بحث في
الوعد وحكم الإلزام بالوفاء به ديانة وقضاء
للشيخ
عبدالله بن سليمان بن منيع
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على رسولنا الأمين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنَّا معهم بعفوه ومنِّهِ وكرمه .
وبعد :
فلقد استبشر أهل الغيرة والحسبة وأهل التقوى والصلاح من خواص المسلمين وعوامهم على قيام مؤسسات ومصارف إسلامية أخذ أصحابها على عواتقهم التقيد بقيود المكاسب الشرعية والابتعاد عن كل مكسب خبيث سواءٌ أكان ذلك عن طريق الربا أو الجهالة أو الغرر أو القمار أو كان من أي طريق من طرق أكل أموال الناس بالباطل، وذلك لغرض إنقاذ الاقتصاد الإسلامي من جراثيم الربا ومصائبه، فاتجهت هذه المؤسسات التجارية الإسلامية إلى التعامل في التجارة بالبيع والشراء والإجارة والأخذ بالطرق المختلفة لتحقيق الكسب الحلال من عقود السلم والاستصناع والمرابحة والتأجير المنتهي بالتمليك ونحو ذلك مما تبتكره التجارة الدولية، ولا يتعارض مع القواعد والأصول الشرعية. وقررت في أجهزة إداراتها أقساماً للرقابة الشرعية والفتوى.
واختارت أعضاء هيئآتها الشرعية ممن تثق بعلمه وأمانته وتقاه ورجعت إلى هذه الهيئات باستفتائها عن حكم أي طريق من طرق التجارة الدولية لتأخذ من هذه الطرق ما يضمن لها الكسب الحلال والاستثمار المشروع في حدود المقتضيات الشرعية، وقد ظهرت من هذه التحركات الاستثمارية بعض الإشكالات ومنها مسألة الوعد بالشراء أو البيع أو الإجارة أو القرض أو غير ذلك من أمور التجارة والإدارة المالية، وحكم الوفاء به من حيث الوجوب أو عدمه.(1/1)
وقد صدر في الموضوع مجموعة من البحوث من بعض أعضاء وخبراء مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي قدمت هذه البحوث للمجمع وجرى نقاشها في الدورة الخامسة للمجمع التي جرى انعقادها في مدينة الكويت في الشهر الخامس من عام 1409هـ، وصدر إثر ذلك قرار المجمع رقم 2 – 3 سيجرى إن شاء الله رصد نصه في ختام البحث.
وقد كان مني مساهمة متواضعة في تقديم بحث ضمن البحوث المقدمة للمجمع إلا أن هذا البحث لم يكن مني محل قناعة فاستعنت بالله تعالى في إعادة النظر في البحث المذكور وإعادة كتابته والله المستعان.
الوعد: من وعد يَعِد من باب ضرب يضرب، عِدَةً ووعداً. قال في تاج العروس قال في التهذيب: الوعد والعِدَة تكونان مصدراً واسماً. فأما العِدَة فتجمع على عدات، وأما الوعد فلا يجمع. ووعد تكون متعدية بالباء في الغالب تقول وعده بكذا. وتتعدى بنفسها فتقول: وعده الأمر. وواعده قال أبو معاذ: إذا واعدت زيداً إذا وعدك ووعدته ووعدت زيداً إذا كان الوعد منك خاصة.أ.هـ.
فالمواعدة مفاعلة وهي ما بين طرفين على نحو ما ذكره أبو معاذ ونقله عنه الزبيدي في التاج. والعد والعِدَة مصدران لوعد يَعِد ويكونان اسمين ولعل الإسمية في العِدَة أكثر توغلاً من الاسمية في الوعد. ولهذا يجوز جمع العِدَة على عدات، ولا يجوز في رأي جمهور أهل اللغة جمع الوعد.
والوعد معناه الإلتزام للغير بما لا يلزم ابتداءً. والموعِدَة نتيجة الوعد. قال تعالى: "وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ"[1]، وهذا المعنى يشمل لأن النذر إيجاب طاعة غير واجبة فهو التزام بما لا يلزم ابتداء.(1/2)
وقد جاءت لفظة الوعد في القرآن الكريم في مجموعة كثيرة من آياته يدل بعضها على أن الوفاء بالوعد متعين وأنه من شيم الصادقين، وأن إخلاف الوفاء به موجب للذم والعقوبة. قال تعالى: "كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ"[2]، وقال تعالى: "وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِن ءَاتَانَا مِن فَضْلِهِ لنَصَّدَّقَّنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ". إلى قوله: "فَأَعقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِم إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ"[3]، وقال تعالى في مدح إسماعيل عليه الصلاة والسلام والثناء عليه: "وَاذْكُر فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ"[4]. وقد استغفر إبراهيم عليه السلام لأبيه وأبوه كافر معاند تحرجاً من إخلاف وعده حيث وعده بالاستغفار له حتى تبيّن له أنه عدو لله فتبرأ منه قال تعالى: "وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ"[5].
وقد جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤكدة القول بذم مخلف الوعد ودالة على وجوب الوفاء بالوعد واستحقاق مخلف الوعد العقوبة.
1- ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا اؤْتُمن خان، وإذا وعد أخلف. قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله في تفسيره في توجيه الاستدلال ما نصه:
"فكون إخلاف الوعد من علامات المنافق يدل على أن المسلم لا يجوز له أن يتسم بسمات المنافقين".أ.هـ[6].(1/3)
2- وفيه عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء أبا بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي فقال أبو بكر من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين أو كانت قِبَلَه عِدَة فليأتنا. قال جابر فقلت وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا فبسط يديه ثلاث مرات قال جابر فَعَدَّ في يدي خمسمائة ثم خمسمائة ثم خمسمائة.
ففي هذا الحديث دليل على وجوب الوفاء بالوعد لأن المال ليس لأبي بكر وإنما هو من بيت مال المسلمين فدل ذلك على أن هذه العِدَة دين على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الشنقيطي في توجيه الاستدلال:
"فجعل العِدَة كالدين وأنجز لجابر ما وعده به النبي صلى الله عليه وسلم من المال فدل ذلك على الوجوب".أ.هـ.
وفي حديث أبي هريرة دليل على وجوب الوفاء بالوعد وأن خلفه من علامات النفاق وصفات المنافقين الموجبة بمجموعها لعقابهم في الدنيا وفي الآخرة.
3- وفي البخاري أن سعيد بن جبير قال سألني يهودي من أهل الحيرة أي الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله فقدمت فسألت ابن عباس فقال: قضى أكثرهما وأطيبهما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل، قال ابن حجر في الفتح:
"والغرض من ذكر هذا الحديث في هذا الباب بيان توكيد الوفاء بالوعد لأن موسى صلى الله عليه وسلم لم يجزم بوفاء العشر ومع ذلك فوفّاها فكيف لو جزم".أ.هـ.
وقال الشنقيطي في توجيه الاستدلال بحديث ابن عباس:
"ووجه الدلالة منه أنه قضى أطيبهما وأكثرهما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل فعلى المؤمنين الاقتداء بالرسل وأن يفعلوا إذا قالوا – إلى أن قال – ومن أقوى الأدلة في الوفاء بالعهد قوله تعالى: "كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ" لأن المقت الكبير من الله على عدم الوفاء بالقول يدل على التحريم الشديد في عدم الوفاء به".أ.هـ[7].(1/4)
وفي أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب لمحمد درويش الشهير بالحوت ما يلي:
4- إذا وعد أحدكم فلا يخف. رواه أبو يعلى والحاكم. وجه الدلالة أن الأمر للوجوب ما لم يصرفه صارف عنه.
5- إن حسن العهد من الإيمان. حسنه الحاكم وقال على شرطهما، وأقره الذهبي.
6- العِدَة دين. فيه حمزة بن داود ضعفه الدارقطني لكن له عِدَّة طرق فهو حسن.
7- وفي صحيح البخاري في باب ما يجوز من الإشتراط والثنيا في الإقرار والشروط التي يتعارفها الناس بينهم: قال ابن عون عن ابن سيرين: قال الرجل لكريّه أدخل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم فلم يخرج فقال شريح من شرط على نفسه طائعاً غير مكره فهو عليه[8].
فهذا وعد من الرجل لكريّه وقد دخل الكري في سبب الوعد فقضى شريح بلزومه عليه.
8- وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر". وجه الدلالة أن إخلاف الوعد من صفات المنافقين.
9- وفيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من علامات المنافق ثلاثة وإن صلّى وصام وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان".
10- وفي سنن أبي داود عن عبدالله بن عامر قال: دعتني أمي يوماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في بيتها فقالت تعال أعطيك. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أردت أن تعطيه؟ فقالت: أعطيه تمراً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما إنك لو لم تعطيه شيئاً كتبت عليك كذبة.
11- أورد ابن القيم رحمه الله في الجزء الأول من كتابة إعلام الموقعين ص386 – 387 أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب أن يوفي بنذره في الجاهلية من اعتكافه في المسجد الحرام.(1/5)
12- وقال: قال ابن وهب حدثنا هشام بن سعد بن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: وأي[9] المؤمن واجب قال ابن وهب وأخبرني إسماعيل بن عيّاش عن أبي إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "ولا تعد أخاك عَدَة تخلفه فإن ذلك يورث بينك وبينه عداوة". وجه الدلالة أن إخلاف الوعد همزة من همزات الشيطان لإيراث العداوة بين المسلمين قال تعالى: "إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بِيْنَكُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ... الآية"[10].
13- وروى الترمذي في سننه وحسنه من حديث أبي جحفية قال: ((رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض قد شاب وكان الحسن بن علي يشبهه وأمر لنا بثلاثة عشر قلوصاً فنبهنا نقيفها فأتانا موته فلم يعطونا شيئاً فلما قام أبو بكر قال من كانت له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عِدَة فليجيء فقمت إليه فأخبرته فأمر لنا بها)). وجه الدلالة أن أبا جحيفة رضي الله عنه وهو أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تقدم لأبي بكر ومعه أصحابه مطالبين بوفاء وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أجابهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر فأنجز لهم من بيت المال ما وعدهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم تنفيذاً لقوله رضي الله عنه ومناداته في الناس أنّ من كان له دين أو عِدَة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فليأتنا للوفاء بها. وقد مر توضيح ذلك في حديث جابر المتقدم ذكره.
14- وفي إحياء علوم الدين للغزالي أن ابن عمر لما حضرته الوفاة قال: إنه كان خطب إليّ ابنتي رجل من قريش وكان إليه مني شبه الوعد فوالله لا ألقى الله بثلث النفاق، أشهدكم أني قد زوجته ابنتي.(1/6)
15- جاء في صحيح البخاري في باب من أمر بإنجاز الوعد أن أبا سفيان أخبر ابن عباس أن هرقل قال له سألتك ماذا يأمركم فزعمت أنه يأمر بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة، قال: وهذه صفة نبي. وقد ذكر الشيخ محمد الشنقيطي في تفسيره وجه الاستدلال بهذا الحديث على وجوب الوفاء بالوعد فقال:
"فإن جميع المذكورات في هذا الحديث مع الوفاء بالعهد كلها واجبة وهي الصلاة والصدق والعفاف وأداء الأمانة"[11].
وأورد فيما يلي مجموعة من أقوال أهل العلم في التفسير والحديث واللغة والفقه في حكم الوفاء بالوعد:
1- قال ابن حجر رحمه الله في كتابه فتح الباري شرح صحيح البخاري في معرض شرحه الأحاديث التي أوردها البخاري في صحيحه في باب من أمر بإنجاز الوعد ما نصه!.(1/7)
قوله: باب من أمر بإنجاز الوعد. وجه تعلق هذا الباب بأبواب الشهادات أن وعد المرء كالشهادة على نفسه. قاله الكرماني، وقال المهلب: إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع وليس بفرض لاتفاقهم على أن الموعد لا يضارب بما وعد به مع الغرماء.أ.هـ. ونقل الإجماع في ذلك مردود فإن الخلاف مشهور لكن القائل به قليل. وقال ابن عبدالبر وابن العربي: أجّل من قال به عمر بن عبدالعزيز. وعن بعض المالكية: إن ارتبط الوعد بسبب وجب الوفاء به وإلا فلا، فمن قال لآخر: تزوج ولك كذا فتزوج لذلك وجب الوفاء به وخرّج بعضهم الخلاف على أن الهبة هل تملك بالقبض أو قبله؟. وقرأت بخط أبي رحمه الله في إشكالات على الأذكار للنووي ولم يذكر جواباً عن الآية يعني قوله تعالى: "كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ"[12]. وحديث آية المنافق. قال والدلالة للوجوب فيها قوية فكيف حملوه على كراهة التنزيه مع الوعيد الشديد. وننظر هل يمكن أن يقال يحرم الإخلاف ولا يجب الوفاء، أي يأثم بالإخلاف وإن كان لا يلزم بوفاء ذلك؟ قوله: وفعله الحسن أي الأمر بإنجاز الوعد – إلى أن قال – قوله وقضى ابن الأشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة بن جندب هو سعيد بن عمرو بن الأشوع كان قاضي الكوفة في زمان إمارة خالد القسري على العراق وذلك بعد المائة وقد وقع بيان روايته كذلك عن سمرة بن جندب في تفسير إسحاق بن راهويه قوله: قال أبو عبدالله هو المصنف رأيت إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهوية يحتج بحديث ابن الأشوع أي هذا الذي ذكره عن سمرة بن جندب. والمراد أنه كان يحتج به في القول بوجوب إنجاز الوعد – إلى أن قال – ثم ذكر المصنف في الباب أربعة أحاديث أحدها حديث أبي سفيان بن حرب في قصة هرقل.... ثانيها حديث أبي هريرة في آية المنافق... ثالثها حديث جابر في قصته مع أبي بكر فيها وعده به النبي صلى الله عليه وسلم من مال البحرين... ورابعها حديث ابن عباس في أي الأجلين(1/8)
قضى موسى به.أ.هـ[13].
ومما ذكره البخاري رحمه الله في صحيحه وابن حجر في شرحه يتضح أن من القائلين بوجوب الوفاء بالوعد عمر بن عبدالعزيز وابن الأشوع وسمرة بن جندب وإسحاق بن راهويه والقاضي شريح.
2- وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: "وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ"[14]. قال الثالثة: من هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم العِدَةُ دين. وفي الأثر: وَأْيُ المؤمن واجب. إلى أن قال في المسألة الرابعة: قال مالك ولو كان ذلك في قضاء دين فسأله أن يقضيه عنه فقال نعم. وَثَمَّ رجال يشهدون عليه ما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان – إلى أن قال – وفي البخاري "وَاذْكُر فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ" وقضى ابن الأشوع بالوعد وذكر ذلك عن سمرة بن جندب قال البخاري. ورأيت إسحاق بن إبراهيم – يعني ابن راهويه – يحتج بحديث ابن الأشوع.أ.هـ[15].
3- وقال الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله في تفسيره أضواء البيان على قوله تعالى: "وَاذْكُر فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ" ما نصه.(1/9)
اختلف العلماء في لزوم الوفاء بالعهد. فقال بعضهم: يلزم الوفاء به مطلقاً، وقال بعضهم: لا يلزم مطلقاً، وقال بعضهم: إن أدخله بالوعد في ورطة لزم الوفاء به، وإلا فلا. ومثاله ما لو قال له: تزوج. فقال له: ليس عندي ما أصدق به الزوجة فقال: تزوج والتزم لها بالصداق وأنا أدفعه عنه: فتزوج على هذا الأساس: فإنه قد أدخله بوعده في ورطة التزام الصداق، واحتج من قال بلزومه بأدلة منها آيات من كتاب الله دلّت بظواهر عمومها على ذلك وبأحاديث، فالآيات كقوله تعالى: "وَأَوْفُواْ بِالعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً" الإسراء: آية (34). وقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ" المائدة آية (1)، وقوله تعالى: "وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا" النحل آية (91). وقوله هنا: "إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ" مريم آية (54)، ونحو ذلك من الآيات. والأحاديث: كحديث ((العهد دين)) فجعلها ديناً دليل على لزومها: قال صاحب كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الأحاديث على ألسنة الناس:(1/10)
((العِدَة دين)) رواه الطبراني في الأوسط، والقضاعي وغيرهما عن ابن مسعود، بلفظ قال: لا يعد أحدكم صبيّة ثم لا ينجز له: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وذكره بلفظ ((عطية)) ورواه البخاري في الأدب المفرد موقوفاً. ورواه الطبراني، والديلمي عن عليّ مرفوعاً بلفظ ((العِدَة دين، ويل لمن وعد ثم أخلف ويل له...)) ثلاثاً. ورواه القضاعي بلفظ له ((عِدَة المؤمن دين وعِدَة المؤمن كالأخذ باليد))، وللطبراني في الأوسط عن قباش بن أشيم الليثي مرفوعاً: ((العِدَة عطية)) وللخرائطي في المكارم عن الحسن البصري مرسلاً: أن امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فلم تجده عنده، فقالت عدني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن العِدَة عطية" وهو في مراسيل أبي داود، وكذا في الصمت لابن أبي الدنيا عن الحسن: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "العِدَة عطية". وفي رواية لهما عن الحسن أنه قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، فقال: ((ما عندي ما أعطيك)) قال: عدني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "العِدَة واجبة" قال في المقاصد بعد ذكر الحديث وطرقه: وقد أفردته مع ما يلائمه بجزء. انتهى منه، وقد عُلم في الجامع الصغير على هذا الحديث من رواية علي عند الديلمي في مسند الفردوس بالضعف.
وقال شارحه المناوي: وفيه دارم بن قبيصة، قال الذهبي: لا يعرف أ.هـ. ولكن قد مر لك أن طرقه متعددة، وقد روي عن غير علي من الصحابة كما قدمنا روايته عن ابن مسعود، وقباش بن أشيم الكناني الليثي رضي الله عنهما. وسيأتي في هذا المبحث إن شاء الله أحاديث صحيحة دالة على الوفاء بالوعد.(1/11)
واحتج من قال: بأن الوعد لا يلزم الوفاء به بالإجماع على أن من وعد رجلاً بمال إذا فلس الواعد لا يضرب للموعود بالوعد مع الغرماء، ولا يكون مثل ديونهم اللازمة بغير الوعد، حكى الإجماع على هذا ابن عبدالبر، كما نقله عنه القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة، وفيه مناقشة. وحجة من فرّق بين إدخاله إياه في ورطة بالوعد فيلزم، وبين عدم إدخاله إياه فيها فلا يلزم أنه إذا أدخله في ورطة بالوعد ثم رجع في الوعد وتركه في الورطة التي أدخله فيها فقد أضرّ به وليس للمسلم أن يضرَّ بأخيه لحديث ((لا ضرر ولا ضرار)).
وقال أبو عبدالله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: قال مالك:
"إذا سأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة فيقول له نعم، ثم يبدو له ألا يفعل فما أرى يلزمه، قال مالك ولو كان ذلك في قضاء دين فسأله أن يقضيه عنه فقال نعم وَثَمَّ رجال يشهدون عليه فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان".(1/12)
وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي وسائر الفقهاء: إن العِدَة لا يلزم منها شيء، لأنها منافع لمقبضها في العارية لأنها طارئة، وفي غير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض فلصاحبها الرجوع فيها، وفي البخاري "وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوَعْدِ" مريم: آية (54) وقضى ابن أشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة بن جندب، قال البخاري: ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع أ.هـ. كلام القرطبي، وكلام البخاري الذي ذكر القرطبي بعضه، هو قوله في آخر كتاب ((الشهادات)): باب من أمر بإنجاز الوعد وفعله الحسن ((واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد)) وقضى ابن الأشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة وقال المسور بن مخرمة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر صهراً له، قال وعدني فوفى لي، قال أبو عبدالله: ورأيت إسحاق بن إبراهيم بن سعد، عن صالح عن ابن شهاب، عن عبيدالله بن عبدالله أن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما أخبره قال أخبرني أبو سفيان: أن هرقل قال له: سألتك ماذا يأمركم: فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة قال: وهذه صفة نبي، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا إسماعيل بن جعفر عن أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف".(1/13)
حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام عن ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار عن محمد بن علي بن جابر بن عبدالله رضي الله عنهم قال: لما مات النبي صلى الله عليه وسلم جاء أبا بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي فقال أبو بكر: من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين، أو كانت له قِبَلَه عِدَة فليأتنا، قال جابر: فقلت وعدني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا فبسط يديه ثلاث مرات، قال جابر: فعد في يدي خمسمائة، ثم خمسمائة، ثم خمسمائة.(1/14)
حدثنا محمد بن عبدالرحيم، أخبرنا سعيد بن سليمان، حدثنا مروان بن شجاع عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال: سألني يهودي من أهل الحيرة: أي الأجلين قضى موسى؟ قلت: لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله، فقدمت فسألت ابن عباس، قال: قضى أكثرهما وأطيبهما، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل – انتهى من صحيح البخاري – وقوله في ترجمة الباب المذكور ((وفعله الحسن)) يعني الأمر بإنجاز الوعد. ووجه احتجاجه بآية ((إنه كان صادق الوعد)) أن الثناء عليه بصدق الوعد يفهم منه أن إخلافه مذموم فاعله: فلا يجوز، وابن الأشوع المذكور هو سعيد بن عمرو بن أشوع الهمداني الكوفي، كان قاضي الكوفة في زمان إمارة خالد القسري على العراق، وقد وقع بيان روايته المذكورة عن سمرة بن جندب في تفسير إسحاق بن راهويه وهو إسحاق بن إبراهيم الذي ذكر البخاري أنه رآه يحتج بحديث ابن أشوع: كما قال ابن حجر في ((الفتح)) والمراد أنه كان يحتج به في القول بوجوب إنجاز الوعد. وصهر النبي صلى الله عليه وسلم الذي أثنى عليه بوفائه له بالوعد هو أبو العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أسره المسلمون يوم بدر كافراً، وقد وعده برد ابنته إليه وردها إليه، خلافاً لمن زعم أن الصهر المذكور أبو بكر رضي الله عنه، وقد ذكر البخاري في الباب أربعة أحاديث في كل واحد منهما دليل على الوفاء بإنجاز الوعد.
الأول: حديث أبي سفيان بن حرب في قصة هرقل وهو طرف من حديث صحيح مشهور، ووجه الدلالة منه في قوله: ((فزعمت أنه أمركم بالصلاة والصدق والعفاف وأداء الأمانة، وقد ذكر بعد ذلك أن هذه الأمور صفة نبي والإقتداء بالأنبياء واجب)).
الثاني: حديث أبي هريرة في آية المنافق، ومحل الدليل منه قوله: ((وإذا وعد أخلف)) فكون إخلاف الوعد من علامات المنافق يدل على أن المسلم لا يجوز له أن يتسم بسمات المنافقين.(1/15)
الثالث: حديث جابر في قصته مع أبي بكر، ووجه الدلالة منه أن أبا بكر قال: من كان له على النبي صلى الله عليه وسلم دين أو كانت له قِبَلَه عِدَة... الحديث.
فجعل العِدَة كالدين، وأنجز لجابر ما وعده به النبي صلى الله عليه وسلم من المال، فدل ذلك على الوجوب.
الرابع: حديث ابن عباس في أي الأجلين قضى موسى، ووجه الدلالة منه أنه قضى أطيبهما وأكثرهما، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال فعل، فعلى المؤمنين الاقتداء بالرسل، وأن يفعلوا إذا قالوا، وفي الاستدلال بهذه الأحاديث مناقشات من المخالفين. ومن أقوى الأدلة في الوفاء بالعهد قوله تعالى: "كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ" الصف آية (3) لأن المقت الكبير من الله على عدم الوفاء بالقول يدل على التحريم الشديد في عدم الوفاء به، وقال ابن حجر في ((الفتح)) في الكلام على ترجمة الباب المذكور، وقال الملهب:
"إنجاز الوعد مأمور به مندوب إليه عند الجميع وليس بفرض، لاتفاقهم على أن الموعود لا يضارب بما وعد به مع الغرماء" أ.هـ.
ونقل الإجماع في ذلك مردود، فإن الخلاف مشهور لكن القائل به قليل، وقال ابن عبدالبر وابن العربي أجلُّ من قال به عمر بن عبدالعزيز: انتهى محل الغرض من كلام الحافظ في الفتح.(1/16)
وقال أيضاً: وخرج بعضهم الخلاف في هذه المسألة على الخلاف في الهبة، هل تملك بالقبض أو قبله؟ فإذا علمت أقوال أهل العلم في هذه المسألة وما استدل به كل فريق منهم فاعلم أن الذي يظهر لي في هذه المسألة والله تعالى أعلم: أن إخلاف الوعد لا يجوز لكونه من علامات المنافقين، ولأن الله يقول: "كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ" وظاهر عمومه يشمل إخلاف الوعد ولكن الواعد إذا امتنع من إنجاز الوعد لا يحكم عليه به ولا يلزم به جبراً بل يؤمر به ولا يجبر عليه لأن أكثر علماء الأمة على أنه لا يجبر على الوفاء به لأنه وعد بمعروف محض والعلم عند الله تعالى[16].أ.هـ.
4- وقال ابن العربي في أحكام القرآن على قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ"[17] ما نصه:(1/17)
"فإن من التزم شيئاً لزمه شرعاً... والملتزم على قسمين أحدهما النذر وهو على قسمين، نذر تقرب مبتدأ كقوله لله عليَّ صوم وصلاة وصدقة ونحوه من القرب فهذا يلزمه الوفاء به إجماعاً. ونذر مباح هو ما علق بشرط رغبة كقوله: إن قدم غائبي فعليَّ صدقة أو علق بشرط رهبة كقوله: إن كفاني الله شر كذا فعليَّ صدقة فاختلف العلماء فيه فقال مالك وأبو حنيفة يلزمه الوفاء به وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يلزمه الوفاء به وعموم الآية حجة لنا لأنها بمطلقها تتضمن ذم من قال ما لا يفعله على أي وجه كان من مطلق أو مقيّد بشرط. وقد قال أصحابه إن النذر إنما يكون بما القصد منه القربة مما هو من جنس القربة وهذا وإن كان من جنس القربة إلا أنه لم يقصد به القربة وإنما قصد منع نفسه من فعل أو الإقدام على فعل، قلنا القرب الشرعية مقتضيات وكلف وإن كانت قربات. وهذا تكلف في التزام هذه القربة مشقة لجلب نفع أو دفع ضر، فلمّ يخرج عن سنن التكليف ولا زال عن قصد التقرب.... فإن كان القول منه وعداً فلا يخلو إما أن يكون منوطاً بسبب كقوله: إن تزوجت أعنتك بدينار أو ابتعت حاجة كذا أعطيتك كذا فهذا لازم إجماعاً من الفقهاء وإن كان وعداً مجرداً فقيل يلزم بمطلقه وتعلقوا بسبب الآية... والصحيح عندي أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر" أ.هـ[18].
5- وقال الزبيدي في تاج العروس على مادة ((وعد)) ما نصه:
"واختلف في حكم الوفاء بالوعد هل هو واجب أو سنة. قال شيخنا وأكثر العلماء على وجوب الوفاء بالوعد وتحريم الخلف فيه... وقال القاضي أبو بكر بن العربي بعد سرد كلام: وخلف الوعد كذب ونفاق وإن قل فهو معصية، وقد ألف الحافظ السخاوي في ذلك رسالة مستقلة سماها التماس السعد في الوفاء بالوعد جمع فيها فأوعى وكذا الفقيه أحمد بن حجر المكي ألمّ على هذا البحث في الزواجر ونقل حاصل كلام السخاوي برمته فراجعه".أ.هـ.(1/18)
6- ولابن القيم رحمه الله بحث نفيس في الجزء الأول من كتابه إعلام الموقعين تحت عنوان ((أمر الله بالوفاء بالعقود)) اتضح منه قوله بلزوم الوفاء بالوعد فذكر بعض الأدلة على ذلك من الكتاب والسنة ورد رد القائلين بعد اللزوم.
وأكد هذا الرأي في الجزء الثالث من إعلام الموقعين حيث قال:
"المثال الحادي والثلاثون: اختلف الناس في تأجيل القرض والعارية إذا أجلها فقال الشافعي وأحمد في ظاهر مذهبه وأبو حنيفة لا يتأجل شيء من ذلك بالتأجيل وله المطالبة به متى شاء. وقال مالك يتأجل بتأجيل، فإن أطلق ولم يؤجل ضرب له أجل مثله وهذا هو الصحيح لأدلة كثيرة في موضعها".أ.هـ[19].
7- وقال الشيخ عبدالرحمن بن قاسم رحمه الله في حاشيته على الروض المربع في باب القرض ما نصه:
قضية تشبيهه بالصرف عدم جواز التأجيل في القرض وعنه صحة تأجيله ولزومه إلى أجله. وهو مذهب مالك وصوبه في الإنصاف. وقال الشيخ تقي الدين: الحالُّ بتأجيله سواء كان الدين قرضاً أو غيره لقوله: المسلمون على شروطهم وقال ابن القيّم هو الصحيح لأدلة كثيرة.أ.هـ. وقال على قول الزاد، قال الإمام القرض حال وينبغي أن يفي بوعده، لأن الوفاء بالوعد مستحب، واختار الشيخ لزومه إلى أجله. وفي الإنصاف اختار الشيخ صحة تأجيله ولزومه على أجله سواء كان قرضاً أو غيره وذكره وجهاً وهو الصواب وهو مذهب مالك والليث وذكره البخاري عن بعض السلف".أ.هـ[20].
8- وقال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله في فتاواه ص375 ما نصه:(1/19)
"مرادهم بقولهم: الحال لا يتأجل إنه إذا حل عليه دين فرضي بالتأجيل بعد حلوله إن وعد لا يجب عليه الوفاء به ليس له الوفاء به ولو شرط على نفسه ذلك لم يلزم. وليس له مأخذ غير ما عللوه به. ومأخذ القائلين بتأجيله بعد حلوله إذا رضي صاحب الحق أولى فإن الشارع أمر بالوفاء بالعهود والوعود وذم المخلفين للوعد وأخبر أنه من نعوت المنافقين. وهذا القول هو أحد القولين في مذهب الإمام أحمد واختاره الشيخ وجملة من الأصحاب – إلى أن قال – والصواب أن القرض والعاريه والديون الحالة تلزم بالتأجيل ولا يطالب صاحبها قبل حلول الأجل".أ.هـ.
9- وقال الأستاذ الفاضل مصطفى الزرقاء في كتابه المدخل الجزء الثاني ص1023 – 1024 تفريعاً على قاعدة المعلق بالشرط يجب ثبوته عند ثبوت الشرط ما نصه:(1/20)
الأصل في الوعد أنه لا يلزم صاحبه قضاءً وإن كان الوفاء به مطلوباً ديانة فلو وعد شخص آخر بقرض أو بيع أو بهبة أو بفسخ أو بإبراء أو بأي عمل حقوقي آخر لا ينشيء بذلك حقاً للموعود فليس له أن يجبره على تنفيذه بقوة القضاء، غير أن الفقهاء الحنفيين لاحظوا أن الوعد إذا صدر معلقاً على شرط فإنه يخرج عن معنى الوعد المجرد، ويكتسي ثوب الإلتزام والتعهد فيصبح عندئذ ملزماً لصاحبه (شرح العلامة علي الحيدر على المجلة) وذلك فيما يظهر اجتناباً لتغرير الموعود بعدما خرج الوعد مخرج التعهد وقد قال ابن نجيم في الحظر والإباحة من الأشباه جـ2 ص110 لا يلزم الوعد إلا إذا كان معلقاً. وعلى هذا قرر الفقهاء أنه لو قال شخص لآخر بع هذا الشيء من فلان وإذا لم يعطك فأنا أعطيك فلم يعطه المشتري الثمن بعد المطالبة التزم القائل، وكذا لو باع شيئاً بغبن فاحش فقال المشتري للبائع المغبون إذا رددت إليّ الثمن فسخت لك البيع كان هذا الوعد ملزماً ويصبح البيع كبيع الوفاء الذي هو في معنى الرهن – إلى أن قال – وفي الاجتهاد المالكي أربعة آراء فقهية حول لزوم الوعد وعدم لزومه قضاء، والمشهور من هذه الآراء أنه يعتبر الوعد بالعقد ملزماً للواعد قضاء إذا ذكر فيه سبباً ودخل الموعود تحت التزام مالي بمباشرة ذلك السبب بناءً على الوعد، وذلك كما لو وعد شخص آخر بأن يقرضه مبلغاً من المال بسبب عزمه على الزواج ليدفعه مهراً أو ليشتري به بضاعة فتزوج الموعود أو اشترى البضاعة ثم نكل الواعد عن القرض، فإنه يجبر قضاء على تنفيذ وعده (الفروق للقرافي جـ4 ص24 – 25 ورسالة الإلتزام للحطاب وهي منشورة في الجزء الأول من فتاوى الشيخ عليش بحث مسائل الإلتزام) وهذا وجيه جداً فإنه بنى الإلتزام على فكرة دفع الضرر الحاصل فعلاً للموعود من تغرير الواعد فهو أوجه من الاجتهاد الحنفي الذي بنى الإلتزام على الصور اللفظية للوعد هل هي تعليقية أو غير تعليقية، فإن التعليق وعدمه لا(1/21)
يغير شيئاً من حقيقة الوعد أ.هـ. وجاء في حاشية المدخل للزرقاء قوله:
"وقال أصبغ من فقهاء المالكية يكفي للإلزام بالوعد ذكر السبب من زواج أو بناء أو غيرهما ولو لم يباشر الموعود".أ.هـ.
ونظراً إلى أن جمهور القائلين بالإلتزام بالوعد على تفصيل بينهم هم فقهاء المذهب المالكي، وقد كتب أبو عبدالله محمد عليش في الموضوع بحثاً قَيِّما مستفيضاً تكلم فيه عن الوعد وأقسامه وحكم كل قسم مستعرضاً في ذلك نصوص فقهاء مذهبه – المذهب المالكي – وذلك في كتابه فتح العلي المالك المشهور بفتاوى عليش وذلك في الجزء الأول ص254 – 258 رأيت أن هذا البحث كافٍ عن استعراض أقوال فقهاء المذهب المالكي، وعليه فقد جرى مني نقله بكامله والله المستعان.
10- قال أبو عبدالله محمد أحمد عليش المتوفى 1299هـ في كتابه فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك ما نصه:
تنبيه:
"يجب الوفاء بنذر العتق وإن لم يكن في ملك الناذر حينئذ ما يعتقه، قال في كتاب النذور من المدونة فيمن نذر عتق رقبة فلم يستطعها أن الصوم لا يجزئه فهذا يدل على أنه يلزم الوفاء به، وإن لم يكن في ملكه من يعتقه، وقال في رسم العبرة من سماع يحيى من كتاب العتق في رجل جعل على نفسه رقبة من ولد إسماعيل، قال مالك: ليعتق رقبة، قيل أيجزئه رقبة من الذبح؟ قال: ليعتق رقبة أقرب الرقاب إلى ولد إسماعيل، قال ابن رشد: وهذا كما قال لأن للشريف في النسب حرمة توجب التنافس في العبيد من أجلها وكزيادة في ثمنها والأجر على قدر ذلك".أ.هـ.
فصل:(1/22)
"وأما العِدَة فليس فيها إلزام الشخص نفسه شيئاً الآن وإنما هي كما قال ابن عرفة إخبار عن إنشاء المخبر معروفاً في المستقبل ولا خلاف في استحباب الوفاء بالوعد، وقد قال مالك في رسم باع غلاماً من سماع ابن القاسم من كتاب الحج ومن كتاب العِدَة فيمن هلك وعليه مشي إلى بيت الله عز وجل فسأل ابنه أن يمشي عنه فوعده بذلك، فقال مالك: أما إذا وعد فإني أحب له أن لو فعل ذلك ولكن ما ذلك رأي أو يمشي أحد عن أحد ولكني أحب له إذا وعده أن يفعل ذلك. قال ابن رشد: المعنى في هذه المسألة أن مالكاً استحب له أن يفي لأبيه بما وعده به من المشي عنه وإن كان ذلك عنده لا قربة فيه من ناحية استحباب الوفاء بالوعد في الجائزات التي لا قربة فيها".أ.هـ.(1/23)
فالوفاء بالعِدَة مطلوب بلا خلاف، واختلف في وجوب القضاء بها على أربعة أقوال حكاها ابن رشد في كتاب جامع البيوع وفي كتاب العارية، وفي كتاب العِدَة ونقلها عنه غير واحد فقيل يقضي بها مطلقاً، وقيل لا يقضي بها مطلقاً، وقيل يقضي بها إن كانت على سبب وإن لم يدخل الموعود بسبب العِدَة في شيء كقولك أريد أن أتزوج أو أن أشتري كذا أو أن أقضي غرمائي فأسلفني كذا، أو أريد أن أركب غداً إلى مكان كذا فأعرني دابتك، أو أن أحرث أرضي فأعرني بقرك، فقال نعم ثم بداله قبل أن يتزوج أو أن يشتري أو أن يسافر فإن ذلك يلزمه ويقضي عليه به فإن لم يترك الأمر الذي وعدك عليه وكذا لو لم تسأله وقال لك هو من نفسه أنا أسلفك كذا لتقضي دينك أو لتتزوج أو نحو ذلك، فإن ذلك يلزمه ويقضي بها عليه ولا يقضي بها إن كانت على غير سبب، كما إذا قلت أسلفني كذا ولم تذكر سبباً أو أعرني دابتك أو بقرَك ولم تذكر سفراً ولا حاجة فقال نعم ثم بدا له والراجح يقضي بها إن كانت على سبب ودخل الموعود بسبب العِدَة في شيء وهذا هو المشهور من الأقوال قال في آخر الرسم الأول من سماع أصبغ من جامع البيوع قال أصبغ سمعت أشهب وسئل عن رجل اشترى من رجل كرماً فخاف الوضيعة فأتى ليستوضعه فقال له بع وأنا أرضيك قال إن باع برأس ماله أو بربح فلا شيء عليه وإن باع بالوضيعة كان عليه أن يرضيه فإن زعم أنه أراد شيئاً سماه فهو ما أراد وإن لم يكن أراد شيئاً أرضاه بما شاء وحلف بالله ما أراد أكثر من ذلك إن لم يكن أراد شيئاً يوم قال ذلك: قال أصبغ.. وسألت عنها ابن وهب فقال عليه رضاه بما يشبه ثمن تلك السلعة والوضيعة فيها قال أصبغ قول ابن وهب هو أحسن عندي وهو أحب إليّ إذا وضع فيها قال محمد بن رشد قوله بع وأنا أرضيك عِدَة إلا أنها عِدَة على سبب وهو البيع.(1/24)
والعِدَة إذا كانت على سبب لزمت بحصول السبب في المشهور من الأقوال، وقد قيل إنها لا تلزم بحال وقيل إنها تلزم على كل حال، وقيل إنها تلزم إذا كانت على سبب وإن لم يحصل السبب. وقول أشهب إن زعم أنه أراد شيئاً سماه فهو ما أراد يريد مع يمينه ومعناه إذا لم يسم شيئاً يسيراً لا يشبه أن يكون أرضاه والدليل على أنه يحلف على مذهبه إذا قال أكثر من ذلك وجوابه هذا على أصله في كثير من مسائله إذ لا يؤخذ بأكثر مما يقربه على نفسه أنه أراده فيدخل فيها من الخلاف ما يدخل في يمين التهمة، وأما ابن وهب فأخذه بمقتضى ظاهر لفظه وألزمه إرضاءه إلا أن لا يرضى بما يقول الناس فيه أنه أرضاه فلا يصدق إن لم يرض ويؤخذ بما يقول الناس فيه أنه أرضاه، هذا معنى ولو حلف ليرضيه لم يبر إلا باجتماع الوجهين وهما أن يضع عنه ما يرضى به وما تقول الناس فيه أنه أرضاه، وقد مضى ما يدل على هذا في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب النذور في الحلف ليرضين غريمه من حقه.أ.هـ.
قلت وهذا القول الذي شهره ابن رشد في القضاء بالعِدَة إذا دخل بسببها في شيء قال الشيخ أبو الحسن في أول كتاب الأول وفي كتاب الغرر، أنه مذهب المدونة لقولها في آخر كتاب الغرر وإن قال اشتر عبد فلان وأنا أعينك بألف درهم فاشتراه لزمه ذلك الوعد.أ.هـ.(1/25)
وهو قول ابن القاسم في سماعه من كتاب العارية وقول سحنون في كتاب العِدَة ونصه في سماع عيسى قلت لسحنون ما الذي يلزم من العِدَة في السلف والعارية قال ذلك أن يقول الرجل للرجل إهدم دارك وأنا أسلفك أو اخرج إلى الحج وأنا أسلفك أو تزوج إمرأة وأنا أسلفك وعزاه له ابن رشد في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم من كتاب العارية، وقال القرافي في الفرق الرابع عشر بعد المائتين قال سحنون الذي يلزم من الوعد إهدم دارك وأنا أسلفك ما تبني به أو اخرج إلى الحج وأنا أسلفك أو اشتر سلعة أو تزوج إمرأة وأنا أسلفك لأنك أدخلته بوعدك في ذلك. أما مجرد الوعد فلا يلزم الوفا به بل الوفاء به من مكارم الأخلاق.أ.هـ.
وقال اللخمي في كتاب الشفعة لها ذكر حجة مقابل المشهور القائل بلزوم إسقاط الشفعة قبل الشراء ما نصه:
"ولو قال له اشتر هذا الشخص والثمن عليَّ فاشتراه لزم أن يغرم الثمن الذي اشتراه به لأنه أدخله في الشراء، وهذا قول مالك وابن القاسم".أ.هـ.
والقول بأنه يقضي بها إذا كانت على سبب وإن لم يدخل بسببها في شيء هو قول أصبغ في كتاب العِدَة وقول مالك في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم وهو قوي أيضاً.
والقول بعد القضاء بها مطلقاً في سماع أشهب من كتب العارية والقول بالقضاء بها مطلقاً لم يعزه ابن رشد وهذان القولان ضعيفان جداً والله أعلم.
فرع:(1/26)
إذا قال له غرمائي يلزمونني بدين فأسلفني أقضهم فقال نعم ثم بدا له فقال أصبغ من سماع عيسى من كتاب العِدَة يلزمه ذلك ويحكم عليه به، وهو جار على قوله بلزوم العِدَة إذا كانت على سبب ولم يدخل بسببها في شيء، وقال ابن القاسم إنما يلزمه إذا أعتقد الغرماء منها على موعد أو أشهد بإيجاب ذلك على نفسه وذلك على أصله من أنه لا يقضي بالعِدَة إلا إذا دخل بسببها في شيء ولو قال أشهدكم أني فاعل أو أفعل فظاهر كلام مالك في سماع ابن القاسم من العارية أنه تردد في الحكم عليه بذلك وأن الظاهر اللزوم. قال ابن رشد ولو قال أشهدكم أني قد فعلت لما وقف في إيجابه عليه ولزوم القضاء به.أ.هـ.
فرع:
قال في سماع أشهب من كتاب العارية فيمن حلف ليوفين غريمه إلى أجل فلما خشي الحنث ذكر ذلك الرجل فقال لا تخف إئتني هذه العشية أعطيكها، فلما كان العشي جاءه فأبى أن يعطيه فقال له أغررتني حتى خفت أن يدخل عليَّ الطلاق أتراه له لازماً فقال له لا والله ما أرى ذلك لازماً له وما هو من مكارم الأخلاق ولا محاسنها قال ابن رشد قد قيل: إنه يلزمه وهو الأظهر لأنه غره ومنعه أن يحتال لنفسه بما يبر به من سلف أو غيره.أ.هـ. قلت فالقول الأول مبني على أن العِدَة لا يقضي بها ولو كانت على سبب وعلى المشهور أيضاً لأنه قد أدخله بسبب العِدَة في عدم الإحتيال لنفسه حتى خشي الحنث والله تعالى أعلم.
تنبيه:
وأما الفرق بين ما يدل على الإلتزام وما يدل على العِدَة فالمرجع فيه إنما هو إلى ما يفهم من سياق الكلام وقرائن الأحوال بحيث دل الكلام على الإلتزام ولهذا قال الشيخ خليل في مختصره في باب الخلع ولزوم البينونة إن قال: إن أعطيتني ألفاً فارقتك أو أفارقك إن فهم الإلتزام أو الوعد إن ورطها فالشرط في قوله إن ورطها راجع إلى الوعد قال في التوضيح كما لو باعت قماشاً أو كسرت حليها والله تعالى أعلم.(1/27)
ولا يفرق بين العِدَة والالتزام بصيغة الماضي والمضارع كما قد يتبادر للفهم من كلام ابن رشد في رسم حلف من سماع عيسى من كتاب الأيمان بالطلاق، وسيأتي في الباب الثالث إن شاء الله تعالى ذكره بتمامه فإن الإلتزام قد يكون بصيغة المضارع إذا دلت القرائن عليه كما يفهم من كلام الشيخ خليل الماضي في مسألة الخلع ومن كلام ابن رشد المتقدم قريباً ومن كلام أصبغ الآتي في الفرع بعد هذا، نعم صيغة الماضي دالة على الإلتزام وإنفاذ العطية والظاهر من صيغة المضارع الوعد إلا أن تدل قرينة على الإلتزام كما يفهم من كلام ابن رشد فتأمله والله تعالى أعلم.
فرع:
قال أصبغ في سماع عيسى من كتاب العِدَة لو سألك مدين أن تؤخره إلى أجل كذا وكذا فقلت أؤخرك لزمك تأخيره إلى أجل، قلت سواء قلت أنا أؤخرك أو قد أخرتك أوجبهما وأوكدهما.أ.هـ. ونقل هذا في الذخيرة واقتصر عليه وهو جار على قول أصبغ في القضاء بالعِدَة إذا كانت على سبب وإن لم يدخل بسببه في شيء. وأما على المشهور فإنما يلزمه في قوله: أؤخرك إذا ورطه بذلك أو تدخل قرينة على أنه أراد التأخير لا الوعد به فتأمله وهو يبين لك ما ذكرته من أن صيغة الماضي دالة على الإلتزام وصيغة المضارع إنما تدل عليه مع قرينة ولم يتكلم ابن رشد على هذه المسألة بشيء بل قال: مضى تحصيل فيها في سماع ابن القاسم من كتاب العارية ويشير إلى ما تقدم من ذكر الأقوال الأربعة في القضاء بالعِدَة.
فرع:(1/28)
قال في رسم حلف ليفعلن من سماع ابن القاسم من كتاب النكاح سئل مالك عن رجل كانت تحته إمرأة فخطب أختها لابنه فقالت له عمتها على صداق أختها فقال لن أقصر بها إن شاء الله تعالى فزوجوه ثم إن الابن طلقها قال: أيقر هو بذلك؟ قال: نعم، قد قلت هذا القول ووعدتهم ولم أوجب على نفسي صداقاً فرأيته يراه عليه وقال مرة فيصطلحوا وكأنه يراه عليه تشبيها، ويجاب ولم يبينه، قال ابن القاسم: أرى ذلك عليه إذا زوجوه على ذلك كأنه إنما تزوج على المكافأة قال سحنون مثله قال محمد بن رشد: أما إذا كان قولهم قد زوجناك جواباً لقوله لن أقصر بها عن صداق أختها فبيّن أن ذلك يلزمه كما قال ابن القاسم لأنه بمنزلة أن لو قال له نزوجك على أن لا تقصر بها عن صداق أختها. وأما إن انقطع ما بين الكلامين فالأمر محتمل والأظهر إيجاب ذلك عليه كما ذهب إليه مالك، وإن كان لم يبينه لأن ذلك أقوى من العِدَة الخارجة على سبب، وفي التفسير ليحيى عن ابن القاسم أنه يحلف أنه ما أراد إيجاب ذلك على نفسه ولا يلزمه شيء فإن لكل غرم نصف الصداق ووجه ذلك أنه رأى قوله لن أقصر بها إن شاء الله عِدَة لا تلزم فلم يلزمه شيء إذا حلف أنه لم يرد إيجاب ذلك على نفسه، وحلف بالتهمة دون تحقيق الدعوى ولذلك لم ترد اليمين وذلك فقوله على القول بلحوق يمين التهمة وأنها لا ترجع، وقد اختلف في الوجهين. انتهى والله تعالى أعلم[21].
11- وفي الفروق الفرق الرابع عشر بعد المائتين بحث مستفيض في مسألة الوعد وحكم الإلزام به، وقد تعقبه ابن الشاط في بعض آرائه في ذلك في حاشيته على الفروق[22] وحيث إن البحث والمناقشة قد لا تخرج عما ذكره عليش في النقل المتقدم عنه رحمه الله فقد رأيت الإكتفاء بلفت النظر إليه لمن يرغب الاستزادة من كلام أهل العلم في ذلك دون نقله اجتناباً للتكرار.(1/29)
وبعد استعراضنا ما تقدم من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وكلام بعض أهل العلم يظهر لنا قوة القول بلزوم الوفاء بالوعد لا سيما إذا دخل الموعود في سببه يدل على صحة القول بذلك كتاب الله تعالى وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم والقياس الصحيح وبهذا أخذ مجموعة من الصحابة والتابعين والمحققين من أهل العلم.
فمن الاستدلال بكتاب الله تعالى قوله تعالى؛ "كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ"[23]. وجه الاستدلال بها أن الله تعالى ذم قوماً يقولون على سبيل الوعد ما لا يفعلون بحيث لا يلتزمون بالوفاء به فمقتهم الله بذلك فلو لم يكن الوفاء بالوعد واجباً لما استحقوا من الله هذا المقت والذم.
وقوله تعالى على لسان موسى عليه السلام مخاطباً صهره شعيباً: "أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَىَّ"[24]. بعد أن قال لشعيب: ذلك بيني وبينك فلم يعط موسى شعيباً وعداً قاطعاً وإنما جعل لنفسه الخيار ونفى عن نفسه العدوان في تخلفه عن الوفاء بالوعد غير الجازم في إتمام عشر سنوات وهذا يعني أن عدم الوفاء بالوعد الجازم عدوان من الواعد على الموعود.
وقوله تعالى: "فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِم إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ"[25]. وجه الاستدلال بهذه الآية أن الله تعالى عاقب من وعد الله فأخلف وعده وكذب في تعهده والعقوبة يستحقها من يتخلف عن أداء ما وجب عليه لا من له الخيار في الأداء.
وقوله تعالى: "وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ"[26]، فإبراهيم عليه السلام يعلم كفر أبيه ولكنه تخرّج عن الحنث في الوفاء بالوعد فاستغفر لأبيه للموعِدَة التي وعدها إياه فلو لم يكن الوفاء بالوعد لازماً لما استغفر إبراهيم عليه السلام لمشرك عدو لله.(1/30)
ومن الاستدلال بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن من آية المنافق إذا وعد أخلف وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم. ووجه الدلالة أن النفاق خلق ذميم يستحق صاحبه العقوبة، قال تعالى: "إِنَّ المُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ"[27]. فلو لم يكن الوفاء بالوعد واجباً لما كان إخلاف الوعد صفة من صفات النفاق.
ومن الاستدلال بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: إذا وعد أحدكم فلا يخلف، وقوله صلى الله عليه وسلم: العِدَة دين، واعتباره صلى الله عليه وسلم عدم الوفاء للصبي بما يوعد كذباً، ونهيه صلى الله عليه وسلم عن وعدك أخاك عِدَة تخلفه فيها وأن ذلك يورث العداوة، وقوله صلى الله عليه وسلم وأيُ المؤمن واجب، والوأي هو الوعد.
فتعبيره بالوجوب ونهيه عن إخلاف الوعد ووصفه إخلاف الوعد كذباً، كل ذلك يدل على وجوب الوفاء بالوعد وأن عدم الوفاء به محرم يعاقب عليه الواعد، والاستدلال على إنعقاد الإلتزام بما يلزم ابتداء على من التزم لله تعالى طاعة غير واجبة فمن نذر لله صلاة أو صياماً أو صدقة لزمه ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم أوفِ بنذرك. ولأمره صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يفي بنذره في الجاهلية باعتكافه ليلة في المسجد الحرام.(1/31)
فالنذر في الحقيقة التزام من العبد لربه بما نذر له مما لم يلزم ابتداءً، والوعد من المرء لغيره من الناس التزام بما لا يلزم ابتداءً فكلاهما يجتمعان في الإلتزام بما لا يلزم ابتداءً ويفترقان بأن النذر لله والوعد لأحد من خلقه، وهذا الفرق في نظري لا يؤثر في الوجوب وعدمه بل قد يكون اتجاه القول بوجوب الوفاء للمخلوق أولى من القول بوجوب الوفاء للخالق لأن حقوق الله تعالى على عباده مبنية على التسامح والسعة وحقوق العباد فيما بينهم مبنية على الشح والتضييق، ومن نظر في مسائل هذه القاعدة أدرك حقيقتها، فإذا كان النذر لله – وهو وعد في الحقيقة – واجبَ الأدء بشرطه فإن الوعد للمخلوق أولى في الوجوب بشرطه.
وما ذكره ابن حجر رحمه الله في رده على المهلب حينما قال باتفاق العلماء على أن الوفاء بالوعد ليس بفرض ولكنه مندوب وذلك بقوله: نقل الإجماع في ذلك مردود فإن الخلاف مشهور لكن القائل به قليل أهـ. أقول ليس القائل به قليلاً فقد نقلنا بعضاً من قول الله تعالى في الوجوب وعقوبة مخلف الوعد ونقلنا ما تيسر لنا نقله من أقوال رسول الله في ذلك.
ونقول: قال بذلك وفعله أبو بكر رضي الله عنه في حديث جابر بن عبدالله المتقدم ذكره ولا يرد على فعل أبي بكر رضي الله عنه في وفائه وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لجابر القول بأن أبا بكر فعل ما هو مندوب فتصرفه في بيت مال المسلمين بالعطاء الجزل وهو هو تقى وصلاحاً وأمانة وشعوراً بحقوق الولاية العظمى وواجباتها وهو يؤدي عدات وعد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته تصرفه هذا يظهر منه جلياً أنه يرى وجوب الوفاء بالوعد، فقد طلب حضور من له عِدَة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن حضر وادعى العِدَة وفَّاه كجابر وصاحب الثلاث عشرة قلوصاً.(1/32)
وقال بذلك وطالب به جابر بن عبدالله وهو من أكابر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وممن حظي بمزيد صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى الكثير من أحاديثه ويعتبر من فقهاء الصحابة، فلو لم ير القول بلزوم الوفاء بالوعد لما تقدم لأبي بكر رضي الله عنه طالباً إنفاذ عِدَة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أن أبا بكر لا يعطيه من ماله الخاص وإنما يعطيه من بيت مال المسلمين.
وقال بذلك عبدالله بن عمر حينما أنفذ وعده بتزويجه ابنته من وعده تزويجه إياها وقال تعليلاً لذلك فوالله لا ألقى الله بثلث النفاق.
وقال بذلك سمرة بن جندب ذكره عنه سعيد بن عمرو بن الأشوع واعتبر ذلك من سمرة مستند الأخذ به، فهؤلاء أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يقول بلزوم الوفاء بالوعد سواءٌ أكان ذلك قولاً باللسان أم قولاً بلسان الحال.
وممن قال به من التابعين وغيرهم:
1- عمر بن عبدالعزيز رحمه الله قال ابن حجر في الفتح: وقال ابن عبدالبر وابن العربي أجلُّ من قال به عمر بن عبدالعزيز[28]. أهـ.
2- الحسن البصري. قال البخاري وفعله الحسن. قال في الفتح: قوله: وفعله الحسن أي ألزم بإنجاز الوعد[29]. أهـ.
3- سعيد بن عمرو بن الأشوع، قال ابن حجر في الفتح وقضى ابن الأشوع بالوعد وذكر ذلك عن سمرة بن جندب..... وقد وقع بيان روايته كذلك عن سمرة بن جندب في تفسير إسحاق بن راهويه، قوله: قال أبو عبدالله هو المصنف رأيت إسحاق بن إبراهيم هو ابن راهويه يحتج بحديث ابن الأشوع أي هذا الذي ذكره عن سمرة بن جندب والمراد أنه كان يحتج به في القول بوجوب إنجاز الوعد. أ.هـ[30].
4- عبدالله بن شبرمة. قال العيني في عمدة القاريء: وفي تاريخ المستملي: إن عبدالله بن شبرمة قضى على رجل بوعده وحبسه وتلا قوله تعالى: "كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ" سورة الصف آية 3.(1/33)
5- أبو بكر بن العربي. قال في كتابه أحكام القرآن: والصحيح عندي أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر.أ.هـ[31].
6- القاضي شريح قال البخاري في صحيحه: وقال ابن عون عن ابن سيرين قال الرجل لكريّه أدخل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم فلم يخرج فقال شريح من شرط على نفسه طائعاً غير مكره فهو عليه، وذكر مسألة أخرى. قال ابن حجر في الفتح: وحاصله أن شريحاً في المسألتين قضى على المشترط بما اشترطه على نفسه بغير إكراه[32] أهـ.
7- محمد بن إسماعيل البخاري حيث بوب في صحيحه بما يستظهر منه أنه يقول بإنجاز الوعد قال ابن حجر: قوله باب من أمر بإنجاز الوعد. وجه تعلق هذا الباب بأبواب الشهادات أن وعد المرء كالشهادة على نفسه قاله الكرماني.أ.هـ[33].
8- أحمد بن حجر العسقلاني قال في الفتح: وقرأت بخط أبي رحمه الله في إشكالات على الأذكار للنووي ولم يذكر جواباً عن الآية يعني قوله تعالى: "كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ". وحديث آية المنافق ثلاث قال: والدلالة للوجوب منها قوية فكيف حملوه على كراهة التنزيه مع الوعيد الشديد. وينظر هل يمكن أن يقال يحرم الإخلاف ولا يجب الوفاء أي يأثم بالإخلاف وإن كان لا يلزم بوفاء ذلك؟! أ.هـ[34].
9- إسحاق بن إبراهيم بن راهويه شيخ البخاري قال البخاري في صحيحه: رأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع. قال ابن حجر أي هذا الذي ذكره عن سمرة بن جندب والمراد أنه كان يحتج به في القول بوجوب إنجاز الوعد.أ.هـ[35].(1/34)
10- الإمام الغزالي. قال في الإحياء: الآفة الثالثة عشرة الوعد الكاذب فإن اللسان سباق إلى الوعد والنفس ربما لا تسمح بالوفاء فيصير الوعد خلفاً وذلك من أمارات النفاق قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ" المائدة آية (1). إلى أن قال – ثم إذا فهم مع ذلك الجزم في الوعد فلابد من الوفاء إلا أن يتعذر. وقد يفهم الجزم في الوعد إذا اقترن به حلف أو إقامة شهود على الوعد أو قرائن أخرى.أ.هـ[36].
11- ونقل تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية عن أبيه تقي الدين السبكي أنه يقول بلزوم الوفاء بالوعد.
12- وذكر ابن رجب في كتابه جامع العلوم والحكم وجوب الوفاء مطلقاً عن طائفة من أهل الظاهر وغيرهم[37].
13- وقال به من الحنابلة مجموعة منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ذكره عنهما ابن قاسم في نقل متقدم، وكذلك الشيخ عبدالرحمن بن سعدي، وتقدم النقل عنه.
14- وصدرت فتاوى الهيئات الشرعية للمصارف الإسلامية – دار المال الإسلامي، بيت التمويل الكويتي، شركة الراجحي المصرفية للاستثمار – بلزوم الوفاء بالوعد.
15- صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في الدورة الخامسة المنعقدة في الكويت في أول الشهر الخامس لعام 1409هـ وذلك برقم 3 – 4 هذا نصه:
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 – 6 من جمادى الأولى لعام 1409هـ كانون الأول ديسمبر 1988م بعد إطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوعي الوفاء بالوعد والمرابحة للآمر بالشراء واستماعه للمناقشات التي دارت حولهما قرر:(1/35)
أولاً: إن بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا وقع على سلعة بعد دخولها في ملك المأمور وحصول القبض المطلوب شرعاً هو بيع جائز طالما كانت تقع على المأمور مسئولية التلف قبل التسليم وتبعة الرد بالعيب الخفي ونحوه من موجبات الرد بعد التسليم وتوافرت شروط البيع وانتفت موانعه.
ثانياً: الوعد وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الإنفراد يكون ملزماً للواعد ديانة لعذر وهو ملزم قضاءً إذا كان معلقاً على سبب يدخل الموعود في كلفة نتيجة الوعد، ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلاً بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر.
ثالثاً: المواعدة وهي التي تصدر من الطرفين تجوز في بيع المرابحة بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو أحدهما فإذا لم يكن هناك خيار فإنها لا تجوز لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع نفسه حيث يشترط عندئذ أن يكون البائع مالكاً للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده.أهـ.
وقد وفق مجمع الفقه الإسلامي في النص في قراره على أثر الإلزام بالوفاء وذلك بتنفيذ الوعد أو بالتعويض عن الضرر الواقع فعلاً على الموعود بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر حيث إن هذا يعني أن الخيار بين الأمرين ليس للواعد وإنما هو للقضاء في حال اللجوء إليه، فمتى أمكن تنفيذ الوعد وانتفت موانع التنفيذ تعيّن الإلزام بالوفاء بالوعد فإذا وجد مانع من التنفيذ تعيّن الحكم للموعود بقيمة الضرر الواقع عليه فعلاً نتيجة التخلف عن الوفاء بالوعد.(1/36)
إلا أن قراره بعدم جواز المواعدة في بيع المرابحة إذا لم يكن بين المتواعدين خيار فيه نظر حيث إن كل واحد من المتواعدين أعطى وعداً التزم به للآخر ببيع أو شراء أو تأجير أو تمليك أو غير ذلك من مواضع العقود. وتعليل منع الإلزام بالمواعدة في بيع المرابحة بتشبيهه بالبيع نفسه حيث يشترط عندئذ أن يكون البائع مالكاً للمبيع نفسه حتى لا يعتبر بائعاً ما ليس عنده. هذا التعليل غير ظاهر فليست المواعدة بيعاً ولا شراءً ولا تمليكاً ولا تأجيراً وإنما هي وعد من كل واحد من المتواعدين بإجراء ذلك عند تمام شروط صحة التعاقد بموجبها، ولا تسري آثار العقد على أي واحد من المتواعدين إلا بعد وقوع العقد واستيفاء شروط صحته، ومن ذلك أن يكون المبيع مملوكاً للبائع وقت العقد، ولهذا جاء النص في قرار المجمع على أن من أثر الإلزام في حالة تعذر الوفاء بالوعد التعويض عن الضرر الواقع فعلاً بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر، فانتفاء آثار العقد في المواعدة به على كل واحد من المتواعدين من حيث الدرك والقبض وخيارات العقد وغير ذلك من الأحكام المتعلقة بالعقد بعد وقوعه انتفاء آثار ذلك عن المواعد يبعدها كل البعد عن اعتبارها بيعاً أو شبه بيع، وهذا يعني سقوط التعليل بعدم جوازها فهي وَعْدانِ من المتواعدين بها لا بيعاً ولا شبه بيع. قال ابن حزم رحمه الله في المحلى جـ5 ص497 ما نصه:
"التواعد في بيع الذهب بالذهب أو الفضة، وفي بيع الفضة بالفضة وفي سائر الأصناف الأربعة بعضها ببعض جائز تبايعا بعد ذلك أو لم يتبايعا لأن التواعد ليس بيعاً. أهـ والله أعلم".
16- صدر قرار عن المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي المنعقد في دبي عام 1399هـ الموافق 1979م جاء فيه ما نصه:
الوعد بالشراء مرابحة:(1/37)
يطلب العميل من المصرف شراء سلعة معينة يحدد جميع أوصافها ويحدد مع المصرف الثمن الذي سيشتريها به العميل بعد إضافة الربح الذي يتفق عليه بينهما. وهذا التعامل يتضمن وعداً من عميل المصرف بالشراء في حدود الشروط المنوّه عنها. ووعداً آخر من المصرف بإتمام هذا البيع بعد الشراء طبقاً لذات الشروط ومثل هذا الوعد ملزم للطرفين طبقاً لأحكام المذهب المالكي. وملزم للطرفين ديانة طبقاً لأحكام المذاهب الأخرى. وما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاءً إذا اقتضت المصلحة ذلك وأمكن للقضاء التدخل فيه.أهـ.
وفي عام 1403هـ الموافق 1983م عقد المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي وأصدر قراره الذي جاء فيه:
يقرر المؤتمر أن المواعدة على بيع المرابحة للآمر بالشراء بعد تملك السلعة المشتراه للآمر وحيازتها ثم بيعها لمن أمر بشرائها بالربح المذكور في الوعد السابق هو أمر جائز شرعاً طالما كانت تقع على المصرف مسؤولية الهلاك قبل التسليم وتبعة الرد فيما يستوجب الرد بعيب خفي.
وأما بالنسبة للوعد وكونه ملزماً للآمر أو المصرف أو كليهما فإن الأخذ بالإلزام هو حفظ لمصلحة التعامل وإستقرار المعاملات وفيه مراعاة لمصلحة المصرف والعميل وإن الأخذ بالإلزام أمر مقبول شرعاً. وكل مصرف مخيَّر في أخذ ما يراه في مسألة القول بالإلزام حسبما تراه هيئة الرقابة الشرعية لديه.أهـ.
وخلاصة القول في المسألة أن لأهل العلم فيها خمسة أقوال:
أحدها: أن الوفاء بالوعد مستحب ومن مكارم الأخلاق وأن التخلف عن الوفاء به من الأمور المكروهة ولكنه لا يلزم قضاء.
الثاني: أن الوفاء بالوعد لازم ديانه وقضاءً سواء أكان له سبب أم لا سبب له.
الثالث: أن الوفاء بالوعد لازم قضاءً وديانة إذا كان له سبب سواء أدخل الموعود في سبب الوعد أم لم يدخل.
الرابع: أن الوفاء بالوعد لازم قضاء وديانة إذا كان له سبب ودخل الموعود في سبب الوعد.(1/38)
الخامس: أن الوفاء بالوعد لا يلزم ديانة ولا قضاءً إذا لم يمن للوعد سبب بحيث لم يتضرر الموعود من إخلاف الوعد.
والذي يظهر لي بعد تأملي أدلة القول بلزوم الوفاء بالوعد مطلقاً أن القول بلزوم الوفاء بالوعد مطلقاً سواءٌ أكان للوعد سبب أم لم يكن له سبب هو القول الذي تسنده الأدلة الصريحة من كتاب الله تعالى ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أقوال وأفعال بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن القياس الصحيح على النذر ومن التوجيهات الصحيحة لأقوال مجموعة من أهل العلم بالتفسير والحديث واللغة والفقه، وفي القول بذلك مصلحة كبرى لعموم المسلمين وتسهيل لمعاملاتهم التجارية وليس في ذلك ترتيب مضرة على الواعد فهو الذي التزم على نفسه ولغيره بما لا يلزمه ابتداءً طائعاً مختاراً غير مكره ولا ملجأ. والوعد عهد وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود والوعود والعهود واعتبر صلى الله عليه وسلم المتخلف عن الوفاء بالوعد فيه خصلة من خصال المنافقين وأن إخلاف الوعد كذب والكذب نوع من الفجور.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه وأن يرينا الباطل باطلاً ويجنبناه وألا نقول على الله إلا الحق. أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم من كل ذنب وخطأ وخطيئة وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سورة التوبة، الآية 114.
[2] سورة الصف، الآية 3.
[3] سورة التوبة، الآيات 57 – 77.
[4] سورة مريم، الآية 54.
[5] سورة التوبة، الآية 114.
[6] فتح الباري على صحيح، ج5، ص289 – 290، وأضواء البيان تفسير الشيخ الشنقيطي، ج4، ص327.
[7] فتح الباري على صحيح البخاري، ج5، ص290 – 291، وأضواء البيان ج4، ص328. والآية رقم (3) من سورة الصف.
[8] صحيح البخاري ج3، ص185 من كتاب الشروط.(1/39)
[9] وأي: الوأي هو الوعد.
[10] سورة المائدة، الآية 91.
[11] أضواء البيان ج4، ص327.
[12] سورة الصف، آية (3).
[13] فتح الباري على صحيح البخاري، ج5، ص290 – 291.
[14] سورة مريم، آية 54.
[15] تفسير القرطبي ج11، ص116.
[16] أضواء البيان ج4، ص300 – 305.
[17] سورة الصف، الآية 2.
[18] أحكام القرآن ج4، ص1788.
[19] إعلام الموقعين ج3، ص445.
[20] الروض المربع وحاشيته ج5، ص40.
[21] فتح العلي المالك – فتاوى عليش – جـ1 ص254 – 258.
[22] أنوار الشروق على أنوار الفروق لابن الشاط حاشية على الجزء الرابع من الفروق ص21.
[23] سورة الصف، آية 3.
[24] سورة القصص، آية 28.
[25] سورة التوبة، آية 77.
[26] سورة التوبة، آية 114.
[27] سورة النساء، آية 145.
[28] فتح الباري ج5، ص290.
[29] فتح الباري ج5، ص290.
[30] فتح الباري ج5، ص290.
[31] أحكام القرآن ج4، ص1788.
[32] فتح الباري ج5، ص354.
[33] فتح الباري ج5، ص290.
[34] فتح الباري ج5، ص290.
[35] فتح الباري ج5، ص290.
[36] إحياء علوم الدين ج3، ص132.
[37] جامع العلوم والحكم، ص376.
المصدر مجلة البحوث الإسلامية، العدد السادس والثلاثون(1/40)