... ...
- اهتمام السنة بالقرآن وحملة القرآن -
( د. صديق محمد المقبول (1)
مقدمة :
الحمد لله القائل في محكم تنزيله ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) [ سورة الجمعة : 2 ] .
__________
(1) - ) د . صديق محمد المقبول الاستاذ بجامعة الملك خالد بأبها .(1/1)
والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القائل ( ما من الأنبياء نبيٌّ إلا أُعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيتُ وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أني أكثرهم تابعا يوم القيامة ) (1) . وفي هذا إشارة إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن معجزتي التي تحديت بها من أنكر ما جئت به ، هي هذا الوحي الذي أنزل علي ، وهو هذا القرآن العظيم ، لما اشتمل عليه من الإعجاز الواضح والبرهان القاطع . والقرآن معجزته العظمى الخالدة الباقية المستمرة إلى يوم القيامة لاشتماله على الدعوة ، والحجة ، والإخبار بما سيكون ، ولكثرة فوائده وعموم نفعه ، فهو روح وريحان وجنة نعيم للمؤمن ، يداوم على تلاوته وتحيى به روحه ، استجابة لأمر الله - عز وجل - القائل : ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ) [ سورة الأنفال : 24 ] . وإتباعا لوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقد ورد في صحيح الإمام البخاري عن مالك بن مِغْوَل قال ( حدثنا طلحة بن مصرِّف قال : سألت عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما : هل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى ؟ فقال : لا . فقلت كيف كُتِبَ على الناس الوصيةُ أو أُمروا بها ؟ قال : أوصى بكتاب الله ) (2) . فمنطوق هذا الحديث يفهم منه الوصية بكتاب الله بحفظه والمحافظة عليه ، والمداومة على تلاوته ، وتعلمه وتعليمه ، والعمل بمقتضاه باتباع أوامره واجتناب نواهيه . وكأن في ذلك إشارة إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - ( تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا : كتاب الله ..... ) (3) .
__________
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري ، ج/9/5 ، ح/4981
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، ج/5/437 ، ح/2740 ، كتاب الوصايا .
(3) رواه الحاكم أبي عبد الله بن البيع في المستدرك على الصحيحين في كتاب العلم 1/93 ووفقه الذهبي وقال له أصل في الصحيح . طبع دار المعرفة بيروت بدون تاريخ .(1/2)
ولعل اختصاص الوصية ( بكتاب الله ) في هذا الحديث لكونه أعظم وأهم ، ولأن فيه تبيان كل شيء إما بطريق النص وإما بطريق الاستنباط ، فإذا اتبع الناس ما في هذا الكتاب عملوا بكل ما أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - به لقوله تعالى ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) [ سورة الحشر : 7 ] . ومن هنا جاءت أهمية هذا البحث لتلفت نظر القارئ إلى ضرورة الاستمساك بهذا الكتاب حفظا وتلاوة وتعليما وتعلما . ولتحقيق الأهداف المرجوة منه رأيت أن أتناول فيه جانبا مما ورد في السنة النبوية من أحاديث تحث المسلم بل وتحضه لأن يكون جليسه وسميره وأنيسه في وحدته وفي وحشته هذا القرآن العظيم ، ليكون البحث في لحمته وسداه مصدره الأساس هو كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - . وقد سرت في هذا البحث على منهج التتبع والاستقراء لبعض ما ورد في القرآن الكريم من آيات ثم أردفتها بما ورد في السنة النبوية من أحاديث لها دلالة واضحة ، وارتباط وثيق بجوهر البحث . فكان نتيجة ذلك هذا البحث الذي جاء في مقدمة وأربعة مباحث وخاتمة وكان تقسيم المباحث كالآتي :
المبحث الأول بعنوان : من خصائص القرآن الكريم ،وتناولت فيه النقاط الآتية :
1. القرآن معجزة خالدة .
2. منزلة القرآن من الكتب قبله .
3. أثر القرآن في تربية الروح وتزكيتها.
المبحث الثاني بعنوان : من فضائل أصحاب القرآن ، وتناولت فيه النقاط الآتية :
1. أصحاب القرآن وما يجب أن يكونوا عليه .
2. من صفات القراء : الأخذ بمكارم الأخلاق .
3. فضيلة حافظ القرآن .
المبحث الثالث بعنوان : تلاوة القرآن ، وتناولت فيه النقاط الآتية :
1. الأمر بتلاوة القرآن .
2. اهتمام الصحابة بالقرآن وتلاوته .
3. من أخلاق أهل القرآن .
المبحث الرابع بعنوان : طريقة التلاوة ومن أين يؤخذ ،وتناولت فيه النقاط الآتية :
1. استحباب تحسين الصوت بالقرآن .
2. قراءة القرآن على أهل الفضل .(1/3)
3. أيهما أفضل القراءة من المصحف أم عن ظهر قلب ؟
الخاتمة وبها أهم نقاط البحث .
ثم فهارس البحث ومصادره . ... والله استمد منه العون والتوفيق ؛؛؛؛؛؛
المبحث الأول
من خصائص القرآن الكريم
القرآن معجزة خالدة
قال تعالى : ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) [ سورة القمر : 17 ] .
وقال تعالى : ( وأنزلَ الله عليك الكتابَ والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم ) [ سورة النساء : 113 ] .
وقال تعالى : ( وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ . . . ) [ سورة الأنعام : 19 ] .
وقال تعالى : ( فاستمسكْ بالذي أُوحي إليك إنك على صراط مستقيم وإنه لذكرٌ لك ولقومك ) [ سورة الزخرف : 43] .
ونذكر في فضل هذا القرآن ما روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ما من الأنبياء نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ) (1)
فقوله - صلى الله عليه وسلم - ( إنما كان الذي أوتيته وحيا ) هذا الحصر يفيد أن القرآن الكريم من أعظم المعجزات وأفيدها وأدومها لاشتماله على الدعوة والحجة ودوام الانتفاع به إلى آخر الدهر ، ولما كان لا شيء يقاربه فضلا عن أن يساويه كان ما عداه بالنسبة إليه كأن لم يقع ، وعليه فيمكن القول إن الحديث يشير إلى نقطتين جوهريتين .
أولا : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : إن معجزتي التي تحديت بها ، هو الوحي الذي أنزل عليَّ ، وهو هذا القرآن لما اشتمل عليه من الإعجاز الواضح ، والبيان الساطع ، وليس المراد حصر معجزاته فيه ، بل المراد أنه المعجزة العظمى التي اختص بها دون غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .
__________
(1) تقدم تخريجه على : ص 1 .(1/4)
ثانيا : ضرورة اتباع هذا القرآن لأنه هو كبرى الآيات وأشملها وأعظمها ، وهو معجزة مستمرة إلى يوم القيامة ، وهذا يفيد أن القرآن أمين ومهيمن على كل كتاب كان قبله ، بل أننا نجد ذلك مصرحا به في القرآن الكريم نفسه حيث قال تعالى : ( والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه ) [ سورة فاطر : 31 ] .
وفي صحيح الإمام مسلم عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم في خطبته ( ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا ، كل مال نحلته عبدا حلال ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أُنزل به سلطانا ، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ، وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك ، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء ، تقرؤه نائما ويقظان . . . ) (1) .
فقوله ( لا يغسله الماء ) معناه أنه محفوظ في الصدور ، لا يتطرق إليه الذهاب ، بل يبقى على ممر الأزمان . وأما قوله ( تقرؤه نائما ويقظان ) قال العلماء معناه يكون محفوظا لك في حالتي النوم واليقظة ، وقيل تقرؤه في يسر وسهولة ، ويشهد لذلك قوله تعالى ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) [ سورة الحجر : 9 ] . وقوله تعالى ( ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ) [ سورة القمر : 17 ] .
منزلة القرآن من الكتب قبله :
اقتضت حكمة الله عز وجل أن تكون هذه الأمة آخر الأمم وأخيرها كما ورد ذلك في القرآن الكريم في قوله تعالى ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) [ سورة آل عمران :110 ] .
__________
(1) مسلم بشرح النووي ، ج17/194 ، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار , حديث رقم 7136 .(1/5)
ورجح الإمام الطبري حمل الآية على عموم الأمة ، وأيد ذلك بحديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده إنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في قوله : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) ( إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله ) وهو حديث حسن أخرجه الترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه ، وله شاهد مرسل عن قتادة عند الطبري رجاله ثقات (1) . وفي حديث علي - رضي الله عنه - عند أحمد بإسناد حسن إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( وجُعِلَت أمتي خير الأمم ) (2) ، ورجح الطبري حمل الآية على عموم الأمة مؤيدا ذلك بالأخبار التي ذكرها وجاء في الحديث الشريف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ( نحن الآخرون ونحن السابقون يوم القيامة بيد أن كل أمة أوتيت الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ) (3) . ونبي هذا الأمة هو سيد ولد آدم كما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ( أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر ، وأول شافع ، وأول مشفع ) (4) . وهو خاتم رسل الله كما قال الله تعالى ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) [ سورة الأحزاب : 40] .
__________
(1) سنن الترمذي 5/211 ، كتاب التفسير وقال حديث حسن حديث رقم 3001 ، وابن ماجه في كتاب الزهد ، باب صفة أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، كتاب التفسير حديث رقم 4557 .
(3) مسلم بشرح النووي 6/380 كتاب الجمعة ، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة ح/1975 ، 1976 .
(4) صحيح مسلم بشرح النووي 15/37 كتاب الفضائل ، باب تفضيل نبينا - صلى الله عليه وسلم - على جميع الخلائق والحديث من رواية أبي هريرة - رضي الله عنهم - ، سنن أبي داود 4/218 كتاب السنة ، باب التخيير بين الأنبياء حديث رقم 4673 .(1/6)
فهذه الأدلة بمنطوقها ومفهومها دلالتها واضحة في فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى سائر النبيين ، وأن الله ختم به المرسلين وأكمل به شرائع الدين وأيد الله عز وجل هذا النبي بالآيات الباهرات والمعجزات الظاهرات ، وأعظم هذه المعجزات وأشملها وأبقاها القرآن الكريم . هذا القرآن قد جعله الله - عز وجل - مهيمنا على كل الكتب التي أنزلها من قبله ، وقد ورد ذلك مصرحا به في قول الله تعالى :( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ) [ سورة المائدة : 48 ] . وأورد ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى ( ومهيمنا عليه ) قال ( القرآن أمين على كل كتاب قبله ، وأصل الهيمنة الحفظ والارتقاب نقول هيمن فلان على فلان إذا صار رقيبا عليه فهو مهيمن ) (1) . وتوجيه كلام ابن عباس إن القرآن تضمن تصديق جميع ما أنزل قبله لأن الأحكام التي فيه إما مقررة لما سبق ، وإما ناسخة ، وإما مجددة وكل ذلك دال على تفضيل المجدد (2) .
__________
(1) المعجم الوسيط 2/1005 مادة هيمن .
(2) انظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري 9/4 كتاب فضائل القرآن .(1/7)
وعليه فلا سبيل لأحد من المسلمين أن يسأل أهل الكتاب عن حكم له ذكر في كتبهم لأن القرآن أشمل وأكمل وأصدق وأقرب عهدا بالسماء ، ومن أجل ذلك عجب ابن عباس ممن يفعل ذلك من المسلمين ، روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال ( يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل الله على نبيكم - صلى الله عليه وسلم - أحدث الأخبار بالله ، محضا لم يُشَبْ وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب قد بدلوا من كتب الله وغيروا فكتبوا بأيديهم الكتب وقالوا هو من عند الله ليشتروا بذلك ثمنا قليلا أو لا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم ، فلا والله ما رأينا رجلا منهم يسألكم عن الذي أنزل عليكم ) (1) . وكأنه يقول : لا يسألونكم عن شيء مع علمهم بأن كتابكم لا تحريف فيه فكيف تسألونهم وقد علمتم أن كتابهم محرف ؟ وما ذكره ابن عباس فيه إشارة إلى ما ذكر الله تعالى في كتابه الكريم حيث قال ( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ) [ سورة البقرة : 79 ] .
أثر القرآن في تربية الروح و تزكيتها :
__________
(1) صحيح البخاري كتاب التوحيد حديث رقم 7523 وقوله ( محضا لم يشب ) أي لم يخالطه غيره .(1/8)
المسلم منهاجه القرآن ، وإمامه كتاب الله تعالى ، يهتدي بهديه ، ويأتمر بأمره وينتهي بنهيه ويتخلق بأخلاقه ، فمن فعل ذلك انتفع بالقرآن إذا تلاه ، وكان دليلا له يدله على النجاة في الدنيا ، وبرهانا يدافع عنه يوم القيامة . والذي يمعن النظر في القرآن الكريم يجد شواهد ما قلناه في كثير من آياته ، قال تعالى : ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا ) [ سورة الإسراء : 9 ] . وقال تعالى ( يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا ، فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمةٍ منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما ) [ سورة النساء 174-175 ] .
وقال تعالى ( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ) [ سورة إبراهيم : 1 ] . هذه الآيات وغيرها كثير فيها دلالة واضحة وبينة أن في اتباع القرآن سعادة للفرد والمجتمع ، سعادة دنيوية وأخروية ، ولو سألنا أنفسنا – نحن المسلمين - ما هو سر السعادة هذا ؟ وأين يكمن هذا السر ؟ لوجدنا الإجابة في القرآن الكريم نفسه ، قال تعالى : ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا ، وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور ) [ سورة الشورى : 52-53 ] . فهذه الآية تشير إلى أن القرآن روح وليس ألفاظا ومعاني فقط ، وللروح آثارها ، ومن آثارها الحياة والنمو والقوة والسمع والبصر . وكما أن الروح حياة للأبدان والأجساد ، فكذلك القرآن حياة للقلوب والأرواح ، فالقلوب تنمو به وتقوى وتسمع وتبصر ، وتستجيب لنداء الله عز وجل إذا خاطبها القرآن الكريم يدل على هذا المعنى ويقويه قوله تعالى :(1/9)
( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون) [ سورة الأنفال : 24 ] . قال أبو عبيدة في قوله تعالى ( استجيبوا لله ) أي أجيبوا لله يقال : اِستَجَبتْ له ، واستَجًبْته بمعنى ً ، وقوله : ( لما يحييكم ) : أي لما يهديكم ويصلحكم (1) . وقد علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه ضرورة الإصغاء إلى هذا النداء والاستجابة له. روى البخاري في صحيحه عن أبي سعيد بن المُعًلَّى - رضي الله عنه - قال: كنت أصلي فمرَّ بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاني فلم آته حتى صليت ثم أتيته ، فقال : ما منعك أن تأتي ؟ ألم يقل الله ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يجيبكم ) (2) [ سورة الأنفال: 24 ] . وقد فهم الصحابة معنى هذا النداء وطبقوه عمليا في حياتهم مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فما وهنوا وما استكانوا وما ضعفوا أمام أي نداء وجهه إليهم بل كانوا يرون في ذلك رضى الله ورسوله وسعادة الدنيا والآخرة ، وقد جاء وصفهم في القرآن الكريم في قوله تعالى ( الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ) [ سورة آل عمران : 172 ] .
__________
(1) انظر فتح الباري 8لابن حجر باب يا أيها الذين آمنوا استجيبوا .
(2) فتح الباري 8/390 كتاب التفسير حديث رقم 4647 ، سنن الترمذي ، أبواب فضائل القرآن باب ما جاء في فاتحة الكتاب حديث رقم 3036 .(1/10)
ومما جاء في سبب نزول هذه الآية ما روى عكرمة عن ابن عباس قال ( لما رجع المشركون عن أحد قالوا : لا محمداً قتلتم ، ولا الكواعب ردفتم ، بئسما صنعتم ، فرجعوا ، فندب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس فانتدبوا حتى بلغ حمراء الأسد ، فبلغ المشركين فقالوا : نرجع من قابل ، فأنزل الله تعالى ( الذين استجابوا لله والرسول ) (1) . قال ابن إسحاق : كان أحد يوم السبت للنصف من شوال ، فلما كان الغد يوم الأحد سادس عشر شوال أذن مؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس بطلب العدو ، وأن لا يخرج معنا إلا من حضر بالأمس ، وإنما خرج مرهبا للعدو وليظنوا أن الذي أصابهم لم يوهنهم عن طلب عدوهم ، فلما بلغ حمراء الأسد لقيه سعيد بن أبي معبد الخزاعي فيما حدثني عبد الله بن أبي بكر فعزاه بمصاب أصحابه ، فأعلمه أنه لقي أبا سفيان ومن معه وهم بالروحاء وقد تلوموا في أنفسهم وقالوا : أصبنا جل أصحاب محمد وأشرافهم وانصرفنا قبل أن نستأصلهم وهموا بالعود إلى المدينة ، فأخبرهم معبد أن محمدا قد خرج في طلبكم في جمع لم أر مثله ممن تخلف عنه بالمدينة ،قال:فثناهم ذلك عن رأيهم فرجعوا إلى مكة ) (2) .
__________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 8/287 كتاب التفسير ، باب الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح . قال الحافظ بن حجر : أخرجه النسائي وابن مردويه ورجاله رجال الصحيح إلا أن المحفوظ إرساله عن عكرمة ليس فيه ابن عباس . ومن الطريق المرسلة أخرجه ابن أبي حاتم وغيره .
(2) انظر فتح الباري 7/467 كتاب المغازي باب الذين استجابوا الله والرسول ، حديث رقم 4077 .(1/11)
وإن تعجب فعجب أمر هؤلاء بالأمس كانوا في ساحة القتال بين قعقعة السيوف وسنابك الخيل وتعرضوا إلى أقسى المحن وأشدها ، وصباح اليوم يعودون مرة أخرى و إلى نفس المكان والعدو فلا يترددون !! نعم لا يترددون لأنهم يقرءون قول الله تعالى ( ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله ) [ سورة الشورى : 26 ] .
المبحث الثاني
من فضائل اصحاب القرآن ،
أصحاب القرآن وما يجب أن يكونوا عليه :
ورد في صحيح الإمام البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ( إنما مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت ) (1) .
وزاد الإمام مسلم من طريق موسى بن عقبة ( وإذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره ، وإذا لم يقم به نسيه ) (2) .
وصاحب القرآن هو الحافظ له المشتغل به ، الملازم لتلاوته ، ولفظ الصحبة مستعمل في أصل اللغة على إِلْفِ الشيء وملازمته ، وعلى هذا فصاحب القرآن هو الذي ألفه ولازم تلاوته بالليل والنهار ، ذلك أن مفهوم المصاحبة هو المؤالفة ومن ذلك قولهم فلان صاحب وأصحاب الجنة ، وأصحاب النار ، وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأصحاب الحديث ، وأصحاب الرأي ، وأصحاب الصفة ، وأصحاب إبل وغنم ، وصاحب كنز ، وصاحب عبادة والحديث فيه الحث على تعاهد القرآن وتلاوته ، والحذر من تعريضه للنسيان ، فإن الذي يداوم على ذلك يذل له لسانه ويسهل عليه قراءته ، فإذا هجره ثقلت عليه القراءة وشقت عليه .
فمثل صاحب القرآن الذي ألف تلاوته ( كمثل صاحب الإبل المعقلة ) مع غيرها من الإبل ، و المعقلة ، المُعَقّلة بضم الميم وفتح العين المهملة وبتشديد القاف أي المشدودة بالعقال وهو الحبل الذي يشد في ركبة البعير .
__________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ج/9/99 ح5031 ، ومسلم بشح النووي 6/316 ، ح1836 .
(2) مسلم بشرح النووي ح1837 .(1/12)
شبه درس القرآن واستمرار تلاوته بربط البعير الذي يخشى منه الشراد ، فما دام التعاهد موجودا فالحفظ موجود ، كما أن البعير مادام مشدودا بالعقال فهو محفوظ . وخص الإبل بالذكر لأنها أشد الحيوان الأنسي نفورا ، وفي تحصيلها بعد استمكان نفورها صعوبة ، ومن أجل ذلك فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ( تعاهدوا القرآن فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفصيَّا من الإبل في عُقُلها ) وفي رواية ( واستذكروا القرآن فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من النعم ) (1) . فمعاهدة القرآن تعني تجديد العهد به بملازمة تلاوته ، وكذا قوله ( واستذكروا القرآن ) فهو يعني ، واظبوا على تلاوته واطلبوا من أنفسكم المذاكرة به ولا تقصروا في معاهدته .
__________
(1) البخاري حديث رقم 5033- 5032 ، باب استذكار القرآن وتعهده .(1/13)
وقال ابن بطال : هذا الحديث يوافق الآيتين في قوله تعالى : ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) [ سورة المزمل : 5 ] . وقوله تعالى ( ولقد يسرنا القرآن للذكر )[ سورة القمر : 17 ] (1) فمن اقبل عليه بالمحافظة والتعاهد يسر له ، ومن أعرض عنه تفلت منه . وفي هذه الأحاديث الحض على محافظة القرآن بدوام دراسته وتكرار تلاوته ، وضرب الأمثال لإيضاح المقاصد ، حتى لا يضل صاحب القرآن في بيداء الغفلة فينسى ، ذلك أن نسيان القرآن إنما يكون بترك تعاهده والغفلة عنه كما أن حفظه إنما يثبت بتكراره ، والصلاة به كما قال في حديث ابن عمر الذي تقدم ذكره ( إذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره ، وإذا لم يقم به نسيه ) (2) فإذا قال الإنسان نسيت آية كذا فهو شهد على نفسه بالتفريط ، وترك معاهدته له ، وهو ذنب عظيم كما ورد في حديث أنس - رضي الله عنه - قال ( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : عرضت عليَّ أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد ، وعرضت عليَّ ذنوب أمتي فلم أر ذنباً أعظم من سورة من القرآن ، أو آية أُوتيها رجل ثم نسيها ) (3) . فمفهوم الحديث أنه لا يوجد ذنب أعظم من ذنب نسيان سورة من القرآن ، أو آية اوتيها رجل فنسيها ، وما ذلك إلا لأن من جمع القرآن فقد علت رتبته ومرتبته ، وشرف في نفسه وقومه شرفا عظيما ، وقد صار ممن يقال فيه هو من أهل الله وخاصته .
__________
(1) شرح صحيح الإمام البخاري لأبي الحسن علي بن خلف بن عبد الملك ، ابن بطال ، 10/268 كتاب فضائل القرآن باب استذكار القرآن وتعهده . طبع مكتبة الرشد الرياض الطبعة الأولى 1420 – 2000 .
(2) انظر : ص8 .
(3) سنن الترمذي 5/164 كتاب فضائل القرآن حديث 2916 وقل هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه . وسنن أبي داود 2/91 كتاب الصلاة باب كنس المسجد ح457 .(1/14)
وإذا كان كذلك فمن المناسب تغليظ العقوبة على من أخل بتلك المنزلة ، وسعى إلى إسقاطها بتركه لمعاهدة القرآن وتعهده ، والمحافظة عليه .
من صفات القراء : الأخذ بمكارم الأخلاق
روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : قدم عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر فنزل على ابن أخيه - الحر بن قيس بن حصن - وكان من النفر الذين يدنيهم عمر ، وكان القراء أصحاب مجلس عمر ومشاورته كهولا كانوا أو شبانا ، فقال عيينة لابن أخيه : يا ابن أخي هل لك وجه عند هذا الأمير فتستأذن لي عليه؟ قال : سأستأذن لك عليه . قال ابن عباس فاستأذن لعيينة ، فلما دخل قال : يا ابن الخطاب ، والله ما تعطينا الجزل ، وما تحكم بيننا بالعدل . فغضب عمر حتى همَّ بأن يقع به ، فقال الحر : يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ) [ سورة الأعراف : 199 ] . وإن هذا من الجاهلين ، فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه وكان وقَّافا عند كتاب الله ) (1) .
قال الحافظ : عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزازي ، معدود في الصحابة . وكان في الجاهلية موصوفا بالشجاعة والجهل والجفاء ، وله ذكر في المغازي ثم أسلم في الفتح وشهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حنينا فأعطاه مع المؤلفة ، وإياه عَنَى عباس بن مرداس السلمى بقوله :
أتجعلُ نهبي ونهبَ العبيـ - - - ــد بين عُيينةَ والأقرعِ
وله قصة مع أبي بكر وعمر حين سأل أبابكر أن يعطيه أرضا يقطعه إياها فمنعه عمر ، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - ( الأحمق المطاع ) .
__________
(1) فتح الباري 13/250 كتاب الاعتصام باب الإقتداء بالسنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديث رقم 7286 .(1/15)
وكان عيينة ممن وافق طليحة الأسدي لما ادعى النبوة ، فلما غلبهم المسلمون في قتال أهل الردة فر طليحة وأُسر عيينة ، فأتى به أبو بكر فاستتابه فتاب ، وكان قدومه إلى المدينة على عمر بعد أن استقام أمره وشهد الفتوح ، وفيه من جفاء الأعراب شيء . قوله ( على ابن أخيه الحر ) بلفظ ضد العبد، والحر ذكره في الصحابة أبو علي بن السكن وابن شاهين .
( والله ما تعطينا الجزل ) بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها لام ، أي الكثير ، وأصل الجزل ما عظم من الحطب . ( حتى هم أن يقع به ) أي يضربه .
( وكان وقافا عند كتاب الله ) أي يعمل بما فيه ولا يتجاوزه (1) .
ذكر أهل العلم : إن الله أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الآية بمكارم الأخلاق ، فأمر أمته بنحو ما أمره الله به ، ومحصلهما الأمر بحسن المعاشرة مع الناس ، وبذل الجهد في الإحسان إليهم ، والمداراة معهم ، و الإغضاء عنهم ، فيكون ذلك تعليم من الله لخلقه صفة عشرة بعضهم بعضا فيما ليس بواجب ، فأما الواجب فلا بد من عمله فعلا أو تركاً .
وإلى هذا المعنى أشار الراغب الأصفهاني لقوله : والمعنى خذ ما عُفِي لك من أفعال الناس وأخلاقهم وسهُل من غير كلفة ، ولا تطلب منهم الجهد ، وما يشق عليهم حتى ينفروا ، وهو كحديث ( يسروا ولا تعسروا ) (2) وكما أن في ذلك فضيلة للقراء أصحاب مشورة عمر رضي الله عنهم ، فإنهم كانوا فقهاء النفوس ، أهل لسان عربي يدرون معاني القرآن بالسليقة أكثر مما يدريها من بعدهم بالاكتساب ، فكان الفقه لهم سجية ومن أجل هذا كان عمر - رضي الله عنه - يدنيهم ويقربهم لأنهم يرشدونه إذا أخطأ ويذكرونه إذا نسي .
فضيلة حافظ القرآن :
__________
(1) فتح الباري 370 ح/7286 .
(2) فتح الباري ج/1/215 ، كتاب العلم ح/69 .(1/16)
عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( مثل المؤمن الذين يقرأ القرآن مثل الأترُجَّة ريحها طيب وطعمها طيب ، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو ، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر ) (1) .
وفي الحديث فضيلة حاملي القرآن ، واستحباب ضرب المثل للتقريب وللتوضيح وللفهم ، وأن المقصود من تلاوة القرآن العمل بما دل عليه .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران ) (2) .
قال الإمام النووي : السفرة جمع سافر ككاتب وكتبة ، والسافر الرسول ، والسفرة الرسل لأنهم يسفرون إلى الناس برسالات الله . وقيل السفرة الكتبة ، والبررة : المطيعون من البر وهو الطاعة .
والماهر الحاذق الكامل الحفظ الذي لا يتوقف ولا تشق عليه القراءة لجودة حفظه وإتقانه .
وقيل المهارة في القرآن جودة التلاوة ، بجودة الحفظ ولا يتردد فيه ، لأنه يسره الله تعالى عليه كما يسره على الملائكة فهو على مثلها في الحفظ والدرجة .
والسفرة جمع سافر وهم ملائكة الوحي ، سموا بذلك لأنهم يسفرون بين الله بين خلقه .
وقيل هم الكتبة ، والكاتب يسمى سافرا ومنه أسفار الكتاب . ومع هذا يكون وجه كونهم مع الملائكة : إن حملة القرآن يبلغون كلام الله إلى خلقه ، فهم سفراء بين رسول الله ، وبين خلقه فهم معهم أي في مرتبتهم في العبادة ) (3) .
__________
(1) مسلم بشرح النووي 6/325 ح/1857 ، باب فضل حافظ القرآن . وفتح الباري ج/9/83 ح5020 .
(2) مسلم بشرح النووي المصدر السابق ح/ 1859. وفتح الباري ج/8/883 كتاب التفسير تفسير سورة عبس ح/4937 .
(3) المفهم للإمام القرطبي 2/425 ح/670 .(1/17)
قال القاضي عياض : يحتمل أن يكون معنى كونه مع الملائكة أن له في الآخرة منازل يكون فيها رفيقا للملائكة السفرة لاتصافه بصفتهم من حمل كتاب الله تعالى .
قال : ويحتمل أن يراد أنه عامل بعملهم وسالك مسلكهم .
وأما الذي يتتعتع فيه فهو الذي يتردد في تلاوته لضعف حفظه فله أجران أجر بالقراءة وأجر بتتعتعه في تلاوته ومشقته .
قال القاضي وغيره من العلماء : وليس معناه الذي يتتعتع عليه له من الأجر أكثر من الماهر به ، بل الماهر أفضل وأكثر أجرا لأنه مع السفرة ، وله أجور كثيرة ولم يذكر هذه المنزلة لغيره ، وكيف يلحق به من لم يعتن بكتاب الله تعالي وحفظه وإتقانه وكثرة تلاوته وروايته كاعتنائه حتى مهر فيه . والحاصل أن المضاعفة للماهر لا تحصى فإن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف وأكثر ، والأجر شيءٌ مقدر ، وهذا له أجران من تلك المضاعفات ، فهنيئا لصاحب القرآن وتاليه .
في صحيح الإمام البخاري عن حذيفة - رضي الله عنه - قال ( يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقاً بعيداً ، فإن أخذتم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا ) (1) .
( يا معشر القُرَّاء ) بضم القاف وتشديد الراء مهموز جمع قارئ ، والمراد بهم العلماء بالقرآن والسُّنَّة العُبَّاد . ( استقيموا ) أي اسلكوا طريق الاستقامة وهي كناية عن التمسك بأمر الله تعالى فعلا وتركا .
وقوله ( سَبَقْتُم ) هو بفتح أوله كما جزم بذلك ابن التين وحكى غيره الضم والأول المعتمد ، زاد محمد بن يحيى الذهلي عن أبي نُعيم شيخ البخاري فيه ( فإن استقمتم فقد سبقتم ) أخرجه أبو نعيم في المستخرج .
__________
(1) فتح الباري كتاب الاعتصام حديث رقم 7282 .(1/18)
وقوله ( سبقا بعيدا ) أي ظاهرا ، ووصفه بالبعد لأنه غاية شأو السابقين ، والمراد أنه خاطب بذلك من أدرك أوائل الإسلام ، فإذا تمسك بالكتاب والسنة سبق إلى كل خير ؛ لأن من جاء بعده إن عمل بعمله لم يصل إلى ما وصل إليه من سبقه إلى الإسلام وإلا فهو أبعد منه حساً وحُكماً ( فإن أخذتم يمينا وشمالا ) أي خالفتم الأمر المذكور . وكلام حذيفة منتزع من قوله تعالى ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله . . . ) [ سورة الأنعام : 153 ] .
قال الحافظ : والذي له حكم الرفع من حديث حذيفة هذا الإشارة إلى فضل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين مضوا على الاستقامة فاستشهدوا بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أو عاشوا بعده على طريقته فاستشهدوا أو ماتوا على فرشهم (1) .
المبحث الثالث
القرآن وتلاوته
الأمر بتلاوة القرآن :
يقال تلا الكتاب تلاوة : قرأه . وتلا الكتاب والسنة اتبع ما فيهما . وتلاه تليا تبعه (2) .
ولكي يبقى المؤمن وثيق الصلة بهذا القرآن جاء الأمر بتلاوة القرآن في كثير من الآيات في القرآن الكريم من ذلك : ما خاطب الله - عز وجل - به النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين ، وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين ) [ سورة النمل : 90-91 ] . وقال تعالى (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به)[سورة البقرة:121 ] . وقال تعالى : ( ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ) [ سورة آل عمران : 113 ] .
__________
(1) انظر فتح الباري 13/257 للحافظ ابن حجر العسقلاني .
(2) المعجم الوسيط 1/87 مادة تل .(1/19)
وقال تعالى ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ) [ سورة الأنفال : 2 ] .
وقال تعالى ( قل آمنوا به أولا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للاذقان سُجَّدا ) [ سورة الإسراء : 107 ] .
وقال تعالى ( أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا ) [ سورة مريم : 58 ] . وقال تعالى ( إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ) [ سورة فاطر: 29-30 ].
فكما أن القرآن الكريم من خلال الآيات التي تقدم ذكرها دعا إلى ضرورة تلاوة القرآن الكريم وتدبر معانيه ، فإن السنة النبوية الشريفة قد جاءت مطابقة ومؤكدة لما دعا إليه القرآن الكريم .
جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله مالا ، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار ) (1) . والمراد بالقيام به العمل به تلاوة وطاعة .
وأصل الحسد : تمني زوال النعمة عن المنعم عليه ، وسببه أن الطباع مجبولة على حب الترفع على الجنس ، فإذا رأى لغيره ما ليس له أحب أن يزول ذلك عنه ليرتفع عليه ، وأهل العلم يقولون : إن الحسد ينقسم إلى قسمين : مذموم ، وغير مذموم .
__________
(1) مسلم بشرح النووي ، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه ح/1891 ، فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، باب صاحب القرآن ح/5025(1/20)
فالمذموم : أن تتمنى زوال نعمة الله عن أخيك المسلم ، سواء تمنيت مع ذلك أن تعود إليك أم لا . وهذا النوع هو الذي ذمه الله تعالى بقوله ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ) [ سورة النساء : 54 ] .
وأما غير المذموم : فقد يكون محمودا مثل : أن تتمنى زوال النعمة عن الكافر ، وعمن يستعين بها على المعصية . فهذا هو حكم الحسد بحسب حقيقته ، وأما الحسد المذكور في حديثنا هذا فهو بمعنى الغبطة فأطلق الحسد عليها مجازا . والغبطة هي أن تتمنى أن يكون لك من النعمة والخير مثل ما لغيرك من غير أن تزول عنه ، والحرص على هذا يسمى منافسة وفي معنى هذا قوله تعالى : ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) [ سورة المطففين : 26 ] . وعليه يحمل الحسد في هذا الحديث ، فكأنه قال : لا غبطة أعظم ، أو أفضل من الغبطة في هذين الأمرين . وقد نبَّه البخاري على هذا حيث بَّوب على هذا الحديث في كتابي العلم وفضائل القرآن حيث قال : ( باب الاغتباط في العلم والحكمة ) في كتاب العلم . ( وباب اغتباط صاحب القرآن ) في كتاب فضائل القرآن . وذهب الحافظ ابن حجر إلى القول بأن مراد البخاري من هذه التسمية ، بأن الحديث لما كان دالا على أن غير صاحب القرآن يغتبط صاحب القرآن بما أعطيه من العمل بالقرآن ، فاغتباط صاحب القرآن بعمل نفسه أولى إذا سمع هذه البشارة الواردة في حديث الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - (1) .
__________
(1) فتح الباري ج9/92 ، ح/5025- 5026 . مسلم بشرح النووي ج/6/238 ح/1891-1892 . المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم ج/2/445 .(1/21)
وفي صحيح الإمام مسلم من حديث أبي أمامه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه ) (1) . قال القرطبي في المفهم : وقوله ( فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا ) هذا على جهة التوسع في الإفهام ، وتحقيقه : أنه يُشفع له بسببه ، فإما من الملائكة الذين كانوا يشاهدون تلاوته ، أو مَن شاء الله تعالى ممن يشفعهم فيه بسببه ، وهذه الشفاعة على تقدير أن يكون القارئ صاحب كبيرة في تخليصه من النار ، وإن لم يكن له ذنوب شفع في ترفيع درجاته في الجنة ، أو في المسابقة إليها ، أو في جميعهما ، أو ما شاء الله منها إذ كل ذلك بكرمه تعالى وتفضله (2) .
اهتمام الصحابة بالقرآن وتلاوته :
أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - عايشوا هذه النصوص وطبقوها عمليا فإنهم كانوا يسارعون إلى تعلم القرآن أولا ثم إلى العلم بالسنة ثانيا .
ففي صحيح الإمام مسلم عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثين قد رأيت أحدهما وأنا انتظر الآخر ، حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ، ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنة .
وفي رواية الإمام البخاري ( ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة ) (3)
__________
(1) مسلم بشرح النووي ، باب فضل قراءة القرآن ج/6/330 ح/1871 .
(2) المفهم ج/2/430 ح/675 .
(3) صحيح الإمام مسلم للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج 1/26 كتاب الإيمان باب رفع الأمانة . ت محمد فؤاد عبد الباقي طبع دار إحياء التراث العربي بدون تاريخ .
صحيح الإمام البخاري لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري 4/318 كتاب الفتن باب إذا بقي في حثالة من الناس المكتبة السلفية الطبعة الأولى 1400هـ .(1/22)
كذا في هذه الرواية بإعادة ثم وفيه إشارة إلى أنهم كانوا يتعلمون القرآن قبل أن يتعلموا السنن . لماذا ؟ لأنهم كانوا يعلمون أن القرآن ربيع قلب المؤمن ، وأن القرآن هو روح الإسلام وجوهره ، وأساس التشريع فيه .
وكانوا يكثرون من قراءة القرآن وتلاوته لأنهم علموا أن الله تعالى أثنى على من كان ذلك دأبه حيث قال تعالى ( ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ) [ سورة آل عمران : 113 ] . وكان التنافس بينهم شديدا في الملازمة على قراءة القرآن وتلاوته روى البخاري في صحيحه عن أبي بردة قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن ، وبعث كل واحد منهما على مخلاف ، واليمن مخلافان (1) ، ثم قال : ( يسرا ولا تعسرا ، و بشرا ولا تنفرا ) فانطلق كل واحد منهما إلى عمله وكان كل واحد منهما إذا سار في أرضه وكان قريبا من صاحبه ، أحدث به عهدا فسلم عليه ، فسار معاذ في أرضه قريبا من صاحبه أبي موسى ، فجاء يسير على بغلته حتى انتهى إليه وإذا هو جالس وقد اجتمع إليه الناس ، وإذا رجل عنده قد جمعت يداه إلى عنقه فقال له معاذ : يا عبد الله بن قيس : أيم هذا ؟ قال هذا رجل كفر بعد إسلامه ، قال لا أنزل حتى يقتل ، قال إنما جيء به لذلك فانزل قال ما أنزل حتى يقتل فأمر به فقتل ثم نزل فقال : يا عبد الله كيف تقرأ القرآن ؟ قال : أتفوقه تفوقا ، أي ألازم قراءته ليلا ونهارا شيئا بعد شيء ، وحيناً بعد حين ، مأخوذ هذا من فواق الناقة وهو أن تحلب ثم تترك ساعة حتى تدر ثم تحلب هكذا دائما .
__________
(1) المخلاف بكسر الميم وسكون المعجمة وآخره فاء هو بلغة أهل اليمن ، وهو الكورة ، والإقليم ، والرُّستاق . وكان جهة معاذ العليا إلى صوب عدن ، وكان جهة أبي موسى السفلى . نقلا عن الحافظ بن حجر في فتح الباري عند شرحه لهذه الحديث .(1/23)
وفي رواية أخرى عند البخاري : فقال معاذ لأبي موسى : كيف تقرأ القرآن ، قال : قائما وقاعدا وعلى راحلتي وأتفوقه تفوقا ) . ثم قال عبد الله كيف تقرأ أنت يا معاذ ؟ قال : أنام أول الليل فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم فأقرأ ما كتب الله لي فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي ) (1) وهو يعني أنه جزء الليل أجزاء ، جزء للنوم ، وجزء للقراءة والقيام ، وهو يطلب الثواب من الراحة كما يطلبه في التعب ، لأن الراحة إذا قصد بها الإعانة على العبادة يثاب الإنسان عليها .
روى الشعبي عن قرظه بن كعب قال : خرجنا نريد العراق فمشى معنا عمر إلى ( صرار ) فتوضأ فغسل اثنتين ثم قال أتدرون لم مشيت معكم ؟ قالوا نحن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشيت معنا ، فقال : إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل فلا تصدوهم بالحديث فتشغلوهم ، جودوا القرآن ، وأقلوا الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وامضوا وأنا شريككم ) (2) .
__________
(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري كتاب المغازي باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن ج/8/75 ، ح/4341- 4342 .
(2) تذكرة الحفاظ للإمام الذهبي 1/5 .(1/24)
فقول عمر - رضي الله عنه - جودوا القرآن دعوة صريحة لأن يكون القرآن هو المقدم على كل شيء في حياة المؤمن ، ولو سألنا من أين جاء عمر بهذا المنهج ؟ نقول : هذا منهج اتبع فيه عمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففي سنن الترمذي عن محمد بن كعب القرطي قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول الم حرف ، ولكن ألف حرف ولام حرف و ميم حرف ) قال الترمذي ويروى هذا الحديث من غير هذا الوجه عن ابن مسعود ، وهو حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه (1) . وفي صحيح البخاري عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه ) . وفي رواية ( إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه ) (2) .
وفي صحيح الإمام مسلم من طريق عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال ( خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في الصفة فقال : ( أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بُطحانَ أو إلى العقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطع رحم ؟ فقلنا يا رسول الله نحب ذلك ، قال : أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله - عز وجل - خير له من ناقتين ، وثلاثٌ خير له من ثلاث ، وأربعٌ خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل ) (3) .
__________
(1) سنن الترمذي ج/ 5/161 كتاب فضائل القرآن ، باب في من قرأ حرفا من القرآن ما له من الأجر ح/2910.
(2) صحيح البخاري باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه ح/5027 – 5028 .
(3) صحيح مسلم باب فضل قراءة القرآن في الصلاة وتعلمه ح/1869/1870 .(1/25)
وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ( تعلموا القرآن ، واقرءوه ، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به ، كمثل جراب محشو مسكا يفوح ريحه في كل مكان ، ومثل من تعلمه فيرقد وهو في جوفه كمثل جراب وُكِئ على مسك ) (1) . وقال - صلى الله عليه وسلم - تعلموا كتاب الله وتعاهدوه وتغنوا به فو الذي نفسي بيده لهو أشُّد تفلُّتا من المخاض في العُقُل ) (2) . عن عبد الله عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : عليكم بالقرآن فتعلموه ، وعلموه أبناءكم فإنكم عنه تسألون ، وبه تجزون ، وكفى به واعظا لمن عقل ) (3) .
من أخلاق أهل القرآن :
ورد في فضل حملة القرآن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إن لله من الناس أهلين من الناس قيل من هم يا رسول الله ؟ قال : أهل القرآن هم أهل الله وخاصته ) (4) فمن أكرمه الله بالقرآن وأحب أن يكون من أهل الله وخاصته (5) فعليه الآتي :
__________
(1) الترمذي في كتاب فضائل القرآن ، انظر فيض القدير للسيوطي ج/3/336 ، ح/3327 .
(2) رواه الإمام أحمد في مسنده عن عقبه بن عامر بن الجهني ، قال الهيثمي رجاله رجال الصحيح . انظر فيض القدير شرح الجامع الصغير للسيوطي ج/3 ص /336 ح/3328 .
(3) فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام ص/22 .
(4) مسند الإمام أحمد بن محمد بن حنبل 3/127- 128 ، وسنن ابن ماجة المقدمة باب فضل من تعلم القرآن وعلمه ح215 طبع دار المعرفة بيروت 1418هـ - 1997م .
(5) فيض القدير شرح الجامع الصغير ج3/87 ، ح/2768 .(1/26)
1. أن يتلوا هذا القرآن حق تلاوته ، قال تعالى ( الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ) [ سورة البقرة : 121 ] . قال القرطبي في التفسير ( يتلونه حق تلاوته ) يتبعونه حق اتباعه ، باتباع الأمر والنهي ، فيحلون حلاله ويحرمون حرامه ، ويعملون بما تضمنه ، فإن من تتبع القرآن يهبط به على رياض الجنة . ووصف عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أهل القرآن التالين له ، المتدبرين فيما يقرؤون بقوله : هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوها من الله ، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منها . وقد روي هذا المعنى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا مر بآية رحمة سأل ، وإذا مر بآية عذاب تعوذ (1) .
وقيل في تفسير هذه الآية ( يعملون به حق عمله ) فالمؤمن العاقل إذا تلا القرآن استعرض القرآن فكان كالمرآة يرى بها ما حسن فعله وما قبح فيه ، فما حذره مولاه منه حذر منه ، وما خوفه من عقابه خافه ، وما رغب فيه مولاه رغب فيه ورجاه ، فمن كان أمره كذلك فقد تلاه حق تلاوته ورعاه حق رعايته وكان القرآن شاهدا وشفيعا وأنيسا وحرزا له من النار ، ومن كان هذا وصفه نفع نفسه وأهله وعاد على والديه وعلى ولده كل خير في الدنيا والآخرة ، قال - صلى الله عليه وسلم - ( من قرأ القرآن ، وعمل بما فيه ، أُلبس والداه تاجاً يوم القيامة ضوءُه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيكم ؛ فما ظنكم بالذي عمل بهذا ) (2) .
2. أن يتدبر ما يقرأ من القرآن : إن الله عز وجل حث خلقه على أن يتدبروا القرآن قال تعالى : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ) [ سورة ص : 29 ] .
__________
(1) الجامع لأحاكم القرآن ج/2/66 لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ، طبع دار الكتب العلمية بيروت لبنان 1413هـ -1993م .
(2) عون المعبود شرح سنن أبي داود ج/4 ص/229 ، باب في ثواب قراءه القرآن ح/1045 .(1/27)
قال تعالى : ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) [ سورة محمد : 24 ] .
قال تعالى ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ) [ سورة النساء : 82 ] .
وذلك لأن المتدبر للقرآن ، أو لما يقرأ منه يكون مراده من تلاوته التفكير والاعتبار فهو حاضر غير غافل حيث أنه في عبادة ، والعبادة لا تكون بغفلة .
ومن وصية ابن مسعود لأهل القرآن قوله ( لا تنثروه نثر الدقل ، ولا تهذوه هذ الشعر ، قفوا عند عجائبه ، وحركوا به القلوب ، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة ) (1)
وفي الصحيحين أن رجلا جاء إلى ابن مسعود فقال : ( قرأت المفصل الليلة في ركعة ) ، وفي رواية مسلم : قرأت المفصل البارحة كله ، فقال عبد الله هَذَّاً كهذِّ الشعر ؟ إنكار منه على من يسرع في قرآءته ولا يرتل ولا يتدبر . وهذُّ الشعر : الاسترسال في إنشاده من غير تدبر في معانيه . ومعنى هذا أن الشعر هو الذي إن فعل الإنسان فيه ذلك سوغ له وجاز ، وأما في القرآن فلا ينبغي مثل ذلك فيه ، بل يقرأ بترتيل وتدبر . ومن أجل هذا المعنى ورد في رواية أخرى : فقال عبد الله : هذاً كهذ الشعر إن أقواما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع ) (2) ، ومعناه أن قوما ليس حظهم من القرآن إلا مروره على اللسان فلا يجاوز تراقيهم ليصل قلوبهم ، وليس ذلك هو المطلوب بل المطلوب تعلقه وتدبره ليكون أكثر وقوعاً في القلب .
__________
(1) انظر كتاب أخلاق حملة القرآن لأبي بكر محمد بن الحسين بن عبد الله الآجوري ص 19 طبع دار الكتاب العربي بيروت الطبعة الأولى 1407هـ - 1987م .
(2) مسلم بشرح النووي ج/6 /345 ، ح/1905 .(1/28)
روى الإمام مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال كنت أنا ومحمد بن يحيى بن حبان جالسين فدعا محمد رجلا فقال له أخبرني بالذي سمعت من أبيك ، فقال الرجل : أخبرني أبي أنه أتى زيد بن ثابت فقال له : كيف ترى في قراءة القرآن في سبع ؟ فقال زيد : حسنٌ ، ولأن أقرأه في نصفٍ أو عشر أحبُّ إلي ، وسلني لم ذاك ؟ قال فإني أسألك ، قال زيد لكي أتدبره وأقف عليه (1) .
وفي فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام قوله ( يا أهل القرآن ، لا توسدوا القرآن ، واتلوه حق تلاوته آناء الليل والنهار ، وتقنوه (2) وتغنوه واذكروا ما فيه لعلكم تفلحون ) (3)
ومن أجل التدبر وضرورته في التلاوة ذمت السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها من لم يتدبر القرآن عند ما سئلت عن رجال يقرأ أحدهم القرآن في ليلة مرتين أو ثلاثا فقالت : قرءوا ولم يقرءوا كنت أقوم مع رسول الله صلى الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة التمام فيقرأ بالبقرة وآل عمران والنساء فلا يمر بآية فيها استبشار إلا دعا ورغب ، ولا بآية فيها تخويف إلا دعا واستعاذ .
وروي عن مكحول الشامي قوله : كان أقوياء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرءون القرآن في سبع ، وبعضهم في شهر وبعضهم في شهرين وبعضهم في أكثر من ذلك ومن استطاع أن يقرأ في أقل من شهر فله ذلك على ألا يتعدى السبعة أيام .
__________
(1) الاستذكار لابن عبد البر ج7/17 ، ح474 . وفي الموطأ ، باب ما جاء في تحزيب القرآن
(2) قال أبو عبيد ( تغنوه ) يقول إجعلوه غناكم من الفقر ولا تعدوا الإقلال معه فقراً . وقوله ( تقنوه ) إغتنوه كما تقتنوا الأموال . فضائل القرآن لأبي عبيد ص/29 – 30 .
(3) فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم ص/29 30 .(1/29)
روى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( اقرأ القرآن في شهر قلت إني أجد قوه ، قال اقرأه في عشر ، قال إني أجد قوة ، قال اقرأه في سبع ولا تزد على ذلك ) (1) . وقد ذهب العلماء إلى استحباب أن يقرأ صاحب القرآن ، القرآن في كل سبعة أيام ليكون له ختمه في كل اسبوع وذلك لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - اقرأ القرآن في سبع ولم ينزل عن سبعٍ . وإن قرأه في ثلاث فحسنٌ لما روي عن عبد الله بن عمرو قال قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن بي قوة قال : ( اقرأه في ثلاث ) (2) . فأما إن قرأه في أقل من ثلاث فقد روي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال : أكره أن يقرأه في أقل من ثلاث وذلك لما روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث ) (3) . وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت ( . . . . لا أعلم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ القرآن كله في ليلة . . . ) (4) وهذا كله من باب الإرشاد إلى الاقتصاد في العبادة والتوجيه إلى تدبر القرآن ، والتأدب بآدابه ، والتخلق بأخلاقه .
فمن أخلاق حامل القرآن : أن يتأدب بآداب القرآن ، ويتخلق بأخلاق شريفة تبين به عن سائر الناس ممن لا يقرأ القرآن . فأول ما ينبغي له أن يستعمل تقوى الله عز وجل في السر والعلانية ، باستعمال الورع في مطعمه ومشربه وملبسه ومسكنه .
__________
(1) صحيح البخاري كتاب فضائل القرآن ، باب في كم يقرأ القرآن حديث رقم 5054 .
(2) عون المعبود شرح سنن أبي داود ج/187 ، ح /1888 .
(3) المغني لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامه ج/2/613 دار عالم الكتب الطبعة الخامسة 1426 هـ - 2005 م .
(4) مسلم بشرح النووي ج6/269 ، ح/1736 باب جامع صلاة الليل .(1/30)
ومن أخلاق حملة القرآن أن يجعل هذا القرآن ربيعا لقلبه فيكثر من قراءته كلما استطاع يروى عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : ( ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون ، وبنهاره إذ الناس مفطرون ، وبورعه إذا الناس يخلطون ، وبتواضعه إذ الناس يختالون وبحزنه إذ الناس يفرحون ، وببكائه إذ الناس يضحكون ، وبصمته إذ الناس يخوضون ) ونختم بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( يجيء القرآن يوم القيامة إلى الرجل ، كالرجل الشاحب فيقول له من أنت ؟ فيقول : أنا الذي أظمأت نهارك وأسهرت ليلك ) (1) .
المبحث الرابع
طريقة التلاوة ومن أين يؤخذ ،
استحباب تحسين الصوت بالقرآن :
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ( ما أذن الله لشيء ما أذن لنبي حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به ) (2) ، وفائدة هذا الخبر حث القارئ على إعطاء القراءة حقها من ترتيلها وتحسينها ، وتطييبها بالصوت الحسن الجميل ما أمكن ذلك ، فقد قال - صلى الله عليه وسلم - ( زينوا القرآن بأصواتكم ) (3) ، وقال - صلى الله عليه وسلم - ( ليس منا من لم يتغن بالقرآن ) (4) ، وقد اختلف السلف في معنى قوله ( يتغنى بالقرآن ) على تأويلات :
أحدها : أن معناه أنه يستغني به يقال : تغنيت وتغانيت بمعنى استغنيت قال بذلك الإمام سفيان بن عيينه رحمه الله ، وأشار النووي إلى أن المعنى يستغني به عن الناس ، وقيل عن غيره من الأحاديث والكتب . قال القاضي عياض : والقولان منقولان عن ابن عيينه (5) .
__________
(1) سنن ابن ماجة 4/239 كتاب الأدب باب ثواب القرآن ح3781 ومسند الإمام أحمد بن حنبل 5/352
(2) مسلم بشرح النووي ج/6/320 ، ح/1844 . وفتح الباري ج/9/86 ، ح/5023 .
(3) سنن أبي داود ، باب كيف يستحب الترتيل في القراءة ح/1465 .
(4) البخاري في كتاب التوحيد ، باب قول الله تعالى : واسروا قولكم ، ح/7527 .
(5) مسلم بشرح النووي ج6/319 .(1/31)
ثانيها : أن معناه يجعله مكان الغناء وبدلاً منه ، فيستديم تلاوته ، ويستطيبه كما يستطيب الغناء .
وثالثها : أن معناه يجهر به كما فسره الصحابي راوي الحديث ، وهذا أشبه وأقرب إلى الصواب لأن العرب تسمي كل من رفع صوته ووالى به غانيا ، وفعله ذلك غناء وإن لم يلحنه تلحين الغناء وعلى هذا فسره الصحابي وهو أعلم بالمقال (1) .
ومن هنا فقد ذهبت طائفة من أهل العلم إلى القول بأن معنى ( يتغنى به ) معناه يحسن قراءته ويترنم به ، ويرفع صوته به ، مستشهدين في ذلك بقول أبي موسى الأشعري للنبي - صلى الله عليه وسلم - : لو علمت أن رسول - صلى الله عليه وسلم - يستمع قراءتي لحبرتها تحبيرا ) رداً على قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي موسى : لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود (2) .
وعلى كل فقد ثبت أن تحسين الصوت بالقراءة وترتيلها أمر مستحب غير مكروه ، والأحاديث الواردة في ذلك محمولة على التحزين والتشويق ، قال بذلك أبو عبيد وأضاف : واختلفوا في القراءة بالألحان فكرهها مالك والجمهور لخروجها عما جاء القرآن له من الخشوع والتفهم ، فقد قال الإمام مالك رحمه الله : ينبغي أن تنزه أذكار الله وقراءة القرآن عن التشبه بأحوال أهل المجون والباطل ، فإنها حق ، وجد ، وصدق . والغناء هزل ولهو ولعب .
قال القرطبي وهذا الذي قاله مالك وجمهور العلماء هو الصحيح بدليل ما ذكر ، وبأدلة أخرى :
__________
(1) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم ، للإمام الحافظ أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي ج/2/422 ، ح/667 .
(2) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، ج/9/115 باب حسن الصوت بالقراءة بالقرآن ح/5048 ، ومسلم بشرح النووي ج/6/321 ، ح/1849 .(1/32)
منها أن كيفية قراءة القرآن قد بلغتنا متواترة عن كافة المشايخ جيلا فجيلا إلى العصر الكريم ، إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وليس فيها تلحين ولا تطريب مع كثرة المتعمقين والمتنطعين في مخارج الحروف ، وفي المد والإدغام والإظهار وغير ذلك من كيفية القراءات وهذا قاطع .
ومنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قال ( لست من دَدٍ ولا الدََّدُ مني ) (1) والدََّدُ هو اللعب واللهو ، ومعنى ذلك أن اللعب لا يليق بأحواله - صلى الله عليه وسلم - فكيف بقرآنه وقراءته ؟ .
ومنها التطريب والترجيع يؤدي إلى الزيادة في القرآن ، والنقص منه ، وهما ممنوعان ، فالمؤدي إليهما ممنوع ، وبيانه : أن التطريب والتلحين يحتاج من ضروراته أن يمد في غير موضع المد ، و ينقص مراعاة للوزن كما هو معلوم عند أهله .
ومنها أنه يؤدي إلى تشبيه القرآن بالشعر وقد نزهه الله عن الشعر وأحواله حيث قال تعالى ( إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر ) [ سورة الحاقة : 40-41 ] (2) .
وخلاصة ذلك نقول إنه قد ثبت من خلال الأحاديث المتقدمة أن تحسين الصوت بالقرآن وتطريبه أمر مستحب عند الجميع في هذه المسألة ، وإنما موضع الخلاف هو فيما إذا لم يغير لفظ القرآن بزيادة أو نقصان ، أو يبهم معناه بترديد الأصوات فلا يفهم معنى القرآن فإن هذا لا شك في تحريمه .
قراءة القرآن على أهل الفضل والحذاق فيه :
روى الإمام مسلم في الصحيح عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأُبي ( إن الله أمرني أن أقرأ عليك ) قال:آلله سماني لك ؟ ( قال الله سماك لي ) قال فجعل أُبيّ يبكي) (3) .
__________
(1) رواه البيهقي قي السنن الكبرى ج/10/217 .
(2) المفهم للإمام القرطبي ج/2/421 .
(3) مسلم بشرح النووي ج/6/324 باب فضيلة حافظ القرآن ح/1857 ، 1959 ، 1960 .(1/33)
وفي الرواية الأخرى : عن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بن كعب : ( إن الله أمرني أن أقرأ عليك : لم يكن الذين كفروا ) قال وسماني لك ؟ قال : نعم قال : فبكى ) (1) .
قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ( إن الله أمرني أن اقرأ عليك ) إنما كان ذلك ليلقن عنه أبي كيفيه القراءة مشافهة وصفتها ، وليبين طريق تحميل الشيخ للراوي بقراته عليه ، وهذه إحدى طرق تحمل الحديث .
وكذلك ورد في الحديث أن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( اقرأ عليَّ القرآن ) فقلت يا رسول الله اقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : ( إني أشتهي أن أسمعه من غيري ) فقرأت النساء حتى إذا بلغت ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ) [ سورة النساء : 41] . قال : حسبك (2) . ففي هذا الحديث بيان سنة قراءة الطالب على الشيخ وهو أيضا طريق من طرق تحمل الحديث .
قال ابن بطال في تعقيبه على حديث بن مسعود : يحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - أحب أن يسمعه من غيره ليكون عرض القرآن سنة ، ويحتمل أن يكون لكي يتدبره ويتفهمه ، وذلك أن المستمع أقوى على التدبر ، ونفسه أخلى وأنشط لذلك من القارئ لاشتغاله بالقراءة وأحكامها ، وهذا بخلاف قراءته هو على أبي بن كعب فإنه أراد أن يعلمه كيفية أداء القراءة ومخارج الحروف ونحو ذلك .
قال الإمام النووي : وفي الحديث فوائد كثيرة منها :
1. استحباب قراءة القرآن على الحذاق فيه ، وأهل العلم به والفضل ، وإن كان القارئ أفضل من المقروء عليه .
2. ومنها المنقبة الشريفة لأبي بقراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يعلم أحد من الناس شاركه في هذا .
__________
(1) مسلم بشرح النووي المصدر السابق .
(2) فتح الباري ج/9/117 ، باب من أحب أن يستمع القرآن من غيره ح/5049 ، 5050 . وهو عند مسلم في الصحيح .(1/34)
3. ومنها منقبة أخرى له بذكر الله تعالى له ونصه عليه في هذه المنزلة الرفيعة .
4. ومنها البكاء للسرور والفرح مما يبشر الإنسان به ويعطاه من معالي الأمور .
5. وأما قوله ( آلله سماني لك ) يفهم منها أن أبيا أراد أن يتحقق هل نص عليه أو على رجل فيؤخذ منه الاستثبات في المحتملات .
ما الحكمة من قراءته - صلى الله عليه وسلم - على أُبي ؟
قال النووي : والمختار أن سببها أن تستن الأمة بذلك في القراءة على أهل الإتقان والفضل ويتعلموا آداب القراءة ، ولا يأنف أحد من ذلك .
وقيل للتنبيه على جلالة أبي وأهليته لأخذ القرآن عنه . وكان يعُدُّه - صلى الله عليه وسلم - رأسا وإماما في إقراء القرآن ، وهو أجل ناشرته أو من أجلهم .
وأما تخصيص هذه السورة فلأنها وجيزة جامعة لقواعد كثيرة من أصول الدين وفروعه ومهماته ، والإخلاص وتطهير القلوب .
وقيل لما تضمنته من ذكر الرسالة ، والصحف والكتب في قوله تعالى : ( رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة فيها كتب قيمة ) [ سورة البينة : 2-3 ] .
أيهما أفضل القراءة من المصحف أم عن ظهر قلب ؟ :
روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ( لا حسد إلا على اثنتين رجل اتهاه الله الكتاب وقام به آناء الليل ، ورجل أعطاه الله مالا فهو يتصدق به آناء الليل وآناء النهار ) .(1/35)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( لا حسد إلا في اثنتين : رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار ، فسمعه جار له فقال : ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثلما يعمل ، ورجل آتاه الله مالا فهو يهلكه في الحق ، فقال ليتني أوتيت مثلما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل ) (1) . فالحديث بروايتيه يتعلق بصاحب القرآن الذي هو مداوم لتلاوته صباح مساء ، عامل بما فيه ، متأدب بآدابه ، متخلق بأخلاقه ، لا ينفك يفارقه هذا القرآن ، ومن هنا يبرز سؤال هل التلاوة والقراءة في المصحف أفضل وأكثر أجرا أم القراءة عن ظهر قلب ؟ وللإجابة على هذا التساؤل أشير إلى ما روى البخاري في صحيحه من حديث سهل بن سعد أن امرأة جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله جئت لأهب لك نفسي . . . ، في هذا الحديث قال رجل يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( ماذا معك من القرآن ) قال معي سورة كذا ، وسورة كذا ، وسورة كذا عدها ، قال : ( أتقرؤهن عن ظهر قلبك ؟ ) قال نعم قال : ( اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن ) (2) . فترجمة الإمام البخاري لهذا الحديث – باب القراءة عن ظهر القلب – فيه دلالة على فضل القراءة عن ظهر القلب لأنها أمكن في التوصل إلى التعلم والتدبر .
__________
(1) فتح الباري ج/9/91 ، باب اغتباط صاحب القرآن ح/5520 /5526 .
(2) فتح الباري ج/9/98 ، باب القراءة عن ظهر قلب ح/5030 .(1/36)
ولكن بعضهم كالحافظ ابن كثير اعترض على هذا العنوان وذهب إلى أن ليس به دلالة على أن تلاوة القرآن من المصحف أفضل من غيرها فقال : إن كان البخاري أراد بهذا الحديث الدلالة على أن تلاوة القرآن عن ظهر قلب أفضل من تلاوته نظرا من المصحف ففيه نظر ، لأنها قضية عين فيحتمل أن يكون الرجل كان لا يحسن الكتابة ، وعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك فلا يدل ذلك على أن التلاوة عن ظهر قلب أفضل في حق من يحسن ومن لا يحسن.وأيضا فإن سياق هذا الحديث إنما هو لاستثبات أنه يحفظ تلك السور عن ظهر قلب ليتمكن من تعليمه لزوجته ، وليس المراد أن هذا أفضل من التلاوة نظرا ولا عدمه . وكأني بالحافظ ابن حجر يميل إلى ما ذهب إليه الإمام البخاري فإنه قد عقب على اعتراض الحافظ ابن كثير بقوله : وقد صرح كثير من العلماء بأن القراءة من المصحف نظرا أفضل من القراءة عن ظهر قلب ، واستشهد بما روى أبو عبيد في ( فضائل القرآن ) من طريق عبيد الله بن عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - رفعه قال ( فضل قراءة القرآن نظرا على من يقرؤه ظهرا كفضل الفريضة على النافلة ) وأشار إلى ضعف إسناد هذا الخبر . و استشهد كذلك بما روي من طريق ابن مسعود موقوفا ( أديموا النظر في المصحف ) ثم قال : وإسناده صحيح . ثم أردف قائلا : ومن حيث المعنى أن القراءة في المصحف أسلم من الغلط ، لكن القراءة عن ظهر قلب أبعد من الرياء وأمكن للخشوع .
والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص ، فقد أخرج ابن أبي داود بإسناد صحيح عن أبي أمامه : اقرءوا القرآن ولا تغرنكم هذا المصاحف المعلقة فإن الله لا يعذب قلباً وعى القرآن (1) . والله تعالى أعلم ؛؛؛؛؛؛
الخاتمة
__________
(1) فتح الباري ج/9/99 .(1/37)
ونختم هذا البحث بذكر بعض ما ورد من أحاديث تبين أو تذكر فضل كلام الله - عز وجل - الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه على سائر الكلام ، ليرى المرء فضل وشرف كلام الله - عز وجل - الذي لا يشبهه كلام ولا يدانيه . وليرى كذلك شرف أصحاب أهل القرآن وحملته .
ورد في سنن الترمذي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال ( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول الله - عز وجل - من شغله القرآن وذكري عن مسألتي ، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين ، وفضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه ) (1) .
وفي صحيح الإمام البخاري عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : خيركم من تعلم القرآن وعلمه ) . وفي رواية أخرى لعثمان - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ( إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه ) (2) .
__________
(1) سنن الترمذي ج/5/169 ، كتاب فضائل القرآن ح/2926 .
(2) فتح الباري كتاب فضائل القرآن ج/9/93 ح/527 و 528 .(1/38)
فدلالة هذين الحديثين أن خير الناس باعتبار التعلم والتعليم ، من تعلم القرآن وعلمه ، وما ذلك إلا لأن القرآن أشرف العلوم ، فيكون من تعلمه وعلمه لغيره أشرف ممن تعلم غير القرآن وإن علمه . ولا شك أن الجامع بين تعلم القرآن وتعليمه مكمل لنفسه ولغيره ، جامع بين النفع القاصر ، والنفع المتعدي ، ولهذا كان أفضل . وهو يعتبر بذلك من جملة ما عنى الله سبحانه وتعالى بقوله ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ) [ سورة فصلت : 33 ] . فالدعاء إلى الله يقع بأمور شتى من جملتها تعليم القرآن وهو أشرف جميع العلوم ، والقائم بذلك له من الأجر والثواب والرفعة والشرف بقدر ما له من الإخلاص . ولقد أثبت لصاحب القرآن هذه المكانة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فلقد روى الإمام مسلم في صحيحه أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بعسفان ، وكان عمر يستعمله على مكة ، فقال من استعملت على أهل الوادي ؟ قال : ابن أبزى . قال ومن ابن أبزى ؟ قال : مولى من موالينا ، قال : فاستخلفت عليهم مولى ؟ قال : إنه قارئ لكتاب الله ، وإنه عالم بالفرائض ، قال عمر : أما إن نبيكم - صلى الله عليه وسلم - قد قال : ( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين ) (1) . فقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ( إن الله يرفع بهذا الكتاب ) يعني أن صاحب القرآن يناله الشرف الرفيع ، ويكرم في الدنيا والآخرة ، وذلك بسبب الاعتناء به والعلم به والعمل بما فيه . نسأل الله أن نكون من أهل القرآن ، التالين له حق تلاوته ، العاملين به ، المحلين لحلاله ، المحرمين لحرامه . كما نسأله سبحانه وتعالى أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ، ونور أبصارنا ، وجلاء أحزاننا وهمومنا ، ورفيقنا في الدنيا ، وشفيعنا بعد الممات .
__________
(1) المفهم لما أشكل من صحيح مسلم للقرطبي ج/2/446 ح/690 .(1/39)
وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين ، وعلى آله وصحابته أجمعين ، والحمد لله رب العالمين .
فهرس الهوامش(1/40)