بحوث تربية الطفل المسلم
للدكتور عدنان حسن باحارث
رئيس قسم التربية وعلم النفس بكلية المعلمين بمكة
التربية الإيمانية للطفل
1- سنة الأذان في أذن المولود
ويستحب حين الولادة أن يقوم الوالد بالأذان في أذن المولود اليمنى ويقيم في اليسرى، وذلك ليكون أول شيء يصل إلى المولود من أمور الحياة بعد الهواء هو التوحيد المنافي للشرك، فلا ينبغي إهمال هذه السنة المباركة بحجة أن الطفل لا يعي ذلك لصغر سنه، فإن واعية الطفل تحفظ نبرات وتقطيعات الأذان إلى جانب أن الشيطان الذي يحضر عادة ولادة المولود يهرب من سماع الأذان كما ورد ذلك في السنة، ولو لم يكن في هذا العمل كله سوى الاقتداء بالرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام لكفانا ذلك حجة للقيام به، فقد أورد الحاكم في المستدرك عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه رضي الله عنه قال: ((رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن في أذن الحسين حين ولدته فاطمة رضي الله عنها))، وبهذه السنة يحفظ المولود -بإذن الله تعالى- عند أول خروجه إلى الحياة من الشيطان، ويقع في نفسه التوحيد الموافق للفطرة المركوزة فيه أصلاً فيكون ذلك له خيراً عند كبره وبلوغه بإذن الله تعالى
2 - سنة العقيقة عن المولود الجديد
العقيقة تعني في اللغة القطع، وفي الاصطلاح الشرعي تعني: ذبح شاه عن المولود يوم سابعه، وهي سنة مؤكدة عند جمهور العلماء، قال عليه الصلاة والسلام: ((عن الغلام شاتان مكافيتان وعن الجارية شاة))، وعند الإمام مالك رحمه الله عن الذكر شاة واحدة كالأنثى، مراعياً أن تكون من أفضل النعم، غير عوراء، أوعرجاء، أو مريضة، ولا يبيع شيئاً من لحمها أو جلدها، إنما يأكل الأهل منها ويتصدقون ببعضها. كما كره رحمه الله أن يجمع عليها الناس فتكون كالوليمة، بل أمر بطبخها والأكل منها والإهداء، ولا يصح إشراك مولودين في شاة واحدة، بل لكل مولود شاة.(1/1)
والسنة في الذبح أن يقول: ((بسم الله، اللهم لك وإليك، هذه عقيقة فلان))، ولا يكسر عظمها بل تفصل الأعضاء من عند المفاصل دون كسر.
ويستحب أن تذبح العقيقة يوم السابع، أوفي اليوم الرابع عشر، أو في اليوم الحادي والعشرين، فإن لم يتمكن عق عنه بعد ذلك في أي يوم دون اعتبار الأسابيع.
وعلى الوالد أن يراعي تطبيق السنة، ويشرف بنفسه على ذلك، وأن يجنب المولود الجديد البدع المحدثة في هذا المجال مثل تلطيخ رأس المولود بدم العقيقة كما يفعل أهل الجاهلية، بل يستعاض عن ذلك بالزعفران.
كما ينبغي له أن يحترس ممَّا أحدثه بعض الناس في ليلة السابع من وضع المصحف ورغيف وسكر عند رأس المولود، فإن هذا لم يرد فيه دليل، بل هو من البدع المحدثة، فالسنة أولى بالاتباع، فإن وجد الوالد بعض العنت من أهله وأقربائه، فإن سلامة المولود وحفظه من المحدثات والبدع أنفع له من إرضاء الناس.
3 - التأكيد على الفطرة في نفوس الأطفال
ورد ذكر الفطرة في القرآن الكريم والسنة المطهرة. ففي القرآن قوله جل وعلا: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30].
أما ذكرها في السنة، فقوله عليه الصلاة والسلام: ((كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كمثل البهيمة تُنْتَجُ البهيمة هل ترى فيها من جدعاء؟)). وقد اختلف العلماء على أقوال في تفسير معنى الفطرة، فمنهم من رأى أنها الإسلام مثل مجاهد، وعكرمة، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وغيرهم.
ومنهم من رأى أنها الإقرار بمعرفة الله - عز وجل -، كما قال الإمام أحمد بن حنبل، وابن تيمية، وابن كثير، وابن حجر العسقلاني وغيرهم.
وقد ذهب ابن حزم، والزجاج، وغيرهما إلى القول بأنها الإيمان، وأقوال العلماء في الفطرة كثيرة، ولكن مدار مذهبهم وتفسيراتهم يتضمن صلاحها وأنها خيرة، فقد أجمع العلماء على هذا.(1/2)
وعلى هذا المفهوم يتيقن الأب أن الإيمان بالله، والإقرار بربوبيته، والعلم بوجوده يعتبر قضية مسلمة في نفس الولد وعقله، فلا تحتاج إلى دليل لإثباتها. كما قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: ((وضع في النفس أن المصنوع لا بد له من صانع))، أي: إن هذه المسألة مما اطمأنت إليها النفس واستقرت فيها.
ولا تقتصر الفطرة على الإقرار والإيمان بالله فحسب، بل تميل بطبعها إلى الخير وتحبه، وتصدق بالحق وتحبه، وتبغض الشر والباطل وتكذب به وترفضه، فإذا كان الأمر على هذا النحو، فإنه من السهل توجيه الولد، وتركيز وتأصيل ذلك المفهوم الحسن في نفسه، فيتأكد عنده بأن الله هو الذي خلقنا، ورزقنا، ووهب لنا هذا الخير والوجود، وغير ذلك من فضائل الرب - عز وجل -. ولا شك ان الطفل في كل هذا يكون قابلاً مذعناً مستجيباً -بدافع فطرته- إلى هذه المعاني، وما على الأب إلا أن يعمل جاهداً على تعميقها وتركيزها في نفسه.
ويستغل الأب الفرص المناسبة وخلوات الولد معه، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع ابن عباس عندما كان رديفه على الدابة حيث علمه معاني من الأخلاق مع الله، ومراقبته، وحسن التوكل عليه. فإذا خرج الأب مع ولده في نزهة على البحر، أو في حديقة، أو في الصحراء، وجه ولده للنظر إلى السماء الجميلة ذات البروج، والنجوم المضيئة اللامعة، وإلى الأرض المزهرة والماء، ثم يسأله: ((يا بني من خلق هذا ؟ من أسبغ على هذا الكون ذلك الجمال الباهر؟ من حفظ الكواكب والنجوم في مداراتها دون اختلاط ؟)). فتثار في نفس الولد رهبة نحو هذا الكون وما وراءه مما لا يراه.
وربما اندفع الولد في بعض الأوقات يطرح الأسئلة على والده، فيسأل عن خالق الكون وموجده سبحانه وتعالى، وعن طبيعة الأشياء، ولماذا وجدت على هذا النسق، وعلى هذه الهيئة، ولا يكون لدى الأب من جواب سوى: ((الله)). أي أن الله هو الذي أعطى هذه المخلوقات تلك الصفات والهيئات.(1/3)
وهذه الأوقات التي يكون فيها الولد متطلعاً لأجوبة والده تعد أفضل الأوقات وأحسنها لتوجيه الولد وتركيز معاني الفطرة في نفسه، ولا ينبغي إهمال أسئلة الولد - خاصة المتعلقة منها بالعقيدة - ظناً بأنه صغير لا يعقل، أو لا يدرك هذه المعاني العليا المجردة، فإن الفطرة تتيقظ لربها وخالقها في مرحلة مبكرة جداً من عمر الطفل.
ولا يلتفت الأب إلى آراء بعض رجال التربية أمثال "روسو" الذي يُنقل عنه النهي عن تعليم الطفل شيئاً عن الله حتى يبلغ الثامنة عشر، وذلك زعماً منه أن الطفل لا يدرك هذه المعاني، وخشية أن تصبح هذه القضايا والمفاهيم في ذهنه أوهاماً لا يعقلها ولا يفهمها. وهذا رأي مردود لما تقدمت الإشارة إليه من استقرار الفطرة في نفس الطفل، وتيقظها المبكر، وأن السنوات الأولى من عمر الطفل تتحدد وتتكون فيها نواة شخصيته الأولى، وله قدرة فائقة على التعلم.
وقد أشار الغزالي رحمه الله إلى إمكانية التوجيه في مرحلة الطفولة، إذ إن قلب الطفل قابل للنقش، ومائل إلى كل ما يؤخذ به من خير أو شر.(1/4)
ويمكن للأب أن يستفيد من طريقة الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في جانب تركيز التوحيد في ذهن الولد. حيث ألف كتاب "تعليم الصبيان التوحيد" بأسلوب فريد، معتمداً على طريقة السؤال والجواب، فيضع السؤال ويتبعه بالجواب، وجميع الأسئلة تدور حول توحيد الله - عز وجل -. فلو استغل الأب هذا المنهج مستعيناً بهذا الكتاب سهل عليه تعليم أولاده التوحيد، خاصة إذا كان الأب من قليلي العلم والاطلاع، فإن لم يكن كذلك وكان متخصصاً، أو لديه ثقافة جيدة، وعلم بالكتب والمؤلفات، وطرق استخلاص المعلومات منها، فإنه يفضل أن يقوم بنفسه فيضع منهج التوحيد، جامعاً مادته من كتب العقائد، والتوحيد ومايتعلق بها من شروح. فعلى سبيل المثال كتاب "الإيمان" لابن تيمية، وكتاب "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" للالكائي، وكتاب "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" لعبدالرحمن بن حسن آل الشيخ، وكتاب "تيسيرالعزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد" لسليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب، وكتاب "العقيدة في الله" لعمر الأشقر، وغيرها من كتب العقيدة النافعة.(1/5)
فيبين من خلال هذه المراجع الأدلة على عظمة الخالق سبحانه وتعالى، موضحاً كماله وجلاله، واستحقاقه العبودية والخضوع وتمام الحب والذل، مبيناً الغرض من خلق الإنسان وإيجاده، ومفهوم العبادة الشاملة، وأنواع التوحيد، وغير ذلك من القضايا العقائدية المهمة، مراعياً في كل هذا قدرات الولد العقلية وحدود فهمه حسب سنه مستعملاً الأسلوب السهل الميسر، والصياغة الواضحة المفهومة، والإثارة والجذب ومتجنباً الجدل العقائدي، وأساليب الفلاسفة وأهل الكلام وطرقهم العقيمة في إثبات الصانع سبحانه وتعالى. ويحذركل الحذر من التعرض للفرق الضالة المنتسبة للإسلام أو غيرها إلا عند الضرورة، فإنه لا حاجة لمعرفتها قبل معرفة الحق المبين والمفاهيم الصحيحة. فقد يتعلم الولد الشبهة دون أن يعرف الرد عليها، وقد نص شيخ الإسلام رحمه الله على أنه لا ينبغي تعليم عامة الناس إلا ما ينفعهم مباشرة في أمور دنيهم، دون التعمق في القضايا الدقيقة التي تخص العلماء والمتخصصين، فإذا كان هذا مع العامة من المسلمين فكيف بالولد الصغير قليل الفهم والإدراك؟ فلا شك أن تعليمه هذه الأموريعيق تفكيره، ويشتت ذهنه، ويقسي قلبه.بل ينهج الأب أسلوب التربية الأسلامية الصحيح في البدء بالعقيدة الصححية وإظهار معانيها ومتطلباتها، فإذا عرفها الولد وفهمها -حسب قدرته - أنكر غيرها من العقائد، وما خالفها من المفاهيم والتصورات.فلا بد أن يبدأ مع الولد بالقضايا الهامة والكلية التي تكون أنفع له وأفضل. يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "ومن الحكمة، الدعوة بالعلم، لا بالجهل، والبدأة بالأهم فالأهم، وبالأقرب إلى الأذهان والفهم، وبما يكون قبوله أتم، وبالرفق واللين".
4 - تعريف الطفل بنعم الله تعالى(1/6)
التعريف بنعم الله عز وجل على الإنسان، وما حباه من الفضائل وأنواع الطيبات ضروري في التربية ؛ وذلك ليقع في نفس الولد تعظيم الله سبحانه وتعالى من خلال الشعور بالتقصير تجاه شكره على هذه النعم الكثيرة.
والإنسان بطبعه يميل ويحب من يكرمه ويحسن إليه، فيحس نحوه بواجب الشكر والاعتراف بالجميل، فإذا كان هذا حاصلا مع الناس، فكيف برب الناس، الذي سخرهم لنفعه وعونه وإسداء المعروف له؟
ولاشك أن الإنسان إذا عرف هذه النعم، وسابق كرم الله بإيجاده، والصبر على أخطائه وتقصيره، فإنه يحس بالحياء من الله عز وجل لما يراه في نفسه، وواقعه من التقصير في حقه سبحانه وتعالى.
فمن هذا المنطلق يستغل الأب هذه الطبيعة الإنسانية في الكيان البشري، فيبين فضل الله ونعمه على الولد، وما سخره له من الطعام، والشراب، والمركب، والمسكن، وما وهبه من نعمة البصر، والسمع، والشم، والتذوق. ويقرب إلى مخيلة الولد العنت، والشقاء، الذي يمكن أن يحدث إذا فقدت نعمة من هذه النعم، فيلفت نظره إلى فقدان الطعام - مثلا - وما يحدثه من المجاعات المفزعة، المفضية إلى الهلاك والدمار، أو فقدان البصر، وما يحدثه من جهد وعنت للأعمى، أو فقدان الوالدين وكيف يمكن للولد أن يعيش بغيرهما.
وفي كل جانب من جوانب الكون وحياة الإنسان، يجد الأب مجالا خصبا للتذكير بنعم الله عز وجل. يقول ابن تيمية رحمه الله مؤكدا هذا المعنى: "ففي كل ما خلقه الله إحسان إلى عباده، يحمد عليه حمد شكر، وله فيه حكمة تعود إليه، يستحق لأجلها أن يحمد عليه حمدا يستحقه لذاته".(1/7)
ويلاحظ الأب أن الولد الصغير لا يدرك الأمور المتعلقة بالدين بمعانيها المجردة، فإن أفكاره مرتبطة بالبيئة من حوله، فيحدثه عن آثار نعم الله من خلال مخلوقاته في الكون، كأن يلفت نظره إلى البيئة من حوله فينظر إلى الأشجار والأزهار، والجبال، والسهول، والسماء، وغيرها مما حوله من أمور البيئة، فيدرك الولد جمال ما حوله من الطبيعة في جميع مظاهرها فيقدرها، ويستمتع بها، ويحس بالعلاقة بينه وبين هذا الكون، فتتأثر نفسه بآثار طيبة تعد رصيدا جيدا لمزيد من الشكر، والثناء لواهب هذا الوجود عز وجل.(1/8)
ويعد الاستمتاع بهذا الكون، وما بث فيه من عجائب المخلوقات جزءاً أصيلا في منهج التربية الإسلامية، فقد احتوى القرآن الكريم على آيات كثيرة تشير إلى هذا المعنى التربوي، وتلفت النظر إلى نعم الله على عباده بما سخره لهم من أنواع الطيبات، والملذات، والاستقرار، ليستمتعوا بها، ويشكروا ربهم عليها، ومن هذه الآيات قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20]، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 3]، وقال سبحانه وتعالى في موضع آخر من كتابه العزيز: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:14]، وقوله: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:73]. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تتحدث عن نعم الله عز وجل التي خلقها للإنسان ووهبه إياها.
وهذا الأسلوب القرآني في التربية من خلال الإشعار بنعم الله وفضله. يستغله الأب مع ولده فيختار ألصق هذه النعم، وأهمها عند الولد موضحا فضل الله عليه فيها، كأن يشعر الولد بنعمة الوالدين، وكيف أنهما يحبانه، ويسهران على راحته، ويتألمان لألمه، ويسعدان بسعادته، مبينا الخطر الذي يمكن أن يحدث له إذا ذهبا عنه، ثم يشعره بأن الوالدين نعمة من نعم الله سخرها للأولاد حتى يكبروا ويصبحوا قادرين على القيام بأنفسهم.(1/9)
والتذكير بنعمة الوالدين له في نفس الولد أثر بالغ لعظم النفع الذي يتلقاه منهما، وعدم استطاعته الاستغناء عنهما، فهنا يشعر الولد بنعمة الله عز وجل متجسدة أمامه، فيحس بشعور يغمر قلبه تجاه الله عز وجل كأنه يريد أن يخاطبه ويشكره على ما أنعم به عليه. وهنا يكون دور الوالد في توجيه الولد إلى الطريق الصحيح لشكر الله عز وجل، وهو الاجتهاد في الاستقامة على منهجه، ولزوم الصراط المستقيم.
وبهذا الأسلوب يمكن للأب أن يشير إلى أي نعمة من النعم التي يدركها الولد، ويعرف أبعادها، فيبين فضل الله وكرمه، ثم يوجه الولد لشكرها، وحمد الله عليها من خلال القيام بالعمل الصالح، فيتعلم الولد بهذا الأسلوب طريقة الأخذ والعطاء، ومعرفة الجميل وأهله، وكيف يكون الشكر والحمد.
وعندما يقدم الأب لولده الصغير قبل سن التمييز برتقالة مثلا، فإنه وقبل أن يعطيه إياها يقول له: "يابني هذه من عند الله"، ويشير إلى السماء، فإذا لم يسترسل الولد معه في أسئلة حول الموضوع، كأن يقول: "كيف جاءت من عند الله؟"، أو "هل هو أعطاك إياها؟"، فإن الأب يكتفي بما أشار به من أن هذه البرتقالة من عند الله، ولاريب أن حافظة الولد تسجل هذه المعلومة وتختزنها، ومع التكرار والتعويد تتركز المعاني وتترسخ في نفسه وقلبه.
أما الولد الأكبر سناً، أو الأكثر ذكاءً وفهماً والذي يحاول أن يعرف كيف وصلت هذه البرتقالة إليه ؟ وعن أي طريق ؟ فإن الأب يبين له بعبارة سهلة ميسرة التسلسل المنطقي في مسيرة البرتقالة من كونها بذرة صغيرة لاقيمة لها، حتى وصولها إلى الولد ثمرة حلوة لذيذة، ويحاول الأب من خلال شرحه وبيانه أن يبرز ويشير إلى قدرة الله عز وجل ولطفه ورحمته من وراء هذه النعمة.(1/10)
فيبين الأب لولده أن الفلاح وضع البذرة في الأرض الخصبة، ثم سقاها بالماء الذي أنزله الله من السماء، وأشرقت عليها الشمس بأمر الله عز وجل لتدفع فيها الحياة والنشاط، حتى كبرت وأصبحت شجرة بعد أن كانت بذرة صغيرة، ثم بدأت بعد ذلك تثمر برتقالاً حلو المذاق، ثم جاء الفلاح واقتطف هذه البرتقالات من الشجرة، وغسلها، ثم وضعها في صندوق، وخرج بها إلى السوق ليبيعها للناس، فاشتريت البرتقالات منه بالمال الذي آتانيه الله، وقدمت بها إلى البيت، وهاهي البرتقالة الجميلة بين يديك، ثم يعقب على هذا السرد الطويل بقوله: "أرأيت يابني كيف أن الله يحبك ؟ سخر لك الفلاح، والماء، والشمس، والأرض، وسخرني لك لأجلب هذه الثمرة إليك لتأكلها".
وبهذا الأسلوب يكون الوالد قد بذر في نفس ولده بذرة التأمل والتفكر في نعم الله من حوله، فإن كان هذا حاصلا في البرتقالة، فإنه حاصل أيضا مع باقي الفواكه والخضار، فيعمم الولد هذه القضية على باقي الأطعمة خاصة التي تنبت من الأرض لتشابهها بقصة البرتقالة.
ويختلف أسلوب الأب مع الولد المميز، الذي قد حصل عن طريق المدرسة على شرح عملية الإنبات والتمثيل الضوئي، وهنا يبدأ معه بصورة مباشرة فيسأله مثلا عن عملية التمثيل الضوئي وكيف تتم ؟ فيسترسل الولد ذاكراً ما تعلمه في المدرسة - وغالبا ما يكون تعليما جافا- من التفاعلات الكيميائية المختلفة التي تصاحب عملية الإنبات، من اشتراك الأرض، والماء، والشمس وغيرها في هذه العملية.(1/11)
وهنا يحاول الأب أن يبرز جانب الغيب في هذه العملية، ويد الله التي تجلت في كل حركة من حركات هذا الكون، فيقول له: "يابني أرأيت لو أن الله قطع عنا المطر أيمكن أن يحدث تمثيل ضوئي؟"، فيقول الولد: "لا"، فيقول له: "ألم تعلم أن الله إذا غضب على الناس منعهم القطر، وحرمهم الماء"؟ "فما الذي يجب أن يفعله الناس مع ربهم يابني؟"، فيجيبه الولد: "يجب عليهم أن يطيعوه ولايغضبوه"، وهنا حيث وصل الأب إلى ما يريده من إحساس الولد بأهمية طاعة الله وشكره لتدوم نعمه وفضائله، يعقب على ذلك ببيان سبل إرضاء الله، والحصول على مغفرته ورضوانه من خلال التزام منهجه، وأوامره، واجتناب نواهيه، وما يسخطه. فإن سأله الولد على سبب إغداق النعم على غير المسلمين رغم عصيانهم لله ومخالفتهم لمنهجه، فإنه يبين له أن هذا من سنن الله عز وجل مع الناس الذين لاخلاق لهم في الآخرة، فإن الله يمدهم بالنعم في الدنيا حتى إذا فرحوا بها جاءهم الهلاك العام والدمار والخسف في الدنيا والآخرة، ويتلوعليه قوله عز وجل: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44].
وبهذا البيان المستمر يكون الأب قد ركز في نفس ولده معرفة نعم الله - عز وجل -، وواجبه تجاه الله بالشكر والحمد والإستقامة، ورد شبهة كانت يمكن أن تشوش عليه يقينه وثقته بربه سبحانه وتعالى.(1/12)
ويستعين الأب ببعض الكتب الجيدة المؤلفة في هذا الجانب فيقوم بتلخيص بعض موضوعاتها، ثم يعرضها على الأولاد بعبارة سهلة من وقت لآخر، ومن هذه الكتب: "التبيان في علوم القرآن" لابن القيم، وكتابه أيضا "مفتاح دار السعادة" حيث تحدث في بعض أجزاء هذين الكتابين عن عجائب خلق الإنسان، والحيوان، والكون، مبينا بأسلوبه الفريد فضل الله ونعمه على خلقه، وعظيم قدرته. والأب يستفيد من هذين الكتابين وغيرهما من الكتب في هذا المجال، ويحاول أن يبسط هذه المفاهيم والتصورات لولده ليستفيد منها.
5 - إحياء المراقبة لله تعالى في نفس الطفل
جانب مهم من جوانب التربية الإسلامية، وضرورة من ضرورياتها التربوية، هو جانب مراقبة الله، واستشعار معيته، وإحاطته بالإنسان وأعماله، حيث تعتبر هذه المراقبة ثمرة من ثمرات معرفة نعم الله الكثيرة على الإنسان، لما يقع في النفس من الشعور بالتقصير، والانكسار، والعجز عن كمال الشكر والحمد للمنعم، مما يولد عند المؤمن الإحساس بالمراقبة لله عز وجل، ومحاولة الاجتهاد في الحمد والشكر بدوام الاستقامة على المنهج القويم.(1/13)
وقد ركز منهج الإسلام في التربية على إثراء جانب المراقبة لله عز وجل في النفس الإنسانية، فقد تضمن القرآن الكريم كثيراً من الآيات المشيرة إلى هذا المعنى يقول الله سبحانه وتعالى حاكيا عن لقمان الذي أرشد ولده إلى هذه المراقبة: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16]، ويقول أيضاً: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [قّ:16]، فحتى الخواطر، والخطرات التى ترد على النفس يعلمها الله ويحيط بها، ويقول سبحانه وتعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4]، أي: أن الله سبحانه وتعالى مع الإنسان أين ما كان بعلمه وقدرته وكمال إحاطته بخلقه.
وفي الحديث عندما كان عبدالله بن عباس رضى الله عنه رديف النبي - صلى الله عليه وسلم - على دابة حيث أراد عليه الصلاة والسلام أن يذكي في نفس ابن عمه الصغير هذا الجانب الهام فقال له: (( يا غلام أو ياغليم ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن فقلت: بلى فقال: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إليه في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله قد جف القلم بما هو كائن، فلو أن الخلق كلهم جميعاُ أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لم يقدروا عليه، وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدرواعليه)).
بهذا الأسلوب القرآني والنبوي، يتعلق الولد بالله عز وجل، ويقطع جميع العلائق دون الله، فلا يرجو إلا الله، ولا يخاف إلا الله، ولا يسأل إلا الله، فيحفظ الله في خلواته، وعند قوته بتمام الاستقامة على منهجه، فيكون دائم المراقبة لله في الرخاء والشدة.(1/14)
وبهذا المنهج تربى الطفل في عصر النبوة تربية راسخة، جعلته قوة فعالة ثابتة، وأمثلة واقعية تفوق الخيال، فلا يكاد يفرق بين الرجل الكبير والولد الصغير، فالكل كبار بأفعالهم وأعمالهم الحميدة.
فهذا علي بن أبي طالب رضى الله تعالى عنه يؤمن بالرسول - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبلغ وهو ابن عشر سنين، ويتبعه رغم الآلام والخسائر والمعاناه التى يلقاها المؤمنون في ذلك الوقت في مكة، فلم يمنعه كل هذا - مع صغر سنه - من اتباع الحق، والتمييز بينه وبين الباطل، واختيار الطريق، وتقرير المصير.
وهذا أسامة بن زيد، وأسيد بن ظهير، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم، وغيرهم كثير، يعرضون أنفسهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجاء أن يسمح لهم بالمشاركة في قتال الكفار في غزوة أحد، فيردهم لصغر سنهم.
وفي يوم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6]، فإذا بفتى يسقط مغشياً عليه من وقع التلاوة على قلبه، فيضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده الشريفة على صدره ويقول له: ((يا فتى قل لا إله إلا الله)) فقالها فبشره بالجنة، وصبيان آخرون في سن السابعة تقريباً يأتون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبايعونه مع الكبار، فيبسط يده ويبايعهم.
هؤلاء الصبيان الصغار الذين لم يبلغوا الحلم، ولم تصقل خبراتهم بعد، ولم يتعلموا الكثيرمن العلوم عرفوا معنى الحياة وحقيقتها، وأنها فانية، فقد كان دور الأسرة في ذلك الوقت دوراً رائداً ورئيسياً في إيجاد هذا الشعور العجيب في قلوب الصغار نحو الله عز وجل، واستشعار معيته ومراقبته لهم مما دفعهم إلى مزيد من التضحيات في سبيل الله سبحانه وتعالى.(1/15)
وهذا هو النوع من الشعور الذي يطالب الأب المسلم بغرسه في نفوس أولاده الصغار، وتربيتهم عليه، حتى تتعلق قلوبهم وأرواحهم بالله عز وجل، فتكون جميع حركاتهم وسكناتهم موافقة لمنهج الله عز وجل، فإذا نجح في هذه المهمة في طفولتهم فقد ضمن دوام استقامتهم وسلامتهم من الانحرافات في مستقبل حياتهم إن شاء الله تعالى.
ومن أهم العوامل المساعدة على تنمية هذا الشعور عند الولد إشعاره بالانتماء إلى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، فالأطفال يحبون هذا الشعور، ويرغبون في شىء يعتقدون ويعملون من أجله ليشعروا بمعنى الحياة وقيمتها، فإذا وجههم الأب إلى هذا النوع من الانتماء فقد أشبع في نفوسهم هذا الميل الفطري، الذي لا يشبعه إلا هذا الانتماء العظيم.
والأب يسعى دائماً بإشعار الولد بمراقبة الله له في كل وقت وفي كل مكان، ويوقظ عنده المسؤولية أمام الله، ويشعره بواجبه تجاهه سبحانه وتعالى. وهذا يمكن تحقيقه خاصة مع الولد في سن التمييز، إذ يمكنه أن يفكر بصورة مجردة، ويفهم ويدرك تلك المعاني.
ويستخدم الأب أسلوب الترغيب والترهيب لينمي في ولده الرغبة والحب لله من جهة، والخشية والخوف من جهة أخرى، فيعيش بين الخوف والرجاء. ويلاحظ الأب عدم الإكثار من تخويف الولد بعذاب الله بصفة مستمرة، خاصة إن لم يكن هناك مبررلذلك، أو مناسبة للتذكير، بل يركز قدر الإمكان على جانب الترغيب ويعلق قلب الولد بجانب الرجاء فهو أكثر حاجة إليه ورغبة فيه. وإن احتاج إلى الترهيب الذي لا بد منه في بعض الأوقات، فعليه أن يستخدمه بأسلوب غير مباشر، فإذا قام الولد بعمل حسن محمود قال له: "إن الله سيحبه من أجل هذا العمل ويدخله الجنة، وإنه ليس كالأولاد الأخرين الذين يعملون السيئات، والذين سيعذبهم الله بالنار"، وبهذا الأسلوب يكون الأب قد أثاب ولده على الفعل المحمود، وفي نفس الوقت حذره بصورة غير مباشرة من الفعل القبيح المذموم.(1/16)
وفي مجال الترغيب والترهيب يمكن للأب أن يعرض على ولده الآيات والأحاديث في وصف الجنة والنار ففيها العبرة كلها، والموعظة البالغة التي تنمي في النفس الخشية من الله - عز وجل -، والرغبة فيما عنده، ويستعين في هذا المجال بكتاب "الترغيب والترهيب" للحافظ المنذري رحمه الله، فقد جمع فيه أحاديث كثيرة في هذا الباب، فينتقي الأب منها أحاديث متنوعة، سهلة العبارة ومفهومة المعنى، فيقرأها على الولد في أوقات متفاوتة ومختلفة، مراعياً أن لا يكون ذهن الولد منشغلاً عنه بشاغل، بل يتحين الفرص المناسبة التي يكون فيها الإبن مقبلاً عليه، فارغ الذهن من الملهيات واللعب، فيعرض عليه هذه الآيات والأحاديث موضحاً وشارحاً لها بأسلوب حسن سهل، مقتدياً في ذلك بالرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام في توجيهه لابن عباس في الحديث المتقدم.
وينهج الأب مع ولده أسلوب التذكير الدائم برقابة الله له، وعلمه سبحانه وتعالى بجميع أفعاله وأقواله مستخدماً في ذلك طرقاً متنوعة، فإذا حدثه الولد - وهو في سن التمييز - حديثاً، أو نقل إليه خبراً ما، قال له: "يا بني إن كنت صادقاً فإن الله سيحبك، ويجزيك على صدقك أجراً، وسوف أحبك أنا أيضاً، أما إن كنت كاذباً فإن الله لن يحبك، وسوف يعاقبك، ولن أحبك أنا أيضاً".
وإذا ترك الأب الولد الصغير في غرفته منفرداً، أو في أي مكان بعيداً عن مراقبة الوالد وأهله، ذكَّره بمراقبة الله له، كأن يقول له: "يا بني أتعرف أن الله يراك؟"، فيجيبه الولد: "نعم يا أبي"، فيقول له الأب: "إذاً فماذا عليك أن تفعل؟"، فيرد عليه الولد: "لا أفعل شيئاً يغضبه". وهنا يحتضنه الأب، ويقبله مشعراً له برضاه عن مقالته الحسنة.(1/17)
وبهذه الطريقة من التذكير الدائم بالأساليب المتنوعة تحصل لنفس الطفل شفافية وحساسية مرهفة، تنصدع خشية لله عندما تسمع ذكره، أو تستحضر وجوده، كما قال تعالى واصفاً هذا الصنف من الناس: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2].
أما الولد الكبير الذي قارب البلوغ، وأصبحت قدرته أكبر على فهم الأمور المجردة، وإدراك القضايا الغيبية بصورة أعمق، فإن الأب ينتهج معه منهجاً آخر، فيسلك معه الأسلوب المباشر فيخاطبه بالآيات المباركات التي تركز على جانب مراقبة الله - عز وجل -، فيتلوها عليه مختاراً الأوقات المناسبة، خاصة بعد صلاة الفجر، حيث صفاء الذهن، ورقة الإحساس، وقلة الملهيات والشواغل، فيتلو بعضاً من آيات الذكر الحكيم كأن يختار آيات من سورة "الأعراف"، أو خاتمة سورة "المؤمنون"، أو سورة "ق"، أو يختار بعض السور من الجزئين التاسع والعشرين والثلاثين من المصحف الشريف، مراعياً في تلاوته الخشوع والبكاء، فإن أثر التلاوة الخاشعة المصاحبة للبكاء أعظم في نفس الولد، وأكبر وقعاً من مجرد التلاوة الجافة، فلا بأس أن يحسن الأب صوته بالتلاوة في خشوع، فقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إن هذا القرآن نزل بحزن. فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا)). والمقصود هو إظهار الخشوع والحزن والبكاء عند التلاوة ليكون وقعها على النفس أشد فتتأثر وتنصدع، وقد كان ابن الجوزي رحمه الله عندما كان صغيراً يتأثر ببكاء بعض شيوخه أكثر من تأثره بعلمهم.(1/18)
والولد الذي يشاهد هذا التأثر على أبيه لا شك يتأثر، وكأن لسان حاله يقول: "إن هذا الأمر الذي يبكي والدي له أمر عظيم". وسوف يبقى في نفس الولد أثر هذا الخشوع، ويرتسم في مخيلته، حتى يكبر وينضج، فيتذوق حلاوة الإيمان، ولذة الخشوع، فيكون ذلك مدعاة لدوام استقامته، وتمام توفيقه وسداده.
ويضيف الأب إلى آيات القرآن الكريم بعضاً من الأحاديث النبوية التي تركز على هذا الجانب، وتقويه في نفس المؤمن، ومن هذه الأحاديث قوله عليه الصلاة والسلام: ((لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوَّة لخرج عمله للناس كائناً ما كان)). أي إن علامة الطاعة، أو المعصية التي عملت في الخفاء بعيداً عن رقابة الناس يظهرها الله على صاحبها في سلوكه وتصرفاته بين الناس، فإن خيراً فخير، وإن شراً فشر، وفي حديث آخر يكشف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للناس حقيقة من حقائق عالم الغيب التي يهتز لها الوجدان، وينخلع لها القلب، عند تخيل حقيقتها وطبيعتها حيث يقول: ((إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت السماء، وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا عليه ملك ساجد، لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً)).
وهذه الآيات والأحاديث لا شك أن لها أثرها على نفس الولد، حتى وإن لم يظهر ذلك في بادئ الأمر، فإنه يختزن في ذاكرته، ويُنقش في قلبه، ويظهر أثره عند مقاربة البلوغ وبعده على صورة رغبة وميل نحو التدين والتزام الإسلام.
وقد كان بعض السلف يعلم أولاده كيف يستحضرون رقابة الله عليهم عن طريق ذكر الله بالقلب، فيعلم ولده أن يقول: "الله معي، الله يراني، الله ناظري"، ويكرر ذلك مراراً دون تلفظ. وهذا الأسلوب إن استمر عليه الولد مكَّنه ذلك من استحضار مشاهدة الله له، ومراقبته له.
6 - أدب الطفل مع الملائكة(1/19)
الملائكة عباد لله تعالى خلقهم من نور، وأوكل إليهم أعمالاً يقومون بها في هذا الكون، فالتسبيح والتمجيد لله - عز وجل - من أعظم أعمالهم، فهم العابدون لله دون ملل أو كسل كما وصفهم الله - عز وجل - في كتابه المنزل بقوله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الانبياء:19-20]، فهم دائمو التسبيح لله - عز وجل - لا يملون من ذلك، فالتسبيح عندهم كالتنفس عند البشر.
ومسؤولية الأب في هذا الجانب هي تعميق حقيقة وجود الملائكة في نفس الولد، وإكسابه يقيناً بوجود هذه المخلوقات العظيمة. ويكون نهج الأب في تعميق هذه الحقيقة هو الاعتماد على القرآن الكريم، والآثار الواردة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الجانب الغيبي، فليس هناك طريق آخر لمعرفة هذه القضايا الغيبية سوى طريق الوحي المبارك من عند الله - عز وجل -.
ويبدأ الأب ببيان حب الملائكة للمؤمنين، وأنها تستغفر لهم، كما أخبر بذلك الله - عز وجل - حيث قال: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى:5]، فيُشعر ولده بحب الملائكة له، وأنهم يدعون له، ويطلبون له النجاة والفوز بالجنة، كما يخبره أنهم يحمونه مما يؤذيه، ومن كل ما يمكن أن يضره، فقد قال الله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11]، فالمعقبات هم الملائكة الذين يتعاقبون على الناس بالليل والنهار، يحفظونهم بأمر الله - عز وجل - مما لم يكتب عليهم.(1/20)
ويبين الأب لولده أن الملائكة هم الذين ينزلون بالوحي الذي تحيا به القلوب، ويهتدي به الناس، فكل أعمالهم لخير الناس وصلاحهم، وبهذا البيان يقع في نفس الولد حب الملائكة وموالاتهم، لما لهم من فضل وإحسان.
ويشير الأب معلماً ولده أعمال الملائكة، خاصة المتعلقة بأحوال الناس، فيبين له أن الملائكة لا تفارق الإنسان إلا في أحوال خاصة، بل تلازمه طول حياته منذ كونه نطفة في رحم أمه حتى دخول الجنة أوالنار، ويحصون كل أعمال العباد من خير أوشر، ويحثونه على فعل الخيرات بما يوقعونه في نفس الإنسان من عمل الفضيلة ونبذ الرذيلة.
وإذا علم الولد أن كل حركاته وسكناته مسجلة عليه محصاة بصحائف الملائكة، وأنهم يرونه ويشاهدونه ويعاشرونه، فإنه إذا استشعرهذا الموقف شعر بضرورة الأدب مع هؤلاء الملائكة، والخجل من اقتراف المعصية أو الخطيئة، فيكون إيمانه بالملائكة حافزاً له لعمل الخير وترك الشر، وحصناً في خلواته من الوقوع في المنكر.
ولا بأس أن يصف الأب لولده المميز طبيعة خلْق الملائكة وعظم أجسامهم، وشدة قوتهم، فقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام قوله: ((أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش، إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام)). أما في وصف قوتهم فيقول عليه الصلاة والسلام: ((إن لله ملكاً لو قيل له التقم السموات والأرضين السبع بلقمة لفعل تسبيحه سبحانك حيث كنت))، وأما وصف عددهم وكثرتهم فيقول عليه الصلاة والسلام)) أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا عليه ملك ساجد، لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)).(1/21)
هذه الحقائق عن طبيعة خلق الملائكة وعظم أجسامهم، وشدة قوتهم، وكثرة عددهم، إذا استقرت في نفس الولد وتيقن بها، أحدثت في نفسه شفافية خاصة، وإحساسا مرهفا نحو عالم الغيب، فيستحضر من وقت لآخر تلك التصورات التي يتلقاها من والده عن عالم الملائكة، فيذهب فكره من وقت لآخر متخيلا هذه الحقائق الكونية الكبرى، فيسأل أباه في بعض الأحيان عما يثقل عليه إدراكه وتصوره، أو يسأله عن ورود فكرة أو خاطرة ما على ذهنه عن طبيعة هذه المخلوقات الجبارة، ويمكن للأب أن يجيب ولده عن الأسئلة بالاستزادة من المعلومات حول الملائكة، فيمكن الرجوع إلى كتاب "الحبائك في اخبار الملائك" للإمام السيوطي، أو كتاب "عالم الملائكة الأبرار" لعمر الأشقر، ففيها الكفاية إن شاء الله، فقد جُمع فيهما عن أحوال الملائكة وطبيعتهم، وأعمالهم، ما تفرق في الكتب الأخرى.
والأب يشعر ولده من وقت لآخر بوجود الملائكة، فإن تركه في غرفته أو في مكان ما وحيداً، ذكَّره برفقة الملائكة له، وأنهم يحصون عليه أعماله، ويدونونها، وإذا شعر الولد خوفاً من الظلام، أو الوحدة، ذكَّره بوجود الملائكة المحبين للمؤمنين يحفظونه ويحمونه مما يؤذيه، فيشعر الولد بالأنس والاطمئنان.
7 - ترغيب الطفل في حب الأنبياء(1/22)
إن أحب خلق الله إلى الله هم الأنبياء عليهم جميعاً الصلاة والسلام. فهم أولياؤه وخاصته وخيرته من خلقه اصطفاهم واختارهم من بين جميع خلقه، قال الله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:75]، وقد هدد الله سبحانه وتعالى من يعاديهم، فقال: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98]، فمن عاداهم وصف بالكفر والجحود، كما أن من أحبهم ووالاهم وصف بالإيمان والإسلام ؛ بل إن معاداة نبي من الأنبياء هو كفر بالجميع ومعاداة للجميع. يقول ابن كثير رحمه الله: ((فمن عادى رسولاً فقد عادى جميع الرسل، كما أن من آمن برسول فإنه يلزمه الإيمان بجميع الرسل، كما أن من كفر برسول فإنه يلزمه الكفر بجميع الرسل)).
ولما كان حب الأنبياء عليهم جميعاً الصلاة والسلام من أعظم القربات إلى الله - عز وجل -، فإن مسؤولية الأب تتجسد في تركيز حبهم وموالاتهم في صدور الأولاد مستغلاً بيان فضلهم، ومنزلتهم، وكمالهم، فتتعلق قلوب الأولاد بهم حباً وولاءً.
يعرف الأب أولاده بالأنبياء الكرام عليهم السلام، وبمهامهم التي كلفهم الله القيام بها، مبيناً طبيعة شخصياتهم، وأنهم أكمل الناس خُلُقاً وخَلْقاً، فيحدث أولاده عن جمالهم، وكمالهم، وحسن صورهم، وطيب ريحهم، وكرمهم، وصبرهم على سوء خلق الناس وأذاهم.(1/23)
ويعرض عليهم بعض قصصهم مع أقوامهم، وكيف لاقوا العنت، والتكذيب، رغم وضوح الأدلة وقيام الحجة، ويعرض الأب هذه القصص عرضاً شيقاً جذاباً، مراعياً سن الولد ؛فإن كان صغيراً قبل التمييز اختار له القصص القصيرة الموجزة، وإن كان كبيراً مميزاً بسط له القصة وأطال سردها، مراعياً في كل هذا إبراز شخصيات الأنبياء في أكمل صورة، متجنباً الروايات الإسرائيلية الغريبة، والمنقولات غير الصحيحة، والتي يمكن أن تحمل معاني لا تليق بمقام الأنبياء الكرام، ومراعياً أيضاً إبراز الصراع الدائر في هذه القصص بين الحق والباطل، مبيناً أن الأنبياء إنما أرسلوا لإقرار عقيدة التوحيد، والخلوص من الشرك بكل صوره، مشيراً إلى انقسام أقوامهم بين مكذب ومصدق، مؤمن وكافر، ثم يقر الحقيقة الكبرى، والسنة الجارية، في نهاية المطاف، بعد طول صبر وعناء، حيث يهلك المكذبون، وهم الأكثر، وينجو وينتصرالمؤمنون وهم القلة، موضحا أن الحق لا يعرف بكثرة الناس أو قلتهم، بل يعرف بموافقته للوحي المنزل من الله عز وجل.
ويستعين الأب في عرضه لقصص الأنبياء بكتاب "قصص الأنبياء" لابن كثير، وكتابه "البداية والنهاية" كتاب "الكامل في التاريخ" لابن الأثير، وكتاب "الرسل والرسالات" لعمر الأشقر، وكتاب "حياة وأخلاق الأنبياء" لأحمد الصباحي عوض الله، وغيرها من الكتب. ويكون أسلوب الأب في العرض عن طريق تلخيص القصة من هذه الكتب أو من أحدها، ثم عرضها على الأولاد. ولا تقرأ مباشرة من المرجع، لصعوبة الأسلوب خاصة الكتب القديمة.
ولا بأس بتزويد الولد القادر على القراءة ببعض قصص الأنبياء المؤلفة للصغار ككتاب "قصص النبيين" لأبي الحسن الندوي، وكتاب "أنبياء الله" لأحمد بهجت، وغيرهما، ومن وقت لآخر يناقش الأب ولده فيما قرأ، ليتأكد أنه فهمه الفهم المطلوب، وتوصل إلى الهدف المنشود، والعبرة من القصة.
8 - تشَرُّب الطفل محبة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -(1/24)
يخص الأب سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأحداث دعوته بالإهتمام الأكبر، فالحاجة لمعرفتها أعظم من الحاجة لمعرفة غيرها من السير والأحداث، لأن الناس مأمورون بالاقتداء به، واتباعه، وهذا لا يتم إلا من خلال معرفة سيرته، ودراستها.
وإرسال الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - من أعظم منن الله عز وجل على عباده، فهو أفضل الرسل، وأحبهم إلى الله، وشريعته أكمل الشرائع، يقول الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164]، فأخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الإيمان، فبعثته أعظم رحمة على البشرية، وأكبر منة لله عز وجل على الناس، لهذا كان حبه وطاعته والأدب معه من أهم القضايا والأمور التي يهتم بها المربون، ويسعون لإيجادها في نفوس أولادهم.
إن من المسَّلم به أنه إذا عُرفت شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفضائله، وشمائله، فإن القلب يصبح أسير حبه، فيتعلق به تعلقا عظيما، ويفديه بالأهل، والمال، والولد، وهذا هو الذي حدث للصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، فقد ملك حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شغاف قلوبهم، فأصبح أحدهم يشتاق إليه وهو عنده، وظهر حب الصحابة له في مواقف كثيرة ومن أعظمها في موقعة أحد التي هزم فيها المسلمون، فكان أحدهم يقف درعا واقيا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سهام المشركين، فيتلقى السهام بصدره أو ظهره.
وكما أن حبه عليه الصلاة و السلام ملك قلوب الصحابة، فكذلك التابعين، فهذا ثابت البناني التابعي الجليل يقول لأنس بن مالك رضي الله عنه: "أعطني عينيك التي رأيت بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أقبلهما".(1/25)
ولايكمل إيمان المسلم إلا بحبه عليه الصلاة والسلام، فقد قال))لايؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)).
وحبه عليه الصلاة والسلام من حب الله عز وجل، فمن أحبه فقد أحب الله، لأن الله يحبه وأمر بحبه. يقول ابن القيم رحمه الله: "وكل محبة وتعظيم للبشر فإنما تجوز تبعا لمحبة الله وتعظيمه كمحبة رسوله وتعظيمه، فإنها من تمام محبة مرسله وتعظيمه، فإن أمته يحبونه لمحبة الله له، ويعظمونه ويبجلونه لإجلال الله له، فهي محبة لله من موجبات محبة الله".
وقد أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - الآباء بأن يربوا أولادهم على حبه، فقال: ((أدبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم، وحب أهل بيته، وقراءة القرآن)).
ولما كان الأمر بحبه على هذه الدرجة من الأهمية فإن واجب الأب أن يوقع في نفوس أولاده حبه وتعظيمه، ولعل أفضل الوسائل إلى ذلك سيرته، المتضمنة وصفه، وشخصيته، وشمائله، وفضائله، التي ما يكاد يطلع عليها أحد إلا وتؤثر فيه، وتمتلك قلبه.
فيحاول الأب أن يُعرف أولاده بسيرته عليه الصلاة والسلام مستعينا بالكتب المؤلفة في هذا الجانب، ككتاب "زاد المعاد في هدي خير العباد" لابن القيم، وكتاب "السيرة النبوية" لابن هشام، وكذلك كتب الحديث، وبعض الكتب الحديثة التأليف، فيحضر الأب من بعض هذه الكتب موضوعات متعلقة بشخصه عليه السلام، من التي تبرز خلقه، وفضله، وصبره على الناس، وعفوه عنهم، ويضاف إلى ذلك جوانب من سيرته في مكة والمدينة، والأحداث التي تخللت حياته، ويكون عرض الأب ملخصا دون سرد ودون قراءة مباشرة من المرجع، ويعلق على المواقف الهامة، مبرزا جوانب شخصيته عليه الصلاة والسلام حتى تتعلق قلوب الأولاد به ويحبوه.(1/26)
ويشجع الأب أولاده على حفظ بعض الأحاديث النبوية القصيرة والواضحة المعنى، والمتضمنة لبعض الأخلاق، والآداب النافعة للصغار، ويكافئ من أجاد الحفظ بهدية، أو نقود، فلا حرج في ذلك، فقد كان بعض السلف رضوان الله عليهم يعطون الأولاد بعض النقود، ليشجعوهم على سماع الحديث.
ويقص الأب عليهم بعض الروايات التي تبين حب الرسول - صلى الله عليه وسلم - للأطفال الصغار، وكيف كان يعاملهم ؟ خاصة ماورد عنه في حبه للحسن والحسين رضي الله عنهما، فيتعلق قلب الولد بسيرته، وما نقل عنه، فيحاول أن يعرف كل شئ عنه، ويسعى ليقتدي به في سلوكه وأخلاقه عليه الصلاة والسلام.
9 - أدب الطفل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
من ضروريات التخلُّق مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الأدب بحضرته في حياته، ومع سنته وعند ذكر اسمه بعد وفاته، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} الحجرات:2]، وقال أيضاً: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور:63]، أي: لا يُنادى عليه الصلاة والسلام باسمه، بل يُنادى بأدب النبوة فيقال: يا رسول الله، أو يا نبي الله، وهكذا.
ويعود الأب ولده على هذا الأدب القرآني العظيم، فإذا سمع حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ من كتاب، أو في المذياع، أمر الأب الجميع بالصمت والإنصات لسماع الحديث، فيستشعر الولد منزلة الرسول عليه الصلاة والسلام عند المسلمين.(1/27)
ويعود الولد على الصلاة والسلام عليه كلَّما ذكر اسمه، ويكون الأب القدوة لولده في ذلك، فإذا سمع اسمه بادر بالصلاة والسلام عليه رافعاً بذلك صوته ليسمع الأولاد، ويتعلموا منه، وعليه أن يلاحظهم بعد ذلك فإذا أهمل أحدهم الصلاة والسلام على الرسول - صلى الله عليه وسلم - نبهه، وبين له أن هذا فعل البخلاء، كما قال عليه الصلاة والسلام: ((البخيل الذي من ذكرت عنده فلم يصل عليَّ))، ويوضح له أمر الله - عز وجل - في هذا، فيذكِّره بقول الله تعالى: {إن الله وملائكته يصلون على النبي ياأيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً}.
ويحث أولاده على الإكثار من الصلاة والسلام عليه خاصة يوم الجمعة، والليلة التي قبلها، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((أكثروا الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة، فمن صلى علي صلاة صلى الله عليه عشراً)). ولا بأس أن يكافئ المكثر من الصلاة والسلام عليه من الأولاد فيثني عليه، ويعطيه هديةً أو نقوداً.
وبهذا التعظيم والإجلال لشخص رسول - صلى الله عليه وسلم -، والتأدب معه يوقع في نفس الولد شعوراً خاصاً نحوه، فيتعود الأدب مع سنته، ويظهر تعظيمه لها واتباعها إذا كبر واشتد عوده.
10 - إلزام الطفل طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(1/28)
من ثمار حب الرسول r والأدب معه: طاعته في أوامره، واتباع سنته اقتداءً به، فهو عليه الصلاة والسلام المثل والقدوة الواقعية للبشر في جميع المجالات والجوانب الحياتية المختلفة، وهو أكمل شخصية بشرية سارت على الأرض. قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21]، وأمر الله U بطاعته طاعة مطلقة، فقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]، وقال أيضاً: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} [آل عمران:32]، وقال عليه الصلاة والسلام محذراً من عصاه: ((كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من عصاني فقد أبى))، فطاعته واجبة على كل الناس لا مناص للانفلات منها.
ولا تقتصر طاعته على ما ورد في القرآن الكريم من نصوص وأحكام وتوجيهات، بل لا بد من طاعته في أوامره التي لم ترد في القرآن الكريم، والتي اصطلح على تسميتها بالسنة، وهي وحي من الله أيضاً. وقد فسر كثير من العلماء الحكمة التي ورد ذكرها في القرآن بأنها السنة، وذلك في قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((أوتيت الكتاب وما يعدله))، يعني مثله، فسنته المتضمنة لأفعاله، وأقواله، وتقريراته يطالب بها المسلم، ويؤمر باتباعها وعدم إهمالها، فإن مضمون شهادة "أن محمداً رسول الله" هو: "العلم والتصديق والاعتقاد الجازم بأن محمداً r رسول الله، وإعلان ذلك وإظهاره وبيانه بالقول والعمل، أما بالقول: فبالنطق بهذه الشهادة، وأما بالعمل: فيكون بإقامة سلوك الإنسان وجميع تصرفاته القولية والعملية وفق ما جاء به محمد r من ربه على وجه الاتباع له والقبول منه باعتباره رسول الله".(1/29)
فلا يكون المهمل للسنة المعرض عنها مقراً إقراراً صحيحاً بأن محمداً رسول الله ؛ بل يكون إيمانه بهذه الشهادة ضعيفاً هزيلاً.
والأب المسلم يقيم حياته كلها على السنة المطهرة، فصلاته وصيامه وحجه وكل عبادته على منهج السنة النبوية، وتصرفاته في المأكل والمشرب والملبس أيضاً على السنة، وأخلاقه ومعاملاته مع أولاده والناس توافق أيضاً طريق الرسول r، فلا يكاد الولد يسأل عن عمل يقوم به الأب، أو طريقة انتهجها الأب، في عبادة، أو معاملة، أو دعاء، أو غير ذلك إلا ويكون جوابه: "هكذا كان يفعل رسول الله r يا بني"، فيشعر الولد ويتيقن بأنه أيضاً مطالب بهذه السنة، وأن حياته لا بد أن تقوم على اتباع الرسول في طريقته ومنهجه، فيثمر ذلك حماسة في نفسه للاقتداء، خاصة وهو يجد أمام عينيه القدوة الصالحة في سيرة والده وسلوكه، فلا يكون اتباعه للسنة صعباً شاقاً.
ويحذر الأب كل الحذر من مخالفة القول للعمل، ومن إهمال تطبيق السنة، خاصة إذا تعلم الأولاد سنة من سنن الرسول r نظرياً، فإن الأب مطالب باتباعها شرعاً وعقلاً، وإلا أحدث في نفس الأولاد خلخلة كبيرة، وتناقضاً عظيماً لا يستطيع الولد أن يفهمه أو يدركه.(1/30)
ومثال ذلك عادة حلق اللحى التي تفشت بين الرجال المسلمين في هذا الزمن، حيث ميَّز الله الرجال عن النساء والصبيان باللحى، وجعل لهم بها مهابة لا توجد على من لا لحية له، فلو اعتاد الأب هذه العادة الذميمة، وخالف بها أمر رسول الله r الذي يقول: ((خالفوا المشركين، وفِّروا اللحى، واحفوا الشوارب))، فإنه من الصعوبة بمكان أن يذكر لهم ويعلمهم سنن الفطرة التي من بينها إطلاق اللحية، كما أنه بفعله هذا يكون لهم قدوة سيئة في حب الصالحين من العلماء، والدعاة، الذين تزينوا بإطلاق اللحى مقتدين بالرسول r، إلى جانب أنه يجرؤهم مستقبلاً على حلقها فيوقعهم في الإثم والمعصية، خاصة وقد أجمع أصحاب المذاهب الأربعة على حرمة حلقها، فقد نقل بعض علماء العصر الحديث إجماعهم على ذلك، بعد أن انتشرت هذه الظاهرة بين الرجال، فلا ينبغي للأب أن يلتفت لكثرة المخالفين، فالحق أحق أن يتبع.
ويقاس على هذا المثال جميع القضايا التي وردت في السنة المطهرة، خاصة التي يفهم منها الوجوب، فلا يهملها الأب، أو يقصر في اتباعها ؛ بل يأخذ بها متبعاً ومقتدياً بالرسول r، فيكون قدوة صالحة لأولاده.(1/31)
ونظراً لضعف الوازع الديني، وضعف استشعار القدوة في رسول الله r أظهر بعض أبناء المسلمين الحب والولاء والاقتداء بغير شخص رسول الله r فأصبح بعضهم يقتدي بالرياضيين، أو الممثلين، أو غيرهم، دون أن يستحضر أحدهم الخطأ الفادح في اختيار القدوة، وظهر هذا واضحاً في دراسة أجريت في كلية التربية بجامعة الملك سعود بالرياض حول المثل الأعلى والقدوة عند الطلاب، فأسفرت النتائج أن أكثر قدوات الشباب من عينة الدراسة تركزت في المجال الرياضي بالدرجة الأولى، ثم في مجال الأسرة، ثم في المجال الديني. مما يدل على سوء التوجيه الأسري، وضعف المفاهيم المتعلقة بحسن اختيار القدوة، وضعف حب الرسول r في نفوس بعض الشباب، وعدم استحضار شخصه الكريم عند إجابة الاستبيان. وهذه النتائج تدل على ضعف مفهوم الدين لدى بعض الشباب حيث تأتي القدوة الدينية في المرتبة الأخيرة.
لهذا فإن الجهد الملقى على عاتق الأب المسلم، وجميع المربين خاصة في هذا الزمن جهد مضاعف، يحتاج معه إلى عون الله U، والصبر والثبات.
11 - تقريب عقيدة القضاء والقدر للأطفال
من أعظم الخُلُق مع الله، والتأدب معه سبحانه وتعالى، الإيمان والتصديق بقضائه وقدره، والرضا بما كتبه على العبد في الأزل، دون اعتراض و تسخط. والناس في موضوع القضاء والقدر بين مكذب ومصدق، جاحد ومؤمن، يحاول البعض أن يدركوا بعقولهم القاصرة، وأفهامهم المحدودة كنهه وأبعاده، وهذا لا يمكن، فإن "القدر سر من أسرار الله لم يطلع عليه ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً، لا يجوز الخوض فيه، والبحث عنه بطريق العقل"، وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن الخوض فيه، فقد روى أنه خرج على أصحابه ذات مرة وهم يختصمون في القضاء والقدر، فغضب غضباً شديداً، وقال لهم: "بهذا أمرتم أو لهذا خلقتم؟ تضربون القرآن بعضه ببعض، بهذا هلكت الأمم قبلكم"، فالخوض في هذا الموضوع بأسلوب التنازع، والتعارض أمر مذموم منهي عنه.(1/32)
أما البحث فيه بالمنهج العلمي الصحيح المبني على توجيهات القرآن والسنة، من باب البيان والتوضيح، وكشف الشبهات، وإظهار الحقائق، فهو غير مذموم، بل يندب إليه ويستحب.
وقد تضمن القرآن الكريم آيات كثيرة توضح وتبين هذا الركن العظيم، مشيرة إلى أن ما يحدث في الكون عموماً من حركات، وإرادات، وأعمال، وخلق، وموت، وغيرها كل ذلك يحدث بمشيئة الله - عز وجل -، وعلمه السابق، وتقديره لهذه الحوادث قبل وقوعها. قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان:2]، وقال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [الأحزاب:38]، وقال عز من قائل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، " أي إنا خلقنا كل شيء بتقدير سابق لخلقنا له، وذلك بكتابته في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض، فهو كما كتب كمية وصورة وزماناً ومكاناً لا يتخلف في شيء من ذلك "، وفي الحديث الصحيح قال عليه الصلاة والسلام: ((كتب الله مقاديرالخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة))، فكل صغيرة وكبيرة قد دونت، وسجلت، ومحال منع حدوث ما قدر، أو إحداث ما لم يقدر ويكتب، فقد فُرِغ من ذلك.
ولا يفهم من سابق التقدير والكتابة أن العباد مجبرون على أعمالهم وأفعالهم، وليس لهم خيار في ذلك، فلو صح هذا - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - لكان عذاب الله للعصاة ظلماً بغير حق، وبغير جرم اقترفوه، فهم قد سيروا إلى معاصيهم دون إرادة أو قصد، كما أن هذا التصور يستلزم الاعتقاد بأن إرسال الرسل، وإنزال الكتب من العبث، كما أن الوعظ، والتذكير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل ذلك من العبث والباطل الذي لا حاجة ولا نفع من ورائه، ولا يمكن أن يقول بهذا عاقل.(1/33)
والصحيح الذي يجب اعتقاده، والإيمان به: "أن الإسلام يثبت قضاء الله وقدره، وسيطرة الله مع علمه السابق على كل شيء، خلقاً وتدبيراً وتنظيماً، مع إثباته حرية الإنسان، ومسؤوليته التامة عن أفعاله الاختيارية واستحقاقه للثواب"، وغير هذا الاعتقاد ضلال وزيغ فإما الجبرية، وإما القدرية.
يقول الله سبحانه وتعالى مثبتاً مشيئة الإنسان ومسؤوليته عن أعماله وأفعاله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الاسراء:13-14]، ويقول سبحانه وتعالى في موضع آخر من كتابه العزيز: {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يّس:54]، ويقول أيضاً: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10]، فالإنسان مخير بين الخير والشر، وبين ما يأتي وما يذر، ولكن اختياره هذا لا يتم فرضاً على الله، أو بعيداً عن إرادته سبحانه وتعالى ومشيئته النافذة في خلقه، بل يفعل الإنسان الخير أو الشر، بعلم الله السابق للحوادث، وتقديره وقضائه في الأزل، يقول الإمام البغوي رحمه الله موضحاً هذه المسألة من جانب آخر ليكمل بيانها: "الإيمان بالقدر فرض لازم، وهو أن يعتقد أن الله تعالى خلق أعمال العباد، خيرها وشرها، كتبها عليهم في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم … فالإيمان والكفر، والطاعة والمعصية، كلها بقضاء الله وقدره، وإرادته ومشيئته، غير أنه يرضى الإيمان والطاعة، ووعد عليهما الثواب، ولا يرضى الكفر والمعصية وأوعد عليهما العقاب".(1/34)
فإذا فهم هذا الركن من أركان الإيمان على هذا النحو الصحيح، فإن مسؤولية الإنسان فيه زيادة الجهد، والعمل على التزام الطاعة، وحسن التوكل على الله، ودوام التضرع إليه والطلب منه، والرجاء منه أن يوفقه إلى مرضاته، وأن يجعله من السعداء، فيكون الإيمان بالقدر حافزاً لمزيد من الجهد والعبادة، والإستقامة، لا مثبطاً عن الخدمة في الطاعة والتزام الصراط المستقيم.
هذا الاعتقاد بهذا المفهوم والتصور هو الذي يجب أن يعتقده الأب المسلم في نفسه، ويبثه في روع أولاده الكبار في مرحلة الطفولة المتأخرة الذين تشغلهم هذه المفاهيم، فيبسطها لهم، ويقرِّبها إلى أفهامهم ومداركهم.
ويوضح الشيخ محمد الغزالي قضية القضاء والقدر، ويقربها إلى الأذهان بضرب مثل المرآة التي تصف ما يقف أمامها من الأشكال والمناظر دون أن يكون لها دخل في ذلك، فالحسن تظهره حسناً، والقبيح تظهره قبيحاً، ثم يقول: "كذلك صفحات العلم الإلهي ومرائيه لا تتصل بالأعمال اتصال تصريف وتحريك، ولكنه اتصال انكشاف ووضوح، فهي تتبع العمل ولا يتبعها العمل".
ويتجنب الأب خوض هذه المفاهيم مع صغار الأولاد، أو مع الأولاد الذين لم تشغلهم هذه القضايا، ولم يسألوا عنها ؛ لأن هذه المسألة من المسائل الشائكة، التي حارت فيها عقول الجهابذة من بعض متقدمي العلماء، وحاروا في فهمها وإدراكها.
فإن شغلت هذه المسألة أحد الأولاد، واشتبهت عليه مفاهيمها وسأل عنها، وجب على الأب أن يوضحها حسب المفاهيم المتقدمة، وعلى قدر ما يستوعبه الولد ويدركه.
ولعل أكثر الأسئلة في هذا الجانب تكون حول مسألة " الجبر" طالما أن الرب سبحانه وتعالى قد كتب في الأزل أن شخصاً ما يخطئ ويضل - وهذا لا بد واقع - فإنه لا ذنب لهذا الشخص فقد كتب عليه الضلال والضياع، فلماذا يعاقب على ذنب قد أجبر عليه ؟.(1/35)
ورد هذه الشبهة عن ذهن الولد تحصل بطريقة علمية، كأن يضع الأب بين يدي الولد كأساً زجاجياً، ويقول له: هل تستطيع أن تلقي بهذا الكأس على الأرض فتكسره؟، فيجيب الولد بنعم، فيقول الأب: وما الذي يمنعك من ذلك ؟، فيرد عليه بأن هذا خطأ لا ينبغي فعله، فيعلق الأب على هذا الموقف: "إن الله علم في الأزل البعيد أنك لن تكسر هذا الكأس، وعلم أيضاً أن الولد الشقي سوف يكسر الكأس، فكتب سبحانه وتعالى كل هذا عنده ؛ فهل منعك أحد يا بني عن إلقائك للكأس على الأرض؟، وهل أجبر أحد ذلك الولد الشقي على أن يكسر الكأس"، وقطعاً سوف يكون جواب الولد "بلا"، فيعقب الأب بقوله: "وكذلك يا ولدي الهداية والضلال، والخير والشر، كل إنسان يختار لنفسه أحد الطريقين، والله سبحانه وتعالى يعلم بالتفصيل كل شخص ماذا يختار، وأي طريق يسلك، فييسر لكل طريقه وما خلق له".
ثم يبين له أن الله خلق الناس ليبتليهم، ويختبرهم، فليس من الحكمة أن يهديهم جميعاً، كما أنه ليس من الحكمة أن يضلهم جميعاً، لأن ذلك يبطل الاختبار، وكذلك الأستاذ مع تلاميذه فلو أراد أن لا يرسب أحد، فعليه أن يلغي الاختبار بالكلية. ولكن لا بد من التمحيص والابتلاء ؛ ليعلم الصالح من غير الصالح، والمجتهد من الكسول، والمجاهد من القاعد.
ومسؤولية الأب هي تركيز هذا المفهوم الصحيح حول القضاء والقدر في نفس الولد ؛ ليشعر بالاطمئنان إلى قضاء الله وقدره، فترتاح نفسه ولا ينشغل باله بالمخاوف والوساوس حول المستقبل ؛ لعلمه بأن الله حكيم عليم، لا يصدر عنه شيء إلا على مقتضى الحكمة والعلم، فتبعد عن الولد المخاوف، والقلق والرعب، ويكون صبره على الحوادث والمصائب التي تصيب الأسرة أكبر وأقوى.(1/36)
ولقد أشار بعض علماء النفس من الغربيين إلى أن الإيمان يزيد من صبر الإنسان على المصائب والنوازل، وأن معظم حالات المرض النفسي ترجع إلى فقدان الثقة بالله، "وأن الدين الحق يمنح الإنسان الشعور بالأمن، ويحول ضعفه إلى قوة، وخوفه إلى ثقة ويقين". فإذا كان هذا الكلام عن الدين يقوله أصحاب الدين الباطل، فكيف بأصحاب الدين الحق؟
ولا بد أن يدرك الولد أن الناس خلقوا في هذه الدنيا للابتلاء، فقد قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2]، فالغاية من وجود الناس هي ابتلاؤهم واختبارهم في هذه الحياة الدنيا ؛ لهذا "فإن حياة الإنسان ليست سوى سلسلة من التجارب الابتلائية لا يكاد يفرغ من واحدة حتى تتبعها أخرى، وهكذا حتى نهاية عمره". فإذا كان الأمر على هذا النحو، فإن ما يحدث للولد وأسرته من المصائب والنكبات المتنوعة من فقر، أو مرض، أو موت، أو ما يحدث في الكون من الحوادث والكوارث الطبيعية، أو غيرها فإنما يحدث كل ذلك بقضاء من الله وقدر سابق وحكمة وتدبير.
فالأسرة التي تعيش في فقر، ويظهر على الولد فيها علامات اليأس، والملل والضيق، لقلة ذات اليد، فإن الأب يستغل مفهوم القضاء والقدر؛ ليدخل الرضا والطمأنينة على نفس الولد ؛ ليحفظه من الانحراف، فيذكره بقول الله تعالى، حاكياً عن لقمان وهو ينصح ولده: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17]، وقوله عليه الصلاة والسلام مبشراً الفقراء من أصحابه، فيقول لهم: ((ليبشر فقراء المهاجرين بما يسر وجوههم فإنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء بأربعين عاماً))، فيطمئن الولد لقضاء الله فيهم بأن يكونوا من الفقراء، فلا يتطلع إلى غيره من أبناء الأغنياء، ولا تنقبض نفسه، بل يكون إيجابياً مقبلاً راضياً بما قسم الله.(1/37)
ولا يعني هذا سلبية الأب، وتركه الأخذ بأسباب الغنى، بل عليه السعي ليحمي نفسه وأسرته من الفقر الذي يكاد أن يكون كفراً، ويحمي أولاده من أسباب الانحراف، فإن انخفاض مستوى المعيشة يهيئ الجو لانحراف الأولاد، ووقوعهم تحت طائلة العقاب.
ومن القضايا التي تؤثر على الولد أيضاً، ولها علاقة بالقضاء والقدر: مسألة الموت الذي تحار فيه العقول: ولا يصل إلى كنهه أحد. والولد في العادة يخاف من الموت، لما يراه على أهله من الوحشة والكآبة عند وفاة أحد الأقارب، أو الجيران.
ويمكن تطمين الولد في هذا الجانب بإشعاره أن الموت خير له، وأنه إذا مات كان في الجنة مع أبيه إبراهيم عليه السلام، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن ذراري المؤمنين في الجنة يكفلهم إبراهيم عليه السلام)).
ونقرب له فكرة الموت بالنوم، فقد قرب لقمان لابنه مفهوم الموت بالنوم، فقال: "يا بني إن كنت تشك في الموت فلا تنم، فكما أنك تنام كذلك تموت"، فيدرك الولد بذلك بعض القضايا المتعلقة بالموت، ولا ينبغي الكذب عليه في مسائل الموت، ولا إغفال أسئلته، بل يجاب عنها بما يمكنه أن يدركه بعقله الصغير.
ويُستغل مفهوم القضاء والقدر أيضاً في تخفيف حدة الشعور بالنقص عند الولد المصاب بعاهة جسدية تعيقه، كالشلل، أو الكسر، أو التشوه، أو غيرها،، فيُبين له أن ذلك بقضاء وقدر من الله ليجزيه على صبره أجراً، ويدخله الجنة، ويُبين له ما فيه من المميزات الأخرى كالذكاء، وسرعة الفهم، والقدرة على الحفظ، وغيرها، ويُحفظ من إخوته، وأقاربه، وجيرانه، الذين يمكن أن يسخروا منه، فيزيدوه هماًّ وغمًّا، ويكلؤه الأب بالحنان، والرعاية، ومزيد من العطف والشفقة.(1/38)
ومسألة أخرى متعلقة بالقضاء والقدر، وهي الكوارث والحوادث الطبيعية، والحروب وغيرها. حيث لا بد أن يدرك الولد أنها تحدث بقضاء وقدر من الله - عز وجل -، وتقدير سابق لوقوعها، وأنها بعيدة كل البعد عن مجال الصدفة والحظ، وإنما أنزلها الله وقدرها عقاباً وجزاء لعباده بسبب ما اقترفته أيديهم.
ولا بد أن يشار للولد دائماً إلى تقدير الله - عز وجل - خلف هذه الحوادث كالزلازل، والبراكين، والحرائق، والحروب، وغيرها، فهي تحدث إما عقاباً للعصاة المفرطين، أو ابتلاء للمؤمنين الصادقين لرفع درجاتهم وحط خطاياهم، فليس كل ما يحدث من الكوارث والنكبات ضاراً بالناس، بل ربما ضرَّ بعضهم ونفع آخرين، ولله في كل ذلك الحكمة البالغة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها.
12 - تربية الطفل على الحب في الله والبغض فيه
إن من أعظم مظاهر الإيمان بالله وبرسوله والانقياد لهذا الدين تحقيق معاني الولاء والبراء ومتطلباتهما من الحب في الله، والبغض في الله، وقد تضمن القرآن الكريم، والسنة المطهرة توجيهات مباركة حول هذا الأصل العظيم من أصول الدين الحنيف، ومن هذه التوجيهات قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:144]، وقول الله تعالى في حق أهل الكتاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51]، هاتان الآيتان، وغيرهما كثير توجبان على المؤمنين معاداة الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، وتوجبان أيضا بغضهم وكرههم، وتحذرمن موالاتهم والركون إليهم، فإن هذا الدين يدور حول هذا المعنى من الحب والبغض، وإلى ذلك أشار عليه الصلاة والسلام حيث قال: ((وهل الدين إلا الحب والبغض)).(1/39)
والولاية ضد العداوة، وأصلها المحبة والقرب، أما العداوة فأصلها البغض والبعد، ولهذا فإن تحقيق التوحيد هو: "البراءة من الشرك وأهله واعتزالهم والكفر بهم وعداوتهم وبغضهم"، ومن جهة أخرى حب المؤمنين وموالاتهم، فمن زعم الإيمان، ومحبة الله عز وجل، ومحبة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، طولب ببغض الكفار، وحب المسلمين، فإن من أحب لسبب لابد أن يبغض لضده، وفي هذا يقول الإمام الغزالي رحمه الله: "إن كل من يحب في الله لابد أن يبغض في الله … ومن أحب بسبب فبالضرورة يبغض لضده، وهذان متلازمان لاينفصل أحدهما عن الآخر".
وإذا علم هذا المبدأ العظيم، وعرفت معالمه وحدوده، فإنه لابد أن تتأصل في النشء الجديد معانيه ومتطلباته، وهذا دور الآباء الذين يدركون أهمية هذه القضية وأبعادها، وخطر التفريط في تحقيق متطلباتها وشروطها.
وقد تفطن أعداء الإسلام من المنصرين وغيرهم، إلى خطورة هذا المبدأ الإسلامي العظيم، فحاولوا جاهدين إشعار المسلمين أن النصارى ليسوا أعداء لهم، وأنهم يمكن أن يكونوا أصدقاء لهم. وبالغش والخداع يمكن أن يقتنع البسطاء من المسلمين الذين لم يدركوا أهداف أعداء الإسلام، ولم يدركوا مفاهيم دين الإسلام وبدهياته. ولاشك أن هذا يعود سببه إلى انحراف منهج التربية الذي تلقوه منذ الصغر ونشؤوا عليه.
ولهذا فإن تعريف الولد بمن يجب عليه حبهم، ومن يجب عليه بغضهم يكون من خلال آيات الله في كتابه الكريم، ومن خلال السنة المطهرة، والواقع الذي يعيشه الكفار يعتبرهوالطريق الوحيد والأمثل لتركيز هذه المعاني في نفس الولد.
ويتحقق هذا من خلال تعريف الولد بأحوالهم، وما هم عليه من الشرك، إذ أنهم يعبدون مع الله غيره، وينسبون إليه الولد والشريك، ويقولون على الله الكذب. وفي بيان هذا الموضوع يحاول الأب أن يعرض على ولده تلك الآيات وبعض الأحاديث في هذا الجانب، مع شرح وجيز لها ليقف الولد على حقيقة هذا الأمر ويدركه إدراكاً جيدًا.(1/40)
ويضيف الأب في هذا الجانب تعريف الولد بمظاهر انحراف الكفار في السلوك، والأخلاق، والآداب العامة، فيبين له ماهم عليه من التفكك الأسري، وكيف أن الأب الكافر لايحب أولاده، بل يبغضهم ويطردهم، وكيف أن الأب المسلم على عكس ذلك يحب أولاده، ويرعاهم، ويقدمهم على نفسه، ويحافظ عليهم، ويشير أيضًا إلى انحرافاتهم في الجانب السلوكي وانتشار الفواحش بينهم، وشرب الخمور، وتسلط بعضهم على بعض، وكثرة السرقات بينهم، وغير ذلك من أعمالهم ومخازيهم حتى يقع في نفس الولد كرههم وبغضهم وعداوتهم.
ومن خلال القصص ينقل الأب إلى ولده صورة حية لطبيعة عداوتهم للمسلمين وانحرافهم، ومن هذه القصص ماورد في سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع اليهود، وكيف أنهم خانوه وآذوه وتآمروا على قتله، رغم العهود والمواثيق، ففي هذه القصص كفاية لإظهار قبح طبعهم وخسة نفوسهم.
ولا يغفل الأب عن تعريف الولد ببغض الله لهم وأنهم أعداؤه، وأن أولياءه هم المتقون، الذين يقومون على حدود الله، يفعلون ما أمروا به، وينتهون عن المحرمات. ويصف شيخ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله أولياء الله وأعداءه، فيقول: "أولياء الله المتقون هم الذين فعلوا المأمور، وتركوا المحظور، وصبروا على المقدور، فأحبهم وأحبوه، ورضي عنهم ورضوا عنه، وأعداؤه أولياء الشيطان، وإن كانوا تحت قدرته فهو يبغضهم ويغضب عليهم ويلعنهم ويعاديهم"، وبهذا البيان من شيخ الإسلام يتضح الميزان الذي يقيس ويفرق بين أولياء الله وأعدائه، فمن قام على حدود الله وعمل بالأوامر وانتهى عن المنهيات والمحرمات كان من أولياء الله، ومن وقع في الشرك والمحرمات وخالف المأمورات فهو من أعداء الله الذين يلعنهم ويبغضهم.(1/41)
وهذا الحب للطاعات وأهلها، والبغض للمحرمات وأهلها لابد من وجوده في قلب المسلم، فإنه بقدر ما يضعف الحب والبغض في القلب بقدر ما يضعف الإيمان ويضمحل، ويحدد هذا المفهوم ويشرحه ابن تيمية فيقول: "وكذلك من لم يكن في قلبه بغض ما يبغضه الله ورسوله من المنكر الذي حرمه من الكفر والفسوق والعصيان، لم يكن في قلبه الإيمان الذي يوجبه الله عليه، فإن لم يكن مبغضا لشيء من المحرمات أصلا لم يكن معه إيمان أصلا".
وإذا عرف الأب خطورة هذه القضية، وأهمية الحب والبغض، وأنها من الإيمان وجب عليه أن يجاهد في توعية ولده بهذه المسألة، وأن يركز في نفسه وقلبه حب الخير وأهله، وبغض الشر وأهله، مستغلا كل الوسائل المشروعة في هذا المجال.
13 - تعريف الطفل بكيد الكفار(1/42)
لابد للأب المسلم أن يحيط أولاده علماً بما يحيكه أعداء الإسلام ضد المسلمين، ويحاول أن يبسط لهم الأفكار حسب أعمارهم وسعة إدراكهم، مستعيناً في ذلك بما ورد عن الله عز وجل وعن رسوله r في فضحهم وتعريتهم، فمما ورد عن الله عز وجل قوله سبحانه وتعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109]، وفي بيان شدة عداوتهم للمسلمين يقول الله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]، وفي بيان هدفهم من السعي في تهويد المسلمين، أو تنصيرهم، ليكونوا على ملتهم وطريقتهم، يقول سبحانه وتعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]. هذه الآيات وغيرها كثير تفضح في الجملة أهداف الكفار من أهل الكتاب، وغيرهم من المشركين، وتبين سعيهم الحثيث ورغبتهم الأكيدة في إضلال المسلمين ومن ثم الفتك بهم والتداعي عليهم. أما ما ورد عن رسول الله r في بيان أحوالهم، وكيدهم، ففي أحداث السيرة النبوية شواهد ووقائع كثيرة تبين وتعري أهدافهم وأساليبهم الخبيثة.(1/43)
ويبين الأب لأولاده واقع أكثر المسلمين اليوم، وما هم عليه من الانحراف والبعد عن حقيقة الإسلام، وكيف أن الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم كانوا وراء هذا الواقع الأليم، ويبين تسلطهم على رقاب المسلمين في كثيرمن البلدان، وفي مقدمتها فلسطين المحتلة، وأفغانستان والهند، وفي أرتيريا، وغيرها من بلاد المسلمين التى تسلط عليها الأعداء بالاستعمار أو الغزو الفكري، ويبين لهم ما يعانونه من الآلام، وما يتجرعونه من أصناف العذاب، وكيف أنه تحققت فيهم نبوءة رسول الله صلى الله علبه وسلم إذ قال فيما رواه عنه ثوبان رضى الله تعالى عنه: "يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. فقال قائل: ومن قلة نحن يؤمئذ ؟ قالَ بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن. فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن ؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت". وهذاالذي وقع بالفعل في قلوب المسلمين فلم يعودوا يرغبون في الآخرة كما كان أسلافهم، وأصبح حب الدنيا يعمر صدورهم.فتسلط عليهم الأعداء من كل صوب، حتى إن أضعف الدول الكافرة أصبح لها نفوذ وسلطة في بعض ديار المسلمين.
وليس ثمة حل لهذه المعضلة التى تعيشها الأمة سوى تربية جيل صالح متشبع بالإيمان اعتقاداً وعملاً، لايهاب الموت في سبيل الله، ولا يكرهه، بل يرغب فيه ويطلبه، وهذا ما يوقع المخافة في صدور الأعداء ويزلزلهم ؛ وهذا لا يحصل إلا بالتربية الإسلامية، والمتابعة للأولاد، وتوعيتهم بأحوال المسلمين، وإشعال الحماسة في صدروهم، وإظهار الحزن والأسى على أحوال المسلمين، فإن الاهتمام بأمر المسلمين من الواجبات، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم)).(1/44)
ويمكن توعية الأولاد الكبار بهذه القضية من خلال المجلات الإسلامية المختلفة التى تهتم بشؤون المسلمين في العالم وتعرف بأحوالهم واحتياجاتهم، مثل مجلتي "الدعوة" و"الأمة" السعوديتين، ومجلة "المجتمع" الكويتية، ومجلة "أخبار العالم الإسلامي" التى تصدر عن رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وغيرها من المجلات الإسلامية المهتمة بواقع الأمة ومشكلاتها.
ويسعى الأب للاشتراك في بعض هذه المجلات لتصل بصفة منتظمة إلى صندوق بريده، أو إلى المنزل، فلا يحتاج إلى تذكر شرائها، ويضع هذه المجلات أمام أولاده ويشجعهم على قراءتها، ومن حين لآخر يسأل أولاده الكبار عن موضوعاتها ليعطوه ملخصا عما اطلعوا عليه من موضوعات، وليتأكد أنهم مروا على هذه المجلات أو بعضها.
أما الأولاد الصغار فيبلور لهم الأحداث التي تقع على بعض المسلمين في العالم الإسلامي بصورة سهلة يمكن للصغير إدراكها، كأن يقول: "هل تعرفون يا أولاد ماذا حدث لإخوانكم الصغار وآبائهم في أفغانستان وفي البوسنة يوغسلافيا؟ لقد جاءهم الكفار وهجموا على ديارهم وهدموا البيوت وأخرجوا الأطفال الصغار أمثالكم وضربوهم وقتلوا بعضهم"، فيسأله الأولاد: "لماذا فعلوا هذا"، فيجيبهم: "لأنهم كفار لا يحبون المسلمين ويريدونهم ألا يكونوا مسلمين"، ويلهب حماسهم بهذا الأسلوب ويدفعهم إلى التبرع والدعاء لهم ليكون ذلك أدل على تأثرهم بالأحداث والوقائع.(1/45)
ولمزيد من التوعية للأولاد الكبار يضع الأب بين أيديهم بعض الكتب الإسلامية التي تتحدث عن الغزو الفكري، ومدى تغلغل الأعداء في أجهزة المسلمين وإدارتهم، ويساعدهم على فهمها وقراءتها، وذلك ليقف الولد على صورة حية متكاملة للواقع الأليم الذي تعيشه الأمة الإسلامية، ومن ثم يعرف واجبه ومسؤولياته تجاه هذا الواقع، وكيفية التغيير إلى الأفضل، والأحسن، ومن هذه الكتب: كتاب "الغزو الفكري والتيارات المعادية للإسلام" للدكتور عبد الستار فتح الله سعيد، وكتاب "الغارة على العالم الإسلامي" لشاتليه، وكتاب "أفيقوا أيها المسلون" للدكتور عبد الودود شلبي، وكتاب "حصوننا مهددة من داخلها" للأستاذ محمد محمد حسين، وكتاب "وسائل مقاومة الغزو الفكري للعالم الإسلامي" حسان محمد حسان، وغيرها من الكتب المؤلفة في هذا المجال.
ولا يكتفي الأب ويقتصر في توعية أولاده على جانب الكتب والمجلات والمعلومات التي يخبرهم بها، بل يسارع في اصطحاب أولاده الكبار خاصة إلى المحاضرات والندوات العامة التي تقيمها بعض الإدارات والهيئات الإسلامية في المساجد، أو الأندية الثقافية، أو قاعات المحاضرات الكبرى في المدينة، حيث يلتقي الولد وعن كثب يشاهد ويسمع بأذنه من علمائه المسلمين العاملين، ويعيش في جو من الألفة مع المحاضرين، ويتزود بزاد العلم، ويقف على أخبار وأحوال المسلمين في العالم، وحضور الأولاد في مثل هذه المنتديات الفكرية يلهب في نفوسهم الحماس، ويشعرهم أنهم ليسوا الوحيدين المهتمين بأمور المسلمين في العالم، بل هناك غيرهم كثير يمكن أن يتكاتفوا معهم ويكونوا يدا واحدة على أعداء الإسلام، فتثلج بذلك صدورهم، وتنبعث في نفوسهم الآمال، ويعلمون أن في الأمة خيرا يمكن أن ينمو ويغير الواقع المر إلى ماهو خير وأفضل.(1/46)
كما يمكن للأب أن يكون لديه في البيت مكتبة صوتية صغيرة بجانب المكتبة الخاصة بالكتب والمجلات الإسلامية، فيضع أمام الأولاد تشكيلة من الأشرطة المسجلة التي تفضح خطط الأعداء، وتعري أساليب الغزو الفكري للعالم الإسلامي، وبذلك تكمل توعية الأولاد بكيد الكفار وأساليبهم الخبيثة.
14 - تنفير الطفل من التشبه بالكفار
من المعروف والمسلم به أن الأمم المغلوبة على أمرها، والمهزومة في بلادها والمنكسرة في نفسها، تتشبه بالأمم المسيطرة وتقتدي بها، ويقرر هذه القضية ابن خلدون رحمه الله إذ يقول: "ترى المغلوب يتشبه أبدا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه وفي اتخاذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله".
وسبب ذلك يعود إلى عدم وجود ذلك الاستعلاء الإيماني الذي يعد أفضل عزاء للمسلم رغم انهزامه وسيطرة الكفار على بلاده، حيث يحجزه هذا الإيمان ويعصمه من مسايرة الكفار، أو التشبه بهم، أو اتخاذهم قدوة ونبراساً.
وقد تواتر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجوب مخالفة المشركين من اليهود، والنصارى، والمجوس، وكل من هو على غير دين الإسلام في جميع الشؤون، تمييزا للفئة المسلمة، وحفاظا عليها من التميع، وإظهارا لشعار الإسلام.(1/47)
ورغم ورود النصوص الواضحة في وجوب مخالفة المشركين وجد من بين المسلمين - إن لم يكن الأكثر - من يتشبه بالنصارى في أعيادهم ويحتفل هو وأولاده وأهل بيته بهذه الأعياد، كعيد رأس السنة الميلادية، أو عيد النيروز الفارسي، أو الاحتفال بأعياد الميلاد، وإشعال الشموع، وشراء الكعك، وجمع الأقارب والأهل في هذه المناسبات غير الشرعية. وقد كان من شروط الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أهل الذمة أن لا يظهروا شعائرهم وأعيادهم في بلاد المسلمين بل يخفوها، فكيف بمن فعلها من المسلمين، واحتفل بها، وأقامها ؟ فإن هذا بلا شك أعظم جرما وأكبر حرمة، بل ولا يجوز حتى إجابة الدعوة إليها وحضورها فضلا عن إقامتها والانشراح بذلك وإظهارالسروروالسعادة.
والأب المسلم يواجه في هذا الجانب، خاصة في أعياد الميلاد التي يحتفل بها بعض الأسر المسلمة، والتي يبتهج بها الأطفال لسذاجتهم وضعف إدراكهم، يواجه الأب في ذلك ضغطا اجتماعيا كبيرا، إذ يطالبه أولاده بأن يقيم لهم عيد ميلاد عند بلوغ أحدهم سن الخامسة، أو السابعة أو نحو ذلك، فيعيش الأب نوعا من الصراع بين الاستجابة للأولاد وإدخال السرور عليهم، وبين شعوره بتأنيب الضمير وعلمه بأن هذا مخالف لمفاهيم الدين الإسلامي، وتشبه بالكفار.
والذي ينبغي للأب عمله هو أن يلتزم دينه وعقيدته ولا يبالي بالمخالفين وكثرة الهالكين، ويسعى جاهدا في إقناع أولاده بأن هذا مخالف للدين، وأن الله لا يحب ذلك. ويبدأ في استئصال هذه القضية من جذورها عن طريق إغفال وقت ولادة الطفل، وعدم الاهتمام بهذا الموعد وإعطائه هالة من الجلال والاهتمام، وإذا أحس الأب من ولده اهتماماً بموعد ميلاده، أشغله في ذلك الموعد بقضايا جانبية سارة حتى يمر ذلك اليوم والولد غافل عنه ناس له.(1/48)
ومن أعظم الوسائل في كف الولد عن الاهتمام بهذا العيد المزعوم: عدم السماح له بحضور أعياد الميلاد التي تقيمها الأسر عالمة أو جاهلة بحكمها، وبهذا لايرى الطفل هذه الأعياد، وابتهاج الأطفال فيها، وحصولهم على الهدايا والألعاب المرغبة في إقامتها.
ولا يعني هذا أن يعيش الأب مع أولاده حالة من الرتابة دون تغيير أو تجديد، بل يسعى جاهدا في إدخال السرور على أولاده، وتعويضهم هذا الأنس في الأعياد المشروعة كعيد الأضحى، وعيد الفطر، وفي المناسبات الشرعية مثل عقود النكاح والزواجات وحفلات العقائق وغيرها، ولا يكتفي بذلك بل يقيم لهم حفلات في غير هذه المناسبات أيضا دون تقييدها بزمن معين، ودون أن يكون لها أصل يهودي، أو نصراني، أو مجوسي، كأن يقيم حفلا بمناسبة حفظ الولد للقرآن الكريم، أو لبعض أجزائه، أو لإتمامه حفظ "الأربعين النووية"، أو يقيم له حفلاً بمناسبة ابتداء قيامه بالتزام الصلاة في المسجد، أو يقيم الحفل لغير مناسبة مطلقا، كأن يطلب منه دعوة بعض زملائه وأقربائه من الأطفال لتناول طعام الغداء، أو العشاء، أو نحو ذلك، فيكون الأب بهذه الوسائل المتنوعة قد كفى ولده الاحتفالات المخالفة للشرع بالاحتفالات المباحة، أو المستحبة، ويحاول في هذه الاحتفالات أن يدخل عليهم المحبة والسرور، فيوسع عليهم في المأكل والمشرب، ويجلب لهم ما يشتهونه من أنواع الأطعمة والحلوى، مع مراعاة الاعتدال في الإنفاق، وتجنب التبذير والإسراف.
ولا يقتصر التشبه بالكفار على قضية الأعياد والاحتفالات بل يدخل في قضية الملبس والهيئة أيضا، إذ إن ماهو خاص بهم من الملابس لايجوز ارتداؤه. كلبس القسس، أو الرهبان، كما لا يجوز لبس ماهو علامة لهم ودليل عليهم أو على بعض مشاهيرهم، كلبس القميص، أو ما يسمى "البنطلون" بطريقة معينة وتفصيل معين، بحيث يعرف الرائي أن هذا اللبس للمغني الفلاني أو الراقص الفلاني، فهذا النوع لا يجوز لما فيه من التشبه والتقليد.(1/49)
أما لبس "البنطلون" والقميص بالصورة المعتادة، مع مراعاة الشروط العامة لستر العورة فلا بأس به إن شاء الله، خاصة وأنه لم يعد من خصوصيات الكفار، ولا هو علامة لهم لشيوع لبسه بين المسلمين، فليس في لبسه تشبه بهم إذا روعيت الشروط العامة للباس.
كما أنه لا يجوز أيضا تقليدهم في طريقة تصفيف الشعر وقصه، فقد ابتلي بعض شباب المسلمين وافتتنوا ببعض الساقطين من المغنين الغربيين وقلدوهم في قص الشعور واللبس، وهذا لا شك في حرمته وعدم جوازه.
وهذا الميل إلى التقليد الأعمى لهؤلاء المنحرفين من شباب أوروبا وأمريكا، وغيرهم ما كان ليحدث ويصدر من شباب المسلمين الذين افترض فيهم أن يؤثروا في غيرهم لا أن يتأثروا بغيرهم، ولكن لما نضبت منابع التربية الإسلامية الصحيحة، ولم يعد هناك توجيه إسلامي واضح المعالم، إلى جانب فقدان القدوة الصالحة في أكثر الآباء، والمعلمين، أصبح الشباب الإسلامي بلا هوية، ولا كيان، تتقاذفهم الأهواء، والتصورات المنحرفة، ولم تعد لديهم تلك المناعة ضد هذا الداء الفتاك، وهذا ما ينبغي أن يتنبه إليه الأب المسلم، فيجعل لدى أولاده المناعة ضد ما يلقى إليهم من أفكار، وتصورات، وعادات، وتقاليد، وذلك لا يحصل إلا بربط الولد بالقدوة الصالحة في سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وصحبه الكرام من السلف الصالح، وأن يكون الأب هو أيضا قدوة له في ذلك، إلى جانب إيجاد الصحب والرفاق من الصالحين، فينخرط معهم ويعايشهم مستعلين جميعا بإيمانهم، لا يأبهون بالمخالفين لهم، مع حمايتهم من منابع هذه التصورات والأعمال القبيحة، ومن مصادرها الخبيثة، وهذا يحتاج إلى جهد وتربية واستعانة بالله عز وجل الذي يقول في كتابه العزيز: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].(1/50)
ويدخل في موضوع التشبه بالكفار قضية استعمال اللغة الأجنبية غير العربية والتندر بها، والافتخار بالقدرة على التحدث بها، واستعمالها في غير حاجة، فهذا لا ينبغي لأن اللغة تعد أعظم شعائر الأمم التي يتميزون بها عن غيرهم، واللغة العربية هي شعار المسلمين الذي لا ينبغي العدول عنه والنطق بغيرها.
أما تعلم لغة الأعاجم - أيا كانوا - للحاجة خاصة في هذا العصر، وشدة حاجة الناس للغة الإنجليزية خاصة فلا بأس به للاستفادة من العلوم المختلفة، إلى جانب كشف خطط الأعداء ومعرفة مكائدهم من خلال ما يكتبونه ويبثونه بلغاتهم المختلفة، فهذا التعلم جائز للحاجة. فلا بأس على الأب من السماح لابنه أن يتعلم لغة أجنبية ويتقنها لوجود هذه الملابسات الشرعية في هذا العصر، بشرط أن يكون قد أتقن لغته العربية، وتمكن منها وأجادها، وغالباً ما يكون هذا بعد المرحلة الابتدائية
التربية التعبدية للطفل
1ـ تعليم الطفل الوضوء
استعداداً لأداء الصلاة صحيحة على الوجه المطلوب يدرب الأب ولده في السابعة من عمره، أو قبل ذلك بقليل، على إتقان الوضوء، والطهارة، فيعلمه كيف يتطهر وينظف أعضاءه الظاهرة والباطنة، فيأمره بتطهير أعضائه الباطنة ويستنجي بالماء، ويسمي له تلك الأعضاء بأسمائها المعروفة في الشرع دون تكنية، ثم يُدربه على الوضوء عن طريق المشاهدة، فيتوضأ أمامه عدة مرات ببطء حتى يدرك الولد الترتيب، ويستعمل الأب الماء الفاتر بين البارد والساخن ؛ لئلا ينفر الولد من حرارته أو برودته، ولو بدأ تعليمه الوضوء في الصيف كان ذلك أرغب للولد لميله إلى التبرد لسخونة الطقس، ويمكن تزويد الولد ببعض الكتيبات المدعمة بالصور، والمخصصة لتعليم الأولاد الصغار طريقة الوضوء.
ويعطي الأب ولده الفرصة للتطبيق العملي أمامه، فإن أخطأ علمه ووجهه، دون تعنيف أو قسوة، فإذا أصاب وأحسن الوضوء مدحه واحتضنه وقبله مشعراً له برضاه عنه.(1/51)
ولا يكتفي الأب بمجرد تعليم الولد طريقة الوضوء وسننه فحسب، بل يوجهه إلى الجانب المعنوي الهام في أداء الوضوء ذلك أن الله أمر به، والرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي علمنا الطريقة، فالمسلم يقتدي به في الطريقة والترتيب، ويبين للولد فضل الوضوء ليرسخ في نفسه حبه والميل إليه، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (إذا توضأ الرجل المسلم خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه، فإن قعد قعد مغفوراً له ), فيتعلم الولد الجانب المعنوي في الوضوء، ويعرف أنه طهارة للبدن والنفس معاً.
2ـ تعليم الطفل أداء الصلاة
أول ما يبدأ به الأب في تعليم ولده الصلاة: عن طريق المشاهدة دون التوجيه المباشر، وهذا يكون في مرحلة متقدمة جداً من عمر الولد قبل أن يميز، وذلك من خلال أداء الأب صلاة النافلة، والسنن الرواتب في المنزل على مشهد من الأولاد، ومن المعروف أن صلاة النافلة في البيت أفضل من صلاتها في المسجد، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم ولا تتخذوها قبورا), وقال أيضاً:(صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة), فهذه الأحاديث واضحة في الحث على أداء النوافل في البيت، ولا شك أن البركة تحصل في البيت بسبب هذه الصلاة، إلى جانب مضاعفة الأجر والمثوبة عند الله، ويحصل بها تربية قوية وراسخة للأولاد الصغار ؛ إذ يشاهدون والدهم يمرغ وجهه في الأرض ساجداً لله - عز وجل -، قائماً خاشعاً، لا يلتفت إلى من حوله، قد انهمك في العبادة، هذا المنظرالذي يتكرر أمام الأولاد الصغار يومياً يغرس في نفوسهم عظمة الله - عز وجل -، ومكانته - سبحانه وتعالى -، إلى جانب أنه يحببهم في الصلاة لإقبال الأب عليها، كما أنهم يتعودون رؤية المصلي، ويتعرفون على أعمال الصلاة من تكبير وركوع وسجود وقيام.(1/52)
وكثيراً ما يندفع الولد الصغير برغبة يقلد أباه، فيقف بجواره يقتدي به في قيامه وركوعه وسجوده، دون وعي منه أو إدراك، ولا شك أن تكرار هذا المشهد يومياً أمام الولد يجعل أمر الصلاة في حسه أمراً عادياً ليس بغريب، فلا يبلغ سن التمييز إلا وقد سهل عليه أداؤها على وجه حسن برغبة وتطلع، وهذا الأسلوب يسمى "أسلوب التربية بالعادة"، وهو من الأساليب التربوية المعروفة، والتي يمكن أن يمارسها الأب لتعويد ولده أمراً من الأمور، وتعليم الصلاة بهذا النوع من التربية يعد من أفضل تطبيقاته التربوية العملية.
وإذا أكمل الولد السابعة من عمره أمر بالصلاة ورغب فيها لقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132]، وقوله عليه الصلاة والسلام :(علموا الصبي الصلاة ابن سبع سنين واضربوه عليها ابن عشر), ويكون أمره بها إذا أتم السابعة فأكملها وليس قبل ذلك، بل يكتفي قبل السابعة بالممارسة العملية أمامه دون أمر ؛ اتباعاً للسنة والهدي النبوي في ذلك، ومراعاة لطبيعة الطفل الصغير وكرهه للتقيد، والالتزام، ورغبته في الانفلات والانطلاق، بخلاف ابن السابعة فإنه أملك لنفسه، وأقدر على الالتزام والتقيد إلى حد لا بأس به، وكلما كبر الولد كان انضباطه أفضل وأحسن.
وتعليم الأب ولده الصلاة في سن السابعة من واجبات الأب الشرعية، وليست من باب المستحبات، فقد نقل ابن قدامة رحمه الله عن أحد الفقهاء قوله: (يجب على ولي الصبي أن يعلمه الطهارة والصلاة إذا بلغ سبع سنين ويأمره بها), ويفهم من هذا أن الأحاديث والروايات الواردة في تعليم الأولاد الصلاة في السابعة وضربهم عليها في العاشرة تفيد الوجوب لا الاستحباب، فلا بد للأب أن يدرك هذه القضية ويعرف واجباته الشرعية في هذا الجانب.(1/53)
ويعود الأب ولده المميز الوضوء والطهارة، ويلزمه بهما فلا يتركه يصلي إلا طاهراً، ساتراً عورته، حتى يتعود على ذلك ويألفه ؛ لأنه صائر إليه، ولا يلتفت الأب إلى بعض الأقوال الفقهية التي تجيز صلاة الصبي بعد التمييز ساتراً القبل والدبر فقط دون سائر البدن، وذلك ليتعود الولد على الطهارة وستر العورة من الصغر، فلا يبلغ العاشرة إلا وقد ألف الصلاة ساتراً كامل عورته، وملتزماً بالطهارة والوضوء، وقد نص صاحب المغني رحمه الله على أن صلاة الصبي يشترط لها ما يشترط لصلاة البالغ، فإذا كان الأمر كذلك أصبح تعويده في السابعة على ستر عورته، وتمام الطهارة واجباً على الأب.
أما الولد الصغير دون سن التمييز، والذي لا يعقل من أمر الصلاة سوى تقليد الأب في القيام والركوع والسجود، فإن الأب لا يشتد معه في أمر الطهارة، وستر العورة ؛ بل يتركه على حاله، ولا يزجره، ولا يكفه عن التقليد ؛ لأن زجره، وتعنيفه والشدة معه في هذا السن وهو غير مكلف ينفره من الصلاة، ويكرهه فيها.
وتعتبر (الصلاة أهم حدث ديني واجتماعي وأخلاقي وتربوي ؛ بل وتاريخي في حياة الطفل … فيجب أن لا ندعها تمر في حياة الطفل مروراً عابرا), لهذا يقترح تعميق هذا الحدث الهام في نفس الولد من خلال إعلامه بقرب موعد تكليفه الصلاة، فإذا أتم السابعة وصلى أول فرض: جمع له أبوه بعض أصدقائه، وإخوته، وعمل حفلاً صغيراً ابتهاجاً بهذه المناسبة الطيبة، ويقدم له ساعة يد هدية بهذه المناسبة الهامة، فهي أفضل هدية تقدم للطفل في هذا السن ؛ لتكون حافزاً له على أداء الصلاة في أوقاتها.(1/54)
وإذا بدأ الولد بعد السابعة الصلاة بانتظام، وجب على الأب متابعته وتذكيره بها من وقت لآخر، فلا يغفل عنه ؛ بل يكرر عليه الأمر مراراً وتكراراً ولا يمل من ذلك، فإن كان الأب في سفر، أو شغله شاغل عن الولد، وكَّل من يقوم مقامه من أهل البيت ليقوم بالتذكير والمتابعة ؛ وذلك لئلا يتجرأ الولد على تركها بعد أن بدأ في أدائها، فيسوقه ذلك إلى التهاون بها بعد العاشرة، فقد أوجب بعض العلماء على ابن العاشرة أن يعيد الفروض التي تركها.
وينصح ابن مسعود رضي الله عنه الأباء، ويذكرهم بواجبهم نحو الأبناء في موضوع الصلاة، فيقول :(حافظوا على أبنائكم في الصلاة وعودوهم الخير فإن الخير عادة), ولا بأس - في بعض الأحيان - أن يعطي الأب ولده مكافأة تشجيعية على التزامه أداء الصلاة ؛ ترغيباً له في الاستمرار عليها، فقد كان بعض السلف رضوان الله عليهم يفعل ذلك، ولكن يلاحظ عدم تعويده على المكافأة دائماً ؛ لئلا يعتاد عليها، فلا يصلي إلا إذا أعطي شيئاً، ولكن يعطيه في أوقات، ويمنعه في أوقات، وينوع المكافآت فمرة مادية كلعبة، أو حلوى، أو نقود، ومرة معنوية، وهكذا.
ويحاول الأب أن يقرن الأمور المحببة بالصلاة، فإذا أراد أن يصطحب الأولاد في نزهة وقّت ذلك مثلاً بأداء صلاة العصر، أو صلاة المغرب، أو نحو ذلك، فيتحفز الأولاد لأداء تلك الصلاة في وقتها، ولا ينسونها ؛ لاقترانها بمحبب، فيجتهد الأب في ترتيب جميع مواعيده مع الأولاد بأوقات الصلوات، فيتعلم الأولاد تنظيم الوقت، وتوزيعه بناء على أوقات الصلاة إلى جانب أن هذه المواعيد تذكرهم بأدائها في وقتها.(1/55)
ومن وقت لآخر يخاطب الأب أولاده بالآيات والأحاديث التي تحث على أداء الصلاة، وترغب فيها، حتى يتكون التصور الفكري لدى الولد عن منزلة الصلاة، وأهميتها في الإسلام، ويفضل أن يراجع الأب إلى جانب القرآن الكريم كتب الحديث مثل(صحيح البخاري), و(صحيح مسلم) وكتب السنن، وغيرها، فيتزود بالجانب النظري في فضل الصلاة والحث عليها، وينتقي من الآيات والأحاديث السهل منها، والمناسب لمدارك الأولاد، فيقرأها عليهم ويعلق عليها بما يفتح الله عليه من البيان.
ويعود الولد، خاصة إذا بلغ العاشرة على أداء السنن الرواتب مع الصلوات المفروضة، كسنة الفجر والظهر والمغرب والعشاء، ويعوده صلاة الوتر وشيئاً من قيام الليل، فيأخذه الأب إلى جانبه يصلي في الليل، اقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - مع ابن عباس رضي الله تعالى عنه، فقد كان يقوم بجانب الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعض الليل إذا نام عند خالته ميمونة رضي الله تعالى عنها، وربما أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأذنه إذا نعس لينشطه للصلاة.
ويبدأ الأب بتعويد ولده الصلاة في الليل بأن يبدأ معهم بأداء شيء منها في البيت بعد صلاة العشاء مباشرة، ثم يتدرج بهم شيئاً فشيئاً حتى يمكنهم من أداء الوتر في جوف الليل، فيعلن بينهم أنه سوف يقوم ليصلي في الليل وقت كذا وكذا، ويترك الأولاد ليتنافسوا في الاستيقاظ في ذلك الوقت، دون أن يوقظهم ؛ ليتعودوا الاعتماد على النفس، وتقوية الإرادة، فإن الولد إذا اجتهد في أداء النافلة وحرص عليها، فإنه على أداء الفرض ألزم.
ويلاحظ الأب إذا قام بأولاده في الصلاة أن لا يطيل؛ بل يخفف ترغيباً لهم على الاستمرار وصرفاً للملل عنهم، فإن نعس أحدهم أمره بالنوم رفقاً به.(1/56)
وإذا قصر الولد في أداء الصلاة المفروضة بعد بلوغه العاشرة، وجب على الأب وعظه وتذكيره بها، وإقناعه بأمر الله - عز وجل -، ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإقامة الحجة عليه، فإن استمر في إهماله لها أغلظ له في القول، وعنفه وهجره فلا يكلمه ولا يخالطه، ولا يمازحه، ويحرمه من بعض الأشياء المحببة إليه، وهذا النوع من العقوبات النفسية له فعالية قوية وأكيدة في نفس الولد، فكثير من الأولاد تكفيهم عن العقوبات البدنية، والأب لا يستعمل العقاب البدني إلا بعد إخفاقه فيما دونه من العقوبات، فلا بأس بالضرب غير المبرح في بعض الأوقات ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في الصبي إذا بلغ العاشرة ولم يصل:(واضربوه عليها ابن عشر), ولا يصح استعمال العقاب البدني مع ولد لم يعوده أبوه الصلاة منذ السابعة، فإن الطفل لا يتعود الالتزام بمجرد الأمر ؛ بل يحتاج من التربية، والتدريب، والتعويد، ما يؤهله لالتزام الأمر، والتعود عليه، فإن قصر الأب في تعليم ولده الصلاة منذ السابعة وجب عليه أن يسلك معه أسلوب التدرج والتمرين والتعويد من جديد، ولا يهمل هذه المراحل، حتى وإن تعدى الولد سن العاشرة ؛ إذ لا بد من مرحلة التدريب والتمرين، فمن الخطأ أن يُظنَّ بإمكانية قيام الولد بأداء الصلاة عن طواعية في سن العاشرة، بل وحتى بعد البلوغ دون أن يكون قد حصل على قسط من التربية والتدريب والتعويد عليها من قبل ذلك، فلا بد للأب أن يلاحظ هذه المسألة، ويراعي أولاده منذ الصغر فيحافظ عليهم في الصلاة ولا يهملهم، أو يقصر في حقوقهم عليه، فإن الله سائله عنهم.
3ـ تعويد الطفل على صلاة الجماعة في المسجد(1/57)
إذا اجتهد الأب في تعليم ولده الوضوء، وأداء الصلاة، فإنه يرغبه في الصلاة مع الجماعة، فإن المساجد تعد من أهم المؤسسات التربوية في المجتمع، ففيها تقام أعظم شعائر الإسلام، وقد أثنى الله - سبحانه وتعالى - على عمَّارها بقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ} [التوبة:18]، وهذه شهادة صريحة لعمَّار المساجد بالإيمان، وقد قال بعض السلف:( إذا رأيتم الرجل يعمر المسجد فأحسنوا به الظن),
وقد ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الترغيب في صلاة الجماعة في المساجد، فقال:(صلاة الجماعة تفضل على صلاة الرجل وحده بسبع وعشرين درجة ), وقد ورد عنه أيضاً الهمُّ بتحريق البيوت على المتخلفين عن صلاة الجماعة بغير عذر لولا خوفه على النساء والأطفال.
وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن الرجل يقوم الليل، ويصوم النهار، ولا يحضر الجمعة ولا الجماعة، فقال:(هو في النار), ونقل عن جمع من الصحابة رضوان الله عليهم أنه لا صلاة لمن سمع النداء ولم يجب من غير عذر.
وبناء على ما تقدم يظهر للأب وجوب أداء الصلوات المكتوبة في المساجد مع جماعة المسلمين، ولا يجوز التهاون في ذلك، أو التقصير، خاصة وأن الولد لن يتعلق بالمسجد من تلقاء نفسه دون أن يكون للأب دور في ترغيبه وتعويده عليه.
ومن خلال مشاركة الولد في صلاة الجماعة يتعود تجمعات المسلمين، ويتعرف على علمائهم الأجلاء، ويتعلم أدب الإصغاء إلى مواعظهم وخطبهم، فيتزود بالغذاء الروحي، إلى جانب تعوده أداء الصلاة نفسها.
والطفل في مرحلة الطفولة المتأخرة يميل بطبعه إلى مشاركة الكبار في أداء الشعائر التعبدية، ويحب مرافقتهم إلى دور العبادة، فيستغل الأب هذا الميل، وينميه بالوسائل التربوية المتنوعة.(1/58)
ولا ينبغي أن يهمل الأب في اصطحاب أولاده إلى المسجد، خاصة أبناء السابعة متذرعاً بما روى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:(جنبوا مساجدكم صبيانكم), فهذا الحديث ضعيف لا يؤخذ به، كما أنه يعارض الأحاديث الصحيحة والكثيرة الواردة في جواز ذلك، فقد كان عليه الصلاة والسلام يأتي المسجد حاملاً الحسن أو الحسين، وربما أطال صلاته بسبب صعود أحدهما على ظهره الشريف، وقد وصف أبو مالك الأشعري رضى الله عنه صفوف مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال:(ويجعل الرجال قدام الغلمان والغلمان خلفهم والنساء خلف الغلمان), أي: إنه كان للصبيان مكانهم المخصص لهم في المسجد، مما يدل على جواز حضورهم صلاة الجماعة.
ولو افترض صحة الحديث فإنه يحمل على الصغار الذين لا يدركون حرمة المسجد، ولا ينضبطون فيه، وهولاء يجب أن يمنعوا من المساجد، يقول ابن تيمية رحمة الله :(يصان المسجد عما يؤذيه، ويؤذي المصلين فيه، حتى رفع الصبيان أصواتهم فيه، وكذلك توسيخهم لحصره، ونحو ذلك، لا سيما إن كان وقت الصلاة، فإن ذلك من عظيم المنكرات),
ومن أهم الوسائل التى يتخذها الأب لتعويد ولده المسجد اختيار المسكن، فهي أول خطوة في هذا المجال، فيختار الأب مسكنه بجوار مسجد من المساجد ؛ ليكون ذلك أدعى لأداء الصلاة في جماعة، فإن كان مسكنه بعيداً عن المسجد انتقل إلى جواره، فإن لم يتمكن اجتهد في إقامة مسجد في الحي عن طريق وزارة الأوقاف في البلد، أو جمع التبرعات من أهل الحي، فإن عجز عن كل هذا ألزم نفسه وأولاده الذهاب بالسيارة إلى أقرب مسجد لأداء الصلاة في الجماعة.
وإذا بلغ ولده السابعة وقرر الأب اصطحابه إلى المسجد، فإنه يحاول أن يهيء الولد لذلك قبل الموعد بفترة، فيخبره أنه سوف يأخذه إلى المسجد، ويقرب إلى ذهنه طبيعة المسجد، ليكون الولد على دراية بما سوف يشاهده فلا يفاجأ بشيء.(1/59)
ويكثر الأب من ذكر المسجد عند الولد، ويحاول أن يقرن كل جميل بالمسجد، فإذا أتى الولد بلعبة أو حلوى قال:(اشتريتها لك من قرب المسجد), وإذا مر بسيارته من جوار المسجد قال:(انظر إلى هذا البناء الجميل يا بني، إنه المسجد، وسوف آخذك قربياً لتصلي معي فيه), وهكذا يرغبه من وقت لآخر في المسجد ويهيئه للالتزم بالصلاة فيه.
وفي اليوم الذي يتم الولد سن السابعة، ويكون الأب قد قرر أخذه في ذلك اليوم إلى المسجد يفضل أن يهيئ جو المسجد لاستقبال الولد، فيتفق مع الإمام والمؤذن وبعض المصلين من الجيران وأولادهم بأن يحتفلوا بالولد، ويرحبوا به، ويلاطفوه، ليحس الولد بالأنس فيطمئن لأهل المسجد وروَّاده، كما أن حفَّ هذه المناسبة بكل هذا الآهتمام يوقع في نفس الولد أهمية هذه الشعيرة الدينية وعظمتها، إلى جانب تخليد هذه الذكرى الحسنة في نفسه وذاكرته فلا ينساها طول حياته، فتكون له دافعا للمحافظة على الصلاة في المساجد.
ويحرص الأب، خاصة في بدء ذهاب الولد إلى المسجد أن يرعاه من كل ما من شأنه تنفيره من المسجد، فإذا كان الإمام ممن يطيل في الصلاة إطالة تخالف السنة، نبهه على ذلك وأرشده إلى التوسط، والأخذ بالسنة، وذكره بقوله عليه الصلاة والسلام:(يا أيها الناس إن منكم منفرين، فمن أمَّ الناس فليوجز، فإن خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة), وفي رواية:(تجاوز في الصلاة واقدر الناس بأضعفهم، فإن فيهم الكبير والصغير والسقيم والبعيد وذا الحاجة), فذكر عليه الصلاة والسلام حتى الصغير مراعاة لحاله، وطبيعته التي تميل إلى الانفلات وعدم التقيد، إلى جانب عدم تنفيره من المساجد، وجماعة المسلمين.(1/60)
ويفضل أن يكون صوت الإمام في القراءة حسناً مراعياً أحكام التجويد، فإن الصوت الحسن محبب إلى النفس، وأدعى إلى الخشوع وتذوق القرآن، فإن كان إمام الحي حسن الصوت، صحيح القراءة التزم الأب وأولاده بالصلاة خلفه، وإن لم يكن كذلك، اجتهد الأب في أخذ أولاده في بعض الأوقات إلى مساجد أخرى، يسمعون فيها القرآن ممن هم أندى صوتاً، وأخشع تلاوة.
وإذا ألف الولد المسجد، وأخذ يرتاده دون عناء يمكن للأب أن يزيد من ارتباط الولد بالمسجد من خلال تعليمه إتقان الأذان والإقامة، فيؤذن نيابة عن مؤذن المسجد في بعض الأوقات، خاصة إن انشغل المؤذن الراتب، أو سافر، ويُرغَّب الولد في ذلك من خلال إعطائه الثقة بنفسه، وأنه قادر على أداء الأذان، وصوته حسن، كما يرغب فيه من خلال بيان فضله، والأجر والمثوبة عند الله للمؤذنين، وليس في أذان الولد قبل البلوغ محظور شرعي، فقد أجاز ذلك بعض السلف رضوان الله عليهم، والطفل في مرحلة الطفولة المتأخرة بعد التاسعة يدرك الزمن، ويعرفه، فيمكن بناء على ذلك الوثوق به في موضوع الأذان، فيزيد بذلك ارتباطه وتعلقه بالمسجد.(1/61)
أما إمامة الصبي في الصلاة المفروضة فهي من أعظم الروابط التى تقيد الولد بالمسجد، وتحليه بحلية الإيمان والوقار، وقد اختلف السلف في جوازها، فمنهم من أجازها، ومنهم من منعها، فإن كان الولد قريباً من البلوغ حافظاً، متقناً للقراءة فلا بأس بإمامته في بعض الصلوات نيابة عن الإمام الراتب - إن لم يوجد من هو أفضل منه - أخذاً بقول من أجاز ذلك، واقتداء بالصحابي عمر بن سلمة رضى الله عنه حيث كان يؤم قومه وهو ابن سبع سنين، أو ثمان سنين، فإن لم يتيسر ذلك في الصلوات المكتوبة، مكنه من إمامة الناس في صلاة التراويح خاصة إن كان الولد حافظاً للقرآن أو بعض أجزائه بإتقان، وقد روت السيدة عائشة رضى الله عنها أنهم كانوا يأخذون الصبيان من الكتاب ليقوموا بهم في رمضان، ويرغبونهم في ذلك عن طريق الأطعمة الشهية، وهذا يدل على أنهم كانوا صغاراً تستهويهم الأطعمة الشهية، ويدرسون في الكتَّاب، فليس في إمامة الولد العاقل محظور شرعي، خاصة في صلاة النافلة، فيحرص الأب خاصة في شهر رمضان أن يقيد ولده بمسجد الحي، أو غيره ليصلي بالناس طول الشهر، فيخرج من رمضان بزاد روحي عظيم، وأدب حسن، حياء من الاجتراء على المعاصي، والأخطاء بعد أن كان قدوة يصلى الناس بصلاته، فيرزق وقار ومهابة الإمامة، والسكينة والاتزان.(1/62)
ومن خلال تردد الأب على مسجد الحي يحاول أن يتعرف على جيرانه من أهل المنطقة التي يعيش فيها، ويعرف أولاده على أولادهم، ويكوِّن بين الجميع علاقات وأواصر محبة، فإن المساجد في هذا العصر فقدت دروها التربوي، وأصحبت -فقط-(مكاناً يؤدي فيه المسلمون الصلاة ثم ينصرفون، يدخل المصلون في صمت، ويخرجون في صمت، لايتعارفون، ولا يتناصحون), لهذا يعمل الأب جاهداً على إكساب مسجد الحي طابعاً آخر، يحيى فيه جانب التعارف والتآخي بين الجيران الكبار منهم والصغار، فيتعرف عليهم، ويزورهم في بيوتهم مصطحباً بعض أولاده، ويدعو بعضهم عنده لتناول طعام الغداء أو العشاء، فتتكون علاقات وصلات بين أهل الحي.
وبالتعاون مع إمام المسجد والجيران يكوِّن الأب حلقة لحفظ القرآن الكريم، وتعلم التجويد، يتولى الإمام الإشراف عليها، ويسعى في تكوين مكتبة علمية في المسجد بالتعاون مع الجهات المختصه في البلد، أو عن طريق جمع تبرعات من أهل الحي، فيتولى هو أو أحد رجال الحي المثقفين الإشراف على شؤون المكتبة وتنظيم كتبها، وعمل بعض الدروس البسيطة للأولاد مرة كل أسبوع، مع تنظيم مسابقات في حفظ القرآن الكريم، والحديث، والعلوم العامة بين الأولاد في المسجد، وتقديم بعض الهدايا العينية والمادية للفائزين منهم تشجيعاً لهم.
ومن خلال هذه الصداقات والصلات بين أبناء الحي، والمشاركة في النشاطات المختلفة، تتكون بينهم علاقات قوية متينة، وصداقات حميمة، فينشؤون معاً في جو من العبادة، والصلاح، والرفقة الطيبة، إلى جانب زيادة حبهم، وتعلقهم بالمسجد الذي أصبح مكان تجمعهم، ونشاطهم، وبذلك يكون الأب قد وضع ابنه على الطريق الصحيح أملاً في صلاحه، واستقامته في حياته إذا كبر وبلغ.
4ـ ترغيب الطفل في صلاة الجمعة(1/63)
يهتم الأب بتعويد ولده وترغيبه في أداء صلاة الجمعة مع المسلمين، وذلك إضافة إلى ما تقدم من تعويده ارتياد المسجد في الصلوات الخمس المكتوبة، فيوم الجمعة يوم عظيم، وهو أفضل الأيام ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:(خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها).
ويُظهر الأب لأولاده الاهتمام بهذا اليوم، وتعظيمه، وإعطاءه هالة من الوقار، والإجلال، حتى يقع في نفوسهم حبه، وتقديره حق قدره.
ويبدأ الأب ذلك اليوم بصلاة الفجر مع أولاده في المسجد، فإذا أشرقت الشمس صلوا الضحى بما تيسر من الركعات، ثم يأمرهم بأن يستفيدوا من وقتهم بأي عمل مفيد، أو يناموا بعض الوقت استعداداً لصلاة الجمعة، ثم يوقظهم قبل موعد الصلاة بوقت كافٍ، ويأمرهم بالاغتسال والتطهر والنظافة، فيبدأ بأكبر الأولاد سناً، ويأمرهم بلبس أحسن الثياب، والتطيب ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:(من اغتسل يوم الجمعة، واستاك، ومس من طيب إن كان عنده، ولبس من أحسن ثيابه، ثم خرج حتى يأتي المسجد، فلم يتخط رقاب الناس حتى ركع ما شاء الله أن يركع، ثم أنصت إذا خرج الإمام، فلم يتكلم حتى يفرغ من صلاته كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة التي قبلها),
وتعويد الأولاد الصغار على صلاة الجمعة من واجبات الأب ومهامه، ومن المعروف أنها ليست واجبة على الأطفال الصغار شرعاً، ولكن التعويد عليها يبدأ من مرحلة الطفولة.(1/64)
ولا بد للأب من الحكمة، وتقدير طبيعة الطفل، فلا يشتد مع الولد دون سن العاشرة، بل يسلك معه أسلوب الترغيب والتشويق، ويحاول أن يعرف سبب إحجامه عن الذهاب إلى الجمعة، فإن كان بسبب طول الخطبة وعدم قدرته على امتلاك نفسه، وحاجته إلى قضاء الحاجة، حاول الأب اختيار مسجد آخر يوجز إمامه في خطبته، ولا بأس أن يتعاهد ولده في المسجد قبل الخطبة إن كان محتاجاً إلى قضاء الحاجة أم لا ؟، أما إن كان سبب زهد الولد في حضور الجمعة راجعاً إلى التبكير في الخروج إليها، فلا بأس أن يتأخر الأب، فيذهب قبل بدء الخطبة بوقت قصير، أو يكلف غيره اصطحاب الولد إلى المسجد قبل الخطبة بقليل، أو يخرج الأب من المسجد ليأتي به قبل الخطبة إن كان المسجد قريباً، فإن كان الولد قادراً على الخروج بنفسه تركه وشأنه في اختيار وقت الحضور للصلاة.(1/65)
أما إذا أبدى الولد عدم رغبته في حضورالجمعة لغير سبب معروف سوى الميل إلى اللعب، أو نحو ذلك، فليس على الأب محظور في تركه مرفهاً حتى يكبر ويبلغ العاشرة، ويدرك فضل الجمعة، ويقدم بنفسه عليها راغباً فيها، وهذا ما ذهب إليه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه إذ كان يميل إلى ترك الولد الصغير وشأنه، فلا يشتد معه في حضور صلاة الجمعة، فقد روي أنه دخل مرة المسجد يوم الجمعة فوجد غلاماً فقال له:(يا غلام اذهب العب، قال: إنما جئت إلى المسجد، قال يا غلام إذهب العب، قال إنما جئت إلى المسجد، قال: فتقعد حتى يخرج الإمام، قال: نعم), ففي هذه الرواية فقه لأبي هريرة، وبعد نظر، حيث لا يرى تحميل الولد ما لا يطيق من الصبر على الطهارة، والجلوس طويلاً دون لعب حتى يخرج الإمام، ثم الاستماع إلى الخطبة وأداء الصلاة، فالولد الصغير غير مكلف شرعاً، والقسوة عليه، وإلزامه بها وهو عنها عاجز، يكرِّهه فيها، فإذا كبر صعب عليه أداؤها على الوجه المطلوب، فالأب يقتدي بعلماء السلف في هذا، فلا يوجب صلاة الجمعة على ولده دون سن العاشرة، بل ينتهج معه أسلوب الترغيب دون الترهيب، فإن أقبل وإلا تركه وشأنه مرفهاً حتى يبلغ العاشرة أو ما قبلها بقليل فيبدأ معه بالإلزام.(1/66)
ويتخَّير الأب من المساجد أفضلها وأحسنها لحضور الجمعة، فإن كان يعيش في إحدى مدن المساجد الثلاثة المفضلة قدمها على غيرها طلباً للأجر والمثوبة، وإن كان في غيرها من المدن والبلاد، اختار أكبرها، وأشهرها، وأكثرها جماعة، مع الاجتهاد في اختيار أفضل الخطباء، وأعلمهم، وأكثرهم رقة وخشوعاً، إذ إن للخطبة دوراً هاماً في التأثير على أخلاق الأولاد، خاصةً إذا فهموها وعقلوها، فإن لم يعقلها بعضهم لصغر السن، فإن انفعالات الخطيب، ونبرات صوته، وصدق عباراته، وتأثر المصلين بخطبته، كل ذلك يؤثر في نفس الولد الصغير، ويظهر هذا التأثير إذا كبر وعقل، وقد أشار ابن الجوزي رحمه الله إلى هذا المعنى - كما تقدم - فحدَّث عن نفسه وهو صغير كيف كان يتأثر بخشوع وبكاء بعض مشايخه فكان يحدث ذلك في نفسه تأثيراً بالغاً.
ويحاول الأب بعد الخروج من المسجد وأداء صلاة الجمعة أن يسأل أولاده عن موضوع الخطبة، وما يمكن أن يستخلصوه من الفوائد، وذلك ليعرف مدى استفادتهم وتركيزهم مع الخطيب، فإن وجد منهم غفلة وعدم تركيز نبههم وحثهم على الفهم والإنصات، ولا بأس أن يحثهم قبل الدخول إلى المسجد على حسن الإنصات، وأنه سوف يسألهم عن مضمون الخطبة إذا خرجوا بعد الصلاة، فيكون ذلك أدعى لهم لكمال الالتفات إلى كلام الخطيب، والتركيز أثناء الخط
5ـ تدريب الطفل على الصيام(1/67)
نُقل عن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أنهم كانوا يدربون أبناءهم الصغار على الصيام، ويعودونهم عليه، وأقرهم على ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد روى البخاري في صحيحه عن الرُّبيِّع بنت مُعوِّذ قالت:(أرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار من أصبح مفطراً فليتم بقية يومه ومن أصبح صائماً فليصم، قالت: فكنا نصومه بعد ونُصوِّم صبياننا ونجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذلك حتى يكون عند الإفطار), وجيء بسكران في رمضان إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال موبخاً وزاجراً:(في رمضان ويلك وصبياننا صيام), فهذا دليل على أن صيام الصبيان على عهد الصحابة رضوان الله عليهم كان معروفاً غير مستنكر أو مستهجن، كما آل إليه الحال عند بعض الأسر في هذا الزمان من استنكار صيام الصيام واعتباره من التشدد والقسوة.
ولا يعني تدريب الأولاد على الصيام افتراضه عليهم، فإن جمهور العلماء يفتون بأن الصيام غير واجب على من هو دون البلوغ ؛ لكن المقصود من هذه الأحاديث مشروعية تمرين الصبيان على الصيام وتعويدهم عليه.
وأعجب من هذا ما كان يفعله عليه الصلاة والسلام عندما كان صيام عاشوراء مفروضاً، حيث " كان يعظمه، ويدعو برضعائه ورضعاء فاطمة فيتفل في أفواههم ويأمر أمهاتهن ألا يرضعن إلى الليل "، فإذا كان الرضع يشاركون المسلمين في صيام ذلك اليوم المفضل حرمةً وتعظيماً له، وتدريباً على الصوم، فإن الأطفال الكبار دون البلوغ أولى بهذا التمرين، خاصةً إذا قاربوا الحلم، حيث يكونون أقدر على تحمُّل الصوم ومشقته.
وقد كان بعض السلف رضوان الله عليهم يُوقِّتون بداية أمر الصبي بالصيام إذا أطاقه وهذا منقول عن ابن سيرين وقتادة والزهري وعروة بن الزبير رحمهم الله.(1/68)
والأب يقدر بخبرته طاقة ولده ومقدرته على الصوم، فإن رأى فيه قوة عليه، ورغبة فيه، أمره به وحثه عليه مبيناً فضل الصيام وأجره عند الله، ولا يتقيد في ذلك بسن معينة.
كما يمكنه أن يُقسم النهار إلى أجزاء، فليس من الضروري أن يصوم الولد كامل النهار - خاصة الولد الصغير - فيكون الجزء الأول مثلاً من صلاة الفجر حتى صلاة الظهر، والجزء الثاني من صلاة الظهر إلى صلاة العصر، والجزء الثالث من صلاة العصر حتى صلاة المغرب، والولد يصوم من هذه الأجزاء حسب طاقته وقدرته دون إجبار، فيحثه الأب على الصوم ويكافئه على ذلك، مع مراعاة عدم إضرار الصيام به.
كما يمكن للأب أن يقدم لأولاده اللُّعب المختلفة، عند الحاجة ليلهيهم بها عن طلب الطعام، اقتداء بالسلف الصالح، ولا بأس أن يخرج بهم للنزهة أو المسجد إذا احتاج الأمر، فإن بعض السلف كانوا يأخذون الأولاد إلى المسجد في يوم عاشوراء، ويجعلون لهم الألعاب من الصوف ليلتهوا بها عن طلب الطعام
التربية الأخلاقية للطفل
1ـ أهمية التربية الخلقية للأطفال
تضمن القرآن الكريم دستوراً للأخلاق والآداب في جميع مجالات ونشاطات الإنسان، فلم يترك جانباً منها إلا وكان له فيه توجيه وإرشاد.(1/69)
ومن هذه التوجيهات القرآنية المباركة في مجال التربية الخلقية للأولاد قول الله - عز وجل -: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] وقوله - سبحانه وتعالى -: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ* يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ* وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ* وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:16-19]، فهذه الآيات الكريمات تضمنت دستوراً كاملاً من الأخلاق الرفيعة؛ حيث بدأت بحق الله - عز وجل - لأنه أعظم الحقوق وأجلها، فأمرت بإخلاص العبادة، والنهي عن الشرك الذي هو أعظم الذنوب وأكبرها، ثم تضع هذه الآيات الولد في مجال من المراقبة الصارمة الكاملة على جميع تحركاته ونشاطاته، فتبين أن الله لا يخفى عليه قدر ذرة في هذا الكون الفسيح، مما يوحي للولد بتمام وقوعه تحت بصر الله - عز وجل - وسمعه ومراقبته الكاملة.
وفي جانب آخر توجه الآيات الولد إلى الدعوة من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على تبعات ذلك، وألا يسوقه صلاحه واستقامته إلى الكبر، والغطرسة، واحتقار الناس؛ بل يؤمر بضد ذلك من التواضع وخفض الجناح، والتأدب في محادثة الناس.(1/70)
وهكذا القرآن الكريم في آيات قليلة يضع دستوراً متكاملاً من الأخلاق والآداب الاجتماعية والفردية مع الله - عز وجل -، ومع كل ذي حق من الناس فيعيش الولد في هذه الحياة وقد تبين له الصواب الصحيح من الخطأ الصريح، فيعرف الهدف من الحياة فلا يكون هملاً ضائعاً بلا نظام يقوده ويقوم سلوكه ويوجهه.
وقد تضمنت السنة المطهرة آداباً وأخلاقاً وتوجيهات كثيرة في هذا المجال، وجاءت بمثل ما جاء به القرآن من التوجيه نحو التزام الأخلاق الحسنة ونبذ السيء منها. يقول عليه الصلاة والسلام مبيناً منزلة الأخلاق في الإسلام: "إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجات قائم الليل وصائم النهار" ويقول أيضاً: "إن الله كريم يحب الكرم ومعالي الأخلاق، ويبغض سفسافها" فالقائم الصائم المتطوع بهاتين العبادتين العظيمتين لا يبلغ فضل درجة المتحلي بالأخلاق الحسنة، المعامل للناس بطيب نفس، المترفع عن رذائل الأخلاق وسيئها، وذلك لأن التطوع بالصيام والقيام من المستحبات وليس من الواجبات، أما الالتزام بحسن الخلق في المعاملة من حقوق المسلم الواجبة، فلا يقوم التطوع مقام الواجب في المنزلة والمكانة، بالإضافة إلى ما في التزام الأخلاق الحسنة مع الناس من المشقة والمجاهدة التي توجب عظيم الأجر والمثوبة.
وهذه الأخلاق الإسلامية المستمدة من القرآن الكريم، والسنة المطهرة أخلاق ثابتة لا تتغير، ولاتتبدل، ولا تتطور، فلا يمكن بحال أن يصبح الكذب والخيانة في يوم ما من الفضائل، أو الصدق والأمانة من البلاهة والغباء، أو الشتم وبذاءة اللسان من الأدب؛ بل إن ما جاء الإسلام بذمه فهو مذموم إلى يوم القيامة، وما جاء بتحسينه ومدحه فهو كذلك إلى يوم القيامة لا يتغير ذلك أبداً.
وهذا الثابت في الأخلاق الإسلامية يعد من أهم خصائصها وأعظم مميزاتها، التي تنفرد بها عن القيم والأخلاق الوضعية التي يتعارف عليها الناس بعيداً عن وحي الله المبارك.(1/71)
وهذه الأخلاق -وإن كانت بأمر من الله - لا تصدر عن الإنسان قسراً وفرضاً، بل هي في النفس الإنسانية راسخة تصدر عنها هذه الأفعال بسهولة ويسر، فالخلق لا يسمى خلقاً حتى يكون نابعاً عن حب ورسوخ داخل النفس، فمن بذل المال على سبيل الندرة لا يعد كريماً سخياً؛ إنما الكريم الذي السخاء والكرم خلقه الدائم الذي لا ينفك عنه، حتى وإن لم يصدر عنه البذل والعطاء لقلة ما في يده.
وفي العموم فإن كل ما جاءت به الشريعة الإسلامية من أخلاق فإنها لصالح الإنسان ولنفعه، وهي مدعمة بالحجة البالغة، والبرهان الواضح على خيرها وفضلها والمجال فيها واسع للتفكر والتدبر والتأمل لمعرفة عظم هذه التعاليم، ومدى صلاحها للبشر.
وقد أوجد نظام الإسلام في تعاليمه المباركة مجالات كبيرة وواسعة للتطبيق العملي الواقعي لهذه الأخلاق، فلا يقتصر التوجيه الإسلامي إلى هذه الأخلاق على الجانب النظري المتمثل في المواعظ والخطب؛ بل أوجد من المجالات، والعلاقات البشرية المتنوعة، ما يسع تطبيق وممارسة كل هذه الأخلاق والآداب المختلفة. فعلاقة الإنسان بربه - عز وجل -، وعلاقة الآباء بالأبناء، وعلاقة الرجل بأهله، وعلاقته بأقربائه، وجيرانه، والرجل في الطريق، كل تلك مجالات واسعة يجدها المسلم وينطلق من خلالها ليمارس تلك الآداب والأخلاق الإسلامية العظيمة.
وتهدف التربية الخلقية في الإسلام إلى مرام سامية وذلك من خلال تطبيقها وممارستها في واقع الحياة، ومن هذه الأهداف:
1-إرضاء الله - عز وجل - والتزام أمره.
2-احترام الإنسان لذاته وشخصيته.
3-تهذيب الغرائز، وتنمية العواطف الشريفة الحسنة.
4-إيجاد الإرادة الصالحة القوية.
5-اكتساب العادات النافعة الطيبة.
6-انتزاع روح الشر عند الإنسان، واستبدالها بروح الخير والفضيلة.(1/72)
ولتحقيق هذه الأهداف النبيلة عند الولد، فإن المربي المسلم يستغل فترة الطفولة، وصغر سن الولد، وضعفه وحاجته إليه، وقوة سلطته عليه في توجيهه وتربيته على المنهج الإسلامي القويم، فإن تكوين "العادة في الصغر أيسر بكثير من تكوينها في الكبر، وذلك لأن الجهاز العصبي الغض للطفل أكثر قابلية للتشكيل، وأيسر حفراً على سطحه"، ويكاد يجمع علماء النفس والاجتماع والتربية على أن شخصية الطفل، وما سوف يؤول إليه من اتجاهات انفعالية ومزاجية: تتحدد في السنوات الأولى من عمره لهذا كان استغلال هذه الفترة الحرجة من عمر الطفل في توجيهه نحو الخير، وتركيز المعاني الحسنة في نفسه وعقله، له الأثر الأكبر-بعد توفيق الله- في استقامته وصلاحه عند كبره واشتداد عوده. ويشير إلى هذا المعنى الإمام الماوردي رحمه الله مؤكداً أهمية فترة الطفولة في توجيه الولد وتأديبه، فيقول: "فأما التأديب اللازم للأب، فهو أن يأخذ ولده بمبادئ الآداب ليأنس بها، وينشأ عليها، فيسهل عليه قبولها عند الكبر، لاستئناسه بمبادئها في الصغر، لأن نشأة الصغير على شيء تجعله متطبعاً به، ومن أغفل في الصغر، كان تأديبه في الكبر عسيراً".
وهناك مقطوعة رائعة لأحمد شوقي تلخص هذا المعنى وتعرضه في أبهى صورة.
يقول رحمه الله:
بين الحديقة والنهر
سارت مها مسرورة
فرأت هنالك نخلة
فتناولت حبلاً وقالت
حتى نقوم عودها
فأجاب والدها لقد
ومن العسير صلاحها
قد ينفع الإصلاح والتهـ
والنشء إن أهملته ... وجمال ألوان الزَّهرْ
مع والد حان أبرّ
معوجة بين الشجر
يا أبي هيا انتظر
لتكون أجمل في النظر
كبرت وطال بها العمر
فات الأوان ولا مفر
ـذيب في عهد الصغر
طفلاً تعثر في الكبر(1/73)
وفي مراحل عمر الولد يلاحظ المربي ويراعي من خلال ممارسته للتربية طبيعة الإنسان، وتكوينه وطبيعة خلقته، فهو كما جاء في الحديث أجوف لا يتمالك أي: أنه خال من الداخل، ولا يمكنه أن يملك نفسه، ويحبسها عن شهواتها وملذاتها، فهو بطبيعته لا يحب التقيد والتكلف، بل يهوى الانطلاق والانفلات من كل قيد ورباط. يقول مِسْكَوَيْه مبيناً هذاالمعنى: "إن الصبي في ابتداء نشوئه يكون على الأكثر قبيح الأفعال إما كلها وإما أكثرها.. ثم لا يزال به التأديب والسنن والتجارب حتى ينتقل في أحوال بعد أحوال".
والمربي عندما يدرك أبعاد المهمة الصعبة التي كلف بها، يستعد للصبر على مشقة التربية والتوجيه، التي تستفرغ جهد سنوات من العمر، فلا يمل طولها، ولا يزهد في أجرها عند الله - عز وجل -، ويدرك إدراكاً لا يخالجه شك أن تحسين الخلق، واستبدال القبيح منه بالحسن، ممكن بالتدريب والمتابعة والمجاهدة، ومهما وجد في ولده من بلاده في الطبع، وسماحة في السلوك، وسوء خلق، فإن تعديل ذلك ممكن تحقيقه، وهذا ما أكَّده الغزالي رحمه الله حيث قال: "لو أن الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات، ولما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((حسنوا أخلاقكم. وكيف ينكر هذا في حق الآدمي وتغيير خلق البهيمة ممكن إذ ينقل البازي من الاستيحاش إلى الأنس، والكلب من شره الأكل إلى التأدب والإمساك والتخلية، والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد، وكل ذلك تغيير للأخلاق)).
واستدلال الإمام الغزالي، واستشهاده بإمكانية تعديل خلق الحيوان، فيه دليل واضح على إمكانية تعديل خلق الولد، خاصة عند صغر سنه، ونعومة أظفاره، فإذا كان هذا جائزاً في حق الحيوان الأعجم، ففي حق الولد الذي هو أعقل وأقدر على الفهم من البهيمة أولى وأقرب للحصول والتحقيق، لهذا لا ينبغي للأب أن ييأس من إصلاح خلق ولده، بل يلتزم الصبر والمجاهدة والتدريب، حتى يصلحه الله بفضله.(1/74)
2ـ دور الأب في التربية الخلقية للطف
للأب في الشريعة الإسلامية مكانة عظيمة وجليلة، فهو القائم على الأسرة بما فيها من أفراد كالأم، والأطفال، والخدم، وهو مسؤول عنهم، وعن استقامتهم على منهج الله - عز وجل -، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.. والرجل راع على أهل بيته، وهو مسؤول عنهم)) أي: أنه سوف يسأل عما استُرعي من شؤونهم.
وبناء على هذه المسؤولية يتكفل الأب تبعات تكوين المحضن الإسلامي الصالح لنمو الذرية نمواً سوياً صالحاً، فيتولى اختيار الزوجة المناسبة، فيقدم لها الصداق، وينفق عليها، وبعد خروج ثمرة النكاح إلى الحياة يتولى مهاماً جديدة في مجال التربية، تبدأ بالأذان في أذن المولود، وتحنيكه، والعق عنه، واختيار الاسم الحسن، وغيرها من أمور الرعاية والتربية التي تؤهله للقيام بنفسه ومواجهة متطلبات الحياة.
3 - التربية الأخلاقية للطفل بين البيئة والوراثة
إن صلاح الفرد وتهذيب نفسه بالأخلاق الإسلامية هو الطريق لصلاح المجتمعات، واستقامتها على المنهج الإسلامي القويم. والطفل الصغير يولد مزوداً بقدرة فائقة على اكتساب ما يلقى إليه من خير أو شر، وإن كان هو ميالاً إلى الخير أكثر منه إلى الشر، لأنه مفطور على الخير وحبه، إلا أنه يحتاج إلى التأديب والتوجيه والتربية، لما للبيئة والوراثة من تأثير في خلقه. يقول الماوردي رحمه الله مشيراً إلى أهمية التربية والتأديب: "اعلم أن النفس مجبولة على شيم مهملة، وأخلاق مرسلة، لا يستغني محمودها عن تأديب، ولا يكتفي بالمرضي منها عن التهذيب"، أي أنه لا بد من التربية والتوجيه وتنمية الأخلاق الحسنة التي جبل عليها الطفل وتعميقها دون إهمال.(1/75)
ولا ينبغي تضخيم شأن الوراثة فإنه بالإمكان التخفيف من شأنها وتأثيرها في نفس الطفل، وذلك بمزيد من الجهد والمثابرة، فإن تقويمها ليس مستحيلاً. والغزالي رحمه الله يشير إلى هذه القضية مبيناً أن الأخلاق الحسنة مثل الجود، والتواضع، والشجاعة، وغيرها يمكن إيجادها في الإنسان من خلال التدريب عليها ومزاولتها حتى تصبح محببة إلى النفس يتلذذ صاحبها بها كما تحتل القدوة، والسلوك الصحيح من الوالد والأسرة مكانة كبيرة في إيجاد هذه الأخلاق في نفس الولد، "فالإنسان يتعلم البذل والحرص على شعور غيره عن طريق حرص الآخرين على شعوره واهتمامهم بشأنه" فلو أن الوالد أظهر لولده الاهتمام به، ومحبته، والرغبة فيه، فإن الطفل يتعلم من هذا كيف يحب الآخرين، ويهتم بشعورهم، ويعمل على راحتهم.
لهذا كان دور التربية الأبوية في الأسرة هاماً جداً لإيجاد ذلك الخلق والأدب مع النفس لتستقيم على المنهج الإسلامي الصحيح، وفي هذا المجال يقول الإمام الماوردي رحمه الله: "الأدب مكتسب بالتجربة، أو مستحسن بالعادة… وكل ذلك لا ينال بتوفيق العقل، ولا بالانقياد للطبع، حتى يكتسب بالتجربة والمعاناة، ويستفاد بالدربة والمعاطاة
4 - حق الولد على والده: حسن اختيار أمِّه(1/76)
إن للولد على والده حقوقاً، كما أن للوالد على ولده إذا كبر حقوقاً، يقول ابن عمر - رضي الله عنه -: " كما أن لوالدك عليك حقاً، كذلك لولدك عليك حق" ومن أعظم هذه الحقوق وأهمها: حسن اختيار الأم تلك الحاملة الحاضنةالمربية، وذلك لأن للوراثة دوراً هاماً جداً في ما يصير إليه المولود في المستقبل، "فإن بعض الدراسات أثبتت أن النباهة والامتياز تستند إلى خصائص وراثية" كما أن علماء "الجينات" يرون أن للوراثة قوة عجيبة تفرض نفسها على المولود، وهذا الاعتقاد ساق بعضهم إلى القول بأن الحصول على أفراد ممتازين لا يعود إلى التعليم؛ بل يعود إلى العمل على تحسين النسل، فالطفل يرث من والديه بعض المميزات والسمات الجسمية، وبعض الاتجاهات العقلية ويكاد يجمع علماء الأخلاق على "أن الوراثة مع البيئة هما العاملان الأساسيان في تكوين الأخلاق"، لهذا جاءت الشريعة الإسلامية بالأمر بحسن اختيار الزوجة، ووضعت للآباء من الرجال أوصاف الزوجة الصالحة، فلا بد من الأخذ ب
5 - أهمية التأديب في صلاح الأطفال
يعترف المربون المسلمون بأهمية العقاب ويقرونه، وذلك لما له من دور في تعديل السلوك وتوجيهه على أن يستخدم عند الحاجة، مع مراعاة نوع العقوبة ومقدارها، فقد ثبت فيما نقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسند صحيح أنه رأى أبا بكر - رضي الله عنه - وهو يضرب غلاماً له، فتبسم ولم ينكر عليه، فضرب الولد عند الحاجة، لتأديبه وتربيته جائز ولكن يجب أن يعي الأب المسلم أن آخر العلاج الكي، فإن استخدام أسلوب العقاب البدني يجب أن يكون هو الوسيلة الأخيرة في العقاب، فإن تعود الطفل عليه، وألفه عند كل خطأ يقع فيه، فإنه لن يصبح له تأثير فيه بعد ذلك، إلى جانب أن وسائل العقاب الأخرى مثل الهجر والحرمان من المصروف وغيرهما من العقوبات النفسية لن تفلح معه بعد فشل العقاب البدني.(1/77)
لهذا كان لزاماً على الأب الواعي أن يتدرج في إيقاع العقوبة على الطفل، فيبدأ بعدم التشجيع مثلاً، ثم الإعراض عنه، وإعلامه بعدم الرضا عنه، ثم الزجر والعبوس في وجهه، ثم الهجر والمقاطعة، ثم حرمانه من محبوباته، وهكذا حتى يصل إلى العقوبة البدنية مع التدرج فيها من الضرب الخفيف إلى الأشد. وتعد هذه الأخيرة هي أشد أنواع العقوبات، ولا ينبغي أن يلتفت إلى ما يقال من أن العقوبة تعقد الطفل أو تضره فإن هذا غير صحيح، بل إن العقوبة المناسبة إذا جاءت في الوقت المناسب، أي بعد اقتراف الذنب مباشرة دون أن تتضمن جرحاً للكرامة، فإنها تكون مجدية ونافعة للطفل غير ضارة به، مع مراعاة عدم لطم الوجه، فقد نهى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ولم ينقل عنه أنه ضرب أحداً فلو أن الأب انتهج أسلوب التهديد، دون إيقاع العقاب، وكان التهديد مفيداً مع الولد، فإنه لا ينبغي له أن ينتقل منه إلى غيره من أنواع العقوبات الأشد، إلا إذا تمادى الطفل، ولم يعد يخاف التهديد، فإن السنة المطهرة جاءت بمثل هذا، فقد أمر عليه الصلاة والسلام "بتعليق السوط في البيت" وتعليق السوط في البيت يوحى بإمكانية إيقاع العقوبة، بناء على ذلك ينزجر الولد ويرتدع.(1/78)
وقد اختلف التربويون في السن الذي يستعمل فيه العقاب البدني مع الطفل، فقد ذهب بعضهم إلى أنه لا يقع إلا بعد العاشرة؛ استناداً إلى أن ضرب الطفل على الصلاة والتي هي أهم من غيرها لا يكون إلا بعد العاشرة، فغيرها من الأمور لا ينبغي الضرب عليها من باب أولى، إلا بعد هذه السن، والبعض يرى أن الطفل لا يدرك مسألة الصواب والخطأ إلا في الثامنة من عمره، وآخرون يرون أنه يدرك قضية الثواب والعقاب، والقيم الخلقية، والشعور بها، وتقبل معاييرها ما بين "3-7" سنوات والعقاب عادة لا يكون إلا بعد أن يدرك الطفل ويفهم سببه، ليحصل المقصود من إيقاعه فالتحقيق في هذه القضية هو محاولة تجنب ضرب الطفل عموماً قدر الإمكان، في جميع سنين عمره، فإن كان ولابد منه، فيكون في الوقت الذي يدرك فيه الطفل معنى العقوبة، وسببها وأنه مستحق لها، وبعد أن يكون الأب قد هدد بها، مراعياً في ذلك التدرج -الذي ذكر سابقاً- والتوسط في إيقاعها بأن لا يحس الطفل أنها للتشفي، أو الانتقام؛ بل يربط الذنب بالعقاب ليفهم الطفل ويعي سبب عقابه. فإن أوقع الوالد العقوبة بالولد فاستنجد بالله وذكره، فلا ينبغي للوالد أن يسترسل في العقوبة، بل يكف عنها تعظيماً لله في نفس الطفل، فقد ورد النهي عن ضرب الخادم إذا ذكر الله والولد أولى.
وقد ذكر بعض المتصلين بالتربية أهمية العقاب بالهجر والتوبيخ وغيرهما من العقوبات النفسية مرجحينها على العقوبات البدنية، وذلك لأن الأطفال يكرهون الضرب ويبغضونه، وإن العقوبات النفسية أكثر جدوى، وكيف ما كانت آراء التربويين فإن الفطن يدرك من ولده ما لا يدركه غيره, فيستعمل كل عقاب في حينه, حسب خبرته وتوقعاته للفوائد.(1/79)
وعلى الوالد أن يلاحظ حين قيامه بأمر الطفل أو نهيه أن يجذب انتباهه أولاً, ثم يحاول أن يفهمه الأمر بلغة سهلة يدركها الطفل, مع مراعاة الوضوح والبطء وعدم الإكثار من الأوامر, مبيناً أن هذا الأمر يؤذيه- إن كان الامر يؤذيه فعلاً- أو يؤذي الآخرين, فالطفل إن عومل بهذه الطريقة, فإنه في العادة يستجيب.
ونقطة أخيرة يجب الاهتمام بها، وهي قضية مراقبة الطفل والتجسس عليه وفضحه إذا أخطأ, وهتك ستره, ففي هذا يقول الإمام الغزالي بعد أن ذكرأهمية تشجيع الطفل على القيام بالأعمال المحمودة, ومكافأته على ذلك, قال: "… فإن خالف ذلك في بعض الأحوال مرة واحدة فينبغي أن يتغافل عنه, ولا يهتك ستره … لا سيما إذا ستره الصبي, واجتهد في إخفائه, فإن إظهار ذلك عليه ربما يفيده جسارة حتى لا يبالي بالمكاشفة, فعند ذلك إن عاد ثانياً فينبغي أن يعاقب سراً, ويعظم الأمر فيه". وهذا من الرفق والرحمة بالولد فليس كل خطأ أو زلة توجب العقاب والزجر، وهذا مشروع مع الحيوان البهيم فضلاً عن الإنسان المكرم, فقد ذكر أن السيدة عائشة رضي الله عنها ركبت بعيراً فاستعصى عليها ((فجعلت تردده, فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليك بالرفق)) فإذا كان المسلم مأموراً بالرفق عند قيادة البعير فكيف بولده؟
6 - أسلوب الحكمة في توجيه الأطفال(1/80)
جاء الأمر في الشريعة الإسلامية على التيسير والتسهيل والمقاربة، دون التعسير والتشديد. قال الله تعالى: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وقد جاءت السنة المطهرة مبينة لمقاصد الشريعة من التسهيل والتيسير، وذم التنطع والمشادة في العبادات التي هي أعظم الأعمال وأجلها وأحبها إلى الله - عز وجل -، قال عليه الصلاة والسلام: "سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد والقصد تبلغوا" فالغدو هو السير أول النهار، والدلجة هي السير في الليل، وهذا الحديث يفيد الرفق في العبادة وترك التشدد فيها وفي حديث آخر ذم عليه الصلاة والسلام المتنطعين فقال: "هلك المتنطعون" وهم: "المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم" يقول المربي ابن رجب الحنبلي رحمه الله: "إن أحب الأعمال إلى الله ما كان على وجه السداد، والاقتصاد، والتيسير، دون ما كان على وجه التكلف، والاجتهاد، والتعسير" فإذا كان الأمر كذلك مع العبادات فكيف بغيرها من الأمور؟ لا شك أن غيرها أهون منها، وأحرى أن ينال من الرفق واللين والتيسير والتسهيل أكثر مما نالته العبادة.(1/81)
فمن هذا المنطلق كانت تربية الأولاد وتوجيههم بمنهج التوسط والمقاربة والسداد، أولى وأحرى وأكثر جدوى من التشدد والتعسير، فإن الله يحب الرفق ويجزي عليه جزاء كثيراً، ويبغض العنف ويكرهه، يقول عليه الصلاة والسلام: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف" فإن رأى الوالد الوقت المناسب للوعظ، اشتغل به دون إفراط أو إكثار منه، فإن كثرة المواعظ مملة، وربما ضعف تأثيرها، وسببت رد فعل عند الأولاد كما أن كثرتها تخالف السنة والمنهج النبوي في الوعظ إذ كان عليه الصلاة والسلام يتخول أصحابه بالموعظة، ولا يكثر عليهم، رغم رغبتهم وحبهم لسماع مواعظه وإرشاداته كما أن العقاب الكثير ضار بالولد، فلا بأس بعض الأحيان من التغافل عن بعض أخطاء الطفل -خاصة العفوية منها- فتمر دون تعليق، أو توجيه، أو عقاب، فقد نصح الإمام الغزالي رحمه الله بذلك فقال: "ولا تكثر القول عليه بالعتاب في كل حين فإنه يهون عليه سماع الملامة، وركوب القبائح، ويسقط وقع الكلام من قلبه، وليكن الأب حافظاً هيبة الكلام معه فلا يوبخه إلا أحياناً" فإن احتاج الأب إلى التأديب والتوبيخ تجنب الاستبداد في ذلك وتوسط.
وعلى الأب المسلم أن ينهج مع ولده منهجاً قاصداً متوسطاً يحفظ فيه كرامته فلا يخدشها، ولا يكثر من التعنيف الذي يؤدي بالولد إلى عدم احترامه والجرأة عليه، وأن يمنحه شيئاً من الحرية دون إفراط أو تفريط، وعدم التشدد والصرامة في تطبيق النظام والقواعد في البيت، بل يمزج ذلك بشيء من المرح والمداعبة والحب، ولا بأس في إفهامه سبب الأمر الذي أمره به والحكمة منه؛ ليكون حافزاً على فعله وتنفيذه، مع مراعاة عدم تعليق تنفيذ الأمر باقتناع الولد به، فهذا يفسده، ويجب على الأب أن يراعي فهم ولده وقدراته فلا يطالبه بمعايير الكبار، ولا يأمره بما هو خارج نطاق قدرته فهو لا يزال طفلاً صغيراً.(1/82)
ويوطن الأب نفسه على الاعتدال في معاملة الطفل، فلا يدلله بإفراط، فيشعر بالتسامي على غيره، ولا يحتقره ويهينه ويذله، فيعيش ذليلاً خاملاً كما يلاحظ عدم الإكثار من إظهار الخوف عليه والمهابة من أقل شيء يصيبه في لعبه من أمور البيئة من حوله، فإن هذا يضره، ويفسد قدراته على مجاراة البيئة المادية، كما أن إهماله وعدم الاكتراث به وبما يمكن أن يحدث له: يسبب له قلقاً نفسياً.
وخلاصة القول هو التقيد بمنهج الاعتدال، والتدرج والتلطف في توجيه الولد وتربيته، والأخذ بنصيحة الإمام ابن الجوزي رحمه الله إذ يقول: "واعلم أن رياضة النفس تكون بالتلطف والتنقل من حال إلى حال، ولا ينبغي أن يؤخذ أولاً بالعنف، ولكن بالتلطف، ثم يمزج بين الرغبة والرهبة".
7 - ضرورة القدوة في تربية الطفل
تعتبر القدوة من أهم وسائل التربية إن لم تكن هي أهمها على الإطلاق، وذلك لوجود تلك الغريزة الفطرية الملحة في كيان الإنسان التي تدفعه نحو التقليد والمحاكاة، خاصة الأطفال الصغار، فهم أكثر تأثراً بالقدوة إذ يعتقد الطفل في سنواته الأولى أن كل ما يفعله الكبار صحيح، وأن آباءهم أكمل الناس وأفضلهم، لهذا فهم يقلدونهم ويقتدون بهم.(1/83)
ويبدأ التقليد عند الأطفال عادة منذ السنة الثانية تقريباً، ويبلغ التقليد غايته في سن الخامسة أو السادسة، ويستمر معتدلاً حتى الطفولة المتأخرة ولا شك أن هذا التقليد دليل على محبة الأولاد لآبائهم، وليس نابعاً عن خوف أو خشية؛ بل هو ميل حقيقي قد امتلك واستهوى قلوب الصغار نحو آبائهم، وهذا الاعتقاد الصحيح يخالف وينقض ما ذهب إليه "فرويد" صاحب عقدة "أوديب" من الزعم بأن الولد يكن في نفسه بغض أبيه وكراهيته لأنه ينافسه على أمه وهذا لاشك يعد من الافتراء الباطل واتهام فطرة الأولاد الأبرياء بالنفاق والخداع منذ حداثة أسنانهم، وقبل أن يكونوا مكلفين، وهذا النوع من الاتجاهات المنحرفة وما شابهها يحذر الأب منها غاية الحذر فلا يكثر من الاطلاع عليها في الكتب المنحرفة، فضلاً عن الاعتقاد بها والعمل بموجبها، مع الحذر من بعض الكتاب الذين تبعوا فرويد في اعتقاده الباطل بشيء من التهذيب والتحسين دون تصريح، خطأ منهم، أو جهلاً.(1/84)
والأطفال يتعلمون بالقدوة والمثل أكثر بكثير مما يظن ويتصور الوالد، فالطفل يتأثر بنا ويقلد طريقتنا في معاملتنا… وعلاقتنا بجارنا، وحديثنا عن زملائنا في العمل، دون أن نشعر نحن غالباً بهذا الأمر، فاتجاهاتنا النفسية.. تصبح كلها هي نفس اتجاهاته النفسية وبناء على هذا يكون التعود على فعل الخير بالقدوة الصالحة في أول الأمر هو المنهج الصحيح للتربية الإسلامية، إذ أن العقيدة الإسلامية لا يكفي أن تكون في قلب المسلم دون أن يكون لها واقعها العملي المترجم في السلوك الإسلامي الصحيح في جميع مجالات الحياة، فقد ذم الله - سبحانه وتعالى - ومقت الذين تخالف أعمالهم أقوالهم، فقال - عز وجل -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:2-3]، وقال عليه الصلاة والسلام: ((يؤتي بالرجل يوم القيامة، قيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان مالك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه))، وسبب هذا التحذير الشديد من مخالفة القول للعمل ما يمكن أن تسببه هذه المخالفة من ضرر نفسي فادح بالمقتدين, خاصة الأطفال الذين لا يعقلون, فالطفل "الذي ينشأ وهو يظن أن والده منافق مراء في عبادته وأمور دينه, يكون أصعب الأطفال طراً في اجتذابه واستمالته إلى الدين".(1/85)
فالطفل في حوالي السنة السادسة من عمره تقريباً يمكن أن يحدد مدى التزام أهله بالتوجيهات التي يأمرونه بها، فالتلقين لا يثمر مع الولد وإن استعملت معه جميع أنواع ووسائل التربية إن لم توجد القدوة الصالحة التي تكون بمثابة ترجمة عملية للمعاني المجردة وإن الناظر في أوضاع المجتمعات الإسلامية اليوم يجد "أن عقيدتنا وأخلاقنا وقيمنا تكاد تكون في ناحية، وحياتنا العملية في ناحية أخرى، نقيضان لا يلتقيان" فكيف ينشأ مع هذا الوضع أطفال صالحون يرون ويشاهدون المتناقضات في حياة الأمة. إنهم مهما سمعوا من المربين، فإنهم لن يحملوا في داخل أنفسهم سوى الصورة التي يرونها أمامهم من أنواع وأنماط السلوك إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
وقد تنبه السلف الصالح رضوان الله عليهم إلى هذا الأمر وأهميته. فهذا عمرو بن عتبة ينبه معلم ولده لهذا الأمر، فيقول: "ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك لنفسك، فإن عيونهم معقودة بعينك، فالحسن عندهم ما صنعت، والقبيح عندهم ما تركت" فالأطفال لا يدركون المعاني المجردة بسهولة، ولا يقتنعون بها بمجرد سماعها من المربي بل لابد من المثال الواقعي المشاهد.
وبهذا يظهر أنه لا مجال للتربية الإسلامية الصحيحة بدون القدوة الصالحة، التي تمتثل الأوامر، وتستجيب لها، وتنزجر عن النواهي، وتمتنع عنها.
8 - أهمية العدل في تربية الأطفال(1/86)
جاءت الشريعة الإسلامية المباركة بالأمر بالعدل بين الأولاد، والتسوية بينهم، وذلك "تفادياً من التحاسد والتحاقد بينهم… فقد يحقدون أحياناً على أبيهم نفسه، والأب مأمور بأن لا يتعاطى من الأسباب ما يثير شيطان العقوق في نفس ولده" وجمهور علماء الأمة على استحباب العدل والتسوية بين الأولاد، وكراهة التفضيل بينهم في العطية، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((اعدلوا بين أولادكم في العطية)) بل كان يذهب إلى أبعد من ذلك فيأمر بالعدل حتى في التقبيل عليه الصلاة والسلام، ويقول أيضاً: ((إن الله تعالى يحب أن تعدلوا بين أولادكم، كما يحب أن تعدلوا بين أنفسكم))، وما جاءت هذه الأوامر والتوجيهات من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا لأهمية هذه القضية في مجال التربية، ومنعًا للحسد والتباغض بين الإخوة، فقد "اتفق الباحثون على أن أشد العوامل إثارة للحسد في نفوس الأطفال، هو تفضيل أخ على أخ، أو أخت، أو العكس، والموازنة بين الواحد والآخر أمام عينيه، أو على مسمع منه" لهذا كان على الأب المسلم أن يتجنب أسباب التباغض، والتحاسد بين أولاده بإقامة العدل بينهم، وتوزيع محبته وحنانه عليهم، وإن كان ذلك صعباً في بعض الأحيان للغفلة أو النسيان، أو للميل الفطري إلى الابن الأصغر مثلاُ، أو إلى المطيع منهم، ولكن لابد للوالد أن يلاحظ ذلك من نفسه، وأن ينتبه له، فإن الأطفال يحسون ذلك ويعونه، ويدركون مظاهر التفريق في المعاملة، فإن لم يتدارك الوالد تحسين الوضع، ورد الأمور إلى نصابها في إقامة العدل بينهم، فإن الولد المظلوم ربما نهج السلوك العدواني مع إخوانه انتقاماً لنفسه، أو ربما أثر ذلك عليه وسبب له ضعفًا في التحكم في إفرازاته، إلى غير ذلك من مظاهر سوء التوافق النفسي الذي يمكن أن يصاب به الطفل المنبوذ.
9 - حاجة الطفل إلى الحب والرحمة(1/87)
يكاد يجمع التربويون على أن الحب والعطف والحنان من أهم دعائم وأساسات التربية، فإن الحب يتمثل في الحنو على الولد، وتقبيله واحتضانه، وإظهار محبته، والعطف عليه، والطفل وإن كان صغيراً ضعيف الإدراك قليل الفهم إلا أنه يعي البسمة الحانية، ويدرك الغضب، فلا يمكن أن يتعلم الطفل الرحمة والحنان والعطف إذا كان والده يقسوعليه ولا يرحمه فإن الآباء لا يمكن أن يربوا أولادهم بأسلوب الرهبة فقط؛ بل لابد من الحب الفياض الغامر المتدفق من قلوب الآباء إلى أبنائهم، وهم، بالتالي ينقلون هذا الحب إلى غيرهم:
وقد استفاضت السنة المطهرة بروايات عديدة تظهر أهمية هذا الجانب في التربية والتوجيه، فقد روى الحاكم في المستدرك بسند صحيح، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف حق كبيرنا)) وكان عليه الصلاة والسلام يظهر حبه للأولاد، ولا يخفيه، فيقول عن أسامة بن زيد والحسن: "اللهم إني أحبهما فأحبهما" وفي الحديث الصيحح الذي أخرجه الترمذي عن أبي هريرة أن الأقرع بن حابس رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقبل الحسن، فأخبر أن له عشرة من الولد لم يقبل أحداً منهم، فما كان من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يعلنها دستوراً للمربين عموماً فيقول:" إن من لا يرحم لا يرحم" فاعتبر تقبيل الصبيان من مظاهر الرحمة بهم، وقد كان يكثر من تقبيل الحسين حتى يقبله في فمه محبة ورحمة به، وكان يقول عليه الصلاة والسلام: ((ريحانتي حسن وحسين)) وقدم عليه مرة جماعة من الأعراب ينكرون تقبيل الصبيان، فقال لهم: "وأملك إن كان الله نزع منكم الرحمة" ويقول عنه أنس بن مالك: "ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويروى أنه عليه الصلاة والسلام كان يخرج لسانه للحسين يداعبه ويلاطفه رحمة به.(1/88)
فهذا الفعل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإظهاره للحب والحنان للأولاد والعطف عليهم أمام أصحابه وزواره يشير إشارة واضحة جلية أنه جانب مهم في التربية، ولا بد للأب المسلم أن ينتهجه مقتدياً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيفيض على أولاده من حبه وحنانه، ولا يبخل عليهم بذلك، خاصة وأن هذه القضية فطرية في قلوب الآباء، فليس في إظهارها تكلف؛ بل إن التكلف في كبتها وكتمانها، فإن نزعت هذه الرحمة الفطرية من قلب الأب فهو شقي منتكس الفطرة، ولا ينفع أن يكون أباً، ولا ينبغي أن يتولى تربية الأولاد فيحرفهم عن الجادة بقسوته وغلظته عليهم، فالطفل إن أحس ببغض والده له، بعدم إظهاره الحب والمودة، فإنه ينحرف قاصداً إزعاج والده وإتعاسه والانتقام منه، إذ إنه يعرف أن انحرافه يقلق والده ويزعجه.
ومن أعجب ما يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في رحمته بالأولاد الحديث الذي ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، عن أبي ليلى قال: "كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى صدره، أو بطنه الحسن أو الحسين عليهما السلام فبال فرأيت بوله أساريع (أي طرائق) فقمت إليه، فقال دعوا ابنى لا تفزعوه حتى يقضي بوله ثم أتبعه الماء" وفي رواية "لا تستعجلوه" فهذا نموذج تربوي فريد، وقدوة واقعية لمن أراد أن يتمثل المنهج التربوي الصحيح في مجال تربية الأولاد والصبر عليهم ومراعاة حالهم.
10 - أهمية الدعاء في صلاح الأطفال(1/89)
للدعاء واللجوء إلى الله - عز وجل - مفعول عظيم في إصلاح الأولاد، واستقامتهم على الدين، فالله - سبحانه وتعالى - هو مالك الملك، وأمور الخلق وأقدارهم بين يديه يصرفها كيف يشاء فإذا كان هو - سبحانه وتعالى - صاحب الشأن، وكان من الضروري، بل ومن اللازم الطلب منه ودعاؤه، والابتهال والالتجاء إليه رجاء صلاح الذرية واستقامتها، فإنه لا يوجد شيء في الدنيا أقر وأهنأ لعين المؤمن من صلاح أهله وولده. فالدعاء أكرم شيء على الله، وهو أشرف العبادات، بل هو العبادة نفسها، ومن المعروف أن دعوة الأب لولده مستجابة، فما أفضل وأحسن أن يستغل الوالد هذه المنزلة والكرامة من الله - عز وجل - بأن يدعو لذريته، ويرجو من الله صلاحها وهدايتها، فيقتدي في ذلك بالأنبياء الكرام عليهم جميعاً صلاة الله وسلامه، فقد كانوا أكثر الناس دعاء والتجاء إلى الله، وطلباً منه إصلاح أولادهم،، فقد سجل القرآن الكريم لبعضهم دعوات وتضرعات عظيمة. فهذا نبي الله إبراهيم - عليه السلام - يدعو الله - سبحانه وتعالى - أن يجنبه وذريته عبادة الأصنام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]، وبعد أن رزقه الله تعالى الذرية الصالحة يحمد الله على ذلك، ويؤكد أن الله سميع الدعاء فيقول كما حكى الله تعالى عنه: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء} [إبراهيم:39]، وهذا نبي الله زكريا - عليه السلام - يدعو طالباً الذرية الطيبة: {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء} [آل عمران:38]، وهكذا الأنبياء كلهم عليهم السلام يتضرعون إلى الله بالدعاء راغبين خائفين، كما قال الله تعالى عنهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا(1/90)
وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90]،
لذا لا ينبغي للوالد أبداً أن يهجر الدعاء، أو أن يقصر فيه، فإنه مأمور به كما قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60]، وقال أيضاً: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56]، وقال: {وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180].
وعلى الوالد أن يحذر كل الحذر من أن يدعو على أولاده بشر؛ فإن دعوته مستجابة -كما تقدم- فقد نقل عن عبد الله بن المبارك أن رجلاً جاءه يشكو إليه عقوق ولده فسأله إن كان دعا عليه أم لا؟ فأجاب بأنه قد دعا عليه، فقال له حينئذ: "أنت أفسدته" فعلى الوالد أن يحذر من ذلك ويستبدل الدعاء عليهم بالدعاء لهم، ولا بأس أن يجمعهم في بعض الأوقات فيدعو لهم؛ كما كان يفعل أنس بن مالك - رضي الله عنه - عند ختم القرآن الكريم.
11 - تدريب الطفل على تحمل المسؤولية
إن تدريب الطفل على تحمل المسئولية ومساعدته في ذلك أمر هام جداً خاصة إذا نجح الولد في تحمل بعضها، وأظهر براعة في ذلك، فإن هذا النجاح يدفعه إلى مزيد من الجهد، والثقة بالنفس، والاعتماد عليها.(1/91)
فالطفل في صغره خال من المسؤوليات صغيرها وكبيرها، فيتدرج في تحملها شيئاً فشيئاً بدءاً بتحمل أعباء خلع الملابس وارتدائها، إلى قضاء الحاجة، إلى الأدب في مجالس الكبار والصمت، إلى التحكم في العواطف والانفعالات، إلى أن يؤهل لتحمل المسؤولية الكبرى والأمانة العظمى التي كلف بها البشر كما قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72]، فهذه الأمانة لا يمكن أن يتحملها البالغ الراشد؛ إلا بعد أن يتدرب على تحمل المسؤوليات الصغرى، ويتدرج في تحملها من الأسهل إلى الصعب، لهذا كان دور الوالد هاماً في تدريب ولده على الثقة بنفسه، وتحمل الأعباء.
وللوالد في السلف الصالح القدوة في ذلك، فقد روى الإمام البخاري في صحيحه أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سأل بعض الصحابة عن آية في القرآن الكريم فلم يعرفوا الإجابة، وكان بينهم عبد الله بن عباس وهو صغيرالسن فقال: "في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، قال عمر: يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك" فأجابه. ويعلق على هذا الحديث ابن حجر، فيقول: "وفي الحديث قوة فهم ابن عباس، وقرب منزلته من عمر، وتقديمه له من صغره، وتحريض العالم تلميذه على القول بحضرة من هو أسن منه إذا عرف فيه الأهلية لما فيه من تنشيطه، وبسط نفسه، وترغيبه في العلم"، والشاهد هنا هو تشجيع الولد على الإقدام، وإعطاؤه الثقة في نفسه، وهذا كان واضحاً من فعله - رضي الله عنه - رغم وجود كبار الصحابة في مجلسه.(1/92)
والأب المسلم الواعي يحاول قدر المستطاع أن يعطي الفرصة لولده ليبرز قدراته لحل مشكلاته الصغيرة في عالم الطفولة، فلا ينبري دونه لحل كل ما يواجهه من المشكلات المختلفة، فإن شخصية الولد الصغير تنمو بشكل أفضل من خلال مواجهة الولد للصعوبات المختلفة وتغلبه عليها فيكون ذلك دافعاً إلى مزيد من الجهد والعطاء.وليس معنى هذا أن يترك الولد وشأنه في مواجهة جميع المشكلات، بل يساعد ويؤخذ بيده للوصول إلى أفضل حل للمشكلة، خاصة إن كان حلها صعباً عليه لصغر سنه، وقلة خبرته.
ويمكن للوالد أن يبدأ في تحميل ولده المسئوليات في وقت مبكر، خاصة عندما يظهر الولد الرغبة في ذلك، فيشجعه عليها، ولا يمنعه أو يثبطه لصغر سنه، فإنه لا توجد سن معينة يبدأ فيها بتحميل الطفل المسؤوليات.
ويمكن للأب أن يدرب ابنه بعد سن التمييز على تحمل المسؤولية من خلال تكليفه إدارة ما يملك من النقود، كأن يتولى شراء بعض الحلوى مثلاً من دكان قريب من المنزل، فيتعلم حسن إدارة ما يملك، فيتأهل لواقع الحياة الاقتصادي، إلى جانب أنه يحس بنشوة عظيمة حيث تولى هو بنفسه شراء ما يريد، فترتفع معنوياته وتزيد ثقته بنفسه.
أما الطفل الصغير دون التمييزفيمكن تدريبه على تحمل المسؤولية من خلال أمر الأم بإعطائه فرصة تولي الأكل بنفسه مثلاً، فإن كثيراً من الأولاد يحاولون أن يتولوا هذه المهمة بأنفسهم كالكبار، فإذا طلب الولد أن يتولى إطعام نفسه فلا بأس بإعطائه الفرصة في بعض الأحيان وتدريبه على ذلك مع أخذ الاحتياطات اللازمة لضمان عدم اتساخ ملابسه، والمكان من حوله، فإن الولد الذي يتدرب على الأكل بنفسه منذ صغر سنه؛يمكن الاعتماد عليه في ذلك بعد فترة قصيرة من الزمن، فيسبق أقرانه من الأولاد الذين لم تؤهلهم أسرهم لذلك، فتكون تلك ميزة له، وتفوقاً يعتز به على أقرانه.(1/93)
أما في مجال تحمل الولد أعباء أخطائه ليتدرب على تحمل مسؤولية ما يقوم به من أعمال ليؤهل للجزاء، فيستيقن أنه مجازى بما يعمل. فيمكن أن يبدأ معه من خلال تحميله مسؤولية تنظيف الموقع من السجادة الذي لطخه بالعصير أو الحلوى مثلاً، فيؤمر الولد بتنظيف ذلك المكان بكل جدية وحزم ويعطى الصابون والماء والليفة ليتولى ذلك بنفسه، فيتعلم أن أعماله التي يقوم بها هو المسؤول الأول عنها، فإذا قيل له مستقبلاً إنه مسؤول عن أعماله أمام الله، وأنه سوف يسأل عنها، سهل عليه اعتقاد ذلك والتيقن به، فإنه قد تدرب عليه من قبل في أمور سهلة بسيطة فكيف بالأمور العظام الجسام؟
كما يمكن تحميل الولد المميز أعباء خطئه فيشعر بالمسؤولية، ويحس بها من خلال تحميله مسؤولية تنظيف ألعابه وأدواته التي تركها في فناء المنزل فأصابها المطر، وأتلف بعضها، كما يتحمل تكاليف كسره زجاج النافذة بالكرة حيث أهمل ولم يلعب في المكان المخصص لذلك.
ويلاحظ الأب في تحميل الولد تبعات أخطائه أن يكلفه ويحمله الأخطاء التي ارتكبها عمداً، أو بتفريط منه، أما الأخطاء التي وقعت له بدون قصد، أو سابق إرادة، فإنه لا يعاقب على ذلك؛ بل يشرح له ويبين، ويؤمر بأخذ الاحتياط في المستقبل. كما يحاول الأب أن يثيب الولد بعد اعترافه بخطئه وتحمله تبعاته ونجاحه في ذلك، فيعطيه هدية، أو يظهر له الثناء على عمله، وأنه راض عنه؛ وذلك لئلا يشعر الولد بأن والده يكرهه، أو يحقد عليه؛ بل يتعلم أن خطأه هذا هو الذي جر عليه غضب والده، وأن تحمله أعباء خطئه وإصلاح ما أتلفه أعاد له رضا والده عنه مرة أخرى
12 - التأكيد على خلق الحياء في تربية الطفل(1/94)
جاءت السنة المطهرة بمدح الحياء، والتأكيد عليه، والثناء على أهله، فقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على رجل يعظ أخاه في الحياء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((دعه فإن الحياء من الإيمان)) ، وفي حديث آخر امتدحه عليه الصلاة والسلام، فقال: ((لكل دين خلق، وخلق الإسلام الحياء))، وهذا المدح دليل على أن الاتصاف بهذا الخلق أمر محبوب، ومندوب إليه، كما أن من تجرد من هذا الخلق ليس معه من الإنسانية إلا اللحم والدم وصورتهما الظاهرة، كما أنه "ليس معه من الخير شيء، ولولا هذا الخلق لم يُقر الضيف، ولم يُوف بالوعد، ولم تؤد أمانة.. ولا ستر له عورة، ولا امتنع عن فاحشة"، فالاتصاف بخلق الحياء يدعو صاحبه إلى التحلي بالفضائل، وترك الرذائل والقبائح، وذلك لما يشعر به الإنسان في نفسه من الاستحياء من الله، أو من الناس، وكراهة أن يشاهد في حال غير لائقة به. ويعرف الإمام الجنيد الحياء فيقول: "الحياء رؤية الآلاء، ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء، وحقيقته خلق يبعث على ترك القبائح، ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق"، فالذي يرى تقصيره في جنب الله عز وجل ويرى ويشاهد نعمه التي لا تحصى مع وجود هذا التقصير فإن الحياء يحصل هنا بسبب هذا النظر والتفكير، فيمنع صاحبه من مواقعة القبائح والرذائل استحياء من الله المنعم المتفضل.(1/95)
لهذا يستدل مسكويه على نجابة الصبي بكثرة حيائه وأدبه مع الكبار، وعدم التحديق في وجوههم بطرفه؛ بل تراه مطرقاً نظره إلى الأرض وينصح ابن الحاج الفاسي الأب أن يستغل هذه الفرصة الجيدة في طبع الولد، فيؤدبه مستعيناً على ذلك بكمال حيائه وتمييزه، وفي هذا يقول بعض الحكماء "الحياء في الصبي يدل على العقل"، وهذا الصنف من الصبيان ينفع معهم الكلام والذم عند الإساءة، فسرعان ما يخجلون ويقلعون عن الأمر القبيح، ويندمون على فعله. أما الصنف الآخر من الصبيان الذين جبلوا على الاستخفاف بالكرامة، وقلة الحياء والأدب، فإن تربيتهم تكون صعبة يحتاج معها المربي إلى التخويف والعقاب بالضرب وغيره عند الإساءة إذا تطلب الأمر.
وينبغي أن يفرق بين الخجل المذموم الذي يحجب صاحبه عن ملاقاة الناس والاختلاط بهم ومعاملتهم والمهابة منهم لغير سبب، وبين هذا الحياء المحمود الذي ذكر آنفاً، والذي كان من خلق المصطفى عليه الصلاة والسلام ومن طبعه وسجيته حيث كان "أشد حياء من العذراء في خدرها".(1/96)
ويمكن للأب أن يبدأ في تنمية جانب الحياء في ولده منذ الطفولة، حيث تظهر على الولد علامات الحياء منذ الشهر الرابع تقريباً، ويكون واضحاً في طبعه عند اكتمال السنة فإن أظهر الولد أدباً أمام الكبار، وحياء من التحدث بحضرتهم لغير حاجة أقره الوالد على ذلك وحثه عليه وكافأه أما إذا ظهر على الولد إحجام عن مجالسة الناس، وخوف منهم لغير سبب، وتهرب من مخالطتهم، فإن هذا السلوك يحتاج إلى علاج، وليس هو من الحياء المحمود؛ بل هو من الخجل المذموم، ويكون دور الأب في معالجة ذلك من خلال تدريبه على مخالطة الناس شيئاً فشيئاً دون جبر، وأن يتجنب في أول الأمر أن يكون الولد هو محور الحديث في المجلس فيزيد في خجله؛ بل ينبغي التغافل عنه بعض الشيء حتى يشعر بالأمان والاطمئنان، ويتعود وجود الناس، ويحاول الأب أن ينبه زواره وجلساءه أن لا يكثروا مع الولد الحديث فيسوقوه إلى مزيد من الخجل، ولا بأس أن يعطوه بعض الحلوى أو الهدايا البسيطة ليشعر بالأنس. ولو أحضر بعضهم ولده ليجالسه ويصادقه لكان ذلك حسناً.
وينبغي للأب أن يحاول عدم تدليل الولد أمام الناس، خاصة في طفولته المتأخرة، كأن يعانقه أمامهم، أو يناديه بأسماء الدلع المرخمة، فإن الولد يكره ذلك ولا يقبله، أما إن فعل ذلك في خلوة مع الولد، أو بحضور من لا يخجل منهم فلا بأس إن شاء الله.
والوالد يوطن ولده على التزام الأدب والحياء دائماً حتى عند الإساءة، فإن سابه أحد أقرانه، أو شتمه لم يرد عليه بالمثل؛ بل يشعره بأنه ولد مؤدب لا يمكن أن يتلفظ بمثل هذا، ويعمل الأب قدر الإمكان أن يجنب ولده مخالطة الصبيان غير المؤدبين، والذين يمكن أن تصدر منهم أعمال تدل على سوء الأدب، وقلة الحياء، فإن أهمل ذلك تأثر الولد بهم.
13 - تنفير الطفل من خلق البخل(1/97)
ذم الله - سبحانه وتعالى - البخل وتوعد عليه بالعذاب، وذلك لما فيه من خساسة في طبع صاحبه، وأنانية في نفسه، وعدم مبالاة بالمحتاجين وأصحاب الحقوق، فقال الله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:180]، ويقول أيضاً: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن:16].
كما جاءت السنة بمثل ما جاء به القرآن الكريم من ذم البخل والبخلاء، فقال عليه الصلاة والسلام: (( إياكم والشح فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا))، فنهاية الاسترسال في البخل وعدم إخراج الحق الذي عليه يسوق صاحبه إلى الفجور وغضب الله - سبحانه وتعالى -.
لهذا فإن محاربة الطبع القبيح منذ الطفولة أمر هام خشية أن يتأصل في نفس الطفل -إذا ظهرت علامته عنده- ويتشربه فيصعب تخلصه منه في الكبر، فالمحافظة على الطفل وحمايته من هذه الصفة واجب على الأب.
ومن الأسباب التي تسوق الطفل إلى اعتياد هذا الطبع القبيح: التعود على ادخاره لكل ما يملك دون أي إنفاق، فالطفل الذي لا يتعود العطاء والبذل منذ صغره يصعب عليه تعوده في كبره، ويمكن للوالد تعويد ولده الإنفاق عن طريق حثه للتبرع للجمعيات الخيرية، والهيئات الإسلامية - مثلاً- فتنمو عنده روح المسؤولية تجاه المجتمع، ويتدرب على الإنفاق فإن علاج أمراض القلوب - اياً كانت - إنما يكون بالمداومة على ضدها، فالبخل يعالج بضده من الإنفاق والبذل.(1/98)
كما يمكن للوالد إشراك ولده في الإنفاق في بعض مشتريات البيت واحتياجاته الصغيرة، فيتدرب على الإنفاق ويتعود البذل. ويحاول الأب أن يذم أمامه البخل والشح ويمقته؛ ليتكون عند الولد التصور النظري لقبح هذه العادة وأهلها والولد يمكن أن يتعلم الإنفاق عندما يشاهد والده في بعض الأوقات يخرج من جيبه نقوداً فيعطيها فقيراً أو محتاجاً، فربما قلد أباه في ذلك، ولا بأس أن يعطي الوالد ولده بعض النقود ويكلفه بالتصدق بها على بعض المحتاجين في المسجد مثلاً أو الجيران، ويحاول الأب في كل هذا أن يظهر لولده أن هذا الإنفاق وإعطاء المحتاجين من الناس واجب وليس فضلاً من المنفق، وذلك لحماية الولد من الشعور بالزهو والافتخار لإنفاقه، فإنه إن خرج من صفة البخل بإنفاقه وقع في صفة الكبر الذميمة بزهوه وافتخاره.
فإن ظهر من الولد شيء من علامات البخل وحب جمع المال، فإن دور الأب في ذلك التخفيف من حدة هذا الحب شيئاً فشيئاً حتى يستأصله بالكلية من نفسه، فيذم عنده البخلاء، ويمتدح عنده المنفقين، كما تقدم. ولو فعل ذلك بطريقة غير مباشرة كان أفضل، كأن يمدح أمامه أخاه الكبير الذي أخرج بعض نقوده تبرعاً للمجاهدين في سبيل الله، أو أن يذكر عنده ابن الجيزان الذي أعطى أحد الفقراء بعض مصروفه اليومي، أو يقص عليه قصة ولد أعطى إخوته بعض ألعابه وهكذا، فهذه القصص والوقائع إذا ذكرت أمامه دفعته لأن يسلك سبيلهم ويقتدى بهم. فإن أظهر الولد شيئاً من الكرم- ولو كان يسيراً- فإن الوالد يثيبه عليه، ويمدحه عند أقاربه وأقرانه، فيحس الولد أن هذا العمل حسن، فيتعوده ويواظب عليه.
ولتشجيع الأولاد على أعمال الخير والإنفاق يمكن للأب في بعض الأحيان عندما يجلس لأولاده ويحدثهم أن يسألهم: "من تصدق منكم اليوم على مسكين"؟ ربما في المرة الأولى لن يجيبه أحد منهم، ولكن عندما يعلمون أن أباهم سوف يسألهم ثانية فإنهم عند ذلك يسارعون للإنفاق والبذل والعطاء.(1/99)
والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد ثبت عنه انتهاج هذا الأسلوب مع أصحابه الكرام فقد سألهم يوماً فقال: "من أصبح منكم اليوم صائماً؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكيناًَ؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة"، ويمكن للوالد استعمال هذا الأسلوب مع أولاده ليس فقط في جانب الإنفاق والتخلص من البخل، بل في جميع أعمال الخير والبر التي نص الرسول - صلى الله عليه وسلم - عليها في هذا الحديث وغيرها ليعودهم فعل الخير.
ويلاحظ الوالد في حث أولاده على الإنفاق أن لا يدفعهم ذلك إلى التبذير الممقوت والمنهي عنه، فقد قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء:27]، فكلا الطرفين قبيح؛ بل يؤديه بأدب القرآن الكريم في قول الله - عز وجل -: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان:67].
ولا يقتصر تعويد الأب ولده على الإنفاق أن يكون فقط على الفقراء والمحتاجين؛ بل يعوده السخاء في جميع أحواله كأن ينفق على نفسه بشراء ما يحبه من الحلوى مثلاً، ولا يقتصر على ما يؤمنه الأب منها، كما يشمل إعطاء الإخوة والأخوات مما يملك من النقود أو الألعاب والحلوى وغيرها، فتعويد الولد السخاء في هذا يهذب نفسه ويحصل له الاعتدال، فلا يكون أنانياً لا يفكر إلا في ملذاته ونفسه، ولا يكون أيضاً مهملاً لذاته غافلاً عنها.(1/100)
كما يعمل الأب قدر الإمكان على تركيز جانب الإخلاص لله في تعويد أولاده على الإنفاق، فيذكرهم دائماً بأن العمل يجب أن يكون لله خالصاً، حتى وإن طلب منهم أن يخبروه عن أعمال الخير التي عملوها؛ إذ إن ذلك لطلب التنافس بينهم وليس للرياء فإذا تعود الولد فعل الخيرات، وعلم بعد ذلك أن أفضلها ما كان في الخفاء بعيداً عن أعين الناس، اجتهد في سترها وإخفائها، فيورثه ذلك حلاوة، ولذة إيمانية يجدها في قلبه، وتظهر على سلوكه إذ إن فعل العمل الصالح أو اقتراف السيئ لا بد أن تظهر معالمه على صاحبه، فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائناً ما كان)).
14 - تهذيب حب التملك عند الطفل
زين الله في نفوس البشر حب الملذات من مختلف الطيبات، فقال - سبحانه وتعالى - مبيناً ذلك: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران:14]، فهذه الشهوات زينت في النفوس، ولا مجال لانتزاعها، وليس صحيحاً ما يقال بأن حب الامتلاك ليس غريزياً، بل هو مما تحدثه البيئة في نفس الفرد، فالآية واضحة في رد هذا الزعم، ولا يعني هذا إغفال دور البيئة في تقوية حب التملك وتنميته، أو تضعيفه وتخفيف حدته, ولكنها ليست الموجد الأصلي لهذا الميل والحب عند الإنسان.
وهذا الميل الفطري في نفس الإنسان يمكن أن يكون خطيراً إذا لم يحد بحدود، ويقيد بقيود, فلربما تمنى الإنسان ملك كل شيء، وانطلق في ذلك يبتلع من كل صوب حقاً وباطلاً دون ما عقل أو روية.(1/101)
ولهذا المعنى يشير عليه الصلاة والسلام محذراً من الاسترسال وراء هذه الرغبة النفسية الجامحة, فيقول: ((لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً, ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب))، فهذا الاندفاع وراء إشباعه هذه الشهوة لن يتحقق فيشعر صاحبه بالغنى, حتى يصل إلى قبره فيمتلئ جوفه بالتراب. ولهذا يقول عليه الصلاة والسلام واصفاً حقيقة الغنى: ((ليس الغنى عن كثرة العرض؛ ولكن الغنى غنى النفس)), وذلك لأن المندفع وراء حب التملك بدون عقل ولا روية, لن يشعر بالغنى والاكتفاء, بل يطلب المزيد بلا حدود فهو في حقيقة الأمر فقير مع كثرة ما يملك. أما من رضي بما قسمه الله له عاملاً وآخذاً بأسباب الرزق في غير تكلف وحرص,فإن قلبه يمتلئ بالغنى والاطمئنان لما كتب له وما رزق. أما الآخر فلن يشعر بذلك, ولو ملك كنوز الدنيا,لأن الشعور بالفقر قد تأصل في نفسه, وصعب تخلصه منه بعد ذلك, لهذا كان تأصيل الوالد لمفهوم الملكية وحدودها في نفس ولده منذ الطفولة أمراً في غاية الأهمية, فكما هو يعلمه ويدربه على الإنفاق, ويُكرِّه إليه البخل والشح بما عنده, كذلك يقنعه ويعرفه بحدود ملكيته, ويؤدبه على احترام ملكيات غيره.
فالولد الصغير في بداية نشأته، خاصة دون سن السادسة لا يميز بين ما هو له وما هو لغيره، فتراه يندفع يطلب كل ما ترغب فيه نفسه، فيأخذ لعبة هذا، ويطالب بثوب أحد إخوته زاعماً أنه ثوبه، وربما وجد قطعة نقدية على الأرض فأخذها ونسبها لنفسه، فلا يستطيع الولد بدون التوجيه والتربية الصحيحة أن يعرف كيف يضبط ميوله ورغباته الجامحة.(1/102)
والأب يبدأ مع ولده في تأصيل مبدأ تحديد الملكيات من خلال تحديد ملكيات الولد أولاً؛ ليعرف ما له من أشياء، وما لغيره من ممتلكات فيحترمها ولا يتعدى عليها، فيُعرِّف الأب ولده ما يخصه من حاجيات كالملابس والألعاب وغيرهما من خصوصياته، ويحاول أن يفهمه أن هذا له يتصرف فيه كيف يشاء. ويفضل أن تكون تلك الممتلكات في حجرة خاصة به دون غيره، أو في خزانة تخصه وحده. وبهذه الخطوة يكون الأب قد حدد للولد وأفهمه حدود ملكياته الخاصة، ويكون الولد نفسه قد فهم ذلك، حيث قد وضعت أدواته وما يخصه في مكان يعرفه ويمكنه التصرف فيها كما يحب. فإن حدث أن تعدى أحد إخوته على ممتلكاته، وحاول أن يأخذ منها شيئاً، فبرز له الولد ومنعه فإنه بذلك يكون قد علم فعلاً حدود ممتلكاته وحاجاته الخاصة، وأنه ليس لأحد أن يأخذ منها إلا بإذنه وموافقته، فإن حاول هو نفسه أن يتعدى على خصوصيات أحد إخوته فمنع، فإن ذلك يكون بمثابة درس عملي يعرف به الولد حدود ممتلكاته، ويعلم أنه ليس له حق في ممتلكات غيره، كما أنه ليس لغيره حق في خصوصياته وما يملك، ويحاول الأب قدر المستطاع أن لا تكون ألعاب الأطفال مشاعة بينهم دون تحديد أصحابها، لئلا يفقد الطفل معرفة ما له وما ليس له.
ويمكن للوالد أن يشبع رغبة ولده في حب التملك بأن يعطيه بعض النقود، أو المصروف اليومي ويوجهه إلى أفضل السبل للإنفاق، ويتركه يشتري بعض ما يحب من ألعاب، أو حلوى، أو غير ذلك ليحس الولد بأن له ممتلكاته الخاصة، ولديه القدرة على التصرف فيها، فإذا رأى ممتلكات غيره من الأطفال لم يعبأ بها، ولم يكترث لها، وعلم أنها لا تخصه، وليس له فيها حق.
ولا بأس أن يعطى الولد فرصة للادخار، وجمع بعض المال، ولكن يفهم ويفرق له بين الادخار المحمود، والشح المذموم، ثم يسمح له باستغلال بعض ما جمع في شراء ممتلكات جديدة، فيشبع بذلك رغبته في حب التملك.
15 - مسلك الكذب عند الطفل وسبل التخلص منه(1/103)
يعتبر الكذب من السلوكيات القبيحة التي كثيراً ما يتصف بها الأطفال، حيث يتعلمون ذلك من البيئة حولهم، فيحصلون على بعض الفوائد من وراء الكذب، إما على الوالدين، أو الإخوة، أو الأقارب، أو غيرهم.
والكذب من الأخلاق المذمومة في الإسلام حيث قال الله تعالى مادحاً عباده الأتقياء بأنهم يتجنبون الكذب: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان:72]، والزور هو الكذب كما فسره ابن جريج رحمه الله، وفي الحديث الذي رواه الحاكم في المستدرك قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار)).
ولما كان الكذب من الأخلاق المذمومة، فإن اهتمام الأب المسلم بتخليص ولده من شره يعتبر أمراً هاماً جداً، خاصة وأنه يتنافى مع طبيعة المؤمن، وأساس تكوينه، فلا يمكن أن يتصف المؤمن الحق بخلق الكذب والخيانة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب))، فالإنسان في أساس فطرته وتكوينه مفطور على الخير وحب الحق فلا يكون خائناً ولا كذاباً، وإنما يتصف بهذه الصفات المذمومة عن طريق الاكتساب من البيئة حوله، ومن مؤثرات الشهوات والأهواء وغيرها.
والأب المسلم يعود ولده الصدق من أول حياته، ويجنبه الكذب في جميع الأحوال فإن "الصدق أساس الحسنات وجماعها، والكذب أساس السيئات ونظامها"، فلو تعود الولد الصدق كان له أساساً لباقي الحسنات والأعمال الصالحة، وأعظمها الإخلاص لله تعالى، ولو تعود الكذب كان له أساساً وقاعدة لجميع السيئات والقبائح، وعلى رأسها النفاق الذي يقوم على الكذب والخيانة.(1/104)
ويلجأ الولد إلى الكذب لأسباب تسوقه إلى ذلك، فالولد الذي لم تشبع غريزته من امتلاك الألعاب والأدوات، ولم تتمكن أسرته من تحقيق الإشباع لهذا الجانب في نفسه، فإنه يلجأ إلى الكذب، وادعاء ما ليس له، ليشبع رغبته وميله هذا. ولا شك أن هذه القضية مهمة، خاصة في العائلة الفقيرة التي لا تستطيع أن تحقق لأولادها جميع متطلباتهم، وربما يكون أمثل حل لهذه المشكلة -حفاظاً على الولد من اللجوء إلى الكذب- هو قيام الأب حسب استطاعته بتأمين بعض احتياجات الأولاد - خاصة من الألعاب - الصغيرة والقليلة التكلفة، مع الجودة في الصناعة والمتانة، بحيث يمكن أن يحتفظ بها الولد أطول مدة ممكنة، فيوزع هذه الألعاب والاحتياجات على الأولاد، مخصصاً لكل ولد منهم لعبة أو حاجة تخصه دون غيره، فيكون بذلك قد أشبع شيئاً من هذه الرغبة في نفوس أولاده دون أن تضر بميزانية الأسرة أو ترهقها، ويراعي قبل هذا الإجراء وبعده أن يركز في أولاده مفاهيم القضاء والقدر، وأن ما خصهم الله به من الفقر وقلة ذات اليد هو خير لهم، ورفع لمنزلتهم في الآخرة، مستعيناً في ذلك بما جاء في القرآن الكريم والسنة المطهرة من الأقوال المباركة المطمئنة للنفس في هذا الجانب.
وهناك نوع آخر من الكذب يستخدمه الأطفال بهدف حب الظهور بين الأقران. وهذا الكذب مذموم أيضاً، ودور الوالد هنا هو أن يواجه ولده بالحقيقة - إن أحس وشعر بأن ولده يفعل هذا - وأن هذا السلوك من الكذب، والادعاء غير الصحيح، ثم يحاول بعد ذلك أن يلفته إلى الصفات الحسنة في نفسه والتي ربما خفيت عليه، ويلفته إلى ما لديه من ممتلكات وألعاب وغير ذلك، ويشعره بأنه لا داعي للكذب، ويلزمه إن أراد أن يقص على أصدقائه ويخبرهم بما عنده أن يخبرهم بالحقيقة دون كذب، وإن ترك إخبارهم بذلك كان أفضل وأحسن؛ ليتعلم الإخلاص والبعد عن الرياء والسمعة.(1/105)
ونوع آخر من الكذب يستخدمه الولد ليحمي نفسه من العقاب فإن أخبر والده بالحقيقة ربما عاقبه وعنفه، فإن حدث أن كسر الولد زجاج النافذة حاول أن يخفي آثار فعلته، ويبتعد عن المكان، فإن سئل عن الفاعل نفى التهمة عن نفسه خشية أن يعاقب.
هذا النوع من الكذب والغش لا يفعله الولد إلا إذا علم أن العقاب الذي ينتظره أليم وعنيف، وأنه إذا قال الحقيقة لن ينجو، بل ربما كان الكذب أقرب إلى النجاة، لهذا فإن الولد يكذب، ولو أن الأب الفطن حاول أن يعلم أولاده أن الصدق نجاة لهم من العقاب، فإن الأولاد يسارعون إلى الصدق ويتعودونه إذا أيقنوا أنه سوف ينجيهم من العقاب.
وعلى الأب أن يوطن نفسه على أن يلتزم بما وعد به الأولاد، فلا يعاقبهم إن صدقوا القول واعترفوا بالخطأ - مهما كان الجرم كبيراً - بل يبين لهم أن ذلك خطأ لا يحبه الله ولا الوالدان، وأنهم بصدقهم قد نجوا من العقاب، ويحذرهم من العودة لمثل هذا الخطأ مرة أخرى.
وإن رأى الأب أنه لا بد من العقاب مراعياً في ذلك التوسط والحكمة، فإنه يشعر الأولاد بأن العقوبة هي - مثلاً - خصم نصف المصروف اليومي لمدة أسبوع لمن كسر زجاج النافذة، والتعهد بعدم العودة، فإن اعترف أحدهم بذلك طبق العقوبة عليه دون زيادة ولو سامحه لسرعة اعترافه وتأسفه وندمه كان ذلك حسناً. وبذلك يؤصل الوالد في نفس أولاده حب الصدق، وذم الكذب، وأن الصدق منجاة، وأن الكذب مهلكة ولا فائدة من ورائه.
ولا ينبغي للأب أن يسهل لولده الإفلات بكذبه دون أن يشعر بذلك، ويفهمه أنه قد كذب، وأن والده علم بذلك؛ وهذا لأن نجاة الولد بالكذب يشجعه على المزيد منه، ويحمسه على تعاطيه.(1/106)
ويحاول الأب أن يتجنب قدر الإمكان أسلوب الاتهام بمجرد الشك، فلا ينسب إلى الولد عملاً يشك في أنه قد اقترفه، حتى يتيقن بأنه هو الفاعل؛ لأن اتهام الولد مع إمكانية براءته، ولو بنسبة بسيطة يؤدي إلى إحساس الولد بالظلم والجور، وعدم الثقة في والده؛ بل ربما دفعه ذلك إلى الكذب ليتخلص من العقوبة الظالمة. فلو حدث أن عاد الأب إلى البيت فوجد صنبور الماء مفتوحاً، أو علبة دهان الجدار ملقاة، وقد سال منها الدهان في فناء الحديقة، ولم يكن في البيت سوى الولد، فإنه لا ينبغي اتهام الولد باقتراف هذه الأعمال، خاصة إن سئل عنها وأفاد بأنه لم يعملها، فربما أن الخادمة قبل خروجها نسيت إغلاق الصنبور، وربما أن قطة مرت على علبة الدهان فعبثت بها وأسقطتها فسال الدهان، والاحتمالات في هذا كثيرة، والمقصود هو أن لا يتهم الولد بمجرد الشك دون دليل قطعي لا يحتمل التأويل.
وإن صدر عن الولد كذب في مواقف مختلفة، وكاد أن يصبح الكذب له عادة، فإن "علاج هذا المرض أن يعلم عقوبة الله للكاذب، وأن يتيقن أنه مع استدامته الكذب لا بد أن يطلع على حاله … فيربو حياؤه وخجله، واحتقار الناس له، وتكذيبهم إياه في الصدق، وقلة ثقتهم به على ما اكتذبه". فإن علم الولد ذلك وتيقن به خاف من الله وهاب احتقار الناس له، وتكذيبهم له حتى وإن صدق، ويحاول الأب أن يطبق ذلك مع ولده عملياً، فإن أخبره بشيء لم يصدقه وإن كان صادقاً، بل يخبره أنه تعود منه الكذب، وربما أنه في هذه المرة قد كذب أيضاً. فيحس الولد ويعاني ألم هذا الصد، فيتجنب الكذب، ويجاهد نفسه في ذلك. ويساعده الأب ويشجعه ويكافئه إن نجح والتزم الصدق، ويحذر الوالد كل الحذر من المعاقبة العاجلة بالضرب والتعنيف، فإن هذه الطريقة غير مجدية؛ بل ربما زادت الولد مكراً وكذباً؛ فيتعلم النفاق ويتظاهر لوالده بالمظهر الذي يريده الأب، دون أن يكون الولد نفسه مقتنعاً بهذا المظهر.(1/107)
والأب يراعي في مسألة كذب الأطفال قضية مهمة جداً، وهي: أن الطفل لا يدرك الكذب إلا بعد الخامسة من العمر، ويسيطر على الطفل قبل بلوغ السنوات الثلاث خيال واسع، فيكون كذبه في هذه الفترة غير مقصود أو متعمَّد، وهذا النوع من الكذب يسمى "الكذب التخيلي"، ولا خطر فيه، بل يمكن استغلال خصوبة خيال الطفل في هذه الفترة بتوجيهه نحو الروايات الخيالية المفيدة لإشباع هذه الرغبة عنده، كما أن الطفل الصغير في بعض الأحيان لا يفرق بين الخيال والواقع، فربما رأى مناماً، أو سمع قصة خيالية فظنها حقيقة واقعية حدثت فعلاً. وهذا النوع من الكذب يسمى "الكذب الالتباسي"، ويزول مع نمو الطفل وكبر سنه.
وهذان النوعان من الكذب لا ينبغي معاقبة الولد عليهما، خاصة الأولاد دون سن الخامسة فهم لا يدركون الحقيقة، ولا يقصدون الكذب، ولا بأس على الأب أن يوضح للولد - إن صدر منه شيء من هذا الكذب - أن هذا من الخيال، أو أن هذه القصة أو الرواية غير صحيحة، بل هي خرافية وهكذا، فإن كبر الولد وزادت خبرته انتهى عن هذه العادة بطبيعته.(1/108)
وكما أشير من قبل أن خلق الكذب يكتسب من البيئة، وأن الطفل لا يولد كذاباً فإن أول طريق وأعظم طريق يتعلم الولد ويكتسب من خلاله الكذب ويعتاده: هو عن طريق الوالدين والإخوة، وكل من يحتك به ويعايشه يومياً، فالوالد الذي لا يفي بوعوده للولد ولا ينجزها له يتعلم الولد منه الكذب ويقتدي به في ذلك؛ لهذا حذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من هذا فقال: ((إن الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ولا أن يعد الرجل ابنه ثم لا ينجز له))، وذلك لأن الولد يعتاد الكذب ويقتدي بوالده في ذلك. وأعجب من هذا أن يصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - التمويه للطفل بأي شيء لاجتذابه دون أن يُعطى من الكذب حيث قال: ((من قال لصبي تعال هاك ثم لم يعطه فهي كذبة))، وهكذا تعاليم الشريعة العظيمة تحتاط من الكذب حتى على الصبي الصغير الذي لا يعقل، وما ذاك إلا لاستئصال هذه الصفة القبيحة، وعدم تعويد الطفل عليها، فإن حدث أن اضطر الوالد إلى عدم الوفاء للولد بوعد ما سارع إلى توضيح القضية له والمبررات، وذلك لئلا يقع في نفسه أن والده يكذب عليه.
ومن الكذب التمويهي الذي يعمله بعض الآباء وله أثر سيئ على الولد يظهر أحيانًا عندما يتظاهر الوالد بمعاقبة أحد الأولاد لأنه ضرب أخاه الصغير، فيمثل الأب أنه يضربه وهو في الحقيقة لا يضربه، فهذا السلوك الخاطئ من الأب يعلم الولد المشتكي الكذب والغش، إذ إنه يعلم أن والده يكذب عليه، إلى جانب أن الولد المُعاقب هو أيضًا يتعلم مشروعية الكذب بهذه الطريقة، وبهذا الأسلوب الخادع.
ويراعي الأب مع الولد الكبير أن لا يُكذِّبه فيما يروي له بل يصدقه، فإن تيقن من كذب رواية ما واجهه بذلك في غير اتهام قائلًا: "هل أنت متأكد من هذه القصة يا بني؟ فإن الله يراك ويسمعك"، وبهذه الطريقة يعلق الأب الولد بجانب العقيدة والغيب، فيعلم أن هناك رقيبًا عليه يحصي كذبه وصدقه، فيكون ذلك مدعاة له لالتزام الصدق وتجنب الكذب.(1/109)
16 - قبيحة السرقة عند الطفل وحمايته منها
تعد السرقة من الأعمال القبيحة التي نهى الشارع الحكيم عنها، وتوعد أصحابها بالعقاب الشديد في الدنيا بقطع الأيدي، أما الآخرة فعذابها أشد وأعظم، قال - سبحانه وتعالى -: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38]، وذلك لأن في السرقة إضراراً بالآخرين، وامتلاكاً لمتاع الناس بغير حق، إلى جانب ترويع الناس وإضاعة الأمن.
ولما كان الأمر كذلك فإن تربية الولد وتركيز مبدأ الخشية من الله في نفسه، واحترام حقوق الآخرين وممتلكاتهم وعدم السطو عليها يعتبر أمراً في غاية الأهمية، فإن الذي يتعود السرقة صغيراً ربما اقترفها كبيراً، لهذا وجب على الأب أن يتولى تدريب ولده منذ نعومة أظفاره على احترام خصوصيات إخوته واقربائه والجيران متخذا في ذلك الأساليب التربوية المختلفة في إفهام الولد حدود ملكيته وأن الأغراض والألعاب الموجودة في غير غرفته، أو الموجودة في غير خزنته لا تخصه ولا يجوز له أخذها إلا بإذن صاحبها ورضاه، فيدرب الأولاد على أن يستأذنوا من بعضهم البعض عند رغبة أحدهم في الاطلاع على قصة أخيه، أو اللهو بدراجته، أو أخذ شيء من خصوصياته وألعابه. فإن أخطأ أحدهم فلم يستأذن نبهه وأرشده، وأمره بالاعتذار وعدم العودة.
والسرقة عند الأطفال الصغار تعد من أكثر مظاهر الانحراف حدوثاً خاصة عند الأطفال دون السادسة من العمر، فهم لا يعرفون الأشياء التي تخصهم دون الأشياء التي لا تخصهم كما أن الطفل لا يدرك شناعة ما أقدم عليه من السرقة وقبح فعلته إلا بعد العاشرة.(1/110)
وتعتبر معرفة الأب لأسباب السرقة عند الأولاد ودوافعها أمراً هاماً إذ أنه بمعرفته لهذه الأسباب يمكنه أن يضع الحلول المناسبة الكفيلة لحماية الولد من الوقوع في هذا السلوك المنحرف، ومن أهم أسباب السرقة عند الأطفال رغبتهم في إشباع شهوة البطن بأكل الحلوى، فحب الحلوى عند الأطفال كثيراً ما يدفعهم إلى السرقة سواء كانت سرقة الحلوى ذاتها، أو سرقة النقود التي تمكنهم من شرائها والحل لهذه المشكلة عند الأولاد هو توفير ما يرغبون فيه من الحلوى، والمأكولات الشهية، ليزهدوا فيما عند غيرهم، على أن يراعى الأب في ذلك الحكمة في الإنفاق وعدم الإسراف في المأكل والمشرب؛ وتعويد الأولاد كثرة الأكل، خاصة من السكريات والنشويات التي تورث السمنة والبدانة المذمومة، ويراعى الأب إذا حدث أن أخذ الولد شيئاً من الحلوى أو غير ذلك بغير إذن صاحبها أن يعظه وينبهه ولا يشتد عليه، خاصة إن كان قبل سن العاشرة، إذ إنه - كما أشير من قبل - لا يدرك قبح فعلته؛ بل على الأب أن يعمل بالحكمة، ويتخذ من منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأسلوبه في هذا المجال قدوة، فقد روى الإمام أحمد في المسند أن غلاماً كان يرمي النخل ويأكل منها، فشكوه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن ذلك فاعترف أنه يأكل منها، فما كان منه عليه الصلاة والسلام إلا أن مسح رأسه ودعا له، ونهاه أن يعود لذلك، وأمره أن يأكل مما يسقط من النخل دون أن يرمي، ففي هذه الرواية يجمع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين العاطفة على الولد والحنو عليه فيمسح رأسه، وبين الأمر بترك هذا السلوك القبيح دون زجر شديد أو تقبيح، رغم أن أناساً شكوه عليه، إذ كان المتوقع أن تصدر عقوبة بحقه، أو بحق وليه، وغرامة على ما أتلف من النخل، لكنها الرحمة النبوية التي عمت الكبير والصغير، والقدوة الصالحة الحسنة في منهج تربية الولد في الإسلام.(1/111)
ومن أسباب تعاطي الولد السرقة أيضاً: تكليفه الكسب والتجارة، وإلزامه بدخل معين رغم صغر سنه وقلة عقله وخبرته، فقد نهى عن ذلك الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - حيث قال: "لاتكلفوا الصغير الكسب، فإنه إذا لم يجد سرق ".
فالوالد الفقير المحتاج إلى الاستفادة من طاقة ولده في طلب الكسب عليه أن يراعى عدم إلزام الولد بمدخول معين، ولا يشترط عليه تحصيل مبلغ معين يومياً؛ بل يلتزم بحسن التوكل على الله، وأنه هو الرزاق ذو القوة المتين، فإن لم يفعل ذلك ربما ساق ولده إلى الانحراف ليرضيه إما بالسرقة أو الغش، أو غير ذلك من السلوكيات المنحرفة.
وسرقة الأطفال من الجيران كثيراً ما تحدث، وربما سببت قطيعة أو خصاماً وشجاراً بين أولياء الأمور. فإن ثبت لدى الأب أن ولده أخذ شيئاً من ممتلكات الجيران، أو من أطفالهم فإن أفضل حل لهذه القضية لتستأصل من أصلها هو إلزام الولد بإرجاع ما أخذ بنفسه، والإلحاح عليه في ذلك؛ لأنه سوف يستفيد ويتعلم من هذا الدرس الصعب فلا يعود لمثله فإن خشي الأب بطش جاره، أو توقع سوء مقابلته لولده عند إرجاع ما أخذه منهم فيستحسن أن يتفاهم مع الجار أولاً، معتذراً عما بدر من ولده، ومخبراً أنه سوف يأتيه معتذراً، فلا يزجره ولا يشتد عليه، بل يحسن مقابلته ويثنى عليه حسن اعتذاره، وإصلاحه لسوء فعلته. وهذا يعد درساً عملياً جيداً للولد وتهذيباً لنفسه فلا يعود إلى السرقة بعد ذلك.(1/112)
ومن أسباب سرقة الأطفال أيضاً: قلة ذات اليد، فالطفل الفقير الذي لا تؤمن له حاجته ومتطلبات طفولته كثيراً ما يلجأ إلى السرقة ليشبع هذه الرغبة في نفسه. ودور الوالد في هذا الجانب هو تركيز قضية القضاء والقدر وأن يصبِّر ولده وأهل بيته مبيناً فضائل الفقر، وأن لهم بذلك عند الله خيراً وأجراً عظيماً، فيذكرهم بقوله عليه الصلاة والسلام: ((يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم وهو خمسمائة عام)) كما يبين لهم أن حياة الفقر وشظف العيش عاشها عليه الصلاة والسلام، ورضي بها رغم قدرته على أن يملك الدنيا، ولكنه قنع بالقليل لعلمه بأنه أفضل وأحسن، فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما واصفاً طبيعة حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكيف كانت عيشته مع أهله، فقال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبيت الليالي المتتابعة طاوياً وأهله لا يجدون عشاء وكان أكثر خبزهم خبز الشعير)) بهذا التذكير الدائم للأولاد ينمو عندهم حسن التوكل على الله، والرضى بما قسمه وقدره، فلا يلجأون إلى السرقة لإشباع رغباتهم وحاجاتهم.
أما الأسرة التي منحت سعة من الرزق ولها مدخول جيد. فإن تخصيص مصروف يومي للولد يتناسب مع مدخول الأسرة يعتبر إجراء جيداً خاصة إذا كان الولد عارفاً بالقطع النقدية؛ إذ يفضل أن يعطى الولد بعض النقود يومياً ليصرف منها، فتغنيه عن الانحراف والسرقة المتوقعة من الأطفال الذين لا يملكون ذلك المصروف اليومي.(1/113)
ويضاف إلى أسباب السرقة ودوافعها عند الأطفال قضية قلة حب الوالدين للطفل وعطفهما عليه؛ إذ أن الطفل الذي لا يحصل على هذا العطف والحب من أهله فإنه ربما لجأ إلى تعويض هذا النقص بالحصول على أكبر قدر ممكن من الممتلكات فتراه يأخذ ألعاب إخوته، وربما أخذ بعض حاجات أطفال الجيران، وينسب كل هذا لنفسه وأنها أغراضه، ولحماية الطفل من هذا الانحراف يعمل الأب جاهداً على إبراز عواطفه الأبوية تجاه الأولاد. ويشعرهم بذلك وأنه يحبهم ويكون ذلك من خلال ملاطفتهم وعناقهم وتقديم الهدايا لهم، والجلوس معهم، والتحدث إليهم في أوقات مختلفة، وعدم تعنيفهم وزجرهم وضربهم إلا عند الضرورة وتجنب التقبيح والسخرية منهم واستنقاصهم في جميع الأوقات فإن هذه المعاملة العنيفة بعيدة كل البعد عن منهج التربية الإسلامية.
17 - خلق الغضب عند الطفل ومساعدته في تهذيبه
يتصف الإنسان بطبيعته البشرية الضعيفة بصفة الغضب في بعض الأحيان، فكما أنه يتصف بالحياء وبالخوف وغيرهما من الصفات والأحوال، فكذلك يتصف بالغضب، فتظهر علامات الغضب على صاحبه من ارتفاع في الصوت، وحمرة في العينين والوجه، وانتفاخ للأوداج.
والغضب كغيره من الأحوال لا يذم كله، ولا يحمد كله، فلو أعيق الغضب بالكلية ما استطاع الإنسان أن يدافع عن نفسه، ولا عن شرفه، ولا عن وطنه فهو في بعض الأحيان يكون محموداً خاصة عند انتهاك حرمات الله، وظهور المعاصي والمنكرات فإن الغضب لله محمود وغير ممقوت في هذه المواطن.
أما الغضب الممقوت المذموم هو الذي يكون لغير الله، أي لحظ النفس والهوى، فهذا النوع هو الذي جاء القرآن الكريم والسنة المطهرة بالنهي عنه، والأمر بكظمه وعدم إظهاره، قال الله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]، فعدم إظهار الغضب والغيظ في غير رضى الله وسبيله أمر مندوب إليه ومستحب يتصف به المحسنون.(1/114)
وقد استفاضت السنة المطهرة بتوضيح هذا النوع من الغضب المذموم فقد روى الإمام أحمد في المسند من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ألا إن الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم، ألا ترون إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه؟ فإذا وجد أحدكم شيئاً من ذلك فالأرض الأرض. ألا إن خير الرجال من كان بطيء الغضب، سريع الرضا وشر الرجال من كان سريع الغضب بطيء الرضا))، ففي الحديث إشارة إلى تحول منظر الغضبان من الحسن إلى القبح، إلى جانب تلك الحرارة التي يصفها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجمرة تشتعل في داخل الإنسان، فتظهر حرارتها على بدنه من حمرة في العينين، وانتفاخ الأوداج، كما أن في الحديث مدحاً للحكماء قليلي الغضب، سريعي الرضا، من الذين لا يُثارون لأقل سبب دون أن يكون لذلك حاجة شرعية أو دينية، ومصلحة راجحة متوقعة.
والرجال الكبار الذين لا يملكون أنفسهم عندما يثارون هم في حقيقة الأمر لم يحصلوا على تدريب عملي صحيح لضبط انفعالاتهم في صغرهم، فإن الولد الذي يتعود منذ صغر سنه على ضبط نفسه وانفعالاته مثل ما يتعلم ضبط إفرازاته، فإنه يمكن أن يستخدم أسلوب الضبط هذا في جميع مراحل حياته في المستقبل.
والغضب موجود عند الأطفال يبدأ منذ الستة أشهر تقريباً، والأطفال الذكور خاصة أكثر ميلاً إلى الغضب من الإناث حيث يعتبر الغضب عاملاً جيداً لتحقيق الرغبات وتأكيد الذات.(1/115)
والغضب يظهر على الأطفال بصور مختلفة ومتنوعة حسب السن، فالطفل في الثالثة مثلاً يظهر غضبه أحياناً بكثرة البكاء، والضرب على الأرض بالأقدام، وربما قذف أغراضه.. أما الطفل في التاسعة فيتخذ موقفاً سلبياً عند الغضب فيرفض الأكل، وينزوي في غرفته مع ظهور علامات عدم الرضا والتسخط عليه، ولا ينبغي للأب أن ينجرف وراء العاطفة، فينصاع لرغبات ولده عند غضبه، فيلبي له كل ما يشاء فلا يعرف الولد سوى الصراخ والعويل إذا أراد أن يتحقق له أمر ما، فإذا تعود الولد هذا السلوك أصبح من الصعب عليه مستقبلاً أن يحتمل فوات ملذاته، وعدم تحقق رغباته فيصطدم بمشكلات الحياة المتنوعة، فإما أن ييأس وينحرف، وإما أن يبدأ في التعود والتدريب على هذا النمط الجديد من الحياة، وهذا صعب بعد النضج.(1/116)
ودور الأب في هذه القضية هام جداً، إذ إن الولد يتعلم من الوالدين وأفراد الأسرة الباقين السلوك الانفعالي، فيقلدهم في ذلك، والذي يجب على الوالد هو حماية الولد من مشاهدة أشخاص في حالة الانفعال الشديد خاصة من هم قدوة له مثل الأب والأم والإخوة والأخوات، فسرعان ما يلتقط الولد سلوكهم ويقلده، فيعمل الأب قدر الإمكان على أن يظهر أمام الأولاد بمظهر لائق منضبط الانفعال، وأن يأمر بذلك باقي الأسرة، وأن يعمل قدر المستطاع على تجنب الولد ما يثيره ويغضبه مثل الجوع والعطش والمرض، ويحاول أن يكون له جو من الهدوء والسكينة فإن حدث وأثير الولد كان الحل هو تسكين غضبه بكل هدوء دون أن يثور الأب معه، فيتخذ تدابير السنة المطهرة في ذلك، فيأمر الولد أولا بالسكوت إذا غضب، وعدم الاسترسال، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا غضب أحدكم فليسكت))، وبعد أن يسكت يأمره بالاستعاذة من الشيطان الرجيم، فقد قال عليه الصلاة والسلام عندما غضب رجل في مجلسه: ((إني لأعرف كلمة لو قالها هذا لذهب عنه الذي يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم))، فيأمره بهذه الكلمة المباركة، فإن قالها ذهب عنه ما يجد من الإثارة والانفعال بإذن الله تعالى، ثم يحاول الوالد بعد ذلك أن يستأصل من ولده ذلك الغضب في تلك الساعة فيأمره بالجلوس، أو الاضطجاع، ليلوذ بالأرض ويكون ذلك أدعى لسكونه، وضماناً لعدم حدوث حركة خاطئة بيده، كأن يقذف بقارورة أو يضرب أحداً أو غير ذلك، فقد وردت السنة بذلك حيث قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإذا ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع)) فإن بقي عند الولد شيء من الغضب والانفعال، أمر بالاغتسال أو الوضوء فإن الماء يبرد البشرة الساخنة بحرارة الغضب، فيهدأ ويسكن، والسنة قد وردت بهذا - أيضاً- حيث قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)).(1/117)
وهكذا السنة المطهرة تضع الحلول المناسبة لكل ما يواجه الإنسان المسلم في حياته من مشكلات نفسية واجتماعية وغيرهما...
ويجب أن يفهم جيداً أن "الغضب والشهوة لو أردنا قمعها وقهرها بالكلية حتى لا يبقى لهما أثر لم نقدر عليه أصلاً، ولو أردنا سلاستهما وقودهما بالرياضة والمجاهدة قدرنا عليه"، فالأب يحاول عبثاً إن ظن أنه يمكن انتزاع الغضب بالكلية من نفس ولده، فإن هذا لا طائل وراءه؛ بل يعمل جاهداً على تهذيب نفس الولد وتربيته بالتدريج، وتدريبه على ضبط انفعالاته والتحكم فيها، فإن أفضل وقت يمكن فيه تدريبه على ذلك هي مرحلة الطفولة، وذلك لأن هذه الانفعالات لم تتأصل بعد في نفسه؛ بل هي في مرحلة التعود والتبني. وعليه أن يعرف أن الجبلات والطبائع مختلفة ومتنوعة منها ما هو سريع الاستجابة والقبول، ومنها ما هو بطيء، فلا يمل من متابعة ولده وتوجيهه، والصبر عليه، وإن طال ذلك، على أن يلاحظ أن هناك درجة لا يمكن أن يتعداها الإنسان في بلوغ مراتب الأخلاق والصفات الحسنة، فإن الأخلاق مقسمة بين الناس حسب الحكمة الإلهية، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم))، والأب الفطن يمكن أن يعرف حدود إمكانات ولده وقدراته، فلا يحمله من الآداب والأخلاق ما لا يطيق، فإن صدر عنه بعض الزلات في ساعات غضب وانفعال صبر عليه ووجهه دون أن ينفعل هو لئلا يزيد من سوء الموقف.
ويمكن تلخيص الأسباب الهامة التي تبعث الغضب في الأطفال، على النحو التالي:
1-الغيرة من الزملاء والإخوة.
2-الفشل في الدراسة والتحصيل.
3-القسوة المفرطة من الوالدين في التربية.
4-عدم إشعار الطفل بالحب.
5-التدليل المفرط الذي يسوق الطفل إلى تحقيق رغباته كلها دون ممانعة.
6-تقليد الطفل لوالده إذا كان كثير الغضب والانفعال أمام الولد.
7-إصابة الطفل بعاهة من العاهات الجسدية.(1/118)
فيستحسن للأب المسلم أن يراعي هذه الجوانب والأسباب التي تدفع ولده إلى الغضب والانفعال، ويحاول حمايته من الوقوع فيها.
18 - حفظ الطفل من خلق الكبر
يعد الكبر كغيره من الصفات القبيحة التي يتصف بها بعض الناس وذلك لما فيها من التعالي، والشعور بالتميز على الخلق، وقد قال الله تعالى ذاماً المستكبرين: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل:23]، وفي إبليس الذي عصى الله مستكبراً عن السجود لآدم. قال الله تعالى: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} [الأعراف:13]، فطرد من رحمة الله وأهبط إلى الأرض بسبب التكبر والاستعلاء، وفي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام: ((قال الله عز وجل: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار))، ففي هذا الحديث تشبيه للعز والكبرياء باللباس، ومعروف أن لباس الإنسان إذا ارتداه لا يشاركه أحد. فكذلك العز والكبرياء إزار الله ورداؤه لا يشاركه فيهما أحد من خلقه، ومن تجرأ كان مصيره مصير إبليس وهو الطرد من رحمة الله عز وجل، إلا أن يتوب توبة نصوحاً.
وحقيقة الكبر على العباد: استعظام النفس، واستحقار الآخرين، والترفع عليهم وعدم الانقياد لهم، واستصغارهم، وعدم الرضا بالمساواة بهم. وهذا لا شك من غفلة الإنسان بحقيقة نفسه، وضعفه، وحقارة أصله، وما يحمله في بطنه من العذرة، ونهايته العفنة في التراب.
وللكبر مظاهر يعرف بها المتكبرون، وأهمها ما وصفهم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندما سئل عن الرجل يحب أن يظهر في ملبسه بمظهر جميل حسن هل هذا من الكبر؟ فقال: ((لا، ولكن الكبر بطر الحق وغمط الناس))، فمن رد الحق على أهله، ولم يسمع منهم فهو المتكبر، وغمط الناس استحقارهم وعدم الاعتداد بهم.(1/119)
ومن مظاهره المذمومة أيضاً: التبختر في المشية، وذلك لما قد وقع في نفس المتكبر من التميز، والاستعلاء، والاعتقاد بالأفضلية، إما للجاه، أو المال، أو السلطان، أو النسب، أو العلم، أو الجمال، أو غير ذلك.
وهذا المظهر قد ذمه الله عز وجل في كتابه، فقال: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} [الإسراء:37]، وقال أيضاً: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18]، أي لا تمل خدك للناس في استكبار واستعلاء عليهم. أما المشي في الأرض مرحاً، فهو: السير في اختيال وقلة مبالاة بالناس، وقد جاء في السنة ذم هذه المشية المختالة حيث قال عليه الصلاة والسلام: ((ما من رجل يتعاظم في نفسه ويختال في مشيته إلا لقى الله وهو عليه غضبان)).
ولما كانت قضية الكبر على هذا النحو من الذم والمقت، فإن تربية الولد منذ حداثة سنه على كرهها، وعدم الاتصاف بها، أمر هام؛ لأنه إن تعود الولد ازدراء الناس، والتكبر على أقرانه، والتعالي عليهم، في صغره فإن هذه الخصلة الممقوتة لن تتركه عند كبره وبلوغه سن التكليف.(1/120)
ومسؤولية الأب في متابعة ولده ومراقبته ومعرفة أمراض قلبه وعلاجها أن لا يقف عند حدود التعريف بالمرض والتوجيه بالعبارة فقط؛ بل يسلك معه الأسلوب التربوي العملي الذي يستأصل الداء من داخل النفس حتى لا يبقى له أثر يحرمه من دخول الجنة فإن الكبر - وإن قل - يحرم صاحبه الجنة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر)). فإذا كان الولد ممن يميل إلى رأيه ولا ينصاع للحق إذا جاء على لسان أقرانه أو إخوته أو أصدقائه، بعد أن يكون قد عقله وفهمه، خاصة إن كان الولد قد تعدى سن العاشرة، فإن الوالد يحذره من هذا السلوك مبيناً أن الله يمقته إن فعله، وأنه من الكبر الذي يحرم صاحبه الجنة، ويلزمه بأن ينصاع للحق، وأن يعلن ذلك أمام أصدقائه، وأنه قد أخطأ برده الحق، ويسوقه إلى ذلك سوقاً ويلح عليه، فإن اعتذر أمامهم، وقبل الحق، كان له درساً عملياً جيداً لا يظن بعده اقترافه لمثله، فإن عاد أعيد معه الدرس حتى يتدرب فلا يعود لمثله أبداً.(1/121)
والولد الذي يحب أن يتصدر زملاءه، ويكون قائداً لهم دائماً ولا يرضى بغير القيادة، ولا يقبل إلا الصف الأول، والسير أمام الأولاد والأقران، فإنه يدرب على ترك هذا السلوك بضده، فيؤمر بالتزام التوسط في المجلس والسير بين الزملاء أو خلفهم، وأن يقدمهم على نفسه، فإن دعاهم إلى البيت أمر بالقيام على خدمتهم، وقدم لهم بنفسه الطعام والشراب، في تواضع دون كبر، أو إحساس بالتفضل، وأجلسهم في صدر المكان، وإن ظن الولد أنه أفضل من أصحابه وزملائه وإخوته وأنه متميز عنهم، فإن الأب يحاول استئصال هذا الاعتقاد بأن يبين للولد مميزات زملائه وإخوته، وأنهم متفوقون عليه في كذا وكذا، ويعدد بعض هذه المميزات التي اتصف بها زملاؤه وإخوته مدللاً على ذلك بالوقائع المختلفة، كأن يقول له: "أتذكر يوم كذا وكذا كيف أن أخاك سبقك في العدو، وكيف أن ابن الجيران كان أحفظ منك لسورة كذا وكذا"، فيحاول أن يبين له أنه كغيره من إخوته لديه مميزات ولديه نواقص وأن غيره ربما تفوق عليه في بعض صفاته ومميزاته.
ويحذر الأب عند استخدام هذا الأسلوب أن يتعدى حدود الاعتدال في بيان قدرات وطاقات الولد، إذ إن التمادي في استنقاص الولد، والتطرف في هذا الأسلوب ربما ساق الولد إلى الشعور بالنقص، وهذه آفة أخرى تحتاج إلى علاج جديد؛ بل يعطيه من البيان ما يحتاج إليه لتستقيم نفسه، وتعتدل تصرفاته.
كما يمكن للأب أن يوضح للولد المغرور بقوته - مثلاً- أنه ضعيف أمام ابن الجيران، فيعمل لهم لقاء للمصارعة وإظهار القوة، فإن صرع الولد كان له درساً جيداً، يتعلم من خلاله أنه يوجد من هو أقوى منه، فلا يغتر ويفتخر بقوته على أقرانه. وفي هذا الدرس ينبغي أن يكون الأب على يقين من أن ابن الجيران سوف يصرعه ويتغلب عليه، فإن حدث العكس ازداد الولد غروراً إلى غروره ، وكبراً إلى كبره، ولم ينفعه الدرس؛ بل أساء إليه.(1/122)
وكثيراً ما يخجل الأولاد ويترفعون عن الخدمة، خاصة أطفال الأغنياء، فلا يرى أحدهم حاملاً مشتريات لأهله، أو خارجاً بالنفايات من البيت ليضعها في المكان المخصص في الشارع، بل يوجد في حالة من الترفيه وعدم تحمل المسؤوليات مما يسوقه إلى التعالي والكبر على غيره. وعلاج ذلك يكون أيضاً بضده. فإن كان يتعالى عن نزول السوق والشراء وحمل الحاجيات أمر بذلك ودرب عليه. ولابأس في أن يشارك الناس في البيع والشراء فقد أقر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن جعفر - رضي الله عنه - على أن يبيع في السوق بيع الصبيان ولم ينكر عليه ذلك، بل دعا له. علماً بأن عبد الله بن جعفر شريف من الأشراف وأبوه ابن عم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فلم يمنعهم ذلك من الاشتغال بالبيع والشراء كعامة الناس، ولم يستح الرسول - صلى الله عليه وسلم - من فعله.
وإذا كان عند الولد إحساس بالترفع عن الفقراء والضعفاء والمساكين أمر بالجلوس معهم في بعض الأوقات ليذهب عنه ما يجده في نفسه من الترفع فيصطحبه الأب في زيارة لأحد الجيران من الفقراء فيجلس عنده بعض الوقت، ويأمر الولد بالجلوس ومحادثة أولاد الجار، فيعتاد الولد ذلك دون خجل أو إحساس بالمهانة. وفي بعض الأحيان يدعو الوالد بعض فقراء الحي وأولادهم على الطعام، ويأمر جميع أولاده بالجلوس معهم وخدمتهم.
وإذا كان عند الولد كثرة مباهاة بنفسه، وإعجاب بها، دون مسوغ، أي أنه لم يأت بأعمال تدفعه إلى هذا العجب، فإن الوالد يحاول أن يكلفه ببعض الأعمال والمهام البسيطة لينجزها، ومن ثم يشكر ويمدح على ذلك وهذه الطريقة ربما خففت من إعجاب الولد بنفسه كذباً وزوراً.(1/123)
والأطفال الذين يفتخرون على أقرانهم بمميزات خلقية كالجمال، أو الطول، أو القوة، أو فكرية كالذكاء، فإن دور الوالد في علاج هذا هو أن يوضح للولد أن هذه الصفات وغيرها من نعم الله التي أكرمه بها، وليست هي من كسب الولد، فالله - سبحانه وتعالى - قدرها له في الأزل، وركبها فيه، دون أن يكون للولد أدنى فضل فيها، كما أن من أصيب بعاهة في جسده، أو بلاهة في طبعه، أو غير ذلك هي من أمور القضاء والقدر التي ليس للإنسان فيها دخل، فلا يذم بسببها ولا يستنقص، بل الواجب هو الرضا بما قسم الله، فإن كان المقسوم محبوباً كالذكاء، والقوة والجمال، شكر الله عليه بمزيد من الطاعة والاعتراف بفضله ومنته، والتواضع لمن لم يؤت مثل ذلك، وإن كان المقسوم مكروهاً كالبلاهة أو الفقر أوالضعف وغيرها، فإن الواجب هنا هو اصبر على البلاء واحتمال تبعاته، والرضا بما قسم الله، فهو الحكيم الخبير.
ويسلك الوالد مع ولده هذا الأسلوب مدللاً ومرشداً ومبيناً نعم الله - سبحانه وتعالى - المتنوعة، وأن الفضل له وحده دون سواه فإذا تيقن الولد بذلك ذهب عنه ما يجده في نفسه من الكبر والتعالي والغطرسة.
ولمزيد من تدريب الولد على التواضع وذم الكبر فإن الوالد يكلفه أحياناً لبس الرديء من الثياب، وأكل الخشن من الطعام، والنوم على الحصير، فلا يحس بالتميز على غيره من الأولاد، ولا يستنكر أو يزدري نعم الله عليه.
19 - مساعدة الطفل على تجاوز مخاوفه(1/124)
الخوف كغيره من الأحوال التي يتلبَّس بها الإنسان في حياته فمنه ما هو محمود مرغوب فيه، ومنه ما هو مذموم منهي عنه، ومنه ما هو طبيعي فطري، فالخوف المحمود هو الذي يحجب صاحبه، ويمنعه عن محارم الله وتعدي حدوده، دون أن يصل إلى حد القنوط واليأس من رحمة الله، وهذا النوع من الخوف جاء القرآن بالأمر به والحث عليه، فقال الله تعالى: {فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، وقال أيضاً: {فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل:51]، وامتدح الخائفين منه، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} [المؤمنون:57] إلى أن قال: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:61]، فهذا الخوف الذي يحول بين المرء وعذاب الله وغضبه هو الخوف المحمود الذي أُمر به الناس أجمعون، وهو من أسباب الفوز والنجاة يوم القيامة، فقد روى ابن ماجه في سننه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على شاب عند الموت، فقال له: ((كيف تجدك؟ قال: أرجو الله يا رسول الله وأخاف ذنوبي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يجتمعان في قلب عبد، في مثل هذا الموطن، إلا أعطاه الله ما يرجو، وأمنه مما يخاف))، فهذا الخوف الذي يعمل الوالد على تركيزه في نفس ولده منذ صباه، وينميه مستعيناً بمنهج التربية الإسلامية في ذلك.(1/125)
أما الخوف الممقوت المذموم فهو الخوف من المخلوقات خوفاً يزيدعلى درجة الخوف من الله أو يساويها، حيث يترتب على ذلك اعتقاد أن لهذه المخلوقات قدرات وإمكانات يمكنها من ذات نفسها أن تضر وتؤذي، دون أن يكون لله شأن أو تدخل؛ فإن الله - سبحانه وتعالى - قد نص في كتابه الحكيم أنه هو المتصرف في عباده كيف يشاء، وأن نواصيهم بيده لا يتقدم أحد ولا يتأخر إلا بإرادته وعلمه، قال الله تعالى: {ما مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود:56]، فالخوف من المخلوق إن بلغ هذا المبلغ كان انحرافاً خطيراً، وضلالاً عن الحقيقة، وجهلاً بقدرة الله الكاملة في الكون وتمام سلطانه وقهره لكل شيء.
وهذا الصنف المذموم من الخائفين عابهم الله في كتابه، فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاء نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:10]، فهم يخافون أذى الناس وبطشهم ويساوون ذلك ببطش الله ومقته يوم القيامة، فاستحقوا بذلك المقت والذم.(1/126)
أما الصنف الثالث وهو الخوف الطبيعي الفطري، وهو ما يحسه الإنسان من خوف بطبيعته وميله نحو الحفاظ على نفسه مما يمكن أن يؤذيه، كأن يخاف من العقرب أن تلدغه، أو من الأفعى أن تنهشه، أو من الرجل الشرير أن يضره أو يؤذيه، ونحو ذلك، فهذه المخاوف وما شابهها هي طبيعية فطرية لا يكاد أحد أن ينفلت من الاتصاف بها، فهذا نبي الله موسى يخاف من بطش آل فرعون، فيقول عنه الله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ} [القصص:33]، وعندما ألقى عصاه وصارت حية تسعى، قال له الله - سبحانه وتعالى -: {قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى} [طه:21]، وفي موضع آخر حكى عن موسى - عليه السلام - عندما نازل السحرة حيث أتوا بما عندهم من السحر، قال - سبحانه وتعالى -: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى} [طه:67]، فهذه مخاوف طبيعية تصدر حتى عن رسول من أولي العزم فضلاً عن إنسان من سائر الناس، فهي أمر طبيعي فطري لا يلام الإنسان عليه. والمقصود: أن هذه المخاوف الناتجة عن اعتقاد حصول ضرر أو أذى، مع الاعتقاد الجازم أن الله هو المتصرف في عباده وأنه قادر على أن يمنع حدوث ذلك الضرر ويرده، فإن هذا الخوف غير مذموم؛ بل هو خوف طبيعي فطري يمكن أن يحدث لأي إنسان من البشر.(1/127)
ومن خلال هذه المفاهيم فإن الخوف الذي يظهر على الولد الصغير من القطة مثلاً، أو من الشخص الغريب، أو النظر من المكان المرتفع، أو غير ذلك من مخاوف الأطفال، فإنها تكون في نطاق الخوف الطبيعي، الذي يمكن إزالته أو التخفيف منه عن طريق المران والممارسة والتدريب، ولا ينبغي أبدأً للأب أن يقابل ابنه الصغير عند خوفه من شيء ما بالسخرية أو الاستهزاء أو الضحك، فإن الذي يراه الوالد وهْماً يراه الطفل حقيقة، وربما أحس الولد من خلال عدم المبالاة بمخاوفه بفقدان الاطمئنان والاستقرار والواجب على الأب أن يقابل ذلك الخوف بالحنان على الولد واحتضانه وتكوين عاطفة طيبة عنده تجاه ذلك الشيء الذي خاف منه.
فلو كان خوف الولد مثلاً من أحد الأقارب، فإن الوالد يحاول أن يقرن وجود ذلك القريب بشيء من محبوبات الولد، كأن يقدم ذلك القريب للولد شيئاً من الحلوى، أو أن يعيطه لعبة أو هدية صغيرة تناسب سنه، وإن لم يتمكن من هذا ألقى إليه سلسلة مفاتيحه ليلهو بها، فإن الأطفال خاصة الصغار منهم يميلون إلى الألعاب التي تصدر بعض أصوات الخشخشة كالتي يمكن أن تصدر من سلسلة المفاتيح، وبهذا تخف حدة الخوف من الغرباء عند الولد.
أما إن كان خوف الولد من الظلام الذي يعتبر أعظم مظاهر الخوف في الطفولة فإن دور الوالد أن يوجه أهل البيت منذ ولادة الطفل أن يعود النوم في الظلام، وعند كبره يمكن أن يوضع له في غرفته مصباح صغير يضيء له طرفاً من الغرفة، على أن يحاول الأب قدر الإمكان إفهام الولد وإقناعه أن النوم في الظلام ضروري لراحة الجسم وأنفع له.
وعلى الوالد أن يلاحظ ويحذر من كثرة خوف الولد مما حوله من البيئة من اشياء وأشخاص، فإن كثرة مخاوفه تدل على جبنه وهلعه فيعمل قدر الإمكان على تجنيبه ما يؤذيه ويخوفه، كالتخويف بالبعبع، أو الحرامي، أو الغول، أو المدرسة والأستاذ، أو تخويفه من الدم إذا جرح، فإن أهمل الوالد، ذلك نشأ ولده خوافاً عديداً.(1/128)
كما ينبغي للوالد أن ينبه أهل البيت أن يجنبوا الولد الشعور بالخوف من احتمال السقوط من مكان مرتفع، أو الصراخ أمامه، فإن الطفل يولد مزوداً بكراهية هذه الممارسات والخوف منها. ويتجنب الأب ما اعتاده بعض الناس من قذف الطفل في الهواء ثم التقاطه مرة أخرى، فإن هذا النوع من اللعب يثير في نفس الولد الخوف، إلى جانب احتمال سقوطه على الأرض.
ويضاف إلى هذه المخاوف الحذر مما يمكن أن تحدثه القصص والروايات المرعبة التي تدور أحداثها حول الشياطين والجن ونحو ذلك مما يوقع في نفس الولد الرعب والفزع.
ومن أعظم ما يؤثر في نفوس الأطفال، ويجلب إليها المخاوف المتنوعة، خوف الآباء أنفسهم، وسلوكهم وانفعالاتهم أمام أطفالهم تجاه مخاوفهم الخاصة. فإن كثيراً من المخاوف تنتقل من الآباء إلى الأبناء عن طريق الإيحاء والمشاهدة، فالوالد الذي يخاف الوزغ، أو الصرصور، أو الفأرة، أو غيرها من الحشرات والزواحف المهملة، ويظهر ذلك لأولاده عن قصد أو عن غير قصد، فإن أولاده سوف يخافون ويهابون هذه الحشرات بلا شك، وسوف يكون سلوكهم تجاهها نفس سلوك الوالد أو أشد.
والحل الصحيح لهذه القضية هو أن يزيل الوالد من نفسه هذه المخاوف المتوهمة ويتشجع - ولو أمام الأولاد على الأقل- ويضبط نفسه قدر الإمكان عند مشاهدتها، ويهون ذلك في نفس أولاده، ويأمر أحد الموجودين بقتلها أو طردها، ولو تولى ذلك بنفسه لكان أفضل وأنفع للأولاد، ويكون بذلك قد حماهم من خوف جديد كان يمكن أن يقع في نفوسهم فيتأذون به في حياتهم المستقبلة.
20 - التلفزيون - أستاذ التربية الأول في العصر الحديث
تشغل وسائل الإعلام وأجهزتها المتنوعة حيزاً كبيراً في حياة الناس اليوم، فلا يكاد يخلو منها بيت أو مقهى، أو متجر، وذلك لما اشتملت عليه هذه الأجهزة من تقنية متطورة، وجاذبية فائقة.(1/129)
ويعد جهاز التليفزيون من أكثر هذه الوسائل انتشاراً، وتأثيراً في الناس، فقد تعلقت قلوب الكبار به قبل الصغار، وأصبح يمثل عند كثير من الناس ضرورة عصرية لا غنى عنها.
ولكن الحقيقة أن قوى الشر بأنواعها المتمثلة في اليهودية العالمية والنصرانية الصليبية الحاقدة، وغيرهما من المعادين للحق والفضيلة: هم الذين يسيطرون على وسائل الإعلام المختلفة بما فيها هذا الجهاز؛ وذلك بطريق مباشر، أو غير مباشر، مما يتيح لهذه القوى الشريرة نشر باطلها، وانحرافاتها، على جميع المستويات والطبقات، لهذا فإن الملاحظ يجد أن وسائل الإعلام المختلفة من صحافة، وإذاعة، وتلفزيون، وسينما مسخرة اليوم لإشاعة الفاحشة، والإغراء بالجريمة، والسعي بالفساد في الأرض. أي أنهم يبثون وينشرون من خلال هذه الوسائل ما يكلفون به إفساد شباب العالم عامة، وشباب المسلمين خاصة.
وقد استغلت هذه القوى العالمية بعض أبناء المنطقة الإسلامية من الخائنين لدينهم، وأمتهم، أو سذّج الأغنياء في ترويج ونشر المواد الإعلامية المسمومة، لهذا أصبح الإعلام في المنطقة العربية الإسلامية أداة للهدم من خلال التشجيع على اقتراف الفاحشة ومقدماتها بطرق مباشرة، أو غير مباشرة، ولو لا وجود أمثال هؤلاء الخونة أو المغفلين: لما تمكن الأعداء من نشر باطلهم وترويجه.
وهذا يجعل مهمة الأب - بلا شك- أصعب وأشق؛ إذ إن الخطر المحدق بالأولاد لا يكمن فقط خارج البيت في الشارع، والسوق، والسينما والملهى، وبيوت الدعارة، بل إن الخطر قد دخل عليه في بيته، في سلطانه يشاركه في تربية أولاده، وينافسه على تمام ولائهم، وانقيادهم لأنماط السلوك، والمعتقدات التي يتبناها، ويرجو أن تتمثل في أولاده، ولا سيما في عصر الفضائيات والإنترنت، وخدمات الهاتف الجوال المتفوقة.(1/130)
ويعد التلفزيون أحد المؤسسات الثقافية الهامة، وأهم وسائل الاتصال الجماهيرية، وأكثرها تأثيراً على الإنسان، ويقف هذا الجهاز بشاشته الصغيرة ليكون أخطر وأهم جهاز إعلامي في هذا العصر يمكنه التأثير في الكبار والصغار، وذلك لما شمله بناؤه التقني من الجمع بين الصورة والصوت؛ مما يجعل رسالته الإعلامية أسهل، وأقرب للاستيعاب والإدراك عند جميع الطبقات المثقفة منها وغير المثقفة. وقد شغف به الأطفال شغفاً شديداً لما فيه من جذب، وإمكانية فائقة على إشغال وقت الفراغ، إلى جانب سهولة تناوله، واستعماله.
وما كاد هذا الجهاز ليصل قبل سنوات إلى أسواق المنطقة الإسلامية ودول الخليج خاصة حتى أصبح بالنسبة لأكثر الناس ضرورة عصرية ملحة لابد منها، فملكت هذه الشاشة قلوب الكبار قبل الصغار، وأصبح الجميع يتابع برامجه طوال الإرسال دون تخطيط، أو نظام حتى أصبح زمن مشاهدته بالنسبة للأطفال العرب أطول من أي زمن يمكن أن يقضيه الأطفال في نشاط منفرد آخر، فزمن المشاهدة بالنسبة لهؤلاء الأطفال يتراوح ما بين ساعتين ونصف إلى ثلاث ساعات ونصف يومياً أما في الإجازات فعدد ساعات المشاهدة يرتفع ليصل إلى ثلاث ساعات، أو أربع ساعات يومياً وهذه النسب بلا شك عالية، وكبيرة خاصة إذا عرفت طبيعة هذه البرامج التي يشاهدها هؤلاء الصغار، ومدى صلاحيتها بالنسبة لسنهم، وقدراتهم العقلية، إلى جانب الأضرار الجسمية التي تترتب على طول الجلوس أمام هذا الجهاز، والتعرض للأشعة المنبعثة من شاشته.
وقد يصاب بعض الأطفال بالإدمان على مشاهدة التلفزيون، فلا يكاد أحدهم أن ينفك عنه، وهؤلاء في جاجة إلى الرعاية والعلاج، حيث دل البحث، والاستقصاء على أن أكثر هؤلاء المدمنين من قليلي الذكاء ومن الذين لا يشعرون بالاطمئنان والأمن، ومن الذين يجدون صعوبة في تكوين علاقات مع أقرانهم فيجدون في قربهم من هذا الجهاز شيئاً من الأمن، والصحب(1/131)
21 - واقع البرامج التلفزيونية المقدمة للكبار
تنقسم برامج التلفزيون إلى نوعين: برامج تخص الكبار، وأخرى تخص الصغار. ونظراً لمشاركة الأطفال للكبار في مشاهدة جميع برامجهم الخاصة تقريباً، وذلك من جراء الفوضى التي تعيشها الأسرة المسلمة، فلا بد من استعراض واقع برامج الكبار، وأثرها على المشاهد، خاصة وقد لوحظ أن البرامج التي تستدعي انتباه الأطفال هي البرامج المعدة للكبار، حيث تحتل هذه البرامج المساحة الكبرى في التلفزيون الحديث، حيث تتضمن المسلسلات التمثيلية، والمسسرحيات، والمسابقات، والنشرة الإخبارية، وبعض البرامج الرياضية، وغيرها من الفقرات ولكن الملاحظ أن أكثر هذه البرامج -إن لم يكن كلها- لم تنطبع بعقيدة أهل المنطقة الإسلامية، ولم تراع فيها الآداب الشرعية واحترام مبادئ الإسلام، "فالمتأمل لما تبثه الشاشة الصغيرة طوال ساعات إرسالها على القناتين لا يصدق أنه يعيش في مجتمع دينه الإسلام" وذلك لمغايرة معظم البرامج لمفاهيم الإسلام العامة، فما تدور عليه القصص، والروايات، والمسرحيات، والتمثيليات: "لا يزيد على أن يكون علاقات غير مشروعة بين رجل وامرأة أو بين شاب وفتاة، تعطى في القصة أو المسرحية شرعية وواقعية ليست لها في الميزان الإسلامي، ويتم هذا في جو الفن الذي يسبغ على كل شيء جمالاً وجاذبية مهما يكن فيه من الشر".
ويكاد يجمع المهتمون بهذا الجانب التربوي على أن مظاهر الحب، والغرام، والعشق بين الجنسين هي المحور الرئيسي، والقاعدة الأساسية التي، تدور عليها أحداث المسلسلات، والمسرحيات التمثيلية التي يعرضها التلفزيون، إلى جانب الدعاية السيئة المعتمدة على إظهار مفاتن المرأة ومحاسنها.(1/132)
ومعظم هذه المسلسلات التمثلية التي تستخدم اللغة العربية من إنتاج بعض البلاد العربية التي قد سيطرت الماسونية العالمية على وسائل إعلامها منذ العشرينات من القرن الحالي، بل وقد اشترك في بطولات كثير من الأفلام والمسلسلات ممثلون يهود في أثواب عربية وأسماء مستعارة، مما يوحى بمدى الانحراف الذي يمكن أن تتضمنه هذه البرامج والمسلسلات.
ويتضمن البرنامج اليومي مقاطع موسيقية وغنائية يقوم بأدائها رجال، أو نساء، حيث تتضمن كثيراً من عبارات الفحش، والغرام، والتحريض على فعل الفاحشة، إلى جانب تبرج المغنيات، وظهورهن في كامل الزينة مع ما في ذلك من استحلال للمعازف المحرمة.
أما البرامج الدينية فمحلها المرتبة الأخيرة من اهتمامات المسؤولين الإعلاميين حيث لا تتعدى مساحتها الإعلامية واحداً بالمائة، إلى جانب أن أوقات بثها غير مناسبة، وأكثر مسلسلاتها تتصف بالعنف، إلى جانب ما في هذه المسلسلات الدينية من المخالفة الواضحة للدين ومفاهيمه، كاختلاط الرجال بالنساء في التمثيل، وظهور النساء بغير الحجاب الشرعي، ودوران معظم القصص على وقوع الأبطال - أياً كانت منزلتهم الإسلامية والتاريخية - في عشق النساء، مما يوحي بالدس المقصود من مؤلفي، ومخرجي هذه الروايات.
أما المحاضرات، والندوات فهي قليلة، وغير مركزة، وغير شيِّقة وأكثر موضوعاتها تدور حول مفاهيم الإسلام العامة، وبعض الآداب والعلاقات الاجتماعية، إلى جانب الاقتصار على شخصيات إسلامية معينة دون التنويع، مما أدى إلى انصراف المشاهد عن هذه المحاضرات، والندوات والزهد فيها.(1/133)
أما البرامج الأجنبية المستوردة والتي تستخدم لغة أجنبية، فمعظمها مستورد من أمريكا، حيث بلغت نسبة البرامج الأمريكية المستوردة لمنطقة الخليج 81.62% من مجموع البرامج الأجنبية المستوردة من الدول الأجنبية الأخرى ومن المعروف أن الإعلام الغربي، والأمريكي بصفة خاصة إعلام كافر لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحكم عقلاً، ولا أخلاقاً فيما يبثه وينشره من ضلالات وانحرافات، حيث يقوم الإعلام الغربي على الجنس، والتشجيع على ارتكاب الفاحشة، وإلصاق العار والخزي بالمحصنين من الجنسين: تحريضاً لهم على ارتكاب الفواحش والزنا وقد بلغت نسبة "ما يشاهده المشاهد العادي للتلفزيون الأمريكي من مشاهد توحي وتغري بالعملية الجنسية يصل إلى أكثر من (9000) مشهد سنوياً لهذا انتشرت عندهم الفواحش بأنواعها، والمنكرات بأصنافها، حتى عم الفساد كل شيء، من جراء هذا الأز الإعلامي المستمر لأهل تلك البلاد وتحريضهم على الانحراف.
ولعل من أعظم أسباب هذا التوجه الإعلامي نحو الفساد والإفساد - في أمريكا بالذات- يرجع إلى خبث اليهود الذين يقفون خلف كل رذيلة وقبيحة، فمن المعروف أن اليهود يتحكمون في شركات التلفزيون الأمريكي، إما عن طريق الامتلاك، أو السيطرة على إدارتها، وتوجيهها وجهة تخدم المصالح اليهودية العالمية.
وبعد هذا العرض الموجز لواقع برامج الكبار في بلاد المسلمين، ومخالفتها الصارخة، والصريحة لمبادئ الإسلام، وعقيدة المشاهد المسلم، فإنه لا يسوغ أبداً لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يشاهد مثل هذه البرامج والمسلسلات المحرمة، فضلاً عن أن يسمح لأولاده بمتابعتها والعكوف عليها.(1/134)
والأولاد يعيشون مع آبائهم المتعلقين بهذه البرامج في حالة من التناقض، والفصل الكامل بين القول والعمل؛ إذ يسمع الولد من أبيه عبارات الأمر بالمعروف، وحب الفضائل، والأمر بها، واجتناب الرذائل، والنهي عنها، ثم يراه قد عكف على هذه البرامج يشاهد النساء المتبرجات، ويتحدث عن جمالهن، وينهمك في متابعة أحداث تلك القصص المثيرة، ويستمع إلى الغناء الخليع الفاحش، دون أن تصدر منه عبارات التذمر، أو عدم الرضا عن هذه المخالفات.
إن هذا الأب لا يمكن أن يؤثر في أولاده تأثيراً إيجابياً يدفعهم إلى الفضيلة ويباعدهم عن الرذيلة؛ بل ربما فاق الأولاد أباهم في الانحراف إذا كبروا، فلا يقبلون منه أمراً أو نهياً.
ومما لا شك فيه أن مشاهدة الولد لمثل هذه البرامج المتضمنة للغناء الفاحش، وتبرج النساء، خاصة في مرحلة الطفولة المتأخرة تثيره جنسياً، وربما دفعته لممارسة نوع من أنواع الحب، أو الغزل مع إحدى قريباته الصغيرات، أو جاراته، كما أن مشاهدته لشيء من خفايا علاقة الرجل بالمرأة يدفعه إلى ممارسة ذلك مع أقرب بنت إذا سنحت الفرصة، وربما دفعته هذه الإثارة إلى ممارسة العادة السرية. فإذا حدث شيء من ذلك فإن الأب هو المسؤول الأول عن هذه الجرائم قبل الولد الذي لم يبلغ بعد سن التكليف.
22 - واقع البرامج التلفزيونية المقدمة للأطفال
تخصص محطات التلفزيون في الدول الإسلامية أوقاتا لبث برامج تخص الأطفال، وربما خصصت بعض المؤسسات الإسلامية محطات خاصة بهم، وذلك انطلاقاً من أن الأطفال يشكلون في المجتمع نسبة كبيرة من السكان، إلى جانب الاهتمام بتوعيتهم، ونشر الثقافة، والمعرفة بينهم.
وتتصف معظم هذه البرامج بالترفيه والتسلية، وشغل الفراغ، دون النظر إلى جانب تعميق المفاهيم الإسلامية في نفوس الأطفال مما يشير إلى افتقار هذه المواد الإعلامية إلى جهاز إعلامي تربوي مسلم متخصص في شؤون الأطفال.(1/135)
والبرامج المنتجة في بعض الدول العربية تفتقر -هي الأخرى - إلى الأهداف الإسلامية إلى جانب افتقارها إلى أسلوب التشويق والجذب، في غالب انتاجها، مما أدى إلى التوجه الكبير نحو الانتاج الأجنبي الجذاب، الذي لا يتلائم في منطلقاته ومضامينه مع العقيدة والأخلاق التي يؤمن بها أبناء المنطقة الإسلامية.
وبعض البرامج المنتجة في الدول العربية تستوحي روحها، وفكرتها من برامج وإنتاج غربي بهدف الاستفادة من شهرتها، وأسلوبها المشوق، فبرنامج "افتح يا سمسم" الذي كان يعرض في منطقة الخليج، وبعض الدول العربية الأخرى، يستوحى فكرته وأسلوبه من البرنامج الأمريكي "سيسم استريت"، ورغم أنه من إنتاج عربي إلا أنه يخلو تقريباً من الأهداف التربوية الإسلامية، وتغلب عليه الأهداف التعليمية، إلى جانب إبرازه للقيم والعادات الغربية.
أما النصيب الأكبر، والمساحة الإعلامية الأوسع بالنسبة لبرامج الأطفال فتخص الصور المتحركة، أو ما يسمى بأفلام الكرتون، حيث تعرض بصورة مستمرة في أوقات منتظمة أثناء البث اليومي، وقد اتصفت هذه الأفلام بحبكة الإخراج، وصفاء الصورة، ودقة الرسم والتصوير، وجمال الألوان، إلى جانب اختيار القصص المثيرة، واستخدام الموسيقى التصويرية الجذابة، مما يستهوي الكبار فضلاً عن الصغار. ومعظم هذه الأفلام من إنتاج أجنبي، وتدور معظم أحداث رواياتها حول عنصر الصراع، والحرب، والقتال، فتارة يكون بين القطط والفئران، وأخرى بين المركبات الفضائية، وهكذا والصراع في هذه الأفلام قائم بين الخير والشر، دون تحديد لطبيعة هذا الخير وحقيقته، وطبيعة هذا الشر وحقيقته، مما يميع القضية وحقيقة الصراع الحضاري في نفس الطفل، إذ لا بد أن يعرف أن الخير كله في دينه، والشر كله فيما سواه.(1/136)
كما أن أفلام الفضاء، والأفلام الخيالية بما تحويه من الصراع والعنف، فإنها تحمل عقيدة وثنية، إذ تعرض هذه القصص، والروايات وأنواع الصراع: بعيداً عن الله - عز وجل - وكأن الكون غير محكوم بقدرة تعالى ومشيئته، إلى جانب تركيزها على قضية وجود أعداء وهميين في هذا الكون يهددون البشر، وهذا يخالف عقيدة المسلمين التي أخبر بها القرآن من وجود الملائكة والإنس والجن، وهذا النوع من الخرافة يفسد منهج التفكير عند الطفل، ويطبعه بطابع خيالي جامح بعيداً عن العلم الصحيح، إلى جانب لفت نظر الطفل، واهتمامه إلى عدو وهمي في هذا الكون غير الشيطان العدو الحقيقي للإنسان.
وبعض الأفلام الكرتونية تدور قصصها ورواياتها حول الحب والغرام كما هو الحال بالنسبة لمسلسلات وتمثيليات الكبار، حيث تدور أحداث بعض هذه الأفلام على غراميات بين ذكر وأنثى من البشر، أو الحيوانات، أو الحشرات، إلى جانب ما يحدث أحياناً من القبلات، والغمز بين هؤلاء العشاق، وهذا فيه تحريك لشهوة الولد، وتعريض بالفاحشة، وتحريض على تكوين علاقات الحب والغرام مع القريبات من الإناث.(1/137)
والبعض الآخر من هذه الكراتين الأجنبية تظهر فيه علامات العنصرية والتحيز واضحة جلية، فلا حق، ولا خير، ولا بطولة، ولا انتصار، إلا لأصحاب الألوان الفاتحة، والشعور الشقراء، بغض النظر عما إذا كانوا من الإنس أو الحيوان أما الأشقياء المعاندون، أصحاب الباطل، يظهرون دائماً من الملونين، أصحاب البشرة السمراء، فعلى سبيل المثال قصة "بوباي" البحار الأبيض الخيِّر، الموحى شكله ولونه بالرجل الغربي، وصراعه المستمر مع خصمه الأسمر الشرير ذي الشعر الأسود، واللحية السوداء الموحي شكله ولونه بالرجل العربي، ثم الانتصار المؤزر في نهاية الصراع للأبيض صاحب الحق على الأسمر صاحب الباطل فهذه البطولات الخيالية لا تمت إلى أبناء المنطقة العربية بأي صلة بل هي تمجيد واضح للشعوب البيضاء، إلى جانب ما فيها من العنف والإثارة الصاخبة والغراميات، والصراع على النساء.
وبناء على ما تقدم لابد للأب أن يدرك أن لهذه الأفلام الكرتونية أثرها البالغ في نفس الولد، فإن تأثيرها في عقله سريع جداً، ووصول فكرتها إليه مضمون أكثر مما لو مثل هذه المواقف والأدوار أشخاص عاديون فإن كان المعروض من الخير كان التأثير خيراً، وإن كان المعروض من الشر - وهو الواقع والأغلب- فإن التأثير بلا شك تأثير شرير سيء. وقد دلت " الأبحاث على أن التلفزيون يستطيع أن يؤثر في سلوك الأطفال الاجتماعي واتجاهاتهم" فمما لا شك فيه أن أثر هذه الأفلام واقع وحاصل في الأولاد لا محالة، وأقل أثر يمكن أن تتحدد في الولد الإثارة، والعنف، فقد دلت البحوث على أن أفلام الكرتون أكثر الأفلام عنفاً.(1/138)
أما الفيديو فإنه تابع للتلفزيون من ناحية فكرته، وطبيعة عمله، وتأثيره على المشاهد، إلا أنه أسرع تناولاً لأنواع المواد الإعلامية المختلفة من التلفزيون، وأبلغ في تحكم المشاهد في أوقات العرض والمشاهدة. ويعتبر في العموم أقل خطراً من التلفزيون إذا كان في بيت مسلم، وتحت رقابة صارمة؛ إذ تتحدد أوقات العرض، وتنتقي البرامج الهادفة التربوية. أما إن كان في بيت منحل، لا ينتقي، ولا ينظم أوقات العرض فإن هذا الجهاز أخطر بكثير من التلفزيون؛ إذ يمكن أن تعرض فيه مواد إعلامية منحرفة كأفلام الجنس التي تهدم الأخلاق والآداب. أما التلفزيون -رغم ما فيه من الانحرافات- فإنه لا يعرض مثل هذا على الأقل في البلاد الإسلامية.
وفي بحث أجري في مدينة الرياض حول معرفة أنواع برامج الفيديو التي يميل إليها الأطفال: وجد أنهم أكثر زبائن أفلام الرعب، والكراتيه. أما أفلام الكرتون والأفلام الأخرى المخصصة لهم والتي كانوا يقبلون عليها بشدة، فقد قل إقبالهم عليها في الآونة الأخيرة، واستبدلوا بها أفلام الكبار، والأعجب من ذلك لوحظ ميلهم الشديد نحو مشاهدة الإعلانات التجارية وإقبالهم على شراء أشرطتها المسجلة.(1/139)
وهذا مؤشر خطير إذ إن هذه الأنواع من مواد الفيديو التي أشار إليها البحث تضر الأولاد، فأفلام الرعب والكراتيه أقل ما تسببه الميل إلى العنف كما دلت على ذلك البحوث، وأفلام الكبار البعيدة عن الرقابة خطرها لا يخفي كما تقدم ذكره. أما الإعلانات التجارية بما فيها من السخافة، والكذب، والخداع، فإنها تعتمد على السرعة، وعدم الثبات، وجذب الانتباه وتشتيته في نفس الوقت في جو موسيقي جذاب، فضلاً عما فيها من تحريك لمكامن الشهوة بعرض مفاتن المرأة، وابتذال جسمها لترويج المنتجات التجارية، مع خلوها تماماً من الأهداف التربوية. وقد دلت نتائج أحد البحوث الميدانية التي أجريت بمصر بعنوان "برامج وإعلانات التلفزيون كما يراها المشاهدون والمعلنون" أن 98.6 % من الأطفال يشاهدون الإعلانات بصفة منتظمة ومستمرة وهذا يؤكد نتائج صحيفة "رسالة الجامعة" المتقدم ذكرها.
ورغم هذا الخطر المتوقع من أجهزة الفيديو نجد أن انتشاره في دول العالم الثالث كبير جداً، فعلى سبيل المثال دول الخليج العربية السبع يوجد بها حوالي خمسة ملايين جهاز فيديو في حين أن هذا العدد من أجهزة الفيديو لا يوجد في كل من فرنسا وبلجيكا وبريطانيا مجتمعين فهذا الانتشار الواسع، مع سوء الاستعمال يؤدي بلا شك إلى انحرافات أخلاقية خطيرة.
ويتعمق خطر التلفزيون بعد الانفتاح الإعلامي الكبير الذي يعيشه العالم المعاصر عن طريق البث المباشر وشبكات الانترنت، التي أصبحت في مجموعها تهدد البناء التربوي من أساسه، ويصعب معها إلى حد كبير الضبط والرقابة، مما يؤكد على أهمية التربية الإسلامية لتكون حصن المسلم في عصر العولمة والانفت
23 - الإجمال في أضرار التلفزيون على الأطفال(1/140)
نستعرض هنا بإجمال أخطار التلفزيون ومضاره العامة، التي تضمنتها بعض البحوث والدراسات في هذا المجال، وبعض الكتابات، والمقالات التربوية، وذلك ليثبت للأب حقيقة الوضع القائم بالنسبة لبرامج هذا الجهاز، وآثاره الخطيرة على الأولاد وفيما يلي نستعرض هذه المضار:
1-مغايرة معظم برامج التلفزيون لروح الإسلام، وعقيدته.
2-إثارة الشهوة الجنسية عند الأطفال، والإغراء بالفاحشة، والجريمة.
3-يفسد التلفزيون والسينما التربية التي تقدمها الأسرة الصالحة، والمدرسة الجادة للأطفال، وذلك لأن للقنوات التلفزيونية نفس الفعالية والتأثير في نقل السلوك المنحرف وأنماطه.
4-بث الغناء الخليع الماجن، والموسيقى المحرمة في جميع ما يعرض تقريباً.
5-إعطاء الأطفال صورة خاطئة عن حياة البالغين، وتسهيل تنفيذ عمليات القتل، والسطو، والاغتصاب.
6-خلو معظم برامج التلفزيون المنتشرة في منطقة الخليج من الأهداف التربوية الإسلامية.
7-تغفل أفلام الكرتون الأجنبية قدرة الله في الكون، وحقيقة الصراع بين الحق والباطل مع صرف انتباه الطفل عن عدوه الحقيقي وهو الشيطان إلى أعداء وهميين.
8-معظم أفلام الكرتون والمتعلقة منها بالفضاء -بصفة خاصة - تتحدث عن معتقدات وعقائد وثنية.
9-يتأثر الأطفال بما يقدمه التلفزيون من مسلسلات، وأفلام تبرز جانب العنف، وقد وجد أن أكثر البرامج عنفاً هي أفلام الكرتون.
10-تظهر روايات وقصص أفلام الكرتون احتقار الملونين من الناس، مع التركيز على إبراز الرجل الأبيض وتمجيده.
11-أثبتت نتائج أحد البحوث أن وجود التلفزيون في البيت يثير الاهتمام بوسائل الإعلام الأخرى كالمسرح، والسينما.
12-يتأثر الأطفال بما يسمونه من عبارات وكلمات نابية، وشتائم، ولغة عامية، عن طريق المسلسلات، والبرامج التلفزيونية حيث يقومون بترديد هذه الكلمات والعبارات.
13-يسبب وجود التلفزيون في البيت تأخير موعد نوم الأطفال في المساء.(1/141)
14-يزيد التلفزيون من النزعة السلبية عند المشاهد؛ إذ يتقبل ما يعرضه هذا الجهاز دون أن يكون له نشاط مردود تجاه ما يشاهده ويسمعه.
15-تسبب بعض المسلسلات، والروايات التلفزيونية أحلاماً مفزعة للطفل.
16-يعطل التلفزيون أفراد الأسرة عن التسامر، وتبادل الحديث، إلى جانب استغلاله لمعظم وقت الفراغ فلا تمارس الهوايات، ولا يهتم بالقراءة والاطلاع.
17-يمكن أن يكون التلفزيون سبباً في تشجيع الأولاد على تعاطي المخدرات، وذلك بسبب ما تبثه بعض المسلسلات والأفلام من تمجيد لمتعاطي المخدرات.
ويضاف إلى ما تقدم من الأضرار ما تتضمنه بعض المواد الإعلامية من أفكار منحرفة، فإن كثيراً من البرامج التلفزيونية تتضمن أفكاراً، وآراء مخالفة لمفاهيم الدين الإسلامي، حيث تستغل بعض المسلسلات والأفلام والمسرحيات في نشر وبث هذه الأفكار وترويجها باسم الفن خاصة إن كان كتاب هذه الروايات والبرامج التمثيلية من النصارى أو من بعض المسلمين المأجورين ومن هذه الأفكار التي يروج لها الإعلام قضية فصل الدين عن حياة الناس وعن الدولة وجعله قضية شخصية أو الدعوة إلى التآخي بين المسلمين والنصارى، أو المناداة بتحرير المرأة ومساواتها بالرجل في جميع الشؤون، أو مقت مشروعية تعدد الزوجات، وقذف المعددين بالجريمة والظلم، وغير ذلك من الآراء والاتجاهات المخالفة لروح الإسلام ومعتقدات المسلمين.
24 - مقترح لحل مشكلة التلفزيون(1/142)
لقد انعقد إجماع معظم المهتمين بالتربية من المسلمين وغيرهم على أن للتلفزيون أضراراً خطيرة على الأطفال، غير أن بعض الآباء والمعلمين يرى وجود بعض الفوائد للطفل، مثل: الحصول على معلومات جديدة، وتوسيع الأفق، وهذا حق، ولكن كثرة الباطل تذهب بما يظن به الخير، ومن المعروف من مقاصد الشريعة عند الأصوليين أن درء المفسدة أولى من جلب المصلحة، كما أن هذه المعلومات، والمعرفة التي يمكن أن يتحصلها الطفل من بعض برامج التلفزيون لا تزيد في معلومات الطفل الذكي الواسع الأفق، إذ يمكن أن يتحصل عليها من مصادر أخرى، أما الطفل القليل الذكاء الضيق الأفق، صغير السن، هو الذي يمكن أن تفيده هذه المعلومات التلفزيونية شيئاً جديداً لا يعرفه، ولا يمكنه تحصيله عن طريق آخر.
ومما لا شك فيه أن هذا الجهاز في طبيعته محايد ذو حدين، إذ استعمل في الخير أفاد ونفع، وإذا استعمل في الشر أضر وأفسد وواقعه الحالي أنه مستغل استغلالاً كاملاً لحساب الشر والباطل، إلا في جانب يسير منه، وعبر بعض القنوات الإعلامية القليلة.(1/143)
فلو استعمل التلفزيون لنشر الخير والحق لأفاد الأطفال بتقريب الإسلام ومفاهيمه العظيمة إلى أذهانهم، مستغلاً في ذلك التمثيلية الهادفة ذات القصة الواقعية، أو التاريخية، التي تبرز الجوانب المشرقة لتاريخ المسلمين وأبطاله، أو إبراز بعض الآداب الإسلامية والخلقية كالأمانة، والصدق، والصبر، والتضحية، والإيثار، من خلال مواقف القصص والروايات الهادفة، كما يمكن الاستفادة من حب الأطفال للرسوم المتحركة في استغلالها وتسخيرها لنشر الوعي الإسلامي، وبعض الآداب الإسلامية بين الأطفال الصغار، فقد دلت بعض الدراسات على "أن التلفزيون قادر على تعليم الأطفال السلوك الاجتماعي الذي يقدره الآباء" فإذا عرض برنامج يتضمن مفاهيم حول التعاون مثلاً، فإن الأطفال الذين يشاهدون هذا البرنامج يتأثرون بهذا المفهوم أكثر من الأطفال الذين لم يشاهدوه وهذا يدل على قدرة هذا الجهاز الفائقة على التأثير والتوجيه.
كما يمكن من خلال هذا الجهاز توحيد الأفكار، والمشاعر، والعادات، والتقاليد، وأنماط السلوك، والقيم، لأن آلافاً من الناس يشاهدونه ويتعرضون لنفس المؤثرات.
كما يمكنه تعريف الطفل بأحوال المسلمين في العالم، وطبيعة حياتهم ومشاكلهم، ليتقوى لديه جانب الأخوة في الله، ويتركز في نفسه الانتماء إلى الوطن الإسلامي الكبير.
ويضاف إلى هذا برامج أخرى مكملة كالمحاضرات والندوات العلمية المتنوعة والتي تديرها شخصيات إسلامية مختلفة، إلى جانب عرض الأفلام والبرامج العلمية التعليمية الهادفة، وغير ذلك من مواد الانتاج الإعلامي التي لا تتعارض مع مفاهيم الإسلام العامة، مع عدم إغفال الجانب الترفيهي في حدود الآداب الإسلامية.(1/144)
فلو توجه الإعلام في البلاد الإسلامية بفروعه المختلفة - وعلى رأسها التلفزيون- نحو الالتزام بمنهج الإسلام فيما يعرض، ويسمع ثم تعاضدت معه المؤسسات التربوية الأخرى كالأسرة، والمسجد، والمدرسة لتغير وجه الدنيا في زمن قصير لا يزيد على جيل واحد، يتربى على منهج التربية الإسلامية، ويعيش بالإسلام قولاً وعملاً، اعتقاداً وتطبيقاً، فيثقل وزنه ويثبت على الأرض فلا يتمكن سيل الانحراف الجارف من حمله غثاء كما حمل بعض الأجيال السابقة.(1/145)
ولكن ريثما يحدث هذا التوجه الإعلامي الشامل نحو التزام منهج الإسلام في البرامج التلفزيونية، فإن الحل الأمثل والمؤقت للأب المسلم لحماية أولاده من مفاسد هذا الجهاز بوضعه الحالي هو إقصاؤه بالكلية من البيت طاعة لله - عز وجل - الذي يأمر المؤمنين بقوله: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30]، وطاعة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - الذي يقول في نظرة الفجأة: ((اصرف بصرك))، ثم يمارس ذلك عملياً عليه الصلاة والسلام مع الفضل بن العباس رضي الله عنهما عندما جاءت المرأة الخثعمية تسأله، والفضل - رضي الله عنه - ينظر إليها والرسول - صلى الله عليه وسلم - يصرف وجهه نحو الشق الآخر محافظة على ابن عمه، وحماية لقلبه من النظر المحرم، ويقول الإمام القرطبي رحمه الله: "البصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وأعمر طرق الحواس إليه، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته. ووجب التحذير منه، وغضُّه واجب عن جميع المحرمات وكل ما يخشى الفتنة من أجله"، ويقول الإمام الزهري رحمه الله في النظر إلى البنت الصغيرة التي لم تحض بعد: "لا يصح النظر إلى شيء منهن ممن يشتهى النظر إليه وإن كانت صغيرة"، فكيف بالكبيرات اللاتي يظهرن على الشاشة في كامل الزينة والجمال؟ يقول ابن تيمية رحمه الله: "المرأة يجب أن تصان وتحفظ بما لا يجب مثله في الرجل، ولهذا خصت بالاحتجاب، وترك إبداء الزينة، وترك التبرج، فيجب في حقها الاستتار باللباس والبيوت ما لا يجب في حق الرجل. لأن ظهور النساء سبب الفتنة"، ويقول تلميذه ابن القيم رحمه الله بعد أن ذكر خطر الزنا، قال: "ولما كان مبدأ ذلك من قبل البصر جعل الأمر بغضه مقدماً على حفظ الفرج، فإن الحوادث مبدؤها من البصر، كما أن معظم النار من مستصغر الشرر" وينقل عن بعض السلف أن المرأة كلها عورة حتى ظفرها ولعل هذا القول(1/146)
هو الأحوط في حدود حجاب المرأة وذلك لكثرة الفتن في هذا الزمان.
وبناء على هذه الأدلة وغيرها في هذا الباب يتضح بجلاء حرمة النظر إلى عورات النساء على الطبيعة، أو على شاشة التلفزيون، فلا يجوز للأب المثول أمام هذه الشاشة، أو تمكين أولاده من ذلك أثناء عرض برامج تظهر فيها عورات النساء، أو يرى فيها المنكر من الرقص الماجن، أو شرب الخمر، أو غير ذلك من المحرمات.
وقد أفتى الشيخ عبد الله ناصح علوان رحمه الله بحرمة اقتناء التلفزيون بوضعه الحالي، فقال: "إن اقتناء التلفزيون، والنظر إليه، والاستماع إلى برامجه الحالية يعد من أكبر الحرام، وأعظم الإثم" وبنى رحمه الله فتواه هذه على الأدلة الشرعية الكثيرة المتعلقة بالنظر إلى المحرمات، وعلى استحالة إمكانية التحكم في عرض البرامج النافعة دون الضارة منها، وأن هذا لا يمكن تحقيقه في الواقع، وقد صدرت فتاوى مشابهة تفيد حرمة النظر والاستماع إلى المحرمات والمنكرات التي تعرض في التلفزيون، حيث أفتى بذلك سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله ومجموعة من المشايخ التابعين لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية.(1/147)
وليس غريباً أن تصدر الفتاوى الصريحة ضد برامج التلفزيون من علماء الأمة المخلصين، خاصة وأن بعض رجال الغرب من العقلاء، قد نادوا بمثل ذلك، فبعضهم بالتقليل من مشاهدته ويضع الوسائل لذلك، وبعضهم يحذر من خطورته كما تقدم، وبعضهم زاد على ذلك بأن يوصي بإلغاء التلفزيون بالكلية كجهاز معتقداً عدم إمكانية إصلاحه، فيقول جيري ماندر في كتابه: "أربع مناقشات لإلغاء التلفزيون": "ربما لا نستطيع أن نفعل أي شيء ضد الهندسة الوراثية والقنابل النيوترونية، ولكننا نستطيع أن نقول (لا) للتلفزيون، ونستطيع أن نلقي بأجهزتنا في مقلب الزبالة حيث يجب أن تكون.. إن التلفزيون لايتقبل الإصلاح عادة، إن مشاكله كامنة في التقنية نفسها تماماً كما أن العنف كامن في البنادق، ولا يستطيع خبراء التلفزيون تغيير ما يمكن أن يخلفه الجهاز من تأثيرات على مشاهديه، هذه التأثيرات الواقعة على الجسد والعقل، لا تنفصل عن تجربة المشاهد".
وهذه التوصية التي وصل إليها هذا الباحث الغربي إنما صدرت عن تجربة وبحث طوال خمس عشرة سنة حيث ثبت عنده هذا اليقين فصرح به بكل شجاعة دون تردد، فكيف إذا ثبت الخطر والانحراف في برامج هذه الأجهزة عن طريق الوحي الإلهي المعصوم من الخطأ، فلا شك أن الوقع في نفس المؤمن من توجيهات الوحي أشد وأعظم، فكيف إذا قرن الوحي الصادق بالنتائج العلمية المخبرية المتواترة؟ فإن اليقين بذلك يتأكد فيزيد الاطمئنان إلى فتاوى علمائنا الكرام.
أما القول بأن ما يعرض على التلفزيون مجرد صورة لا تأثير لها، فهو قول ساقط لا يلتفت إليه، ولو صح لما كان هناك فرق بين المذياع والتلفزيون، ولم يكن له ميزة يتفوق بها، ولجاز النظر إلى المحرمات عن طريق المرآة، ولجاز أيضاً النظر إلى صور النساء الفوتوغرافية، ولا يمكن أن يقول بذلك عاقل.(1/148)
ولا شك أن الأب الذي يقتنع بوجوب الاستغناء عن هذا الجهاز وقد تعلق أولاده به فإنه يواجه مشقة وعنتاً شديداً؛ إذ قد تعود الأولاد على مشاهدة برامجه ساعات طول اليوم، ولكن عزاءه الوحيد استحضار قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، وقوله - سبحانه وتعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن:14-15]، فالأزواج والأولاد يمكن أن يكونوا وبالاً على الآباء يدفعونهم بعواطفهم الجياشة نحو ارتكاب المعاصي، والمحرمات، ولهذا حذر الله من الانصياع لأهوائهم وشهواتهم، ويقول في ذلك عليه الصلاة والسلام: ((الولد محزنة مجبنة مجهلة مبخلة)) أي أن الذرية تسبب الحزن للأب لمرضها، أو موتها، وتسبب الجبن عن الإقدام والجهاد في سبيل الله، وتشغل عن العلم، وتمنع من الإنفاق في وجوه الخير والبر، فهم فتنة للأب في الدنيا يختبره الله بهم، ويبتلي إيمانه ويقينه ليعرف مدى حبه له - عز وجل - وهذه سنة الله في عباده المؤمنين يبتليهم ليختبرهم وليرفع منزلتهم، وقصة نبي الله إبراهيم مع ابنه إسماعيل عليهما السلام من أبرز الأمثلة الواضحة في بيان سنة الله - عز وجل - مع عباده المؤمنين المطيعين لأمره، حيث أبرزت هذه القصة كيف أن الله ابتلاه ورفع منزلته، ونجاه من أن يذبح ابنه بعد أن خلص قلبه لله، وثبت حبه وولاؤه لله وحده، وأعرض عن الشيطان ووساوسه التي يدخل بها على المؤمنين فلا بد للأب أن يتمثل هذه المواقف ويقتدي.(1/149)
ومن وساوس الشيطان ومكره أن يحذر الأب بأن في استغنائه عن التلفزيون، وإقصائه لهذا الجهاز دفعاً للأولاد إلى وسائل الإعلام الأخرى، وربما جعلهم يتلصصون لمشاهدته عند الجيران، وهكذا حتى يثبطه عن عزيمته، ولكن لا بد أن يعرف الأب أن نتائج البحث العلمي أثبت أن "وجود التلفزيون يثير الاهتمام بوسائل الإعلام الأخرى"، كما أن عدم وجوده لا يثير هذا الاهتمام، فليس في عزله ضرر.
وربما دخل الشيطان على الأب من باب قيامه بتحذير الأولاد عند رؤية المناظر المخالفة للدين، وبيان حرمتها، وبذلك يكون قد أدى واجبه تجاههم، وقدم النصيحة المفروضة عليه وهذا يمكن أن يفيد فائدة لابأس بها إذا اقترن مع التحذير الإقلاع عن رؤية ذلك المنظر المخالف، وإغلاق الجهاز في الحال،،هذا الأسلوب ينصح به الأب كمرحلة وسط بين الانهماك مع هذا الجهاز، وإقصائه بالكلية إذ إن احتقار الوالد لأحد البرامج التلفزيونية ينقل هذا الاحتقار بحيث يصبح موقفاً للابن من هذا البرنامج، إن الابن يتعالى بدوره عن مشاهدة أي شيء لا يرضى عنه والده".(1/150)
أما تحذير الأولاد من المناظر المحرمة، ومنعهم من رؤيتها دون إقلاع الكبار عنها، بل يصاحب ذلك عكوفهم المستمر، وانسجامهم، وانهماكهم معها، فإن هذا السلوك المتناقض يسبب في نفس الولد -خاصة الصغير- خلخلة؛ إذ لا يفهم ولا يستطيع أن يدرك كيف ينهى هو عن هذه المشاهد ويسمح لغيره؟ وإذا كانت هذه المناظر ضارة بالصغار فكيف تكون نافعة للكبار؟ كما أن هذا الأسلوب الخاطئ يزيد من شوق الولد ورغبته في رؤية هذه البرامج التي منع منها حباً للاستطلاع، ورغم الخطأ الواضح في هذا الأسلوب إلا أنه يقع أحسن بكثير من أسلوب الأب الذي يبين للأولاد الفساد في بعض البرامج، والانحراف فيها، ثم يسمح لنفسه، ولأولاده بمشاهدتها والعكوف عليها، وهذا الأسلوب الأخير من أخبث الأساليب وأضلها، وأفتكها بشخصية الولد؛ إذ يتعلم جواز مخالفة القول للعمل، ومشروعية النفاق فضلاً عن المخالفات الشرعية التي يشاهدها على الشاشة مع أهله ووالده.
وهذا من العمى الذي ابتلي به بعض الناس؛ لغلبة الشهوة على النفوس، وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام مبيناً مدى أثر حب الشيء على العقل والفكر: "حبك الشيء يصم ويعمي".
والواجب على الأب إن كان قد تزوج حديثاً أن لا يكون التلفزيون من بين مستلزمات فرش المنزل، وذلك حفاظاً على نفسه، وأهله، وذريته.المنتظرة أما إن أتى به، أو أدخل عليه رغماً عنه، فعليه أن يسارع بالتخلص منه قبل أن يكبر الأولاد ويتعلقوا به فيصعب حينئذ اتخاذ القرار الحاسم.(1/151)
أما إن جاء قرار الأب بعزل هذا الجهاز متأخراً، بحيث قد تعلق الأولاد به، وشغفوا بحبه، فإن الحكمة مطلوبة في أسلوب إعلان قرار الإلغاء وتطبيقه، إذ إن الاستعجال في تنفيذه دون تهيئة الأولاد لذلك ربما سبب ازعاجاً لهم، وشعوراً بالحرمان، فهم لا يدركون كيف يباح لهم الاستمتاع بالمشاهدة في الأمس القريب ثم يحرم عليهم اليوم. فالتغير الذي حدث في نفس الوالد تجاه التلفزيون لم يحدث في نفوس الأولاد بعد، لهذا فإنه لا بد من التدرج.
وهذا النوع من القرارات العاجلة عادة لا ينجح إلا في الأسر المترابطة، ذات العلاقات العاطفية القوية، والصلة الأبوية المتينة، والحب العميق المتبادل بين الأب والأولاد، بحيث لا يستطيع الأولاد تحت الضغط العاطفي، والحب المتبادل عصيان أبيهم بل يسارعون بالاستجابة ويتصبرون، ثم سرعان ما يتعودون على نمط الحياة الجديدة، ويستقيمون مع الفطرة، ومنهج الإسلام الصحيح، ذلك لأن الطفل سريع التأقلم والتغيُّر.
أما أسلوب التدرج الراجح في حل هذه المشكلة، فإن الأب هو أدرى الناس بتحديد مراحله الزمنية، وخطواته التطبيقية بانياً ذلك على خبرته ومعرفته بأولاده، ومدى تعلقهم بالتلفزيون، ولكن وقوفه على بعض المقترحات في هذا الجانب يمكن أن يفيده ويعينه في مهمته الصعبة.(1/152)
وأول خطوة تقترح بعد اللجوء إلى الله - عز وجل - وطلب العون منه: التقلل من مشاهدة التلفزيون بحيث لا يرى الولد أباه يشاهده إلا قليلاً، فإن كثرة أو ندرة مشاهدة الوالد للتلفزيون تؤثر على مدى مشاهدة الولد له، ويجعل الأب هذه الأوقات القليلة التي يخصصها لمشاهدة التلفزيون لصالح البرامج النافعة، كالندوات أو الأفلام العلمية أو النشرة الإخبارية وغيرها من البرامج التي يقل فيها الفساد. ثم يعقب هذه الخطوة بإشغال الأولاد عند بث البرامج المفسدة ببعض النشاطات المشوقة، كالخروج للنزهة، أو ممارسة نوع من الرياضة، أو الصعود إلى سطح المنزل لاستنشاق الهواء، أو أخذهم باستهواء إلى غرفة أخرى بعيداً عن التلفزيون والتحدث إليهم وملاطفتهم ومداعبتهم، وهذه من أعظم أساليب استهواء الأطفال، إذ أن أسعد أوقاتهم وأحبها إليهم تفرغ الأب لهم بعض الوقت، واستماعه لقصصهم، وما يرونه من أحداث، فلا بد للأب أن يستغل هذا الميل عندهم.
ثم يعقب ذلك إظهار الأب شيئاً من التذمر، وعدم الرضا عن بعض البرامج التلفزيونية السيئة، والإعراض عنها، كأن يخرج من الغرفة مثلاً مشعراً الأولاد بذلك، ويحاول من وقت لآخر أن يعلق على الفقرات التلفزيونية السيئة بشيء من البيان خاصة برامج الكبار، بحيث يبين انحرافاتها ومخالفتها للدين، وعدم الرضا عنها وأنه لا يليق بالمسلم مشاهدتها، ثم يتخذ بعد ذلك القرارات الجماعية بإغلاق الجهاز عند بث البرامج التي لا تخص الأولاد، ويكتفي بما هو مخصص لهم. فإذا سلك الأولاد هذا المرتقى الصعب وتعودوا مشاهدة ما يخصهم من البرامج فقط كأفلام الكرتون وبرنامج الأطفال، وما شابه ذلك دون الاهتمام ببرامج الكبار، فإن الأب بهذا الإنجاز يكون قد نجح نجاحاً كبيراً، وحمى أولاده من الخطر الأكبر، والمشكلة الأعظم، ويعزز الأب نجاحه هذا بمدح الأولاد وتقديم الهدايا التشجيعية لهم.(1/153)
ثم يبقى على الأب بعد ذلك تزهيد الأولاد في البرامج المخصصة لهم، وفي هذا شيء من الصعوبة، أولاً: لتعلق الأولاد بهذا النوع من البرامج وثانياً: لصعوبة اقناعهم بفسادها، وذلك لأن فسادها -كما تقدم- مدسوس خفي لا يلاحظه أكثر الكبار فضلاً عن الصغار.
وفي هذه الحالة لابد من البدائل المشروعة، إذ ليس من المنطق والعقل منع الأولاد من متعة تعلقوا بها دون إبدالهم بغيرها، والمقترح هو استخدام جهاز الفيديو المتصل بجهاز التلفزيون في عرض بعض أفلام الأطفال العلمية، وأفلام الكرتون التي تنتجها بعض الهيئات الإسلامية، على أن يكون ذلك العرض في نفس الوقت الذي تبث فيه أفلام الكرتون التلفزيونية المعتادة، وبذلك يكون الأب قد منع أولاده من مشاهدتها بأسلوب سهل، وأفاد الأولاد ببعض المعلومات الجيدة من خلال أفلام الكرتون الجديدة التي لا تتعارض مع مفاهيم الإسلام؛ بل تبثها وتنشرها إلى جانب دعم هذه الهيئات الإسلامية المنتجة لهذه الأفلام، خاصة وأنها قليلة الانتشار، وضعيفة التموين.
وإذا لاحظ الأب على أولاده شيئاً من الملل لتغير طبيعة الأفلام. والبرامج عليهم، أو لضعف الإخراج، وقلة المادة الإسلامية المنتجة: فإن استخدام ألعاب الكمبيوتر الهادفة أو شيء من مواقع الانترنت الآمنة يمكن أن تسد هذه الثغرة، فهي مشوقة ومرنة، وسهلة الاستخدام فبإمكان الأب تزويد أولاده ببعض برامج الكمبيوتر المتضمنة لبعض الألعاب التي تعتمد على التوافق بين حركة العين واليد كسباق الحيوانات، أو معارك الدبابات والطائرات، أو التدريب على المرور بين الخطوط دون لمسها، أو غير ذلك من الألعاب.(1/154)
ولا شك أن الفائدة التربوية من هذا النوع من ألعاب الكمبيوتر قليلة، وربما تكون معدومة، ولكن الأب يستغلها كخطوة أولى تدريجية نحو استخدام برامج الكمبيوتر التربوية والتعليمية الهادفة، كاستخدام برامج المسابقات التاريخية والسيرة النبوية، والمعلومات العامة، وبرامج التدريب على الحساب والرياضيات، وبرامج تعليم اللغة العربية، وغير ذلك من البرامج الهادفة التي تم إعدادها في أشرطة سهلة التناول ورخيصة الأسعار.
وبهذا الأسلوب التربوي يكون الأب قد حفظ أولاده من خطر التلفزيون بتزهيدهم في برامجه، وإعطائهم البديل النافع الذي يشغل وقت فراغهم ويمدهم بمعلومات جديدة مفيدة، ويعوضهم المعلومات التي يظن فواتها من برامج التلفزيون العادية. ولا بأس حينئذ بمصارحة الأولاد الكبار بحكم ما يعرض على التلفزيون من البرامج الصالحة وغيرها، وتزويدهم بفتاوى العلماء في ذلك ليكمل يقينهم.
فلو قرر الأب بعد هذا المشوار التربوي الشاق أن يستغني عن التلفزيون ويقصيه بالكلية من المنزل، فالمتوقع أن يكون قراره هذا جماعياً يشاركه فيه الأولاد ولو لم يتخذ الأب الإجراء اللازم لإخراج التلفزيون من البيت فإن المتوقع أن الأولاد قد تحصنوا ضده، ولن يشاهدوا إلا النافع دون الضار - هذا إن شاهدوا- وهذا أبلغ في استقامتهم على المبدأ مستقبلاً.
ولن يضير الولد مشاهدة التلفزيون عند الجيران أو الأقارب، بل لن يهتم بذلك لزهده فيه أصلاً، فلو حدث شيء من الميل عند الولد نحو برنامج منحرف عرض على التلفزيون عند أحد الأقارب أثناء زيارة ما، فإن الأب ينبهه إذا وجد فرصة، وإلا عاتبه في البيت إذا رجع وبين له الخطأ في هدوء دون شدة.
والمقترح للأب أن لا يزور الأقارب، أو الجيران، الذين لا يلتزمون بالأدب الإسلامي فيما يشاهدونه على التلفزيون في أوقات البث التلفزيوني أو على الأقل في أوقات بث البرامج السيئة، خاصة في فترة تدريب الأولاد على هجر التلفزيون، والزهد فيه.(1/155)
ولا بد أن يعرف الأب أن مسؤوليته لا تنتهي بمجرد التوجيه والبيان، بل لا بد من المتابعة، والصبر، والتلطف مع الصغار، فهذه هي سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام مع الصبيان، إذا أمر بأمر تابع الولد حتى ينفذه، يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحسن الناس خلقاً، فأرسلني يوماً لحاجة, فقلت: والله لا أذهب وفي نفسي أن أذهب لما أمرني نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، قال خرجت حتى أمر على الصبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قابض بقفاي من ورائي فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: يا أنيس اذهب حيث أمرتك، قلت: نعم أنا أذهب يا رسول الله)).
وفي هذا الحديث دلالة واضحة على أهمية متابعة الصبي في تنفيذ الأوامر، حتى وإن أظهر الصبي ممانعة كما فعل أنس رضي الله عنه بقوله: ((والله لا أذهب))، ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يلتفت إلى ممانعته لصغر سنه وكونه دون سن التكليف، بل لحقه حتى السوق، وأمره بأن يذهب حيث طلب منه، والأب يقتدي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصبر على الأولاد، ومتابعتهم في تنفيذ الأوامر بشيء من الملاطفة والإحسان.
25 - واقع الغناء والموسيقى في الحياة المعاصرة
عمت المعازف بأصنافها، والغناء بأنواعه أرجاء الدنيا، فلا يكاد يخلو مكان يرتاده الناس إلا وتسمع فيه الموسيقى وأصوات المغنين والمغنيات، وقد عمت هذه البلوى بلاد المسلمين حتى أصبح الغناء المصحوب بآلات اللهو والمعازف فناً له معاهده، وأنديته، وكتابه، وأساتذته، بل وأصبح من أبناء المسلمين من يعد إماماً في هذا المجال، وغدا هذا الغناء أمراً مباحاً لدى عامة الناس، فلا يرى في تعاطيه بأس أو حرمة.(1/156)
وأصبح تعليم الصبيان العزف، والرقص على الأنغام، من شعارات الأسر الراقية المتقدمة. أما الأسر المتوسطة الحال أو الفقيرة فلا يجد فيها الأب غضاضة من السماح لابنه في تكوين مكتبة سمعية تحوي أصنافاً مختلفة من أنواع الموسيقي، وغناء الرجال والنساء، بل ربما أعطى الأب ابنه النقود ليشتري بها أشرطة من هذا النوع، أو جلب له أحدث ما أنتج في هذا المجال، دون أن يلتفت الأب ما إذا كان هذا الغناء مباحاً أو محرماً، يفيد الولد أم يضره.
لهذا فإن وقوف الأب على معرفة حقيقة هذا الفن، وحكمه في الشريعة، وما يباح منه وما لا يباح يعد أمراً غاية من الأهمية، خاصة في هذا العصر حيث انتشر، وتفنن فيه المضلون باستغلال المخترعات والتقنية الحديثة في نشر وتطوير آلات اللهو والمعازف، لتكون أبلغ في الأداء، وأشد في التأثير، وأسهل في التناول والتداول.
ويصف أحد المهتمين بالتربية وضع الغناء في بلاد المسلمين وما وصل إليه من الانحراف والتدني فيقول: ((الغناء بوصفه الحالي غناء منحرف يحتاج إلى التقويم، بل هو أسلوب من أساليب الهدم والتدمير، وذلك لما فيه من الفحش والخنا، والتكسر والتخنث مما كان له أسوأ الأثر في حياة الناس الرجال والنساء، الكبار والصغار))، ثم يحيل أسباب انتشار الرذائل، وتدني الأخلاق، والفجور، إلى أنها من آثار الغناء الموجه في أصله إلى تدمير الأخلاق والقيم.
ولعل السبب وراء ذلك التوجه الخبيث في مضامين القصائد الملحنة، وطبيعة الأنغام التى يتغنى بها المطربون:هو سيطرة أعداء الإسلام على عامة المغنين، والمغنيات، وكتاب الكلمات، والملحنين، وتوجيههم بما يوافق مصالحهم في بلاد المسلمين.(1/157)
وقد استغل الأعداء من اليهود والنصارى وغيرهم من وسائل الإعلام المختلفة لنشر الغناء والموسيقى على أوسع نطاق في جميع بلاد المسلمين، وركزوا نشرها وتكثيفها عن طريق الإذاعة لأنها أكثر وسائل الإعلام انتشاراً لسهولة التقاط موجاتها، ورخص جهاز الاستقبال، وطول وقت البث اليومي، والمتأمل يجد أن أكثر ما يبث في هذه الإذاعات هو الغناء، فعلى سبيل المثال، فإن غالب ما يبث من إذاعة إسرائيل المسماة: "صوت إسرائيل من أورشليم القدس" هو الغناء المنتج من الدول العربية والخليجية.
وقد اهتم هؤلاء الأعداء بمنطقة الخليج خاصة، فخصصوا لها إذاعات تبث موادها الإعلامية باللغة العربية، مستعملة في ذلك أساليب الإغراء، والجذب المختلفة لاستقطاب المستمعين من أبناء المنطقة، فسلطوا حوالي عشر محطات على موجة "إف. إم" تبث الأغاني والموسيقى الغربية لمدة ثمان عشرة ساعة يومياً، بمعدل "3840" أغنية تتضمن معاني الخنوع، والميوعة، والتحلل الأخلاقي، بالإضافة إلى الموسيقى الصاخبة.(1/158)
كما أن الإذاعات في الدول الإسلامية تتعاضد مع هذه الإذاعات الأجنبية وتبث كثيراً من الأغاني والموسيقى، ولكن ليست بالدرجة التي تقوم بها الإذاعات الأجنبية التي وجدت لهذا الخصوص. ففي دراسة حول تحليل المضمون للبرامج في البرنامج العام وبرنامج صوت العرب بمصر خلال عام 1978م، فقد أسفرت النتائج أن أهم نوع من البرامج التي تروج لها الإذاعة هي الموسيقى، فيخصص البرنامج العام 16.51% من برامجه الثقافية للموسيقى، في حين تخصص لها إذاعة صوت العرب 14.3%. ونظراً لهذا الإغراء من الإذاعة في مصر فقد دلت نتائج بحث قامت به جامعة الإسكندرية عام 1980م حول الاستماع للإذاعة: أن 56% من أفراد عينة هذا البحث المختارة من الشباب المصري تستمع إلى الإذاعة والتلفزيون بصفة مستمرة، وحول الإذاعة كما يراها الشباب أجرى اتحاد الإذاعة والتلفزيون عام 1975م بحثاً كانت نتائجه أن 54.3% من العينة تفضل الاستماع لإذاعة أم كلثوم. أما إذاعة القرآن الكريم فكان نصيبها فقط 14.7%.
وهذه الدراسات تدل بوضوح على شغف كثير من أبناء المسلمين بالموسيقى والغناء، وميلهم للاستماع إليهما عن طريق الإذاعة، علماً بأن وسائل نشر الموسيقى لا تقتصر فقط على الإذاعات؛ بل هناك الأقراص المدمجة والأشرطة المسجلة السهلة التناول، والتلفزيون، والسينما، والحفلات الموسيقية الحية، فلو قدر وجمعت الإحصاءات حول معدل استماع الفرد إلى الموسيقى يومياً لكانت النسبة المتوقعة: مذهلة.
26 - الأضرار النفسية والخلقية للغناء الفاحش والموسيقى(1/159)
لا شك أن لكل عمل يقوم به الإنسان أثراً في نفسه وقلبه، فإن كان العمل صالحاً كان الأثر صالحاً، وإن كان سيئاً فكذلك أثره، يقول الغزالي رحمه الله: "كل صفة تظهر في القلب يفيض أثرها على الجوارح حتى لا تتحرك إلا على وفقها لا محالة، وكل فعل يجري على الجوارح فإنه قدر يرتفع منه أثره إلى القلب"، ويؤكد هذا المعنى العلامة ابن القيم رحمه الله في بيان أثر المعاصي والمخالفات على النفس، فيقول: "إن الذنوب والمعاصي، تضر، ولا بد أن ضررها في القلب كضرر السموم في الأبدان، على اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شر وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي؟".
وبناء على ذلك فإن الغناء بما يشتمل عليه اليوم من نشر للرذيلة، وتحريض على الفاحشة، وتميع وتحلل، إلى جانب مصاحبته للموسيقى الصاخبة، والنساء المتبرجات، فإنه بذلك يكون من المعاصي والذنوب التي تضر القلب، وتمرضه، وتسوقه إلى النفاق، يقول ابن مسعود - رضي الله عنه -: "الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع"، ويقول ابن تيمية رحمه الله مبيناً خطر المعازف، وكيف أنها تسوق صاحبها إلى الكبائر والجرائم العظام: "المعازف هي خمر النفوس، تفعل بالنفوس أعظم مما تفعل حميا الكؤوس، فإذا سكروا بالأصوات حل فيهم الشرك ومالوا إلى الفواحش وإلى الظلم، فيشركون ويقتلون النفس التي حرم الله ويزنون … أما الفواحش فالغناء رقية الزنا، وهو من أعظم الأسباب لوقوع الفواحش، ويكون الرجل والصبي والمرأة في غاية العفة والحرية حتى يحضره، فتنحل نفسه وتسهل عليه الفاحشة ويميل لها فاعلاً أو مفعولاً به أو كلاهما كما يحصل بين شاربي الخمر وأكثر".(1/160)
وهذا كلام صريح وخطير من شيخ الإسلام رحمه الله إذ يبين الضرر النفسي العميق الذي يمكن أن تحدثه المعازف وما يصاحبها من غناء قبيح فاحش منحل، إذ أن العفيف من الناس - كبيراً كان أو صغيراً - تنحل أخلاقه الكريمة، وتذهب عفته بحضور وارتياد أماكن اللهو والمجون التي يسمع فيها الغناء الفاحش.
وقد تنبه ابن القيم رحمه الله إلى هذه القضية التي انتشرت في عصره الذي يعتبر بلا شك أفضل وأقرب إلى الخير من عصرنا، فيحذر الأب من إيراد ولده على مجالس اللهو، فيقول: "يجب أن يتجنب الصبي إذا عقل: مجالس اللهو والباطل، والغناء وسماع الفحش والبدع ومنطق السوء، فإنه إذا علق بسمعه عسر عليه مفارقته في الكبر، وعز على وليه استنقاذه منه".وهذا من الحق فإن الوقاية من شرور هذه المنكرات أفضل بكثير من معالجة الصبي بعد تعلقه وشغفه بها.
وقد أدرك السلف الصالح رضوان الله عليهم خطورة هذه القضية، فهذا عمر بن عبد العزيز رحمه الله يكتب لمؤدب ولده قائلاً: "ليكن أول ما يعتقدون في أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان وعاقبتها سخط الرحمن جل جلاله، فإنه قد بلغني عن الثقات من حملة العلم أن حضور المعازف واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء النبتة".
هذا الإحساس المرهف من عمر بن عبد العزيز رحمه الله لا بد أن يقع مثله في نفس الأب شفقة ورحمة بالأولاد، وحماية لهم من الضلال والزيغ.
ويظهر من الإحصاءات المتقدمة تعلق كثير من شباب المسلمين بالغناء والموسيقى؛ لإهمال أولياء أمورهم، وجهلهم بخطورة هذا الداء الذي يعلق بالقلوب والأفئدة فيفسدها ويهلكها. وبناء على ذلك يمكن تصور طبيعة تلك النفوس التي عمرت بالموسيقى والغناء، وأصبح شغلها الشاغل طوال اليوم لا يكاد أحدهم يغفل عنه ساعة.(1/161)
والغناء والموسيقى من أعظم وسائل الشيطان التي يستخدمها في إضلال أوليائه، وإذلالهم، والاستخفاف بهم، يقول الله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء:64]. أي استذلهم واستخفهم بصوتك وهو الغناء واللهو والمزامير، فهو وسيلته للضلال، ونشر الباطل، والتعمية عن الصراط المستقيم.
وقد أورد ابن القيم في كتابه "إغاثة اللهفان" اثني عشر اسماً مذموماً للغناء استنبطها من القرآن والسنة، وتكلم عليها بكلام حسن يجدر بالأب مراجعته للوقوف على مزيد من البيان والإيضاح في هذه المسألة.
ويحذر الأب من التهاون في هذه القضية فيوقع ولده في حبائل الشيطان، بل يسعى من أول الأمر، ومع نعومة أظفار الولد بحفظ أذنه من هذا الباطل، وعدم أخذه لأي مكان يسمع فيه؛ لئلا يعتاده فيسهل عليه استماعه إذا كبر، وعليه أن يجنبه كل ما له علاقة بالغناء الفاحش وأهمه الشعر الفاحش المتضمن للعشق والغزل، فقد حذر العلماء من ذلك، يقول ابن الجوزي رحمه الله ناصحاً الأب: "وليجنبه أشعار الغزل لأنها بذر الفساد". ويقول ابن الحاج رحمه الله: "ويمنع من سماع الأشعار التي فيها ذكر العشق وأهله … فإن ذلك يغرس في قلوب الصبيان الفساد".
ولا بد للأب أن يعرض عن الاستماع للغناء والموسيقى بالكلية ليكون مطيعاً لله، وقدوة صالحة لولده، وأن يحفظ بيته منها، ويظهر عدم الرضا والسخط عند سماعها في مكان ما، وذلك ليقع في نفس الولد بغضها والإعراض عنها.
ولا بأس في بعض الأحيان إذا سمع الأب صوت غناء وآلات اللهو: أن يضع أصبعيه في أذنيه، اقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما سمع مزماراً فوضع أصبعيه على أذنيه ونأى عن الطريق، فهذا السلوك يؤكد للولد قبح هذه الأصوات وشناعتها، وضررها على السامعين، كما أن الأب يكون بذلك قدوة حسنة لولده في هذا الجانب
27 - موقف التربية الإسلامية من الغناء الفاحش والموسيقى(1/162)
حكم الغناء الفاحش والموسيقى في الإسلام التحريم للمضار الكثيرة التي تحدثها في النفوس؛ فقد جاء في القرآن الكريم تحريمها في قول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [لقمان6]، وقد جاء في تفسير هذه الآية عن ابن عباس وابن مسعود وابن عمر وعكرمة وميمون بن مهران ومكحول والحسن البصري ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة - رضي الله عنهم -: أنه الغناء: ونقل ابن الصلاح وابن رجب رحمهما الله إجماع أهل الحل والعقد من علماء المسلمين على تحريمه وقيل في أسباب نزول هذه الآية إنها نزلت في النضر بن الحارث الذي اشترى مغنية يبعث بها لكل من يريد أن يسلم فتغنيه لتصده عن الإسلام.
أما السنة فقد ورد فيها ما يعضد هذا الحكم ويصرح بحرمة المعازف، قال عليه الصلاة والسلام: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف ولينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم يعني الفقير لحاجة فيقولون: ارجع إلينا غداً، فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة))، ويستحلون الحر: يعني استحلال الزنا واستباحته، أما المعازف: فهي جمع معزفة وهي آلات الملاهي، والعلم: هو الجبل المرتفع، إذ يهلكهم الله بإيقاع هذا الجبل عليهم، ويعاقب آخرين منهم بالمسخ كالذي وقع للأمم السابقة.
وفي هذا الحديث دلالة واضحة على تحريم آلات العزف المشتملة على الأوتار، وبيان عقاب بعضهم بالهلاك، وآخرين بالمسخ، وذلك لاستباحتهم هذا اللهو الباطل.(1/163)
وقد نقل مجموعة من العلماء في القديم والحديث إجماع المذاهب الأربعة على تحريم المعازف، وما يصاحبها من الغناء الفاحش، وقد أضاف بعض العلماء إلى المعازف المحرمة "الكوبة" وهي الطبل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((إن الله حرم علي، أو حرم الخمر، والميسر، والكوبة، قال: وكل مسكر حرام))، قال سفيان: "فسالت علي بن بذيمة عن الكوبة قال: الطبل"، كما أن مذهب الأئمة الأربعة رحمهم الله تحريم "الشبابة" وهي القصبة التي يُنفخ فيها، وتحريم الدفوف المصلصلة، التي توضع في أطرافها قطع من الحديد تحدث أصواتاً جذابة عند تحريكها. ولا يعرف عن السلف رضوان الله عليهم الرخصة في شيء من هذه الملاهي، إنما ينقل إباحة ذلك عن متأخري الظاهرية وبعض الصوفية ممن لا يعتد بأقوالهم.
والمقصود من تحريم هذه الملاهي والمنع من الأضرار الخطيرة التي تحدثها هذه الأدوات في النفوس، خاصة إذا صاحبها شيء من أشعار الغزل والتشبيب بالنساء ومدح الخمر، وغير ذلك من الفجور، فإن وقع ذلك على النفس أشد وأعظم كما تقدم.
وبناء على هذا الإجماع من علماء الأمة، فإنه لا يسع الأب المسلم سوى الإذعان والانصياع لحكم الله ورسوله في هذه الملاهي، وأخذ نفسه وولده بالعزم على تجنب هذا اللهو الباطل، واستبداله بما أباحه الله من السماع المشروع المباح، ولن يعجز من يريد أن يأتي بما يخالف هذا الإجماع من أقوال المتقدمين أو المعاصرين إلا أن الحق يبقى للدليل من الكتاب والسنة، فإن الله أمرنا حين التنازع أن نرد الأمر له سبحانه ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -.
28 - موقف التربية الإسلامية من الحداء والإنشاد(1)
__________
(1) هذه مناقشة وتعقيب للعلامة فضيلة الشيخ صالح الفوزان أثابه الله لموضوع الأناشيد يقول فيها :
(( الحمد الله والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه.
وبعد :
كنتُ قد عقبت على ماكتبتْه الأخت تغريد العبد العزيز في " مجلة الدعوة" من الثناء على ماسمته بالأناشيد الإسلامية ، ومطالبتها المراكز الصيفية بالإكثار من إنتاجها ، فبينت لها أن هذا الثناء في غير محله ، وأن هذا الطلب غير وجهيه ، وأن الأولى بها أن تطالب بالعناية بالكتاب والسنة ، وتعليم العقيدة الصحيحة والأحكام الشرعية ، فانبرى بعض الأخوان- وهو الأخ أحمد عبد العزيز الحليبي سامحه الله – ينتصر لها لهذه الأناشيد ويدعي أنها شيء طيب ، وعمل جميل ويستدل لإثبات دعواه بأمور هي:
أولاً: أن هذه الأناشيد تلحق بالحداء الذي رخص فيه الشارع ، وكذلك تلحق بالارتجاز الذي رخص فيه النبي عليه الصلاة والسلام عند مزوالة الأعمال الشاقة.
ثانياً: أن العلماء ، كشيخ الإسلام ابن تيمية ، وابن القيم وابن الجوزي وابن حجر الهيثمي، نصوا على جواز الحداء ، والأرتجاز وسماع الشعر الذي فيه الثناء على الله ورسوله ودينه وكتابه والرد على أعداء الله وهجاؤهم . والنشيد الإسلامي – كما يسميه – لايخرج عن هذه المعاني ، فهو شعرٌ ملتزم بالأدب الأسلامي ، يرفع بصوت حسن.
ثالثاً: تسمية الأناشيد بالإسلامية لاتعني المشروعية والأبتداع في الدين ، وإنما هو وصفٌ وتوضيحٌ وتمييزٌ عن غيرها من الأناشيد والأهازيج المحرمة وهو من المصطلحات الحديثة ، مثل الحضارة اٍلاسلامية ، والعمارة الإسلامية.
رابعاً: فرق الكاتب بين هذه الأناشيد التي سماها إسلامية وبين الصوفية التي تعد من البدع في الدين من وجهين:
الأول :أنهم أضفوا على أناشيدهم صفة القربة والطاعة.
والثاني: أن سماعهم لا يخلو من الآلة التي تقرن بتلحين الغناء.
هذا حاصل ماكتبه أخونا أحمد في تسويغه ماسماه بالأناشيد الإسلامية.
وجوابنا من وجوه:
الوجه الأول: أن هناك فروقاً واضحة بين ماتسمونه بالأناشيد الإسلامية وبين مارخص فيه الشارع من الحداء في السفر والارتجاز عند مزوالة الأعمال الشاقة، وإنشاد الأشعار التي فيها مدح الإسلام ، وذم الكفر وهجاء المشركين ، مع وجود هذه الفروق لايصح إلحاق هذه الأناشيد بتلك الأشياء.
والفروق كما يلي:
الحداء في السفر ، والارتجاز عند الضجر ، وإنشاء الشعر المشتمل على مدح ا لإسلام وذم الكفر وهجاء الكفار لايسمى نشيدأ إسلامياً – كما تسمون نشيدكم بذلك ، وإنما يسمى نشيداً عريباً. إذاً فبينهما فرق من جهة التسمية والحقيقة.
أن الحداء أنما يباح في السفر لأجل الحاجة إليه في السير في الليل ، لطرد النعاس ، واهتداء الإبل إلى الطريق بصوت الحادي ، وكذا الارتجاز عند مزوالة الأعمال الشاقة ، كالبناء ونحوه، أُبيح للحاجة بصفة مؤقته ، وبأصوات فردية لاأصوات جماعية. وماتسمونه بالأناشيد الإسلامية يختلف عن ذلك تماماً ، فهو يفعل في غير الأحوال التي يفعل فيها النوع الأول ، وبنظام خاص وأصوات جماعية منغمة وربما تكون أصوات فاتنه ، كأصوات المردان وحدثاء الأسنان من البنين والبنات ، والأصل في الغناء التحريم ، إلا ماوردت الرخصة فيه.
أن الحداء والارتجاز وإنشاد الشعر الذي جاء الدليل بالترخيص فيه بقدر معين وحالة معينة لايأخذ كثيراً من وقت المسلم ، ولايشغله عن ذكر الله ، ولايزاحم ماهو أهم. اما ماتسمونه بالأناشيد الإسلامية ، فقد أعطي أكثر مما يستحق من الوقت والجهد والتنظيم ، حتى أصبح فناً من الفنون يحتل مكاناً من المناهج الدراسية والنشاط المدرسي ، ويقوم أصحاب التسجيل بتسجيل كميات هائلة منه للبيع والتوزيع ، حتى ملأ غالب البيوت ، وأقبل على استماعه كثيرمن الشباب والشابات حتى شغل كثيراً من وقتهم ، وأصبح استماعه يزاحم تسجيلات القرآن الكريم والسنة النبوية والمحاضرات والدروس العلمية المفيدة.
فأين هذا من ذاك ؟
ومعلوم أن ما شغل عن الخير ، فهو محرم وشر.
الوجه الثاني : أن محاولة تسويغ تسمية هذه الأناشيد بالأناشيد الإسلامية محاولة فاشلة ، لأن تسميتها بذلك يعطيها صبغة الشرعية ، وحينئذ نضيف إلى الإسلام ماليس منه.
وقول أخينا أحمد :" إن هذه التسمية لأجل التمييز بينها وبين الأناشيد والأهازيج المحرمة " قول غير صحيح، لأنه يمكن التمييز بينها بأن يقال : الأناشيد المباحة، بدلاً من الأناشيد الإسلامية ، كغيرها من الأشياء التي يقال فيها : هذا مباح ، وهذا محرم ولايقال هذا إسلامي ، وهذا غير إسلامي، ولأن تسميتها بالأناشيد الإسلامية تسمية تلتبس على الجهال ، حتى يظنوها من الدين ، وأن في إستماعها أجراً وقربة.
وقول الأخ أحمد" إن هذه التسمية من المصطلحات الحديثة ، مثل الحضارة الإسلامية ، والعمارة الإسلامية"
نقول له : النسبة إلى الإسلام ليست من الأمور الأصطلاحية ، وإنما هي من الأمور التوقيفية، التي تعتمد على النص من الشارع ، ولم يأت نص من الشارع بتسمية شيء من هذه الأمور إسلامياً ، فيجب إبقاء الشعرعلى أسمه الأصلي ، فيقال: الشعر العربي ، والأناشيد العربية ، وأما تسمية العمارة والحضارة بالإسلامية ، فهي تسمية الجهال ، فلاعبرة بها ، ولادليل فيها.
الوجه الثالث: أن تفريق الأخ أحمد بين مايسميه بالأناشيد الإسلامية وبين أناشيد الصوفية تفريقٌ لاوجه له ، لأن بإمكان الصوفية أن يدعوا في أنا شيدهم ماتدعونه في أناشيدكم من الفائدة ، والترغيب في الخير، والتنشيط على العبادة والذكر ، فكما أنكم تدعون أن في أناشيدكم الحث على الجهاد ، وأنها كلام طيب بصوت حسن ، وفيها مدح الإسلام وذم الكفر... إلى غير ذلك، فيمكنهم أن يقولوا مثل ذلك في أنا شيدهم.
وقولكم:" إن أنا شيد الصوفية لاتخلو من الآلة التي تقرن بتلحين الغناء" .
هذا فارق مؤقت ، فربما يأتي تطوير جديد لأناشيدكم يدخل فيه استعمال الآلة فيها، وتسمى موسيقى إسلامية ، أو دف إسلاميي، ويزول الفارق عند ذلك ، كما ورد أنه في آخر الزمان تُغير أسماء بعض المحرمات ، وتستباح ، كأسم الخمر ، وأسم الربا... وغير ذلك. فالواجب على المسلمين سد هذه الأبواب ، والتنبيه للمافسد الراجحة والوسائل التي تفضي إلى الحرام، والتنبيه كذلك لدسائس الأعداء في الأناشيد وغيرها.
ونحن لاننكر إباحة إنشاد النزيه وحفظه ، ولكن الذي ننكره مايلي:
ننكر تسميته نشيداً إسلامياً.
ننكر التوسع فيه حتى يصل إلى مزاحمة ماهو أنفع منه.
ننكر أن يجعل ضمن البرامج الدينية ، أو يكون بأصوات جماعية ، أو أصوات فاتنه.
ننكر القيام بتسجيله وعرضه للبيع، لأن هذا وسيلة لشغل الناس به. ووسيلة لدخول بدع الصوفية على المسلمين من طريقة، أو سيلة لترويج الشعارات القومية والوطنية والحزبية عن طريقه أيضاً.
وأخيراً ، نسأل الله عزوجل أن يوفق المسلمين لما هو أصلح وأنفع لدينهم ودنياهم، نقول ما قاله الإمام مالك بن أنس رحمه الله:
" لايصلح آخر هذه الأمة إلى بما صلح به أو لها"وذلك باتباع الكتاب والسنة ، والأعتصام بهما ، لابا لأناشيد والأهازيج والترانيم.
والله ولي التوفيق.
وصلى الله وسلم على أشرف العباد والمرسلين )).
المرجع: البيان لأخطاء بعض الكتاب للعلامة صالح الفوزان ص341 .(1/164)
وكما جاء الإسلام بتحريم الغناء الفاحش المشتمل على قبيح القول، وآلات اللهو والمزامير، فقد جاء - في الجانب الآخر - بإباحة الحداء، وهو: "غناء الركبان المسمى بالنصب وهو ضرب من النشيد بصوت فيه تمطيط"، فقد أقر الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا النوع من التغني؛ لما فيه من النشاط وبعث الهمة، فأقر حداء عامر بن الأكوع - رضي الله عنه - وقد كان شاعراً وكان له عليه الصلاة والسلام "حاد حسن الصوت".
وقد حث عليه الصلاة والسلام على هذا النوع من اللهو المباح في الأفراح فقال: "فصل ما بين الحرام والحلال الدف والصوت" ففي ضرب الدف إعلان بالنكاح، والمقصود بالصوت هو الغناء المباح الذي لا فحش فيه وهو النوع الذي أقره الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث الجاريتين، حيث كانتا تغنيان، وتضربان بالدف عند عائشة -رضي الله عنها- في العيد من أيام منى.
ونقل عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - المشهور بشدته وصلابته في الحق إقراره أيام خلافته الترنم والتغني بالشعر في السفر حيث قال: "الغناء من زاد الراكب" وقال عطاء رحمه الله في الغناء بالشعر: "لا أرى به بأساً ما لم يكن فحشاً" وقال العز بن عبد السلام رحمه الله: "أما استماع الإنشاد المحرك للأحوال السنية وذكر أمور الآخرة فلا بأس به، بل يندب عند الفتور وسآمة القلب".
فالغناء الذي لا يهيج النفوس على الشر، ولا غزل فيه، ولا تحريض على الفواحش والمنكرات، بل فيه إثارة على الشجاعة، والإقدام: فهو مباح لا خلاف فيه، فقد فعله الصحابة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر عليهم، وهو ما يسمى الحداء.
ورغم الإجماع من الصحابة وغيرهم على إباحة هذا النوع من اللهو البريء، إلا أن بعض العلماء منع منه، فذهب بعضهم إلى تحريمه، وآخرون إلى كراهته، فقد ذكر ابن تيمية رحمه الله خلاف الأئمة في ذلك.(1/165)
ولعل ذلك يرجع إلى احتياطهم رحمهم الله في سد الذرائع المفضية إلى المحرمات، وخشية من أن يتخذ أهل الأهواء هذه النصوص ذريعة لتعاطي الغناء الفاحش المشتمل على المعازف والملاهي، أو أن سبب هذا المنع يرجع إلى اعتمادهم على بعض النصوص العامة التي جاءت عن بعض الصحابة وغيرهم في ذم الغناء عموماً دون ذكرهم تفصيلاً في ذلك.
ولكن عند جمع هذه النصوص، وضم بعضها إلى بعض -كما تقدم- يظهر أن من ذهب إلى تحريمه كابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما في تفسير الآية فإن المقصود هنا هو الغناء المشتمل على الخنا والفحش والمعازف لما فيه من الإضلال عن سبيل الله - عز وجل -، ومن ذهب إلى إباحته كعمر بن الخطاب وعطاء وغيرهما، فإن المقصود هنا هو الغناء المشتمل على المعاني الحسنة، المحرك للخير، المحمس على الفضائل، المذهب للملل والسآمة.
وكما تقدم من أقوال الصحابة وغيرهم فإن كلمة "غناء" يمكن أن تطلق على المحرم منه، والمباح إنما الذي يفرق بينهما هو المضمون، والغناء عند العرب معناه: رفع الصوت وموالاته فلا يقصد به اشتماله على محرم كما أن الحداء الذي أجمع على إباحته يقصد به الغناء للإبل واليوم إذا أطلق الغناء قصد به الفاحش منه والمحرم لغلبة هذا النوع على غيره وتستعمل لفظة "الأناشيد الإسلامية" على ما يقصد به الحداء.
والمقصود هو المضمون والمدلول، وليس مجرد الأسماء، فأي لهو اشتمل على المعازف، أو فاحش القول فهو محرم وإن سُمِّي بأي اسم كالغناء أو الحداء، أو الإنشاد أو الفن أو غير ذلك من المسميات، وكل لهو خلا من المعازف وفاحش القول، وتضمن المعاني الطيبة، المشجعة على الخير والفضائل، فهو مباح وإن تسمى بالغناء، أو الحداء، أو الإنشاد.(1/166)
والنفوس تميل في العادة إلى السماع طلباً للراحة، وطرداً للملل والسآمة لهذا أبيح شيء من هذا اللهو. والأطفال الصغار أكثر رغبة وميلاً إلى اللهو والغناء، فقد أشارت السيدة عائشة -رضي الله عنها- إلى ذلك في قصة رؤيتها - وهي صغيرة - للحبشة وهم يلعبون في المسجد حيث قالت: ((فاقدروا قدر الجارية العربة الحديثة السن))، ويشرح الإمام النووي رحمه الله مقصودها في هذه الرواية فيقول: "معناه أنها تحب اللهو والتفرج والنظر إلى اللعب حباً بليغاً وتحرص على إدامته ما أمكنها ولا تمل ذلك إلا بعذر من تطويل، وقولها فاقدروا.. أي قدروا رغبتنا في ذلك إلى أن تنتهي، وقولها العربة.. معناها المشتهية للعب المحبة له"، وهذه إشارة تربوية حسنة من السيدة عائشة -رضي الله عنها- تبين طبيعة الطفل، وشدة رغبته وميله إلى اللهو، كما أن في إشارتها هذه توجيهاً للمربين بمراعاة ذلك في منهج التربية، وعدم التطرف والتشدد فيما لا يشرع فيه التشدد كهذ1 النوع من اللهو المباح.
وهذا الميل يبدأ عند الأطفال منذ ولادتهم، فيستمتعون بالأناشيد والأغاني، "ويمكن لنا النفاذ إلى مشاعر الأطفال وعقولهم عن طريق الأغاني والأناشيد فنغرس في نفوسهم من القيم وندفع إليهم من المعلومات ما يتناسب وكل سن".
فيمكن للأب تزويد ولده بأشرطة الأناشيد الإسلامية التي تصدرها بعض الهيئات الإسلامية في العالم العربي ليستغنى بها عن الغناء المحرم.(1/167)
كما يمكن تزويده ببعض كتب الأناشيد المخصصة للأطفال مثل: "دعاء الخير وأناشيد البر للطفل المسلم" لمحمد إبراهيم سليم، وأناشيد "فتية الحق" أو غيرها من كتب الأناشيد ولا بأس بتعليمه حفظ الشعر الجميل المشتمل على الفضائل والمحاسن إن وجد الأب ميل الولد إليه، فإن إنشاد الشعر مباح، أقره الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأمر به حسان بن ثابت ويصف جابر بن سمرة - رضي الله عنه - بعض أحوال الصحابة عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيقول: "جالست النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر من مائة مرة، فكان أصحابه يتناشدون الشعر، ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت، فربما تبسم معهم"، فالشعر الحسن مباح، إنما لا ينبغي الإكثار منه لئلا يلهي عن القرآن فيكون بذلك ممقوتاً مذموماً. وهذا منطبق أيضاً على الأناشيد الإسلامية فلا ينبغي الإكثار منها، بل لابد من الاعتدال والتوسط.
التربية الاجتماعية للطفل
1ـ تربية الطفل على احترام العلماء ومحبتهم
العلماء هم ورثة الأنبياء ومشاعل النور للناس، وسادتهم، من اتبعهم على هدى كان من الناجين، ومن خالفهم على عناد وكبر كان من الضالين الهالكين.
وقد جاء عن الله - سبحانه وتعالى - في كتابه الكريم مدحهم ورفع منزلتهم حيث قال - سبحانه وتعالى -: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، وقال - سبحانه وتعالى - مفرقاً بينهم وبين غيرهم من الجهلاء: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [الزمر:9]، ووصفهم - سبحانه وتعالى - بالخشية فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} [فاطر:28].(1/168)
فالعلماء هم أولياء الله وأحباؤه، وأعلم الناس به، وهم أهل خشيته، ولا بد أن يكونوا كذلك. فإن من زاد علمه بالله، وعرف عظمته وقدره، وقعت في نفسه الخشية منه، والمهابة لجلال قدره وعظيم شأنه. ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بيان فضل العلماء على غيرهم، وكيف أن الله اختارهم وفضّلهم: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" فهم موقع رحمة الله وفضله ومنته، ويقول ابن رجب رحمه الله مبيناً منزلتهم وقدرهم: "إن لم يكن العلماء والفقهاء أولياء الله فليس لله ولي".
ومن هذا البيان يتضح فضل العلماء ومنزلتهم عند الله فإذا كانوا هم أولياء الله وخاصته وأحبابه، فإن حبهم وموالاتهم واجبة، كما أن مخالفتهم، والوقوع في أعراضهم، وعدم الاكتراث بهم، حرام لا يجوز في حق غيرهم من العامة فكيف بهم؟ لهذا يقول عليه الصلاة والسلام آمراً المسلمين بتعظيم حق العالم وتوقيره ومعرفة منزلته: "ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا" أي يعرف قدر وفضل العالم، ففي العلماء اجتمعت خصلتان من الحديث: العلم وكبر السن، ففي العادة يكون العلماء من كبار السن.
وفي الأمر بطاعتهم واتباعهم يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء:59]، وأولوا الأمر هم الفقهاء والعلماء كما قال الضحاك رحمه الله، فطاعتهم في حدود طاعة الله وما أمر به - سبحانه وتعالى -: واجبة ولازمة قال سهل بن عبد الله رحمه الله: "لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء، فإذا عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإذا استخفوا بهذين أفسد دنياهم وأخراهم".(1/169)
ولما كان الأمر كذلك فإن طاعتهم واتباعهم لا تتم إلا بكمال محبتهم وموالاتهم؛ لهذا فإن مسؤولية الأب في إيجاد هذا الحب والتوقير للعلماء في نفوس الأولاد أمر في غاية الأهمية. وتكون بداية الوالد في إيجاد هذا الحب عند أولاده: بذكر فضائل العلماء عند الله، ومحاسن أفعالهم، حتى يقع في نفوس الأولاد حبهم، ويذكِّرهم الأب بأسمائهم ليحفظوها، ويتعرفوا عليهم.
وتعد صلاة الجمعة من أفضل المناسبات المتكررة التي يلتقي فيها العلماء مع عامة الناس ليعظوهم ويصلوا بهم، وهي فرصة جيدة للأب ليعرف ولده على الخطباء من علماء المسلمين، فيقول له: "يا بني هذا الخطيب هو العالم الفلاني الذي أخبرتك عنه" فإذا انتهت الصلاة أخذ ولده وتقدم إلى المحراب وسلم على الشيخ مقبلاً رأسه توقيراً له، ويأمر ولده بذلك أيضاً، ولو أمره بتقبيل يده فلا بأس فقد ورد ذلك عن السلف. فعن عبد الرحمن بن رزين عن سلمة بن الأكوع قال: "بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - بيدي هذه فقبلناها فلم ينكر ذلك" وقد نقل أن ابن عمر قبل يد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن بعض اليهود قبلوا يده ورجليه ولكن لا يجعل الأب من تقبيل الأيدي عادة عند الولد، فتندثر شخصيته وتضمحل؛ بل يكون تقبيله لأبيه أو أمه أو العالم في الرأس أو اليد من باب التكريم وتعريف الناس بقدرهم ومنزلتهم، خاصة في زمن قل فيه توقير العلماء وتبجيلهم.
ويوقع الأب في نفس الولد المهابة للعالم، فهذا منهج السلف في توقير العلماء والفضلاء، فقد روى أن ابن عباس رضي الله عنهما هاب أن يسأل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن مسألة حتى مر عليه عام، ثم سأله عندما حانت فرصة مناسبة لذلك.(1/170)
ويعمل الأب جاهداً على إحضار ولده لدروس العلماء ومواعظهم في المساجد، أو الأندية الثقافية، ويحاول أن يربطه بهم في هذه الدروس، فيتعود على حضورها ولا يمل من الجلوس.وإذا بدا للولد سؤال وجهه الوالد لأن يسأل العلماء، فإن كان في المسجد أمره بأن يسأل الخطيب، وإن كان في البيت أمره أن يتصل بأحد العلماء بالهاتف، ولا بأس أن يعوده المراسلة في ذلك، فملازمة العلماء في مجالسهم ومزاحمتهم هي نصيحة لقمان لابنه حيث قال له: " يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله يحيي القلوب بالحكمة كما يحيي الأرض الميتة بوابل المطر ".
وتعتبر اللقاءات بين العلماء وعامة الناس مهمة جداً، وذلك ليعيش العلماء مشاكل الناس، ويتعرفوا عليها عن كثب ويصفوا لها الحلول المناسبة كما أن العامة يستفيدون من خلال لقائهم بالعلماء علوماً جديدة، إلى جانب أنهم يشاهدون قدواتهم من فضلاء الأمة الذين يعيشون بالإسلام منهجاً وسلوكاً واقعياً، فيوقنون أن هذا الدين صالح لكل مكان وزمان، خاصة وأن بعض الناس يظنون صعوبة، أو استحالة العيش بالإسلام في جميع شؤون الحياة، وأن هذا الدين قد انتهى، ولم يعد له دور في الحياة.
لهذا ينظم الأب مع أولاده زيارات لبعض العلماء في البلد، فيشعر العالم أو الشيخ بهذه الزيارة ويحدد معه موعدها، ويفضل أن تكون في بيت الشيخ، أو في بيت الأب، وذلك لتحصل الفرصة للأولاد ليتحدثوا مع عالمهم، ويتصلوا به مباشرة، فيسألوه ما بدا لهم، وهو بدوره يرشدهم ويعلمهم ما يناسبهم من العلوم السهلة الموافقة لسنهم.(1/171)
فإن قرر الوالد ورغب الولد في ملازمة عالم من علماء البلد يدرس على يديه كتاباً، أو تفسيراً للقرآن، أو غير ذلك من العلوم في وقت الفراغ، فإن الوالد يستأذن الشيخ أولاً فإن وافق شجع ولده على ذلك، وأدبه وعلمه أصول مصاحبة ومرافقة العلماء فقد جمع الغزالي رحمه الله شيئاً من ذلك فقال: "يبدؤه بالسلام، ويُقِلُّ بين يديه الكلام، ويقوم له إذا قام ولا يقول له: قال فلان خلاف ما قلت، ولا يسأل جليسه في مجلسه، ولا يبتسم عند مخاطبته، ولا يشير عليه بخلاف رأيه، ولا يأخذ بثوبه إذا قام، ولا يستفهمه عن مسألة في طريقه حتى يبلغ إلى منزله، ولا يكثر عليه عند ملله".
فهذه آداب جيدة لو التزمها الولد مع شيخه فإنه سوف يحبه ويتعلم الولد منه الكثير.
2 - تعامل الطفل مع الأقارب
بعد الحديث عن دور الأب التربوي مع الإخوة والأخوات الذين يعدون من الرحم الواجب صلتها، فإن للأقارب حقاً من حقوق صلة الرحم أيضاً، والإحسان إليهم حق واجب على المسلم، فالأب يُنمِّيه في نفوس أولاده ويربيهم عليه، والأمر بذلك في القرآن الكريم واضح قال الله تعالى: {وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، وقال في موضع آخر: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي القُرْبى} [النحل:90]، فهذا أمر واضح من الله - عز وجل - بالإحسان للقرابة، ومراقبة الله فيهم، والحذر من إيقاع الأذى بهم عن طريق مقاطعتهم أو هجرهم.
وفي الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله)) وقال أيضاً: ((لا يدخل الجنة قاطع)) وفي هذا تحريم واضح، وزجر وترهيب لقاطع الرحم المسيء للأقارب، الصادّ عنهم والمجافي لهم، وفيه أيضاً بيان فضل المحسن إليهم، والموصل خيره إليهم، وصلة الله للواصل وتأييده وتوفيقه له.(1/172)
وهذه المعاني المباركة يجب أن تقدم للأولاد في قوالب عملية بجانب التوجيهات النظرية؛ لتكون أكثر رسوخاً وتمكناً في نفوس الأولاد، فإن الولد في طفولته المتأخرة تزيد عنده القدرة على التكيُّف الاجتماعي، ومشاركة الآخرين في مسرَّاتهم وآلامهم مشاركة وجدانية، فلو استغل الوالد هذه القدرة في الولد لينمي فيه جوانب صلة الرحم المختلفة، فإنه لا يبلغ مبلغ الرجال إلا وقد تأصل هذا المبدأ العظيم في نفسه وضميره، فلا ينفك عنه أبداً، ولن يصدر منه في الغالب ما ينافي المعاني التي تربى عليها من الإحسان للأقارب والأرحام والبر بهم.
ويمكن للأب المسلم في هذا المجال أن ينتهج مع أولاده أساليب شتى وطرقًا متنوعة، تؤصل مبدأ صلة الرحم، ومن أهم هذه الأساليب والوسائل: الزيارات بين الأقارب، فيتخيَّر الأب الوقت المناسب لزيارة الجد والجدة -إذا لم يكونا معه في نفس السكن- ويصطحب معه الأولاد، خاصة المميزين منهم، ويحاول أن تكون زيارة الجد والجدة زيارة دائمة متكررة، لا تفصل بينهما فواصل زمنية طويلة، إذ إن حقهما كبير، وشأنهما عند الله عظيم خاصة بالنسبة للأب نفسه.
ويحاول الأب أن يشوق الأولاد لزيارة الجد والجدة بالآيات والأحاديث والآثار، ويذكرهم بفضل هذه الزيارات، وأجرها عند الله، ولا يغفل مكافأتهم إن أحسنوا التأدب في الزيارة، فإن كبار السن لا يحتملون عادة إزعاج الأطفال، وكثرة حركاتهم.(1/173)
ولو أحس الأب بملل الأولاد من الزيارة، وخشي أن يتبرموا من الجلوس مع الكبار، والاستماع إلى حديثهم الذي لا يفهمونه، فإن الأب يأمر الأولاد باصطحاب بعض ألعابهم الصغيرة المسلية ليلتهوا بها حتى نهاية الزيارة، أو يؤمن الأب بعض الألعاب في بيت الجد والجدة ليتسلى بها الأولاد أثناء الزيارة، وهذا إذا كان الأولاد لا يستمتعون بحديث الجد والجدة، أما إن كانوا يرغبون في حديثهما ويتشوقون إليهما وللزيارة؛ فإنه من العبث وقلَّة الحياء أن يُلْتَهى عنهما بالألعاب أو غيرها.
ولا يقْسُ الأب على أولاده ويجبرهم على هذه الزيارة، خاصة إن كانت مملة؛ بل يحاول أن يأخذ بعضهم دون بعض بالترتيب، ويكثر مكافأتهم وترغيبهم بالأجر والمثوبة، ويلحق هذه الزيارة ببرنامج ممتع مثل الخروج إلى النزهة، أو الذهاب إلى حديقة الحيوان، أو غير ذلك من المرغبات التي تسهل على الطفل القيام بهذه الزيارة المملة في نظره وموازينه.
أما زيارة الأعمام والعمات والأخوال والخالات وباقي الأقارب فهي دون منزلة زيارة الجد والجدة.
وهذا النوع من الزيارات يرغب فيه الأولاد عادة، وذلك لأنه في المعتاد يكون لدى العم والعمة، أو الخال أو الخالة، أطفال في سنهم وعمرهم يتشوقون لرؤيتهم واللعب معهم، فلا يحتاج الأب في هذا النوع من الزيارات إلى كثير جهد في ترغيب الأولاد.(1/174)
كما أن هذا النوع من الزيارات لا يكون عادة متكرراً، منتظماً في أوقات معينة؛ بل يحتاج إلى تنسيق مسبق مع المضيف قبل الزيارة. ويحاول الأب أن يوجه الأولاد إلى إحسان النية والقصد قبل القيام بالزيارة والخروج لها؛ بأن تكون نيتهم لله خالصة, فيسألهم: " لماذا نزور العم فلاناً " ؟ فيقولون: " لأن الله أمرنا بذلك "، ويركز الأب على هذا الجانب ليقوي صلتهم بالله - عز وجل -، ويدربهم في نفس الوقت على تحسين القصد والنية، خاصة وأن مقصد الولد في هذه الزيارة يكون للعب مع ابن عمه فلان، أو لركوب دراجته الجديدة، أو للعب بالكرة، أو لغير ذلك من المقاصد.
وليتجنب الأب وقوع شغب من أولاده، أو إزعاج للمضيف يفضل أن يأخذ على الأولاد المواثيق والعهود، بأن يلتزموا الأدب والاحترام، وأن يتجنبوا الإزعاج والمشاغبات، ويذكرهم بأن ما يجدونه عند أبناء عمهم من الألعاب هو ملكهم وخاص بهم, فإن سمحوا لهم باللعب لعبوا معهم، وإن منعوهم لم يصروا عليهم، ولم يجبروهم.
فإن صدر من أحد الأولاد مخالفة ومشاغبة مع أولاد العم، عاقبه الأب بما يستحق، ومنعه من الزيارة المقبلة؛ ليعتبر بذلك هو وبقية إخوته.
وللزيارات الرسمية بين الأقارب مثل الولائم، والدعوات، والعقيقة، وغيرها من الدعوات الرسمية دورها في تقوية أواصر المحبة بين الأقارب، لهذا فإن الوالد يجتهد في حضورها، وأخذ الأولاد إليها، وذلك لإجابة الدعوة، وصلة الرحم والتقاء الأولاد مع الأقارب من الصغار والكبار، وليتعرفوا عليهم، ويعتادوا رؤيتهم, فقد أقر الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه الزيارات وحث عليها، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: ((أبصر النبي - صلى الله عليه وسلم - نساء وصبياناً مقبلين من عرس، فقام ممتناً، فقال اللهم أنتم من أحب الناس إلي))، فهذا إقرار منه عليه الصلاة والسلام بمشروعية اصطحاب الأطفال إلى الأعراس، وحضورهم اجتماع الناس والأقارب.(1/175)
ويُقترح أن يتولى الأب إقناع الأقارب وعلى رأسهم الجد والجدة بأن يكون لهما لقاء في كل شهر، أو كل شهرين، أو أكثر، يجتمع فيه جميع الأقارب من نسل الجد والجدة، يلتقون على عشاء أو غداء في بيت الجد، فيحصل من هذا اللقاء زيادة ألفة بين الأقارب، وتعارف الصغار بعضهم مع البعض، وقضاء وقت ممتع.
ويراعي الأب تنبيه أولاده على الأخطاء التي يمكن أن يشاهدوها عند أقاربهم من الذين لا يعتمدون منهج التربية الإسلامية الصحيح، فإن سألوه عن بعض الممارسات التي شاهدوها، فإنه لا بد من إقرار الحق، وبيان الخطأ إن وجد.
ولا تقتصر صلة الأرحام على الزيارات فقط؛ بل يدخل فيها كل خير يمكن إيصاله إليهم من مال، أو هدية، أو معروف، أو كلمة طيبة، أو غير ذلك من البر حتى السلام، فقد ورد في الحديث: ((بلُّوا أرحامكم ولو بالسلام)).
ومن الأساليب التي يستخدمها الأب لتحقيق مبدأ صلة الرحم عند الأولاد قضية استخدام جهاز الهاتف، فيُعلم الولد كيف يستخدم هذا الجهاز، ثم يكلِّفه الاتصال بالأقارب والأرحام والسؤال عنهم، وعن أحوالهم، خاصة المقيمين منهم خارج المدينة. وهذا الأسلوب يمكن أن يكون ناجحاً هذه الأيام، خاصة وأن أكثر الناس قد انشغل بنفسه، وأصبح اجتماع الأقارب وزيارتهم من الصعوبة بمكان، فلو تدرب الولد على الاتصال بالأقارب، خاصة في المناسبات للسؤال عنهم وإبلاغهم السلام فإن في ذلك نفعاً كبيراً، وتدريباً عملياً للولد على صلة الرحم.
كما يمكن للأب استخدام أسلوب تدريب الولد على كتابة الرسائل، وهذا يكون مع الولد الكبير القادر على الكتابة، فيشجعه الأب على كتابة الرسائل الحاملة للتهاني في المناسبات الشرعية المختلفة، ويكافئه على ذلك، ويثني عليه.
3 - علاقة الطفل بالأصدقاء(1/176)
يتأثر الإنسان -كبيراً كان أو صغيراً- بالأصدقاء والقرناء، ولا يمكن أن يُظن عدم حدوث هذا التأثر، ودليل ذلك قوله عليه الصلاة والسلام واصفاً أثر الجليس الصالح، وأثر الجليس السوء: ((إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك، إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة)), ففي كلا الحالين يتأثر الجليس بجليسه، إما بالسوء، وحرق الثياب، وأقله الريح الخبيثة، وإما بالخير والفائدة والعطر الحسن.
ولما كان تأثيرالصاحب والجليس بهذه الدرجة، فإن ثأثيرالأطفال بعضهم في بعض أكثر تحققاً ومضاء، إذ " تعتبر جماعات الرفاق من أشد الجماعات تأثيراً على تكوين أنماط السلوك الأساسية لدى الطفل "، وقد تفطن العلماء المسلمون الأوائل لهذه القضية، فحذروا ونبهوا، فهذا الإمام ابن الجوزي رحمه الله يقول: " أما تدبير الأولاد فحفظهم من مخالطة تفسد … وليحمل على صحبة الأشراف والعلماء, وليحذر من مصاحبة الجهال والسفهاء، فإن الطبع لص"، وينقل رحمه الله عن إبراهيم الحربي قوله: "أول فساد الصبيان بعضهم من بعض".
وقد أشار الإمام الغزالي رحمه الله إلى أن تكوين الأخلاق الحسنة يمكن أن يكون عن طريق مصاحبة الأخيار والصالحين، وكذلك الأخلاق السيئة، فقال رحمه الله "الطبع يسرق من الطبع الشر والخير جميعاً", ويذهب رحمه الله إلى أبعد من هذا، ولا يكتفي بالتحذير من قرناء السوء فقط؛ بل حتى من المترفهين والمتنعمين من الصبيان، فيقول: "ويحفظ الصبي من الصبيان الذين عُوِّدوا التنعُّم والرفاهية ولبس الثياب الفاخرة".(1/177)
ولا يقصد من هذا التحذير والتنبيه عزل الولد مطلقاً عن قرنائه من الأطفال، والحجر عليه للحفاظ على أخلاقه وسلوكه، فهذا النهج المستبعد الوقوع يعد سلبية وتشاؤماً؛ إذ إن وجود الطفل-في بعض الأوقات- في محيط من الأطفال يعد من العوامل الأساسية والهامة في التربية؛ إذ يتعلم الولد من خلال الجماعة كيف يعامل غيره، ويتدرب على تقديم التضحيات المختلفة مسايرة لإرادة الجماعة، وليكون مقبولاً عندها، وهذه الفوائد التربوية وغيرها مما يتحصله الولد عن طريق أصدقائه وقرنائه، لايمكن أن يتحصل عليه بدونهم، فيكون القصد إذاً من هذا التحذير هو حفظ الولد من قرناء السوء الذين يضرونه ويؤذونه، وفي الجانب الآخر ربطه بقرناء الخير من الصالحين الذين يمكن أن ينفعوه ويعينوه على الخير، ويحضُّوه عليه.
ولا شك أن تكوين محيط اجتماعي صالح خيِّر للولد لا سيما في مثل هذه الظروف التى تعيشها الأمة الإسلامية اليوم يعد أمراً صعباً شاقاً، ولكنه ليس بالمستحيل المتعذر الوقوع والتحقق؛ إذ يمكن للأب المسلم أن يجعل من بيته، وبيوت بعض أقاربه، وأصحابه، مجتمعاً صالحاً يمارس فيه الأولاد السلوك الإسلامي السوي، حتى يشتد عودهم، وتقوى إرادتهم، ويملكوا القدرة على التمييز بين الخبيث والطيب، ثم يمكَّنوا بعد ذلك من الدخول والمشاركة في المحيط الاجتماعي العام الذي لا بد لهم منه.
ولا يعني هذا أنهم لن يتأثروا ببعض سلبيات وانحرافات المحيط الخارجي، فإن التأثر به لا شك واقع، ولكن مع وجود هذا المجتمع الصغير الصالح، يكون التأثير ضعيفاً ليس بالقوي، وذلك لقلة الاحتكاك به، وقيام أفراد ذلك المجتمع الصغير الصالح بإزالة ما يقع في نفوس الصغار وعقولهم من الأفكار، والأخلاق المنحرفة أولاً بأول، فلا يسمحون لها بالتراكم والتمكن.(1/178)
ويسعى الأب جاداً في تكوين ذلك المجتمع والمحيط الصغير الصالح من أقربائه وجيرانه وأصدقائه الصالحين، الذين انتهجوا المنهج الإسلامي اعتقاداً وسلوكاً، فيعمل على توطيد العلاقات معهم، والإكثار من الزيارات واللقاءات. ويمكن أن يُحقِّق ذلك من خلال الاتفاق على تنظيم زيارات دورية أسبوعية منتظمة يلتقي فيها الكبار على حده، ويمارس الأطفال معاً نشاطاتهم وألعابهم على حدة، بعيداً عن ضغط الكبار وتوجيهاتهم المباشرة، فيعيشون بعض الوقت في جو من الحرية والانطلاق.
ويمكن أن تتولى كل عائلة أسبوعياً استضافة باقي العوائل في منزلها إذا توفر المكان المتسع، والقدرة على ذلك، ووجد عند أحدهم مكان متسع، وفناء كبير، فإن ذلك أنسب للِّقاء، خاصة إذا تجنب الجميع المبالغة والتكلف في الإكرام، فإن تعذر هذا وذاك التقوا في الخلاء، وأماكن النزهة البريئة.
ويحاول الأب أن ينسق مع زملائه من الآباء المشاركين معه في هذه اللقاءات أن يعدوا للأولاد برنامجاً ثقافياً دينياً، وآخر رياضياً، فيتوزَّعوا مهام الإعداد بصفة دورية، ويكون إعداد البرنامج الثقافي عن طريق كتابة أسئلة وإجابات في بطاقات صغيرة، مع مراعاة أعمار ومستويات الأولاد المختلفة، ومراحلهم الدراسية,في اختبار المعلومات والأسئلة.
وتتضمن هذه البطاقات أسئلة من القرآن الكريم، وأخرى من الحديث، والسيرة، والثقافة العامة، وغير ذلك، مع مراعاة التركيز على المفاهيم الإسلامية العامة، كشمول الإسلام لكامل نشاطات الإنسان، ومفهوم العبادة، والأخوة في الله، وحب الصالحين، وبغض الفاسقين، وغير ذلك من المفاهيم العامة التي يمكن أن يدركها الأطفال، حيث تُبسَّط لهم وتقدم في صورة جميلة سهلة ميسَّرة.
كما يمكن إعداد مسابقات تنافسية بين الأولاد في حفظ بعض السور القصيرة، أو حفظ الأحاديث النبوية الشريفة، أو حفظ بعض الأناشيد الإسلامية الهادفة، والقصائد الشعرية.(1/179)
ولا ينبغي أن يُغفل جانب الجوائز، فإن تأثير الجائزة كبير، خاصةعند الأطفال، فيُعد لذلك جوائز تقديرية مناسبة لأعمار الأولاد، دون تكلف مراعين رخصها وفائدتها وذلك مثل الأقلام، والمراسم، والكراسات، وعلب الأدوات الهندسية البسيطة، وغيرها من الأدوات المكتبية المفيدة الرخيصة، كما يمكن اختيار بعض الهدايا من الألعاب السهلة مثل الكور، أو العربات، والسيارات الصغيرة للأطفال صغار السن.
أما ما يخص النشاط الرياضي فيفضل أن يكون موعده سابقاً للبرنامج الثقافي، وذلك لشغف الأولاد وتعلقهم به، إذ إن علم الأولاد بوجود برنامج رياضي بعد البرنامج الثقافي: يقلل من إقبالهم وتفاعلهم الكامل مع البرنامج الثقافي.
ويفضل أن يتولى الإشراف على النشاط الرياضي أحد الآباء من ذوي الخبرة الرياضية في ميدان الحركة والنشاط، فيعد لهم برنامجاً منظماً يمارس فيه الأولاد معاً أنواعاً مختلفة من النشاطات الرياضية، فإن كان عددهم كبيراً جعلهم في مجموعات تمارس كل مجموعة لعبتها المفضلة.
ويراعي الأب النوع بين كرة القدم، والطائرة، والركض، واللعب بالرمل، والسباحة -إن تيسر- وتسلق الجبال ذات العقد، وغير ذلك من الألعاب المتنوعة المختلفة، والتي تعود على الأولاد بالفائدة الجسمية والنفسية.
ويحاول الأب بين فتره وآخرى أن يذكرهم بأن هدف الرياضة ليس من أجل الرياضة فحسب؛ بل هو تقوية الجسم، والمحافظة عليه، ليتقوى على طاعة الله، والقيام بالواجبات الشرعية التي كُلِّف بها المسلم.(1/180)
ويلاحظ الأب في اختيار الألعاب الرياضية بعدها عن العنف والخطورة، كاللعب بالأخشاب وضرب بعضهم بعضاً، أو الملاكمة، أواستعمال الآلات الحادة، أو الحديد، فقد جاء النهي عن ذلك، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من أشار إلى أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه، حتى إن كان أخاه لأبيه وأمه))، ففي الحديث نهي عن ترويع المسلم وتخويفه بحديدة أو نحوها، فربما أخطأ الولد وزلت يده وأوقع الحديدة، أو الآلة الحادة على أخيه أو زميله، فآذاه وآلمه وعكَّر جو المرح والأنس.
كما يؤدب الأب أولاده ويعلمهم كيف يلاعبون ويخالطون زملاءهم، فيعلمهم المصافحة والسلام، ويعرفهم أجر ذلك عند الله، ويوطِّنهم على تقديم الخير لهم بنفس سخية، وأن لا يبخلوا عليهم بما عندهم، ويعلمهم الترفع عن الأخذ منهم، إلا أن تكون هدية، فقد نصح بذلك ابن الحاج رحمه الله حيث قال: " ويُمنع أن يأخد من الصبيان شيئاً… بل يعلم أن الرفعة في الإعطاء لا في الأخذ". ويعلم الأولاد أن لا يأخذوا من أحد شيئاً دون رضاه حتى وإن كان ذلك من باب المزح والمداعبة، فقد ورد النهي عن ذلك حيث قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يأخذ أحدكم متاع صاحبه لاعباً ولا جاداً فإن أخذ أحدكم عصا صاحبه، فليردها عليه))، والحديث لم يترك حتى العصا التي لا يلتفت إليها، فالألعاب والملابس والأمتعة الأخرى من باب أولى يكون التحذير من أخذها أشد وأبلغ.(1/181)
وفي سبيل تقوية أواصر المحبة بين الأولاد وأصدقائهم من الصالحين، يحث الأب أولاده على دعوة زملائهم إلى المنزل في بعض الأحيان لتناول طعام العشاء مثلاً، ويحاول الأب أن يدخل عليهم جميعاً السرور مظهراً بهجته بحضورهم، وأنه سعيد بقدومهم، مراعياً عدم الإطالة في الجلوس معهم، إذ إن ذلك يقلل من حريتهم وانطلاقهم، ويحث أولاده على تقديم الهدايا لزملائهم إذا زاروهم فإن للهدية وقعاً طيباً في النفس، كما أنها تذهب ما يقع في الصدر من غل أو حقد، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((تهادوا فإن الهدية تذهب وغر الصدر)).
وإن حصل ان وجدت علاقة بين الولد وأحد الأولاد من غير الصالحين، وخشي الأب أن يؤثر على ولده سلبياً، وعجز عن توجيهه إلى الخير، أو لم يتمكن من ذلك فإن عليه أن يسارع بتنبيه ولده إلى وجوب قطع علاقته به وأن لا يخالطه مبيناً له ضرر ذلك الولد عليه، فإن تعذر ذلك لشدة تعلق الولد بزميله عمل الأب على تنفير الآخر بسوء استقباله وإظهار الاستياء لحضوره، وإن احتاج الأمر إلى إشعار أهله بذلك فحسن، إذ إنهم إن علموا بعدم رغبة الأب في مخالطة ولدهم لابنه أخذتهم العزة والأنفة، وحجزوا ولدهم ومنعوه عنه، أما ما يخص الصداقات والزمالة في المدرسة، فإن الأب يحاول أن يوجه ولده للانخراط في نشاطات المدرسة اللاصفية، وأهمها النشاط الكشفي؛ لما فيه من برامج تدرب على الجدية، والرجولة، والإقدام، إلى جانب تعلم الانضباط واحترام القيادة، وخدمة المجتمع، ويضاف إلى النشاط الكشفي نشاطات اللجان الطلابية مثل: لجان التوعية الإسلامية، واللجان الثقافية والاجتماعية. وعادة يكون الطلاب الملتحقون بهذه النشاطات جيدين ومثقفين أكثر من غيرهم، فلو تكونت بعض العلاقات والصداقات بين الولد وبعض هؤلاء الطلاب فلا بأس إن شاء الله.
4 - أدب الطفل في المجلس(1/182)
إن للمجلس آداباً وأخلاقيات ينبغي مراعاتها والاعتناء بها، وذلك لينشأ الأولاد متشبعين بالخلق الحسن والأسلوب الرفيع، فما أن يكبروا إلا ويقبل عليهم الناس محبة فيهم، وأنساً بقربهم، ورغبة في مخالطتهم.
ومن أهم هذه الآداب: حسن الضيافة والاستقبال، فإن كثيراً من الأولاد الكبار لايحسنون استقبال الضيف، أو التفاهم معه، ومعرفة طلبه، وذلك لأنهم لم يتدربوا عملياً على هذا السلوك، والواجب على الأب المسلم أن يُعرِّف أولاده كيفية استقبال الضيوف، وكيف يكلمونهم، وبأي أسلوب يحدثونهم، وذلك تحقيقاً لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)). وهذا يبدأ نظرياً بالبيان والتعليم، ثم يمارس عملياً، فيترك الأب للولد فرصة لتطبيق ما أرشده إليه في هذا المجال، فإن كان الأب في انتظار شخص ما، أو قريب ما، أوكل إلى الولد استقباله بعد أن يكون قد عرفه الأسلوب الحسن والطريقة المثلى في ذلك، مع إرشاده إلى المكان المراد استقبال الضيف فيه.
ويحاول الأب أن يراقب الولد عن كثب؛ ليعرف مدى نجاحه في التطبيق، ويرشده إلى الأخطاء التي عملها إن وجدت مع مكافأته. وبهذا الأسلوب يتدرب الولد على مخالطة الناس، وتتكون لديه القدرة على التفاهم والجرأة، فلا يهاب الغريب، ولا يخجل من الضيف.
كما يوليه أمر خدمة الضيف من تقديم المرطبات والماء، أو الأكل، أو مساعدته للوصول إلى دورة المياه، وغير ذلك من الخدمات. ولا ينبعي أن يفهم الأب من ذلك أنها مهانة للطفل، أو تحقير له، أو هضم لحقوقه وإلغاء لشخصيته، بل يجب أن يعرف أن هذا هو نهج خير الخلائق محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد كان يقوم بنفسه أحياناً فيخدم الضيوف وذلك مع جلالة قدره وعظيم منزلته ومكانته، وكذلك نبي الله إبراهيم - عليه السلام -.(1/183)
ويعود الأب ولده أدب المجلس فإذا حضر الكبار استمع إلى حديثهم، فلا يتكلم إلا إذا طلب منه، وهذا نهج أبناء الصحابة إذا حضروا مجالس الكبار، فقد روى البخاري في صحيحه أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أخبروني بشجرة مثلها مثل المسلم تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ولا تحت ورقها؟ فوقع في نفسي النخلة فكرهت بأن أتكلم وثم أبو بكر وعمر))، ويظهر من هذه الرواية أدب الصغير في مجالس الكبار، فلا يتكلم إلا عند الحاجة وإذا طلب منه، وهذا الأدب يُعلمه الأب ولده، وينبهه عليه، فلا يكثر الكلام واللغط في المجلس، فهذا من قلة الحياء.
ومن آداب المجلس أيضاً تعويد الولد وتدريبه على آداب العطاس والتثاؤب، فإن الولد إن لم يتعلم تلك الآداب والسنن، ويتدرب عليها ربما فتح فاه أمام الناس داخل المجلس بصورة قبيحة، وربما عطس أو سعل في وجه أحد الجالسين فأصاب بعضهم من الرذاذ المتطاير إلى جانب رفع الصوت بتركه تخمير وجهه، وهذا لا شك من سوء الأدب، وقبح التصرف. والولد لا يُعاتب في ذلك إن لم يكن قد أُدب ووجه إلى الأسلوب الصحيح عندما تعتريه هذه الأحوال البشرية الطبيعية، إنما يعاتب المربي. والسنة في العطاس هي تغطية الوجه باليد، أو بالثوب، أو نحوهما، وذلك لما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ((كان إذا عطس غطى وجهه بيده أو بثوبه وغض بها صوته)) رواه الترمذي، والأفضل هو تغطية الوجه عند العطاس بمنديل، إن وجد، أو بالثوب، أما باليد فلا يفعله إلا إذا عدم المنديل، أو لم يتمكن من وضع ثوبه على وجهه وذلك لأنه يخرج من العطاس عادة رذاذ ومخاط فلا يكون لائقاً أن يصيب يده ثم يمسحه في ثوبه، أو في الأرض، ثم يصافح الداخلين إلى المجلس، والأليق هو تعويد الولد على حمل المنديل في الجيب فإن احتاج إليه أخرجه وتنظف به.(1/184)
ويعود الولد على كظم صوته عند العطاس ولا يلفت الأنظار إليه بشدة الصوت الذي يخرجه، ويعلم حمد الله بعده، ويذكر إذا نسي كأن ينظر إليه، أو يقول له الأب: "ماذا يقول المسلم إذا عطس؟" وهكذا حتى يتعود على هذا الأدب ولا ينساه.
أما التثاؤب فهو مكروه، ومن فعل الشيطان، والأدب الإسلامي في ذلك هو ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الشأن حيث قال: ((التثاؤب من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع))، وذلك لأن التثاؤب من الكسل وثقل البدن، والميل إلى الاسترخاء، وهو بعكس العطاس الذي يدل على النشاط والخفة، وقد ذكر العلماء سبب تغطية الوجه ووضع اليد على الفم ذلك لئلا يضحك الشيطان من الإنسان بتشويه صورته ودخوله في فمه.
وهذا الأدب يلزم به الأب ولده بالتكرار والتنبيه، مع إفهام الولد أن التثاؤب من الشيطان، وأنه يضحك عليه إن تثاءب ولم يغط فمه، ويحاول الأب أن يريه شكل المتثائب الذي لا يتأدب بهذا الأدب النبوي الرفيع، كيف أن فاه قد فتح بصورة بشعة تدل على خفة العقل وضعفه، فيرشده إلى النظر في المرآة، وكيف أن المتثائب قبيح المنظر بشع الصورة، وبذلك ينفر الولد من هذا السلوك، ويعتاد ذلك الأدب.
ومن آداب المجلس أيضاً شكر المضيف والدعاء له فإنه "لا يشكر الله من لا يشكر الناس" فشكر الناس على حسن صنيعهم مهم ومطلوب وهذا الأدب يعوده الأب ولده عن طريق القدوة والتوجيه، فيأمره قبل الانصراف من المجلس أن يقول لصاحب البيت: "جزاك الله خيراً"، أو نحو ذلك من عبارات الدعاء والثناء، فيتعلم الولد أدب التعامل مع الناس، وخفض الجناح، وتقدير المعروف، ورده لأصحابه.(1/185)
ويذكر الإمام الغزالي رحمه الله بعض الآداب التي ينبغي للأب تعويد ولده عليها وإلزامه بها في المجلس، فيقول: "وينبغي أن يعود ألا يبصق في مجلسه، ولا يمتخط، ولا يتثاءب بحضرة غيره، ولا يستدبر غيره، ولا يضع رجلاً على رجل، ولا يضع كفه تحت ذقنه، ولا يعمد رأسه بساعده فإن ذلك دليل الكسل، ويعلَّم كيفية الجلوس، ويمنع لغو الكلام وفحشه" وهذه الآداب التي ذكرها الغزالي رحمه الله لو تمكن الأب من تعويد ولده عليها لكان الولد وأبوه قدوة حسنة لغيرهم، ونموذجاً إسلامياً يحتذى.
وعندما يدعى الأب وابنه إلى وليمة، أو لقاء اجتماعي، أو نحو ذلك يحاول قدر المستطاع أن يلصق ابنه به، ولا يترك بينهما فرجة لإمكانية جلوس أحد بينهما، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: ((ولا يجلس الرجل بين الرجل وابنه في المجلس)) ولعل السبب أن هذا يحزن الولد وأباه، كما أن هذا التفريق بين الأب وولده في المجلس يحرم الأب فرصة مناسبة لتوجيه الولد عند صدور خطأ منه، أو سوء تصرف في المجلس، خاصة إذا كان الولد صغيراً، كما أن هذا التصرف من الجالس بين الأب وولده يعد من سوء الأدب إن كان عالماً بذلك، وعلى الأب أن يمنعه من هذا المجلس بحسن التصرف، ومن أفضل الوسائل عدم ترك فرجة بينه وبين ولده.
ولا ينسى الأب تحفيظ ولده الدعاء المأثور عند ختام المجلس وقوله عليه الصلاة والسلام: ((من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك)) وهذا التعويد يكون بالقدوة، فلا يقوم الأب من مجلس في البيت أو غيره إلا ويقول هذا الدعاء، رافعاً به صوته ليتعلمه الولد ويقتدي بأبيه، فإن نسي الولد ذكره.(1/186)
ولابد من ملاطفة الأولاد في المجلس، خاصة الصغار منهم، وعدم تحقيرهم، أو طردهم من المجلس، فقد كان بعض الأطفال الصغار يحضره مجلس الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد كان عليه الصلاة والسلام يعطف عليهم، ويدخل عليهم السرور بإعطائهم ما يحضره من فاكهة وغيرها عندما يؤتى بها في أول الثمر والإنتاج، والأب يقتدي في هذا بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيحسن على الأولاد في المجلس، ويعطيهم من الطعام والفاكهة والحلوى ما يفرحهم ويدخل عليهم الأنس والسرور، ولا يمنعهم من الجلوس مع الكبار.
5 - آداب الطريق للطفل المسلم
يطالب دين الإسلام أفراده المسلمين بأن يلتزموا في سلوكهم تجاه بعضهم البعض بآداب وأخلاق رفيعة، مع التحذير من الشحناء والبغضاء، والإيذاء، والتكبر والافتخار، وغير ذلك من ذميم الأخلاق، يقول الله - سبحانه وتعالى - في كتابه العزيز: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:18-19]، فتشير الآيتان الكريمتان إلى آداب عامة مع الناس في حسن المخاطبة، وترك الكبر، واحتقار الناس، والأمر بالتوسط في السير، وخفض الصوت بقدر الحاجة، وذلك ليعيش الناس في جو من الأنس بعيداً عن التوتر والبغض، الذي يقع في النفوس من جراء الاتصاف بهذه الصفات المذمومة.
وفي هذا المجال يقول عليه الصلاة والسلام لأبي ذر: "يا أبا ذر اتق الله حيث كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن"، أي عاملهم معاملة طيبة ولا تسيئ إليهم بقول أو فعل.(1/187)
وهذه التوجيهات الخلقية المباركة يجب أن تجد لها متنفساً اجتماعياً واقعياً تمارس فيه، فالأخلاق لا يمكن أن تكون تصورات ذهنية لا واقع لها ولا تطبيق، فإنها بذلك تتفلت وتندثر، ولا يمكن أن تثبت إلا بالممارسة والمدوامة عليها.
لهذا كان لزاماً على الأب أن يوجه ولده إلى هذه الآداب، والكليات الخلقية، ويهيء له فرصة عملية للممارسة والتطبيق، لترسيخ المفاهيم، ولتصبح خلقاً في النفس لا تنفك عنه ولا تنفصل، فالطريق، وأماكن تجمعات الناس يمكن أن تمارس فيها كثير من هذه الأخلاق والآداب. فإذا كان الأب مع الولد في الطريق وشاهد فقيراً رث الثياب، حافي القدمين، تظهر عليه علامات المسكنة والضعف، هنا يسأل الأب ولده - بعد أن يلفت نظره إلى هذا المسكين- ويقول له: "ما رأيك يا ولدي في هذا الرجل؟" فيجيبه الولد: "هذا رجل فقير وسخ الثياب، فيقول له الأب: " أما تعلم يا ولدي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((رب أشعث مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره)) !! يا بني ما يدريك أن هذا الفقير له عند الله منزلة عظيمة، وما يدريك أنه لو سأل الله شيئاً لاستجاب له " !!.
هذا الأسلوب التوجيهي للولد يعلمه عدم احتقار غيره، حتى وإن كان من الخاملين الضعفاء، ويعلمه أيضاً أن الميزان عند الله التقوى والإخلاص، لا المظهر وحسن الثياب، كما أن تفضيل الناس بعضهم على بعض غيب لا يعلمه إلا الله.
ويعلم الوالد ابنه الدعاء المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عند رؤية المصابين بالعاهات، مثل: الأعمى، والأعرج، والمريض، وغيرهم، فإن شاهدا مصاباً أو مبتلى ذكّر ولده بالدعاء الذي يقول فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً)) ويطلب منه ترديده ليحس الولد بنعمة الله عليه وفضله، بأن جعله سوياً في خلقته، معافى في بدنه وصحته.(1/188)
وأكثر الأطفال يهابون القرب من المصابين بالعاهات خوفاً منهم، فلو حاول الأب أن يثبت لولده أنه لا داعي لهذا الخوف فقد أحسن، ويمكن تطبيق هذا عن طريق القرب من أحدهم ومصافحته أو حمله في السيارة ليصل إلى بيته، فيرى الولد أنه لا داعي للخوف منهم، بل يجب العطف عليهم، ومواساتهم وتقديم العون لهم قدر الإمكان.
وللسلام منزلة مرموقة في الإسلام، فهو شعار خير، وتأليف للقلوب، ونشر للمحبة، خاصة وقد جاء الأمر من الله - سبحانه وتعالى - برد السلام حيث قال: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86]، فإذا سلّم المسلم وجب رد السلام عليه بمثل ما قال أو يزيد، فإن إلقاء السلام سنة مستحبة، أما رده ففريضة واجبة.
ويؤدب الأب ولده ويعلمه هذه السنة المباركة، فإذا شاهد الكبير أمره بالسلام عليه، وإذا مر بالقاعد أو بجمع من الناس أمره بالسلام عليهم، ويكون الأب نفسه قدوة في ذلك، يحرص على إلقاء السلام ورده متأدباً مع الكبير والقاعد والجمع الكثير، فيبدأهم بالسلام، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام منظماً لهذه السنة، وواضعاً أصولها وآدابها: ((يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير))، ويحاول الأب أن يرغِّب ولده في السلام عن طريق تعريفه بأن السلام طريق الجنة وأن له بالسلام أجراً عند الله تعالى.
ومن آداب الطريق السهلة والميسرة، والتي رتب عليها هذا الدين أجراً كبيراً، قضية إزالة الأذى عن طريق المسلمين، حيث قال عليه الصلاة والسلام: "بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك فأخذه فشكر الله له فغفر له" إن هذا العمل في ظاهره يسير وسهل ولكنه يدل على تلك النفس الطيبة الزكية التي تحب لغيرها من المسلمين ما تحبه لها، فإماطة ما يؤذي المسلمين عن الطريق يدل على حبهم، والسعي في خيرهم، وتجنيبهم ما يضرهم، لهذا كان أجر هذا المحسن كبيراً عند الله تعالى.(1/189)
وهذا التوجيه النبوي المبارك يمكن أن يتعلمه الولد عن طريق التوجيه المباشر من الأب، بالإضافة إلى المشاهدة والقدوة. فإذا شاهد الأب شيئاً يمكن أن يؤذي المارة من حجر أو قشرة موز، أو قطعة خشب، أو غير ذلك أزالها من الطريق وأمر ولده بذلك، وإذا كان في سيارته وشاهد سقوط حجر أو غصن شجرة من سيارة النفايات وخشي سقوط كميات أخرى على الطريق لحق بقائد السيارة وأشعره بذلك، فإن لم يتمكن من اللحاق به أوقف سيارته ونزل هو والولد وحملا الغصن أو الأحجار عن الطريق، موضحاً لولده أن هذا واجب المسلم، وأن الأجر عند الله على ذلك المغفرة والجنة، وبهذا العمل اليسير يتعلم الولد درساً عظيماً في معاني الأخوة وحب المسلمين.
وفي هذا المجال يحذر الأب كل الحذر من إلقاء النفايات في الشارع، أياً كانت صغيرة أو كبيرة، فإن كان في البيت وضعت النفايات في الأوعية المخصصة لذلك، وإن كان في السيارة وضعت النفايات في أكياس صغيرة ثم تلقى في الأماكن المخصصة لها، وإن كان يسير على قدميه وضعها في جيبه. وهكذا لا يلقي شيئاً أمام الولد في أي مكان، فإن فعل خطأ وشاهده الولد سارع بالاعتذار بالنسيان والخطأ. والأب إن لم يفعل هذا ويحتاط، ويكون قدوة في هذا المجال، فإن كل ما بناه في ذهن الولد نظرياً من آداب الطريق والمحافظة على نظافته، يمكن أن يهدم بواقعة واحدة من أخطاء الأب في التطبيق العملي.
وربما يخطئ الولد في بعض الأحيان - بعد التوجيه والبيان- ويتغافل عن هذه الآداب. فإن حصل أن رمى بشيء من نافذة البيت، أمر بإعادته، وإن رمى بشيء من السيارة في الطريق العام أعاد الأب السيارة إلى الموقع وأمره بإعادة ما رمى. هذه الدروس - وإن كان فيها بعض العنت على الأب - إذا تلقاها الولد مرة أو مرتين فإنه لن يتجرأ بعد ذلك، ولن يتهاون في هذا الأدب الإسلامي الرفيع.(1/190)
وحول آداب الطريق يُعلّم الأب ولده الأسلوب الصحيح في اجتياز الشارع، إذ إن كثيراً من الآباء يغفلون هذا الجانب المهم فيما يتعلق بالطريق، وإن جهل الولد بهذه المعرفة، وعدم تدريبه عليها ربما كلف ذلك حياة الولد، أو إصابته إصابة لن يبرأ بعدها. فإن حوادث السيارات في العادة عنيفة، ونتائجها قاسية خطيرة، لهذا يدرب الأب الولد على حسن اجتياز الشارع، ويدربه على فهم رموز وألوان إشارت المرور، وكيف يستخدمها.
أما ما يتعلق بالسلبيات التي يمكن أن تؤثر على الولد في طريقه، وما يشاهده في الشارع، فإن العالم الإسلامي اليوم قد خالطه كثير من الشر والانحراف، فكثير من البلاد الإسلامية امتلأت شوارعها بالنساء المتبرجات، ومحلات الخمور وبيوت الدعارة، وأماكن اللهو المحرم من المراقص والنوادي الليلية، وشواطئ العري، وغيرها من مظاهر الانحراف، إلى جانب منكرات القول، وسوء الألفاظ، والغيبة، والنميمة، والغش، وترك الصلاة في المساجد، وغير ذلك. هذه المنكرات والمثالب لابد للأب المسلم أن يكون له مع ولده موقف واضح منها؛ إذ إن الولد يسمع من أبيه كلاماً جميلاً عن الإسلام وآدابه، وحسن السيرة والمعاملة، فإذا خرج إلى الشارع وجد تناقضاً تاماً بين ما يسمع وما يرى، فلو قدر أن عاش الولد فترة من الزمن على هذه الحال دون توضيح أو إرشاد من المربي، وقع في نفسه جواز مخالفة القول للعمل، وأن هذه المثاليات التي تقال ليست للتطبيق في الشارع، وأن هؤلاء الناس ليسوا مطالبين بهذه الآداب والأحكام الشرعية. وهذا التصور المنحرف إن وقع في نفس الولد كان كافياً لانحرافه بالكلية وضياع جهد التربية والتعليم، وما هلك أكثر المسلمين وضلوا إلا لمخالفة أقوالهم ومعتقداتهم لواقع حياتهم وأفعالهم.(1/191)
والحل في هذه القضية لا يكون بعزل الولد عن المجتمع بالكلية، فهذا أمر لا طائل وراءه، ولا يمكن تحقيقه، وليس هو بالحل السليم، حتى وإن أمكن تحقيقه، ولكن الذي يطالب به الأب ويسعى لتحقيقه هو: حماية الولد من تأثير الشارع قدر المستطاع، وفي حدود الإمكانات البشرية المتاحة، دون تكلف أو تفريط، فيحاول دائماً تعريف الولد بالنماذج الصالحة التي يصادفها في الطريق، وتعريفه أيضاً بالنماذج المنحرفة التي يراها، ويعلمه ويدربه على ذلك بالتكرار حتى تصبح لديه القدرة على التمييز بين الخطأ والصواب، وبين من يمثل الإسلام واقعاً في حياته، وبين المفرِّط المسيء، ويحاول أن يزيل ما يقع في ذهن الولد من تصورات، أو أفكار منحرفة، أو شبهة مما تلقيه الجاهلية في داخل المجتمع المسلم، فيرد على هذه الشبهات ويرد تلك التصورات الخاطئة مستعيناً في كل هذا بقوة الله وعونه، ومتبرئاً من حوله وقوته، فإن هذه المهمة الشاقة لا يقدر عليها إلا من وفقه الله تعالى، وأراد به وبذريته الخي
6 - أدب اختلاط الطفل بغير المسلمين
من آثار الولاء والبراء ترك الاختلاط بالكفار من اليهود والنصارى وغيرهم، إذ إن كثرة الاختلاط بهم، ومشاهدتهم الدائمة، خاصة في هذا العصر حيث ينتسب أكثرهم إلى دول كبرى تعتبر في عرف بعض الناس مناراً للحضارة، ومثالاً رائعاً للتقدم الصحيح، يعتبر خطراً كبيراً على االعقيدة والإيمان، إذ تزول بالتدرج تلك النفرة منهم، وتصبح رؤيتهم أمراً طبيعياً لا يستنكر، وربما تطور الحال حتى يقروا على ما هم عليه من الشرك والكفر، فلا يستنكر ذلك منهم.(1/192)
والناظر في أحوال المسلمين اليوم ودخول هذا العدد الهائل من الكفار إلى بلاد المسلمين، خاصة من نصارى أوروبا وأمريكا، واختلاطهم بالمسلمين، واستحواذهم على بعض مراكز القوى في البلاد، وتمتعهم بمميزات فائقة في أكثر المجالات، مثل رفاهية المسكن، والمركب، وارتفاع المخصصات الشهرية، والظهور أمام المسلمين بأحسن هيئة وقد ارتسمت على وجوههم الابتسامات، إلى جانب استخدامهم اللطافة في تعاملهم مع المسلمين مكراً منهم ودهاء، هذا الوضع بهذه الصورة يضعف في النفوس بغضهم، بل ربما أوقع في النفوس حبهم، واحترامهم، وتقديمهم، رغم ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام من وجوب الاستعلاء عليهم، وعدم ابتدائهم حتى بالسلام حيث قال: ((لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيقه))، وقد ذهب جمهور علماء الأمة إلى عدم جواز ابتدائهم بالسلام، فإن احتاج المسلم إلى ابتدائهم بالتحية قال "أنعم الله صباحك" أو نحو ذلك. أما لفظ السلام الذي هو اسم من أسماء الله - عز وجل - فلا يكون إلا للمسلمين إخوان العقيدة والدين. فإذا كان حكم السلام عليهم محظوراً، فكيف بحبهم وتقديمهم على المسلمين؟(1/193)
ولا شك أن الأب المسلم يواجه في تحقيق هذه القضية وهذا المبدأ الإسلامي العظيم صعوبة، خاصة بعد انتشارهم في البلاد، فلا يكاد يوجد بلد إسلامي إلا وفيه أناس من غير المسلمين يعيشون في بحبوحة تفوق حياة أكثر عامة المسلمين. ورغم هذه الظروف الصعبة فإن الأب لا يعفى من القيام بالمسؤولية، بل عليه أن يضاعف الجهد، ويزيد العطاء ليواجه هذا الضغط الاجتماعي الرهيب على نفس الولد، لا سيما في عصر العولمة، وينتهج في ذلك الأساليب والوسائل المتيسرة، ومن أهم هذه الوسائل: اختيار المسكن، فلا يسكن في الأحياء التي يكثر فيها النصارى، أو الكفار، ولا يجاورهم، ولا يأخد ولده إلى الأماكن التي يشاهدون فيها، مثل الشواطئ، والأسواق، وبعض الإدارات، والمصانع، والورش، فإن حدث أن اضطر الأب لمجاورتهم ومخالطتهم كأن يلتقي بهم في الطائرة، أو في مكان ما، فإن ظهوره أمام الولد بمظهر المستعلي بإيمانه لا يأبه بهم، ولا يكترث لوجودهم: يعد أمراً مهماً، مع تعريف الولد بهم، وإشعاره أن هؤلاء ليسوا من المسلمين؛ لتحصل له القدرة على التمييز بينهم وبين المسلمين، خاصة وأن بعض المسلمين يتشبه بهم، وأصبح من الصعب التمييز بينهم. وإن سنحت الفرصة للحديث مع أحدهم، فليكن حديثه معه يدور حول دعوته إلى الإسلام، وتعريفه به، ولا يكون حديثه معه من باب التفكه، أو الملاطفة، فإن هذا يوقع في نفس الولد الاختلال بين الجانب النظري الذي تلقاه من والده، وبين الجانب السلوكي التطبيقي الذي يشاهده أمامه من ملاطفتهم ومجاراتهم، ولا يعني هذا شتمهم أو تقبيحهم أو الإساءة إليهم فإن لهم على المسلم حق العدل والمعاملة الحسنة في الحدود الشرعية.(1/194)
وقضية أخرى تعد أخطر القضايا في هذا المجال وهي قضية السفر إلى بلاد الكفار، فهي أخطر بكثير من مجرد الاحتكاك بهم في بلاد المسلمين، إذ تضعف سلطة المسلم في تلك البلاد، وربما تزول بالكلية، وهنا لا بد أن تكون للأب المسلم وقفة صارمة قوية في هذه القضية؛ إذ إن كل ما يمكن أن يقال للطفل من وجوب بغض الكفار، وعدم موالاتهم , وغير ذلك من معاني الولاء والبراء؛ كل هذا يمكن أن يزول بمجرد قرار الأب السفر للتنزه في دولة من دول الكفار؛ إذ يعيش الولد حالة من الصراع النفسي بين ما يسمعه من التوجيهات، وبين ما يعيشه من المخالفات، ولا شك أن الجانب العملي والواقع التطبيقي، أكثر تأثيراً في الولد من الجانب النظري الذي لا واقع له ولا تطبيق.(1/195)
ولا يخفي على المسلم ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن العيش مع الكفار ومخالطتهم، ومن ذلك قوله: ((أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين))، وفي رواية قال: ((لا تساكنوا المشركين ولا تجامعوهم، فمن ساكنهم أو جامعهم فهو مثلهم))، وفي رواية قال عليه الصلاة والسلام: ((من أقام مع المشركين فقد برئت منه الذمة))، فهذه النصوص الزاجرة كفيلة بزجر الأب عن التفكير أصلاً في السفر إلى بلاد الكفار للنزهة وللفرجة، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية في زمنه في القرن الثامن الهجري عن سفر الرجل بأهله للنزهة، وللفرجة في مكان يشاهد فيه المنكر ولا يستطيع إزالته؟ فأجاب رحمه الله بقوله: " ليس للإنسان أن يحضر الأماكن التي يشهد فيها المنكرات ولا يمكنه الإنكار؛ إلا لموجب شرعي مثل: أن يكون هناك أمر يحتاج إليه لمصلحة دينه أو دنياه لا بد فيه من حضوره، أو يكون مكرهاً، فأما حضوره لمجرد الفرجة، وإحضار امرأته تشاهد ذلك فهذا مما يقدح في عدالته ومروءته إذا أصر عليه "، فلا يجوز -بناء على ما تقدم- أن يسافر الأب والأولاد والأهل إلى هذه البلاد الكافرة التي يشاع فيها المنكر ولا يستطيع المسلم إزالته أو إنكاره، أما المضطر فإنه يجوز له بقدر الحاجة دون إفراط، ولا ينبغي له أخذ الأولاد إلا إذا لم يجد له بداً من ذلك. وعليه قبل أن يقرر سفره المضطر إليه أن يسأل الثقات من علماء بلده عن جواز سفره هذا، وهل له أن يأخذ الأولاد أم لا ؟ فإن حدود الاضطرار والضرورة لا يحددها الرجل لنفسه، بل يحددها الشرع من خلال اجتهاد العلماء الموثوق بدينهم وسيرتهم.(1/196)
فإذا جاز له السفر هيأ الأولاد لذلك، وعرفهم أنه مضطر للسفر بهم، وأوضح لهم بصورة تقريبية أوضاع تلك البلاد، وأن المنكر فيها شائع ويعطيهم وصفاً لبعض ما يمكن أن يشاهدوه هناك من الانحرافات، وذلك لئلا يصطدموا برؤية تلك الانحرافات الكبيرة فيتأثروا وعليه قبل السفر أن يسأل الهيئات المختصة في بلده عن المساجد، والمراكز الإسلامية في تلك البلاد، ويتصل بهم قبل سفره ليهيئوا له المكان المناسب ويستقبلوه، وهناك يشغل أولاده بنشاطات تلك المراكز الإسلامية، ولقاءات الطلاب المسلمين فيها، مراعياً أن يكون سكنه بجوار إحدى هذه المراكز، وبالقرب من العائلات المسلمة في تلك البلاد وعليه أن يسارع بالعودة إذا انتهت مهمته ولا يطيل البقاء.
7 - حفظ الطفل من انحرافات المرتدين
يبين الله - عز وجل - في كتابه العزيز موقف المؤمنين الصادقين مع أقربائهم إذا خالفوهم في العقيدة والدين، فيقول - سبحانه وتعالى -: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ} [المجادلة:22]، هذه الآية قطعت كل حبال الود والرحمة بين المسلم والكافر، مهما كانت قرابته ومنزلته، إذا كان ذلك على حساب الإيمان؛ وذلك لأن العقيدة الإسلامية، وتوحيد الله - عز وجل - أغلى وأعظم من كل هذه القرابات والصلات العرقية، فهؤلاء أصحاب النار، وهؤلاء أصحاب الجنة، ولا بد للافتراق عنهم في الآخرة، أن يفترق المسلم عنهم في الدنيا ولو بقلبه وشعوره.(1/197)
والأمة الإسلامية اليوم يعيش بعض أبنائها في بعض جوانب حياتهم ردة عن الإسلام بعلم منهم أو بجهل، ومن أعظم مظاهر هذا الارتداد عن الدين ونبذه: التحاكم إلى غير شرع الله، والرضا بذلك والاقتناع به، أو رفع الشعارات المخالفة للدين وتقديمها عليه، كشعار القومية العربية، أو الوطنية التي تجمع وتؤلف وتساوي بين أبناء الوطن الواحد من مسلم وكافر دون تفريق، أو رفع شعار الاشتراكية المخالفة للعقيدة الإسلامية، ويضاف إلى هذا كراهية بعض شعائر الدين وشرائعه مثل الصيام، والحجاب، وغيرهما.. أو الاستهزاء بشيء من الدين، أو الاستهزاء بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو وصف الله - عز وجل - بما لا يليق بجلاله، أو موالاة الكفار وحبهم وتقديمهم على المسلمين، أو جحود السنة المطهرة وعدم التحاكم إليها والرضا بها.
ويضاف إلى هذه المظاهر الخطيرة أيضاً قضية خطيرة جداً وقع فيها كثير من المسلمين، وهي قضية ترك الصلاة عمداً وتهاوناً وتكاسلاً عن أدائها، فإن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا يعتقدون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة، وقد نقل عن بعض السلف أن من ترك فرضاً واحداً من الصلاة متعمداً حتى يخرج وقتها فقد كفر وارتد، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: ((إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة))، وقد ذكر الإمام النووي في شرحه هذا الحديث اختلاف العلماء في كفر تارك الصلاة تكاسلاً مع الاعتقاد بوجوبها، كما ذكر إجماعهم على كفر تاركها جحوداً بها وإنكاراً لوجوبها.
وعلى القول بكفر تاركها تكاسلاً وتهاوناً بها مع الاعتقاد بوجوبها، فإن كثيراً من أبناء المسلمين اليوم يعيشون حالة من الارتداد عن الدين، والأب المسلم الواعي بهذه القضية يعيش حالة من الشدة والضنك، يخشى تأثير هؤلاء على أولاده، خاصة إن كان بعضهم من الأقرباء، أو الجيران، فإن القضية تكون بذلك عظيمة وشديدة على نفسه، وخطيرة على الأولاد.(1/198)
ولعل أمثل الحلول لهذه القضية، حفاظاً على الأولاد، أن يقطع الصلة والاحتكاك بين الأولاد وهذه الفئة الضالة من البعيدين من غير الأقرباء، فلا يقيم الأب مناسبة تجمعهم بالأولاد، ولا يأخذهم إليهم في أية مناسبة معتذراً في ذلك بالأعذار الشرعية المناسبة.
أما إن كان بعض هؤلاء من الأقارب فإن استطاع الأب قطع صلته بهم بالكلية وهجرهم في الله بعد إقامة الحجة عليهم ودعوتهم بالحسنى، فإن فعله هذا حسن، وله أصل في الشرع. وإن احتاج لمصارحة الأولاد الكبار خاصة بهذه القضية فلا بأس أن يعرض عليهم القضية بكل جدية موضحاً حكم الله وحكم رسوله في أمثال هؤلاء، أما إن ظن الأب أن أولاده لا يطيعونه في ذلك، وربما جعل في نفوسهم خللاً وتردداً لقصر فهمهم لمثل هذه القضايا ولصغر سنهم، انتهج أسلوباً آخر، وهو قطع الصلة بهؤلاء خفية، كأن يقتصر على السلام بالهاتف، أو يقصد ملاقاتهم في أماكن لا يطول فيها اللقاء، ويقل فيها التأثير مثل السوق، أو الشارع، أو في حفلة كبيرة لا يطول فيها اللقاء بين الأولاد وذلك القريب، ويتجنب زيارته لهذا القريب في بيته مع الأولاد، وإن اضطر إلى ذلك جعلها زيارة قصيرة جداً معتذراً بالأعذار المناسبة، ويحاول قدر المستطاع أن لا تتكون علاقة بين أولاده وأولاد ذلك القريب؛ إذ إن هذه العلاقة سوف تجر الأولاد إلى الإلحاح على الأب لإكثار اللقاءات بهم وزيارتهم، ولا شك أن لهؤلاء الأولاد-بكثرة اللقاءات- أثراً سلبياً على أولاده، وذلك لأنهم لم يتربوا على المفاهيم الإسلامية، والآداب الشرعية لكون رب الأسرة منحرفاً.(1/199)
وكل ما سبق من الإجراءات الوقائية ضد المنحرفين من الأقارب تكون في حالة القريب المستتر بذنبه غير المجاهر أو الداعية إلى الضلالة. فإن كان مجاهراً بالفسق، معلناً جحوده، مستهزئاً بالدين وأهله، يدعو إلى شعار من شعارات الجاهلية، فإن هذا القريب لشدة خطورته وإمكانية إضلاله للأب فضلاً عن الأولاد، لا تجوز مخالطته ولا معاشرته، بل يجب هجره في الله ومعاداته في الله، وتوضيح قضيته للأولاد عند الحاجة، مع قطع الصلة به ابتداء قبل أن يتعود الأولاد على رؤيته، وللأب في رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابه الكرام القدوة في ذلك، فقد هجروا الثلاثة الذين خُلِّفوا عن غزوة تبوك، رغم أنهم كانوا من خيار المسلمين، ومن أفاضلهم، ولم توجب معصيتهم الكفر، ومع هذا هجرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، فهجر المرتد المجاهر بالكفر والمعصية المعاند لله ولدينه أولى وأحرى، قال الإمام أحمد فيما نقله عنه ابن رجب رحمهما الله: " الناس يحتاجون إلى مداراة ورفق في الأمر بالمعروف بلا غلظة إلا رجلاً معلناً بالفسق فإنه لا حرمة له "، وهذا القريب بهذه الملابسات لا حرمة له ولا تقدير.
ويجب أن يفرق بين المرتد وبين الفاسق، فليس كل من عصى الله بعلم أو جهل يعد كافراً، فإن إطلاق الكفر على المسلمين دون روية أو تأكد يعد جريمة في حد ذاته، إلى جانب أن هذا الفعل لا يعود على المسلمين بخير، بل الواجب أن يكون المسلم مع عصاة المسلمين مبغضاً لهم بقدر معصيتهم، ومحباً لهم لإسلامهم وبقدر طاعتهم لله، فهو معهم بين حبهم بقدر وبغضهم بقدر دون إفراط أو تفريط في جانب من الجوانب.
8 - توجيه الطفل للدعوة إلى الله(1/200)
إذا تعرف الولد على أوضاع الأمة، وما أصابها من نكبات وجهل، وفقر، وغير ذلك من المصائب، فإن واجب الدعوة إلى الله هو الحل الوحيد والأمثل لهذه المصائب، وباستمرار الأب في توعية الولد الكبير بهذه الأحوال مع توجيهه إلى أهمية التعريف بهذا الدين من جديد: يزرع في نفس الولد حب الدعوة إلى الله، فيسأل أباه كيف يعمل ليغير هذا الواقع؟ وما هو السبيل لإرضاء الله في هذا الجانب؟
وإذا صدر من الولد مثل هذا الميل، وهذا الحماس، وجب على الأب أن يسارع في ربطه بسلك الدعوة والدعاة من علماء الأمة وشبابها، ولا يتهاون في ذلك، فإن إشغال الولد بجانب الدعوة إلى الله والإرشاد والتوجيه للناس يكون فيه ربط له بالناحيه الاجتماعية، إلى جانب إشغال وقته بالمفيد النافع.
ولا بد أن ينطلق الأب مع ولده من منطلقات أساسية قوية حول بعض المفاهيم المتعلقة بالدعوة إلى الله، إذ إنه ليس كل متحمس للدعوة يصيب الأسلوب الصحيح والمنهج القوي، فقد يقع في إفراط أو تفريط، أو جفاء أو غلو.(1/201)
وأهم هذه القضايا الأساسية في مفاهيم الدعوه إلى الله بعد إخلاص النية والقصد، وسلامة الطوية، مسألة الحكمة في الدعوة، وتجنب الغلظة والشدة، وذلك لقوله - عز وجل -: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل:125]، وقد تقدم قول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في أهمية الرفق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقول ابن مسعود رضي الله عنه مبيناً الطريق لأسر قلوب الناس: "جبلت القلوب على حب من أكرمها، وبغض من أهانها"، فإذا عرف هذا الأصل العظيم اهتم الأب بتوجيه ولده نحو الأخذ به، والعمل بموجبه، مع إفهامه أن الغلظة والشدة لا تكون إلا للمجاهر بالفسق الداعي إلى الضلالة بعد إقامة الحجة عليه ودعوته بالحسنى؛ فيتربى الولد على المنهج الصحيح في أسلوب الدعوة إلى الله، فلا يبلغ سن الرشد إلا وقد تمكن حب الدعوة إلى الله في قلبه وامتزجت بدمه وروحه.(1/202)
وينبغي أن يفهم أن التعامل مع أهل الكتاب، أو غيرهم من الكفار المستأمنين من الذين يعيشون بين المسلمين في ديارهم لهم حق في أن يعاملوا بالحكمة أيضاً، وأن يجادلوا بالتى هي أحسن، كما قال الله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت:46]، فإن لم يكونوا من الظالمين المحاربين وجبت دعوتهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة دون غلظة أو خشونة مع الدعاء لهم وإقامة الحجة عليهم رجاء وطلباً لهدايتهم مع دوام بغضهم في القلب لكفرهم، وقد نقل الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق إجماع الأمة على جواز معاملة الكفار المستأمنين معاملة حسنة بقصد هدايتهم إلى الخير، وهذه المعاملة لا تنقض أصل البراءة منهم فيقول: "ومن الأمور التي لا تنقض أصل البراءة من الكفار أيضاً مجاملة الكافر المعاهد والذمي والمستأمن والإحسان إليه، والأصل في هذا هو قوله تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8]، ويدخل في البر بهم عيادة مرضاهم، واتباع جنائزهم، وقبول هداياهم والإهداء لهم، تهنئتهم في الأفراح، وتعزيتهم في الأحزان ومساعدة فقرائهم والمحتاجين منهم، وزيارتهم في منازلهم، وقبول دعوتهم، والدعاء لهم بالهداية، ونحو ذلك، وهذا مما أجمع عليه المسلمون ولا مخالف لذلك ممن لهم رأي يعتد به".(1/203)
فإذا كانت هذه المعاملة الحسنة جائزة مع الكفار الأصليين، فهي جائزة من باب أولى مع فساق المسلمين حيث تجمعهم الأخوة الإسلامية العامة، فإذا ارتبط الولد بالدعوة وجب أن يكون هذا التصور واضحاً في ذهنه، ومسؤولية الأب متابعته في ذلك، وتوضيح المفاهيم والتصورات، وإزالة ما يمكن أن يقع في نفسه من اعتقادات خاطئة يصعب التخلص منها في الكبر، فإن الولد إذا كبر وقد تشبع بالمنهج الصحيح ومفاهيمه أمن - بعد توقيق الله-من الانحراف والتطرف في أي من مفاهيم الدين وتطبيقاته، خاصة وقد ظهرت طوائف وجماعات في القديم والحديث ليس لها من فقه الدين إلا القليل، فضلَّت وأضلَّت.
والنفوس البشرية ضعيفة تمل وتكل من وقت لآخر، خاصة الولد قبل البلوغ فهو محتاج دائماً إلى التذكير والمتابعة والرعاية، فإذا رأى الأب من ولده نوعاً من الخمول والتكاسل عن مشاركة زملائه في الدعوة، والنشاطات الإسلامية المختلفة، حمسه ورغبه دون تكلف أو شدة، كأن يتلو عليه قول الله - عز وجل -: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن تكون لك حمر النعم))، مع ذكر بعض أحوال السلف الصالح وتفانيهم في الدعوة إلى الله وجهادهم في هذا السبيل، فهذا خير معين على طول الطريق ووعورته.
التربية الأسرية للطفل
1ـ أدب الطفل مع الوالدين(1/204)
حب الوالدين واحترامهما ومعرفة قدرهما أمر واجب على الأبناء، فكما أن للعلماء حقوقًا واجبة على المسلمين، فكذلك على الأبناء حقوق واجبة للآباء، وذلك امتثالاً لأمر الله - عز وجل - حيث يقول: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الاسراء:23-24]، وفي موضع آخر يقول الله - عز وجل -: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [العنكبوت: 8] والآيات في الأمر ببر الوالدين كثيرة، تبين عظم حقهما ومنزلتهما؛ فهما اللذان قدما كل شيء في سبيل سعادة الأبناء، فلو أصابت الابن شوكة تمنيا أنها فيهما وليست فيه، يتألمان بألمه، ويسهران لسهره في مرضه، ولا تقر أعينهما إلا بسعادته وراحته، لهذا فإن حقهما كبير وعظيم، ولا يمكن للأبناء مجازاتهما وإن حاولوا، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يجزي ولد والداً إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه)) وأنى له أن يجده مملوكاً فيشتريه ويعتقه، فهذا هو الشرط الوحيد الذي يمكن أن يكون جزاء للوالدين في مقابل فضلهما وكرمهما، كما أن جميع الأعمال، أو الخدمات التي يمكن أن يقدمها الولد لوالده لا تكون جزاء يكافئ من التضحيات، وقد سئل معاذ بن جبل - رضي الله عنه - عن حق الوالدين على الولد، فقال: "لو خرجت من أهلك ومالك ما أديت حقهما" فحقهما لا عدل له.(1/205)
وقد جاء التحذير الشديد من عقوق الوالدين وإغضابهما، فقد قال عليه الصلاة والسلام: "ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، ورجلة النساء" لهذا كان لزاماً على الأب المسلم أن يحمي أولاده من هذا العقاب الشديد عند الله، بأن يربيهم تربية حسنة، فيعرفهم حدود الله، وأسباب غضبه ومقته، ويساعدهم ويعينهم على بره، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((رحم الله والداً أعان ولده على بره)).
ويضع الإمام الغزالي رحمه الله للوالد بعض الضوابط في تربية الأولاد ومساعدتهم حتى يكونوا بارين به غير عاقين له، فيقول: "يعينهم على بره ولا يكلفهم من البر فوق طاقتهم، ولا يلح عليهم في وقت ضجرهم، ولا يمنعهم من طاعة ربهم، ولا يمنن عليهم بتربيتهم " فالوالد لا يشتد مع ابنه ويختبر طاعته له بالامتحانات الشاقة، كأن يمنعه النوم في بعض الأوقات لإتمام عمل غير مهم، أو يكلفه من أعمال البر والملاطفة وخفض جناح ما يلغي شخصية الولد ومكانته، كأن يغضب إذا نسي الولد أن يقبل يده أو سها في أن يهيء له مجلسه، أو يقرب له حذاءه، بل يحاول الأب أن يتغافل عن بعض زلات الولد، ولا يعاقبه إلا على الواجبات إن قصر فيها، أو الأخطاء الكبيرة، كأن يسيء الأدب معه، أو يرفع صوته في وجهه، أو يسيئ أدبه مع الأم أو الجد أو الجدة.(1/206)
وهذا هو منهج السلف رضوان الله عليهم فهذا خارجة بن مصعب رحمه الله ينصح الأب أن يسوق ولده إلى البر سوقاً رفيقاً، فيقول: "يعطيه ويحسن إليه حتى يبره"، وقال أبو الليث رحمه الله واصفاً حال بعض السلف في رحمتهم بأولادهم وحمايتهم من العقوق: "وكان بعض الصالحين لا يأمر ولده بأمر مخافة أن يعصيه في ذلك فيستوجب النار" وهذا فقه عظيم من رجال السلف رضوان الله عليهم إذ إن نظرهم أبعد من حدود هذه الدنيا وحبهم لأولادهم وإشفاقهم عليهم يتطلب مساعدتهم وعونهم على النجاة في الآخرة قبل كل شيء، فلا يكلفونهم ما لا يطيقون من الأوامر، بل يفكر أحدهم قبل الأمر: "هل سيطيق الولد ذلك أم يعجز عنه فأسوقه بنفسي إلى التهلكة؟" وبقدر ما يجاهد الوالد نفسه في مساعدة أولاده وتوفيقهم إلى البر؛ بقدر ما يجني في المستقبل من إحسانهم له وبرهم به؛ فإن الآباء عادة لا يتكلفون الإحسان لأولادهم لأن القضية فطرية مركوزة في قلوبهم: "أما الولد فهو في حاجة إلى الوصية المكررة ليلتفت إلى الجيل المضحي المدبر المولي الذاهب في إدبار الحياة، بعد ما سكب عصارة عمره وروحه وأعصابه للجيل المتجه إلى مستقبل الحياة"، لهذا جاءت التوجيهات القرآنية آمرة الأبناء بالإحسان إليهم.
أما الآباء فما وقر في نفوسهم من العواطف الجياشة، والميل الفطري كاف لتوجيههم ولفتهم لرعاية أبنائهم، فقلت بناء على ذلك التوصية ببر الأبناء.(1/207)
ومما جاء في السنة من تعظيم حق الوالد أن مال الولد لأبيه، وأن للأب أن يأكل منه، قال عليه الصلاة والسلام: ((إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم" وقال لمن شكا أباه: ((أنت ومالك لأبيك))، ففي الحديث دليل على أن للوالد الحق في أن يأخذه من ماله فهو من كسبه، وهذا جائز حتى وإن كان الأب غير محتاج إلى المال، على أن يراعى عدم مضرة الولد بأخذ بعض المال، وأن لا يأخذه فيعطيه غيره من الناس، كما أنه لا حد على الوالد لولده مطلقاً لعظم حق الأب ومنزلته، فإن سرق مال ولده لم تقطع يده، وإن كان للولد على أبيه دين لم يطالبه به، وإن قذف الأب ولده لا يُحد ولا يُجلد، ولو أن الوالد قتل ابنه فإنه لا يقتل به. أما لو حدث العكس فقتل الابن والده قتل الولد حدًا لعظم حق الأب ومكانته، وهذا الفقه مبني على قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يقاد مملوك من مالكه ولا ولد من والده)).
ومما سبق يتضح عظم حق الوالدين، ومنزلتهما في الشريعة الإسلامية، وأنهما غير متهمين في أولادهما، فمهما فعلا مع أولادهما يؤخذ على حسن النية وسلامة الطوية، إذ إن عاطفتهما كفيلة بمنعهما من قصد الإضرار بهم أو إيذائهم؛ فإن قصد إيقاع الضرر بالأولاد لا يمكن أن يحدث إلا عند فساد الفطرة وانحرافها بالكلية.
وهذه القضايا والحقوق لا يمكن أن يفهمها الولد الصغير، ويدرك أبعادها من خلال التوجيه والإرشاد النظري فقط، خاصة إن كان الولد دون سن التمييز، بل إن الإرشاد العملي التطبيقي أمام الولد أكبر تعليم، وأفضل بيان، فالوالد الذي يقبل والده ووالدته في يديهما ورأسيهما أمام نظر الولد، يُعلِّم الولد هذا الفعل ويدربه عليه عملياً. كما أن الظهور أمام الوالدين بمظهر الذل والخضوع لهما، وتنفيذ أمرهما وتوقيرهما، كل هذا يوقع في نفس الولد عظم منزلة الوالدين ومكانتهما.(1/208)
كما أن تعريف الولد بحق والديه، وأن رضاهما من رضا الله - عز وجل -، وأن غضبهما من غضبه - سبحانه وتعالى -، يحي في قلبه الخشية من العقوق، كما أن تعريف الولد وإطلاعه على أجر بر الوالدين ومنزلته عند الله، وأن جزاءه الجنة، وأن عصيانهما سبب لمقت الله ودخول النار، له دوره أيضاً في تركيز معاني بر الوالدين في نفسه، فيعيش الولد بين الخوف والرجاء والترغيب والترهيب، فإن عصى أو عاند بذلك، ليراجع نفسه، ويقلع عن خطئه.
ولتعريف الولد جهد والديه معه، وما قدماه من الخدمات الجليلة له في حضانته وتربيته عندما كان صغيراً لا يعقل، فإن الأب يلفت نظره إلى المعاناة التي يلقاها الوالدان مع أخيه الرضيع، وكيف تسهر الأم تطعمه وتنظفه، وإن مرض لم تفارقه حتى يبرأ، وكيف أن الوالد يسارع بحمله إلى المستشفى لعلاجه عندما يشعر بوعكة أو ألم. كل هذه المواقف يشعر بها الولد المميز ليدرك عظم حق والديه، والجهد الذي قدماه له، فيحس في نفسه بواجب الشكر والتقدير على هذه الفضائل الأبوية العظيمة.
وللقصة وقعها في نفس الولد، فإن الأطفال يحبونها ويتأثرون بها، فيمكن للوالد اختيار بعض القصص التي تبرز جانب بر الوالدين، وكيف كانت عاقبة العاق لوالديه حيث قيض الله له من ولده من يعقه عند كبره فلقي جزاء بالمثل، كما أن الولد المطيع لوالديه، البار بهما سخر الله له من ولده من يبر به، ويطلب رضاه، فكان جزاؤه بالمثل للمحسن الإحسان، وللمسيء الإساءة، وعند سرد القصة يكثر الأب من الثناء على الطفل البار، ويذم الطفل العاق، ليقع في نفس الولد حب هذا، وبغض الآخر.(1/209)
ولما كانت منزلة الأم عظيمة تفوق منزلة الأب، فإن توجيه الولد لأخذ رضا الأم أمر هام، فيأمره الأب أن يقبل يدها في كل صباح ويسلم عليها، وفي بعض الأوقات والمناسبات يقترح عليه أن يهدي لوالدته هدية مناسبة، فيعطيه بعض النقود ليختار لها هدية تناسبها، ويحاول الأب أن يوجد في نفس ولده التعظيم للوالدة ويبين له حقها ومنزلتها، وينبهه على ذلك دائماً، كأن يقول له: "هل أغضبت أمك اليوم؟"، "ماذا فعلت اليوم لتكسب رضاها"، "هل دعوت لها"، وهكذا يتابعه في ذلك ليشعر ويحس بمنزلتها.
ولا شك أن الوالدة أيضاً مأمورة ومدعوة لتعظيم حق الوالد في نفس الأولاد، وإبراز دوره، وإيجاد المهابة له في قلوبهم على أن يكون ذلك في غير رعب أو شدة أو قسوة، فإن قصرت في ذلك ذكرها الأب ونبهها.
ويحاول الأب قدر المستطاع أن يجنب أولاده سماع النزاع أو الشجار بينه وبين الأم، فإن هذا يؤلمهم، إلى جانب أنه يضعف الثقة بهما، لما يرونه من التناقض بين التوجيهات التي يسمعونها منهما، وبين سلوكهما تجاه بعضهما البعض.
2 - أخلاق الطفل مع الإخوة والأخوات
يمتد دور الأب ومسؤوليته مع الأولاد ليشمل تقوية أواصر المحبة والتآلف بينهم، ونبذ الشحناء والتباغض إذ إنه كثيراً ما تحدث الشحناء، والغيرة، والتنافس، والحسد بين الإخوة والأخوات.(1/210)
وقد جاء في السنة المطهرة ذم الحسد وبغضه، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، أو قال العشب))، فالولد الذي يتربى مع إخوته في جو مليء بالتوتر والتنافس الشديد، والحسد، والبغض، يصعب عليه عند كبره أن يتخلص من هذا الوصف المذموم، فربما تأصل فيه هذا الداء، فيأكل حسناته ويفنيها وتتعذب نفسه وترهق؛ لهذا كان دور الأب مهماً في التخفيف من حدة التوتر والغيرة بين الأولاد؛ إذ إن إزالة الغيرة والحسد بالكلية من الأطفال لا يمكن أن يتم، وذلك لأن الحسد مخلوق وموجود في أعماق النفس لا يمكن استئصاله بالكلية، يقول الحسن البصري فيما نقله عنه ابن الجوزي رحمهما الله: "ليس من ولد آدم أحد إلا وقد خلق معه الحسد، فمن لم يجاوز ذلك بقول ولا فعل لم يتبعه شيء"، فلا يمكن إزالة الحسد والغيرة من نفوس الأولاد بالكلية، إنما دور الأب التخفيف من حدتهما، آخذاً بالوسائل والأساليب التربوية الجيدة في ذلك.
ويعتبر نجاح الأب في تدريب الأولاد على العيش معاً في جو من الوئام والتآلف مؤشراً جيداً لإمكانية نجاح هؤلاء الأولاد في العيش مع غيرهم في المجتمع عندما يخرجون للحياة العامة، فالأسرة مجتمع صغير يتدرب فيه الأولاد على أنماط مختلفة من السلوك، والممارسات، والعلاقات بين الأفراد.
ولما كان للمولود الأكبر أهمية في إصلاح باقي الأولاد فإن اهتمام الأب به يجب أن يكون كبيراً، فلا يجعله محط تجارب يمارس معه أساليب مختلفة من التربية - كما هو الحاصل في كثير من الأسر- بل يوطن نفسه في بداية الأمر على اتخاذ المنهج الإسلامي في تربيته وتنشئته.(1/211)
وكثيراً ما يبدأ بغض الولد الكبير لأخيه الصغير عندما يجد أن الاهتمام من الوالدين قد اتجه نحو أخيه الصغير، ولم يعد هو محط نظر أو اعتبار، فيلجأ إلى الانطواء على النفس، أو البكاء، أو التبول غير الإرادي، أو ربما ادعى المرض والألم؛ ليجذب نظر والديه إليه، فهذه الأحوال لا ينبغي أن يساق الولد إليها؛ بل ينبغي أخذ الاحتياطات اللازمة لمنع حدوث مثل هذا، فيذكر له أثناء الحمل محاسن الطفل الجديد، وأنه قادم ليلعب معه إذا كبر، وأنه يحبه… فيحاول الأب أن يشعره دائماً بموالاة الطفل الجديد وحبه له، فإذا ولد بالمستشفى وقرر جلبه إلى البيت يستحسن ألا يكون الولد الكبير موجوداً في البيت وذلك لئلا يصطدم بالاهتمام البالغ الذي يلقاه أخوه عند قدومه، خاصة وأن الوالدين مرتبكان بتجهيزه وتهيئة مكانه. ولكن يؤتى بالولد الكبير بعد استقرار الوضع وسكونه، فلا يشعر بالتغيير.
ومن أساليب تحبيب الولد الأكبر في المولود الجديد عند أول لقاء بينهما توضع في يد المولود قطعة من الحلوى، فيقال: "انظر ماذا يعطيك أخوك" "إنه يعطيك حلوى، إنه يحبك" وبهذا الأسلوب تبدأ علاقة الولدين بداية حسنة يرجى بعدها أن لا تحدث بينهما مصادمات كبيرة أو شقاق دائم.
ولا ينبغي أبداً الاطمئنان لسلوك الولد الأكبر مع أخيه، حتى وإن لم تصدر عنه مظاهر تدل على غيرته؛ لأن الغيرة موجودة فيه، بل إن بعض رجال التربية يعد عدم إظهار الطفل لغيرته من إخوته أمراً يحتاج فيه الطفل إلى معالجة ومساعدة.
وإذا أظهر الولد غيرة من أخيه الصغير، وحاول إيذاءه، أو الانتقام منه، وجب تحذيره من ذلك، وإفهامه أنه سوف يعاقب إن أضر بأخيه، فإن هذا الأسلوب يخفف من حدة غضب الولد الأكبر وغيرته.(1/212)
ولا بد أن يفهم "أن الطفل، سواء أكان المولود الأول أم المولود الثامن، بطبيعته يريد أن يستحوذ على كل شيء، إن الأطفال يريدون كل العطف، وكل اللعب، وكل الامتيازات وكل الاهتمام". فإذا رأى الطفل أن بعض الاهتمام والامتياز انصرف إلى غيره من الإخوة غار وغضب وليس أمام الأب المسلم لحل هذه المشكلة سوى الاجتهاد في توزيع حبه وعطفه على جميع الأولاد بالتساوي، وقبولهم جميعاً على علاتهم، ولا يفرق بينهم، حتى وإن أظهر بعضهم أدباً أكثر من الآخرين، ولا يعقد بينهم المقارنات، إذ إن عقد المقارنات بين الأبناء يزيد من تنافسهم وغيرتهم من بعضهم البعض، ويربي فيهم الأحقاد والضغائن، ولا فائدة من وراء ذلك.
والحل الصيحح لتنفيس غضب الأطفال، ومشاغباتهم، هو عقد المنافسات البريئة بينهم، مثل المسابقات الثقافية، أو الرياضية، أو غيرهما من مجالات التنفيس النفسي، فيعد لهم الأب أسئلة ثقافية توافق أعمارهم ويطرحها عليهم، ويكافئ الذي يجيب كما يمكنه عقد المباريات في كرة القدم، أو الطائرة، أو العدو، أو غيرها من الألعاب الرياضية والمنفسة للطاقات، وتكون هذه المسابقات والألعاب بصورة مستمرة وفي أوقات منتظمة يومياً.
وبهذه الوسيلة يكون الأب قد استنفذ طاقات الأبناء فيما يعود عليهم بالفائدة، ويكفهم عن المشاغبات والمشاكل، فإن السلوك العدواني عند الأطفال يظهر عندما تكبت وتقيد الحركات البدنية، خاصة وأن الأطفال لديهم طاقات جسمية كبيرة.
وكثيراً ما يتنازع الأولاد على الألعاب، فليس من الحكمة أو الصواب أن يفرض على الولد السماح لأخيه باللعب معه خاصة إن كان الولد غير راضٍ بذلك؛ إذ إن هذا الفرض يزيد من أنانية الولد وحقده على أخيه، وربما سبب له رد فعل سيء؛ والمفروض أن تنبعث الرغبة في المشاركة واللعب من نفس الولد دون فرض أو قهر، فتكون عادة مستقرة في نفسه لا تكلف فيها.(1/213)
ويضاف إلى موضوع الألعاب عدم اختيار ألعاب للأولاد من نفس النوع، فكثير من الآباء يظنون أن اختيار الألعاب من نفس النوع للأولاد يجعلهم راضين مقتنعين بذلك ويحسون بالعدل والمساواة. والحقيقة أن هذا الاختيار المتشابه والمتساوى للألعاب ربما دفع الولد إلى محاولة معرفة الفرق بين اللعب حتى وإن كان بسيطاً لا يلاحظ إلا بالدقة، فينتج من جراء هذا نزاع وفرقة. والأفضل في هذا أن يختار لكل ولد لعبة تناسب سنه، مع إفهامه أنها تناسبه أكثر من غيرها، ويقنع بذلك.
وتكون الغيرة على أشدها في السن دون الخامسة، وذلك لأن الطفل لا يزال معتمداً على الأبوين ومحتاجاً إليهما. أما بعد سن التمييز في الطفولة المتأخرة، فإن الطفل يكون أقدر على فهم المعاني المجردة حول مراتب الأخوة، وصلة الرحم، ونبذ الخلافات والتقاطع.
وفي هذا السن يعمل الأب جاهداً على إبراز معاني الأخوة في الله، والحب فيه، إلى جانب أخوة الدم والمنشأ، فيعلمهم التأدب مع بعضهم البعض، واحترام الأخ الأكبر، وتقديمه عليهم، وينشر بينهم السلام، فإن السلام يزيد من الحب وعاقبته المحبة الموصلة إلى الجنة ورضوان الله، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)). فإفشاء السلام بين الأولاد، ومتابعتهم في ذلك هو الطريق إلى التآلف بينهم وترابطهم.(1/214)
وتعتبر الغيبة والنميمة من الأعمال الممقوتة، وكثيراً ما يلجأ إليها الأولاد فيذم بعضهم بعضاً عند الوالدين، وواجب الأب هنا هو كفهم عن ذلك، وعدم الاستماع إلى شيء من هذا الباطل، ويذكرهم بالله ويعرفهم بالغيبة، وما ورد في القرآن والسنة من مقتها وذمها حيث قال الله تعالى: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [ الحجرات: 12]، فهذا من أعظم الزجر عن هذا العمل القبيح والسلوك المنحرف، وفي الحديث عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لما عرج بي ربي - عز وجل - مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم))، فهذه الآية وهذا الحديث وغيرهما إذا عرضت على الأولاد وشرحت لهم، فإنهم سوف ينفرون من هذا السلوك ويكرهونه، خاصة إن شعر أحدهم أنه يأكل لحم أخيه ويأتي يوم القيامة يخدش وجهه في منظر قبيح مرعب.
فإن حدث من الولد - بعد التنبيه والزجر- أن اغتاب أحد إخوته، أو ذكره بسوء، أمر بأن يعتذر له، ويتأسف لما بدر منه، فإن هذا الأسلوب ينتزع الغيبة انتزاعاً من الولد، لما في ذلك من الجهد النفسي الكبير الذي يقدمه الولد عندما يعتذر لأخيه عن خطئه. كما يؤمر بالإضافة إلى الاعتذار أن يدعو لأخيه ويستغفر له حتى يحس أنه قد كفَّر عن هذا الجرم. ولا بأس في بعض الأحيان أن يؤمر الولد بالصدقة إذا أخطأ أو أذنب، ويراعي الأب في كل هذا أن يكون هو قدوة صالحة لأولاده فلا يسمعون منه غيبة، أو ذكراً سيئاً عن أحد.(1/215)
وليس من المستحسن أن يبقى الأولاد طول الوقت مع بعضهم البعض في مكان واحد، فإن هذا - بلا شك- يزيد من منازعاتهم ومشاكلهم؛ بل الأفضل هو تفريقهم في بعض الأوقات ليشتاقوا إلى بعضهم البعض، فهذا سلوك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - مع أولاده، فقد كان يقول لهم: "إذا أصبحتم فتبددوا، ولا تجتمعوا في دار واحدة، فإني أخاف عليكم أن تقاطعوا، أو يكون بينكم شر" وهذا من فقه عمر - رضي الله عنه - وبعد نظره، إذ فهم أن بقاء الأولاد في دار واحدة يكون مدعاة للتناحر والتقاطع لكثرة تنازعهم، فأمرهم بالانتشار والتبدد. والأب المسلم يمكنه أن يأخذ بهذه الوصية ويطبقها على أولاده، فيجعل لكل واحد منهم غرفة تخصه، فإن لم يتمكن من ذلك قسم الغرفة بطريقة هندسية إلى عدة أقسام، حتى وإن تطلب الأمر جعل الغرفة دورين مستعملاً الخشب أو غير ذلك من المواد، ثم يخصص لكل واحد منهم مكانه وزاويته التي تخصه.
كما يمكنه في بعض الأوقات اصطحاب بعضهم دون بعض عند الخروج للسوق، أو في زيارة بعض الأقارب، فإذا غاب بعضهم عن بعض في بعض الأحيان اشتاقوا ونسوا ما كان بينهم من خلاف وشجار.
3 - السلوك العملي وأثره في تنشئة الطفل المسلم
إن للكلمة الموزونة، المعبرة صداها في النفس البشرية، فطالما تأثرت النفوس بكلمات الوعَّاظ والناصحين، وتغيَّر حال كثير من الناس بالكلمة الصادقة، والموعظة المؤثرة، وكم من عينٍ ذرفت وتابت واستقامت، وأعرضت عن مسلك الهالكين، ونهجت نهج الصالحين بمجرَّد موعظةٍ بليغةٍ وقعت موقعها من القلب. وهذا كلُّه حق، ولكن في الجانب الآخر كم من كلمةٍ رُوعيت فيها قواعد اللغة، وأساليبُ البلاغة، وعذوبة المنطق، وزُيِّنت ببعض آيات القرآن الكريم، وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام فكانت سبباً في صدِّ كثير من الناس عن الهداية والرشاد.(1/216)
أليست الآيات هي الآيات، والأحاديثُ هي الأحاديث المستعملة في كلا الموقفين، كما أنَّ الكلمات هي الكلمات، والجمل هي الجمل المستعملة.
إنَّ الفرقَ بينهما يكمنُ في واقع المتكلِّم، وفي سلوكِهِ العملي، الذي يُعتبر أعظمَ دليلٍ على صدقِ دعواه، وأبلغ برهانٍ يحمل المقتدين على الإذعان له، والتسليم لمبادئه.
إن مجرد التعبير عن الحق والفضيلة، دون أن يسانده واقعٌ عملي، وممارسةٌ حيةٌ مُشاهدة، لا يؤثر في النشء، ولا يغيِّر من حالهم مهما كانت العباراتُ والكلماتُ متناسقة وموزونة، حتى يكون لها من واقعِ المربينَ الدليلُ والبرهان.
وإن المتأملَ في أسباب انحراف كثير من الشباب، وضياعهم، ووقوعِهم في مهاوي الرذائل والفواحش، وتعاطي المخدرات، والخمور. يجدُ أن أعظم هذه الأسباب، وأخطرها فقدانُ القدوةِ الصالحةِ في الآباء والمربين.
إن التربية بالقدوةِ تُعدُّ من أ هم وسائل التربية، بل هي أهمُ وسائلها على الإطلاق، وذلك لوجود تلك الغريزة الملحةِ في كيان الإنسان، تدفعه نحو التقليد والمحاكاة.
والأولاد الصغارُ أشدُ تأثراً بالقدوة من الكبار، فهم يجدون في آبائهمُ المثلَ الأعلى، والنبراس الذي يهتدون به، فالأطفال الصغار يعتقدون أن كلَّ ما يفعلُهُ الكبار، ويمارسونه صحيحاً، فهم لا يدركون – في أول الأمر – الصواب من الخطأ، ولا يميزون بين الخير والشر، إنما هم ينظرون بأعين آبائهم، ويحاكونَ طريقَتَهُم في الحياة ؛ ولهذا تجدُ ي الغالب أن الأولادَ الذين لا يصلون: تربوا في بيوتٍ لا تقامُ فيها الصلاة، وكذلك الأولادَ الذين يدخنون، لابد أنهم يقتدون بالمدخنين في البيوت، وهكذا تجدُ أن النشءَ ثمارَ تلك البيوت ، وكما قال تعالى : {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف:58].(1/217)
إن الخطرَ على النشءِ من فقدان القدوة في البيتِ لا يكمنُ في كونهم ينشأوونَ متلبسينَ ببعضِ الانحرافات الأخلاقية، إنما الخطرُ يحصل إذا كبُرَ هؤلاء الصغار، وعقلوا حقائق الأمور، وعلموا واقع المربين، وأن ما كانوا يسمعونه من عبارات الفضيلة والنصائح، والأمر بحسنِ الخلقِ والبر إنما هي عباراتٌ جوفاء، لا واقع لها ولا تطبيق، فإن هذا الصنفَ من الأطفال – في العادة ينحرفُ انحرافاً شديداً، ويرفضُ المجتمع وتقاليدَهُ وعاداتهِ، وما فيه من خير وشر، ويحاول أن يبحثَ في مجتمعاتِ أخرى عن قدواتٍ، ورموزٍ يقتدي بها في حياته الجديدة.
وقد ثبت أن الأطفال الذين ينشأوون في أسرٍ متناقضةِ القيمِ والأخلاقِ، وتظهر فيها علامات النفاق، ومخالفةُ الأقوالِ والأعمال، يُصبحون – إذا كبروا – من أكثر الناس بعداً عن الالتزام بالآداب والأخلاق الإسلامية، وذلك لعمق الأثر الذي خلَّفه ذلك التناقضُ السلوكي في نفوسهم.
وإن الناظرَ في أوضاع المجتمعات الإسلامية اليوم، يجد ا ن عقيدتنا، وأخلاقنا، وقيمنا تكاد تكون في ناحية، وحياتنا العلمية الواقعيةَ في ناحية أخرى، نقيضانِ لا يلتقيان، فكيف ينشأ مع هذا الوضع أطفالٌ صالحون يرون، ويشاهدون المتناقضات في حياة الأمة، إنهم مهما سمعوا من المربين، من عباراتِ الخير والفضيلةِ، والأخلاق الحميدة، فإنهم لن يحملوا في داخل نفوسهم سوى الصورة التي يرونها أمامهم، من أنواع وأنماط السلوك، إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشر.
وقد أدرك السلف رضوان الله عليهم هذه المعاني الخطيرة، فهذا عمرو بن عتبة، ينصحُ معلمَ ولدهِ فيقولُ له: ((ليكن أول إصلاحِكَ لولدي إصلاحَكَ لنفسك، فإن عيونهم معقودةٌ بعينك، فالحسنُ عندهم ما صنعت، والقبيحُ عندهم ما تركت))، فهم لا يتأثرون بالنصوص بقدر ما يتأثرون بالسلوك العلمي الواقعي.(1/218)
كثيراً ما يعتذر الآباء بالفساد الاجتماعي، ويحمِّلُونَ المجتمع فساد أولادهم متخلِّين بذلك عن دورهم وواجبهمُ التربوي، فهم قد جلبوا الطعام والشراب، واللباس، وظنُّوا أن مهمَتَهُم تنتهي إلى هذا الحد.
نعم إن للمجتمع ومؤسساته المختلفة دوراً في التوجيه والتأثير ولاشك في هذا، ولكن ليعلمَ الآباء ويوقنوا: أن أثر البيتِ الصالح أبلغُ وأقوى من كل أثر ؛ فإن ما ينقُشه الآباء في نفوس أولادهم من معاني الخير والفضيلة، بالعباراتِ الصادقة الحارة، والسلوك القويم، مع القدوةِ الصالحة، له أثرهُ القوى الذي يبقى مع الولد حتى وإن ظهرَ على الولدِ بعضُ انحرافٍ في أول الأمر بسبب ضغط المجتمع، فإنه غالباً ما يرجعُ إلى الخير، وتكون عاقبتهُ إلى الصلاح، فما كان الله ليضيع جهدَ الأبِ الصادق، الذي جاهد في سبيل إصلاح ولده واستقامته ولو افترضنا ضياع الولد وانحرافه، مع بذلَهُ الأبُ في سبيل إصلاحه، فإنه لا لوم على الأب، وقد أخذ بالأسباب، فإن لله في ذلك حكمة هو أعلم بها، وللأب الأجرُ والمثوبةُ على صلاح نيتهِ، وبذلِ جهده.
إن فقدان النشء للقدوة الصالحة في المجتمع يُعد من أعظمِ المصائب التي يجنيها الجيل الجديد، وإن تناقض الأقوال مع الأعمال، في واقع الحياة، وبُعْد المربين عن سلوك النهج الذي رسمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمربي المسلم – كل هذا – يضعُ الأطفال في حالةٍ من الحيرة والتردد، منه لا يستطيعون أن يوفِّقوا بين هذه المتناقضات، فيسمعون من آبائهم كلاماً حسناً عن وجوب التقيُّد بالآداب والأخلاق الإسلامية، والبعد عن الخيانة والأمر بالأمانة , ثم يشاهدوا آباءهم وهم يمارسون في حياتهم العملة عكس ما يقولون , وعكس ما يأمرون به أولادهم.(1/219)
ومن المعلوم أن الطفل في سن التمييز يمكن أن يحدد مدى التزام أهله بالتوجيهات التي يأمرونه بها , وإلى أي حد يتقيد أهله بالآداب والأخلاق التي ينادون بها , فلا يظن الأب أن الطفل لا يعقل ما يدور حوله , فإنه يتأثر بالقدوة العملية أكثر بكثير مما نظن.
إن كلامنا هما كان جميلاً وحسناً ومتناسقاً، فإنه لن يؤثر في أولادنا، مهما كررناه عليهم، حتى يمتزج بأرواحنا، ويكون مطلقاً حياً في واقعنا العملين، وهنا فقط يؤمن به الأولاد، ويقتدون بنا.
فكيف يسوغ للأب المسلم أن يأمر أولاده بالعفاف والأدب، وبناتَهُ بالحشمة والحياء، ثم يزجُّ بهم في مجتمعات تفشت فيها الرذيلةُ والفواحش، بحجة قضاءِ إجازة الصيف، ثم يسمح للجميع بأن يفعلوا ما شاؤوا، فالأولاد ينطلقون هنا وهناك بلا رقيب، والبناتُ ينزعن الحجاب وجلباب الحياء.
وكيف يسوغ للمسلم أن يأمر أولاده بالتقوى، ومراقبة الله عز وجل في السر والعلن في حين يخادعُ، ويغشُ، ويؤذي المسلمين بلسانه ويده.
وكيف يسوغ للمسلم أن يأمر أولاده بالتقوى وغض البصر عن المحرمات، والبعدِ عن المنكرات في حين يُطلقُ بصره وسمعه للملاهي والمنكرات بحجة الترفيه البرئ.
وكيف يسوغ له أن يأمر أولاده بالمحافظة على الصلاة، وإتقانها في حين يهجرُ المساجدَ، ولا يؤدي الصلاة في أوقاتها المعلومة.
إن هذه التناقضات التي تعيشها الأمة – في أغلب أحوالها- لا يمكن أن توجِد جيلاً متوافقَ النمو، سوىَّ الخلقَ، بل تُخرِّجُ كل مبادئ المجتمع خيرها وشرها، معرضاً عن منهجه وسبيله. فكم عانت الأمة، من بعض أبنائها العاقين، الذين كانوا ثمار هذه التناقضات الأخلاقية، فمنهم من ألحد وكفر، ومنهم من فسق وفجر، ومنهم من سلك سبيل المنافقين، فأخذوا جميعاً بيدٍ واحدةٍ يضربون بمعولِ الهدم كيان الأمة، ويسوقونها نحو الهاوية.(1/220)
ولقد حذر الله عز وجل عباده من سلوك هذا النهج المنحرف فقال عز وجل: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]، وقال أيضاً: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} [النساء:81]، وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2-3]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلقُ أقتابُ بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان مالك ؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ فيقولُ: بلى، قد كنت آمُرُ بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكرِ وآتيه)). ويقول أيضاً: ((آية المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا أؤتمن خان)). وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: ((إن الكذب لا يصلحُ منه جدٌ ولا هزل، ولا أن يعد الرجل ابنه ثم لا ينجز له))، وقال: ((من قال لصبي تعالى هاك ثم لم يعطه فهي كذبة)).
إن الثمرة الصالحة الطيبة، لا يمكن أن تخرج من أرضٍ خبيثةٍ جدباء، كما أن الثمرة الخبيثة الفاسدة، لا يمكن أن تكون نتاجَ الأرض الطيبة، والعناية الكاملة.
3 - السلوك العملي وأثره في تنشئة الطفل المسلم(1/221)
إن للكلمة الموزونة، المعبرة صداها في النفس البشرية، فطالما تأثرت النفوس بكلمات الوعَّاظ والناصحين، وتغيَّر حال كثير من الناس بالكلمة الصادقة، والموعظة المؤثرة، وكم من عينٍ ذرفت وتابت واستقامت، وأعرضت عن مسلك الهالكين، ونهجت نهج الصالحين بمجرَّد موعظةٍ بليغةٍ وقعت موقعها من القلب. وهذا كلُّه حق، ولكن في الجانب الآخر كم من كلمةٍ رُوعيت فيها قواعد اللغة، وأساليبُ البلاغة، وعذوبة المنطق، وزُيِّنت ببعض آيات القرآن الكريم، وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام فكانت سبباً في صدِّ كثير من الناس عن الهداية والرشاد.
أليست الآيات هي الآيات، والأحاديثُ هي الأحاديث المستعملة في كلا الموقفين، كما أنَّ الكلمات هي الكلمات، والجمل هي الجمل المستعملة.
إنَّ الفرقَ بينهما يكمنُ في واقع المتكلِّم، وفي سلوكِهِ العملي، الذي يُعتبر أعظمَ دليلٍ على صدقِ دعواه، وأبلغ برهانٍ يحمل المقتدين على الإذعان له، والتسليم لمبادئه.
إن مجرد التعبير عن الحق والفضيلة، دون أن يسانده واقعٌ عملي، وممارسةٌ حيةٌ مُشاهدة، لا يؤثر في النشء، ولا يغيِّر من حالهم مهما كانت العباراتُ والكلماتُ متناسقة وموزونة، حتى يكون لها من واقعِ المربينَ الدليلُ والبرهان.
وإن المتأملَ في أسباب انحراف كثير من الشباب، وضياعهم، ووقوعِهم في مهاوي الرذائل والفواحش، وتعاطي المخدرات، والخمور. يجدُ أن أعظم هذه الأسباب، وأخطرها فقدانُ القدوةِ الصالحةِ في الآباء والمربين.
إن التربية بالقدوةِ تُعدُّ من أ هم وسائل التربية، بل هي أهمُ وسائلها على الإطلاق، وذلك لوجود تلك الغريزة الملحةِ في كيان الإنسان، تدفعه نحو التقليد والمحاكاة.(1/222)
والأولاد الصغارُ أشدُ تأثراً بالقدوة من الكبار، فهم يجدون في آبائهمُ المثلَ الأعلى، والنبراس الذي يهتدون به، فالأطفال الصغار يعتقدون أن كلَّ ما يفعلُهُ الكبار، ويمارسونه صحيحاً، فهم لا يدركون – في أول الأمر – الصواب من الخطأ، ولا يميزون بين الخير والشر، إنما هم ينظرون بأعين آبائهم، ويحاكونَ طريقَتَهُم في الحياة ؛ ولهذا تجدُ ي الغالب أن الأولادَ الذين لا يصلون: تربوا في بيوتٍ لا تقامُ فيها الصلاة، وكذلك الأولادَ الذين يدخنون، لابد أنهم يقتدون بالمدخنين في البيوت، وهكذا تجدُ أن النشءَ ثمارَ تلك البيوت ، وكما قال تعالى : {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف:58].
إن الخطرَ على النشءِ من فقدان القدوة في البيتِ لا يكمنُ في كونهم ينشأوونَ متلبسينَ ببعضِ الانحرافات الأخلاقية، إنما الخطرُ يحصل إذا كبُرَ هؤلاء الصغار، وعقلوا حقائق الأمور، وعلموا واقع المربين، وأن ما كانوا يسمعونه من عبارات الفضيلة والنصائح، والأمر بحسنِ الخلقِ والبر إنما هي عباراتٌ جوفاء، لا واقع لها ولا تطبيق، فإن هذا الصنفَ من الأطفال – في العادة ينحرفُ انحرافاً شديداً، ويرفضُ المجتمع وتقاليدَهُ وعاداتهِ، وما فيه من خير وشر، ويحاول أن يبحثَ في مجتمعاتِ أخرى عن قدواتٍ، ورموزٍ يقتدي بها في حياته الجديدة.
وقد ثبت أن الأطفال الذين ينشأوون في أسرٍ متناقضةِ القيمِ والأخلاقِ، وتظهر فيها علامات النفاق، ومخالفةُ الأقوالِ والأعمال، يُصبحون – إذا كبروا – من أكثر الناس بعداً عن الالتزام بالآداب والأخلاق الإسلامية، وذلك لعمق الأثر الذي خلَّفه ذلك التناقضُ السلوكي في نفوسهم.(1/223)
وإن الناظرَ في أوضاع المجتمعات الإسلامية اليوم، يجد ا ن عقيدتنا، وأخلاقنا، وقيمنا تكاد تكون في ناحية، وحياتنا العلمية الواقعيةَ في ناحية أخرى، نقيضانِ لا يلتقيان، فكيف ينشأ مع هذا الوضع أطفالٌ صالحون يرون، ويشاهدون المتناقضات في حياة الأمة، إنهم مهما سمعوا من المربين، من عباراتِ الخير والفضيلةِ، والأخلاق الحميدة، فإنهم لن يحملوا في داخل نفوسهم سوى الصورة التي يرونها أمامهم، من أنواع وأنماط السلوك، إن خيراً فخيراً، وإن شراً فشر.
وقد أدرك السلف رضوان الله عليهم هذه المعاني الخطيرة، فهذا عمرو بن عتبة، ينصحُ معلمَ ولدهِ فيقولُ له: ((ليكن أول إصلاحِكَ لولدي إصلاحَكَ لنفسك، فإن عيونهم معقودةٌ بعينك، فالحسنُ عندهم ما صنعت، والقبيحُ عندهم ما تركت))، فهم لا يتأثرون بالنصوص بقدر ما يتأثرون بالسلوك العلمي الواقعي.
كثيراً ما يعتذر الآباء بالفساد الاجتماعي، ويحمِّلُونَ المجتمع فساد أولادهم متخلِّين بذلك عن دورهم وواجبهمُ التربوي، فهم قد جلبوا الطعام والشراب، واللباس، وظنُّوا أن مهمَتَهُم تنتهي إلى هذا الحد.(1/224)
نعم إن للمجتمع ومؤسساته المختلفة دوراً في التوجيه والتأثير ولاشك في هذا، ولكن ليعلمَ الآباء ويوقنوا: أن أثر البيتِ الصالح أبلغُ وأقوى من كل أثر ؛ فإن ما ينقُشه الآباء في نفوس أولادهم من معاني الخير والفضيلة، بالعباراتِ الصادقة الحارة، والسلوك القويم، مع القدوةِ الصالحة، له أثرهُ القوى الذي يبقى مع الولد حتى وإن ظهرَ على الولدِ بعضُ انحرافٍ في أول الأمر بسبب ضغط المجتمع، فإنه غالباً ما يرجعُ إلى الخير، وتكون عاقبتهُ إلى الصلاح، فما كان الله ليضيع جهدَ الأبِ الصادق، الذي جاهد في سبيل إصلاح ولده واستقامته ولو افترضنا ضياع الولد وانحرافه، مع بذلَهُ الأبُ في سبيل إصلاحه، فإنه لا لوم على الأب، وقد أخذ بالأسباب، فإن لله في ذلك حكمة هو أعلم بها، وللأب الأجرُ والمثوبةُ على صلاح نيتهِ، وبذلِ جهده.
إن فقدان النشء للقدوة الصالحة في المجتمع يُعد من أعظمِ المصائب التي يجنيها الجيل الجديد، وإن تناقض الأقوال مع الأعمال، في واقع الحياة، وبُعْد المربين عن سلوك النهج الذي رسمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمربي المسلم – كل هذا – يضعُ الأطفال في حالةٍ من الحيرة والتردد، منه لا يستطيعون أن يوفِّقوا بين هذه المتناقضات، فيسمعون من آبائهم كلاماً حسناً عن وجوب التقيُّد بالآداب والأخلاق الإسلامية، والبعد عن الخيانة والأمر بالأمانة , ثم يشاهدوا آباءهم وهم يمارسون في حياتهم العملة عكس ما يقولون , وعكس ما يأمرون به أولادهم.
ومن المعلوم أن الطفل في سن التمييز يمكن أن يحدد مدى التزام أهله بالتوجيهات التي يأمرونه بها , وإلى أي حد يتقيد أهله بالآداب والأخلاق التي ينادون بها , فلا يظن الأب أن الطفل لا يعقل ما يدور حوله , فإنه يتأثر بالقدوة العملية أكثر بكثير مما نظن.(1/225)
إن كلامنا هما كان جميلاً وحسناً ومتناسقاً، فإنه لن يؤثر في أولادنا، مهما كررناه عليهم، حتى يمتزج بأرواحنا، ويكون مطلقاً حياً في واقعنا العملين، وهنا فقط يؤمن به الأولاد، ويقتدون بنا.
فكيف يسوغ للأب المسلم أن يأمر أولاده بالعفاف والأدب، وبناتَهُ بالحشمة والحياء، ثم يزجُّ بهم في مجتمعات تفشت فيها الرذيلةُ والفواحش، بحجة قضاءِ إجازة الصيف، ثم يسمح للجميع بأن يفعلوا ما شاؤوا، فالأولاد ينطلقون هنا وهناك بلا رقيب، والبناتُ ينزعن الحجاب وجلباب الحياء.
وكيف يسوغ للمسلم أن يأمر أولاده بالتقوى، ومراقبة الله عز وجل في السر والعلن في حين يخادعُ، ويغشُ، ويؤذي المسلمين بلسانه ويده.
وكيف يسوغ للمسلم أن يأمر أولاده بالتقوى وغض البصر عن المحرمات، والبعدِ عن المنكرات في حين يُطلقُ بصره وسمعه للملاهي والمنكرات بحجة الترفيه البرئ.
وكيف يسوغ له أن يأمر أولاده بالمحافظة على الصلاة، وإتقانها في حين يهجرُ المساجدَ، ولا يؤدي الصلاة في أوقاتها المعلومة.
إن هذه التناقضات التي تعيشها الأمة – في أغلب أحوالها- لا يمكن أن توجِد جيلاً متوافقَ النمو، سوىَّ الخلقَ، بل تُخرِّجُ كل مبادئ المجتمع خيرها وشرها، معرضاً عن منهجه وسبيله. فكم عانت الأمة، من بعض أبنائها العاقين، الذين كانوا ثمار هذه التناقضات الأخلاقية، فمنهم من ألحد وكفر، ومنهم من فسق وفجر، ومنهم من سلك سبيل المنافقين، فأخذوا جميعاً بيدٍ واحدةٍ يضربون بمعولِ الهدم كيان الأمة، ويسوقونها نحو الهاوية.(1/226)
ولقد حذر الله عز وجل عباده من سلوك هذا النهج المنحرف فقال عز وجل: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]، وقال أيضاً: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} [النساء:81]، وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2-3]. وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلقُ أقتابُ بطنه، فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان مالك ؟ ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ؟ فيقولُ: بلى، قد كنت آمُرُ بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكرِ وآتيه)). ويقول أيضاً: ((آية المنافق ثلاث: إذا وعد أخلف، وإذا حدث كذب، وإذا أؤتمن خان)). وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: ((إن الكذب لا يصلحُ منه جدٌ ولا هزل، ولا أن يعد الرجل ابنه ثم لا ينجز له))، وقال: ((من قال لصبي تعالى هاك ثم لم يعطه فهي كذبة)).
إن الثمرة الصالحة الطيبة، لا يمكن أن تخرج من أرضٍ خبيثةٍ جدباء، كما أن الثمرة الخبيثة الفاسدة، لا يمكن أن تكون نتاجَ الأرض الطيبة، والعناية الكاملة.
5 - أضرار الشقاق والتنازع بين الزوجين على الأطفال(1/227)
إن من ثمرات النكاح وجود تلك الألفة، والأنس، والأمن بين الزوجين، وسكون كل واحد منهما إلى الآخر، فهو من أعظم آيات الله - عز وجل - إذ يقول ممتناً على الناس بهذه النعمة العظيمة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [ الروم: 21]، وهذا السكن لا يمكن أن يتحقق في العادة إلا أن يتقيد كل من الزوجين بحدوده، معترفاً بحقوق الآخر، قائماً بواجباته الشرعية، فإن أخل أحدهما أو كلاهما بشيء من هذه الحقوق والواجبات دب النزاع بينهما، وبدأت الأسرة في خوض معارك وصراعات من وقت لآخر. ولعل الوالدين في بادئ الأمر يخفيان خلافهما وشقاقهما عن الأولاد، فلا يظهران أمامهم شيئاً من الغضب أو الحنق، ولكن إذا استمر الوضع على حاله ودام النزاع لم يلبث حالهما أن يظهر للأولاد من وقت لآخر في صورة شتائم، أو إعراض، أو هجر، أو ترك للمنزل، وأقل ذلك أن يسمع الأولاد أصوات الخصام تنبعث من غرفة نوم الوالدين والأطفال لديهم حاسية مرهفة، مرتبطة بنفسية الوالدين، فإن أحسوا اضطراباً في وضع الوالدين انتقل هذا الاضطراب إلى نفوسهم أما إن لم يكترث الوالدان بوجود الأولاد في مكان الخصام، فأخذ كل واحد منهما يعبر عن آلامه وأحزانه وشكواه أمامهم، فإن نموهم الصحي والعاطفي يتعرض لخطر أكيد؛ إذ لا يمكن أن يتصوروا رؤية أحب شخصين إليهم بصورة مفزعة، وقد احمرت أعينهما، وانتفخت أوداجهما، وظهر عليهما الغضب واضحاً وأخذ كل منهما يشتم الآخر. وتكون المشكلة أكبر على نفس الأولاد وأخطر إذا أخذ الأب يضرب الأم أمامهم، فهذا لا شك يترك في نفوسهم أثراً سيئاً جداً، وربما ساقهم إلى الانسحاب من الأسرة، أو المجتمع والانضمام إلى عصابات الأطفال، أو فقدان الثقة بالنفس وبالناس، والانغماس في أحلام اليقظة، فإن "معظم الأطفال(1/228)
المشكلين يأتون من منازل مفككة، ومنازل تكثر فيها الاحتكاكات بين الزوجين" لهذا فإن على الأب أن يأخذ بالأسباب الكفيلة لحماية أولاده من الوقوع في المشاكل النفسية وأزماتها من جراء الخصام مع الأم.
وقد شرع الإسلام مبدأ الطلاق وفصَّل فيه في القرآن الكريم تفصيلاً دقيقاً، لم يفصِّله في الصلاة، ولا الزكاة، ولا الصيام، فإذا وجد الأب أنه لا مجال لاستمرار الحياة مع زوجه، فإن الطلاق - كما شرع الله - هو العلاج الأخير للمشكلات الأسرية المستعصية، فيكون أفضل وأحسن بالنسبة للأولاد والزوجين من النزاعات الطويلة أمام الأولاد دون جدوى.
6 - أضرار الطلاق على الأطفال وسبل التخفيف منه
يتأثر الوالدان بالانفصال، حيث يخسر كل واحد منهما المميزات الطيبة التي كان يتمتع بها مع رفيقه. كما أنهما يستريحان من سوء تصرف أحدهما مع الآخر، ولكن الأطفال في العادة يخسرون أكثر من الآباء، إذ إن وجودهم بين الأب والأم له أهميته البالغة، والعميقة في نفوسهم، إذ لا يمكن أن ينشأ الولد نشأة معتدلة سوية بدون الأب والأم معاً. فلو فقد الابن أباه في سن السادسة، أو السابعة مثلاً، أثر ذلك عليه تأثيراً سيئاً، وربما ساقه هذا الحرمان إلى مصه أصابعه، وكثرة المشاغبات، والتبول اللاإرادي.
"وتدل الإحصاءات على أن تفكك الأسر- وبخاصة ما كان راجعاً إلى الطلاق - من أهم العوامل التي تؤدي إلى جنوح الأحداث، وهو مظهر متطرف من مظاهر سوء التكيف الاجتماعي… وقد ترسم في ذهن الطفل الذي ينشأ في هذا البيت صورة قبيحة مشوهة عن حياة الأسرة وعن الدور الذي يلعبه كل من الرجل والمرأة في المجتمع، كما أن الطلاق نفسه قد يشعر الطفل بشيء من الخزي والنقص، فهو يحس أنه غريب في مجتمع أغلب أسره متماسكة حيث يعيش معظم الأولاد والبنات مع آبائهم وأمهاتهم".(1/229)
فقرار الطلاق والانفصال لا يتخذه الأب إلا إذا تيقن أنه أنفع لجميع أفراد الأسرة -خاصة الأطفال- من البقاء معاً في بيت واحد، وأن الآثار الناجمة عن الانفصال أقل ضرراً على الأولاد من الحياة المشتركة في جو متوتر مليء بالمشاغبات والتنازع.
فإذا ما كان قرار الانفصال هو الراجح فإن على الأب أن يخفف وطأته على نفوس الأولاد، ويكون ذلك بمصارحة الكبار منهم، وإقناعهم بأنه أفضل حل للأسرة، إذ لا يمكن أن تستمر الحياة مع طول الخصام، ويحاول الأب أن يبين لهم مشروعية الطلاق في الإسلام، وأنه جائز، وينقل لهم بعض قصص الصحابة في ذلك وغيرهم ممن لم يقدر لهم التوفيق في حياتهم الأسرية مع بعض النساء.
ويبين لهم النظام الذي سوف يعيشون عليه بعد الانفصال، وكيف سوف يجتمعون به في أوقات معلومة، وبالأم في أوقات معلومة أخرى، ويؤكد لهم حبه، وعطفه عليهم وأنه لن يستغنى عنهم، أو يزهد فيهم، أو يتخلى عنهم.
وبهذا الأسلوب أو نحوه يمكن للأب أن يخفف أثر الطلاق على أولاده فلا يخرجون بخبرة سيئة فتتعقد نفوسهم، وتسود الدنيا في أعينهم.
ويحذر الأب من استنقاص الأم عند الأولاد، ووصفها بأوصاف غير لائقة - حتى ولو كانت أهلاً لهذه الأوصاف- فإنها لا تزال أمهم، ومهما بدر منها مع الأب فإنه لا دخل للأولاد فيه، بل إن شأنهم شأن آخر، كما أنه ليس للأب ولا للأم مصلحة في إفساد علاقة الأولاد بالطرف الآخر، إذ أن هذا السلوك الخاطئ يضر الأولاد أكثر من الضرر بالأبوين لمكانتهما عندهم، ولحاجتهم إليهما جميعاً، بل لا يضرهما أن يثني كل واحد منهما على الآخر بما فيه وبما ليس فيه أمام الأولاد، ليعمق علاقتهم به، فتخف بذلك آثار الطلاق والفراق عليهم.(1/230)
ويحذر الأب كل الحذر من أن يجره حنقه وحقده على المرأة أن ينتقم منها بإيذاء الأولاد، كأن يحرمها من رؤيتهم، والاختلاط بهم، فإن هذا من الحرام إلى جانب ما فيه من المضرة بالأولاد، يقول عليه الصلاة والسلام في حق من فرق بين الولد وأمه من السبي: "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة"، فإذا كان هذا في حق السبي من الأطفال والنساء الكفار، فما بالك بالحرائر المؤمنات؟ لا شك أن القضية في ذلك أكبر وأعظم جرماً.
وإذا كان صغيراً غير مميز فإن أمه أحق به إذا تنازع الوالدان فيه، وذلك لأن "الأم أصلح له من الأب؛ لأن النساء أرفق بالصغير، وأخبر بتغذيته وحمله وأصبر على ذلك، فهي أقدر، وأرحم، وأصبر في هذا الموضع فعينت الأم في حق الطفل غير المميز بالشرع".
أما إن كان الولد مميزاً فإنه يخير بين أبويه، فإن اختار الأم كان عندها في الليل، أما النهار فيكون عند الأب ليعلمه ويؤدبه، أما إن اختار الأب فإنه يبقى عنده ليلاً ونهاراً ويزور أمه، ولا يمنع من ذلك، فإن عاد الولد واختار الآخر من الأبوين نقل إليه.
وبهذا التخيير يُعطى الولد الحرية الكاملة في البقاء عند أحب الأبوين إليه، مع دوام رؤيته للآخر في بعض الأوقات. ونظراً لأهمية دور الأب خاصة للولد المميز كان طول بقائه عنده أكبر من طول بقائه عند الأم؛ لأهمية دوره التربوي في هذه الفترة من عمر الولد.
7 - خطر الخادمة الأجنبية على عقيدة الطفل
يتزايد الطلب على الخادمات يوماً بعد يوم خاصة في منطقة الخليج، حيث الانتعاش الاقتصادي، ووفرة المال، ويقل الطلب عليهن في أسر الدول الإسلامية الفقيرة دون الأسر الغنية.
وزيادة الطلب على الخادمات في دول الخليج يرجع إلى انشغال الأمهات بالعمل خارج البيت، أو طلباً للراحة، وزهداً في معاناة التربية، أو مسايرة لباقي الأسر في المجتمع طلباً للمساواة والمفاخرة.(1/231)
ولقد كان للطفرة المالية التي انتعشت بها دول الخليج العربية دور هام وكبير في التوجيه الشديد نحو الترف والتنعم والاستكثار من الخدم والحشم، مما جعل المنطقة مكاناً رائجاً لانتشار مكاتب الاستقدام بصورة ملفتة للنظر، حيث تشرف هذه المكاتب على استقدام الخدم خاصة من دول شرق وجنوب آسيا، مقابل بعض المال، دون ضوابط تخص الجانب العقائدي، أو الخلقي، أو الثقافي.
وهذا التفلت في عدم وضع الضوابط الشرعية اللازمة لتنظيم عملية الاستقدام أدى إلى استقدام أعداد كبيرة من الخدم رجالاً ونساء من جنسيات وديانات مختلفة ومتنوعة دون انتقاء أو اختيار، فاختلط هؤلاء الخدم بالمسلمين، وأشرفوا على تربية أولادهم ورعايتهم، مما يشير وينذر باحتمال ظهور جيل لا يمت إلى المسلمين بغير الأسماء والألقاب، وذلك من جراء اختلاف العقائد، وتباين الثقافات، حيث لا يمكن أن يتربى الولد المسلم على حب الله ورسوله بين يدي مربية بوذية، أو نصرانية.(1/232)
ولما كان الأمر بهذه الدرجة من الخطورة كان لابد للأب المسلم من الاطلاع والوقوف على خطورة هذا الموضوع، وما يمكن أن يؤدي إليه إهماله، وتسويفه في هذا الجانب، إذ إنه هو المسؤول الأول عن استقامة ذريته، وحسن تربيتها، حيث تدل نتائج بعض البحوث الميدانية في منطقة الخليج على أن أكثر المستقدمات من الخادمات غير مسلمات، إذ بلغت نسبتهن حوالي 60% إلى 75% وعدد كبير منهن ينتمي إلى ديانات غير سماوية تقدس الأوثان، وتعبد الأبقار، وتحوز الديانة النصرانية المرتبة الأولى، حيث إن أكثرهن من النصرانيات، ثم البوذيات، ثم الهندوسيات، ثم المسلمات، والغريب أن حوالي 97.5% منهن يمارسن طقوسهن الدينية حسب الأديان والمعتقدات التي ينتمين إليها ويؤمن بها، مما يشير إلى خطورة هذا الصنف من الخادمات على النشء وتتضح الخطورة بصفة أكبر إذا علم أن حوالي 50% من هؤلاء المربيات يقمن بالإشراف الكامل على الأطفال، مما يؤكد سهولة تأثيرهن في الأولاد، وبث الأفكار، والعقائد المنحرفة في عقولهم، وقد أثبتت بعض الدراسات في الكويت أن 25% من الخادمات يكلمن الأولاد في القضايا المتعلقة بالدين والاعتقاد فالطفل الذي لا يشاهد سوى الخادمة في البيت، ولا يعرف أمه إلا فيما ندر فإنه يأخذ من مربيته "كل ما عندها من مشاعر وقيم ومهارات وخبرات، فهي معلمته وملهمته وسكنه الجسدي والنفسي، وهي كل شيء في حياته"، فهذه العلاقة القوية التي تبنى في سنوات طويلة بين الولد والخادمة الأجنبية تكون جسوراً قوية من الألفة والمحبة، إذ يتعلق الولد بالخادمة تعلقاً يفوق في بعض الحالات تعلقه بأمه، فيتقبل منها كل شيء من تصورات، وأفكار، وعقائد، وغير ذلك؛ إذ إن الطفل لا يميز بين الخير والشر، كما أنه ليس من السهل اكتشاف مكر بعض الخادمات في بث ما يخالف عقيدة الوالدين، خاصة إذا كان الأسلوب المستعمل غير مباشر.(1/233)
وأقل ما يمكن أن تحدثه الخادمة غير المسلمة في الإخلال بالعقيدة في نفس الولد أن توقع في نفسه حب الكفار واحترامهم، وموافقتهم على دينهم، من خلال حبه لها ولصواحباتها، وهذا هدم لمبدأ الولاء والبراء الذي تقوم عليه عقيدة المسلمين.
ولا بد أن يعرف الأب أن اليهود يعملون في الخفاء بشتى الوسائل ليصلوا إلى البيت المسلم: ويشرفوا بأنفسهم على تربية النشء فكما أفسدوا أبناء النصارى في بيوتهم وفي دور الحضانة التي نشروها وأقاموها في العالم، فكذلك يعملون جاهدين على إفساد أبناء المسلمين في المهد. إما عن طريق دور الحضانة التي تشرف عليها بعض الدول الأجنبية، أو عن طريق تسلل بعض الفتيات اليهوديات إلى البيوت المسلمة لتربية الأولاد، وحضانتهم تحت ستار الخادمات المستقدمات من الخارج، مع تعديل جوازات السفر بما يوافق تحقيق هذه الأهداف الخطيرة وبهذا يتحقق لهؤلاء المفسدين مأربهم الخبيث من إضلال المسلمين عن عقيدتهم وإيمانهم من خلال مهنة الخادمات الأجنبيات في البيوت المسلمة.
9 - خطر الخادمة الأجنبية على ثقافة الطفل
إن اعتماد الأسرة على الخادمة الأجنبية في جميع شؤون الولد، أو في معظمها يجعل منها عازلاً للولد عن مربييه الطبيعيين، فتنفرد بتربيته وتوجيهه لتشوه كل القيم والعواطف والمشاعر التي لا توجد إلا في الأسرة العضوية الطبيعية المتكاملة، والتي يتولى فيها كل عضو عمله ومهمته الطبيعية فهي كما تسيء إلى الولد في عقيدته وخلقه- كما تقدم - فكذلك تسيء إليه في ثقافته ومفاهيمه.(1/234)
فالمربية الأجنبية - امرأة كانت أو فتاة - ضائعة وحائرة بين ثقافتين ونظامين، فلا يمكنها نقل الثقافة العربية الإسلامية للولد؛ لكونها لا تعرفها، ولا تجيد اللغة العربية ولا تستطيع نقل ثقافتها الأجنبية، لغرابتها عن الثقافة المحلية في معظم جوانبها فإن معظمهن لا يتكلمن العربية، ونسبة الملمات بها لا تزيد عن 8% من مجموع الخادمات المستقدمات في منطقة دول الخليج العربية فإيكال مهمة نقل الثقافة، والإشراف التربوي على شؤون الولد للخادمة الأجنبية يعد خطراً فادحاً على ثقافة الولد، ولغته العربية لأن 50% من النمو العقلي يتم في السنة الرابعة من عمر الطفل، كما أن البنية اللغوية تبدأ عنده كأداة للتفكير والتعبير والاتصال في سن مبكرة. لهذا فإن تولي الخادمة الأجنبية مهمة نقل الثقافة والتعليم في هذه الفترة من عمر الصبي خطر فادح.
وقضية اللغة لا تقتصر على مسألة التخاطب فحسب، بل هي الوعاء الفكري والثقافي والحضاري الذي ينقل إلى الطفل عقيدته، وقيمه، وعاداته، وتاريخه الإسلامي المجيد، فكيف يمكن أن توكل إلى خادمة ضائعة حائرة مهمة صعبة كهذه؟
ولا شك أن تأثر الأولاد بلهجة المربية الأجنبية واقع لا مراء فيه، فقد أظهرت نتائج الدراسات الميدانية والوثائقية أن قرابة 25% من أطفال الأسر التجريبية في المرحلة الأولى، يقلدون المربيات في اللهجة، وأن أكثر من 40% منهم تشوب لغتهم لكنة أجنبية، ويتعرضون لمضايقات من أقرانهم بسبب ذلك.
وبعض الأسر تقر استعمال لغة أجنبية كالإنجليزية مثلاً لتكون أداة التخاطب الرئيسية بين الأولاد والخادمة بحجة أن الخادمة لا تجيد العربية وكل هذا يعد هدماً صريحاً للغة العربية، التي قد أنهكتها العامية من جهة، ويستغنى عنها بالإنجليزية وغيرها في بيوت المسلمين من جهة أخرى، فأصبح كثير من أبناء المسلمين أعاجم، لا يفقهون من لغتهم شيئاً.(1/235)
وقد تفطنت إلى هذا الخطر حكومات بعض الدول الغربية، حيث اشترطوا أن يتعلم المهاجرون إلى تلك البلاد للعمل لغة البلاد الأصلية؛ ليحموا نشأهم وبلادهم من الغزو الفكري الذي يمكن أن يصطحبه هؤلاء المهاجرون إليهم. ولا شك أن المسلمين أولى بهذا الإجراء من النصارى الضالين؛ لأنهم يعلمون أن ما يحمله هؤلاء الأجانب هو الكفر الصريح، والضلال المبين.
10 - مواصفات الخادمة المناسبة للأسرة المسلمة
إن وجود الخادمة في البيت المسلم الذي يمكن بسهولة أن تتولى فيه الأم وظيفتها الطبيعية يعد من الإسراف والتبذير، خاصة إذا اقترن بحب الرياء والسمعة، ومسايرة المجتمع.
أما إذا كانت المرأة ذات أطفال كثر، ولا تحتمل صحتها القيام بجميع مهام وخدمات البيت والزوج، فإنه لا بأس بالخادمة تعاونها، وتأخذ عنها بعض الخدمات.
ولا بد للأب في هذه الحالة، وبعد أن يتأكد من حاجة البيت إلى الخادمة أن يختارها من بين النساء المسلمات العربيات، المحتاجات للعمل، فهن أقرب للثقافة المحلية، وأدرى بعادات وتقاليد البلد الذي يعيش فيه، ولا بأس إن كانت الخادمة ذات أسرة أن تعمل في النهار، دون الليل، إذا كانت ربة المنزل تستغني عنها ليلاً. وإلا بحث الأب عن امرأة متفرغة تعيش معهم للخدمة ليلاً ونهاراً.
فإن عجز الأب عن وجود الخادمة المناسبة من نساء البلد، فلا بأس بالاستقدام من الخارج، على أن يراعي في ذلك أن تكون مسلمة صالحة، تجيد العربية، كما يراعي وجود المحرم من زوج، أو أب، أو عم، أو أخ، أو غيرهم من المحارم، وأفضل المحارم الزوج، خاصة للخادمة الصغيرة حيث يعينها على حفظ نفسها، وشرفها، وغض بصرها عن الشباب المتعطش.(1/236)
ولا يكفي أن يستبدل الأب الخادمة المسلمة بالأجنبية فقط، فإن الخطر والمشكلة لا تكمن فقط في الخادمات الأجنبيات المستقدمات بل إن بعض الخادمات المسلمات لديهن من الانحراف والضلال ما يفوق بعض الخادمات الأجنبيات. فالواجب على الأب أن ينتقي من بين المسلمات الصالحة منهن المستقيمة في دينها وعبادتها، الملتزمة بالحجاب الشرعي ولديها إلمام بشؤون تدبير المنزل، ويفضل أن تكون كبيرة في السن من اللواتي لا رغبة لهن في الرجال، فهؤلاء أرق قلوباً، وأبعد عن الشهوة والشبهة، فيخصص لها ولزوجها مكاناً مستقلاً بهما في طرف من المنزل.
ولا ينبغي تكليفها بشؤون الأولاد أياً كانت، فلا تكلف تغذيتهم، أو تنظيفهم، أو اللعب معهم، أو النوم معهم، أو تعليمهم أو غير ذلك من المهام المتعلقة بالتربية إلا عند الضرورة، ولا بأس بتكليفها تنظيف البيت والمسح والكنس والطبخ. أما الأطفال فلا تكلف بهم إلا عند الضرورة، وفي فترات قصيرة لئلا يتعودوا عليها، ويتعلقوا بها.
وقضية هامة يجب أن يراعيها الأب، وهي مسألة الحجاب والخلوة، فإن كثيراً من الأسر المسلمة لا تتقيد فيها الخادمات المسلمات بالحجاب الشرعي، ولا يهتم الأب إذا كان معها في خلوة، وهذا من الحرام، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم)) وقياس الخادمة على ملك اليمين من الإماء والعبيد الذين لم يعد لهم وجود في هذا العصر يعد من الخطأ المحض؛ فهؤلاء من الحرائر الأجنبيات، لا يجوز لهن كشف الحجاب، أو الخلوة برب الأسرة، أو دخولهن بغير استئذان، والتساهل في هذا الأمر يوقع في معاص كبيرة وذنوب عظيمة فلا بد من مراعاة الحجاب، والأدب الإسلامي حتى مع الأولاد خاصة الكبار منهم، في مرحلة الطفولة المتأخرة، فلا يختلطون بالخادمة، ولا تتكشف عليهم، ولا تخلو بأحدهم، بل لابد من الاحتياط في كل هذا حماية للأولاد من احتمال الانحراف، والوقوع في الخطأ.
11 - تعامل الطفل مع الخدم(1/237)
يتأثر الأولاد بالأسلوب والطريقة التي يُعامل بها الخدم في البيت، فإن كان أسلوب التعامل معهم هو الاحتقار والسخرية والاستعلاء عليهم لفقرهم وحاجتهم أو لاختلاف جنسياتهم، فإن الأولاد قطعاً يسلكون نفس الأسلوب والطريقة في معاملتهم، إذ إن تعصب الآباء على من يختلف عنهم وإظهار ذلك أمام الأطفال، ولو بكلمة عابرة، أو استهزاء، فإن الأطفال يكتسبون ذلك ويدركونه سريعاً فيرى الطفل غير المؤدب يشتم الخادم، ويستهزئ به، ولا يقيم له أي احترام أو تقدير، حتى وإن كان كبيراً في السن.
وقد اهتم الإسلام بموضوع الخدم، خاصة المماليك منهم، ووضع الضوابط الشرعية والأخلاقية للتعامل معهم وحفظ حقوقهم فإن كانوا مسلمين فهم إخوان لهم في العقيدة، ولكنهم تحت إمرة أصحاب البيوت، وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام: ((هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون ولا تكلفوهم ما يغلبهم. فإن كلفتموهم فأعينوهم)) فصاحب البيت مأمور بأن يطعمهم ويكسوهم، ويتلطف في تكليفهم بالأعمال. وإن من أعظم الأعمال تكليفاً الصبر على الإساءة والإهانة، وسوء المعاملة، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك بل وأمر من لطم خادمته أن يعتقها، وعندما رأى أبا مسعود - رضي الله عنه - يضرب مملوكه قال له: ((لله أقدر عليك منك عليه))، ولا يكتفي عليه الصلاة والسلام بذلك ؛ بل عندما سئل كم يتجاوز الرجل عن خادمه؟ أجاب عليه الصلاة والسلام فقال: ((كل يوم سبعين مرة)).(1/238)
وهذه التوجيهات النبوية وردت في المماليك الذين يعدون من متاع الرجل وأملاكه، حيث يتصرف فيهم بالبيع والشراء كيف يشاء، ويعاشر الإناث منهم معاشرة الأزواج فيطؤهن دون عقد أو خطبة، فإذا كانت التوجيهات النبوية بهذه الصفة في حق هؤلاء المماليك الذين هذا حالهم، فإن خدم اليوم ليسوا كذلك؛ بل هم من الأحرار، وحق الحر أعظم بلا شك من حق المملوك؛ لهذا كان الاعتناء بخدم اليوم، ومعرفة حقوقهم يعد أمراً هاماً.
ولا يعني الاهتمام بهم التباسط معهم ورفع الكلفة؛ بل المقصود رحمتهم، والمحافظة على كرامتهم، ودعوتهم إلى الخير بالقدوة والتوجيه.
والأب المسلم يقتدي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في معاملة الخدم ليكون لأولاده قدوة صالحة في ذلك، فهذا أنس بن مالك - رضي الله عنه - يصف معاملة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيقول: ((فخدمته في الحضر والسفر، فوالله ما قال لي لشيء صنعته: لم صنعت هذا هكذا، ولا لشيء لم أصنعه: لم لم تصنع هذا هكذا؟)) وهذا لا شك مستوى عال رفيع في أسلوب معاملة الخدم، ومثال عظيم يحتذى له.
كما أن هذه الرحمة بالخدم لا تعني السكوت عن أخطائهم وانحرافات بعضهم فإن صدر عنهم شيء مخل بالأخلاق أو الآداب وعظوا ونبهوا وأخذ على أيديهم، وهذا من مسؤوليات رب الأسرة فلا ينبغي له أن يهمل أو يقصر في ذلك، إذ إن الخدم يعيشون معهم في البيت، وسلوكهم يؤثر سلباً أو إيجاباً على الأولاد، فالخادم غير المؤدب، قبيح الألفاظ يعلم الأولاد سوء الألفاظ، وقبيح القول، كما أن الخادم الحسن السيرة والمؤدب في سلوكه وأقواله يؤثر على الأولاد تأثيراً طيباً. وذلك لأن الخدم عادة يقضون وقتاً طويلاً مع الأولاد، خاصة إن كان الخادم صغيراً في السن.(1/239)
ويفضل للأب أن يقلل من احتكاك الولد بالخدم قدر المستطاع، فإن الخدم عادة يقل بينهم الصالحون، ويكثر فيهم الجهل، وتكون الفائدة من الاحتكاك بهم قليلة جداً، إن لم تكن معدومة، لهذا يُنصح الأب بعزل الولد عنهم قدر الإمكان، خاصة الإناث منهم، وعليه أن يستبعد الفاسد منهم، ولا يتهاون في ذلك، فخطرهم - كما تقدم - على الأولاد كبير ولا يعتذر بأنه جيد الخدمة، ومتقن لعمله فإن احتمال إفساده لأخلاق الأولاد أعظم بكثير من الإخفاق الذي يمكن أن يحصل في المنزل بسبب إخراجه والاستغناء عن خدماته.
ويعلم الأب أولاده أسلوب التعامل مع الخادم، فإن كان كبيراً نادوه بـ"عم"، وإن كان صغيراً نادوه باسمه، ولا يسمح لهم بأن يستخدموه في شؤونهم البسيطة: كجلب الماء للشرب، أو حمل الحقيبة إلى المدرسة، أو خلع النعال، أو غير ذلك من الشؤون التي لا يليق بالخادم القيام بها مع الولد الصغير الذي يمكنه أن يتولاها بنفسه. وهذا الإجراء يؤدب الولد على احترام غيره، حتى وإن كان الخادم، ويعلمه أيضاً الاعتماد على النفس.
ويراعي الأب عند اختياره للخادم أن يكون كبيراً في السن، فالكبير أعقل وأكثر ضبطاً لأفعاله وسلوكه، ويراعي أيضاً تدينه، وأداءه للصلاة، واستقامته، وأن يكون من المتزوجين. ولا بأس أن تعمل زوجته خادمة لأهل البيت إن كانت هي الأخرى من المستقيمات، والمتقيدات بالأحكام الشرعية، والحجاب، فيخصص لهما الأب مكاناً منعزلاً في المنزل.
12 - خطر الفراغ على سلوك الطفل(1/240)
يعد الفراغ ووفرة الوقت لدى الناس -والشباب بصفة خاصة- مشكلة من المشكلات الكبيرة التي يعانون منها، فإن كثيراً من مظاهر الانحرافات السلوكية المختلفة كان الفراغ من أهم الأسباب الدافعة إليها، إذ إن وفرة الوقت دون عمل أياً كان يوقع صاحبه في أسر الوساوس الشيطانية، والأفكار والهواجس النفسية الخطيرة، فيبدي له من التصورات، والأفكار الجديدة والكثيرة ما لا يمكن أن يحصل له أثناء الانشغال بعمل ما.
والولد الذي يعيش في جو يملؤه الفراغ القاتل، دون اهتمام من أب أو أم، في مراعاة وضعه النفسي، والعمل على شغل فراغه، فإنه بلا شك يكون تحت أسر الوساوس والأفكار النفسية، وربما سولت له نفسه القيام بعمل من الأعمال القبيحة، كالسرقة، أو إيذاء أحد، أو العبث في المطبخ، أو محاولة الاطلاع على قضايا من شؤون الوالدين، أو ربما ساقه هذا الفراغ الممل إلى العبث بنفسه، فيمارس العادة السرية، أو يتعاطى شيئاً من المواد المخدرة، أو غير ذلك من مظاهر الانحرافات التي يمكن أن يحدثها الفراغ.
لهذا يحرص الأب على حماية أولاده من الفراغ فيعمل جاهداً على إشغال يومهم بما ينفعهم من النشاطات الثقافية، والرياضية المختلف
13 - سبل استغلال وقت فراغ الطفل
ينظم الأب في أسرته الوقت محاولاً استغلال كل لحظة بما يفيد ويعود على الأولاد بالخير، ويحذر كل الحذر من الثغرات التي يمكن أن ينطلق منها الأولاد إلى تعود الملل، ومعرفة الفراغ، وتذوق مرارة السآمة، فالإسلام حريص على شغل الإنسان شغلاً كاملاً منذ يقظته إلى منامه بحيث لا يجد الفراغ الذي يشكو منه، ويحتاج في مثله إلى تبديد الطاقة أو الانحراف بها عن منهجها الأصيل.
فالولد الصغير يشغل وقته باللعب الهادف المتنوع، وبشيء من مبادئ القراءة والتعلم. فعلى الأب أن يتخذ الوسائل المناسبة في هذا المجال.(1/241)
أما الولد المميز والكبير فبالإضافة إلى اللعب الهادف وشيء من التعلم، يركز الأب على جانب الرياضة البدنية المنظمة، وألعابها المتنوعة المباحة، حيث يخصص شيئاً من الوقت يومياً لممارسة الرياضة المفضلة ويهتم بمعرفة هوايات الأولاد المفضلة، كالنجارة، أو الحدادة، أو الميكانيكا، أو الرسم، أو الزخرفة، أو غير ذلك، ويحاول أن ينميها فيهم، ويؤمن لهم موادها وخاماتها اللازمة لها، ويخصص لهذه الهوايات وقتاً من ساعات اليوم.
ولا بأس بتسجيل الولد في نشاطات المدرسة اللاصفية كجمعية التوعية الإسلامية، أو الكشافة، أو غيرها من الجمعيات والنشاطات الهادفة، على أن يتأكد من نوع البرامج، وطبيعة المشرفين عليها، ومدى الفائدة التي يمكن أن يحصلها الولد.
وفي الإجازات التي يكون وقت الفراغ فيها أطول، وحدوث الملل والسآمة آكد، لابد من مضاعفة الجهد والعمل على استغلال الوقت بصورة أكبر، ولعل أفضل نشاط يمكن أن يستفاد منه في هذه الإجازات الطويلة: هو اشتراك الولد في أحد المراكز الصيفية التربوية الهادفة، بعد الاطلاع على برامجها، ومعرفة المشرفين عليها، حيث يشغل وقت الولد بالنشاطات الثقافية والرياضية المتنوعة صباحاً ومساء.
ويفضل إشتراك الولد في جمعيات تحفيظ القرآن طول أيام السنة وفي الإجازات الصيفية بالإضافة إلى نشاطات المراكز إذا أمكن ذلك، وكان لدى الولد شيء من الوقت على أن تراعى طاقة الولد فلا ينهك بالدروس والنشاطات فيملها بعد ذلك، ويزهد فيها.
أما إجازات الأسبوع فلا بد أن يفرغ الأب نفسه للأولاد، فيملؤها من الصباح حتى المساء بالنشاطات المحببة المفيدة، ويبدأ من الفجر بالصلاة والذكر وقراءة القرآن، وشيء من التنزه بالسيارة حتى طلوع الشمس، ثم الرياضة البدنية الخفيفة، ثم الإفطار.(1/242)
ومن الممتع أن يتبع ذلك بالخروج إلى البحر لقضاء يوم كامل على شاطئه في رحلة بريئة ممتعة. وإن قرر الأب البقاء في البيت، أمر الأولاد بأخذ شيء من الراحة والنوم لمدة ساعتين أو نحو ذلك، ثم يتركهم بعد الاستيقاظ في لعبهم معاً، ثم يشغلهم بالاستماع إليه وهو يروي قصة من القصص التاريخية المشوقة، أو سيرة من سير الصالحين أو نحو ذلك، ولا بأس أن يعطيهم بعد ذلك الفرصة للقراءة الحرة في الروايات والقصص المخصصة للأطفال، فإذا حانت صلاة الظهر صلوا جميعاً في المسجد، ثم تناولوا طعام الغداء، ولا بأس بشيء من الحديث والمداعبة على الطعام وبعده حتى يحين موعد القيلولة إلى العصر، وبعدها يقرأ شيئاً من القرآن ثم يتولى كل ولد مراجعة دروسه وحل واجباته المدرسية تحت إشراف الأب حتى المغرب. ولا بأس إن توفر الوقت قبل المغرب خصصه الأب للعب والرياضة، ويستغل الفترة بين المغرب والعشاء في الجلوس مع الأولاد وأبناء الجيران في مكتبة المسجد للاطلاع الحر في المجلات الإسلامية وكتب الأطفال وتنفيذ نشاطات المسجد، وبعد صلاة العشاء يتناول الجميع طعام العشاء، ثم يجلسون لقراءة شيء من الأحاديث وسير الصالحين، ثم يأمرهم الأب بالتجهيز للنوم.
وبهذا الأسلوب أو نحوه يكون الأب قد شغل جل وقت الولد في الإجازات الأسبوعية بما يعود عليه بالفائدة، ويحميه ويحفظه من تذوق آلام الفراغ والملل، والفترة الصباحية في أيام الأسبوع في غير الإجازات تتكفل المدرسة بشغْلها، أما باقي اليوم فإن الأب يملؤه بالنشاطات التي تقدم ذكرها فيما يخص الفترة المسائية. فيكون الأب بهذه الإجراءات قد قام بشيء من واجباته تجاه استغلال وقت الفراغ وحماية الأولاد من الانحرافات التي تسببها وفرة الوقت.
التربية العقلية للطفل
1ـ أهمية التربية العقلية للطفل
نسخة للطباعة إرسال لصديق(1/243)
يهتم الإسلام بتربية الفرد في المجتمع من جميع الجوانب، فكما يهتم بتربيته من الناحية الجسمية والروحية والخلقية، كذلك فإنه يولي أهمية كبرى لتربية الفرد المسلم من الناحية العقلية؛ وذلك ليكمل بناؤه من جميع الجوانب.
والتربية العقلية في الإسلام تسعى إلى تنمية ذكاء الفرد، وقدرته على التأمل، والتفكير، والنظر، وتنمية قدرته على التخيُّل والتصور، إلى جانب تقوية ذاكرته، وإعطائه القدرة على التحليل، وإدراك العلاقات بفهم عظات التاريخ، وربطها بواقع الحياة، وربط العلل بالمعلولات، والأسباب بالنتائج، إلى جانب اهتمامها بتنمية القدرة على التعبير، فهي بذلك تشمل جميع نشاط الإنسان العقلي.
وهي إذ تهتم وتُعْنى بهذه القدرات العقلية وتنميها، فإنها تهدف من وراء ذلك إلى الوصول إلى الغاية الكبرى من معرفة الله عز وجل وحبه وعبادته، فليس التفكير في الإسلام لمجرد التفكير فحسب؛ لهذا كان العقل أهم وسيلة للوصول إلى معرفة الله عز وجل من خلال آياته "إذ بدون العقل لن نعرف الآية، وبدون الفكر لن يُعرف صاحبها".
والتربية العقلية تهتم أيضاً إلى جانب تثبيت العقيدة في نفس الطفل: ببناء الفكر الإسلامي في ذهن الطفل، وإعطائه القدرة على تمييز الفكرة الإسلامية من بين التيارات الفكرية الدخيلة المناهضة للتصور الإسلامي، كما أنها تبث روح العزة والأصالة بالفكر الإسلامي عند النشء.(1/244)
وتضمن القرآن الكريم التوجيهات الكثيرة المباركة في الأمر بالتفكر، والتدبر، والتعقل، فمنها قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 10-12]. وفي موضع آخر قال الله تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ* وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية: 3-5]. وهكذا تُختم الآيات بالدعوة إلى التفكر والتدبر. وقد وردت لفظة {تعقلون، يعقلون} في القرآن الكريم ثمانياً وأربعين مرة، كما وردت لفظة {يتفكرون} سبع عشرة مرة، و{يفقهون} ست عشرة مرة. وفي هذا دليل واضح على أهمية استخدام العقل -الذي هو مناط التكليف- في معرفة الله عز وجل والإيمان به، مما يتطلب ويوجب السعي في مرضاته بكمال الخضوع والذل في عبادته.(1/245)
ولقد حبا الله الكائن البشري بملكات وقدرات عقلية عظيمة كالذكاء، والقدرة على الحفظ والتذكر، والإبداع، والفهم، وغير ذلك. وهذه القدرات وإن كانت مكنونة في الطفل عند ولادته، فإنها في حاجة إلى استخراج وتنمية، وما لم نهتم بهذه القدرات العقلية وننمِّها بالأساليب الصحيحة، فإنها ربما تضمحل وتذهب، أو توجه وجهة غير صحيحة، فتنحرف وتضل. لهذا كان دور الأب في الأسرة مهماً للغاية؛ إذ هو المسؤول الأول عن تربية ولده وتعليمه وتوجيهه، محافظاً على ما حباه الله من قدرات وطاقات مختلفة وجاداً في تنميتها، وتوجيهها إلى الخير.
2ـ أهمية التلقين الفكري للطفل في المراحل المبكرة
يميل الطفل في طفولته المتأخرة إلى تقبل الآراء والحقائق عن الكبار، وتكون لديه قابلية كبيرة للاستهواء والانقياد، كما أن قدرته على التفكير المجرد تكون جيدة، فيميل الى الاحتكاك بالكبار وأخذ القيم والمعايير عنهم، كما أنه في هذه السن يصبح قادراً على إدراك الخطأ والصواب؛ لهذا كان منهج التلقين المباشر لأساسيات الدين في هذه الفترة هاماً للغاية، إذ إن الولد لايفهم معظم تصرفات الكبار، فيكون تلقينه المفاهيم الصحيحة وسيلة جيدة في هذه الفترة، خاصة وأن الولد مستعد للتقبل والاقتناع.(1/246)
ولا يعني هذا أن التلقين للمفاهيم الإسلامية لا يصلح إلا في الطفولة المتأخرة؛ بل إن التلقين في الطفولة المبكرة له أهميته أيضاً؛ فإن "التعليم الديني الذي يتلقاه الطفل في السنوات المبكرة يترك بصماته على عقليته في الطفولة المتأخرة حيث تتكون عنده مفاهيم تصبح أكثر وضوحاً مع تقدمه في السن، وبهذا يستطيع أن يفهم النظريات المجردة على نحو أفضل"، لهذا كان السلف رضوان الله عليهم يبدؤون في تلقين أولادهم أساسيات الدين منذ الطفولة المبكرة عند ابتداء نطقهم، فكانوا يعلمون الأولاد قول "لا إله إلا الله" سبع مرات لتكون أول شئ يقولونه، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلم الغلام من بني عبد المطلب إذا أفصح قول الله تعالى: {الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك} سبع مرات، وكان علي بن الحسين -رحمه الله- يعلمهم: [قل آمنت بالله وكفرت بالطاغوت]. وهذا العمل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومن السلف الصالح فيه دليل على أن الطفل يختزن هذه المعلومات في حافظته، وتتشرب بها نفسه بالتكرار. لهذا أجمع أئمة السلف على أن نطق الصبي بالشهادة قبل البلوغ كافٍ، فلا يحتاج إلى تجديد ذلك بعد البلوغ. ولو لم يكن هناك فائدة من وراء تلقين الصغير هذه القضايا لكان من العبث قيام السلف الصالح بها، وإضاعة الوقت والجهد.
ومن هنا تتضح أهمية تلقين الولد الصغير هذه الشهادة العظيمة؛ إذ يبدأ الأب بتلقينه "لا إله إلا الله" اقتداء بالسلف رضوان الله عليهم، ويلقنه معناها إذا كبر قليلاً وهو: "إني أعلم وأقر وأعترف وأعتقد بأن المعبود الحق الذي لا يستحق العبادة غيره هو الله تعالى، وأبين ذلك وأظهره بلساني وأفعالي وسلوكي". ولا بأس بتعليمه هذه الجمل حتى وإن لم يفهمها أو يعقلها، فإنه إذا كبر علم معناها وعقلها وكانت أدعى للتطبيق في حياته وسلوكه.(1/247)
وإذا عقل الولد وبدأ يفهم بصورة أفضل يُلقن: أن الإسلام، هو دين الله الذي لا يقبل غيره، وأنه لا عز إلا بالإسلام، وأن ما أصاب الأمة من هزائم ونكبات ما كان ليحصل إلا بسبب تفريط المسلمين في التزام دينهم. كما يُلقن: أنه ما قام المسلمون بدعوة الله والتزام منهجه إلا كان الانتصار في النهاية للإسلام وأهله.
وعلى الأب أن يعلمه أيضاً أحكام الحلال والحرام، ويربطه بأحكام الدين والشريعة، فيفهمه أن هذا حرام، وهذا حلال، في كل قضية من القضايا التي تعرض له، ليستشعر الولد أنه محاط بشريعة وأحكام تنظم كل شؤون حياته. فبعد فترة من هذا المران والتكرار، يصبح عند الولد حاسية خاصة، يحب أن يعرف حكم الله في كل قضية، أو أمر يقوم به فيسأل عن الحكم في كل ما يراه ويسمعه. وهذا الإحساس هو حجر الزاوية الأساسي في استقامة الولد في المستقبل إن شاء الله.
ويضيف الأب إلى هذه القضايا التي يُلقنها للولد، قضية تلقينه وتعريفه بأعداء الإسلام، فيحاول أن يُعرفه بهم حتى لو كان ذلك بالأسماء، والشعارات فقط، وذلك لتختزن هذه المعلومات في حافظته، وتستقر في نفسه، كأن يقول له دائماً: "أعداء الإسلام من يؤذون المسلمين من اليهود، والنصارى، والمجوس، … وكل من هو على غير دين الإسلام". وفي بعض الأحيان يسأله: "من أعداء الله يا بني؟" فيجيبه الولد فوراً كما علمه الأب.
3ـ تعليم الطفل اللغة والكلام
اللغة هي القوالب والأوعية التي ينتقل من خلالها الفكر والخلق والاعتقاد، وغير ذلك مما يمكن أن تنقله اللغة، لهذا فإن لها تأثيرها البالغ في العقل والخلق والدين، "والفرد يتأقلم مع أنماط المواقف والأفكار والقيم التي تشكل ثقافة ما عن طريق اللغة بصورة أساسية، … فإن اللغة تساعد على تنشئة وعي الفرد وتشكيله الاجتماعي بصورة قوية".(1/248)
لهذا "فإن نوعية الكلام الذي يستعمله الوالدان، ودقته، ومغزاه، ونوع العلاقة التي ينشئها كلاهما مع أطفالهما، هي السند القوي للنمو العقلي". فإذا أراد الأب أن يأمر ولده بالسكوت مثلاً، فإن العبارات التي تفيد المعنى كثيرة، فبإمكانه أن يقول للولد: "اسكت"، أو "لا تتكلم"، أو ينظر إليه نظرة حادة يفهم منها الولد وجوب التزام الصمت. وهذا الأسلوب في العادة غير موفق مع الولد الصغير خاصة، بل ربما زاده عناداً وإصراراً، إلى جانب أن الولد لا يستفيد من هذه الكلمة شيئاً جديداً في عالم اللغة، ولكن الأب لو استخدم أسلوب العبارات الطويلة التي تفيد المعنى المطلوب، وتحمل معها شيئاً من الحجة والإقناع، فإن المردود أفضل من ناحية استفادة الولد وسماعه عبارات لغوية طويلة، وكلمات جديدة، إلى جانب اقتناعه بالحجة، وفهمه لسبب الأمر، أو النهي، ومثال ذلك أن يقول الأب للولد: "يا بني أرجو أن تقلع عن الصراخ فإنني لا أستطيع أن أقرأ وأنت تصرخ، وإني محتاج أن أنهي قراءة هذا الكتاب اليوم؛ لتقديم ملخص عنه غداً"، فالفرق بين العبارات واضح، ففي الأسلوب الأول استخدمت كلمة واحدة مكررة ومعروفة عند الولد، أما في الأسلوب الثاني فإن عدد الكلمات أكثر، والأسلوب أفضل وأجمع وأنفع.
ولما كان أمر اللغة بهذا القدر من الأهمية، فإن الأب يستخدم مع ولده أفضل وأحسن الألفاظ، معتمداً على اللغة العربية مفتاح العلوم، ومتجنباً العامية قدر الإمكان، فإن تعليم الطفل الصحيح من اللغة ابتداء، أفضل من إعادة تصحيح ما أفسد منها.(1/249)
ويبدأ الأب في تعليم الولد الكلام منذ ميلاده، فإنه محتاج إلى المناغاة بقدر حاجته إلى الغذاء واللبن، فقعود الأب من وقت لآخر ليحدث ولده الصغير، أو يقرأ عليه من كتاب يؤدي إلى تحسينات كبيرة في قدرة الولد على الكلام، وزيادة في اهتماماته اللغوية، فلو قرأ الأب ورده اليومي من القرآن الكريم بجوار ولده وهو يسمعه، فإن هذه الفائدة تحصل، بجانب حصول البركة بالقرآن، والثواب على القراءة. ويراعي الأب عند القراءة تحسين صوته، فإن الصوت الحسن يجذب النفس، ويرقق القلب، وفي الحديث: (زينوا القرآن بأصواتكم).
ويساعد على عملية الكلام عند الطفل وسرعته: اللعب معه ولمس جسمه خاصة الأصابع فإن "مناطق الكلام في المخ تتكون بتأثير انتقال النبضات من الأصابع عن طريق الأعصاب … هذا بالإضافة إلى النشاط الحركي المنظم أثناء حدوث الكلام له تأثير طيب على النمو العقلي للطفل، وهو يساعد على عمليات التفكير والانتباه والتذكر". لهذا يتنبه الأب إلى أهمية الحركة عند الولد، وأن لها دوراً هاماً في نموه العقلي، فلا يزجره دائماً على كثرة لعبه وحركته؛ بل يهيئ له الجو المناسب، والمكان المناسب، لاستخراج طاقاته، وتنمية قدراته العقلية والجسمية.
ومن الوسائل المساعدة على تعلم الأولاد للكلام تشجيعهم عليه، والاستماع لهم باهتمام، فإن التشجيع خير حافز على جد الولد في تعلم اللغة والنطق بها، كما أن وجود الولد في مجموعة من الأطفال في سنه يساعده أيضاً على ممارسة الكلام، وتعلم مفردات جديدة، على أن يلاحظ الأب في ذلك حسن اختيار الرفاق، فإن الطفل يمكن أن يتلقى منهم مفردات قبيحة يصعب على الأب بعد ذلك تخليصه منها.(1/250)
كما أن للروايات والقصص المثيرة دوراً هاماً في مساعدة الولد على تركيب الكلام والقدرة على النطق، فلو خصص الأب فترة ما قبل النوم -حيث يكون الطفل مركزاً ومقبلاً- في إلقاء بعض هذه الروايات والقصص معتمداً على اللغة العربية الفصحى، مع سهولة العبارة والإثارة العاطفية في القصة، فإن الولد سوف يستفيد من نصوص القصة مفردات جديدة، إلى جانب تعلم كيفية النطق والشجاعة على الكلام، بالإضافة إلى الأفكار، والقيم الجميلة التي يتعلمها من القصة وأحداثها.
أما ما يخص قضية اللعثمة والتهتهة عند بعض الأطفال الصغار، فإن أسبابها تعود عادة إلى أمور منها: الوراثة: فالطفل المتوسط الذكاء ينطق بصعوبة، إلى جانب أن نطقه يتأخر، كما أن إهمال الولد الأكبر والالتفات إلى المولود الجديد، ولوم الولد عند حدوث اللعثمة منه بغير قصد، ووجود المشكلات العائلية التي تهدد بانهيار البيت، كل هذه الأمور تؤثر على الولد، وتضعف عنده القدرة على الكلام بطلاقة، ولا شك أن اهتمام الأب ومراعاته لحالة ولده النفسية، بإغفال ما عنده من بطء في الكلام واللعثمة، ومساعدته على النطق وتشجيعه عليه بالأساليب المختلفة، مع مراعاة أن يكون ذلك بعيداً عن نظر أقرانه وإخوته، يمكن أن يفيد الولد ويحسن من وضعه ونطقه.
ويلاحظ الأب أيضاً أن الإصرار على الولد، وإجباره على تعلم اللغة قبل أن يكون مستعداً لذلك يعد من أسباب وجود هذه التهتهة واللعثمة إلى جانب التوتر النفسي الذي يحدثه هذا الإجبار والقسر عند الولد. فإن الطفل يمكن أن يبدأ النطق بكلمات لها معنى في نحو تسعة أشهر من عمره، وقبل هذا السن لا يتجاوز كلامه إصدار أصوات، وأحرف متفرقة أو مجتمعة، دون أن يكون لها معنى مقصود أو مفهوم، فيلاحظ الأب هذه المفاهيم، ويراعي قدرات الولد، وإمكاناته العقلية في سن الطفولة.
4ـ تعلم الطفل القراءة والكتابة(1/251)
يستمر تلقين الطفل المعرفة الفكرية السهلة إلى فترة طويلة حتى يتمكن من القراءة، وأخذ المعلومات بنفسه. فإن القراءة تعد من أعظم وسائل المعرفة، إذا لم تكن هي أعظمها، والأمر قد جاء بها من عند الله عز وجل، فقد كان أول التقاء بين السماء والأرض بعد انقطاع طويل، نزول قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1]. وفي هذا إشارة إلى أهمية العلم والتعلم، وبيان وسيلتهما ومفتاحهما وهي القراءة.
والأب مكلف بمهمة التعليم، فهو المسؤول عن تعليم أولاده القراءة، والكتابة، فقد قال عليه الصلاة والسلام : ( حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتابة والسباحة والرماية وأن لا يرزقه إلا طيبا ).
وإن هذا لا يتحقق في جو فشت فيه الأمية بين المسلمين، وقل الشغف بالقراءة، والاطلاع وطلب العلم، خاصة من المقربين للولد، فإن "الرغبة في المطالعة لا تولد مع الطفل، فالأطفال لا يتعلمون حب الكتب بدافع ذاتي، فلا بد أن يقودهم شخص ما إلى عجائب عالم الكلمة المكتوبة"، وهذا الشخص لا بد أن يكون هو الأب، لأنه القدوة، ولأنه المحبوب من أولاده، وكل ما يصدر عنه، فهو جميل وحسن.
ويمكن أن يبدأ الأب في تأصيل حب القراءة عند الولد، عن طريق تأسيس مكتبة علمية في البيت بمجرد ولادة الطفل، فإن إحاطته بالكتب من أول الأمر تجعله يعتادها ولا يستنكرها، فيتعلم كيف يتعامل معها ويحترمها في سن مبكرة من عمره.
ويحاول الأب في هذه الفترة أيضاً أن يقرأ بجوار الولد بصوت عالٍ غيرمزعج، حتى يعتاد على الإصغاء، وسماع صوت القراءة الرتيب، ولو جعل مختاره من القراءة هو كتاب الله عز وجل، كانت الفائدة أعظم، والأجر أكبر.(1/252)
والطفل في سن الأربع سنوات يتشكل عنده خمسون بالمئة من النمو الذهني، فتكون المطالعة اليسيرة في هذه الفترة تعزيزاً لهذا النمو الذهني عنده. كما أنه في سن السادسة تقريباً يشعر بالثقة في نفسه، وأنه قادر على اقتحام أي مجال من المجالات، فيكون إشغاله في هذه الفترة بالقراءة استغلالاً جيداً لهذه الطاقة الحيوية عنده. مع ملاحظة أن توجيه الولد إلى الاطلاع في سن مبكرة، لا ينبغي أن يكون إجبارياً، إذ إن إجباره على تعلم القراءة قبل استعداده لذلك يؤثر على الاتزان العاطفي عنده، إلى جانب أنه لن يتعلمها بسهولة ويسر، بل يفقد أولاً بأول ما يتعلمه منها، ويسوقه ذلك فيما بعد إلى كرهها وبغضها.
وقد جاءت بين توصيات "ندوة كتب الأطفال في دول الخليج العربية" والتي عقدت في البحرين عام 1985م، توصية نصت على: "عدم إجبار الأطفال في سن ما قبل المدرسة على القراءة والكتابة، مع توفير المثيرات الموحية لهم بتوفير الكتب المصورة المناسبة لتشجيعهم على التعامل مع الكتب"، فهذه التوصية صريحة في التحذير من إجبار الطفل على القراءة قبل دخوله المدرسة، مع اتخاذ الوسائل المناسبة والموحية والمشجعة له للتعامل مع الكتب، فيمكن للأب أخذاً بهذه التوصية، أن يهيئ لولده في حدود سن الرابعة أو الخامسة تقريباً، مثيرات متنوعة، تدفعه للقراءة وحب الكتب، ومن ذلك استخدام بعض الكتب المصورة التي تتضمن صوراً ملونة جميلة لبعض الحيوانات، والنباتات، والأدوات والأشياء المختلفة، وتعليم الولد أسماءها، ثم سؤاله بعد ذلك عنها، فمن خلال هذه الوسيلة يتعلم الولد شيئاً من القراءة، ويتعرف على مضامين هذه الصور، إلى جانب تقوية صلته بالكتب وإشغاله بها.
ويدرَّب الولد الصغير على القراءة من خلال تعلم الكلمات الكبيرة، كالموجودة في الجرائد، ولافتات المحلات، والإعلانات الكبيرة، ولوحات المرور الإرشادية، وغير ذلك مما يمكن أن يكون سهلاً على الطفل ويمكنه قراءته بوضوح.(1/253)
كما يمكن للأب زيادة تشجيع الولد على القراءة من خلال صناعة بعض الأحرف الهجائية من الحلوى، فيتعلم الولد ويأكل في نفس الوقت، وقد كان بعض القدماء يستعملون هذا الأسلوب، وقد نصح به الفيلسوف "إيراسموس". فبإمكان الأب تكليف أهل البيت بأن يصنعوا هذه الحلوى أو البسكويت، على شكل أحرف هجائية، أو أرقام عددية، ثم يجلس الأب من وقت لآخر يداعب ابنه ويلاطفه بهذا الأسلوب التربوي الجميل، فيتعلم أن القراءة شيء لطيف يدخل السرور، فتكون هذه خطوة مشجعة للولد لمواصلة المسير في تعلم القراءة نحو القصص والروايات الميسرة، والخاصة بالأطفال الصغار.
ولما كانت الصلة قوية بين القراءة والكتابة، فهما لا ينفكان ولا ينفصلان عن بعضهما البعض فإن الله سبحانه وتعالى بعد أن أمر بالقراءة في أول سورة أنزلها على رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - أشار بعدها في الآية الرابعة عن فضله ونعمته بأن علم بالقلم، فقال: {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق:4]. يقول قتادة -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "القلم نعمة من الله تعالى عظيمة، لولا ذلك لم يقم دين، ولم يصلح عيش، فدل على كمال كرمه سبحانه، بأن علم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبَّه على فضل علم الكتابة، لما فيه من المنافع العظيمة، التي لا يحيط بها إلا هو".
لهذا فإن اهتمام الأب بموضوع الكتابة بجانب القراءة يعد أمراً هاماً، لعظم الصلة بينهما. ويمكن بعد أن يعرف الولد أشكال الأحرف: أن يدرب على الإمساك بالقلم، فإن الطفل يمكنه تعلم طريقة إمساك القلم في الفترة من الثانية إلى الرابعة من عمره، فيمكن من الكتابة على بعض الأوراق الكبيرة البيضاء، أو الملونة، مع استخدام الأقلام الملونة الجذابة، أو بالإمكان استخدام اللوح، أو غير ذلك حسب الإمكان. والأطفال في هذه الفترة مشغوفون بالرسم والتلوين، فيتعلمون رسم الأحرف والأعداد وتلوينها.(1/254)
ولا يغفل الأب عن تشجيع ولده ومتابعته والاهتمام بإنجازه، حتى وإن كان تافهاً غير مفهوم. مع ملاحظة قضية عدم إجبار الولد على استعمال يده اليمنى عند الكتابة أو الرسم، إن كانت كتابته باليسار طبيعية، قد جبل عليها، فإن إجباره يؤدي إلى اضطراب نفسي، وتركه على طبيعته ليس فيه محظور شرعي، إن لم يستعملها في الطعام أو الشراب.
وكما أن الطفل يفتح عليه أول ما يفصح بكلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، فإنه يُفضل أن يفتح عليه أيضاً عند أول قدرته على الكتابة أن يتعلم كتابة "لا إله إلا الله" أو "الله". وذلك بدلاً من البدء بكتابة اسمه كما هو الحال مع أكثر الآباء عند تعليم أولادهم الكتابة، حيث يبتدئون بتعليمهم كتابة أسمائهم، ولا شك أن الابتداء بكتابه اسم "الله" أعظم وأجل، وأوقع في نفس الولد لتعظيم الله عز وجل، فإذا كان اللفظ "بلا إله إلا الله" والطفل بعد لا يعقل أمراً مستحباً، فإن بدأه بكتابتها وهو أعقل وأكبر أولى وأحرى.
وإذا التحق الولد بالمدرسة الابتدائية، أو الروضة وحصلت له القدرة على القراءة، فإنه يوجه إلى القصص والروايات والكتب الصغيرة التي تناسب سنه، فيؤمن الأب له في مكتبته الصغيرة مجموعة من هذه المطبوعات الجيدة، مراعياً شروط اختيارها، ومطلعاً على مضامينها، فيشجع ولده على الاطلاع عليها وقراءتها، ولا بأس أن يشاركه الأب في أول الأمر، ويقرأ عليه بعض الصفحات من وقت لآخر، حتى يضمن شغف الولد بها، وانجذابه إليها، مراعياً أن يفهم الولد مضمونها وما تدور حوله أحداث القصة، فإن كثيراً من القراء الكبار - فضلاً عن الصغار- يجدون صعوبة في التقاط الأفكار الرئيسية من الكتاب، أو القصة. فيخرج القارئ بجزئيات حول الموضوع دون الفكرة الرئيسية. وهنا يكون دور الأب المثقف أن يعلم ولده كيف يلتقط الفكرة الرئيسية التي تدور عليها أحداث القصة، أو مضمون الكتاب، وبذلك يكون قد خدم ولده خدمة عظيمة، قد فاتت على الكثير من الناس.(1/255)
نسخة للطباعة إرسال لصديق
5ـ حاجة الطفل إلى التعليم
يتعلم الطفل في سنواته الأولى أكثر بكثير مما يتصوره الآباء، فإن العادات يمكن أن يكتسبها بسهولة كلما كانت سنه أصغر، فإن "90%" من العملية التربوية تتم في السنوات الخمس الأولى، كما أن الطفل في هذه الفترة يميل إلى إرضاء والده، ويحاول أن يخرج منه عبارات الثناء والإعجاب. فمن البديهي أن يستغل الوالد هذه الفترة الهامة في تعليمه وتوجيهه الوجهة الحسنة. يقول ابن الجوزي -رحمه الله- في هذا المجال: "أقوم التقويم ما كان في الصغر، فأما إذا ترك الولد وطبعه فنشأ عليه ومرن كان رده صعباً. قال الشاعر:
إن الغصون إذا قومتها اعتدلت ولا يلين إذا قومته الخشب
قد ينفع الأدب الأحداث في مهل وليس ينفع في ذي الشيبة الأدب
ويرى البعض أن توجيه الطفل يبدأ منذ نعومة أظفاره منذ الفطام. فلا مجال للأب أن يسوف، أو يؤخر مسألة التعليم إلى أن يكبر الولد.(1/256)
ومن هذا المنطلق الهام، جاءت السنة المطهرة بالتوجيهات للآباء بأن يلتفتوا إلى أبنائهم، وأن يحسنوا تعليمهم وتأديبهم، فقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : (لأن يؤدب الرجل ولده خير من أن يتصدق بصاع) وقال أيضاً:(ما نحل والد ولداً من نحل أفضل من أدب حسن), وجاء التحذير لمن فرّط في هذه المهمة العظيمة، وأهمل تربيته، فقد قيل: "أول من يتعلق بالرجل زوجته وأولاده فيقفونه بين يدي الله عز وجل فيقولون: يا ربنا خذ لنا حقنا من هذا الرجل، فإنه لم يعلمنا أمور ديننا". لهذا كان واجباً على الأب أن يكون عالماً بأمور الدين محيطاً بالحلال والحرام، وأساليب التربية، ومبادئ الأخلاق وقواعد الشريعة، فإن لم يكن عالماً بها وجب عليه تعلم ما لا يعذر بجهله من أمور الدين، وذلك ليعبد الله على علم ويقين، وأن يعلم أولاده أمور دينهم، وما أوجبه الله عليه من الأوامر والنواهي، والحلال والحرام، فإن لم يفعل ذلك وأهمل، فإن تربيته لأبنائه سوف تكون منحرفة، وبالتالي ينحرف الأطفال، ويكونون عبئاً على المجتمع إذا كبروا. ومن المعروف أن التربية الخاطئة تعد أهم العوامل صلة بالجرائم.
والطفل في صغره لا يعرف ولا يميز بين الصالح والطالح، والخير والشر، إنما لديه رغبة يحس بها في نفسه تدفعه إلى طاعة من يوجهه ويرشده، فيعيش تحت سلطته وإمارته، فإن لم يجد هذه السلطة الموجهة الضابطة لتصرفاته والموجهة لها، فإنه ينشأ قلقاً حائراً ضعيف الإرادة والشخصية، لهذا فإن دور الأب هام لاستقامة شخصية الطفل، وتحقيق التوافق النفسي عنده.(1/257)
وفي مجال التعليم العملي للطفل فللأب في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القدوة في ذلك، فقد روي أنه رأى مرة غلاماً لا يحسن سلخ الشاة فقال له:( تنح حتى أريك، فأدخل يده بين الجلد واللحم فدحس بها حتى توارت إلى الإبط ثم مضى), وهكذا لا يمنعه عليه الصلاة والسلام انشغاله بأمور المسلمين الكبرى عن توجيه غلام صغير إلى سلخ شاة، فقد كان بالإمكان أن يقوم غيره من الصحابة بذلك، ولكن لتتم القدوة والأسوة به في هذا المجال قام عليه الصلاة والسلام بنفسه بتعليم اçغ مور الدين محيطاً بالحلال والحرام، وأساليب التربية، ومبادئ الأخلاق وقواعد الشريعة، فإن لم يكن عالماً بها وجب عليه تعلم ما لا يعذر بجهله من أمور الدين، وذلك ليعبد الله على علم ويقين، وأن يعلم أولاده أمور دينهم، وما أوجبه الله عليه من الأوامر والنواهي، والحلال والحرام، فى الإبط ثم مضى), وهكذا لا يمنعه عليه الصلاة والسلام انشغاله بأمور المسلمين الكبرى عن توجيه غلام صغير إلى سلخ شاة، فقد كان بالإمكان أن يقوم غيره من الصحابة بذلك، ولكن لتتم القدوة والأسوة به في هذا المجال قام عليه الصلاة والسلام بنفسه بتعليم الغلام. فما الذي يمنع الأب من الاجتماع بأولاده في أوقات متفرقة منتظمة، يعلمهم أمور دينهم فهي أهم من ذبح الشاة والغنم، فإن بعض علماء السلف كانوا يجمعون الصبيان الصغار، فيحدثونهم، ويعلمونهم أمور دينهم، ولا يترفعون عن ذلك.
والأب غير مطالب بأسلوب، أو منهج معين في تعليم أولاده(1/258)
والمجال في هذا متسع، فيمكن للأب أن ينتهج ويبتكر أساليب أخرى في هذا المجال. وتعليم الأطفال وتربيتهم لا يعتمد على حلقات الدروس فقط؛ بل يستغل الوالد كل وقت يراه مناسباً فيوجه فيه ولده إلى حفظ سورة من القرآن الكريم، أو آيات منه أو حديث، أو ذكر معين من الأذكار الواردة، فبإمكانه استغلال الوقت الذي يقضيه مع الولد حين يأخذه في السيارة إلى المدرسة ذهاباً وإياباً. وهي فترة لا بأس بها يمكن أن يستفاد منها. والمقصود استغلال جميع الأوقات المناسبة في توجيه الولد وتعليمه وتثقيفه، خاصة إذا كان الأب كثير المشاغل، قليل الوقت.
6ـ حاجة الطفل إلى المؤسسة التعليمية الصالحة
يظن بعض الآباء أن كل ما يتلقاه الأبناء في المدرسة من علوم وسلوكيات وغير ذلك هو خير لهم، وهذا التصور ليس بصحيح؛ إذ بينت بعض البحوث في هذا المجال "أن الطريقة التي تتبع في المدارس في البلاد الإسلامية لا تؤدي إلى تكوين باحثين … كما أنها أخفقت في تخريج أبناء يحملون رسالة الإسلام يعيشون في سبيلها، ويناضلون من أجلها"، فليس كل ما يقال في المدرسة حقاً، كما أن الأساتذة والمعلمين ليسوا جميعاً من أهل الصلاح والتقوى، ممن يعتمد عليهم في توجيه النشء. فالأستاذ الذي لا يصلي، لا يمكن أن يحث الأولاد على الصلاة، والتزام الدين، والأستاذ الذي يستهزئ بالدين وأهله، لا يمكن أن يوجه الطلاب إلى التزام منهج الله عز وجل في واقع الحياة.(1/259)
ويخطيء من يظن أن رسالة المدرسة تقتصر على الناحية الأكاديمية فحسب؛ بل إنها في الحقيقة تتعداها لتحوي الاهتمام بالأخلاق الإسلامية في أوسع معنى لها. فإذا كان هذا هو المفهوم الذي يجب أن تعتني به المدرسة، فإن الواقع يخالف هذا، "فمدارسنا تفتقر إلى التربية التي تقوي الجسم وتوجه طاقاته توجيهاً سليماً، وتكاد تنعدم فيها التربية التي تغذي الروح وتلجم نزوات العواطف، وليس فيها القدر الكافي من النشاط الاجتماعي الذي يعين التلاميذ على تنمية الصفات الخلقية والاجتماعية المرغوب فيها".
ومما سبق تتضح مسؤولية الأب المسلم في متابعة ما يتلقاه ولده في المدرسة، فيقوم ما يحتاج إلى تقويم من الأفكار، والتصورات الدخيلة المنحرفة التي تعيق التربية الفكرية الصحيحة. ويجب عليه أيضاً أن يكمل ما قد يحصل من نقص في عمليتي التربية والتعليم في منهج المدرسة، ولا يجوز له بحال أن يهمل ولده في هذا الجانب، أو يشعره أن كل ما يلقى إليه من معلومات في المدرسة هو صحيح يجب اعتقاده، فهذه خيانة للأمانة، وغش للولد، وتهرب من المسؤولية.
ومن واجبات الأب في هذا المجال، تخصيص أوقات متفاوتة أثناء السنة الدراسية لزيارة مدرسة الولد، ليتعرف على مديرها، وأساتذتها، ومن خلال لقاءاته المتكررة المستمرة يمكنه أن يعرف مستويات الأساتذة، ومدى التزامهم بالدين، واستقامتهم عليه، فإن تيقن من انحراف أحد الأساتذة، أو انتمائه إلى مذهب فكري منحرف أو متطرف، وجب عليه أن يبلغ عنه المسؤولين والقائمين على التعليم في البلاد، فإن عجز عن ذلك، نقل ولده إلى فصل آخر بالاتفاق مع مدير المدرسة، وإن تطلب الأمر نقله من المدرسة بالكلية، وجب وتعين نقله حماية له من الانحراف المتوقع.(1/260)
أما في المناهج التي يتتلمذ عليها الأولاد، فإن اطلاع الأب المستمر عليها لمعرفة مادتها العلمية، ومدى صلاحها للأولاد، يعد من واجباته التي تساعد على حماية الولد من الانحرافات الفكرية، فإذا وجد فيها ما ينافي مفهوماً من مفاهيم الدين، أو وجد فيها عرضاً سيئاً لقضية من قضايا الدين وتصوراته، فإن دوره في إنكار ذلك، أن يرفع للمسؤولين عن هذا الخطأ في المنهج ويطالب بتغييره أو تعديله، فإن عجز عن ذلك وجب عليه أن يفهم ولده خطأ تلك الفكرة في المنهج وانحرافها مؤيداً كلامه بالأدلة العلمية الشرعية، وبذلك يكون قد ساهم في حماية ولده من انحرافات المدرسة، وخفف من أسباب إعاقة التربية الفكرية الصحيحة للولد.
ومن القضايا المهمة التي لا بد أن تكون واضحة في ذهن الأب، قضية حسن اختيار المدرسة. إذ يجب أن يكون من بين الشروط التي يضعها لنفسه عند إلحاق الولد بالمدرسة أن يكون مدير المدرسة ومعظم الأساتذة من أهل الخير والصلاح، ولا يكتفي الأب بأن تكون المدرسة قريبة من المنزل، أو جديدة البناء، ومكيفة الفصول، أو أنها تضيف إلى منهجها تعليم اللغات الأجنبية. إن هذه المميزات لا بأس بها بعد التأكد من صلاح القائمين على المدرسة، فإن صلاحهم أهم بكثير من باقي المميزات المادية، وحماية الولد وسلامة فكره من الانحراف أغلى عند الأب والأمة من كل شيء؛ لهذا كان اختيار المدرسة مهماً للغاية.(1/261)
ولقد تفطن أعداء الإسلام إلى أهمية التربية والتعليم ودورهما في توجيه ورعاية النشء الجديد، فقد اهتموا بإنشاء رياض الأطفال، والمدارس، ودور الحضانة، في بلاد المسلمين، وذلك ليشرفوا بأنفسهم على تربية الأجيال من أبناء المسلمين على ما يريدونه من الانحراف الفكري والزيغ عن دين الإسلام. ففي الأردن مثلاً أنشأ المنصرون ألفاً ومائة وثلاثاً وثلاثين روضة للأطفال، ومائة وأربعاً وستين مدرسة تنصيرية. فإذا كان هذا اهتمام المنصرين ببلد صغير كالأردن، فكيف يكون اهتمامهم ببلد كبير كمصر، أو الباكستان، أو أندونيسيا … ؟.
إن واجبات الأب في هذه الناحية كبيرة، فيحتاج أن يتأكد من المدرسة قبل إلحاق ابنه بها، فإن كانت تنصيرية، أو منحرفة الإدارة، نبذها واختار غيرها، فإن عجز عن ذلك وكان قادراً على أن يلحقه بمدرسة خاصة، يدفع لها مصاريفه السنوية مع ضمان استقامة إدارتها، وخلو مناهجها من الانحراف، فإن هذا الإجراء حسن؛ بل هو الواجب، وله عند الله الأجر والمثوبة، لجهاده ومحافظته على أولاده ورعايته لهم، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
ومن المسائل الخطيرة المتعلقة باختيار المدرسة مسألة الاختلاط بين الذكور والإناث في المرحلة الابتدائية، فإن بعض المدارس تعتمد هذا الاختلاط في المرحلة الابتدائية فقط، وبعضها تعمل به في جميع المراحل، والواجب على الأب حفظ ولده من هذا الاختلاط في جميع المراحل، حتى المرحلة الابتدائية، فإن حدوث الإثارة الجنسية والميل إلى البنات واحتمال حدوث الانحراف كل ذلك ممكن خاصة إذا بلغ الولد العاشرة وبلغت البنت التاسعة.(1/262)
وما يكتبه بعض المهتمين بالتربية، مؤكدين أهمية وضرورة الاختلاط بين البنين والبنات في المراحل الابتدائية يعد خطأ فاحشاً لا يجوز العمل به. ويحذر الأب من مثل هذه الآراء المنحرفة ويعمل جاهداً على اختيار المدرسة التي تقوم على الفصل بين الذكور والإناث؛ ليحمي ولده من أسباب الانحراف الخلقي.
وقضية أخرى يتنبه إليها الأب وهي عدم الإلحاح على الولد في متابعة دراسته، بعد أن يتحصل على العلم الأساسي الذي لا يستغني عنه أحد، كتعلم القراءة والكتابة والحساب، وذلك لأن إجباره على إكمال الدراسة ربما كان عائقاً له عن تحقيق ميوله، ورغباته، في تعلم حرفة، أو صنعة ما. وليست المدرسة هي الطريق الوحيد للتحصيل العلمي، فإن الاطلاع الخارجي برغبة وشغف، مع الاتصال بالعلماء من وقت لآخر، يعد طريقاً جيداً للتحصيل العلمي، فلا بد من إعطاء الولد الفرصة للاختيار، مع تقديم النصائح والإرشادات الأبوية الخالصة، والمبنية على المعرفة الصحيحة بقدرات الولد وميوله وإمكاناته العقلية والنفسية.
وقضية أخيرة حول المدرسة تتعلق بالسن المناسبة التي يفضل إلحاق الولد فيها بالمدرسة. حيث يميل كثير من الآباء نحو إلحاق الولد بالمدرسة في سن مبكرة رغبة في الفائدة، ومسابقة مع الزمن، والصحيح ما درج عليه الناس في القديم والحديث، وما اهتدت إليه الخبرات الإنسانية من تعيين سن السادسة لبداية التعليم المنظم المباشر، فيفضل للأب التقيد بذلك حفاظاً على نفسية الولد، ومراعاة لقدراته الطبيعية التي وهبه الله عز وجل.
نسخة للطباعة إرسال لصديق
7ـ ترغيب الطفل في التعلم(1/263)
لقد حث الإسلام على العلم والتعلم، ورتَّب على ذلك الأجر العظيم، ورفع منزلة العلماء فقال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، وقال: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]، وقال أيضاً: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]. فهذه الآيات البينات توضح - بجلاء- فضل العلم والعلماء، وأن العلم هو مقياس الأفضلية؛ إذ بالعلم بالله وبدينه العظيم تحصل التقوى في القلوب، فتصلح بالتالي الأعمال.
وقد جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يحث أيضاً على طلب العلم، كقوله:( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين), كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام قوله:(… من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً، سهل الله له به طريقاً إلى الجنة). فهذه الأحاديث والآيات السابقة، وغيرها، واضحة في الحث على طلب العلم والتسابق إليه ابتغاء مرضاة الله.
ومن هنا كان الأب هو المكلف الأول بتعليم ولده، والمحافظة عليه في ذلك، وعدم الاعتماد على المدرسة فقط، فإن المدارس في البلاد الإسلامية في هذا العصر قد أخفقت إخفاقاً كبيراً في تكوين باحثين جادين، أو تخريج أبناء يحملون راية الإسلام، ويجاهدون ويكافحون من أجلها.
لهذا فإن دور الأب ومسؤوليته ليست بالسهلة اليسيرة؛ بل عليه تبعات ضخمة ومهام شاقة في سبيل تزويد ولده بالمعرفة الصحيحة.
ويحذر ابن القيم -رحمه الله- الآباء من إهمال تعليم الأولاد ورعايتهم، فيقول: "من أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى، فقد أساء إليه غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء، وإهمالهم لهم وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم".(1/264)
والولد في مرحلة الطفولة المتأخرة يميل إلى الواقعية، ونبذ الخيال، وتقل مشاكله ومشاكساته، ويميل إلى حب الاطلاع، والكشف عن معالم البيئة من حوله. كما أنه في الثانية عشرة من عمره يرغب ويشغف بحب المشاهير من الرجال، ويميل إلى التعرف على المخترعات والأشياء الميكانيكية. فإذا وجد الأب في ولده هذا الميل، وهذه الرغبة، كان لزاماً عليه أن يهيئ له جواً مناسباً ليمارس الولد فيه تلك الميول الطيبة. ففي مجال تحقيق رغبته في التعرف على مشاهير الرجال، وأبطال التاريخ، فإن في سجلات الأمة المسلمة من النماذج الفاضلة ما يعجز التاريخ الحديث على أن يلد مثلهم. فيمكن للأب أن يمارس، ويشارك ولده هذه الرغبة، ويساعده على تحقيقها، من خلال سرد بعض هذه النماذج التاريخية من رجال الأمة الإسلامية، في أوقات مختلفة من أيام الأسبوع، كأن يخصص يوماً من أيام الأسبوع لتراجم الرجال. فيعتمد في تحضير الموضوعات على كتب التراجم المختلفة ككتاب "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء" لأبي نعيم، أو كتاب "صفة الصفوة" لابن الجوزي الذي هو اختصار لكتاب أبي نعيم، وكتاب "الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر، وكتاب "سير أعلام النبلاء" للذهبي وغيرها من كتب التراجم المعتمدة في هذا الجانب. فإن أحس الأب من ولده رغبة في أن يطلع هو بنفسه في كتب التراجم، فإنه يفضل لصغر سن الولد أن يوجهه لكتب التراجم الحديثة الميسرة مثل "سلسلة حياة الصحابة" لعبد الرحمن الباشا، أو غيرها من الكتب الحديثة. أما إن وجد الأب في ولده همة ونشاطاً وقدرة جيدة على القراءة في كتب السابقين، فإنها لا شك أفضل وأغزر مادة، وأعظم فائدة فلا بأس أن يوجهه إلى قراءة أجزاء معينة منها، مع الإشراف والتوجيه والبيان عند الحاجة.(1/265)
ولا يهمل الأب في تكوين مكتبة صغيرة في بيته، فيختار غرفة من المنزل لوضع المكتبة، أو يجعلها في غرفة المعيشة؛ لتكون قريبة من الجميع، ولتعم بها الفائدة، مراعياً تنوع المصادر والمراجع لتناسب أعمار الأولاد ومستوياتهم.
كما يسعى الأب في إنشاء مكتبة في مسجد الحي -إن لم تكن فيه مكتبة- وذلك عن طريق مطالبة الجهات المعنية بذلك، أو جمع التبرعات من رواد المسجد وجيرانه، وتكوين تلك المكتبة لتكون مكاناً جيداً لالتقاء الأولاد، واطلاعهم على الكتب، وتحقيق رغبتهم وإشباع ميولهم العلمية.
كما يفضل أن يُلحق الأب ابنه بأحد الأساتذة أو المشايخ الذين يقومون بالتدريس في المساجد، أو في بعض دور العلم، أو البيوت؛ ليكمل بهذا النوع من التعلم النقص الموجود في المدرسة الحديثة، ويحاول الأب أن يتخير باجتهاده من بين العلماء أفضلهم، وأغزرهم علماً، وأكملهم خلقاً وديناً، إلى جانب التأكد من أن الدروس التي يلقيها ذلك العالم أو الشيخ تناسب سن ولده، وقدراته العلمية، وخلفيته الثقافية.
والولد لا شك يمل من كثرة الدرس، فلا ينبغي الإكثار عليه، والإلحاح، دون إعطائه فرصة للعبه واستراحته، فقد أشار الغزالي -رحمه الله- إلى هذه القضية، ونبه عليها فقال: "وينبغي أن يؤذن له بعد الانصراف من الكتاب أن يلعب لعباً جميلاً يستريح إليه من تعب المكتب بحيث لا يتعب في اللعب، فإن منع الصبي من اللعب وإرهاقه إلى التعلم دائماً يميت قلبه ويبطل ذكاءه وينغص عليه العيش، حتى يطلب الحيلة في الخلاص منه رأساً".(1/266)
ويتخذ الأب الوسائل المناسبة لترغيب الولد في التعلم وجذبه إليه، ومن ذلك ما يراه الغزالي من وسائل ترغيب الولد في التعلم عن طريق لعب الكرة، والصولجان، وما أشبه ذلك. ولا بأس بالمكافآت المالية لترغيب الولد في العلم. فقد كان السلف من أمثال إبراهيم بن أدهم يرغب الصبي في التعلم عن طريق المكافآت المالية. والمقصود هو أن يتخذ الأب الوسائل المشروعة المرغبة للولد في العلم، فيقبل عليه عن طواعية ورغبة.
أما ما يخص إشباع رغبات الولد وميوله نحو التعرف على المخترعات، والميل إلى الألعاب الميكانيكية، فإن الأب يمكن أن ينمي قدرة الولد العلمية في هذا الجانب من خلال تزويده بالموسوعات العلمية التي تهتم بنشر أخبار المخترعات المختلفة، كما يمكن الاشتراك في بعض المجلات العلمية المهتمة بهذا الجانب، على أن يلاحظ الأب أهمية خلو هذه الكتب والمجلات من الإيحاء الإلحادي الذي يصاحب في العادة المنهج العلمي عند الغرب، فغالب المتوافر من هذه المجلات العلمية هو ترجمة حرفية عن الإنجليزية أو غيرها.(1/267)
وللجانب العلمي أهمية عند الطفل، فإنه لا يكتفي بالاطلاع على المنجزات والمخترعات العلمية فحسب؛ بل يرغب في التعامل مع بعض هذه المنجزات بنفسه، فيميل إلى معرفة كنه بعض ألعابه الآلية، والتعرف على طريقة عمل التوصيلات الكهربائية وأسلاك الهاتف وغيرها. ومن السهل على الأب أن يحقق رغبة ولده في هذا الجانب عن طريق تأمين بعض الألعاب الكهربائية والميكانيكية، التي تهدف إلى تعليم الصغار نظام التوصيلات الكهربائية، أو التدريب على جانب من التراكيب الكيميائية، أو تعليم بعض الأنظمة الميكانيكية. كما يمكن للأب تأمين جهاز مكبر "ميكرسكوب" فيرى الولد من خلال عدساته عجائب صنع الله في الحشرات، أو النباتات، أو غير ذلك من مخلوقات الله، فيكون الأب بذلك قد استغل وقت فراغ الولد بالنافع المفيد، إلى جانب تدريبه على استعمال هذه الأجهزة المختلفة، بالإضافة إلى المعلومات الجديدة التي حصل عليها.
ومن خلال الممارسة الطويلة لهذه القضايا من الاطلاع في الكتب، وعمل بعض التطبيقات العملية التجريبية: يتضح للأب ميول ولده واتجاهاته. فيمكنه بعد فترة أن يوجهه نحو أفضل المهن والمهارات التي تناسب ميوله، فلا يتخبط الولد في اختيار تخصصه ومجاله في المستقبل.
8ـ مراعاة الفروق الفردية بين الأطفال في التربية العقلية(1/268)
يهتم الأب ويراعي قضية الفروق الفردية بين الأولاد وذلك ليتمكن من تنمية ملكات الولد العقلية من ذكاء وقدرة على الحفظ وغيرها … تنمية صحيحة معتدلة بعيداً عن المغالاة والإجحاف. فقد خلق الله الناس بقدرات مختلفة متفاوتة، منهم سريع الفهم، حاد الذكاء، ومنهم الغبي قليل الإدراك، وأكثرهم المتوسطون المعتدلون. كما أن بين المعتدلين من هو أسرع فهماً وأذكى من غيره، فالفروق الفردية بين الأطفال موجودة، ولا يجوز إهمالها بحال، "فإن إغفال ما بين الأفراد … كبارهم وصغارهم من فوارق جسمية وعقلية ومزاجية واجتماعية … له أسوأ الأثر بالفرد نفسه، وبالمجتمع الذي يعيش فيه".
لهذا كان اهتمام الأب بهذه الناحية - واضعاً هذا المبدأ نصب عينيه عند تعامله وتعليمه للأولاد- يعتبر أمراً غاية في الأهمية، فلا تصدر من الأب عبارات السخرية بولده والاستهزاء به لمجرد إخفاقه في أمر من الأمور كرسوبه في الاختبار، ونجاح إخوته؛ بل إن السلوك السوي الصحيح من الأب مع هذا الولد الذي أخفق في اختباره، أن يخصه بمزيد من الاهتمام والرعاية؛ ليرفع من مستواه ويلحقه بأقرانه وإخوته حسب قدراته وإمكاناته المتاحة. أما أسلوب التقريع والإهانة فلم يكن يوماً حلاً صحيحاً، وحافزاً للاجتهاد وتحسين المستوى.(1/269)
وليس من المنطق تكليف الولد الصغير فهم الأمور الكبيرة، خاصة ما تحتاج إلى إدراك للسبب وعلاقته بالنتيجة، فإن هذه القدرات تحتاج إلى طاقة عقلية كبيرة، ربما عجز عنها بعض الراشدين، ولهذا يتقبل الأطفال الصغار الخرافات، وكثيراً من التفسيرات والمعتقدات دون نقاش أو تمحيص؛ لعدم قدرتهم على الاستدلال والتركيز لفهم الأدلة واختبارها. ولهذا ينصح بعدم تعليم الأطفال الصغار في المدارس دفعة واحدة في سن مبكرة جداً. ولعل ذلك لظهور هذه الفروق العقلية بين الأطفال ظهوراً واضحاً في الطفولة المبكرة، وقد نصح بذلك أيضاً التابعي الجليل سعيد بن جبير -رحمه الله-، فرأى أن يترك الطفل الصغير في أول الأمر مرفهاً ثم يؤخذ بالجد على التدريج. فمبدأ الأخذ بالفروق بين الأولاد مبدأ صحيح، يجب الأخذ به، ومعاملة الأولاد على ضوئه، فلا يطالب الأب جميع الأولاد بنفس الإنجاز، بل لكل قدرته وطاقته، كذلك لا يحمل الولد الأصغر ما يحمله للكبير، بل يراعي فرق السن والقدرات المختلفة.
9ـ تحذير الطفل من اتباع الهوى
يعتبر الإسلام اتباع الهوى، واتخاذه معياراً للمحبوب والمكروه: أمراً مذموماً، يقول الله سبحانه وتعالى واصفاً حال أصحاب الأهواء: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:43-44]، في هاتين الآيتين يصور القرآن الكريم نموذجاً من البشر انفلتت أنفسهم من جميع المعايير الثابتة، والموازين، فأصبحوا يحكمون شهواتهم، ولا يعرفون حجة ولا برهاناً، سوى ما تهواه أنفسهم، وبهذا التجرد من الخصائص التي منحها الله للإنسان من الإدراك والقدرة على التمييز انحطت شخصياتهم لتكون أقل من درجة البهيمة العجماء.(1/270)
وقد ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذم اتباع الهوى قوله:(أما المهلكات فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه), وقال أيضاً: (ما تحت ظل السماء من إله يعبد أعظم عند الله من هوى متبع).
ولما كان الهوى بهذه الدرجة من الذم والقبح، فإن مسؤولية الأب في تكوين الإرادة الصادقة في نفس ولده تعد أفضل حل لصد الهوى عن التحكم في عقل الولد وعواطفه، فإن "تربية الإرادة، تنمي في الإنسان حرية الاختيار السليم، حيث يختار الخير وينفذه، وحيث تؤثر الإرادة على الفكر والعاطفة"، فلا يكون الهوى هو المسير له، بل إرادته القوية المستمدة من التفكير السليم، والاختيار الصحيح هو المسير والدافع الحقيقي. وهذا لا يتحقق إلا بالتربية السليمة، والتوجيه الصحيح؛ إذ يقوم الأب بتقوية إرادة الولد متخذاً الوسائل المناسبة لذلك، فيقوي شخصيته باحترام رأيه، واستشارته في بعض الأحيان، مع تكليفه ببعض المهام، وإثابته على الإنجاز، وتشجيعه من وقت لآخر على حسن تصرفه في المواقف المختلفة. ويتجنب الأب الإهانة، والتحقير، والسخرية، فإنها ذل للولد، وإلغاء لكيانه، وتحطيم لمعنوياته. بل يتخذ لعقابه عند خطئه الوسائل المناسبة من إقناعه بخطئه، ولومه، والتدرج في ذلك متبعاً منهج التربية الإسلامية الصحيحة في إيقاع العقوبات.(1/271)
ومن أعظم الوسائل المساعدة على قهر الهوى: إشعار الولد بأن اتباع الهوى ذل للنفس، واحتقار لها، إذ إنها تشعر بالذل، والهزيمة أمام الهوى، أما إن انتصرت وخالفت هواها شعرت بالعز والانتصار. فالولد إن تغلب على نفسه مرة أو مرتين، فإنه يشعر بعلو همته وقوة شخصيته، ويكون ذلك الانتصار حافزاً لمزيد من الجد والمجاهدة في هذا السبيل. وفي كل هذا لا يتغافل الأب عن ولده؛ بل يساعده، ويكافئه مشجعاً له على مخالفته لهواه وانتصاره على شهواته. ولعل ضرب المثل للولد بالبهيمة العجماء التي لا تعرف إلا شهوتها من مأكل ومشرب: يعد خير مثال لتنفير الولد من الاسترسال في اتباع الهوى والشهوة.
ولا ينبغي ذم كل هوى في النفس والطبع، فإن "الهوى ميل الطبع إلى ما يلائمه، وهذا الميل خلق في الإنسان لضرورة بقائه، فإنه لولا ميله إلى المطعم والمشرب والمنكح، ما أكل ولا شرب ولا نكح، فالهوى مستحث لها لما يريده … فلا ينبغي ذم الهوى مطلقاً، ولا مدحه مطلقاً"، فإن مخالفة كل أنواع الهوى والميول والقيام بالمعقول فقط يخص الملائكة، كما أن اتباع الهوى والشهوات دون عقل أو تفكير من أفعال البهائم، أما الإنسان فهو وسط بين الاثنين فهو عقل وشهوة.
إن فهم هذا المبدأ على النحو الذي ذكر يجعل الأب معتدلاً ومتوسطاً في أسلوب تعامله مع الأولاد، فلا يترك لهم العنان فيتبعون شهواتهم وأهواءهم بغير هدى، كما أنه لا يحجم نشاطاتهم ويكبت ميولهم ورغباتهم المباحة. فإن إشباع النفس بالحلال المباح، يكفها عن إشباعها بالحرام المحظور.
10ـ تنفير الطفل من التقليد الأعمى(1/272)
التقليد منه ما هو حق وواجب، ومنه ما هو مذموم مكروه، فأما التقليد الواجب فهو تقليد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بحسن اتباعه والاقتداء به، وكذلك تقليد أهل الإجماع من علماء الأمة الأفاضل، فهذا النوع من التقليد ليس مذموماً. أما التقليد المذموم الذي ذم الله أصحابه وشبههم بالبهائم، فذلك التقليد الذي يجعل صاحبه بلا كيان ولا روية، فيقبل قول غيره من العامة بلا دليل ولا برهان. قال الله تعالى في أرباب هذا النوع: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة:170-171]، فهؤلاء المقلدون لا يعلمون شيئاً، ولا يفقهون سوى أنهم يسيرون على طريق آبائهم، دون أن يعرفوا هل هو طريق حق أو باطل، فمقياس الحق عندهم ما كان عليه الآباء، والباطل ما لم يكونوا عليه، فهم يتبعون الناعق دون علم أو روية، فألغوا بذلك شخصياتهم، وجمدوا عقولهم، ولم يستعملوها فيما أمر الله به من النظر والتدبر والتفكر، ورضوا بأن يصافوا البهائم العجماء فيهينوا أنفسهم، ويذلوها، ومن المعلوم "أن احترام النفس هو حجر الزاوية في التربية الصحيحة". ولما كان احترام النفس منتفياً مع التقليد الأعمى، كان حرص الأب على تنفير الولد من هذا النوع من التقليد واستهجانه، وإظهار قبحه، يعد أمراً هاماً في التربية، إذ يرفع من معنويات الولد، ويعطي لنفسه مكانتها، ولرأيه وزنه، ولشخصيته احترامها وتقديرها.(1/273)
ولا يعني هذا أن يقف الولد مع أبيه عند كل قضية، يسأله عن دليله فيها ليقوم بتنفيذها، فإن هذا من قلة الحياء؛ إذ إنه ليس من الصواب أن يطلب الدليل لكل قضية، ولكل أمر من أمور الدنيا، بل إنما يطلب الدليل في الحلال والحرام، والمعتقدات، وما هو مفتقر إلى الدليل الشرعي، أما أمور الدنيا من المباحات فلا دليل عليها سوى أن الولد مأمور بطاعة والده، وطلب رضاه، وطاعته في المباحات من الواجبات. ولكن لا بأس أن يدعم الأب أمره للولد بحجة منطقية يمكنه إدراكها وفهمها. فإذا طلب الأب من ولده الهدوء ريثما تنتهي المكالمة الهاتفية، بين له بإيجاز أن رفعه لصوته مزعج وأنه لم يتمكن من سماع الطرف الآخر على الهاتف، والأمر مهم، ولا بد من الهدوء ريثما تنتهي المكالمة، فإن لم يفعل فإن المكالمة سوف تنتهي بدون فائدة، والمتوقع في هذه الحالة إقلاع الولد عن الإزعاج، لأنه اقتنع وفهم، بل ربما تعود الولد هذا الأدب بعد ذلك، فإذا سمع جرس الهاتف التزم الهدوء والسكينة.
أما ما يتعلق بالحرام والحلال مما يتطلب دليلاً شرعياً، فالولد في بادئ الأمر لا يفرق بين الأوامر، فلا يعلم ما يفتقر منها إلى دليل، وما لا يحتاج إلى دليل، والأب يبدأ مع ولده في هذا الجانب ويعلمه طلب الدليل والسؤال عن السبب إذا اقترن الأمر بكلمة حرام، أو حلال، أو واجب، أو لا يجوز، أو نحو ذلك من العبارات. فإذا كان الجواب بأن الله أمر بكذا، أو أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال كذا، أو أن العلماء أفتوا بهذا، وجب على الولد أن يتأدب بالسمع والطاعة، ويعوده الأب الخضوع لهذه الأحكام عند صدورها عن الله عز وجل، ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وعلماء الأمة.(1/274)
وبهذا الأسلوب تنمو شخصية الولد، ويشعر بكيانه كفرد في المجتمع له مكانته ومنزلته، كما أنه ينفر من التقليد الأعمى وأسلوب الإمعات. ويضرب الأب لولده مثل المقلد الأعمى كمثل البعير المقطور رأسه بذنب بعير آخر، فهو لا يعلم، ولا يفقه شيئاً، بل يقوم بحركات مفروضة عليه، وليس له من الأمر شئ، وكذلك المقلد الأعمى الذي لا يميز بين من يقلد ومن لا يجوز تقليده إلا بالدليل، فتراه لا يستفيد من عقله وقدراته الذهنية في تقرير مصيره، واتخاذ القرار الصحيح في المواقف المختلفة.
11ـ تنمية ملكة الذكاء عند الطفل
الذكاء: هو سرعة الفهم عند سماع القول على الفور، فالذكي هو الذي وُهب القدرة على الفهم السريع.
ولقد أحال كثير من التربويين الذكاء إلى الوراثة، وأنها عامل مهم في تحديد ذكاء الذرية، فالأسر المتفوقة يولد لها أطفال متفوقون، والعكس صحيح، فكما أن الولد يرث من والديه سمات جسمية، فإنه يرث أيضاً منهما اتجاهات عقلية.
ويتميز ذكاء الأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة بنمو سريع، ففي السنتين الأولى والثانية ينمو الذكاء ويبنى في أكبر صورة ممكنة, لهذا كان الاهتمام بالولد في هذه السنوات الأولى من عمره يعد أمراً هاماً لتنمية ذكائه وبنائه، فإن للبيئة المحيطة بالولد تأثيرها على ذكائه إما بالإيجاب، وإما بالسلب.
ويمكن للأب أن يستدل على ذكاء ولده وقوة شخصيته بطلبه لمعالي الأمور، فإذا كان مع رفاقه مثلاً لا يقول: "مع من أنا"، بل يقول: "من معي". فهو متميز بشخصيته في غير استعلاء، معتز بنفسه في غير استكبار، لا يرضى بأن يكون إمعة لا رأي له ولا كيان،. قال عليه الصلاة والسلام: (لا يكن أحدكم إمعة، يقول: أنا مع الناس، إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا أسأت). يقول ابن الأثير -رحمه الله-: "الإمعة الذي لا رأي له، فهو يتابع كل أحد على رأيه … وقيل هو الذي يقول لكل أحد أنا معك".(1/275)
وجاء في الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (عُرامة الصبي في صغره زيادة في عقله في كبره), والعرام بضم العين وفتح الراء تعني القوة والشراسة والشدة. فإذا وجد على الولد شئ من زيادة في الحركة، وزهد في السكون، فإن هذا لا يضر؛ بل هو دليل على فطنته وذكائه. وكثير من الآباء يعتقدون أن كثرة الحركة عند الولد، والشدة في طبعه، دليل على فساده، وهذا غير صحيح، "فقد أكد البحث الحديث الذي قام به علماء النفس أن هناك رابطة لا تنفصم بين الحركة والعقل". فإذا كان للحركة هذه الأهمية، تعين على الأب الاهتمام بالنشاط البدني للولد فلا يعيق نشاطه هذا، بل يوجهه إلى أفضل السبل لاستغلال طاقاته الحيوية والاستفادة منها، إلى جانب اتخاذه الوسائل الأخرى المساعدة على تنمية ذكاء الولد ومن أهمها التشجيع. وهذا يكون عادة مع الولد الكبير، إذ يحاول الأب أن لا يكبت جماحه، وطاقاته الفكرية، بل يحمسه إلى مزيد من التفكير والتدبير في الأمور، ويشركه في حل القضايا والمشكلات المختلفة البسيطة، ولا بأس بإشراكه في حل بعض المشاكل المنزلية التي لا يتأثر ولا ينزعج بمعرفتها. وقد كان ابن شهاب -رحمه الله- يشجع الأولاد الصغار ويقول لهم: "لا تحتقروا أنفسكم لحداثة أسنانكم، فإن عمر بن الخطاب كان إذا نزل به الأمر المعضل، دعا الفتيان فاستشارهم يتبع حدة عقولهم". فإذا كان عمر بن الخطاب يفعل هذا رغم وجود كبار الصحابة عنده، فيهتم بالأحداث من الفتيان، وعلى رأسهم ابن عباس - رضي الله عنهما- الذي كان يدخله في مجلس الشورى مع أشياخ بدر رغم صغر سنه، فإن هذا الأسلوب التربوي من عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فيه إيحاء للاهتمام بالأولاد، وتشجيعهم على الإقدام، وعدم استصغارهم لقلة خبرتهم، وحداثة أسنانهم. وللأب المسلم في أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - القدوة في ذلك، فلا يقلل من شأن أولاده، ولا يستصغرهم، فإن بعض الفقهاء, أجاز(1/276)
وصية الصبي قبل الاحتلام في سن التاسعة، رغم أهمية الوصية في الإسلام، وما يترتب عليها من أحكام وقضايا شرعية هامة.
والأب يتخذ مع ولده الأساليب الجيدة لتنمية ذكائه، ومن أهمها: تكليفه بمهام ينمي من خلالها ذكاءه، مثل أمره بشراء بعض مستلزمات البيت البسيطة، أو تسخين السيارة -إن كان كبيراً-، أو الاهتمام بأخيه الصغير، أو التعاون في دهان حائط الحديقة، أو تنظيم المكتبة، أو غير ذلك من المهمات السهلة، ويتدرج معه من الأسهل إلى الأصعب؛ ليتعود وينمو ذكاؤه.
ومن وسائل تنمية ذكاء الولد: إعطاؤه الفرصة للتعبير عن نفسه من خلال الكلام، والإجابة عن أسئلته -حتى وإن كانت ساذجة-، مع تعليمه كيف يسأل، وكيف يختار السؤال. وهذا يمكن تحقيقه من خلال إعطاء الولد الفرصة لمخالطة الناس من الأقارب وأصدقاء العائلة. فلا بأس أن يكلفه استقبال الضيوف، وإدخالهم المنزل، والتحدث معهم ريثما يتجهز الأب للخروج لهم. ويمكن أيضاً توجيهه إلى الكتابة، فيكلف أن يكتب شيئاً من مخيلته كقصة صغيرة، أو نحو ذلك. ولا بأس بالتسجيل الصوتي لما يريد أن يقوله من خطب، أو كلمات، أو قراءة من كتاب.
كما أن تعليم الولد كيف يسأل، ومتى يسأل أمر مهم، ومساعد على تنمية الذكاء عنده. فيعلمه أن يسأل في الوقت الذي لا يكون الأب فيه منشغلاً بالعمل، أو منهمكاً في الحديث. وإذا سأل سؤالاً غريباً علمه الأسلوب الصحيح في اختيار السؤال؛ فإذا سأل عن ذات الله عز وجل: أمره أن يسأل عن آياته وآلائه، وإذا سأل عن السيارة لماذا لا تطير؟، أمر بأن يسأل عن الفكرة التي تقوم عليها حركة السيارة، وهكذا حتى يتعود الولد كيف يختار سؤاله.(1/277)
ولتعويد الولد التفكير قبل إلقاء السؤال: يلتزم الأب قبل الإجابة عن أسئلة الولد أن يسأله: "هل فكرت قبل أن تسأل"؟ فإن فكر أجابه، وإن لم يفكر أمره بذلك وأعطاه بعض الوقت، ثم يجيبه وقد اختار أفضل عبارة، وأنسب سؤال، فيتعود الولد بهذا الأسلوب التفكير، والتدبر فينمو بذلك ذكاؤه، وتزداد ثقته بنفسه.
ويهتم الأب بإيراد القصص المشوقة على الولد، التي تحمل بعض المعاني الرفيعة، والمعلومات الجديدة، فإن لها دوراً في تنمية ذكائه، وزيادة معلوماته، فإذا كلفه قراءة قصة ما سأله بعد ذلك عنها، كأن يسأله عن أبطال القصة، وعن الفكرة التي دارت حولها أحداث القصة، وما هي العظات المستفادة منها؟ فيعرف الولد أن القراءة للفهم والاستفادة، لا لمجرد القراءة فقط.
ويحذر الأب من أسباب إعاقة قدرات الولد العقلية وذكائه، فيجنبه الخوف الشديد الذي يؤثر على تفكيره، وحسن تصرفه في المواقف المختلفة؛ فإن التوترات النفسية الحادة تعيق التفكير السليم، وتضعف الذكاء. ويجنب الولد أيضاً الإفراط في الأكل الذي يؤدي إلى السمنة المفرطة المسببة للخمول والكسل، مما يؤدي إلى إضعاف الذكاء، إلى جانب مضارها الجسمية والنفسية الأخرى.
نسخة للطباعة إرسال لصديق
12ـ الإفادة من قدرة الطفل على الحفظ
يمتاز الولد في مرحلة الطفولة بقدرة فائقة على الحفظ والتذكر لصفاء ذهنه وسرعة نمو ذكائه، فالتعليم في وقت الطفولة يكون أسرع، وأكثر رسوخاً من أي وقت آخر من عمر الطفل، يقول ابن خلدون -رحمه الله-: "التعليم في الصغر أشد رسوخاً، وهو أصل لما بعده". فاستغلال هذه الملكة في تعليم الولد أصول الدين، وأساساته يعد غاية وهدفاً هاماً في مجال التربية الفكرية للولد.(1/278)
وأهم شيء يتعلمه الولد في هذه الفترة هو حفظ القرآن الكريم، أو بعضه، فإن فضله عظيم، ولا يقتصر على المتعلم فحسب؛ بل إن الأب الساعي في تعليم ولده القرآن له من الأجر العظيم عند الله تعالى ما وصفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال: (من قرأ القرآن وتعلمه وعمل به أُلبس يوم القيامة تاجاً من نور ضوؤه مثل ضوء الشمس، ويكسى والديه حُلتان لا يقوم بهما الدنيا، فيقولان بما كُسينا هذا؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن).
فهذا الحديث وأشباهه من أعظم الأحاديث تشجيعاً للأب على المسارعة في إشغال الولد بحفظ كتاب الله عز وجل، وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام التوجيه المباشر في ذلك فقال:( أدبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم، وحب أهل بيته، وقراءة القرآن، فإن حملة القرآن في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله مع أنبيائه وأصفيائه), وهذا فضل عظيم لا تقوم له الدنيا ثمناً. والأب المسلم يسارع في مرضاة الله عز وجل وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بامتثال أمره في المجاهدة لتحميل الولد كتاب الله في صدره.
ويبدأ مع الولد في الحفظ عن طريق إشراكه مع جمعيات تحفيظ القرآن المنتشرة في المساجد، فيسجله عند أحد الأساتذة الجيدين حفظاً، والمعروفين بالصلاح والاستقامة، فإن استقامة الأستاذ من أعظم أسباب صلاح التلاميذ واستقامتهم. وإذا لم يكن هناك جمعيات لتحفيظ القرآن اتفق الأب مع بعض جيرانه وإمام المسجد المجاور لهم على تكوين جمعية صغيرة لتحفيظ القرآن الكريم، يشرف عليها إمام المسجد أو أحد الآباء المتمكنين والمتقنين للقرآن. فإن لم يحصل ذلك استأجروا من يرونه من الأساتذة لهذه المهمة.(1/279)
وزمن الحفظ يبدأ من سن الخمس سنوات وحتى الخامسة عشرة قبل البلوغ، فإذا بلغ الصبي تشتت همته؛ لهذا كان الاهتمام بحفظ القرآن قبل البلوغ أدعى لثباته ورسوخه في قلب الولد، ويرى بعض السلف - رحمهم الله- أن تعلم القرآن يمكن أن يبدأ دون سن الثالثة من العمر. والصحيح أن القضية تعود إلى الأب ففي أي وقت وجد من ولده إقبالاً، ونجابة، وقدرة على الحفظ، والتعلم، كان ذلك السن هو أنسب الأوقات لبدء التعلم والحفظ.
وفي أول الأمر ينبه الأب معلم ولده أن لا يكثر عليه في الحفظ، بل يلين معه، ويبدأ بالسور السهلة القصيرة، ويشجعه على حفظها ليكون ذلك مدعاة لاستمراره، وحثاً له على الحفظ، ولا يغفل الأب عن مكافأته والثناء عليه من وقت لآخر، فإن لهذا الثناء والمكافآت التشجيعية دوراً هاماً في الرفع من معنويات الولد وإعطائه الثقة في نفسه.
ويحاول الأب تجنيب الولد أنواع الانفعالات والتوترات العصبية التي تعيق التعلم، فإن "الانفعالات الشديدة تؤثر تأثيراً بالغ الضرر على مختلف الوظائف والعمليات العقلية للفرد كالإدراك والتذكر والتفكير". ويرى الزرنوجي -رحمه الله- أن أسباب النسيان ترجع إلى: "المعاصي، وكثرة الذنوب والهموم، والأحزان في أمور الدنيا، وكثرة الأشغال والعلائق".
فكما أن الأب يجنب الولد الانفعالات النفسية المختلفة، كذلك يجنبه المعاصي بأنواعها، كاللهو المحرم، وفاحش القول، وإهمال الصلاة -خاصة بعد العاشرة- وغير ذلك من أسباب غضب الله عز وجل، فإن "المعاصي تُفسد العقل، فإن للعقل نوراً والمعصية تطفئ نور العقل ولا بد، وإذا طفئ ضعف ونقص"، فتقوى الله وخشيته من أعظم الأسباب المساعدة على الحفظ.(1/280)
ويضاف إلى حفظ القرآن الكريم، حفظ بعض أحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من كتب الصحاح، كصحيح البخاري، وصحيح مسلم، وغيرهما من كتب السنن، ويشجع الولد على ذلك بالهدايا، والنقود والثناء الحسن. ويختار الأب من هذه الأحاديث أقصرها عبارة، وأسهلها معنى، وأنفعها لمرحلة الطفولة، كأحاديث حب الله عز وجل، وحب رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأحاديث الآداب والأخلاق.
ويهتم الأب بتزويد ولده ببعض الأبيات الشعرية والقصائد القصيرة المختارة من الشعر العربي الأصيل، المعتمد على أصول اللغة ومعانيها، مركزاً على الأبيات المتضمنة معاني وأصول الآداب الإسلامية، وبث روح الحماس في النفس نحو الدين والولاء لله ورسوله والمؤمنين، متجنباً شعر "الحداثة" المبتدع الهدام. فيختار من ديوان الشافعي -رحمه الله-، أو شعر مصطفى صادق الرافعي، أو يوسف القرضاوي، أو بعض قصائد أحمد شوقي، أو غيرهم.
ولا بأس بحفظ بعض الأناشيد الإسلامية الهادفة المروحة عن النفس مثل: "طلع البدر علينا" أو نحو ذلك، ويمكن للأب الاستفادة من كتاب "الفريد في انتقاء الأناشيد" الذي أصدرته جمعية الإصلاح بالكويت، وكتاب "أناشيد فتية الحق"، وغيرهما من الكتب المؤلفة في هذا المجال.
ويمكن أن يضاف إلى ذلك حفظ الأمثال الهادفة، ذات المعاني الصحيحة فإن لها فوائد كثيرة، ولهذا فقد اشتمل القرآن الكريم والسنة المطهرة على أمثال كثيرة تقرب المعاني وتعمق الفهم. وقد ورد في القرآن نحو ثلاثة وأربعين مثلاً.
ومن الأمثال قول القائل: "ما تزرع تحصد"، "احذر شر من أحسنت إليه"، "من جهل شيئاً عاداه". ويشرح الأب معنى المثل للولد ليعرف كيف يستعمله ويستشهد به في المواقف المختلفة.(1/281)
ولا بأس بحفظ الولد لبعض عبارات السلف الصالح المتضمنة التوجيه نحو أدب معين، أو الوعظ، أو نحو ذلك مثل مواعظ ابن مسعود - رضي الله عنه - حيث يقول: "من أعطى خيراً فالله أعطاه، ومن وقي شراً فالله وقاه"، وقوله: "من تطاول تعظماً حطه الله، ومن تواضع تخشعاً رفعه الله"، وقوله - رضي الله عنه - أيضاً: "ما على وجه الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان"، ونحو هذه من العبارات الصادقة المؤثرة، القصيرة التي يسهل على الولد حفظها، ويمكن الاستفادة من كتاب ابن القيم "الفوائد" فقد حوى كثيراً من هذه الجمل المفيدة، والمواعظ الجامعة، ويمكن أيضاً الاستفادة من كتاب "المجموع المنتخب من المواعظ والأدب" لزامل الصالح الزامل، فقد جمع فيه مؤلفه كثيراً من المواعظ، والأبيات الشعرية الهادفة. كما يمكن الاستفادة من كتاب "أيها الولد" لأبي حامد الغزالي -رحمه الله-، وكتاب "لفتة الكبد في نصيحة الولد" لابن الجوزي، فهما كتابان مفيدان احتويا على توجيهات كثيرة مباشرة للولد.
نسخة للطباعة إرسال لصديق
13ـ أسلوب القصص والروايات في تربية الطفل
تعد القصة وسيلة تربوية هامة في منهج التربية الإسلامية، حيث لا يقتصر دورها التربوي، وتأثيرها العاطفي والنفسي على الأطفال الصغار فحسب، بل يتعدى ذلك ليشمل الكبار والشيوخ. فهذا كتاب الله عز وجل قد تضمن بين دفتيه المباركتين قصصاً كثيرة تربى عليها الكبار في العهد النبوي، وما بعده قبل أن يتربى عليها الصغار، فأثمر تأثيرها - ممتزجاً بباقي جوانب المنهج الإسلامي- نماذج بشرية فاقت كل جيل قبلها، وأعجزت كل جيل بعدها أن يماثلها أو يساويها.(1/282)
إن وجود هذا العدد الهائل من القصص في كتاب الله عز وجل، وسرد بعضها بتفصيل دقيق، وذكر بعضها في أكثر من سورة، رغم الإيجاز في توضيح أحكام الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، رغم أنها أركان الإسلام وأساساته. فهذه الشعائر التعبدية العظيمة لم يرد لها تفصيل في القرآن الكريم كما هو الحال في حق القصص القرآني الذي فُصل تفصيلاً دقيقاً وكثيراً، إن في هذا إشارة بالغة الوضوح في أن لهذه القصص مكانتها وأهميتها التربوية في منهج التربية الإسلامية.
وإذا كان الأمر كذلك فإن استخدام الأب للقصة في مجال توجيه الولد وتربيته، يعد أمراً موافقاً لمنهج التربية الإسلامية الصحيح، خاصة وأن التربويين يكادون يجمعون على أهمية استخدام القصة في تربية النشء، وأن لها أثراً تربوياً جيداً على شخصياتهم، فهي تقوي الخيال عندهم، وتشد انتباههم، وتنمي لغتهم، وتدخل عليهم السرور والبهجة، إلى جانب أنها تعلمهم الفضائل والأخلاق من خلال أحداثها المثيرة.
وعند اختيار الأب للقصة يراعي بعض الأمور:
أ ) أن تهدف إلى فوائد خلقية وأدبية وعلمية مع تجنب القصص السخيفة.
ب ) أن تضم جانباً من الفكاهة والمرح لجذب انتباه الولد وإدخال السرور عليه.
ج ) إظهار الانفعالات على الوجه والصوت حسب المواقف المختلفة ليعيش الولد واقع القصة.
د ) الثناء على أصحاب الفضل في القصة، وذم أصحاب الباطل والتقليل من شأنهم.
هـ ) تجنب الوقائع التاريخية التي لا يفهمها الأطفال وليس فيها دروس أخلاقية تنفعهم، مثل مقتل عثمان - رضي الله عنه -، أو موقعة الجمل، أو معركة صفين وغيرها من القصص التي لا تناسب الأطفال.
ويمكن أن يضاف إلى هذه الأمور بعض القضايا الخاصة بالقصص المقروءة، فيراعي الأب أن تكون القصة مكتوبة بخط كبير وواضح، وبلغة سهلة ميسرة، مع استخدام الصور الزاهية الملونة.(1/283)
أما ما يخص اختيار القصة نفسها من بين المعروضات المختلفة من قصص الأطفال، فإن الاهتمام بأدب الأطفال، والكتابة لهم، يعتبر من الاهتمامات الحديثة في هذا العصر، وقد أصبح في الآونة الأخيرة في توسع كبير، "إلا أن معظم هذه الكتابات تتم في غياب النقد والرقابة الوطنية التربوية"، فالكتب والقصص الخاصة بالأطفال، والتي تترجم إلى العربية لا تمثل في الحقيقة احتياجات أطفالنا، ولا تعالج موضوعات تخصنا، بل هي بعيدة عن واقع حياتنا الذي نعيشه، إلى جانب أن أكثرها ضعيف الترجمة والنقل إلى العربية، فتصعب على الطفل قراءتها.
والقصص والمجلات المنشورة مثل: "سوبرمان"، و"لولو"، و"الوطواط"، و"ميكي"، وغيرها تدور أحداثها حول المغامرات، والعنف، وشخصيات خرافية وهمية غير حقيقية، وبعضها شخصيات حيوانية، أو رجال فضاء، كما أن استخدام هذه المجلات للغة العربية العامية مكتوبة ومقروءة، يعد بلا شك أشد خطراً على اللغة العربية الفصحى من كون العامية مسموعة فقط دون كتابة.
ولا شك أن لهذه القصص بجانب هدمها للغة العربية الفصحى، فإن لها أثرها السيئ في توجيه الأطفال، فهي لا تتضمن معاني تربوية رفيعة، كما أنها لا تهدف إلى غرس الأخلاق والقيم، إلى جانب أنها خرافية بعيدة عن الواقع والحقيقة، وأعظم من هذا كله أنها تُغفل وجود الله عز وجل بالكلية، وإن حدث وذكر جل شأنه، كان بلا دور حقيقي فعال، فإن أبطال تلك القصص والمجلات، هم الذين يتحكمون في الكون ومقدراته، بما أوتوا من القوة الخارقة، والأجسام العملاقة، والأجهزة الفتاكة. ولا تخفى على الأب المسلم خطورة مثل هذه المنشورات على عقيدة الأولاد وأخلاقهم.
ويضاف إلى هذا النوع من القصص والروايات التي يتجنبها الأب تلك القصص المرعبة التي تدور أحداثها حول الجن والشياطين، فإنها تضر الولد، وتوقع في نفسه الفزع والخوف، إلى جانب أنها لا تحمل قيماً، أو فائدة علمية.(1/284)
والأب يجد وفرة من القصص القرآني والنبوي الذي يتميز بحقيقته وواقعيته وبعده عن الخيال والخرافة، فيقوى عند الولد صلته بالتاريخ الإسلامي المجيد، إلى جانب ما يتضمنه من تقوية العقيدة بالله، وأنه هو المؤيد للمؤمنين، المخزي للكافرين، كما أن هذه القصص يتضمن إبراز الصراع الدائم بين الحق والباطل، وانتصار الحق في النهاية، وفي القصص القرآني وصل للولد بالأمم المؤمنة السابقة وأنبيائها، فيستشعر الولد أن تاريخه يبدأ من آدم عليه السلام، وينتهي إلى آخر إنسان يقول "لا إله إلا الله" على وجه هذه الأرض، وهذا الاستشعار الهام يوقد في قلبه جذوة الإيمان، ويهبه علو الهمة والشأن، حتى وإن كان ضعيفاً مغلوباً على أمره فهو موصول بكل هذا التاريخ الطويل المجيد الضارب أطنابه في القرون الخالية واللاحقة، أما غيره من الأعداء والمجرمين فهم مبتورون منقطعون عن هذا التاريخ العظيم.
وعرض الأب للقصص القرآني والنبوي على هذا النحو الفريد له بالغ الأثر على نفس الولد، ففي مجال اختيار القصص القرآني يمكن أن يعتمد على القرآن الكريم وكتب التفسير، وفي القصص النبوي، يعتمد على سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في كتاب "السيرة النبوية" لابن هشام، أو كتاب "زاد المعاد" لابن القيم، وبعض الكتب الحديثة، مثل كتاب "فقه السيرة" لمحمد الغزالي، أو "فقه السيرة" لمحمد سعيد البوطي، أو كتاب "الرحيق المختوم" لصفي الرحمن المباركفوري.(1/285)
ويكون دور الأب هو التحضير ثم الإلقاء، مع التركيز على العبر والعظات مستفيداً من كتاب "السيرة النبوية" لمصطفى السباعي. أما بالنسبة لاطلاع الأولاد فيكون على الكتب الصغيرة المؤلفة لهم، كسلسلة "قصص القرآن للأطفال" تأليف محمد علي قطب، وكتاب "غزوات الرسول للفتيان" لعبد المنعم الهاشمي وغيرهما. أما إن كان الولد ذا همة عالية، ولديه القدرة على القراءة في الكتب الكبيرة، المؤلفة للكبار فلا بأس مع إشراف الأب لتوضيح ما يخفى على الولد من كلمات، أو عبارات، ومعانٍ.
نسخة للطباعة إرسال لصديق
14ـ توجيه الطفل إلى التفكر في الكون(1/286)
لقد بث الله سبحانه وتعالى في هذا الكون من الآيات الباهرات الدالة عليه سبحانه وتعالى ما يعجز العقل البشري على أن يحصى عددها، أو يحيط بجملتها. وقد وجه الله عز وجل عباده إلى التفكر والتدبر في هذه الآيات العظيمة، فقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة:164]، ويقول سبحانه وتعالى آمراً الناس بالنظر في الكون بعين التفكر والتبصر: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 101]، في هذا التوجيه العظيم "يرشد تعالى عباده إلى التفكر في آلائه وما خلق الله في السماوات والأرض من الآيات الباهرة لذوي الألباب، مما في السماوات من كواكب نيرات، ثوابت وسيارات، والشمس والقمر والليل والنهار"، فهذه الآيات والآثار هي الطريق الصحيح بعد القرآن والسنة لمعرفة الله عز وجل، وإدراك عظمته وقدرته، ولا يمكن الوصول إلى ذلك إلا من خلال العقل والفكر والعلم؛ إذ بها جميعاً يدرك الإنسان الخالق جل جلاله، فوجود الحكمة في المخلوقات، دليل على أن الذي خلقها حكيم، كما أن وجود الإعجاز فيها دليل على أن الذي أوجدها قادر، وهكذا يجد المتفكر المتبصر، يد الله عز وجل، ولطفه، وعظمته، قد ارتسمت على كل شيء خلقه وأوجده في هذا الكون، من الأجرام السماوية العظيمة، إلى الميكروبات الصغيرة الدقيقة، كل ذلك لله فيه حكمة وإبداع.(1/287)
إن إشعار الولد بهذا الإبداع، وهذا الجمال في مخلوقات الله، له أثر بالغ في نفسه وقلبه، إذ "يمد القلب والعقل بزاد من المشاعر والتأملات، وزاد من الاستجابات والتأثرات، وزاد من سعة الشعور بالوجود، وزاد من التعاطف مع هذا الوجود.. وذلك كله في الطريق إلى امتلاء الكينونة البشرية بالإيقاعات الكونية الموحية بوجود الله وبجلال الله، وبتدبير الله، وبسلطان الله، وبحكمة الله، وعلم الله".
والأب يتخذ من الوسائل المناسبة ما يقرب إلى ذهن ولده هذه التصورات، وهذا الأسلوب الأمثل في النظر إلى الكون، لئلا يكون نظر الولد نظراً سطحياً بعيداً عن التأمل والتدبر، بل يكون نظره نظر اعتبار واستمتاع بهذا الوجود العجيب، فإن "الاستمتاع بجمال الكون، جزء أصيل مقصود في التربية الإسلامية لما له من آثار في النفس"، فمن الفوائد النظر إلى السماء وآثاره النفسية، أنه يذهب الخوف والوسواس، ويذكر بالله عز وجل ويوقع في النفس تعظيمه وإجلاله، ويزيل الأفكار الرديئة من الذهن، وينقص الهم.
ومن الوسائل التي يمكن أن يتخذها الأب في هذا المجال، إعطاء الولد فرصة مناسبة للنظر في السماء، خاصة في الأوقات التي يكثر فيها ظهور النجوم، في الليالي غير المقمرة، ويكون ذلك من خلال الخروج للنزهة مساء، فيخرج الأب مع أولاده إلى الصحراء القريبة، أو في مكان خارج المدينة، حيث الهدوء والسكينة، أو على الأقل على سطح المنزل، كما يمكن اصطحاب المنظار المقرب ذي العدسات التي يمكن أن تقرب البعيد، فيوجهها الأب إلى بعض تلك الأجرام السماوية البعيدة، ويعطي الولد فرصة للنظر والتأمل.(1/288)
وللخلوة في الخلاء آثار نفسية طيبة إذ يمكن من خلالها تحقيق هذا النوع من التربية الجمالية بالنظر إلى الكون الفسيح. ويمكن للأب تخصيص بعض الوقت لتحقيق ذلك في نهاية الأسبوع مرة أو مرتين في الشهر. على أن يكون الخروج للمبيت، ليتحقق الهدف من هذا الخروج، وتطول مدة الاستمتاع، ويتوفر المجال المناسب للتحدث والتسامر.
ولا بأس أن يقضى بعض الوقت في المساء على سطح المنزل إن كان الخروج بصفة مستمرة إلى الخلاء متعذراً.
ويمكن للأب أيضاً إفادة أولاده بالجانب النظري في هذا الموضوع، وذلك من خلال تزويدهم بالمنشورات، والكتب المصورة، عن عجائب الكون الفسيح وغرائبه، وعظم أجرام السماء من النجوم والكواكب، وبعض العجائب التي دونها علماء الفلك، ويكون الجانب التطبيقي هو الخروج بالأولاد في هذه النزهة المسائية الجميلة، ويحاول الأب من خلال حديثه إلى الأولاد، إظهار عظمة الله سبحانه وتعالى، مشيراً دائماً إلى قدرته العظيمة، وجميل صنعه، وإبداعه في هذا الكون، فعند استعراضه وشرحه لعجائب خلق الله في أجرام السماء، وضخامتها، يبين لطف الله ورحمته بأن نظم لهذه الأجرام سيرها، فلا تحيد عنه ولا تخطئه، ولولا ذلك اللطف والرحمة منه، لاصطدمت ببعضها البعض، ولهلك الناس، وزالت معالم الدنيا.
وينتقل الأب مع أولاده من الكون الفسيح وعجائبه، إلى عجائب مخلوقات الله في الأرض، من حيوانات وحشرات وغيرها، مستعيناً في ذلك بالكتب العلمية المهتمة بهذا الجانب، ومستفيداً من كتابات ابن القيم - رحمه الله تعالى- في هذا المجال في كتابه "مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة"، فقد دون فيه كثيراً من عجائب صنع الله عز وجل في الكون، والإنسان، والحيوانات، والحشرات، فإذا راجعه الأب وجد مجالاً خصباً، ومعلومات جيدة، يمكنه شرحها للأولاد والاستفادة منها.(1/289)
ويحاول الأب أن يظهر في استعراضه لهذه المخلوقات، فضل الله، ونعمته، وحكمته، في كل شيء من خلقه، فيظهر ذلك في خلق الإنسان وهيئته، وتركيب جسمه، وما في ذلك من العجائب، وفي خلق الدواب من الحيوانات والحشرات، في أجسامها، ومعاشها، وغير ذلك.
ففي الحشرات مثلاً يمكن أن يظهر الأب عجائب قدرة الله عز وجل من خلال استعمال جهاز المجهر المكبر، فيضع فيه شرائح من الحشرات، ويترك الأولاد ينظرون إلى تلك الأجزاء بعدما كبرت، فيرون أشياء عجيبة، لا يمكن أن ترى بالعين المجردة، فيقع في أنفسهم ذلك التدبر، والتفكر، كما أن هذه المناظر التي رأوها لا يمكن أن ينسوها، بل تدفعهم إلى المزيد من الاطلاع والبحث في هذا الجانب، إذ إن الطفل شغوف بالجديد، محب للاطلاع والاكتشاف بطبعه.
ويترك الأب لأولاده العنان في التفكير والنظر في هذه العجائب، والغرائب من المخلوقات، في كل شيء خلقه الله عز وجل، ملاحظاً عدم تعرضهم إلى عالم الغيب بشيء من التكييف، أو التشبيه، أو التمثيل، ويبين لهم أن "العقل لا يستطيع أن يحكم، ولا يصح حكمه إلا في الأمور المادية المحدودة. أما ما وراءها أي عالم الغيب، فلا حكم للعقل عليه". ويوضح لهم أن هذا من وساوس الشيطان ومكره بالإنسان، وأن النهي قد ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدم الاسترسال مع هذا النوع من الوساوس فقال:( يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا وكذا؟ حتى يقول له: من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته). وهذه المسألة يتنبه لها الأب ويحذر منها الأولاد.
15ـ واقع انتشار المخدرات(1/290)
انتشرت المخدرات بأنواعها المختلفة في العالم بأسره انتشاراً لم يسبق له مثيل في التاريخ، فقد أصبح الأب لا يأمن على ولده من احتمال تعاطيه شيئاً من المخدرات على سبيل التجريب وحب الاستطلاع، أو احتمال دسها له في مأكول أو مشروب من قبل رفقاء السوء، فيتعود الولد عليها ويدمن، وربما انتهت حياته بجرعة واحدة، أو ذهب عقله للأبد، ويكون ذلك بسبب إهمال الأب وغفلته عن ولده، فإن "الأطفال والصغار في عالمنا المعاصر أشد تأثراً بالمخدرات التي أصبحت تمثل عبئاً كبيراً للمسؤولين عن محاربة المخدرات"، ولعل ذلك لسهولة استهوائهم، وإمكان إغوائهم بالترغيب والترهيب، لضعف عقولهم، وقلة مداركهم لصغر سنهم. وربما استغلوا في تهريب المخدرات لبعد الشبهة عنهم، وقدرتهم على التخفي عن رجال مكافحة المخدرات فلا يعبأ بهم؛ لهذا فإن مسؤولية الأب في حماية أولاده من خطر المخدرات واجب ديني، ومسؤولية اجتماعية، لا يجوز للأب التقصير فيها أو إهمالها.
حيث تشير كثير من الإحصاءات إلى تزايد عدد المتعاطين للمخدرات في العالم بما في ذلك العالم الثالث أو الدول الإسلامية، ففي العالم ما يزيد على عشرين مليون مدمن مخدرات، وأكثر من نصفهم بدؤوا تعاطيها قبل البلوغ، أي: في سن الطفولة، وهذا يحصل رغم التوجه العالمي ضد المخدرات، ومروجيها، ورغم الكميات المهولة التي تضبط في نقاط التفتيش المختلفة، أو عن طريق رجال مكافحة المخدرات داخل الدول.
ففي عام 1985م ضبطت سلطات الجمارك في دول العالم أكثر من مائة طن من المخدرات الطبيعية، وأكثر من ثلاثين مليون جرعة من المخدرات الصناعية، كما تم القبض على أكثر من ثمانين شبكة سرية لتهريب المخدرات في مطار هيثرو البريطاني.(1/291)
ورغم الحرص الظاهر من دول العالم تجاه محاربة المخدرات إلا أن هذه الكميات المضبوطة لا تشكل أكثر من 10% من إجمالي المخدرات المنتجة والمستخدمة في العالم، ويدل على ذلك آثار هذه المخدرات المدمرة، حيث وُجد أنها خلف معظم الجرائم والكوارث، فقد جاء في تقرير لمنظمة الصحة العالمية "أن 86% من جميع جرائم القتل و50% من جرائم الاغتصاب والعنف، و50% من جميع حوادث المرور تمت تحت تأثير المسكرات".
أما بالنسبة لانتشار المخدرات في العالم الإسلامي، فبالإضافة إلى أن دول الكفر من أعداء الإسلام يعملون في الخفاء على انتشارها بين المسلمين، فإن بعض الدول الإسلامية تصدر هذه السموم وتنتجها مثل إيران، ومصر، وباكستان، وأفغانستان، وتركيا، ولا شك أن هذه الدول الإسلامية المنتجة للمخدرات هي أكثر الدول تورطاً في مشكلة المخدرات وأزمتها.
ورغم أن مصر تنتج هذا السم الفتاك إلا أن كميات هائلة من المخدرات تدخل إليها من الخارج، ففي عام 1977م تم ضبط "24197" كيلو جراماً من الحشيش، و"980" كيلو جراماً من الأفيون، و"3203" كيلو جراماً من العقاقير والأقراص المخدرة، ورغم أن ضبط هذه الكميات الكبيرة يسعد ويثلج الصدر، إلا أنها لا تتجاوز 20% من الكميات التي تدخل البلاد فعلاً وتستهلك فيها. ومما يدل على ذلك ما أكدته بعض الدراسات من أن ثلث طلاب الجامعات المصرية من المدمنين، وأخطر من هذا أن الأطفال في سن الرابعة عشرة وما دونها يجربون المخدرات بنسبة "1-3"، ويستمر منهم في تعاطيها بنسبة "1-9"، مما يشير إلى مدى الخطورة والورطة التي تعانيها تلك البلاد المسلمة.(1/292)
ولعل من أسباب انتشار المخدرات بهذه الصورة المفزعة في مصر -خاصة في الفترة الأخيرة- هي سياسة الانفتاح مع الكيان الصهيوني، ومحاولة تطبيع العلاقات بينهما، مما يسهل على مروجي المخدرات من اليهود إدخال كميات أكبر إلى مصر. ومن المعروف أن اليهود يقفون في العادة خلف كل رذيلة ومنكر، فقد قبض خلال عام 1986م على ثلاثة وثمانين مروجاً إسرائيلياً للمخدرات، وهذا العدد من المروجين يدل على مدى تورط اليهود في برنامج نشر المخدرات، وتجارتها في العالم.
وهذه الإحصاءات الخطيرة التي تشير إلى حجم المشكلة في مصر تعد مؤشراً ومنبهاً إلى حجم المشكلة التي يعاني منها العالم الإسلامي بأسره، فليست مصر هي الدولة المسلمة الوحيدة المتورطة في مشكلة المخدرات؛ بل إن أكثر الدول الإسلامية محافظة قد انتشرت فيها هذه السموم، وتفاقمت مشكلتها، ففي الإحصاءات الخاصة بوزارة الداخلية بالمملكة العربية السعودية فقد ضبط حوالي ستة ملايين كبسولة مخدرة عام 1978م، وضبط عام 1984م "1111" كيلو جراماً من الحشيش والأفيون ومشتقاته، كما ضبط في نفس العام "4898" كيلو جراماً من القات، وقد اكتشف عام 1403هـ بالمملكة وجود أخطر أنواع المخدرات على الإطلاق وهي الهيروين والكوكائين والمورفين.
وقد أخذت هذه السموم بالانتشار بين الكبار والصغار على أيدي المجرمين من مروجي المخدرات، فقد دلت إحدى الدراسات الخليجية على أن عدد الأطفال الذين أودعوا دور الأحداث في المملكة بسبب المخدرات والمسكرات في الفترة من مايو عام 1981م حتى مايو 1982م، أي في سنة واحدة فقط: حوالي "334" طفلاً من الذكور، وهذا مما دفع علماء المملكة للفتوى بقتل المروج للمخدرات تعزيرًا.(1/293)
فإذا كانت المشكلة بهذا الحجم في دولة كالمملكة العربية السعودية فإن غيرها من الدول الإسلامية أكثر تورطاً، وأعظم مشكلة، فعلى سبيل المثال دولة الكويت ذلك البلد الصغير القليل السكان، دلت الإحصاءات أن نسبة 1,2% من مجموع السكان يعتبرون من مدمني المخدرات، مما يدل على خطورة الوضع، واستفحال المشكلة، وربما يجد القارئ في الإحصاءات الحديثة ما هو أشد وأعظم خطراً.
نسخة للطباعة إرسال لصديق
16ـ أسباب تعاطي المخدرات
تشير الإحصاءات إلى أن أكثر المدمنين للمخدرات في العالم من الشباب حيث تبلغ نسبتهم حوالي سبعين بالمائة، ووجد أن من أهم أسباب انحرافهم: الاضطرابات الأسرية، وبعد الأب عن مسؤوليته التربوية بالوفاة، أو بسوء أسلوبه ومنهجه في التربية.
ومما يدفع الشباب -أيضاً- لتعاطي المخدرات: الفشل في الحياة، وعدم الثقة بالنفس، والعزلة، وعدم وجود الأنيس، إلى جانب عدم وجود الروابط الاجتماعية القوية المتنوعة. كما دلت بعض البحوث على أن أهم الأسباب المفضية إلى تعاطي هذه السموم: ترجع إلى الفراغ الممل، ومخالطة رفقاء السوء، ووصفت أحدى هذه البحوث أفراد العينة التي أجري عليها البحث أنهم ينتمون إلى فئات ذات ذكاء منخفض، ومستوياتهم الاجتماعية والاقتصادية أيضاً منخفضة. أي: أن أكثر المتعاطين لهذه السموم من الفقراء المحتاجين، إذ يستغل المروجون حاجتهم وعوزهم لتحقيق مآربهم الخبيثة في نشر المخدرات، وبيعها بواسطة هؤلاء المحتاجين، أو بيعها عليهم خداعاً منهم بأنها تخفف عنهم هموم الفقر والحاجة، فيتورطون فيها.(1/294)
وقد دل بحث آخر أجري بالمنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية على نتائج مشابهة؛ حيث اتضح أن معظم أفراد العينة من المجموعتين المختارتين للدراسة ينتمون إلى مستويات اقتصادية متدنية. ولا شك أن استغلال حاجات الفقراء في مثل هذه الأعمال من أخبث الوسائل الدنيئة البعيدة عن الإنسانية، حيث تدل على ما انطوت عليه نفوس هؤلاء المروجين من خبث ودهاء ومكر. لهذا فإنه لا بد للدولة المسلمة أن تتكفل بالفقراء، خاصة الأحداث منهم، وتقدم لهم العون من مال، أو سكن، أو تعليم، وغير ذلك من ضروريات الحياة؛ حفاظاً على أخلاقهم، وحماية لهم من الانحراف، فليس من البدع تخصيص رواتب مستمرة من بيت المال لمثل هؤلاء الأطفال، فقد كان الطفل العادي في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعطي مائة درهم تبدأ منذ الولادة ثم تزيد حسب الحاجة، ويشترك في هذا العطاء السخي حتى اللقطاء من الأطفال، وبهذا الإجراء يمكن أن تحمي الدولة كثيراً من أبناء المسلمين المحتاجين من أن تستغل حاجتهم وعوزهم في مثل هذه المهلكة.
أما وسائل الإعلام فإن لها دوراً خطيراً في الترويج للمخدرات بصورة غير مباشرة، يقول أحد الأطباء المختصين بعلاج الإدمان: "قد ظهر واضحاً لنا أن أهم عوامل إقبال الشباب على إدمان المخدرات هو التقليد الأعمى لما يشاهدونه في أفلام الفيديو، ومن يتخذونهم من مثل عليا ممن يسمون بالفنانين، سواء كانوا في العالم الغربي، أو في عالمنا العربي، وما يشيعونه من تقليعات يقلدها الشباب".
ومن المعلوم حجم تأثير التلفزيون على الأطفال، وقدرة هذا الجهاز على توجيههم، فإن ظهور الممثل وهو يتعاطى المخدر -خاصة إن كان هو بطل القصة- فإن هذا يعد من أنجح أساليب الترويج للمخدرات، إذ إن طبقة الفنانين والممثلين تعد عند العامة والأطفال - بصفة خاصة- طبقة راقية، يقتدى بها.(1/295)
ولا بد من القول: بأن ما تقدم من الأسباب التي تدفع لتعاطي المخدرات: لا تتجاوز أن تكون انحرافات فرعية لانحراف رئيسي أساسي، هو السبب الأهم والأعظم في وجود كل الانحرافات الأخرى، وهو: ضعف الوازع الديني في قلوب متعاطي هذه المواد، وقلة صلتهم بالله عز وجل، إذ لافقر، ولا ملل، ولا مشكلة أياً كان حجمها يمكن أن تسوق المؤمن المتصل بالله إلى مثل هذه الجريمة والهاوية السحيقة، فقد اتفق المصلحون على أن ضعف الوازع الديني هو سبب انتشار المخدرات، وهذا يعني أن الحل الأمثل لهذه المشكلة، ومحاربتها، وحماية النشء منها يكون بالتوعية الدينية، والتربية الإسلامية الصحيحة، في البيت، والمسجد، والمدرسة، مع التزام أجهزة الإعلام بنشر النافع. فكل مؤسسة تربوية تساهم بنصيبها في هذا المجال، مع حماية الشباب من السفر خارج البلاد حيث تنتشر المخدرات بصورة أكبر على جميع المستويات، إلا في أضيق الحدود.
أما البيت فهو أهم هذه المؤسسات، إذ يقف الأب قواماً عليه فاتحاً أبواب الخير إليه، مغلقاً أبواب الفساد عنه، فوجود الأب الصالح في البيت أعظم سبب للإصلاح - بعد توفيق الله- كما أن غيابه، وذهاب سيطرته، وسلطانه يعد أهم أسباب تشرد الأجيال الحديثة، وانغماسها في الرذائل والانحرافات المختلفة.
وإن مسؤولية الأب في هذا الجانب تتمثل في توعية الأولاد بخطر المخدرات، وطبيعة انتشارها، ويكون ذلك من خلال اصطحابهم إلى المحاضرات العامة المخصصة لمثل هذه الموضوعات. كما أن جلوسه من وقت لآخر ليزودهم بالمعلومات في هذا الموضوع يعد أبلغ في نفس الولد من غيره من الوسائل، ولا بأس بتزويدهم ببعض النشرات في هذا المجال.(1/296)
ويحذر الأب أولاده من رفقاء السوء خاصة في المدرسة، والمناطق المشبوهة، وينبههم أن لا يأخذوا شيئاً من المأكول أو المشروب إلا من شخص موثوق معروف، إذ من الممكن وضع المخدر في الشراب، أوالأكل. ولا بأس بمصارحة الأولاد بهذه القضية لخطورتها، خاصة إن كان الأب يعيش في بلد يكثر فيه انتشار المخدرات، ولا ينبغي له أن يهمل في توعية أولاده بهذا الخطر فلعل تأخير يوم أو أكثر يسبب ندماً طويلاً.
17ـ موقف التربية الإسلامية من تعاطي المخدرات
المخدرات أصناف وأنواع كثيرة ومتنوعة، وبعضها أشد ضرراً من بعض، وأخطرها الهرويين الذي يعطى عن طريق الحقن المباشر في الوريد، أو عن طريق الشم، وجرعة واحدة منه يمكن أن تسبب الإدمان.
ومن المواد التي يمكن أن تقوم مقام المخدر: مذيب البوية، والبنزين، والصمغ، فإن هذه المواد يمكن أن تستعمل كمخدر لمن لا يتمكن من التزود بالمواد المخدرة الطبيعية أو المصنعة لهذا الخصوص.(1/297)
أما حكم الإسلام في هذه السموم، فقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90]، والنص واضح في تحريم الخمر، ولم يذكر فيه المخدر، إلا أن السنة المطهرة جاءت بتفسير الخمر، إذ يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : ( كل مسكر حرام وكل مسكر خمر), فالحكم مرتبط بالعلة يدور حيث دارت، وعلة تحريم الخمر الإسكار، ففي أي شيء وجد الإسكار ومخامرة العقل وجد التحريم، لهذا فإن المخدرات التي تقوم مقام الخمر في إذهاب عقل متعاطيها تعد محرمة في الإسلام، وقد أجمع الفقهاء الذين ظهرت في عصورهم هذه الآفة على تحريمها، يقول شيخ الإسلام - رحمه الله-: "وأما الحشيشة الملعونة المسكرة: فهي بمنزلة غيرها من المسكرات والمسكر منها حرام باتفاق العلماء؛ بل كل ما يزيل العقل فإنه يحرم أكله ولو لم يكن مسكراً".
والعلة في تحريمها أنها كالخمر تسكر إلا أنها - بالإضافة إلى ذلك- تورث التخنث والدياثة، إلى جانب إفسادها لمزاج متعاطيها، وربما سببت له الجنون.(1/298)
ومما تقدم تتبين أهمية وظيفة الأب المسلم في حماية أولاده من خطر هذه الآفة المدمرة التى تذهب بالعقل والأخلاق، وتسلب الرجل رجولته فتورثه الميوعة والدعة. لهذا يحرص الأب على قفل كل باب يمكن أن يؤدي إلى تعاطي المخدر وأهمها: رفقاء السوء، والأفلام التي تمجد وتعظم متعاطي المخدرات، وتطلع الولد على طريقة التخدر عن طريق شم البنزين، أو الصمغ، أو غيرها من المواد المتوافرة في البيوت، والتي لا ريبة في وجودها واستخدامها، فإن إعلام الولد الصغير الجاهل بذلك عن طريق هذه الأفلام ربما ساقه إلى التجريب والاستطلاع فيقع في هذه المهلكة. أما الولد الكبير الواعي الذي بدأت تتكون شخصيته وتوجهه الإسلامي، فلا بأس باطلاعه على مثل هذا الخطر، وتعريفه بأبعاده الخطيرة؛ ليحذر منه.
وعلى الأب أن يمنع من البيت كل ما له علاقة بالمخدرات والمسكرات كالبيرة؛ إذ أشار بعض المهتمين في هذا المجال أنه لا توجد بيرة بدون كحول، لهذا يمنعها الأب من البيت على الأقل من باب الاحتياط والحرص.
ولتنفير الأولاد من المخدرات يزودهم الأب بالقصص والروايات والإحصاءات المروعة التي تبين تعاسة ما وصل إليه متعاطي المخدرات، خاصة من الأطفال الصغار؛ ليكون ذلك أوقع في نفوسهم، وأبلغ في تنفيرهم من هذه السموم القاتلة.
التربية النفسية للطفل
إرسال لصديق
1ـ مراعاة الزوجة أثناء الحمل(1/299)
تشعر المرأة الحامل بتغييرات نفسية مفاجئة، فتشعر بالسعادة أحياناً، وبالكآبة أحياناً أخرى، وتعيش في جو من التأرجح العاطفي المتقلب، وهذا طبيعي عند النساء الحوامل، لهذا كان واجباً على الأب أن يراعي الحالة النفسية التي تعيشها الأم، فتحاط بالحنان والرعاية، وإن تمكن من ترك جماعها بعد مضي أربعة أشهر ونصف على الحمل فهذا أفضل للجنين والأم، خاصة وأنها في هذا الوقت لا تميل عادة إلى الاتصال الجنسي، كما أن حالتها النفسية في الشهر الثامن خاصة -قبل الولادة بشهر تقريباً- تكون أكثر سوءاً من الأشهر الأخرى؛ لذا وجب على الأب مضاعفة صبره وجهده معها بأن يجنبها كل ما يمكن أن يسوقها إلى الانفعال والضيق؛ إذ إن الانفعالات الحادة، والتوترات العصبية والنفسية للأم يمكن أن تنتقل إلى الجنين، فقد ثبت ذلك علمياً، فإن الجنين يتأثر بمرض الأم وطهارتها وكل ما يجري لها، أما ما يجري للأب فإنه لا يصل إليه، فإن دوره المباشر ينتهي بالتلقيح. أما الأم فيطول إلى تسعة أشهر أو أكثر. وقد أشار بعض المختصين في هذا الجانب إلى أن ما يظهر على المولود من انفعالات الخوف والشجاعة والغضب والكسل والحسد وغيرها: هو نتيجة للعوامل والانفعالات النفسية أثناء الحمل، فإذا كانت الانفعالات النفسية تضر الجنين هذا الضرر الفادح فكيف إذا اقترنت بالاحتكاك الجسدي كالضرب أو اللكم، فإن هذا بلا شك أكثر تأثيراً وضرراً بالجنين والأم، لهذا كان أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمن رمت أختها فطرحت جنينها أن تدفع لهم عبداً أو أمة. وهذا إذا طرح الجنين ميتاً، أما إذا طرح حياً ثم مات فإن الواجب في ذلك دية الكبير، وهي للذكر مائة بعير، فالشريعة حريصة على حقوق الجميع، حتى الجنين في بطن أمه فإن حقه محفوظ مضمون. ويوجه الأب زوجته الحامل إلى الجيد من الطعام كالرطب فإنه يقوي الرحم، ويساعد على يسر الولادة، ويخفف نزيف الدم بعد الولادة، ويجنبها النشويات والسكريات(1/300)
والدهون خاصة في الأشهر الأخيرة، وذلك حفاظاً على متوسط وزن الجنين. ولا بأس عند تعسر الولادة كتابة بعض آيات القرآن الكريم، أو الأذكار الواردة في السنة، ونقعها في الماء ثم شربها، فقد رخص بعض السلف في ذلك. وينبغي للوالد بعد الولادة أن ينبه النساء عنده بأن يتجنبن التعبير عن فرحتهن برفع الأصوات، والزغردة، والغناء، والرقص، وغير ذلك من الأمور غير اللائقة بهذا المقام، ويأمرهن بالذكر والشكر لله على نعمته، ورزقه بالمولود الجديد، وسلامة المرأة
نسخة للطباعة إرسال لصديق
2ـ حق الطفل في الإنتساب إلى والديه
إن إثبات النسب حق لله عز وجل وللطفل وللأب وللأم؛ إذ إنه بهذا الإثبات يصان الولد من الضياع والتشرد، إلى جانب المحافظة على المجتمع من شيوع الفواحش وانتشار اللقطاء، كما أن إثبات النسب تترتب عليه حقوق أخرى مثل الولاية في الصغر، والإنفاق، والإرث، وغير ذلك من الأمور التي يمكن مراجعتها في كتب الفقه، وقد ورد التحذير الشديد لمن أنكر ولده وجحد نسبه. قال عليه الصلاة والسلام: أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه، احتجب الله منه، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين ، كما ورد أيضاً التحذير والوعيد لمن انتسب إلى غير أبيه وهو يعلم، وهكذا تحصن الشريعة المجتمع من شيوع الفساد، وتمنع أسباب قطيعة الأرحام، وظلم الذرية، واختلاط الأنسا
3ـ حق الطفل في الإسم الحسن(1/301)
يتأثر الطفل نفسياً بنوع الكنية أو الاسم الذي يعطى له، فتتأثر رؤيته لنفسه بذلك، فإن بعض الأطفال يعانون من أسمائهم لأنها تحمل معاني لا تعجبهم، فتتأثر نفسياتهم ويتعرضون لأوقات وظروف عديدة من البؤس والتعاسة، وذلك لأن أول كلمة يتعلمها الطفل عادة، أو يحاول أن يكتبها هي اسمه، فإذا كان جميلاً انعكس ذلك عليه بهجة وسعادة وإن كان ذميماً انعكس عليه بؤساً وشقاءً. ويشير الإمام ابن القيم - رحمه الله- إلى أن هناك علاقة وارتباطاً بين الاسم والمسمى، وأن للأسماء تأثيراً على المسميات، وبالعكس، ويذكر -رحمه الله- جانباً تربوياً هاماً في اختيار الاسم، إذ إن صاحب الاسم الحسن يحمله اسمه، ويدفعه إلى فعل المحمود من الأفعال وذلك حياء من اسمه لما يتضمنه من المعاني الحسنة، ويلاحظ في العادة أن لسفلة الناس ولعليتهم أسماء تناسبهم وتوافق أحوالهم، لهذا جاءت الشريعة الإسلامية موافقة لهذا المبدأ، فقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتحسين الأسماء فقال: (من ولد له ولد فليحسن اسمه وأدبه) . كما ورد عنه عليه الصلاة والسلام تغيير الأسماء الذميمة بأسماء حسنة، فعندما حاول علي -رضي الله عنه- عدة مرات تسمية أحد أولاده حرباً، كان عليه الصلاة والسلام في كل مرة يغيره بأسماء حسنة فسماهم الحسن والحسين ومحسن، كما ورد عنه أنه غير اسم العاص إلى مطيع، واسم غراب إلى مسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: (لئن عشت إن شاء الله لأنهين أن يسمى رباح وأفلح ونجيح ويسار).
وفي الجانب الآخر ورد عنه عليه الصلاة والسلام استحباب بعض الأسماء كعبد الله وعبد الرحمن، ورغب في التسمية بأسماء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فقال: (تسموا بأسماء الأنبياء) ، واسمه عليه الصلاة والسلام أفضلها، ولكن يتجنب الأب تكنية المولود بأبي القاسم لورود النهي عن ذلك، بل يكنيه بما شاء من الكنى الحسنة الأخرى.(1/302)
وقد كره العلماء التسمية بنور الدين، وشمس الدين، وما شابه ذلك، والتسمية بشيطان، وكليب، وشهاب، وحمار، وعبد النبي، وملك الملوك، أو التسمي بأسماء الله مثل: خالق، قدوس، رحمن، أو التسمية بعبد الكعبة، أو عبد العزى، وغير ذلك من الأسماء غير اللائقة، ويمكن أن يدرج في هذه الأسماء المكروهة تلك الأسماء التي يشترك فيها الذكور والإناث، فلا ينبغي للأب أن يسمي ولده باسم منها لما تسببه من إحراج وإحباط للولد، وتعريضه للسخرية من رفاقه. ومن هذه الأسماء: نهاد، وعصمت، وإحسان، وغيرها.
وتقيد الوالد بما ورد في السنة من توجيهات في تسمية المولود له فوائد نفسية واجتماعية تعود على الولد بالخير، إلى جانب الثواب الذي يتحصله الوالد من بركة اتباع السنة النبوية المطهرة، وإحيائها في زمن قد تغافل كثير من الناس عنها، وزهدوا فيها، فإن خالفته في ذلك زوجته أو أهله، فليعلم أن تسمية المولود من حق الأب شرعاً، فهو الذي يختار اسمه.
أما في موعد التسمية، فإن في الأمر سعة، فله أن يسميه في الوقت الذي يشاء من أول يوم ولادته، أو في السابع أو بعده، ففي الأمر ولله الحمد سعة.
نسخة للطباعة إرسال لصديق
4ـ حاجة الطفل للأم المتفرغة للتربية
ويقصد بالتفرغ أن يكون عمل المرأة الرئيسي تدبير البيت، ورعاية الأولاد، فلا يشغلها عن ذلك شاغل أياً كان، فإن "الطفل -في سنواته الأولى على الأقل- يحتاج إلى أم متخصصة لا يشغلها شيء عن رعاية الطفولة وتنشئة الأجيال... وإن كل أمر تقوم به خلافاً لتدبير أمر البيت ورعاية أطفاله إنما يتم على حساب هؤلاء الأطفال، وعلى حساب الجيل القادم من البشرية".
والمرأة تكون عاصية لله ورسوله إن هي أهملت شأن بيتها بانشغالها خارجه، حيث قال عليه الصلاة والسلام: (والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).(1/303)
والخطر يكمن فيما إذا توسع الحال في عمل المرأة، وانشغالها عن الأولاد خارج البيت، وأصبح هو القاعدة في المجتمع، فإنه يخشى بعد فترة من الزمن انتشار ظاهرة "أطفال المفاتيح" التي يوجدها الواقع الشاذ، فتصاب البلاد الإسلامية ومجتمعاتها بهذا الداء الذي فرض على أربعة ملايين طفل في الولايات المتحدة الأمريكية أن يعودوا إلى منازلهم من المدارس في آخر النهار حاملين مفاتيح البيت الخاوي من الوالدين العاملين. وهذا الإهمال ربما سبب للأطفال إحباطاً شديداً، وانحرافاً في سلوكهم، ولهذا "أدركت منظمة الصحة العالمية الخطورة التي عليها أطفال العصر الحاضر في الدول التي تعمل فيها المرأة فأوصت بتفريغ الأمهات ثلاث سنوات لكل طفل جديد"، وإن كانت الثلاث سنوات غير كافية للطفل، فإن اهتمام المنظمة به دليل ومؤشر على خطورة الموضوع وجديته، وأثره الخطير على الجيل الجديد.
ويضاف إلى ما تقدم من الجوانب الهامة في اختيار الزوجة المناسبة أن يتأكد الخاطب من موافقة المخطوبة، ورضاها بهذا الزواج، وأنها غير مكرهة عليه، وذلك لتدوم المودة بينهما، ويتحقق السكن النفسي لهما الذي امتن الله به على الناس، وجعله آية من آياته الباهرات، إذ قال عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [ الروم: 21].
ويشرع للرجل إذا هم بخطبة المرأة أن يستخير الله الاستخارة الشرعية الواردة في السنة، وأن يلهج بالدعاء والتضرع لله عز وجل بأن يوفقه لزوجة صالحة طيبة، ولا ينبغي له أن يهمل ذلك فإن الدعاء والاستخارة من أعظم أسباب التوفيق والسداد في جميع أمور المسلم.
نسخة للطباعة إرسال لصديق
5ـ الأهمية التربوية لمخالطة الأطفال(1/304)
يميل الأولاد خاصة بعد الثامنة من العمر إلى الجلوس والحديث إلى آبائهم، ويحلمون بأن يكونوا على شاكلتهم، ويرغبون في السماع إلى توجيهاتهم، وينبغي للأب المسلم أن يستغل هذه الفرصة، وهذا الميل من الولد فيوجهه التوجيه الصحيح المثمر، ولا ينبغي الانشغال عن الأولاد بالكلية بأي أمر كان، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رغم انشغاله بأمور المسلمين، والجهاد، وسياسة الدولة، لم يمنعه كل ذلك من مخالطة الأولاد -كما تقدم- فقد استفاضت كتب الحديث والسير بذكر منهجه وأسلوب حياته في البيت مع الأولاد، فقد روى عنه أصحابه -رضي الله تعالى عنهم- أنهم شاهدوه والحسن والحسين على بطنه أو صدره وربما بال أحدهما عليه، أو ربما جلس لهم عليه الصلاة والسلام كالفرس يمتطيان ظهره الشريف، وربما صلى وهو حامل أحد الأولاد أو البنات، ويروى عنه أنه كان يقبلهم في أفواههم ويشمهم ويضمهم إليه، وربما خرج على أصحابه وهو حامل الحسن والحسين على عاتقيه، فكان عليه الصلاة والسلام مع جلالة قدره وعلو منزلته يفعل ذلك؛ ليقتدي به الناس، ولأنه يعلم أهمية هذه المخالطة في المجال التربوي للطفل.
أما مع الأطفال الكبار، فكان عليه الصلاة والسلام يمازحهم بما يعقلون ويدركون، فيقول لأحدهم : (يا ذا الأذنين) , وربما مج أحدهم في وجهه بالماء مداعبة له، وربما قال لأحدهم : (يا أبا عمير ما فعل النغير).
وهذا كله لم ينقص من جلالة قدره عليه الصلاة والسلام، فقد كان يعلم جيداً أن الأطفال لا يدركون الدنيا بعقولهم وأفهامهم؛ بل يدركون بعيونهم، بما يشاهدونه من الملاطفة والحب والمخالطة، لهذا كان عليه الصلاة والسلام يأسر قلوب الصغار والكبار على حد سواء.(1/305)
فالأب المسلم مدعو للاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا المجال الهام، فإن لم يتمكن من مخالطتهم دائماً خصص لذلك وقتاً معيناً في اليوم والليلة يجلس فيه مع الأولاد يتحدث إليهم، ويتبسط معهم، ويداعبهم، ويدخل عليهم السرور مستعملاً في ذلك الكلمات الجميلة، والنظرات المشفقة الحانية، والعناق والقبل، حتى وإن بلغ الطفل سن التمييز فلا مانع من ذلك في غير مشهد من الناس، مع الاهتمام بالسنوات الأولى فإن السنوات الست الأولى من عمر الولد لها أهمية بالغة؛ بل هي الأساس الذي سوف يكون عليه الولد بعد أن يكبر، لهذا كان استغلالها وتوجيه الطفل فيها إلى الخير له دوره الهام في حياته المستقبلة، فإن لم يتمكن الأب من الإشراف المباشر على أولاده ومشاركتهم نشاطاتهم، فإنه يمكنه أن يساعدهم في بعض الأحيان على أن يبدؤوا نشاطاً ما، كأن يوجههم مثلاً إلى القراءة في كتاب معين، فيبدأ معهم ثم يتركهم يكملون، ويذهب هو لمهامه، أو يجلب إليهم لعبة هادفة مسلية، فيدربهم على طريقة استعمالها والاستفادة منها ويشاركهم في بعض الوقت، ثم يتركهم يكملون لعبهم منهمكين بلعبتهم الجديدة، ويخرج هو من بينهم دون أن يشعروا به. وبهذا يكون قد أدرك شيئاً من واجباته في هذا المجال التربوي الهام. ولكن يلاحظ في كل هذا أنه هو الأب وهو صاحب السلطة والمهابة فلا يخالط أولاده -خاصة الكبار منهم- مخالطة تزيل الكلفة بينه وبينهم، فلا يحترمونه ولا يهابونه، فإن حدث هذا فقد الأب وسيلة من أعظم الوسائل التربوية مع أولاده، وهي جانب السلطة والشخصية والمهابة، فإن من صفات المؤمن أنه "رزق حلاوة ومهابة"، فيلاحظ الأب هذا الجانب الهام، ويكون على جانب من التوسط دون إفراط أو تفريط.
6ـ تنبيه الطفل إلى مكايد الشيطان ووسوسته(1/306)
الشيطان عدو الإنسان اللدود، أخذ على نفسه وذريته العهد بأن يضل بني آدم، ويغويهم، وبدأ بتنفيذ ذلك مع أبي البشر آدم -عليه السلام- وزوجه حواء، فأغواهما وأمرهما بالمعصية، فأهبطوا جميعاً إلى الأرض لتدور معارك جديدة بين آدم وذريته من جانب، والشيطان وذريته من جانب آخر.
وقد جاء التنبيه من الله عز وجل بالحذر من الشيطان واتخاذه عدواً، فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6]، وفي موضع آخر يحذر سبحانه وتعالى من متابعة وساوس الشيطان وما يوقعه في النفس، فيقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور:21].(1/307)
وقد استفاض القرآن الكريم بالآيات التي تحذر من الشيطان ومكره ببني آدم، وهي أكثر بكثير مما يذكر في التحذير من النفس الأمارة بالسوء، وليس ذلك إلا لعظم خطر هذا العدو الخفي الذي لا يشاهد بالعين، فهو وأتباعه كما قال عنهم القرآن الكريم: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، وهذه تعد من أعظم صفاته الخطيرة حيث يستطيع من خلالها أن يترصد تحركات الإنسان، ويبث في روعه ما يريد دون أن يشعر الإنسان بمصدر هذه الأفكار، أو الخواطر. ولكن المسلم الواعي، المؤمن بالغيب، المدرك لعداوة الشيطان، يستطيع أن يعرف ويميز ما يلقيه الشيطان في قلبه من خواطر وشكوك وزيغ. وهذه الخواطر لا يكاد ينجو منها أحد. فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم لم ينجوا من مكره ووسوسته، فقد روى أبو هريرة أن بعض الصحابة قالوا يارسول الله:( إنا نجد في أنفسنا ما يسرنا نتكلم به وإن لنا ما طلعت عليه الشمس. قال أوجدتم ذلك؟ قالوا: نعم. قال: ذاك صريح الإيمان)، أي: إن رد هذا الوسواس، وكرهه هو صريح الإيمان بالله ورسوله، فإذا كان الصحابة -رضوان الله عليهم- لم يسلموا من هذا العدو اللدود، فإن غيرهم من الناس أضعف عن رده ومنعه؛ لهذا كان لزاماً على الأب أن يعرف أولاده بهذا العدو، ويعمل جاهداً على حمايتهم من كيده ومكره.(1/308)
ولقد قص الله عز وجل علينا عهد إبليس على نفسه -بعد أن أخرجه الله من رحمته- أن يضل البشرية ويغويها، فقال سبحانه وتعالى حاكياً عنه: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:39-40]، وبعد أن أخذ هذا العهد على نفسه لم يأل جهداً -هو وذريته- في تحقيق هدفهم الخبيث، فهم لا يتركون الإنسان منذ أن يولد حتى تصل روحه الحلقوم، يحضرون معه في جميع أحواله وشؤونه، لا يكادون ينفكون عنه، وقد أخبرنا عليه الصلاة والسلام بذلك، فقال:(إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه) ، فهو مترصد للإنسان لا يتركه، وقد ورد في كيده أشد من ذلك فقد قال عليه الصلاة والسلام: ( إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم), وفي شرح هذا الحديث نقل الإمام النووي -رحمه الله- قول بعض العلماء: بأن فهم الحديث على ظاهره، "وأن الله تعالى جعل له قوة وقدرة على الجري في باطن الإنسان مجاري دمه". ورغم هذه القدرات الخارقة التي يتقوى بها الشيطان على بني آدم، إلا أن الله عز وجل وجه المسلم إلى الحصن الحصين من كيده ومكره، إذ أمر بالدعاء والذكر، فإن "الشياطين إنما تتسلط على من لا يذكر اسم الله فالذي لا يذكر اسم الله إذا دخل فيدخلون معه، وإن لم يذكر اسم الله إذا أكل فإنهم يأكلون معه، وكذلك إذا ادخر شيئاً ولم يذكر اسم الله عليه عرفوا به، وقد يسرقون بعضه... وأما من يذكر اسم الله على طعامه وعلى ما يختاره فلا سلطان لهم عليه، ولا يعرفون ذلك، ولا يستطيعون أخذه"، لهذا شرعت الأذكار المختلفة عند الدخول والخروج، والأكل والشرب، والجماع، والنوم، وغير ذلك من الأذكار التي وردت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالشياطين تخاف وتهاب أهل الإيمان والقلوب المنورة المتصلة بالله المداومة على الذكر، فلا يقربون منهم؛ بل يهربون منهم.(1/309)
وإذا عرفت هذه القضية وخطورتها، فإن واجب الأب في مساعدة ولده لرد كيد الشيطان أمر غاية في الأهمية، إذ إن الولد الصغير لا يدرك هذه القضايا، ولا يفهم كثيراً مما يقع في روعه من الأمور والتصورات، ولا يستطيع أن يعرضها على الكتاب والسنة ليعرف هل هي من الحق أم من الباطل؛ لهذا كانت مساعدة الأب له وتحصينه بالأذكار الواردة أمراً مهماً. فإن أهمل الأب ذلك فلربما تسلط الجن والشياطين على الولد ونالوه بالأذى. فإن اتصال الجن بالإنس، وإمكانية صرعهم، والدخول في أجوافهم، والتمثل لهم في صور مختلفة، أمر ممكن، بل هو ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، ولا مجال هنا لمناقشة هذه القضايا من الناحية العلمية المخبرية، إذ إن قضايا الغيب تعالج بالوحي، ولا تعالج بالتجارب المعملية.
ولتعريف الأب ولده بكيد الشيطان يبدأ بتعريفه أن ما يقع في نفسه من خواطر، وتصورات غريبة، عن الله، أو الملائكة، أو ما يتعلق بعلم الغيب، أو غير ذلك من الشكوك، فإن كل هذا لا ينبغي تخيله أو تصوره بحال، فإن كل ما يقع في النفس من هذه التصورات والتخيلات لا يشابه الحقيقة، ولا يدانيها، بل هو مما يلقي الشيطان. ثم يوجهه إلى الاستعاذة بالله، وصرف التفكير إلى غير ذلك مع إشغال وقت الولد بالنافع. ويحاول الأب أن يتبسط مع الأولاد فيسمح لهم بأن يخبروه بما يقع في نفوسهم من وساوس ويحاول هو بدوره أن يرد عليها ويدحضها إن كانت مخالفة للكتاب والسنة، ويدربهم على كيفية رد الوسواس بالأذكار الواردة في القرآن الكريم والسنة المطهرة.
ويجب التنبه إلى عدم تضخيم قضية الجن والشياطين في حس الولد فيصبح موسوساً يخاف من ظله ويخشى الظلام وكل شيء حوله؛ بل على الأب أن يقوي عزيمته ويشعره أن الشيطان ضعيف الكيد والمكر مع المؤمنين الذين يذكرون الله على الدوام، أما ضعفاء الإيمان، الغافلون عن الله فهم الذين يخافونه ويخشون تسلطه عليهم.(1/310)
ويمكن للأب أن يراجع بعض الكتب التي أُلفت في القديم والحديث والتي اهتمت بعرض مكائد ومداخل الشيطان وأساليبه الخبيثة في إضلال البشرية، مثل كتاب "تلبيس إبليس" لابن الجوزي، كتاب "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" لابن القيم، ومن الكتب الحديثة في هذا الجانب، كتاب "عالم الجن والشياطين" لعمر الأشقر، وكتاب "البيان في مداخل الشيطان" لعبد الحميد البلالي، وغيرها من الكتب التي تعري مكر الشياطين وحيلهم على بني البشر.
إرسال لصديق
7ـ تحصين الأطفال بالتعاويذ الشرعية
لا تخفى على الأب أهمية تحصين الأولاد بالأذكار والتعاويذ المشروعة الواردة في القرآن الكريم وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتي تحميهم بإذن الله من تسلط الشياطين عليهم بحيث يقوم الأب بنفسه بترديد الأذكار وتحصين الأولاد بها، فقد ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيامه بتعويذ الحسن والحسين، فيقول :(أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة ), ويقول:(عوذوا بها أولادكم، فإن إبراهيم عليه السلام كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق عليهما السلام) فيقوم الأب بذكر هذا الدعاء على الأولاد وتحصينهم به، ويضيف إلى ذلك قراءة [قل هو الله أحد والمعوذتين]، ويمسح بها بدن الولد، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر أحد أصحابه بقراءتها مع المعوذتين، لتكفيه وتحميه من كل شيء، ويحاول الأب أن يكرر هذه الأدعية والأذكار يومياً خاصة عند النوم وفي المساء.(1/311)
وهناك قضية مهمة يغفل عنها كثير من الناس وهي مسألة انتشار الشياطين في أول الليل، واحتمال وقوع الأذى منهم للأولاد، فقد روى البخاري وغيره أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:( اكفتوا صبيانكم عند العشاء فإن للجن انتشاراً وخطفة ), أي: امنعوا أولادكم الحركة في هذا الوقت وضموهم إليكم. وهذه مسألة مهمة للغاية، فإن بعض الآباء لا يكترث لها، ويترك أولاده في هذه الأوقات يلهون في فناء المنزل، أو الشارع، والواجب الأخذ بنصيحة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومنعهم من ذلك، كأن يجعل ذلك الوقت وقت تناول طعام العشاء، أو يجعله وقت جلوسه معهم. والمقصود هو كفهم عن الحركة واللعب في ذلك الوقت، والأب يتخذ من الوسائل المناسبة والمفيدة ما يحقق هذا الأمر ويحفظ الأولاد.
أما قضية تعليق الأدعية القرآنية، وبعض الأذكار النبوية الواردة على الولد الصغير قبل أن يعقل، فإن السلف -رضوان الله عليهم- قد اختلفوا في ذلك، وكان عبدالله ابن عمرو -رضي الله تعالى عنهما- يفعله. والأولى ترك ذلك خروجاً من الخلاف. أما الأذكار غير الواردة في القرآن ولا في الحديث، خاصة غير المفهومة منها، ولا يعلم ما كتب فيها، أو الخرز والخيوط وغير ذلك، فإنها حرام، ولا يجوز تعليقها، وهي من التمائم التي ورد النهي عن استعمالها، فيحذر الأب من تعليقها على الولد، فقد قال عليه الصلاة والسلام:(إن الرقي والتمائم والتولة شرك). والأفضل والأولى التعويذ بالقراءة الواردة دون تعليق، فإن عجز الأب عن القراءة وتعويذ الأولاد في بعض الأوقات كلف أهله بهذه المهمة.(1/312)
ويجنب ابنه الأماكن التي يكثر فيها الشياطين، ويقلل من بقائه فيها، مثل الأسواق، ودورات المياه، وأماكن اللهو المحرم، والمجالس التي لا يذكر فيها اسم الله، ويكثر فيها اللغط وفاحش القول، ويحبب إليه الأماكن التي يهرب منها الشيطان، وهي: أماكن ذكر الله، وقراءة القرآن، والمساجد لاسيما وقت الأذان والإقامة، فإن الشيطان يهرب منها كما جاء في الحديث:( إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله حصاص).
والمقصود هو أن يأخذ الأب حيطته بتحصين الأولاد من مس الشياطين وغوايتهم بتعويذهم بالأذكار الواردة في القرآن الكريم والسنة المطهرة حتى يكبروا ويعقلوا ويتولوا ذلك بأنفسهم.
ولا شك أن الذكر والدعاء يحصن الولد من مس الجان وإيذائهم، ولكن ربما وقع بقضاء الله وقدره مس من الجان للولد، وظهرت عليه علامات الأضطراب، أو الصرع والتشنج، فإن مسارعة الأب بالتلاوة والذكر على صدر الولد، وإعطائه شيئاً من ماء "زمزم" وقد تلي عليه بعض القرآن، يعد أفضل إجراء في هذه الحالات، وأنجح من أخذه إلى الطبيب، إلا أن يظهر بعد ذلك أن القضية عضوية وليست نفسية، وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام القراءة على من أصابه شيء من مس الجان، فقد أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة، فقالت:( إن ابني هذا به لمم منذ سبع سنين يأخذه كل يوم مرتين، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أدنيه، فأدنته منه، فتفل في فيه، وقال: أخرج عدو الله أنا رسول لله). وإذا لم يكن الأب قادراً على التلاوة أخذه إلى أحد الصالحين، ومن يظن بهم الخير ليدعو له ويتلو عليه ما تيسر من القرآن، والأذكار النبوية المباركة.
8ـ تدريب الطفل على تحصين نفسه بالأذكار(1/313)
إذا عرف أن الذكر هو الحصن الحصين ضد مكر الشيطان وغوايته، فإن مسؤولية الأب في هذا الجانب، وواجبه: تعليم أولاده المدركين حفظ بعض الأذكار الشرعية الواردة، واتخاذ السبل المناسبة لضمان استمرارهم عليها، حيث يتولى الأولاد تحصين أنفسهم بهذه الأذكار دون أن يقوم الأب أو غيره بتلاوتها عليهم، وتحصينهم بها.
ويبدأ الأب في تشجيع أولاده على الذكر من خلال إفهامهم أن الجن والشياطين موجودون في كل مكان فيه أناس من البشر، فيحضرون مجالسهم، وأكلهم وشربهم، ولا يفارقونهم إلا بذكر الله، فمن ذكر الله تعالى حجزهم عنه.
فإذا فهم الأولاد ذلك بدأ معهم بحفظ الأذكار شيئاً فشيئاً، مستخدماً أسلوب الترغيب المعنوي والمادي، فيبدأ معهم مثلاً بدعاء دخول الخلاء، حيث كثرة الشياطين، فيحفظهم قوله عليه الصلاة والسلام:( اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث), وعند الخروج من المنزل يعلمهم قوله عليه الصلاة والسلام : (من قال، يعني إذا خرج من بيته: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: كفيت ووقيت، وتنحى عنه الشيطان) , وعند نزول مكان من الأماكن يعلمهم قوله عليه الصلاة والسلام: ( من نزل منزلاً ثم قال: أعوذ بكلمات التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك) .
ويحرص الأب على تحفيظ أولاده بعضاً من الآيات التي خصها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالفضل، كقراءة "آية الكرسي"، فهي تحمي صاحبها من الشيطان، وقراءة "خواتيم سورة البقرة"، فقد حث عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ( إن الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه الذي تحت العرش فتعلموهن وعلموهن نساءكم وأبناءكم فإنها صلاة وقرآن ودعاء ).
ومجال ذكر الدعوات الواردة في حفظ الإنسان من الشيطان كثيرة، وعلى الأب مراجعتها في مظانها المختلفة، خاصة كتاب "الأذكار" للإمام النووي، وكتاب "الوابل الصيب" لابن القيم ففيهما الكفاية.(1/314)
ولا شك أن الأب سوف يواجه بعض الصعوبات في اتخاذه الوسائل المناسبة لضمان حفظ أولاده هذه الأذكار، واستدامتهم عليها. وفي هذا المجال ينصح الأب في أول الأمر أن يكون قدوة لأولاده في استدامة الذكر، فلا يكاد يدخل أو يخرج، أو يأكل أو ينام، إلا وذكر الله على لسانه رافعاً بذلك صوته ليسمعه الأولاد ويرددوه معه، ليحفظوا عنه، فإن الأولاد لديهم قدرة فائقة على الحفظ وسرعة الاستذكار. وجهر الأب بالذكر يساعد على حفظهم لذلك النص دونما عناء، أو توجيه مباشر، ومثال ذلك إذا ركب الأب مع ولده السيارة، فقال قول الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف:13-14]، وكرر هذا الدعاء عند كل ركوب، فإن الولد - بقصد أو بغير قصد- يحفظ هذا الدعاء، وربما ذكَّر أباه إذا نسيه. وهذا الأسلوب يعد من أفضل أساليب تعليم الأولاد الذكر.
وفي بداية الأمر يقتصر الأب في اختياره للأذكار على القصير منها: لأنها أدعى للحفظ، وأيسر للولد، مع انتقاء أسهلها عبارة، وأيسرها لفظاً، ففي أدعية النوم وأخذ المضجع -مثلاً- وردت أحاديث عدة، منها الطويل، ومنها القصير، فالدعاء الطويل كقوله عليه الصلاة والسلام: ( اللهم إني أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، رغبة ورهبة إليك، وألجأت ظهري إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت). أما الدعاء القصير، فقوله عليه الصلاة والسلام: ( رب قني عذابك يوم تبعث عبادك) . ومما لا شك فيه أن الدعاء القصير أسهل على الولد في الحفظ من الدعاء الطويل، فلو اقتصر الأب في بادئ الأمر على الأدعية والأذكار القصيرة، وتدرج مع أولاده في ذلك؛ بلغ مقصوده دون عناء وجهد كبير إن شاء الله.(1/315)
ومن الوسائل التي يمكن أن يستعملها الأب في تشجيع أولاده على حفظ الأذكار والمداومة عليها: إقامة المسابقات بين الأولاد في حفظ بعض الأذكار، ويخصص لذلك بعض الجوائز التشجيعية، فيوجههم لحفظ حديث دخول السوق مثلاً، أو حفظ دعاء الخروج للسفر، أو غير ذلك من الأذكار والأدعية المأثورة.
ويمكن له أن يتخذ وسيلة الكتابة، فيكتب بعض تلك الأدعية على أوراق صغيرة أو كبيرة حسب الحاجة، ويعلقها في المنزل، ثم ينزعها بعد أن يتأكد من حفظ الأولاد لها.
ويستغل الأب وقت جلوسه في البيت مع الأولاد، أو وقت ركوب السيارة لأخذهم أو جلبهم من المدرسة في استذكار بعض هذه الدعوات، فإن الولد في ذلك الوقت عادة لا يكون مشغولاً بلعب أو نحوه، كما أن ذلك الوقت يكثر فيه الصمت فيضيع دون فائدة، علماً بأن الأب يقضي في السيارة مع الأولاد وقتاً ليس بالقصير، خاصة في المدن الكبيرة حيث ازدحام الناس والسيارات. فلو استغله بتعليم الأولاد بعض الأذكار الجديدة، أو استذكار ما حفظوه منها، كانت الفائدة كبيرة إن شاء الله تعالى.
التربية الجسمية للطفل
1 - أهمية التربية الجسمية للطفل(1/316)
يتكون الكائن البشري من جوانب ثلاثة في تركيبه وخلقته: الروح، والعقل، والجسم، ولكل جانب منها أهمية بالنسبة للذات الإنسانية، وهذه الجوانب لا ينفك بعضها عن بعض؛ بل تعمل كلها جنباً إلى جنب في جميع نشاطات الإنسان، فإنه ((ليس للجسد استقلال ذاتي عن الجوانب النفسية والعقلية والروحية، وإنما هو مرتبط بها ارتباطاً وثيقاً))، … وتأتي أهمية الجسد من أنه يكتسب فاعليته ودوره باتصاله وتلاحمه مع أجزاء الشخصية الإنسانية الأخرى، والعبادات كشعائر دينية تعتمد على الجسد)) فهذه الصلاة –على سبيل المثال– يشترك في أدائها العقل والروح والجسد؛ كل جوانب الإنسان، من أخل بشيء منها فسدت صلاته، أو ضاعت فائدتها المرجوة؛ فمن لم يقم بجسده في الصلاة، ويطهره بالوضوء، ويؤدِّ تلك الحركات من سجود وركوع وجلوس، أداءً صحيحاً: بطلت صلاته. فرغم أن ظاهرة الصلاة روحي عقلي، إلا أن للجسد دوره ومكانته فيها لا تقبل الصلاة إلا به - إن لم يكن هناك عذر - وكذلك العبادات الأخرى يشترك في أدائها الجسم
ولما كانت أهمية الجسم على هذا النحو، فإن اهتمام الأب برعاية ولده، من الناحية الجسمية، وإعداده لمستقبل الحياة صحيحاً قوياً، يعد خير معين لقيام الولد بواجباته الدينية وعبادة ربه، فالأب ملزم "أن يتفقد الصبي في كلامه وقعوده بين الناس وحركته ونومه وقيامه ومطعمه ومشربه، ويلزم في جميع ذلك ما ألزمه العقلاء أنفسهم حتى صارت أفعالهم طبيعة من طبائعهم"، فهو ملزم فيما يخص جسم الولد بالتزام منهج الإسلام في التربية الجسمية.
وتهدف التربية الجسمية إلى توفير الصحة عن طريق النمو السوي للفرد، والمحافظة على الطاقات الجسمية، وتوجيهها وتنميتها للقيام بأعباء الخلافة في الأرض، فهي تخدم الغرض الأساسي الذي وجد الإنسان من أجله على الأرض، وهو عبادة الله - عز وجل -، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات:56].(1/317)
والأب يراعي في جانب التربية الجسمية كل ما يؤثر في كيان الولد البدني، فما يضره من أكل، أو شرب، أو نوم، أو لعب، أو غير ذلك حماه منه، وحفظه منه، وألزمه السنة في كل ذلك، أما ما يُفيده ويقيم بدنه وصحته: وجَّهه إليه، وقرَّبه منه.
2 - أهمية الجذور الوراثية في اختيار الزوجة
للجذور الوراثية والسلالة الطيبة أهمية في الإسلام، فإن " وراثة المولود لا يحددها أبواه المباشران فقط؛ بل هو يرث من جدوده وآباء جدوده وجدود جدوده، وهكذا " فيأخذ من كل طبقة من هذه الأجيال قدراً من الصفات والسمات، فهو مرتبط بأسلافه من جهة الأب ومن جهة الأم، لهذا يقول عليه الصلاة والسلام: ((تخيروا لنطفكم فانكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم))، ويُرغب في أفضل الأكفاء وهن القرشيات ذوات النسب، ويصفهن بأوصاف فريدة فيقول: ((خير نساء ركبن الإبل صالحو نساء قريش أحناه على ولد في صغره وأرعاه على زوج في ذات يده))، " وأحناه: أي أنهن أكثر شفقة على الأولاد، والحانية على ولدها هي التي تقوم عليهم إذا مات الأب فلا تتزوج "، وهذا النسب العريق من نساء قريش الصالحات من ناله فقد حصل له مطلوبه، وجمع الله له في أهله خيراً كثيراً.
كما يراعي الأب عند اختياره الزوجة أن تكون من غير القريبات وذلك طلباً لجودة النسل، وتكوين صلات جديدة بين الأسر داخل المجتمع، وقد يسبب الزواج من القريبات ضعفاً عقلياً وبدنياً للمولود.
3 - أهمية سن الزوجة لسلامة المولود(1/318)
لسن الزوجة دور في تحسين النسل وسلامته من العاهات الخلقية والعقلية، "فإن الأطفال الذين يولدون من زوجين في ريعان الشباب يعيشون أطول من الذين يولدون من زوجين يقتربان من مرحلة الشيخوخة"، لهذا نصح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورغب في نكاح الأبكار؛ لكونهن في العادة صغيرات السن، وفيهن من المميزات ما لا يوجد في الكبيرات والثيبات، فقال للذي تزوج الثيب: ((فهلا بكراً تضاحكك وتضاحكها، وتلاعبها وتلاعبك))، وهذا اللعب والممازحة والمضاحكة، في العادة يكون عند صغيرات السن لميلهن إليه، ويقل عند الثيبات والكبيرات لكمال عقولهن.
وقد دلت بعض البحوث والدراسات في هذا الجانب: "أن نسبة الأطفال المشوهين، والمعتوهين تزداد تبعاً لزيادة عمر الأم وخاصة بعد سن الـ45 سنة"، لهذا يحرص الأب على اختيار الصغيرات من الأبكار المحببات إلى النفس.
4 - سنة التحنيك للمولود الجديد
التحنيك سنة مؤكدة من سنن الهدى التي سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته، فكان عليه الصلاة والسلام يؤتى بالصبيان فيدعو لهم ويحنكهم، وربما تفل من ريقه المبارك في أفواههم، فقد أورد البخاري رحمه الله في صحيحه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءته أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما بعبد الله بن الزبير بعد أن ولدته " فوضعته في حجره ثم دعا بتمرة فمضغها ثم تفل في فيه، فكان أول شيء دخل جوفه ريق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم حنكه بالتمرة ثم دعا له فبرَّك عليه ".(1/319)
والطريقة في هذه السنة كما هي في الحديث السابق أن يأخذ الأب أو من يراه من العلماء أوالصالحين من الأقرباء أو الجيران أو الأصدقاء، ممن عرفت سيرته بالصلاح والخير، تمرة يمضغها في فمه مضغاً جيداً، ثم يأخذ بعضاً منها بأصبعه فيضعه في فم الغلام ويدلكه من الداخل متأكداً من وصول بعضه إلى الجوف، فإن لم يجد تمراً حنكه بأي حلو. ومعجون التمرأفضل اقتداءً بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما أن غدد الفم تستجيب لحلاوة التمر انسجاماً مع الفطرة، " وقد تبدو العلاقة هنا مادية بحتة، غير أن الأثر الذي يخلفه هذا التذوق في الفم يختزن في الواعية ويكون مع مرور الزمن مدعاة لكل حلاوة … ونفوراً من كل قبيح واستقبالاً لكل جميل ".
ويراعي الأب عدم إعطاء المولود الجديد أي طعام قبل تحنيكه اقتداء بالسنة، كما فعلت السيدة أسماء بنت أبي بكر مع ولدها عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهم أجمعين، كما هو في الحديث الذي تقدم، فيكون بذلك قد أصاب السنة في هذا الأمر.
5 - سنة حلق رأس المولود الجديد
لسن الزوجة دور في تحسين النسل وسلامته من العاهات الخلقية والعقلية، "فإن الأطفال الذين يولدون من زوجين في ريعان الشباب يعيشون أطول من الذين يولدون من زوجين يقتربان من مرحلة الشيخوخة"، لهذا نصح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورغب في نكاح الأبكار؛ لكونهن في العادة صغيرات السن، وفيهن من المميزات ما لا يوجد في الكبيرات والثيبات، فقال للذي تزوج الثيب: ((فهلا بكراً تضاحكك وتضاحكها، وتلاعبها وتلاعبك))، وهذا اللعب والممازحة والمضاحكة، في العادة يكون عند صغيرات السن لميلهن إليه، ويقل عند الثيبات والكبيرات لكمال عقولهن.
وقد دلت بعض البحوث والدراسات في هذا الجانب: "أن نسبة الأطفال المشوهين، والمعتوهين تزداد تبعاً لزيادة عمر الأم وخاصة بعد سن الـ45 سنة"، لهذا يحرص الأب على اختيار الصغيرات من الأبكار المحببات إلى النفس.(1/320)
6 - حق الطفل في الرضاعة الطبيعية
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233]، فهذا حثُّ من الله للوالدات بأن يغذين الأولاد الصغار مما وهبهن الله من اللبن في أثدائهن، وخصص ذلك بعامين، ويجوز الفطام قبل انقضاء العامين، وإن كان الأفضل أن تتمها، لثبوت أن الأطفال الذين يعتمدون على الرضاعة الصناعية أكثر تعرضاً للأمراض من الأطفال الذين يعتمدون على الرضاعة الطبيعية، وقد أشار جالينوس إلى هذا وفضل لبن الأم إلا أن تكون مريضة، وذلك لأن الأم - بالإضافة إلى جودة لبنها - يرتوي الطفل منها عطفاً وحناناً وحباً، وغذاءً نفسياً لا يقل أهمية عن الغذاء البدني، بل هو في الحقيقة أهم غذاء، فإن حدث وأن نضب لبنها أو جف وجب على الأب أن يجلب له من الحليب المصنوع المعلب، أو مرضعة على حسابه، فهو المكلف بذلك شرعاً، وعليه أن يراعي في اختياره للمرضع - إن فضل الرضاعة الطبيعية - أن تكون تقية ورعة، فقد نصح بذلك أمير المؤمنين علي رضي الله عنه حيث قال: ((توقَّوا على أولادكم من لبن البغي من النساء، والمجنونة، فإن اللبن يعدي))، وقد أكد الكلام الإمام الغزالي في إحيائه معلِّلا سبب اختيار المرضعة الصالحة فيقول: ((إن اللبن الحاصل من الحرام لا بركة فيه، فإذا وقع عليه نشوء الصبي انعجنت طينته من الخبيث. فيميل طبعه إلى ما يناسب الخبائث)).
ويستحسن للزوج أن يترك جماع زوجته أثناء فترة الرضاعة، وذلك لأن هذا يضر بالولد خاصة إذا حملت أمه، فإن لبنها يضعف، وقد ورد نهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ((الغيلة))، وهي جماع الزوجة المرضع، ثم عاد عليه السلام فأباح ذلك، فكان نهيه نهي إرشاد وتوجيه إلى الأفضل والأحسن.(1/321)
فإن قرب فطام المولود، أخذ بالتدرج دون العجلة فإن العجلة تضره، ويكون ذلك عند اعتدال الجو بين البرد والحر، ولا يهتم بكثرة بكائه وطلبه للرضاعة إذا رأى الوالد فطامه؛ لأن البكاء فيه منفعة له، فيقوي الأعصاب، ويوسع مجاري النفس، وينفع الدماغ، إلى جوانب أخرى ذكرها الأطباء، فيستمر بالتدرج مراعياً نفسيته، ومحبباً إليه أنواع الأطعمة الأخرى.
7 - نفقة الآباء على الأبناء
لقد أجمع الفقهاء رحمهم الله على وجوب نفقة الرجل على أولاده الأطفال الذين لا يملكون المال، وحدد بعضهم هذه النفقة بأنها خمس نفقات، وهي: نفقة الرضاعة، والحضانة، والمعيشة، والسكن الخاص بالحاضنة والخادم عند الحاجة. ويلحق بهذا زكاة الفطرلأنها تشمل الصغير.
ويراعي الأب في إنفاقه على الأولاد الحلال من الرزق، وأن يصبر على ذلك ولا يجزع من الفقر، فإن الله هو الذي تكفل بالرزق. يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ناصحاً الأب: ((ليتق الله العبد ولا يطعمهم إلا طيباً، لبكاء الصبي بين يدي أبيه متسخطاً، يطلب منه خبزاً، أفضل من كذا وكذا، يراه الله بين يديه)).
كما ينبغي للوالد أن يراعي الحكمة في الإنفاق فلا يُقتِّر عليهم ولا يسرف، فإن وسع الله عليه وسع على عياله، ولم يُقتِّر عليهم. قال عليه الصلاة والسلام: ((ليس منا من وسع الله عليه ثم قتَّر على عياله))، والله سبحانه وتعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، كما أن إنفاقه على ولده وأهل بيته وخادمه جميعهم صدقة إذا استحضر النية الصالحة لذلك. ولأن يترك أولاده أغنياء لديهم ما يكفيهم من المال والمسكن أفضل من أن يتصدق بماله كله ويتركهم فقراء يطلبون من الناس ويسألونهم، فيكون ذلك لهم ذلة وصغاراً، وربما كان سبباً في انحرافهم وحقدهم على المجتمع، فإن الفقر مع ضعف الإيمان واليقين بالله من أعظم أسباب انحراف الناس.
8 - وجوب تحري الحلال في طعام وشراب الطفل(1/322)
لا بد لقيام البدن من الطعام والشراب. فهما قوامه مع الهواء. والمسلم مأمور بتوخي الطيب الحلال من الطعام والشراب، فإن الله - عز وجل - يقول في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172]، فالحلال من الرزق شرط لتمام تحقق الفائدة من المأكل والمشرب في الدنيا والآخرة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يدخل الجنة من نبت لحمه من سحت النار أولى به)). وتحري الأب للحلال في مأكل ومشرب أولاده وأهله؛ هو إنقاذ لهم من النار، وحماية لهم من الضلال والهلاك، فإن ما يتغذى به الإنسان من الأطعمة والأشربة له تأثير على بدنه وروحه، وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى الحسن بن علي قد وضع تمرة من تمر الصدقة في فمه، فمنعه من أكلها قائلاً: ((كخ كخ، أما تعرف أنَّا لا نأكل الصدقة)). وهكذا فالرسول عليه الصلاة والسلام لا يعفو حتى عن تمرة واحدة، تقع في جوف ابن بنته، فكيف بالطعام الكثير ؟
وكان السلف رضوان الله تعالى عليهم يحرصون غاية الحرص على الحلال من الطعام فهذا أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يدخل يده في حلقه ليتقيأ لقمة من طعام حرام أدخلها جوفه دون أن يدري، فعوتب في ذلك، فقال: ((لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها)).
فالحلال من الطعام هو أعظم قضية يهتم بها الأب ويرعاها، أما الآداب الأخرى في الطعام والشراب فتأتي تبعاً لهذه.
9 - تدريب الطفل على آداب تناول الطعام
يعتبر الاجتماع على الطعام من السنة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم)). والأب يتحرى الأكل مع أهله وأولاده، ويحذر من الأكل منفردا، فيتلطف معهم ويناولهم الطعام، ويلقمهم الأكل، ويتحدث إليهم في غير إكثار وإفراط، فإن ترك الحديث على الطعام بدعة، والإكثار منه بدعة أيضاً.(1/323)
ويعلم الأب أولاده هيئة الجلوس على الطعام - إن كان على الأرض - فلا يجلس الولد متكئا، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا آكل متكئاً)). والسنة في الجلوس للطعام تكون بإقامة الركبة اليمنى ووضع اليسرى، أو إقامة الركبتين معا، أو الجلوس كجلوس الصلاة، أما غير ذلك من الجلسات - كالتربع مثلا - فليس من السنة. أما إن كان الأكل على المائدة فالجلوس على الكرسي يكون بالطريقة المعتادة ولا كراهة في ذلك، وإن كان الأكل على السفرة أفضل. ويحذر من الأكل قائما أو منبطحا على وجهه، فقد ورد النهي عن ذلك.
والابن عادة يقتدي بأبيه في هيئات الجلوس على الطعام، لهذا فإن أول أسلوب ينتهجه الأب في تعويد ابنه طريقة الجلوس الصحيحة للأكل، أن يكون هو قدوة في ذلك، ولابأس في التوجيه المباشر للولد وأمره بالجلوس بطريقة صحيحة إن غفل عن الاقتداء بالأب.
وقبل أن يبدأ الأب مع أولاده الأكل وقد غسلوا أيديهم، يسألهم: ((من رزقنا هذا الطعام ؟)) فيجيبونه: ((الله)). وهذا الأسلوب يربط الولد بالله دائما، فيعلم أن كل خير وطيب من الله عز وجل، فيشكره ويحمده على ذلك. ثم يأمرهم أن يبدؤوا باسم الله - عز وجل -، ويؤدبهم على أن لايضع أحدهم يده في الطعام قبل الكبار، ويعلمهم الذكر قبل الطعام: ((اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه)). ويحاول الأب أن يجهر بهذا الدعاء ليتعلم الأولاد ويحفظوا عنه، فإنهم سريعو الحفظ والتعلم، ويخبرهم أن الذي لا يذكر الله على الطعام، فإن الشيطان يأكل معه.
ويعود الأب أولاده الأكل باليد اليمنى، فإن الأكل بالشمال منهي عنه، لقوله عليه الصلاة والسلام ((لاتأكلوا بالشمال، فإن الشيطان يأكل بشماله))، ولا يجامل الأب أولاده في ذلك، بل يحرص على أن يتبعوا السنة في الأكل باليمنى، فإن كانت طبيعة الولد استعمال يده اليسرى، فإن سمح له باستعمالها في شؤونه الأخرى، فإنه لا يسمح له باستعمالها في الأكل أو الشرب.(1/324)
وهذا الأدب الإسلامي يرجع إلى تقسيم أنواع الأعمال بين اليدين، فالأعمال الشريفة الحسنة لليد اليمنى، والأعمال المتصلة بالقذارات، وما أشبه ذلك فلليد اليسرى. فعلى الأب أن يدرب ولده على ذلك، ويعوده عليه حتى يجيد الأكل باليمنى.
ويجوز الأكل بالملعقة والشوكة وغير ذلك من الأدوات المباحة، وإن كان الأفضل الأكل باليد. فلا يشتد الأب مع أولاده ويلزمهم الأكل باليد، ففي الأمر سعة. وإن رأى الأب أن يعود أولاده الأكل باليد، فيكفيه أن يأكل هو بيده أمامهم، فلن يلبث حتى يراهم قد قلدوه في ذلك.
وإن لاحظ الأب على أحد أولاده عدم انضباط أثناء الأكل، وطيشا في يده، ومضايقة لإخوته، فإنه يؤدبه بأسلوب النبي - صلى الله عليه وسلم - مع عمر بن أبي سلمة، الذي كانت يده تطيش في الصحفة حيث قال له: ((ياغلام سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك)). ويحث الولد على هذا الأدب بأن يخبره أن البركة تنزل في وسط الطعام إذا أكل كل واحد من أمامه دون أن يخوض في وسط الطبق، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((البركة تنزل وسط الطعام، فكلوا من حافتيه، ولا تأكلوا من وسطه))، فإذا علم الولد ذلك تأدب بالأدب النبوي، والتزم السنة في أكله.
وليس من العيب أو المكروه أكل الولد للحم من فوق العظم مباشرة دون تقطيع بالسكين، فإن هذا يسمى ((الانتهاش)) وهو جائز، وربما كان هو الأولى، وقد نقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك، فلا ينبغي زجر الولد، أو تعنيفه إن مال إلى هذا النوع من الأكل، ولكن يوجه أن لا يفعل هذا أمام الناس لئلا ينفروا.(1/325)
ويحذر الأب من أن يعيب طعاما أمام الأولاد، فإنهم يتأثرون بذلك، ويقتدون بالأب، فإن حدث وأن كره الأب نوعا من الطعام، فلا داعي أن يظهر ذلك أمام الأولاد رافعا بذلك صوته، بل يتظاهر بالأكل، لئلا يزهِّدهم في الطعام، وقد كانت سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه لايعيب الطعام ((إن اشتهاه أكله وإن كرهه تركه))، فإن تركه ينبغي أن يكون تركه له بدون إظهار للتقذر أو الاشمئزاز، فإن هذا لا ينبغي مع الطعام، بل إن السنة في اللقمة التي تسقط ويصيبها الأذى، وتكون أدعى للتقذر، ألا تترك، بل تؤكل بعد إزالة الأذى عنها.
ويستحب إن كان الأكل باليد أن ُتلعق الأصابع قبل أن تغسل، أو تمسح بالمنديل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((إذا أكل أحدكم فلا يمسح يده حتى يلعقها أو يُلعقها)) وينبغي للأب في نهاية الطعام أن يُذكر أولاده بالدعاء المأثور الذي يقول فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من طعامه: ((الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين)).
ويسأل الأب أولاده دائما: ((لماذا نأكل الطعام ؟)) فيجيبونه: (((لنتقوى على طاعة الله عز وجل)). وفي هذا التذكير المستمر للأولاد يشعرهم بالعبودية لله، وأن كل عمل يقوم به الإنسان - حتى وإن كان ممتعا، كالطعام مثلا - فإنه يكون لله، وطلبا لمرضاته.
ويسعى الأب إلى أن يسود جو الأكل البهجة والسرور، فإنهما ينبهان الشهية للطعام، ويلاحظ عدم إجبار الولد على الأكل، والتكلف في ذلك، حتى لايتخذ الولد المعاند هذا الأسلوب للسيطرة على الوالدين، بل الحكمة في ذلك إن أبدى الولد عدم رغبته في الطعام أن يحمل من أمامه بكل هدوء وتصميم، فإنه إن جاع فسوف يطلبه، وهذا يكون مع الطفل السوي، أما إن كانت ممانعته بسبب مرض، أو نحو ذلك عرض على الطبيب ليعطي بعض المشهيات من الأدوية.(1/326)
ويوجه الأب أهله بأن لا يلتزموا صنع طعام معين، والاقتصار عليه، بل ينوع الطعام من اللحم والخبز والفواكه وغير ذلك، ولا بأس بالحلوى والعسل فهي من أفضل الأطعمة، وقد كان عليه الصلاة والسلام يحبهما، وينبغي التركيز على الأطعمة السريعة الهضم فهي أكثر نفعاً.
وبهذا الأسلوب الجامع بين تنويع الطعام، والملاطفة على المائدة، فإن الطفل تنشرح نفسه للأكل دون عناء، أوجهد كبير، خاصة إن وضع الطعام في الوقت المناسب، ولم يسبقه أكل.
ويدرب الأب الولد الصغير على الاعتماد على نفسه في تناول الطعام، فإن الأطفال يميلون إلى ذلك تقليدا للكبار، فلا بأس بإعطاء الولد الفرصة للقيام بنفسه في ذلك خاصة إن أبدى الولد رغبته في ذلك، مع اتخاذ اللازم حيال ما يمكن أن يحدثه من توسيخ للمكان.
أما الإصرار على عدم إعطاء الولد فرصة تغذية نفسه بيده - خاصة إذا كبر - فإن هذا الأسلوب ليس من التربية في شيء، بل هو سبب لجعل الولد متواكلاً على والديه معتمداً عليهما، فلا يحسن صنع شيء بنفسه.
10 - تعليم الطفل آداب الشرب
للشرب آداب ينبغي للمسلم أن يتحلى بها، ويُعوِّد أولاده عليها ففيها الخير والبركة والصحة.
ومن أهم هذه الآداب ذكر الله بالبسملة عند الشرب، وعدم الشرب قائماً؛ لنهيه عليه الصلاة والسلام عن ذلك، وكراهيته له. كما ورد عنه النهي عن الشرب من في السقاء، وذلك للحماية من انتقال الأمراض، وليكون ذلك أهنأ للآخرين عند شربهم، فلا يقع في نفوسهم الاشمئزاز من الإناء الذي شرب من مصبه.
وورد عنه عليه الصلاة والسلام في النهي عن التنفس في الإناء قوله: ((إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء)). والسنة ألا يشرب دفعة واحدة؛ بل يجعل شربه على ثلاث دفعات، وهذه هي السنة المشرفة المأثورة عنه عليه الصلاة والسلام.(1/327)
والأب يكون لأولاده قدوة في هذا المجال، فإن هذه الآداب يُعود عليها الولد بالمران والقدوة. ويلاحظ الأب نفسه، فلا يَحْسُن أن يصدر عنه ما يخالف هذه السنن - خاصة بعد أن يعرفها الأولاد - فإن مخالفته لها تضر بتصوراتهم، وتترك في نفوسهم خللاً، فإن صدر عنه نسيان في بعض الأوقات، وذكَّره الولد، فلا بأس بأن يعتذر بأنه نسي، ثم يتدارك الأمر.
ولبعض السنن صعوبة في التطبيق، فتحتاج إلى قوة في الاعتقاد، وكمال في اليقين، ومنها حديث الذبابة، الذي يقول فيه عليه الصلاة والسلام: ((إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، ثم لينزعه فإن في إحدى جناحيه داء وفي الأخرى شفاء)). إن تطبيق مثل هذه السنة، بغمس الذبابة في كوب الشاي، أو الحليب، أو الماء، عند وقوعها فيه ثم الشرب بعد ذلك، يحتاج إلى جهد نفسي كبير، كما أن فعله أمام الأولاد - بعد أن يكونوا قد عرفوا وعلموا أن ذلك من السنة - له أثر بالغ في نفوسهم؛ إذ يعلمون أن صلة المسلم بهذا الدين، وما جاء في الكتاب والسنة صلة قوية، والاعتقاد بهما لا يخالطه شك، كما أن عدم استقذار الذبابة بغمسها في الإناء دليل واضح على صلابة الاعتقاد، وتمام المتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
أما إن كان الأب ممن لا يستطيع أن يقوم بمثل هذا العمل، فيفضل أن لا يعلم أولاده هذه السنة، ولا يشعرهم بها، في بادئ الأمر حتى يكبروا ويعقلوا، ويفهموا أن الناس تتفاوت قدراتهم، وإمكاناتهم، وطبائعهم، فيعذرون والدهم في ذلك.
أما إن كان قد أشعرهم بهذا الحديث، وأفهمهم طريقة التطبيق العملي له، وحدث أن وقعت ذبابة في كأسه، وهو يتناول الشاي مع الأولاد، فإن أفضل حل أن يتشاغل عن كأسه، بعمل ما، أو يسقطه من يده وكأنه سقط خطأ، أو يتخذ من الأساليب المناسبة ما يخرجه من هذا المأزق الحرج الذي ربما سبب إضعاف ثقة الأولاد بأبيهم، خاصة إن وجد بين الأولاد من يمكنه فعل ذلك بكل شجاعة.(1/328)
وفي اختيار أنواع أواني الأكل والشرب فقد جاء الأمر بتجنُّب المصنوع من الذهب والفضة؛ بقوله عليه الصلاة والسلام: ((من شرب في إناء من ذهب أو فضة، فإنما يُجرجر في بطنه ناراً من جهنم)). وهذا دليل كافٍ للمسلم بأن يتجنب مثل هذا، فلا يأكل أو يشرب في شيء صنع من ذهب أو فضة، ولا يجلب شيئاً من هذه الأواني إلى بيته ولو على سبيل الزينة، فإن مشاهدة الأولاد لها تعويد لهم على رؤيتها وتهوين لأمرها في نفوسهم، وربما شربوا فيها مستقبلاً، حباً ورغبة في الممنوع، أو لعدم توفر كأس بين يديه يشرب فيه، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، والأفضل والأحرى تجنب ذلك بالكلية، مع إفهام الأولاد أن هذا محرم في الدين؛ لما فيه من التكبر على الفقراء، وإسراف في المال، وغير ذلك من الأدلة التي يفتح الله بها على الأب.
وللحفاظ على صحة الأولاد عند شرب الماء خاصة، يستحسن تجنبهم شربه على الطعام، فقد نصح بذلك كثير ممن له علاقة بالطب؛ لما في ذلك من إضرار بعملية الهضم، كما لا يشرب الماء بعد الجهد الكبير، مثل الرياضة، أو التعب الشديد؛ بل يُعطى الولد الماء بعد أن يستريح ويهدأ. وينصح ابن القيم رحمه الله بإعطاء الولد العسل الممزوج بالماء البارد، فهو أفضل شراب حلو؛ لما فيه من الفائدة للمعدة والكبد والمثانة والكلى، إلى جانب أنه يذيب البلغم. فعلى الوالد أن يتحرى اختيار أفضل المشروبات النافعة والطازجة لأولاده، وعليه أن يتجنب المشروبات التي لا تفيد الأولاد مثل المشروبات الغازية، وغيرها من المشروبات المعلبة التي يدخل في تصنيعها إضافة المواد الكيميائية.
11 - تعويد الطفل على الاعتدال في تناول كميات الطعام(1/329)
لقد ذم الرسول - صلى الله عليه وسلم - الإكثار من الطعام وبيَّن أن للمسلم مِعىً واحداً، وأن كثرة الأكل ليست من صفات المسلمين، فقال: ((المؤمن يأكل في مِعىً واحدٍ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء))، فالمؤمن مقتصد حريص على صحته، أما الكافر فهو شره نهم.
أما في حق الأطفال، فلا ينبغي لهم التعود على الإكثار من الطعام، فإن في ذلك أضراراً بسبب فضول الطعام في أبدانهم، والأصح أن يأكلوا دون الشبع؛ فالأكل الكثير يسبب البلادة، ولا يساعد على التفكير الصحيح، ويحبب إلى صاحبه النوم والكسل، وكثرة الطعام والشره تسبب السمنة وزيادة الوزن، فالسمنة إذا زادت عن الحد المعقول كانت بدانة تهدد صحة الطفل وحياته … وهي ظاهرة يعتبرها العالم المتحضر كله ظاهرة مرضية، أو هي مقدمة لحياة مليئة بالأمراض إن صاحبت الصغير في مراحل عمره المختلفة. إلى جانب أن الولد البدين يقل أصحابه، ويصعب عليه مشاركتهم في الألعاب لأنه سريع التعب، كما أنه يصبح مكاناً للسخرية والاستهزاء لبدانته، وهذا يسبب له إحباطاً نفسياً سيئاً.
ويعود بعض أسباب الشره وكثرة تناول الطعام عند الطفل إلى قلق نفسي يُؤرقه، أو وجود من ينافسه من إخوته الصغار، أو فقدان أحد الوالدين، فإن شعور الطفل بهذا القلق يزيد من تناوله للطعام؛ لعدم شعوره بالطمأنينة والراحة النفسية، ويكون علاج ذلك بأخذ الاحتياطات التربوية اللازمة، من إشعاره بالاطمئنان، والعطف عليه، وحبه مع إقامة العدل بين الأولاد، وعدم تقديم أحدهم على حساب الآخر.
أما فيما يخص الضرر المتوقع من فقدان أحد الوالدين بالوفاة، فيعالج من خلال إيمان الولد بالقضاء والقدر، وإن كان بالطلاق فيعالج بالتفاهم مع الولد وإقناعه، بأن هذا الطلاق هو أفضل إجراء للعلاقات الزوجية المنهارة.(1/330)
وإن كان شغف الولد بالطعام بسبب الهوى والميل، وحباً في الأكل والالتهام، دون أن يكون به مرض، أو نحو ذلك؛ فإن علاجه كما رآه مسكويه هو أن يفهم الولد أن الطعام يؤكل لدفع الجوع وألمه لا للتلذذ، فهو كالدواء لدفع الألم، أما الإمام الغزالي فيقول معالجاً هذه القضية: ((يُقبَّح عنده كثرة الأكل بأن يُشبه كل من يكثر الأكل بالبهائم، وبأن يُذم بين يديه الصبي الذي يكثر الأكل، ويُمدح عنده الصبي المتأدب القليل الأكل، وأن يحبب إليه الإيثار بالطعام، وقلة المبالاة به، والقناعة بالطعام الخشن، أي طعام كان)). وفي هذه التوجيهات علاج جيد يمكن للأب أن يستخدمه مع الولد الشره؛ فيمثل كثير الأكل بالحيوانات التي لا تفتأ تأكل دائماً، ولا بأس بسرد بعض الروايات بأن الطفل النجيب الذكي لا يتبع شهوة بطنه؛ بل يقوم عن الطعام قبل أن يشبع، ويلام الولد كثير الأكل، ويخوف البدانة، وأنها سوف تعيقه عن الحركة واللعب، وتُضرب له الأمثلة بأحد الأقارب أوالجيران من السمان؛ ليعرف ضرر ذلك فيتجنبه.
كما يمكن للأب أن يحد من كثرة أكل الولد بأن يوضع لكل طفل طبقه المستقل، فلا يأكل الجميع من الطبق الكبير، فيحدد مقدار الطعام المناسب لكل ولد، ومن أراد الزيادة عن الحد عُرف بذلك، أما أكل الجميع في الطبق الكبير - وإن كان هو الأفضل - فلا يمكِّن الأب من معرفة مقدار ما أكل كل ولد، كما أن الشره منهم يجد له متنفساً جيداً حيث لا يعرف أحد مقدار ما أكل، كما أن قليل الأكل ضعيف البنية من الأولاد لا يُعرف كم أكل؛ بل ربما قام بدون أن يأكل شيئاً يُقيم صلبه.
12 - تدريب الطفل على آداب قضاء الحاجة
المسلم محكوم في جميع شؤونه بمنهج الإسلام، فكما أنه يلتزم بآداب الأكل والشرب وغيرهما، فكذلك يلتزم آدابا وواجبات لقضاء حاجته، والتخلص من الفضلات.(1/331)
ومن أهم هذه الآداب تعويد الولد على حب الاستتار عن أعين الناس، وهذا يبدأ معه من سن مبكرة جدا، ويكون بأمر الأهل بعدم إظهار عورته أمام الناس، حتى ولو كان لتنظيفه وهو رضيع، ليعود على هذا الأدب من صغره، كما أن كشف عورة الصغير ليس بالأمر المستحب.
ويعلِّم الولد أن استعمال اليد اليمنى في الإستنجاء لا يجوز، بل تستعمل اليد اليسرى، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لايمس أحدكم ذكره بيمينه، ولا يستنجي بيمينه))، وهذا لأن الأعمال الشريفة تستعمل لها اليد اليمنى، والأعمال المتصلة بالقذارات تختص بها اليد اليسرى، ويكلف الولد بتنظيف نفسه متى عرف الطريقة، وتمكن من الجلوس لقضاء حاجته، وتدرب على استعمال الحمام، وتوقيت ذلك عندما يطلب الولد، أو عندما يرى أهل البيت أنه قادر على تولي هذه المهمة بنفسه، ولا يمكن تحديد سن معينة لذلك، إلا أنه لا ينبغي أن تتجاوز السابعة كحد أقصى، لأنه في هذا العمر يستطيع الولد أن يتولى كثيرا من شؤونه الخاصة السهلة كالملبس والمأكل، ولا يحتاج في العادة إلى من يساعده، ولا ينبغي أن يدرب الولد على التحكم في إفرازاته قبل السنة والنصف من العمر، فإن ذلك يضره، ويؤذيه، وله عواقب سيئة على نفسه.
ويعلِّم الأب ولده دعاء دخول الحمام، ويحفِّظه إياه وهو ما كان يقوله عليه الصلاة والسلام عند دخول الخلاء: ((اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث))، ويعلمه معنى هذا الدعاء وأنه التجاء إلى الله من شر ذكور الشياطين وإناثهم، وأن الحمام أحب مكان إليهم، وكذلك الأماكن القذرة التي توافق أحوالهم الخبيثة. ويمكن للأب - زيادة في الحرص - وضع بطاقة لاصقة بالقرب من دورة المياه مكتوب عليها هذا الدعاء، فيتذكر الولد الدعاء عند دخوله الحمام.
وكذلك يحفظ الدعاء عند الخروج من الحمام بعد قضاء الحاجة، فقد روت السيدة عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كان إذا خرج من الغائط قال: غفرانك)).(1/332)
والأب يتابع ولده دائما ويسأله عند دخوله الحمام، وعند خروجه منه: ((ماذا تقول يا بني عندما تدخل الحمام ؟)) وكذلك عندما يخرج من الحمام يسأله: ((ماذا تقول يا بني عندما تخرج من الحمام ؟))، ويتعقبه في ذلك حتى يتعود ولا يهمل.
وإذا لاحظ الأب إهمال الولد في تنظيف نفسه وتطهيرها، فإن التوجيه، والوعظ مطلوب هنا، إذ إن الطهارة، وإزالة النجاسة من القضايا الهامة، وذلك لما يترتب عليها من عبادات في المستقبل لا تتم إلا بها. والولد سائر إلى التكليف، فإن لم يتعود إجادة الطهارة منذ الصغر، فإنه ربما أهملها في كبره. وقد جاء التحذير والإنذار من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الشأن فقد قال: ((أكثر عذاب القبر في البول))، أي في إهمال التطهر والتنزه منه، فينبه الولد إلى ذلك ويحذر بمثل هذه الأحاديث ليتعود وينزجر.
وهذا التحذير لا ينبغي أن يوجه ليشمل الولد المريض الذي يتفلت منه البول، ولا يستطيع أن يتحكم فيه - خاصة أثناء النوم - فإن هذا الصنف من الأولاد يؤخذ إلى الطبيب إن كانت مشكلته عضوية، أما إن كانت نفسية، فينظر إلى السبب، هل هو من الغيرة من بعض إخوته، أو لشعوره بالنقص وحبه في لفت الأنظار إليه، أو غير ذلك من المشاكل النفسية، ويراعي الأب الهدوء والسكينة عند المعالجة مع إشعار الولد بأن المشكلة سهلة وبسيطة، ويحاول الأب قدر الإمكان أن يستر عليه، لئلا يعرف إخوته بمشكلته فيعيروه وتزيد العقدة في نفسه، وإن كان الولد ممن يتفلت بوله ليلا، كلف دخول الحمام قبل النوم مباشرة، وفي بعض الفترات أثناء النوم في الليل حتى لا يبقى في مثانته شيء من البول. مع ملاحظة تجنبه النوم في الغرف الباردة جداً.
ولحفظ الولد من أن تجرح كرامته بين إخوته، لوجود بلل في فراشه، يفضل أن ينام بعيدا عنهم، ولو في غرفة مستقلة، ويتم إيقاظه وطي فراشه قبل استيقاظهم، فلا يعرفون من أمره شيئاً.
13 - أهمية تعويد الطفل على ستر العورة(1/333)
ومن تمام التنعم بزينة الله - عز وجل - التي وهبها لعباده: التحلي باللباس، وستر السوءة عن أعين الناس، وفي هذا يقول الله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ* يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا …} [الأعراف:26-27]. الآيتان فيهما تذكير بنعمة الله على خلقه بإنزال اللباس ساتراً وحافظاً لهم من انكشاف عوراتهم وظهور سوآتهم، وفيهما تحذير من اتباع الشيطان، والإصغاء إلى وساوسه، التي أودت بأبي البشر آدم عليه السلام وزوجه إلى الشقاء، والعنت بخروجهما من دار النعيم إلى دار التكليف، والاختبار.
وليس التعري ونبذ الستر من الفطرة البشرية في شيء، بل " إن العُريَ فطرة حيوانية. ولا يميل الإنسان إليه إلا وهو يرتكس إلى مرتبة أدنى من مرتبة الإنسان … والفطرة السليمة تنفر من انكشاف سوأتها الجسدية … وتحرص على سترها ومواراتها "؛ بل إن اللباس وستر العورة: يعد من أعظم خصائص الإنسان الظاهرة التي يتميز بها عن الحيوان؛ وقد جاءت أوامر الرسول - صلى الله عليه وسلم - موافقة للكتاب في الأمر بستر العورة وتغطيتها؛ إذ يقول لمن سقط عنه ثوبه: ((خذ عليك ثوبك ولا تمشوا عراة)). ويقول في الأمر بستر الفخذ: ((لا تبرز فخذيك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت )) .(1/334)
بناء على ما تقدم من فضل الستر وأهميته، فإن مسؤولية الأب في بث حب التستر، وعدم إبراز العورة، في روع الولد منذ حداثة سنه، وقبل أن يكون مكلفاً بذلك: يعد من أهم الأسباب التي تركز وتقوي حب التستر في نفس الولد. إذ يُكرَّه إليه التعري، وإظهار قبله أو دبره أمام الناس، أو أمام أقاربه وإخوته. أما عدم المبالاة بإظهار عورته أمام الناس، وسرور الأب والأهل بخروج الولد عارياً أمام إخوته في البيت وأقاربه، وإظهار الرضا عن ذلك، فإن هذا السلوك من الأب والأهل: يعد بذرة سيئة في قلب الولد، تنمو وتتغذى بدوام تكرر مثل هذه المواقف الخاطئة، فتميل نفسه بعد ذلك إلى نبذ الحياء ظاهراً وباطناً، فلا يعود يستحي إذا كبر من انكشاف عورته.
ولا يعني هذا أن انكشاف عورة الولد قبل العاشرة حرام، فإن مذهب الأحناف في عورة الطفل إذا بلغ عشر سنوات كعورة الكبير، أما قبل العاشرة فلا عورة له عندهم. وعند الحنابلة لا عورة له قبل التاسعة. وليست المسألة هنا مسألة التزام بقول فقهي معين يوافق هوى في نفس الأب وأهله، فلو كان الأمر كذلك فإن مذهب الشافعي رحمه الله بالنسبة لعورة الصغير غير المميز كعورة الكبيرمن السرة إلى الركبة. ولكن المسألة هنا مسألة تربية، وتعليم، وتعويد على الفضائل. فالولد الذي عُوِّد على ستر العورة في صغره قبل العاشرة: سهل عليه بعد العاشرة سترها والالتزام بتغطيتها دون تكلف. ولا شك أن الذي لم يُعوَّد على ذلك في صغره: يصعب عليه التزام الستر دفعة واحدة.
والذي يعمله الأب ويُنصح به هو: حفظ عورة الولد عن الأعين في جميع فترات عمره، لا يظهر منها شيء لغير حاجة أو سبب، مع عدم تركه عارياً ولو كان خالياً وحيداً. وكذلك يوجه الأب أهله عند الحاجة إلى تنظيف الولد الصغير، أو تغيير ملابسه أن يكون ذلك في خلوة عن أعين إخوته، وباقي أفراد الأسرة، فليس ثمة حاجة في النظر إلى عورات الصغار.
14 - آداب اللباس للولد المسلم(1/335)
اللباس نعمة من نعم الله - عز وجل - على بني آدم. فقد امتن الله عليهم بها فقال: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ …} [الأعراف:26]. فاللباس نعمة من نعم الله، يستتر به الإنسان، ويتزين، ويتنعم بما خلقه الله له من أنواع اللباس، فمنها المخصص للبرد، ومنها للحر، ومنها للربيع. وكل ذلك من تمام فضل الله ومنته على خلقه.
وقد استحب الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ألوان اللباس: الأبيض، وحث على لبسه فقال: ((البسوا البياض فإنها أطهر وأطيب)). كما جاءت الرخصة في لبس الأحمر، والأخضر، والأسود، من الثياب. على أن لا تكون ألواناً داكنة ليس معها لون آخر، فإنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يلبس الأحمر، أو الأسود، أو المُصبَّغ. وإذا لبس الحلة اليمانية رُئيت فيها ألوان أخرى مثل البياض والسواد.
ويفضل للأب تعويد ولده لبس الأبيض من الثياب، وذلك اتباعاً للسنة أولاً، ثم لحسنها ونقائها، وذلك يكون عند خروج الولد للزيارة، أو الصلاة أو لمقابلة الناس.
أما الملابس الملونة - غير المنقوشة - فتكون للبيت واللعب، على أن لا تكون لوناً واحداً داكناً، علماً بأن أكثر ملابس اللعب الخاصة بالأولاد ملونة بغير الأبيض، وذلك لأن الملابس الملونة بطيئة الإتساخ، وأكثر تحملاً لما يعلق بها من جراء لعب الأطفال.
أما الملابس الملونة المنفوشة فهذه تخص النساء، يقول مسكويه رحمه الله منفراً الولد منها: ((وليعلم أن أولى الناس بالملابس الملونة والمنقوشة النساء اللاتي يتزين للرجال ثم العبيد والخول، وأن الأحسن بأهل النبل والشرف من اللباس البياض وما أشبه)).
ويتعود الولد لبس الأبيض من الثياب بالقدوة، فيحرص الأب على لبس الثوب الأبيض، ويحرص على شرائه لولده ولا يطاوعه في غير الأبيض، إلا في ملابس اللعب واللهو؛ لما تقدم.(1/336)
ويُحفَّظ الولد آداب لبس الثوب ونزعه، فعند لبس الثوب الجديد يُعلَّم قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة))، وعندما ينزع ثيابه يقول: ((بسم الله))، وذلك ليستر عورته عن أعين الجن.
ولا بأس بلبس ما يسمى ((بالبنطلون)) لأنه أنفع لكثرة حركة الأولاد، وأطول بقاء، مع مراعاة أن يكون فضفاضاً غير ضيق واصف لهيئة الجسم، ويُراعى أيضاً أن لا يكون شفافاً، فإذا رُوعي ذلك كان جائزاً.
ويعود الولد على لبس النعال؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((استكثروا من النعال؛ فإن الرجل لا يزال راكباً ما انتعل)). ويُحث على لبس حذائه خاصة أثناء اللعب خارج البيت، لاحتمال وطئه شيئاً حاداً يجرحه ويؤذيه.
ولا بأس بأن يؤخذ الولد بشيء من الخشونة في بعض الأحيان في ملبسه ومأكله ومشربه وأن يسير على الأرض بغير حذاء، فلا بأس بذلك في بعض الأحيان لتعويده على الخشونة. فإذا خرج الجميع للنزهة في بعض الأوقات، أمر بخلع نعاله والسير على الأرض أو الصخر بالقدمين حافيتين، مع مراعاة عدم التكلف في ذلك بما يعود على الولد بالضرر والأذى.
ويلاحظ الأب ولده عند لبس النعال، فيأمره بأن يبدأ باليمين ثم الشمال؛ لأنه السنة. وكثير من الأولاد يبدؤون بالشمال، وربما لبس بعضهم حذاء اليمنى في القدم اليسرى، وبالعكس. والأفضل توجيه الولد قبل أن يقوم باللبس، فيشار إلى قدمه اليمنى ليبدأ بها إن كان الولد لا يميز بينهما. وبذلك يتعود تقديم قدمه اليمنى دون شعور؛ لأنه لم يتعود - أصلاً - تقديم قدمه الشمال. ومن الخطأ تركه يبدأ بأي قدم شاء ثم تصويب خطئه بعد ذلك، وأقل ما في ذلك من الخطأ التربوي أن تتعود قدمه الشمال التقدم في بعض الأحيان، إلى جانب أنه يتضايق من كثرة الأوامر خاصة إن أُمر بالنزع ثم اللبس من جديد، وتزيد المسألة كراهة عند الولد إذا كانت أمام الناس.
15 - محظورات اللباس للولد المسلم(1/337)
وللباس محظورات يجدر بالأب مراعاتها، وحفظ الأولاد من الوقوع فيها، خاصة ما فيه تخنث وتشبه بالنساء. فلبس الحرير ممنوع على الذكور البالغين بلا خلاف بين الأئمة إلا لعذر، وقد نقل ابن عبد البر رحمه الله الإجماع على ذلك. أما لبسه بالنسبة للصبيان قبل البلوغ: ففيه قولان: والأرجح أنه لا يجوز، " فإن ما حرم على الرجل فعله حرم عليه أن يمكن منه الصغير ". وقد نقل إنكار أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه على من لبس الحرير من الصبيان، فرأى مرة ثوباً من حرير على صبي للزبير فمزقه، وقال: ((لا تلبسوهم الحرير)). ونقل أيضاً عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه مزق قميصاً من حرير على أحد أولاده، وقال: ((قل لأمك تكسوك غيرهذا)).
وفي هذا الفعل من هذين الصحابيين الجليلين، مع عدم إنكار ذلك ممن حضر من الصحابة: دليل على مشروعية نزع ثوب الحرير من أجساد الأولاد، ومنعهم من لبسه. ولا شك أن في لبس الولد للحرير تعويداً له على الميوعة، والتخنث، ومشابهة النساء. وواجب الأب ومسؤوليته تهيئة الولد لطبيعة جنسه، من الخشونة، والشجاعة، والإقدام، وغير ذلك من صفات الرجولة، مع تنفيره من جميع ما يخص النساء.
ولتنفير الولد من ثياب الحرير، ينصح الغزالي رحمه الله بأن ((يُحبب إليه من الثياب البيض دون الملون والإبريسيم، ويقررعنده أن ذلك شأن النساء والمخنثين وأن الرجال يستنكفون منه، ويكرر ذلك عليه، ومهما رأى على صبي ثوباً من إبريسيم أو ملون فينبغي أن يستنكره ويذمه)). وفي العادة ينفر ولده ويأنف من مشابهة البنات عندما يقرر عنده أن سلوكاً معيناً، أو فعلاً معيناً من أفعال البنات، ففي الغالب يتركه وينزجر، ولا يعود إليه.(1/338)
ويُمنع الولد من لبس الثياب الشفافة، التي لا تستر العورة؛ لما في ذلك من الميوعة وقلة الحياء، وعدم المبالاة بظهور العورة أمام الناس. ويضاف إلى ذلك المنع من لبس ثياب الشهرة، المتميزة بين الناس، والملفتة للنظر، فإن كلا اللبستين مكروهتان مذمومتان.
والأب يلاحظ ذلك عند شراء الملابس للأولاد، ولا داعي لتخييرهم بين الأنواع المختلفة من الملابس إذا كان اختيارهم في العادة غير موفق؛ بل يعودهم أن يلبسوا ما يختاره لهم. كما أن عليه أن يتجنب الثياب التي فيها تصاويرأوصلبان فإنها مكروهة. وقلَّما يجد الأب ملابس لأولاده تخلو من صور الحيوانات، أو الحشرات، أو غير ذلك من الأحياء. فعليه الاجتهاد وحسن الاختيار، وإن استطاع أن يكلف من يصنع له ملابس الأولاد بصفة خاصة، فهذا أحسن وأوفر له؛ إذ يختار ما يناسب أجساد الأولاد من أنواع الأقمشة، مراعياً مطابقتها للسنة المطهرة.
وفي هذا السلوك المرهف من الأب نحو الصور حسم لمادة الشرك من أساسها، والمتضمنة لحب الصور وتعظيمها، خاصة وأن أكثر المصنع من الصورعلى ملابس الأطفال من النوع البارز، إلى جانب أن هذه الصور لا فائدة منها في التعليم، أو الثقافة؛ بل هي من باب الزينة المكروهة.(1/339)
وجاءت السنة المطهرة بتحريم إسبال الثوب أسفل من الكعبين للرجال، وقد أجمع العلماء على ذلك؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:((إن الله لا ينظرإلى من يجر إزاره بطراً)). ولا شك أن الولد قبل البلوغ غير مطالب بهذا، ولا يأثم بالإسبال، ولكن إعداده للتكاليف وتربيته على هذا الأدب النبوي منذ صغره خاصة بعد العاشرة، يعد أمراً مهماً؛ إذ إن التكاليف التي تلزم البالغين لا تنحط على الولد دفعة واحدة ساعة ظهور علامة من علامات البلوغ عليه، بل يدرب عليها قبل ذلك بوقت، فلا يحصل له البلوغ إلا وقد التزم بمعظم أحكام البالغين وواجباتهم. أما أن يُبدأ بتعليم الولد أحكام وواجبات المكلفين بعد البلوغ فهذا ليس من التربية الإسلامية في شيء.
ولا شك أن المجاهدة في إلباس الولد الثوب حسب السنة إلى الكعبين، والكم إلى الرسغ كما هي السنة المنقولة عنه عليه الصلاة والسلام في طول الكم، فيه مشقة، لا من حيث أن الولد يكره ذلك، فإن الولد الصغير عادة لا يعقل هذا، ولا يتكلف طول الإزار، إنما المشقة في أن الولد في هذا السن سريع النمو، فلا يكاد يلبس ثوباً إلى كعبيه إلا وبعد أشهر، أو سنة يصل إلى أنصاف ساقيه. فلا يُستفاد من الثوب مدة طويلة.إلا أن يكون له إخوة أصغر سناً فيلبس بعضهم ملابس بعض فتُحل المشكلة. ولو لم يكن هذا فإن المجاهدة في اتباع السنة أمرمطلوب، والدين يستحق أكثر من ذلك.
16 - الزينة ومحظوراتها للولد المسلم(1/340)
للزينة محظوراتها وممنوعاتها، كما أن للباس ممنوعاته، ومن أهم هذه الممنوعات: التحلي بالذهب، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي، وأحل لإناثهم)). وقد أجمع العلماء على حرمة تحلي الرجال بالذهب، أما الفضة فقد أجمعوا على إباحة التختم بها للرجال. وليس التحريم يخص الرجال دون الصبيان، وهذا كما في مسألة لبس الحرير أنه: ما حرم على الرجل لا يجوز تمكين الصغير منه. قال الإمام مالك رحمه الله في الذهب للغلمان: ((وأنا أكره أن يلبس الغلمان شيئا من الذهب، لأنه بلغني أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تختم الذهب فأنا أكرهه للرجال: الكبير منهم والصغير)) فلا ينبغي التهاون في ذلك، ولا وضع صفائح الذهب المنقوش عليها آيات من القرآن الكريم على صدر الولد، أو تختيمه بالذهب، حتى وإن كان رضيعاً، فالأولى ترك هذا كله، لما تقدم.(1/341)
وينصح ويحذر الإمام الغزالي رحمه الله: الأب من ذلك ويأمره بتزهيد ولده في الحلي فيقول: ((يقبح إلى الصبيان حب الذهب والفضة والطمع فيهما، ويحذر منهما أكثر مما يحذر من الحيات والعقارب، فإن آفة حب الذهب والفضة والطمع فيهما أضر من آفة السموم على الصبيان)). ولعل الآفة التي أشار إليها الغزالي هي: ما يحدثه الميل إلى التحلي بالذهب من مشابهة النساء، في تكسرهن، وميوعتهن. والصبي لايصلح له شيء من طباع النساء وعاداتهن. والواجب منعه من كل هذا بتمييز الذكور عن الإناث في الملبس، والزينة، والألعاب، ومكان النوم، والاختلاط - إن أمكن - إلا أن يكونوا إخوة أو أخوات فلا بأس باختلاطهم جميعاً في اللعب، ومكان الجلوس، لتحصل بينهم المودة والألفة، أما اللباس وأنواع الألعاب والزينة، وغير ذلك مما يخص البنات، فلا ينبغي تشابههم فيه أبداً. وبذلك يحصل للولد قدرة على التمييز بين ما يخص الذكر وما يخص الأنثى، فإذا علم أن شيئاً ما لا يصلح للأولاد: نبذه وزهد فيه، وأنف أن يعمله، أو يستعمله. وربما تكون هذه أفضل الطرق لتنفير الولد من عادات النساء، وما يتعلق بحليهن، وزينتهن.
ويدخل في باب الزينة المكروهة بالنسبة للصغار: كراهية تعليق الأجراس أو الجلاجل على الولد للزينة، وروي أنها تنفر الملائكة، ونقل عن بعض السلف نزعها من فوق الصبيان. أما جعلها في يد الولد يلهو بها ساعة ثم يضعها ويتركها، فلا بأس به إن شاء الله، إذ إن ما ورد في الباب من الكرهية ظاهره المنع من التعليق، لا المنع من اللهو واللعب بها، فإن هذه الألعاب ذات الأصوات تسلي الولد وتجذب انتباهه وتلهيه عن البكاء.(1/342)
وقضية أخيرة ينبغي للأب أن يراعيها ويتبع فيها السنة وهي: النهي عن العبث برأس الصبي فيحلق بعضه ويترك بعضه، والسنة في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ((احلقوه كله أو اتركوه كله)). وحلق بعض الرأس وترك بعضه يُسمى القزع، والسنة بالنسبة لحلق رأس الولد أن يكون كاملا بعد ولادته، ويكون أيضا إذا حج الولد أو اعتمر مع والده، أما غير ذلك من التحليق فلا سنة تتبع فيه، وقد روي كراهية التحليق عن الإمام أحمد بن حنبل، كما روى عنه أيضا عدم كراهية ذلك، ونقل ابن عبدالبر الإجماع على إباحته والذي نقل في وصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه كان ذا شعر يضرب منكبيه، أو أنصاف أذنيه وهذا يدل على أن التحليق ليس من عاداته عليه الصلاة والسلام، والأولى في حق الولد أن يكون له شعر، حسب عرف أهل البلد وبما يوافق مفاهيم الإسلام العامة من ترك التشبه بالنساء، والأمر بمخالفة أهل الكتاب وعموم الكفار، إلا أن يضطر الأب إلى الحلق، أو القزع اضطراراً لا اختيار فيه لسبب من الأسباب كعلاج أو نحوه.
17 - تعويد الطفل على النظافة في بدنه وملابسه(1/343)
لقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القدوة الحسنة للمسلمين في كمال هيئته ونظافة بدنه، وملبسه، فهو أكمل بشر خلقه الله عز وجل، يقول ابن الجوزي رحمه الله: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أنظف الناس وأطيب الناس، في الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه، حتى تبين عفرة إبطيه، وكانت ساقه ربما انكشفت فكأنها جمارة ( باطن الجذع )، كان لا يفارقه السواك، وكان يكره أن تشم منه ريح ليست طيبة)). وفي وصف آخر لنظافته عليه الصلاة والسلام، واهتمامه البالغ بذلك، يقول الحكيم الترمذي رحمه الله: ((وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يربط الحجر على بطنه من الجوع، ولا يترك الطيب، ويعاهد أحوال نفسه، وكان لا يفارقه المرآة والسواك والمقراض في السفر والحضر، وكان إذا أراد أن يخرج إلى الناس نظر في ركوة فيها ماء فيسوي من لحيته وشعر رأسه ويقول: إن الله جميل يحب الجمال)). فكان عليه الصلاة والسلام لا ينشغل عن النظافة حتى بالجوع الذي في العادة ينسي الإنسان كل شيء إلا الطعام. وفي هذا توجيه عملي منه عليه الصلاة والسلام للاهتمام بهذا الجانب، ولم يكتف بذلك، بل كان ينكر على من أهمل نظافة بدنه وملبسه، فقد روي أنه رأى رجلا ثائر الرأس فقال: ((لم يشوه أحدكم نفسه)). ورأى رجلا وسخ الثياب فقال: ((أما يملك هذا أن يغسل ثيابه)). وجعل غسل الجمعة واجباً فقال: ((الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)). ووقت عليه الصلاة والسلام أطول مدة يقيم فيها الرجل دون غسل أن لا تزيد عن أسبوع واحد، فقال: ((لله تعالى على كل مسلم حق أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما)). وإن كانت هذه النصوص لا تعم الأطفال إلا أنه يستحب الغسل لمن أتى الجمعة من الصبيان وغيرهم ممن لا تجب عليهم، فعلى الأب أن يعود أولاده غسل يوم الجمعة، ولبس أحسن الثياب، لمشروعية ذلك، ولتكون النظافة والطهارة شعار المسلم، خاصة في العبادات وبشكل أخص في يوم الجمعة فهو يوم عيد(1/344)
للمسلمين.
ولا يقتصر على غسل الجمعة، فإن الاقتصار عليه أدنى الكمال، بل يعود أولاده كثرة الاغتسال، وحب التطهر والنظافة من غير إسراف أو وسوسة، فإنه لا ينبغي التشدد في موضوع النظافة مع الولد إلى أن يصل إلى حد الاشمئزاز منه إذا اتسخ، فإن هذا ربما أدى إلى مبالغة الولد بالنظافة مستقبلا، وربما ساقه إلى غسل يده بعد مصافحة الناس، بل يكون سلوك الأب في ذلك وسطا بين النقيضين، محافظا على ولده من الإفراط أو التفريط، خشية أن يقع في الوسوسة الممقوتة.
ومن الوسائل المشجعة للولد الصغير على حب الاغتسال، إدخال السرور عليه أثناء الاستحمام، كأن يؤمن له بعض الألعاب البلاستيكية التي لا تتأثر بالماء، فتوضع له في مكان اغتساله ليلهو بها، ريثما ينتهي الأهل من تنظيفه وتطهيره، مع مراعاة حسن اختيار الصابون، حيث يفضل النوع الذي لا يضر بالعين عند فتحها أثناء الغسل، ولا بأس بالتوجيه المباشر للولد في حثه على النظافة، مع امتداح الأطفال النظيفين، وذم الأطفال القذرين أمامه، وعلى مسمع منه. فإن في هذا تنفيرا له من القذارة.
أما الولد الكبير فيكون توجيهه من خلال تعريفه بأهمية النظافة في البدن والملبس، وأن الدين اهتم بها، والرسول - صلى الله عليه وسلم - هو القدوة في ذلك فهو أنظف الناس وأحسنهم ريحا، مع ضرب المثل له بالنظيف كيف يميل الناس إليه وإلى القرب منه، والوسخ كيف ينفر الناس منه ومن ريحه. ويحاول الأب أن يصله بعالم الغيب، عالم الملائكة الأطهار، الذين يحبون الريح الطيب، ويكرهون الريح الخبيث، ففي حديث النهي عن إتيان المسجد بريح الثوم والبصل قال عليه الصلاة والسلام: ((فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه الإنس)). فكل ريح، ومنظر، يتأذى منه الناس، فإن الملائكة تكرهه وتتأذى أيضا منه، فلا بأس أن يشير الأب إلى هذه القضية الغيبية، ويعرف ولده بهذا الحديث، فيحفزه إلى النظافة والتزام الطهارة.(1/345)
ويعود الأب ولده على الاهتمام بنظافة ثوبه، وملبسه، فيكون في البيت، وعند الأقارب، وفي الأماكن العامة، حسن المنظر، نظيف الثياب. ولا يمنع من أن تكون له ملابس أخرى ثخينة، داكنة الألوان، يمارس بها لعبه ورياضته، وهذه الملابس لا ينبعي معاقبته على توسيخها، أو تفتق بعض أجزائه من جراء اللعب. أما ملابس الخروج والجلوس في البيت فينبغي متابعة الولد وتوجيهه للمحافظة على نظافتها وطهارتها، مع معاقبته عند الإهمال، ولا بأس بتكليفه تنظيف الجزء الذي أتلفه، أو وسخه، ليتحمل مسؤولية خطئه إن كان قد أخطأ.
ويعود الأب ولده حمل المنديل في جيبه، ليتنظف به عند الحاجة، خاصة عند الامتخاط، فلا يلوث ثيابه بمخاطه كما يفعل بعض الصبيان. ويعلمه السنة في استعمال اليد اليسرى للامتخاط دون اليد اليمنى، فإن اليد اليمنى تستعمل للأمور الشريفة الطاهرة.(1/346)
وليس من العيب أوالحرج أن يتولى الأب بنفسه تنظيف ولده، وتطهير أنفه من المخاط، أو إزالة الأذى عنه في بعض الأحيان، فقد روت السيدة عائشة رضي الله عنها واصفة حال النبي - صلى الله عليه وسلم - واهتمامه بشأن أسامة بن زيد عندما كان صغيرا، قالت: ((أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينحي مخاط أسامة. قالت عائشة: دعني حتى أكون أنا الذي أفعل. قال: ياعائشة أحبيه، فإني أحبه)). فهذا الاهتمام بالأولاد ورعايتهم من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه دليل واضح على أن من سواه من الرجال أولى أن لايترفعوا عن القيام بمثل هذا الأمر، وقد روت السيدة عائشة أيضا قصة أخرى لأسامة بن زيد، ولكنها كانت أبلغ من هذه، وأعمق بيانا وتوضيحا، فقالت رضي الله عنها: ((إن أسامة عثر بعتبة الباب فدمي قالت: فجعل النبي يمصه ويقول لو كان أسامة جارية لحليتها ولكسوتها حتى أنفقها)). فهذه الرواية البليغة توضح - وبجلاء - أن قيام الأب بمهام رعاية بعض شؤون الأولاد - خاصة في جانب نظافتهم ورعايتهم الصحية - أمر مشروع بل مستحب لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيامه بذلك على جلالة قدره ومكانته.
ومن الجوانب التي ينبغي أن يهتم بها الأب أيضا في موضوع النظافة: الاهتمام بالأسنان، فقد ابتلي كثير من الأطفال بتلف الأسنان المبكر، الذي يؤثر على الهضم، إلى جانب الآلام التي يحدثها تسوس الأسنان خاصة بالنسبة للأطفال الصغار. وتعود معظم أسباب ذلك إلى إهمال العناية بها ونظافتها، إلى جانب كثرة أكل الحلوى والسكريات خاصة عند الأطفال.
والحل الأمثل لا يكون بمنع الأطفال من تناول الحلوى، فهذا لاطائل وراءه، فالأطفال مشغوفون بحبها والميل إليها. ولعل الحل الصحيح والأمثل لهذه القضية هو تعويد الولد على استعمال الفرشاة، خاصة قبل النوم، فإن بقاء بعض الأطعمة، والحلوى على الأسنان أثناء النوم تسبب تعفنها السريع، وبالتالي يوجد التسوس الذي يفتك بالأسنان.(1/347)
والإصرار على الولد في استعمال الفرشاة أمر مهم، فلا ينبغي مجاملته في ذلك أبدا، بل يعود استعمالها بعد كل أكل، بل وحتى بعد كل شيء يتناوله من الأطعمة - إن أمكن - فلا يبقى على أسنانه شيء من الطعام طول الوقت.
ويحفظ الولد من تناول المشروب البارد بعد المشروب الحار، أو العكس، فإن هذا أيضا من أعظم أسباب تلف الأسنان، كما يجنب استعمال أسنانه في كسر الأشياء الجافة القاسية، ويحفظ من أكل العلك الحلو. ويعود قدر الإمكان على استعمال السواك، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حث عليه، وبين أنه طيب للفم، وطاعة للرب، فقال: ((السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب)). وقد كاد عليه الصلاة والسلام أن يأمر به، ويوجبه على المسلمين، لعظم فائدته ومنفعته، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لولا أن أشق على أمتي أو على المؤمنين لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)). وقد ثبت مؤخرًا ((أن في المسواك أملاحا معدنية، ومواد عضوية، ومضادات حيوية تطهر الأسنان، ومواد تقوي جدار اللثة)). وهذا البيان العلمي الحديث لفوائد المسواك لا يزيد الأب المسلم إلا يقينا بصدق كل ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل، وإن كان المفترض في المسلم أنه لا يحتاج إلى دليل علمي تجريبي، لإثبات صحة ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن مثل هذه الحقائق العلمية، تقوي اليقين خاصة عند ضعاف الإيمان.(1/348)
وبإمكان الأب تعويد أولاده على استعمال المسواك، من خلال القدوة أولا، ثم عن طريق التوجيه المباشر، وتقديم قطع من أغصان شجر الأراك الرقيقة إليهم. ويحاول من وقت لآخر جلب مجموعة منها إلى البيت وتوزيعها باهتمام عليهم، أما إن كان في بلد لا يتوفر فيه هذا النوع من الشجر، ولا يجلب إليه، أو أن بيته بعيد عن موقع بيعه، فيمكن تأمين كمية منه، وحفظها في الثلاجة داخل كيس من الورق وآخر من البلاستيك، فإن التجربة أثبتت إمكانية بقائه بهذه الاحتياطات في حالة جيدة. وليس من الضروري أن يعرف الأولاد الطريقة الصحيحة في استعمال السواك بادئ الأمر، فإن هذا يحصل لهم بالمران والتعود، وإن لم يكن في استعمال السواك سوى الاقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - فإنه يكفي ذلك دافعاً ومحركاً للاهتمام به، والمجاهدة في جلبه، وحفظه، وتعويد الأولاد على استعماله.
ومما يلاحظ على بعض الأطفال في مسألة النظافة: إهمال تنظيف اليد والفم بعد الأكل، وخاصة قبل النوم، ووجود شيء من الدسم أو الدهن على يد الولد أو ملابسه أثناء النوم، يؤدي في بعض الأحيان إلى جلب بعض القوارض والدواب إلى فراش الولد، وربما لدغ من بعضها، وقد كان يكفي توجيه الولد إلى غسل يده وفمه بالصابون قبل النوم، وإزالة الأوساخ وبقايا الطعام، وقد جاءت السنة المطهرة بهذا التحذير والتنبيه، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا نام أحدكم وفي يده ريح غمر، فلم يغسل يده فأصابه شيء، فلا يلومن إلا نفسه)).(1/349)
ولا يضر الأب أن يمرعلى أولاده كل ليلة في غرفهم قبل أن يناموا، ويتابع نظافتهم واهتمامهم بذلك، ولا بأس أن يشم أيديهم، فمن وجد في يده رائحة بقايا الطعام أمره بغسلها، ومن لم يستك، أو يستعمل الفرشاة، أمره بالمسارعة بتنظيف أسنانه قبل النوم، وهذا العمل لا يكلف الأب أكثر من بضع دقائق يقضيها في هذه المتابعة الشيقة، خاصة وأن الأولاد يتنافسون في كون كل واحد منهم أنظف من أخيه، وأن رائحة يده أطيب من غيره، ويضفي الأب على هذه المتابعة جوا من الملاطفة والمداعبة، متجنبا السخرية والتعنيف.
ويحبب الأب إلى أولاده الطيب، كالعود، والورد، والعنبر، والمسك، وغيرها مع تجنب العطور المصنعة والممتزجة بالكحول، لأن أكثر أهل العلم يقولون بنجاستها، والأب يحتاط لأولاده في جميع القضايا، ومن تعود استعمال هذه العطور الطبيعية في صغره، فإنه في العادة لا يميل إلى غيرها في كبره. وهذه العطور التي كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان يحبها ويقول: ((حبب إلي من الدنيا النساء والطيب وُجعل قرة عيني في الصلاة)).
وقد وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدة أربعين ليلة كحد أقصى لتقليم الأظفار والأخذ منها، والأب يحرص على تعهد ولده، وأمر الأهل بتنظيف أظفار الولد، والأخذ منها أولا بأول، خاصة بالنسبة للرضيع، فإنه في العادة يخدش وجهه بأظفاره. أما الولد الكبير إذا أهملت أظفاره حشيت تحتها الأوساخ، والقاذورات حتى تتعفن، فتضره، وتؤذيه.
18 - أهمية اللعب والرياضة لصحة الطفل العامة
يهتم الإسلام بإعداد أفراده إعداداً متكاملاً من جميع النواحي الخلقية، والفكرية، والجسمية، ولا يقتصر على ناحية منها دون أخرى.(1/350)
ومن الجوانب التي يهتم بها هذا الدين، ويألوها اهتماماً: القوة في البدن، مع كمال الهيئة، وانتصاب القامة. فالقوة الجسمية ـ مع العلم ـ أساس للقيادة والرئاسة، وهذا مستنبط من قول الله تعالى ـ عند بيان سبب اختيار طالوت للملك على قومه ـ: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ...} [البقرة:247]. فلا بد للقيادة من العلم النافع الصحيح، والقوة في الجسم.
وجاء الأمر من الله U بالإعداد، والاستعداد بكل أنواع القوة حسب الإمكانات المتوافرة، فقال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ …} [الأنفال:60]. وجاء لفظ ((قوة)) في الآية نكرة، غير معرفة، لتفيد إعداد كل ما يدخل تحت معنى القوة من إعداد جسمي للمقاتلين، أو إعداد فني بالخطط والدراسات، أو إعداد تجهيزي بالسلاح والعتاد. وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام مادحاً المؤمن القوي:(( المؤمن القوي خيرأوأفضل وأحب إلى الله U من المؤمن الضعيف وكل خير)).
وبناء على هذه الأهمية الخاصة بالجسم، فإن كل نشاط مشروع يفيد الجسم ويقويه يعد نشاطاً مستحباً ومطلوباً، فاللعب والرياضة وأنواعهما المشروعة: تصبان في هذا السبيل، وتعدان رافداً جيداً لتقوية البدن، وصلابة العظام، وتنمية العضلات، فإن مقصود الجهاد والإعداد هو نفس المقصود والغاية من الرياضة وممارستها، فإن الرماية، والسباحة، وركوب الخيل، وسائل من وسائل الجهاد.
والأب يحرص على رعاية أولاده من هذه الناحية، ويوجههم إلى أفضل السبل المشروعة للاستفادة من طاقاتهم الحيوية، وقدراتهم الجسمية بما يعود عليهم، وعلى الأمة، بالقوة والمنعة.(1/351)
ولا ينبغي تذرع بعض الآباء بالخوف على أولادهم، فيمنعونهم من ممارسة النشاطات البدنية، فإن هذا الخوف يجعلهم اتكاليين، ضعيفي الإرادة والقدرة، كما أن تحقق هذا المطلب للآباء بعيد المنال؛ لأن الحركة عند الطفل غريزة قوية، ومن المستحيل التفكير في الحد منها، أو كبتها.
وقد راعت الشعوب والأقوام المختلفة حاجة الأطفال الصغار إلى اللعب والحركة منذ أقدم العصور، فهذه الحفريات تثبت أن الفراعنة كانت لديهم ألعاب للأطفال من طين، وفخار، وخشب، وغيرها، وعندما جاء الإسلام، وظهر نوره في المدينة المنورة، أقرَّ رسول الله r بعض أنواع النشاطات البدنية، كسباق الخيل، وكان يشرف على ذلك بنفسه. وكان عليه الصلاة والسلام يقوم ببعض النشاطات البدنية الأخرى مع الأولاد، فكان ((يَصفُّ عبدالله وعبيدالله وكثيراً من بني العباس ثم يقول: من سبق إليَّ فله كذا وكذا، قال: فيستبقون إليه فيقع على ظهره وصدره فيقبلهم ويلزمهم)). وهذا من أبلغ ما نُقل عنه عليه الصلاة والسلام في إقرار الرياضة، وممارسة النشاطات البدنية المختلفة مع الأولاد. وقد سبق عليه الصلاة والسلام بفعله هذا رجال التربية الحديثة الذين اعتبروا اللعب ضرورة هامة لنمو الفرد الجسمي والعقلي.
ومن هنا تكون الرياضة واللعب جائزتين في الإسلام، وتجوز ممارستها وتتأكد بالنسبة للأطفال؛ لحاجتهم الطبيعية إلى الحركة واللعب.(1/352)
ويعتبر من السهل نقل إجماع أكثر رجال التربية على أهمية اللعب والحركة ودورهما الهام في تنمية قوى الطفل، الجسمية، والعقلية، والخلقية، والاجتماعية. ففي مجال التنمية الذهنية للطفل: ((أثبتت الأبحاث أن الأطفال الذين تكون لديهم الإمكانات والفرص للعب … تنمو عقولهم نمواً أكثر وأسرع من غيرهم ممن لم تتح لهم هذه الفرص وتلك الإمكانات)). وفي مجال تنمية القوى الجسمية وتنشيطها، فإن لعب الأطفال يكسبهم مهارات حركية، فالقفز، والجري، والتسلق، والتسابق وغيرها من النشاطات الجسمية يكتسب منها الطفل قدرات حركية، إلى جانب أن اللعب يساهم مساهمة كبيرة مع الغذاء في زيادة وزن الطفل، وحجمه ويساعد على نمو أجهزته الجسمية المختلفة.
أما في الجانب الاجتماعي والخلقي فإن ممارسة الطفل للعب وسط مجموعة من الأقران، يساعده على التكيف الاجتماعي، وقبوله آراء الجماعة، وإيثارها على النفس، والتخلص من الأنانية وحب الذات، إلى جانب ظهور القيادات بين الأولاد، وتعلم أساليبها وطرق ممارستها. كما أن المباريات المختلفة بين الأطفال تعتبر مجالاً جيداً لصرف المشاعر العدوانية عندهم. وممارسة الطفل للأدوار الاجتماعية المختلفة كالأب، والأم، والطبيب، والجندي، في لعبه التمثيلي: يجعله يتقلب بين هذه الشخصيات المختلفة، فيكتسب منها أدباً اجتماعياً في كيفية التعامل مع هذه الفئات، والشخصيات الاجتماعية المختلفة.
ومن فوائد اللعب أيضاً: أنه يساعد الطفل على معرفة البيئة من حوله، فيكتشف أولاً غرفته التي يعيش فيها ومحتوياتها، ثم يتعرف على باقي غرف البيت، وما فيها من أثاث، ويتدرج في ذلك ليخرج فيتعرف على ما يحيط بالبيت من منازل، وحدائق. وهكذا فالطفل في نمو مطرد، ومستمر، وظاهر حركته اللعب واللهو، ولكنه لعب مفيد، يزيد في معرفته ومعلوماته.(1/353)
وقد أشار إلى أهمية اللعب الإمام الغزالي، وتنبه إلى ذلك من جهة حث الولد على طلب العلم، وعدم التنفير منه فقال رحمه الله: ((وينبغي أن يؤذن له بعد الانصراف من الكتاب أن يلعب لعباً جميلاً يستريح إليه من تعب المكتب بحيث لا يتعب في اللعب، فإن منع الصبي من اللعب وإرهاقه إلى التعليم دائماً يميت قلبه ويبطل ذكاءه وينغص عليه العيش، حتى يطلب الحيلة في الخلاص منه رأساً)). وهذه لفتة هامة من الإمام الغزالي تبين أثراللعب في النشاط الفكري للولد، وأن فيه راحة للعقل من كثرة التلقي، كما أن في إهماله إيذاء للولد وتضييقاً عليه في عيشه، ودفعاً له لاتخاذ الحيلة غير المشروعة.
وقال رحمه الله حول أهمية الحركة والرياضة للولد: ((ويُعوَّد في بعض النهار المشي والحركة والرياضة حتى لا يغلب عليه الكسل))، وقال بعض الحكماء: ((الخلق المعتدل، والبنية المتناسبة دليل على قوة العقل وجودة الفطنة))، وقد أثبتت التجارب ما أشار إليه الغزالي من أن هناك علاقة بين حركة الجسم والعقل،
((فالتمرينات العضلية التي تسبق العمل الفكري تؤدي إلى تحسينه غالباً وزيادة نشاطه))، كما أنها في الجانب الآخر ((تنمي كتلة العضلات، وتزيد من قدرتها على المقاومة، كما تزيد ضخامة العظام، وتيسر سرعة الحركة ورشاقتها)).
ومما تقدم نجد أن الرياضة البدنية ضرورية لإعداد الأفراد اللائقين بدنياً، وعقلياً، واكتساب القامة المعتدلة، وإعطاء الجهاز الدوري، والدورة الدموية كفاءة جيدة مع حماية الجسم من الأمراض، ولقد نص الميثاق الدولي للتربية البدنية والرياضية في مادته الأولى على أن الرياضة حق أساسي للجميع، وأنه يجب توفير برامج للتربية البدنية والرياضية للأطفال، في سن ما قبل المدرسة.(1/354)
وهذه أدلة كافية وواضحة على أهمية هذا الجانب في حياة الولد، حيث يتحمل الأب المسؤولية الكبرى في إعداد وتكوين الجو المناسب لابنه، لاستغلال طاقاته وقدراته الجسمية في ممارسة الألعاب والنشاطات البدنية المختلفة التي تعود عليه بالنفع.
20 - الألعاب والرياضات المباحة للطفل
الأب المسلم ملزم بأن يتقيد في جميع نشاطات وألعاب أولاده بما هو مشروع، ويتجنب ماهو محرم اتخاذه من الألعاب.
ولقد جاءت السنة المطهرة بأنواع من الألعاب الجائزة التي كانت تمارس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فمنها ما قام بممارسته شخصيا، ومنها ما أقره، وأجراه، ولم ينكره. وهذه كلها تدخل في باب اللعب المباح. ومن هذه الألعاب والرياضات المباحة التي وردت في السنة: اللعب والرقص بالحراب في الأعياد والمناسبات، فقد أقر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا النوع من اللعب في مسجده،، وسمح للسيدة عائشة رضي الله عنها أن تستمتع بالنظر إليهم وهم يلعبون. وهذا النوع من اللعب فيه رجولة، وبطولة. فالحجل أوالرقص جائز إذا خلا من الميوعة والتخنث. وهذا النوع من اللعب يمكن أن يمارسه الأولاد الكبار، مراعين استبدال الحراب الحديدية بأعواد من الخشب الرقيق لضمان حمايتهم من احتمال الإصابة على الرأس، أو الجسم، بضربة مؤلمة. مع توجيه الأب لهم بتجنب الخشونة أثناء اللعب.(1/355)
ومن الألعاب والرياضات المباحة أيضا، والتي يمكن أن يمارسها الأولاد الكبار - تحت إشراف الأب -: السباق على الأقدام، فهو جائز بالكتاب والسنة وإجماع الأمة فقد ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مارسه شخصيا أكثر من مرة، مع السيدة عائشة رضي الله عنها في بعض أسفاره. وقد تقدم ذكر الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مقدمة هذا المبحث، والمتضمن قيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بصف أبناء العباس رضي الله عنهم ثم أمرهم وحثهم على التسابق إليه، فيستبقون ويقعون فيقبلهم. وهذا دليل واضح على جواز هذا النوع من النشاط، ووضع جوائز تشجيعية له لإثارة النشاط، وبث روح التنافس الشريف بين الأولاد. فيستحسن للأب أن يصطحب أولاده في نزهة، من وقت لآخر فيمارس معهم هذا النشاط الترفيهي السهل، الخالي من التكلف. ويعطي الفائز من الأولاد جائزة تشجيعية على ذلك.
أما رياضتا الرماية والسباحة، فقد تضمنهما الحديث الذي روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال فيه: ((حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتابة والسباحة والرماية وأن لايرزقه إلا طيبا)). وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل الرمي، منها ما رواه البخاري في صحيحه عندما شاهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفرا من أسلم ينتضلون فقال لهم: ((ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا)). وفي هذا تحريض، وحث على تعلم الرمي، والتدرب عليه.
ويمكن للأب ممارسة هذه الرياضة الإسلامية مع أولاده عن طريق استخدام القوس والسهام، كما كان الحال على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد أصبح هذا النوع من الرياضة معروفا اليوم، وله هواته ومحبوه.
كما يمكنه استخدام بندقية الصيد التي تعمل بضغط الهواء، فإن خطرها هين، سوى أنها تحتاج إلى قليل من العناية والانتباه تحت إشراف الأب. ويستحسن ممارسة هذا النوع من النشاط في الخلاء بعيدا عن المارة، أو على سطح المنزل مع اتخاذ أسباب السلامة اللازمة.(1/356)
أما السباحة فهي نشاط رياضي حيوي مفيد للبدن، ومن حق الولد أن يتدرب عليها ليتعلمها، ويكون ذلك من خلال اصطحابه إلى أحد الشواطئ النقية الآمنة، أو من خلال المشاركة في أحد الأندية الرياضية المحافظة.
ويخصص الأب يوما في الأسبوع لممارسة هذه الرياضة الإسلامية العريقة. وإن توفر للأب إمكانية تأمين حوض للسباحة في فناء منزله، فعليه مراعاة أن يكون عمقه مناسبا، وحجمه مناسبا، وأن يأخذ بأسباب السلامة، وأهمها: إشرافه المباشر على نشاط الأولاد في الحوض، وأن يكون الحوض في مكان يمكن إغلاقه، فلا يفتح إلا بإذن الأب، مع مراعاة جوانب السلامة الأخرى المكملة لذلك من تأمين أطواق النجاة، وطهارة المياه ونظافتها من الآفات.
ولا بأس باللعب بالعرائس، والدمى المصنعة خصيصا للأطفال الصغار. فقد كان للسيدة عائشة في صغرها لعب من بينها فرس له جناحان تلهو به، وقد أقرها الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ذلك ولم ينكر عليها. فاستعمال هذه الدمى المجسمة كلعب للأطفال لا بأس به، ولكن يراعي الأب حسن اختيار نوع اللعبة لولده، فلا يكون اختياره لها عشوائيا، فما يصلح لعبة للبنت، لا ينفع دائما للولد.
ويميل الأطفال إلى اللعب بالأرجوحة، وهو من اللعب الجائز الذي كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد كانت السيدة عائشة رضي الله عنها تلعب بها مع صاحباتها قبل دخول النبي - صلى الله عليه وسلم - بها، ويمكن للأب تأمين أرجوحة للأولاد، يضعها في فناء المنزل، أو على السطح، ويعطي أولاده فرصة للهو واللعب بها، فإن لم يتمكن من شرائها فإن من السهل تصنيعها من الخشب والحبال، فلا تكلفه إلا اليسير من المال.(1/357)
ومن الألعاب المحببة للأولاد أيضا اللهو بالرمل، والشغف والولع به، فلا يكاد يرى الطفل - خاصة الصغير - شيئا من الرمل في مكان ما إلا وينطلق إليه لاهيا به دون ملل. وهو ولله الحمد من اللعب الجائز شرعا. وقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على صبيان يلعبون بالتراب فذهب بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ينهونهم عن ذلك، فقال: ((دعهم فإن التراب ربيع الصبيان)). وهذا الحديث وإن كان غير صحيح إلا أن معناه صحيح، لعظم شغف الصبيان بالتراب، وحبهم له، فهو كالربيع عندهم. والخلاف الوارد في موضوع التراب خلاف حول جواز أكله، وليس ثمة خلاف حول جواز لعب الصبيان به. فإعطاء الولد فرصة في بعض الأوقات ليلهو بالرمل يعد نشاطا جيدا، خاصة بالنسبة للأولاد الصغار. ومن أفضل أماكن اللعب بالتراب: شواطئ البحار حيث يقل الغبار، ويكون التراب نقيا لكثرة احتكاكه بالماء أثناء عمليتي المد والجزر. وخلط الرمل بالماء لطيف جدا ويحبه الأولاد.
وينبغي أن يتجنب الأب زجر الأولاد عند مبالغتهم في اللعب بالتراب أثناء النزهة على شاطئ البحر، أو الصحراء. وذلك لأن الوقت وقت ترفيه ولعب وليس وقت انضباط، وليس ثمة وقت ينطلق فيه الأولاد بلا قيود إلا في مثل هذه النزهات البريئة، فلا بد من التغافل عنهم بعض الشيء.
ومن النشاطات الجائزة أيضا، الرسم والتشكيل، حيث يجوز رسم الأشجار والأحجار، دون ذوات الأرواح. كما يدخل في ذلك استعمال التصوير الفوتوغرافي لمعالم الطبيعة وجمالها فهذا جائز بلا خوف. ومن المفيد أن يتعلم الولد ((عملية التحميض))، وكيفية استخراج الصور من الأفلام، فإنها عملية مشوقة ومسلية، وسهلة التعلم، ولا تحتاج إلى خبرة كبيرة.(1/358)
وقد ازدهرت النشاطات الرياضية اليوم، واتسعت مجالاتها. وأدخلت إليها ألعاب وهوايات كثيرة، ومن هذه الألعاب: رياضة حمل الأثقال، وألعاب القوى الأخرى، وكرة القدم، واليد، والسلة، والطائرة، وكرة المضرب، وتنس الطاولة، وغيرها.
وهذه الألعاب في جملتها لا تتعارض في فكرتها مع التصور الإسلامي العام للألعاب والنشاطات الرياضية. إنما التعارض يحدث في قضايا فرعية لا علاقة لها بأساس اللعبة وفكرتها. مثل كشف العورة، والتعصب لفريق معين، والخصام والمشادة أثناء اللعب، وضعف الروح الرياضية.
وبإمكان الأب التغلب على هذه الأخطاء الفرعية، وتوفير بعض هذه الألعاب لأولاده ….، وإعطاؤهم الفرصة لممارستها معاً، أو مع بعض أقاربهم، أو أبناء الجيران فيمارسونها في فناء البيت، أو في النزهة. ولا بأس بالانضمام إلى فريق المدرسة الرياضي، أو إلى ناد من النوادي الرياضية، إذا تيقن الأب من صلاح القائمين على هذه النشاطات، وأن فائدتها المرجوة للولد أكبر من الضرر المتوقع منها.
وتأمين مثل هذه الألعاب في البيت لمن كان مستطيعا من الآباء يعد أفضل وأحسن، خاصة وأنها لا تكلف كثيرًا. فإن الفناء الذي يبلغ طوله عشرين إلى خمس وعشرين مترا، وعرضه عشرة إلى خمسة عشر مترا، يمكن أن يكون ملعبا جيدا لأكثر من لعبة. فكرة القدم، والسلة، واليد، والطائرة، وكرة المضرب، يمكن أن تمارس في هذه المساحة، كل لعبة في وقت من الأوقات، وذلك لأن شكل المستطيل هو شكل ملاعب هذه الرياضات، فأي مساحة مستطيلة مناسبة الحجم تصلح أن تكون ملعبا لإحدى هذه الألعاب، مع التحكم في عدد اللاعبين بالنسبة للمساحة.
أما بالنسبة لبعض الأجهزة الرياضية مثل أدوات ألعاب القوى فيمكن أن توضع في غرف الأولاد لصغر حجمها، علما بأن رياضة حمل الأثقال، ومعرفة من يمكنه رفع الأثقل وزنا جائزة.(1/359)
وبهذا الأسلوب يستغل الأب طاقات الأولاد، وأوقات فراغهم بما يعود عليهم بالفائدة، إلى جانب إشباع نهمهم من ممارسة رياضاتهم المفضلة في جو طاهر بعيدًا عن التوترات، والمضايقات، والسباب، الذي يصاحب عادة أجواء بعض أندية الأحياء السكنية أو الأندية الرسمية.
ومن الرياضات الإسلامية المعروفة: رياضة ركوب الخيل، وهي رياضة مشهورة على المستوى العالمي في القديم والحديث، وتدريب الأولاد على ركوب الخيل يعتبر نشاطا رياضيا جيدا، حيث يمكن للأب تسجيل ولده في أحد الأندية المخصصة لهواة ركوب الخيل، فيصطحبه من وقت لآخر لممارسة هذه الهواية.
ولا ينبغي حصر رياضة الركوب والقيادة على الخيول فقط، بل يتعداها إلى كل ما يمكن أن يركب، ويقاد، ويتخذ أداة للصيد، أو الحرب، فالسيارات تدخل في هذا العموم أيضاً.
والأولاد يميلون ويرغبون في اكتشاف طريقة قيادة السيارات، ويتمنى أكثرهم قيادة السيارة، وتحريك عجلة القيادة. وليس ثمة محظور شرعي يتذرع به الأب لمنع تعليم ولده الكبير قيادة السيارة، وإشباع رغبته في هذا الجانب، وحمايته من احتمال إغراء بعض المنحرفين له بقيادة السيارة لينالوا منه مأرباً خبيثاً.
وربما أدى منع الولد من تجربة قيادة السيارة: إلى سرقتها على حين غفلة من الأب، وربما أدى ذلك إلى كارثة لا تحمد عقباها.
والأولى قيام الأب في بعض الأوقات بتعليم ولده قيادة السيارة من باب تعليمه ركوب الخيل، وإعطائه فرصة إشباع رغبته في ذلك، مراعيًا أن يخرج به للتعلم بعيدًا عن تجمعات الناس، وازدحام السيارات.
والمقصود هنا أن الألعاب الرياضية والهوايات المشروعة كثيرة لا تحصر، ويمكن الاستغناء بها عن الألعاب المحرمة أو المكروهة، فهذا من مسؤوليات الأب داخل أسرته ومكان سلطانه
21 - الألعاب والرياضات المحظورة على الطفل(1/360)
جاءت الشريعة الإسلامية بتحريم بعض الألعاب التي كانت على عهد رسول الله r مثل اللعب بالنرد؛ وهو عبارة عن قطعتين مكعبتي الشكل، على كل وجه من وجوهها رقم، يبدأ من العدد واحد، وحتى العدد ستة. قال عنها عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام مسلم في صحيحه: ((من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه))، وفي رواية صحيحة عند الحاكم في المستدرك: ((من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله))، وفي رواية أخرى له أيضاً بلفظ: ((من لعب بالكعاب أو قال بالكعبات فقد عصى الله ورسوله)). وألفاظ الأحاديث كلها تخص النرد المعروف، والمسمى اليوم بالزهرأو الطاولة. والنردشير: هو النرد، والكلمة أعجمية معربة. والكعاب: هي أيضاً فصوص النرد.
وهذه الأحاديث واضحة في تحريم اللعب بالنرد مطلقاً، وقد اتفق السلف رضوان الله عليهم على حرمة اللعب به؛ ونقل بعضهم الإجماع على ذلك، وهذا لأنه يورث العداوة والبغضاء عند اللاعبين، ويصدهم عن الذكر والصلاة، ويشغل القلب بغير الله U.
ويقاس على ذلك الشطرنج، فقد ذهب جمهور العلماء إلى تحريمه والمنع منه، ولعل علة تحريمه كعلة تحريم النرد؛ لما يوقعه في النفس من الشحناء، والبغضاء، والكراهية، والالتهاء عن الذكر والعبادة. وقد ذكر البيهقي رحمه الله أقوال السلف في ذمه وكرهه ـ بعد أن ذكر أقوال بعض الذين رخصوا فيه ـ ثم بين أن الأكثر على حرمته، ومنهم من يُحتج بقوله.
وهاتان اللعبتان المشهورتان، يحذرالأب المسلم من تقديمهما لأولاده، أو السماح لهم باللهو، أو اللعب بهما؛ بل عليه أن يؤمن لهم من الألعاب المباحة ما يشغل فراغهم، ويسد حاجتهم. ففي ما أباح الله من اللهو كفاية. ولا يلتفت إلى الخلاف في هذه المسألة، فإن الاحتياط في مثل هذه القضايا مطلوب، خاصة وأن مذهب الجمهور التحريم والمنع؛ كما تقدم.(1/361)
ومن الألعاب المنهي عنها أيضاً، والتي كانت على عهد رسول الله r: اللعب بالحمام على سبيل تطييرها، وإضاعة الوقت بها. فقد قال عليه الصلاة والسلام عندما رأى رجلاً يتبع حمامة: ((شيطان يتبع شيطانة)). أي يقفو أثرها ويلعب بها، وسُمِّي شيطاناً؛ لاشتغاله بما لا يعنيه، وسُمِّيت شيطانة، لأنها ألهته عن الحق، وشغلته عما يهمه في دينه ودنياه. وهذا الفعل من عمل أهل البطالة قليلي المروءة. فيكره اللعب بها. أما اتخاذ الحمام ونحوه للأكل، والتكاثر، والأنس بها فلا بأس.
ويجنب الأب أولاده تصوير وتجسيم ذوات الأرواح؛ لورود النهي عن ذلك، ويشغلهم بالرسم والتصوير المباح للحجر أوالشجر، ويصرفهم عن هذه الألعاب بالبدائل المباحة.
ويحذر الأب من مشاركة أولاده في بعض الألعاب التي تدخل في القمار، مثل شراء ما يسمى ((باليانصيب)) المعتمد على الحظ في كسب المال، فهو من الكسب المحرم، إلى جانب أنه يضيع المال، وكذلك يمنعهم من جميع أنواع الرهان، إلا ما ورد إباحته في الشرع من أمور الإعداد للحرب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر))؛ فالتسابق بغير عوض جائز في جميع أنواع الرياضات، أما ما وضع له عوض، فإنه لا يجوز، إلا فيما حدده الحديث بالتسابق بين الخيل، والإبل، وفي الرمي؛ لأنها من آلات الحرب المُرغَّب في تعلم فنونها.
وقد جاءت الحضارة المادية اليوم بألعاب كثيرة مباحة في أصلها وفكرتها، ولكنهم أضافوا إليها إضافات منحرفة، وصبغوها بصبغة قبيحة مذمومة. ومن هذه الألعاب المصارعة بين شخصين، فهي في الأصل جائزة، إنما الممنوع الذي يخرجها عن كونها جائزة شرعاً: الوحشية، والفوضى التي تُشاهد في حلبات المصارعة في هذه الأيام، إلى جانب محظورات كشف العورة.(1/362)
وأما المصارعة الصحيحة والمباحة ((تكون في إظهار القوة بالتغلب على الخصم وطرحه على الأرض والتحايل في صد هجمات العدو، وعدم تمكينه من النيل منه، وكل ذلك يتم بمهارة وفن، لا بالضرب واللكم)).
ويدخل أيضاً في المنع رياضة الملاكمة لما فيه من الخشونة، والوحشية المفرطة. وإلحاق الأذى بالخصم، خاصة في الرأس؛ لوقوع الضرب عليه، وربما أتلفت هذه الرياضة الوحشية عين الرجل، أو أنفه، أو سببت له ارتجاجاً في المخ. وتنفير الأولاد من ممارستها، ومشاهدتها، أمر يتولاه الأب ويحذر من إهماله.
كما أن هذه الأنواع من الرياضة تخالف ما تهدف إليه المواثيق الرياضية المتفق عليها من تقوية البدن، وحمايته من الأمراض، وإكسابه الرشاقة، وتنمية العضلات، وغير ذلك مما نصت عليه هذه المواثيق الرياضية؛ فإن مباراة واحدة من مثل هذه تذهب بكل ما بناه المصارع أو الملاكم في سنوات، وربما حرمته هذه الجولة من ممارسة الرياضة بالكلية. فلا شك في أن مثل هذه الممارسات الرياضية لا يقرها الإسلام، ولا يجيزها الشرع ولا العقل السوي.(1/363)
وهناك بعض الألعاب الخطرة التي يمارسها بعض الأطفال دون روية، مثل اللعب بالآلات الحادة، أو الأدوات الحديدية القوية، وتخويف بعضهم البعض بها، وهذا النوع من اللعب جاء النهي عنه على لسان رسول الله r حيث قال: ((من أشار إلى أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه؛ حتى وإن كان أخاه لأبيه وأمه))، وبين عليه الصلاة والسلام سبب المنع في رواية أخرى قال فيها: ((لا يشير أحدكم إلى أخية بالسلاح. فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان ينزع في يده فيقع في حفرة من النار)). فالشيطان متربص بالإنسان أثناء حمله السلاح على أخيه، فيرمي في يده، ويحقق الضربة والرمية، فيناله الذم والخسران. فإذا كان هذا المنع في حق الكبير فكيف بالولد الصغير الذي لا يعقل ؟؛ لهذا يحرص الأب على تخلية مكان اللعب من جميع الأدوات الحادة أو القاسية، مثل قطع الحديد، أو الأخشاب القوية الثخينة، أو الأحجار، أوغيرذلك مما يمكن أن يؤذي، ويبالغ في ذم من ثبت عليه من الأولاد ارتكاب هذا المحظور، ويعاقبه إن احتاج الأمر، متخذاً أسلوب التدرج في إيقاع العقوبة.
ومن هذه الألعاب الخطرة أيضاً: اللعب بربط الحبل على العنق ثم شده، أو وضع الرأس داخل كيس من البلاستيك ثم ربطه، أو قذف بعض قطع الموالح في الهواء ثم التقاطها بالفم مباشرة، فهذه الألعاب وما شاكلها يمكن أن تذهب بحياة الولد، وتفجع أهله به. وتحذير الأولاد منها، ونهيهم عن مزاولتها، واجب على الأب يقوم به تجاه أولاده، ويحذر كل الحذر من أن تصدر عنه مخالفة لما يقول، كأن يُشاهد وهو يقذف بقطعة من الفستق في الهواء ثم يلتقطها بفمه أمام الأولاد، فإنهم يقلدونه فوراً، إما بحضوره ووجوده أو في عدم وجوده.(1/364)
وينبغي أن يعرف أن كل لعبة أو رياضة مباحة إذا عارضت شيئاً من مفاهيم الإسلام كانت محرمة. فالرياضة التي تتسبب في تأخير الصلاة، أو إيقاع الشحناء والبغضاء بين المسلمين، أو الرياضة التي تؤذي الجسم وتتلفه، أو الرياضة التي تستهلك جميع وقت المسلم، كل هذه الرياضات وإن كانت من النوع المباح تصبح محرمة لهذه الأسباب التي صاحبت ممارستها.
فهذا الهوس الكروي، والتعصب، والمشاتمة، وغيرها من مظاهر الخطأ والانحراف، التي تصاحب عادة المباريات الكروية: لا توافق الإسلام، لأنها تعارض أبسط مفاهيم الأخوة الإسلامية ومتطلباتها، وربما سببت الفرقة والتناحر، أو القتل، ففي بريطانيا وقع اثنان وأربعون قتيلاً بسبب مباراة في كرة القدم، وهذا لاشك ينافي ويعارض مفاهيم هذا الدين الحنيف الذي يأمر بالأخوة بين الأفراد، ونبذ الخلاف، والفرقة، والعمل على تأليف القلوب، كما أنها تعارض مفاهيم الإسلام في تحديد القصد والغاية من ممارسة الرياضة، إذ إن الرياضة عند المتعصبين غاية في حد ذاتها، أما عند المسلم الواعي فهي وسيلة لتقوية البدن، والإعداد للجهاد.
لهذا يحرص الأب على بث هذا المفهوم في روع الأولاد، وإشعارهم دائماً بأن الرياضة وسيلة إلى الجهاد بتقوية البدن وإعداده، وليست غاية في حد ذاتها، مراعياً طبيعة الممارسة، ووقتها وآثارها على الأولاد، ومتجنباً الألعاب والرياضات المخالفة للدين والأخلاق الإسلامية.
22 - اختيار اللعبة التربوية المناسبة للطفل(1/365)
يتولى الأب توجيه ابنه لاختيار أفضل اللعب وأنفعها له، والتي يكون لها تأثير طيب على الولد، إذ أن للعبة أثراً إيجابياً وآخر سلبياً على نفس الولد. فالألعاب الميكانيكية التي تعمل بالزمبرك تثير الخوف عند الطفل الصغير الذي لم يبلغ الخامسة، وسرعان ما يحطمها. واختيار لعبة تجر على العجلات ـ مثلاً ـ لطفل في الخامسة: يعطيه إحساساً بالشعور بالقوة، إذ إنه هو الذي يُديرها، ويقودها، ويكون التأثير هنا أفضل لنفس الولد. كما أن القوالب الخشبية تعتبر أكثر الأدوات إثارة وتنبيهاً للأطفال الصغار، لتنوع إمكانية استخدامها، واللهو بها.
ولا بأس بشراء الألعاب المجسمة لصور الحيوانات، كالقطط، والغزلان، والخيول، والأبقار، والدواجن، وغيرها المصنعة خصيصاً للأطفال. وذلك لورود جواز اقتناء هذه الألعاب، وإقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم - للسيدة عائشة في صغرها على اللعب بفرس له جناحان. ويحذر الأب عند اختيار اللعبة من هذا النوع: أن يقع اختياره، أو اختيار ولده على صورة خنزير، أوكلب، أو نوع من هذه الحيوانات النجسة الخبيثة، وذلك لقطع صلة الولد بهذه الحيوانات المذمومة في الشرع، فلا يقع في نفسه أي ميل لها بالكلية، ولا شك في أن اختيار دمية كلب، أو خنزير، أو فأر، فيه إيحاء للطفل باستلطاف هذه الحيوانات والدواب المقززة للنفوس السوية.
ويراعي الأب عند اختيار اللعبة أن يكون لها هدف تربوي مفيد، فالأطفال في السادسة يميلون إلى الألعاب التركيبية القابلة للفك والتركيب، فيحاول الأب عند شرائه للعبة الولد أن يقع اختياره على هذا النوع من الألعاب، لأنها تثير تفكيرالولد واهتمامه إلى مدة أطول، وفائدتها للولد أكبرلاستخدامه عقله في فكها وتركيبها، وهي أكثر إثارة له في هذا السن من الألعاب التي تلف أو ترقص، لأن أثرها يزول سريعاً.(1/366)
والأب يستوحي من ميول ولده وتصرفاته: نوع اللعبة التي تناسبه، وتكون أكثر نفعاً له. فالولد الذي يرغب في القفز، وتمرينات الرشاقة، يمكن أن يؤمن له السرير الخاص بالقفز. والولد الذي يميل إلى التسلق في أثواب سترة النافذة، يمكن أن تؤمن له ألعاب في هذا المجال، مثل الحبل ذي العقد المخصص للتسلق. فيمارس الولد رياضته ولعبته المفضلة دون إزعاج لغيره. والولد الذي يميل إلى فك الألعاب، واكتشاف بواطنها، تُؤمَّن له ألعاب قابلة للفك والتركيب؛ ليشبع نهمه. وهكذا يراعي الأب ميول الولد ورغباته مستوحياً ذلك من مشاهداته له وملاحظاته لسلوكه وتصرفاته.
ويُنصح الأب أيضاً باختيار الألعاب التي تنمي مهارات القراءة والكتابة والحساب عند الأولاد في سن المدرسة، أو ما قبلها بقليل، ليتهيأ للعلم، ويكون لعبه مفيداً هادفاً، مثل الألعاب التي تعتمد على تركيب الكلمات، أو الجمع والطرح، ونحو ذلك.
وبالنسبة للولد الكبير في سن الطفولة المتأخرة، فإنه يميل عادة إلى تعلم المهارات اللازمة لشؤون الحياة ومتطلباتها، فإشراكه في إصلاح الباب، أو النافذة، أو تغيير إطار السيارة، أو الكشف على الماء والزيت فيها، وتعليمُه بعض مهارات النجارة والميكانيكا، وتأمين أجهزتها ومستلزماتها الفنية له، كل هذه الإجراءات التربوية الموجهة: يمكن أن تنمي في الولد جوانب شخصيته، وتوجه طاقته الحركية والفكرية المتوقدة نحو ما يعود عليه بالخير والفائدة، ويكون اختيار الأب للنشاط أو اللعبة مبنياً على الوعي الصحيح بحاجات الطفولة، وترسم الأهداف والغايات المنشودة.(1/367)
وهناك أنواع من الألعاب قد غزت أماكن بيع لعب الأطفال، وهي الألعاب الإلكترونية التي بدأت صناعتها في القرن التاسع عشر، فما أن حل عام 1981م حتى أصبح كمبيوتر المنزل والجيب متاحاً للجميع. وتعتمد هذه الألعاب على سرعة الإنتباه، والتفكير، والتركيز، والتوافق بين اليد والعين. ومن مميزاتها أنها تُلعب في أي وقت، ولا تحتاج في بعض الأحيان لأكثر من شخص واحد، إلى جانب أن بعضها سهل الحمل، رخيص السعر.
وقد اكتسبت هذه الألعاب الإلكترونية شهرة واسعة، وقدرة فائقة على جذب اللاعبين وإغرائهم مما أدى إلى إضاعة كثير من أوقاتهم، وأودت ببعضهم إلى حد الإدمان المفرط مما اضطر بعض الدول إلى تحديد سن الأشخاص الذين يُسمح لهم بممارسة هذه الألعاب في الأماكن العامة، وذلك حفاظاً على الأطفال الصغار من إغراء هذه الألعاب وجذبها.
والظاهر مما تقدم أن لهذه الألعاب جانبين أحدهما مسلٍ يمكن أن يشغل بعض فراغ الولد، والآخر سيئ مضر، لخشية الإدمان وإضاعة الوقت في اللعب، مما يترتب عليه إهمال كثير من الجوانب التربوية الأخرى من النشاطات الثقافية، والاجتماعية، والرياضية، التي يمارسها وينظمها الأب لأولاده.
ولعل الحل الأمثل لهذه المسألة هو تعليم الولد وتعويده التوسط في الأمور، وتخصيص وقت لكل نشاط، فيعطى لهذه الألعاب وقتاً ولغيرها وقتاً آخر. ويراعي الأب عند اختياراللعبة الإلكترونية، أن تكون من النوع الكبير الذي يصعب حمله لئلا يتعود الولد حملها أينما ذهب، ويراعي أيضاً أن تكون اللعبة ذات أهداف علمية، وثقافية، ويتجنب قدر المستطاع الأنواع التي لا تتضمن أهدافاً تربوية، مثل صراع الطائرات، والدبابات، والجنود، التي تعتمد على سرعة البديهة، والمهارة الحركية فقط. ويختار من بينها ما يمكن أن يلعبه أكثرمن شخص ليحصل للأولاد الاجتماع، ونبذ الفردية.(1/368)
وبهذا يكون الأب قد استفاد من الجانب المفيد في هذه الألعاب، وحفظ الأولاد من إمكانية إضرارها بهم، وأسرها لهم.
23 - آداب النوم للطفل المسلم
للنوم آدابه التي يحرص الوالد على تعويد ولده عليها؛ ليحصل له اتباع السنة، وراحة الجسم، والاستفادة من أوقات النوم، وحصول المقصود منها، كما أن هناك قضايا ليست من السنة يحرص الأب على حماية ولده منها.
ومن أهم السنن المتعلقة بآداب النوم: مسألة التبكير إلى النوم، وأخذ المضجع، وترك السهر إلا لضرورة. وقد ابتلي المسلمون في هذا العصر بتغيير نظام يومهم، فهم يسهرون إلى ساعة متأخرة من الليل، ثم ينامون طويلاًً في النهار، وربما لا يستيقظ منهم إلا القليل لصلاة الفجر. رغم ما ورد عن رسول لله - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من الحديث والسهر بعد العشاء، فقد نقل أنه كان ((يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها)). فكلا العملين مذموم؛ من بكر بالنوم قبل العشاء، ومن تأخر بالنوم إلى ما بعد العشاء بوقت طويل، والسنة دائماً ترغب في التوسط في جميع الأمور.(1/369)
وقد ثبت علمياً أن النوم في الليل له فوائد كثيرة، والجسم يستفيد منه أكثر مما يستفيده من نوم نهار؛ لهذا يحرص الأب المسلم على الاقتداء بالسنة في هذا الباب، آخذاً بالاحتياطات اللازمة لذلك، وأهمها: تعويد الولد النوم الباكر بأن يتم تناول طعام العشاء في الفترة من بعد المغرب إلى صلاة العشاء، فلا يأتي وقت النوم إلا وقد انهضم أكثر الطعام فيسهل عليه النوم، وإلا فإن سوء الهضم وكثرة الطعام تذهب النوم في الليل وتؤرق الإنسان. ولو استطاع الأب، وباقي أفراد الأسرة أن يناموا جميعاً بعد العشاء مباشرة أخذاً بالسنة، فهذا أفضل أسلوب لتعويد الولد النوم المبكر، ولكن لما كانت حياة الناس في هذا الزمن قد اختلفت وتبدلت، ولا يمكن أن يستقل الأب وينفرد بشؤونه عن الناس، فربما صعب عليه أن ينام مبكراً بعد العشاء مباشرة. أما الأولاد فبإمكانه توجيههم، وتقييدهم بالنوم المبكر؛ لعدم وجود ما يمنعهم من ذلك.
ومن أهم القضايا المساعدة على النوم المبكر للأطفال: منعهم من النوم في النهار بالكلية، وذلك لأنه يعود الولد الكسل والسهر في الليل، يقول الغزالي رحمة الله: ((وينبغي أن يمنع من النوم نهاراً فإنه يورث الكسل)). خاصة النوم بعد صلاة الفجر مباشرة، فإن بعض السلف رضوان الله عليهم كانوا لايتركون أحداً من أهلهم وأولادهم ينامون بعد الفجر حتى تطلع الشمس. وذلك لحصول بركة دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - التى قال فيها: ((اللهم بارك لأمتي في بكورها)). وقد ثبت علمياً أن غاز ((الآوزون)) المنشط للخلايا، والذي يقضي على كثير من الأمراض، لا ينتشر إلا في الفجر، فهذا من بركات الاستيقاظ المبكر، وترك النوم نهاراً، خاصة بعد صلاة الفجر مباشرة.(1/370)
وهذه الفترة بين صلاة الفجر حتى الشروق لا تزيد في العادة عن ساعة، فلو استغلها الأب مع الأولاد في بعض الأعمال والنشاطات الدينية، فإن الفائدة والمردود سوف يكونان جيدين إن شاء الله، وخاصة وأن الولد في الصباح وبعد الصلاة يكون صافي الذهن، قادراً على التفكير والتمعن.
ومن أفضل الأعمال في هذا الوقت التسبيح، وقراءة القرآن حتى تطلع الشمس، لقوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه عنه أنس بن مالك: ((من صلى الغداة في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين: كانت له كأجر حجة وعمرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تامةٍ تامةٍ تامةًٍ)). فهذا ترغيب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجلوس بعد الصلاة للذكر، والأب إن وجد في أولاده همة لذلك ساعدهم وحثهم عليه، وإن وجد منهم ضعفا، فلا داعي أن يجبرهم، بل يقسم هذه الساعة، فيخصص منها للذكر وقتا، ولشيء من الحديث معهم وقتا آخر، وباقي الوقت يأخذهم بالسيارة إلى مكان قريب منبسط لرؤية شروق الشمس، فهذا محبب للأطفال، ثم يعقب هذا بشيء من النشاط الرياضي الخفيف، ثم الإفطار.(1/371)
ومن القضايا المهمة المتعلقة بآداب النوم: مسألة التفريق بين الأولاد عند أخذ المضجع خاصة الذكور والإناث، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)). وذلك للاحتياط في القضايا المتعلقة بالجنس، والولد أثناء النوم وكذلك البنت لايدريان ما يمكن أن يحدث بينهما من الاحتكاك، أو الاحتضان، أو الالتصاق. ومن باب سد الذريعة أخذ الاحتياطات في هذا الأمر الخطير. وأفضل هذه الاحتياطات تخصيص غرفة للذكور وغرفة أخرى للإناث، وجعل سرير ولحاف مستقلين لكل ولد ولكل بنت، فإن لم يتيسر ذلك، فلا بأس بالنوم على فراش واحد، على أن يكون لكل واحد لحافه الخاص به، ويحذر الأب كل الحذر من نوم الولد بعد السنة الأولى من عمره في غرفة نومه الخاصة مع أهله، خشية أن يرى الولد ما يكره من العلاقة الطبيعية بين الرجل والمرأة.
ويعود الولد النوم على جنبه الأيمن، اقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، مع وضع اليد اليمنى تحت الخد الأيمن. وتجنب النوم على البطن، لكراهية الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهذه النومة وقوله: ((إن هذه ضجعة لا يحبها الله)). كما أن في النوم على البطن - خاصة للولد الذي قارب الحلم – يسبب تهييجاً وإثارة جنسية - وذلك لاحتكاك الأعضاء التناسلية بالفراش. والأب يحرص على توجيه أولاده إلى الخير في جميع الشؤون ولايهمل، خاصة في المسائل التي جاءت الشريعة بأحكامها وبيانها.
وعلى الوالد أن يعلمهم ذكر أخذ المضجع وهو: ((اللهم باسمك أحيا وباسمك أموت)) وكذلك عند الاستيقاظ: ((الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور)). وأن يحفظهم هذه الأذكار والدعوات، وأن يتابعهم قبل النوم فيسألهم عنها.(1/372)
ويُفضل أن يعودهم على قراءة بعض الآيات المأثور قراءتها قبل النوم كآية الكرسي، وخواتيم سورة البقرة. ولا بأس بأن يجهر الأب بهذه الأذكار أمام أولاده، ليعلمهم حتى يحفظوا ويعقلوا عنه، أو يوجه الكبار منهم ليعلموا الصغار.
ويجب على الأب أن لا يترك ولده ينام في البيت وحده، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يبيت الرجل في البيت وحده، فكيف بالولد الصغير ؟. فعلى الأب أن يأخذ الاحتياطات اللازمة لحماية الولد من الخلوة الطويلة في الليل وحيدا ليس معه في البيت أحد، فلا يجد من يساعده إذا احتاج إلى أمر من الأمور، أو مرض، أو على الأقل لو خاف لا يجد من يؤنسه.
ويفضل أن يكون في غرفة الولد شيء من الضوء، كوضع مصباح كهربائي صغير، أو إشعال ضوء بعيد يصل منه شيء إلى غرفته، وذلك احتياطا من تعثر الولد إذا استيقظ في الليل لحاجته. وهذا لا يعارض قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((أطفئوا المصابيح عند الرقاد))، فإن المقصود بهذه المصابيح تلك التي تشعل بالنار والفتائل والوقود، وعلة النهي عن تركها مشتعلة أثناء النوم واضحة في باقي الحديث حيث قال عليه الصلاة والسلام: ((…. فإن الفويسقة ربما اجترت الفتيلة فأحرقت البيت)) فالعلة هي الفأرة، أو ما شابهها من الدواب، تعبث في المصباح فتكون سببا في إحراق البيت. والمصابيح الحديثة مأمونة في الغالب، وبعيدة عن هذه الدواب، خاصة المعلق منها في الأسقف، كما أنها غير قابلة للإحراق بمجرد السقوط على الأرض.
ومن السنن المستحبة عند النوم أيضا: الوضوء، والنوم على طهارة، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا أخذت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة)). وذلك لينام الولد طاهرا، نظيفا، ذاكرا الله عز وجل. ومن نام على هذه الصفة، متوضئا، طاهرا، ذاكرا، أجزل الله سبحانه وتعالى أجره وثوابه.(1/373)
وعلى الأب أن لا يغفل جانب النية الحسنة من مقصد النوم، فيعلم أولاده أن المسلم ينام في الليل ليتقوى في النهار على عبادة ربه، والسعي في مرضاته بالجد والعمل. وعلى الأب أن يتابع أولاده في هذه السنن والآداب ولا يمل حتى يتيقن حبهم لها، والتزامهم بأدائها.
24 - مسائل في المرض والتداوي للطفل
جاءت الشريعة الإسلامية بالأمر بالتداوي واستحبابه، فقد سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التداوي، فقال: ((نعم تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له دواء)). وعادة يكون التداوي وطلب العلاج بعد الإصابة بالمرض، أما الوقاية فتكون قبله، لهذا جاء الأمر بالوقاية من المرض أولاً، وتجنب أسبابه، فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يورد ممرض على مصح)).
وحماية الأولاد من الأمراض المعدية وغيرها أمر مطلوب، على أن لا تكون هذه الحماية من باب الوساوس والشكوك؛ بل تكون من باب أخذ الحيطة والأسباب، دون إفراط أو تفريط. فيراعي الأب نظافة الأولاد في أبدانهم، وملابسهم، ونظافة ما يأكلونه ويشربونه، وصحة المسكن، ونقاوة الهواء، ودخول أشعة الشمس إلى البيت، وتحري اختيار السكن في المناطق المتسعة المنبسطة، قليلة الازدحام، فإن اتخاذ هذه الأسباب ومراعاتها ـ بعد توفيق الله ـ له دور فعال في حماية الأطفال من الأمراض، لهذا يُلاحظ أن أطفال السواحل والأرياف أسرع نمواً من أطفال المدن، وذلك لنقاوة الهواء ووفرة أشعة الشمس وتعرضهم لها.
وعند نزول المرض بأحد الأولاد، فإن المسارعة إلى علاجه أمر هام لتدارك الخطر، على أن يكون ذلك في غير هلع وارتباك؛ بل الهدوء والسكينة في ذلك وتطمين الولد بأنه لم يصبه شيء خطير: له أثر جيد في سرعة شفائه، وإدخال الأمل إلى قلبه.(1/374)
وليس من الضروري المسارعة إلى أخذ الولد إلى الطبيب عند حدوث أعراض مرض ما، بل إن استعمال الأب للأدوية المفردة دون المركبة لمعالجة الولد هو السنة التي كان عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا إذا كان للأب خبرة في هذا المجال، ((وقد اتفق الأطباء على أنه متى أمكن التداوي بالغذاء لا يعدل إلى الدواء؛ ومتى أمكن بالبسيط لا يعدل إلى المركب. قالوا: وكل داء قدر على دفعه بالأغذية والحمية لم يحاول دفعه بالأدوية)). والأطباء المعاصرون يميلون في العادة إلى الأدوية المركبة المصنعة، وهذه تضر بالبدن، إذا لم تكن موافقة للداء، أو كانت كميتها أكبر من المحتاج إليه. والأب يختار من الأطباء من لديه خبرة بالأدوية غير المركبة، بالإضافة إلى العلم الحديث في الطب وسياسة البدن، فإن اجتماع هذين العلمين، وتقديم أحدهما على الآخرعند معالجة المرضى، له بإذن الله الأثر في سرعة الشفاء وذهاب الداء.
وقد جاءت نصوص كثيرة في القرآن الكريم والسنة المطهرة تحث على المعالجة بالعسل، وتبين عظم فائدته ونفعه، يقول الله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69]. ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنهى أمتي عن الكي )).(1/375)
وبناء على هذه النصوص ينبغي للأب المسلم أن يسارع إلى تأمين العسل في بيته بصورة مستمرة، خاصة الأنواع الجيدة منها، وإن كان لا يستطيع شراءه لغلائه وارتفاع سعره، اشترى منه قرصاً أو قرصين في السنة، واستعمله بطريقة اللعق ثلاث مرات في الشهر، فإن ذلك بإذن الله يكفي ويحصل به المطلوب؛ فقد روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((من لعق العسل ثلاث غدوات، كل شهر، لم يصبه عظيم من البلاء))، وبهذه الطريقة يمكن للأب الفقير، أن يستعمل العسل مع أولاده، ويحصل لهم الشفاء بإذن الله، مع حصول الترشيد في الإنفاق، ومراعاة دخل الأسرة.
وقد وردت السنة أيضاً بتعيين أنواع من المأكولات والحبوب التي فيها شفاء وفوائد للجسم، فمنها الحبة السوداء التي يقول عنها الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((الحبة السوداء شفاء من كل داء))، كما جاء ذكر العجوة وفضلها في قوله عليه الصلاة والسلام: ((من اصطبح كل يوم تمرات من عجوة لم يضره سم ولا سحر ذلك اليوم إلى الليل)).
والمقصود أن السنة جاءت بتفضيل بعض الأدوية البسيطة المعروفة، وبيان أن لها فوائد في حماية البدن، وذهاب المرض، وحصول الشفاء، فعلى الأب أن يحرص على استخدامها بالطرق الصحيحة مع سؤال أهل الخبرة والمعرفة في ذلك.
وفي القرآن الكريم شفاء لما في القلوب من الشك والأمراض النفسية وغيرها، كما أن فيه شفاء للأبدان من الأمراض الحسية الظاهرة، باستعمال الرقى والتعاويذ.
ويكون ذلك بقراءة المعوذات والمسح على كامل البدن بها وقول: ((أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد)) مع المسح باليد اليمنى سبع مرات. وإذا كان الولد صغيراً لا يعقل ولا يستطيع قراءة هذه الأذكار، فإن الأب يتولى ذلك بنفسه، فيقرأ في يده ويمسح بها على الولد كما فعلت السيدة عائشة رضي الله عنها عندما مرض النبي - صلى الله عليه وسلم - مرض موته، إلا أنها كانت تقرأ في يده وتمسح بها عليه لبركتها.(1/376)
والرقية من العين مشروعة، فإن العين حق، وقد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بها لابني جعفر بن أبي طالب عندما علم أن العين تصيبهما. وقد ورد عن ابن مسعود القراءة على المريض، فقرأ ذات مرة على مبتلى قوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً …} [المؤمنون:115] إلى نهاية السورة فعافاه الله. أما تعليق شيء من القرآن على الولد فقد اختلف السلف في ذلك، والأولى تركه احتياطاً.
ولا ينبغي إجبار الولد على تعاطي الدواء وغصبه عليه وإدخاله في فمه بالقوة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذلك في مرضه الذي مات فيه. والأفضل هو سياسة الولد وترغيبه في الدواء، بالوسائل المختلفة دون إجبار، ولا بأس بوضعه له في الطعام إن كان هذا لا يضره، مع عدم قسره على الأكل أيضاً؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تكرهوا مرضاكم على الطعام والشراب. فإن الله يطعمهم ويسقيهم)). وسبب النهي عن إكراههم على الأكل والشرب: لأن فائدة البدن لا تحصل في الحقيقة من الأكل والشرب؛ بل القوة والعافية من عند الله عز وجل، فهو الذي يحفظ لهم قوتهم، ويمدهم بما يماثل فائدة الطعام والشراب.
25 - مضار التدخين وحكمه وطرق التخلص منه
يعد التدخين من أكثر الظواهر السيئة انتشاراً في العالم، فلا توجد فئة، أو طبقة من الناس، أيا كانت، إلا ويوجد بينها من يتعاطى الدخان. ونظراً لهذا الانتشار الواسع أصبح وجود السجائر في البيوت، وتهيئتها للمدخنين، وعدم منعهم من التدخين في الأماكن العامة أمراً مسلماً به من قبل غير المدخنين، ولهذا لا يوجد من بين المدخنين ـ إلا ما ندر ـ من يكترث بشعور غير المدخنين عند تعاطي الدخان في الأماكن العامة وتجمعات الناس.(1/377)
والعالم الإسلامي مستهدف من قبل شركات التبغ خاصة بعد انحسار مبيعاتهم بعض الشيء في الدول الغربية، فالكميات الهائلة من التبغ يتم توريدها من هذه الدول الغربية لتستهلك في الدول الإسلامية، فقد بلغت واردات المملكة العربية السعودية عام 1972م (000ر75ر4) كليو جراماً من التبغ، وفي عام 1981م تضاعفت الكمية تسع مرات تقربياً لتصل إلى (500ر732ر36) كيلو جراماً، وذلك خلال تسع سنوات فقط، وهذا يدل دلالة واضحة على خطورة الوضع خاصة في بلاد يعلن أكثر علمائها حرمة شرب الدخان وتعاطيه، وهذه الكميات تعد صغيرة بالنسبة لما تنتجه هذه الشركات العالمية من كميات ضخمة من السجائر؛ إذ يقدر معدل انتاجها بسيجارتين يومياً لكل فرد في العالم.
وقد ثبت بما لا يدعو إلى الشك أن تعاطي الدخان إما بطريق السجائر،أو الشيشة أو الأرجيلة، أو غيرها من الوسائل مضرة تفتك بالبدن، وتعد سبباً هاماً ورئيسياً للإصابة بالسرطان، فقد ((أعلنت هيئة الصحة العالمية عام 1975م أن التدخين أشد خطراً على صحة الإنسان من أمراض السل والجذام والطاعون والجدري مجتمعة)). وفي كل عام يُقتل في العالم بسبب هذه الآفة أكثرمن مليون شخص، وذلك حسب إفادة منظمة الصحة العالمية.
وبناء على المفاهيم العامة للإسلام التي تُحرم المضرات، وتبيح الطيبات، ولمَا ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى ((عن كل مسكر ومفتر)). والمفتر: ((الذي إذا شُرب أحمى الجسد وصار فيه فتور، وهو ضعف وانكسار))، فقد صدرت فتاوى العلماء بحرمة تعاطيه.(1/378)
وبناء على هذا لا يليق بالأب المسلم أن يدخن ويتعاطى هذا السم المحرم، وذلك لحرمته أولاً، ثم خوفاً على اقتداء الأولاد به، فإن الطفل مقلد ماهر فلا يستبعد الأب المدخن أن يرى ولده الصغير جالساً في موضع جلوس الأب وماسكاً سيجارة مشتعلة، فهو لا يدرك مضار التدخين، كما أنه يسعى جاداً ليبلغ مبلغ الكبار، فيقلدهم في معظم أعمالهم، ويمكن أن تكون هذه الخطوة بداية إدمان الولد على التدخين، فقد يبدأ الطفل التدخين بجدية منذ الخامسة، وربما تطور الموضوع ليصل إلى المخدرات فإن هناك ارتباطاً بين التدخين والخمور والمخدرات.
فلا بد للأب أن يلتزم منهج الإسلام في موضوع التدخين، فإن لم يكن من المدخنين سهل عليه إقناع الولد ببيان مضاره له، وإظهار كراهيته ومقته، فيقع في نفس الولد بغضه وعدم الرغبة فيه. أما إن كان الأب من المدخنين فإن إيقاع كراهية الدخان في نفس الولد أمر صعب، وإخفاء الأب عن أولاده حقيقة أمره، وأنه من المدخنين أمر صعب أيضاً.
ولعل أمثل الحلول بالنسبة للأب الذي لا يكثر من تعاطي السجائر أن يخفي على أولاده أنه يدخن فلا يتعاطى ذلك إلا في النادر بعيداً عن الأولاد على أن تكون هذه الخطوة منه بداية جادة لترك الدخان بالكلية.(1/379)
أما إن كان الأب ممن ابتلي بكثرة الدخان، فلا يستطيع إخفاءه عن الأولاد، فإن مسارعته بتركه فوراً قبل أن يعقل أولاده فعلته القبيحة يعد واجباً عليه وحقاً من حقوق الأولاد إذ لا يجوز له أن يدلهم بقوله أو بفعله على أي أمر قبيح. وإن حدث أن علم الأولاد بأن أباهم يدخن، فعليه أن يسارع ببيان خطئه وتقصيره، وأنه اعتاده قبل أن يتيقن بضرره وخطورته، مع إفهامهم أنه جاد في تعاطي الأسباب لتركه، ولا ينبغي له بحال أن يقول لهم: ((هذا للكبار دون الصغار))، أو أن يقول: ((هذا لا ينفع لكم ولكنه ينفع لي))؛ بل لا بد من أن يظهر تأسفه وندمه وخطأه على تعاطيه؛ ليعلم الأولاد أن هذا الفعل من أنواع الخطأ، فلا يقتدون بأبيهم في هذه المسألة. وفي هذا الأسلوب شيء من التناقض، إلا أنه لا بد من المصارحة وبيان الخطأ والاعتذار، وليس ثمة حل أنسب من هذا في مثل هذه المواقف المحرجة مع الأولاد خاصة الكبار منهم.
ويُنصح الأب المدخن إذا كان جاداً في ترك الدخان أن يتعرف أولاًً على أضرار تعاطي الدخان، وأن يبتعد عن الأجواء التي يُتعاطى فيها الدخان، وكل ما يُذكِّره به، وعند الرغبة في التدخين يستعمل العلكة أو السواك، أو غيرهما ليلتهي به عن السجائر، وعليه أن يقلل من تعاطي القهوة و الشاي، ويكثر من الفاكهة، والغذاء الجيد الخالي من التوابل، ويتناول دائماً عصير العنب والليمون والبرتقال كل صباح، وأن يستعين بالله على تركه قبل كل شيء آخذاً بهذه الأسباب فإنها نافعة وجيدة لترك الدخان بالكلية.
التربية البيئية للطفل
1 - أنس الطفل بالبيئة من حوله(1/380)
يضع الإسلام للإنسان أطر التعامل مع كل من حوله من البشر بجميع فئاتهم، فينظم أساليب التعامل وحدودها ليعيش المسلم في جو من الألفة والراحة النفسية، لمعرفته الطريق الأمثل في علاقاته بالناس، وهذا لا يكون إلا للمسلم الذي يستمد هذه التوجيهات والأساليب من وحي الله المبارك في كتابه المنزل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
ولا يقتصر الإسلام في منهجه الشامل على تنظيم علاقات المسلم بالناس فحسب، بل يتعدى ذلك ليحدد أسلوب وعلاقة المسلم بغير المكلَّفين من الحيوان والجماد، فيُؤمر بقتل بعض الحيوانات والحشرات، ويُنهى عن التعرض للبعض الآخر منها، ويُؤمر بعدم شتمها أو تحريقها؛ لما تقوم به من ذكر لربها وتسبيح له، وفي جانب الجماد، تأتي النصوص في القرآن وعلى لسان النبي r تبين كيف يتعامل المسلم مع ما حوله من ظواهر مختلفة، وكيف أن هذه الجمادات تحيى في جو من التسبيح والتهليل.
إن إدراك هذه القضايا، واستشعارها والعيش معها يوقع في النفس الأنس والطمأنينة، فالكل عابد خاضع لله U وتحت قدرته ومشيئته. يقول الأستاذ عبدالرحمن النحلاوي مبيناً أهمية هذا الاستشعار ودوره في تربية الطفل: ((والأنس بما حولنا من كائنات، وحوادث كونية، كلها مثلنا مخلوقة من مخلوقات الله، هذا الأنس من أهم نتائج تعاليم الإسلام ومن آثارالعقيدة الإسلامية … التي يجب رعايتها في نفس الطفل على مر الزمن، فيكسب بذلك الثقة بربه والأنس بمخلوقات الله، ومن ثم يصبح عظيم الثقة بنفسه، لا يخشى شيئاً من ذلك كالظلام والبحر والشلال والحيوانات والرياح والأمطار والبرق والرعد)).
ومن هذا المنطلق تتضح للأب أهمية إحياء ابنه في هذا الجو اللطيف من حياة التسبيح والتمجيد لله U، فيشعره أن الجميع منشغل بالذكر والتهليل حتى وإن بدا لنا غير ذلك، فليس هو الوحيد الذي يذكر الله ويعبده، بل غيره كثير من مخلوقات الله لا تفتر عن ذكره وتسبيحه وتمجيده سبحانه وتعالى(1/381)
2 - توجيه الطفل لحسن التعامل مع الحيوان
شملت رحمة الإسلام الحيوان، فجاءت النصوص والتوجيهات النبوية الكريمة بالمحافظة على حق الحيوان وحمايته من بطش الإنسان. يقول عليه الصلاة والسلام في المرأة التي حبست الهرة دون أكل: ((دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض)). وهذا هو العدل المطلق الذي ُيقرب الأب مفاهيمه إلى ولده ويوجهه بعدم الإساءة إلى الحيوانات التي يملكها في البيت، بل يحسن إليها، فإن أساء خوفه من الله وأشعره أن الله سائله عن ذلك.
وفي التحريش بين البهائم قال ابن عباس رضي الله عنهما: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التحريش بين البهائم))، وهذا الفعل كثيراً ما يقع من الأولاد لما فيه من الإثارة والاستمتاع، فيثيرون الخرفان بعضهم على بعض ليتناطحوا، أو يثيرون القطط لتتقاتل، أو غيرها من الحيوانات. وبهذا النهي يؤدب الأب أولاده وينهاهم عن ذلك، ويشغلهم بغيرهذا النوع من اللعب المذموم، كأن يشغلهم بالنظر إلى عجائب خلق هذه الحيوانات، فيلفتهم إلى طريقة أكلها، وشربها للماء، وكيف تحنو الأم على صغارها وترعاهم، ويأمرهم أن ينشغلوا برعايتها فيهيئوا لها الطعام والشراب، وينظفوا الحظيرة، فينشغلوا بذلك عن الإساءة إليها، ويتدربوا على الإحسان إليها، ورحمتها.(1/382)
ومن باب الإساءة للحيوان، خاصة الطيور منها اتخاذها هدفاً للصيد، دون الانتفاع بأكلها، وهذا من الأعمال المنهي عنها، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من قتل عصفوراً بغير حقه سأله الله عنه يوم القيامة. قيل: وما حقه ؟ قال: أن تذبحه فتأكله)). والأولاد يميلون عادة إلى ألعاب الصيد ويحبونها، ولا شك أن الصيد الحي أحب إلى الولد البارع من التصويب على هدف غير حي، وعلى الأب في هذا الجانب أن ينكر على الأولاد ذلك إن صدر منهم، ويحاول أن يقنعهم باللعب بالأهداف الثابتة دون الأهداف الحية إلا أن يشترط عليهم الانتفاع بما يصيدونه من طيور وغيرها، فإن وافقوا أخذهم إلى المناطق المخصصة لصيد الطيور ملاحظاً أن يكون خارج الحرم لعدم جواز الصيد فيه، وللأب في عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قدوة في إنكار ذلك على الصبيان، فقد روى سعيد بن جبير أنه كان معه في الطريق فإذا بصبيان يرمون دجاجة فقال ابن عمر: ((من فعل هذا ؟ فتفرقوا. فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن من مثَّل بالحيوان)).
وقد ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموضوع النهي عن أقل من القتل والإيذاء البدني، فقد نهى حتى أن يساء إلى الحيوان باللعن أو الشتم، ولم يقتصر عليه الصلاة والسلام على نوع من الحيوان، بل شمل توجيهه هذا حتى الحشرات التي لا يؤبه بها ولا يلتفت إليها، فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلاً لعن برغوثاً عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ((لا تلعنه فإنه أيقظ نبياً من الأنبياء للصلاة)). وهكذا لا يترك عليه الصلاة والسلام مجالاً للإساءة حتى للحشرات ليضع للمسلم دستوراً ينظم حياته كلها، ويعرف من خلاله علاقاته بما حوله من مخلوقات الله - عز وجل -.(1/383)
وهذا النوع من التعامل الراقي الرفيع مع الدواب يكسب الولد أدباً وشعوراً وإحساساً في نفسه وعقله وكأنه يقول لنفسه: "إذا كانت هذه المعاملة الحسنة مشروعة ومطلوبة مع الحيوان فكيف ببني الإنسان؟ بل وكيف بالوالدين، والعلماء، والأساتذة؟"، فيكتسب الولد من هذا التدريب على التأدب في معاملة الحيوان شعوراً مرهفاً نحو التعامل مع المسلمين.
3 - آداب اقتناء الطفل للحيوانات
يميل الأطفال إلى مداعبة الحيوانات الأليفة حيث تجذب انتباههم، وتمتلك مشاعرهم عند مشاهدتها، والطفل في الفترة من ثلاث إلى أربع سنوات يدرك ويفهم مداعبة الحيوانات، ويحب ملاحظتها ومراقبتها في أكلها وشربها ونومها. وفي هذه الفترة من عمر الطفل يمكن للأب أن يقتني لولده بعض الحيوانات الأليفة مثل الدجاج، والغنم أو الخرفان، والحمام، وغيرها، فإن لم يتمكن من ذلك لعدم توفر المكان عنده، أو لقلَّة ذات اليد، اقتصر على بعض الطيور الجميلة توضع في قفص داخل المنزل أو في غرفة الطفل، فإن حبس الطيور مع الاهتمام بها جائز، كما يمكنه اقتناء القطة، فإن اقتناءها سهل ميسر، ولا تكلف الأب شيئاً من المال، كما أنها طاهرة غير نجسة وهي - كما جاء في الحديث - تعتبر من متاع البيت.
ووجود الحيوانات الأليفة في البيت يعتبر وسيلة جيدة لتعليم الأولاد المسؤولية تجاه الأحياء، كما أنها تعلم الولد السلوك الاجتماعي من خلال علاقاتها ببعضها البعض، فتكون مساعدة للولد على عملية التطبيع الاجتماعي.(1/384)
ولا بأس أن يعطي الأب أولاده الحرية في تكوين علاقات مع هذه الحيوانات الأليفة كأن يطلقوا عليها الأسماء اللطيفة ليميزوا بين بعضها البعض فإن هذا جائز؛ بل ربما يكون سنة، فقد كان عليه الصلاة والسلام يسمي دوابه فناقته القصواء، وحماره عفير، وأفراسه اللحيف والظرب واللزاز والمرتجز، وبغلته دلدل، فلا مانع من أن يوجه الأب أولاده لهذا النوع من التعامل مع الحيوانات الأليفة، خاصة إن وجد من بعض أولاده خجلاً وعدم الميل لمخالطة الناس، فإن هذا الصنف من الأولاد يميلون عادة ويحبون التعامل مع الحيوانات الأليفة لسهولة ذلك التعامل على نفوسهم أكثر من التعامل مع الأصدقاء والمعارف.
وإن عجز الأب عن اقتناء بعض الحيوانات في البيت لأي سبب من الأسباب، فإن أفضل الحلول أن يأخذ الأولاد من وقت لآخر إلى البادية خارج المدينة حيث يرى الولد الأغنام والمواشي المختلفة كالبقر والجمال وغيرها، ويقضي معها بعض الوقت، يراقب سيرها وجلوسها، وأكلها وشربها، ويتعلم أسماء تلك الحيوانات ويميِّز بينها.
والأب في هذه المناسبات الجيدة لا يقتصر مع أولاده على مجرد المشاهدة دون الاعتبار بل يوجههم إلى عظم خلق الله وإبداعه في هذه الدواب، وأنها نعمة من عنده سبحانه وتعالى، نأكل من لحومها، ونشرب من ألبانها، ونركب بعضها، وبذلك يخرج الأولاد من يومهم ذاك بمتعة جيدة بالإضافة إلى المعلومات الجديدة، والزاد الروحي في التعريف بنعم الله U.
وإذا توفر لدى الأب في مدينته حديقة للحيوان فإنها من الحلول الجيدة أيضاً بالنسبة للآباء، الذين لا يمكنهم اقتناء الحيوانات في البيت، فيأخذهم الأب في بعض أوقات الإجازات إلى إحدى حدائق الحيوان هذه، ويطلعهم على مختلف الحيوانات، يعرفهم بأسمائها، وأماكن وجودها، مبيناً قدرة الله وعجائب خلقه التي تتجلى في هذه الدواب.(1/385)
وقد يواجه الأب ميل الأولاد لاقتناء بعض الحيوانات المحرم أو المكروه اقتناؤها وهذه القضية وهذا الميل لا يحدث في العادة إلا إذا أهمل الأب توضيح هذه المسائل لهم منذ الصغر، فالولد الذي علم حرمة اقتناء الكلب، وكراهية لمسه، وأنه نجس، لا يمكن أن يطلب من أبيه أن يشتري له كلباً، ولو فكر الولد في هذه القضية ورغب في تقليد بعض الأولاد في الأسر التي لا تلتزم منهج الإسلام، فإن دور الأب هنا هو توضيح هذه المسألة، وأن شراء الكلب غير جائز، وأنه نجس ويحمل بعض الأمراض الخطيرة، إلى جانب أن اقتناءه لغير حاجة ينقص من عمل الرجل كثيراً من الأجر الذي يكتسبه، فقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من أمسك كلباً فإنه ينقص كل يوم من عمله قيراط، إلا كلب حرث أو ماشية))، ولا ينبغي للأب أن يلين مع الأولاد في هذه القضية، بل تكون وقفته صارمة مع الإقناع بالحكمة.
وقضية أخيرة يراعيها الأب مع ولده إذا تكونت بينه وبين حيوان من حيوانات البيت الأليفة علاقة قوية، وحب واهتمام، كتعلق الولد بحب الخروف مثلاً. فإن ذبح هذا الخروف أمام الولد، وتقديمه للأكل يسبب للولد إحباطاً نفسياً، وإحساساً بالألم، وربما جره ذلك إلى كره أكل اللحم بالكلية لشدة ما يجده في نفسه من حزن، فتتكون في نفسه عقدة تُنفِّره من لحم الخرفان. لهذا يراعي الأب هذه المسألة فإن احتاج لذبح الخروف الذي تعلق به الولد مهد لذلك، وذبحه بعيداً عن نظر الولد وعلمه، ولو تركه له لكان ذلك أفضل. وعلى الأب أن يفهم أولاده من أول الأمر أن هذه الحيوانات من الأغنام والخرفان خلقت لتُذبح وليُستفاد من لحمها، ولم تخلق للهو بها، والاستئناس بطول بقائها، فتتكون لدى الولد قابلية نفسية، وتصور مبدئي عن احتمال حدوث شيء من الأذى لحيوانه الأليف، فلا يكون الوقع على نفسه وشعوره شديداً كالولد الذي لم يشعر بذلك أصلاً.
4 - تعامل الطفل مع الحيوانات المؤذية(1/386)
جاء في السنة المطهرة الأمر بقتل بعض الحيوانات والحشرات، كما جاء النهي أيضاً عن قتل أنواع معينة من الدواب، والأب المسلم يتقيد بهذه التوجيهات ويعلمها أولاده، ويطبق ذلك عمليا معهم.
فقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام الأمر بقتل الوزغ ورتب على ذلك الأجر، كما جاء عنه الأمر بقتل الفواسق الخمس، فقال عليه الصلاة والسلام: ((خمس فواسق يقتلن في الحرم الفأرة والعقرب والحديَّا والغراب والكلب العقور)).
إن تقيد الأب بالسنة والأخذ بهذه التوجيهات المستحبة، وتدريب الأولاد على ذلك فيه إن شاء الله فوائد كبيرة تعود على الأب والأولاد، إلى جانب الأجر المترتب على اتباع السنة، كما أن ظهور الأب بكامل الشجاعة عند رؤية وزغة مثلا، أو حشرة من الجائز قتلها، ومسارعته لقتلها يعود الطفل على عدم الخوف من هذه الدواب، كما أن ما ورد في السنة المطهرة ليس لمجرد المعرفة فحسب، بل هو للتطبيق العملي الواقعي، فيقع في نفس الولد تعميم ذلك على كل ما ورد عن الله ورسوله من توجيهات في جميع شؤون حياة الإنسان، فيؤمن بوجوب التطبيق والاتباع.
وليس من الحكمة في شيء أن يظهرالأب خائفا أمام الأولاد عند رؤية الفأرة مثلا، أو الوزغة على الجدار، فإن هذا السلوك الذي لايليق برجل كبير قدوة لأولاده، يعد سلوكا خاطئا، إذ إن الأب لن يستطيع أن يطبق سنة المسارعة في قتل هذه الدواب، واكتساب الأجر، كما أن الأولاد - بلا شك - سوف يقتدون به، فيخافون هذه الدواب، فيضرهم الأب بسلوكه الخاطئ، ويجرهم إلى تبني مخاوفه الخاصة.(1/387)
والذي ينبغي للأب اتخاذه إن كان قد ابتلي بالجزع من هذه الدواب - كما هو الحال مع كثير من الناس - أن يحرص كل الحرص على عدم نقل هذا الخوف والجزع إلى أولاده عن طريق المحاكاة والمشاهدة، بل يحاول أن لا يظهر عليه الارتباك أو الخوف، ويتشاغل عن الأولاد بأي شيء، ويأمر من يراه من أهل البيت، أو الولد الكبير بقتل هذه الدابة بالتعاون مع بعض الأولاد، فيكون بذلك قد خرج من المأزق دون أن ينقل للأولاد بطريق غير مباشر مخاوفه وجزعه، وفي نفس الوقت يكون قد شجع الأولاد على المبادرة بتطبيق السنة، والشجاعة في ذلك.
ويعلم الأب أولاده أدب القتل فلا يؤذون هذه الدواب عند قتلها كأن يحرقوها بالنار، أو يحبسوها حتى تموت جوعا وعطشا، أو يقتلوها بالتدريج ويقطعوها، ولكن يعلمهم السنة في قتلها مباشرة دون تعذيب.
وليس كل دابة أو حشرة تقتل، بل قد جاء النهي عن قتل بعض الدواب والحشرات، فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: ((نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل أربعة: الهدهد والصرد والنملة والنحلة))، كما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - النهي عن قتل الضفدع، والحيات التي في البيوت حتى تؤذن ثلاثة أيام.
فلا يترك الأب أولاده يندفعون متسلطين على كل دابة أو حشرة يصادفونها فيقتلونها، بل يؤدبهم بأدب السنة المطهرة ويأمرهم أن يسألوه عن الدواب التي تقتل والتي لاتقتل قبل أن يقدموا على إيذاء بعضها بغير حق، فيتعلم الأولاد أن الإسلام يحكم جميع شؤون حياتهم، ويحدد لهم علاقاتهم حتى بالدواب والحشرات، فيخرج الكبار منهم بدرس عميق، كأن يقول أحدهم في نفسه: ((إذا كان الإسلام وحكم الله ورسوله يصل إلى تنظيم حياة الإنسان وعلاقته حتى بالدواب، أفلا ينظم الإسلام حياة الإنسان وعلاقاته في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة وسائر الشؤون الأخرى ؟)).(1/388)
إن هذا الدرس عظيم، والأمة في حاجة ماسة إلى إعادته في أذهان أكثر المسلمين، إذ إن البعض لايزال يعتقد أنه لا شأن للإسلام بعلاقات الدول أو الاقتصاد أو السياسة أو الاجتماع أو الثقافة، بل يظن أن الإسلام لا يطبق إلا في الأحوال الشخصية والأسرة، ولكن عندما يشاهد الطفل بتوجيه من أبيه أن الدين يحكم كل نشاطات الإنسان المختلفة بما فيها هذه الدقائق المهملة في أعين أكثر الناس من تحديد علاقة الإنسان بالدواب والحشرات، فإن الطفل يتعلم أن الدين شامل كامل، ليس هناك قضية إلا ولله ورسوله حكم فيها، والمسلم مطالب بها ومحاسب عليها، فينشأ على هذه المفاهيم الجيل الإسلامي المنشود، الذي تتغير به الموازين الحديثة، وتتحسن به أوضاع الشعوب الإسلامية المنكوبة.
5 - إشعار الطفل بعبودية الحيوانات لله تعالى
إن لهذه الحيوانات إدراكاً خاصاً , تعرف به ربها وتعبده وتسبحه , ولكن الأنسان بغفلته لا يدرك هذا التسبيح وهذا الخضوع الكامل من الحيوان لربه عزوجل, وفي هذا يقول سبحانه وتعالى كاشفاً للبشر عن تلك الحقيقة من التسبيح والتهليل والتمجيد لرب العالمين: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الاسراء:44], ويقول في موضع آخر من كتابه العزيز: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:38]، ويقول عطاء رحمه الله معلقاً على هذه الآ ية: " أمم أمثالكم في التوحيد والمعرفة " , أي أن هذه الدواب غير العاقلة تحيا حياة فيها الخضوع والذل والعبودية لله عز وجل , كما أنها تعرف خالقها وموجدها وتسبح له وتمجده.(1/389)
وقد كان نبي الله سليمان عليه السلام يعرف لغات الحيوانات ويكلمها ويعقل عنها , مما يدل على أن لهذه الدواب لغاتها التي تتفاهم بها , وقد ثبت عنه r إخبار أصحابه أن بقرة كلمت صاحبها , وأن ذئباً كلم راعي غنم , وقد نقل عنه في موضوع إدراك الحيوانات , ومعرفتها به شخصياً عليه الصلاة والسلام ماهو كثير, فتارة يأتيه جمل يشتكي صاحبه , وتارة يشهد جمل عنده على رجل , وهكذا فقد نقل عنه عليه الصلاة والسلام في هذا الجانب ما يوقع في النفس عظمة الخالق سبحانه وتعالى , وعجائب صنعه في هذا الكون. ويخرج الإنسان من كل هذا بأدب مع هذه الحيوانات العجماوات , وعدم إغفالها بالكلية , خاصة وأنها تدرك أسباب البلاء , وتلعن أصحاب المعاصي وتكرههم , فقد ورد في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159], قال مجاهد رحمه الله: " إذا أجدبت البهائم دعت على فجار بني آدم "، وقيل أيضاً: " ويلعنهم كل شيء حتى الخنفساء " , فهذه البهائم تعرف أن أسباب جدب الأرض , وقلة الخيرات معاصي بني آدم , وانحرافاتهم، لذلك تلعن العصاة منهم , كما أنها في الوقت نفسه تحب الصالحين منهم, وتستغفر لهم , وتدعو لهم كما جاء في الحديث: ((إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير)).(1/390)
فمن هذا المنطلق , ومن هذه المفاهيم الجليلة , يدرك الأب أهمية إشعار الولد بهذا الجو المليء بالحياة , المفعم بالذكر , ليعيش الولد أوقاتاً من الزمن مستحضراً لهذا الخضوع الكوني العجيب لله رب العالمين , ومن ثم يعرف أن هذه الحيوانات , حتى الحشرات , تعرف أهل المعاصي فتبغضهم وتلعنهم ولا تحبهم , فيتجنب أن يكون منهم , أو أن يتشبه بهم , كما أنه في نفس الوقت يعرف أن هذه الدواب تحب أهل الخير وتستغفر لهم , فتراه يتشبه بهم , ويحاول أن يكون منهم.
ومن المستحسن أن يذكر الأب الولد بهذا الشعور من وقت لآخر , خاصة في أوقات الخلوات مع الولد , وعند الأصيل قرب الغروب إذا كانا في نزهة , على شاطىء البحر, أو بين الأشجار , ففي ذلك الوقت تكون النفس مستقرة , ومتفتحة لقبول ما يقع فيها من مثل هذه المعاني الروحانية المباركة , فإن شعر الطفل بهذه القضية وأدركها إدراكاً لا شكوك فيه , فإنه يعيش حياة لا ملل فيها فهو ليس الوحيد في عبادة الله , بل غيره كثير من دواب الأرض وحشراتها فضلاً عن عباد الله الصالحين , الكل منهمك في عبادة الله عز وجل , منشغل بالتسبيح والتهليل والتكبير.
إن دور الأب في هذه القضية هو تركيزها في نفس الولد , وجعله يعيشها وقتاً من الزمن , متجنباً مناقشتها من الناحية العلمية المخبرية , فإن المؤمن بالله المصدق لرسوله r , لا يحتاج إلى أدلة علمية ليصدق ويؤمن بما جاء عن الله ورسوله , بل يسلم بكل ما ورد عن الله ورسوله , ويحاول أن يفهم ويعقل , فإن وصل إلى بغيته من إقامة الأدلة الشرعية العلمية التجريبية على قضية من القضايا فهذا حسن , أما إن لم يتمكن من ذلك اكتفى بالإيمان بالأدلة الشرعية دون الأدلة العلمية التجريبية.(1/391)
إذا فهم الأب هذا المبدأ العظيم فإنه من السهل عليه عندما يحاول ولده أن يدرك هذه القضايا الغيبية إدراكاً تجريبياً ,أن يلفت نظره إلى عظم قدرة الله , وأنه قادر على كل شيء , فلا يعجزه أمر, فإن هذا الإيمان الكامل بعظيم قدرة الله عز وجل كاف لأن يصدق المسلم بكل ما يرد عن الله ورسوله من عجائب الغيب , وغرائب الكون.
ويمكن للأب أن يركز هذا المبدأ عملياً في نفس ولده , فإن رآه مقدماً على إيذاء نملة أو خنفساء , أو غير ذلك من الحشرات غير الضارة , فإنه يزجره زجراً خفيفاً مشيراً له أن هذه الدابة تسبح ربها , وتدعو للصالحين , فيأمره بتركها. وبهذا الأسلوب يستقر في نفسه عملياً إدراك هذه الدواب وخضوعها لله عز وجل , فلا يقدم على إيذائها بعد ذلك.
6 - إدراك الطفل لعبودية الجمادات
للجماد إدراك خاص به، فهو عابد لله تعالى، يسبحه ويمجده كما هو الحال مع الحيوان، ولكن إمكانية قبول ذلك وسريانه على الحيوان أقرب وأسهل من التسليم به للجماد عند ضعاف الإيمان، والمسلم يؤمن بكل هذا ما دام أنه وارد عن الله U، وعن رسول الله r، ولا يحتاج إلى إثباته مخبرياً، بل يكفيه الدليل الشرعي، كما تقدم. فقد قال الله تعالى في كتابه العزيز مشيراً إلى اشتراك الجماد والحيوان في التسبيح له والتمجيد: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور:41]، وقوله: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الاسراء:44].(1/392)
فالكل منهمك منشغل بالتسبيح لله U، وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام أن الصحفة تستغفر لمن يلعقها ولا يذر فيها شيئاً من الطعام، كما ورد عنه أنه قال: ((ويغفر الله للمؤذن مد صوته ويشهد له كل رطب ويابس سمع صوته))، ونقل عنه أيضاً أن حجراً بمكة كان يسلم عليه قبل أن يُبعث، كما أنه أمر مرة شجرة أن تأتيه إلى مكانه فجاءت وسلَّمت عليه، ثم أمرها أن تعود فعادت، ونقل عنه في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4]، قال عليه الصلاة والسلام: ((فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول: عملت يوم كذا كذا وكذا، فهذه أخبارها))، وقد نقل عنه في هذا المجال الغيبي ما هو كثير مستفيض. والمقصود هو أن يعرف الأب أن قضية إدراك الجماد قضية واقعة في الدين، وإن نقلها إلى الولد وإشعاره بها، وجعله يعيش ذلك الجو الممتليء بالتسبيح والتهليل، له بالغ الأثر في نفسه وكيانه لما يوقعه من الأنس والاطمئنان. ويعلق سيد قطب رحمه الله على هذه القضية، واصفاً شعور المسلم واستحضاره هذه المسألة فيقول: ((إنه لمشهد كوني فريد، حين يتصور القلب، كل حصاة، وكل حجر، وكل حبة، وكل ورقة … كل حشرة، وكل زاحفة، كل حيوان، كل إنسان، وكل دابة على الأرض، وكل سابحة في الماء والهواء … ومعها سكان السماء.. كلها تسبح لله وتتوجه إليه في علاه … إن الوجدان ليرتعش وهو يستشعر الحياة تدب في كل ما حوله مما يراه، ومما لا يراه، كلما همت يده أن تلمس شيئاً، … سمعه يسبح لله، وينبض بالحياة)).(1/393)
إن هذا التعليق الذي ذكره سيد قطب رحمه الله من استشعار تلك الحياة في كل شيء مما حولنا، وانشغال الدواب والجماد - على حد سواء - بالتسبيح والتمجيد لله U، إن هذا الاستشعار بهذا الوصف العميق ينبغي أن ينقل إلى قلب الولد، ويستقر فيه، ويعيشه وقتاً من الزمن، مستحضراً ومستشعراً تلك الحياة العجيبة التي تحياها هذه الجمادات، فإنه بهذا الشعور بالأنس والاطمئنان لكل ما حوله فلا يخاف من ذلك شيئاً.
إن الطفل يمكن أن يصدق بهذه الحقائق الكونية خاصة الطفل الصغير، فإن خياله فياض، ولديه قدرة بالغة على التصديق بأكثر من هذا، فإن الخيال يشغل جزءاً كبيراً من نشاطه العقلي، فهو الذي يمتطي العصا ويقول إنها الفرس، وهو الذي يصارع الأسد فيصرعه ويغلبه، وهو الذي يعتقد أنه يمكن أن يطير في الفضاء حيث شاء.
إن هذا الخيال الواسع عند الطفل الصغير يمكن أن يستغل في تثبيت مثل هذه الحقائق الربانية الكونية العظيمة، أما الطفل الكبير الذي ناهز الحلم فالتوجيه المباشر يكفيه. وللأب أن يختار الوسائل، والأساليب المناسبة لإشعار ولده بهذه المعلومات، فيختار أوقات السكون والتأمل، حيث يكون المزاج معتدلاً، والنفس مقبلة على الله، كالأوقات بعد صلاة الفجر، ومع بزوغ الشمس، وعند الخروج للنزهة. يستغل الأب تلك الأوقات المناسبة ليوجه الولد نحو هذا الجلال العظيم مبيناً له أن هذه الجمادات لها إدراكها الخاص تتعبد لله به، كما أنها تعرف الصالحين وتحبهم وتعرف الفاسقين وتبغضهم، فإذا مات المؤمن الصالح بكت عليه السماء والأرض لحبها له لأنه صالح خيِّر، كما أن الأشجار والأحجار تحب الصالحين وتدعو لهم، فهذا رسول الله r ينظر إلى جبل أحد فيقول: ((هذا جبل يحبنا ونحبه))، وتعليقاً على هذا الحديث يقول ابن حجر رحمه الله: ((جبل يحبنا ونحبه قيل هو على الحقيقة، ولا مانع من وقوع مثل ذلك بأن يخلق الله المحبة في بعض الجمادات)).(1/394)
إن دور الأب هام في تأصيل هذه المفاهيم والمعاني في نفس الولد، وتأديبه عليها ليتعامل مع هذه المتغيرات الكونية المختلفة تعاملاً صحيحاً. فإذا عاين الريح أمر بأن لا يسبها أو يكرهها بل يدعو بالدعاء المأثور الوارد في ذلك، وإذا سمع صوت الصواعق أعلم أن هذا من أمر الله، وأن هذه الصواعق والرعد والبرق كلها مخلوقة لله عابدة له مسبحة بحمده لن تضرأحداً إلا بإذنه، ويوجهه للدعاء المأثور في ذلك: ((اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك))، وكذلك إذا رأى من آيات الله في الكون ما يعجبه كالهلال مثلاً فإن الأب يعلمه الدعاء المأثور في ذلك: ((اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام ربي وربك الله))، فيستشعر الولد بقوله: ((ربي وربك الله)) كأنه يخاطب الهلال وهو الجماد، فيحس أنه يسمعه ويعقل عنه.
وقد كان من سنته عليه الصلاة والسلام إعطاء تلك الجمادات نوعاً من التكريم وكأنها عاقلة مدركة، فقد كان يطلق على بعض أدواته الأسماء مثل ما كان يفعل مع دوابه فأطلق على سيفه اسم " ذو الفقار" وعلى درعه " ذات الفضول "، فلا مانع أن يترك الأب لابنه الفرصة في أن يعامل أغراضه وأملاكه بهذه الطريقة فيسميها بأسماء مناسبة، ويعاملها معاملة العاقل، فإن هذا الأسلوب يقوده إن شاء الله لاستحضار وإدراك الحياة في كل ما حوله، فيتأدب مع كل ذلك. فإن عمل خطأ ذكر بأن الأرض تسمع كلامه وسوف تشهد عليه بأنه أخطأ في يوم كذا وعمل كذا وكذا كما جاء في الحديث المتقدم، فيكون تصوره لهذه الحياة في الجمادات مدعاة لتأدبه وتخلقه بالأخلاق الحسنة خجلاً من إدراكها لقبح عمله.(1/395)
وقضية أخيرة ينبغي ملاحظتها وهي ما يفعله بعض الناس عندما يصطدم الطفل مثلاً بكرسي أو مائدة في المنزل أو نحو ذلك، فيُلام الكرسي أو المائدة، وربما قام الأب يضرب ذلك الكرسي ويشتمه لأنه أزعج الطفل وآلمه، إن هذه القضية خطأ لا ينبغي الوقوع فيه وتعويد الطفل عليه؛ فقد ينشأ الطفل لوَّاماً لكل ما حوله ومن معه، يحمِّلهم أخطاءه، إلى جانب أن هذا الفعل فيه إيحاء للطفل بكره البيئة من حوله، فما يقوم الأب من تحبيب البيئة إلى نفس الولد وإشعاره بحبها له يمكن أن يزول بسبب تكرار مثل تلك المتعة الروحية عنده فيصبح مبغضاً لما حوله. ولا ينبغي للمسلم أن يتخذ البيئة من حوله عدواً له، فالعلاقة بين المسلم والكون المحيط به علاقة انسجام ووئام، لا علاقة صراع وعداوة.
التربية الجنسية للطفل
1 - ختان الأطفال الذكور
الختان: هو إزالة الجلدة الموجودة على رأس الذكر، وهو من سنن الفطرة المباركة الواردة في الشرع، وله فوائده الصحية الكثيرة، فمنها: أنه يقلل من أسباب الإصابة بمرض السرطان الخبيث، ويقلل من سلس البول الليلي الذي يكثر عند الأطفال، إلى جانب أنه يجنب الطفل كثرة العبث بأعضاءه التناسلية، إذ إن هذه الجلدة إذا لم تقطع تثير الأعصاب التناسلية وتدعو إلى حكها ومداعبتها. ولا داعي للختان إذا ولد الصبي مختوناً. كما أنه ليس للختان سنة في عمل حفل أو جمع الناس وإنفاق الأموال.
أما موعد الختان فقد اختلف فيه العلماء، فكرهه بعضهم في اليوم السابع، مخالفة لليهود، وعند المالكية يكون الختان عند أمر الصبي بالصلاة، أي ما بين السابعة إلى العاشرة من عمره، وقد نقل أن السلف كانوا يختنون أولادهم حين يراهقون البلوغ، والأمر في الختان واسع فلو عمله يوم السابع أو بعده، أو قبل البلوغ فلا بأس إنما المهم في الأمر أن لا يبلغ الولد إلا وقد ختن، وقد رجح بعض العلماء أن الختان في الأيام الأولى من عمر الصبي أفضل، وذلك لسهولته عليه، وسرعة شفاء جرحه.(1/396)
2 - أدب الاستئذان في التربية الجنسية للطفل
تعم الثورة الجنسية كل مكان، فلا يكاد مكان على وجه الأرض يخلو من هذه الإثارة المنحرفة، وقد تقدم وصف مظاهر هذه الثورة العارمة. ولما كان سلطان الآباء المصلحين في الأرض ضعيفاً، فلا حول لهم ولا قوة يحمون بها أبناءهم خارج البيوت من آثار هذه المظاهر الجنسية المنحرفة، سوى ما يبثونه فيهم من المعاني الصالحة الطيبة، والتقليل من اختلاطهم بالمجتمع المتسيِّب. فإن واجبهم في حماية أولادهم داخل البيوت من هذه الثورة الجنسية ومظاهرها المنحرفة فرض لا يُعذرون بتركه، أو إهماله.
ومن الأسباب التي يتخذها الأب لحماية الأولاد داخل البيت: تعليمهم آداب الاستئذان، التي تحميهم من احتمال وقوع أعينهم على ما يثيرهم جنسياً، كما تحميهم من أن تُشغل عقولهم بقضايا متعلقة بالجنس لا يجدون لها تفسيراً، لضعف عقولهم، وقلة خبرتهم بهذه الشؤون.(1/397)
ونظراً لأهمية هذا الأدب الإسلامي، فقد ورد ذكر الاستئذان وآدابه في القرآن الكريم، حيث حدد الله - عز وجل - أوقات الاستئذان، والأوقات التي لا يُشرع فيها استئذان، فقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:58]، وهذا الأدب يخص الخدم المملوكين، والأطفال دون سن التكليف أي قبل البلوغ. فهم مأمورون بالاستئذان قبل الدخول على أهل البيت من الأم، أو الأب، أوالأخوات، أو غيرهم. قال جابر رضي الله عنه: ((يستأذن الرجل على ولده، وأمه وإن كانت عجوزاً وأخيه وأخته وأبيه)). وهذا الاستئذان يكون في الأوقات المتوقع انكشاف العورات فيها، والتخفف من الملابس، وهي: ((حين الاستيقاظ من النوم، وحين إرادة النوم، وحين القائلة)) وفي غيرهذه الأوقات يحل للطفل المميز الدخول على أهل البيت دون استئذان، ولكن يستحب له إلقاء السلام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام لأنس بن مالك: ((يا بني إذا دخلت على أهلك فسلم يكون بركة عليك وعلى أهل بيتك)). فمن بركات هذا السلام: مزيد من الحيطة، وإشعار لأهل البيت بالقدوم.
ويمكن تحديد سن الاستئذان للولد بسبع سنين، حين يدرك الطفل في هذه السن بعض القضايا المتعلقة بالجنس، فيُبدأ معه في هذا السن بالتربية الجنسية.
ويرى بعض العلماء أن فتح الباب، ورفع الستر، وتخصيص غرف لكل نوع من أنواع الأسرة يكفي عن الاستئذان، فرفع الستر، وفتح الباب يعد إذناً بالدخول لمن شاء.(1/398)
وبناء على ذلك فإن الأب، وكل من يخشى انكشاف عورته من أفراد الأسرة يؤمر بإغلاق باب غرفته بالمفتاح، أو المزلاج ليكون ذلك إعلاماً للأولاد بعدم الدخول، كما أن الطفل الغافل، أو الذي لم يتدرب بعد على أدب الاستئذان لا يمكنه بحال أن يقتحم غرفة قد أوصد بابها، فإن حدث وغفل الأب عن إغلاق الباب ودخل الولد الغرفة بغير استئذان، وشاهد منظراً جنسياً، فإن ذلك يسبب له إزعاجاً نفسياً كبيراً، لهذا وجب أخذ الاحتياطات اللازمة لمثل هذه الحالات. ويُدرب الولد على طرق الباب دائماً كلما دخل من باب مغلق، فإن لم يفعل مرة: أُمر بالعودة والطرق من جديد ليتعلم ويتعود.
ولا ينبغي ولا يجوز الالتفات إلى قول من يرى بأفضلية إتاحة الفرصة للولد ليرى والديه بغير ملابس في بعض الأحيان. فإن هذا من الضلال، إلى جانب مخالفته الواضحة لمقاصد الشريعة الإسلامية من تشريع أحكام الاستئذان، والتي لم تشرع إلا لحماية نظر الولد من وقوعه على عورة والديه، أو أهل بيته من المحارم، وغيرهم.
3 - ضوابط إعطاء الطفل المعلومات الجنسية
يعتبر مجال التربية الجنسية مجالاً خصباً لأهل الأهواء لنشر باطلهم، وانحرافاتهم الخلقية، وأفكارهم الضالة، بدعوى العلم والموضوعية. زاعمين خوفهم على النشء الجديد من العقد النفسية، والضلال الجنسي، فمنهم من يزعم أن للطفل نشاطاً جنسياً يبدأ من ميلاده، يتمثل في علاقة الولد بأمه، وكرهه لأبيه الذي ينافسه عليها، ويسمون هذا النوع من الشعور "بعقدة أوديب". وبعضهم لا يرى مانعاً من نظر الولد لعورة والديه في بعض الأحيان، ولا بأس عندهم من أن يتناول الأطفال من أبناء الأسرة الواحدة فروج بعضهم البعض. والبعض الآخر من هؤلاء يسعى نحو تخفيف تأنيب الضمير لدى متعاطي العادة السرية فيزعمون أنها لا تضر الجسم.(1/399)
وهكذا تصدر الكتابات الكثيرة في هذا المجال الخصب ليضلوا بها الآباء عن قصد، أو عن غير قصد، معتمدين على بعض الوقائع، أو التجارب، أو الآراء والاتجاهات الشخصية. ولعل لهؤلاء وأتباعهم من أهل الملل الضالة شيئاً من العذر؛ لقلة ما في أيديهم من وحي الله المبارك. أما المسلمون فلا عذر لهم يُقبل بعد أن حباهم الله بهذا الدين، وحفظه لهم دون تحريف، أو تبديل، ففيه الهدى والكفاية عن اتباع أهواء أهل الكتاب، ومن شابههم من أهل المذاهب الضالة.
وقد تضمن القرآن الكريم، والسنة المطهرة آداباً، وتوجيهات كثيرة في هذا المجال، فالاستنجاء، وآداب الغسل، والطهارة، والوضوء للصلاة، تعد مدخلاً جيداً للتربية الجنسية في مرحلة الطفولة، فيتعلم الولد أسماء الأعضاء التناسلية من خلال الممارسة العملية عند تدريبه على الاستنجاء بنفسه، فتسمى له هذه الأعضاء بأسمائها الصحيحة المؤدبة دون الأسماء العامية المنتحلة القبيحة، فيقال له عند التدريب: ((اغسل ذكرك، أو قضيبك هكذا، واغسل خصيتيك هكذا، ونظف دبرك وإليتيك هكذا))، وبهذه الطريقة يتعلم الولد كيف ينظف نفسه، إلى جانب أنه يتعلم أسماء هذه الأعضاء من المصدر الصحيح الموثوق، دون أن تُعطى هذه الأعضاء وأسماؤها هالة من السرية، فلا تُثار رغبة الولد نحو مزيد من المعلومات حول هذا الموضوع.
ولا بد أن يدرك الأب أن عدم إعطاء الأولاد المعلومات الصحيحة الكافية حول القضايا المتعلقة بالجنس، سوف يدفع الأولاد للحصول على معلومات من جهات مشبوهة فيؤثر ذلك على أخلاقهم، ونفسياتهم، وعقولهم.
ولا ينبغي أن يعتقد الأب حرمة الحديث عن القضايا المتعلقة بالجنس، وتعليم الأولاد الاتجاهات الصحيحة في ذلك؛ بل هي جائزة، وربما كانت واجبة في بعض الأحيان إذا ترتب عليها حكم شرعي.(1/400)
والطفل بين السنة الثانية والثالثة يستطيع أن يدرك الفرق بين الجنسين: كأبويه، وإخوته، وأخواته. ويمكن أن يبدأ الأب معه في التربية الجنسية في هذا الجانب إذا أكثر من الأسئلة حول هذا الموضوع، ولوحظ انشغال ذهنه به.
ويخجل الآباء من الإجابة على أسئلة الأولاد، ومصارحتهم ببعض القضايا الجنسية، مثل الفرق بين الولد والبنت، وهذا أمر طبيعي، إلا أن هناك مفهوماً ينبغي أن يدركه الآباء، وهو: أن سؤال الطفل عن الجنس، وما يتعلق به من اختلاف بين الذكر والأنثى، وغير ذلك لا يختلف عن سؤاله عن لون السماء، وذلك لأن خلفية الولد عن هذا الموضوع ضحلة، وربما أنه لا يعرف عنه شيئاً، فهو لا يدرك العلاقات الجنسية بين الكبار، وأن الحديث عن هذا الموضوع من العيب إلا في عامه الثامن، لهذا فإن هدوء الأب، واتزانه، وجوابه للولد عن سؤاله بالمعلومات الصحيحة المقنعة، والمناسبة لسن الولد، يعد الأسلوب التربوي الصحيح في هذا الجانب. فإذا سأل الطفل عن العلاقة بين الجنسين، أو كانت لديه أفكار مشوشة حول هذا الموضوع، فإن الأفكار الصحيحة تقرب إلى ذهنه من خلال اطلاعه على العلاقات الجنسية عند الحيوانات، وكيف تتم عملية تلقيح النباتات، مع ملاحظة عدم التعمق في تفصيلات جانبية كثيرة، ولتطبيق هذا الاقتراح يؤخذ الولد إلى حديقة الحيوان ليشاهد شيئاً من ذلك، أو تشرح له عملية التلقيح في النبات، وكيف أنه لا ثمرة إلا بهذا التلقيح، كما أنه لا حمل، ولا مولود إلا بهذا الإتصال الجنسي، على أن لا يخوض معه في كيفية الاتصال الجنسي بالنسبة للبشر، فإن ألح في السؤال عن دور الأب فالبعض يقترح أن يُجاب بأن الأب يضع بذرة تجعل الطفل ينمو في بطن الأم. ولا بد من الإقرار بأن الأطفال يأتون من أمهاتهم، دون الكذب بأن الطفل جاء من المستشفى، أو جاء به الطير، فالصدق أفضل.(1/401)
ولا بد من الاكتفاء بقدر معين من المعلومات الجنسية مراعين في ذلك سن الولد، وقدراته العقلية، مع تقديم هذه المعلومات عند الحاجة بهدوء، دون فوضى، أوغضب، أو غموض وسرية، مع الاحتشام والصراحة والصدق. ولا بأس بتزويد الولد بعض الكتب الفقهية البسيطة التي تتحدث عن هذا الموضوع.
وكل هذه الإجراءات تكون مع الولد الذي شغلته هذه القضايا وأخذ يسأل عنها بإلحاح، أما الولد الذي لم تشغله ولم يسأل عنها فلا داعي لإثارتها معه إلا في أضيق الحدود.
4 - مسؤولية الآباء تجاه الانحرافات الجنسية
يعيش العالم حالة من الإثارة الجنسية العارمة المنذرة بالهلاك والدمار العام، فلا يكاد الإنسان ينظر يمينه أو شماله إلا ويجد تلك الإثارة التي تدغدغ الرغبات الجنسية في الرجل والمرأة، وتلهب نار الشهوة فيهما، فالتلفاز، والإذاعة، والمجلة، والجريدة، كل هذه الوسائل تصب في بحر الإغراء والتحريض على الفواحش. وحتى الإعلانات الدعائية للمنتجات الاستهلاكية المختلفة تحمل الصور الإغرائية، حتى الإعلانات لإطارات السيارات تجدها وقد صُوِّرت بجانبها امرأة شبه عارية، فلا يكاد يُوجد إعلان دعائي بدون امرأة عارية أو شبه عارية. وفي الشارع اختلط النساء المتهتكات المتبرجات بالرجال، فمن وقت لآخر في هذه الشوارع والأسواق تُسمع عبارات الغزل، والإغراء بالفاحشة بين الجنسين، وقد انطلقت عيون الشباب تترقب نظرة، أوحركة من الفتيات المتهتكات حتى يلحقوا بهن أملاً في تحقيق مآربهم الخبيثة.(1/402)
وإن الناظر في الشارع المسلم يجد هذا واضحاً جلياً لا يخفى؛ بل حتى البلاد التي تقيد نساؤها بالحجاب الموروث المنبثق لبسه عن العادة الجارية، والتقليد الأعمى ظهرت على أكثرهن علامات كرهه، والرغبة في خلعه، والتخلص منه بالكلية. ويظهر ذلك في النساء الكاسيات العاريات، اللاتي وضعن الحجاب ليزيدهن إغراء وغواية، فكثير منهن تبدي بعض شعرها مصففاً بطريقة مغرية، وقد أبدت وجهها وعليه ألوان من المساحيق المختلفة، وربما لبس بعضهن البنطلون الضيق، ومن وقت لآخر تكشف طرفاً من عباءتها الرقيقة القصيرة ليظهر بعض ما تخفيه من الزينة الباطنة، إلى جانب استعمال الأحذية المرتفعة التي يتطلب السير بها التكسر والتمايل.
والعجيب أن هذا يحدث بين ظهراني المسلمين دون نكير، فلا يكاد يُرى الرجل في السوق ينهى النساء عن التبرج، أوالشباب عن التميع والتهتك، إلا من بعض رجال الهيئات الرسمية، دون أن يكون لهم من رجال المجتمع معين أو مساعد، بل ربما وجدوا منهم المثبط المنكر عليهم قيامهم بواجباتهم.
وقد ساقت كثرة الانحرافات الجنسية وشيوعها بعض البلاد المنتسبة إلى الإسلام إلى إباحة الزنا في قوانينها، وتنظيم عملية البغاء، والسماح بفتح دور للدعارة المنظمة، إلى جانب الترخيص بفتح الملاهي، والمراقص، مما قد يسوق هذه الدول وحكوماتها إلى خطر الوقوع في الكفر؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، بل إن الفوضى الجنسية العارمة أدت إلى ظهور الشذوذ الجنسي بصورة جديدة، ومنظمة، وقوية، مما جعل قضية الضلال الجنسي باكتفاء الرجال بالرجال، والنساء بالنساء مشكلة خطيرة تنذر بالانقراض، وانتشارأمراض جديدة فتاكة لا علاج لها.(1/403)
لهذا كان واجب الأب المسلم أن يكون باباً قوياً مغلقاً في وجه هذه الانحرافات، واثقاً بالله - عز وجل -، ومتعلقاً بحبله المتين، وقد فرَّغ من قلبه اليأس والقنوط، ووضع نصب عينيه الأمل في الإصلاح، وله في رسول الله والأنبياء من قبله عليهم جميعاً الصلاة والسلام وفي مجددي الأمة وعلمائها القدوة في نبذ اليأس، والسعي الجاد وراء بصيص من الأمل في الإصلاح والتغيير.
5 - حماية الولد من خطر الشذوذ الجنسي
حكى الله U في كتابه المنزل قصة قوم لوط، الذين شاعت فيهم فاحشة اللواط، فقال تعالى مخبراً عن نبيه لوط عليه السلام:{وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل:54-55]، ولما كانت هذه الفعلة من أعظم المعاصي والكبائر التي توجب غضب الرب U، كان عقاب أصحابها من أفظع العقوبات وأشنعها، فقد حكى سبحانه وتعالى كيف عاقبهم بعد أن عتوا واستكبروا فقال: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:82-83]، فتنوع عقابهم بين الرمي من علو، والرجم بالحجارة، وذلك لفظاعة جرمهم، وسوء فعلتهم.(1/404)
ولم تكن هذه الفاحشة معروفة لدى العرب في جاهليتهم، فقد قال الوليد بن عبدالملك رحمه الله: ((لولا أن الله U قص علينا قصة قوم لوط في القرآن ما ظننت أن ذكراً يعلو ذكراً)). ورغم هذا فقد حذر الرسول r من هذه الفاحشة، وكأنه أُلهم وقوعها في الأمة، وابتلاء البعض بها حيث قال: ((إن أخوف ما أخاف على أمتى عمل قوم لوط))، وقال أيضاً مبيناً أن هذه الفاحشة إذا اجتمعت ببعض الجرائم الأخرى أوجبت الدمار للأمة والهلاك: ((إذا استحلت أمتي ستاً فعليهم الدمار: إذا ظهر فيهم التلاعن، وشربوا الخمور، ولبسوا الحرير، واتخذوا القيان، واكتفى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء)). أي استغنى كل جنس بنوعه، فالذكر يقضي وطره مع الذكر، وكذلك الإنثى. وقال في حد اللوطي وعقابه: ((من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به)). وقد كان بعض السلف رضوان الله عليهم يرى في عقاب اللوطي أن يُرمى من بناء مرتفع، ثم يُرجم بالحجارة حتى الموت، دون النظر إلى كونه محصناً أو غيرمحصن. وقد نُقل عن أربعة من الخلفاء إحراق من تلبس بهذه الجريمة وهم: أبوبكرالصديق، وعلي بن أبي طالب، وعبدالله بن الزبير، وهشام بن عبدالملك.
وقتل المفعول به الراضي بالوطء أفضل من استبقائه مع الجلد أو التعزير، وذلك لأن هذه الفعلة القبيحة تفسده فساداً كبيراً، فتزيل معاني الرجولة من نفسه، ويكون مصيدة للمنحرفين الشاذين يقضون منه وطرهم، فينافس بذلك النساء، يقول ابن كثير رحمه الله واصفاً أضرار اللواط: "إن في اللواط من المفاسد ما يفوت الحصر والتعداد ولهذا تنوعت عقوبات فاعليه، ولأن يُقتل المفعول به خير من أن يؤتى في دبره، فإنه يفسد فساداً لا يرجى له بعده صلاح أبداً، إلا أن يشاء الله، ويذهب خبر المفعول به. فعلى الرجل حفظ ولده في حال صغره وبعد بلوغه، وأن يجنبه مخالطة هؤلاء الملاعين، الذين لعنهم رسول الله r".(1/405)
ولا تقتصر مضار هذه الفاحشة على الجانب النفسي فحسب، بل لها مضار جسمية كثيرة أقلها الابتلاء بمرض نقص المناعة "الإيدز"، ذلك المرض الفتاك الذي لم يجد له العالم دواء ناجحاً رغم السعي الحثيث، والمحاولات الكثيرة، والدعم المالي المستمر.
ومشكلة اللواط اليوم لا تقتصر على وجود أشخاص شاذين في أنحاء متفرقة من العالم، بل قد أصبح لهؤلاء المنحرفين جمعيات رسمية تحميهم، وتنظم عملهم القبيح، ولا يقتصر نشاط هذه الجمعيات على البالغين فقط، بل أصبح إتيان الصبيان الصغار في أمريكا أمراً معروفاً، له جمعيات خاصة. كما أن استخدام هؤلاء الصبيان في الجنس، وتصويرهم في مواقف جنسية شاذة للتجارة بصورهم أصبح أيضاً أمراً منظماً، ففي نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية يُستغل أكثرمن عشرين ألف طفل في أغراض جنسية بواسطة شركات الدعارة المنظمة، وهذا فقط خلال النصف الأخير من عام 1977م. وبعض التقديرات والإحصاءات المعتدلة تشيرإلى أن 10% من الأطفال في أمريكا يتعرضون للاعتداء الجنسي في كل عام، وفي بريطانيا التي أباحت قوانينها اللواط يوجد ما يقارب من ستين ألف غلام يمارسون هذه الفاحشة من أجل كسب المال، وفي ألمانيا أُبيحت هذه الفاحشة أيضاً ولكن بشرط رضا الطرفين، وفي حالة صغر المفعول به يكون الرضا بيد وليه.
إن القضية إذا انحصرت في البالغين الذين اختاروا لأنفسهم هذا النهج المنحرف: تكون قضية اختيار منهم عن طواعية ورضا، أما أن تصل إلى غير المكلفين من الأطفال الأبرياء، فيتشربوا هذه الفاحشة منذ نعومة أظفارهم فإن المسألة تكون خطيرة للغاية. فما هو البناء النفسي الذي سوف يكون عليه هؤلاء الأطفال إذا كبروا ؟ وهل سوف يفوقون أساتذتهم في هذا المجال المنحرف لعمق خبرتهم، وطول باعهم ؟ وكيف سوف يواجه العالم هذه المشكلة في المستقبل ؟(1/406)
إن إيراد مثل هذه الإحصائيات عن المجتمع الغربي لا يعني أن المشكلة لا تخص المجتمع المسلم، فإن العالم اليوم يُعد قرية واحدة لعمق الصلات، والمصالح المشتركة، وسهولة المواصلات والاتصالات بأنواعها، واختلاط المسلمين بغيرهم في البلاد الإسلامية، وغيرالإسلامية، مما يُنذر باحتمال انتشار مثل هذه الجرائم الشنيعة بين أوساط المسلمين.
ولا يعني عدم نشر إحصاءات عن أوضاع الشذوذ الجنسي في المنطقة الإسلامية خلوها من هذه الفاحشة الممقوتة، فإن حالات الشذوذ الجنسي توجد في كل مجتمع مع فروق في النسبة؛ بل وحتى المجتمع المسلم في القديم قد ابتلي بعض أفراده بالميل إلى المردان، ومجالستهم، وربما قام بعض المنحرفين منهم بعمل الفعلة القبيحة. لهذا كان بعض علماء السلف رحمهم الله يحذرون من مجالسة الأمرد، وينهون عن حضوره إلى حلقهم خشية الفتنة به، وقد نص ابن قدامة في المغني على أن ((الأمرد إن كان جميلاً يخاف الفتنة بالنظر إليه لم يجز تعمد النظر إليه)).
والأمرد الشاب الذي لم تنبت لحيته بعد، حيت يتراوح عمره ما بين العاشرة والخامسة عشرة. وفي هذه السن خاصة يحرص الأب على حماية ولده من الشاذين، ويحذر إهمال ذلك، فقد اعترف أحد الشاذين العرب، وباح بسبب انحرافه وشذوذه، حيث كان أبواه يهملانه بانشغالهما خارج البيت، وهو في سن الطفولة، مما أدى إلى وقوعه ضحية لأحد رفقاء السوء، حيث كان يجهل الخطأ والصواب.
ولا بد للأب أن يحذر أيضاً كل من لا يخاف الله من الفساق، حتى وإن كان بعضهم من الأقرباء، أو الجيران، أو الأساتذة، فإن الإحصاءات في أمريكا تشير إلى أن أكثر الاعتداءات الجنسية على الأطفال تقع مع أفراد يعرفونهم مثل أستاذ المدرسة، أو طبيب العائلة، أو مستشار المخيم، فلا يترك الأب مجالاً لخلوة الولد بأحد هؤلاء مهما كانت الظروف.(1/407)
وربما يحدث الاعتداء الجنسي على الولد من قبل طفل أكبر منه سناً، فإن بعض الأطفال ينضجون جنسياً في مرحلة مبكرة، كما أنه بالإمكان قيام علاقات جنسية بين الأولاد قبل البلوغ. لهذا فإن اختيار الأب لأصدقاء الولد ممن هم في سنه، أو أصغر سناً يعد اختياراً حسناً مأموناً، فلا يتركه يصاحب الكبار من الصبيان إلا أن يضمن، ويتأكد من استقامتهم، وحسن تربيتهم.
ويتنبه الأب للتقليل من خلوة الولد قبل سن البلوغ بغيره من الصبيان، ويعمل على أن يكون عددهم ثلاثة أو يزيدون، وذلك للتقليل من احتمال غواية الشيطان لهم، فالشيطان أقرب للإثنين منه إلى الثلاثة.
ومن أعظم أسباب انتشار هذه الفاحشة، وجرأة أهلها: الميوعة، والتخنث الذي ابتلي به بعض الصبيان، فمن مظاهرهذا التميع والانحلال: إطالة الولد لشعره تشبهاً بالنساء، ولبس "البنطلون" الضيق الواصف للبدن، أو لبس بعض الملابس الخاصة بالشاذين، وجرالذيول، والتكسر في المشية، والخضوع في الكلام، والتردد على الأماكن المشبوهة.
فإذا ظهر على الولد شيء من هذه المظاهر المنحرفة، وجب على الأب الحذر من احتمال انحراف ولده، حتى وإن كان الولد يجهل قبح هذه القضايا. فإن المنحرفين ينتظرون رؤية شيء من هذه المظاهر لينقضوا على فريستهم بشتى الوسائل والحيل الماكرة.
ولا بد للأب من تربية ولده الصغير على الرجولة والخشونة، خاصة إن كان الولد جميل المطلع، أبيض اللون، ممتلئ الجسم، فيعوده الخشونة في المأكل والملبس، ويعوده الرياضة القوية، التي تبني جسمه وتخشن جلده، ولا بأس أن يعوده حلاقة رأسه إن كان شعره سبب جماله، اقتداء بعمر بن الخطاب رضي الله عنه في التعامل مع الرجل الجميل الذي افتتن به النساء. ويعوده لبس الملابس والثياب الفضفاضة، وتغطية رأسه تشبهاً بالكبار البالغين، ويحذره من إسبال الثوب مثل النساء، ولبس الذهب والحرير، فهو من علامات التخنث والميوعة، إلى جانب أن ذلك من المحرمات على الرجال.(1/408)
وإن كان الأب من أهل الجاه والغنى فإن واجبه في حفظ ولده آكد لأن أولاد الأغنياء في العادة مرفهون، ويظهر عليهم أثر النعمة، من نعومة البدن، وصفاء اللون، وطيب الرائحة، وحسن ارتداء الثياب، فيكونون بذلك أرغب وأدعى لوقوعهم تحت أيدي المنحرفين. لهذا فقد كان بعض العلماء يحذر من مجالسة أبناء الأسرالمترفة. يقول الحسن بن ذكوان: ((لا تجالسوا أبناء الأغنياء فإن لهم صوراً كصور النساء وهم أشد فتنة من العذارى)).
كما أن احتمال وقوع الولد فريسة لأحد المنحرفين في الأسر الغنية أكبرمنه في الأسر المتوسطة الحال أوالفقيرة، وذلك لأن الأسر الغنية في العادة يشاركها في المسكن خدم وعمال وأفراد من غيرالأسرة يقومون على خدمتها، ورعاية شؤونها، وعادة ينتمي هؤلاء الخدم إلى جنسيات مختلفة، وثقافات متنوعة، ويظهر فيهم الجهل، وقلة الدين، فنادراً ما يكون من بينهم الصالح المستقيم، إلى جانب أن أكثرهم من العزاب، أو المغتربين عن أهليهم. وأعظم من هذا أنهم مؤتمنون على الأولاد، بل ربما كانوا مؤتمنين حتى على النساء والبنات، فلا يجد الأب غضاضة عندما يجد ولده جالساً يتحدث في غرفة الخادم، ولا يأبه إذا خلا البيت للخدم والأولاد، ولا شك أن مثل هذا الإهمال والتقصير من الأب يعد مدعاة لوقوع الفاحشة بالولد على حين غفلة من الأب، وربما استمر وقوع الفاحشة بالولد إلى فترة طويلة تحت طائلة الترغيب والترهيب، أو الإقناع، أو بأي وسيلة ماكرة خبيثة، خاصة وأن الولد الذي لم يُعْن والده بتربيته يقل فهمه للأمور, فلا يدرك الصواب من الخطأ، فيقع فريسة لأحد المنحرفين بسبب إهمال والديه، وجهله بمبادئ الخطأ والصواب.(1/409)
ويحذر الأب من اصطحاب أولاده إلى بلاد الكفار، والتي تقدم ذكر مظاهر الانحرافات الجنسية فيها. فإن اضطر إلى السفر سافر هو دونهم، وعهد بهم لأحد الأقارب المؤتمنين، فإن وجود الولد في جو منحرف ربما ساقه إلى الانحراف، أو وقوعه تحت يد أحد الشاذين فيعبث به. فإذا اضطر للسفر بالأولاد فعليه أن يحذر كل الحذر من إدخاله إحدى المدارس التعليمية هناك التي لا تأبه بهذه الانحرافات, فإنها منبع كل الانحرافات بشتى أنواعها, إلى جانب خطورة ما يتعلمه الأولاد من الكفر والزيغ عن عقيدة التوحيد. ومن عجيب انحرافات بعض هذه المدارس أن تجرأ أحد مجالس شمال لندن أن أضاف إلى المقررات الدراسية تدريس مناهج عن الشذوذ الجنسي، على أن تقدم للطلاب كأسلوب جديد للحياة. فهؤلاء الكفار لا حدّ لضلالهم وانحرافهم، فلا يجوز لأب مسلم يؤمن بالله واليوم الآخرأن يغامر بولده فيُلحقه بإحدى هذه المدارس الضالة المنحرفة.
وينبغي للأب عند سفره الاضطراري إلى بلاد الكفار أن يختارمن بين تلك البلاد أقلها انحرافاً، وأقربها إلى الفضيلة، وإن كان ولا بد من إلحاق الأولاد بمدرسة فإنه يجب عليه أن يبحث عن المدارس الإسلامية، التي تشرف عليها الجاليات المسلمة في أوروبا وأمريكا أو غيرها، ويقتصر على هذه المدارس دون غيرها، حتى وإن اضطر الأمر إلى أن يتأخر دخول الولد للمدرسة بعض الشيء، فإن المحافظة على عقيدة الولد، وشرفه أغلى من تعلمه كثيراً من العلوم المشبوهة في مدارس النصارى.(1/410)
ولا بأس أن يصارح الأب ولده الكبير بهذه الحقيقة إن احتاج إلى ذلك، خاصة إن كان يعيش في بلد انتشرت فيه هذه الفاحشة، فيحذره من الذهاب مع الغريب، أو أخذ الحلوى منه، أوالركوب معه في سيارته ليدله على بيت من بيوت الحي أو نحو ذلك، ولا داعي أن يبين الأب لولده كل تفصيلات هذه الجريمة، بل يكفيه أن يبين أن هؤلاء المنحرفين يمكن أن يضروه ضرراً بالغاً، ويذهبوا به إلى غير رجعة. وهذا البيان والتلميح عادة يكون مع الولد القليل الذكاء الساذج التفكير. أما الولد الذكي فإنه يدرك هذه القضايا من خلال احتكاكه بالمجتمع، فإن هذه الأمور لا تخفى عليه عادة.
ويمكن للأب تعريف أولاده بهذه الفاحشة، وتحذيرهم منها عن طريق عرض قصة سيدنا لوط عليه السلام مع قومه، فيبين ويشرح القصة كما جاء بها القرآن الكريم، ثم يعلق عليها مشيراً إلى أن هذه الفاحشة موجودة في كل مجتمع حتى المجتمعات المسلمة، ويوضح أنه لا بد من الحذر، والمحافظة على النفس والعرض من هؤلاء المنحرفين، ومن أساليبهم المختلفة التي يجتذبون بها الأولاد.
ولا بد للأب أن يسد حاجات أولاده ورغباتهم المختلفة، فلا يترك مجالاً لأحد ليستغل حاجتهم إلى المال، أو إلى لعبة، أو نزهة، أو غير ذلك، ومن وقت لآخر يحاول أن يتعرف على رغباتهم ومتطلباتهم. ويقوي صلته بهم حتى لا يخفون عنه شيئاً مما يرغبون فيه، وهولا يحرمهم من المباحات، حتى وإن كانت لا تناسب أعمارهم كقيادة السيارة، أو الدراجة النارية، وذلك لأنها من أعظم وسائل المنحرفين لجذب الأولاد. والولد الكبير شغوف بذلك، فلا بأس أن يشبع رغبة ولده في هذا المجال تحت إشرافه المباشر تحسباً للسلبيات التي يمكن أن تحدث.
6 - حفظ الولد من فاحشة الزنا(1/411)
لقد زُيِّن حب النساء والميل إليهن في صدورالرجال، كما رُكِّز ذلك أيضاً في قلوب النساء، وذلك لحكم عظيمة أرادها الله - عز وجل - من استمرار النوع البشري، وقضاء الوطر، والشعور بالسكن والأمن وغير ذلك من الحكم، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى هذا الميل بقوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران:14]، وبدأ سبحانه وتعالى في الآية بذكر حب النساء قبل باقي المحبوبات وذلك لعظم الميل إليهن والرغبة فيهن.
ولما كانت الفتنة بهن عظيمة، وضررهن على الرجال كبيراً: حذر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، فقال: ((ما تركت بعدى على أمتي فتنة أضر على الرجال من النساء)). لهذا حرم عليهن قصد إثارة الرجال عن طريق التبرج وإظهار الزينة، أوالتكسر في المشية، أوالخضوع في القول، وأُمرن بالتستر والاحتجاب، فإن ظهر من بعضهن نشوز، وانحراف، وتبرج، ورغبة في الاختلاط بالرجال: وجب على ولي الأمر منعهن من ذلك بالوسائل المختلفة كالحبس إن احتاج الأمر إليه، فإن اختلاطهن بالرجال هو أصل كل بلية، وسبب كل استنزال عقوبات الله - عز وجل -.
لهذا فإن المحافظة على نفسية الولد من رؤية النساء المتبرجات، والاختلاط بهن أمر واجب على الأب؛ إذ إن الولد قبل البلوغ في بعض الحالات يميل ويرغب في النساء؛ بل ربما كان الولد ابن العاشرة من البالغين خاصة في المناطق الحارة، لهذا فإن اختلاطه بالنساء والأمن عليه من الفتنة بهن يعد من أعظم أسباب الزنا، ووقوع الفاحشة، خاصة وأن شدة الإثارة الجنسية من حول الولد تثير فيه الرغبة والنزعة الجنسية.(1/412)
والاختلاط بالنساء من غير المحارم إذا لم يضرالولد بأن يثيره جنسياً، ويجعله يطلع على قضايا من أحوال النساء لا ينبغي أن يعرفها في ذلك السن، فإن حدوث العكس ممكن، إذ يصاب بالتخنث والرعونة، من جراء كثرة مصاحبتهن، وربما ساقه ذلك إلى التشبه بهن في الملابس، والكلام والمشي فيدخل تحت لعنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتشبهه بهن، فقد قال: ((لعن الله المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات من النساء بالرجال)).
أما ما يخص المحارم من النساء كالأخوات، والعمات، والخالات، وغيرهن من المحرمات على التأبيد فإنهن مأمورات بالاحتشام أيضاً، فلا يظهرن أمام الولد بالملابس الضيقة المغرية، أو الشفافة المظهرة للبشرة، أو بالملابس الداخلية،، بل يُؤمرن بالحشمة وعدم التكشف خاصة عند الحركة من القيام أو الجلوس، ولا بأس أن يؤمرن بارتداء السراويل الطويلة تحت الملابس؛ لضمان عدم ظهور عوراتهن أمام إخوانهن من الأولاد.
ولا بد من التفريق بين الأولاد عند النوم -خاصة بينهم وبين البنات- لقوله عليه الصلاة والسلام: ((مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعاً، واضربوهم عليها إذا بلغوا عشراً، وفرقوا بينهم في المضاجع)). فإن كثيراً من الانحرافات الجنسية المبكرة يعود سببها إلى إهمال التفريق بين الأولاد في المضجع، ونومهم مع الأبوين في غرفة واحدة. ويكون ذلك بتخصيص غرفة للأولاد وأخرى للبنات وثالثة للأبوين، مع استقلال كل طفل بغطاء يخصه، فلا ينبغي المشاركة في الغطاء، ولا بأس في المشاركة في الفراش، وإن كان الأفضل الاستقلال في كل ذلك.(1/413)
أما الاختلاط بالقريبات من غير المحارم بعد سن العاشرة بالنسبة للأولاد يُعد أمراً خطيراً يفسد الولد والأسرة، فإن الله أباح دخول الأولاد الصغار من غير المميزين على النساء الأجنبيات بقوله تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور:31]، أي لا طمع لهم في النظر إليهن بشهوة وتلذذ، ((والمقصود بالطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء في الآية: هم الأطفال الذين لا يثير فيهم جسم المرأة وحركاتها وسكناتها شعوراً بالجنس، وهذا التعريف لا ينطبق إلا على من كان سنه عشر سنين فأقل))، وللاحتياط لا بد من كف الولد من الدخول على النساء الأجنبيات من قبل العاشرة خاصة في البلاد الحارة، إذ إن سن العاشرة ربما كان البلوغ بعينه.(1/414)
أما بالنسبة للبنات الأجنبيات فينهاهُنَّ الأب عن اللعب مع أولاده ومخالطتهم قبل سن التاسعة. وذلك لأن أقل البلوغ عند النساء تسع سنوات، ولا ينبغي للأب التهاون في ذلك، خاصة مع القريبات كبنات الأخ، أو بنات الأخت، أوبنات الجيران، أوغيرهن، فلا يسمح لهن باللعب مع أولاده، أو الخلوة بهم، فإن احتمال وقوع الفاحشة في الخلوة ممكن، خاصة وأن أطفال هذا العصر يراهقون في سن مبكرة لشدة تأثير المهيجات الجنسية المختلفة في المجتمع الحديث، وقد حدث شيء من هذا في عهد الخليفة الزاهد عمر بن عبدالعزيز رحمه الله، إذ ((كتب عياض بن عبدالله قاضي مصر إلى عمر بن عبدالعزيز في صبي افترع صبية بأصبعه ؟ فكتب إليه عمر: لم يبلغني في هذا شيء، وقد جمعت لذلك، فاقض فيه برأيك، فقضى لها على الغلام بخمسين ديناراً)). وافترع صبية بأصبعه، أي: فض بكارتها بأصبعه. وهذا يدل على أنهما كانا في خلوة، والصبي لم يقدر على الجماع لصغر سنه، كما أن الصبية لم تمانع. فإذا كان وقوع مثل هذه الجرائم في مجتمع القرون المفضلة ممكناً، فكيف بمن يعيش في هذا الزمن ؟ فلا شك أن حدوث مثل هذه الوقائع، بل وأكبر منها، في هذا العصر ممكن ومحتمل. وقد نقل فضيلة الشيخ أبو الأعلى المودودي قصصاً ووقائع عن المجتمع الغربي تثبت إمكانية وقوع الفاحشة بين الصغار.(1/415)
والناظر في كتب الفقه يجد تفصيلاً دقيقاً حول أحكام الزنا التي يشترك فيها الصبيان دون سن البلوغ، فيلاحظ تنازع بعض الفقهاء في قضية تحصين الصبي للمرأة البالغة، هل يحصنها أو لا ؟ أما مسألة قدرته على الوطء فإنهم لا يناقشونها، وكأنها مسلمة بالنسبة للمراهق الذي قارب البلوغ، وبعضهم يعد جماع الصبي جماعاً بغير شهوة، ويجعل استعماله لآلته كاستعماله لأصبعه؛ ولعل هذا في حق الصغير الذي لم يقارب البلوغ. وسئل الإمام مالك رحمه الله ((أرأيت الصبي إذا بلغ الجماع ولم يحتلم بعد فقذفه رجل بالزنا أيقام على قاذفه الحد ؟)). وسئل أيضاً: ((أرأيت امرأة زنت بصبي مثله يجامع إلا أنه لم يحتلم ؟))، فأجاب رحمه الله عن هذه الأسئلة وغيرها، ولم يستنكر طبيعة السؤال ولم يستهجنه.
وبناء على ما تقدم يظهر أن جماع الولد الكبير ممكن وقريب الحصول، خاصة في هذا الزمن؛ لكثرة انتشار الفواحش، ووجود الإثارة الجنسية في كل مكان من حياة الناس، لهذا يحذر الأب هذه القضية، ويحفظ أولاده منها.
ومن مداخل الشيطان على الأب أن يحد مجال الاختلاط بين أولاده الكبار والقريبات من غير المحارم في حدود المصافحة، والجلوس على الطعام، والكلام البريء في البيت مع أفراد الأسرة الكبار كالأب والأم. وهذا من الخطأ؛ إذ إن الولد إذا لم يتعود غض البصر، والبعد عن مجالس النساء قبل أن يبلغ مبلغ الرجال، فإنه يتعود على ذلك كلما كبر، ويتلذذ برؤيتهن، ومصافحتهن، والحديث معهن، فيصعب على الأب بعد ذلك التفريق بينهم إذا كبروا.(1/416)
كما أن مصافحة الأجنبيات محرمة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام عندما همت امرأة تبايعه بمصافحته: ((إني لا أصافح النساء))، فامتناعه عن مصافحة النساء في الوقت الذي يقتضيها - وهو وقت المبايعة - دل ذلك على أنها غير جائزة. وإذا كان غض البصر واجباً خوف الوقوع في الفتنة، فإن مس البدن للبدن أدعى لإثارة الشهوة وتوقدها من مجرد النظر بالعين. وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام قوله: ((لأن يُطعن في رأس أحدكم بِمِخْيَط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له))، وقد نقل بعض العلماء إجماع المذاهب الأربعة على تحريم مصافحة المرأة الأجنبية.
ولا بد للأب أن يعرف ويدرك أن للأولاد والبنات قبل سن العاشرة رغبة جنسية تمكنهم من الاتصال الجنسي - كما تقدم - وتظهر هذه الرغبة أحياناً في ممارسة العادة السرية، والعبث بالأعضاء التناسلية ابتغاء الاستمتاع، فقد دلت بعض البحوث المتخصصة على ذلك، وأشار بعض المختصين إلى هذه القضية الهامة. لهذا فإنه لا بد من التفريق بينهم، وأخذ الأسباب والاحتياطات اللازمة لذلك، وعدم التذرع بأنهم من الأرحام الذين يجب صلتهم، فقد أشار بعض العلماء إلى أن الأرحام الذين يجب صلتهم هم الأرحام المحرمة بحيث لو كان أحدهم ذكراً والآخر أنثى حرمت مناكحتهما على التأبيد. فلا يدخل في ذلك أولاد الأعمام أو أولاد الأخوال، ولو افترض وجوب صلتهم، فإنها لا تكون بالاختلاط والمصافحة، والخلوة؛ بل تكون بالحشمة، والتستر، والكلام المهذب من وراء حجاب.(1/417)
ويمكن للأب توقيت سن الفصل بين الأولاد والقريبات من البنات بسن الثامنة، أو التاسعة، وذلك لأن في هذا السن يظهر لدى الأولاد الميل إلى أبناء جنسهم من الذكور، فيميلون إلى اللعب مع أقرانهم من الأولاد، والنفرة من اللعب مع البنات. فهذه الفرصة الطبيعية في التكوين النفسي للأطفال تُعد أفضل وقت لتعويد الأولاد الاستقلال عن البنات الأجنبيات في اللعب والاختلاط. ثم يتدرج الأب بعد ذلك شيئاً فشيئاً حتى يكون الفصل تاماً، ونهائياً عند قرب البلوغ، وظهور علاماته.
كما يلاحظ الأب حفظ ولده بعدم أخذه إلى الأسواق، خاصة التي يكثر فيها النساء حيث التبرج، والسفور، وإبداء الزينة، والغزل المعلن بين المراهقين، فإن هذه الأماكن لا ينبغي دخولها إلا لحاجة، أو ضرورة. فقد أشار ابن تيمية رحمه الله إلى أنه لا يجوز ارتياد الأماكن التي يشاهد فيها المنكر ولا يمكن إنكاره، إلا لضرورة شرعية، فما يحتاجه الأب لأولاده من المشتريات يمكن أن يتولى بنفسه تأمينها دون اصطحاب الأولاد؛ حفاظاً عليهم من رؤية المنكرات، وبذلك يكون الأب قد اتخذ الأسباب الشرعية للمحافظة على أولاده، وحمايتهم من بعض الانحرافات الجنسية.
7 - قبيحة العادة السرية عند الأطفال
العادة السرية هي ما يسمى في عرف الفقهاء بالاستمناء، وهو العبث بالأعضاء التناسلية بطريقة منتظمة ومستمرة بغية استجلاب الشهوة، والاستمتاع بإخراجها. وتنتهي هذه العملية عند البالغين بإنزال المني، وعند الصغار بالاستمتاع فقط دون إنزال لصغر السن. فلفظ العادة السرية يستخدم لجميع أنواع العبث، واللعب بالأعضاء التناسلية، إلا أن البعض يقصر مفهومها على حالات اجتلاب الشهوة. ولعل هذا الرأي الأخير هو الأقرب إلى الصواب، فمن الإجحاف أن يُعد التزام الولد الصغير لعضوه التناسلي، وعبثه به من وقت لآخر عادة سرية، أو استمناء، وإن كان في ذلك شيء من الاستمتاع.(1/418)
وحكمها في الإسلام التحريم؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المعارج:29-31]، ولا تجوز إلا عند الضرورة والحاجة، فعامة العلماء على تحريمها.
وقد دلت بعض البحوث على أنه يمكن أن يكون لبعض الأطفال نشاط جنسي قبل البلوغ، يتمثل في اللعب والعبث بالأعضاء التناسلية بغية الاستمتاع، حيث وجد أن ثلاثاً وخمسين حالة من بين ألف حالة فحصت بعيادة ببرلين بألمانيا قد مارست العادة السرية، وقد كانت النسبة الكبرى تخص الأولاد الذكور في المرحلة ما بين سبع إلى تسع سنوات، فانتشار العادة عند الأولاد أكثر منه عند البنات، كما وُجد في بعض الدراسات أن ثمانية وتسعين بالمائة من الأولاد قد زاولوا هذه العادة في وقت من الأوقات.
ويرى بعض المهتمين بالتربية أن ممارسة هذه العادة تبدأ في سن التاسعة عند عشرة بالمائة من الأولاد. ويرى البعض الآخر أنها تبدأ في الفترة من سنتين إلى ست سنوات، وبعضهم يرى أنها تبدأ في سن الشهر السادس تقريباً. وبعضهم يتطرف فيجعل بدايتها مع الميلاد، إذ يؤول جميع نشاطات الطفل بأنها نشاطات جنسية، وهذا بلا شك خطأ محض لا يُلتفت إليه، ولا يُلتفت أيضاً إلى كل قول يرى بداية ممارسة العادة السرية عند الطفل قبل أن يتمكن الطفل من التحكم تحكماً كاملاً في استعمال يديه، والحصول على بعض المعلومات في المجال الجنسي.(1/419)
ولعل أنسب الأقوال، وأقربها إلى الصواب أن بداية ممارسة هذه العادة بطريقة مقصودة غير عفوية يكون في حوالي سن التاسعة؛ إذ إن الطفل في هذا السن أقرب إلى البلوغ ونمو الرغبة الجنسية المكنونة في ذاته. أما مجرد عبث الولد الصغير بعضوه التناسلي دون الحركة الرتيبة المفضية لاجتلاب الشهوة أو الاستمتاع، لا يعد استمناء، أو عادة سرية. وهذا المفهوم مبني على تعريف العادة السرية بأنها العبث بالعضو التناسلي بطريقة منتظمة ومستمرة لاجتلاب الشهوة والاستمتاع، لا مجرد التزام العضو من وقت لآخر دون هذه الحركة المستمرة.
ويتعرف الولد على هذه العادة القبيحة عن طرق عدة. منها وقوع كتاب يتحدث بدقة وتفصيل عن هذه القضية فيتعلم كيفيتها ويمارسها، وطريق آخر تلقائي حيث يكتشف بنفسه لذة العبث بعضوه، وطريق آخر يعد أعظم الطرق وأخطرها وهو تعلم هذه العادة عن طريق رفقاء السوء من أولاد الأ قرباء، أو الجيران، أو زملاء المدرسة ممن حرموا نصيبهم وحقهم من التربية الإسلامية، والرعاية النفسية ((فقد لُوحظ أن أكثر الأطفال ممارسة للعادة السرية هم الأطفال المضطهدون، أوالمهملون، أو المنبوذون، أو من لا يظفرون بما يصبون إليه من تقدير في المدرسة أو ساحة اللعب)). ففي بعض الأوقات - بعيداً عن نظر الكبار - يجتمع هؤلأء الأولاد، ويتناقلون معلومات حول الجنس، ويتبادلون خبراتهم الشخصية في ممارسة العادة السرية، فيتعلم بعضهم من بعض هذه الممارسة القبيحة. وربما بلغ الأمر ببعضهم أن يكشف كل ولد منهم عن أعضائه التناسلية للآخرين، وربما أدى هذا إلى أن يتناول بعضهم أعضاء بعض. بل ربما أدت خلوة اثنين منهم إلى أن يطأ أحدهما الآخر، فتغرس بذلك بذرة الانحراف ، والشذوذ الجنسي في قلبيهما، فتكون بداية لانحرافات جنسية جديدة. كما أن الخادم المنحرف يمكن أن يدل الولد على هذه العادة القبيحة ويمارسها معه فيتعلمها ويتعلق بها.(1/420)
إن حل المشكلة وحماية الولد من خوض خبراتها المؤلمة خاصة قبل البلوغ بالنسبة للولد الكبيرفي طفولته المتأخرة، يكون أولاً وقبل كل شيء بتقوية صلته بالله, وتذكيره برقابته عليه، وأنه لا تخفى عليه خافية، فيعلمه الحياء من الله، ومن الملائكة الذين لا يفارقونه. ولا بأس باستخدام أسلوب عبد الله التستري الذي كان يردد في طفولته قبل أن ينام فيقول. (( الله شاهدي،الله ناظري، الله معي)). فيتركز في قلب الولد رقابة الله عليه، ونظره إليه، فيستحي منه، فلا يقدم على مثل هذا العمل القبيح.
ويضاف إلى هذا هجر رفقاء السوء، وقطع صلة الولد بهم، وتجنيبه إمكانية تكوين صداقات مشبوهة مع أولاد منحرفين، أو مهملين من أسرهم، حتى وإن كانوا أصغر منه سناً، فبإمكانهم نقل معلومات حول هذه العادة، أو قضايا جنسية أخرى، أو على الأقل يعلمون الولد شتائم قبيحة متعلقة بالجنس.
ثم يسعى الأب بجد وهمه في تكوين صداقات بديلة عن الصداقات المنحرفة، وصلات قوية بين أولاده وأولاد غيره من الأسر الملتزمة بمنهج الإسلام في التربية، متخذاً في ذلك الوسائل المرغبة المختلفة.
ويحمي الأب ولده من الكتب، والمجلات، والنشرات الطبية التي تتحدث عن هذه القضية بأسلوب غير تربوي، فتعرضها عرضاً يحببها إلى النفس، ويخفف ضغط تأنيب الضمير على ممارسيها، ويشغل وقته بالقراءة المفيدة، والاطلاع الجيد، وارتياد المكتبات العامة النافعة، كمكتبات المساجد، والمكتبات المهتمة بالكتب الشرعية النافعة، والثقافية المفيدة، أو تسجيله في أحد المعاهد العلمية، أو جمعيات تحفيظ القرآن في فترة ما بعد العصر.(1/421)
كما يمكنه أن يستغل ميل الولد إلى المخترعات والأعمال الميكانيكية، في طفولته المتأخرة بأن يؤمن له شيئاً من ذلك في المنزل، أو يسجله في بعض المعاهد التدريبية المأمونة؛ ليمارس هذه الأعمال النافعة التي يميل إليها عادة الأولاد في طفولتهم المتأخرة. من فوائدها أنها تشغل أوقاتهم، وتستغل طاقاتهم العقلية والجسمية فيما ينفعهم، فلا يلتفت الولد إلى ممارسة العادة السرية بسبب هذا الانشغال، واستنزاف الطاقة، فلا يأتي عليه الليل بستره إلا وقد أخذ منه جهد النهار طاقته، فلا يفكر إلا في النوم.
ويلاحظ الأب توجيه ابنه عند النوم بأن يلتزم السنة، فلا ينام على بطنه، فإن هذه النومة تسبب تهيجاً جنسياً بسبب احتكاك الآعضاء التناسلية بالفراش، إلى جانب أنها نومة ممقوتة مخالفة للسنة المطهرة.
أما بالنسبة للولد الصغير فإن عادة التزام الولد لعضوه التناسلي ووضع يده عليه من وقت لآخر: تحدث بعد بلوغ الولد سنتين ونصف تقريباً، وكثيراً ما يُشاهد الولد في هذه السن واضعاً إحدى يديه على عضوه التناسلي دون انتباه منه، فإذا نبه انتبه ورفع يده. ويعود سبب ذلك في بعض الحالات إلى وجود حكة، أو التهاب في ذلك الموضع من جراء التنظيف الشديد من قبل الأم، أو ربما كان سبب الالتهاب هو: إهمال تنظيف الولد من الفضلات الخارجة من السبيلين.
ومن أسباب اهتمام الولد بفرجه: إعطاؤه فرصة للعب بأعضائه عن طريق تركه عارياً لفترة طويلة، فإنه ينشغل بالنظر إليها، والعبث بها، والمفروض تعويده التستر منذ حداثته، وتنفيره من التعري.(1/422)
وإذا شوهد الولد واضعاً يده على فرجه صرف اهتمامه إلى غير ذلك كأن يعطي لعبة، أو قطعة من البسكويت، أو احتضانه وتقبيله. والمقصود هو صرفه عن هذه العادة بوسيلة سهلة ميسرة دون ضجيج، ولا ينبغي زجره وتعنيفه، فإن ذلك يثير فيه مزيداً من الرغبة في اكتشاف تلك المنطقة، ومعرفة سبب منع اللعب بها. ولا بأس أن يسأل الولد عما إذا كانت هناك حكة، أو ألم في تلك المنطقة يدفعه للعبث بنفسه.(1/423)