برُّ الوالدين في ضوء السُّنَّة النَّبويّة الشَّريفة
( د. سعاد سليمان إدريس الخندقاويّ (1)
مُقَدِّمَة:
الحمد لله الذي أنزل القرآن نوراً، وبعث محمداً - صلى الله عليه وسلم - نبيّاً رسولاً، وهادياً إلى سبيل ربه وسراجاً منيراً، فهدانا إلى الصِّراط المستقيم، وما كنا لنهتدي لولا أنْ هدانا الله. وبعد،،،
فإنَّ سلف هذه الأُمَّة كانوا يتمسّكون بالقيم والمُثُل العليا، وينصاعون للتَّشريعات والتوجيهات الإسلاميّة، ومن ذلك "برّ الوالدين" الذي كان خُلُقاً لهم، يربون عليه أبناءهم، ويوصونهم بالآباء خيراً، على نحو ما عبَّر عنه الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في هذه الأبيات:
عليك ببرّ الوالدين كليهما ... وبرّ ذوى القربى وبرّ الأباعد
ولا تصحبنَّ إلاَّ تقيّاً مهذباً ... عفيفاً ذكيّاً منجزاً للمواعد
وقارن إذا قارنت حُرَّاً مؤدباً ... فتى من بنى الأحرار زين المشاهد
ففيها الوصية ببرّ الوالدين، وبرّ الأقارب؛ بل وحتَّى الأباعد.
إذاً فنحن اليوم أحوج ما نكون إلى مَنْ يجنّد نفسه، ويبذل طاقته، في سبيل الحثّ على رعاية حقوق الوالدين، وإسداء الجميل لهما، وذلك اعترافاً بما لهما من يد طولى علينا.
أجل نحن في حاجة؛ بل وحاجة ماسّة، إلى تجنيد الأقلام وكُلّ وسائل الإعلام، من: صحف، وإذاعة، وتلفاز، للتَّنبيه على حقوق الوالدين والتَّرغيب فيها. فالأبناء ـ وإنْ لم يكونوا جميعاً ـ فإنَّ غالبيتهم العظمى في غفلة عن التزاماتهم وواجباتهم تجاه والديهم، الشَّيء الذي يهدِّد حياتهم وينذرهم بالعواقب الوخيمة، وعلى العلماء تنبيههم وتذكيرهم، فإنَّ الذِّكرى تنفع المؤمنين، ولعلَّه أنْ يكون من بين هؤلاء الغافلين مَنْ إذا نُصِحَ استجاب، وإذا وُعِظَ ازدجر، فينجو من عذاب الله تعالى المحقَّق بعقوق الوالدين. ...
__________
(1) (()أستاذ مشارك بكلية أصول الدِّين، نائب عميد كليّة الدّراسات العليا بجامعة أم درمان الإسلاميّة.(1/1)
ومن هنا رأيتُ أنْ يكون هذا البحث في برّ الوالدين؛ لبيان ما على الأبناء تجاه آبائهم من واجبات، وتنبيه الذين يسيئون معاملة آبائهم بصورة تأكّد جهلهم بفضل الآباء عليهم بعد الله تعالى، آملة أنْ يكون ما جاء في هذا البحث مساهمة فاعلة في تذكير الأبناء بحقوق آبائهم عليهم، وأنْ يلتزموا بها، ولا يفرطوا فيها حين تجذبهم متع الحياة، من: زوجة، وأولاد، ومال، فينسون أنَّهم كانوا في ضعف فقوّاهم الآباء، وفي فقر فغنوا بفضل آبائهم، فيكون برّ آبائهم من باب ردّ الجميل، وليس تفضُّلاً عليهم.
وقد جعلت هذا البحث في ثلاثة مطالب:
الأوَّل: في معنى البر في اللُّغة والاصطلاح.
والثَّاني: في برّ الوالدين.
والثَّالث: في برّ الأُم والخالة.
المطلب الأوَّل
معنى البرّ في اللُّغة والاصطلاح
أولاً: معنى البرّ في اللُّغة العربيّة:
جاء في "المعجم الوجيز" (1) : "البرّ: الخير"، وجاء في "لسان العرب": "البرّ (2) : الصِّلة، والجنَّة، والخير، والاتّساع في الإحسان، ويقال: برّ حجّك بَرَّ وبُرَّ ـ بفتح الباء وضمها ـ فهو مبرور، والصِّدق والطَّاعة كالتَّبرُّر، واسم برّ معروف، ضدّ العقوق، كالمبر بررته كعلمته وضربته".
وأصلح العرب أبرّهم، أي أعدلهم، ومن أصلح لله جوانبه أصلح الله برانيه، نسبة على غير قياس.
وقال الأستاذ بطرس البستانيّ (3) : "وبرّ والده يبرّه مبرة؛ أحسن إليه ووصله".
ثانياً: معنى البرّ اصطلاحاً:
البرّ عند الفقهاء "لفظ جامع للخيرات كلّها، يُراد به التَّخلُّق بالأخلاق الحسنة مع النَّاس، بالإحسان إليهم، وصلتهم، والصِّدق معهم، ومع الخالق بالتزام أمره، واجتناب نهيه".
__________
(1) مَجْمَع اللُّغة العربيّة، مطابع شركة الإعلانات الشَّرقيّة، دار التَّحرير للطَّبع والنَّشر، ط/1، 1400 هـ ـ 1980م.
(2) لسان العرب لابن منظور، دار إحياء التُّراث العربيّ، 9/323.
(3) في كتابه: "قطر المحيط"، نسخة طبق الأصل الفوتو أوفست.(1/2)
كما يُطلق ويُراد به "العمل الدَّائم الخالص من المآثم، ويقابله الفجور والإثم" (1) ، كما قال الله تعالى [البقرة: 177].
والبرّ: هو العمل الصَّالح الخالص من كل مذموم، وهو اسم جامع للخيرات كلّها، ويقابل الفجور، الذي هو الميل إلى الفساد، وقيل: الانغماس في المعاصي، وهو اسم جامع للبشر قال تعالى [الانفطار: 13-14]. ومنه البرّ في حقّ الوالدين وهو في حقّهما وحقّ الأقربين من الأهل ضدّ العقوق، وهو الإساءة إليهم والتَّضييع لحقّهم، يقال: برّ يبرّ فهو بارّ، وجمعه برره، وجمع البرّ أبرار.
المطلب الثَّاني
برّ الوالدين
كما أسلفتُ الذِّكر فإنَّ سبب ذكري لواجبات الآباء نحو أبنائهم هو التَّمهيد للحديث عن برّ الوالدين؛ لأنَّ استقامة الولد على الجادة هي التي تدفعه لأداء ما لوالديه عليه من برّ وإحسان، فلنر معاً في هذا المطلب مُقوِّمات برّ الابن بوالديه.
[1] الإحسان:
[أ] عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، مَنْ أحقُّ النَّاس بحسن صحابتي؟ قال: (أمك)، قال: ثُمَّ مَنْ؟ قال: (أمك)، قال: ثُمَّ مَنْ؟ قال: (أمك)، قال: ثُمَّ مَنْ؟ قال: (ثُمَّ أبوك) (2) .
__________
(1) الموسوعة الفقهيّة، إصدار وزارة الأوقاف والشُّؤون الإسلاميّة، ط/2، 8/59.
(2) أخرجه البخاريّ في كتاب الأدب، باب مَنْ أحقّ النَّاس بحسن الصُّحبة، (من الفتح).(1/3)
[ب] وعن شُعبة قال: أخبرني الوليد بن عيزار قال: سمعتُ أبا عمر الشَّيبانيّ يقول: أخبرنا صاحب هذه الدَّار، وأومأ بيده إلى دار عبد الله ـ قال: سألتُ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - : أيُّ العمل أحبّ إلى الله عزَّ وجلَّ؟ قال (الصَّلاة على وقتها)، قال: ثُمَّ أي؟ قال: (برّ الوالدين)، قال: ثُمَّ أي؟ قال: (الجهاد في سبيل الله) قال: "حدّثني بهنَّ، ولو استزدته لزادني" (1) .
[ج] وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (أعفوا عن نساء النَّاس تعف نساؤكم، وبرّوا آباءكم تبرّكم أبناؤكم، ومَنْ أتاه أخوه متنصلاً فيقبل ذلك محقّاً كان أم مبطلاً، فإنْ لم يفعل لن يرد الحوض) (2) .
[د] وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: "مَنْ سَرَّه أنْ يُمدّ له في عُمُره، ويُزاد له في رزقه؛ فليبرّ والديه" (3) .
__________
(1) أخرجه البخاريّ في كتاب الصَّلاة، باب فضل الصَّلاة لوقتها، 1/126، بلفظه، ومسلم في كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله أفضل الأعمال، برقم 1270، 1/89.
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب البرّ والصِّلة، باب برّوا آباءكم تبرّكم أبناؤكم، 4/154، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وعقّب عليه الذَّهبي بقوله: "بل سويد ضعيف".
(3) أخرجه البخاريّ في كتاب الأدب، باب مَنْ بُسِطَ له في الرِّزق بصلة الرّحم، وفيه: (مَنْ أحبّ أَنْ يُبْسَط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره؛ فليصل رحمه).(1/4)
بيَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من خلال الأحاديث السَّابقة أنَّ الوالدين أحق النَّاس بحسن المعاشرة وجميل البرّ والإحسان؛ لعظيم فضلهما على الإنسان، وكثرة إحسانهما إليه، وشدّة عنايتهما به في الصِّغر، وحرصهما دائماً على راحته وسعادته في جميع أطوار حياته، فهما سبب وجوده، وبفضل رعايتهما له اشتدَّ ساعده، وأصبح إنساناً نافعاً قوّيّاً، قادراً على الجهاد في معترك الحياة. ولذا أمر الله تعالى ببرّهما والإحسان إليهما، ونهى عن عقوقهما، وشدَّد في ذلك أبلغ التَّشديد، وحذَّر منه أبلغ التَّحذير، وذلك في كتابه العظيم، قال تعالى
[الإسراء: 23-24].
توجب الآية الكريمة عبادة الله تعالى، وتدلُّ على منع عبادة غيره؛ وذلك لأنَّ العبادة عبارة عن "الفعل المشتمل على نهاية التَّعظيم"، ونهاية التَّعظيم لا تليق إلاَّ بمَنْ يصدر عنه نهاية الإنعام، وهي إعطاء الوجود، والحياة، والقدرة، والشهوة، والعقل، وقد ثبت بالدَّلائل أنَّ المعطي لها هو الله سبحانه وتعالى، فلا جرم أنْ يكون وحده المستحقّ للعبادة لا غيره.
ثُمَّ أتبع سبحانه وتعالى الأمر بعبادته الأمر ببرّ الوالدين، وقد بيَّن الإمام الرَّازيّ (1) المناسبة بين الأمر بعبادة الله تعالى والأمر ببرّ الوالدين من وجوه ألخصها في الآتي:
[1] إنَّ السَّبب الحقيقيّ لخلق هذا الإنسان هو جعله خليفة الله تعالى في الأرض، والسَّبب الظَّاهريّ في إيجاده هو الأبوان، فأمر بتعظيم السَّبب الحقيقيّ، ثُمَّ أتبعه بالأمر بتعظيم السَّبب الظَّاهريّ.
__________
(1) الرّازيّ: مفاتح الغيب أو التَّفسير الكبير، 20/184.(1/5)
[2] يجب أنْ تكون معاملة الإنسان مع إلهه وخالقه بالتَّعظيم والعبوديّة، ومع المخلوقين بإظهار الشَّفقة، وهو المراد من قوله - صلى الله عليه وسلم - : (التَّعظيم لأمر الله، والشَّفقة على خلق الله)، وفي قوله تعالى إشارة إلى تعظيم أمر الله تعالى، بينما في قوله تعالى إشارة إلى الشَّفقة على خلق الله تعالى. وأحقّ الخلق بصرف الشَّفقة إليه هما الأبوان؛ لكثرة أفضالهما على الإنسان،
[3] إنَّ الاشتغال بشكر المنعم واجب، والمنعم الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى، وإذا كان أحد المخلوقين مُنعِماً وجب كذلك شكره، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : (مَنْ لا يشكر النَّاس لا يشكر الله) (1) ، وليس لأحد من الخلائق نعمة على الإنسان مثل ما للوالدين، وتقريره من وجوه:
[أ] الولد قطعة من الوالدين، لقوله - صلى الله عليه وسلم - عن ابنته: (فاطمة بضعة مني).
[ب] شفقة الأبوين على الولد عظيمة، واجتهادهما في إيصال الخير إلى الولد أمر طبيعيّ، واحترازهما عن إيصال الضَّرر إليه أمر طبيعيّ كذلك.
[ج] إنَّ الإنسان حال ما يكون في غاية الضَّعف ونهاية العجز يكون في أنعام الوالدين.
[4] إيصال الخير إلى الغير قد يكون لداعية، فكان الأنعام فيه أتم وأكمل، فثبت أنَّه ليس لأحد من المخلوقين نعمة على غيره مثل ما للوالدين على الولد؛ ولهذا بدأ الله تعالى بشكر نعمة الخالق، ثُمَّ أردفه بشكر نعمة الوالدين، فقال تعالى [لقمان: 14].
ومن باب الإحسان إلى الوالدين الدُّعاء لهما حال كفرهما بالهداية والإرشاد، وإنْ أسلما كان بطلب الرَّحمة لهما بعد حصول الإيمان.
أمَّا الأحاديث التي وردت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في برّ الوالدين فكثيرة، استشهدتُ منها بأربع أحاديث:
__________
(1) أخرجه التّرمذيّ في أبواب البرّ والصِّلة، باب ما جاء في الشُّكر لِمَنْ أحسن إليك، برقم 2021، 3/228. وقال: "هذا حديث حسن صحيح".(1/6)
أمَّا أوُّلها فعن مَنْ أوْلَى بحسن الصُّحبة، وكيف أنَّ الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - أكَّد للسَّائل أنَّ أحقّ النَّاس بحسن الصُّحبة هي الأم، بتكرارها ثلاث مرات، مقابل مرّة واحدة راجعة للأب.
وأكَّد الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - أنَّ الأم الشَّفيقة البرّة الرَّفيقة أحقّ النَّاس بحسن الصُّحبة؛ لِمَا ذاقت من أنواع الآلام مدة الحمل، وقاست ما قاست من الشَّدائد وقت المخاض والوضع، ثُمَّ أضعفت قوتها بالرَّضاع حولين كاملين، وحملت تارة في البطن، وأخرى على الصَّدر، وثالثة على اليدين، وباتت عند مرض الطِّفل ساهرة، جائعة، حزينة، باكية، متألمة، لا تزال تفتأ تسأل لابنها الشِّفاء والتَّمتُّع بطول العُمُر في هناء وصفاء، الشَّيء الذي جعل الرَّسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - لا يُقدِّم عليها أحداً في البرّ والخير والإحسان، وأكَّد أنَّها أحقّ النَّاس بحسن الصُّحبة على النَّاس جميعاً بما فيهم الأب.
كما أوضح - صلى الله عليه وسلم - أنَّه ليس هناك أحد أحقّ بالعطف، والحنان، والرَّحمة، والإحسان، من الأب العطوف الرَّحيم، الذي ينفق من نفائس أمواله في تربية ابنه، وإرشاده لِمَا ينفعه في دينه ودنياه، فكان أحقّ النَّاس بحسن الصُّحبة على النَّاس جميعاً فيما عدا الأُم.
وأكَّد تعالى الوصية بهما في حال الكِبر، حين حاجتهما إلى الإكرام والإحسان، وبذل النَّفس والمال في سبيل مصلحتهما، والسَّعي الجاد في كسب رضاهما، ولذا نجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (رغم أنف مَنْ أدرك والديه عند الكِبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخلاه الجنَّة) (1) .
ومعنى الحديث أنَّه ذلّ، وقيل كره وخزى، والرّغام أصله لصق الأنف بالرّغام، وهو تراب مختلط برمل، والرّغم هو كل ما أصاب الأنف مما يؤذيه.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب البرّ والصِّلة، باب رغم أنف مَنْ أدرك أبويه أو أحدهما عند الكبر فلم يدخل الجنَّة، برقم 2551، 4/1978.(1/7)
ويستفاد من هذا الحديث الحثّ على برّ الوالدين وعظيم ثوابه، وأنَّ برّهما عند ضعفهما وكبرهما بالخدمة أو بالنَّفقة أو غيره سبب لدخول الجنَّة، فمَنْ قصَّر في ذلك؛ فاته دخول الجنَّة، وأرغم الله أنفه، ويؤيِّد هذا الحديث قوله تعالى [الإسراء: 23].
ومهما فعل الإنسان من برّ تُجاه والديه؛ فإنَّه لن يوفيهما حقّهما عليه، فقد رُوِيَ أنَّ رجلاً اشتكى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أباه، وأنَّه يأخذ ماله، فدعى به، فإذا هو شيخ يتوكأ على عصا، فسأله فقال: "كان ضعيفاً وأنا قوي، وفقيراً وأنا غني، فكنت لا أمنعه شيئاً من مالي، واليوم أنا ضعيف وهو قوي، وأنا فقير وهو غني، فبخل عليّ بماله"، فبكي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: (ما من حجر ولا مدر يسمع هذا إلاَّ بكى)، ثُمَّ قال للولد: (أنت ومالك لأبيك) مرتين (1) .
وشكى إليه آخر سوء خُلُق أمه، فقال: (لم تكن كذلك حين أرضعتك حولين) قال: ما فعلت؟ قال: "حججتُ بها على عاتقي" قال: (ما جزيتها ولو طلقة).
ومن هنا ندرك أنَّ رضا الوالدين يكون بعيد المنال، فعلى الولد أنْ يحرص أشدّ الحرص على رضا الوالدين؛ فإنَّ رضاهما سعادة في العاجل والآجل، كما عليه أنْ يحذر غضبهما؛ فإنَّ غضب الوالدين من المهلكات. ولا يخفى ما يضمره المرء من الميل إلى برّ الوالدين من خلوص نية أو رياء، ومن رضى أو كراهية، فإنْ قصدنا البرّ بهما وفرط منا تقصير في حقّهما أو شدّة في مخاطبتهما من غير قصد؛ فإنَّ الله تعالى برحمته يتوب علينا، ويغفر لنا خطايانا.
[2] وجوب طاعتهما إلاَّ في معصية الله تعالى:
__________
(1) أخرجه الطَّبرانيّ في المعجم الكبير، برقم 6961، 7/230.(1/8)
[أ] عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ قال: جاء رجل إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يستأذنه في الجهاد، فقال: (أحيٌّ والداك ؟ قال: نعم، قال: (ففيهما فجاهد) (1) .
قال القاضي عياض في معرض حديثه عن برّ الوالدين: "إنَّ أحسن ما يتوسل به إلى دخول الجنّة ونيل درجاتها العالية مطاوعة الوالد، ومُراعاة جانبه".
وقال غيره: "إنَّ للجنّة أبواباً، وإنَّ أحسنها دخولاً أوسطها، وإنَّ سبب دخول ذلك الباب الأوسط هو المحافظة على حقوق الوالد، والمراد بالوالد الجنس، فإذا كان حكم الوالد هذا فحكم الوالدة أقوى، وبالاعتبار أَوْلَى". فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إنَّ الوالد أوسط أبواب الجنَّة، فإنْ شئت فأمسك، وإنْ شئت فدع) (2) .
وليس المراد من العبارة الأخيرة في الحديث: حافظ على الوالد أو اترك التَّخيير بين الأمرين؛ بل المراد التَّوبيخ على الإضاعة، والحثّ على الحفظ، قال تعالى [الكهف: 29].
[ب] وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنَّ رجلاً من أهل اليمن هاجر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: (هل لك أحد باليمن؟) قال: أبواي، فقال - صلى الله عليه وسلم - : (أذنا لك؟) قال: لا، قال: (فارجع إليهما فاستأذنهما، فإنْ أذنا لك فجاهد، وإلاَّ فبرّهما) (3) .
وإذا سأل سائل: كيف أوقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجهاد على رضا الوالدين وهو فرض؟
__________
(1) متفق عليه، أخرجه مسلم في كتاب البرّ والصِّلة، باب برّ الوالدين وأنَّهما أحقّ به برقم 2549، 4/1974.
(2) أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب الطَّلاق، باب طلاق المرأة بأمر الأبوين، 2/197. وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وعقَّب عليه الذَّهبيّ بقوله: "صحيح".
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب في الرَّجل يغزو وأبواه كارهان، 2/17.(1/9)
فالإجابة هي: إنَّ الجهاد منه ما هو فرض عين، ومنه ما هو فرض كفاية. أمَّا الذي هو فرض عين فلا مناص من أدائه، رَضِيَ الوالدان أم أبيا، أمَّا الجهاد الذي هو فرض كفاية فهو ما عناه الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - في الحديث؛ لأنَّ برّ الوالدين فرض، إذ قال تعالى بخلاف فرض الكفاية، الذي يصير غير واجب على مَنْ له أبوان إذا قام به غيره، ولمَّا أثبتنا أنَّ برّ الوالدين واجب عينيّ؛ صحَّ توقُّف هذا الجهاد على إذنهما.
وقد ألحق بذلك كل سفر يخافان فيه على نفسه أو عضو من أعضائه.
وقال جمهور العلماء يحرم الجهاد إذا منع الأبوان أو أحدهما بشرط أنْ يكونا مسلمين؛ لأنَّ برّهما فرض عين عليه، والجهاد فرض كفاية، فإذا تعيَّن الجهاد فلا إذن.
[ج] وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: كان لي امرأة أحبّها، وكان عمر يكرهها، فأمرني أنْ أطلقها فأبيت، فأتى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، وقال: يا رسول الله، إنَّ عند عبد الله بن عمر امرأة كرهتها له، فأمرته أنْ يطلقها فأبى، فقال رسول الله: (يا عبد الله، طلِّق امرأتك)، فطلقتها. وفي رواية: فقال: (أطع أباك) (1) .
__________
(1) أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب الطَّلاق، باب طلاق المرأة بأمر الأبوين، 2/197. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشَّيخين، ولم يخرجاه، وعقَّب عليه الذَّهبيّ بقوله: "متفق عليه".(1/10)
يُفهم من هذا الحديث أنَّ من برّ الوالد تطليق الزَّوجة طاعة لأمره. والظَّاهر أنَّ عمر - رضي الله عنه - ما كرهها إلاَّ لكونه يرى أنَّها غير صالحة لابنه، وغرضه بذلك المصلحة، لا سيما وقد كان سيدنا عمر من المأمونين، وقد نزل القرآن موافقاً له عدة مرات، وما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيدنا عبد الله - رضي الله عنه - بطلاق زوجته إلاَّ وقد رأى صحة رأي سيدنا عمر - رضي الله عنه - ، فوافق وهو القائل " أبغض الحلال إلى الله عز وجل الطَّلاق (1) .
[3] صلة رحمهما :
ومن أوجه برّ الوالدين أيضاً صلتهما وصلة الرَّحم التي لا تُوصل إلاَّ بهما، فصلة الوالد واجبة وإنْ كان مشركاً، فقد رُوِيَ عن أسماء بنت أبي بكر
ـ رضي الله عنها ـ أنَّها قالت: "قدمت أمي علىّ وهي مشركة، فسألت النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - : أأصلها؟" قال: (نعم) (2) .
وفي رواية أخرى قالت: "قدمت أمي علىَّ وهي مشركة في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فاستفتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قدمت عليّ أمي وهي راغبة، أفأصل أمي؟ قال: (نعم، صِلِي أمك).
فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصلتها، كما أمرها أنْ تقدم لها المودة والإحسان، وتعينها إذا كانت محتاجة.
وسبب الإحسان إليهما وإنْ كانا مشركين أنَّهما سبب وجودنا في هذه الحياة الدُّنيا، وقد قاسيا كثيراً من المتاعب في تربيتنا وإعدادنا للحياة، فالأم حملتنا في بطنها تسعة أشهر ونحن أجنّة، وعانت الشَّدائد في تربيتنا وحفظ حياتنا، والأب كدَّ في طلب الرِّزق، وأنفق علينا في تربيتنا وتثقيفنا، ولأنَّهما أقرب رحم للإنسان .
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطَّلاق، باب كراهة الطَّلاق، 1/503، وابن ماجه في كتاب الطَّلاق، باب حدثنا سويد بن سعيد، برقم 2018، 1/650.
(2) أخرجه البخاريّ في كتاب الأدب، باب صلة الوالد المشرك، 13/17 (من الفتح).(1/11)
أمَّا أقاربهما فقد أوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهم فيما رواه عنه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال : "سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (مَنْ سرَّه أنْ يُبسط له في رزقه، وأنْ ينسأ له في أثره؛ فليصل رحمه) (1) .
وقد أورد العينيّ (2) اعتراضاً بأنَّ الأعمار لا تزيد ولا تنقص، بدليل قوله تعالى [النَّحل: 61].
ورُدّ هذا التَّعارض من وجهين:
الوجه الأوَّل: أنَّ هذه الزِّيادة بالبرّكة بسبب التَّوفيق في الطَّاعات، وصيانتها من الضَّياع.
الوجه الثَّاني: أنَّ الزِّيادة على حقيقتها، وذلك ما يظهر له في اللَّوح المحفوظ بالمحو والإثبات فيه [الرَّعد: 39].
وأوصى الله تعالى بصلة الرّحم فقال [النِّساء: 36].
ويجب الاستمرار في صلة الرّحم وإنْ حدث من المحسن إليه ما يسئ، وترد النَّفس إنْ قست عليه متأثرة بهذه الإساءة رجوعاً إلى قوله تعالى: [النُّور: 22].
وقد نزلت هذه الآية في سيدنا أبي بكر الصِّدِّيق - رضي الله عنه - ، حيث حلف ألاَّ ينفق على مسطح ـ ابن خالته ـ لخوضه في حديث الإفك، وكان مسكيناً، بدريّاً، مهاجراً، ولما سمع الصِّدِّيق قوله تعالى قال: "بلى أحبُّ أنْ يغفر الله لي" وردّ النَّفقة على مسطح.
وصلة الرّحم تكون بالتَّوادد، والتَّسامح، والعدل، والإنصاف، والقيام بالحقوق الواجبة والمستحبة. وأمَّا الرّحم الخاصّة فتزيد بالنَّفقة على الأقارب، وتفقُّد أحوالهم، والتَّغافل عن زلاتهم، وتتفاوت مراتب استحقاقهم كما في الحديث: (الأقرب فالأقرب).
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) عمدة القاري بشرح صحيح البخاريّ، للشَّيخ الإمام العلامة بدر الدِّين أبي محمد محمود بن أحمد العينيّ، المتوفى سنة 855ه، طبعة دار الفكر، بيروت.(1/12)
وقال ابن أبي جمرة (1) : "تكون صلة الرّحم بالمال، وبالعون على الحاجة، وبدفع الضَّرر، وبطلاقة الوجه، وبالدُّعاء، وبجمع ما أمكن من الخير، ودفع ما أمكن من الشِّرّ بحسب الطَّاقة، وهذا إنَّما يستمر إذا كان أهل الرّحم أهل استقامة، فإنْ كانوا كفاراً أو فُجَّاراً فمقاطعتهم في الله هي صلتهم، بشرط البذل في وعظهم إذا أصروا أنَّ ذلك بسبب تخلّفهم عن الحقّ، ولا يسقط من ذلك صلتهم بالدُّعاء لهم بظهر الغيب أنْ يعودوا إلى الطَّريق القويم".
[4] البرّ بعد الموت:
وكما أنَّه تجب المحافظة على برّ الوالدين حال حياتهما؛ فكذلك يجب برّهما بعد الموت بالصُّورة التي أوضحها المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، فقد جاء في الصِّحاح عن أبي أسيد؛ مالك ابن ربيعة السَّاعديّ أنَّ رجلاً قال: "يا رسول الله، هل بقي من برّ أبوي شيء أبرّهما به بعد موتهما؟ قال: (نعم الصَّلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما بعد موتهما، وصلة الرَّحم التي لا تُوصل إلاَّ بهما، وإكرام صديقهما) (2) .
ويُروى أنَّ عبد الله بن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ لقي رجلاً من الأعراب فسلَّم عليه، وحمله على دابته، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، فقال له عبد الله بن دينار: أصلحك الله إنهم لأعراب، وهم يرضون باليسير، فقال ابن عمر: إنَّ أبا هذا كان وادَّاً لعمر بن الخطاب، وإنّي سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إنَّ أبرّ البرّ صلة الولد أهل وُدّ أبيه بعد أنْ يُولي الأب) (3) .
وحاصل معنى الحديث أنَّ عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ لما لقي الأعرابي أكرمه بأمرين :
__________
(1) التَّرغيب والتَّرهيب 2/339.
(2) أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب في برّ الوالدين، 2/629، وابن ماجه في كتاب الأدب، باب صلْ مَنْ كان أبوك يصل، برقم 3664، 2/1209.
(3) المنتخب من السُّنَّة، الباب السَّادس عشر، المجلد العاشر، ص 250، وتيسير الوصول، 2/46، والإحياء، 2/193.(1/13)
أولهما: أعطاه حماراً كان يركبه، فآثره على نفسه وحمله عليه .
وثانيهما: أعطاه عمامته التي كانت على رأسه.
فاستغرب أصحابهُ منه هذا العمل، فقالوا: إنَّهم الأعراب، وإنَّ من شأنهم الرّضا بالعطاء اليسير، فلماذا بالغت في إكرامه على خلاف العادة في إكرام الأعراب؟ فقال لهم: إنَّ والد هذا الإعرابيّ كان يودّ عمر بن الخطاب، وإنّي سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول، (إنَّ أبرّ البرّ...)، أي أفضل أنواع البرّ المواساة بين العباد، التي تجلب المودة والمحبة.
(صلة الولد أهل ودّ أبيه) أي أنْ يصل الشَّخص الذي كان يصل ويودّ أباه.
(بعد أنْ يولي الأب) أي بعد أنْ يموت الأب، فإنَّ في ذلك من برّ الولد بأبيه ما لا يخفى؛ لأنَّ الولد قد يبرّ أهل ودّ أبيه حال حياة الأب إرضاءً للأب، أمّا برّه بعد وفاته فهو البرّ بعينه.
ومن برّ الوالدين بعد الوفاة كذلك التَّصدُّق عليهما، وتلاوة القرآن على روحيهما، ويمكن أنْ يؤدي عنهما فريضة الحج ويَدْعُ لهما، وفي ذلك يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاَّ من ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ ينتفع به، أو ابنٍ صالحٍ يدعو له) (1) .
__________
(1) سبق تخريجه.(1/14)
لذلك كان من أبسط وألزم واجبات الوفاء أنْ يبرّ الولد والديه، فيحسن إليهما بالكلام الطَّيب اللَّطيف، ويبش في وجههما، وينظر إليهما نظرة رحمة وإكبار، لا نظرة تأفُّف واشمئزاز، ويتواضع لهما، ويطلب من الله إعانتهما وإطالة عمرهما، ويسعى في سداد حاجتهما، وقضاء مصالحهما، والحفاظ على صحتهما وقوّتهما، بسماحة ولطف، من غير تبرُّم ولا تذمُّر، وإذا احتاج الوالدان إلى المال وجب على الولد القادر المتمكن ماليّاً أنْ يمدّ لهما يد العون والمساعدة، وينفق عليهما من غير بخل ولا تقتير، ولا يجوز أنْ تكون هذه النَّفقة من الزَّكاة أو النّذور، فذلك للفقراء والمساكين، وقد ثبت كلّ ذلك من خلال ما تقدم من آياتٍ قرآنيّة أو أحاديث نبويّة أو غيرها.
برّ الأُم وأقاربها :
[1] روى بهز بن حكيم ـ رضي الله عنهما ـ قال: حدثني أبي عن جَدِّي قال: قلتُ: يا رسول الله، مَنْ أَبرُّ قال: (أمك)، قال: قلتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قال: (أمك) قال: قلتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قال: أمك، قال: قلتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قال: (ثُمَّ أبوك، فالأقرب فالأقرب) (1) .
[2] وعن أبي الدّرداء قال: إنَّ رجلاً أتاه فقال له: إنَّ لي امرأة، وإنَّ أمي تأمرني بطلاقها، فقال أبو الدّرداء: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (الوالد أوسط أبواب الجنَّة، فإنْ شئت فأضع ذلك الباب أو أحفظه) (2) .
[3] وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنَّ رجلاً أتى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنّي أصبت ذنباً عظيماً فهل لي من توبة؟ قال: (هل لك من أم؟) قال: لا، قال: (هل لك خالة؟) قال: نعم، قال: (فبرّها) (3) .
__________
(1) أخرجه التّرمذيّ في أبواب البرّ والصِّلة، باب ما جاء في برّ الوالدين، برقم 1959، 3/206، وقال: "هذا حديث حَسَن".
(2) سبق تخريجه.
(3) أخرجه التّرمذيّ في أبواب البرّ والصِّلة، باب في برّ الخالة، برقم 1967، 3/209.(1/15)
[4] وعن ميمونة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ قالت: أعتقتُ جارية لي، فدخل عليّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، فأخبرته بصفتها، فقال: (أجرك على الله، أَمَا أنَّك لو كنت أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك) (1) .
[5] وعن شعبة قال: قلتُ لمعاوية بن عقبة: أسمعت أنساً يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للنُّعمان بن عقبة: (ابن أخت القوم منهم)؟ قال: "نعم" (2) .
تعرّضتُ في الحديث عن برّ الوالدين لجانبي الأُم والأب على السَّواء، فوجدتُ أنَّ القرآن الكريم والسُّنَّة الشَّريفة قد قدَّما الأُم في البرّ والإحسان، فلذا رأيتُ أنْ أفردها والخالة بالحديث في هذا الفصل؛ لتوضيح مزيد العناية الإسلاميّة بها، وهذه العناية تظهر في حديث حسن الصُّحبة، الذي سبق الحديث عنه، وقد كرَّر الرَّسول - صلى الله عليه وسلم - فيه الإيصاء بالأُم ثلاث مرات.
وسبب حسن الصُّحبة الوفاء؛ لأنَّ الأُم صاحبة النّعمة الأساسيّة على الابن، وشكر صاحب النّعمة شكر لله تعالى، كما جاء في الحديث: (لم يشكرني مَنْ لم يشكر مَنْ أجريتُ النِّعمةَ على يديه).
وحسن صحبة الأُم يكون بأداء الواجب تجاهها مثل الطَّاعة في غير المعصية، قال تعالى [لقمان: 15].
وسبب تقديم الأُم في البرّ جاء في قوله تعالى [لقمان: 14]، وقوله تعالى [الأحقاف: 15].
إذن فسبب تقديمها في البرّ هو ما انفردت به من تحمُّل ألوان المشاقّ، في الحمل تسعة أشهر، والإرضاع حولين كاملين، بالإضافة إلى الاشتراك مع الأب في التَّنشئة، والتَّربيّة، وتوفير الرَّاحة، والصِّحة.
وعن السِّيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت: سألتُ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - : أيّ النَّاس أعظم حقّاً على المرأة ؟ قال: (زوجها)، قلت: فأي النَّاس أعظم حقّاً على الرّجل؟ قال: (أُمَّهُ) (3) .
__________
(1) الفتح الرَّبانيّ، 19/34.
(2) أخرجه الطّبراني في الأوسط، برقم 6984، 8/272.
(3) الفتح الرَّبانيّ، 19/42.(1/16)
فواجب الابن أنْ يرعى أُمَّهُ الرِّعاية الكاملة، وأنْ ينفق عليها، وحتَّى تؤمِّن الشَّريعة حاجة الأُم وهي كبيرة جعلت لها نصيباً في ميراث ابنها، فقال تعالى
[النِّساء: 11].
وغير حديث حسن الصُّحبة هنالك أحاديث كثيرة في برّ الوالدة وعظيم مكانتها، فقد روى الطَّبرانيّ في "الأوسط" حديث أنس - رضي الله عنه - قال: "أتى رجل إلى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنّي لاشتهي الجهاد ولا أقدر عليه! قال: (فهل بقي أحد من والديك؟) قال: أمي، قال: (قاتل بالله في برّها، فإذا فعلت ذلك فأنت حاجّ، ومعتمر، ومجاهد) (1) .
ومنها حديث بريدة الذي رواه الطَّبرانيّ في "الجامع الصَّغير" أنَّ رجلاً جاء النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إنّي حملت أُمي على عنقي فرسخين في رمضاء شديدة، لو أُلْقِيَتْ فيها قطعة من اللَّحم لنضجت، فهل أديت شكرها؟ فقال: (لعلَّه أنْ يكون بطلقة واحدة) (2) .
وقيل للحسن: ما برِ الوالدين؟ فقال: "تبذل لهما ما ملكت، وتطيعهما فيما أمراك، ما لم يكن معصية" (3) .
__________
(1) أخرجه البخاريّ في كتاب الأدب، باب مَنْ أحقّ النَّاس بحسن الصُّحبة، 22/82 (عمدة القاري).
(2) المرجع السَّابق نفسه.
(3) أخرجه البخاريّ في كتاب الأدب، باب مَنْ أحقّ النَّاس بحسن الصُّحبة، 22/82 (عمدة القاري).(1/17)
وكيف لا يعطي رسول - صلى الله عليه وسلم - الأُم كُلّ هذه الأهمية؟! فإنَّ الأُم العربيّة المسلمة كان لها أثر كبير في تكوين الرِّجال، فحفظوا لها مكانتها، وبرّوا بها، ومن الذين برّوا أمهاتهم أويس بن عامر القرنيّ (1) الذي أنبأ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بظهوره، وكشف عن ستار منزلته عند الله ورسوله، وأخذ البرّرة الأخيار من آله وصحابته بالتماس دعوته، وابتغاء القربة إلى الله به، وما كانت آيته إلاَّ برّه بأُمّه، وذلك في القربى حديث مسلم عنه: "كان عمر - رضي الله عنه - إذا أتى عليه إمداد أهل اليمين سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتَّى أتى على أويس بن عامر، فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من قراد؟ قال: نعم، قال: كان بك مرض فبرئت منه إلاَّ موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة ؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (يأتي عليكم ابن عامر مع إمداد اليمن، من قراد ثُمَّ من قرن، كان به أثر برص فبرأ منه إلاَّ موضع درهم، له والدة وهو بارّ بها، لو أقسم على الله لأبرّه، فإنْ استطعت أنْ يستغفر لك فافعل)، فاستغفر لي. فاستغفر له. فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء النَّاس أحب إليّ (2) .
__________
(1) المرأة العربيّة في جاهليتها وإسلامها، 2/129.
(2) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه بشرح النَّوويّ، ص223.(1/18)
وفي غزوة أُحُد عندما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزّبير أنْ يحيل بين أُمّه صفية بنت عبد المطلب وبين جثمان أخيها حمزة بن عبد المطلب تراجع في طاعة مطلقة، بالرّغم من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أمره بالرُّجوع، وماله لا يصغر وجهه، ولا ترتجف أضلاعه؟ لعظمة الأمومة، وعظمة الخلق، وهل رأت الأُم قديمها وحديثها من سمو المرأة وجلال خلالها ما رأته في مثل صفية امرأة يمثَّل بأخيها ذلك التَّمثيل ثُمَّ تقف عند جثمانه فلا تتجاوز أنْ وصلت أخاها فنظرت إليه، فصلَّت عليه، واسترجعت واستغفرت له؛ لأنَّ جسده إنَّما فُرِّقَ في سبيل واجبه، وحماية دينه، إنَّ هذا لهو الخُلُق العظيم .
هاتان صورتان مشرقتان، الأولى تبيِّن فضل الأُم، والثَّانية توضِّح شخصيّة المرأة العربيّة المسلمة، ورباطة جأشها، وقوّة شخصيتها في مواجهة الصعاب. وتوضِّح كذلك كيف أنَّ المسلمين كانوا يجلّون الأُمهات، ولا يخالفوهنَّ فيما يذهبن إليه إجلالاً وتقديراً. سقتها للدّلالة بها على أنَّ الأُم المسلمة استحقت مزيداً من البرّ والإحسان؛ لأنَّ الإسلام سمت بهنَّ عظمته، ورسخت قوائمه، فقد جاءت أم أسماء راغبة أي طالبة طامحة فيما عند السَّيدة أسماء، تسألها الإحسان إليها، أما وهي راغبة فمعناها كارهة للإسلام وفيه دلالة على برّ الوالدة وإنْ كانت مشركة، وكذلك الوالد.
ثمرة برّ الأُم:
جاء في "تفسير البغويّ" (1) عند قوله تعالى [البقرة: 67–71].
ومن تفسير هذه الآيات يسجل في هذه المسألة التي تدور فيها حول فضل الأُم، وعلو درجتها.
__________
(1) معالم التَّنزيل، للبغويّ، طبعة دار طيبة، الرِّياض، 1409هـ، 1/106، وطبعة دار الحديث، القاهرة، ط/1، 1417هـ، 1996م.(1/19)
قال البغويّ: "إنَّه كان في بني إسرائيل رجلٌ غني، وله ابن عم فقير، لا وارث له سواه، فلما طال عليه موته قتله ليرثه، وحمله إلى قرية أخرى فألقاه بفنائها، ثُمَّ أصبح يطلب ثأره، وجاء بناس إلى موسى - عليه السلام - ـ قال الكلبيّ: وذلك قبل نزول القسامة في التّوراة ـ فسألوا موسى - عليه السلام - أنْ يدعو الله ليبيِّن لهم بدعائه أمر القتيل، فأمرهم بذبح بقرة، قائلاً: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً } أي تستهزئ بنا، ونحن نسألك عن أمر القتيل، وتأمرنا بذبح البقرة، فقال موسى - عليه السلام - : أي من المستهزئين بالمؤمنين.
وقيل: من الجاهلين بالجواب إلاَّ على وفق السُّؤال، فلمَّا عَلِمَ النَّاس أنَّ ذبح البقرة عزمٌ من الله تعالى استوصفوه، وكان تحته حكمة عظيمة؛ وذلك لأنَّه كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل، وله عجلة أتى بها إلى غيضة، وقال: اللهم إنّي استودعتك هذه العجلة لابني حتَّى يكبر.
ومات الرَّجل، فصارت العجلة في الغيضة أعواماً، وكانت تهرب من كُلّ مَنْ رآها، فلما كبر الابن كان بارّاً بوالدته، وكان يقسم اللَّيل ثلاثة أثلاث: يصلي ثلثاً، وينام ثلثاً، ويجلس عند رأسه أُمّه ثلثاً، فإذا أصبح انطلق فاحتطب على ظهره، فيأتي السُّوق فيبيعه بما شاء الله، ثُمَّ يتصدَّق بثلثه، ويأكل بثلثه، ويعطى والدته الثُّلث الباقي.
فقالت له أُمّه يوماً: إنَّ أباك ورثك عجلة استودعها الله في غيضة كذا، فانطلق فادْعُ إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق أنْ يردّها عليك، وعلامتها أنَّك إذا نظرت إليها تخيّل لك أنَّ شعاع الشمس يخرج من جلدها ـ وكانت تُسمَّى "المذهبة" لحسنها وصفرتها ـ.(1/20)
فأتى الغيضة فرآها ترعى، فصاح بها، وقال: أعزم عليك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، فأقبلت تسعى حتَّى قامت بين يديه، فقبض على عنقها يقودها، فتكلَّمت البقرة بإذن الله تعالى، وقالت: أيُّها الفتى البارّ بوالدته اركبني، فإنَّ ذلك أهون عليك. فقال الفتى: إنَّ أُمي لم تأمرني بذلك، ولكن قالت: خذ بعنقها. فقالت البقرة: بإله بني إسرائيل لو ركبتني ما كنت تقدر عليَّ أبداً، فانطلق فإنَّك لو أمرت الجبل أنْ ينخلع من أصله وينطلق معك لفعل، لبرّك بأُمك، فسار الفتى بها إلى أُمّه.
فقالت له أُمّه: إنَّك فقير لا مال لك، ويشق عليك الاحتطاب بالنَّهار والقيام باللَّيل، فانطلق فبع هذه البقرة، قال: بكم أبيعها؟ قالت: بثلاثة دنانير، ولا تبع بغير مشورتي، وكان ثمن البقرة ثلاثة دنانير، فانطلق بها إلى السُّوق.
فبعث الله مَلَكاً ليرى خلقه وقدرته، وليختبر الفتى وكيف برّه بأُمّه، وكان الله به خبيراً. فقال المَلَك: بكم تبيع هذه البقرة؟ قال: بثلاثة دنانير، وأشترط عليك رضا والدتي، فقال المَلَك: لك ستة دنانير، ولا تستأمر والدتك. فقال الفتى: لو أعطيتني وزنها ذهباً لم آخذه إلاَّ برضا أُمي. فردَّها إلى أمه وأخبرها بالثَّمن.
فقالت له: ارجع فبعها بستة دنانير على رضا مني. فانطلق بها إلى السُّوق، وأتى المَلَك، فقال: أستأمرت أُمّك؟ فقال الفتى: إنَّها أمرتني ألاَّ أنقصها عن ستة دنانير على أن أستأمرها، فقال المَلَك: فإنا أعطيك اثني عشر ديناراً، فأبى الفتى ورجع إلى أُمّه وأخبرها بذلك، فقالت: إنَّ الذي يأتيك مَلَك في صورة آدمي يختبرك، فإذا أتاك فقل له: أتأمرنا أنْ نبيع هذه البقرة أم لا؟ ففعل، فقال المَلَك: اذهب إلى أُمّك، وقل لها: أمسكي هذه البقرة، فإنَّ موسى بن عمران سيشتريها منكم لقتيل يُقْتَل من بني إسرائيل، فلا تبيعوها إلاَّ بملء مَسْكِها (1) دنانير، فامسكوها.
__________
(1) المَسْك ـ بفتح الميم وسكون السَّين ـ: الجلد.(1/21)
وقدر الله على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها، فما زالوا يستوصفون حتَّى وصف لهم تلك البقرة، مكافأة له على برّه بوالدته فضلاً ورحمة.
فاشتروها بملء مَسْكِها ذهباً، فذبحوها وضربوا القتيل ببعض منها كما أمر الله تعالى، فقام القتيل حيّاً بإذن الله تعالى وأوداجه تشخب دماً، وقال: قتلني فلان، ثُمَّ سقط ومات مكانه، فحرم قاتله الميراث.
فوائد برّ الوالدين:
[1] ومما تقدّم ندرك أنَّ شكر الوالدين ليس أقلّ من خمس مرات في اليوم؛ لأنَّ شكر الله في عبادة الصَّلاة خمس مرات في اليوم، فيكون شكر الوالدين المقرون بشكر الله تعالى خمس مرات، ولا ضرر في الزِّيادة قياساً على شكر الله تعالى.
[2] إكرامهما من العمل الذي يحبه الله تعالى، ويساوى ثواب الجهاد في سبيل الله تعالى؛ بل هو أفضل، كما يساوى ثواب الحاجّ والمعتمر.
[3] يوصل إلى نعيم الجنَّة: (الزم رجليها فثم الجنَّة).
[4] يزيد في العمر وفي الأرزاق، ويجلب البرّكة في المال (مَنْ سرَّه أنْ يُبْسَطَ له في رزقهِ، ويُنسَأ له في أثره؛ فليصل رحمه).
[5] وبسبب إكرامهما يضع الله تعالى النَّجابة في الأبناء، والطَّهارة، والهداية، والتَّوفيق، فيشب الأبناء على محبَّة الوالدين (برّوا آباءكم تبرّكم أبناؤكم).
[6] فرصة سانحة لضمان دخول الجنَّة، ومَنْ ضيعها خاب ورغم أنفه، (رغم أنف مَنْ أدرك أبويه أحدهما أو كلاهما ولم يدخل الجنَّة)، فقد قرن الله تعالى رضاه برضاهما.
[7] يزيل الهموم، ويجلب اليسر، ويضمن النَّجاح، ففي حديث ابن عمر
ـ رضي الله عنهما ـ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بينما ثلاث نفر يتماشون أخذهم المطر، فمالوا إلى غار في الجبل، فانحطت على فم غارهم صخرة من الجبل فأطبقت عليهم. فقال بعضهم لبعض: انظروا أعمالاً عملتموها لله صالحة، فادعوا الله بها، لعلَّه يفرجها.(1/22)
فقال أحدهم: اللهم إنّه كان لي والدان شيخان كبيران، ولي صبية صغار، كنتُ أرعى عليهم، فإذا رحت عليهم، فحلبت؛ بدأت بوالديّ أسقيهما قبل ولدي، وإنَّه ناء بي الشَّجر، فما أتيت حتَّى أمسيتُ، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحلاب فقمت عند رأسيهما أكره أنْ أوقظهما من نومهما، وأكره أنْ أبدأ بالصِّبية قبلهما، والصِّبية يتضاغون عند قدميَّ، فلم يزل ذلك دأبي ودأبهم حتَّى طلع الفجر، فإنْ كنت تعلم أنّي فعلت ذلك ابتغاء وجهك؛ فافرج لنا فرجة نرى منها السَّماء، ففرج الله لهم فرجة حتَّى يرون منها السَّماء.
وقال الثَّاني: اللهم إنّه كانت لي ابنة عم أحبّها كأشدّ ما يحبّ الرِّجال النِّساء، فطلبتُ إليها نفسها فأبت حتَّى آتيها بمائة دينار، فسعيتُ حتَّى جمعتُ مائة دينار فلقيتها به، فلمَّا قعدتُ بين رجليها قالت: يا عبد الله اتق الله، ولا تفتح الخاتم، فقمت عنها. اللهم إنْ كنت تعلم أنّي قد فعلت ذلك ابتغاء وجهك؛ فافرج لنا منها، ففرج لهم فرجة.
وقال الآخر: اللهم إنّي استأجرتُ أجيراً يفرغ أرزاً، فلما قضى عمله قال: أعطني حقّي، فعرضتُ عليه حقَّه فتركه ورغب عنه، فلم أزل أزرعه حتَّى جمعتُ منه بقراً وراعيها، فجاءني فقال: اتق الله ولا تظلمني وأعطني حقّي، فقلتُ: اذهب إلى ذلك البقر وراعيها، فقال: اتق الله ولا تهزأ بي، فقلتُ: إنّي لا أهزأ بك، فخذ ذلك البقر وراعيها، فأخذه فانطلق بها. فإذا كنت تعلم ذلك ابتغاء وجهك؛ فافرج ما بقى، ففرَّج الله تعالى عنهم (1) .
المطلب الثَّالث
برّ الخالة
__________
(1) أخرجه الشَّيخان: البخاريّ في باب إجابة دعاء مَنْ برّ والديه برقم 5517، ومسلم في باب أصحاب الغار الثلاثة برقم 4926. واللَّفظ للبخاريّ.(1/23)
جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوصية ببرّ الخالة، كما في حديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ الذي بيَّن فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ برّ الخالة يؤدي إلى غفران الذُّنوب، وذلك عند إجابته للرَّجل الذي سأله عن توبة لِمَا ارتكبه من ذنب، فساوى عليه الصَّلاة والسَّلام بينها وبين الأُمّ في البرّ، فكما أنَّ رضا الأُمّ وبرّها يؤدى إلى رضا الله؛ كذلك برّ الخالة فيتقبّل الله تعالى توبته.
وفي حديث ميمونة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ يفترض النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ أخوالها في حاجة إلى الجارية، فأخبرها حينئذ بإعطائها الجارية أفضل من العتق.
وأمَّا حديث شعبة: (ابن أخت القوم منهم) (1) فالقصد منه أنَّ الأقارب للأُمّ يجب أنْ يكون لهم حقّ الصِّلة والمعاونة والمدافعة، وابن أخت القوم ينسب إلى بعضهم وهي أُمّه، فهو متصل بأقاربه في كُلّ ما يجب أنْ يتصل به، كنصرة، ومشورة، ومودة، وإفشاء سلام، ومعونة، وشفقة، وإكرام، ونحوه .
قال ابن أبي جمرة (2) : وحكمه في ذلك إبطال ما كان عليه أهل الجاهلية من عدم التفات إلى أولاد البنات فضلاً عن أولاد الأخوات، حتَّى قال الفرزدق:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد (3)
الخاتمة:
تحدثتُ في هذا البحث عن برّ الوالدين فاتّضح لي أنَّه يتمثَّل في أحقّية كُلّ من الوالدين في العطف والأفضال، والبرّ والإحسان، لِمَا لهما من يد سلفت على الابن، قال تعالى [الإسراء: 23-24]، فالآيتان الكريمان تبيِّنان أنَّ البرّ بالوالدين من الأهمية بمكان، حيث إنَّ الله تعالى قد قرن أمر برّهما بعبادته، كما قرن شكرهما بشكره فقال [لقمان: 14].
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) الفتح الرَّبانيّ، 19/42.
(3) المعجم المفصل لشواهد النَّحو الشِّعريّة، إعداد د. إيميل بديع يعقوب، دار التُّراث العلميّة، بيروت، لبنان، ط/2، 1420هـ، 1999م.(1/24)
كما أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكَّد أنَّ الأُمّ لها الأحقّية والأولويّة بحسن الصُّحبة، لِمَا عانت من آلام الحمل، ثُمَّ الوضع، ثُمَّ الإرضاع، ولم ينس فضل الوالد الذي شقي في سبيل هناء الابن وتوفير عيشه.
وكانت وصيته - صلى الله عليه وسلم - بالوالدين: (رغم أنف مَنْ أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخلاه الجنَّة)، وقد تبيَّن أنَّ الوالدين أشدّ ما يكونان حاجة إلى البرّ والإحسان عند الكبر، حين يعتريهما الضَّعف [يس: 68].
ومن هنا كان من برّهما الإنفاق عليهما في غير ما ضجر ولا ضيق، فالله تعالى لا تخفى عليه خافية، وإنْ بدر شيء من تفريط في برّهما من غير قصد؛ فإنَّ الله غفور رحيم. ومنه طاعتهما إلاَّ في معصية أو إشراك [لقمان: 15].
وتبيَّن لي أنَّ صلة رحمهما يدخل فيها الأقارب جميعاً حتَّى المشركين، ومن برّهما بعد الموت الاستغفار لهما، وصلة أقاربهما، وإنفاذ عهدهما.
ثُمَّ تحدثتُ في البحث عن برّ الأُمّ، وأنَّها أحقّ النَّاس بحسن الصُّحبة، كما أبان النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ، وأنَّ الخالة تلحق بالأُمّ في البرّ والإحسان.
النَّتائج:
وقد خلص البحث إلى النَّتائج التّالية:
[1] طاعة الوالدين في كُلّ ما يأمران به أو ينهيان عنه، مما ليس فيه معصية لله تعالى ومخالفة لشريعته، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
[2] توقير الوالدين، وتعظيم شأنهما، وخفض الجناح لهما، وتكريمهما بالقول والفعل، فلا ينهرهما، ولا يرفع صوته فوق صوتهما، ولا يمشى أمامهما، ولا يؤثر عليهما زوجة ولا ولداً، ولا يدعوهما بأسماهما؛ بل بأبي وأمي، ولا يسافر إلاَّ بإذنهما ورضاهما.
[3] برّهما بكُلّ ما تصل إليه يده، وتتسع له طاقته، من أنواع البرّ والإحسان، كإطعامهما وكسوتهما، وعلاج مريضهما، ودفع الأذى عنهما، وتقديم النَّفس فداء لهما، وإنْ كانا مشركيْن.(1/25)
[4] صلة الرّحم التي لا رحم له إلاَّ من قبلهما، والدُّعاء والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما.
[5] منزلة الأب كبيرة، فقد روى أبو الدّرداء - رضي الله عنه - أنَّ رجلاً أتاه فقال: إنَّ لي امرأة وإنَّ أُمّي تأمرني بطلاقها، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (الوالد أوسط أبواب الجنَّة، فإنْ شئت فأضع ذلك الباب أو أحفظه).
[6] لا يجزى الولد والده إلاَّ أنْ يجده مملوكاً فيعتقه.
[7] الحاجة إلى الإحسان إلى الأبوين أشدّ في حال الكبر والعجز
أو الضَّعف من أي وقت آخر.
[8] جعلُ خدمة الأبوين والإحسان إليهما بالصُّحبة مقدمة على الجهاد في سبيل الله تعالى.
[9] الأُمّ مقدمة على الأب في البرّ (أُمّك، ثُمَّ أُمّك، ثُمَّ أُمّك).
[10] برّ الوالدين سبب لدخول الجنَّة.
[11] تجب صلة الوالد وإنْ كان كافراً.
[12] برّ الوالدين يعدل الجهاد إذا كان فرض كفاية، كما يعدل الصَّلاة إذا كانت نفلاً.
[13] برّ الوالدين سبب لاستجابة دعاء الولد.
[14] برّ الوالدين بعد أنْ يوليا يكون بالاستغفار والدعاء لهما، وإكرام صديقهما.
التَّوصيات:
أوصي الأبناء بامتثال أمر الله تعالى ونبيه - صلى الله عليه وسلم - ببرّ الوالدين، فيفوزوا فوزاً عظيماً في الدّارين، وينالوا رضا الله تعالى، الذي ما بعده فوز، ولا يكون هذا إلاَّ بالتَّمسُّك بالقرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويّة الشَّريفة، فقد تضمَّنا كُلّ القيم والأخلاق الكريمة، ومن ضمنها الوصية ببرّ الوالدين.(1/26)