أهل الإسلام
والتفلت من ظاهر الالتزام
تأليف
د. محمد بن موسى الشريف
{
قال الله تعالى: ژ ? ? ? ? ژ[البقرة:63].
وقال جل من قائل: ژ ? ? ? ژ[مريم:12].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه)). [أخرجه الإمام أحمد في مسنده]
هذا الكتاب
- ليس نصرة لرأي فقهي دون آخر.
- وليس ترجيحاً لمسألة وترك أخرى.
- وليس اختياراً لمذهب واستبعاداً لآخر.
إنما هو إن شاء الله تعالى:
- تذكير بالعزائم.
- ودعوة لعدم التفلت باسم الأخذ برأي فلان وفلان.
- ونقد لمسار أوشك أن يكون مستحوذاً ومستولياً.
- وحفاظ على سمت وهَدْي ودَلٍّ يوشك أن يذهب أدراج الرياح.
- وعلاج لمن أوغل في الأخذ بزلل العلماء وسقطاتهم.
جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
1428هـ – 2007م
...
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن رجال الإسلام العظام من العلماء والدعاة والمشايخ والصالحين والفضلاء هم عمدة هذا الدين المتين، وهم أمل الأمة، وغدها المرتقب، وشمسها المضيئة، وضياؤها الباسم، وهم أهل التقوى، وأهل العزائم، وهم محط الأنظار، وغيظ الكفار، السهام موجهة إليهم، وخطط أعداء الدين ما زالت تناوشهم، وهم الذين إن صلحوا صلحت الأمة، وإن ضعفوا ذلت وهانت، أخذ الله منهم الميثاق، وأمرهم بحراسة الدين والدنيا، بالدعوة إليه وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبإقامة شرائع الدين وشعائره، فلا جرم إذاً أن وظيفتهم عظيمة، ومهمتهم جسيمة، والأنظار إليهم متطلعة، والقلوب بهم متعلقة.(1/1)
والناظر إلى أخبار الصحوة الحديثة واليقظة الجليلة يعلم تمام العلم أن هؤلاء الأفذاذ وأسلافهم كانوا لها وقوداً، ولابتدائها شهوداً، ولأعمالها زنوداً، وكانوا هم المخططين لها والعاملين، والمتمنين والمشتاقين حتى أذن الله باستوائها قوية شامخة، فلله ما أعظم فضلهم، وما أحسن عملهم، وما أجمل تضحياتهم وجهادهم، والله المسؤول أن يجزيهم خير الجزاء، وأن ينعم عليهم بالمراتب العليا من الجنة.
والمشاهد لأحوال رجال الإسلام اليوم يجد أن عزمهم قريب من الكمال، وعملهم يوشك على التمام، بل إن تفكيرهم أنضج، وخططهم أحكم، وآمالهم أعظم، وثمرتهم أقرب، وقد ساعدتهم ثلة ضخمة من العامة فصارت معهم وكانت من أسلافهم أبعد، وآزرتهم وربما كانت على أسلافهم أشد وأصعب، فالأحوال إذاً مهيئة، وقطاف الثمرة يبدو قريباً إن شاء الله تعالى.
لكن الذي ينغص على عملهم، وقد ينقص أجرهم، ويفت في عضدهم، ويوشك أن يقوض أحلامهم وآمالهم ما نشاهده من كثير منهم من التهاون في الالتزام، والتراخي بعد القوة، والنقص بعد التمام، وهذا من تسويل الشيطان، ومن ضعف النفس الأمارة بالسوء وعدم أخذها بالقوة والعزيمة والكمال، ولهذا التفلت من الالتزام شواهد عديدة وظواهر سقيمة سآتي عليها في هذه الرسالة، لكن أمهد بالقول إنها ظواهر خطيرة وآثارها في النفوس شديدة – وإن ادّعى من ادعى أنها قشور أو أنها أمور خفيفة – وهي من مؤخرات النصر، ومبعدات التمكين، وهي مضعفة للنفوس، مضعضعة للصفوف، مغرية بالمزيد من التهاون والتفلت، وهذا مكمن الخطر فيها، وأزعم أن دعاة الإسلام إن أرادوا فلاحاً وعزاً وتمكيناً لابد لهم أن يلتفتوا لهذه الظواهر ويولوها العناية اللازمة حتى لا تستفحل إلى ما هو أشد وأخطر، ولهذا كله كتبت هذه الرسالة، وسطرت هذه المقالة.(1/2)
وآمل أن تجد أذاناً صاغية وقلوباً واعية، وألا تقابل بالاهمال أو النكير الذي يولده الرأي الفطير والنظرة العجلى، بل يتأمل فيها الداعون والموجهون والتربويون، والمشايخ والفضلاء الإصلاحيون، ويسددونها بآرائهم، وينقدونها بالمزيد من أفكارهم ونظراتهم ثم يجعلونها منهجاً يربون عليه الناشئة ويأخذونهم به:
وينشأ ناشئ الفتيان منا ... على ما كان عوده أبوه
والدعاة المربون للناشئة هم آباؤهم في التوجيه والتربية، والأخذ بأحسن الطرائق، والإقبال على العزائم والتقليل من الترخص، وإبعادهم عن الضعف والتراخي والتهاون، فإذا فعل المربون ذلك، وأخذوا أنفسهم وناشئتهم بهذا فالبشرى بقرب النصر والتمكين حاصلة، والفرج بنصر الله كائن، والثقة بأن الصحوة ستؤتي أكلها قائمة،وإلا فإني أخشى ما أخشاه أن نكون كمن بنى قصوراً على الرمال، وعقد الآمال تلو الآمال لكن بدون عظيم الأعمال، وكان كمن ألقى حمله على ناشئة ناقصي التربية والتوجيه فحدث عن سوء النتائج ولا حرج، وعن اقتراب اليأس وبُعد الفرج.
كان الله في عون أولئك المربين، من الدعاة والمشايخ والفضلاء والموجهين، وهو جل جلاله حسبنا ونعم الوكيل، وإليه المفزع وهو المعين.
وهذه الظواهر سجلتها بعد معاشرة طويلة لطبقات مختلفة من أهل الإسلام، وتنقل دائم، ومقابلات كثيرة، واجتماعات عديدة، وطواف في البلاد، وملاحظة لحال العباد، فلم يكن الأمر الذي أكتب عنه هاهنا تخرصات مرسلة أو ظنوناً باطلة، أو نقلاً لإشاعات مغرضة بل هو سماع الأذن ورأي العين، وهو ليس قاصراً على فئة أو جماعة معينة بل هي أمراض سارية في كثير ممن قابلت ورأيت، على تنوع اتجاهاتهم ومشاربهم، وأرجو أن يكون فيما أكتبه شيء من التقويم والعلاج.
وسميت الكتاب ((أهل الإسلام والتفلت من ظاهر(1/3)
الالتزام)) وأعني بظاهر الالتزام ما يبدو على الشخص ويظهر عليه من علامات الالتزام أما أمراض القلوب، وخفايا السلوك، وثنايا البواطن، وما يخفى على الناس فهذا قد تكفلت به كتب كثيرة ورسائل عديدة إنما أردت في هذه الرسالة أن أدور حول الهدي والسمت الظاهر لتهاون كثير من الناس به.
وقد كنت قديماً كتبت كتاباً في الثبات، وكنت أريد به تثبيت الدعاة والصالحين لئلا ينتكسوا، أما هذه الرسالة فأريد منها تثبيت الدعاة والصالحين لئلا يتفلتوا من الالتزام الظاهر ويصيروا في حالة وسطى بين الالتزام وعدمه، هذا وقد ظهرت ظواهر غريبة من الضعف في فئة الصالحين والدعاة والمشايخ لم تكن ظاهرة بهذه الحدة يوم صنفت تلك الرسالة، وهذا كله هو الذي دعاني لكتابة ما كتبته الآن.
والله الموفق والمستعان، وصلى الله على خير الأنام
محمد وآله وصحبه وسلم أعظم السلام.
وكتبه
محمد بن موسى الشريف
الموقع على الشبكة: www.altareekh.com
البريد الإلكتروني: mmalshareef@hotmail.com
تمهيد
هناك مقولة قديمة، سليمة جليلة، تتناقلها الأفواه، وتتلقفها الآذان جيلاً بعد جيل، وطبقة بعد طبقة ألا وهي: ((الاستقامة عين الكرامة))، يعني أن الاستقامة على دين الله تعالى حتى الممات لهي الكرامة الحقيقية، وكل ما عداها فهو تبع وإضافي، وكنت وأنا في صدر الشباب وأوائله أتلقف هذه المقولة من فم أحد مشايخي حفظهم الله ورحم ميتهم، وأتعجب منها، وأرى أن فيها مبالغة، فالاستقامة كانت عندي من أوائل علامات الطريق وبيناته، ولم تكن موضع نقاش أو نظر، لكن لما تقاذفتني أمواج الحياة، ومرت بي السنون الطوال عقب تعهدي بهذه المقولة أيقنت عظمها وجلالها، ورأيت أنها جديرة بالتقدير والنظر والتعهد، وأن الاستقامة نعمة جليلة ومنة عظيمة.(1/4)
وما أجمل أيام البدايات، وما أحلى تلك الساعات، فتذكرها يفعل في النفوس الأفاعيل، وينفي عنها كثيراً من الأضاليل، وينقيها من التخاذل والأباطيل، ومَن منا لا يذكر كيف كانت همته وعزيمته، وكيف كانت عبادته واستقامته، وقد كان السلف يمدحون المستقيم على العبادة الجليلة والتقرب الكثير بقولهم: (( هو كالحدث الناشئ في العبادة ))، ذلك لأن الحدث المبتدي هو غير المتشبع المنتهي، فالمبتدئ عظيم الحماس، قوي العمل، متصل الأمل، راغب في التكثر من الطاعات، يرى المعاصي الصغيرات، والمخالفات اليسيرات كالجبال الشاهقات، فمن ظل هكذا إلى الممات، وغالب السنن وقهر العقبات، وقفز فوق الحواجز وتجاوز النوازل الملمات، كان حقيقاً بتلك المقولة الجليلة، ومن أهل تلك المرتبة العظيمة: الاستقامة، وهي حقاً إن تمادت إلى غايتها، واتصلت إلى الممات كانت عين الكرامة، ودلت على عناية الله بالعبد وأية عناية.
لكن من منا من لم يقارف، وتتقاذفه أمواج الحياة هنا وهنالك فيشارف، ولذلك شرعت التوبة، وطُلب الاستغفار، واحتال العبد لنفسه حتى يبلغ منازل الأبرار، والسعيد من اتعظ بغيره لا من وُعظ به غيره.
والدعاة والصالحون والمشايخ وطلبة العلم هم ملح البلد، وهم المنظور إليهم دوماً وأبداً، وهم في مقام القدوة، والنظر والأسوة، فاستقامتهم استقامةٌ لسائر الناس واعوجاجهم مُغْرٍ بالسقوط والإفلاس فلله ما أعظم التبعة عليهم، وما أشد التعلق بهم والنظر إليهم.
أنواع الاستقامة:
لا يظن ظانٌ أن الاستقامة إنما تنحصر في فعل الطاعات والبعد عن المعصيات، فهذا نوع واحد منها، ومن أنواع الاستقامة الأخرى:
- الاستقامة على الدعوة إلى الله تعالى والعمل لدينه، والارتفاع عن التعلق بالسفاسف والدنايا من الأعمال والأقوال.
- الاستقامة على التصور الصحيح للكون والحياة، فوضوح التصور والبعد عن الغبش لهو من أشد الأمور وأصعبها في هذه الحياة المادية المعقدة.(1/5)
- الاستقامة على الخلق الحسن، والبعد عن الكبر والغرور، والتجافي عن الدنيا والتعلق بالآخرة.
والمراد في هذا البحث إنما هو الاستقامة على الطاعات الظاهرات، والبعد عن التفلت والتهاون والضعف المؤدي لأنواع من البليات، وذلك لأن هذه الاستقامة هي حجر الأساس لما بعدها من استقامات ذكرتها، وركن الزاوية فيها، واللبنة الأولى، التي يقام عليها البناء، ويستقيم بها الأساس.
وكم رأيت من أشخاص لانت لبنتهم تلك بعد مدة، وضعفت إثر قوة، وفترت منهم تلك العَزَمات، وتناوشتهم السهام من كل جانب، وارتضوا السفاسف والدنايا، فإن تحدثوا فعن الدنيا، وإن طلبوا شيئاً فالتوسع فيها، وإن عزموا على شيء فالازدياد من ملاذها وشهواتها، وإن نظرت إلى سمتهم وجدتهم أقرب إلى سمت أهل الدنيا، وإن تسقطت أخبارهم وقعت على ما لا يسرك ولا يرضيك.
ولا جرم إذاً أن تأخرت الصحوة عن قطف الثمرة، فالصحوة قد بدأت من ثلاثين سنة تقريباً أو تزيد، وكان من المأمول من قوة البدايات أن تؤول إلى جودة النهايات، لكن، وما أقسى لكن هذه، لكن تفرق أهلها شذر مذر، وتعلق كثير منهم بالدنيا على وجه مخل، وارتضوا من المعالي بالأقل، وإن أردنا أن نصيب كبد الحقيقة، وأن نصف تلك الطريقة قلنا: إن ما عليه كثير من القوم من الدعاة والصالحين والمشايخ هو غير ما ينبغي أن يتصفوا به، على خلاف في درجة اقترابهم أو بعدهم من هذا المرجو والمأمول أن يكونوا عليه.(1/6)
ولعمر الحق إن جل العقبات التي في وجه الصحوة ليست هي من صنع اليهود ولا من فعل الغرب أو الشرق، ولا هي بسبب تخطيطات مراكز الدراسات العالمية وصنع دُور البحوث والاستراتيجيات -على عظم مكر أولئك جميعاً - لكن جل العقبات إنما هي من صنع أيدينا، ومن جراء ضعفنا وتراخينا، فإن استقمنا على مطلوب الله تعالى ورضا رسوله - صلى الله عليه وسلم - أزال عنا الحواجز والعقبات، وذلل لنا الطريق، وأسعفنا بالمعاون والرفيق، وشرح صدرنا للحق، وأبعدنا عن الزيغ والزلل، ألم يقل الله تعالى: ژ? ? ? ? ?? ہ ہ ہ ہژ [العنكبوت:69].
أوليس هذا صنيعه جل جلاله مع رسله وأوليائه،
وأحبابه وأصفيائه؟ من لدن آدم عليه الصلاة والسلام إلى نوح
ثم إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم جميعاً أفضل الصلوات وأتم التسليم.
ثم ألم يوفق الله تعالى الصحابة رضي الله تعالى عنهم بطاعتهم وإخلاصهم وتفانيهم في الاستقامة والالتزام ليحققوا ما عجز عن تفسيره المفسرون، ودُهش له المؤرخون؟!
ومن لدن أولئك الأخيار إلى يوم الناس هذا قد سطر التاريخ بأحرف من نور أحوال أهل الاستقامة ومقاماتهم التي بلغوها، وسطر مخازي أهل الضعف والتراخي والتهاون بمداد الذل والهوان ودركاتهم التي نزلوا إليها.
واليوم ونحن نتطلع إلى النصر والتمكين، وننشد بلوغ العز والسيادة والريادة هل من سبيل لبلوغ ذلك إلا بالإخلاص والطاعة، والعمل و الاستقامة؟!
- وهل نكون كمن نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً؟!
- وهل نرضى من العمل بالقول الجليل والفعل اليسير ثم نتمنى على الله الأماني؟
- وكيف إذا صعد إلى الله منا بليغ الأقوال، والضعيف من الأعمال، والمختل من الإخلاص؛ فهل نرجو بعد كل ذلك فلاحاً وتمكيناً أو نكون ژ ? ? ? ? ? ? ? ? ٹ ژ [الرعد:14].(1/7)
فيا دعاة الإسلام، ويا أيها المشايخ وطلبة العلم، ويا من يبحث صادقاً مخلصاً عن المخرج والحل: إن المخرج يكمن في طاعة الله والاستجابة لأمره، والالتصاق بوحيه، والإخلاص لوجهه، والعمل في سبيله، والتزود من التقوى، لا في التفلت من الالتزام وإضلال طريق الاستقامة، والسير في دروب الدنيا الغوية، والتشدق بالأقوال الجليلة والابتعاد عن الأفعال الجليّة، والرضا من الآخرة بالقليل.
- وهأنذا أورد مظاهر الضعف في حياتنا المعاصرة لتتقى، ومواطن الزلل لتجتنب، واقتصرت على ظواهر التفلت في أعمال الجوارح، فإني كنت قد كتبت في عبادات القلوب، وبينت فيها المطلوب (1) ، فلا أعود لتكرار ما ذكرته هنالك، وأتيت في هذه الرسالة بما هو خاص بالسمت الظاهر، ومتعلق بما عمت به البلوى أو كادت من التفلت من الالتزام بضوابط الهيئة الشرعية والسمت المرعي.
- ولن أذكر أمراً مباحاً أو اختلفت الأنظار فيه بين كراهية وإباحة، وإنما أذكر ما استقر عند سلفنا الصالح حرمته، وحكمت الفطر السليمة بذلك عن رضا وتسليم، ولو وجد من ينازع في التحريم فإنما هم أعداد قليلة جداً في ثنايا بحر خضم.
وسآتي بأقوال فقهاء الإسلام سلفاً وخلفاً، وأقرن ذلك بحال الصدر الأول، والقرن المبجّل، مع بيان خطورة ذلك التفلت على الأجيال، حتى يأتي الكلام مقروناً بالتوجيه، لا أن يكون جدالاً عقيماً وخوضاً في القيل والقال، واستخراجاً لشواذ آراء الرجال، وهذا هو المبحث الأول.
وسآتي إن شاء الله تعالى – في المبحث الثاني على أسباب التفلت من الالتزام، وفي المبحث الثالث على علاج تلك الظواهر.
__________
(1) رسالة ((العبادات القلبية)).(1/8)
وأرجو ألا يَعُدَّ القارئ ما أورده خوضاً في الأمور الخلافية، فهي ليست كذلك عند التحقيق، ولا إيراداً للأمور قليلة الأهمية وتركٍ لأمور أعظم، لا ليس الأمر كذلك، فلكل مقام مقال، وأزعم أن السبيل لتحقيق الأمور العظيمة يبدأ بضبط هذه الأشياء التي يعدها بعض الناس من الأمور الصغيرة أو قليلة الأهمية، ثم إن معظم النار من مستصغر الشرر، وأين نحن من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه)) (1) .
المبحث الأول :
ظواهر التفلت
إن المشاهد لما يجري في الساحة الإسلامية لا تخطئ عينه الوقوع على ظواهر من التفلت عديدة، وهي – كما أسلفت في المقدمة – نذير شؤم، وعلامة تخبط؛ لأن التفلت يخالف الالتزام، وهل كان الالتزام يوماً يعني شيئاً سوى التمسك والاعتصام بحبل الإسلام، وهذه الظواهر التي أتحدث عنها لا أخص بها فئة دون أخرى، ولا جماعة دون جماعة بل كلٌ في ذلك واقع بدرجات مختلفة من الحدة، ولا أريد بها بلداً دون آخر، بل إني أزعم أني جُلت في كثير من دول العالم واختلطت بصالح أهلها فإذا كتبت شيئاً فإني لا أريد به بلداً دون آخر، وأيضاً فإني أكتب عن مشاهدة لا عن سماع، ومشافهة وملاحظة الوالغين في الضعف لا حكاية منقولة أو قصة محبوكة، فلذلك كله سأذكر بعض الظواهر التي انتشرت، دون الحوادث الفردية، ولا وقائع الأعيان، فإن هذا ليس من العدل إيراده، ولا من اللباقة نشره وتعميمه، بل الأولى به الستر والصيانة، والترك وعدم الإذاعة، ويدعى لصحابه بالهداية، والتوفيق والرجوع إلى ساحة الولاية، إذ الولاية قائمة على الإيمان و التقوى، والتفلت من الالتزام يفارق التقوى، ومن هذه الظواهر:
1- قلة ضبط اللسان:
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وهو حديث حسن لغيره كما حكم بذلك محقق الكتاب الشيخ شعيب الأرناؤوط، انظر مسند الإمام أحمد: 6/368.(1/9)
وهو مرض خفي ظاهر: خفي في بواعثه ودوافعه وبعد غَوْره في النفوس، وظاهر على الألسنة، فاش في الصفوة على هيئة مقلقة مزعجة، والعجيب أن الأدلة تضافرت على عظم خطر اللسان وأهمية ضبطه وصونه، فمنها ((وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم)) (1) ، و((أملك عليك لسانك)) (2) ، ولو لم يكن إلا هذا لكفى فكيف والسنة تزخر بعشرات الأدلة المباشرة وغير المباشرة في التخويف من خطر اللسان، والصفوة من المشايخ والعلماء والدعاة والفضلاء يعرفونها ولا شك فكيف يتهاونون في هذا؟ ومن مظاهر الضعف في ضبط اللسان ما يلي بإيجاز:
1- الغيبة ونهش الأعراض:
وهي من أكبر الذنوب، وتلقي الوحشة في القلوب، والنفرة في النفوس، والعجب أن حرمتها ظاهرة، والتحذير منها في الشرع فاش لكن مع هذا تجد الوقوع فيها منتشراً انتشاراً يدعوا إلى العجب والدهشة، وانتشارها في طبقات النساء أعم وأكبر وأفدح.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والحديث صحيح كما أخبر محقق الكتاب الشيخ شعيب الأرناؤوط: انظر ((المسند)): 36/344.
(2) أخرجه الإمام الترمذي في سننه كتاب الإيمان: باب ما جاء في حفظ اللسان، وقال: هذا حديث حسن.(1/10)
وسبب هذا تسويل الشيطان لهؤلاء الواقعين في الأعراض أن ما يفعلونه إنما هو لمصلحة الدعوة، أو لبيان الحق ولدحض الباطل، أو لبيان خطورة شخص بزعمهم، أو للتحذير من هيئة أو جماعة، أو غير ذلك من مداخل الشيطان، والأمر الباعث على الأسى أن أغلب هؤلاء الواقعين في هذه الجريمة يحتجون بأن السلف كانوا يجرحون ويعدلون، وكتبوا في ذلك المصنفات، وجهل هؤلاء أو نسوا أن السلف إنما صنعوا ذلك لحماية جانب الحديث النبوي وصيانته، وإيصاله للأجيال نقياً بريئاً من الكذب والخلل، وجهلوا أمراً مهماً جداً – أو نسوه – ألا وهو أن غالب السلف كانوا ورعين إلى الحد الأقصى من الورع، وهذا هو الغالب عليهم رحمه الله ورضي عنهم، فكانوا يتحرجون جداً من الجرح ويأتون به بعبارات تنم عن ورعهم وتخوفهم من الله تعالى، بل كان ابن أبي حاتم الرازي شيخ الجرح والتعديل (1) رحمه الله تعالى يبكي في بعض الأحيان مما يتحرج منه من الجرح رحمه الله تعالى، أما جراحو عصرنا فأكثرهم لا يدري ما الورع فدع عنك مزاولته وممارسته، ثم إنهم يجرحون الناس لأمور لا تستوجب الجرح في أكثرها وأغلبها، فأصبح الجرح شهوة لهم ومهنة، وقد نص العلماء على أن الغيبة تباح في مواطن محددة لا تتجاوزها، فتوسع فيها هؤلاء، وأصبحت ألسنتهم مذللة بالغيبة!! ومن صور ما لهجوا به وظنوا أنهم يقومون فيه بواجب شرعي ما يلي:
__________
(1) هو محمد بن عبدالرحمن بن أبي حاتم الرازي السجستاني، هو وأبوه وخاله أبو زرعة الرازي كانوا من شيوخ الجرح والتعديل المعتبرين، توفي سنة 327 رحمه الله تعالى..(1/11)
أ- ذم الجماعات والهيئات التي لا يوافقونها على منهجها ذماً عاماً، وذم كل منتسب إليها، وهذا يذكرنا بالقانون السوري سيء الذكر رقم (49) الذي ينص على عقوبة الإعدام لكل من ينتسب إلى الإخوان المسلمين!! وهؤلاء يعدمون الروح ويزهقونها، وأولئك يزهقون الأعراض ويعدمونها، ولا أدري كيف يبيحون لأنفسهم هذا الذم العام، والتجريح الشامل لملايين من الدعاة المنتسبين إلى الجماعات!! وفيهم صالحون وعباد وزهاد وعلماء عاملون، وفضلاء.
ب- ذم الأشخاص بنسبتهم إلى التصوف لأدنى أمر يرونه رابطاً به، وقد يكون الشخص بعيداً عن التصوف بعد السماء عن الأرض لكنهم حكموا عليه بأنه صوفي بدون سؤال ولا استفسار، إنما حملهم على هذا قول له قاله أو فعل فعله فألزموه بما لا يلزمه، وليتهم يفرقون بين الصوفية الغالية والمعتدلة بل كلها عندهم فرق ضلال، وهذا ما لم يقل به أحد من السلف أو الخلف إلا ما كان من هؤلاء الذين ابتلي بهم أهل العصر.
ولك أن تعلم ما الذي يجري على هذا المسكين الذي تصوف رغم أنفه، فإن القوم يرمونه بشتى التهم، ويلوكون عرضه لوكاً شنيعاً، ويستهزئون به أيما استهزاء دون وازع من دين أو عقل أو ضمير، وإنا لله وإنا إليه راجعون، فلا دين يردعهم ولا سلطان يوقفهم، ومن أراد الاطلاع على شيء من ذلك فعليه الرجوع إلى شبكة المعلومات "الإنترنت" ففيها من هذا البلاء جملة وافرة.(1/12)
ج- وبدعوى الجرح تجدهم في مجالسهم "التقويمية" يسلقون الأشخاص بألسنة حداد، فهذا عصبي حاد لا يصلح، وذاك خامل ضعيف، وثالث متهور، ورابع مغرور، وخامس فخور، وسادس جهول، وسابع مهبول، وثامن عنده قصور، وتاسع متكبر، وهكذا فلا يكاد يسلم لهم أحد، والعجيب أن هذا حادث حتى في أوساط المتفقين في المنهج نفسه بل ربما كانوا في هيئة أو جماعة واحدة!! وكل هذا بدعوى بيان الحق وإيضاح الحال، والمسكين الذي جرت عليه هذه الأحكام السيفية والفرمانات الهمايونية لا يكاد يدري شيئاً بل ربما درّسه بعض هؤلاء الأخوة وحقوقها فإذا بهم يهدمونها بمعاول ألسنتهم عندما يغيب عنهم أخوهم، نعم إن الجرح والتعديل أمر لابد منه في أوساط الدعاة لكن ليس على هذا الوجه، ولا على هذه الهيئة، وهذه المقالة ليست للتقعيد ولا لتأصيل المسألة هذه لكنها من أجل الردع وتبيين خطر الولوغ في الأعراض بدون ضابط.
د- وبعض هؤلاء ديدنه اتهام الآخرين بضعف العقيدة لا لشيء إلا لأنه جعل نفسه وما يعتقده ميزاناً لعقائد الآخرين، فما وافق منها عقيدته رضي به وسلم، ومن خالف ولو في شيء يسير أقام عليه الدنيا ولم يقعدها، وفعل به الأفاعيل، ونهش عرضه نهشاً فعل من لا يخشى الله ولا يتقيه.
هـ- وتجد الواحد من هؤلاء يتهم الآخرين بالجهل، وإذا سبرت مراده ظهر لك أنه يريد بالجهل جهل ما أقامه هو من القواعد والضوابط ولو لم تكن في نفسها مدعاة لتجهيل من لا يعرفها، لكنه الغرور وقلة الورع في إطلاق الأحكام.
2- بذاءة اللسان:
وهذا عنوان عجيب!! إذ كيف يكون في أمثال هؤلاء من هو بذيء اللسان لكن هذا هو واقع عدد منهم، فمنهم من يلعن!! والنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة)) (1) .
__________
(1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.(1/13)
ومنهم من هو فاحش بذيء، يسمع منه السباب والشتائم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال: ((ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء)) (1) و ((لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - سباباً ولا فحاشاً ولا لعاناً)) (2) ((إن الله ليبغض الفاحش البذيء)) (3) .
3- الاستهزاء والسخرية:
وهذا موجود في بعضهم ممن ابتلي بالفخر بأهله أو نسبه
أو عشيرته أو قبيلته أو بلده أو بجماعته أو بشيء آخر، فتجده مع هذا الفخر الكاذب لامزاً للناس مستهزئاً بهم ساخراً منهم، مقللاً من قدرهم ومكانتهم، متحيناً الفرص للنيل منهم بلسان حديد لا يعرف للتقوى ولا للورع طريقاً.
4- النميمة:
فتجد الواحد من هؤلاء يذهب إلى الآخر فيقول: فلان قال عنك كذا وكذا، فيوغر صدره، ويحرك دوافع الانتقام عنده، ونسي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النميمة أشد النهي وبين أنها سبب لعذاب القبر، وأن الله كره لكم ثلاثاً منها قيل وقال، ولولا حرمة الدعاة والمشايخ لذكرت قصصاً كثيرة تبين هول ما يصنعون، لكن في الإشارة غنية عن العبارة، وقد اخترت الإيجاز فالمقام لا يصلح للبسط والتطويل، والقلوب لا تحتمل، والمراد هو التنبيه لا التشهير، والتقريب لا التنفير، والستر لا التنقير، والناقد بصير.
وعلاج هذا المرض إنما هو بتقوى الله تعالى، والالتزام بأحكام الإسلام، وعدم التهاون أو التفريط فيها بحجج ضعيفة ومصالح موهومة، والتفكير في الكلام قبل الإقدام عليه، والتزام الورع، وطول الصمت، والخوف من عثرات اللسان وزلاته.
2- الاستماع إلى المعازف (الموسيقى):
__________
(1) أخرجه الإمام الترمذي وقال حسن غريب، وصححه الأستاذ أحمد شاكر رحمه الله.
(2) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه.
(3) أخرجه الإمام الترمذي وقال حسن صحيح.(1/14)
وهذه ظاهرة تفشّت، وخالطت كثيراً من أهل الصحوة وانتشرت، فتجد الواحد منهم لا يتحرج من سماع الموسيقى، ولا يرى في ذلك بأساً، وسواء أكان ذلك موسيقى أغاني، أم موسيقى خالصة، وتعدى ذلك إلى أن تمزج هذه المعازف (الموسيقى) بالنشيد الإسلامي فتجد أن فلاناً من المنشدين يمسك بعود أو (جيتار) ويعزف به بلا حرج أمام الجمهور!! وتجد جماعات من السامعين بذلك راضين، وبه فرحين، وجمهورهم الأعظم هم من الملتزمين – أو هكذا يرون أنفسهم، وربما سموا أنفسهم دعاة وصالحين -وكنا إلى عهد قريب نتجادل في الإيقاع فإذا بالمنشدين الإسلاميين!! يفاجئوننا بالمعازف علانية، بل يحض بعضهم بعضاً عليها، والمنشد الذي لا يرى استعمال الإيقاع – دع عنك المعازف – يشتد عليه اللوم والنكير، كما أخبرني بذلك أحد كبار المنشدين.
وأدى هذا التفلت إلى التدرج من سماع النشيد بالمعازف إلى سماع الأغاني بالمعازف بدعوى أن هذا يشبه ذاك ولا فرق إلا في الكلمات، فإن طهرت الكلمات وارتقت فلا حرج إذاً!! ثم أدى هذا إلى استماع الأغاني من النساء بدعوى أن صوت المرأة ليس بعورة!! وقد حدث هذا في أحد المؤتمرات التي حضرتها في أوروبا لكني علمت مسبقاً بوجودهن فلم أحضر الحفل، وأنكرت فاعتُذر لي اعتذاراً غير مقنع، وهل هناك من قول صحيح يجيز غناء النساء بمحضر الرجال بعد قول الله تعالى: ژ? ? ? ? ? ? ? ? ژ [الأحزاب:32]. وأي خضوع أخضع من تغنيها؟!
وهذا الإمام الطرطوشي يقول في شأن غناء المرأة بمحضر الرجال:
((أما استماعه من المرأة التي ليست بمحرم له فإن أصحاب الشافعي مجمعون على أنه لا يجوز بحال، سواء كانت مكشوفة أو من وراء حجاب...)) (1) .
وقال أيضاً:
__________
(1) ((كتاب تحريم الغناء والسماع)): 163، وهذا الحكم بدون صحبة معازف فكيف إذا صحبته المعازف؟!(1/15)
((وأما سماعه من المرأة فكلٌّ مجمع على تحريمه قال الله تعالى: ژ ? ? ? ? ? ٹٹ ٹ ٹ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?ژ [الأحزاب:32]، ومعنى قوله ژ ? ? ژ أي لا تلِنّ بالقول للرجال ژ ? ? ? ? ? ژ ... أي فجور وضعف إيمان، فياليت شِعري: هل في لين القول والإطماع في المحظور أولى من الغناء؟ وقد قيل: إن الغناء رقية الزنا...
ژ ? ? ژ أي صحيحاً لا ريبة فيه، وليس الغناء قولاً معروفاً)) (1) .
- واليوم صارت هذه المعازف تختلط بوعظ الوعاظ ودعاء الداعين وتسبيح المسبحين!! فمن كان يتصور حدوث هذا؟!
وأنا سأورد أقوال فقهاء الإسلام، وعظماء الملة، وصدر الأمة، ممن أنكر الاستماع للمعازف وجافاه، واسترذله واستقبحه، وأبدأ قبلها بذكر الأحاديث الشريفة التي تدل على تحريم الغناء ليرتدع الذين يستحلون سماعه (2) :
حديث الإمام البخاري المشهور:
عن أبي عامر أو أبي مالك الأشعري أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ (3) ،والحرير، والخمر، والمعازف...)) وهذا الحديث طعن فيه ابن حزم بدعوى أنه معلق (4) ، ودعواه مردودة؛ فقد وصله أئمة كثيرون غير البخاري منهم ابن حبان والطبراني والبيهقي وأبو نعيم، وابن عساكر والمزي والذهبي، وقد صحح الحديث أئمة منهم البخاري وابن حبان والحاكم، وقال ابن الصلاح: الحديث صحيح.
وقال النووي: الحديث صحيح.
وقال ابن تيمية: قد صح ما رواه البخاري.
وقال ابن القيم، هذا حديث صحيح.
وقال ابن رجب: فالحديث صحيح.
وقال ابن حجر: وهذا حديث صحيح لا علة له ولا مطعن.
__________
(1) المصدر السابق: 200-201.
(2) سآتي على هذه الأقوال والأحاديث ونقدها من كتاب ((أحاديث المعازف والغناء: دراسة حديثية نقدية)) رسالة ماجستير للأستاذ محمد عبدالكريم عبدالرحمن.
(3) أي الفرج.
(4) الحديث المعلق هو الحديث الذي سقط من أوله واحد أو أكثر، وهو من أقسام الضعيف.(1/16)
وقال الشوكاني: والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح، والبخاري رواه بصيغة الجزم معلقاً، وما علقه البخاري بصيغة الجزم صحيح.
وقد عظم أهل الإسلام الصحيحين، وحكموا بصحة كل ما فيهما، ولم يطعن أحد – من أئمة المحدثين – في هذا الحديث، فيما أعلم، وقد سقت لكم حكم أئمة الحديث الكبار على هذا الحديث، فهل يقبل بعد ذلك قول ابن حزم في تضعيف هذا الحديث الثابت، ويرد كل أقوال أئمة الحديث السابقة، والغريب أن عدداً من الفقهاء المعاصرين أخذوا بقول ابن حزم ولا أدري هل هم اطلعوا على أقوال أئمة الحديث المسرودة آنفاً أو خفيت عليهم، وكلا الأمرين عجيب (1) .
الحديث الثاني:
((عن نافع قال: سمع ابن عمر مزماراً قال: فوضع أُصبعيه على أذنيه ونأى عن الطريق، وقال لي: يا نافع: هل تسمع شيئاً؟ قال: فقلت: لا، قال: فرفع اصبعيه عن أذنيه وقال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا)).
أخرج هذا الحديث أبو داود في سننه، وابن سعد، وأحمد في المسند، وابن حبان، والطبراني، وأبو نعيم، والبيهقي، وابن عساكر، وابن الجوزي، وهو حديث حسن، وقال ابن تيمية: وقد رواه أبو بكر الخلال من وجوه متعددة يصدق بعضها بعضاً.
وصححه ابن حبان، وابن ناصر.
وقال ابن الوزير اليماني: صحيح على الأصح (2) .
الحديث الثالث:
((إن الله حرم علي أو حرم الخمر والميسر والكوبة)) والكُوبة: الطبل الصغير. وقد أخرجه أبو داود في سننه، وأحمد، وأبو يعلى وجماعة، والحديث صحيح (3) ومثله عدة أحاديث لم أوردها اختصاراً.
الحديث الرابع:
__________
(1) انظر: ((أحاديث الغناء و المعازف)): 47-78.
(2) المصدر السابق: 173-182.
من حق الأقوال السابقة أن توضع في الهامش هي وما سيأتي من أقوال لكني وضعتها عمداً في المتن حتى تبرز وتظهر، ويعتني بها قارئوها، ولذلك أيضاً لم أترجم لهذه الأعلام.
(3) المصدر السابق: 217.(1/17)
((صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة، ورنة عند مصيبة)) (1) .
ومن لم يقتنع بصحة هذه الأحاديث فإليه أقوال وأحوال الصدر الأول من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم رضي الله عنهم (2) :
1- أخرج البيهقي في سننه الكبرى بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((الدف حرام (3) ، والمعازف حرام، والكوبة حرام (4) ، والمزمار حرام)) (5) .
2- وأخرج النسائي وأبو نعيم وابن عساكر بسند صحيح عن الأوزاعي قال: كتب عمر بن عبدالعزيز إلى عمر بن الوليد (6) كتاباً فيه: ((وإظهارك المعازف والمزمار بدعة في الإسلام، وقد هممت أن أبعث إليك من يَجُزّ جُمتك جمة السوء)) أي يقص مقدمة شعرك عقاباً.
وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى مؤدب ولده:
((ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي التي بدؤها من الشياطين، وعاقبتها السخط من الرحمن عز وجل؛ فإنه بلغني عن الثقات من حملة العلم أن حضور المعازف واستماع الأغاني واللهج بها ينبت النفاق في القلب...)) (7) .
3- وهذا شُريح القاضي (8) يُرفع إليه رجل كسر طنبوراً فلم يضمنه، أخرجه البخاري في صحيحه وأخرجه غيره (9) . ومعنى لم يضمنه أي لم يوجب عليه دفع ثمن ما أتلف، وهذا يعني أن الطنبور عنده حرام.
__________
(1) أخرجه البزار: 1/377، وسنده حسن.
(2) النقل في هذا الآتي كله من كتاب ((أحاديث الغناء والمعازف: دراسة حديثية نقدية)).
(3) يعني إلا ما استثناه الشارع في النكاح والحرب وما شابه هذا.
(4) الكوبة: الطبل.
(5) المصدر السابق: 79-80.
(6) هو عمر بن الوليد بن عبدالملك أحد عمال بني أمية.
(7) المصدر السابق: 79-80.
(8) الفقيه أبو أمية، شُريح بن الحارث بن قيس الكندي، قاضي الكوفة أسلم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يره، وانتقل من اليمن زمن الصديق - رضي الله عنه – وكان ثقة. توفي سنة 78 رحمة الله تعالى. انظر (سير أعلام النبلاء): 4/100 وما بعدها.
(9) المصدر السابق.(1/18)
أقوال المذاهب في المعازف:
قال ابن تيمية رحمه الله:
((مذهب الأئمة الأربعة أن آلات اللهو كلها حرام)) (1) .
وقال: ((ولم يذكر أحد من أتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعاً)) (2) .
وقال أيضاً: ((آلات الملاهي لا يجوز اتخاذها ولا الاستئجار عليها عند الأئمة الأربعة)) (3) .
وقال أيضاً عن الأغاني المشتملة على المعازف:
((فأما المشتمل على الشبابات والدفوف المصلصلة (4) فمذهب الأئمة الأربعة تحريمه)) (5) .
وقال ابن رجب الحنبلي رحمه الله (6) :
((سماع آلات الملاهي لا يعرف عن أحد ممن سلف الرخصة فيه، وإنما يعرف ذلك عن بعض المتأخرين من الظاهرية ممن لا يُقتدى به، ومن حكى شيئاً من ذلك فقد أبطل)) (7) .
ويعني ببعض المتأخرين من الظاهرية ابن حزم، فقوله شاذ مردود، والعجيب تعلق بعض المعاصرين به.
وقال ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى (8) :
__________
(1) ((مجموع الفتاوى)): 11/576.
(2) المصدر السابق.
(3) المصدر السابق: 30/212.
(4) الشبابات: المزامير، والمصلصلة أي التي فيها ما يشبه الأجراس.
(5) المصدر السابق: 11/535.
(6) الإمام الحافظ المحدث الفقيه الواعظ زين الدين عبدالرحمن بن أحمد بن رجب السلامي البغدادي ثم الدمشقي الحنبلي.
ولد في بغداد سنة 736هـ وأكثر الاشتغال حتى مهر، وله مصنفات نافعة. توفي سنة 795 رحمه الله تعالى.
انظر ((طبقات الحافظ)) للسيوطي: 540.
(7) ((نزهة الأسماع)): 69.
(8) الشيخ العلامة الإمام أحمد بن محمد بن علي، شهاب الدين ابن حجر الهيتمي السعدي الأنصاري ولد في محلة أبي الهيتم بمصر سنة 909هـ تلقى العلم في الأزهروله تصانيف كثيرة. ارتحل إلى مكة وصار مفتيها، وبها توفي سنة 974هـ رحمه الله تعالى.=
= انظر: ((الكواكب السائرة بأهل المائة العاشرة)) لنجم الدين الغزي: 3/111-112، و((الأعلام)): 1/234.(1/19)
((الأوتار والمعازف كالطنبور والعود... وغير ذلك من الآلات المشهورة عند أهل اللهو والسفاهة والفسوق، وهذه كلها محرمة بلا خلاف، ومن حكى فيها خلافاً فقد غلط، أو غلب عليه هواه حتى أصمه وأعماه، ومنعه هداه، وزل به عن سنن تقواه.
وممن حكى الإجماع على تحريم ذلك كله الإمام أبو العباس القرطبي وهو الثقة العدل (1) فإنه قال كما نقل عنه أئمتنا وأقروه: وأما المزامير والأوتار والكوبة (2) فلا يختلف في تحريم سماعها، ولم أسمع عن أحد ممن يعتبر قوله من السلف وأئمة الخلف من يبيح ذلك...)) (3) .
وقال في سياق رده على من ادعى أن المسألة خلافية:
هيهات!! ليس الأمر بالهوينا كما يظن، بل بينه وبين إثبات الحل عن واحد مفاوز تُقطع دونها الأعناق؛ إذ لو قام طول عمره يفحص ويفتش ما ظفر بنقل الحل عن طريق صحيح عن واحد من العلماء (4) .
وقال العظيم آبادي (5) :
__________
(1) أحمد بن عمر بن إبراهيم، أبو العباس الأنصاري القرطبي المالكي فقيه، محدث، مدرس بالإسكندرية. ولد بقرطبة سنة 578هـ، وسمع الكثير هناك، واختصر الصحيحين، وشرح صحيح مسلم المسمى بالمفهم، فيه أشياء حسنة مفيدة محررة. توفي سنة 656هـ رحمه الله تعالى: ((البداية والنهاية)): 13/213.
(2) هو الطبل.
(3) ((كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع)): 1/118-119.
(4) المصدر السابق: 2/306.
(5) محمد بن علي بن مقصود علي الصديقي، العظيم آبادي، أبو الطيب، شمس الحق. عالم بالحديث. من أهل عظيم آباد في الهند، ولد بها سنة 1273هـ. جمع مكتبة حافلة بالمخطوطات وقرأ الحديث في دهلي، وصنف كتباً. توفي في ديانوات من أعمال عظيم آباد سنة 1329هـ رحمه الله تعالى انظر: ((الأعلام)) 6/301.(1/20)
((وأبو حنيفة أشد الأئمة قولاً فيه، ومذهبه فيه أغلظ المذاهب، قد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها... وأنه معصية يوجب الفسق وترد به الشهادة بل قالوا: التلذذ به كفر (1) ، هذا لفظهم، قالوا: ويجب عليه أن يجتهد في ألا يسمعه إذا ضُرِب به أو كان في جواره)) (2) .
وقال الإمام القرطبي (3) :
((سماع الأغاني بالآلات المطربة من الشبابات والطار والمعازف فحرام...)) (4) .
فهذه بعض أقوال السلف والخلف في المعازف (الموسيقى) فما حجة من سمعها أو يُرخص فيها؟ وما حجة من يبيح بيع الآلات الموسيقية اليوم؟ بل يسميها بعض المشايخ: الموسيقى المشروعة!!
وأما قول ابن تيمية ((مذاهب الأئمة الأربعة أن آلات اللهو كلها حرام)) فهو قول عظيم شديد؛ إذ معنى هذا أن مئات الآلاف من الفقهاء أتباع المذاهب الأربعة يحرمون الآلات، تبعاً لأئمتهم، وَقلّ جداً من خرج عن هذا التحريم، أفنترك قول هؤلاء العظماء وهم عدد هائل لقول واحد أو اثنين أو ثلاثة أو حتى ثلاثين، اللهم إن هذا ليس بمنهج سديد وليس بمقبول أبداً.
- ثم إن هذه المسألة – مسألة المعازف – لا يصح شرعاً ولا عقلاً أن تسمى مسألة خلافية بعد هذا الذي سقته من الأحاديث والآثار والأقوال، وإذا وُجد من خالف فخلافه ضعيف جداً بل شاذ لا يلتفت إليه.
__________
(1) هذا من قائله غلو لا أوافقه عليه بل حسبه أن يكون معصية، والله أعلم.
(2) ((عون المعبود)): 13/186.
(3) هو الشيخ الإمام محمد بن أحمد بن أبي بكر الأنصاري الخزرجي القرطبي. إمام متفنن متبحر في العلم. له تصانيف مفيدة تدل على كثرة اطلاعه ووفور فضله. توفي سنة 671هـ في صعيد مصر. انظر: ((الوافي بالوفيات)): 2/122-123.
(4) تفسير القرطبي: 14/54، ثم استثنى ما استثناه المشايخ كدف النكاح.(1/21)
أثر المعازف على الشباب (1) :
ثم إن من لم يقتنع بما ذكرته آنفاً فلينظر إلى أثر المعازف على الشباب:
1- فهي قد أوهت صلتهم بكتاب الله تعالى، وصاروا يتلذذون بالغناء أكثر من تلذذهم بسماع القرآن، وهذا معروف مشاهد، لا يحتاج إلى إيراد أدلة عليه.
2- أورثتهم ميوعة ظاهرة وتكسراً وضعفاً، وصاروا يهيمون في أودية العواطف الكاذبة.
3- صارت المعارف في حياة الشباب لصيقة إلى الحد الذي أورثهم إدمانها، كما هو مشاهد، بحيث لا يستطيعون الاستغناء عنها في ظنهم.
وهناك دراسة أجريت سنة 1395هـ/1975م من قبل اتحاد الإذاعة والتلفزيون في مصر كانت نتائجها أن 54.3% ممن أجريت عليهم الدراسة تفضل الاستماع لأم كلثوم، أما إذاعة القرآن الكريم فكان نصيبها فقط 14.7% هذا كان قبل 33 سنة فكيف اليوم؟!!
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
((والمعازف هي خمر النفوس، تفعل بالنفوس أعظم مما تفعل حُميا الكؤوس... والغناء رقية الزنا، وهو من أعظم الأسباب لوقوع الفواحش، ويكون الرجل والصبي والمرأة في غاية العفة والحرية حتى يحضره فتنحلّ نفسه وتسهل عليه الفاحشة ويميل لها فاعلاً أو مفعولاً به أو كلاهما كما يحصل بين شاربي الخمر وأكثر)) (2) .
وقال ابن القيم:
((يجب أن يتجنب الصبي إذا عقل مجالس اللهو والباطل والغناء... فإنه إذا علق بسمعه عسر عليه مفارقته في الكبر، وعزّ على وليه استنقاذه منه)) (3) .
__________
(1) نعم إن الكتاب موجه لطبقة خواص الأمة من دعاة ومشايخ وطلبة علم لكن قد يتأثر الخواص بما يتأثر به العوام، وقد يزل الفرد من هؤلاء بما يزل به آحاد العوام، لذلك جئت بهذه الآثار في هذا السياق، فلا يقول قائل إن هذه الآثار التي ذكرت ليست في خواص الأمة بل في عوامها، والله أعلم.
(2) ((مجموع الفتاوى)): 10/417-418.
(3) ((الغناء والموسيقى وخطرها)): 16.(1/22)
4- تدرجت هذه المعازف من معازف أولية بدائية لتصبح أجهزة ضخمة مصحوبة بما يعرف بـ ((الفيديو كليب))، وصارت مصحوبة في الأغلب بنساء مغنيات أو راقصات، وفي هذا إثارة للشهوات المحرمة.
نعم إن القائلين بحل المعازف يقولون بوجوب ألا تكون مثيرة للغرائز لكن هذا ليس منضبطاً؛ لأن ما لم يثر فلاناً من الناس قد يكون كفيلاً بإثارة آخر، والله أعلم.
ملحظ قوي في قضية أثر القول بجواز استعمال الآلات على النشيد الإسلامي:
وهو أن القول بجواز الموسيقى يذهب بالبديل الإسلامي ألا وهو النشيد الإسلامي أدراج الرياح، إذ أن هناك جهوداً بذلت منذ أكثر من ربع قرن من أجل إحلال النشيد الإسلامي مكان الأغاني المصحوبة بالمعازف، وقد نجحت هذه الجهود إلى الحد الذي تجاوز فيه النشيد الإسلامي كل الأغاني الهابطة، وأصبحت بعض الأناشيد على لسان كثير من الصغار والكبار ذكوراً وإناثاً، فإذا قيل بجواز المعازف رجع الناس القهقرى، واستمعوا لهذه الأغاني المصحوبة بالمعازف بحجة جوازها، وفي هذا إهدار لجهود كثيرة، وإذهاب لأعمال جليلة، وغمط لأناس اجتهدوا طويلاً في تخليص الأناشيد الإسلامية ومعانيها السامية من غائلة المعازف، وأخرجوا لنا مئات من الأشرطة الإنشادية النافعة (1) . وأيضاً إذا استعملت الآلات في النشيد واستمع إليه بها، فقد يقول قائل: فما المانع من سماع الأغاني المصحوبة بالآلات إذا كانت معانيها جيدة، ولماذا التفريق بين هذا وذاك إذِ الأمر سيان، وهذا يقودنا إلى الإهدار الكلي لتلك الجهود الجليلة التي بذلت طويلاً من أجل إنجاح هذا البديل الإسلامي الجيد، والله أعلم.
__________
(1) ولمناسبة السياق أسأل الله أن يجزي القائمين على مهرجان الشارقة الإنشادي خيراً، فهذا مهرجان مجموع له الناس في رمضان كل سنة، ومنظور إليه في القنوات الفضائية، وهم يمنعون تماماً استعمال الآلات، ويأتوننا غالباً بالمفيد الممتع فعسى أن يستمروا على هذا النهج الحسن.(1/23)
فهل يقال بعد ذلك إن المعازف حلال، وهل يليق بالعلماء والدعاة والإصلاحيين أن يتشبهوا بالرعاع والعوام في الاستماع للمعازف؟ وهل هناك وقت لمثل هذه السفاسف؟ وأين الورع والتقوى التي تمنع من التعلق بمثل هذا؟!
وهل سمعنا عن الصدر الأول والسلف العظام أنهم كانوا يستمعون للمعازف في خلواتهم وجلواتهم، معاذ الله، إنما كانت حالات فردية شاذة تروى عن آحاد لا يكادون يبلغون أصابع اليد الواحدة، فهل نترك حال أولئك العظام ونتشبث بأحوال أفراد قليلين ليسوا حجة في دين الله تعالى وليس في أيديهم حجة واضحة، ثم أين نذهب بالجملة الوافرة -التي أوردتها آنفاً – من الأدلة وأقوال السلف والخلف؟! وهل بعد مخالفة أولئك العظام نرجو خيراً وفلاحاً؟!
3- حلق اللحى:
تعرض المسلمون في القرنين الأخيرين لهجمة هائلة، وغير المستخربون كثيراً من عاداتهم وتقاليدهم، وحجبوهم عن كتاب ربهم وسنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ناهيك أن المتغلب عادة يفرض طرائق حياته وسمته على المغلوب، وهذا الذي جرى على كثير من المسلمين فصاروا يتشبهون في طرائق حياتهم بالكافرين المتغلبين، فخرجت النساء كاسيات عاريات، ولبسن كما يلبس الكفار، ولبس الرجال كذلك في أكثر بلاد الإسلام لباس الكفار، وصاروا يقتدون بالكفار في هيئاتهم وأحوالهم، ومما عم به البلاء بسبب وجود الكافرين في ديار الإسلام وتغلبهم واستلامهم مقاليد الأمور تنحية الكتاب والسنة عن الحكم، وتغريب المسلمين، وإبعادهم عن الحياة الإسلامية الصحيحة، وتأثر بهم وبأحوالهم كثير من المسلمين فلبسوا ثيابهم، وحلقوا لحاهم كما يحلقون، وشاع هذا في المسلمين، والبلية كل البلية أن عمد مشايخ كثر من المسلمين إلى حلق لحاهم فاكتملت المصيبة؛ وذلك لأن الناس لما رأوا مشايخهم قد حلقوا لحاهم قلدوهم وفعلوا فعلهم.(1/24)
واليوم نرى جماعات كبيرة من المشايخ والعلماء والدعاة والفضلاء والإصلاحيين يحلقون لحاهم، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ومعلوم أن من خاف على نفسه في البلاد الاستبدادية فله أن يحلق لحيته!! لكن ما بال المشايخ الرسميين والعلماء ذوي المناصب لماذا يحلقون لحاهم؟ وهل سيلقى بهم في السجون إذا أعفوا لحاهم؟!
ثم ما بال الدعاة الذين هم في مأمن كما هو شأن الدعاة الذين في الدول الآمنة في أوروبا وأفريقيا وأمريكا وآسيا والدول العربية ما بال كثير منهم يحلقون لحاهم وليست بهم حاجة لفعل هذا؟ أو ينهكونها إنهاكاً كبيراً حتى صارت
مثل الحلق.
ثم من سيعفي لحيته إذا حلقها كثير من العلماء والدعاة والفضلاء والمشايخ؟ هل سيفعل ذلك العوام؟
فإذا ترك الخواص والعوام إعفاء اللحى فمن سيعفيها إذاً؟ واسنة محمداه!! - صلى الله عليه وسلم - .
ثم هل كان كذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم والصدر الأول والسلف الصالح والخلف المتابع؟!
حكم حلق اللحى:
والعجب أن العلماء يتساهلون في حلق لحاهم وتبعهم في ذلك كثير من الدعاة مع أن الأحاديث ثابتة واضحة في الأمر بإطلاق اللحى؛ فمن ذلك:
1- عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
((احفوا الشوارب وأعفوا اللحى)) (1) .
2- وعنه أيضاً رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بإحفاء الشوارب وإعفاءاللحية (2) .
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
((جزُوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس)) (3) .
4- وعنه أيضاً رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - :
((خالفوا المشركين وفروا اللحى وأحفوا الشوارب)) (4) .
__________
(1) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: كتاب الطهارة: باب خصال الفطرة.
(2) المصدر السابق.
(3) المصدر السابق.
(4) أخرجه الإمام البخاري: كتاب اللباس: باب تقليم الأظافر.(1/25)
وذكر الإمام النووي رحمه الله تعالى أنه ((كان من عادة الفرس قص اللحية فنهى الشرع عن ذلك)) (1) .
وقال ابن حجر رحمه الله تعالى في قضية مخالفة المشركين:
((إنهم كانوا يقصون لحاهم، ومنهم من كان يحلقها)) (2) .
وقال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى بعد أن ساق أدلة تحريم حلق اللحية:
((مما لا ريب فيه عند من سلمت فطرته وحسنت طويته أن كلاً من الأدلة السالفة الذكر كاف لإثبات وجوب إعفاء اللحية وحرمة حلقها فكيف بها مجتمعة)) (3) .
وهناك بيان من الأزهر الشريف بين فيه عدة قضايا منها اللحية، وأن أكثر الفقهاء على وجوب إبقائها وعدم حلقها (4) .
والتحريم ثابت عند فقهاء الحنابلة والمالكية والأحناف والشافعية.
وقال ابن تيمية رحمه الله:
((ويحرم حلق اللحية)) (5) .
وقال صاحب ((الإبداع في مضار الابتداع)):
((وقد اتفقت المذاهب الأربعة على وجوب توفير اللحية وحرمة حلقها:
الأول: مذهب الحنفية: قال في ((الدر المختار)): ويحرم على الرجل قطع لحيته...
الثاني: مذهب السادة المالكية: حرمة حلق اللحية.
الثالث: الشافعي رضي الله عنه نص في الأم على التحريم، وقال الأذرعي: الصواب تحريم حلقها جملة لغير علة بها.
الرابع: مذهب السادة الحنابلة نص في تحريم حلق اللحية، فمنهم من صرح بأن المعتمد حرمة حلقها، ومنهم من صرح بالحرمة ولم يحك خلافاً)) (6) .
وقال الشيخ محمد زكريا رحمه الله:
__________
(1) صحيح مسلم شرح النووي: 2/152 والنقل من كتاب ((الاختلافات الفقهية)): 336.
(2) ((فتح الباري)): 11/41، والنقل من المصدر السابق.
(3) ((أدلة تحريم حلق اللحية)): 100، نقله عن آداب الزفاف.
(4) ((الاختلافات الفقهية)): 339.
(5) ((الاختيارات العلمية)): 6.
(6) ((وجوب إعفاء اللحية)): 26 نقلاً عن ((الإبداع في مضار الابتداع)) للشيخ علي محفوظ.(1/26)
((ولو أمعن المرء النظر لرأى أن جمال الرجولية وكمالها، والهيبة والوقار والمروءة في إعفاء اللحية؛ فإن الله تعالى زين الرجال باللحى فحلقها مُثلْة ونبذ للرجولية والمروءة خلف الظهر، وهو إطاعة للشيطان في أمره بتغيير خلق الله سبحانه... واللحية هي المميزة بين الرجل والمرأة إذ الشعور غير هذه مشتركة بينه وبينها كشعور الرأس والإبط والعانة وغيرها...)) (1) .
وقد أورد الشيخ قصة لطيفة خلاصتها أن رجلاً إيرانياً تأثر بشعر شاعر يدعى ميرزا قتيل لأن فيه حكماً ومعرفة، واعتقد أن هذا الشاعر لابد أن يكون رجلاً عظيماً، قد زكّى قلبه وروحه فسافر إليه للقائه فلما رآه حالق اللحية قال له مستنكراً ومتعجباً: سبحان الله: أتحلق لحيتك؟ فقال ميرزا قتيل: نعم أحلق لحيتي لكن لا أجرح قلب أحد، فرد عليه الإيراني بداهة: بلى إنك تجرح سيد القلوب: قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما سمع ذلك ميرزا قتيل غُشي عليه، فلما أفاق شكر الرجل قائلاً: جزاك الله خيراً فقد فتحت عيني، وأوصلتني إلى روح قلبي (2) .
- وقال الإمام أبو شامة المقدسي (3) رحمه الله:
((وقد حدث قوم يحلقون لحاهم، وهو أشد مما نقل عن المجوس من أنهم كانوا يقصونها)).
__________
(1) المصدر السابق: 53.
(2) ((وجوب إعفاء اللحية)): 34.
(3) الإمام العلامة ذو الفنون شهاب الدين أبو القاسم عبدالرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الأصل الدمشقي الشافعي، الفقيه المقرئ النحوي. الملقب بأبي شامة لشامة كبيرة فوق حاجبه الأيسر. له مصنفات عديدة مفيدة، وكان متواضعاً، محباً للعزلة والانفراد. قتلته الباطنية سنة 665 رحمه الله تعالى. انظر ((الوافي بالوفيات)): 11/113-116.(1/27)
- وقال ابن حزم (1) رحمه الله:
((واتفقوا – أي الأئمة – على أن حلق اللحية مُثلة، أي تشويه، لا يجوز)).
- وقال الشيخ أبو الحسن الندوي رحمه الله تعالى يصف ما جرى في هذا الزمان من كثير من المشايخ من حلق اللحى وكان ذلك أثناء زيارته للأزهر سنة 1371هـ/1951م:
((فلم نشعر بروح دينية ولا بجو ديني يذكرنا بالسلف ويتفق مع حياة العلماء وسيرتهم... أما اللحية فكأن سادتنا علماء الأزهر قد أجمعوا على حلقها)) (2) .
وقال في مكان آخر مادحاً علماء الجمعية الشرعية في مصر: ((وتعرف هذه الجماعة وأفرادها بلحاهم الشرعية التي كادت تكون نادرة غريبة في مصر حتى في جماعة العلماء ورجال الدين وبالعمائم)) (3) .
وقال الشيخ أحمد بن الصديق الغُماري (4) :
((ومن عجيب ما ظهر في الوقت تشبه الرجال بالنساء وتشبه النساء بالرجال، فالشاب يتخنث ويحلق وجهه كل صباح، ويدلكه ويلمعه بالأدهان والسوائل المعدة لذلك كما تفعل النساء)) (5) .
__________
(1) الإمام البحر ذو الفنون والمعارف، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الفارسي الأصل ثم الأندلسي القرطبي اليزيدي، مولى الأمير يزيد بن أبي سفيان. الفقيه الحافظ، المتكلم، الأديب، الظاهري، صاحب التصانيف. توفي سنة 456هـ عن 71 سنة رحمه الله تعالى. انظر ((سير أعلام النبلاء)): 18/184-212.
(2) ((مذكرات سائح في الشرق العربي)): 145.
(3) المصدر السابق: 24.
(4) أحمد بن محمد بن الصديق، أبو الفيض الغماري الحسني الأزهري، متفقه شافعي مغربي من نزلاء طنجة. ولد سنة 1320، وتعلم في الأزهر، وعُرف بابن الصديق كأبيه. له عدة كتب. استقر في القاهرة وتوفي بها سنة 1380هـ رحمه الله تعالى. انظر ((الأعلام)): 1/253.
(5) ((مطابقة الاختراعات العصرية)): 127.(1/28)
وحلق اللحية ((شائع في أوساط شيوخ ينتسبون إلى العلم، وعامتهم من شيوخ الأزهر، ومع قولهم هذا – أي إنها سنة – يُقدم أكثرهم على حلقها، مع أنه يفترض في أهل العلم أن يأتسوا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - )) (1) .
قال الشيخ محمود خطاب السبكي رحمه الله تعالى (2) :
((فلذلك كان حلق اللحية محرماً عند أئمة المسلمين المجتهدين. أبي حنيفة رحمه الله، ومالك رحمه الله، والشافعي رحمه الله، وأحمد رحمه الله وغيرهم.
وقال: أقوال الفقهاء الذين قصدوا لاستنباط الأحكام صريحة في التحريم كما هو مقتضى الأحاديث فيعمل على مقتضاها...
وقال أيضاً:
وقد تساهل في هذا الزمان كثير من المتعلمين فحلقوا لحاهم ووفروا شواربهم، وتشبه جماعة منهم ببعض الكافرين فحلقوا أطراف الشوارب ووفروا ما تحت الأنف، واغتر بهم كثير من الجاهلين)) (3) .
وقال الشيخ علي محفوظ رحمه الله (4) :
__________
(1) ((حكم الشرع في اللحية والأزياء)): 22.
(2) محمود بن محمد بن أحمد بن خطاب السُبكي، أبو محمد. فقيه مالكي أزهري. ولد في (سبك الأحد) من قرى أشمون بالمنوفية سنة 1274هـ. وتعلم في الأزهر كبيراً ودرّس فيه. أسس الجمعية الشرعية وترأسها من سنة 1331هـ إلى وفاته سنة 1352هـ، وقد توفي بالقاهرة رحمه الله. له عدة كتب. انظر ((الأعلام)): 7/186.
(3) ((وجوب إعفاء اللحية: 4))، نقلاً عن ((المنهل العذب المورود شرح سنن أبي داود)).
(4) علي محفوظ المصري. واعظ شافعي. تخرج في الأزهر ثم كان من أعضاء كبار العلماء وأستاذاً للوعظ والإرشاد بكلية أصول الدين. وصنف كتباً. توفي سنة 1361هـ رحمه الله تعالى. انظر ((الأعلام)): 4/323.(1/29)
((ومن أقبح العادات ما اعتاده الناس اليوم من حلق اللحية وتوفير الشارب (1) ، وهذه بدعة سرت إلى المصريين من مخالطة الأجانب استحسان عوائدهم حتى استقبحوا محاسن دينهم وهجروا سنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - )) (2) .
وقال غيره:
((عمت البلوى بحلقها في البلاد المشرقية، حتى أن كثيراً من أهل الديانة قلد فيه غيره...)) (3) .
ومن الطرائف أن الصحابي قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنه لم يكن له لحية، وهذا من أصل خلقته فقال قومه من الأنصار: نعم السيد قيس لكن لا لحية له، فوالله لو كانت اللحية تشترى بالدراهم لاشترينا له لحية!!
وهذا الأحنف بن قيس (4) لم تكن له لحية وكان سيد قومه فقال بعضهم: وددنا أنا اشترينا للأحنف لحية بعشرين ألفاً.
ومن الطرائف أيضاً ما ذكره الشيخ الألباني رحمه الله تعالى حيث قال:
((بعض الأمراء – ممن لم يكونوا متفقهين في الدين – كانوا إذا رأوا أن يؤدبوا فرداً من أفراد الرعية لخطأ ارتكبه يحلقون لحيته، ويركبونه على دابة، ويجولونه – كذا ولعلها يجولون به – بين الناس تعييراً له، كان هذا تعييراً في الزمن الأول، وهو تعيير أي تعيير، وبخلاف الفطرة وخلاف الرجولة)) (5) .
وهذا الإمام البنا رحمه الله تعالى يدعو أتباعه إلى السمت الإسلامي الجليل ومراعاة الهدي الظاهر فيقول:
__________
(1) قد حلقوا الشارب أيضاً في هذا العصر.
(2) ((أدلة تحريم حلق اللحية)): 34 للدكتور محمد أحمد إسماعيل.
(3) المصدر السابق: 121.
(4) الأحنف بن قيس بن معاوية التميمي السعدي، أبو بحر. اسمه الضحاك. مخضرم، ثقة، مات سنة 67 وقيل سنة 72هـ رحمه الله تعالى. انظر ((تقريب التهذيب)): 96.
(5) ((أدلة تحريم حلق اللحية)): 34-35.(1/30)
((أيها الإخوان: اشتبكوا مع أنفسكم، وانزلوا معها ميدان الخصومة، واشتبكوا مع النظم الفردية التي درجتم عليها وهي تخالف الإسلام، سأدعوكم في القريب إلى تغيير الزي والتقرب من مظاهر الإسلام، وسأدعوكم إلى اللحية لتخالفوا الخواجات، وسأدعوكم إلى تغيير الأوقات، وسأدعوكم إلى تأديب الزوجات والبنات والأخوات تأديباً إسلامياً، سأدعوكم إلى هذا ولكن بطريق منظم، وبخطة واضحة، وسأدعوكم إلى هذا وكثير من أمثاله)) (1) .
وقال الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي رحمه الله:
((وإني لأتعجب من أمر المسلمين الذين ينتسبون إلى النبي العربي الأمي - صلى الله عليه وسلم - ولا يحبون صورته وهيئته، فيحلقون لحاهم ولا يقتدون بنبيهم في أقواله وأفعاله - صلى الله عليه وسلم - .
ومن الأسف الشديد أن الوباء عمّ حتى أن حملة القرآن، ورواة الحديث، ودعاة الناس إلى الدين والإسلام نراهم اليوم يحبون التفرنج في أحوالهم...
ولقد فشا هذا الذنب حتى في بعض العلماء والمشايخ وأصحاب دراسات التفسير والحديث وطلبة العلوم الإسلامية، نراهم مثل طلبة العلوم العصرية حُلاّقَ اللحى ومقصريها، فإنا لله وإنا إليه راجعون...)) (2) .
ثم إن هذا الشيخ الحليق، وطالب العلم الحليق، والداعية الحليق بمن يتشبه في حلقه لحيته، ومن أين أخذ هذا الحلق؟! هل له في سلف الأمة المبارك وخلفها من يقتدي به في هذا؟!
- ثم كيف يطمع هذا الحليق أن يؤثر في الناس التأثير الكامل وأن يسمعوا منه وأن يهتدوا بهديه (3) ؟!
وإليكم هذه النقول التي تدل على أهمية الشكل الظاهر للعالم والداعية (4) :
__________
(1) ((الاختلافات الفقهية)): 345.
(2) ((وجوب إعفاء اللحية)): 6-7.
(3) بل إن العوام – وربما الخواص – قد يقللون من أهمية اللحية ويرونها شيئاً لا قيمة له إذا نظروا إلى الداعية أو الواعظ أو العالم وهو حليق، وفي هذا ما فيه.
(4) هذه النقول من كتاب ((أدب الاختلاف)): 62-63.(1/31)
-كان أصحاب عبدالله بن مسعود رضي الله عنه يرحلون إليه فينظرون إلى سَمته وهديه ودَلِّه فيتشبهون به.
-وبعث ابن سيرين (1) رجلاً ينظر كيف هَدْيُ القاسم بن محمد (2) وحاله.
- وكان يجتمع في مجلس الإمام أحمد زهاء خمسة آلاف أو يزيدون، نحو خمسمائة يكتبون والباقي يتعلمون منه حسن الأدب والسمت.
- وكان الناس يكتبون قيامه وقعوده ولباسه وكل شيء يقول ويفعل.
والهدي: سيرة الرجل العامة والخاصة، وحاله وأخلاقه، فمن اكتملت فيه كانوا ينظرون إلى حركاته وسكناته ليقتدوا فيها.
والدَلُّ: الحال التي يكون عليها الإنسان من السكينة والوقار وحسن السيرة والطريقة. اهـ.
فإذا حلق العالم والداعية اللحية، وربما حلقا الشارب أيضاً ولبسا الثياب الغربية، فكيف سيكون مظهرهما أو هديهما وسمتهما ودلهما؟! وكم هو الفارق بينهما وبين سائر العوام؟! أولا يدرك هؤلاء الحالقون أنهم يشجعون العوام على التفلت من سنة سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتهاون بها؟!
- وهذا الإمام عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة الحنبلي صاحب الكتب النافعة المتوفى سنة 620هـ رحمه الله تعالى وُصف بأنه ((كان إمام الحنابلة بجامع دمشق، على قانون السلف، عليه النور والوقار، ينتفع الرجل برؤيته قبل أن يسمع كلامه)) (3) .
__________
(1) محمد بن سيرين الأنصاري بالولاء، أبو بكر بن أبي عمرة البصري. ثقة
ثبت، عابد، كبير القدر. توفي سنة 110هـ رحمه الله تعالى. انظر: ((تقريب التهذيب)): 483.
(2) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التيميّ. ثقة. أحد فقهاء المدينة
السبعة. قال أيوب السختياني: ما رأيت أفضل منه. توفي سنة 106هـ رحمه الله تعالى. انظر المصدر السابق: 451.
(3) انظر ترجمته في ((سير أعلام النبلاء)): 22/165-173.(1/32)
- وهذا الإمام فخر الدين ابن عساكر الدمشقي شيخ الشافعية المتوفى سنة 620هـ رحمه الله تعالى كان ((لا يمل الشخص من النظر إليه لحسن سمته ونور وجهه)) (1) .
- وهذا وكيع بن الجراح الرؤاسي، إمام العراق، المحدث الحافظ، المتوفى سنة 197هـ، يقول عنه أحد أصحابه:
((أتينا وكيعاً فخرج بعد ساعة وعليه ثياب مغسولة، فلما بصرنا به فزعنا من النور الذي رأيناه يتلألأ من وجهه، فقال رجل بجنبي: أهذا ملك؟! فتعجبنا من ذلك النور)) (2) .
4- التهاون في النظر إلى النساء والخلطة بهن،
وتهاون النساء في النظر إلى الرجال بدون داع:
الله تبارك وتعالى أمر الرجال بالغض من الأبصار، وأمر النساء كذلك بالغض من أبصارهن، فهذا الأدب مأمور به الرجال والنساء معاً، واليوم نشاهد العجب في هذا الباب، فالرجال يضحكون مع النساء والنساء يضحكن مع الرجال، والمزاح بينهم قائم، والكلفة زائلة، وكل ذلك بدعوى أن المرأة محجبة، فإذا تحجبت جاز بينها وبين الرجال الضحك والمزاح والخلطة، وصار الرجل ينظر للمرأة بلا حرج، وصارت المرأة تنظر للرجل بلا حرج.
وأصبحت عبادة غض البصر منسية عند كثير من الدعاة والصالحين، وهذه بعض النصوص المذكرة بعظمة هذه العبادة وأهميتها:
1- قال الله تعالى: ژ ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ژ ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ گ ? ژ [النور:30-31].
2- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
((إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة؛ فزنى العينين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تَمَنَّى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)) (3) .
3- عن جرير بن عبدالله البجلي رضي الله عنه أنه قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظرة الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري)) (4) .
__________
(1) المصدر السابق: 22/187-190.
(2) المصدر السابق: 9/140-168.
(3) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه.
(4) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه.(1/33)
4- عن بريدة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
(( يا علي: لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأوُلى وليست لك الآخرة)) (1) .
5- وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه:
((حفظ البصر أشد من حفظ اللسان)) (2) .
6- وقال وكيع رحمه الله تعالى:
خرجنا مع سفيان الثوري في يوم عيد فقال إن أول ما نبدأ به في يومنا غض أبصارنا)) (3) .
وهاهنا بعض الجوانب التي لابد أن تُجلىّ:
أولاً: من المعلوم أن المرأة إذا كانت جميلة بحيث يُخاف منها الفتنة فإنه لا يجوز النظر إليها، وهذا القول يستوي في الفتيا به من يقول بوجوب غطاء الوجه ومن قال بجواز الكشف، فكيف يبيح كثير من الدعاة والصالحين والفضلاء لأنفسهم النظر إلى النساء الجميلات بلا حرج؟! وكيف تبيح النسوة الجميلات لأنفسهن كشف وجوههن ليفتنّ بها الرجال؟!
ثانياً: إن النظر إلى النساء إنما هو للحاجة، أما النظر للمزاح والضحك والتفكه فهذا لا يجوز باتفاق العلماء؛ إذ أن هذا يورث الفتنة، وكم رأيت من رجال، فيهم صلاح، يستوقفن النساء - وفيهن صلاح - للسلام عليهن ومصافحتهن!! والنظر إليهن والتبسم والمباسطة وربما الممازحة، والعكس أيضاً قد رأيته!! أفيجوز هذا؟ ولئن قيل بجواز شيء منه – ولا أرى هذا – فهل هذا لائق بمن هو في موضع القدوة والأسوة؟!
ثالثاً: يظهر بهذا أن القول بجواز التمثيل للمرأة هو قول ضعيف بل هو ساقط؛ إذ أن التمثيل لابد له من إعداد وتدريب، ومعروف أن المرأة التي تتدرب على التمثيل إنما تفعل هذا في معاهد متخصصة يحدث فيها ما يندى له جبين الفضيلة، وهو حرام بلا شك، ثم إن المرأة التي تمثل ستقول كلاماً بعضه حرام، وستنظر إلى الرجال وينظر إليها الرجال وفي العادة تكون جميلة فكيف يجوز هذا؟!
__________
(1) أخرجه أبو داود والترمذي وحكم بحسنه محقق ((جامع الأصول)): 6/660، وهذا نقلاً عن ((نضرة النعيم)): 9/3909.
(2) ((نضرة النعيم)): 9/3909.
(3) المصدر السابق.(1/34)
بل هناك من التمثيليات التي يسمونها إسلامية تمثيلية قامت المرأة فيها بالتمثيل على أنها زوجة، وزوجها يناديها بحبيبتي وهي تناديه بحبيبي!! وينظر إليها نظرات ود وحب وهي تبادله النظرات نفسها!! فما هذا يا عباد الله!! كل هذا يفتى فيه بالجواز فقط لأن المرأة وضعت منديلاً على رأسها؟! فصارت بهذا محجبة!! اللهم إن هذا مما تحكم الفطر السليمة بتحريمه والاشمئزاز منه، والغريب أن تتبنى هذا التمثيل الذي يدعونه بالإسلامي قناة إسلامية!!
إن الحياء - والذي هو زينة المرأة وجمالها – قد يتعرض للخدش بسبب عدم اعتياد المرأة على عبادة غض البصر والتحرز من الخلطة المعيبة:
هذا وقد أخذت نسوة كثيرات بالقول بأن وجه المرأة ليس بعورة، وكشفن تبعاً لذلك عن وجوهن، ولست هنا في مقام تقرير أي الفريقين أسعد بالدليل وأصح في التدليل – وإن كنت أرى أن الواجب غطاء الوجه وأعذر المخالف – لكني أذكر أن عدداً من النساء الداعيات ممن يرين كشف الوجه قد استسهلن الحديث مع الرجال بل الضحك معهم ومجاذبتهم أطراف الحديث!! وهذا لم يقل به فقيه معتبر، وقد ذهبت إلى عدد من المؤتمرات في أوروبا فوجدت أن عدداً من الداعيات قد نسين قول الله تعالى:
ژ ک ک گ گ گژ [النور:31].
أولم يربين عليها ربما، وصارت النسوة يتحدثن مع الرجال على وجه عجيب، وأذكر لكم موقفاً جرى مع أحد الإخوة المشايخ في إحدى الدول الأوروبية، حيث قال:
كنت حاضراً أحد المؤتمرات فجاء رجل مع زوجه التي وصفها بأنها داعية وكان لديها استفسار، فكلمتها وأنا أغض الطرف عنها، وطال الكلام وتخلله شيء من نظر الفجأة، وكنت أراها مبتسمة بل ضاحكة وكأنها تكلم رفيقتها، ومن ثم أعود لغض الطرف، ثم إن زوجها تركنا واقفين ومشى!! هذا مع أن طول لحيته أضعاف طول لحيتي، وهيئته تدل على أنه ملتزم، فأوجزت الحديث مع المرأة وانصرفت متحسراً. ا.هـ كلامه.(1/35)
وهذا الذي جرى أصابني بالحسرة أيضاً، إذ قد صار وضع قطعة قماش على رأس بعض الداعيات ونحرهن مسوغاً للكلام وتجاذب أطراف الحديث بل الابتسامة والضحك والخلطة المعيبة مع الرجال، وقد شاهدت من هذا الشيء الكثير ولا أقوله جزافاً، وشاهدته أيضاً – لكن بدرجة أقل – ممن يغطين وجوههن، وأين هذا من حال النبي الأعظم - صلى الله عليه وسلم - حين رآه رجلان من الصحابة رضي الله عنهما وهو يوصل صفية أم المؤمنين رضي الله عنها إلى بيتها فقال لهما: إنها صفية!! خوفاً عليها من ريب الظنون وبعداً عن موارد الشبهات.
هنا ينبغي أن تحافظ المرأة على حيائها وخَفْرها، وأن تبتعد عن التميع والتهاون خاصة إن كانت من الداعيات القدوات اللواتي يُنظر إليهن، ويُعتد برأيهن وعملهن، ولقد أذكرني الموقف الذي تعرض له الأخ بما ذكره الأمير الشاعر أسامة بن منقذ (1) ، رحمه الله تعالى، حيث كان يصف كيف كان يعيش الصليبيون في بلاد الشام، ووصف حياتهم الاجتماعية وطرائقهم السلوكية، ثم ذكر أمراً يشبه ما تعرض له الأخ الكريم، فقال:
__________
(1) أسامة بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني الكلبي الشَيْزَري، أبو المظفر، مؤيد الدولة.أمير، من أكابر بني منقذ أصحاب قلعة شيزر بقرب حماة، ومن العلماء الشجعان.له تصانيف في الأدب والتاريخ.ولد في شَيْزَر سنة488هـ، وسكن دمشق، وانتقل إلى مصر سنة 540، وقاد عدة حملات على الصليبيين في فلسطين، وعاد إلى دمشق، كان مقرباً من الملوك والسلاطين خاصة صلاح الدين الأيوبي.توفي في دمشق سنة584هـ، وقد عُمِّر رحمه الله تعالى. انظر ((الأعلام)):1/291.(1/36)
((وليس عندهم – أي الإفرنج – شيء من النخوة والغيرة، يكون الرجل منهم يمشي هو وامرأته يلقاه رجل آخر يأخذ المرأة ويعتزل بها ويتحدث معها، والزوج واقف ناحية ينتظر فراغها من الحديث، فإذا طولت عليه خلاها مع المتحدث ومضى )) (1) .
ولكلام المرأة مع الرجل آداب يجب أن تراعى وتضبط حتى يسير المجتمع المسلم سيراً منضبطاً بأوامر الشرع المطهر، فالكلام $يجب أن يكون كلاماً جاداً، وله مبررات وأسباب، والمقصود بجدية الكلام ألا يكون مزاحاً، أو تظرفاً، أو أقاصيص ومسليات، وأن يكون لهذا الكلام أسباب موجبة (2) .
وقد طولبت المرأة المسلمة وهي تحدث رجلاً أو يسمعها رجل ألا تخضع في القول استجابة لقول الله تبارك وتعالى: ژ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ [الأحزاب: 32]
ومعنى الخضوع في القول: تليينه أو ترخيمه، قال العلماء: $أمرهن الله أن يكون كلامهن جزلاً، وقولهن فصْلاً، ولا يكون على وجه يظهر في القلب علاقة بما يظهر عليه من اللين، كما تكون حال المريبات من النساء وهن يحدثن الرجال، كما يجب أن يكون كلامها مع الرجل له مبررات وأسباب تقتضيه، بمعنى أن تكون هناك مصلحة وضرورة لهذا الكلام، وأن تفوت مصلحة لترك هذا الكلام، أو أن يكون سؤالاً في الدين... فإن هذه وأمثالها أسباب ومقتضيات لكلام المرأة مع الرجل.... # (3) .
فأين هذا مما تتسامح به عدد من الأخوات الملتزمات – وربما الداعيات – اليوم من ضحك مع الرجال، أو مزاح معهم،
أو الحديث المطوّل المسلي!!.
__________
(1) كتاب ((الاعتبار)): 124. وإنما سقت ما أورده الأمير – رحمه الله تعالى – من باب التمثيل فقط ومن باب الإغلاظ على أخواتنا ليرتدعن عن التساهل، ولم أقصد أبداً أن أقارن حال هذه العفيفة الطاهرة بحال الصليبية الكافرة، معاذ الله= =فكم بين الثرى والثريا، وكلامي أريد به أن أكمل حال المرأة الصالحة وأحفظها من الشبهات.
(2) ((المرأة المسلمة)): 411.
(3) المصدر السابق: 411-412.(1/37)
- أما الخلطة بين الرجال والنساء بدون داع وبدون ضوابط شرعية فحدث عنها ولا حرج، وعن انتشارها اليوم بين صفوف الصالحين والدعاة.
وبين يدي صورة عجيبة لاثنين من دعاة القنوات الفضائية، وهما في مقهى للانترنت بجوار عدة من الفتيات كاشفات الوجوه بلا ضوابط شرعية؛ فقد وضعت على بعضها المساحيق، وبعضهن قد كشفن مقدمة شعورهن، وهناك صورة لأحدهما وهو مع فتاة وهي بجواره، وقد نشرت هذه الصور في مجلة فاسقة ممتلئة بصور النساء والرجال، ولولا بقية حرمة لهذين لذكرت اسم المجلة ورقم العدد، والسؤال هو:
* هل الاختلاط على هذا الوجه جائز؟
* وهل التصور مع هؤلاء الفتيات وهن على هذه الهيئة جائز؟
* وهل تصان حرمة المشايخ والدعاة بعد عرض الصور على هذا الوجه؟
* وأين الهيبة التي ينبغي أن تكون لهم في الصدور؟
* وهل من مصلحة الدعوة أن يظهر هذان في مجلة كهذه فيصبغانها بالشرعية في نفوس العوام؟
* إلى أين سيجرنا هذا التساهل؟ وإلى متى هذا الضعف؟
* وهل هذا من جملة ما ينبغي أن يكون الدعاة عليه من التقوى والورع واجتناب الشبهات؟!
واسأل هذين الداعيتين:
لو رآكما أحد من سلف الأمة أو خلفها هل سيصدق عينيه؟ وهل سيصدق أن وجودكما في ذلك المكان إنما هو لمصلحة الإسلام والدعوة؟ وأين ذهبت معاني الورع والتقوى التي تحدثتما عنها طويلاً؟! إنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد أدى هذا التهاون إلى أمور أشد، فمن ذلك:
أ- استمراء عدد كير من الدعاة والإصلاحيين بل طلبة العلم النظر إلى المرأة في نشرات الأخبار، وهي على ما هي عليه من زينة كاملة بدعوى أنه لابد من سماع نشرات الأخبار، وأن هذا أمر سهل!! نعم إن متابعة الأخبار أمر مهم لكن أين عبادة غض البصر؟! وأين التحفظ اللائق بهؤلاء الصفوة؟!(1/38)
ب- النظر إلى المرأة في المسلسلات والأفلام التاريخية، التي تكون فيها المرأة متبرجة سافرة، بل إن بعض الدعاة والمشايخ يثنون بقوة على بعض الأفلام التاريخية ويزكونها وفيها ما فيها من صور نساء على وجه لا يحل اتفاقاً، وكم سمعنا من ثناء عاطر على بعض هذه الأفلام، وهذا لا شك فيه تلبيس على العوام وأي تلبيس. نعم إن معاني بعض الأفلام جيدة لكن المدح المرسل بلا استثناء ولا تنبيه لا يصح ولا يليق.
جـ- وجرّ هذا إلى الضعف التام فشوهدت الأفلام والتمثيليات مطلقاً، نعم هذا مرض لكنه موجود في صفوف مَن ذكرت بدرجات مختلفة الحدة، وأزعم أن هذا المرض قد نشأ ابتداء من التهاون في النظر إلى النساء وضعف بل انعدام عبادة غض البصر، وهي عبادة صارت شاقة!!
د- ومما جر علينا هذا التهاون أمر انتشر بكثرة ألا وهو مشاركة النساء في وعظ الوعاظ وإنشاد المنشدين!! والعجيب أن بعض الوعاظ يأتي بفتاة جميلة لابسة السراويل (البنطلون) ويدنيها منه مع شاب آخر، وتظل طوال وعظه ساكتة لا عمل لها إلا أن تبرز في وعظه، وتبتسم من حين لآخر، وهذا أمر لم نسمع بمثله من قبل، ووالله لو رأى فقهاء السلف أو الخلف هذا لأفتى بتعزير من صنعه!!
وأما الإنشاد فإنه يؤتى بفتيات ينشدن!! وهن لابسات السراويل والقمص وبجوارهن شباب، ثم ينشدون معاً الأناشيد الإسلامية!! ما هذا التهاون، وأين قول الله تعالى: ژ ? ? ? ? ? ? ? ? ژ [الأحزاب:32] وأي خضوع في صوت الفتاة أعظم من خضوعها حال إنشادها؟! ثم أي خلطة معيبة هذه؟! وهل هذا عمل صحيح بمقاييس الشرع المطهر على أي قول من أقوال الفقهاء المعتبرين سلفاً وخلفاً، وإلى أين سيجرنا هذا التهاون يا عباد الله؟!
ويأتون في القنوات الفضائية بنساء جميلات وجوههن ملء الشاشة، مبتسمات ثم يأخذن في الوعظ والتذكير، ما هذا؟! وأي وعظ هذا؟!(1/39)
إن الله تعالى يحب منا أن ندعو إليه بما شرع هو، لا بما نرى نحن، وبما أمر به لا بما نشتهي نحن، وأقول ناصحاً هؤلاء: اتقوا الله في هذه الأمة، ولا تتهاونوا ولا تتساهلوا حتى يكون لعملنا بركة، ولجهودنا نتيجة وثمرة.
5- التهاون في شروط الحجاب وضوابطه:
وهذا نراه في كثير من النساء اللواتي زعمن أنهن تحجبن؛ وبعضهن في موقع القدوة!! وبعضهن تعد نفسها داعية!! وبعضهن درسن دراسة شرعية ووصلن إلى أعلى الدرجات العلمية ((الأكاديمية))، فتجد في حجاب هؤلاء النسوة المخالفات التالية:
أ- اللباس الضيق :
فتخرج المرأة من بيتها بسراويل ((بنطلون)) وتلبس قميصاً تسدله على السراويل فبالكاد يغطي شيئاً من أعلى السروايل بحيث إنها لو انثنت أو انحنت ظهرت عورتها بسبب أن سراويلها ضيقة!! فأين الجلباب؟ وأين اللباس الفضفاض، وهذا أمر اشترطه جميع الفقهاء سواء منهم من قال بغطاء الوجه أو بكشفه.
أو أنها تلبس قميصاً ضيقاً وتزرّه زَرّاً على صدرها فيبرز نهداها على وجه مُخز!!
ب- الألوان الزاهية الجذابة :
من العجب أن المرأة التي تظن أنها محجبة تلبس لباساً ملوناً ألواناً زاهية، وربما وضعت على رأسها منديلاً بألوان ثلاثة أو أربعة، ولبست لباساً ملوناً فصارت تبدو أجمل مما هي عليه، وهل هذا هو مراد الإسلام من الحجاب؟ وهل هذا حجاب يمنع الفتنة بالمرأة أو هو الفتنة بعينها؟!
ومن العجيب أن بعض الممثلات التائبات يظهرن في القنوات وهن على أجمل هيئة وألطف لباس حتى صرن فتنة، وذلك لأن هؤلاء النسوة جميلات لكونهن ممثلات سابقاً، فزاد ذلك اللباس أولئك النسوة جمالاً وفتنة، فما هذا؟ ومن يقول من الفقهاء بأن هذا حجاب؟! خاصة مع تسليط الأضواء عليهن وامتلاء الشاشة بوجوههن وابتساماتهن، إن الابتسامة من المرأة الجميلة فتنة وأي فتنة، فاتقين الله يا من تردن الإصلاح وترغبن في التوبة.
جـ- وضع المساحيق !!(1/40)
العجيب أن عدداً ممن يزعمن أنهن محجبات لا يكتفين بكل ما سبق أن ذكرته بل يضعن المساحيق على وجوههن، ولقد سمعت بعض المفتيات تقول: قد قلت مراراً إن ((المكياج)) الخفيف لا بأس به!!
أإلى هذا الحد وصل الأمر بالنساء؟!
أإلى هذا الحد بلغ بهن التهاون في شأن الحجاب؟!
والعجيب أن بعض هؤلاء قد صرن قدوة للنساء؛
إذ صارت النساء ((المحجبات)) في الفضائيات قدوة لغيرهن بزعم أنهن محجبات، وهذا هو الخطر في هذا الحجاب المخالف جملة وتفصيلاً للحجاب الشرعي الصحيح.
د- نمص الحاجبين :
نعم هناك كثيرات ممن يعددن أنفسهن محجبات وهن ينمصن حواجبهن، وهذا تعرض للعنة صريح، فقد لعن
النبي - صلى الله عليه وسلم - النامصات والمتنمصات.
هـ- اجتماع كل الشر السابق !!
نعم فقد وُجدت من تزعم أنها محجبة وهي قد جمعت بين اللباس الضيق، والألوان الزاهية الجاذبة، ووضع المساحيق، ونمص الحاجبين، فبالله هل يقول فقيه عاقل بأن هذا هو الحجاب الشرعي الذي أراده الشارع للمرأة؟! بل هل هو عشرة بالمائة من الحجاب المطلوب؟! أرى والله أعلم أن هذا ليس بحجاب إنما هو لباس مظهر للعورات، جالب للفتنة، مذهب للحياء، مضلل للفتيات اللواتي يرغبن في التحجب الحقيقي، وهذا قد صار فتنة للفتيات الجاهلات بأحكام دينهن فصرن يعملن مثلما تعمل أولئك النسوة ظناً منهن أن هذا
هو الحجاب!!
والحجاب لغة المنع والحجز.
فهل هذا هو الحجاب المطلوب شرعاً، وهل يمنع هذا الحجاب الفتنة أو يهيجها ويزيدها؟!(1/41)
- هذا وقد صار هذا النوع من الحجاب سائداً في طبقات كثيرة من الإناث في عدد من البلاد الإسلامية، بل صارت الفتيات يُشجعن ليتحجبن على هذا النحو، وقد أخبرني بعض إخواني – وهو من بلد عربي – أنه إذا لبست الفتاة السراويل – البنطلونات – الضيقة، وغطت رأسها بغطاء ذي ألوان، ولبست ((البلوزة)) التي لا تغطي ضيق سراويلها ولا تكفي في ستر عورتها، فإذا لبست ذلك عدوها محجبة!! واحتفلوا بها!! إي والله احتفلوا بها، فصار عند الفتيات رضا وقناعة بهذا الذي يسمونه حجاباً، والعجيب أن ذلك البلد العربي كان مضرب الأمثال في سبوغ الحجاب وجودته فإذا به يرضى من الغنيمة بالإياب!!
ولقد سمى أحد فضلاء العصر (1) هذا الحجاب ((التبرج المقنع)) فأحسن في تسميته إياه بهذا، ومن ثم قال: ((لقد جهد أعداء الصحوة الإسلامية لوأدها في مهدها بالبطش والتنكيل، وأبى الله سبحانه إلا أن يتم نوره، ويظهر كلمته، فصار كيدهم هباء منثوراً.
فرأوا أن يتعاملوا معها بطريقة خبيثة ترمي إلى الانحراف بها عن طريقها الرباني فراحوا يروجون صوراً مبتدعة للحجاب على أنها ((حل وسط)) ترضى بها المسلمة ربها – زعموا – وفي ذات الوقت تساير مجتمعها وتحافظ على أناقتها! وكان أن قذفت بيوت الأزياء التي أشفقت من بوار تجارتها المحرمة بنماذج ممسوخة من الأزياء تحت اسم الحجاب العصري الذي قوبل في البداية بتحفظ واستنكار، وكانت ظاهرة الحجاب الشرعي قد بدأت تفرض نفسها على واقع المجتمع حتى صارت تشكل قوة اجتماعية ضاغطة أحرجت طائفة من المتبرجات اللائي هرولن نحو الحل الوسط تخلصاً من ذلك الحرج الاجتماعي، وبمرور الوقت تفشت ظاهرة التبرج المقنع المسمى بالحجاب العصري أو حجاب التبرج بإزاء ظاهرة الحجاب الشرعي...)) (2) .
وقال في موضع آخر:
__________
(1) هو الشيخ محمد أحمد إسماعيل حفظه الله.
(2) ((عودة الحجاب)): 3/170.(1/42)
((رأينا حجاب التبرج يكشف الوجه المنمص الحاجبين، وقد اختفى تحت قناع من الألوان الزاهية، وتلطخ وجهها بمساحيق متنوعة كأنها الطيف في تعددها...
وترى في الخمار ما شئت من الألوان الصارخة كالأحمر والأصفر، وربما زادت على هذا الخمار ما يزيده زينة على زينة فتضع شريطاً ذهبياً أو فضياً أو مزركشاً وقد التف على أعلى الخمار كأنه تاج، ثم تزعم صاحبة هذه الزينة الصارخة أنها محجبة، أي حجاب هذا الذي تزعمين؟!
إن هذا خمار الخداع والتزييف، حجاب الزينة والفتنة، إنه حجاب عار متبرج...
فيا صاحبة حجاب التبرج:
حذارِ أن تصدقي أن حجابك هو الذي أمر به القرآن والسنة، وإياك أن تنخدعي بمن يبارك عملك هذا ويكتمك النصيحة، ولا تغتري بأنك أحسن حالاً من صاحبات التبرج الصارخ...)) (1) .
ملحظ مهم بشأن غطاء الوجه:
في بعض البلاد العربية والإسلامية يسود فيها غطاء الوجه بالكامل أو النقاب، وهو الأصل في نسائها مثل بعض بلاد الجزيرة العربية وباكستان وأفغانستان، وكشف الوجه فيها أمر عارض مستنكر إلى حد كبير، والعجيب أن بعض المشايخ من خارج تلك البلاد - وهو الغالب – أو من داخلها يشغبون على هذا الحجاب المبارك بالآتي:
1- الزعم بأن غطاء الوجه ليس بفرض بل هو محض تقليد وجزء من التقاليد!!
2- دعوة النساء إلى كشف وجوههن، والزعم بأن أشكالهن غير صالحة للحياة المعاصرة!! (2)
__________
(1) ((عودة الحجاب)): 3/170-173 بتصرف.
وأقول: إن من غطت رأسها ولبست ما تظنه سابغاً سائغاً لا تتساوى مع من تكشفت ورمت بأوامر الإسلام عرض الحائط، لا يستويان فتلك أحسن من هذه وأخف حالاً، وإن جمعهما معنى التقصير والتهاون فقد فرق بينهما النية الحسنة وشيء من الاحتشام.
(2) (1،2) ستأتي النصوص قريباً إن شاء الله.(1/43)
وأنهن يبدون كخيمة متنقلة(2)!! في استهزاء غريب وعجيب أن يصدر من مشايخ ودعاة، نادوا طويلاً بوجوب احترام الرأي المخالف، وعدم تسفيه من يأخذ به، فإذا هم قد نسوا ما نادوا به طويلاً لما تحدثوا عن غطاء الوجه.
3- الزعم بأن غطاء الوجه تشدد!!
وهكذا لا نجد هؤلاء المشايخ والدعاة الذين طالبوا طويلاً باحترام الرأي المخالف لا نجدهم يحترمون الرأي القائل بوجوب النقاب، وهذا عجيب منهم؛ إذ غطاء الوجه أفضل باتفاق الفقهاء، وهناك أعداد كبيرة من الفقهاء سلفاً وخلفاً يوجبون غطاء الوجه، وهم زمرة كبيرة وعدد ضخم فلماذا يذهب قولهم أدراج الرياح على يد هؤلاء هداهم الله.
وهناك أمر آخر مهم في هذا الشأن ألا وهو:
من المفهوم أن يأتي المشايخ والدعاة على دولة يكثر فيها السفور والتبرج فينصحون النساء والفتيات بتغطية أجسادهن وكشف وجوههن من باب التدرج بهن في الحجاب، فهذا مما أرجو أنه لا بأس به، وهو من الأخذ بالحكمة في تطبيق الشريعة.
لكن من غير المفهوم أبداً أن يطلب الدعاة والمشايخ من النساء في مجتمع توارث نساؤه غطاء الوجه من قرون، وهو إلى الآن منتشر فيهن ولله الحمد، فيطلبون من النساء كشف وجوههن بحجج متهافتة عديدة، فهل يعقل أن نُخرج النساء من الحال الفاضلة إلى الحال المفضولة أو الآثمة عند من يرى وجوب غطاء الوجه؟! ما هذه الطريقة في التفكير؟! ولماذا يصنع هؤلاء الدعاة والمشايخ هذا؟!
- ولئن قيل متى طلب هؤلاء الدعاة والمشايخ من النساء في الجزيرة كشف الوجه؟!(1/44)
فأقول: إن هذا الأمر قد دعوا إليه صراحة في وسائل الإعلام تارة ودعوا إليه بأساليب غير مباشرة تارة أخرى: بالاستهزاء بالحجاب الكامل، والانتقاص منه، وادعوا أن ذلك محض تقليد، وأن هذا تشدد لا مبرر له إلى آخر هذا الذي يعرض عليهن ويسمعنه فماذا يمكن أن يحدث فيهن من تأثير، ومع استمرار قرع هذا الباب لابد أن يحدث عندهن نوع تذمر وتمرد عندما يسمعن مثل هذا الخطاب، فليتق الله كل من يلقي القول على عواهنه، ولا يتحدث بحديث يكون فتنة للنساء والفتيات، ولا أدري لماذا التعرض لهؤلاء اللواتي غطين وجوههن؟ ألم يكن الأولى بهؤلاء المشايخ الثناء عليهن وتشجيعهن عوضاً عن الاستهزاء بهن ولمزهن وهمزهن؟
فإن لم يسعهم الثناء أو لم يطيقوه فيسعهم السكون فهو أولى لهم وأليق بهم وبمكانتهم ومنزلتهم (1) .
وإليكم هذه النصوص العجيبة في قضية غطاء الوجه، والتعليق عليها بإيجاز:
((الآراء الارتجاعية في موضوع الحجاب موجودة، وخاصة في الجزيرة العربية والخليج، وكل ما قد قيل هنا عن جواز كشف الوجه نقد في كتابات في الجزيرة العربية، ليس بالعودة إلى ستر الوجه فقط وإنما في أن تتحول المرأة إلى خيمة متنقلة لا يرى منها شيء، لا من قمة رأسها ولا من أخمص قدميها، ولا تشعر بأن هناك إنساناً يتحرك اللهم إلا إذا تنفست أو إذا أصابتها كحة، فالآراء الارتجاعية موجودة)) (2) .
وهذا الكلام ينقصه اللباقة واللياقة، وهو في الوقت نفسه هجوم شديد على من اختارت رأياً فقهيًّا اطمأنت إليه والتزمت به .
وهذا أحد المشايخ الكبار المعتبرين يقول :
__________
(1) لم أرد بحديثي هذا أن أذكر كشف الوجه ضمن التهاون في الالتزام لأني أعلم أن هذا أمر خلافي لكني أوردته استطراداً فقط لصلته بمبحث الحجاب.
(2) كلمة أ. د. عزالدين إبراهيم ضمن مجموع $مؤتمر تحرير المرأة في الإسلام#:216.(1/45)
((يكاد هؤلاء المتشددون يجعلون حياة المرأة سجناً لا ينفذ إليه بصيص من نور، فخروجها من البيت لا يجوز، وذهابها إلى المسجد لا يشرع، وكلامها مع الرجال – ولو بالأدب والمعروف – لا يسوغ، فوجهها وكفاها عورة، وصوتها وكلامها عورة ... )) (1) .
ففي هذا الكلام مبالغة وتهويل وتعميم - كما سبق في النقطة الثانية – وفيه مصادرة لرأي من يرى أن وجه المرأة عورة على وجه لا ينبغي.
نعم إن هناك من يتشدد لكنهم اليوم قلة قليلة وليسوا على هذا الوجه المذكور.
وكذلك قسا أستاذنا الدكتور محمد الغزالي – رحمه الله تعالى – على الرأي الآخذ بوجوب الحجاب الكامل فقال :
((أما إخفاء الأيدي في القفازات، وإخفاء الوجوه وراء هذه النُقب، وجعل المرأة شبحاً يمشي في الطريق معزولاً عن الدنيا فذاك ما لم يأمر به دين ))!!! (2) .
وقال أيضاً سامحه الله تعالى :
((كان التيار الإسلامي في الجزائر متقدماً، ناضر المستقبل، يوشك أن يغسل الأرض من أدران الاستعمار القديم : الاحتشام حل محل التبرج، والإطار الإسلامي أحكم الالتفاف حول التطور الحضاري، وقاده نحو الحرية والخير وسائر حقوق الإنسان، فإذا صيحات مجنونة تعلو بضرورة النقاب والجلباب والقشور التي يضيع معها اللباب، وكانت النتيجة أن أوجس أولو الألباب خيفة من الإسلام وصحوته، وهم معذورون، وتقهقرت الصحوة الإسلامية عقب تلك الفوضى))!! (3) .
وإن أعجب فقد عجبت من المقدمة والنتيجة، ومن ربط ماجرى في الجزائر بنقاب المرأة ربطاً عجيباً كما ترون، سامح الله أستاذنا .
ثم هو لم يعذر المخالف ها هنا، ووصف مطالبته بالنقاب للمرأة ستراً لها بأنه صيحات مجنونة !!
وهذا كله من باب تقييد حرية الرأي المخالف التي نادى الإسلاميون طويلاً بوجوب التحذير منها !!
__________
(1) مقدمة أ. د. يوسف القرضاوي لكتاب أ. عبدالحليم أبو شقة: $تحرير المرأة
في عصر الرسالة# : 13 .
(2) $ قضايا المرأة #: 7.
(3) المصدر السابق : 9.(1/46)
نعم إنه قد ذاق ويلات تشدد البعض لكن الأمر لا يعالج على هذه الطريقة.
وهناك من النصوص في الكتب الدعوية ما يزعم بأن النقاب مقيد لحرية المرأة مانع لها من الحركة الإيجابية :
وهذا زعم غريب، فقد رأينا منقبات قد جُلْن في الأرض وذَرَعْنها يدافعن عن الإسلام، في بكين، والقاهرة، وأمريكا، وأوروبا، وهن نساء فُضْليات لم يمنعهن النقاب من الحركة الجيدة الإيجابية الرائعة نصرة لدين الله تعالى، بل رأينا نساءً يدافعن عن الإسلام في بعض القنوات الفضائية وهن منقبات، ولم يحل النقاب بينهن وبين الدعوة والتبليغ، ورأينا أيضاً "سيدات أعمال " عملن واجتهدن واتّجرن فلم يعقهن النقاب، وانظر إلى ما سطره بعض الدعاة الأفاضل متوهماً أن المنقبة محدودة الحركة، وأن كشف الوجه مما تستوجبه حركة العصر وتغير الزمان:
((قد عمت البلوى في هذا العصر بخروج النساء إلى المدارس والجامعات وأماكن العمل والمستشفيات والأسواق وغيرها، ولم تعد المرأة حبيسة البيت كما كانت من قبل . وهذا كله يحوجها إلى أن تكشف عن وجهها وكفيها لضرورة الحركة والتعامل مع الحياة والأحياء في الأخذ والعطاء والبيع والشراء والفهم والإفهام)) (1) .
ولا أرى رابطاً بين ما ذكره الأستاذ الفاضل وبين النقاب فليس النقاب مانعاً من الحركة ولا مقيداً .
وقال أيضاً:
((إن إلزام المرأة المسلمة – وخصوصاً في عصرنا – بتغطية وجهها ويديها فيه من الحرج والعسر والتشديد ما فيه، والله تعالى قد نفى عن دينه الحرج والعسر والشدة، وأقامه على السماحة واليسر والتخفيف والرحمة)) (2) .
ولا ادري ماذا في النقاب من عسر وحرج وتشديد ؟!!
ومعاذ الله أن يكون النقاب مخالفا للسماحة واليسر والتخفيف والرحمة.
وقال الأستاذ أيضاً حفظه الله تعالى زاعماً أن كشف الوجه ضرورة لتعامل المرأة مع الناس:
__________
(1) $النقاب للمرأة بين القول ببدعيته والقول بوجوبه#: 68.
(2) المصدر السابق : 7.(1/47)
((أن ضرورة تعامل المرأة مع الناس في أمور معاشها يوجب أن تكون شخصيتها معروفة للمتعاملين معها بائعة أو مشترية، أو موكلة أو وكيلة، أو شاهدة أو مشهودًا لها أو عليها ...)) (1) .
وهذا لا أعلم بأن أحداً من الفقهاء قاله، وكيف تعاملت المرأة بنقابها مع الناس منذ قرون، وما زالت تتعامل به مع الناس في عدد من ديار الإسلام بلا حرج .
وخلاصة هذا أن النقاب لم يكن يومًا ــ ولن يكون ــ مانعًا للمرأة من الحركة الإيجابية النافعة، ولا مقيدًا لحريتها.
6- التدخين (2) :
وهو آفة عظيمة، وبلية أخذت في الانتشار في بلاد الإسلام منذ القرن الحادي عشر الهجري السابع عشر الميلادي، وصار العلماء فيه ثلاث فرق: فرقة ترى حرمته وأخرى ترى حِلّه، وثالثة تقول بالكراهية، وظل الأمر كذلك إلى أن قطع العلم في القرن الفائت بخطر التدخين، وأنه طريق إلى أمراض مستعصية كالسرطان والقرحة والجلطات وغير ذلك عافانا الله تعالى، فتراجع عدد ممن كان يفتي بحله أو بكراهته إلى القول بالتحريم، وقَلّ اليوم من الفقهاء فقيه يفتي بالحل أو الكراهية، فاتفقت جماعة الفقهاء على القول بالتحريم إلا القليل، وهناك جهود كبيرة اليوم تبذل لمنع التدخين من قبل الدول والهيئات والجمعيات، وانحسر مده الجارف بفضل الله ثم بهذه الجهود.
__________
(1) المصدر السابق: 47.
(2) إن التدخين في طبقة الخواص من دعاة وعلماء ومشايخ هو أمر قليل، غير منتشر انتشار البلايا والآفات السابقة لكن لما كان لا يزال يتلبس به بعض أولئك رأيت إيراده، والله أعلم.(1/48)
لذلك من العجب أن تجد من المشايخ والدعاة والإصلاحيين والفضلاء وكبار المثقفين مَن لا يزال يتلبس بالتدخين، وبعض هؤلاء أئمة مساجد، وبعضهم مشايخ يُدَرِّسون المواد الشرعية، وبعضهم دعاة يطالبون المجتمع بالصلاح والشباب بالإصلاح، فكيف يفعلون هذا والتدخين حرام، وكيف يطالبون المجتمع بالصلاح وهم لا يستطيعون إصلاح أنفسهم ولا ضبط شهواتهم، ثم كيف سيُسمع لهم وكيف سيُطاعون إذاً وهم لا يطيعون الله في الكف عن التدخين:
يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليمُ
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ... فإن انتهت عنه فأنت حكيم
لاتنه عن خلق وتأتي مثله ... عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
وقد زرت تركيا مراراً فوجدت فيها ظاهرة عجيبة،
ألا وهي تدخين النساء المحجبات!! فتجد هذا بكثرة في المطاعم والشوارع ومحافل الناس، تجد المرأة التي هي في حجابها هناك شامة وتفرح بها في خضم تلك الأجساد العارية والتفلت التام، فتفجؤك وتسؤوك بالتدخين جهراً بلا حياء ولا تحرج، أسأل الله العافية، وقد أنكرت هذا فقيل لي إن هذا أمر قد اعتيد وتعجبوا من إنكاري له، والعجيب أنهم يزعمون بعد هذا أن التدخين لا يناقض الحجاب!!
المبحث الثاني:
أسباب
التفلت من الالتزام
هناك أسباب عديدة للتفلت من الالتزام لكن ينبغي أن يعرف الآتي قبل الخوض فيها:(1/49)
أ- قَلّ من يتفلت من الالتزام إلا وهو يبرر ذلك بمبررات شرعية قد تبدو مقبولة في نفسه وعند غيره من غير المطلعين على حقائق الأمور أو عند من هو غير مثقف ثقافة شرعية مناسبة، فمثلاً يبرر تفلته هذا بأن ما أقدم عليه من ضعف أو تراخ إنما هو أقوال للفقهاء، وترخيصات لأهل العلم، ففلان قال: مباح، وآخر جَوّز مع الكراهة، وثالث لم ير بأساً، وهكذا يمني نفسه بأنه لم يزل في دائرة الحلال والمباح، وقد يكون هذا المتفلت من غير أهل العلم القادرين على معرفة أقوال العلماء بأدلتها، والتفريق بين الخلاف القوي السائغ والخلاف الضعيف الذي لا يسوغ الأخذ به، وما ذكرته آنفاً في مسألة سماع المعازف دليل على هذا. وسيأتي المزيد من الحديث عن هذا في المبحث الثالث إن شاء الله تعالى.
ب- قد لا يدرك المتفلت أنه متفلت من الالتزام إلا بعد السقوط في الوحل الذي قد لا يستطيع الخروج منه؛ وذلك لأنه قد تدرج بتفلته هذا من أشياء صغيرة إلى أن وصل الحال به إلى تفلت جزئي كبير أو تفلت كامل حتى صار كآحاد الناس.
جـ- إن للتفلت من الالتزام آثاراً ضارة على الفرد، فمن ذهاب نور الوجه، إلى ضعف التأثير على الآخرين، إلى هشاشة الاهتمامات وتفاهة الأهداف، إلى ميوعة المواقف، إلى الجبن والخَوَر، إلى الانغماس في الدنيا والصيرورة إلى متاعها والإخلاد إليها والرضا بها، والعياذ بالله.
فحسبك من الأمراض جملة مثل هذه، ثم بعد ذلك نتساءل متى النصر؟ ولماذا سُلط علينا عدونا؟!(1/50)
د- ولا يعني التفلت من الالتزام أن الشخص لم يعد يحب الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، معاذ الله، ولا يعني أيضاً أنه لم يعد يحب الدعوة والعمل، إنما هو قد تفلت أو أخذ في التفلت لأسباب – سآتي على ذكرها إن شاء الله تعالى – وقد يسوقه هذا التفلت إلى عواقب خطيرة ومآلات وبيلة، وإنما قلت هذا لأن هناك فئة من الشباب قد ظهرت في هذا العصر عندها حب لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وحب للإسلام ونقمة على الكافرين لكن فيها تميع في المظهر والسلوك وضعف في الالتزام، فهؤلاء لا
أخاطبهم ها هنا إنما أخاطب من كان ملتزماً وتفلت أو أخذ في التفلت.
وإليكم جملة من أسباب هذا التفلت، عافانا الله تعالى منه:
1- طول الأمد وقسوة القلب:
قال الله تعالى:
ژ ے ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ژ[الحديد:16].
وهذا القول الإلهي المعجز يصور حقاً حال المرء إذا طال عليه الأمد، كيف يقسو قلبه، وحسبك بقسوة القلب مرضاً يفتك بالمرء أيما فتك، فلا يعود محلاً للمشاعر الجليلة والعواطف الحسنة، ولا يعود المرء مع هذا المرض يلتفت للنكبات الحالة بقومه وبني دينه، ولا للكوارث التي تجتاح الناس، ولا لآهات المرضى والثكلى واليتامى.
وقسوة القلب مرض أصاب كثيراً من المشايخ والصالحين والدعاة اليوم، قد طال عليهم الأمد، واستطالوا الطريق، وأصابهم قدر غير قليل من اليأس والإحباط والقنوط، فرأوا أن غير ما هم فيه أصلح لهم، فأخلدوا إلى الأرض، وتشبهوا بأهل الدنيا، ومن مقتضيات إخلاد هؤلاء إلى الأرض والتشبه بأهل الدنيا المشاركة في الملاذ والشهوات، والتخفف من الالتزام وربما التفلت منه، والعياذ بالله.
2- وجود فتاوى مبيحة لهذا التفلت:(1/51)
وهذا أمر خطير، والأخطر منه أن يتلقف الدعاة والإصلاحيون والفضلاء الفتاوى من هاهنا وهاهنا دون النظر إلى قوة هذه الفتاوى أو ضعفها، وذلك خارج عن طاقة أكثرهم، ودون النظر إلى مناسبتها لبيئتهم أو مجافاتها لها، كما بينت من قبل في أمر الحجاب.
ولما كان الإعلام قد نشر كثيراً من هذه الفتاوى على وجه غير مسبوق فقد تأثر بها عامة الناس وخاصتهم تأثراً كبيراً، وصار يحدث بلبلة لا مثيل لها، وصار العامة يقارنون بين الفتاوى ويضربون بعضها ببعض ويردون ما يريدون ويقبلون ما يشاؤون، وهذا – في ظني – لم يحدث في تاريخ الإسلام من قبل على هذا الوجه.
وهناك ظاهرة برزت في العالم الإسلامي في هذا القرن وأواخر القرن الماضي ألا وهي وصم من يأخذ بفتاوى محددة أو يفتي بها بالتشدد، فهذا مفت متشدد، وذاك رجل متشدد، وتلك امرأة متشددة، ولا أدري ما الذي يقابل هذا التشدد؟! هل هو التساهل؟! وهل التساهل ممدوح؟! ثم ماذا يعني الوصم بالتشدد والعالم المفتي الموصوف بالتشدد إنما يفتي بكتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وإذا كان التشدد مذموماً فكيف يوصف به ابن عمر رضي الله عنهما عندما يقال: تشدد ابن عمر وترخص ابن عباس؟! رضي الله عنهم، وصار المفتي بوجوب غطاء الوجه، وبوجوب إطلاق اللحية، وحرمة الإسبال، وحرمة المعازف، وحرمة الاختلاط غير المنضبط وحرمة التدخين صار من يقول بهذا وأمثاله ينظر إليه باعتبارين:
1- متشدد لا يعرف سوى الفتيا بالتحريم!!
2- هامشي، ويتحدث في القشور ويترك اللب!!
وهذا صار يُنشر في كتب، ويتحدث عنه في وسائل الإعلام على وجه رسخ هاتين الصفتين في هؤلاء العلماء، وهذا مما زهد كثيراً من العوام بل الخواص أيضاً في هؤلاء العلماء، وصاروا يعدون الحديث في هذه القضايا من الأمور المفرقة والصغيرة التي لا ينبغي أن يتحدث عنها والأمة مبتلاة بقضايا عظيمة.(1/52)
والحق أن هذا التوجه خطير، ويؤدي إلى التفلت ولابد من الالتزام الكامل، وقديماً وصف السلف العالم الرباني أنه هو الذي يربي الناس بصغار المسائل قبل كبارها.
نعم أنا لا أنكر أن هناك علماء متشددين وتشددهم هذا غير مقبول ولا مطلوب، لكن أنكر تماماً أن من يفتي بهذه المسائل التي ذكرتها على الوجه الذي بينت، أنكر أن يكون متشدداً، وهذا هو الذي أريد التحذير منه، لأن العالم إذا وُصف بالتشدد نفر منه العامة وربما كثير من الخاصة أيضاً، وهذا النفور منه يتبعه النفور من فتاواه أيضاً، والخطر أن يفر الناس من الفتاوى الصحيحة المبنية على كتاب الله وسنة
رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى فتاوى يقوم أكثرها على أقوال ضعيفة أو شاذة أو مرجوحة على أحسن الأحوال (1) .
وهناك أمر مهم ألا وهو الخلط بين مكانة العالم وفتاواه؛ إذ أن كثيراً من الخواص من الدعاة والعاملين والفضلاء والمثقفين والإصلاحيين إذا أحبوا عمل عالم وجهاده ودعوته وإخلاصه وعطاءه فتنوا به، وقبلوا كل ما جاء به، وارتضوا منه كل شيء، وهذا خطر ومخالفة للمنهج الصحيح؛ إذ ربما خالف الحق في بعض فتاواه، وعلى العكس من ذلك فإن هؤلاء إذا نفروا من عالم لسبب أو لآخر نفروا من كل ما جاء به، وربما أصاب الحق الذي ضل عنه صاحبهم، لكن ((حبك للشيء يعمي ويصم)).
3- الاستجابة للضغوط:
وهذه الضغوط هي ضغوط المجتمع والأسرة والنفس:
- فالنفس تشتهي وتتمنى فإن لم يردعها الإنسان، ويضبطها فإنها تجرفه إلى أودية سحيقة من الشهوات، وتذهب بالتزامه كله أو بعضه، والعياذ بالله.
- والأسرة تضغط، فالوالدان بدعوى خوفهما على ولدهما يضغطان عليه لترك الالتزام بعضاً أو كلاً، وقد يسايرهما الولد في شيء مما يريدانه فيتفلت ويضعف.
والزوج تضغط على زوجها لكي يسايرها ويماشيها في هواها.
__________
(1) في المبحث القادم سأورد إن شاء الله تعالى مزيد بيان لهذه المسألة في مطلب الإعراض عن الفتاوى الشاذة والضعيفة.(1/53)
والزوج يضغط على زوجه كي تسايره في هواه.
والبنات يضغطن على الوالدين من أجل التخفف من الحجاب أو السماع للموسيقى أو لرؤية الأفلام والمسلسلات.
- والمجتمع يضغط بقوة على أفراده، ويختلف الضغط باختلاف المجتمعات ومدى استمساكها بدينها.
فالدولة الاسبتدادية تضغط على الصالحين كي يخففوا من دعوتهم الناس والتزامهم بالإسلام.
والدولة الفقيرة تضغط على الناس وتضيق عليهم في أرزاقهم حتى تضطرهم إلى أنواع من التفلت من الالتزام، وهكذا...
- وهناك مجموعة من الصفات الخلقية تضغط على المرء ضغطاً لا هوادة فيه، وذلك نحو الجبن، والحذر الزائد، والتخوف الذي لا مبرر له، والتردد الطويل، والوسوسة، وغير ذلك من الصفات الضاغطة على المرء ضغطاً قد يؤدي به إلى التفلت والضعف والتراخي.
- وحدث ولا حرج عن الترف وضغطه على المترفين، وقد كنت في حديث مع مجموعة من صالحي التجار فهالني ما سمعته من بعضهم مما يدل على تفلت وبعد، فقد أخبرني أحدهم أنه كان في دولة في أوروبا مع عدد من وجهاء العرب وكبراء تلك الدولة على مائدة يدار عليها الخمر، فسألته: وهل بقيت؟! فكانت الإجابة أليمة تدل على تفلت وضعف وتخوف من لائمة الناس ونسيان الله تعالى.
وآخر يقول: إني أجلس مع أحد التجار الأثرياء وآخذ منه المال لأنفقه في وجوه الخير، لكنه يشرب الخمر أثناء جلوسي معه، فقلت له: إن الله تعالى لم يطلب منا هذا التهاون والتفلت، إنما طلب منا اجتناب الخمر، وهو أعلم جل جلاله بالمصلحة الحقيقية، وقد دلّ عليها، فلا يجوز لأحد كائناً من كان أن يدعي المصلحة في أمر قد حرمه الله.(1/54)
وبعض أولئك التجار حدثني عن جلوسه مع النساء في مجالس مختلطة وبعضهن قد ظهر فسقهن، وذكر أن هذا أمر لابد له منه، وهو جالب لأنواع من المصالح، ولا أدري أحقاً ما يقول أم إنه من تسويل الشيطان وتزيينه، ومن وسوسته في الصدور والعقول؟! (1)
- وهل ما صنعه كان فيه طالباً للحق والخير أو هو استجابة لضغوط المجتمع ومجاراة للناس وطلب لرضاهم؟
- وهل أثرت فيه طرائق الحياة المادية المعاصرة وهجمتها الصعبة على النفوس والعقول أو كان ضابطاً لأمره، مقيداً لهواه بقيود الشريعة؟
إن المصلحة الحقيقية لا يمكن أن تتعارض مع أوامر الشرع ونواهيه.
4- ضعف التربية الأولى:
إن التربية الجيدة للناشئة هي الضمانة الأولى بإذن الله تعالى أن يظل هؤلاء على حسن التزامهم حتى يلاقوا الله تعالى، أما الضعف والتراخي في التربية الأولى فإنه ينتج أشخاصاً ضعاف الالتزام، سرعان ما ينتكسون أو سرعان ما يتفلتون من التزامهم، لذلك كان واجباً على المربين والموجهين والدعاة والمشايخ والإصلاحيين أن يحسنوا تربية مَن تحت أيديهم من الناشئة، وألا يستعجلوا في ترتبيتهم، وأن يأخذوهم بأحسن الطرق التربوية، بالانصياع التام لله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ، وألا يعودوهم الترخص بل يأخذونهم بالعزائم في أغلب أمورهم، وألا يقبلوا منهم التفلت من الالتزام مهما كان التفلت ضيئلاً
إلا لضرورة ملجئة أو حاجة ملحة تقوم مقام الضرورة، فإن
من نشأ على ضعف كَبُر عليه مفارقته بعد ذلك، وأحرى
بمن كان حاله هكذا ألا يقدم شيئاً لدين الناس ودنياهم،
أو سيكون قليل العطاء.
__________
(1) نعم إن اضطر لهذا الجلوس ولم يجد مناصاً منه فهذا له حكم آخر، لكن فليتق الله من وقع في مثل هذا وليلتزم بالضوابط الشرعية ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.(1/55)
وبعض المربين يعمد إلى اختيار ضعاف يعمل على تربيتهم ودعوتهم، لأنهم أسلس انقياداً له، وأقلّ جدالاً ونقاشاً، وأبعد عن الاعتراض عليه، وهذا عائد عليه وعلى دعوته بالضرر ولا شك؛ وذلك لأن الدعوات لا تقوم إلا على كواهل أناس أشداء أقوياء، أما الضعاف المتراخون فسرعان ما يسقطون غالباً.
وبعض المربين إذا رأى ناشئاً مستمسكاً بالسنن، ملتزماً بها، مجتهداً في تطبيقها، توجس منه خيفة، وخشي أن يكون من الغالين، وهذا خطأ بيِّن؛ إذ أن الناشئ إذا استمسك بالسنة على هذا النحو كان دليل خير كثير فيه، وكان هذا منبئاً عن قوة بدايات موصلة إلى إشراق نهايات إن شاء الله تعالى، فكان لزاماً على هذا المربي ألا يبتعد عن مثل هذا الشخص بل يتعهده بالتوجيه حتى يخفف من شدته وغُلَوائه، ويطمس منه الغلو – إن وجد – ويحيي فيه جوانب العاطفة والرحمة والخلق الحسن، فإن صنع فأزعم أنه صنع شيئاً جليلاً، وادّخر للدعوة كنزاً ثميناً.
5- عدم التنبه إلى موقع القدوة:
وهذا أمر مهم؛ إذ لو استحضر الشخص – المتصدر للدعوة أو الإفتاء أو غير ذلك من المناصب الدينية – في نفسه أنه قدوة شاء أو أبى لما أقدم على التفلت من الالتزام جزءاً أو كلاً، فالناس ينظرون إلى أئمة المساجد والقضاة والمشايخ والعلماء والدعاة والإصلاحيين على أنهم قدوات لهم، فكم تكون خيبة ظنهم إذا رأوا أمثال هؤلاء يضعفون ويتفلتون، وهذا يترك آثاراً مدمرة في نفوسهم، ولذلك يتناقل العامة بمرارة زلات بعض القضاة، وكتاب العدل، وبعض أئمة المساجد، وبعض الدعاة والفضلاء وما ذلك إلا لأنهم يرونهم في المحل المقدم، والمكان المُقدّر، فإن ثبت هؤلاء ثبتوا، وإن زل أولئك زلوا وضعفوا.
ولقائل أن يقول: أليست الأحكام الشرعية معلومة فكيف يزل أولئك العوام ويتبعون قدواتهم في عثراتهم؟!(1/56)
وأقول: إن من شأن أكثر العوام أن يتبعوا مقدميهم وقدواتهم، وغالبهم إمّعات، وأكثرهم صلته بالأحكام الشريعة ضعيفة، وجلهم يستقي معلوماته الشرعية من القدوات، لذلك كانت الخطورة كل الخطورة في تفلت القدوات؛ لأن هذا مؤثر بقوة على سائر أفراد المجتمع تأثيراً بالغ السوء.
ثم فلنتصور أن العوام نظروا إلى بعض قدواتهم فوجدوهم مدخنين، يسمعون للأغاني بالمعازف، ويجدونهم غير ضابطين للسانهم، ويجد بعض القدوات النسائية غير ملتزمة بالحجاب على الوجه الشرعي، ويجدون بعض القدوات من الرجال يمازح ويضاحك النساء والعكس، تصوروا ماذا يمكن أن يجر هذا على العوام من مصائب، ومن ضعف وتفلت وانتكاس.
ولذلك عصم الله تعالى الأنبياء فلا يرى منهم أتباعهم
إلا الخير والرشد والطاعة التامة حتى يقبلوا عليهم ويقبلوا منهم.
وكان أحد طلاب العلم إذا خرج للدرس يقول: اللهم أَخْفِ عني عيب شيخي فلا أطلع عليه، وهذا الدعاء منه هو صواب من جهة أنه إذا ظهر له عيوب شيخه لا يعود قادراً على الاستفادة منه الاستفادة المرجوة (1) .
6- ضعف التقوى وقلة الورع:
وهذه مصيبة كائنة ومنتشرة بدرجات مختلفة الحدة، والتقوى والورع ضمانتان قويتان بإذن الله تعالى للشخص حتى لا يقع في التفلت من الالتزام، فالتقوى ترك الحرام، والورع ترك الأمور المشتبهة والمباحة إذا كانت ستؤدي إلى الوقوع في
__________
(1) قال الإمام النووي رحمه الله تعالى:
((وكان بعض المتقدمين إذا ذهب إلى معلمه تصدق بشيء، وقال: اللهم استر عيب معلمي عني، ولا تذهب بركة علمه مني)): ((التبيان)):37.(1/57)
الحرام، وفقه التقوى وفقه الورع مما قَلّ الأخذ به بل قَلّ من يفهمه ومن ثم يأخذ به في شؤون حياته، وذلك لأنه لا يُضمن في المناهج التربوية على وجه كاف جاد، ومن شأن الحياة المعاصرة وتعقيداتها وهمومها ألا تساعد على تعميق معاني التقوى والورع في نفوس عامة الناس وخاصتهم، وهذه بلية وأي بلية لكن لا مفر من تلافيها، والعمل على جعل الورع والتقوى ممارسة يومية حتى تحول بين المتصدرين للشأن الإسلامي وبين التفلت الخطير الضار.
وبعض الدعاة والفضلاء يظن أن الأخذ بالورع والتقوى يحول بينه وبين أعمال دعوته، وتسيير شؤونه، وأنه يعوقه هذا الأخذ عن التوسع في علاقاته وصلاته، والوصول إلى أكبر عدد ممكن من الناس، وأنه ليس هذا الزمان زمان الأخذ بالورع والتقوى، ونسي الآيات التالية:
ژ ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ??ژ
[الطلاق:2-3].
ژ ? ? ? ? ? ? ? ? ژ [الطلاق:4].
ژ چ چ ? ? ? ? ? ? ? ژ [الأنفال:29]
وما أحوج الدعاة إلى فرقان يفرقون به بين الحق والباطل، والتقوى وسيلتهم إلى الوصول لهذا الفرقان.
7- الجهل بأحوال عظماء الإسلام وما كانوا عليه من التمسك العظيم بالالتزام:
وهذا هو المِفْصل في ظني في أسباب التفلت والضعف؛ وذلك لأن الشخص إذا اطلع على أحوال السلف وما كانوا عليه من الالتزام العجيب وضبط أهوائهم وشهواتهم على وفق الأحكام الشرعية استقام وانضبط، ومن سنة الله في خلقه أن الإنسان مفطور على حب اتباع القدوات، وأنه يصلح كثيراً من أخطائه إذا قارن حاله بحال أولئك العظماء.
ولما كانت قدوات العصر قلة قليلة، ولا يتاح لأكثر الدعاة والعاملين والفضلاء الاحتكاك بها والجلوس إليها، لما كان الأمر كذلك فإنه لا مناص لأولئك من الانكباب على كتب تراجم العظماء قديماً وحديثاً ينهلون منها ما يكون عوناً لهم على الاستمساك بإسلامهم، والالتزام بأحكامه إلى درجة تعينهم على ضبط دينهم ودنياهم.(1/58)
وهأنذا أعطر هذه الرسالة بذكر عظماء استمسكوا بإسلامهم إلى الحد الذي يتعجب منه، وكانوا من التفلت بمنأى بعيد، ولا أريد بإيرادي هؤلاء أن أجعل الدعاة والصالحين والفضلاء والمشايخ يكونون مثلهم فهذا أمر بعيد ولا يستطاع في ظني في هذا الزمان، وإن استطاعته قلة فإن الكثرة الكاثرة لا تستطيعه (1) لكني إنما أريد بعرض سير العظماء هذه أن يتشبه بها قراؤها، وأن يحاولوا الوصول إلى شيء منها، وأرى والله أعلم أنه بالتجربة قد ثبت أن من أعظم الأدوية المساعدة على الثبات على الإسلام والبعد عن التفلت عن أحكامه هو الاطلاع على سير أولئك العظماء، والاستفادة مما فيها من جوانب العظمة، وإليكم بعض السير التي توضح كيف يستمسك هؤلاء بالإسلام ويبتعدون عن التفلت، وكيف هو سَمْتهم وهديهم رضي الله عنهم:
1- الإمام العلامة الحافظ، القدوة العابد شيخ الحرم،
أبو القاسم سعد بن علي بن محمد الزَنجاني المولود سنة 380هـ والمتوفى سنة 471 عن 91سنة. هذا الإمام لما عزم على المجاورة في بيت الله الحرام عزم على نيِّف وعشرين عزيمة أن يلزمها نفسه من المجاهدات والعبادات، فبقي في الحرم أربعين سنة لم يُخلَّ بعزيمة منها (2) الله أكبر، ما أعظم هؤلاء وما أحسن امتلاكهم لنفوسهم وشهواتهم.
2- هذا الإمام العلامة، شيخ الإسلام، الحافظ أبو القاسم إسماعيل بن محمد القرشي التيميّ ثم الأصبهاني الملقّب بقِوام السُنة، المتوفى سنة 535هـ، حكى عنه أحد أصحابه أنه لا يعلم أن أحداً عاب عليه قولاً ولا فعلاً،
__________
(1) ارجع للتوسع لرسالة ((القدوات الكبار بين التحطيم والانبهار)) لكاتب هذه الأوراق.
(2) انظر ترجمته في ((سير أعلام النبلاء)): 18/385-386.(1/59)
ولا عانده أحد إلا ونصره الله، وكان نَزِهَ النفس عن المطامع، لا يدخل على السلاطين ولا على من اتصل بهم، وكان له تعبُّد وأوراد وتهجُّد، ولما مات ولده وجلس للتعزية جدّد الوضوء في ذلك اليوم نحو ثلاثين مرة، يصلي عقب كل وضوء ركعتين (1) .
3- وهذا الشيخ الإمام، العالم الفقيه المحدث، شيخ الإسلام، فخر العراق عبدالوهاب بن علي – المعروف بابن سُكينة – البغدادي الشافعي، المتوفى سنة 607هـ، حكى عنه أحد تلامذته (2) قائلاً:
شيخنا ابن سُكينة شيخ العراق في الحديث والزهد وحُسن السمت وموافقة السُنّة والسلف، عُمِّر حتى حدّث بجميع مروياته، وقصده الطلاب من البلاد، وكانت أوقاته محفوظة،
لا تمضي له ساعة إلا في تلاوة أو ذكر أو تهجُّد أو تسميع، وكان كثير الحج والمجاورة والطهارة، يديم الصوم غالباً، ويستعمل السنّة في أموره، ويحب الصالحين، ويعظِّم العلماء، ويتواضع للناس، ظاهر الخشوع، غزير الدمعة، وكان الله قد ألبسه رداءً جميلاً من البهاء، وحُسن الخِلقة، وقبول الصورة، ونور الطاعة، وجلالة العبادة، وكانت له في القلوب منزلة عظيمة، ومن رآه انتفع برؤيته، فإذا تكلم كان عليه البهاء والنور، لا يُشبع من مجالسته. لقد طفت شرقاً وغرباً ورأيت الأئمة والزهاد، فما رأيت أكمل منه ولا أكثر عبادة ولا أحسن سمتاً (3) .
__________
(1) ((نزهة الفضلاء)): 3/1404.
(2) وهو العالم الكبير ابن النجار صاحب ذيل تاريخ بغداد.
(3) ((نزهة الفضلاء)): 3/1526.(1/60)
- وهذا الشيخ الإمام العالم، الزاهد القدوة، عماد الدين إبراهيم بن عبدالواحد بن علي المقدسي الجُمّاعيلي، المتوفى سنة 614هـ، كان يجلس في جامع البلد من الفجر إلى العشاء يقرئ القرآن والعلم، لا يخرج إلا لحاجة، فإذا فرغوا اشتغل بالصلاة، وكان من خيار الناس ومن أعظمهم نفعاً، وأشدهم ورعاً، ومن أكثرهم صبراً على التعليم، وكان داعية إلى السُنّة، أقام بدمشق مدة يعلّم الفقراء ويقرئهم، ويطعمهم ويتواضع لهم، وكان من أكثر الناس تواضعاً واحتقاراً لنفسه وخوفاً من الله تعالى، كثير الدعاء والسؤال لله تعالى، يطيل السجود والركوع بخشوع وخضوع، يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان إذا دعا تشهد القلوب بإجابة دعائه من كثرة ابتهاله وإخلاصه (1) .
والسؤال المهم الكبير: هؤلاء الأئمة العظماء أصحاب الأعمال العظيمة والآثار الجليلة مَن يعرفهم منا؟ ومَن اطلع على سيرهم الرائعة وأخبارهم الجليلة؟
إن الجواب يورثني حسرة كبيرة. وإنا لله وإنا إليه راجعون على قلة عنايتنا بأخبار سادتنا.
وهذه الأخبار من أعظم المثبتات للالتزام والصلاح.
8- عجز كثير من علماء الإسلام عن مواكبة المستجدات:
إن العالم اليوم يموج بأحوال عجيبة، ويتمخض بين الفينة والأخرى عن أوضاع لم تكن تُعرف من قبل، والملاحظ أن كثيراً من علماء الإسلام قد عجزوا عن القول الفصل في كثير من هذه الأوضاع الجديدة، وبعضهم سارع إلى إنكارها، وبعضهم لم ير سائغاً ما اقتُرح أو عُمل من البدائل الإسلامية لها، وبعضهم تأخر في تقويمها والحكم عليها تأخراً معيباً، وهذا كله أدى إلى تخلف الحكم على ما يجري من هذه الأوضاع وضعف تقويمها، ومن ثم أدى إلى تفلت عدد من الخواص ووقوعهم في حبائل بعض هذه المستجدات التي
لا تجوز شرعاً.
9- أحداث أمريكا الأخيرة:
__________
(1) المصدر السابق: 3/1532-1533.(1/61)
أدت أحداث أمريكا الأخيرة إلى إحداث فوضى عالمية في الفكر والتقويم والسلوك، وأثر هذا على المسلمين بأوجه مختلفة من التأثير؛ فهناك خوف وحذر مبالغ فيهما انتشرا في طبقات كثيرة من خواص المسلمين بعد هذه الأحداث، وهذا أدى إلى ضعف في التفكير، وشلل في التصرفات، وعجز في العمل، وهناك يأس وقنوط ولجا إلى قلوب كثير من الخواص، وأدى هذا وغيره إلى وجود طبقة آثرت السلامة الكاذبة، وأخلدت إلى الأرض، وضعفت وتفلتت بحسب حال أفرادها وما كانوا عليه من تمسك والتزام، وأرى – والله أعلم – أن هذا سبب مهم وكبير من أسباب التفلت في هذا العصر،
والله المستعان.
المبحث الثالث:
علاج ظاهرة التفلت
ظاهرة التفلت التي تفشت وانتشرت بحاجة إلى علاج، وإلى تدارك، حتى تنشأ الناشئة على القوة والعزيمة لا التفلت المؤدي إلى الهزيمة، وإلى الضعف والهوان.
والأمة لا تُعِدُّ للعدو عُدّة – بعد استمساكها بقوة الله تعالى وعظمته – أكبر ولا أقوى من هؤلاء العظماء من الدعاة والعلماء والمشايخ والفضلاء العاملين ومِن َثم من يربونهم من الناشئة، هؤلاء هم عدتها، وعلى أعمالهم وجهودهم تعلق آمالهم، وترى فيهم الشمس المشرقة، والفجر الباسم، والغد المضيء.
وهؤلاء هم الذين تعول عليهم الأمة في الارتقاء بعملها السياسي والاقتصادي والإعلامي والعسكري والاجتماعي وغير ذلك من الجوانب التي تخلفنا فيها طويلاً عن اللحاق بركب من سبقنا من أمم الأرض، فإن كان العاملون بهذه المثابة، وكانت منزلتهم على هذا الوجه من الخطر والرفعة، وكان عملهم على هذه الدرجة من الأهمية، إن كانوا كذلك فوجب المحافظة عليهم في حال من القوة يمكنهم من أداء عملهم على الوجه الذي يعود على الأمة بكل خير، ويخرجها من طوق الذل الذي حاصرها طويلاً، ومن الضعف والهوان
الذي خالطها كثيراً حتى صارت أمم الأرض لا تلقي لها بالاً، ولا تكترث بها ولا بما تريد.(1/62)
وهناك وسائل عديدة للحفاظ على هؤلاء، أو لإنقاذ مَن سقط منهم أو ضعف، فمن تلك الوسائل:
1- تعميق الإيمان بالله تعالى واليقين بلقائه:
وهذا من أعظم الوسائل المعينة على الثبات على الشرع والبعد عن التفلت من الالتزام، وتعميق الإيمان إنما يكون بقراءة كتاب الله تعالى وقراءة تفسيره، وقراءة حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتفهمه، وقيام شيء من الليل ولو مرة في الأسبوع أو الشهر، وصيام التطوع ولو ثلاثة أيام من كل شهر، والتمسك بالأذكار والتسبيح، والرضا عن الله تعالى وعن قضائه، وقراءة سير الصدر الأول ومن بعدهم، الذين ضربوا أروع المثل في العبادة والزهد والصلاح والورع واليقين والثبات والتقوى، إلى آخر هذه الطرق الكثيرة التي تكفلت ببيانها كتب كثيرة.
2- تربية الناشئة على التمسك والالتزام:
وهذا كفيل بثبات الأجيال المقبلة التي يُعقد عليها الأمل
– بعد توفيق الله تعالى وعونه – في النصر والتمكين، وكلما عظمت هذه التربية وقويت كان ذلك أجدى وأعْوَدَ على هؤلاء الناشئة، لذلك نجد أن الذي أُحسنت تربيته الأولى واجتُهد معه اجتهاداً جيداً نجد هذا وأمثاله ثابتين بعيدين عن التفلت، باقين على ذلك غالباً إلى أن يتوفاهم الله تعالى.
وما أصعب هذا في هذا الزمان، وما أشده على النفوس والأبدان، لكن لابد مما ليس منه بُد، لابد من الصبر على التربية ومشاقها وعدم الاستعجال، لأنه لا يجدي شيئاً، والدارج في حلقات القرآن يرجى له العروج إلى منازل العز، والناشئ في محاضن التربية الجادة يؤمل منه أن يكون لبنة صالحة في بناء شامخ، والذي يلقى عليه دروس القرآن والحديث والتاريخ بوعي وقوة ووضوح مع بيان العبر والعظات كفيل إن شاء الله بالصمود أمام موجات الباطل والطغيان،
والله والمستعان.
3- وضع الأهداف العظيمة:(1/63)
إن الأهداف العظيمة تساعد – إن شاء الله تعالى – على الحفاظ على الالتزام والابتعاد عن التفلت، وذلك أن كثيراً ممن يتفلتون من الالتزام ليس عندهم هدف عظيم وقويّ، ويعانون من فراغ، فإذا انضاف إلى ذلك الضغوط المختلفة التي برزت كثيراً في الآونة الأخيرة، كل ذلك قد يؤدي إلى التفلت تدريجاً.
وإذا عظم هدف المرء أبدع أيما إبداع، وفعل ما يشبه المستحيل عند أكثر الناس، وسخر طاقاته وملكاته ومواهبه وجهوده للوصول إلى هدفه هذا، وصارت حياته جداً واجتهاداً ودأباً في تحصيل ما يريد.
أما إذا ضعفت أهدافه أو لم يكن له هدف واضح فإنه يصير على هامش الحياة لا يؤبه له، ولا يشعر بحياته ولا بموته أحد، وذلك لأنه حكم على نفسه بالموت قبل مماته، فصارت حياته ومماته سِيّان.
وسبيل من يريد شيئاً عظيماً، ومن يحاول أمراً مهماً أن ينظر في قدراته ومواهبه وملكاته، ومن ثم يحاول أن يتخير هدفاً يناسب تلك القدرات والمواهب والملكات، تميل إليه نفسه وتساعده في الوصول إليه مواهبه وقدراته، ومن ثم يسعى لتحقيق ما يصبو إليه، عاملاً ليل نهار لجعله واقعاً في دنيا الناس، فمن كان كذلك فمتى سيجد وقتاً للتفلت والضياع خاصة إذا علم أنه إذا حُرِم التوفيق الإلهي فقد خسر التأييد الجليل والمعاونة الربانية والمعية المعينة له على تحقيق ما يصبو إليه ويتطلع، والذنوب أقصر الطرق لحرمان التوفيق.
4- الحرص على بقاء العلائق الأخوية والحذر من العزلة:
وذلك إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، وإذا ابتعد المرء عن صحبة الصالحين وتنحى جانباً فإن ذلك يفسح الطريق لوسوسة الشيطان، ويساعد على التفلت التدريجي؛ وذلك لأن المرء لا يجد من ينصحه ولا من يردعه إذا أخذ في التفلت أو تفلت، بل يجد من عزلته مساعداً له على تفلته وضعفه.(1/64)
وبعض الناس يعتزل يأساً من الأوضاع القائمة في بلده، وقنوطاً من الإصلاح، وهذا من أشد حالات العزلة خطراً؛ لأن المعتزل يكون في ضيق من المجتمع، وصدود عن الالتقاء
بأحد، وهنا يأتيه الشيطان موسوساً له ألا يقتل نفسه، وأن يخرج ليستمتع بمباهج الحياة، وماله وللإصلاح الميئوس منه؟!
وبعض الناس يعتزل بسبب إساءة إخوانه أو أصدقائه أو أقاربه له، فهذا حريٌّ إن روجع واعتُذر له أن يخرج من عزلته
بأقل الخسائر.
وثالث يعتزل لضيق ذات يده، وخوفه من الديون والمطالبة بها؛ فهذا إن قُضي دينه وأُصلح من شأنه حري أن يخرج من هذه العزلة على خير وإلى خير.
وهكذا تتنوع أسباب العزلة لكن تبقى في أكثر حالاتها خطراً على المرء؛ لأنها قد تكون طريقاً للتفلت الكامل أو الجزئي من الالتزام، والعياذ بالله.
5- الإعراض عن الفتاوى الضعيفة أو الشاذة
أو المرجوحة:
وذلك أنه في كل زمان ومكان يوجد فتاوى يتفق عليها أكثر الفقهاء ويرون أنها الحق، وهناك فتاوى شاذة أو ضعيفة تشهد الفطر السليمة بضعفها، وهي في الوقت نفسه يتعلق بها عدد قليل من الفقهاء وتخالف الجم الغفير من الفتاوى التي اجتمع عليها الكثرة الكاثرة من فقهاء السلف والخلف.
وينبغي إذا جاءت الفتوى المخالفة لجماهير فقهاء الخلف والسلف أن يتريث المرء كثيراً قبل أن يقبلها وينساق إليها، وهناك اليوم فتوى بتحليل أنواع من الربا في مصر والمفتي بهذا معروف وهو قد تسنّم ويتسنّم أعلى المناصب الدينية، وتشهد الفطر السليمة بضلال هذه الفتوى، بل إن عدداً من الفتاوى التي أصدرها فيها ضلال مبين، أفيجوز إذن أن نأخذ بهذه الفتاوى بدعوى أن المفتي بها فلان، وهو كان مفتياً وهو شيخ للأزهر الآن؟!(1/65)
وهناك فتاوى تحتاج إلى نظر طويل لضعف مأخذها وتهافت مسلكها كالقول بجواز أخذ القروض الربوية في الغرب لبناء المساكن بغير ضرورة (1) ،
__________
(1) فتوى شراء المساكن بالربا سئلت عنها في أوروبا كثيراً، وكنت أتحاشى الرد ما استطعت احتراماً لفتوى المجلس الأوربي لكن إن أصر السائل أجبته بما أرى أنه الحق، ألا وهو حرمة الشراء بالربا، وذلك أني لا أرى ضرورة في هذا بعد السؤال والتقصي، ومن ظن أن شراء المساكن بالربا سيقوي المسلمين فأرى والله أعلم أن الربا مضعف للمسلمين ولو بعد حين لأن فيه جرأة على هذه الكبيرة العظيمة، والمسلم في أوروبا يخير بين الاستئجار ولو غلا وارتفع أو الرجوع إلى بلاده إن كان غير مهدد فيها بالموت أو السجن الطويل، أما إن كان غير قادر على الاستئجار أو الرجوع فينبغي أن يُعطى من مال الزكاة أو صدقات المحسنين وألا يلجأ إلى هذا النوع من الشراء إلا إذا أغلقت الأبواب في وجهه تماماً – وهي الضرورة – وذلك لأني رأيت كثيراً من الناس في أوروبا قد توسعوا في هذا النوع من الشراء توسعاً لا ضرورة تلجئ إليه، والحجة بأن استئجار المساكن إنما هو بقيمة توازي شراءها أو أكثر لا تقوم في وجه هذه الكبيرة، والمصلحة منتفية هاهنا لأنها قائمة على الظن وفي مقابل النص، فهي مهدورة، والأقوال التي استندت عليها هذه الفتوى هي شاذة مخالفة لفتاوى جماهير السلف والخلف، وأتمنى أن يراجع الإخوة في المجلس الأوروبي هذه الفتوى فهي خطيرة في الواقع وفي الآثار المستقبلية، وتؤدي إلى تقاعس المسلمين عن عبادة التعاون والتآزر وإنشاء الجمعيات الكفيلة بسد هذه الثغرة، والله أعلم..(1/66)
وجواز بقاء المرأة إذا أسلمت مع زوجها الكافر وقصر الصلاة وجمعها والفطر في رمضان إذا سافر المرء ولو بقي سنين وهو يعلم أنه سيبقى هذه السنين الطويلة بدعوى أنه مسافر، وهكذا فتاوى كثيرة ومتعددة تنفر منها القلوب السليمة والفطر القويمة، تضاف إلى ما ذكرته سابقاً من فتاوى إباحة المعازف، وإباحة الغناء من المرأة ويسمعها الرجال، وفتاوى إباحة التدخين، وفتاوى إباحة التمثيل للمرأة، والفتاوى الضعيفة بشأن الحجاب، كل هذا الشر إذا اجتمع للمرء أو جزء منه عاد عليه بأقبح الآثار، لذلك كان من المهم أن تُنبذ هذه الفتاوى وأمثالها جانباً والأخذ بما اتفق عليه أكثر فقهاء الأمصار منذ القرن الأول إلى زماننا الحالي.
ولسائل أن يسأل: أليس الذين يفتون بهذه الفتاوى علماء أيضاً؟!(1/67)
وأقول: بلى إن أكثرهم علماء، لكن ينبغي أن نعرف أن العالم قد يعتريه الضعف، أو الهوى، أو الخطأ، أو الرغبة في مسايرة المجتمع بدعوى اجتماع الصف، ويكفي أن نعرف أن كثيراً من تلك الفتاوى وغيرها خولف فيها فقهاء المذاهب الأربعة ومن هم خارج المذاهب الأربعة، وأخُذ فيها برأي فقيه أو فقيهين من الصحابة أو التابعين، ولعمر الحق إن فتوى يخالَف فيها فقهاء المذاهب الأربعة بل عامة فقهاء الصحابة أو السلف والخلف لهي بحاجة إلى نظر فاحص وتحرير طويل من عدة مجامع قبل أن تقبل ويعمل بها، وذلك لخطورة آثار العمل بها على الأجيال، ويكفي الأمة ما حدث فيها من أخطار عظيمة بسبب الربا، والمعازف – وقد ذكرت من قبل سوء آثارها على المجتمع – والتدخين، والتهاون في الحجاب وغير ذلك، فإذا أقرت بعض أوكل هذه المعاصي بفتاوى فحدث ولا حرج آنذاك عن الهلاك الذي تقع فيه الأمة، وخاصة أن مأخذ هذه الفتاوى ليس قوياً، وبعضها معتمد على أقوال فردية والجمهرة العظمى من الفقهاء من السلف والخلف على خلاف ذلك فبأيهما نأخذ، وقد يتبادر إلى الذهن أن من أفتى بتلك الفتاوى إنما يأخذ بالقول ذي الدليل الأقوى، وللأسف كل تلك الفتاوى تقريباً لا تستند إلى الدليل الأقوى بل تستند إلى الدليل الأضعف أو القول الأضعف أو المرجوح أو المهجور.
وقد يسأل سائل: وما الذي يُدري هؤلاء الفضلاء والدعاة والإصلاحيين – الذين نريد لهم الثبات وعدم التفلت بالأخذ بالفتاوى الضعيفة – ما الذي يدريهم بقوة الفتوى أو ضعفها؟
وأقول: هذا سؤال وجيه، وجوابه:
إن هذا الدين العظيم سهلة أحكامه، ميسورة شريعته، ليس صعباً على هؤلاء الدعاة والفضلاء والإصلاحيين، وهم يعدون من جملة خواص الأمة وليسو كسائر العوام الذين لا يفهمون شيئاً من الشريعة أو يفقهون قليلاً منها، ليس صعباً عليهم أن يتلمسوا مواطن القوة والضعف في الفتاوى من حيث الآتي:(1/68)
1- مخالفة هذه الفتوى للأكثر والأشهر من فتاوى علماء المسلمين قديماً وحديثاً، وفي هذا العصر سهل على الناس معرفة الفتاوى المختلفة لأنها منشورة معروفة في وسائل الإعلام الكثيرة.
2- مصادمة هذه الفتوى لما صار معروفاً في البيئة، مستقراً في المجتمعات، كما ذكرت آنفاً في فتاوى الحجاب، فإذا جاء من يخالف هذه الفتاوى ينبغي أن يتريث طويلاً وينظر فيها طويلاً قبل قبولها.
3- مخالفة ما يطمئن إليه القلب، وهذا لا يكون إلا عند أهل الصلاح والورع، والمظنون بهؤلاء الفضلاء والدعاة والإصلاحيين أن يكونوا من أهل الصلاح والورع في الجملة، وذلك لأن الرعاع والعوام لا يوثق بما تطمئن إليه قلوبهم.
4- الأخذ برأي عدد قليل ونفر محدود من أهل العلم وترك ما استقر وعلم عند الجمهور الأكبر من العلماء سلفاً وخلفاً.
وهذا المنهج – منهج الأخذ بقول عالم أو عالمين أو ثلاثة وترك الجماهير الغفيرة من العلماء – منهج غير سديد، وهأنذا أسوق هذا الفصل المهم للأستاذ محمد عوامة من كتابه أدب الاختلاف ص117 حيث قال:
((وأما الجواب عن اعتبار كل قول لإمام: فنعم نعتبره (1) إلا ما قامت الأدلة على بطلانه، أو شذ به قائله عن الإجماع، أو عن الجماهير الأكثرية الأغلبية من علماء المسلمين سلفاً وخلفاً، وهذا ما يسميه علماء الأصول بـ (نُدْرة المخالف)، أو كان خلافه مما يسميه السلف بنوادر العلماء أو شواذهم، أو كان الخلاف فيه ضعيفاً...
أسند البيهقي إلى الإمام المجتهد أبي عمرو الأوزاعي (2) رحمه الله أنه قال:
((من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام))، وذكره الذهبي أيضاً.
__________
(1) يعني بالاعتبار – هنا – الاعتداد.
(2) عبدالرحمن بن عمرو بن أبي عمرو الأوزاعي، أبو عمرو، الفقيه. ثقة جليل. توفي سنة 157هـ رحمه الله تعالى. انظر ((تقريب التهذيب)): 347.(1/69)
وأسند الإمام علي بن الجعد (1)
إلى سليمان التيمي (2) العلم الحجة العابد أنه قال:
((لو أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله)).
وعلق عليه ابن عبدالبر (3) بقوله:
هذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً.
قال إبراهيم بن أبي عبلة (4) :
من حمل شاذ العلم حمل شراً كثيراً...
وفي ((المسوّدة)) من كلام الشيخ ابن تيمية تقي الدين
رحمه الله:
روى عبدالله بن أحمد عن أبيه قال: سمعت يحيى القطان (5) يقول:
لو أن رجلاً عمل بكل رخصة: بقول أهل المدينة في السماع، وبقول أهل الكوفة في النبيذ، وبقول أهل مكة في المتعة لكان فاسقاً...
وروى الإمام الحاكم عن الإمام الأوزاعي أنه قال:
يجتنب – أو يترك – من قول أهل العراق خمس، ومن قول أهل الحجاز خمس، وذكرها...
__________
(1) علي بن الجعد بن عبيد الجوهري البغدادي. ثقة ثبت، رُمي بالتشيع. توفي سنة 230هـ رحمه الله تعالى. انظر ((التقريب)): 398.
(2) سليمان بن طَرْخان التيمي، أبو المعتمر البصري. نزل في التيم فنُسب إليهم. ثقة عابد. توفي سنة 143هـ وهو ابن سبع وتسعين سنة رحمه الله تعالى. انظر المصدر السابق: 252.
(3) الإمام العلامة، حافظ المغرب، شيخ الإسلام، أبو عمر يوسف بن عبدالله بن محمد بن عبدالبر النَمري الأندلسي القرطبي المالكي، صاحب التصانيف الفائقة. طال عمره، وعلا سنده، وتكاثر عليه الطلبة، وخضع لعلمه علماء الزمان. كان ديّناً، متقناً، علامة، متبحراً، صاحب سنة واتباع، وممن بلغ درجة الاجتهاد. توفي سنة 463هـ عن 95سنة رحمه الله. انظر ((سير أعلام النبلاء)): 18/153-163.
(4) إبراهيم بن أبي عَبْلة، واسمه شِمْر بن يقظان الشامي، يكنى أبا إسماعيل. ثقة. توفي سنة 152هـ رحمه الله تعالى. انظر ((تقريب التهذيب)):92.
(5) يحيى بن سعيد بن فَرُّوخ التميمي، أبو سعيد القطان البصري. ثقة، متقن، حافظ، إمام، قدوة. مات سنة 198هـ وله 78 سنة رحمه الله تعالى. انظر ((تقريب التهذيب)): 591.(1/70)
وقال الحافظ أبو بكر الآجُرِّي (1) في كتابه ((تحريم النرد والشطرنج والملاهي)):
فإن احتج محتج في الرخصة في اللعب بالشطرنج فقال: قد لعب بها قوم ممن يشار إليهم بالعلم؟ قيل له: هذا – أي الاحتجاج – قول من يتبع هواه ويترك العلم، فليس ينبغي إذا زل بعض من يُشار إليهم زلة أن يُتبع على زلته، هذا قد نُهينا عنه، وقد خيف علينا من زلل العلماء، ثم أسند إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قوله:
ثلاث مُضلات: أئمة مُضلة، وجدال منافق بالقرآن،
وزلة عالم.
قال ابن عبدالبر في ((الجامع)):
شبه الحكماء زلة العالم بانكسار السفينة؛ لأنها إذا غرقت غرق معها خلق كثير...
قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات التي تقول: ما هذه؟! ولا ينئينّك (2) ذلك منه؛ فإنه لعله أن يتراجع ويلقى الحق إذا سمعه فإن على الحق نوراً.
وقال البيهقي: فأخبر معاذ بن جبل أن زَيغة الحكيم لا توجب الإعراض عنه، ولكن يُترك من قوله ما ليس عليه نور، فإن على الحق نوراً، يعني والله أعلم دلالة من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس على بعض هذا...
__________
(1) الإمام المحدث القدوة، شيخ الحرم الشريف، أبو بكر محمد بن الحسين بن عبدالله البغدادي الآجُري، صاحب التآليف. صدوق، خير، عابد، صاحب سنة واتباع. توفي سنة 360هـ وكان من أبناء الثمانين رحمه الله. انظر ((سير أعلام النبلاء)): 16/134-136.
(2) أي لا يبعدنّك عنه.(1/71)
فنبه رضي الله عنه إلى طائفة مارقة من الإسلام تبتدع مبادئ خارجة عنه بالكلية، ونبّه إلى طائفة صالحة فيها إيمان وحكمة وتصدر عنها الزلة والهفوة، فلا يجوز للمتنطع أن يُلحق هذه بتلك بل يلزم هذه الطائفة فيما هي عليه من هَدْي وخير ويتجنب ما يبدر منها من شذوذ وهفوة، ودلنا على علامة هفوتها أنها كدرة عَكِرة ليس عليها صفاء الحق ونصاعته، وسماها (مشتبهات) تستنكر بفطرتك أن تكون من الحق الناصع الخالص فتقول: ما هذه؟! أما الحق الخالص فإن عليه نوراً ودليلاً يؤيده...
ومن المشهور على ألسنة العلماء قول القائل:
فليس كل خلاف جاء معتبراً ... إلا خلاف له حظ من النظر
أما الخلاف النادر الشاذ فلا يصح السكوت على فاعله
أو قائله... بل إن بيان خطأ هذا الخلاف والمخالف واجب ومعدود من النصح لله وكتابه ورسوله وعامة المسلمين.
قال العلامة الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله في كتابه النافع المبارك ((جامع العلوم والحكم)):
ومن أنواع النصح لله تعالى وكتابه ورسوله – وهو مما يختص به العلماء – رد الأهواء المضلة بالكتاب والسنة، وبيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلها، وكذلك رد الأقوال الضعيفة من زلات العلماء وبيان دلالة الكتاب والسنة على ردها...
وقال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى (1) :
__________
(1) إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي، أبو إسحاق الشهير بالشاطبي، الإمام العلامة المحقق، الأصولي المفسر المحدث الفقيه. له استنباطات جليلة وفوائد لطيفة مع الحرص على اتباع السنة واجتناب البدعة. وكان من أئمة المالكية. ألف تآليف نفيسة. توفي سنة 790هـ رحمه الله تعالى. انظر ((نيل الابتهاج)): 48-52.(1/72)
إن زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة، ولا الأخذ بها تقليداً له؛ وذلك لأنها موضوعة – أي معتبرة منا – على المخالفة للشرع ولذلك عُدّت زلة، وإلا فلو كانت معتداً بها لم يُجعل لها هذه الرتبة، ولا نُسب إلى صاحبها الزلل فيها... ولا يصح اعتمادها – أي الزلة – خلافاً في المسائل الشرعية؛ لأنها لم تصدر في الحقيقة عن اجتهاد، ولا هي من مسائل الاجتهاد وإن حصل من صاحبها فهو لم يصادف فيها محلاً، فصارت في نسبتها إلى الشرع كأقوال غير المجتهد، وإنما يُعد في الخلاف الأقوال الصادرة عن أدلة معتبرة في الشريعة، كانت مما يقوى أو يضعف.
فإن قيل: فهل لغير المجتهد من المتفقهين في ذلك – أي في تمييز ما كان خلافاً معتبراً مما هو غير معتبر – ضابط يعتمده أم لا؟
فالجواب أن له ضابطاً تقريبياً وهو أن ما كان معدوداً
في الأقوال غلطاً وزللاً قليل جداً في الشريعة، وغالب الأمر أن أصحابها منفردون بها...)) (1) .
6- استعمال الورع:
التربية على الورع المعتدل من أهم الأسباب التي تعين على البقاء على الالتزام، والابتعاد عن التفلت.
والورع له تعاريف عديدة، فمن أحسنها، فيما أرى:
- الورع ترك ما يَريبك، ونفي ما يَعيبك، والأخذ بالأوثق، وحمل النفس على الأشق.
- وقيل: هو النظر في المطعم واللباس، وترك ما به باس.
- وقيل: هو ترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس.
- وقيل: ترك ما يُخشى ضرره في الآخرة.
- وقيل: هو ترك التسرع إلى تناول أعراض الدنيا (2) .
- ومن ذا الذي سيستعمل الورع إن لم يستعمله الدعاة والصالحون والفضلاء والإصلاحيون، أيستعمله سائر العوام؟!
والورع سمة الصالحين من السلف والخلف، والقصص فيه كثير وجميل، وهأنذا أورد جملة من أخبارهم رضي
الله عنهم:
1- قال الإمام الكبير عبدالله بن المبارك (ت 181هـ):
__________
(1) ((أدب الاختلاف)): 117-126 بتصرف، وقد سقت كلامه ونقله على طوله لأهميته.
(2) انظر ((نضرة النعيم)): 8/3616-3617.(1/73)
استعرت قلماً بأرض الشام فذهبت على أن أرده، فلما قدمت مرو نظرت فإذا هو معي، فرجعت إلى الشام حتى رددته على صاحبه (1) .
ولنتخيل المسافة الهائلة بين مرو والشام آنذاك، ويعود ابن المبارك هذه المسافة الهائلة ليرد قلماً فقط، هذا أمر عجيب!؟
2- وكان ابن المبارك في سفر فحضره الموت، فقال: أشتهي سويقاً، فلم يجده أصحابه إلا عند رجل كان يعمل للسلطان، فذكروا ذلك لابن المبارك، فقال: دعوه، فمات ولم يشربه (2) .
وهذا لتخوفه أن يأكل شيئاً من رجل قريب من السلطان وهذا ورع لا مزيد عليه.
3- وهذا الإمام الثبت القدوة الولي، أبو داود الحَفَريّ الكوفي العابد المتوفى سنة 203هـ كان إذا أراد أن يمتخط خرج من المسجد، وكان المسجد مفروشاً بالحصباء، وكان يكفيه أن يتمخط على أرض المسجد ثم يدفنها لأن أرض المسجد تقريباً مثل الأرض خارجه، فقيل له: أليس كفارتها دفنها؟ فيقول: لعلي أُوخذ قبل أن أكفِّر!!
الله أكبر، يخاف أن يموت قبل أن يكفر عن مخاطه
في المسجد بدفنه، يعني يخاف أن يموت بين الامتخاط ودفنه
في الحصباء!! (3)
4- وهذا العلامة الورع القدوة، جمال الإسلام أبو الحسن عبدالرحمن الداووديّ البُوشَنجيّ المتوفى سنة 467هـ رحمه الله تعالى يقول عنه تلميذه:
كان شيخنا الداوودي بقي أربعين سنة لا يأكل لحماً وقت تشويش التُركمان واختلاط النهب فأضرّ به، فكان يأكل السمك ويُصطاد له من نهر كبير، فحكي له أن بعض الأمراء أكل على حافة ذلك النهر ونُفضت سفرته وما فضل في النهر، فما أكل السمك بعد!! (4)
فقد توقى أكل اللحم بسبب النهب الذي كان يدور آنذاك في بلاده فخاف أن يأكل لحماً أصله منهوب، ثم رفض أن يأكل السمك من النهر الذي نُفضت فيه سفرة الأمير لأنه ربما أكل السمك شيئاً منها فيأكل هو من هذا السمك!!
__________
(1) ((نزهة الفضلاء)): 2/768.
(2) المصدر السابق: 2/770.
(3) المصدر السابق: 2/834.
(4) المصدر السابق: 3/1406.(1/74)
قد يرى القراء أن هذا أمر صعب، وأوافقهم، لكني أوردت هذا في سياق الورع لا الحرام والحلال، فإن أكل هذا الذي تورع عنه الداوودي حلال ولا شك لكن الورع اقتضاه البعد عنه.
5- وهذا الإمام المحدث الزاهد عطاء بن أبي سعد الثعلبي الفُقّاعي المتوفى سنة 535هـ تقريباً، رحمه الله تعالى قد أمر بعض الأمراء أن يُضرب في محنة حدثت آنذاك، فبُطح
على وجهه وضرب إلى أن ضُرب ستين ضربة فشكوا: هل ضربوه خمسين أو ستين فقال عطاء، خذوا بالأقل احتياطاً!! (1)
الله أكبر يريد منهم أن لا يخالفوا أمر الأمير في عدد مرات الضرب!!
وحُبس مع نساء وكان في الموضع عدة تروس فقام وهو مجهد من الضرب وجعل التروس بينه وبينهن، وقال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخلوة بالأجنبية (2) .
أرأيتم لو ربينا الناشئة على شيء من هذا الورع، وعلى قراءة مثل هذا القصص المؤثر، لو ربيناهم على هذا كيف سيكون أثر ذلك عليهم وعلى مستقبل حياتهم، سيظل أثر هذه التربية في عقولهم وقلوبهم أمداً بعيداً وربما رافقهم إلى الموت.
7- تربية البنات على الحياء:
والحياء لا يأتي إلا بخير، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - (3) ،ونحن نشاهد اليوم أن النساء قد تضاءل عند بعضهن هذا الخلق، فصرن يضحكن ويمزحن مع الرجال، وصرن يختلطن بهم على وجه معيب، وهذا كله شاهدته مراراً وتكراراً فأنا لا أخبر إلا عن عيان، وقد سبق أن ذكرت شيئاً من هذا في المبحث الأول، وهذا في الدوائر الوظيفية، وفي وسائل الإعلام، وفي المؤتمرات والندوات إلخ...
__________
(1) المصدر السابق: 4/1530.
(2) المصدر السابق.
(3) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه كتاب الأدب: باب الحياء.(1/75)
وقد اشتهرت النساء بالحياء فيما مضى، حتى أن العذارى منهن كن مخبآتٍ في بيوتهن لا يخرجن إلا لحاجة ملحة، لذلك كان يقال عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : هو أشد حياء من العذراء في خدرها (1) ، فهذا شأن العذراء فيما سبق، لكن الأمر اختلف اليوم بسبب خروج البنات للتعلم، وبسبب تساهلهن في الخروج والدخول بداع وبدون داع، وصار لهن صديقات وحفلات ومناسبات إلى آخر ما هنالك فصارت الفتاة تنشأ وقد اختلف حياؤها قليلاً أو كثيراً عن فتيات الأمس، وهذا شيء لابد منه في ظل اختلاف الحياة اليوم لكن ينبغي أن يكون بقدر فإن تعداه صار أمراً معيباً، وخلقاً مشيناً يحتاج إلى إصلاح.
وصارت الفتاة بدعوى أنها محجبة تضع غطاء على رأسها وربما غطت وجهها ثم إنها لا تلتزم باللباس المنبئ عن الحياء، ولا بالسلوك المخبر عن الحياء، وهذا ظاهر في المجتمع اليوم بارز فيه، وكم تشتكي النسوة الفضليات مما يجري في صالات الأفراح ومجامع النساء، بل كم نشتكي نحن الرجال مما يجري في الأسواق، والوظائف التي فيها اختلاط وتساهل، نشتكي من هذا الذي يجري من النساء مما يدل على ضعف شديد في هذا الخلق عندهن، فمزاح وضحك وتخفف من الكلفة بينها وبين الرجل إن لم نقل إسقاط الكلفة، وهذا صادر أيضاً من عدد ممن يعددن أنفسهن محجبات!!
هذا وقد مدح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحياء فقال:
((الحياء من الإيمان)) (2) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - :
((ما كان الفحش في شيء قط إلا شانه، ولا كان الحياء في شيء قط إلا زانه)) (3) .
وقال عمر الفاروق رضي الله عنه:
__________
(1) حديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه: كتاب أحاديث الأنبياء: باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - والخِدْر هو الستر..
(2) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه: كتاب الأدب: باب الحياء.
(3) أخرجه الترمذي وقال حديث حسن، وقال محقق جامع الأصول: حديث حسن، انظر ((نضرة النعيم)):5/1807.(1/76)
((من قل حياؤه قل ورعه، ومن قَلّ ورعه مات قلبه)) (1) .
وقال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى لما قالوا له: الحياء من الدين فقال: بل هو الدين كله (2) .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه:
((الإيمان عُرْيان، وزينته التقوى، ولباسه الحياء)) (3) .
وكم تعجبني المرأة حين تسألني كفاحاً فأجدها قد تنحت ونكست رأسها إلى الأرض فلم تنظر ولم تستوعب النظر، وتخفض من صوتها، فما أجمل هذا وما أحسنه، وهو دال على حياء وخير.
وينبغي على المرأة التي ابتليت بمخالطة الرجال والكلام معهم على وجه دائم أن تتصف بالحياء، فإن ذلك أدعى إلى حفظها وصونها، وإلى تنبيه الرجل – إذا كان غافلاً – على مكارم الأخلاق وضوابط الشرع في التعامل، فإن من أفسحت للرجال طريقاً للخلطة والكلام بلا ضوابط ولا حياء كان ذلك عائداً على نفسها بالنقص وعلى من خالطها من الرجال بالفساد، والله المستعان.
خاتمة
وقد آن الأوان لختم ما أريد الحديث عنه في هذا الموضوع الذي أحسب أنه مهم، ولا أدعي أني قد أتيت على كل ما ينبغي أن يُطرق، ولا أزعم الإحاطة فإن هذا شيء فوق الطاقة، لكن أزعم أني أضأت الطريق أمام دراسات قادمة ربما كانت أشمل وأحسن.
ومما ينبغي أن يعلم بعد ختام هذه الدراسة هو التالي:
1- أن دين المرء هو أعظم ما يحرص عليه، فإن حصل في شيء منه تهاون وتفريط يوشك أن يعم ذلك التهاون سائر شؤونه وأحواله، وهذه مصيدة يجب على المشايخ والدعاة والصالحين اجتنابها.
2- إن الرجال يعرفون بالحق وليس الحق يعرف بالرجال – كما قال الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه – فلا ينبغي لأحد أن يتعصب إلا للحق، ولا يوالي إلا من قال به كائناً من كان هذا القائل، وذلك لأن:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا
__________
(1) المصدر السابق: 5/1809.
(2) المصدر السابق: 5/1813-1814.
(3) المصدر السابق: 5/1811.(1/77)
3- لم أكتب هذا الذي كتبت نصرة لرأي أو لمذهب فقط، إنما كتبته أيضاً غيرة على دين الله تعالى أن ينتقص منه شيء بدعوى أن فلاناً قال كذا وفلاناً قال كذا، وقول فلان وفلان خلاف قول الجمهور الأعظم من العلماء، لذلك كان القول بهذا القول الضعيف يجرّ على المجتمع آثاراً وبيلة ونتائج وخيمة على ضعف مأخذه وهشاشة مصدره.
4- عندما رددت على بعض الأقوال التي أراها ضعيفة
أو مرجوحة فإنني لم أرد أن أنتقص أحداً من علماء السلف والخلف أو علماء ومشايخ العصر، معاذ الله فهم سادتنا وكبراؤنا وفخرنا وعزنا، إنما أردت بيان الحق، ولما كان بيان الحق لابد فيه من إيراد الأقوال المخالفة فقد سقتها وأسندتها إلى قائليها، فلا يتوهم مني إرادة التنقيص، ولا التشهير، معاذ الله فهذا ليس من شيمتي ولا من مرادي الذي أفنيت فيه قدراً غير يسير من عمري.
هذا والله تعالى أسأله أن يقبل هذا العمل، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
المصادر
و
المراجع
1- القرآن الكريم.
2- ((أحاديث المعازف والغناء دراسة حديثية نقدية)):الأستاذ محمد عبدالكريم عبدالرحمن.
3- ((أدب الاختلاف في مسائل العلم و الدين)): الأستاذ محمد عوامة، نشر دار البشائر الإسلامية. بيروت، الطبعة الثانية. سنة 1418هـ.
4- ((الاختلافات الفقهية)).
5- ((أدلة تحريم حلق اللحية)): الأستاذ محمد بن أحمد بن إسماعيل. نشر مكتبة الفرقان، مصر.
6- ((الأعلام)): خير الدين الزركلي. دار العلم للملايين. بيروت، الطبعة الخامسة 1980م.
7- ((تقريب التهذيب)): الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ). تحقيق الأستاذ محمد عوامة. نشر دار الرشيد. حلب، الطبعة الرابعة 1418هـ.(1/78)
8- ((حكم الشرع في اللحية والأزياء والتقاليد والعادات، وإبطال زعم أنها محض أشكال مرئية ومن الشؤون الشخصية يحكمها العرف والعادة)): الشيخ عثمان الصافي. نشر المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية 1404هـ.
9- صحيح مسلم.
10- ((الغناء والموسيقى وخطرهما على الطفل المسلم)): د.عدنان باحارث دار المجتمع للنشر والتوزيع. جدة، الطبعة الأولى. سنة 1414هـ.
11- ((مجموع فتاوى شيخ الإسلام)): جمع عبدالرحمن بن قاسم. طبع المغرب.
12- ((مذكرات سائح في الشرق العربي)): أبو الحسن علي الحسني الندوي. نشر مؤسسة الرسالة. بيروت، الطبعة الثالثة 1398هـ.
13- ((مصطلح حرية المرأة بين كتابات الإسلاميين وتطبيقات الغربيين)): لكاتب هذه الأوراق. دار الأندلس الخضراء، الطبعة الأولى سنة 1426هـ.
14- ((مسند الإمام أحمد)): تحقيق مجموعة من العلماء. نشر دار الرسالة. بيروت.
15- ((نزهة الفضلاء تهذيب سير أعلام النبلاء)): السير للإمام الذهبي، والنزهة لكاتب هذه الأوراق. نشر دار الأندلس الخضراء. جدة.
16- ((نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - )) إعداد مجموعة من الباحثين. نشر دار الوسيلة للنشر والتوزيع – جدة. الطبعة الرابعة 1426هـ.
17- ((وجوب إعفاء اللحية)): الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي. ترجمة مولانا محمد عاشق إلهي البرني. نشر مكتبة الشيخ. كراتشي.
فهرست
الموضوعات
مقدمة ... 5
وفيها بيان سبب تأليف الرسالة، وأهمية معالجة الموضوع المطروق في الرسالة، والفرق بين هذه الرسالة ورسالة الثبات التي صنفتها قديماً
تمهيد ... 6
المبحث الأول: ظواهر التفلت ... 6
1- قلة ضبط اللسان. ... 6
2- الاستماع إلى المعازف (الموسيقى). ... 6
3- حلق اللحى. ... 6
4- التهاون في النظر إلى النساء والخلطة بهن، وتهاون النساء في النظر إلى الرجال بدون داع. ... 6
5- التهاون في شروط الحجاب وضوابطه. ... 6
6- التدخين. ... 6
المبحث الثاني: أسباب التفلت من الالتزام ... 6(1/79)
1- طول الأمد وقسوة القلب. ... 6
2- وجود فتاوى مبيحة لهذا التفلت. ... 6
3- الاستجابة للضغوط. ... 6
4- ضعف التربية الأولى. ... 6
5- عدم التنبه إلى موقع القدوة. ... 6
6- ضعف التقوى وقلة الورع. ... 6
7- الجهل بأحوال عظماء الإسلام وما كانوا عليه من التمسك العظيم بالالتزام. ... 113
8- عجز كثير من علماء الإسلام عن مواكبة المستجدات. ... 6
9- أحداث أمريكا الأخيرة............................................................................................. 6
المبحث الثالث: علاج ظاهرة التفلت ... 6
1- تعميق الإيمان بالله تعالى واليقين بلقائه. ... 6
2- تربية الناشئة على التمسك والالتزام. ... 6
3- وضع الأهداف العظيمة. ... 6
4- الحرص على بقاء العلائق الأخوية والحذر من العزلة. ... 6
5- الإعراض عن الفتاوى الضعيفة أو الشاذة أو المرجوحة. ... 6
6- استعمال الورع. ... 6
7- تربية البنات على الحياء. ... 6
خاتمة ... 6
المصادر والمراجع ... 6
فهرست الموضوعات ... 6(1/80)