سلسلة تبسيط القرآن الكريم
بقلم
أحمد حسن عواد
بذل الهمة في التعليق على نكبات الأمة
مقدمة:
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله -تعالى- وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
فقد حذرنا الشرع الحنيف من الفرقة وأمرنا بالاتحاد على كلمة التوحيد ومنهج أهل السنة والجماعة واتباع سبيل سلفنا الصالح.
فقال عز من قائل: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103],(1/1)
وقال تعالى: { وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159].
وقال تعالى: { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } [النساء: 115].
وحذر النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من الفرقة فعن عوف بن ملك رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة،وسبعون في النار، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، فإحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده، لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، واحدة في الجنة، وثنتان وسبعين في النار) قيل يا رسول الله من هم قال: (الجماعة) (1).
ولأن الاختلاف والتحزب والتشيع سنن كونية واقعة من الناس لا محالة فقد أصيبت الأمة الإسلامية من جراء ذلك بالوهن والضعف والتردي والانحدار وصار المسلمون يتناحرون فيما بينهم حتى صاروا مع كثرتهم غثاءً كغثاء السيل فتداعت عليها الأمم الكافرة ينهشونها ويلتهمون خيراتها ولا يزيد تفرق المسلمين وشقاقهم فيما بينهم إلا قوة لأعدائهم ونصرًا لهم.
ولقد جئت من مصر إلى أرض الحرمين منذ ثلاث سنوات تزيد قليلًا سعيًا للرزق، وأثرت أن أشغل وقت فراغي فيما ينفعني وينفع الناس وكنت أكتب كتابًا عن مواقف الناس في عرصات القيامة وقد سميته "ما يغشى العباد من أهوال يوم التناد".
__________
(1) ابن ماجة رقم 3992 صححه العلامة الألباني.(1/2)
وبينما كنت أكتب فصول هذا الكتاب داهمتنا الأحداث الخطيرة في أرض الحرمين من فئة ضالة انحرفت عن منهج الحق وجانبها الصواب فعَثت في الأرض فسادًا وأحدثت ما لا يخفى على أحد.
ولقد وصلت إلى فصل من فصول هذا الكتاب أتحدث فيه عن القصاص في عرصات القيامة فتذكرت هؤلاء وحقوق العباد عليهم يوم يلقون ربهم، فعرجت إلى هذا البحث المتواضع أُبين فيه ضلال هذه الفئة وأفكارهم والرد عليهم وعلاجهم وسميته «بذل الهمة في التعليق على نكبات الأمة»، وجعلت البحث ضمن ذلك الفصل الذي أتحدث فيه عن القصاص في عرصات القيامة، إلا أنني أثرت أن أجعل له طبعة مستقلة بتلك المقدمة ليقرأه الناس قبل أن يتم الكتاب حتى إذا أتممته جعلته ضمن هذا الفصل من الكتاب الذي أتحدث فيه عن القصاص في عرصات القيامة، وذلك لأنني أخشى طول الوقت في إتمام الكتاب فتفوت فرصة قراءته على كثير من الناس.
والله أسأل أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه.
أحمد حسن عواد
الجمعة بتاريخ 3/8/1425هـ
الموافق 17 / 9 / 2004 م
بذل الهمة في التعليق على نكبات الأمة
إنَّ أعظم نعم الله -عز وجل- على خلقه نعمة الأمن.
- فالأمن باعث للطمأنينة والسكينة والهدوء وراحة البال.
- مع الأمن يكون علو الهمة وسمو الفكر ونماء المواهب وجلاء الأفهام.
- مع الأمن يكون سلامة الفطرة ونقاء السليقة وعمق التفكير وعظمة الإبداع.
- مع الأمن يكون التقدم العلمي والتقدم التقني ورقي الأمم وسمو المجتمعات.
- مع الأمن ترى الابتسامات على الشفاه والسعادة على الوجوه وتشعر بالرضا في النفوس والراحة في القلوب.
- مع الأمن يسود التفاؤل وتربو الآمال وتزهو الطبيعة وتحلو الحياة.
- ومن أعظم ثمار الأمن أن يُعبد الله سبحانه حق عبادته إذ أن الأمن يتاح معه عمران المساجد وصلاة الجماعة ومجالس الذكر وموائد العلم، والخوف يتعارض معه كل ذلك.(1/3)
- ولذلك ذكر الله -عز وجل- منته وفضله على قريش حينما أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف كما جاء في سورة قريش.
- والأمن من أعظم دعائم التمكين في الأرض، يقول -تعالى-: { وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 55].
- فمن أجل أن يُمَكَّنَ لنا في الأرض لابد أن نعبد الله -عز وجل- حق عبادته ولا نشرك به شيئًا وهذا لا يتحقق على الوجه الأكمل إلا في وجود الأمن.
- ولقد حرم الشرع ترويع الآمنين ولو كان على سبيل اللهو والهزل أو المزاح والسخرية، فيحرم ترويع الآمنين سواء كان ذلك بكلمة أو بخبر أو بخدعة، كأن يخبر أحدٌ أخر بأنه قد ضاع ماله، أو ضل ولده، أو مات مريضه، أو يروعه بخدعة كأن يخبئ له مخبوءً يفزعه، أو يفاجئه بمنظر يزعجه، أو مما يجد من حيل الناس ومراوغاتهم.
- وقد ترجم الحافظ المنذري -رحمه الله تعالى- في كتابه الترغيب والترهيب بقوله: "الترهيب من ترويع المسلم ومن الإشارة إليه بسلاح ونحوه جادا أو مازحًا".
- أخرج أبو داود في سننه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم-: أنهم كانوا يسيرون مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فنام رجل منهم، فانطلق أحدهم إلى حبل معه فأخذه، ففزع، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (لا يحل لمسلم أن يروع مسلمًا).(1/4)
- وروى الطبراني في "الكبير" عن النعمامن بن بشير -رضي الله عنهما- قال: كما مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مسير، فخفق رجل على راحلته، فأخذ رجل سهمًا من كنانته، فانتبه الرجل ففزع، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (لا يحل لرجل أن يروع مسلمًا).
- ورواه البراز من حديث ابن عمر مختصرًا: (لا يحل لمسلم أو مؤمن أن يروع مسلمًا)(1).
- وروى الترمذي عن عبد الله بن السائب بن يزيد عن أبيه عن جده رضي الله عنه أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعبًا أو جادًا)(2).
- وأمَّا إذا كان الترويع جديًا يقصد به إفزاع الناس وإخافتهم وقطع الطرق عليهم وتعطيل مصالحهم فهذا ما تسميه الشريعة بالحرابة.
- وقد يصحب هذا الترويع بأخذ الأموال أو هتك الأعراض أو قتل الأنفس أو الجمع بين كل ذلك أو بعضه.
- وقد جعل الله -عز وجل- حدا للحرابة تختلف العقوبة فيه بحسب اختلاف نوع الجريمة.
وفي ذلك يقول تعالى: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33].
- فالعقوبات هنا متنوعة:
1- التقتيل.
2- التصليب.
3- قطع الأيدي والأرجل من خلاف.
4- النفي.
- وقد جمع بين عقوبتين من ذلك ويكون العقاب بحسب نوع الجريمة.
- ولقد طبق الرسول -صلى الله عليه وسلم- حدَّ الحرابة على عكل وعرينة.
__________
(1) هذه الأحاديث الثلاثة صححها الشيخ الألباني في تعليقه على أحاديث الترغيب والترهيب، (الجزء الثالث صفحة 1036، 1037 من طبعة مطتبة المعارف والنشر والتوزيع).
(2) حسنه الشيخ الألباني في نفس المصدر السابق.(1/5)
- فقد أخرج البخاري ومسلم (1) من حديث أبي قلابة -واسمه عبد الله بن زيد الجرمي البصري- عن أنس -رضي الله عنه- (أن نفرًا من عكل، ثمانية قدموا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبايعوه على الإسلام فاستوخموا المدينة وسقمت أجسادهم وشكوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذلك، فقال: ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبوا من أبوالها وألبانها؟ فقالوا: بلى، فخرجوا فشربوا من أبوالها ومن ألبانها فصحوا، فقتلوا الراعي وطردوا الإبل فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبعث في آثارهم فأدركوا فجئ بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمرت أعينهم، ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا) وفي رواية: (من عكل وعرينة) وفي لفظ: (فألقوا في الحرة فجعلوا يستسقون فلا يسقون).
- الأمن في أرض الحرمين:
ومن أعظم بقاع الأرض التي من الله عليها بالأمن والأمان والسكينة والطمأنينة أرض الحرمين وذلك لأسباب كثيرة:
أولًا: هذه البقاع هي مهبط الوحي ومنها بعث خاتم الأنبياء وسيد المرسلين ووطأت قدماه الشريفتان ثراها –فأي بركة بعد هذه؟
ثانيًا: احتواء هذه البقاع للحرمين الشريفين وهما –الكعبة الشريفة- ومسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- .
يقول -تعالى-: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96، 97].
ويقول -تعالى-: { أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ } [العنكبوت: 67].
__________
(1) المصباح المنير ص 373 .(1/6)
ويقول -تعالى-: { وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَ لَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [القصص: 57].
ثالثًا: احتواء هذه البقاع على مكة المكرمة والمدينة المنورة التي لا يستطيع المسيح الدجال أن يطأ أرضها.
رابعًا: هذه البقاع تحكم فيها شريعة الله -عز وجل- وتقام فيها الحدود، وفيها هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
خامسًا: هذه البقاع يتم فيها الركن الخامس من أركان الإسلام للعالم كله وهو الحج والعمرة.
سادسًا: هذه البقاع يدرس فيها العلم الشرعي على المنهج السلفي المبارك الذي يوحد المسلمين في عبادتهم على نهج سلف الأمة رحمهم الله -تعالى-.
سابعًا: هذه البقاع تحتوى على نخبة عظيمة من العلماء الربانيين الذي ملأ علمهم معظم بقاع الأرض.
ثامنًا: هذه البقاع يقدس فيها أمر الصلاة ويعظم ولا أعلم على سطح المعمورة بلادًا تغلق فيها المحال والحوانيت والدكاكين رسميًا لأداء الصلاة المكتوبة إلا أرض الحرمين.
ولا يعني كلامي هذا أن هذا المجتمع لا يخلو من المخالفات والمثالب والسلبيات، فلا يوجد مجتمع على وجه الأرض يتصف بالمثالية وإلا ففي عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعهود الخلفاء الراشدين من بعده وجِدَ المخالفون والجناة والعاصون بل والمجرمون، ولكن العبرة بالأغلبية والظاهر الذي يعينك على طاعة الله وحسن عبادته.
ولقد استكثر الحاقدون الحاسدون على هذه البلاد أن تحيا هذه الحياة الآمنة فقامت مجموع ضالة وشرذمة فاسدة قد عبث الشيطان في عقولهم وأرادوا إشاعة الفوضى والاضطراب وتهديد أمن الناس، فسفكوا الدماء وأزهقوا الأرواح، وأتلفوا الأموال والممتلكات، وعثوا في الأرض فسادًا. فحسبنا الله ونعم الوكيل.
كلمة التوحيد تحقن الدماء(1/7)
فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما (1) عن المقداد بن الأسود -رضي الله عنه- أنه قال: (يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلًا من الكفار فأقتتلنا فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمت لله –وفي رواية فلما أهويت لأقتله، قال لا إله إلا الله أأقلته بعد أن قالها؟ قال: لا تقتله، فقال يا رسول الله إنه قطع إحدى يدي فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا تقتله فإن قتلت فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال).
قلت: والمعنى أنَّ الرجل بعد أن قال لا إلا إله الله صار مسلمًا معصوم الدم بمنزلة المسلم الأصلي فإن قتل بعد أن قالها كان له الحق في القصاص ممن قتله يوم القيامة، وهذا المسلم الأصلي بعد أن قتل من قال لا إله إلا الله صار بمنزلة الكافر قبل أن يسلم، بمعنى أنه ارتكب كفرًا عمليًا، لا يخرجه عن الملة لعدم استحلاله إياه، وإنما أذنب ذنبًا عظيمًا يحاسب عليه يوم القيامة.
والرجل حين قطع يده وهو كافر لا يحاسب على هذا القطع بعد أن أسلم لأنه إنما ارتكب هذا الجرم قبل إسلامه، والإسلام يجب ما قبله والله أعلم.
وعن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: (بعثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أناس من جهينة فأتيت على رجل منهم فذهبت أطعنه، فقال لا إله إلا الله فطعنته فقتلته فجئت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته فقال: "أقتلته وقد شهد أن لا إله إلا الله؟ قلت: يا رسول الله إنما فعل ذلك تعوذًا. قال فهلا شققت عن قلبه؟). [متفق عليه] (2).
وفي رواية جندب بن عبد الله البجلي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (كيف تصنع بـ لا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة قاله مرارًا). [رواه مسلم] (3).
__________
(1) هدي الثقلين ص 367، رقم 1490.
(2) هدي الثقلين ص368، 1491.
(3) هدي الثقلين ص386، 1492.(1/8)
وفي رواية للشيخين وأحمد وأبي داود والنسائي (1) عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: (بعثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الخرقة من جهينة فصبحنا القوم فهزمناهن، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلًا منهم فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله فكفَّ عنه الأنصاري وطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلمَّا قدمنا بلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لي يا أسامة أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟ قال: فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم).
وفي رواية مسلم (2) عن صفوان بن محرز أنه حدث أن جندب بن عبد الله البجلي -رضي الله عنه- (بعث إلى عسعس بن سلامة زمن ابن الزبير فقال: تجمع لي نفرًا من إخوتك حتى أحدثهم فبعث رسولًا إليهم فلما اجتمعوا جاء جندب وعليه برنس أصفر فقال تحثوا بما كنتم تحدثون به حتى دار الحديث فلما دار الحديث إليه حسر البرنس عن رأسه فقال إني آتيتكم ولا أريد إلا أن أخبركم أن رسول -صلى الله عليه وسلم- بعث بعثًا من المسلمين إلى قوم من المشركين وإنهم التقوا فكان رجل من المشركين إذا شاء الله أن يقصد إلي رجل من المسلمين قصد له فقتله وإن رجلاً من المسلمين قصد غفلته قال: وكنا نحدث أنه أسامة بن زيد فلما رفع عليه السيف قال: لا إله إلا الله فقتله فجاء البشير إلي النبي -صلى الله عليه وسلم-. فسأله فأخبره حتى أخبره خبر الرجل كيف صنع فدعاه فسأله فقال: لم قتلته.؟ قال: يا رسول الله اوجع في المسلمين وقتل فلانًا وفلانًا وسمى له نفرًا وإني حملت عليه فلما رأي السيف قال: لا إله إلا الله قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: فقتلته قال نعم: قال: فكيف تصنع لا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ قال: جعل لا يزيده على أن يقول: كيف تصنع لا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟).
__________
(1) إتحاف الجماعة ج1 ص113.
(2) إتحاف الجماعة ج 1 ص144.(1/9)
وهكذا رأينا من النصوص أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يسمح للعقاد بن الأسود -رضي الله عنه- أن يقتل الرجل الذي قال: لا إله إلا الله بعد أن لاذ بشجرة رغم أنه قد قطع إحدى يديه.
وأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يقبل صنع أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- وعنفه تعنيفًا شديدًا ولامه لومًا عظيمًا رغم أن الرجل قتل من المسلمين من قتل ولم يقل لا إله إلا الله إلا والسيف على رأسه، ولو أن أحدنا ترك لنفسه العنان ليحكم عقله وعاطفته لما وسعه إلا أن يذهب إلى ما ذهب إليه أسامة -رضي الله عنه-، ولكن لنعلم أننا تحكمنا الشريعة بقواعدها وقوانينها ولا تحكمنا العواطف والحماسة والعقول.
ومن أصحاب الدماء المعصومة أهل الذمة المعاهدين.
أخرج البخاري (1) عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد عن مسيرة أربعين خريف).
والمعاهد كافر ولكنه معصوم الدم، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ولسوف نذكر أنواع الكافر لنبين للقارئ الكريم أنَّه كما أن الكفر أنواع فإن الكافر أيضًا أنواع منهم من هو معصوم الدم والمال والعرض كالمسلم ومنهم غير ذلك.
أنواع الكافر
1- الكافر المحارب: هو الكافر الذي يحارب المسلمين مع قومه -مثل: المشركين في كل غزوات النبي -صلى الله عليه وسلم- ومعارك الصحابة من بعده – وجيوش البلاد الكافرة في حروبهم من المسلمين.
2- الكافر المعاهد -مثل:
أ الكافر الذمي الذي يعيش بين أظهر المسلمين وقد أمنه الحاكم بعقد جزية أو بغير.
ب- الكافر المحارب أصلًا- لكنه مؤمن بهدنة أقرها الحاكم المسلم.
ج- أي كافر أمنه أحد من المسلمين.
- إذن فلو أن مسلمًا عاديًا أمّن كافرًا وقال هذا في جواري وفي أماني وجب على كل المسلمين ألا يخفروا ذمة أخيهم وألا يخذلوه وألا يصغروه ويحقروه وأن يحترموا ذمته وجواره.
__________
(1) هدي الثقلين ص 368، رقم 1493.(1/10)
الجوار نظام جاهلي قديم أقره الإسلام
- وسنذكر النصوص الدالة على ذلك –والشاهد منه هو التنبيه على أن المسلم العادي تحترم ذمته وأمانه وجواره لغيره– فمن باب أولى أن يكون ذلك لولي أمر المسلمين الذي له من الحقوق ما ليس لغيره من أفراد الرعية.
- أخرج البخاري (1) رحمه الله -تعالى- عن أبي جحيفة قال سألت عليًا -رضي الله عنه- (هل عندكم شيئًا ليس في القرآن؟ فقال: والذي خلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن إلا فهما يعطى رجل في كتابه وما في هذه الصحيفة قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير وألاَّ يقتل مسلم الكافر (العقل أي: الدية).
- وأورد الحافظ ابن حجر الحديث في بلوغ المرام وزاد قال: وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي من وجه آخر عن علي وقال فيه: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم ولا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده) [صححه الحاكم].
- وقد علَّق عليه الشيخ صفي الرحمن المباركفوري في "إتحاف الكرام" على قوله: (يسعي بذمتهم أدناهم) قال: «الذمة: الأمان والمعنى أن واحدًا من المسلمين إذا آمن كافرًا حرم دمه على جميع المسلمين ولو كان هذا المجير أصغر المسلمين وأحقرهم. مثل أن يكون عبدًا أو عسيفًا أو امراة.
- قال: (وهم يد على من سواهم) أي: مجتمعون على أعدائهم فلا يحل للمسلمين أن يخذل بعضهم بعضًا ويسلمه للعدو ولا يجتهد في خلاصه من براثن الكفار، بل يجب عليهم التضامن والتعاون على جميع الأديان والملل والأقوام حيثما كانوا كأنهم يد واحدة. وهذا يمنع تولية الكفار شيئًا من الولايات لأن الوالي يدا على المولى عليه.
- قال: (ولا ذو عهد في عهده) أي: لا يحل قتل الذمي ما دام قائمًا بالعهد غير ناقض إياه . ا هـ (2)
__________
(1) هدي الثقلين ص369 رقم 1500.
(2) بلوغ المرام ص 349.(1/11)
- فإذا كان الإسلام قد أوجب على كل المسلمين أن يحترموا عصمة الدم الذي أمنه أي مسلم ولو كان أدنى المسلمين وأحقرهم، وعليهم الا يخذلوه ولايصغروه ولا يحقروا شأنه، فما بالنا بمن أمَّنه الحاكم وأدخله بلده بإجازة منه وجوار وأمان؟!
- ولقد أجارت أم هانئ -رضي الله عنها- رجلًا مشركًا عام الفتح وأراد على بن أبي طالب أن يقتله فذهبت إلى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقال: (قد أجرنا مَن أجرت يا أم هانئ).[متفق عليه]. (1) .
- ولما تولى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الخلافة بعد أبي بكر -رضي الله عنه- كان في أول عهده وقعة النمارق -وهي بلد شمال واسط بالعراق- وكانت هذه الواقعة بين الفرس بقيادة رستم الذي ولى "جابان على أحد جيوشه" وبين المسلمين بقيادة المثنى بن حارثة وأبي عبيد بن مسعود الثقفي -رضي الله عنهما-، وقاتل المسلمون قتالًا شديدًا وأسروا "جابان-ومردان شاه" اللذين كانا في ميمنة الجيش. فأمَّا آسر مردان شاه فقتله، وأما آسر جابان فقد خدعه جابان فقال له: إنكم معاشر العرب أهل وفاء، فهل لك أن تؤمنني وأعطيك كذا وكذا؟ قال: نعم، قال: فأدخلني على ملككم حتى يكون ذلك بمشهد منه فلما أتى به إلى أي عبيد وأشار بعضهم بقتله،قال أبو عبيد -رضي الله عنه-: (إني أخاف الله أن أقتله وقد أمنه رجل مسلم، والمسلمون كالجسد الواحد ما لزم بعضهم فقد لزم كلهم) (2).
- وفي غزوة بني قريظة عندما استقر الأمر على حكم سعد بن معاذ -رضي الله عنه- في نبي قريظة بأن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم..
__________
(1) مجلة البحوث الإسلامية عدد 69 ص 371.
(2) نقل ذلك بتصرف من كتاب (الخلفاء الراشدين- لعبد الوهاب النجار 95 – وكتاب إتمام الوفاء في سيرة الخفاء ص 96).(1/12)
- بدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في التنفيذ فحبس بني قريظة في دار بنت الحارث -امرأة من بني النجار- وحُفِرت لهم خنادق في سوق المدينة، وذهب بهم أرسالًا أرسالًا وضرب أعناقهم في هذه الخنادق.
- ولقد أستوهب ثابت بن قيس بن شماس -رضي الله عنه– رجلًا من بني قريظة كانت له يد عند ثابت وهو الزبير بن باطا وأهله، فوهبه له رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ووهب له ماله وأهله ولكنَّ اليهودي آثر أن يقتل مع قومه فضرب عنقه، واستحيا ثابت ابنه عبد الرحمن فأسلم وله صحبه.
- واستوهبت أم المنذر سلمى بنت قيس النجارية رفاعة بن سموآل القرظي فوهبه لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسلم وله صحبه (1) .
- والشاهد أن المؤمن إذا أمَّنَ كافرًا وأجاره أحترمت ذمته وأمنه وجاوره.
- والجوار والأمان كان موجودًا قبل الإسلام في المجتمع الجاهلي، وجاء الإسلام فأقره.
- ولقد أجار المطعم بن عدي -وهو رجل مشرك- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عام الحزن لمَّا رجع من الطائف وقد سبه وضربه سفهاؤهم، ثم فوجئ بأهل مكة يصدونه عن البيت الحرام، فدخل في جوار المطعم بن عدي الكافر، واحترم الكفار جواره وما استطاع أحد من الكفار أن ينال النبي -صلى الله عليه وسلم- بأذي احترامًا لجوار المطعم له.
- ولذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحمل له هذا الجميل ويود لو استطاع أن يرده له . وفي أسرى بدر يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لو كان المطعم بن عدي حيًا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له) (2) .
- ولقد اشتد إيذاء المشركين لأبي بكر -رضي الله عنه- فهمَّ بالهجرة إلى الحبشة فلقيه ابن الدغنة فأجاره على قريش وقال له: مثلك لا يهاجر، وقد أجازت قريش جواره على ألا يستعلن بصلاته لهم (3) .
__________
(1) رواه البخاري – الرحيق المختوم ص 152.
(2) الرحيق المختوم ص 328، 329.
(3) نقلا بتصرف من كتاب الخلفاء الراشدين لعبد الوهاب النجار ص 32.(1/13)
- والشاهد أنَّ الكفار لا يخفر بعضهم ذمة بعض!! فهل يعتبر المخالفون من المسلمين ؟
الفتن المهلكة تتوالى على الأمة
أخرج مسلم في صحيحه (1) عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإنَّ أمتكم هذه قد جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها، وتجئ الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي ثمَّ تنكشف وتجيء الفتنة فيقول: هذه هذه فمن أحبَّ أن يُزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتي إليه، ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه ما استطاع فإن جاء آخر ينازعه الأمر فاضربوا عنق الآخر).
وتعيش أرض الحرمين هذه الأيام فتنة عظيمة لما أحدثه شرذمة من الفرق الضالة الشاردة عن الطريق المستقيم.
وما أوتي هؤلاء إلا من قبل أفهامهم السقيمة وأحلامهم السفيهة وبعقولهم الضعيفة وقلوبهم المريضة.
فقد قرأوا النصوص ولووا أعناقها تعسفًا حتى أوَّلوها على غير معانيها الصحيحة وذهبوا بأفهام وتفاسير لم يذهب إليها أهل العلم والراسخون فيه .
ولا نعجب من ذلك إذ اتهم رأسهم "ذو الخويصرة التميمي" سيد الخلق محمدًا نفسه -صلى الله عليه وسلم- بأنه يقسم الغنائم بقسمة ما أريد بها وجهه الله.
ونصَّبوا أنفسهم قضاة علي الناس ينفذون فيهم أحكامًا جائرة فاستباحوا الدماء المعصومة والأنفس الممنوعة وأزهقوا الأرواح البريئة واتهموا كبار أهل العلم بالجبن والخور أو بأنهم عملاء مداهنون علي حساب دينهم.
فإذا تجرأ أحد على سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- فلا عجب أن يتجرأ ذيولهم وفلولهم على العلماء وحسبنا الله ونعم الوكيل .
__________
(1) إتحاف الجماعة ج 1 ص 68.(1/14)
ولقد تشدق هؤلاء ببعض النصوص الثابتة الصحيحة واستمسكوا بظواهر ألفاظها يبررون بها أعمالهم الخبيثة وجرائمهم الوحشية الفظيعة . وهذه النصوص مثل:-
ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: (لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع فيها إلا مسلمًا) .
وأخرج أحمد عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: آخر ما عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (أن لا يترك في جزيرة العرب دينان)
وأخرج البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- (أخرجوا اليهود من جزيرة العرب) (1) .
ونقول لهؤلاء المتشدقين الضُلال: ألم يمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودرعه مرهونة عند يهودي على بعض آصع من الشعير؟
أخرج البخاري -رحمه الله- في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اشترى من يهودي طعامًا ورهن درعه عنده.
وفي رواية (أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- توفي ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين. يعني: صاعا من شعير)
وله عن أنس: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (رهن درعه بشعير).
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: «واليهودي هو أبو الشحم اسمه كنيته من بني ظفر من بطون الأوس وكان حليفًا لهم، بينه الشافعي ثم البيهقي، قال: وفي الحديث جواز معاملة الكافر فيما لم يتحقق تحريم عين المتعامل فيه وعدم الاعتبار بفساد معتقدهم ومعاملاتهم فيما بينهم». أ هـ (2) .
ونقول لهم: من الذي قتل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-؟! أليس هو ذاك الغلام المجوسي أبو لؤلؤة عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؟
فلماذا ترك عمر ذلك الكافر الخبيث ليعيش في مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!، -قلب الجزيرة العربية- حتى قُتل هو بيديه؟
__________
(1) نقلا عن مجلة البحوث الإسلامية رقم 70 ص 233.
(2) نقلا عن مجلة البحوث عدد 70 ص 242.(1/15)
ألم يكن عمر -رضي الله عنه- يفهم ما ترمي إليه الأحاديث السابقة؟ أم كان يفهم ما تفهمونه أنتم ثم قصَّر في تنفيذ أوامر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟. مع أنَّ عمر -رضي الله عنه- راوي أحد هذه الأحاديث سمعه بنفسه من رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
ونقول لهم: نفترض جدلاً أنَّ الهدف من هذه الأحاديث هو إخراج كل من ليس على الإسلام بحيث لا يبقى في أرض الجزيرة العربية غير مسلم لأي سبب من الأسباب ولو كان لخدمة بلاد المسلمين ولو مؤقتا، فلمن يوجه الأمر من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, هل يوجه للقادة وولاة الأمور؟ أم يوجه لأفراد الرعية؟.
فإن قلتم إنَّما يوجه لأفراد الرعية، فإن ذلك إنما يعني الفوضى والاضطراب وإحداث البلبلة والفتن وهذا لا يخفى فساده وبطلانه لكل ذي منطق ولب.
وإن قلتم إنما يوجه لولي الأمر فلماذا تكلفون أنفسكم مالا طاقة لكم به وما ليس في وسعكم ثم تظنون أنَّ ربكم سبحانه سائلكم عما كلف به غيركم؟!.
أمَّا عن معاني هذه الأحاديث التي أشكلت عليهم، فإنها تعني: ألا يكون لليهود ولا النصارى ولا المشركين دولة ولا صولة ولا جولة في جزيرة العرب.
أفتى بذلك د/عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، ود/عبد الله بن محمد المطلق وغيرهما.
أما تواجدهم العادي يعملون ما تحتاج إليه بلاد المسلمين ويدون هم الحاجة –ولا خطر على الدين من تواجدهم– فلا بأس بذلك.
وقد أفتى العلامة ابن باز والعلامة ابن العثيمين بجواز استقدام الكافرين عند الحاجة على ألَّا تمنح لهم إقامات مطلقة. -ونحن نقر بأنهم سبقونا في العلوم الدنيوية، وما من دولة صناعية الآن إلا وتتعامل معهم وتشتري منهم وتستجلب خبراءهم– فكيف تمنع جزيرة العرب مع هذه الحاجات والضرورات استجلاب ما تحتاجه البلاد من خبراء وعلماء.(1/16)
ومن الجرائم التي يرتكبها هؤلاء في حق أنفسهم وفي حق غيرهم هو قتل النفس -والانتحار بتفجير أنفسهم ليصلوا إلى مرادهم– أو يقتلون أحدهم حينما تضبطهم قوى الأمن فيضحون بأحدهم يشاغل الأمن ويقتل فيهم حتى يصرع في الوقت الذي يفر الباقون وهم وهو –أي المقتول– يعلمون أنه مقتول لا محالة.
فماذا تقول الشريعة الغراء تجاه الانتحار وقتل النفس؟
روى البخاري (1) -رحمه الله- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعنها يطعنها في النار).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تحسى سُمًا فقتل نفسه؛ فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا). [متفق عليه] (2) .
وعن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكينًا فحزَّ بها يده فما رقأ الدم حتى مات قال الله -تعالى-: بادرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة). [متفق عليه] (3) .
__________
(1) هدي الثقلين ص 368 رقم 1495.
(2) هدي الثقلين ص 368 رقم 1494.
(3) هدي الثقلين ص 368 رقم 1496.(1/17)
وبعد أن رأينا أحكام الشريعة الغراء فيمن يقتل نفسه، فما هو سند هؤلاء الضلال المنحرفين لقتل أنفسهم. أهم يشبهون أنفسهم بالبراء بن مالك -رضي الله عنه- الذي ألقى بنفسه خلف باب الحديقة في معركة اليمامة حينما تحصن بها مسيلمة وجيشه لعنهم الله فكان لابد أن يفتح الباب ولم يجد المسلمين خلف الباب لفتح الباب للمسلمين، وكان لها البراء بن مالك -رضي الله عنه-. والبراء بن مالك صحابي جليل عظيم كان يقسم على الله فيبره، ولم يمت يوم اليمامة مع هذا العمل الفدائي رغم الطعنات التي لا عدد لها في جسده الشريف.
فهل يا معشر المفسدين في الأرض كنتم تحاربون مسيلمة الكذاب أم الأسود العنسي فتفجرون أنفسكم لفتح ثغرة للجهاد لا تفتح إلا بذلك.
أقول لكم يا ذيول الخوارج وفلول المكفرة خبتم وخاب مسعاكم أنتم ومن افتاكم بذلك.
الجهاد
وقد يتشدق هؤلاء بأنهم يجاهدون في سبيل الله .. ولئن سألتهم عن معنى الجهاد؟ وما هي شروطه؟ وما هي أهدافه؟ وهل هو فرض عين أم كفاية؟ وما الأدلة على ذلك؟ فلن يجيبوا لأنهم لا يعلمون ... ولأن أمثالهم لا تحكمهم النصوص وإنما تحكمهم الانفعالات الحماسية والخواطر العاطفية وبهذا فقد ضل سعيهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
والجهاد له حالتان:
1- حالة الاستضعاف:
- والجهاد يكون مع استضعاف المسلمين وعدم التمكين بالحجة والبيان والدليل والبرهان كما كان شأن جهاد النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمون مستضعفون في مكة قبل الهجرة وفي ذلك يقول تعالى: { فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا } [الفرقان:52]، أي: جاهدهم بالقرآن. بمعنى: "بالحجة والبيان والدليل والبرهان".
2- حالة التمكين..
ويكون مع تمكين المسلمين وقوتهم وشوكتهم بالقتال "بقتال الكفار المحاربين والبغاة الظالمين من المسلمين".
وهو نوعان:
1- جهاد طلب:(1/18)
كما يحدث في فتوحات المسلمين فيعرض الإسلام فإن أبوا فيدفعون الجزية عن يد وهم صاغرون وتحكم بلادهم بالإسلام فإن أبوا فيستعان بالله علي قتالهم
- وإن رضوا بالإسلام فبها ونعمت ويعرض عليهم الهجرة من دور الكفار .. فإن أبوا فلهم أحكام الأعراب والبدو غير أولي القرى والمدن وليس لهم في الغنيمة والفيء شيئًا إلا أن يجاهدوا مع المسلمين .
- إذا دفع أهل الأمصار الجزية دخلوا في ذمة المسلمين وصار لهم ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين.
2- جهاد دفع
إذا حضر بلدة عدو محارب فهنا يجاهد للدفاع عن نفسه وماله وعرضه وبلده.
هل الجهاد فرض عين أم كفاية؟!
- الأصل أنَّ الجهاد فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين وإذا أهمل فيه الكل أثم القادرون المكلفون من الجميع.
- ولكن يتعين الجهاد على كل شخص بعينه في حالات معينة منها:
1- إذا حضر بلدة عدو محارب وجب على الكل أن يجاهد.
2- إذا وجد في صفوف القتال حرم عليه التولى .
3- إذا استنفره الإمام للجهاد.
4- إذا احتاج إليه المسلمون في القتال والمدافعة.
شروط الجهاد
1- الإخلاص لله فلا يكن لدنيا ولا لمنصب ولا لشهرة ولا لحمية وشجاعة .
2- أن يكون بأمر الحاكم لأن الجهاد تطوعًا وإلا فلو كان واجبًا عليه فلا يلزم الاستئذان.
3- استئذان الوالدين في حالة الجهاد تطوعًا وإلا فلو كان واجبًا عليه فلا يلزم الاستئذان.
4- لا يقتل صبي ولا امراة ولا راهب ولا شيخ فان ولا مريض مزمن ولا أعمى لا رأي له.
5- لا يُمَثل بالقتلى .
6- استئذان الدائن في الجهاد تطوعًا.
7- لا يُحرق زرع ولا تقتل بهيمة.
أهداف الجهاد
1- أن يجاهد لتكون كلمة الله هي العليا.
2- أن يجاهد لئلا تكون فتنة ويكون الدين كله لله. لقوله تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ }[الأنفال:39]، (ذلك بتخليص العباد من الطواغيت والأوثان)
3- إزالة الظلم وإعادة الحقوق إلى مستحقيها.(1/19)
4- لإذلال الكافرين وكسر شوكتهم.
5- الإصلاح بين المسلمين.
الهدنة
1- يجوز للإمام أن يؤمن من شاء من المشركين كلهم أو بعضهم.
2- وأفراد الرعية يجوز للواحد منهم أن يؤمن كافرا ويجب على المسلمين أن يجيزوا جواره.
ولقد أجاب فضيلة الشيخ الدكتور/ صالح بن فوزان الفوزان عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء بأرض الحرمين على بعض الأسئلة وجهت لفضيلته عن أحكام الجهاد وسوف أختار بعضها لتوضيح الجهاد وشروطه وأهدافه وذلك نقلا من الكتاب (الإجابات المدلهمة في المشاكل المدلهمة).
سؤال: أيهما أعظم .. جهاد العلم؟ أم جهاد السيف؟
جواب: جهاد العلم أولًا، فلابد أن يتعلم الإنسان ما يستقيم به دينه: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ }[الفرقان: 25]، ثم يكون الجهاد بالسيف حتى يكون جهاده على علم وعلى بصيرة ولا يكون على جهل، على خطأ.
سؤال: ما هي ضوابط الجهاد؟ وهل يجوز اليوم الجهاد أم أنه قتال؟
جواب: الجهاد إذا دعا إليه ولى أمر المسلمين وكوَّن الجيوش لغزو بلاد الكفار، فهذا هو الجهاد، أما بدون راية وبدون قيادة ولي الأمر فهذا لا يعتبر جهاد بل يعتبر تصرفًا شخصيًا، الله أعلم بمآله ونتائجه، إنما الجهاد المنظم القائم على سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي يكون له راية وله أمير لقتال الكفار، ويرجع إلى إمام المسلمين هذا هو الجهاد الصحيح.
سؤال: في هذه الأيام هناك من يفتي الناس بوجوب الجهاد ويقول: لا يشترط للجهاد إمام ولا راية!! فما رأي فضيلتكم في هذا الكلام؟
الجواب: هذا رأي الخوارج ...... أما أهل السنة فيقولون: لابد من راية ولابد من إمام. هذا منهج المسلمين، من عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فالذي يفتي بأنه لا إمام ولا راية وكل يتبع هواه، هذا رأي الخوارج.(1/20)
سؤال: هناك من يستشهد بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم- (الجهاد ماض إلى أن تقوم الساعة)، ويقول: لماذا العلماء يقولون لا تستطيع أمة جهاد الطلب في وقتنا الحاضر وإن هذا الوقت أشبه بالعهد الأول المكي؟ والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (الجهاد ماض إلى أن تقوم الساعة).
الجواب: نعم الجهاد ماض، بمعنى أنه لم ينسخ ولكن لا بد أن تتوفر شروطه ومقوماته فهو ماضٍ، أما إذا لم تتوفر شروطه ولا مقوماته فإنه ينتظر حتى تعود للمسلمين قوتهم وإمكانيتهم واستعدادهم، ثم يقاتلون عدوهم، أنت معك مثلاً سيف أو بندقية، هل تقابل طائرات وقنابل وصواريخ؟؟ لا، لأن هذا بأس شديد، إذا كان معك استعداد يربو على استعدادهم أو مثله تقابلهم، أما إذا كان ليس معك شيء فلا تقابلهم، قال الله -تعالى-: { وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ }[البقرة: 195] وهذا يضر بالمسلمين أكثر مما ينفعهم إن كان فيه نفع. هذا في جهاد الطلب أمَّا في جهاد الدفع فإنك تدافعهم بما تستطيع.
سؤال: هناك من يقول: إنَّ ولاة الأمر والعلماء في هذه البلاد قد عطلوا الجهاد وهذا الأمر كفر بالله فما رأيكم في كلامه؟
الجواب: هذا كلام جاهل، يدل على أنه ما عنده بصيرة ولا علم وأنه يُكَفِّر الناس، وهذا رأي الخوارج، وهم يدورون على رأي الخوارج والمعتزلة، نسأل الله العافية، ولكن ما نسئ الظن بهم نقول: هؤلاء جهال يجب عليهم أن يتعلموا قبل أن يتكلموا أمَّا إن كان عندهم علم ويقولون بهذا القول، فهذا رأي الخوارج وأهل الضلال.
سؤال: يذهب بعض الشباب في هذه الأيام إلى الجهاد في مناطق متفرقة، يرون أن ذلك فرض عين وذلك بإفتاء بعض طلاب العلم لهم، فهل فعلهم هذا صحيح؟(1/21)
جواب: لا يجوز لهم أن يذهبوا إلا بإذن الإمام لأنهم رعية والرعية لابد أن تطيع الإمام فإذا أذن لهم فإنه يبقى أيضًا رضا الوالدين، فلا يذهب إلا برضا والديه لأنه (جاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستأذنه في الجهاد فقال: أحي والدك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد). فأرجعه إلى والديه فدل على أنه لابد من إذن الوالدين بعد إذن ولي الأمر.
سؤال: هل يجوز الخروج للجهاد بدون إذن ولي الأمر مع وجود رضا الوالدين؟
الجواب: الجهاد مع من ؟..... ومَن هو الإمام الذي تريد أن تجاهد تحت رايته؟ وأيضًا الدول بينها معاهدات فلابد أن تأخذ إذن الإمام بالخروج لتلك الدولة، المسائل لها أصول ما هي فوضى، فإذا أذن لك ولي الأمر وأذن لك والداك وعندك استطاعة فلا بأس.
سؤال:هل يجب الجهاد في وقتنا هذا؟ وما هو الرد على من استدل بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر وتركتم الجهاد سلط عليكم ذلاً لا يرفعه حتى ترجعوا إلى دينكم)؟(1/22)
جواب: إذا كان للمسلمين قوة يقدرون على الجهاد وعلى الغزو في سبيل الله، فهذا يجب على ولي الأمر لأنه من صلاحيات ولي الأمر أنه يكون جيوشا للغزو ويقود الجيوش بنفسه أو يُأمر عليها كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفعل ذلك......أما إذا كان المسلمون لا يستطيعون قتل الكفار فهم يؤجلون الجهاد إلى أن يقدروا، ولكن يكون قتلهم في هذه الحالة من باب الدفاع فيدافعون من أراد بلادهم أو غزا بلادهم فإنهم يقاتلون دفاعًا عن حرماتهم وأمَّا إذا كان فيهم قوة فإنهم يقاتلون قتال طلب لنشر الإسلام وهذا يكون تحت راية يعقدها ولي أمر المسلمين ويتولها بنفسه أو يأمر عليها من ينوب عنه وهذا شيء معروف في كتب الجهاد وكتب العقائد، أن يكون مع الأمراء ويكون مع الأئمة هم الذين يتولون أمور الجهاد وتحت راية واحدة، ما يكون هناك رايات وجماعات هذا يحصل فيه اختلاف بين الجماعات ويحصل في تناحر بين الجماعات ولا يتوصلون إلى شيء.
سؤال: ذكرتم حفظكم الله أنه يجب أن يراعي أحوال المسلمين ويعرف الكفار الذين يجب قتالهم والكفار الذين يكف عنهم فأرجو من فضيلتكم مثالاً للذين يكف عنهم وكم هي المدة التي يكف عنهم؟ وما هي الأحوال التي يكف فيها؟
الجواب: الذين يكف عنهم؟
أولاً: الذين لا نستطيع قتالهم، هؤلاء يُكف عنهم.(1/23)
ثانيًا: الذين لهم عهد وهدنة بينهم وبين المسلمين لا يجوز قتالهم حتى تنتهي الهدنة أو هم يغدرون بالعهد، ما دام العهد باقيًا وهم مستقيمون عليه فلا يجوز للمسلمين أن يقاتلوهم قال جل وعلا: { فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [التوبة: 7]، { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} يعني إذا كانوا معاهدين { فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ } [الأنفال: 58] إذا أردت العقد الذي بينك وبينهم فإنك تعلمهم -تعلن هذا لهم حتى يكونوا على بينة فالعهود ليست بسهلة، الله جل جلاله يقول: { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا } [الإسراء: 34]، العهود لا يجوز نقضها إلا بمبرر شرعي ويكون هذا بإذن الإمام وبأمر الإمام الذي عقد معهم هذا العقد، هو الذي يتولى العقد وهو الذي يتولى النقض عند المسوغ له، هذا من صلاحيات الإمام وليس هو من صلاحيات كل أحد.
مفاهيم مغلوطة
- ونرى البعض قد قعَّد قواعد لا نعلم لها أصلاً، وهي إباحة قتل الأبرياء من المعاهدين والذميين بدعوى أنَّ الكفار الآخرين يقتلون الأبرياء من أبناء المسلمين.
- فهل إذا تعدى كافر ظالم غاشم على أحد المسلمين الأبرياء فقتله فهل يبيح لنا ذلك أن نقتل برئ من بلد القاتل أو قومه لا علاقة له بالقتل ولا شأن له بالاعتداء، فإذا قال قائلهم: نحن نقتل أبرياءهم لأنهم يقتلون أبرياءنا، نقول: فمن أين جاء بهذه القاعدة وكيف استحل قتل الأبرياء ولو كانوا كفارًا ممن لا يحارب ولا يشارك في حرب؟، وما ذنب طفل صغير أو امرأة أو شيخ فإن لا علاقة لهم بما تحدثه جيوش بلادهم.
- لقد نهانا الشارع الحكيم أن نقتل امرأة أو طفلاً أو شيخًا فإن ما لم يكونوا قد حاربوا مع المحاربين.
- وهذه القواعد ما هي إلا قواعد استحسنتها عقلوهم لا سند لهم فيها من كتاب ولا سنة، وإنما أبرزتها العواطف الجياشة والانفعالات الحماسية.(1/24)
- ومتى أبيح لنا أن نقلد أهل الكفر فيما يفعلونه من أجل أن نردعهم ونرعبهم ونوقف عداوتهم.
- فقد يقتل الكافر ويمثل بمن قتله وقد يهتك الكافر الأعراض وقد يُهلك الكافر الحرث والنسل ويعثو في الأرض فسادا، فهل يجوز للمسلم أن يرد عليه بنفس فعله فيمثل بقتلاهم ويهتك أعراضهم ويهلك حرثهم ونسلهم.
- إنَّ الكافر لا يقيده شرع ولا تحكمه مبادئ ولا يردعه دين، أما المسلم فهو مقيد بشرع الله -عز وجل-، لا يجوز له أن يتصرف إلا في حدود ما شرع الله ورسوله له.
- وحينما أنفذ أبو بكر الصديق خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جيش أسامة بن زيد -رضي الله عنه- كما أعده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل وفاته نصح الجيش نصيحة غالية يتعلم منها العالم كله القاعدة التي تبنى عليها حقوق الدول والملل قال: (لا تخونوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا ولا شيخا كبيرا، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا للأكل، وسوف تمرون على أقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب، فاخفقوهم بالسيف خفقا، ثم قال اندفعوا باسم الله)(1).
من وراء هؤلاء؟
- سمعنا أنه يمكن أن يكون وراء هذه الأحداث المؤسفة اللوبي الصهيوني أو الموساد اليهودي أو أمريكا، ولكن أرى تحفظًا على هذه الآراء ليس من باب التشكيك في عداء اليهود والنصارى والعلمانيين والمنافقين للأمة الإسلامية بجمعها وأنهم لعنهم الله يتمنون زوال هذه الأمة من الوجود.
وإنَّما من باب معرفة الأسباب الأساسية لهذا الداء المستفحل حتى نقف على الدواء المفيد النافع الذي يأتي به الله العافية.
__________
(1) الخلفاء الراشدون " لعبد الوهاب النجار" ص 35.(1/25)
- ثم إنَّ الذي يقتل نفسه لابد أن يكون من منطلق عقدي بحت ولا تستطيع قوة في الأرض أن تقنع أحدًا بأن يقتل نفسه وينهي حياته، إذ ما هو المقابل لذلك وما فائدته له إذ لم يكن ذلك عقيدة راسخة؟
- فلا يقتل نفسه إلا واحد من رجلين:
1- رجل يؤمن بالله واليوم الآخر ويفهم أنه يقتل نفسه ليرضي الله وأنه مأجور بذلك جنة عرضها السموات والأرض بغض النظر عن هذا الفهم صحيح أو خطأ.
2- ورجل لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا البعث ولا الحشر ولا النشور ولا الجنة ولا النار، وقد يئس من حياته لعقد ومشاكل في حياته فرأي أن العدم أفضل عنده من الوجود فقتل نفسه ليستريح بزعمه إلى عالم اللاوجود.
وهؤلاء الذين يفجرون أنفسهم ليسوا من الصنف الثاني فإنهم في الأصل مسلمون؛ لذلك فهم يرتكبون هذا الجرائم النكراء باسم الدين ويتقربون بها إلى اللهن وهذا هو فكر الخوارج.
والخوارج فرقة من الفرق الضالة التي انحرفت عن منهج أهل السنة والجماعة -وتعتبر هذه الفرقة هي أول فرقة ظهرت في الإسلام- وهم الذين خرجوا على علي -رضي الله عنه- بعد صفين وانحازوا إلى النهروان وتلاحموا معه -رضي الله عنه-، وقد قتلهم علي -رضي الله عنه- إلا قليلا منهم.
وهذه الفرقة وإن ظهرت كفرقة وجماعة لها منهج ومعتقد بعد معركة صفين –بين علي ومعاوية رضي الله عنهما- إلا أنَّ هذا الفكر المنحرف قد بدت أصوله في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .(1/26)
أخرج أحمد والشيخان والنسائي (1) عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: (بينما نحن عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يقسم قسمًا، أتاه ذو الخويصرة، هو رجل من بني تميم فقال: يا رسول الله أعدل، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ويلك ومن يعدل إن لم أعدل؟ قد خبت وخسرت إن لم أعدل، فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: يا رسول الله ائذن لي أن أضرب عنقه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: دعه فإن له أصحابه يحقر أحدكم صلاته صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرءون القرآن لا يتجاوز القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء –وهو القدح- ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة (أو مثل البضعة) تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس.
قال أبو سعيد: أشهد أني سمعت هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأشهد أنَّ عليًا بن أبي طالب -رضي الله عنه- قاتلهم وأنا معه فأمر بذلك الرجل فالتمس فوجد فأتى به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي نعته).
اختلف أهل العلم في قوله -صلى الله عليه وسلم- "خبت وخسرت" هل هي بالضم يقصد بها النبي -صلى الله عليه وسلم- نفسه أو بالفتح ويقصد بها الرجل والوجهان محتملان.
والنصل والرصاف والنضي والقذذ هي أجزاء السهم، والمعنى أنَّ هؤلاء الخوارج لا يؤثر فيهم الإسلام ولا يترك فيهم علامة كما يدخل السهم قويًا سريعًا في الرمية ويخرج فينظر صاحبه فيه وفي كل أجزائه فلا يجد أثر الرمية فيه من دم أو شيء مع أنه نفذ من الرمية.
__________
(1) إتحاف الجماعة ج 1 ص 279 ، 280.(1/27)
وفي رواية: (إنَّ من ضئضئ هذا قومًا يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) (1) .
وأخرج أحمد وأبو داود والحاكم (2) عن أبي سعيد وأنس بن مالك رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (سيكون في امتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم. يحقرأحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يرجعون حتى يرتد السهم على فوقه . هم شر الخلق والخليفة ن طوبى لمن قتلهم أو قتلوه. يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء. من قاتلهم كان أولى بالله منهم قالوا: يا رسول الله ما سيماهم، قال: التحليق).
وأخرج أحمد والشيخان عن على عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فإذا لقتموهم فاقتلوهم فإنه في قتلهم أجرا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة).
والروايات والنصوص في الخوارج كثيرة جدًا أكثر من أن تحصر في هذا المقام وسوف الخص صفاتهم وما توعدهم الله به كما جاء في سائر النصوص.
صفات الخوارج كما جمعتها النصوص
1- أحداث الأسنان" بمعنى: معظمهم صغير السن، ولا يمنع ذلك من وجود شيوخ ضلال لهم بفتونهم بما هم عليه، وإنما يكون الوصف للغالب.
2- سفهاء الأحلام، أي: ضعفاء الأفهام.
3- يظهرون إتقان العبادة بحيث يحقر المرء صلاته إلى صلاتهم وصيامه إلى صيامهم.
4- يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم أو تراقيهم، يعني: لا ينفذ القرآن إلى قلوبهم فيفقهونه، إنما تردده الألسنة ولا تفهمه القلوب ولا تدركه العقول.
__________
(1) رواه أحمد والشيخان وأبو داود.
(2) إتحاف الجماعة ج 1 ص 287.(1/28)
5- يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء
6- يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان. وقد قتلوا عبد الله بن خباب بن الأرت -رضي الله عنه- وأراقوا دمه على نهر الفرات، وبقروا بطن أمراته وقتلوا جنينها وقد، كان هذا سببًا اساسيًا في قتل على -رضي الله عنه- لهم في النهروان. وبعد قتلهم لعبد الله بن خباب وامراته قتل أحدهم خنزيرًا لأحد النصارى فلاموه وقالوا هذا تبذير لمال أهل الذمة وأرادوا تعويض صاحبه بالمال، وأكل أحدهم تمرة من نخلة رجل نصراني فعنفوه .. كبف تأكلها ولم يأذن لك صاحبها ولم تشتريها منه.
7- يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، وليس المعنى أنهم كفار خارجون عن الملة ولكن المعنى أنهم دخلوا الإسلام ولم يؤثر فيهم ولم يفهموا حقيقته ورغم أنهم يكفرون أهل السنة وأحيانا العلماء، فإن أهل السنة لا يكفرونهم لأنهم يعذرونهم بالجهل وبتأويلهم النصوص.
ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية إذ يقول:« أهل السنة والجماعة أعرف الناس بالحق وأرحم الناس بالخلق»، ولا يستغرب القارئ ولا يستعجب لتكفيرهم العلماء، فقد كفروا الصحابة من قبل، فحينما خرجوا على علي -رضي الله عنه- كفروه وكفروا معاوية وكفروا الحكمين عمرو بن العاص وأبا موسى الأشعري وغيرهم من الصحابة الذين رضوا بالتحكيم.
وتجرأ التميمي على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- نفسه واتهمه بالظلم وأنه لا يقسم بالسوية فلا عجب.
8- يقولون بقول خير البرية فهم يحفظون الأحاديث لا يفهمون معانيها ولا يحسنون تطبيقها.
9- شر الخلق والخليقة.
10- يكفرون عصاة المسلمين ويخلدون من مات على كبيرة في النار.
11- يؤدي ذلك إلى إنكارهم الشفاعة، محتجين بظاهر القول: { وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } [البقرة: 167].
12- قال ابن عمر: انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها في المؤمنين (1).
__________
(1) إتحاف الجماعة ج 1 ص 275.(1/29)
13- سيماهم التحليق أي يحلقون رؤوسهم بالموسى تزهدًا ويدل ذلك على كراهية حلق الرأس بالموسى في غير نسك أو عذر لئلا نتشبه بهم.
وعيدهم عند الله
1- قتلاهم شر قتلى تحت أديم السماء.
2- كلاب أهل النار (1).
3- طوبى لمن قتلهم أو قتلوه.
من أقوال الشيخ الألباني رحمه الله -تعالى-: «ليس كل من وقع في الكفر يعد كافرًا وليس كل من وقع في النفاق يعد منافقًا، وليس كل من وقع في البدعة يعد مبتدعا» اهـ.
والمعنى: أنَّ المؤمن قد يكون فيه شعبة من شعب الكفر، أو شعبة من شعب النفاق، أو بدعة من البدع ومع ذلك لا يزال مؤمنا.
والشاهد أنه لا يلزم لهؤلاء أصحاب الفكر المنحرف أن تتجمع فيهم كل هذه الصفات للخوارج، لأن هذه الصفات هي مجموع الصفات لكل طوائف الخوارج، أما الخوارج أنفسهم فبعضهم يتصف ببعض هذه الصفات ويخلو من البعض الآخر، وهكذا لأنهم فيما بينهم ينقسمون إلى أقسام كثيرة ويختلفون فيما بينهم في بعض المسائل العقدية.
العلاج
إنَّ العلاج لمثل هذه الأمور الخطيرة لا يكون إلا بالعلم الشرعي الذي يُكتسب من قنواته الشرعية الصحيحة وهي التزام موائد العلماء، والتقرب منهم والإصغاء لهم واستماع نصائحهم وتنفيذ توجيهاتهم.
والمقصود بالعلماء هنا: العلماء الربانيين الذين يلتزمون منهج السلف الصالح، علماء الفرقة الناجية، علماء الطائفة المنصورة علماء، أهل السنة والجماعة، علماء لا يدعون إلى جماعة ولا يميلون إلى فرقة ولا إلى حزب وليس لهم إلا جمع كلمة المسلمين ورأب صدعهم وتوحيد جهودهم وذلك بتطبيق الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة.
__________
(1) جزء من حديث عن أبي أمامة رواه أحمد إتحاف الجماعة ج 1 ص 303.(1/30)
من هؤلاء العلماء الربانيين والذي وضح كيف يكون الحل لإصلاح الأمة العلامة: محمد ناصر الدين الألباني، وإن فات الأوان في التعلم منه شخصيًا والجلوس على موائد علمه لوفاته -رحمه الله تعالى- ولكن نستفيد مما أثرى به الأمة من جهود أسأل الله أن يجعلها في موازين حسناته.
قال الألباني -رحمه الله تعالى-: «لابد اليوم من أجل استئناف الحياة الإسلامية من القيام بهذين الواجبين وهما: التصفية، والتربية».
ومعنى التصفية:
1- تصفية العقيدة الإسلامية مما هو غريب منها كالشرك وجحد الصفات الإلهية وتأويلها ورد الأحاديث الصحيحة لتعلقها بالعقيدة ونحوها.
2- تصفية الفقه الإسلامي من الاجتهادات الخاطئة المخالفة للكتاب والسنة.
3- تصفية كتب التفسير والفقه والرقائق وغيرها من الأحاديث الضعيفة والموضوعة والإسرائيليات المنكرة.
وأما معنى التربية:
فهي تربية الجبل الناشئ على هذا الإسلام المصفى من كل ما ذكرنا، تربية إسلامية صحيحة منذ نعومة أظفاره ودون أي تأثير بالتربية الغربية الكافرة.
قال -رحمه الله تعالى-: «ومما لا ريب فيه أن تحقيق هذين الواجبين يتطلب جهودًا جبارة متعاونة من كل من يهمه حقًا إقامة المجتمع المسلم المنشود كل في مجاله، واختصاصه وأما بقاؤنا راضين عن أوضاعنا، متفاخرين بكثرة عددنا متوكلين على فضل ربنا، أو خروج المهدي ونزول عيسى -عليه السلام-، صائحين بأن الإسلام دستورنا، جازمين بأنا سنقيم دولتنا فذلك محال بل وضلال لمخالفته لسنة الله الكونية والشرعية معًا، يقول تعالى: { إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ } [الرعد: 11].
ويقول -صلى الله عليه وسلم-: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم).(1/31)
من أجل ذلك قال أحد الدعاة الإسلاميين اليوم: أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم على أرضكم، وهذا كلام جميل جدًا، ولكن أجمل منه العمل به، قال تعالى: { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ا. هـ (1) .
(1)"نقلا من كتاب فقه أشراط الساعة"بتصرف يسير جدا"
وإليكم الأن بعض من إصدرات هيئة كبار العلماء حول أحداث الرياض:
بيان هيئة كبار العلماء الصادر عن الجلسة الاستثنائية المنعقدة يوم الاربعاء الموافق 13-3-1424هـ
الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وآله وصحبه، أما بعد:
فإن مجلس هيئة كبار العلماء في جلسته الاستثنائية المنعقدة في مدينة الرياض يوم الأربعاء الموافق13-3-1424هـ. وما حدث بسبب ذلك من قتل وتدمير وترويع وإصابات لكثير من الناس من المسلمين وغيرهم.
ومن المعلوم أن شريعة الإسلام قد جاءت بحفظ الضروريات الخمس وحمت الاعتداء عليها وهي الدين والنفس والمال والعرض والعقل.
__________
(1) نقلا من كتاب فقه أشراط الساعة "بتصرف يسير جدا".(1/32)
ولا يختلف المسلمون في تحريم الاعتداء على الأنفس المعصومة والأنفس المعصومة في دين الإسلام إمَّا أن تكون مسلمة فلا يجوز بحال الاعتداء على النفس المسلمة وقتلها بغير حق، ومن فعل ذلك فقد ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب العظام. يقول -تعالى-: { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]، ويقول سبحانه: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعً} [المائدة: 32]، قال مجاهد -رحمه الله-: في الإثم. وهذا يدل على عظم قتل النفس بغير حق.
ويقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والمارق من الدين التارك للجماعة ) [متفق عليه وهذا لفظ البخاري].
ويقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة) [متفق عليه من حيث ابن عمر].
وفي سنن النسائي عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم وآله وسلم- قال: (لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم).
ونظر ابن عمر يومًا إلى البيت أو إلى الكعبة فقال: (ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك).
كل هذه الأدلة وغيرها كثير تدل على عظم حرمة دم المرء المسلم وتحريم قتله لأي سبب من الأسباب إلا ما دلت عليه النصوص الشرعية فلا يحل لأحد أن يعتدي على مسلم بغير حق.(1/33)
يقول أسامة بن زيد -رضي الله عنه-: بعثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الحرفة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهمن فلما غشيناه قال لا إله إلا الله فكف الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: (يا أسامة أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله ـ قلت: كان متعوذًا، فما زال يكررها حتى تمنيت أنني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم) [متفق عليه وهذا لفظ البخاري].
وهذا يدل أعظم الدلالة على حرمة الدماء، فهذا رجل مشرك، وهم مجاهدون في ساحة القتال لمَّا ظفروا به وتمكنوا منه نطق بالتوحيد، فتأول أسامة -رضي الله عنه- قتله على أنه ما قالها إلا ليكفوا عن قتله، ولم يقبل النبي –صلى الله عليه وسلم- عذره وتأويله، وهذه مما يدل على حرمة دماء المسلمين وعظيم جرم من يتعرض لها.... وكما أنَّ دماء المسلمين محرمة فإن أموالهم محرمة بقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: (إن دمائكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ) [مسلم]. وهذا الكلام قاله النبي –صلى الله عليه وسلم- في خطبة يوم عرفة وأخرج البخاري ومسلم نحوه في خطبة يوم النحر.
وبما سبق يتبين تحريم قتل النفس المعصومة بغير حق.
من الأنفس المعصومة في الإسلام: أنفس المعاهدين وأهل الذمة والمتأمنين، فعن عبد الله بن عمرو ابن العاص -رضي الله عنهما- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما ) [ البخاري].
ومن أدخله ولي الأمر المسلم بعقد آمان وعهد فإن نفسه وماله معصوم لا يجوز التعرض له، نومن قتله فإنه كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: (لم يرح رائحة الجنة) وهذا وعيد شديد لمن تعرض للمعاهدين ومعلوم أنَّ أهل الإسلام ذمتهم واحدة، يقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم).(1/34)
ولما أجارت أم هاني رضي الله عنه عنها رجلاً مشركًا عام الفتح، وأراد على -رضي الله عنه- أن يقتله، ذهبت إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- فأخبرته، فقال –صلى الله عليه وسلم-: (قد أجرنا من أجرت يا أم هاني) [متفق عليه].
والمقصود: أنَّ من دخل بعقد أمان أو بعهد من ولى الأمر لمصلحة رآها فلا يجوز التعرض له ولا الاعتداء لا على نفسه ولا ماله.
إذا تبين هذا فإن ما وقع في مدينة الرياض من حوادث التفجير أمر محرم لايقره دين الإسلام. وتحريمه جاء من وجوه:
1- أنَّ هذا العمل اعتداء على حرمة بلاد المسلمين وترويع للآمنين فيها .
2- أنَّ فيه قتلاً للأنفس المعصومة في شريعة الإسلام.
3- أنَّ هذا من الإفساد في الأرض.
4- أنَّ فيه إتلافًا للأموال المعصومة.
وإنَّ مجلس هيئة كبار العلماء إذ يبين حكم هذا الأمر ليحذر المسلمين من الوقوع في المحرمات المهلكات، ويحذرهم من مكائد الشيطان فإنه لا يزال بالعبد حتى يوقعه في المهالك إمَّا بالغلو بالدين، ,إما بالجفاء عنه ومحارتبه -وليعاذ بالله- والشيطان لا يبالي بأيهما ظفر من العبد لأن كل طريقي الغلو والجفاء من سُبل الشيطان التي تُوقع صاحبها في غضب الرحمن وعذابه.
وما قام به من نفذوا هذه العمليات من قتل أنفسهم بتفجيرها فهو داخل في عموم قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: (من قتل نفسه بشئ في الدنيا عذب به يوم القيامة) [أخرجه أبو عوانة في مستخرجه من حديث ثابت بن الضحاك -رضي الله عنه-].
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: (من قتل نفسه بحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن شرب سمًا فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدًا فيها أبدًا، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدًا فيها أبدًا) وهو في البخاري بنحوه(1/35)
ثم ليعلمَ الجميع أنَّ الأمة الإسلامية اليوم تعاني من تسلط الأعداء عليها من كل جانب, ويفرحون بالذرائع التي تبرر لهم التسلط على أهل الإسلام وإذلالهم واستغلال خيراتهم، فمن أعانهم في مقصدهم وفتح على المسلمين وبلاد الإسلام ثغرًا لهم فقد أعان على انتقاص المسلمين والتسلط على بلادهم وهذا من أعظم الجرم.
كما أنَّه يجب العناية بالعلم الشرعي المؤصل من الكتاب والسنة وفق فهم سلف الأمة وذلك في المدارس، والجامعات, وفي المساجد، ووسائل الإعلام، كما أنه تجب العناية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتواصي على الحق، فإن الحاجة بل الضرورة داعية إليه الآن أكثر من أي وقت مضى، وعلى شباب المسلمين إحسان الظن بعلمائهم والتلقي عنهم وليعلموا أنه مما يسعى إليه أعداء الدين الوقيعة بين شباب الأمة وعلمائها، وبينهم وبين حكامهم حتى تضعف شوكتهم وتسهل السيطرة عليهم، فالواجب التنبيه لهذا، وقي الله الجميع كيد الأعداء، وعلى المسلمين تقوى الله في السر والعلن والتوبة الصادقة والناصحة من جميع الذنوب، فإنه ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة، نسأل الله أن يصلح حال المسلمين ويجنب بلاد المسلمين كل سوء ومروه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وأله وصحبه وسلم.
هئية كبار العلماء
رئيس المجلس
صالح بن محمد اللحيدان
عبد الله بن سليمان المنيع
عبد الله بن عبد الرحمن الغديان
د/صالح بن فوزان الفوزان
حسن بن جعفر العتمي
محمد بن عبد الله السبيل
د/عبد الله بن م بن ابراهيم آل شيخ
محمد بن سليمان البدر
د/عبد الله بن عبد المحسن التركي
محمد بن زيد آل سليمان
د/بكر بن عبد الله أبو زيد
د/عبد الوهاب بن ابراهيم أبو سليمان
د/صالح بن عبد الله بن حميد
د/أحمد بن على سير المباركي
د/عبد الله بن على الركبان
د/عبد الله بن محمد المطلق
بيان من هيئة كبار العلماء في العلماء في الجلسة المنعقدة في الطائف
يوم 11-6-1424(1/36)
الحمد لله رب العالمين ن والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد:
فإن مجلس هيئة كبا العلماء في دورته التاسعة والخمسين التي عقدت في مدينة الطائف ابتداء من تاريخ 11-6-1424 هـ قد استعرض ما جرى مؤخرًا في المملكة العربية السعودية من تفجيرات استهدفت تخريبًا وقتل أناس معصومين وأحدثت فزعًا وإزعاجًا، كما استعرض ما اكتشف من مخازن للأسلحة، ومتفجرات خطيرة معدة للقيام بأعمال تخريب ودمار في هذه البلاد، التي هي حصن الإسلام وفيها حرم الله، وقبلة المسلمين ومسجد الرسول –صلى الله عليه وسلم-، ولأن مثل هذه الاستعدادات الخطيرة المهيأة لارتكاب الإجرام ومن أعمال التخريب والإفساد في الأرض مما يزعزع الأمن ويحدث قتل الأنفس وتدمير الممتلكات الخاصة العامة، ويعرض مصالح الأمة لأعظم الأخطار، ونظرًا لما يجب على علماء البلاد من البيان تجاه هذه الأخطار من وجوب التعاون بين كافة أفراد الأمة لكشفها ودفع شرها، والتحذير منها، وتحريم السكوت عن الإبلاغ عن كل خطر يبيت ضد هذا الأمة، لكشفها ودفع شرها، التحذير منها، وتحريم الضرورة إلى بيانها في هذا الوقت، براءة للذمة، ونصحا للأمة، وإشفاقا على ابناء المسلمين من أن يكونوا أداة فساد وتخريب، واتباعا لدعاة الضلالة والفتنة والفرقة، وقد أخذ الله على أهل العلم الميثاق أن يبينوا للناس، قال سبحانه وتعالى:{ وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ}]آل عمران: 187].
لذلك كله، وتذكير للناس، تحذيرًا من التهاون في أمر الحفاظ على سلامة البلاد من الأخطار، فإن المجلس يرى بيان ما يلى:(1/37)
أولاً: أن القيام بأعمال التخريب والإفساد من تفجير وقتل وتدمير للممتلكات، عمل إجرامي خطير، وعدوان على الأنفس المعصومة، وإتلاف للأموال المحترمة، فهو مقتض للعقوبات الشرعية الزاجرة الرادعة عملاً بنصوص الشريعة وبمقتضيات حفظ سلطانها وتحريم الخروج على من تولى أمر الأمة فيها يقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: (من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فمات، مات ميتة الجاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية يغضب لعصبة، أو ينصر عصبة فقتل، فقتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشي من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس منى ولست منه) [مسلم].
ومن زعم أن هذه التخريبات وما يراد من تفجير وقتل، من الجهاد فذلك جاهل ضال فليست من الجهاد في سبيل الله في شيء. وما سبق فإنه قد ظهر وعلم أنه ما قام به أولئك، ومن ورائهم، إنما هو من الإفساد والتخريب والضلال المبين، وعليهم تقوى الله -عز وجل-، والرجوع إليه والتوبة، والتبصر في الأمور وعدم الانسياق وراء عبارات وشعارات فاسدة ترفع لتفريق الأمة وحملها على الفساد، وليست في حقيقتها من الدين وإنَّما هي من تلبيس الجاهلين والمغرضين، وقد تضمنت نصوص الشريعة عقوبة من يقوم بهذه الأعمال، وجوب ردعه والزجر عن ارتكاب مثل علمه، ومرد الحكم بذلك إلى القضاء.(1/38)
ثانيًا: وإذ تبين ما سبق فإن مجلس هئية كبار العلماء يؤيد ما تقوم به الدولة -أعزها الله بالإسلام- من تتبع هذه الفئة, والكشف عنهم لوقاية البلاد والعباد شرهم ولدرء الفتنة عن ديار المسلمين وحماية بيضتهم, ويجب على الجميع أن يتعاونوا في القضاء على هذا الأمر الخطير، لأن ذلك من التعاون على البر والتقوى الذي أمرنا الله به في قوله سبحانه: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2]، ويحذر المجلس من التستر على هؤلاء أو إيوانهم فإن هذا من كبائر الذنوب، وهو داخل في عموم قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: (لعن الله من أوى محدثا) [متفق عليه] وقد فسر العلماء (المحدث) في هذا الحديث بإنه من يأتي بفساد في الأرض . فإذا كان هذا الوعيد الشديد لمن أواهم، فكيف بمن أعانهم أو أيد فعلهم
ثالثًا: يهيب المجلس بأهل العلم أن يقوموا بواجبهم ويكثفوا إرشاد الناس في هذا الشأن الخطير، ليتبين بذلك الحق.(1/39)
رابعًا: يستنكر المجلس ما يصدر من فتاوي وآراء تسوغ هذا الإجرام، أو تشجع عليه لكونه من أخطر الأمور وأشنعها، وقد عظم الله شأن الفتوى بغير علم وحذر عباده منها وبين أنها من أمر الشيطان قال تعالى:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلًا طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ* إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُون} [البقرة: 168]، ويقول سبحانه: {وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ* مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} [النحل: 116]، ويقول جل وعلا: { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا} [الإسراء: 36]، وقد صح عن الرسول –صلى الله عليه وسلم- أنه قال:
(من دعا إلى ضلاله كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص من آثامهم شيئا) [متفق عليه].
خامسًا: على ولي الأمر منع الذين يتجرأون على الدين والعلماء ويزينون للناس التساهل في أمور الدين والجرأة عليه وعلى أهله، ويربطون بين ما وقع وبين التدين والمؤسسات الدينية وأنَّ المجلس ليستنكر استغلال هذه الأحداث للنيل من ثواب هذه الأعمال التخريبية بالمناهج التعليمية، كما يستنكر استغلال هذه الأحداث للنيل من ثواب هذه الدولة المباركة القائمة على عقيدة السلف الصالح والنيل من الدعوة الإصلاحية التي قام بها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- .(1/40)
سادسًا: إن دين الإسلام جاء بالأمر بالاجتماع وأوجب الله ذلك في كتابه وحرم التفرق والتحزب يقول الله -عز وجل-:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، فبرأ الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- من الذين فرقوا دينهم وحزبوه وكانوا شيعًا وهذا يدل على تحريم التفرق, انه من كبائر الذنوب. وقد علم من الدين بالضرورة وجوب لزوم الجماعة وطاعة من تولي إمامة المسلمين في طاعة الله يقول -عز وجل- {.يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومنشطك ومكرهك .أخرجه مسلم وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني) [متفق عليه]، وقد سار على ذلك سلف الأمة من الصحابة -رضي الله عنهم-، ومن جاء بعدهم، في وجوب السمع والطاعة.
لكل ما تقدم ذكره فإن المجلس يحذر من دعاة الضلالة والفتنة والفرقة الذين ظهروا في هذه الأزمان فلبسوا على المسلمين أمرهم، وحرضوهم على معصية ولاة أمرهم، والخروج عليهم، و ذلك من أعظم المحرمات، يقول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: (إنه ستكون هنات وهئات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان) [مسلم].(1/41)
وفي هذا تحذير لدعاة الضلالة والفتنة والفرقة، والتحذير لمن سار في ركابهم عن التمادي في الغي المعرض لعذاب الدنيا والآخرة، والواجب التمسك بهذا الدين القويم والواجب والسير فيه على الصراط المستقيم المبني على الكتاب والسنة وفق فهم الصحابة -رضي الله عنهم- ومن تبعهم بإحسان، ووجوب تربية النشء والشباب على هذا المنهاج القويم والصراط المستقيم حتى يسلموا بتوفيق من الله من التيارات الفاسدة ومن تأثير دعاة الضلالة والفتنة والفرقة، وحتى ينفع الله بهم أمة الإسلام ويكونوا حملة علم وورثة الأنبياء وأهل خير وصلاح وهدى.
ويكرر التأكيد على وجوب الالتفاف حول قيادة هذه البلاد وعلمائها، ويزداد الأمر تأكدا في مثل هذه الأوقات أوقات الفتن، كما يحذر الجميع حكامًا ومحكومين من المعاصي، والتساهل في أمر الله، فشأن المعاصي خطير، وليحذروا من ذنوبهم، وليستقيموا على أمر الله، ويقيموا شعائر دينهم، ويأمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر.
وقى الله بلادنا وجميع بلاد المسلمين كل سوء، وجمع الله كلمة المسلمين على الحق والهدى، وكبت الله أعدائه أعداء الدين، ورد كيدهم في نحورهم إنه سبحانه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على دربه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
هيئة كباب العلماء.
تمت الجلسة برئاسة رئيس المجلس فضيلة الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن محمد آل الشيخ وعضوية أصحاب الفضيلة العلماء السابق ذكرهم في البيان السابق.
التوبة
وإننا لندعو كل من انحرف منهجه وساء فهمه، إلى التوبة إلى الله سبحانه و-تعالى-، فإن الفرصة لا زالت سانحة ما دامت الأرواح في الصدور ولم تطلع الشمس من مغربها.
ومهما كثرت ذنوب العبد فإن رحمة الله تدركه لو بادر بالتوبة إليه سبحانه.
التوبة لها شروطها المعروفة:
1- الإخلاص لله -عز وجل- فلا تكون توبة التائب خوفًا من أحد أو حياءً منه أو مجاملة له بل يصرف الخوف والحياء كله لله رب العالمين.(1/42)
2- الإقلاع الفوري عن الذنب وتركه بالكلية دون تسويق أو تأجيل أو تراخي أو تكاسل.
3- الندم على ما فات واعتصار القلب وتألمه على التجرؤ على حدود الله -عز وجل- ومحارمه.
4- العزم الأكيد ومعاهدة الله -عز وجل- على عدم العودة إلى هذه الذنوب البتة.
5- أن تقع التوبة في محلها الصحيح قبل غرغرة العبد بالموت، وقبل طلوع الشمس من مغربها.
6- إذا كان للعباد حقوق معلقة لدى التائب فعليه أن يسارع بالتخلص منها وأدائها إلى أصحابها واستسماحهم فيما لا يقدر على سداده.
وليبشر التائبون بفرح الله بتوبتهم إذا صدقوا وبرضى المجتمع عنهم وحب الناس لهم ورضاهم هم عن أنفسهم، والله الموفق والهادي إلى سوء السبيل.(1/43)