بِشَارَةُ الشَّبَابِ
بِمَا جَاءَ فِي غَضِّ البَصَرِ مِن الثَّوَابِ
بقلم :
أبُي الحَسَنَاتِ الدِمَشقِيِّ
???? ????
إنَّ الحَمدَ للهَ نَحمَدُه وَنَستَعِينُهُ وَنَستَغفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِن شُرُورِ أنفُسِنَا وَمِن سَيِئَاتِ أعمَالِنَا، مَن يَهدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَن يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأشهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللهَ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأشهَدُ أنَّ مُحَمَّدَاً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ.وبَعدُ،
فإنَّ هذا الزمان الذي نعيشُ فيه، زمانٌ كثُرت فيه الشرور والفتن، وَزادت فيه البَلايا والمِحَن، أمَا وقَد كانَ الحالُ كذلِكَ، فَليسَ لنا إلا أن نعتَصِمَ بحبلِ الله تعالى، ونتمسَّك بِه، فنتبعَ أمرَهُ ونجتنِبَ نهيَهُ .
وإنَّ من أفضلِ ما يُعين عَلى فعل ما أمرنا الله به واجتنابِ ما نهانا الله عنهُ؛ مَعرفةُ فضلِ المأمور وثوابِهِ، ومعرفةُ ضَررِ المنهيِّ وعِقابه، والمداومة على تَذكُّر ذلك واستحضَارِه .
ومِن هَذَا البَابِ، جمَعتُ هذه الرِّسَالةَ، تذكرةً لإخواني الشَّبابَ ، ونصيحةً لهم، في أمر هامٍ مِن أمور دِينِهم، وهو غَضُّ البَصَرِ، موليس قَصدِي مِن هَذِه الرِّسَالةِ بَيانُ تَفاصِيلِ أحكَامِ النَّظَرِ، وإنَّمَا أردتُ بِهَا أن أُذكِّر إخوانِي الشَّبابَ بِهذِه الفَريضَةِ، وأبيِّنَ لهم فَوائِدَها وَمنزِلَتَها في الشرعِ، وأسميتها :
" بِشَارَةُ الشَّبَابِ بِمَا جَاءَ فِي غَضِّ البَصَرِ مِن الثَّوَابِ "(1/1)
وخَصَصتُ الشَّبابَ بهذه الرسالة، لأنَّ الشَّباب هم المعرَّضون للفتنة أكثَرَ مَّمَن سِوَاهُم، وما أحسنَ وصفَ الإمامِ أبِي الفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى لمَرحَلَةِ الشَّبابِ حِينَ قَالَ في "تنبيهِ النائِم الغَمْرِ عَلى مَواسِمِ العُمرِ":"وهذا هو الموسم الأعظم ُالذي يقعُ فيه الجهادُ للنَّفسِ والهوَى وغلبةِ الشَّيطَانِ، وبصيانَتهِ يحصُلُ القُربُ مِن اللهِ تَعالى، وبالتفريطِ فيه يقعُ الخُسرانُ العَظيمُ، وبالصبرِ فيه على الزللِ يُثنَى على الصَّابِرينَ كما أثنَى اللهُ عَزَّ وجَلَّ عَلى يُوسُفَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إذ لو زلَّ مَن كانَ يَكونُ ؟ ". ثُمَّ ذكر حديث النبيِّ ?: "عَجِبَ ربك من شابٍّ ليسَت لهُ صَبوةٌ". وهو حديثٌ حسنٌ أخرجُهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بنُ حَنبَلٍ والإمامُ أبُو القَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ رَحِمَهُما الله تَعَالَى. ثُمََّ قَالَ بعدَ ذلكَ: "وكان خلقٌ كثيرٌ يتأسَّفونَ في حال الكِبَرِ على تضييعِ موسمِ الشَّباب ويبكُونَ عَلَى التفريطِ فِيهِ، فليُطِلِ القيام من سيقعُد، وليُكثر الصِّيامَ مَن سيَعجزَ.
والناسُ ثلاثةٌ :من ابتَكَر عُمرَهُ بالخيرِ ودامَ عليهِ، فذلكَ منَ الفائِزينَ، وَمَن خلَّطَ وقصَّرَ فَذلِكَ مِن الخَاسِرينَ، وَمَن صاحبَ التفريطَ والمعاصِي فذلِكَ مِن الهالِكينَ .
فليَنظُرِ الشابُّ في أيِّ مقام هوَ، فليس لمقامه مِثْلٌ، وليتلمَّح ثمنَ بضاعته وشرفَها المُستَوفَى، فالصَّبرَ الصَّبرَ، فإنَّ الساعيَ يَصبِرُ على النِّكَاحِ مع كونِهِ شابَّاً شديد الشَّبَقِ فيُقَال له: أحسنتَ!، فَليصبِر الشّابُ ليُقَالُ لهُ: ? هَذَا يومُكُمُ الذِي كُنتُم تُوعَدُونَ ? [الأنبياء :103 ] .(1/2)
وليَحذَر زَلَلَهُ في الشَّبابِ، فإنها كعيبٍ قبيحٍ في سلعةٍ مُستحسنةٍ، ومن زَلَّ في الشَّبابِ فلينظرْ أين لذَّتهُا؟! وهل بقي إلا حَسرتُها الدَّائِمةُ التي كُلَّما خَطَرَت له تألَّمَ، فصارَ ذكرُها عقوبةً.
وكان بعض السَّلفِ رَحمِهُ الله يقولُ: وددتُ أنَّ يديَّ قُطِعَتا، وغُفرَ لي من ذُنوبِ الشَّبابِ".
هَذَا، وأَنَا سَائِلٌ أخاً انْتَفعَ بِشيءٍ مِنْ هذه الرسَالةِ أنْ يخُصَّني بالدُّعاءِ، وأن يَدعوَ لوَالِدَيَّ، وَمَشَايخي، وَسَائِرِ أَحْبَابِي، وَالمُسْلِمِينَ أجْمَعِينَ .
وعَلَى اللهِ الكَريمِ اعْتِمادي، وَإِلَيْهِ تَفْويضي وَاسْتِنَادي، وَحَسبِيَ اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ .
فَصلٌ
في بيانِ خُطورةِ فِتنةِ النِّسَاءِ:
قَالَ َتَعَالَى : ? زُيِّنَ للنَّاسِ حُبُّ الشَهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينِ ? الآية [ آل عمرن : 14 ] . قَالَ الْحَسَنُ البَصريُّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى في تفسير هذه الآية: " زُيِّنَ أي: زَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ" . أخرَجَهُ الإمام عبدُ الرَّحمنِ ابنُ أبي حَاتمٍ رَحِمَهُما الله تَعَالَى .
وقَالَ َتَعَالَى : ? وخُلقَ الإنسَانُ ضَعِيفَاً ? [ النساء : 14 ] . قال طَاوسُ بنُ كيسَانَ رَحِمَهُ الله تَعَالَى في تفسير هذه الآية: "أيْ: ضَعِيفَاً في أمرِ النِّسَاءِ، ليسَ يكونُ الإنسانُ في شيءٍ أضعفَ منهُ في النِّسَاءِ". أخرَجَهُ الإمامُ محمدٌ بنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ الله تَعَالَى وابنُ أبي حَاتمٍ وغيرُهما .
وَأَخْرَجَ الإمَامَانِ أبُو عَبدِ اللهِ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو الحُسَيْنِ مُسْلمُ بْنُ الحَجَّاجِ الْقُشَيريُّ رَحِمَهُما الله تَعَالَى عَنِ النَّبِىِّ ? قَالَ: "مَا تَرَكْتُ بَعْدِى فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ" .(1/3)
وَأَخْرَجَ مُسْلمٌ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ عَنِ النَّبِىِّ ? قَالَ:" إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا، وَاتَّقُوا النِّسَاءَ، فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِى إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِى النِّسَاءِ".
وَأَخْرَجَ الإمامُ أبو بكرٍ ابن أبي شَيبَةَ رَحِمَهُ الله تَعَالَى عَن ابنِ عَبَّاسٍ ( قالَ: لم يكُن كُفرُ من مَضَى إلا مِن قِبَلِ النِّسَاءِ، وَهُو كائنٌ كفرَ من بَقيَ مِن قِبَلِ النِّساءِ".
وَأَخْرَجَ عن أبي صالحٍ رَحِمَهُ الله تَعَالَى قالَ: "بَلغني أنَّ أكثرَ ذنوبِ أهلِ الجَنَّةِ في النِّساءِ".
وَفي "صِفةِ الصَّفوَةِ ": عَن عَليِّ بنِ زَيدٍ عَن سَعيدِ بنِ المُسَيِّبِ رَحِمَهُ الله تَعَالَى قَالَ: "مَا يَئِسَ الشَّيْطَانُ مِنَ شَيءٍ إلا أتَاهُ مِن قِبَلِ النِّسَاءِ" .
وَقَالَ لَنَا سَعيدٌ وَهُو ابنُ أربَعٍ وَثمانينَ سَنَةً وَقَدْ ذَهَبتْ إحدَى عَينَيّهِ وَهُوَ يَعشُو بِالأُخرَى:"مَا مِن شَيءٍ أخوَفُ عِندِي مِنَ النِّسَاءِ !".(1/4)
وَقالَ الشيخُ أبو القاسمِ الأصفَهَانِيُّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى في كتابهِ "الذَّريعَةُ إلى مكارمِ الشَّريعَةِ" بعدَ أن ذَكَرَ قُوَى الإنسانِ الثلاثِ: القوَّةُ الفِكريَّةُ، والقُوَّةُ الغَضَبِيَّةُ، والقُوَّةُ الشَّهَوِيَّةُ : "أصعبُ هَذِه القُوَى الثلاثُ مُداوَمةُ قَمعِ الشَّهوةِ، لأنَّها أقدمُ القُوى وجُوداً في الإنسانِ، وأشَدُّها به تَشبُّثَاً، وأكثرُهَا منهُ تمكُّنَاً، فإنَّها تُولدُ مَعَهُ، وتُوجدُ فيه وفي الحيوانِ الذي هو جِنسُه، بل في النَّباتِ الذي هُو جنسُ جنسهِ، ولا يصيرُ الإنسانُ خارجاً من جُملةِ البهائمِ وأسرِ الهَوى، إلا بإماتةِ الشَّهوةِ البَهِيمِيَّةِ لو بِقهرها وقَمعِها، إن لم يُمكنُه إماتتُه إيَّاها، فهي التي تَضرُّه وتغرُّه وتصرِفُه عن طَريقِ الآخرةِ.
وَمتى قَمعها أو أماتها صَار الإنسانُ حُراً نقياً بل يصيرُ إلهيَّاً ربانيَّاً، فتقلُّ حاجاتهُ ويصيرُ غنيَّاًً عمَّا في يدِ غيرهِ، وسخيَّاً بما في يدهِ ، ومُحسنَاً في مُعاملاتِه .
فإن قيلَ: فإذا كانت الشَّهوةُ بهذه المثابةِ في الإضرارِ، فأيُّ حكمةٍ اقتضت أن يبُلى بها الإنسانُ ؟(1/5)
قيل: الشَّهوةُ إنَّما تكونُ مَذمومةٌ إذا كانت مُفرَطة، وأهملها صاحبُها حتى ملكت عليه الهوَى، فإذا ما أُدِّبَت فهي المُبلِّغةُ إلى السَّعادةِ وجوار ربِّ العزَّةِ، حتى لو تُصُوِرَت مُرتفعِةً لما أمكن الوصولُ إلى الآخرةِ، وذاك أنَّ الوصوُل إلى الآخرةِ بالعبادةِ، ولا سَبِيلَ إلى العبادةِ إلا بالحياة الدُنيويَّةِ، ولا سَبِيلَ إلى الحياة الدنيويَّةِ إلا بحفظِ البدنِ، ولا سَبِيلَ إلى حفظِ البدنِ إلا بإعادةِ مَا يَتَحَلَّلُ مِنهُ، ولا سَبِيلَ إلى إعادةِ مَا يَتَحَلَّلُ مِنهُ إلا بتناولِ الأغذيةِ، ولا يُمكنُ تناولُ الأغذيةِ إلا بالشَّهوةِ، فإذن: الشَّهوةُ مُحتاجٌ إليهَا، ومرغوبٌ فيها، وتقتضي الحكمةُ الإلهيَّةُ إيجادَها وتزيينَها كما قالَ تعَالَى : ? زُيِّنَ للنَّاسِ حُبُّ الشَهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينِ ? الآية [ آل عمرن : 14 ]،لكنَّ مَثلهَا مثَلُ عدوٍّ تُخشَى مَضرَّتُهُ من وجهٍ، وتُرجى منفعتُه من وجهٍ، ومع عداوتهِ لا يُستغنى عن الاستعانةِ به، فحقُّ العاقلِ أن يأخذَ نفعَهُ، ولا يسكنَ إليهِ، ولا يعتمدَ عليه إلا بقدر ما يَنتفعُ بهِ .
وأ يضاً، فإن هذه الشَّهوةَ هي المشوِّقةُ لعامَّة النَّاسِ إلى لذَّاتِ الجنَّةِ، من المأكلِ والمشربِ والمَنكَحِ، إذ ليس كُلُّ النَّاسِ يعرفُ اللَّذَّاتِ المعقولةِ، ولو توهمنَاها مُرتفعةً لما تشوَّقُوا إلى ما وُعدُوا بهِ".
فَصلٌ
في معنى غَضِّ البَصَرِ و حُكمِهُ :
أمَّا معنى الغضِّ: فَمادَّةُ الغضِّ تُفيدُ مَعنَى الخفضِ والنَّقصِ، فغَضُّ البَصَرِ ِ:هُو عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ التَّحْدِيقِ وَاسْتِيفَاءِ النَّظَرِ، فَتَارَةً يَكُونُ ذَلِكَ لِأَنَّ فِي الطَّرْفِ كَسْراً وَفُتُوراً خِلْقِيَّيْنِ، وَهُوَ الْمُرَادُ فِي قَولِ كَعْبٍ بنِ زُهيرٍ:
وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ البينِ إذ رَحَلُوام 1
إلا أغنُّ غَضِيضُ الطَّرفِ مَكحُولُ 1(1/6)
كما أنه َيكونُ تَارةً من مَذَلَّةٍ كَمَا قَالَ جَريرٌ :
فَغُضَّ الطَّرفَ إنَّكَ مِن نُمَيرٍ ي م
فَلا كَعبَاً بَلغتَ وَلا كِلابَاً 1
ويَكُونُ َتَارَةً لِقَصْدِ الْكَفِّ عَنْ التَّأَمُّلِ حَيَاءً أو خجلاً مِنْ الخَلقِ كما قال عَنتَرَةُ:
وَأغُضُّ طَرفِي حِينَ تَبدُو جَارَتِي 1 م
حَتى يُوَارِي جَارَتِي مَأواهَا 1
وهَذِه المَعانِي كُلُّهَا غُيرُ مَقصُودَةٍ هنَُا، وإنمَّا المقصُودُ: غَضُّ البَصَرِ خَوفَاً مِنَ اللهِ تَعَالى وَعِقَابِهِ، وَامتِثَالاً لأمرِِهِِ .
فَمِن المَعلُومِ مِن الدِّينِ ضَرُورةً أنَّ الشَرعَ أمَرَ بِحفظِ الفُروجِ وَحرَّم الزنا، بَل إنَّ ذَلكَ مِن أعظَمِ مَقَاصِدِهِ، وَالأمرُ بحفظِ الفُروجِ يَتضمَّنُ الأمرَ بحفظِ الأبصَارِ لأنَّ النظرَ بَريدُ الزنا وَرَائِدُه، فَيكُونُ غَضُّ البَصَرِ مِن بَابِ سدِّ الذريعِةِ، وَلكِنَّ اللهَ تَعَالى أمرَ بِغَضِّ البَصَر تصريحاً زيادةً في الاهتمَامِ والزَّجرِ .
وَقد دَلَّ الكِتابُ وَالسُنَّةُ وَالإجمَاعُ عَلى ذَلكَ، أمَّا الكِتَابُ فَقولُه تعالى: ? قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُم إنَّ اللهَ خبيرُ بمَِا يَصنَعُونَ ? الآية [ النور : 30 ].
وإما السُنَّة : فقد أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عن أَبي سعيد الخُدري ( ، عن النَّبيّ ? ، قَالَ : "إيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ في الطُّرُقَاتِ ! " فقالوا: يَا رَسُول الله، مَا لنا مِنْ مجالِسِنا بُدٌّ، نتحدث فِيهَا . فَقَالَ رسولُ الله ? :" فَإذَا أبَيْتُمْ إلاَّ المَجْلِسَ، فَأَعْطُوا الطَّريقَ حَقَّهُ ". قالوا : وما حَقُّ الطَّريقِ يَا رسولَ الله ؟ قَالَ :"غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلامِ، وَالأمْرُ بِالمَعْرُوفِ، والنَّهيُ عن المُنْكَرِ" .(1/7)
وأمَّا الإجمَاعُ فَقَد حَكَاهُ غيرُ واحدٍ مِن أهلِ العلم، قال الإمام أبو مُحَمَّدٍ ابنُ حَزمٍ رَحِمَهُ الله تَعَالَى في "مراتب الإجماع ": "واتَّفَقُوا على وُجُوب غَضِّ البَصَرِ عَن غَيرِ الحَريمَةِ والزَّوجَةِ والأمَةِ، إلا من أراد نِكاحَ امرأةٍ حلَّ لهُ أنْ ينظُرَهَا" .
وقال الإمَامُ أبو بكرٍ بنُ عَبدِ اللهِ العَامِريُّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى في "رِسَالتِه في أحكَامِ النَّظر ": "إنَّ الذي أجمعتْ عليه الأُمَّةُ، واتَّفَقَ عليهِ عُلماءُ السَّلفِ وَالخلفِ مِن الفُقَهاءِ والأئمَّةِ: هُو نَظَرُ الأجانِبِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بَعضُهُم إلى بَعضٍ ، وَهُم مَن لَيسَ بينَهُم رَحِمٌ مِن النَّسبِ، ولا مَحرَمٌ مِن سَببٍ كالرِّضَاعِ وَغيرهِ، فََهؤلاءِ حرامٌ نَظَرُ بعضِهم إلى بَعضٍ" .
فَصلٌ
في ذِكرِ الآيات الوَارِدَةِ في الحَضِّ عَلَى غَضِّ البَصَرِ
قَالَ َتَعَالَى : ?قَد أفلَحَ المؤمِنونَ (1)? إلى قَولِهِ : ?وَالذِينَ هُم لِفُرُوجِهِم حَافِظُونَ (4) إلا عَلَى أزوَاجِهِمْ أو مَا مَلَكَتْ أيمَانُهُم فَإنَّهُم غَيرُ مَلُومِينَ (5) فَمَن ابتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأولئِكَ هُمُ العَادُونَ (6) ? [ المؤمنون :1-6 ] .
وقَالَ َتَعَالَى : ? قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُم إنَّ اللهَ خبيرُ بمَِا يَصنَعُونَ ? الآية [ النور : 30 ] قَالَ قَتَادَةُ بنُ دعامَةَ رَحِمَهُ الله تَعَالَى في قوله:?قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ? :"أي :عَمَّا لاَ يَحِلُّ لَهُمْ". ذكره البخاري بصيغة الجَزمِ.(1/8)
فهذان موضعان ضَمِنَ اللهُ فيهِما للمؤمنِين الذين يَغُضُّون أبَصَارَهُم بالفَلاحِ، أمَّا الموضِعُ الأوَّلُ فقَد جاءَ ذلِكَ بأقوى أنوَاعِ التَّوكِيدِ : حيثُ أتى بحرفِ التحقيق (قَدْ)، وأتى بالجُملَةِ في صِيغَةِ الخَبَر، ثُمَّ ذَكَرَ صِفَاتِ المؤمنينَ وَمنهَا أنَّهُم :?لِفُرُوجِهِم حَافِظُونَ? ولا ريبَ أنَّ حِفظَ الفَرج لا يَكون إلا بِغَضِّ البَصَرِ، فالنَّظرُ بريدُ الزِّنَا.
وفي الموضع الثاني : أمرَ المؤمنينَ بِغَضِّ البَصَرِ، وأخبر أن ذلك ?أَزْكَى لَهُم?، وقد أعلمنا اللهُ سُبْحَانَهُ أنَّ التزكيَةَ توجبُ الفلاحَ حيثُ قال : ?قَد أفلَحَ مَن زَكَّاهَا? وقَالَ : ?قَد أفلَحَ مَن تَزَكَّى?، ومن اللَّطيفِ أنًّه أتى بالتَوّكيدِ هنا بِنفسِ الصيغَةِ التي في أتى بها في الآية السابقة، فتأمَّل أيها الأخ الكريم عِظَمَ هَذَا الجَزَاء، وداوم على استحضاره، فيساعدَك في غَضِّ بَصَرِك.
ومن اللَّطائِفِ: أن اللهَ ذَكَرَ آيَةَ النُّورِ فِي قَوْلِهِ : ?اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ? عَقِبَ قَوْلِهِ : ? قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ? ليدلَّ على أَنَّ غَضَّ الطَّرْفِ يُورِثُ الْقَلْبَ نُورًا وَإِشْرَاقًا، كَمَا أَنَّ إطْلَاقَ الْبَصَرِ يُورِثُ ذَلِكَ ظُلْمَةً وَكَآبَةً. أفادَه شيَخُ الإسلامِ تَقيُّ الدينِ ابنُ تَيمِيَةَ رَحِمَهُ الله تَعَالَى.
ومن الآيات الواردة في هذا الباب: قولِه تَعَالَى : ?إنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ والفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً? [الإسراء : 36] .(1/9)
وقولِه تَعَالَى: ?يَعْلَمُ خَائِنةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ? [غافر : 19] ، قالَ ابنُ عَبَّاسٍ فِي تفسير هذِهِ الآيةِ: "الرَجُلُ يَكُونُ في القَومِ فَتَمُرُّ بِهم المَرأةُ فَيُرِيَهِم أنَّهُ يَغُضُّ بَصَرَهُ عَنهَا، فَإنْ رَأى مِنهُم غَفلَةً نَظَرَ إليهَا؛ فَإن خَافَ أنْ يَفطَنُوا بِه غَضَّ بَصَرَهُ عَنهَا، وَقَد اطَّلَعَ اللهُ مِن قَلبِهِ أنَّهُ وَدَّ أنَّهُ نَظَرَ إلى عَورَتِهَا" أَخْرَجَه الإمامان أبو بكر ابن أبي شيبَةَ و أبو بكر ابن المُنذرِ رَحِمَهُما الله تَعَالَى وغيرهما .
وَقَال تَعَالَى : ?إنَّا عَرضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرضِ وَالجِبَالِ فَأبينَ أنْ يَحمِلنَهَا وَحَمَلََهَا الإنسانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومَاً جَهُولاً? .
قالَ ابنُ عُمَرَ ? فِي تَفسِيرِ هذِهِ الآيةِ :" مِن تَضِييعِ الأمَانَاتِ النَّظَرُ في الدُّورِ وَالحُجُرَاتِ". أَخْرَجَه الإمامُ أبو بَكرٍ ابنُ أبي الدُنيَا رَحِمَهُ الله تَعَالَى في "الورع " والإمام أبو بكر البيهَقيُّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى في "شُعَبِ الإيمَان ِ" .
فَصلٌ
في ذِكرِ االأحاديث الوَارِدَةِ في الحَضِّ عَلَى غَضِّ البَصَرِ
َأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ? عَنْ النَّبِيِّ ? قَالَ: "كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنْ الزِّنَا مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، الْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا، وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ" .(1/10)
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُدَ:" وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ فَزِنَاهُمَا الْمَشْيُ، وَالْفَمُ يَزْنِي فَزِنَاهُ الْقُبَلُ" .
وَأَخْرَجَ الْأئمة أَحْمَدُ وأبو بكرٍ الْبَزَّارُ وَأَبُو يَعْلَى الموصِليُّ رَحِمَهُم الله تَعَالَى بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ? عَنْ النَّبِيِّ ? قَالَ :" الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ، وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ، وَالْفَرْجُ يَزْنِي".
قال الإمامُ أبو زكريا النَوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: "مَعْنَى الْحَدِيثِ: أَنَّ اِبْنَ آدَمَ قُدِّرَ عَلَيْهِ نَصِيبٌ مِنْ الزِّنَا, فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُون زِنَاهُ حَقِيقِيًّا بِإِدْخَالِ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ الْحَرَامِ, وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُون زِنَاهُ مَجَازًا بِالنَّظَرِ الْحَرَام أَوْ الِاسْتِمَاع إِلَى الزِّنَا وَمَا يَتَعَلَّق بِتَحْصِيلِهِ, أَوْ بِالْمَسِّ بِالْيَدِ بِأَنْ يَمَسّ أَجْنَبِيَّة بِيَدِهِ, أَوْ يُقَبِّلهَا, أَوْ بِالْمَشْيِ بِالرِّجْلِ إِلَى الزِّنَا, أَوْ النَّظَر, أَوْ اللَّمْس, أَوْ الْحَدِيث الْحَرَام مَعَ أَجْنَبِيَّة, وَنَحْو ذَلِكَ, أَوْ بِالْفِكْرِ بِالْقَلْبِ . فَكُلّ هَذِهِ أَنْوَاع مِنْ الزِّنَا الْمَجَازِيِّ, "وَالْفَرْج يُصَدِّق ذَلِكَ كُلّه أَوْ يُكَذِّبهُ" : مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَدْ يُحَقِّق الزِّنَا بِالْفَرْجِ, وَقَدْ لَا يُحَقِّقهُ بِأَلَّا يُولِجَ الْفَرْجَ فِي الْفَرْجِ, وَإِنْ قَارَبَ ذَلِكَ . وَاَللَّه أَعْلَم" .
وقد جاء نحو هذا المعنى عن أبي مُوسَى الأشعَرِيِّ ( قال :"كُلُّ عَينٍ فَاعِلَةٌ" يعني: زَانِيَةٌ. أَخْرَجَهُ الإمامُ أبو بكرِ ابنُ أبي شيبةَ رَحِمَهُ الله تَعَالَى في "مُصَنَّفِه" وأَخْرَجَه ابن الجوزي عن أبي مُوسَى مرفوعاً في "ذمِّ الهوى" .(1/11)
وجاء كتابِ "عُيونِ الأخبَارِ" للإمام أبي محمَّدٍ ابن قُتيبَةَ الدينوريِّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى : نظر رجل يوماً إلى ابنه وهو يديم النظر إلى امرأة فقال : "يا بنُيَّ! نظرُك هذا يُحبِل!" .
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عن أَبي سعيد الخُدري ( ، عن النَّبيّ ? ، قَالَ : "إيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ في الطُّرُقَاتِ !" فقالوا: يَا رَسُول الله، مَا لنا مِنْ مجالِسِنا بُدٌّ، نتحدث فِيهَا . فَقَالَ رسولُ الله ? :"فَإذَا أبَيْتُمْ إلاَّ المَجْلِسَ، فَأَعْطُوا الطَّريقَ حَقَّهُ". قالوا : وما حَقُّ الطَّريقِ يَا رسولَ الله ؟ قَالَ :"غَضُّ البَصَرِ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلامِ، وَالأمْرُ بِالمَعْرُوفِ، والنَّهيُ عن المُنْكَرِ".
وأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما قَالَ:"كَانَ الْفَضْلُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ ?فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ ، وَجَعَلَ النَّبِىُّ ? يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ ".وفي رواية الإمَامَينِ أَحْمَدَ وأبُي عِيسى التَّرمِذيِّ من حديث عَلِىِّ ? "وَلَوَى عُنُقَ الْفَضْلِ فَقَالَ الْعَبَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! لِمَ لَوَيْتَ عُنُقَ ابْنِ عَمِّكَ قَالَ: "رَأَيْتُ شَابًّا وَشَابَّةً فَلَمْ آمَنِ الشَّيْطَانَ عَلَيْهِمَا".
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِإِسْنَادٍ رِجَالُهُ ثِقَاتٌ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَرَةَ ? قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ?:" ثَلَاثَةٌ لَا تَرَى أَعْيُنُهُمْ النَّارَ : عَيْنٌ حَرَسَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ كَفَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ ".(1/12)
وَأَخْرَجَ الأئمةُ أَحْمَدُ وَأبو حاتِم ابْنُ حِبَّانَ وَأبُو عَبدِ اللهِ الْحَاكِمُ رَحِمَهُم الله تَعَالَى عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ? أَنَّ النَّبِيَّ ? قَالَ: "اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمْ الْجَنَّةَ، اُصْدُقُوا إذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إذَا اُؤْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ". صَحَّحهُ الحاكِمُ وغيره .
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وحَسَّنه عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ? أَنَّ النَّبِيَّ ? قَالَ لَهُ : "يَا عَلِيُّ إنَّ لَك كَنْزًا فِي الْجَنَّةِ وَإِنَّك ذُو قَرْنَيْهَا، فَلَا تُتْبِعُ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّمَا لَك الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَك الْأُخْرَى" .
وقَوْلُهُ ? لِعَلِيٍّ "إنَّك ذُو قَرْنَيْهَا": أَيْ ذُو قَرْنَيْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ شَجَّتَانِ فِي قَرْنَيْ رَأْسِهِ أَحَدُهُمَا مِنْ ابْنِ مُلْجِمٍ لَعَنَهُ اللَّهُ وَالْأُخْرَى مِنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ وُدٍّ . قَالَهُ الحافِظُ الْمُنْذِرِيُّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ ? قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ? لِعَلِيٍّ ?: " يَا عَلِيُّ لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّمَا لَك الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَك الْآخِرَةُ " َحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ .
قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ : "قَوْلُهُ ? : "فَلَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ .. إلَخْ" رُبَّمَا تَحَايَلَ أَحَدٌ جَوَازَ الْقَصْدِ لِلْأُولَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْأُولَى الَّتِي لَمْ يَقْصِدْهَا" .(1/13)
وَفِي أَفْرَادِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ? قَالَ : " سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ ? عَنْ النَّظْرَةِ الْفَجْأَةِ قَالَ اصْرِفْ نَظَرَك " قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: "وَهَذَا لِأَنَّ الْأُولَى لَمْ يَحْضُرْهَا الْقَلْبُ، وَلَا يَتَأَمَّلُ بِهَا الْمَحَاسِنَ، وَلَا يَقَعُ الِالْتِذَاذُ بِهَا، فَمَتَى اسْتَدَامَهَا مِقْدَارَ حُضُورِ الذِّهْنِ كَانَتْ كَالثَّانِيَةِ فِي الْإِثْمِ" .
وَأَخْرَجَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ و الطَبرانيُّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ ? عَنْ النَّبِيِّ ? قَالَ:" مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَنْظُرُ إلَى مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ ثُمَّ يَغُضُّ بَصَرَهُ إلَّا أَحْدَثَ اللَّهُ لَهُ عِبَادَةً يَجِدُ حَلَاوَتَهَا فِي قَلْبِهِ" . قال الحافظ أبو الفداء إسماعيلُ ابن كَثيرٍ رَحِمَهُ الله تَعَالَى في "تفسيره" :"ورُويَ هذا مرفُوعاً عن ابن عُمرَ وحُذيفةَ وعائشةَ رضي الله عنهم، ولكن في إسنادِهَا ضَعفٌ، إلا أنَّها في التَرغِيبِ، ومِثلُهُ يُتَسامَحُ فِيهِ".
وَرَوَى الْأَصْبَهَانِيُّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى بسندٍ ضعيفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ? قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ?:" كُلُّ عَيْنٍ بَاكِيَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَّا عَيْنًا غُضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ، وَعَيْنًا سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَيْنًا خَرَجَ مِنْهَا مِثْلُ رَأْسِ الذُّبَابِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ" .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ ? عَنْ النَّبِيِّ ? قَالَ :" لَتَغُضُّنَّ أَبْصَارَكُمْ، وَلَتَحْفَظُنَّ فُرُوجَكُمْ، أَوْ لَيَكْسِفَنَّ اللَّهُ وُجُوهَكُمْ " .(1/14)
وَفِي "صَحِيحِ الْحَاكِمِ" و"مسندِ عَبدِ بنِ حُمَيدٍ" رَحِمَهُما الله تَعَالَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا :"مَا مِنْ صَبَاحٍ إلَّا وَمَلَكَانِ يُنَادِيَانِ وَيْلٌ لِلرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ، وَوَيْلٌ لِلنِّسَاءِ مِنْ الرِّجَالِ" . في إسناده خارجة بن مصعب، قال الذَهبيُّ في التلخيص: "خارجة واه".
فَصلٌ
في ذِكرِأخبَارِ السَّلفِ في غَضِّ البَصَرِ وحرصِهِم عَلى ذلكَ
َأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى عَنْ ابْنِ مَسْعُود ٍ? مَرْفُوعًا: " الْإِثْمُ حَوَّازُ الْقُلُوبِ وَمَا مِنْ نَظْرَةٍ إلَّا وَلِلشَّيْطَانِ فِيهَا مَطْمَعٌ ". قال المُنذِرِيُّ: "رواته لا أعلم فيهم مجروحاً، لكن قيل صوابه الوقوف، وَمَعْنَى حَوَّازُ : َهُوَ مَا يَحُوزُهَا وَيَغْلِبُ عَلَيْهَا حَتَّى تَرْتَكِبَ مَا لَا يَحْسُنُ، وَقِيلَ بِتَخْفِيفِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِ الزَّايِ جَمْعُ حَازَّةٍ وَهِيَ الْأُمُورُ الَّتِي تَحُزُّ فِي الْقُلُوبِ وَتَحُكُّ وَتُؤَثِّرُ وَتَتَخَالَجُ فِي الْقُلُوبِ فَتَكُونُ مَعَاصِيَ، وَهَذَا أَشْهَرُ " .وَمِنْهُ " الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِك وَكَرِهْت أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ ".
وأَخْرَجَ ابن أبي شيبةَ عن أبي مُوسَى الأشعَرِيِّ ? قال: "لأن تَمتَلِئ مِنخَرَيَّ مِن رِيحِ جِيفَةٍ، أحَبُ إليَّ مِن أنْ تَمتَلِيَانِ مِن رِيحِ امرَأةٍ".
وأَخْرَجَ عن عَبدُ اللهِ بن مسعود ? قَالَ: "لأن أُزاحِمَ بَعِيراً مَطلِيَّاً بِقطِرَانَ، أحبُّ إليَّ مِنْ أنْ أُزَاحِمَ امرَأةً".
وأَخْرَجَ ابنُ أبي الدُنيَا عن أنس ? قال : "إذا مَرَّت بِكَ امرَأةٌ فَغمِّض عَينَيكَ حتى تُجَاوِزَكَ". أَخْرَجَه الإمام أبو بكر ابن أبي شيبة رَحِمَهُ الله تَعَالَى في "مُصَنَّفِه" ، وفي إسناده خالد بن مجدوح وهو تالف .(1/15)
وَفي "كتابِ الوَرَعِ " للإمام أحمد :عَن عُتبَةَ بن غَزَوانَ الرقاشيِّ قَالَ: قَالَ لِي أبُو مُوسَى الأشعَرِيُّ ?: مَالِي أرَى عَينَيك نَافِرةً؟ فَقُلتُ: إنِّي التفتُ التفَاتَةً فَإذَا جَارِيَةٌ مُنكَشِفَةٌ لبَعضِ الحَبَشِ فَلَحَظتُهَا لحَظَهً فَصككتُهَا صَكَّةً-أي: عَينُه- إلى مَا تَرَى!. فَقَالَ لَهُ أبُو مُوسَى: استغفِر رَبَّكَ فَإنَّكَ قَدْ ظَلَمتَ عَينَيكَ، لكَ أوَّلُ نَظرَةٍ وَعليكَ مَا بَعدَهَا".
وفي البخاريُّ َ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِى الْحَسَنِ لِلْحَسَنِ: إِنَّ نِسَاءَ الْعَجَمِ يَكْشِفْنَ صُدُورَهُنَّ وَرُءُوسَهُنَّ! قَالَ:"اصْرِفْ بَصَرَكَ عَنْهُنَّ".
وأَخْرَجَ ابن أبي شيبة عن عَطَاءٍ بن أبي رَبَاحٍ رَحِمَهُ الله تَعَالَى قَالَ :"نَظرَةٌ يَهوَاهَا القَلبُ، فَلا خَيرَ فِيهَا".
وَأَخْرَجَ عن موسى الجُهنيِّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى قال: "كُنتُ مَع سَعيدِ بنِ جُبَيرٍ في طَرِيقٍ فَاستَقبَلَتنَا امرَأةٌ فَنَظَرنَا إليهَا جَميعاً، ثُمَّ إنَّ سَعيدِاً غَضَّ بَصَرَهُ، فَنَظرتُ إليهَا، فَقَالَ لِي سَعيدٌ: الأولى لَكَ، وَالثانِيةُ عَليكَ".
وَأَخْرَجَ عن قَيسٍ رَحِمَهُ الله تَعَالَى قَالَ: "كَانَ يُقَالُ: النَّظرَةُ الأولَى لا يَملِكُهَا أحَدٌ، وَلَكنِ الذِي يَدُسُّ النَّظَر دَساً .." .
وَأَخْرَجَ عن دَاودَ بن أبي هِندٍ قال: قاَلَ رَجُلٌ لابنِ سِيرينَ رَحِمَهُ الله تَعَالَى: "أستقبِلُ القِبلَةَ فِي الطَرِيقِ، ألَيسَ لي النَّظرَةُ الأولى ثُمَّ أصِرفُ عَنهَا بَصَرِي؟ قال: أمَا تَقرَأ القُرآنَ :?يَعْلَمُ خَائِنةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ? [غافر : 19 ] ".
وَأَخْرَجَ عَن أيُّوبٍ السَختيَانيِّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى قَالَ: "كانَ طَاوسٌ رَحِمَهُ الله تَعَالَى لا يَصحَبُ رِفقَةً فِيهَا امرَأةٌ".(1/16)
وأَخْرَجَ ابنُ أبي الدُنيَا في "الورع " وأبو نُعيمٍ الأصبَهَانِيُّ في "الحِليَةِ "رَحِمَهُ الله تَعَالَى: عن عَمرِو بن مُرَّةَ رَحِمَهُ الله تَعَالَى قال : "ما أحِبُّ أنِّي بَصِيرٌ، كُنتُ نَظرتُ نَظرَةً وَأنَا شَابٌ". وفي "الحلية ": عن عَمرِو بن مُرَّةَ قال: "نظرت الى امرأة فأعجبتني فكُفَّ بَصَرِي فأرجُو أن يَكونَ ذلكَ كَفَّارةً".
وأَخْرَجَا عن وكيعٍٍ رَحِمَهُ الله تَعَالَى قال : "خَرَجنَا مَعَ سُفيَانَ الثَّورِيِّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى في يَومِ عِيدٍ فَقَالَ: إنَّ أوَّلَ مَا نَبدَأُ بِه في يَومِنَا غَضُّ أبصَارِنَا" .
وأَخْرَجَا عن محمد بن عبد الله الزراد قال : "خَرَجَ حَسَّانُ بنُ أبي سِنانَ رَحِمَهُ الله تَعَالَى إلى العِيدِ، فَقِيلَ لَهُ لمَّا رَجِعَ: يَا أبَا عَبدِ اللهِ مَا رَأينَا عيدَاً أكثرَ نِساءً منهُ!. قَالَ: مَا تَلَقتنِي امرَأةٌ حَتى رَجَعتُ".
وفي رواية لهما : "خَرَجَ حَسَّانُ بنُ أبي سِنانَ يَومَ العِيدِ، فلمَّا رَجِعَ قَالَت لَهُ امرَأتُه: كَم مِن امرَأةٍ حَسَنَةٍ قَدْ نَظَرتَ اليومَ إليهَا؟! فلمَّا أكثرَت عَليهِ قَالَ: وَيحَكِ! مَا نَظَرتُ إلَّا في إبهَامِي مُنذُ خَرَجتُ حَتى رَجَعتُ إليكِ".
وأَخْرَجَ ابنُ أبي الدُنيَا عن حمَّاد بن زيد رَحِمَهُ الله تَعَالَى قال سمعت أبي وأسنده قال : "لَرُبَّ نَظرَةٍ لأن تَلقَى الأسَدَ فيأكُلَكَ خَيرٌ لَكَ مِنهَا".
وأَخْرَجَ عن خالد بن أبي عمران رَحِمَهُ الله تَعَالَى قال : "لا تُتبِعُوا النَّظَر النَّظَرَ، فَرُبَّمَا نَظَرَ العَبدُ النَّظرَةَ يَنغَلُّ مِنهَا قلبُه كَمَا يَنغَلُّ الأدِيمُ في الدِّبَاغِ ولا يَنتَفِعُ بِهِ" .
وأَخْرَجَ عنه : "لا تُتبِع بَصَرَك حُسنَ رِدَاءِ المرأةِ، فإنَّ النَّظَر يَجعَلُ الشهوَةَ في القَلبِ". أخرجه ابن أبي شيبة وغيره.(1/17)
وأخرجَ ابنُ الجوزيِّ في "ذمِّ الهوى" عن ذي النِّونِ المِصريِّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى قالَ: "اللَّحظاتُ تورِّثُ الحَسَراتِ، أوَّلُها أسفٌ وآخرُها تَلفٌ، فمن تَابَع طرفَهُ تابعَ حتفَهُ".
وفيه:قالَ سُفيانُ: "كانَ الرَّبيعُ بنُ خَثيمٍ يَغُضُّ بَصرَهُ فَمرَّ بِه نِسوةٌ فَأطرَق حتى ظَنَّ النِّسوةُ أنَّه أعمَى، فتعوَّذنَ باللهِ مِنَ العَمَى!" .
وفي البُخَارِيِّ: قَالَ الزُّهْرِىُّ فِى النَّظَرِ إِلَى الَّتِى لَمْ تَحِضْ مِنَ النِّسَاءِ: لاَ يَصْلُحُ النَّظَرُ إِلَى شَىْءٍ مِنْهُنَّ مِمَّنْ يُشْتَهَى النَّظَرُ إِلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً .
وفي تَفسِير القُرطُبِيِّ :" وَلقَد كَرِهَ الشَّعبِيُّ أن يُديمَ الرَّجُل النَّظَر إلى ابنته أو أمِّه أو أختِه، وزمَانُه خَيرٌ مِن زَمانِنَا هَذَا ! !" .
وَفي "صِفةِ الصَّفوَةِ " : قَالَ شُجَاعٌ الْكَرْمَانِيُّ رحمه الله تعالى : "مَنْ عَمَّرَ ظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَبَاطِنَهُ بِدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ، وَغَضَّ بَصَرَهُ عَنْ الْمَحَارِمِ، وَكَفَّ نَفْسَهُ عَنْ الشَّهَوَاتِ وَأَكَلَ مِنْ الْحَلَالِ، لَمْ تُخْطِئْ فِرَاسَتُهُ" وَكَانَ شُجَاعٌ لَا تُخْطِئُ لَهُ فِرَاسَةٌ .
فَصلٌ
في ذِكرِطَرَفٍ من كلامِ العُلماءِ في غَضِّ البَصَرِ
في "كتابِ الوَرَعِ " للإمام أحمد : قال الْمَرُّوذِيُّ : قُلتُ لأبِي عَبدِ اللهِ: رَجُلٌ تَابَ وَقَالَ: لَو ضُرِبَ ظَهرِي بِالسِيَاطِ مَا دَخلتُ في مَعصِيةٍ، غَير أنَّهُ لا يَدُعُ النَّظَرَ!. قَالَ: "أيُّ تَوبَةٍ هَذِهِ !!".(1/18)
وفيه : قُلْت لِأَحْمَدَ رضي الله عنه : الرَّجُلُ يَنْظُرُ إلَى الْمَمْلُوكَةِ ؟ قَالَ: أَخَافُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةَ، كَمْ نَظْرَةٍ أَلْقَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا الْبَلَابِلَ . وقال البُخَارِيَُ في "صحيحه": "وَكَرِهَ عَطَاءٌ النَّظَرَ إِلَى الْجَوَارِى يُبَعْنَ بِمَكَّةَ ، إِلاَّ أَنْ يُرِيدَ أَنْ يَشْتَرِىَ" .
وقال الإمامُ الحَارثُ المُحَاسِبيُّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى في "رِسَالَةِ المُستَرشِدينَ" :"قَدْ جَعَلَ اللهُ عَلَى كُلِّ جَارِحَةٍ أمرَاً ونهياً فَريضَةً مِنهُ وَجَعَلَ بَينَهُمَا سِعةً وإباحَةً تركُهَا فَضيلةٌ للعبدِ" . ثم قال : "وَفرضُ البَصَرِ : الغَضُّ عَنِ المحارِمِ، وَتَركُ التَّطَلعِ فيما حُجِبَ وسُتِرَ".
وقال الإمامُ أبو حَامِدٍ الغَزَالِيُّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى في "الإحيَاءِ" :" زِنَا العَينِ - أي: النَّظَرُ- مِن كَبَائِرِ الصغَائِر وَهُو يُؤدِّي إلى القُربِ عَلَى الكبيرةِ الفَاحِشَةِ وَهِي زِنَا الفَرجِ، وَمَن لمَ يَقدِر عَلَى غَضِّ بَصَرِه لم يَقدِر عَلَى حِفظِ فَرجِهِ". قلتُ : وقول أبي حامد :"مِن كَبَائِرِ الصغَائِر" إذا لم يكن فاعلُه مُصِرَّاً عليه فَقد قَالُوا : لا صَغيرَةَ مع إصرارٍ، وَقد رَوَى البَيهَقِيُّ في "الشُّعَبِ" عن عُبيدَةَ السَّلمَانِي قَالَ: "كُلُّ مَا عُصِيَ اللهُ بِهِ فَهُوَ كَبيرَةٌ، وَقَد ذَكر الطَّرفَةَ فَقَالَ تَعَالَى: ? قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ?". وَاَللَّهُ أعلَم .
وقال ابن الجوزيِّ في "المواعِظِ وَالمجالِسِ" :"أكثَرُ فَسَادِ القلبِ مِن تَخلِيطِ العينِ: مَا دَامَ بَابُ عَينِ البَصَر مُوثَقَاً فَالقَلبُ سَليمٌ مِن كُلِّ آفَّةٍ، فإذَا فُتِحَ طَارَ الطَّائرُ، وَرُبَّمَا لمَ يَعُد بَعدُ".(1/19)
وقال في "ذمِّ الهوى" بعد أن قال كلاماً في غضِّ البصَرِ "فتفهَّم يا أخي ما أوصِيك بِه، إنَّما بصرُك نعمةٌ من الله عليكَ فلا تعصِهِ بنعَمِهِ، وعامِلهُ بغضِّه عن الحرامِ تربَح، واحذَرْ أن تكونَ العُقوبَةُ سَلبَ تلكَ النِّعمةِ، وكُلُّ زمنِ الجهادِ في الغضِّ لحطةٌ، فإن فعلتَ نلتَ الخيرَ الجزيلَ، وسلمتَ من الشَّرِّ الطويلِ ألم تسمع قولَ القائلِ:
إنِّي إذا ذلَّ الحريصُ وأقولُ للنَّفسِ اطمئنِّي
عززتُ في ظلِّ القناعَهْ فالشَّجاعةُ صبرُ ساعهْ"
وقال الإمام أبو عبد الله القُرطُبِيُّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى في "تفسيره":"البصرُ هو البابُ الأكبرُ إلى القلبِ، وأعمَرُ طرقِ الحواسِّ إليهِ، وبحسَبِ ذلك كَثُرَ السُّقوطُ مِن جهتِه، وَوَجبَ التحذيرُ منهُ، وغضُّه واجبٌ عن جميعِ المُحرَّماتِ، وكُلِّ ما يُخشَى الفتنَةَ مِن أجلِهِ".
وقال الإمام ابن مُفلِحٍ الحَنبَلِيُّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى في "الفُرُوعِ": "ولِيَحذَرَ العَاقِلُ من إطلاقِ البَصَرِ، فإنَّ العَينَ تَرى غَيرَ المقدُورِ عَليه عَلَى غَير مَا هُو عَليهِ ،وَرُبَّمَا وَقَعَ مِن ذَلِكَ العِشقُ، فَيهلِكَ البَدَنُ والدِّينُ! وكَمْ مِن نَظْرَةٍ أَلْقَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا الْبَلَابِلَ ! . وَرَوَى الحاكِمُ في "تاريخِهِ" عَن ابن عُيينَةَ قَالَ: حَدَّثني عَبدُ اللهِ بنُ المُبارَكِ، وَكانَ عاقِلاً، عَن شَيخٍ مِن أشياخِ الشَّامِ قَالَ: مَن أعطَى أسبَابَ الفتنةَ نفسَه أوَّلاً لم يَنجُ آخراً، وإن كَان جَاهِداً".
أما كلامُ الْإِمَامِ الْمُحَقِّقِ شمَسِ الدِّينِ ابْنِ قَيِّمِ الجَوزيَّةِ رَحِمَهُ الله تَعَالَى في هَذَا البَابِ فإنه غَايةٌ في النَّفَاسَةِ والأهميَّةِِ، وسنذكر في الفصل القادم شيئاً منهُ أيضاً إن شاءَ اللهُ تَعالى.(1/20)
قَالَ فِي "الجَوَابِ الكَافِي لِمَن سَألَ عَن الدَّوَاءِ الشَّافِي": "أَمَّا اللَّحَظَاتُ فَهِيَ رَائِدَةُ الشَّهْوَةِ وَرَسُولُهَا، وَحِفْظُهَا أَصْلُ حِفْظِ الْفَرْجِ، فَمَنْ أَطْلَقَ بَصَرَهُ أَوْرَدَهُ مَوَارِدَ الْهَلَكَاتِ،وَالنَّظَرُ أَصْلُ عَامَّةِ الْحَوَادِثِ الَّتِي تُصِيبُ الْإِنْسَانَ، فَإِنَّ النَّظْرَةَ تُولِدُ خَطْرَةً، ثُمَّ تُولِدُ الْخَطْرَةُ فِكْرَةً، ثُمَّ تُولِدُ الْفِكْرَةُ شَهْوَةً، ثُمَّ تُولِدُ الشَّهْوَةُ إرَادَةً، ثُمَّ تَقْوَى فَتَصِيرُ عَزِيمَةً جَازِمَةً فَيَقَعُ الْفِعْلُ وَلَا بُدَّ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ ، وَفِي هَذَا قِيلَ : (الصَّبْرُ عَلَى غَضِّ الطَّرْفِ أَيْسَرُ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى أَلَمٍ بَعْدَهُ )".
وقال في "الفوائد": "إذَا عَرَضَت نَظرَةٌ لا تَحِلُّ، فَاعلَم أنَّهَا مِسعَرُ حَربٍ فاستتر مِنهَا بحِجَابِ: ? قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ ..?". فَقَد سَلِمتَ مِن الأثَرِ وَكَفَى اللهُ المؤمنينَ القِتَالَ".
وَقَالَ الشيخُ شَرَف مُحمَّد الْحِجَّاوِيُّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى في "شَرحِهِ لمنظُومَةِ الآدَابِ" : "فُضُولُ النَّظَرِ أَصْلُ الْبَلَاءِ لِأَنَّهُ رَسُولُ الْفَرْجِ، أَعْنِي الْآفَةَ الْعُظْمَى وَالْبَلِيَّةَ الْكُبْرَى، وَالزِّنَا إنَّمَا يَكُونُ سَبَبُهُ فِي الْغَالِبِ النَّظَرَ، فَإِنَّهُ يَدْعُو إلَى الِاسْتِحْسَانِ وَوُقُوعِ صورَةِ الْمَنْظُورِ إلَيْهِ فِي الْقَلْبِ وَالْفِكْرَةِ، فَهَذِهِ الْفِتْنَةُ مِنْ فُضُولِ النَّظَرِ، وَهُوَ مِنْ الْأَبْوَابِ الَّتِي تُفْتَحُ لِلشَّيْطَانِ عَلَى ابْنِ آدَمَ .
فَصلٌ
فِي فَوَائِدِ غَضِّ الْبَصَرِ، من كلام الْإِمَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ(1/21)
ذَكَرَهَا في "الجَوَابِ الكَافِي لِمَن سَألَ عَن الدَّوَاءِ الشَّافِي" وفي "رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ وَنُزْهَةِ الْمُشْتَاقِينَ"، وهي غَايةٌ في النَّفَاسَةِ وَالرَّوعَةِ، حَريَّةٌ بالتدبُّر والتأمُّلِ، وها أنا أذكُرُهَا هُنَا بشيءٍ مِنَ التَّصَرُّفِ .
قال:" إحْدَاهَا : تَخْلِيصُ الْقَلْبِ مِنْ الْحَسْرَةِ فَإِنَّ مَنْ أَطْلَقَ نَظَرَهُ دَامَتْ حَسْرَتُهُ، فَأَضَرُّ شَيْءٍ عَلَى الْقَلْبِ إرْسَالُ الْبَصَرِ، فَإِنَّهُ يُرِيهِ مَا لَا سَبِيلَ إلَى وُصُولِهِ وَلَا صَبْرَ لَهُ عَنْهُ، وَذَلِكَ غَايَةُ الْأَلَمِ .
وَكُنْتَ مَتَى أَرْسَلْت طَرْفَك رَائِدًا رَأَيْتَ الَّذِي لَا كُلَّهُ أَنْتَ قَادِرٌ
لِقَلْبِكَ يَوْمًا أَتْعَبَتْك الْمَنَاظِرُ عَلَيْهِ وَلَا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابِرُ
الثَّانِيَةُ: أَنَّ غَضَّ الطَّرْفِ يُورِثُ الْقَلْبَ نُوراً وَإِشْرَاقاً يَظْهَرُ فِي الْعَيْنِ وَفِي الْوَجْهِ وَفِي الْجَوَارِحِ، كَمَا أَنَّ إطْلَاقَ الْبَصَرِ يُورِثُ ذَلِكَ ظُلْمَةً وَكَآبَةً .
الثَّالِثَةُ : أَنَّهُ يُورَثُ صِحَّةَ الْفِرَاسَةِ فَإِنَّهَا مِنْ النُّورِ وَثَمَرَاتِهِ، فَإِذَا اسْتَنَارَ الْقَلْبُ صَحَّتْ الْفِرَاسَةُ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْمِرْآةِ الْمَجْلُوَّةِ تَظْهَرُ فِيهَا الْمَعْلُومَاتُ كَمَا هِيَ، وَالنَّظَرُ بِمَنْزِلَةِ التَّنَفُّسِ فِيهَا، فَإِذَا أَطْلَقَ الْعَبْدُ نَظَرَهُ تَنَفَّسَتْ الصُّعَدَاءَ فِي مِرْآةِ قَلْبِهِ فَطَمَسَتْ نُورَهَا كَمَا قِيلَ فِي ذَلِكَ :
مِرْآةُ قَلْبِك لَا تُرِيك صَلَاحَهُ
وَالنَّفْسُ فِيهَا دَائِماً تَتَنَفَّسُ(1/22)
وَقَالَ شُجَاعٌ الْكَرْمَانِيُّ رحمه الله تعالى : "مَنْ عَمَّرَ ظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ، وَبَاطِنَهُ بِدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ، وَغَضَّ بَصَرَهُ عَنْ الْمَحَارِمِ، وَكَفَّ نَفْسَهُ عَنْ الشَّهَوَاتِ وَأَكَلَ مِنْ الْحَلَالِ، لَمْ تُخْطِئْ فِرَاسَتُهُ" .
وَكَانَ شُجَاعٌ لَا تُخْطِئُ لَهُ فِرَاسَةٌ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَجْزِي الْعَبْدَ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ، فَمَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ الْمَحَارِمِ عَوَّضَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إطْلَاقَ نُورِ بَصِيرَتِهِ، فَلَمَّا حَبَسَ بَصَرَهُ لَهُ تَعَالَى، أَطْلَقَ لَهُ بَصِيرَتَهُ جَزَاءً وِفَاقاً .
الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ يَفْتَحُ لَهُ طُرُقَ الْعِلْمِ وَأَبْوَابَهُ، وَيُسَهِّلُ عَلَيْهِ أَسْبَابَهُ وَذَلِكَ سَبَبُ نُورِ الْقَلْبِ، فَإِنَّهُ إذَا اسْتَنَارَ ظَهَرَتْ فِيهِ حَقَائِقُ الْمَعْلُومَاتِ، وَانْكَشَفَ لَهُ بِسُرْعَةٍ، وَنَفَذَ مِنْ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ .
وَمَنْ أَرْسَلَ بَصَرَهُ تَكَدَّرَ عَلَيْهِ قَلْبُهُ، وَأَظْلَمَ، وَانْسَدَّ عَلَيْهِ بَابُ الْعِلْمِ وَأُحْجِمَ .
الْخَامِسَةُ: أَنَّهُ يُورِثُ قُوَّةَ الْقَلْبِ وَثَبَاتَهُ وَشَجَاعَتَهُ، فَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ سُلْطَانَ الْبَصِيرَةِ مَعَ سُلْطَانِ الْحُجَّةِ .
وَفِي أَثَرٍ: أَنَّ الَّذِي يُخَالِفُ هَوَاهُ يَفْرَقُ الشَّيْطَانُ مِنْ ظِلِّهِ، وَلِذَا يُوجَدُ فِي الْمُتَّبِعِ لِهَوَاهُ مِنْ ذُلِّ الْقَلْبِ وَضَعْفِهِ وَمَهَانَةِ النَّفْسِ وَحَقَارَتِهَا مَا جَعَلَهُ اللَّهُ لِمُؤْثِرٍ هَوَاهُ عَلَى رِضَاهُ، بِخِلَافِ مَنْ آثَرَ رِضَا مَوْلَاهُ عَلَى هَوَاهُ، فَإِنَّهُ فِي عِزِّ الطَّاعَةِ وَحِصْنِ التَّقْوَى، بِخِلَافِ أَهْلِ الْمَعَاصِي وَالْأَهْوَاءِ .(1/23)
قَالَ الْحَسَنُ : إنَّهُمْ وَإِنْ هَمْلَجْت بِهِمْ الْبِغَالُ، وَطَقْطَقْت بِهِمْ الْبَرَاذِينُ، فَإِنَّ ذُلَّ الْمَعْصِيَةِ لَفِي قُلُوبِهِمْ، أَبَى اللَّهُ إلَّا أَنْ يُذِلَّ مَنْ عَصَاهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ : النَّاسُ يَطْلُبُونَ الْعِزَّ فِي أَبْوَابِ الْمُلُوكِ وَلَا يَجِدُونَهُ إلَّا فِي طَاعَةِ اللَّهِ، فَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ فَقَدْ وَالَاهُ فِيمَا أَطَاعَهُ فِيهِ، وَمَنْ عَصَاهُ عَادَاهُ فِيمَا عَصَاهُ فِيهِ .
وَفِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ : إنَّهُ لَا يُذَلُّ مِنْ وَالَيْت، وَلَا يُعَزُّ مَنْ عَادَيْت .
السَّادِسَةُ : أَنَّهُ يُورِثُ الْقَلْبَ سُرُوراً وَفَرْحَةً أَعْظَمَ مِنْ الِالْتِذَاذِ بِالنَّظَرِ، وَذَلِكَ لِقَهْرِهِ عَدُوَّهُ وَقَمْعِهِ شَهْوَتَهُ وَنُصْرَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَفَّ لَذَّتَهُ وَحَبَسَ شَهْوَتَهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَفِيهِمَا مَضَرَّةُ نَفْسِهِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، أَعَاضَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَسَرَّةً وَلَذَّةً أَكْمَلَ مِنْهُمَا، كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ : "وَاَللَّهِ لَلَذَّةُ الْعِفَّةِ أَعْظَمُ مِنْ لَذَّةِ الذَّنْبِ" .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ النَّفْسَ إذَا خَالَفَتْ هَوَاهَا أَعْقَبَهَا ذَلِكَ فَرَحَاً وَسُرُوراً وَلَذَّةً أَكْمَلَ مِنْ لَذَّةِ مُوَافَقَةِ الْهَوَى بِمَا لَا نِسْبَةَ بَيْنَهُمَا ، وَهُنَا يَمْتَازُ الْعَقْلُ مِنْ الْهَوَى .
السَّابِعَةُ : أَنَّهُ يُخَلِّصُ الْقَلْبَ مِنْ أَسْرِ الشَّهْوَةِ، فَلَا أَسْرَ أَشَدُّ مِنْ أَسْرِ الشَّهْوَةِ وَالْهَوَى، قَدْ سَلَبَ الْحَوْلَ وَالْقُوَّةَ، وَعَزَّ عَلَيْهِ الدَّوَاءُ، فَهُوَ كَمَا قِيلَ :
كَعُصْفُورَةٍ فِي كَفِّ طِفْلٍ يَسُومُهَا
حِيَاضَ الرَّدَى وَالطِّفْلُ يَلْهُو وَيَلْعَبُ(1/24)
الثَّامِنَةُ : أَنَّهُ يَسُدُّ عَنْهُ بَاباً مِنْ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، فَإِنَّ النَّظَرَ بَابُ الشَّهْوَةِ الْحَامِلَةِ عَلَى مُوَاقَعَةِ الْفِعْلِ، وَتَحْرِيمُ الرَّبِّ تَعَالَى وَشَرْعُهُ حِجَابٌ مَانِعٌ مِنْ الْوُصُولِ، فَمَتَى هَتَكَ الْحِجَابُ تَجَرَّأَ عَلَى الْمَحْظُورِ، وَلَمْ تَقِفْ نَفْسُهُ مِنْهُ عِنْدَ غَايَةٍ، لِأَنَّ النَّفْسَ فِي هَذَا الْبَابِ لَا تَقْنَعُ بِغَايَةٍ تَقِفُ عِنْدَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ لَذَّتَهُ فِي الشَّيْءِ الْجَدِيدِ .
فَصَاحِبُ الطَّارِفِ لَا يُقْنِعُهُ التَّلِيدُ، وَإِنْ كَانَ أَحْسَنَ مِنْهُ مَنْظَراً أَوْ أَطْيَبَ مَخْبَراً .
فَغَضُّ الْبَصَرِ يَسُدُّ عَنْهُ هَذَا الْبَابَ، الَّذِي عَجَزَتْ الْمُلُوكُ عَنْ اسْتِيفَاءِ أَغْرَاضِهِمْ فِيهِ، وَفِيهِ غَضَبُ رَبِّ الْأَرْبَابِ .
التَّاسِعَةُ : أَنَّهُ يُقَوِّي عَقْلَهُ وَيُثَبِّتُهُ وَيَزِيدُهُ، فَإِرْسَالُ الْبَصَرِ لَا يَحْصُلُ إلَّا مِنْ قِلَّةٍ فِي الْعَقْلِ، وَطَيْشٍ فِي اللُّبِّ، وَخَوَرٍ فِي الْقَلْبِ، وَعَدَمِ مُلَاحَظَةٍ لِلْعَوَاقِبِ، فَإِنَّ خَاصَّةَ الْعَقْلِ مُلَاحَظةُ الْعَوَاقِبِ، وَمُرْسِلُ الطَّرْفِ لَوْ عَلِمَ مَا تَجْنِي عَوَاقِبُ طَرْفِهِ عَلَيْهِ لَمَا أَطْلَقَ بَصَرَهُ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ :
وَأَعْقَلُ النَّاسِ مَنْ لَمْ يَرْتَكِبْ سَبَباً 1
حَتَّى يُفَكِّرَ مَا تَجْنِي عَوَاقِبُهُ(1/25)
الْعَاشِرَةُ : أَنَّهُ يُخَلِّصُ الْقَلْبَ مِنْ سَكْرَةِ الشَّهْوَةِ وَرَقْدَةِ الْغَفْلَةِ، فَإِنَّ إطْلَاقَ الْبَصَرِ يُوجِبُ اسْتِحْكَامَ الْغَفْلَةِ عَنْ اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَيُوقِعُ فِي سَكْرَةِ الْعِشْقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي عُشَّاقِ الصُّوَرِ: " لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ " فَالنَّظْرَةُ كَأْسٌ مِنْ خَمْرٍ، وَالْعِشْقُ سُكْرُ ذَلِكَ الشَّرَابِ .
وَآفَاتُ الْعِشْقِ تَكَادُ تُقَارِبُ الشِّرْكَ، فَإِنَّ الْعِشْقَ يَتَعَبَّدُ الْقَلْبَ الَّذِي هُوَ بَيْتُ الرَّبِّ لِلْمَعْشُوقِ" . ا.هـ كلامُهُ ولا مَزيدَ عليهِ.
وَفَوَائِدُ غَضِّ الْبَصَرِ وَآفَاتِ إطْلَاقِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ، وَقَدْ عَلِمْت الْفَوَائِدَ وَالْآفَاتِ فِي ضِمْنِهَا، فَمَا مِنْ فَائِدَةٍ إلَّا تَرْكُهَا آفَةٌ وَمَفْسَدَةٌ .
فصلٌ
في مُعالجةِ الهمِّ والفكرِ المتولِّدِ عن النَّظرِ
قال ابن الجوزيِّ في "ذمِّ الهوى" : "إعلم وفَّقَك اللهُ أنَّكَ إذا امتثلتَ المأمورَ بهِ من غَضِّ البصرِ عندَ أوَّلِ نظرةٍ سَلمتَ من آفاتٍ لا تُحصَى، فإذا كَرَّرتَ النَّظرَ لم تأمن أن يزرَعَ في قَلبِكَ زَرعَاً يَصعُبُ قلعُهُ، فإن كانَ قد حَصَل ذلكَ فعلاجهُ بالحميَّةِ بالغَضِّ فيما بعدُ، وقطعِ مرادِ الفكرِ بسَدِّ بابِ النَّظرِ فحينئذٍ يَسهُلُ عِلاجُ الحاصلِ في القلبِ لأنَّهُ إذا اجتمعَ سيلٌ فسدَّ مجراهُ، سَهُلَ نزفُ الحاصلِ، ولا علاجَ للحاصلِ في القلبِ أقوى مِن قَطعِ أسبابِهِ، ثُمَّ زجرِ الاهتمام بِه خوفَاً من عُقوبَة اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَمَتَى شرعتَ في استعمالِ هذا الدَّواءِ، رُجيَ لكَ قُربُ السَّلامةِ، وإن ساكنت الهمَّ تَرقَى إلى دَرجةِ العزمِ، ثُمَّ حَرِّك الجَوارحَ".
فَصلٌ
فِي ذِكرِ طرفٍ ِمِن الأشعَارِ المُتعَلِّقة بِِمَا نحنُ بِصدَدِه(1/26)
في "بَهجَةِ المَجالِس وأُنسِ المُجَالِس" للإمام أبي عمر ابن عبدِ البرِّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى: قال محمود الورّاق:
من أطلَقَ الطَرْفَ اجتَنى شَهَوةً و الطَرْفُ للقلب لسانٌ فإنْ
وحارسُ الشَّهوةِ غَضُّ البَصَرْ أرادَ نُطقاً فليُكِرَّ النَّظَرْ!
وفيه : وقال آخرٌ:
خليليَّ للبغضاء عينٌ مُبينَةٌ إلا إنَّما العينانِ للقلبِ رائدٌ 1
وللحُبِّ آياتٌ تُرى ومعارفُ فما تألفُ العينانَ فالقلبُ يألفُ ِ
وفي "ذمِّ الهوى" :
ليسَ الشُّجاعُ الذي يَحمي مَطيَّتَهُ لكنْ فتىً غَضَّ طرفاً أو ثنى بصراً 1
يومَ النِّزَالِ ونارُ الحربِ تشتعلُ عَن الحرامِ، فذاكَ الفارسُ البطلُ 1 ِ
وفيه : قَالَ الْفَرَزْدَقُ :
تَزَوَّدَ مِنْهَا نَظْرَةً لَمْ تَدَعْ فَلَمْ أَرَ مَقْتُولًا وَلَمْ أَرَ قَاتِلًا 111
لَهُ فُؤَادًا وَلَمْ يَشْعُرْ بِمَا قَدْ تَزَوَّدَا بِغَيْرِ سِلَاحِ مِثْلَهَا حِينَ أَقْصِدَا 1
وَفي نفس المعنَى قَالَ آخَرُ :
وَمَنْ كَانَ يُؤْتَى مِنْ عَدُوٍّ وَحَاسِدٍ هُمَا اعْتَوَرَانِي نَظْرَةً ثُمَّ فِكْرَةً 1
فَإِنِّي مِنْ عَيْنِي أُتِيت وَمِنْ قَلْبِي فَمَا أَبْقَيَا لِي مِنْ رُقَادٍ وَلَا لُبِّ 111
وََقَالَ ابْنُ الْمُعْتَزِّ :
مُتَيَّمٌ يَرْعَى نُجُومَ الدُّجَى عَيْنِي أَشَاطَتْ بِدَمِي فِي الْهَوَى 1
يَبْكِي عَلَيْهِ رَحْمَةً عَاذِلُهْ فَابْكُوا قَتِيلًا بَعْضُهُ قَاتِلُهْ 111
وَقَالَ آخَرُ :
يا قَاتَلَ اللهُ الجُفُونَ فإنَّهَا
مَهمَا رَمَت لمَ تُخطِ شَاكِلَةُ الرَمِيْ
وَأَنْشَدَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي "الدَّاءِ وَالدَّوَاءِ" لِنَفْسِهِ :
مَلَّ السَّلَامَةَ فَاغْتَدَتْ لَحَظَاتُهُ مَا زَالَ يُتْبِعُ إثْرَهُ لَحَظَاتَهُ
وَقْفًا عَلَى طَلَلٍ يَظُنُّ جَمِيلَا حَتَّى تَشَحَّطَ بَيْنَهُنَّ قَتَِيلاً
وفيه:(1/27)
مَا زِلْت تُتْبِعُ نَظْرَةً فِي نَظْرَةٍ وَتَظُنُّ ذَاكَ دَوَاءَ جُرْحِك وَهْوَ فِي التّـ فَذَبَحْت طَرْفَك بِاللِّحَاظِ وَبِالْبُكَا
فِي إثْرِ كُلِّ مَلِيحَةٍ وَمَلِيحِ حْقِيقِ تَجْرِيحٌ عَلَى تَجْرِيحِ فَالْقَلْبُ مِنْك ذَبِيحٌ ابْنُ ذَبِيحِ 1
وأنشد في "رَوْضَةِ الْمُحِبِّينَ وَنُزْهَةِ الْمُشْتَاقِينَ" :
أَلَمْ أَقُلْ لَك لَا تَسْرِقْ مَلَاحِظَهُ نَصَبْت طَرْفِي لَهُ لَمَّا بَدَا شَرَكًا 1
فَسَارِقُ اللَّحْظِ لَا يَنْجُو مِنْ الدَّرَكِ فَكَانَ قَلْبِي أَوْلَى مِنْهُ بِالشَّرَكِ 111
وفي "شرح منظُومَة الآدابِ" للشيخ محمَّد السفَاريِنِيِّ رحمَهُ الله تَعَالَى: وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْإِمَامِ الصَّرْصَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَضِيَ عَنْهُ :
وَغُضَّ عَنْ الْمَحَارِمِ مِنْك طَرْفًا فَخَائِنَةُ الْعُيُونِ كَأُسْدِ غَابٍ وَمَنْ يَغْضُضْ فُضُولَ الطَّرْفِ عَنْهَا
طَمُوحًا يَفْتِنُ الرَّجُلَ اللَّبِيبَا إذَا مَا أُهْمِلَتْ وَثَبَتْ وُثُوبَا يَجِدْ فِي قَلْبِهِ رَوْحًا وَطِيبَا
وقاَلَ الشاعِرُ المُجِيدُ :
كُلُّ الْحَوَادِثِ مَبْدَاهَا مِنْ النَّظَرِ كَمْ نَظْرَةً فَتَكَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا وَالْعَبْدُ مَا دَامَ ذَا عَيْنٍ يُقَلِّبُهَا يَسُرُّ نَاظِرَهُ مَا ضَرَّ خَاطِرَهُ
وَمُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ فَتْكَ السِّهَامِ بِلَا قَوْسٍ وَلَا وَتَرِ فِي أَعْيُنِ الْغِيدِ مَوْقُوفٌ عَلَى خَطَرِ لَا مَرْحَبًا بِسُرُورٍ عَادَ بِالضَّرَر ِ
قال أبو الحَسَنَاتِِ : وكنتُ قَد كتبتُ أبياتاً على لسان شابٍّ ترك النّظر إلى النِّساءِ، فذاق حَلاوةَ الطاعة، وانجَلت عنهُ همومُه التي ورَّثها النَّظرُ، ثُمَّ لا زالت نفسُه تُعانِدُه وهُو يُجاهِدُها، فقال:
يا رَبِّ صَبِّرنِي فإنِّي تَائِبٌ
أنعِم عَليَّ بِراحَةٍ وسكِينَةٍ
أتَرى هُمُومِي قَد تُعَاوِدُنِي وَقَدْ(1/28)
مِن يَومِ أن فَارَقتُ ذَاكَ الفعلَ فِي
يَا أيُّهَا الذنبُ القَبيحُ ألا ابتَعدْ
لا تحَسبَنَّ مَليحَ شَكلِكَ خَادِعٌ
وَالعقلُ يَأبى أن يُبدِّلَ عَاقِلٌ
واللهُ علَّمَنَا بَأن النَّصَر مَع
مِن فعلِ ذاك الفاسِقِ المُتَمَرِّدِ
لا خيرَ في عيشٍ كئيبٍ مجهِدِ
ذُقتُ السعادةَ بالمعيش الأرغَدِ؟! خَلوَاتِ شُؤمٍ لا تُقَى وتعبُّدِ
لا قُربَ مِنَّي لا تُقَارِب مَقعَدِيْ
لي قَد عَرَفُتكَ: أنت ثعلبُ مُعتَدِيْ
ألمَاً وآهَاتٍ بعَيشٍ أسعَدِ
صبرٍ وجهدٍ، فافهَمَنْ يا مُهتَدِيْ
ولابن الْقَيِّمِ قَصِيدَةٌ رائعةٌ ذَكَرَهَا فِي "بَدَائِعِ الْفَوَائِدِ" وفي "الْفَوَائِدِ "، وها أنَا أذكُرُها هُنا بطُولِها:(1/29)
يَا رَامِيًا بِسِهَامِ اللَّحْظِ مُجْتَهِدًا وَبَاعِثُ الطَّرْفِ تَرْتَادُ الشِّفَاءَ لَهُ تَرْجُو الشِّفَاءَ بِأَحْدَاقٍ بِهَا مَرَضٌ وَمُفْنِيًا نَفْسَهُ فِي إثْرِ أَقْبَحِهِمْ وَوَاهِبًا عُمْرَهُ مِنْ مِثْلِ ذَا سَفَهًا وَبَائِعًا طِيبَ عَيْشٍ مَا لَهُ خَطَرٌ غُبِنْت وَاَللَّهِ غَبْنًا فَاحِشًا فَلَوْ اسْـ وَوَارِدَاً صَفوَ عَيشٍ كُلَّهُ كَدَرٌ وحاطبَ الليلِ في الظلمَاء مُنتَصِبَاً شَابَ الصِّبَا وَالتَّصَابِي لَمْ يَشِبْ وَشَمْسُ عُمْرِك قَدْ حَانَ الْغُرُوبُ لَهَا وَفَازَ بِالوَصلِ مَنْ قَدْ فَازَ وَانقَشَعَتْ كَمْ ذَا التَخَلُّفُ وَالدُّنيَا قَدِ ارتَحَلَتْ مَا فِي الدِيَارِ وَقَدْ سَارَتَ رَكَائِبُ مَنْ فَافرِشْ الخَدَّ ذَيَّاكَ التُرَابُ وَقُلْ مَا رَبعُ (مَيَّةَ) مَحفُوفَاً يَطُوفُ بِهِ ولا الخُدُودَ وإنْ أُدمِينَ من ضَرَجٍ مَنَازِلاً كَانَ يَهوَاهَا وَيَألَفُهَا فَكُلَّمَا جُلِّيَتْ تلكَ الرُبُوعُ لهُ أحيَا لَهُ الشَوقُ تِذكَارَ العُهُودِ بها هَذَا وَكمْ مَنزِلٍ في الأرضِ يَألَفُهُ مَا في الخِيَامِ أخُو وَجدٍ يُرِيُحكَ إنْ وَأسرِ في غَمَرَاتِ اللَّيلِ مُهتَدِيَاً وَعَادِ كُلَّ أخِي جُبنٍ وَ مَعجَزَةٍ وَخُذْ لِنَفسِكَ نُورَاً تَستَضِيءُ بِهِ فالجِسرُ ذُو ظُلُمَاتٍ لَيسَ يَقطَعُهُ 11(1/30)
أَنْتَ الْقَتِيلُ بِمَا تَرْمِي فَلَا تُصِبْ تَوَقَّهُ إنَّهُ يَرْتَدُّ بِالْعَطَبِ فَهَلْ سَمِعْت بِبُرْءٍ جَاءَ مِنْ عَطَبِ؟! وَصْفًا لِلَطْخِ جَمَالٍ فِيهِ مُكْتَسَبِ لَوْ كُنْت تَعْرِفُ قَدْرَ الْعُمْرِ لَمْ تَهَبِ بِطَيْفِ عَيْشٍ مِنْ الْأَيَّامِ مُنْتَهَبِ تَرْجَعْتَ ذَا الْعِقْدَ لَمْ تُغْبَنْ وَلَمْ تَخِبِ أمَامَكَ الوَردُ صَفوَاً ليسَ بِالكَذِبِ لِِكُلِّ دَاهِيَةٍ تَدنُو مِنَ العطَبِ وَضَاعَ وَقْتُك بَيْنَ اللَّهْوِ وَاللَّعِبِ وََالْطَّيُّ فِي الْأُفْقِ الشَّرْقِيِّ لَمْ يَغِبِ
عَنْ أفقِهِ ظُلُمَاتُ الَّليلِ وَالسُحُبِ وَرُسلُ رَبِّكَ قَدْ وَافَتكَ في الطَلَبِ
تَهوَاهُ للصَّبِّ مِنْ سُكنَى وَلا أَرَبِ
مَا قَالَهُ صَاحِبُ الأشوَاقِ في الحِقَبِ (غَيلانُ) أشهَى لَهُ مِن رَبعِكِ الخَرِبِ أشهَى إلى نَاظِرِيْ مِنْ خَدِّكِ التَرِبِ أيَّامَ كَانَ مَنَالُ الوَصلِ عَنْ كثَبِ هَوَى إليهَا هَوِيَّ المَاءِ في صبِّ فَلَو دَعَا القَلبُ للسُّلوَانِ لَم يُجِبِ وَمَا لَهُ في سِوَاهَا الدَهرَ مِن رَغَبِ بَثَثتَهُ بَعض شَأنِ الحُبِّ فاغْتَرِبِ بِنَفحَةِ الطِّيبِ لا بِالنَّارِ والحَطَبِ وحارب النفس لا تلقيك في الحَربِ
يَومَ اقتِسَامِ الوَرَى الأنوَارَ بِالرُّتَبِ
إلا بِنورٍ يُنجِي العَبدَ في الكُرَبِ 1
خَاتِمةٌ فيها ذِكرُ كلماتٍ مُختصَراتٍ في غَضِّ الْبَصَرِ
النَّظْرَةُ تَزْرَعُ فِي الْقَلْبِ الشَّهْوَةَ .
لا يزني فرجُكَ وقد غَضضَّت بَصرَكَ .
العينُ أنمُّ منَ اللِّسانِ.
أوَّلُ العشقِ النَّظرُ، وأوَّلُ الحريقِ الشَّررُ.
مَن طاوعَ طرفَهُ تَابعَ حتفَهُ .
مَنْ أَطْلَقَ طَرْفَهُ، كَثُرَ أَسَفُهُ .
النَّظَرُ سَهمُ سُمٍّ إلى القَلبِ .
الصَّبْرُ عَلَى غَضِّ الطَّرْفِ أَيْسَرُ مِنْ الصَّبْرِ عَلَى أَلَمٍ بَعْدَهُ .
حَبسُ اللَّحظاتِ أيسرُ من دَوامِ الحَسَرَاتِ.(1/31)
والحَمْدُ للهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِي لَوْلاَ أَنْ هَدَانَا اللهُ، وصَلَّى اللهُ عَلَى وَعَلَى آلِه وَصَحِبهِ وسلَّم.
وَكَانَ الفَرَاغُ ليلةُ الإثنين 19/صفر /1427هـ .
وَكَتَبَ : أبُو الحَسَنَاتِ الدِمَشقِيُّ.
??
??
??
??
10
بِشَارَةُ الشَّبَابِ بِمَا جَاءَ فِي غَضِّ البَصَرِ مِن الثَّوَابِ(1/32)