندٍ حسن، وحسنه الألباني]
فيا عبد الله.. [أفبعد كل هذا هل ترضى أن تكون من الغافلين؟ وهل تحب أن تكون من المحرومين؟ ألا ترى آثار ترك صلاة الفجر وتأخيرها؟ ألا تراها في محق البركة وخبث النفس وثقل البدن؟ ألا تشعر بجفاف الروح وقسوة القلب؟ أين أنت من نداء الأذان يشق صمت الليل بكلمة التوحيد والدعوة للفلاح؟ وأين أنت من قرآن الفجر يصب في سمع الزمان آيات الله في كل مكان؟ وأين أنت من أفواج الملائكة بالآلاف المؤلفة وهي نازلة صاعدة؟ ألا يوقظك كل هذا ويحرك مشاعرك؟ ألا يهيجك لتترك مضجعك، وتفارق مرقدك، وتهب إلى الصلاة، وتبادر إلى الفلاح؛ لتكتب في الذاكرين، وتكون من العابدين، وتنال البشريات وتحظى بالأعطيات؟
إنني أدعوك إلى الخير الذي تحبه، والأجر الذي تنشده؛ فلا تكن مِن الغافلين النائمين.. ويحك أيها النائم! إن جوائز الدنيا، وأعطيات أهلها رغم أنها لا تعدل شيئًا مقارنة بما مَرَّ بك مِن غنائم الفجر؛ فإنها مع ذلك لا تكون إلا نادرًا، ولا تتكرر إلا الفترة والفترة.. ومع ذلك؛ فإنني أعلم أنك تستعد لها في كل مرة، وتفرغ لها نفسك، وتبذل لأجلها جهدك.. ألست إذا كان عندك مهمة في العمل لها أثرها في مرتبك ومرتبتك سهرت لأجلها الليل الطويل؟ أو ذهبت إليها في منتصف الليل أو آخره؟ وذلك لكي تنال منفعة عارضة لمرة واحدة.. فما بالك تترك المنافع العظيمة مع كل انبثاق فجر باستمرار لا انقطاع معه، وكرم وعطاء لا يتبدل ولا يتغير؟!] [الغنائم أيها النائم](1/222)
أما الفوائد الصحية التى يجنيها الإنسان بيقظة الفجر فهي كثيرة، منها:
- تكون أعلى نسبة لغاز الأوزون في الجو عند الفجر، وتقل تدريجيًّا حتى تضمحل عند طلوع الشمس، ولهذا الغاز تأثير مفيد للجهاز العصبي، ومنشط للعمل الفكري والعضلى.
- نسبة الأشعة فوق البنفسجية تكون أعلى ما يمكن عند الفجر، وهذه الأشعة تحرض الجلد على صنع فيتامين (د)، كما أن للون الأحمر تأثيرًا باعثًا على اليقظة.
- نسبة "الكورتيزون" تكون في الدم أعلى ما يمكن وقت الصباح وأقل ما يمكن وقت المساء.
- - -
أقباس نورانية من سيرة السلف:
ذكر صاحب "الطبقات الكبرى" عن أم بكر بنت المسور عن أبيها المسور ابن مخرمة قال: دخلت على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين طعن أنا وابن العباس، وأوذن بالصلاة، فقيل: الصلاة يا أمير المؤمنين.. قال: فرفع رأسه فقال: الصلاة؛ ولا حَظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة.
روى البخاري عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: شهدت فتح "تُسْتَر"(1) وذلك عند صلاة الفجر، فاشتغل الناس بالفتح؛ فما صلوا الصبح إلا بعد طلوع الشمس.. فما أحب أنّ لي بتلك الصلاة حُمُر النَّعَم!
وكان علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إذا حضر وقت الصلاة يتزلزل ويتلون وجهه، فقيل له: مالك يا أمير المؤمنين؟! فيقول: جاء وقت أمانة عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملتُها.
وكان أبو الدرداء - رضي الله عنه - يقول: مِن فقه الرجل أن يبدأ بحاجته قبل دخوله في الصلاة ليدخل في الصلاة وقلبه فارغ.
__________
(1) "تُسْتَر" مدينة فارسية حصينة حاصرها المسلمون، ولما أذن الله بفتحها انهمر جيش المسلمين داخل الحصن، ودارت معركة ضارية بين المسلمين والفرس، ونصر الله المسلمين نصرًا عزيزًا، وتم الفتح بإذن الله.(1/223)
وروي أن عمار بن ياسر صلى صلاة فأخفها، فقيل له: خففتَ يا أبا اليقظان! فقال: هل رأيتموني نقصت من حدودها شيئًا؟ قالوا: لا.. قال: إني بادرتُ سهو الشيطان، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن العبد ليصلي الصلاةَ لا يُكتَب له نصفُها ولا ثلثُها ولا ربُعها ولا خُمسُها ولا سدسُها ولا عشرُها"، وكان يقول: "إنما يُكتَب للعبدِ مِن صلاتِهِ ما عقلَ منها".
وكان طلحة والزبير وطائفة من الصحابة - رضي الله عنهم - أخف الناس صلاة، وكانوا يقولون: نبادر بها وسوسة الشيطان.
ويروى عن علي بن الحسين أنه كان إذا توضأ اصفر لونه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟! فيقول: أتدرون بين يدي مَن أريد أن أقوم؟
قال عطاء بن السائب: أتينا إلى أبي عبدالرحمن السلمي وهو مريض في مصلاه في المسجد.. فإذا هو قد اشتد عليه الأمر، وقد بات روحه تنزع.. فأشفقنا عليه، وقلنا له: لو تحولتَ إلى الفراش؛ فإنه أوثر وأوطأ.. فتحامل على نفسه وقال:
حدثني فلان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزالُ أحدُكُم في صلاةٍ ما دامَ في مُصلاه ينتظرُ الصلاةَ".. فأنا أريد أن أقبض على ذلك..
روي عن حاتم الأصم أنه سئل عن صلاته، فقال: إذا حانت الصلاة أسبغتُ الوضوء، وأتيتُ الموضع الذي أريد الصلاة فيه، فأقعد فيه حتى تجتمع جوارحي، ثم أقوم إلى صلاتي، وأجعل الكعبة بين حاجبيّ، والصراط تحت قدميّ، والجنة عن يميني، والنار عن شمالي، ومَلَك الموت ورائي، أظنها آخر صلاتي، ثم أقوم بين الرجاء والخوف.. وأكبر تكبيرًا بتحقيق، وأقرأ قراءة بترتيل، وأركع ركوعًا بتواضع، وأسجد سجودًا بتخشع، وأُتبِعها الإخلاص، ثم لا أدري: أقُبلَت مني أم لا؟؟(1/224)
قيل لعامر بن عبد الله وهو من خاشعي المصلين: هل تحدثك نفسك في الصلاة بشيء؟ قال: نعم.. بوقوفي بين يدي الله عز وجل، ومنصرفي إلى إحدى الدارين. قيل: فهل تجد شيئًا مما نجد من أمور الدنيا؟ فقال: لأن تختلف الأسِنَّة فيَّ أحبُّ إليَّ من أن أجد في صلاتي ما تجدون!
كان سعيد التنوخي إذا صلى لم تنقطع الدموع من خديه على لحيته.
قيل لخلف بن أيوب: ألا يؤذيك الذباب في صلاتك فتطردها؟ قال: لا أُعَوِّد نفسي شيئًا يُفسد عليّ صلاتي. قيل له: وكيف تصبر على ذلك؟ قال: بلغني أن الفساق يصبرون تحت أسواط السلطان؛ ليقال: فلان صبور، ويفتخرون بذلك! فأنا قائم بين يدي ربي، أفأتحرك لذبابة؟
ويروى عن مسلم بن يسار أنه كان يصلي يومًا في جامع البصرة، فسقطت ناحية من المسجد، فاجتمع الناس لذلك، ولم يشعر به حتى انصرف من الصلاة.
وقال بعضهم: الصلاة من الآخرة فإذا دخلتُ فيها خرجتُ من الدنيا.
وهذا عمار بن ثابت بن الزبير قد رفع يديه بعد صلاة الفجر، وقال: يا ربِّ.. أسألك الميتة الحسنة. فقال أبناؤه: ما هي الميتة الحسنة؟ قال: أن يتوفاني ربي وأنا ساجد. وقد صدق الله فصدقه؛ فقبضت روحه وهو في السجدة الأخيرة في صلاة المغرب.
وكان "إبراهيم بن ميمون المروزي" أحد الدعاة الثقات من أصحاب "عطاء بن أبي رباح"، وكانت مهنته الصياغة وطَرْق الذهب والفضة. كان فقيهًا فاضلاً من الأمَّارين بالمعروف. قال عنه ابن معين: كان إذا رفع المطرقة فسمع النداء لم يردها.
هذا "صلاح الدين الأيوبي" يُربي جيشه ويحفزه على الصلاة، وخصوصًا قيام الليل وصلاة الفجر، وكلما مرَّ على جماعة من الجند يُصلُّون يقول: مِن هنا يأتي النصر.. وكلما مرَّ على جماعة من الجند نائمين يقول: مِن هنا تأتي الهزيمة.(1/225)
يعد جامع "يزيد" من أكبر وأفخم وأجمل الجوامع الموجودة في "اسطنبول"، والساحة القريبة. أخذت اسمها منه فهي "ساحة بايزيد"، وتقع جامعة اسطنبول بالقرب من هذا الجامع. وباني هذا الجامع هو السلطان "بايزيد الثاني" (1447م - 1512م) ابن السلطان "محمد الفاتح"..
وعندما تم بناء جامع "بايزيد" وتم فرشه، جاء يوم افتتاحه بالصلاة فيه، ولكن من سيقوم بإمامة المصلين في هذه الصلاة؟ أيؤم الناس الإمام المعين لهذا الجامع؟ أم شيخ الإسلام؟ أم أحد العلماء المعروفين؟ لم يكن أحد يعلم ذلك، وكان الجميع في انتظار من يتقدم إلى الإمامة.
وعندما اصطفت الصفوف وقف إمام الجامع وتوجه إلى المصلين قائلاً لهم: ليتقدم للإمامة من لم يضطر طوال حياته لقضاء صلاة فرض، أي: مَن صلى الصلوات في أوقاتها طوال حياته.. دهش الحاضرون مِن هذا الشرط، وبدأ بعضهم يتطلع لبعض، وبعد انتظار دقيقة أو دقيقتين شاهد المصلون السلطان "بايزيد الثاني" وهو يتقدم للإمامة بكل هدوء، ثم يكبر لصلاة الجماعة بكل خشوع.
أجل.. كان السلطان هو الشخص الوحيد من بين الحاضرين الذي لم تفته أبدًا أي صلاة من صلوات الفرض؛. لذا لقبه الشعب بـ "السلطان الولي". [روائع من التاريخ العثماني لأورخان محمد علي / نقلا عن موقع "التاريخ"]
يقول د. خالد الجبير في محاضرة "أمراض القلوب": [أُصيب بطلق ناري عن طريق الخطأ، أخذته أمه وأبوه إلى المستشفى مسرعين.. وصل الإسعاف، وكنتُ بالعمليات، باشره أحد الزملاء، وعندما قرب منه قال له: يا دكتور.. قف؛ فإني متوفى، وإني والله على خير، وإني والله أشم رائحة الجنة.. أريد أمي وأبى لأودعهم! جاءت أمه وأبوه وقبلّهم وودعهم، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.. ثم مات.(1/226)
في صلاة المغرب قابلتُ الأخ "ضياء"، لم يكن يعرف أنني عرفت بالقصة، فحكى لي وزاد عليها، أنا والله مَن فك أصابع يده بعد الشهادتين، وأنا والله مَن مسح العرق مِن على جبينه، وإن فيه لطراوة لم أعهدها في متوفى، وفيه حرارة لم أظنه متوفى، وفيه سماحة في وجهه ونور لم أعهده في أحد!
شاب عمره سبعة عشر عامًا يشم رائحة الجنة وهو مازال في إسعاف المستشفى العسكري؛ سئل أبوه: على أي شيء ابنك هذا؟ قال: ابني هذا منذ بلغ فهو متعهدنا لصلاة الفجر، ومنذ بلغ فهو صاحب قيام ليل، ومنذ بلغ فهو في الصلاة في الروضة، ومنذ بلغ فهو محافظ على تحفيظ القرآن، وهو من الأوائل في الصف الثاني ثانوي علمي.] أ.هـ
قال فضيلة الشيخ/ إبراهيم بوبشيت: دخلنا قرية لا يوجد بها أي معلم من معالم الحضارة.. قرية بسيطة في بنائها وشكلها وهيئتها.. بدأنا نرتفع مع الأرض حيث ارتفعت.. قصدنا مسجد القرية.. وعندما وصلنا إلى المسجد وجدنا عند بابه حجرًا كبيرًا به حبل مربوط! فما قصة هذا الحبل؟!
بدأنا نسير مع هذا الحبل يرتفع بنا حيث ترتفع الأرض، وبدأ الحبل يأخذنا بين أشجار.. سرنا بالسيارة تقريبًا ما يزيد على نحو ست دقائق.. بدأنا نصل إلى نهاية الحبل.. وعندما وصلنا إلى نهاية الحبل؛ وجدنا بيتًا مكونًا من غرفة ودورة مياه، وبالبيت رجل كبير في السن؛ كفيف البصر؛ بلغ من العمر ما يزيد على خمسة وثمانين عامًا! إنه العم عابد..
قلتُ له: يا عم عابد! أخبرنا ما سر هذا الحبل..؟! قال العم عابد: يا ولدي.. هذا الحبل من أجل الصلوات الخمس في المسجد.. فأنا أخرج من بيتي قبل الأذان، وأمسك بهذا الحبل حتى أصل إلى المسجد، وبعد الصلاة وخروج الناس أخرج آخر رجل من المسجد، ثم أمسك بالحبل مرة أخرى حتى أعود إلى بيتي ليس لي قائد يقودني..
يقول أهل المنطقة: لقد عُرف هذا الرجل كفيف البصر منذ زمن بعيد، ولقد غُيِّر هذا الحبل أكثر من مرة.. [قصص متميزة (بتصرف)](1/227)
قال فضيلة الشيخ/ إبراهيم بوبشيت: التقيت ببعض الإخوة من أسبانيا، فقال لي أحدهم: هذا رجل سائق أجرة، ولكنه قدَّم لدين الله.. فماذا قدَّم يا ترى؟! إنه يُركب الركاب ويحرص على المسافات الطويلة.. وأثناء الطريق يشغل الوقت بالكلام عن الإسلام بشريط أو غيره، ويحرص على غير المسلمين أكثر.. فإذا جاء وقت الصلاة وقف وأخبر مَن معه من الركاب أنَّ هذا وقت صلاة.. ثم يقول كلمة رائعة؛ يقول: هذا موعد مع الله.. [قصص متميزة (بتصرف)]
رابعا: الإخلاص
فاعبد الله مخلصا له الدين:
قال تعالى: { فَاعْبُدِ اللَّهَ $Tءد=ّƒèC لَهُ الدِّينَ } [الزمر: 2]
[أخلِص للّه تعالى جميع دينك، من الشرائع الظاهرة والشرائع الباطنة: الإسلام والإيمان والإحسان، بأن تفرد اللّه وحده بها، وتقصد به وجهه، لا غير ذلك من المقاصد.
(ألا للَّهِ الدينُ الخالصُ) هذا تقرير للأمر بالإخلاص، وبيان أنه تعالى كما أن له الكمال كله، وله التفضل على عباده من جميع الوجوه، فكذلك له الدين الخالص الصافي من جميع الشوائب، فهو الدين الذي ارتضاه لنفسه، وارتضاه لصفوة خلقه وأمرهم به، لأنه متضمن للتأله للّه في حبه وخوفه ورجائه، وللإنابة إليه في عبوديته، والإنابة إليه في تحصيل مطالب عباده.
وذلك الذي يصلح القلوب ويزكيها ويطهرها، دون الشرك به في شيء من العبادة. فإن اللّه بريء منه، وليس للّه فيه شيء، فهو أغنى الشركاء عن الشرك، وهو مفسد للقلوب والأرواح والدنيا والآخرة، مُشْقٍ للنفوس غاية الشقاء، فلذلك لما أمر بالتوحيد والإخلاص، نهى عن الشرك به، وأخبر بذم من أشرك به فقال: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) أي: يتولونهم بعبادتهم ودعائهم، معتذرين عن أنفسهم وقائلين: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) أي: لترفع حوائجنا للّه، وتشفع لنا عنده، وإلا فنحن نعلم أنها، لا تخلق، ولا ترزق، ولا تملك من الأمر شيئًا..!(1/228)
أي: فهؤلاء، قد تركوا ما أمر اللّه به من الإخلاص، وتجرأوا على أعظم المحرمات، وهو الشرك، وقاسوا الذي ليس كمثله شيء؛ الملك العظيم، بالملوك، وزعموا بعقولهم الفاسدة ورأيهم السقيم أن الملوك؛ كما أنه لا يوصل إليهم إلا بوجهاء، وشفعاء ووزراء؛ يرفعون إليهم حوائج رعاياهم، ويستعطفونهم عليهم، ويمهدون لهم الأمر في ذلك، أن اللّه تعالى كذلك!!
وهذا القياس من أفسد الأقيسة، وهو يتضمن التسوية بين الخالق والمخلوق، مع ثبوت الفرق العظيم، عقلاً ونقلاً وفطرة؛ فإن الملوك إنما احتاجوا للوساطة بينهم وبين رعاياهم، لأنهم لا يعلمون أحوالهم. فيحتاج مَن يُعلِمهم بأحوالهم، وربما لا يكون في قلوبهم رحمة لصاحب الحاجة، فيحتاج مَن يعطفهم عليه ويسترحمهم له، ويحتاجون إلى الشفعاء والوزراء، ويخافون منهم، فيقضون حوائج من توسطوا لهم، مراعاة لهم، ومداراة لخواطرهم، وهم أيضا فقراء، قد يمنعون لما يخشون من الفقر.
وأما الرب تعالى، فهو الذي أحاط علمه بظواهر الأمور وبواطنها، الذي لا يحتاج مَن يخبره بأحوال رعيته وعباده، وهو تعالى أرحم الراحمين، وأجود الأجودين، لا يحتاج إلى أحد من خلقه يجعله راحمًا لعباده، بل هو أرحم بهم مِن أنفسهم ووالديهم، وهو الذي يحثهم ويدعوهم إلى الأسباب التي ينالون بها رحمته، وهو يريد مِن مصالحهم ما لا يريدونه لأنفسهم، وهو الغني؛ الذي له الغنى التام المطلق، الذي لو اجتمع الخلق مِن أولهم وآخرهم في صعيد واحد فسألوه، فأعطى كلاًّ منهم ما سأل وتمنى؛ لم ينقصوا مِن غناه شيئًا، ولم ينقصوا مما عنده إلا كما ينقص البحر إذا غمس فيه المخيط. وجميع الشفعاء يخافونه، فلا يشفع منهم أحد إلا بإذنه، وله الشفاعة كلها.(1/229)
فبهذه الفروق يُعلَم جهل المشركين به، وسفههم العظيم، وشدة جراءتهم عليه. ويُعلَم أيضًا الحكمة في كون الشرك لا يغفره اللّه تعالى؛ لأنه يتضمن القدح في اللّه تعالى، ولهذا قال حاكما بين الفريقين المخلصين والمشركين، وفي ضمنه التهديد للمشركين-: (إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)
وقد عُلِم أنّ حكمه أنّ المؤمنين المخلصين في جنات النعيم، ومَن يشرك باللّه فقد حرم اللّه عليه الجنة، ومأواه النار.] [تيسير الكريم الرحمن]
وقال تعالى: { قُلْ إِنَّ 'دAںx|¹ وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ †دA$yJtBur لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ y7د9¨xخ/ur أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } [الأنعام:162-163]
[قل: إن صلاتي، ونسكي أي عبادتي. (والنسك: العبادة، أو الذبح، أو الحج). ومحياي ومماتي، وما أتيته فى حياتي، وأموت عليه من الإيمان والعمل الصالح لله رب العالمين خالصة لوجهه؛ لا شريك له فى شيء من ذلك. وبذلك الإخلاص أمرتُ، وأنا أول المسلمين؛ لأن إسلام كل نبى متقدم على إسلام أمته.] [النسفي]
[(قل إن صلاتي ونسكي) أي: ذبحي، وذلك لشرف هاتين العبادتين وفضلهما، ودلالتهما على محبة الله تعالى، وإخلاص الدين له، والتقرب إليه بالقلب واللسان، والجوارح، وبالذبح الذي هو بذل ما تحبه النفس من المال، لما هو أحب إليها؛ وهو الله تعالى. ومَن أخلص في صلاته ونسكه، استلزم ذلك إخلاصه لله في سائر أعماله وأقواله.
(ومحياي ومماتي) أي: ما آتيه في حياتي، وما يجريه الله عليّ، وما يُقدَّر عليّ في مماتي.. الجميع (لله رب العالمين). (لا شريك له) في العبادة، كما أنه ليس له شريك في الملك والتدبير. ليس هذا الإخلاص لله ابتداعًا مِني، وبدعًا أتيته من تلقاء نفسي. بل (وبذلك أمرت) أمرًا حتمًا؛ لا أخرج من التبعة إلا بامتثاله (وأنا أول المسلمين) من هذه الأمة.] [تيسير الكريم الرحمن](1/230)
[والإخلاص هو "إكسير" الأعمال، الذي إذا وضع على أي عمل ولو كان من المباحات والعادات حوله إلى عبادة وقربة لله تعالى، وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لسعد: "إنك ما تنفق نفقة تبغي بها وجه الله تعالى إلا أثبت عليها، حتى اللقمة
تضعها في فِي (أي فم) امرأتك".
وقال تعالى في شأن الذين يجاهدون في سبيله: { y7د9¨sŒ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ ىxد="|¹ إِن اللَّهَ لَا يُضِيعُ uچô_r& الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ قOكgtƒح"ôfuد9 اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [التوبة: 120]
فجعل جوعهم وعطشهم ومشيهم ونفقتهم مما يسجل لهم في رصيد حسناتهم عند الله عز وجل، مادام ذلك في سبيل الله، ولن تكون هذه الأشياء في سبيل الله إلا إذا أداها المسلم لتكون كلمة الله هي العليا.
وأكثر من ذلك ما جاء في مثوبة من ارتبط فرسًا ليجاهد عليها في سبيل الله. ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنِ احتبسَ فرسًا في سبيلِ اللهِ إيمانًا باللهِ، وتصديقًا بوعدِهِ، فإنَّ شَبعَهُ وريَّهُ، ورَوْثَهُ وبولَهُ في ميزانِهِ يومَ القيامةِ" يعني: حسنات!
وذلك أن الوسائل والآلات بحسب المقاصد والغايات، فكل ما يعين على الجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته، ونصرة دعوته، من عدة وآلة وتدريب وكسب خبرة ومهارة، فهو قربة إلى الله، فبها الأجر والثواب.] [النية والإخلاص للقرضاوي]
فـ[البواعث التي تسوق المرء إلى العمل، وتدفعه إلى إجادته، وتغريه بتحمل التعب فيه أو بذل الكثير من أجله، كثيرة متباينة.(1/231)
منها القريب الذي يكاد يُرَى مع العمل، ومنها الغامض الذي يختفي في أعماق النفس، وربما لا يدركه العامل المتأثر به ؛ مع أنه سر اندفاعه في الحقيقة إلى فِعْل ما فَعَل، أو تَرْك ما تَرَك!
والغرائز البشرية المعروفة هي قواعد السلوك العام، ومن اليسير أن ترى في حركات رجل أمامك حبه لنفسه، أو طلبه للسلامة، أو حرصه على المال، أو ميله
للفجور، أو تطلعه للظهور..
والإسلام يرقب بعناية فائقة ما يقارن أعمال الناس من نيات، وما يلابسها من عواطف وانفعالات. وقيمة العمل عنده ترجع -قبل كل شيء- إلى طبيعة البواعث التي تمخضت عنه.
فقد يعطي الإنسان هبة جزيلة لأنه يريد بصنائع المعروف أنْ يستميل إليه القلوب، وقد يعطيها لأنه يريد أنْ يَجزي خيرًا مَن سبق فأسدى إليه خيرًا.. وكلا المسلكين كرم دفع إليه شعور المرء بنفسه سلبًا أو إيجابًا -كما يُعبِّر علماء النفس- ولكن الإسلام لا يعتد بالصدقة إلا إذا خلصت من شوائب النفس، وتمخضت لله وحده على ما وصف القرآن الكريم: { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا ك‰ƒحچçR مِنْكُمْ [ن!#u"y_ وَلَا شُكُورًا } [الإنسان: 9]] [خلق المسلم للغزالي]
[(ويطعمون الطعام على حبه) أي حب الطعام؛ مع الاشتهاء والحاجة إليه. أو على حب الله؛ مسكينًا فقيرًا عاجزًا عن الاكتساب، ويتيمًا صغيرًا لا أب له، وأسيرًا مأسورًا مملوكًا أو غيره. ثم عللوا إطعامهم فقالوا: إنما نطعمكم لوجه الله؛ أي لطلب ثوابه. أو هو بيان من الله عز وجل عما في ضمائرهم؛ لأن الله تعالى علمه منهم فأثنى عليهم وإن لم يقولوا شيئًا.
(لا نريد منكم جزاء..) هدية على ذلك، (ولا شكورًا..) ثناء.. (إنا نخاف من ربنا..) إنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله على طلب المكافأة بالصدقة. أو إنا نخاف من ربنا فنتصدق لوجهه حتى نأمن من ذلك الخوف يومًا عبوسًا فمطريرًا.] [تفسير النسفي](1/232)
[(إنما نطعمكم لوجه الله) على إرادة القول بلسان الحال أو المقال؛ إزاحة لتوهم المن، وتوقع المكافأة المنقِصة للأجر. وعن عائشة ل: أنها كانت تبعث بالصدقة إلى أهل بيت، ثم تسأل المبعوث ما قالوا؟ فإن ذكر دعاء دعت لهم بمثله؛
ليبقى ثواب الصدقة لها خالصًا عند الله.
(لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) أي شكرًا . (إنا نخاف من ربنا) فلذلك نحسن إليكم. أو لا نطلب المكافأة منكم. (يومًا) عذاب يوم. (عبوسًا) تعبس فيه الوجوه. أو يشبه الأسد العبوس في ضراوته. (قمطريرا) شديد العبوس، كالذي يجمع ما بين عينيه.] [تفسير البيضاوي]
وقال تعالى: { الَّذِي 'دA÷sمƒ مَالَهُ 4'ھ1u"yItƒ (18) وَمَا >‰tn{ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ #"u"ّgéB (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى } [الليل: 18-21]
[كان بعض أهل العربية يوجه تأويل ذلك إلى: وما لأحد من خلق الله عند هذا الذي يؤتي ماله في سبيل الله يتزكى (من نعمة تجزى) يعني: مِن يد يكافئه عليها. يقول: ليس ينفق ما ينفق من ذلك، ويعطي ما يعطي لمجازاة إنسان؛ يجازيه على يد له عنده، ولا مكافأة له على نعمة سلفت منه إليه أنعمها عليه، ولكن يؤتيه في حقوق الله ابتغاء وجه الله. ولم يرد بما أنفق مكافأة مِن أحد. فكأنك قلت: وما له عند أحد فيما أنفق من نعمة يلتمس ثوابها.
عن قتادة: (وما لأحد عنده من نعمة تجزى. إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى. ولسوف يرضى) يقول: ليس به مثابة الناس، ولا مجازاتهم، إنما عطيته لله.
عن عامر بن عبد الله عن أبيه قال: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق: (وما لأحد عنده من نعمة تجزى. إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى. ولسوف يرضى)
وعن قتادة في قوله: (وما لأحد عنده من نعمة تجزى) قال: نزلت في أبي بكر أعتق ناسًا لم يلتمس منهم جزاءً ولا شكورًا؛ ستة أو سبعة؛ منهم: بلال، وعامر بن فهيرة.(1/233)
وقوله: (ولسوف يرضى) يقول: ولسوف يرضى هذا المؤتي ماله في حقوق الله عز وجل يتزكى؛ بما يثيبه الله في الآخرة عوضًا عما أتى في الدنيا في سبيله إذا لقي
ربه تبارك وتعالى.] [تفسير الطبري]
[(وما لأحد عنده من نعمة تجزى) أي: ليس لأحد من الخلق على هذا الأتقى نعمة تجزى، إلا وقد كافأه عليها، وربما بقي له الفضل والمنة على الناس، فتمحض عبدًا لله، لأنه رقيق إحسانه وحده. وأما من بقيت عليه نعمة الناس، فلم يجزها ويكافئها، فإنه لا بد أن يترك للناس، ويفعل لهم ما يُنقص إخلاصه! وهذه الآية وإن كانت متناولة لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، بل قد قيل: إنها نزلت بسببه؛ فإنه - رضي الله عنه - ما لأحد عنده من نعمة تجزى، حتى ولا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إلا نعمة الرسول التي لا يمكن جزاؤها، وهي نعمة الدعوة إلى الإسلام، وتعليم الهدى ودين الحق، فإن لله ورسوله المنة على كل أحد. منة لا يمكن لها جزاء ولا مقابلة، فإنها متناولة لكل من اتصف بهذا الوصف الفاضل. فلم يبق لأحد عليه من الخلق نعمة تجزى، فبقيت أعماله خالصة لوجه الله تعالى. ولهذا قال: (إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى) هذا الأتقى بما يعطيه الله من أنواع الكرامات والمثوبات.][تيسير الكريم الرحمن]
فالعمل الخالص هو الذي لا باعث عليه إلا طلب القرب من الله تعالى.
قال الفضيل في قوله تعالى: { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } [الملك: 2] قال: أخلصه وأصوبه. وقال: إن العمل إذا كان خالصًا، ولم يكن صوابًا لم يُقبَل، وإذا كان صوابًا، ولم يكن خالصًا لم يُقبَل؛ حتى يكون خالصًا وصوابًا. قال: والخالص إذا كان لله عز وجل، والصواب إذا كان على السُّنَّة.
يا ربِّ أنت العليمُ بظاهري وبباطني
أنتَ السميعُ لمَنطقي وحروفِهِ
إنْ لم أكنْ أهلاً لتوفيقٍ، فمُنّْ
يا ربِّ أنتَ المُرتَجَى والمُبتَغَىڑڑبالسِّرِّ.. بل أخفى وبالإعلانِ
أنتَ الخبيرُ بموقفي ومكاني(1/234)
فلأنتَ أهلُ المَنِّ والإحسانِ
وأنا الفقيرُ بِذِلَّتي وهَواني
- - -
يا مالك الأملاك أنت المقصد:
عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنما الأعمالُ بالنياتِ، وإنما لكلِّ امرئٍ ما نَوَى. فمَن كانتْ هجرتُهُ إلى اللهِ ورسولِه؛ِ فهجرتُهُ إلى اللهِ ورسولِهِ. ومَن كانتْ هجرتُهُ إلى دنيا يُصيبُها، أو امرأةٍ يَنكحُها؛ فهجرتُهُ إلى ما هاجرَ إليهِ". [رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي]
[قال الإمام أحمد: أحب لكل عمل مِن صلاة، أو صيام، أو صدقة، أو نوع من أنواع البر.. أن تكون النية متقدمة في ذلك قبل الفعل. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الأعمالُ بالنياتِ.."؛ فهذا يأتي على كل أمر من الأمور.
وقال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله (يعني أحمد بن حنبل) عن النية في العمل، قلتُ: كيف النية؟ قال: يعالج نفسه إذا أراد عملاً؛ لا يريد به الناس.
وقيل: تقدير الكلام: الأعمال واقعة أو حاصلة بالنيات؛ فيكون إخبارًا عن الأعمال الاختيارية أنها لاتقع إلا عن قصد من العامل؛ هو سبب عملها ووجودها. ويكون قوله بعد ذلك: "وإنما لكلِّ امرئٍ ما نوى.." إخبارًا عن حكم الشرع؛ وهو أنَّ حظ العامل مِن عمله نيته. فإنْ كانت صالحة؛ فعمله صالح؛ فله أجره. وإنْ كانت فاسدة؛ فعمله فاسد؛ فعليه وِزره.
ويحتمل أن يكون التقدير في قوله: "الأعمال بالنيات.." صالحة، أو فاسدة، أو مقبولة، أو مردودة، أو مثاب عليها، أو غير مثاب عليها؛ بالنيات. فيكون خبرًا عن الحكم الشرعي؛ وهو أنّ صلاحها وفسادها بحسب صلاح النية وفسادها، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمالُ بالخواتيمِ" أي: إنّ صلاحها وفسادها وقبولها وعدمها بحسب الخاتمة.
وقوله بعد ذلك: "وإنما لكلِّ امرئٍ مانوى.." إخبار أنه لا يحصل له مِن عمله(1/235)
إلا ما نواه به. فإن نوى خيرًا حصل له خير. وإن نوى به شرًّا حصل له شر. وليس هذا تكريرًا محضًا للجملة الأولي؛ فإن الجملة الأولى دلت على أنَّ صلاح العمل وفساده بحسب النية المقتضية لإيجاده. والجملة الثانية دلت على أنَّ ثواب العامل على عمله بحسب نيته الصالحة، وأنَّ عقابه عليه بحسب نيته الفاسدة. وقد تكون نيته مباحة فيكون العمل مباحًا؛ فلا يحصل له ثواب ولا عقاب.
فالعمل في نفسه؛ صلاحه، وفساده، وإباحته بحسب النية الحاملة عليه، المقتضية لوجوده. وثواب العامل وعقابه وسلامته بحسب النية التي صار بها العمل صالحًا أو فاسدًا أو مباحًا.
وفي صحيح مسلم عن أم سلمة ل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يعوذُ عائذٌ بالبيتِ، فيُبعَثُ إليهِ بعثٌ، فإذا كانوا ببيداءَ مِنَ الأرضِ خُسِفَ بِهِم". فقلتُ: يارسول الله.. فكيف بمن كان كارهًا؟ قال: "يُخسَفُ بهِ معهم، ولكنه يُبعَثُ يومَ القيامةِ على نيتِهِ". وفي مسلم أيضًا عن عائشة ل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - معنى هذا الحديث، وقال فيه: "يَهلِكونَ مَهلكًا واحدًا، ويصدرون مصادرَ شتى، ويَبعثُهم اللهُ على نياتِهِم".] [جامع العلوم والحكم (ملخصًا)]
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: رجعنا من غزوة تبوك مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنَّ أقوامًا خلفَنا بالمدينةِ، ما سلكنا شِعبًا ولا واديًا إلا وهم معنا؛ حَبسهُمُ العذرُ". [رواه البخاري، وأبو داود، ولفظه]: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لقد تركتُم بالمدينةِ أقوامًا ما سِرتُم مَسيرًا، ولا أنفقتُم مِن نفقةٍ، ولا قطعتُم مِن وادٍ إلا وهم معكم". قالوا: يا رسول الله.. وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: "حَبَسَهُمُ المرضُ". [صحيح الترغيب والترهيب](1/236)
وعن أبي كبشة الأنماري - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ثلاثٌ أُقسِمُ عليهِنَّ، وأُحدِّثُكُم حديثًا فاحفظوه". قال: "ما نقصَ مالُ عبدٍ مِن صدقةٍ، ولا ظُلِمَ عبدٌ مَظلمةً صبرَ عليها إلا زادَهُ اللهُ عِزًّا، ولا فتحَ عبدٌ بابَ مسألةٍ إلا فتحَ اللهُ عليهِ بابَ فقرٍ (أو كلمة نحوها). وأُحدِّثُكُم حديثا فاحفظوه: إنما الدنيا لأربعةِ نفرٍ: عبدٍ رزقَه اللهُ مالاً وعلمًا، فهو يتقي فيهِ رَبَّهُ، ويَصِلُ فيهِ رَحِمَهُ، ويعلمُ للهِ فيهِ حقًّا؛ فهذا بأفضلِ المنازلِ. وعبدٍ رزقَه اللهُ علمًا، ولم يرزقْهُ مالاً؛ فهوَ صادقُ النيةِ يقولُ: لو أنَّ لي مالاً لعملتُ بعملِ فلانٍ؛ فهو بنيتِهِ؛ فأجرُهُما سواءٌ. وعبدٍ رزقَه اللهُ مالاً، ولم يرزقْهُ علمًا يَخبِطُ في مالِهِ بغيرِ علمٍ، ولا يتقي فيهِ رَبَّهُ، ولا يَصِلُ فيهِ رَحِمَهُ، ولا يعلمُ للهِ فيهِ حقًّا؛ فهذا بأخبثِ المنازلِ. وعبدٍ لم يرزقْهُ اللهُ مالاً، ولا علمًا؛ فهو يقولُ: لو أنَّ لي مالاً لعملتُ فيهِ بعملِ فلانٍ؛ فهو بنيتِهِ؛ فوِزرُهُما سواءٌ". [رواه أحمد، والترمذي، واللفظ له. وقال الألباني: صحيح لغيره.]
وعن أبي الدرداء يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن أتى فِراشَهُ وهو ينوي أنْ يقومَ يُصلِّي مِنَ الليلِ، فغلبتْهُ عيناهُ حتى أصبحَ؛ كُتِبَ لهُ ما نَوَى، وكانَ نومُهُ صدقةً عليهِ مِن رَبِّهِ". [رواه النسائي وابن ماجه، وقال الألباني: حسن صحيح]
[فإذن عماد الأعمال بالنيات، فالعمل مفتقر إلى النية ليصير بها خيرًا، والنية في نفسها خير وإن تعذر العمل بعائق.
قال الثوري: كانوا يتعلمون النية للعمل كما تتعلمون العمل.
وقال بعض العلماء: اطلب النية للعمل قبل العمل، وما دمت تنوي الخير فأنت بخير.(1/237)
وكان بعض المريدين يطوف على العلماء يقول: مَن يدلني على عمل لا أزال فيه عاملا لله تعالى؛ فإني لا أحب أن يأتي عليّ ساعة من ليل أو نهار إلا وأنا عامل من عمال الله؟ فقيل له: قد وجدت حاجتك.. اعمل الخير ما استطعت، فإذا فترتَ أو تركتَه؛ فهِمّ بعمله؛ فإنَّ الهامَّ بعمل الخير كعامله.
وكتب سالم بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز: اعلم أن عون الله تعالى للعبد على قدر النية، فمَن تمت نيته تم عون الله له، وإن نقصت نقص بقدره.] [الإحياء]
وقال يحيى بن أبي كثير: تعلموا النية، فإنها أبلغ من العمل.
وقال سفيان الثوري: ما عالجت شيئًا أشد عليّ مِن نيتي، لأنها تتقلب عليّ!
وقال داود الطائي: رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية، وكفاك به وإن لم تنصب.
وقال مُطَرِّف بن عبد الله: صلاح العمل بصلاح القلب، وصلاح القلب بصلاح النية، ومَن صفا صُفِّي له، ومَن خلَّط خُلِّط عليه.
وقال يوسف بن أسباط: تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد. وقال: إيثار الله عز وجل أفضل من القتل في سبيله.
وقال عبد الله بن المبارك: رُبَّ عمل صغير تعظمه النية، ورُبَّ عمل كبير تصغره النية.. [فالكيِّس يقطع من المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة، وتجريد القصد وصحة النية، مع العمل القليل؛ أضعاف.. أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك، مع التعب الكثير والسفر الشاق.. فإن العزيمة والمحبة تُذهِب المشقة، وتطيب السير، والتقدم والسبق إلى الله سبحانه إنما هو بالهمم وصدق الرغبة والعزيمة، فيتقدم صاحب الهمة مع سكونه؛ صاحب العمل الكثير بمراحل.] [الفوائد لابن القيم]
وقال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: يا قوم! أريدوا الله بعملكم؛ فإني لم أجلس مجلسًا قط أنوي فيه أن أتواضع إلا لم أقم حتى أعلوهم، ولم أجلس مجلسًا قط أنوي فيه أن أعلوهم إلا لم أقم حتى أفتضح!(1/238)
ذكر ابن أبي الدنيا عن معقل بن عبيد الله الجزري قال: كانت العلماء إذا التقوا تواصوا بهذه الكلمات، وإذا غابوا كتب بها بعضهم إلى بعض أنه: مَن أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومَن أصلح ما بينه وبين الله كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومَن اهتم بأمر آخرته كفاه الله أمر دنياه.
فأساسُ أعمالِ الورى نِيَّاتُهم وعلى الأساسِ قواعدُ البُنيانِ
فـ[النية روح العمل، والعمل بغير نية صادقة رياء وتكلف، وهو سبب مقت لا سبب قرب. والنية ليست هي قول القائل بلسانه: نويت..! بل هو انبعاث القلب؛ يجري مجرى الفتوح من الله تعالى. وقد تتيسر في بعض الأوقات، وقد تتعذر في بعضها. فمَن كان الغالب على قلبه أمر الدين تيسر عليه في أكثر الأحوال إحضار النية للخيرات؛ فإنّ قلبه مائل بالجملة إلى أصل الخير؛ فينبعث إلى التفاصيل غالبًا. ومَن مال قلبه إلى الدنيا، وغلبت عليه لم يتيسر له ذلك، بل لا يتيسر له في الفرائض إلا بجهد جهيد، وغايته أن يتذكر النار، ويُحذِّر نفسه عقابها، أو نعيم الجنة، ويُرغِّب نفسه فيها؛ فربما تنبعث له داعية ضعيفة؛ فيكون ثوابه بقدر رغبته ونيته.
وأما الطاعة على نية إجلال الله تعالى لاستحقاقه الطاعة والعبودية فلا تتيسر للراغب في الدنيا، وهذه أعز النيات وأعلاها، ويَعِز على بسيط الأرض مَن يفهمها؛ فضلا عمَن يتعاطاها.] [الإحياء]
يقول الإمام عبد الله بن أبي جمرة: وددت أنه كان مِن الفقهاء مَن ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم؛ فما أُتي كثير ممَن أُتي إلا مِن قِبَل تضييع ذلك.
[فإن مبنى بداية أي عمل على التجرد، فإذا حُرِم العبد من صفائه في البداية فإنَّ عمله يظل مهتزًّا مهما شمخ عاليًا.. و(مَن لم يصح في مبادئ إرادته؛ لا يسلم في منتهى عاقبته).. وصفاء الابتداء له معنيان يتتابعان في توالٍ؛ فيتلازمان: النية الصالحة، والهمة العالية، سمَّاهما "البحتري": نفْسٌ تضيءُ، وهمَّةٌ تتوقَّدُ(1/239)
والنفس المضيئة كناية عن النفس التي احتوت نية صافية؛ فهي تنير بما يكون لها من هذا الصفاء.. وهي (النية الحرة) التي ذكرها "البحتري" فأحسن الوصف وأجاد.. فكأنها حرة مما يقيد غيرها من الأهواء والأطماع والمصالح، لم يستعبدها درهم ولا دينار، ولم تكن رقيقًا لمنصب أو شهوة.
فالمخلص لا يصدر قط عن شهوة، ولا طلب مصلحة، وإنما له في كل حركة وسكنة تطلعات إلى رضوان الله.
وبهذا الوصف وصف "هشام بن عبد الملك" ابن عمه "عمر بن عبد العزيز" فقال: (ما أحسب عمر خطا خطوة قط إلا وله فيها نية).. ولذلك استطاع "عمر" في أقل من سنتين تقويم اعوجاج جيلين!!
ويتعاظم الخير في عقود المؤمنين مع الله كلما زاد تجردهم حين العقد، ولذلك رأت الدنيا عظم الخير في ولاية "عمر بن عبد العزيز" لما تجرد "سليمان بن عبد الملك" محض التجرد حين عقد له واستخلفه، وقال: (لأعقدنَّ عقدًا لا يكون للشيطان فيه نصيب).. وأما المُخَلِّط في نيته فيُخَلَّط عليه في أموره وسيرته..] [الرقائق]
يا مالكَ الأملاكِ أنتَ المَقصدُ يا مَن له كلُّ البرايا تَصمُدُ
أبوابُ كلِّ مُملكٍ قد أُوصِدَتْ ورأيتُ بابَكَ واسعًا لا يُوصَدُ
- - -
يا نفسُ.. أخلِصي تتخلصي:
قال تعالى: { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا x8yٹ$t6دم مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا îق¨uژإہ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ ِNخkِژn=tم سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } [الحجر: 39-42](1/240)
[يقول تعالى ذِكره: قال إبليس: ربّ بما أغويتَني بإغوائك لأُزَينَنّ لهم في الأرض. وكأن قوله: (بما أغويتَني) خرج مخرج القسم، كما يقال: بالله، أو: بعزّة الله لأغوينهم! وعنى بقوله: (لأُزينَنّ لهمْ في الأرض): لأحسننّ لهم معاصيك، ولأحببنها إليهم في الأرض! (ولأُغْويَنّهم أجمعين) يقول: ولأضلّنهم عن سبيل الرشاد؛ (إلا عبادك منهم المخلَصِين) يقول: إلا مَن أخلصتَه بتوفيقك فهديته؛ فإنّ ذلك ممن لا سلطان لي عليه، ولا طاقة لي به.] [تفسير الطبري]
فالله تعالى [يستخلص لنفسه مِن عباده مَن يُخلص نفسه لله، ويجردها له وحده، ويعبده كأنه يراه. وهؤلاء ليس للشيطان عليهم من سلطان.
هذا الشرط الذي قرره إبليس -اللعين-؛ قرره وهو يدرك أن لا سبيل إلى سواه، لأنه سنة الله.. أن يستخلص لنفسه مَن يخلص له نفسه، وأن يحميه ويرعاه. ومن ثم كان الجواب: ( هذا صراط علي مستقيم . إن عبادي ليس لك عليهم سلطان. إلا من اتبعك من الغاوين)..
هذا صراط.. هذا ناموس.. هذه سُنَّة.. وهي السنة التي ارتضتها الإرادة قانونًا وحكمًا في الهدى والضلال: إن عبادي المخلصين لي ليس لك عليهم سلطان، ولا لك فيهم تأثير، ولا تملك أن تزين لهم لأنك عنهم محصور، ولأنهم منك في حمى، ولأن مداخلك إلى نفوسهم مغلقة، وهم يعلقون أبصارهم بالله، ويدركون ناموسه بفطرتهم الواصلة إلى الله. إنما سلطانك على من اتبعك من الغاوين الضالين. فهو استثناء مقطوع لأن الغاوين ليسوا جزءًا من عباد الله المخلصين. إن الشيطان لا يتلقف إلا الشاردين كما يتلقف الذئب الشاردة من القطيع. فأما مَن يخلصون أنفسهم لله، فالله لا يتركهم للضياع. ورحمة الله أوسع ولو تخلفوا فإنهم يثوبون من قريب! ] [الظلال]
وتتجلى هذه الحقيقة في كثير من القصص القرآني، والسيرة النبوية، وأخبار السلف(1/241)
ولنتدبر قوله تعالى عن يوسف الصدِّيق - عليه السلام -: { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ y7د9¨xں2 لِنَصْرِفَ عَنْهُ uنûq ،9$# وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } [يوسف: 24]
فقد [صرف الله عنه السوء والفحشاء؛ لأنه من عباده المخلَصين له في عباداتهم، الذين أخلصهم الله واختارهم، واختصهم لنفسه، وأسدى عليهم من النعم، وصرف عنهم المكاره، ما كانوا به من خيار خلقه.] [تيسير الكريم الرحمن]
وذكر الألوسي في "روح المعاني": [إنه من عبادنا المخلَصين: تعليل لما سبق من مضمون الجملة بطريق التحقيق. والمخلَصون هم الذين أخلصهم الله تعالى، واختارهم لطاعته بأن عصمهم عما هو قادح فيها. والظاهر أن المراد الحكم عليه بأنه مختار لطاعته سبحانه. ويحتمل على ما قيل: أن يكون المراد أنه من ذرية إبراهيم عليه السلام الذين قال فيهم جل وعلا: { إِنَّا Nكg"sYَءn=÷zr& بِخَالِصَةٍ } [ص: 46]]
و[قوله: (المخلَصين) "فيه قراءتان: قراءة باسم الفاعل. وأخرى باسم المفعول. فوروده باسم الفاعل يدل على كونه آتيًا بالطاعات والقربات مع صفة الإخلاص. ووروده باسم المفعول يدل على أن الله تعالى استخلصه لنفسه، واصطفاه لحضرته. وعلى كلا الوجهين: فإنه من أدل الألفاظ على كونه منزهًا عما أضافوه إليه." [من تفسير الرازي.]
ويؤيد ذلك قوله تعالى: { مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ 'دn1u' أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا كxد=ّےمƒ ڑcqكJد="©à9$# (23) }(1/242)
وأما إقرار إبليس بطهارة يوسف ونزاهته ففي قوله تعالى: { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } [ص: 82-83] فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلَصين، ولا شك أن يوسف من المخلَصين، كما صرح تعالى به في قوله: { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } فظهرت دلالة القرآن من جهات متعددة على براءته مما لا ينبغي.] [أضواء البيان]
فلا يتخلص العبد من الشيطان إلا بالإخلاص، ولذلك كان معروف الكرخي -رحمه الله تعالى- يضرب نفسه، ويقول: يا نفسُ.. أخلصي؛ تتخلصي..
ومن هنا نفهم ما [جاء عن عمر - رضي الله عنه - في رسالته الشهيرة في القضاء: "فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومَن تزين بما ليس فيه شانه الله".
قال ابن القيم في شرح هذه الكلمات في "الإعلام": "هذا شقيق كلام النبوة، وهو جدير بأنْ يخرج مِن مشكاة الْمُحَدَّث الْمُلْهَم، وهاتان الكلمتان مِن كنوز العلم، ومَن أحسن الإنفاق منهما نفع غيره، وانتفع غاية الانتفاع.. فأما الكلمة الأولى فهي منبع الخير وأصله، والثانية أصل الشر وفصله، فإنَّ العبد إذا خلصت نيته لله تعالى وكان قصده وهمه وعمله لوجهه سبحانه كان الله معه، فإنه سبحانه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، ورأس التقوى والإحسان خلوص النية لله في إقامة الحق، والله سبحانه لا غالب له، فمن كان معه فمن ذا الذي يغلبه أو يناله بسوء؟ فإن كان الله مع العبد فمن يخاف؟ وإن لم يكن معه فمن يرجو؟ وبمن يثق؟ ومَن ينصره مِن بعده؟
فإذا قام العبد بالحق على غيره وعلى نفسه أولاً، وكان قيامه بالله ولله لم يقم له شيء، ولو كادته السماوات والأرض والجبال لكفاه الله مؤنتها، وجعل له فرجًا ومخرجًا، وإنما يؤتى العبد مِن تفريطه وتقصيره في هذه الأمور الثلاثة، أو في اثنين منها، أو في واحد..(1/243)
فمَن كان قيامه في باطل لم يُنصَر، وإنْ نُصِر نصرًا عارضًا فلا عاقبة له، وهو مذموم مخذول.
وإنْ قام في حق لكن لم يقم فيه لله، وإنما قام لطلب المحمدة والشكور والجزاء مِن الخلق، أو التوصل إلى غرض دنيوي، كان هو المقصود أولاً، والقيام في الحق وسيلة إليه، فهذا لم تُضمن له النصرة، فإن الله إنما ضمن النصرة لمن جاهد في سبيله، وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، لا لمن كان قيامه لنفسه ولهواه، فإنه ليس مِن المتقين ولا من المحسنين، وإنْ نُصر فبحسب ما معه من الحق، فإن الله لا ينصر إلا الحق. وإذا كانت الدولة لأهل الباطل فبحسب ما معهم من الصبر، والصبر منصور أبدًا، فإن كان صاحبه محقًّا كان منصورًا له العاقبة، وإن كان مبطلاً لم يكن له عاقبة.
وإذا قام العبد في الحق لله ولكن قام بنفسه وقوته، ولم يقم بالله مستعينًا به متوكلاً عليه، مفوضًا إليه، بريئًا من الحول والقوة إلا به، فله مِن الخذلان وضعف النصرة بحسب ما قام به مِن ذلك.
ونكتة المسألة أن تجريد التوحيد في أمر الله لا يقوم له شيء البتة، وصاحبه مؤيد منصور، ولو توالت عليه زمر الأعداء.] [النية والإخلاص للقرضاوي]
و[عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثٌ لا يَغلُّ (1)عليهنَّ قلبُ مسلمٍ: إخلاصُ العملِ للهِ، ومناصحةُ ولاةِ الأمورِ، ولزومُ جماعةِ المسلمين، فإنَّ دعوتَهم تُحيطُ مِن ورائهم".[رواه الترمذي والشافعي وغيرهما]
__________
(1) ويُروى (يَغِلُّ) بفتح الياء من الغِلّ، وهو الحقد والشحناء: أي لا يدخله حقد يزيله عن الحق. ورُوي (يَغِلُ) بالتخفيف من (الوغول) أي الدخول في الشر. والمعنى أن هذه الخلال الثلاث تُستَصلَح بها القلوب، فمَن تمسك بها طَهُر قلبه من الخيانة. [النهاية في غريب الأثر](1/244)
قال الشيخ شمس الدين ابن القيم: أي لا يبقى في القلب غل، ولا يحمل الغل مع هذه الثلاثة، بل تنفي عنه غله، وتنقيه منه، وتخرجه منه، فإن القلب يغل على الشرك أعظم غل. وكذلك يغل على الغش، وعلى خروجه عن جماعة المسلمين بالبدعة والضلال. فهذه الثلاثة تملؤه غلاًّ ودغلاً. ودواء هذا الغل واستخراج أخلاطه بتجريد الإخلاص والنصح، ومتابعة السنة. أ.هـ
أي فمَن أخلص أعماله كلها لله، ونصح في أموره كلها لعباد الله، ولزم الجماعة بالائتلاف، وعدم الاختلاف، وصار قلبه صافيًا نقيًّا، صار لله وليًّا، ومَن كان بخلاف ذلك، امتلأ قلبه من كل آفة وشر، والله أعلم.] [بهجة قلوب الأبرار]
وكلُّ صغير ٍكان للهِ خالصًا يُربَى على ما جاءَ في الصدقاتِ
وكلُّ كبيرٍ لايكونُ لوجهِهِ فمِثْلُ رمادٍ طارَ في الهبواتِ
ولكنه يُرجَى لمَن ماتَ محسنًا ويُخشَى على مَن ماتَ في غَمَراتِ
وما اليومَ يمتازُ التفاضلُ بينَهم ولكنْ غَدًا يمتازُ في الدرجاتِ
إذا رُوِّعَ الخاطي وطارَ فؤادُهُ وأفرخَ رَوْعُ البَرِّ في الغُرُفاتِ
- - -
إليه وإلا لا تُشَد الركائب :
قال تعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ $ZےدZxm |Nuچôـدù اللَّهِ الَّتِي uچsـsù النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ y7د9¨sŒ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ uژnYٍ2r& النَّاسِ لَا tbqكJn=÷ètƒ } [الروم: 30](1/245)
[يأمر تعالى بالإخلاص له في جميع الأحوال، وإقامة دينه فقال: (فأقم وجهك..) أي: انصبه ووجهه للدين؛ الذي هو الإسلام والإيمان والإحسان، بأن تتوجه بقلبك، وقصدك، وبدنك إلى إقامة شرائع الدين الظاهرة، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج ونحوها. وشرائعه الباطنة، كالمحبة، والخوف، والرجاء، والإنابة. والإحسان في الشرائع الظاهرة والباطنة، بأن تعبد الله فيها كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. وخص الله إقامة الوجه؛ لأن إقبال الوجه تبع لإقبال القلب، ويترتب على الأمرين سعي البدن، ولهذا قال: (حنيفًا..) أي: مقبلا على الله في ذلك، معرضًا عما سواه. وهذا الأمر الذي أمرناك به هو (فطرة الله التي فطر الناس عليها..) ووضع في عقولهم حُسنها، واستقباح غيرها.
إن جميع أحكام الشرع الظاهرة والباطنة، قد وضع الله في قلوب الخلق كلهم الميل إليها. فوضع في قلوبهم محبة الحق، وإيثار الحق، وهذا حقيقة الفطرة. ومَن خرج عن هذا الأصل، فلِعارِض عرض لفطرته أفسدها، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ، فأبواهُ يُهوِّدانِهِ أو يُنصِّرانِهِ أو يُمجِّسانِهِ".
(لا تبديل لخلق الله..) أي: لا أحد يبدل خلق الله، فيجعل المخلوق على غير الوضع الذي وضعه الله.
(ذلك) الذي أمرناك به (الدين القيم) أي: الطريق المستقيم الموصِّل إلى الله، وإلى دار كرامته؛ فإنّ مَن أقام وجهه للدين حنيفًا فإنه سالك الصراط المستقيم في
جميع شرائعه وطُرُقه.
(ولكن أكثر الناس لا يعلمون) فلا يتعرفون الدين القيم، وإن عرفوه لم يسلكوه!] [تيسير الكريم الرحمن](1/246)
[والخطاب بـ(أقم وجهك) للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أمره بإقامة وجهه للدين المستقيم، كما قال: (فأقم وجهك للدين القيم) [الروم: 43] وهو دين الإسلام. وإقامة الوجه هو تقويم المقصد، والقوة على الجد في أعمال الدين. وخص الوجه بالذكر لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفه. ودخل في هذا الخطاب أمته باتفاق من أهل التأويل. و(حنيفًا..) معناه معتدلاً مائلاً عن جميع الأديان المحرفة المنسوخة.
وقوله: (فأقم وجهك للدين القيم) قال الزجاج: أي أقم قصدك، واجعل جهتك اتباع الدين القيم، يعني الإسلام.] [الجامع لأحكام القرآن]
وفي حديث جبريل - عليه السلام - لما جاء يعلِّم الصحابة؛ سأل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإسلام، والإيمان، والإحسان؛ قال: "فأخبِرْني عن الإحسان.." قال: "أنْ تعبدَ اللهَ كأنكَ تراهُ، فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنهُ يراكَ.." [رواه مسلم]
وقد فسر النبي - صلى الله عليه وسلم - (الإسلام) بالأقوال والأعمال الظاهرة، وفسر (الإيمان) بالأقوال والأعمال الباطنة، والإحسان هو تحسين الظاهر والباطن، ومجموع ذلك هو الدين.
والإحسان لغة: إجادة العمل وإتقانه وإخلاصه. وفي الشريعة هو ما فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "أنْ تعبدَ اللهَ كأنكَ تراهُ، فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنهُ يراكَ..". [وهو أنْ يعبد المؤمن ربه في الدنيا على وجه الحضور والمراقبة، كأنه يراه بقلبه، وينظر إليه في حال عبادته. وذلك يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم. ويوجب أيضًا النصح في العبادة، وبذل الجهد في تحسينها وإتمامها وإكمالها.
وخطب عروة بن الزبير إلى ابن عمر ابنته وهما في الطواف؛ فلم يجبه. ثم لقيه بعد ذلك فاعتذر إليه، وقال: كنا في الطواف نتخايل الله بين أعيننا. [أخرجه أبو نعيم وغيره](1/247)
قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإن لم تكن تراه فإنه يراك.." قيل: إنه تعليل للأول؛ فإنَّ العبد إذا أُمر بمراقبة الله تعالى في العبادة، واستحضار قربه من عبده حتى كأن العبد يراه؛ فإنه قد يشق ذلك عليه، فيستعين على ذلك بإيمانه بأن الله يراه، ويطلع على سره وعلانيته، وباطنه وظاهره، ولا يخفى عليه شيء من أمره.. فإذا تحقق هذا المقام سهل عليه الانتقال إلى المقام الثاني؛ وهو دوام التحقيق بالبصيرة إلى قرب الله من عبده، ومعيته حتى كأنه يراه.
وقيل: بل هو إشارة إلى أنَّ مَن شق عليه أنْ يعبد الله تعالى كأنه يراه؛ فليعبد الله على أنَّ الله يراه، ويطلِّع عليه؛ فليستحي مِن نظره إليه، كما قال بعض العارفين: اتقِ الله أن يكون أهون الناظرين إليك. وقال بعضهم: خَفِ الله على قدر قدرته عليك، واستحي مِن الله على قدر قربه منك. وقال بعض العارفين من السلف: مَن عمل لله على المشاهدة؛ فهو عارف.. ومَن عمل على مشاهدة الله إياه؛ فهو مخلص..
وفيه إشارة إلى المقامين اللذين تقدم ذكرهما؛ أحدهما: مقام الإخلاص؛ وهو أن يعمل العبد على استحضار مشاهدة الله إياه، واطلاعه وقربه منه. فإذا استحضر العبد هذا في عمله، وعمل عليه فهو مخلص لله تعالى؛ لأن استحضاره ذلك في عمله يمنعه من الالتفات إلى غير الله، وإرادته بالعمل.
والثاني: مقام المشاهدة؛ وهو أن يعمل العبد على مقتضى مشاهدته لله تعالى بقلبه، وهو أن يتنور القلب بالإيمان، وتنفذ البصيرة في العرفان؛ حتى يصبر الغيب كالعيان. وهذا هو حقيقة مقام الإحسان المشار إليه في حديث جبريل - عليه السلام -.]
[جامع العلوم والحكم (بتصرف)](1/248)
[وكم من أعمال يتعب الإنسان فيها، ويظن أنها خالصة لوجه الله، ويكون فيها مغرورًا؛ لأنه لا يرى وجه الآفة فيها! كما حُكي عن بعضهم أنه قال: قضيتُ صلاة ثلاثين سنة كنت صليتُها في المسجد في الصف الأول؛ لأنى تأخرتُ يومًا لعذر فصليت في الصف الثانى؛ فاعترتني خجلة من الناس حيث رأونى في الصف الثانى! فعرفتُ أنَّ نظر الناس إليّ في الصف الأول كان مسرتي، وسبب استراحة قلبي مِن حيث لا أشعر.
وهذا دقيق غامض قلما تسلم الأعمال مِن أمثاله، وقَلَّ مَن يتنبه له إلا مَن وفقه الله تعالى.] [الإحياء]
قال ابن عطاء الله السكندري: لولا جميل ستره لم يكن عمل أهلاً للقبول. أي: لولا ستره تعالى الجميل لم يكن عمل مِن الأعمال أهلاً للقبول؛ لفقد شرطه مِن الإخلاص. فإنّ العبد مبتلى بنظره إلى نفسه، وفرحه بعمله مِن حيث نسبته إليه، وشهوده حوله وقوته عليه! وهذا مِن الشرك الخفي القادح في الإخلاص. فينبغي
للعبد أنْ يعتمد على فضل الله وكرمه؛ لا على اجتهاده وعمله.
قال ابن القيم: [فالصلاة المقبولة والعمل المقبول أن يصلي العبد صلاة تليق بربه عز وجل، فإذا كانت صلاة تصلح لربه تبارك وتعالى وتليق به كانت مقبولة، والمقبول من العمل قسمان: أحدهما: أن يصلي العبد ويعمل سائر الطاعات؛ وقلبه متعلق بالله عز وجل، ذاكر لله عز وجل على الدوام.. فأعمال هذا العبد تُعرَض على الله عز وجل حتى تقف قبالته؛ فينظر الله عز وجل إليها، فإذا نظر إليها رآها خالصة لوجهه مرضية، قد صدرت عن قلب سليم مخلص، محب لله عز جل، ومتقرب إليه أحبها ورضيها وقبلها..(1/249)
والقسم الثاني: أن يعمل العبد الأعمال على العادة والغفلة، وينوي بها الطاعة والتقرب إلى الله، فأركانه مشغولة بالطاعة، وقلبه لاهٍ عن ذكر الله، وكذلك سائر أعماله، فإذا رُفعت أعمال هذا إلى الله عز وجل لم تقف تجاهه، ولا يقع نظره عليها، ولكن توضع حيث توضع دواوين الأعمال حتى تُعرَض عليه يوم القيامة فتُميَّز، فيثيبه على ما كان له منها، ويرد عليه ما لم يُرِد وجهه به منها، فهذا قبوله لهذا العمل: إثابته عليه بمخلوق من مخلوقاته مِن القصور، والأكل والشرب، والحور العين.. وإثابة الأول رضا العمل لنفسه، ورضاه عن معاملة عامله، وتقريبه منه، وإعلاء درجته ومنزلته؛ فهذا يعطيه بغير حساب.. فهذا لون، والأول لون.] [الوابل الصيب]
إليهِ؛ وإلاَّ.. لا تُشَدُّ الركائبُ
وفيهِ؛ وإلا.. فالرجاءُ مُضَيَّعٌ
ڑڑومنهُ؛ وإلا.. فالمُؤمِّلُ خائبُ
وعنهُ؛ وإلا.. فالمُحَدِّثُ كاذبُ
- - -
من بديع أقوالهم في الإخلاص :
قال السوسي: الإخلاص فقد رؤية الإخلاص، فإنّ مَن شاهد في إخلاصه الإخلاص فقد احتاج إخلاصه إلى إخلاص.
قال سهل: الإخلاص أن يكون سكون العبد وحركاته لله تعالى خاصة.
قال إبراهيم بن أدهم: الإخلاص صدق النية مع الله تعالى.
قال يعقوب المكفوف: المخلص من يكتم حسناته كما يكتم سيئاته.
قال سليمان: طوبى لمن صحت له خطوة واحدة لا يريد بها إلا الله تعالى.
كتب بعض الأولياء إلى أخ له: أخلص النية في أعمالك يكفك القليل من العمل.
قال أيوب السختياني: تخليص النيات على العمال أشد عليهم من جميع الأعمال.
قال مطرف: مَن صفا صُفي له، ومَن خلَّط خُلِّط عليه.
قيل لسهل: أي شىء أشد على النفس؟ فقال: الإخلاص إذ ليس لها فيه
نصيب!
قال رويم: الإخلاص في العمل هو أن لا يريد صاحبه عليه عوضًا.
قال أبو عثمان: الإخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق.
قيل: الإخلاص ما استتر عن الخلق، وصفا عن العلائق.(1/250)
قال المحاسبي: الإخلاص هو إخراج الخلق عن معاملة الرب.
قال الجنيد: الإخلاص تصفية العمل من الكدورات.
قال الفضيل: ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما.
قيل: الإخلاص دوام المراقبة، ونسيان الحظوظ كلها.
قال ابن القيم: الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما من التفاضل كما بين السماء والأرض.
قال ابن عيينة: كان من دعاء مطرف بن عبد الله: اللهم إني استغفرك مما زعمت أني أردت به وجهك فخالط قلبي منه ما قد علمت.
قال سري السقطي: مَن تزين للناس بما ليس فيه سقط مِن عين الله تعالى.
قال علي بن بكار: لأنْ ألقى الشيطان أحب إليَّ مِن أنْ ألقى فلانًا؛ أخاف أنْ أتصنع له فأسقط مِن عين الله.
- - -
علامات الإخلاص
استواء المدح والذم: فالمخلص لا يتأثر بمدح مادح، ولا ذم ذامٍّ؛ لأنه جعل الهمَّ همًّا واحدًا، وهو إرضاء الله رب العالمين وكفى، ولذا يُمدح أحد الأئمة في وجهه، فيغضب، ويقول: أُشهد الله أني أمقت ما تقول، والذي لا إله إلاَّ هو لو علمتَ من نفسي ما أعلم لحثَوْتَ على رأسي التراب.
قال ابن القيم: لا يجتمع الإخلاص في القلب مع حب المدح والثناء والطمع فيما عند الناس، إلا كما يجتمع الماء والنار، والضب والحوت. فإذا حدثتك نفسك بطلب الإخلاص؛ فأقبِل على الطمع فاذبحه بسكين اليأس، وأقبِل على المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الآخرة للدنيا. فإذا استقام لك ذبح الطمع والزهد في الثناء سَهُل عليك الإخلاص. فإنْ قلت: وما الذي يُسَهِّل علىّ ذبح الطمع والزهد في الثناء؟
وسُئل بعض السلف: ما غاية الإخلاص؟ قال: أنْ لا تُحبَّ مَحْمَدَةَ الناس.(1/251)
وقال بعض الحكماء: ينبغي للعامل أنْ يأخذ الأدب في عمله من راعي الغنم. قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأن الراعي إذا صلى عند غنمه فإنه لا يطلب بصلاته محمدة الغنم.. كذلك العامل ينبغي أنْ لا يبالي مِن نظر الناس إليه؛ فيعمل لله تعالى عند الناس وعند الخلاء بمنزلة واحدة، ولا يطلب محمدة الناس.
قال ابن القيم في "الفوائد: بين العبد وبين الله والجنة قنطرة تُقطَع بخطوتين: خطوة عن نفسه، وخطوة عن الخلق.. فيُسقِط نفسه ويُلغيها فيما بينه وبين الناس.. ويُسقط الناس، ويُلغيهم فيما بينه وبين الله.. فلا يلتفت إلا إلى مَن دَلَّه على الله وعلى الطريق الموصِّلة إليه.
يذكر إحسان العتيبي أنه [في لقاءات الشيخ ابن عثيمين / في بيته كل خميس قبل الظهر، كان الشيخ / يبدأ اللقاء بتفسير آيات من القرآن الكريم، وقد رأى أن يبدأ من الأجزاء الأخيرة لكثرة قراءتها واستماعها من الناس، ثم يفسح المجال لكل زائر بسؤال واحد.
وفي بعض تلك اللقاءات -والتي جُمعت مادتها بما عرف بـ"الباب المفتوح"- استأذن بعض الشباب بقراءة أبيات من الشِّعر نظمها في مدح الشيخ /، وقد قاطعه الشيخ مرارًا معترضًا على مدحه، وطلب تغيير تلك الكلمات التي يُمدح فيها الشيخ، وكلما سمع مدحًا اعترض وقاطع وأوقف الطالب، حتى قال الطالب: لا يصلح هذا يا شيخ! إما أن أقرأ ما كتبتُ أو أتوقف! قال الشيخ: توقف أحب إليَّ!! ولم يرض / بهذا المديح.
والقصة حين تسمعها مباشرة في الشريط تتأثر من خُلُق الشيخ وعظيم دينه، وقد كُتبت الحادثة فيما جُمع من تلك اللقاءات، فكانت تفاصيلها على هذا النحو: الطالب: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. أما بعد يا فضيلة الشيخ أستاذنكم في قصيدة أتلوها:
يا أمتي إنَّ هذا الليلَ يَعقُبُهُ
والخيرُ مُرتَقَبٌ والفتحُ منتَظَرُ
بصحوةٍ بارَكَ الباري مسيرتَها
ما دامَ فينا ابنُ صالحٍ شيخُ صحوتِناڑ
ڑفجرٌ وأنوارُهُ في الأرضِ تنتشرُ(1/252)
والحق ُّرغمَ جهودِ الشرِ منتشرُ
نَقِيةٍ ما بها شَوْبٌ ولا كَدَرُ
بمِثلِهِ يُرتَجَى التأييدُ والظفرُ
فقال الشيخ: أنا لا أوافق على هذا المدح؛ لأني لا أحب أن يربط الحق بالأشخاص. كل شخص يأتي ويذهب، فإذا ربطنا الحق بالأشخاص، معناه أن الإنسان إذا مات قد ييأس الناس من بعده.
فأقول: إذا كان بإمكانك أن تغير البيت الأخير بقولك:
ما دام منهاجُنا نهجُ الأُلى سلفواڑڑبمثلِها يُرتَجَى التأييدُ والظفرُ
فهذا طيب. أنا أنصحكم من الآن وبعد الآن ألاّ تجعلوا الحق مربوطًا بالرجال: أولا: لأنهم قد يضلون، فهذا ابن مسعود - رضي الله عنه - يقول: مَن كان مُستنًّا فليستن بمَن مات؛ فإنَّ الحي لا تؤمَن عليه الفتنة.
ثانيا: أنه سيموت، ليس فينا أحدٌ يبقى أبدًا! { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ y7د=ِ7s% الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ tbrà$ح#"sƒù:$# } [الأنبياء: 34]
وثالثا: أنه ربما يغتر إذا رأى الناس يبجِّلونه ويكرمونه ويلتفون حوله، ربما ظن أنه معصوم، ويدَّعي لنفسه العصمة، وأن كل شيء يفعله فهو حق، وكل طريق يسلكه فهو مشروع، ولا شك أنه يحصل بذلك هلاكه، ولهذا امتدح رجلٌ رجلاً عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: "ويحَكَ، قطعتَ عُنُقَ صاحبِكَ".
وأنا أشكر الأخ على ما يبديه من الشعور نحوي، وأسأل الله أن يجعلني عند
حسن ظنه أو أكثر، ولكن لا أحب المديح. [وقفات في حياة الشيخ ابن عثيمين]
وروى الذهبي في سِيَره عن المروذي قال: قلت لأبي عبد الله(1): ما أكثر الداعي لك! قال: أخاف أن يكون هذا استدراجًا؛ بأي شئ هذا؟! وقلت له: قدم رجل من "طرسوس" فقال: كنا في بلاد الروم في الغزو إذا هدأ الليل، رفعوا أصواتهم بالدعاء: ادعوا لأبي عبد الله، وكنا نمد المنجنيق، ونرمي عن أبي عبد الله. ولقد رمي عنه بحجر، والعلج على الحصن متترس بدَرَقة فذهب برأسه وبالدرقة.
__________
(1) الإمام أحمد بن حنبل(1/253)
قال: فتغير وجه أبي عبد الله، وقال: ليته لا يكون استدراجًا. قلت: كلا.
وقال الحارث المحاسبى: الصادق هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه، ولا يحب اطلاع الناس على مثاقيل الذر من حسن عمله، ولا يكره أن يطلع الناس على السيئ من عمله.
نسيان العمل بعد عمله: ويبقى الهم همًا واحدًا؛ هل تُقُبل هذا العمل أم لم يتقبل؟
قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: كونوا لقبول العمل أشد هَمًّا منكم بالعمل، ألم تسمعوا الله يقول: { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } [المائدة: 27]
و[من أراد أن يجد ثواب عمله في الآخرة، ينبغي له أن يكون عمله خالصًا لله تعالى بغير رياء، ثم ينسى ذلك العمل لكيلا يبطله العُجب؛ لأنه يقال: حفظ الطاعة أشد من فعلها.
قال أبو الواسطي: حفظ الطاعة أشد من فعلها؛ لأن مثلها كمثل الزجاج؛ سريع الكسر، ولا يقبل الجبر. كذلك العمل إن مسه الرياء كسره.. إذا مسه العُجب
كسره.. ] [تنبيه الغافلين]
وقال ابن عطاء الله السكندري: لا عمل أرجى للقبول مِن عمل يَغيب عنك شهودُه، ويُحتقَر عندك وجودُه.
أي لا عمل من أعمال البر أكثر رجاءً لقبول الله له مِن عمل يغيب عنك شهوده؛ لأنك إنْ غبت عن شهود عملك فقد بقيتَ حينئذ بربك، وصار وجود العمل محتقَرًا عندك لاتهامك لنفسك في القيام بحقه. ولذا قال بعض العارفين: كل شيء من أفعالك إذا اتصلت به رؤيتُك؛ فذلك دليل على أنه لا يُقبَل منك؛ لأن المقبول مرفوع مُغَيَّب عنك، وما انقطعتْ عنه رؤيتُك فذلك دليل على القبول. يشير إلى قوله تعالى: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ قOد=s3ّ9$# الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ كxد="¢ء9$# يَرْفَعُهُ } [فاطر: 10]
إخفاء ما يمكن إخفاؤه من الطاعات : خوفًا من دواعي السُّمْعَة والرياء؛ فمن استطاع منكم أن يكون له خبيئة من عمل صالح فليفعل.
قال الفضيل بن عياض: خير العمل أخفاه؛ أمنعه من الشيطان، وأبعده من الرياء.(1/254)
وسُئل بعض السلف: مَن المخلِص؟ فقال: المخلِص الذي يَكتم حسناته كما يَكتم سيئاته.
فالمخلص هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الناس من أجل صلاح قلبه مع الله عزوجل، ولا يحب أن يطلع الناس على مثاقيل الذر من عمله.
وصلاحُ الأَجْسادِ سهلٌ ولكنْ في صَلاحِ القلوبِ يَعيا الطبيبُ
قال الحسن: إنْ كان الرجل ليجمع القرآن ولم يشعر به الناس، وإنْ كان الرجل لينفق النفقة الكثيرة ولم يشعر به الناس، وإنْ كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته ولم يشعر به الناس، ولقد أدركت أقوامًا ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدًا.
وعنه أيضًا قال: إنْ كان الرجل لتكون له الساعة يخلو فيها؛ فيصلي، ويوصي أهله فيقول: إنْ جاء أحد يطلبني فقولوا: هو في حاجة له!
قال محمد بن واسع: لقد أدركتُ رِجالاً؛ كان الرجل يكون رأسه ورأس امرأته على وِساد واحد؛ قد بَلَّ ما تحت خده مِن دموعه؛ لا تشعر به امرأته.. واللهِ.. لقد أدركتُ رِجالاً؛ كان أحدهم يقوم في الصف، فتسيل دموعه على خده؛ لا يشعر الذي إلى جنبه.
قال الفضيل: ولو فتح الإنسان عليه باب ملاحظة الناس، والاحتراس من ظنونهم الباطلة لانسد عليه أكثر أبواب الخير، وضيَّع على نفسه شيئًا عظيمًا مِن مهمات الدين.
وذكر ابن أبي الدنيا أنهم كانوا يكرهون إذا اجتمعوا أن يظهر الرجل أحسن ما عنده.
وقال بشر بن الحارث: لا يجد حلاوة الآخرة رجل يُحب أن يَعرفه الناس.
قال سفيان الثوري: وجدت قلبي يصلح بمكة والمدينة مع قوم غرباء، عليهم أكسية غليظة، لا يعرفونني فأعيش في وسطهم لا أُعرف، كأنني رجل من فقراء المسلمين وعامتهم.(1/255)
وروى مسلم في صحيحه عن أبي بُرْدَة عن أبي موسى قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غَزَاة ونحن ستة نفر بيننا بعير نَعتَقِبُه، قال: فَنَقِبَتْ أقدامنا(1)، فنَقِبَتْ قدمايَ، وسقطت أظفاري، فكنا نَلُفُّ على أرجلنا الْخِرَقَ؛ فسميت غزوة "ذات الرِّقاع" لِمَا كنا نُعَصِّبُ على أرجلنا من الْخِرَقِ.
قال أبو بُرْدَة: فحدَّث أبو موسى بهذا الحديث، ثُم كره ذلك، قال: كأنه كره أنْ يكون شيئًا من عمله أفشاه.
قال محمد بن أعين -وكان صاحب ابن المبارك في أسفاره-: كنا ذات ليلة ونحن في غزو الروم، فذهب عبد الله بن المبارك ليضع رأسه ليريني أنه ينام، فوضعت رأسي على الرمح لأريه أني أنام كذلك.. فظن أني قد نمت؛ فقام فأخذ في صلاته، فلم يزل كذلك حتى طلع الفجر وأنا أرمُقُه.. فلما طلع الفجر أيقظني، وظن أني نائم، وقال: يا محمد! فقلتُ: إني لم أنم.. فلما سمعها مني ما رأيته بعد ذلك يُكلمني، ولا ينبسط إليّ في شيء من غزاته كلها؛ كأنه لم يعجبه ذلك مني لما فطنتُ له من العمل! فلم أزل أعرفها فيه حتى مات، ولم أر رجلاً أسرَّ بالخير منه.
وقال ابن عيينة: كان من دعاء المطرِّف بن عبد الله: اللهم إني أستغفرك مما زعمت أني أريد به وجهك، فخالط قلبي منه ما قد علمت. وكان رحمه الله إذا حدَّث بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - يشتدُّ عليه البكاء وهو في حلقته، فكان يشدُّ العمامة على عينه ويقول: ما أشدَّ الزكام.. ما أشدَّ الزكام..!
قال الأعمش: كنت عند إبراهيم النخعي وهو يقرأ في المصحف، فاستأذن عليه رجل؛ فغطّى المصحف، وقال: لا يراني هذا أني أقرأ فيه كل ساعة.
اتهام النفس :
قال السوسي: الإخلاص فقد رؤية الإخلاص، فإنّ مَن شاهد في إخلاصه الإخلاص فقد احتاج إخلاصه إلى إخلاص.
__________
(1) نَقِبَتْ أقدامُنا أَي: رَقَّتْ جُلودُها من المَشْي. ونَقِبَ الخُفُّ الملبوسُ نَقَبًا أي: تَخَرَّقَ.(1/256)
[ذكر ابن أبي الدنيا عن الخلد بن أيوب قال: كان راهب في بني إسرائيل في صومعة منذ ستين سنة فأُتي في منامه فقيل له: إنّ فلانًا الإسكافي خير منك! ليلة بَعد ليلة..! فأتى الإسكافي، فسأله عن عمله، فقال: إني رجل لا يكاد يمر بي أحد إلا ظننتُ أنه في الجنة وأنا في النار! ففُضِّل على الراهب بإزرائه على نفسه.
وذُكر "داود الطائي" عند بعض الأمراء، فأثنوا عليه، فقال: لو يعلم الناس بعض ما نحن فيه ما ذكرنا لسان بخير أبدًا.
وقال أبو حفص: مَن لم يتهم نفسه على دوام الأوقات، ولم يخالفها في جميع الأحوال، ولم يَجُرَّها إلى مكروهها في سائر أوقاته؛ كان مغرورًا.. ومَن نظر إليها باستحسان شىء منها فقد أهلكها.
فالنفس داعية إلى المهالك، معينة للأعداء، طامحة إلى كل قبيح، متبعة لكل سوء.. فهي تجري بطبعها في ميدان المخالفة؛ فالنعمة التي لا خطر لها الخروج منها، والتخلص من رِقِّها؛ فإنها أعظم حجاب بين العبد وبين الله تعالى. وأعرف الناس بها أشدهم إزراءً عليها، ومقتًا لها.
قال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود عن الصلت بن دينار، حدثنا عقبة بن صهبان الهنائي قال: سألت عائشة ل عن قول الله عز وجل: { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ س‰إءtFّ)-B وَمِنْهُمْ سَابِقٌ دN¨uژِچy‚ّ9$$خ/ بِإِذْنِ اللَّهِ } [فاطر: 32]
فقالت: يا بُنَيّ.. هؤلاء في الجنة، أما السابق بالخيرات فمَن مضى على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، شهد له رسول - صلى الله عليه وسلم - بالجنة والرزق، وأما المقتصد فمَن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم.. فجعلت نفسها معنا!
ومقت النفس في ذات الله من صفات الصديقين، ويدنو العبد به من الله تعالى في لحظة واحدة أضعاف أضعاف ما يدنو بالعمل.(1/257)
ذكر الإمام أحمد عن وهب أنّ رجلاً سائحًا عبَدَ اللهَ عز وجل سبعين سنة، ثم خرج يومًا فقلَّل عمله، وشكا إلى الله تعالى منه، واعترف بذنبه.. فأتاه آتٍ مِن الله فقال: إنّ مجلسك هذا أحب إليّ مِن عملك فيما مضى مِن عمرك.
وفي كتاب الزهد للإمام أحمد أنّ رجلاً مِن بني إسرائيل تعبد ستين سنة في طلب حاجة؛ فلم يظفر بها! فقال في نفسه: والله.. لو كان فيك خير لظفرت بحاجتك. فأُتِي في منامه فقيل له: أرأيتَ ازدراءك نفسك تلك الساعة؛ فإنه خير مِن عبادتك تلك السنين.] [إغاثة اللهفان]
وقال ابن الجوزي في "صيد الخاطر": [إنما نحذر عليك أن ترى نفسك خيرًا من ذلك الشخص المؤمن وإن قل علمه. فإن الخيرية بالمعاني لا بصور العلم والعباد.
ومَن تلمح خصال نفسه وذنوبها علم أنه على يقين من الذنوب والتقصير، وهو
من حال غيره على شك. فالذي يحذر منه الإعجاب بالنفس، ورؤية التقدم في أحوال الآخرة، والمؤمن الحق لا يزال يحتقر نفسه.
وقد قيل لعمر بن عبد العزيز: إن مت ندفنك في حجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: لأن ألقى الله بكل ذنب غير الشرك أحب إليّ من أن أرى نفسي أهلا لذلك.] أ.هـ
و[كل طاعة رضيتَها فهي عليك، وكل معصية عيرتَ بها أخاك فهي إليك..! فرضاء العبد بطاعته دليل على حسن ظنه بنفسه، وجهله بحقوق العبودية، وعدم علمه بما يستحقه الرب جل جلاله، ويليق أن يعامَل به. وحاصل ذلك أن جهله بنفسه وصفاتها وآفاتها وعيوب عمله وجهله بربه وحقوقه وما ينبغي أن يُعامل به يتولد منهما رضاه بطاعته وإحسان ظنه بها، ويتولد من ذلك من العجب والكبر والآفات ما هو أكبر من الكبائر الظاهرة مِن الزنا وشرب الخمر والفرار من الزحف ونحوها..
قال بعض العارفين: متى رضيتَ نفسك وعملك لله؛ فاعلم أنه غير راضٍ به، ومَن عرف أن نفسه مأوى كل عيب وشر، وعمله عُرضَة لكل آفة ونقص؛ كيف يرضى لله نفسه وعمله؟!(1/258)
ولله دَرُّ الشيخ أبي مدين حيث يقول: مَن تحقق بالعبودية نظر أفعاله بعين الرياء، وأحواله بعين الدعوى، وأقواله بعين الافتراء. وكلما عظم المطلوب في قلبك صغرت نفسك عندك، وتضاءلت القيمة التي تبذلها في تحصيله، وكلما شهدت حقيقة الربوبية وحقيقة العبودية، وعرفت الله وعرفت النفس؛ تبين لك أن ما معك من البضاعة لا يصلح للمَلِك الحق؛ ولو جئت بعمل الثقلين خشيتَ عاقبته، وإنما يقبله بكرمه وجوده وتفضله، ويثيبك عليه أيضا بكرمه وجوده وتفضله.] [مدارج السالكين]
عن سليمان بن يسار قال: خطب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الناس في زمان الرمادة، فقال: أيها الناس! اتقوا الله في أنفسكم وفيما غاب عن الناس من أمركم، فقد ابتُلِيتُ بكم وابتُلِيتُم بي؛ فما أدري ألِسخطةٍ عليَّ دونكم أو عليكم دوني؟! أو قد عمتني وعمتكم؟! فهلموا فلنَدْعُ الله يُصلح قلوبنا، وأنْ يرحمنا، وأنْ يرفع عنا الْمَحْلَ(1).. قال: فرُئي عمر يومئذ رافعًا يديه يدعو الله، ودعا الناس، وبكى وبكى الناس مَليًّا، ثم نزل. [الطبقات الكبرى]
قام عمر بن عبد العزيز وخطب الناس فكان مما قال: اتقوا الله قبل حلول الموت بكم إني لأقول هذا وما أعلم أحد عنده من الذنوب أكثر مما عندي. ثم خنقته عبرته فأخذ طرف ردائه فوضعه على وجهه يبكي، فما بقي أحد إلا بكى لبكائه، ولم يخطب بعدها /.
وروي أن أبا عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - أمَّ قومًا مرة، فلما انصرف قال: ما زال الشيطان بي آنفًا حتى أريتُ أنَّ لي فضلاً عن غيري؛ لا أؤم أبدًا.
__________
(1) المَحْل: الشدّة، والجوع الشديد وإن لم يكن جَدْب. والمَحْل نقيض الخِصْب، جمعه: مُحول وأَمْحال. والمَحْل: الجدب، وهو انقطاع المطر ويُبْسُ الأَرض من الكَلإ. [لسان العرب](1/259)
وهذا بكر بن عبد الله يقول: إن رأيتُ مَن هو أكبر مني سنًّا قلتُ: سبقني بالإيمان والعمل الصالح؛ فهو خير مني.. وإنْ رأيتُ مَن هو أصغر مني فأقول: سبقتُه إلى الذنوب والمعاصي؛ فهو خير مني.. وإنْ أكرمني إخوتي قلتُ: تفضلوا عليّ؛ فجزاهم ربي خيرًا.. وإنْ أهانني إخوتي قلتُ: ذاك لذنب أصبتُه، وعهد بيني وبين الله ضيعتُه..
ورُوي أن ابن سلام حمل حزمة من حطب، فقيل له: يا أبا يوسف! قد كان في بنيك وغلمانك ما يكفونك هذا! فقال: أردتُ أنْ أُجرِّب نفسي؛ هل تنكره؟!
قال ابن القيم [ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية من ذلك أمرًا لم أشاهده من غيره. وكان يقول كثيرا: ما لي شيء، ولا مني شيء، ولا فيّ شيء.
وكان إذا أُثني عليه في وجهه يقول: "والله إني إلى الآن أجدد إسلامي كل وقت، وما أسلمتُ بعد إسلامًا جيدًا"!! وبعث إليّ في آخر عمره قاعدة في التفسير بخطه، وعلى ظهرها أبيات بخطه من نظمه:
أنا الفقيرُ إلى رَبَّ البرياتِ
أنا الظلومُ لنفسي وهي ظالمتي
لا أستطيعُ لنفسي جَلب مَنفَعَةٍ
والفقرُ لي وَصْفُ ذاتٍ لازِمٌ أبدًا
وهذهِ الحالُ حالُ الخلقِ أجمعِهِمڑڑأنا المسكينُ في مجموعِ حالاتي
والخيرُ إنْ يأتِنا مِن عِندِهِ ياتي
ولا عنِ النفسِ لي دَفْعُ المَضَرَّاتِ
كما الغِنَى أبدًا وَصْفٌ له ذاتي
وكلُّهُم عِندَهُ عبدٌ لهُ آتي ] (1)
قال عبد العزيز بن أبي رواد: جاورتُ هذا البيت ستين سنة، وحججتُ ستين حجة.. فما دخلتُ في شىء من أعمال الله تعالى إلا وحاسبتُ نفسي؛ فوجدتُ نصيب الشيطان أوفى مِن نصيب الله؛ ليتَه لا ليّ، ولا عليّ!! وقال الغزالي في "الإحياء": إذن علاج الإخلاص كسر حظوظ النفس، وقطع الطمع عن الدنيا، والتجرد للآخرة بحيث يغلب ذلك على القلب؛ فإذا ذاك يتيسر الإخلاص.
فيا عباد الله..
__________
(1) مدارج السالكين(1/260)
المخلصون قوم فرغ الله قلوبهم، وجعل رحيق محبته مشروبهم، وأطال على باب خدمته وقوفهم، وجعل رضاه وقربه مطلوبهم، وغضبه وبعده مخوفهم.. فهم من خشيته مشفقون، ومن هيبته مطرقون.. إن تواضعوا فلرفعته، وإن تذللوا فلعزته، وإن خضعوا فلعظمته.. إلى الله افتقارهم، وبالله افتخارهم، وإلى الله استنادهم.. هو كنزهم وعزهم، وفخرهم وذخرهم، ومعبودهم ومقصودهم..
ومَن كان بهذه الرتبة؛ فمتى تواضع لغير الله أخل بمركز الأدب، واستبدل الخزف بالذهب.. فيا من تعملون لغير وجه الله يا ضيعة أعمالكم، ويا من تقفون بغير باب الله يا طول هوانكم، ويا من تؤملون في غير فضل الله يا خيبة آمالكم..
الأسباب كلها منقطعة إلا أسبابه، والأبواب كلها مغلقة إلا أبوابه.. فسلام الله ورحمته وبركاته على هِمَم لا يُرضيها إلا قرب الله ومرضاته..
- - -
أقباس نورانية من أخبار المخلصين:(1/261)
عن ابن عمر ب قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "انطلق ثلاثةُ نفرٍ ممن كان قبلَكم، حتى آواهمُ المبيتُ إلى غارٍ فدخلوه، فانحدرتْ صخرةٌ مِنَ الجبلِ، فسَدَّتْ عليهِمُ الغارَ، فقالوا: إنه لا يُنجِيكمْ مِن هذهِ الصخرةِ إلا أنْ تدعوا اللهَ بصالحِ أعمالِكم. قال رجلٌ منهم: اللهمَّ كان لي أبوانِ شيخانِ كبيرانِ، وكنتُ لا أغبُقُ قبلَهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي طلبُ الشجرِ يومًا، فلم أُرِحْ عليهِما حتى ناما، فحلبتُ لهما غَبوقَهما، فوجدتُهما نائمَينِ، فكرهتُ أن أوقظَهما وأنْ أغبُقَ قبلَهما أهلاً أو مالاً، فلبِثتُ والقَدَحُ على يدي أنتظرُ استيقاظَهما حتى برقَ الفجرُ، والصِّبيَةُ يَتضاغَونَ عندَ قدميَّ، فاستيقظا فشربا غَبوقَهما.. اللهمَّ إنْ كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهِكَ، ففَرِّجْ عنا ما نحن فيه مِن هذهِ الصخرةِ؛ فانفرجتْ شيئًا لا يستطيعون الخروجَ.. وقال الآخرُ: اللهمَّ كانت لي ابنةُ عمٍّ كانت أحبَّ الناسِ إليَّ، -وفي رواية: "كنتُ أحبُّها كأشدِّ ما يحبُّ الرجالُ النساءَ- فأردتُها على نفسِها، فامتنعتْ مني، حتى ألمَّتْ بها سَنَةٌ مِنَ السنينَ، فجاءتني، فأعطيتُها عشرينَ ومائةَ دينارٍ، على أنْ تُخَلِّيَ بيني وبين نفسِها؛ ففعلتْ، حتى إذا قدرتُ عليها، -وفي رواية: "فلما قعدتُ بينَ رِجلَيْها- قالتْ: اتقِ اللهَ ولا تَفُضَّ الخاتمَ إلا بحقِّهِ، فانصرفتُ عنها وهي أحبُّ الناسِ إليَّ، وتركتُ الذهبَ الذي أعطيتُها.. اللهمَّ إنْ كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهِك، فافرُجْ عنَّا ما نحنُ فيهِ؛ فانفرجتِ الصخرةُ، غيرَ أنهم لا يستطيعونَ الخروجَ منها.. وقالَ الثالثُ: اللهمَّ استأجرتُ أجراءَ وأعطيتُهم أجرَهم غيرَ رجلٍ واحدٍ تركَ الذي له وذهبَ، فثمَّرتُ أجرَهُ حتى كثرتْ منهُ الأموالُ، فجاءني بعدَ حِينٍ فقال: يا عبدَ اللهِ.. أدِّ إليَّ أجري. فقلتُ: كلُّ ما تَرى مِن أجرِكَ؛ مِنَ الإبلِ والبقرِ والغنمِ(1/262)
والرقيقِ.. فقالَ: يا عبدَ اللهِ.. لا تستهزئْ بي! فقلتُ: لا أستهزئُ بكَ. فأخذَهُ كلَّهُ فاستاقَهُ، فلم يترُكْ منهُ شيئًا.. اللهمَّ إنْ كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهِكَ فافرُجْ عنَّا ما نحنُ فيهِ؛ فانفرجتِ الصخرةُ؛ فخرجوا يمشون". [متفق عليه]
يوم الخندق رأى عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - "عمرو بن ودٍّ"؛ فارس العرب بلا منازع وهو يجتاز الخندق، ويندب المسلمين للمبارزة، فتقدم عليٌّ لمبارزته، ولكن "عمرًا" يستصغر "عليًّا"فيندب المسلمين ثانية؛ فيخرج له "عليّ"، فيندب الثالثة للمبارزة؛ فما لها إلا "علي"! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما روي عنه: "اخرج إليه منصورًا".. فكان اللقاء؛ وما هو إلا قليل وهما يصطرعان إذا بـ"عليّ" يعلوه بالسيف، وهنا يبصق عمرو في وجهه؛ فيتركه "علي" دون أن يقتله! فقال له عمرو: عجبًا لأمرك.. مُكِّنْتَ مني بشيء لم تحلم به العرب، ثم تتركني!! فقال "علي": كنت أريد قتلك لوجه الله، فلما بصقتَ في وجهي ثارتْ نفسي، وطالبتني بالثأر؛ فخشيتُ أنْ يكون قتلك لنفسي، ووالله ما أريده إلا لله.
وهذا عبد الله بن الأرقم أسلم عام الفتح، وكتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولأبي بكر وعمر ب وأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر خمسين وسقًا، واستعمله عمر على بيت المال، وعثمان بعده، ثم إنه استعفى عثمان من ذلك فأعفاه.
ولما استكتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمن إليه، ووثق به؛ فكان إذا كتب له إلى بعض الملوك يأمره أن يختمه ولا يقرؤه لأمانته عنده.
روى مالك قال: بلغني أن عثمان أجاز عبد الله بن الأرقم -وهو على بيت المال- بثلاثين ألفًا؛ فأبى أن يقبلها! وروى عمر بن دينار أن عثمان أعطاه ثلاثمائة ألف درهم؛ فأبى أن يقبلها، وقال: عملتُ لله، وإنما أجري على الله.
وكان عمر - رضي الله عنه - يقول: ما رأيت أخشى لله تعالى من عبد الله بن الأرقم. [أُسد الغابة](1/263)
قال جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: والذي لا إله إلا هو.. ما اطلعنا على أحد من أهل "القادسية" أنه يريد الدنيا مع الآخرة.
قال الذهبي: يقول ابن فارس عن أبي الحسن القطان: أُصِبتُ ببصري، وأظن أني عوقبت بكثرة كلامي أثناء الرحلة! قال الذهبي: صدق والله؛ فإنهم كانوا مع حسن القصد وصحة النية غالبًا يخافون من الكلام وإظهار المعرفة.
قال هشام الدستوائي: والله.. ما أستطيع أنْ أقول إني ذهبتُ يومًا قط أطلب الحديث؛ أريد به وجه الله عز وجل.
قال حماد بن زيد: كان أيوب ربما حدَّث في الحديث؛ فيرقّ وتدمع عيناه، فيلتفت و يتمخط، ويقول: ما أشد الزكام!! فيُظهِر الزكام لإخفاء البكاء.
قال الحسن البصري: إنْ كان الرجل ليجلس المجلس، فتجيئه عَبرته فيردها فإذا خشي أن تسبقه؛ قام وذهب، وبكى في الخارج.
عن عبدة بن سليمان قال: كنا في سرية مع "عبد الله بن المبارك" في بلاد الروم، فصادفنا العدو، فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى البِراز.. فخرج إليه رجل فطارده ساعة؛ فطعنه؛ فقتله. ثم آخر فقتله.. ثم دعا إلى البِراز فخرج إليه رجل فطارده ساعة؛ فطعنه؛ فقتله.. فازدحم عليه الناس، وكنت فيمن ازدحم عليه؛ فإذا هو ملثم وجهه بكُمِّه! فأخذتُ بطرف كُمِّه فمددتُه؛ فإذا هو عبد الله بن المبارك. فقال: و أنت يا أبا عمرو ممن يُشَنِّع علينا؟! [صفة الصفوة]
التقى سفيان والفضيل، فتذاكرا، فبكيا، فقال سفيان: إني لارجو أن يكون مجلسنا هذا أعظم مجلس جلسناه بركة. فقال له فضيل: لكني أخاف أن يكون أعظم مجلس جلسناه شؤمًا؛ أليس نظرتُ إلى أحسن ما عندك، فتزينتَ به لي، وتزينتُ لك؟! فبكى سفيان حتى علا نحيبه، ثم قال: أحييتني؛ أحياك الله. [سير أعلام النبلاء](1/264)
وهذا خالد بن معدان الحِمصي، عالم أهل بلده في زمانه. قال صفوان بن عمرو: سمعتُه يقول: لقيتُ سبعين صحابيًا. وقال بحير: ما رأيتُ أحدًا ألزم للعلم منه، وكان علمه في مصحف له أزرار وعُرى. وقال صفوان: كان إذا عظمت حلقته قام خوف الشهرة. وقال سفيان الثوري: ما أُقدِّم على خالد بن معدان أحدًا. ويُروى أنه كان يُسَبِّح في اليوم سبعين ألف مرة. وعنه قال: لو كان للموت غاية تُعرف ما سبقني أحد إليه إلا بفضل قوة. [تذكرة الحفاظ]
دخل عبد الله بن محيريز دكانًا يريد أن يشتري ثوبًا، فقال رجل قد عرفه لصاحب الدكان: هذا ابن محيريز؛ فأحسِن بيعه! فغضب ابن محيريز، وطرح الثوب وقال: إنما نشتري بأموالنا، لسنا نشتري بديننا.
أخرج ابن أبي الدنيا في "المرض والكفارات" عن ابن المبارك، قال: عمل أبو الربيع مِقْنَعَة(1)؛ مكث فيها أيامًا يُحكِم صنعتها، حتى فرغ منها، فجاء بها إلى البزاز(2)، فألقاها إليه يبيعها، فأخرج فيها عيبًا وردها عليه؛ فقعد ناحية يبكي بكاء حارًّا..! فمر به أخوان له فقالوا: يا أبا الربيع! ما يبكيك؟ قال: لا تسألوني.. قالوا: وكيف لا نسألك وقد سمعنا بكاؤك؟! قال: إن هذه بيدي منذ كذا وكذا، لم آلُ أنْ أُحكِم صنعتها، فجئتُ بها إلى هذا البزاز؛ فأخرج عليّ فيها عيبًا، وضرب بها وجهي؛ فكم من عمل لي أرى أنه قد صح لي عند ربي عز وجل؛ غدًا يُخرِج عليّ عيوبه؛ يضرب به وجهي! قال: فقعدوا معه وجعلوا مأتما يبكون معه.
__________
(1) القِناع والمِقْنَعة ما تتَقَنَّعُ به المرأَة من ثوب تُغَطِّي رأْسَها ومحاسِنَها. (2) البزاز: بائع البَز أي الثياب.(1/265)
كان رجل يخرج في زي النساء، ويحضر كل موضع يجتمع فيه النساء من عرس أو مأتم.. فاتفق أنْ حضر يومًا موضعًا فيه مجمع للنساء، فسُرقَت دُرَّة فصاحوا أنْ: أغلقوا الباب حتى نفتش! فكانوا يفتشون واحدة.. واحدة.. حتى بلغت النوبة إلى الرجل وإلى امرأة معه.. فدعا الله تعالى بالإخلاص، وقال: إن نجوتُ مِن هذه الفضيحة لا أعود إلى مثل هذا! فوُجِدَت الدُّرة مع تلك المرأة؛ فصاحوا أنْ: أطلقوا الحرة فقد وجدنا الدُّرة!
قال إبراهيم بن الأشعث: سمعت "فضيلاً" ليلة وهو يقرأ سورة "محمد" ويبكي، ويردد هذه الآية: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ 4س®Lxm نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [محمد:31] وجعل يقول: (ونبلو أخباركم)، ويرددها، ويقول: وتبلو أخبارنا..؟! إن بلوتَ أخبارنا فضحتَنا، وهتكتَ أستارنا.. إن بلوتَ أخبارنا أهلكتَنا وعذبتَنا..
وسمعته يقول: تزينتَ للناس، وتصنعتَ لهم، وتهيأتَ لهم، ولم تزل ترائي حتى
عرفوك؛ فقالوا: رجل صالح.. فقضوا لك الحوائج، ووسعوا لك في المجلس، وعظَّموك..! خيبة لك..! ما أسوأ حالك؛ إن كان هذا شأنك!
وسمعته يقول: إنْ قدرتَ أنْ لا تُعرَف فافعل. وما عليك أن لا تُعرَف؟! وما عليك إنْ لم يُثنَ عليك؟! وما عليك أنْ تكون مذمومًا عند الناس إذا كنتَ عند الله محمودًا؟! [التوابين]
قال الحفاظ: رأينا الإمام أحمد نزل إلى سوق بغداد، فاشترى حزمة من الحطب، وجعلها على كتفه، فلما عرفه الناس، ترك أهل المتاجر متاجرهم، وتوقف المارة في طرقهم يسلمون عليه، ويقولون: نحمل عنك الحطب.. فهز يده، واحمر وجهه، ودمعت عيناه وقال: نحن قوم مساكين؛ لولا ستر الله لافتضحنا..!
ذكر ابن الجوزي في "صيد الخاطر" أن أبا عمرو بن نجيد سمع أبا عثمان المغربي يقول يومًا على المنبر: عليّ ألف دينار، وقد ضاق صدري. فمضى أبو عمرو إليه في الليل بألف دينار، وقال: اقضِ دَيْنَك.(1/266)
فلما عاد وصعد المنبر، قال: نشكر الله لأبي عمرو؛ فإنه أراح قلبي، وقضى ديني.. فقام أبو عمرو وقال: أيها الشيخ! ذلك المال كان لوالدتي، وقد شق عليها ما فعلتُ! فإن رأيتَ أن تتقدم برده فافعل!
فلما كان في الليل عاد إليه، وقال له: لماذا شهرتني بين الناس؟ أنا ما فعلت ذلك لأجل الخلق؛ فخذه ولا تذكرني!
ماتوا وغُيِّبَ في الترابِ شخوصُهم فالنشرُ مسكٌ والعظامُ رميمُ
بعد أن انتهت محنة "العز بن عبد السلام" مع الملك "الأشرف"، أراد الملك أنْ يسترضيه، فقال: "والله لأجعلنه أغنى العلماء"! ولكن العز لم يأبه لذلك، ولم ينتهز هذه الفرصة لمصالحه الشخصية، ولم يقبل درهمًا من الملك، بل رفض الاجتماع به لأمور شخصية.
ولما مرض الملك "الأشرف" مرض الموت وطلب الاجتماع به ليدعو له، ويقدم له النصيحة اعتبر "العز" ذلك قربة لله تعالى، وقال: نعم، إن هذه العبادة لمن أفضل العبادات، لما فيها من النفع المتعدي إن شاء الله تعالى. وذهب ودعا للسلطان لما في صلاحه مِن صلاح المسلمين والإسلام، وأمره بإزالة المنكرات، وطلب منه الملك العفو والصفح عما جرى في المحنة، قائلاً: يا عز الدين! اجعلني في حِلٍّ..! فقال الشيخ: أما محاللتك فإني كل ليلة أحالل الخلق، وأبيتُ وليس لي عند أحد مظلمة، وأرى أن يكون أجري على الله.. وفي نهاية الجلسة أطلق له السلطان ألف دينار مصرية؛ فردها عليه، وقال: هذه اجتماعة لله لا أكدرها بشيء من الدنيا.(1/267)
كان "أحمد بن محمد الخراساني النوري" صاحب "الجنيد" إذا رأى منكرًا غَيَّره؛ ولو كان فيه تلفه.. نزل يومًا فرأى زورقًا فيه ثلاثون دَنًّا، فقال للملاح: ما هذا؟ قال: ما يلزمك؟! فألح عليه، فقال: أنت والله كثير الفضول؛ هذا خمر للمعتضد -الخليفة العباسي-، قال: أعطني ذلك الْمِدْرَى(1)، فاغتاظ وقال لأجيره: ناوله حتى أبصر ما يصنع! فأخذه، ونزل فكسرها كلها غير دَنّ! فأُخِذ فأُدخل إلى "المعتضد"، فقال: مَن أنت.. ويلك؟! قال: محتسب..! قال: ومَن ولاك الحسبة؟ قال: الذي ولاك الإمامة يا أمير المؤمنين! فأطرق، وقال: ما حملك على فعلك؟ قال: شفقة مني عليك! قال: وكيف سلم هذا الدن؟ فذكر أنه كان يكسر الدنان ونفسه مخلصة خاشعة، فلما وصل إلى هذا الدن أعجبته نفسه؛ فارتاب فيها؛ فتركه. [نزهة الفضلاء / نقلاً عن موقع "التاريخ"]
عن علقمة بن مرثد قال: لما وُلِّي "عمر بن هبيرة" العراق أرسل إلى
__________
(1) قال ابن الأََثير: المِدْرَى والمِدْرَاةُ شيء يُعْمَل من حديد أَو خشب، على شكل سنّ مِن أَسْنان المُشْطِ، وأَطْولُ منه يُسَرَّحُ به الشَّعر المُتَلَبِّد، ويَستَعمله مَن لم يكن له مُشْط. وقال الليث: المِدْراةُ حديدة يُحَكُّ بها الرأْس، ويُقال: مِدْرىً بغير هاء، ويُشَبَّه قَرْنُ الثَّوْرِ به. والدَّنّ كهيئة الحُبّ، والجمع الدِّنان وهي الحِباب، وقيل الدَّنُّ أَصغر من الحُبّ. والحُبُّ الجَرَّةُ الضَّخْمةُ. وقال ابن دريد: هو الذي يُجْعَلُ فيه الماءُ، وهو فارِسيّ مُعَرّب. [لسان العرب](1/268)
الحسن وإلى الشعبي فقال: إن أمير المؤمنين "يزيد بن عبد الملك" يُنفِذ كتبًا أعرف أنَّ في إنفاذها الهلكة؛ فإنْ أطعتُهُ عصيتُ الله، وإنْ عصيتُه أطعتُ الله عز وجل.. فهل تريا لي في متابعتي إياه فرجًا؟ قال الحسن: يا أبا عمرو أجب الأمير.. فتكلم الشعبي، فانحط في حبل ابن هبيرة!! فقال: ما تقول أنتَ يا أبا سعيد؟ فقال: يا عمر بن هبيرة..! يوشك أنْ ينزل بك مَلَك من ملائكة الله تعالى فظ غليظ لا يعصي الله ما أمره، فيُخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك.. يا عمر بن هبيرة..! إنْ تتقِ الله يعصمْك مِن "يزيد بن عبد الملك"، ولا يعصمك "يزيد عبد الملك" من الله عز وجل.. يا عمر بن هبيرة..! لا تأمن أن ينظر الله إليك على أقبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبد الملك نظرة مقت؛ فيغلق بها باب المغفرة دونك.. يا عمر بن هبيرة..! لقد أدركتُ ناسًا من صدر هذه الأمة كانوا والله على الدنيا وهي مقبلة أشد إدبارًا من إقبالكم عليها وهي مدبرة.. يا عمر بن هبيرة..! إني أخوفك مقامًا خوفكه الله تعالى، فقال: { y7د9¨sŒ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } [إبراهيم: 14] يا عمر بن هبيرة..! إن تك مع الله تعالى في طاعته كفاك بائقة "يزيد بن عبد الملك"، وإن تك مع "يزيد بن عبد الملك" على معاصي الله وكلك الله إليه..
قال: فبكى عمر، وقام بعَبرته! فلما كان من الغد أرسل إليهما بجوائزهما، وكثر منه ما للحسن، وكان في جائزته للشعبي بعض الإقتار! فخرج "الشعبي" إلى المسجد، فقال: يا أيها الناس مَن استطاع منكم أنْ يؤثر الله تعالى على خلقه؛ فليفعل.. فوالذي نفسي بيده، ما علم "الحسن" منه شيئًا فجهلتُه، ولكن أردتُ وجه "ابن هبيرة"؛ فأقصاني الله منه!! [حلية الأولياء]
فاجعلْ رِضَا اللهِ كلَّ القَصدِ تنْجُو؛ فَمَا
هلْ يَبسطونَ لِمَا القهارُ قابِضُهُڑڑيُغني رِضَا الخَلْقِ والخَلاقُ قد سخطا
أوْ يَقْبِضونَ إذا الرحمنُ قد بَسَطَا(1/269)
قال الحافظ الذهبي عند ترجمة الإمام "الماوردي": قال عنه القاضي شمس الدين في "وفيات الأعيان": مَن طالع كتاب "الحاوي" له؛ يشهد له بالتبحر، وقد وُلي قضاء بلاد كثيرة، وله تفسير القرآن سماه "النكت"، و"أدب الدنيا والدين"، و"الأحكام السلطانية"، وغيرها.. وقيل: إنه لم يُظهر شيئًا من تصانيفه في حياته، وجمعها في موضع، فلما دنت وفاته قال لمن يثق به: الكتب التي في المكان الفلاني كلها تصنيفي، وإنما لم أُظهرها؛ لأني لم أجد نية خالصة! فإذا عاينتُ الموت، ووقعتُ في النزع؛ فاجعل يدك في يدي.. فإنْ قبضتُ عليها وعصرتُها؛ فاعلم أنه لم يُقبَل مني شيء منها! فاعمد إلى الكتب، وألقها في دجلة! وإنْ بسطتُ يدي؛ فاعلم أنها قُبِلَت.. قال الرجل: فلما احتُضر وضعتُ يدي في يده؛ فبسطها؛ فأظهرتُ كتبه. [سير أعلام النبلاء]
وهذا "سعد الرشود" أحد المجاهدين العرب في "أفغانستان"، يقول عنه د. عبد الله عزام: [قلت له: يا سعد.. ألا نأتيك بأهلك هنا؟ قال: دعهم يشاركوننا الجهاد في الصبر على فراقنا. قلت: ألا ترسل لهم بعض ما يقتاتون منه؟ قال: عندهم ما يكفيهم، ونحن لانريد أن يتوسعوا. ثم استدرك وقال: يا شيخ عبد الله.. والله لي ثلاث بنات قد نسيت صورهن!
رأيت ذات ليلة ابنتي في المنام تداعبني وتدغدغني بلثغتها الحنون، مال إليها قلبي، فانتفضت من نومي مذعورًا، وتفلت على شمالي ثلاث مرات، ثم قلت: هذه
البنت تريد أن ترجعني إلي حياة اللهو مرة أخري!!
وبعد فترة استشهد "سعد الرشود"، وفتحنا وصيته، وإذا بها ورقة صغيرة: "أستحلفكم بالله لا أسمح أنْ تكتبوا عني حرفًا واحدًا لا في مجلة "الجهاد"، ولا في "البنيان المرصوص"، ولا في أي مكان".] [قصص وأحداث: د. عبد الله عزام (بتصرف يسير)](1/270)
وُلِد "حامد آقصر أيلي" في مدينة "قيصري"، وسافر في طلب العلم إلى بلاد "الشام" و"تبريز"، ووصل إلى "أدربيل" وهي مدينة في شمالي غرب "إيران" اشتهرت بمكتبتها الكبيرة، وعاشت فترة من الازدهار الثقافي. وهناك التقى العالم الكبير "علاء الدين الأردبيلي" ولازمه، وبقي في خدمته سنوات عديدة؛ فنهل من علمه ودرج مثله في مدارج التصوف والزهد.. ثم رجع وسكن في مدينة "بورصة"، وكانت آنذاك عاصمة الدولة العثمانية، وكان ذلك في عهد السلطان "بايزيد الأول".
قضى "حامد" سنوات عديدة من عمره في مدينة "بورصة" يخبز الخبز (الصمون) في فرنه المتواضع في البيت، ثم يضعه في سلة كبيرة يحملها على ظهره، ويمشي في الأسواق وفي الأزقة، وما إن يراه الصبيان حتى يهتفوا: جاء "صمونجي بابا".. جاء "صمونجي بابا".. وسرعان ما يجتمعون حوله، ويبتاعون منه الخبز.. كان جميع أطفال وصبيان وأهالي "بورصة" يحبونه؛ فوجهه نوراني، وهو بشوش يحب الأطفال ويلاطفهم، وخبزه حار ولذيذ ونظيف.
وعندما بدأ السلطان "بايزيد" ببناء الجامع الكبير اعتاد عمال البناء شراء الخبز من "صمونجي بابا".. وبعدما اكتمل بناء هذا الجامع الذي يُعد آية من آيات العمارة الإسلامية، وتُعد الآيات الكريمة التي تزينه آية في فن الخط، تقرر افتتاحه بصلاة الجمعة.
وفي يوم الجمعة حضر السلطان "بايزيد الأول" إلى الجامع مع الوزراء والعلماء، وجمع وفير من أهالي "بورصة" حتى امتلأ هذا الجامع الكبير على سعته، وعندما حان وقت الخطبة، التفت السلطان إلى العالم الكبير "أمير سلطان" وكلفه بإلقاء الخطبة.(1/271)
وقف "أمير سلطان" قرب المنبر، وبدأ يجول ببصره في الحضور، وكأنه يفتش عن أحدهم..! أجل.. كان يفتش عن "صمونجي بابا"؛ فهو يعرف قدره وعلمه، وإنْ جهله الناس الذين اعتقدوا أنه ليس إلا رجلاً طيبًا يبيع الخبز..! وأخيرًا وقع بصره عليه، ثم قال بصوت سمعه كل الحضور؛ وهو يشير بيده إليه: ليس في هذا الجامع مَن هو أحق مِن هذا الرجل من إلقاء هذه الخطبة!
دهش الحاضرون من هذا الكلام، وبدأوا يتطلعون إلى الجهة التي أشار إليها العالم "أمير سلطان"، وأحس "صمونجي بابا" بحرج شديد؛ فقد كان يكتم أمره عن الناس طوال هذه السنوات، فلا يعرفون عنه إلا أنه بائع خبز..! وها هو "أمير سلطان" يفاجئه فيكشف أمره للناس..!
قام من مكانه مضطرًّا واتجه إلى المنبر؛ والأنظار مصوبة إليه.. وقبل أن يصعد إلى المنبر مال على أذن "أمير سلطان" وهمس له معاتبًا: ماذا فعلت يا أخي؟! لقد كشفتني أمام الناس جميعًا..! فأجابه "أمير سلطان" بالهمس نفسه: أنت الأجدر بإلقاء هذه الخطبة يا أخي.
صعد العالِم المتخفي على المنبر، وبعد أن حمد الله وأثنى عليه، قرأ سورة "الفاتحة"، وبدأ بتفسير معانيها الكبيرة من سبعة أوجه، وكانت خطبة وتفسيرًا رائعًا أخذ بمجامع قلوب الحاضرين.
ولم يُخْفِ العالم الكبير المعروف "ملا فناري" إعجابه، فقال فيما بعد لأصدقائه: لقد شاهدنا عظمة هذا الرجل، وتبحره في العلم وفي التفسير، فالتفسير الأول للفاتحة فهمه الجميع، والتفسير الثاني فهمه البعض، والتفسير الثالث فهمه القلة والخواص فقط، أما التفسير الرابع والخامس والسادس والسابع فقد كان فوق طاقة إدراكنا..!(1/272)
وانتشر الخبر في أرجاء العاصمة "بورصة" بسرعة، وعرف الجميع حقيقة هذا الرجل المتواضع الفقير، الذي يحمل سلة الخبز على ظهره، ويتجول في الأسواق والأزقة، ويتلاطف مع الأطفال والصبيان.. عرفوا أنه عالم كبير، وولي من أولياء الله، وانتظروا رؤيته؛ لكي يقبلوا يديه ويسألوه الدعاء.. ولكنهم لم يروه! أجل.. لم يروه بعد تلك الخطبة؛ لقد رحل هذا الولي عن "بورصة" بعد أن تكشف أمره، ورحل إلى مدينة أخرى لا يعرفه الناس فيها.. مات -رحمه الله- في مدينة "آق صراي"، ودُفن فيها. [روائع من التاريخ العثماني لأورخان محمد علي / نقلاً عن موقع "التاريخ" (بتصرف)]
فيا عباد الله..
هؤلاء هم المخلصون؛ الذين إذا رءوا ذُكر الله.. وإذا تكلموا كان كلامهم لعز الإسلام، ونجاة النفوس وصلاحها؛ لا لعز النفوس وطلب الدنيا وقبول الخلق.. وكانوا لعملهم مُتَّهِمين، ولسبيل أسلافهم مُتَّبِعين، وبكتاب الله وسنة نبيهم متمسكين.. الخشوع لباسهم، والورع زينتهم، والخشية حليتهم.. كلامهم الذكر، وصمتهم الفكر.. نصيحتهم للناس مبذولة، وشرورهم عنهم مخزونة، وعيوب الناس عندهم مدفونة.. وَرَّثوا جلّاسهم الزهد في الدنيا لإعراضهم وإدبارهم عنها.. ورَغَّبوهم في الآخرة لإقبالهم وحرصهم عليها..
- - -
عاجل بشرى المسلم :
يقول فضيلة الشيخ/ محمد حسان: إذا عمل العبد عملاً يُبتغَى به وجهُ الله، وتضرع إلى الله أنْ يرزقه فيه الإخلاص، ثم أثنى الناس عليه خيرًا، وجعل الله له الثناء الحسن على ألسنة الصادقين مِن عباده، وجعل الله له المكانة الطيبة فى قلوب المخلصين مِن عباده وأوليائه؛ فليستبشر خيرًا..
ففي صحيح مسلم عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قلتُ يارسول الله: أرأيتَ الرجل يعمل العمل مِن الخير ويحمده الناس؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "تلك عاجلُ بشرى المسلمِ".(1/273)
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - [أخبر في هذا الحديث أن آثار الأعمال المحمودة المعجلة من البشرى؛ فإن الله وعد أولياءه -وهم المؤمنون المتقون- بالبشرى في هذه الحياة وفي الآخرة.
و"البشارة" الخبر أو الأمر السار الذي يَعرف به العبد حسن عاقبته، وأنه من أهل السعادة، وأن عمله مقبول.
أما في الآخرة فهي البشارة برضى الله وثوابه، والنجاة من غضبه وعقابه، عند الموت، وفي القبر، وعند القيام إلى البعث، يبعث الله لعبده المؤمن في تلك المواضع بالبشرى على يدي الملائكة، كما تكاثرت بذلك نصوص الكتاب والسنة، وهي معروفة.
وأما البشارة في الدنيا التي يجعلها الله للمؤمنين؛ نموذجًا وتعجيلاً لفضله، وتعرفًا لهم بذلك، وتنشيطًا لهم على الأعمال.. فأعمُّها توفيقه لهم للخير، وعصمته لهم من الشر، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة". فإذا كان العبد يجد أعمال الخير ميسرة له، مسهلة عليه، ويجد نفسه محفوظًا بحفظ الله عن الأعمال التي تضره، كان هذا من البشرى التي يستدل بها المؤمن على عاقبة أمره، فإن الله أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين. وإذا ابتدأ عبده بالإحسان أتمه.
فأعظم منة وإحسان يمن به عليه إحسانه الديني، فيُسَر المؤمن بذلك أكمل سرور: سرور بمنة الله عليه بأعمال الخير، وتيسيرها؛ لأن أعظم علامات الإيمان محبة الخير، والرغبة فيه، والسرور بفعله. وسرور ثانٍ بطمعه الشديد في إتمام الله نعمته عليه، ودوام فضله.
ومن ذلك ما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: إذا عمل العبد عملا من أعمال الخير -وخصوصًا الآثار الصالحة والمشاريع الخيرية العامة النفع-، وترتب على ذلك محبة الناس له، وثناؤهم عليه، ودعاؤهم له.. كان هذا من البشرى أن هذا العمل من الأعمال المقبولة، التي جعل الله فيها خيرًا وبركة.(1/274)
ومن البشرى في الحياة الدنيا، محبة المؤمنين للعبد لقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا دM"ysد="¢ء9$# سَيَجْعَلُ لَهُمُ ك`"uH÷qچ9$# وُدًّا } [مريم: 96]، أي محبة منه لهم، وتحبيبًا لهم في قلوب العباد. ومن ذلك الثناء الحسن، فإن كثرة ثناء المؤمنين على العبد شهادة منهم له. والمؤمنون شهداء الله في أرضه.
ومن ذلك الرؤيا الصالحة يراها المؤمن، أو تُرى له، فإن الرؤيا الصالحة من المبشرات.
ومن البشرى أن يقدر الله على العبد تقديرًا يحبه أو يكرهه. ويجعل ذلك التقدير وسيلة إلى إصلاح دينه، وسلامته من الشر.
وأنواع ألطاف الباري سبحانه لا تُعَد ولا تُحصى، ولا تخطر بالبال، ولا تدور في الخيال. والله أعلم.] [بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار]
قال ابن القيم: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية -قدس الله روحه- يقول: إذا لم تجد للعمل حلاوة في قلبك وانشراحًا فاتهمه، فإن الرب تعالى شكور.
يعني: أنه لا بد أن يثيب العامل على عمله في الدنيا من حلاوة يجدها في قلبه، وقوة انشراح وقرة عين، فحيث لم يجد ذلك فعمله مدخول.
وروى البزار في صحيح الجامع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِن عبدٍ إلا وله صِيتٌ في السماءِ، فإنْ كان صِيتُهُ في السماءِ حسنًا وُضعَ في الأرضِ، وإنْ كان صِيتُهُ في السماءِ سيئًا وُضعَ في الأرضِ". [صححه الألباني](1/275)
وفي الصحيحين عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنّ اللهَ إذا أحبَّ عبدًا دعا جبريلَ، فقال: إني أحبُّ فلانًا فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي فى السماء فيقول: إن اللهَ يحبُّ فلانًا فأحبوه، فيحبُّه أهلُ السماءِ. ثم يُوضَعُ له القبولُ في الأرضِ. وإذا أبغضَ عبدًا دعا جبريلَ فيقولُ: إني أبغضُ فلانًا فأبغضه، قال: فيبغضُهُ جبريلُ، ثم ينادي أهلَ السماءِ: إنَّ اللهَ يُبغضُ فلانًا فأبغضوه. ثم تُوضَعُ لهُ البغضاءُ في الأرضِ".
قال ابن القيم: وقد جرت عادة الله التي لا تتبدل، وسنته التي لا تتحول؛ أن يُلبس المخلِص من المهابة والنور والمحبة في قلوب الخلق، وإقبال قلوبهم إليه؛ ما هو بحسب إخلاصه ونيته ومعاملته لربه.. ويُلبس المرائي ثوبي الزور من المقت والمهانة والبغض، وما هو اللائق به..
ربَّاهُ هأنذا خلصتُ مِنَ الهوى
وتركتُ أُنسي بالحياةِ ولهوِها
ونَسِيتُ حُبي واعتزلتُ أحبتي
ذُقتُ الهوى مُرًّا ولم أذُقِ الهوى
أنا كنتُ ياربي أسيرَ غِشاوَةٍ
واليومَ ياربي مَسَحْتَ غِشاوتيڑڑواستقبلَ القلبُ الخَلِيُّ هواكا
ولَقِيتُ كُلَّ الأُنسِ في نَجواكا
ونَسِيتُ نفسي خوفَ أنْ أنساكا
ياربِّ حُلوًا قبلَ أنْ أهواكا
رانَتْ على قلبي فَضَلَّ سَنَاكا
وبدأتُ بالقلبِ البصيرِ أراكا
ٹڑ
ڑملخص مقدمة فضيلة الشيخ/ أحمد المحلاوي
بين يدي الكتاب
الهول الخامس: الوقوف بين يدي الله للحساب
اقترب للناس حسابهم
وكلهم آتيه يوم القيامة فردا
ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين
ليس بينك وبين الله ترجمان
أتعرف ذنب كذا..؟
لم شهدتم علينا..؟
فوربك لنسألنهم أجمعين:
يُسأل العباد عن أعمالهم
ويُسألون عن أربع..
… ويُسألون عن السمع والبصر والفؤاد
… ويُسألون عن العهود
… ويُسألون عن النعيم
… وكلكم مسئول عن رعيته
أول ما يحاسب عليه المرء
الصلاة عماد الدين، وغُرة الطاعات
لا حَظَّ لأحد في الإسلام أضاع الصلاة(1/276)
لا أجد لك رُخصة . .!
أقباس نورانية من حرص السلف على صلاة الجماعة
أول مَن يُحاسب
أنا لم أعد أسعى لغير رضاكَ
وكيف نتقيه..؟؟
بشريات السلامة من الحساب
أولا: حاسبوا أنفسكم
من حضر عند السؤال جوابه؛ حسن منقلبه ومآبه
من بديع أقوالهم في المحاسبة
محاسبة النفس نوعان:
محاسبة النفس قبل العمل
محاسبة النفس بعد العمل
حقيقة المحاسبة بعد العمل
فوائد محاسبة النفس
أقباس نورانية من سيرة السلف في محاسبة النفس
ثانيا: سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب
وهؤلاء السبعون ألفًا صفاتهم هي:
لا يَسترقون
ولا يتطيرون
ولا يكتوون
وعلى ربهم يتوكلون
ومن يتوكل على الله فهو حسبه
وتوكل على الحي الذي لا يموت
إليكَ وجهتُ يا مولاي آمالي
من بديع أقوالهم في التوكل
حسبنا الله ونعم الوكيل
اللهم إني أستخيرك بعلمك
أقباس نورانية من أخبار المتوكلين
ثالثا: الصلاة
واصطبر عليها
يمحو الله بهن الخطايا
أرحنا بها.. إن كنتَ حقًّا مصليًا
واسجد.. واقترب
لا ينصرف القلب إلى الله إلا بالانصراف عما سواه
وأقم الصلاة لذكري
إذا خشع قلبُك وحضر.. انطرد وسواسك
من صفات القلوب تصاغ الصور في الدار الآخرة
إن قرآن الفجر كان مشهودا
منح وعطايا ربانية خص الله بها الذين يحرصون على صلاة الفجر
أقباس نورانية من سيرة السلف
رابعا: الإخلاص
فاعبد الله مخلصا له الدين
يا مالك الأملاك أنت المقصد
يا نفسُ.. أخلِصي تتخلصي
إليه وإلا لا تُشَد الركائب
من بديع أقوالهم في الإخلاص
علامات الإخلاص
استواء المدح والذم
نسيان العمل بعد عمله
إخفاء ما يمكن إخفاؤه من الطاعات
اتهام النفس
أقباس نورانية من أخبار المخلصين
عاجل بشرى المسلم
تم بحمد الله
Oٹڑ
ترقبوا(1/277)