أين نحن من هؤلاء (22) :
أنهلك وفينا الصالحون ؟
عبد الملك القاسم
دار القاسم
مقدمة
الحمد لله الذي خصَّ هذه الأمة بالخيرية, والصلاة والسلام على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر, نبينا محمد, وعلى آله صحبه أجمعين, وبعد:
فإن من تأمل في حياة المسلمين اليوم وجد ان البعض منهم قد أهمل القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وقد لبس الشيطان في ترك هذه الشعيرة العظيمة بأعذار واهية.
وللرغبة في نفع نفسي وإخواني المسلمين, أقدم الجزء ( الثاني والعشرون) من سلسلة " أين نحن من هؤلاء " وهو مختص بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
جعل الله أعمالنا صواباً خالصة لوجهه الكريم.
مدخل
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " هو القطب الأعظم في الدين , وهو المهم الذي ابتعث الله تعالى له النبيين أجمعين , ولو طوي بساطه , وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة , واضمحلت الديانة , وعمت الفترة , وفشت الضلالة , وشاعت الجهالة , واستشرى الفساد , واتسع الخرق , وخربت البلاد , وهلك العباد , ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد "(1) .
ولقد جعل الله ـ تعالى ـ حماية العقيدة, وصيانة الفضيلة, وعز الأمة والفلاح للمؤمنين مَنوطاً بالقيام بهذا الواجب العظيم,
قال تعالى { وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [آل عمران : 104]
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منزلته في الإسلام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحياء 2/ 302 .
رفيعة, وقد عَدَّه بعض العلماء الركن السادس من أركان الإسلام.
وقدمه الله ـ عز وجل ـ على الإيمان, كما في قوله تعالى:(1/1)
{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } [آل عمران : 110].
وقدمه الله ـ عز وجل ـ في سورة التوبة على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة, فقال تعالى : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة : 71]
وفي هذا التقديم إيضاح لِعِظَمِ شأن هذا الواجب وبيان لأهميته في حياة الأفراد , والمجتمعات والشعوب , وبتحقيقه والقيام به تصلح الأمة ويكثر فيها الخير ويضمحل الشر ويقل المنكر , وبإضاعته تكون العواقب الوخيمة والكوارث العظيمة , والشرور الكثيرة , وتتفرق الأمة وتقسو القلوب أو تموت , وتظهر الرذائل وتنتشر ويظهر صوت الباطل ويفشو المنكر .
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم درجات تغيير المنكر بقوله صلى الله عليه وسلم " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان "(1) .
قال ابن تيميه ـ رحمة الله تعالى ـ ( ومن لم يكن في قلبه بغض ما يبغض الله ورسوله من المنكر الذي حرَّمه من الكفر والفسوق والعصيان , لم يكن في قلبه الإيمان الذي أوجبه الله تعالى عليه , فإن لم يكن مبغضاً لشيء من المحرمات أصلاً لم يكن معه إيمان أصلاً )
جاء رجل إلى عمر بن الخطاب ـ رضي الله تعالى عنه ـ فقال له : إني أعمل أعمال الخير كلها إلا خصلتين : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ ( لقد طمست سهمين من سهام الإسلام إن شاء الله غفر لك وإن شاء عذبك ) .(1/2)
قال شيخ الإسلام ابن تيميه ـ رحمة الله تعالى ـ (والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الكفاية باتفاق المسلمين, وكل واحد من الأمة مخاطب بقدر قدرته, وهو من أعظم العبادات ).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رواه مسلم .
ثم قال ـ رحمه الله تعالى ـ في ضابط هذا العمل : وليس لأحد أن يزيل المنكر بما هو أنكر منه : مثل أن يقوم واحد من الناس يريد أن يقطع يد السارق , ويجلد الشارب , ويقيم الحدود , لأنه لو فعل ذلك لأفضى إلى الهرج والفساد , لأن كل واحد يضرب غيره ويدعي أنه استحق ذلك , فهذا مما ينبغي أن يقتصر فيه إلى ولي الأمر المطاع كالسلطان ونوابه .
وكذلك دقيق العلم الذي لايفهمه إلا خواصُّ الناس .
وجماع الأمر في ذلك بحسب قدرته .
وإنما الخلاف فيما إذا غلب على ظن الرجل أن أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر لا يطاع فيه هل يجب عليه حينئذ ؟ على قولين :
أصحهما أنه يجب وإن لم يقبل منه إذا لم يكن مفسدة الأمر راجحة على مفسدة الترك, كما بقي نوح عليه السلام ألف سنة إلا خمسين عاماً ينذر قومه.
ولما قالت الأمة من أهل القرية الحاضرة البحر لواعظي الذين يعدون في السبت { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [الأعراف : 164]
أي نقيم عذرنا عند ربنا, وليس هداهم علينا, بل الهداية إلى الله (1) .
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه يقول : مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون الخمر فأنكر عليه من كان معي , فأنكرت عليه , وقلت له : إنما حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم . (2) .
أخي المسلم:(1/3)
قال ابن تيمية ـ رحمة الله ـ وفي الجملة فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية , فإذا غلب على ظنه أن غيره لا يقوم به تَعينَ عليه ووجب عليه ما يقدر عليه من ذلك , فإن تركه كان عاصياً لله ولرسوله , وقد يكون فاسقاً وقد يكون كافراً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)المستدرك على مجموع الفتاوى 3/203 .
أعلام الموقعين ( 3/16 ) .
وينبغي لمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن يكون فقيهاً قبل الأمر , رفيقاً عن الأمر , ليسلك أقرب الطرق ي تحصيله , حليماً بعد الأمر , لأن الغالب أن لا بد أن يصيبه أذى كما قال تعالى { يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [لقمان : 17]
قال الشيخ تقي الدين ـ رحمه الله تعالى ـ : في قوله - صلى الله عليه وسلم - " وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " أنه لم يبق بعد هذا الإنكار بالقلب آخر حدود الإيمان , ليس مراده أن من لمن ينكر لم يكن معه من الإيمان حبة خردل , ولهذا قال : " وليس وراء ذلك " فجعل المؤمنين ثلاث طبقات , فكل منهم فعل الإيمان الذي يجب عليه .
قال : وعلم بذلك أن الناس يتفاضلون في الإيمان الواجب عليهم بحسب استطاعتهم مع بلوغ الخطاب إليهم كلهم(1) .
ومن لم يحب ما أحبه الله تعالى ـ وهو المعروف ـ ويبغض ما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المستدرك على مجموع الفتاوى ابن تيمية 3/204 .
أبغضه الله تعالى ـ وهو المنكر ـ لم يكن مؤمناً, فلهذا لم يكن وراء إنكار المنكر بالقلب حبة خردل من إيمان. ولا يمكن أن يحب جميع المنكرات بالقلب إلا إن كان كافراً, وهو الذي مات قلبه, كما سُئِل بعض السلف عن ميت الأحياء في قولهم:
ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الأحياء(1/4)
فقال : هو الذي لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً , لكن من الناس من ينكر بعض الأمور دون بعض , فيكون في قلبه إيمان ونفاق , كما ذكر ذلك من ذكره من السلف حيث قالوا: القلوب أربعة : قلب أجرد فيه سراج يزهر , فذلك قلب المؤمن . وقلب أغلف فهو, قلب الكافر. وقلب منكوس , فذلك قلب المنافق. وقلب فيه مادتان, مادة تمده بالإيمان, ومادة تمده بالنفاق. فذلك خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً(1) .
وقد قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المستدرك على مجموع الفتاوى ابن تيمية 3/204 .
" فعند قلة الدعاة وعند كثرة المنكرات وعند غلبة الجهل كحالنا اليوم, تكون الدعوة فرض عين على كل واحدٍ بحس طاقته "(1) .
أما من يتأخرون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحججٍٍ واهية , وأعذار متتالية , فقد قال عنهم بان تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ : ( وأقوام ينكلون عن الأمر والنهي والقتال , الذي يكون به الدين كله لله , وتكون كلمة الله هي العليا, لئلا يفتنوا , وهم قد سقطوا في الفتنة .. وهذه حال كثير من المتدينين, يتركون ما يجب عليهم من أمر ونهي وجهاد يكون به الدين كله لله, لئلا يفتنوا بجنس الشهوات, وهم قد وقعوا في الفتنة التي هي أعظم مما زعموا أنهم فروا منه ) (2).
وتارك الاحتساب شريك في الإثم مع فاعل المنكر لقوله تعالى { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعا ً } [النساء : 140].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدعوة وأخلاق الدعاة ص16 .
مجموع الفتاوى (28/167) ملخصاً .(1/5)
قال القرطبي ـ رحمه الله ـ : ( فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء , وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية أو عملوا بها . فإن لم يقدر النكير عليهم , فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية ..) . ،
وقال ـ عز وجل ـ في الآية الأخرى: { وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [المائدة :62 ـ 63] .
فالآية الأولى توبيخ للمسارعين في الإثم, والآية الثانية: توبيخ للعلماء لتركهم النهي.
وقال بعض العلماء ( ما في القرآن آية أشد توبيخا ً للعلماء من هذه الآية ولا أخوف عليهم ).
وقال الضحاك : ( ما في القرآن آية أخوف عندي منها .. لا ننهى ) .
وبين بعض المفسرين أن ذم تاركي النهي, أبلغ وأقوى
وأشد لتفريقهم بين معنى العمل والصنيع فإن العمل يكون صناعة إذا صار مستقراً أو متمكناً وراسخاً, فجعل ذنب المسارعين ذنباً غير راسخ, والعلماء التاركين للنهي ذنبهم راسخ.
قال الحسن : لقد أدركت أقواماً كانوا أأمر الناس بالمعروف , وأأخذهم به , وأنهى الناس عن المنكر وأتركهم له , ولقد بقينا في أقوام أمر الناس بالمعروف وأبعدهم منه , وأنهى الناس عن المنكر وأوقعهم فيه , فكيف الحياة مع هؤلاء(1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حلية الأولياء (2/155) .
بواعث الأمر بالمعروف(1/6)
أعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تارة يحمل عليه رجاء ثوابه , وتارة خوف العقاب في تركه , وتارة الغضب لله على انتهاك محارمه , وتارة النصيحة للمؤمنين والرحمة لهم , ورجاء إنقاذهم مما أوقعوا أنفسهم فيه من التعرض لغضب الله وعقوبته في الدنيا والآخرة , وتارة يحمل عليه إجلال الله وإعظامه ومحبته , وأنه أهل أن يطاع فلا يعصى , ويذكر فلا ينسى , ويشكر فلا يكفر , وأن يفتدى من انتهاك محارمه بالنفوس والأموال ـ كما قال بعض السلف : وددت أن الخلق كلهم أطاعوا الله , وأن لحمي قرض بالمقاريض .
وكان عبدا لملك بن عمر بن عبدا لعزيز يقول لأبيه:
وددت أني غلت بي وبك القدور في الله عز وجل.
ومن لحظ هذا المقام والذي قبله هان عليه كل ما يلقى من الأذى في الله تعالى , وربما دعا لمن آذاه ـ كما قال ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ضربه قومه , فجعل يمسح الدم عن وجهه
ويقول " رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون "(1) .
وبكل حال يتعين الرفق في الإنكار . قال سفيان الثوري : ( لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فيه خصال ثلاث : رفيق بما يأمر , رفيق بما ينهى , عدل بما يأمر , عدل بما ينهى , عالم بما يأمر عالم بما ينهى ) .
وقال الإمام أحمد : (الناس محتاجون إلى مداراة ورفق الأمر بالمعروف بلا غلظة إلا رجل معلن بالفسق فلا حرمة له , قال : وكان أصحاب ابن مسعود إذا مروا بقوم يرون منهم ما يكرهون يقولون ك مهلاً رحمكم الله مهلاً
رحمكم الله .
وقال رحمه الله: ( يأمر بالرفق والخضوع, فإن أسمعوه ما يكره لا يغضب فيكون يردي ينتصر لنفسه ) (2).
قال النووي ـ رحمه الله ـ : إنما يأمر وينهى من كان عالماً بما يأمر به وينهى عنه , وذلك يختلف باختلاف الشيء , فإن كان من الواجبات الظاهرة ك والمحرمات المشهورة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رواه أحمد .
جامع العلوم والحكم 2/255 .(1/7)
كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها فكل المسلمين علماء بها , وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد ولم يكن للعوام مدخل فيه , ولا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء ) (1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : ( علينا أن نعرف المنكر معرفة تميز بينه وبين المباح والمكروه والمستحب والواجب حتى نتمكن بهذه المعرفة من اتقائه واجتنابه , كما نعرف سائر المحرمات , إذ الفرض علينا تركها , ومن لم يعرف المنكر لا جملةً ولا تفصيلاً لم يتمكن من قصد اجتنابه , والمعرفة الجملية كافية بخلاف الواجبات , فغن الغرض لما كان فعلها , والفعل لا يتأتى إلا مفصلاً وجبت معرفتها على سبيل التفصيل ) (2) .
أخي المسلم:
ضُرب محمد بن المنكدر وأصحاب له في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر , وأنكر الإمام عماد الدين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شرح مسلم (2/32) .
المجموعة السعدية 2/124 .
الجمَّاعيلي المقدسي ـ رحمه الله ـ على فساق وكسر ما معهم , حتى غشي عليه . (1)
ولمن أصابه الوهن والضعف والخور وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ : ( وأي دينٍ وأي خيرٍ في من يرى من يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضاع ودينه يترك وسنة رسوله يرغب عنها , وهو بارد القلب ساكت اللسان شيطان ناطق . وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم فلا مبالاة بما جرى على الدين , ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتبذل , وجد واجتهد واستعمل مراتب الإنكار الثلاث حسب وسعه , وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون وهو موت القلب , فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل ) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : ومن لم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(1/8)
نزهة الفضلاء (3/1533) .
يكن في قلبه بغض ما يبغضه الله ورسوله من المنكر الذي حرمه , من الكفر والفسوق والعصيان ,لم يكن في قلبه الإيمان الذي أوجبه الله عليه , فإن لم يكن مبغضاً لشيء من المحرمات أصلاً لم يكن معه إيمان أصلاً ) (1) .
أما مجالس المنكر والتي تظهر فيها المعاصي فقد قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ ( لا يحل لأحد أن يحضُرَ مجالس المنكرات باختياره لغير ضرورة , وعليه أن ينكر ولو بقلبه ) (2) .
وقال:خلال : أخبرني عبدا لله بن صالح بطروس ,قال : قال لي ابو عبد الله : ( يعني الإمام احمد بن حنبل : يا أبا حفص : يأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه بينهم مثل الجيفة , ويكون المنافق يشار إليه بالأصبع ؟ فقال : يا أبا حفص صيروا أمر الله فضولاً .
وقال : المؤمن إذا رأى أمراً بالمعروف أو نهياً عن المنكر لم يصبر حتى يأمر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المجموعة السعدية 2/12 .
المجموعة السعدية 2/169 .
وينهى , يعنى قالوا : هذا فضول . قال : والمنافق كل شيء يراه قال بيده على فمه . فقالوا: نعم الرجل ,وليس بينه بين الفضول عمل ) (1) .
أخي المسلم:
التجافي عن صفات المنافقين , وظهور الفرقان بين صفاتهم وصفات المؤمنين .. ذلك أن من أخص صفات المؤمنين القيام بهذا العمل الطيب قال تعالى { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة : 71] .(1/9)
كما أن ترك القيام بهذا العمل يعد من صفات المنافقين البارزة , كما أخبر الله ـ عزوجل ـ عن ذلك بقوله : { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [التوبة : 67]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال رقم 65 .
قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ يأتي على الناس زمان يكون المؤمن فيه كالجيفة ويكون المنافق يشار إليه بالأصابع ـ إلى أن قال ـ المؤمن إذا رأى أمراً بالمعروف أو نهياً عن المنكر لم يصبر حتى يأمر وينهى.. والمنافق كل شيء يراه قال بيده على فمه ..) .
وعند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكتب الدرجات وترفع الحسنات, مع ما في ذلك من مصالح أخرى, كما قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: فإنكار المنكر له أربع درجات:
الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.
الثانية: أن يقل وإن لم يزل من جملته.
الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.
الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه.
الدرجتان الأوليان مشروعتان والثالثة موضع اجتهاد والرابعة محرمة(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مختصر الأسئلة والأجوبة الأصولية على العقيدة الواسطية للشيخ السلمان ص 131.
بعض الثمرات
العبادة والطاعة والتقرب إلى الله ـ عز وجل ـ سعادة في الدنيا والآخرة ,ومن أعظم تلك القربات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . ومن ثمراتها ما يلي :
أولاَ : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مهام الرسل عليهم الصلاة والسلام : فلقد بعث الله الرسل ليأمروا الناس بعبادة الله تعالى وحده لا شريك له والتحذير من الطاغوت واجتنابه { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ } [النحل : 36].(1/10)
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أخص صفات الأنبياء العملية, حيث قال تعالى { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ } [الأعراف : 157]
ثانياً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات المؤمنين كما قال تعالى { التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ
السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } [التوبة : 112]
قال الغزالي : فقد نعت المؤمنين بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فالذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج عن هؤلاء المؤمنين المنعوتين في هذه الآية(1) .
ثالثاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مناط خيرية هذه الأمة
{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } [آل عمران : 110].
قال قتادة : " بلغنا أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في حجة حجها رأى الناس رِعَةً فقرأ هذه الآية : " كنتم خير أمة .. " ثم قال ( من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها ) (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحياء 2/ 397 .
تفسير ابن جرير 5/102 .
وقال شيخ الإسلام بن تيمية : ( فبين الله سبحانه أن هذه الأمة خير الأمم للناس , فهم أنفعهم لهم , وأعظمهم إحساناً إليهم , لأنهم كملوا كل خير ونفع للناس بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر , وأقاموا ذلك بالجهاد في سبيل الله بأنفسهم وأموالهم , وهذا كمال النفع للخلق ) .(1/11)
رابعاً : من أسباب التمكين : { الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } [الحج : 41] ومن أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن الله عز وجل قرنها بالصلاة والزكاة اللذين هما ركنان من أركان الإسلام.
خامساً : من أسباب النصر على الأعداء { َلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور ِ }
[الحج40 : 41] وهذه الآية نراها ماثلة أمامنا في واقع الصدر الأول حيث الفتوحات العظيمة والانتصارات الباهرة بفضل الله عز وجل ثم بتمسكهم بأصول هذا الدين العظيم .
سادساً : في الأمر بالمعروف رفع لراية الدين ودحر للمنافقين والكافرين .
قال الثوري ـ رحمه الله تعالى ـ: ( إذا أمرت بالمعروف شددتَ ظهر المؤمن, وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق ).
سابعاً: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من صفات المنافقين, قال تعالى { الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [التوبة : 67] .
ثامناً : دفع البلاء والعذاب , فعن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ قال : يا أيها الناس , إنكم لتقرؤون هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [المائدة : 105](1/12)
وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يَعُمَهم الله بعقابٍ منه "[رواه أبو داود] .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر للخلال ص67 .
وعن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون أن يغيروا ولا يغيرون إلا يوشك أن يعمهم الله بعقاب ".
قال ابن العربي في شرق: ( وهذا الفقه عظيم, وهو أن الذنوب منها ما يعجلُ اللهُ عقوبته, ومنها ما يمهل بها إلى الآخرة, والسكوت عن المنكر تتعجل عقوبته في الدنيا بنقص الأموال والأنفس والثمرات, وركوب الذل من الظلمة للخلق... ) .
تاسعاً: في القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مَظِنَّةُ قبول الدعاء, قال صلى الله عليه وسلم " لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو لَيُسَلِطَنَّ الله عليكم شراركم ثم يدعوا خياركم فلا يستجاب لكم ". رواه احمد.
قال بلال بن مسعود ـ رحمه الله ـ : " إن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها , وإذا أُعلِنت فلم تغير ضرت العامة " .
خطوات الإنكار
ذكر بعض العلماء خطوات الإنكار والتدرج فيه , وعاملوا بذلك صاحب المنكر كأنه طفل , والطفل قبل أن يُطلَبَ منه القراءة , لا بد أن يعلم الحروف بأساليب تُحبب إليه القراءة والكتابة , حتى لا ينفر من العلم , وكذلك صاحب المنكر لا بد من معاملته على أنه مريض وجاهل فلا بد من مداراته وأخذ الخطوات المتأنية المدروسة في الإنكار معه , قبل استخدام الإنكار المباشر باليد أو باللسان .
ومن بين هؤلاء العلماء الذين ذكروا هذه الخطوات الإمام ابن قدامة المقدسي . وجعل الخطوة الأولى هي التعريف على افتراض جهل صاحب المنكر .
الخطوة الأولى: التعريف:(1/13)
( فإن الجاهل يقدم على الشيء لا يظنه منكراً, فإذا عرف أقلع عنه. فيجب تعريفه باللطف . فيقال له : إن الإنسان لا يولد عالماً, ولقد كنا جاهلين بأمور الشرع حتى علَّمَنَا
العُلماء , فلعل قريتك خالية من أهل العلم فهكذا يتلطف به ليحصل التعريف من غير إيذاء .
الخطوة الثانية: الوعظ:
النهي بالوعظ والنصح والتخوف بالله تعالى, ويورد عليه الأخبار الواردة بالوعيد, ويحكي له سيرة السلف ويكون ذلك بشفقة ولطف من غير عنف وغضب.
الخطوة الثالثة: التعنيف:
والتعنيف بالقول الغليظ الخشن وإنما يعدل إلى هذا عند العجز عن المنع باللطف وظهور مبادئ الإصرار والاستهزاء بالوعظ والنصح , ولسنا نعني بالسب : الفحش والكذب , قال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام : { أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [الأنبياء : 67]
الخطوة الرابعة: اليد:
التغيير باليد .
الخطوة الخامسة: التهديد:
التهديد والتخويف ـ كقوله: دع عنك هذا وإلا فعلت
بك كذا وكذا, وينبغي أن يقدم هذا على تحقيق الضرب إن أمكن تقديمه.
الخطوة السادسة: الضرب:
مباشرة الضرب باليد والرجل وغير ذلك مما ليس فيه إشهار سلاح, وذلك جائز للآحاد بشرط الضرورة والاقتصار على قدر الحاجة, فإذا اندفع المنكر فينبغي
أن يكف "(1)(2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عارضة الأحوذي (9/15).
انظر كتاب الأمر بالمعروف للشيخ خالد السبت .
حالات الإعفاء من الإنكار
ويتعرض الإمام ابن قدامة لحالات عدم نفع الإنكار من حيث الوجوب فيقول :
إذا عَلِمَ أن إنكاره لا ينفع, فينقسم إلى أربعة أحوال:
* أحدها : أن يعلم أن المنكر يزول بقوله أو فعله, من غير مكروه يلحق, فيجب عليه الإنكار.(1/14)
هذا وقد يظن من لا علم له بحقيقة ما بعث الله تعالى به نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه يكفيه أن يؤمن بالله تعالى وحده ويتقرب إليه ببعض الطاعات دون أن يشتغل بأمر غيره بالمعروف أو نهيه عن المنكر !وهذا غلطٌ بيِّن, لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعد من أعظم شرائع الإيمان كما أنه يعد من الأسس والدعائم الهامة لتحقيق الهداية وتحصيلها.
قال العلامة الشيخ حمد بن عتيق ـ رحمه الله تعالى ـ : فلو قدر أن رجلاً يصوم النهار , ويقوم الليل , ويزهد في الدنيا كلها , وهو مع ذلك لا يغضب لله تعالى , ولا يتمعر وجهه
, ولا يحمر , فلا يأمر بالمعروف , ولا ينهى عن المنكر , فهذا الرجل من أبغض الناس عند الله , وأقلهم ديناً , وأصحاب الكبائر أحسن عند الله منه , وقد حدثني من لا أتهم عن شيخ الإسلام إمام المسلمين , ومجدد القرن الثاني عشر , محمد بن عبدا لوهاب ـ رحمه الله تعالى ـ أنه يقال مرة : أرى ناساً يجلسون في المسجد على مصاحفهم يقرؤون ويبكون , فإذا رأوا المعروف لم يأمروا به , وإذا رأوا المنكر لم ينهوا عنه , وأشوف أناساً يعكفون عندهم يقولون هؤلاء لحى غوانم . وأنا أقول : إنهم لحى فواين(1) .
فقال السامع : أنا ما أقدر أقول : إنهم لحى فواين . فقال الشيخ : إنهم من الصم البكم .
ويشهد لهذا ما جاء عن بعض السلف أن الساكت عن الحق شيطان أخرس , والمتكلم بالباطل شيطان ناطق , فلو علم المداهن الساكت أنه أبغض الناس عند الله تعالى ـ وإن كان يرى أنه طيب ـ لتكلم وصدع , ولو علم طالب رضا الخلق بترك الإنكار عليهم أن صاحب الكبائر أحسن حالاً عند الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مختصر منهاج القاصدين 136.
منه , وإن كان عند نفسه صاحب دين , لتاب من المداهنة ونزع ,ولو تحقق من بَخِل بلسانه عن الصدع بأمر الله تعالى أنه شيطان أخرس وإن كان صائماً قائماً زاهداً لما ابتاع مشابهة الشيطان بأدنى الطمع(1) . أ هـ .(1/15)
ورحم الله الثوري حينما قال: إني لأرى الشيء يجب عليَّ أن آمر فيه وأنهى فأبول دماً(2).
فهكذا ينبغي أن يكون حال المؤمن عندما يرى شيئاً من المنكرات.. أما ذاك الذي لا يتحرك له ساكن , ولا يتغير , فلا أظنه محققاً للإيمان المطلوب , ذلك أنه ليس بعد الإنكار بالقلب شيء من أعمال الإيمان فهو أضعفها , كما دل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - عند ذكره لمراتب تغيير المنكر : " وذلك أضعف الإيمان "(3). يعني بالقلب .
وليس من شروط القائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون عدلاً عند أهل السنة, لأن العدالة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جمع "فاين" وهي تطلق عندهم على المرأة البغي والسيئة .
مجموعة رسائل الشيخ حمد بن عتيق (40-41) .
الجرح والتعديل (1/124) .
محصورة في قليل من الخلق والنهي عن المنكر عام في جميع الناس.
قال الجَصَّاص :( لما ثبت وجوب فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وبينَّا أنه فرض على الكفاية .. وجب أن لا يختلف في لزوم فرضه البَرُّ والفاجِر لأن ترك الإنسان لبعض الفروض لا يسقط عنه فروضاً أخرى.. ألا ترى أن تركه للصلاة لا يُسقِطُ عنه فرض الصوم وسائر العبادات, فكذلك من لم يفعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير ساقط عنه )(1).
وقد نقل عن الحسن أنه قال لمطرف بن عبدا لله : عِظ أصحابك , فقال : إني أخاف أن أقول مالا افعل . قال: يرحمك الله وأينا يفعل ما يقول! ويود الشيطان أنه قد ظفر بهذا فلم يأمر بمعروف ولم ينه عن منكر"(2).
وكذا قوله في الحديث الآخر والذي فيه حال الخلوف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أحكام القرآن (2/320) .
تفسير القرطبي (1/368) .
الذين يقولون ما لا يفعلون , ويفعلون ما لا يؤمرون : " وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل "(1) . أي بعد أن ينكر عليهم بقلبه .(1/16)
وبهذا يتبين لك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو سِمَةُ المؤمن الصادق , كما وصفه الله تعالى في كتابه بقوله : { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة : 71].
وهو أيضاً سِمَةُ المجتمع الفاضل الخير: قال صاحب الظلال ( إن سمة المجتمع الخير الفاضل الحي القوي المتماسك أن يسود بالمعروف والنهي عن المنكر.. أن يوجد فيه من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر , وأن يوجد فيه من يستمع إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , وأن يكون عُرف المجتمع من القوة بحيث لا يجروء المنحرفون فيه على التنكر لهذا الأمر والنهي ,
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رواه أحمد .
ولا على إيذاء الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر )(1) .
ولقد ضُّيِع أكثر هذا الباب من أزمان متطاولة, ولا زال ينقص مع مرور الأيام والليالي, فلم يبق منه إلا النزر اليسير جداً, مع أنه باب عظيم واسع, إذ به قوام الأمر وملاكه... وبه تبقى السلامة والعافية, ومن حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القيام به بأحوال عدة منها, الإشارة و التنبيه دون التخصيص. فإذا وجد خطأ في بعض أفعال أو أقوال صحابته , يصعد المنبر فيحمد الله عالى ويثني عليه ثم يقول : ( ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا ) , فلا يصرح بالأسماء لعلمه أن التصريح بأسماء المخطئين فيه خطورة على قلوبهم ونفوسهم .
أنه يجمل بالمرء إذا وجد خطأ عند شخص ما أن ينبهه لذلك الخطأ ولكن بأسلوب حسن يغلب عليه التلميح لا التصريح.
والأمثلة على استخدام الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأسلوب التلميح(1/17)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الظلال (6/222) .
كثيرةٌ جداً, فمنها, أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال " ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة "(1).
وروى الإمام مسلم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " ما بال أقوام قالوا كذا وكذا , لكني أصلي وأنام , وأصوم وأفطر , وأتزوج النساء , فمن رغب عن سنتي فيس مني " .
وروى البخاري ومسلم , أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صنع شيئاً فرخص فيه , فتنزه عنه قوم , فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فخطب فحمد الله ثم قال : " ما بال أقوام يتنزهون عن شيء أصنعه , فوالله أني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية " .
ويروي البخاري ومسلم , أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلغه شرط أهل بريرة ـ رضي الله عنها ـ ( أن الولاء لهم بعد بيعها ) , فخطب الناس , فقال : " ما بال الناس يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله , من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فليس له , وإن شرط مائة مرة , شرط الله أحق وأوثق " .
وكان - صلى الله عليه وسلم - يحث على الرفق واللين, قال - صلى الله عليه وسلم - " إن الرفق
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رواه البخاري .
لا يكون في شيء إلا زانه, ولا ينزع من شيء إلا شانه "(1).
وهذه الصفة محببه إلى الخلق لأن الإنسان يحب الإحسان ويكره الإساءة وهو يقبل عن طريق الرفق واللين ما لا يقبل من طريق العنف والغلظة ولهذا قال ـ عز وجل ـ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - { وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } [آل عمران : 159] .
قيل للإمام مالك ـ رحمه الله تعالى ـ ( الرجل يعمل أعمالاً سيئة, يأمره الرجل بالمعروف وهو يظن أنه لا يطيعه, وهو مما لا يخافه كالجار والأخ ؟ فقال: ما بذلك بأس. ومن الناس من يرفق به فيطيع ؛ قال الله ـ عز وجل ـ(1/18)
{ فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [طه : 44] ا. هـ .
وقال الثوري: ( أؤمر بالمعروف في رفق, فإن قبل منك حمدت الله ـ عز وجل ـ وإلا أقبلت على نفسك ).
وقال الإمام أحمد: ما أغضبت رجلاً فقبل منك ).
كما سئل ـ رحمه الله ـ عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كيف ينبغي أن يأمر ؟ قال : يأمر بالرفق والخضوع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رواه مسلم .
ثم قال: إن أسمعوه ما يكره لا يغضب فيكون يريد ينتصر لنفسه ).
وكان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد عظوه مرة حتى قال بعضهم : من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة , ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبخه(1) .
قال الشيخ تقي الدين : الصبر على أذى الخلق عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن لم يستعمل لزم أحد أمرين : إما تعطيل الأمر والنهي , وإما حصول فتنة ومفسدة أعظم من مفسدة ترك الأمر والنهي أو مثلها أو قريب منها , وكلاهما معصية وفساد , قال تعالى { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } [لقمان- 17].
فمن أمر ولم يصبر, أو صبر ولم يأمر, أو لم يأمر ولم يصبر حصل من هذه الأقسام الثلاثة مفسدة. وإنما الصلاح في أن يأمر ويصبر(2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جامع العلوم والحكم ص50 .
المستدرك على الفتاوى 3/206 .
أخي المسلم:
تأمل في حال قصة نراها مثلها الكثير ولكن لا نقوم بالواجب! حكي عن أخوين من السلف انقلب أحدهما عن الاستقامة فقيل لأخيه: ألا تقطعه وتهجره فقال: أحق ما كان إليَّ في هذا الوقت لما وقع في عثرته أن آخذ بيده وأتلطف له في المعاينة وأدعو له بالعودة إلى ما كان عليه(1).(1/19)
قال حماد بن سلمة : إن صلة بن أشيم مرَّ عليه رجل قد أسبل إزاره فهم أصحابه أن يأخذوه بشدة فقال : دعوني أكفيكم , فقال : يا ابن أخي إن لي إليك حاجة , قال : وما حاجتك يا عم ؟ قال: أحب أن ترفع من إزارك فقال لأصحابه: لو أخذتموه بشده لقال: لا ولا كرامة وشتمكم(2).
قال محمد بن ركريا القلابي : شهدت عبد الله بن محمد ابن عائشة ليلة وقد خرج من المسجد بعد المغرب يريد منزله, وإذا في طريقه غلام من قريش سكران , وقد قبض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحياء 2/200 .
الإحياء 2/363 .
على امرأة فجذبها , فاستغاثت , فاجتمع الناس عليه يضربوه , فنظر إليه ابن عائشة فعرفه فقال للناس : تنحو عن ابن أخي , ثم قال : إلي يا ابن أخي , فاستحى الغلام فجاء إليه فضمه إلى نفسه ثم قال له : أمضي معي , فمضى معه حتى صار إلى منزله فأدخله الدار , وقال لبعض غلمانه بيته عندك فإذا أفاق من سكره فأعلمه بما كان منه , ولا تدعه ينصرف حتى تأتيني به ,فلما أفاق من ذكر ما جرى فاستحيا منه وبكى وهم بالانصراف ,فقال الغلام : قد أمر أن تأتيه , فأدخله عليه , فقال له : أم استحييت لنفسك أما استحييت لشرفك ؟ .
أما ترى من ولدك فاتق الله وانزع عما أنت فيه فبكى الغلام منكساً رأسه ثم رفع رأسه وقال: عاهدت الله تعالى عهداً يسألني عنه يوم القيامة أني لا أعود لشرب النبيذ ولا لشيء مما كنت فيه وأنا تائب. فقال: أدن مني, فقبل رأسه وقال: أحسنت يا بني, فكان الغلام بعد ذلك يلزمه ويكتب عنه الحديث (1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحياء 2/363 .(1/20)
وفي حديث عمر ـ رضي الله عنه ـ وقد سأل عن أخ كان آخاه , فخرج إلى الشام فسأل عنه بعض من قدم عليه وقال : ما فعل أخي ؟ قال ذلك أخو الشيطان قال : مه , قال : إنه قارب الكبائر حتى وقع في الخمر , قال : إذا أردت الخروج فآذني فكتب عند خروجه إليه " بسم الله الرحمن الرحيم " { حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * َافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } ثم عاتبه تحت ذلك وعذله فلما قرأ الكتاب بكى وقال : صدق ونصح أي فتاب ورجع(1).
قال الفضيل بن عياض ـ رحمه الله ـ المؤمن يستر وينصح , والفاجر يهتك ويعير(2) .
وسُئل حذيفة عن ميت الأحياء فقال : الذي لا ينكر المنكر بيده ولا بلسانه ولا بقلبه(3) .
قال قتادة : كان عمر رضي الله عنه يلبس وهو خليفة جبة من صوف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإحياء 2/199 .
جامع العلوم والحكم .
الإحياء 2/338 .
مرقوعة بعضها بأدم ويطوف في الأسواق على عاتقه الدرة يؤدب بها الناس , ويمر بالنكث والنوى فيلتقطه ويلقيه في منازل الناس ينتفعون به(1) .
وحالهم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما قال الوليد بن شجاع بن الوليد : كنت أخرج مع سفيان الثوري فما يكاد لسانه يفتر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذاهباً وراجعاً(2) .
ولما حضر الموت الحسن , دخل عليه رجل من أصحابه ,فقالوا : يا أبا سعيد : زودنا منك كلمات تنفعنا بهن , قال : إني مزودكم ثلاث كلمات ثم قوموا عني ودعوني ولما توجهت له , ما نهيتم عنه من أمر فكونوا من أترك الناس له , وما أمرتم به من معروف فكونوا من أعمل الناس به , واعلموا أن خطاكم خطوتان : خطوة لكم وخطوة عليكم , فانظروا أين تغدون وأين تروحون(3) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تاريخ الخلفاء 120 .
حلية الأولياء 7/13 .
حلية الأولياء 2/154 .(1/21)
قيل لعبد الواحد صاحب الحسن: بأي شيء بلغ الحسن فيكم إلى ما بلغ وكان فيكم علماء وفقهاء؟ فقلت: إن شئت عرفتك بواحدة أو باثنين , فقلت: عرفني بالاثنين , فقال كان إذا أمر بشيء كان أعمل الناس له , وإذا نهى عن شيء كان أترك الناس له .
فقلت : فما الواحدة ؟ قال : لم أر أحداً قط سريرته أشبه بعلانيته منه(1) .
ولا بد من الصبر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحمل الأذى والصبر على الجهل وأهله.
كان كرز بن دبرة إذا خرج أمر بالمعروف , فيضربونه حتى يغشى عليه(2) .
وخرج أبو إسحق إبراهيم القدسي مر إلى قوم من الفساق فكسر ما معهم فضربوه ونالوا منه فقال : إن تابوا ولزموا الصلاة فلا تؤذيهم وهم في حل من قبلي , فتابوا ورجعوا عما كانوا عليه(3) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحسن البصري ص16 .
حلية الأولياء 5/80 .
شذرات الذهب 5/58 .
أخي المسلم:
قال عبد الله بن عبد العزيز العمري : من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مخافة المخلوقين نزعت منه هيبة الله تعالى , فلو أمر بعض ولده أو بعض مواليه لاستخف به(1) .
قال علي بن الحسين : التارك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالنابذ كتاب الله وراء ظهره , إلا أن يتقي منهم تقاة , قالوا : وما تقاه ؟ قال : يخاف جباراً عنيداً أن يسطو عليه وأن يطغي(2).
لأن في ظهور المنكرات وفشوِ الفساد ضرر عظيم على الخاصة والعامة .
قال بلال بن سعد : إن المعصية إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها فإذا أعلنت ولم تغير أضرت العامة(3) .
وقد كانوا يحرصون على تجميل أنفسهم بالطاعة والبعد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صفة الصفوة 2/181 .
البداية والنهاية 9/128 .
الإحياء 2/338 .
عن المعصية واستدراك هفواتهم وإصلاح زلاتهم هذا الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ يقول: أحب الناس إليَّ من رفع إليَّ عيوبي(1).(1/22)
وفي مجتمع اليوم , والدور متجاورة والمنازل متقابلة , ومع ذلك تُرك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أوساط الحي وساكنيه , وقلَّ من تجده ينكر على من لا يصلي مع جماعة المسلمين أو ينكر علي منكرات المنازل الظاهرة أو غيرها ! ولهذا تجد من ينصح ويأمر بالخير يرمى بأنه متشددٌ ويتدخل فيما لا يعنيه ! أما ذلك الرجل الآخر فإنه حسن الخلق طيب المعشر ! .
قال سفيان : إذا أثنى على الرجل جيرانه أجمعون فهو رجل سوء , لأنه ربما رآهم يعصون , فلا ينكر ويلقاهم ببشر .
قال الحسن: إذ كنت آمراً بالمعروف فكن من آخذ الناس به وإلا هلكت وإذا كنت ممن ينهى عن المنكر فكن من أنكر الناس له وإلا هلكت21).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تاريخ الخلفاء 121 .
الزهد لأحمد ص 227 .
ولقد تعجبت أم المؤمنين زينب ـ رضي الله عنها ـ وسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - : " أنهلك وفينا الصالحون " سؤال عجيب ! كيف نهلك وفينا الصوام والقوام .. أنهلك وفينا من يصوم أيام البيض والاثنين والخميس ! أنهلك وفينا من يقوم الليل ويقرأ القرآن آناء الليل وأطراف النهار !
قال لها - صلى الله عليه وسلم - في جواب حكيم: " نعم, إذا كثر الخبث ".
ومما شاع وانتشر في هذه الأزمنة ومع التوسع في وسائل الإعلام وكثرة المرجفين في الأرض ممن يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا , كثرة الفخر واللمز بالآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وتصويرهم بصور شتى وإلحاق المصائب بهم وهم براء ! والأمر في هذا الجانب خطير جداَ .
فضولي:
في ( حاشية ابن عابدين ) أن من قال هذا اللفظ فمن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رواه البخاري .
يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر: فهو مرتد(1).
أنت فضولي :
في ( الدر المختار ) قال في فصل في الفضولي : ( هو : من يشتغل بما لا يعنيه , فالقائل لمن يأمر بالمعروف : أنت فضولي , يخشى عليه الكفر ) اهـ(2) .(1/23)
وإن مما يؤسف له أشد الأسف ما نراه ونسمعه في زماننا اليوم ممن يرفع في وجه كل مصلح يأمر بالمعروف والآخرة بأنه داعية فتنة وخروج على الأمة . فبالله أين الفتنة في من يشفق على أمته من عذاب الله عز وجل في الدنيا والآخرة ويحذرها من أسباب عقوبته سبحانه . إن الفتنة بحق تكمن في هذا الخلط والتلبيس والذي نتيجته استمراء الفساد وتثبيط الآمرين بالخير والناهين عن الشر.
وهذا شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بعد أن ذكر المفاسد التي تنجم عن الخروج على الأمة بالسيف وما في ذلك من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حاشية ابن عابدين 4/135 .
حاشية ابن عابدين 5/106 .
الشرور والفتن العظيمة عقب بقوله : ( ومع ذلك فيجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب إظهار السُنَّة والشريعة , والنهي عن البدعة والضلالة بحسب ...
قال مجدد الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب-رحمه الله:
فالله الله إخواني تمسكوا بأصل دينكم , أوله وآخره , أُسَّه ورأسه , وهو ( شهادة أن لا إله إلا الله ) واعرفوا معناها وأحبوا أهلها , واجعلوهم إخوانكم ولو كانوا بعيدين , واكفروا بالطواغيت , وعادوهم , وابغضوا من أحبهم , أو جادل عنهم , أو لم يكفرهم , أو قال ما عليَّ منهم , أو قال ما كلفني الله بهم , فقد كذب هذا على الله تعالى وافترى ‘ بل كلفه الله بهم , وفرض عليه الكفر بهم , والبراءة منهم ولو كانوا إخوانه أو أولاده.
فالله الله تمسكوا بأصل دينكم لعلكم تلقون ربكم لا تشركون به شيئاً .
اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين(1).
وكثيرٌ من الناس قد يرى تعارض الشريعة في ذلك,
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدرر السنية (2/78) .
فيرى أن الأمر والنهي لا يقوم إلا بالفتنة, فإما أن يؤمر بهما جميعاً أو ينهى عنهما جمعياً.(1/24)
وليس كذلك , بل يؤمر وينهى ويصبر عن الفتنة , كما قال تعالى { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُور ِ } [لقمان : 17]
وقال عبادة رضي الله عنه ) بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة في عُسرنا ويُسرنا ومنشطنا ومكرهِنا وأثره علينا , وألاَّ ننازع الأمر أهله , وأن نقوم ـ أو نقول ـ بالحق حيث ما كنا , لا نخاف في الله لومة لائم )(1)، فأمرهم بالطاعة ونهاهم عن منازعة الأمر أهله وأمرهم بالقيام بالحق .
ولأجل ما يُظَن من تعارض هذين تعرض الحيرة في ذلك لطوائف من الناس.
والحائر الذي لا يدري ـ لعدم ظهور الحق, وتميز المفعول من المتروك ـ ما يفعل؛ إما لخفاء الحق عليه, أو لخفاء ما يناسب هواه عليه.اهـ(2) .
كما أن القول بالصبر والصفح وكف اليد لا يعني أبداً الركون إلى الدعة والإحباط والاستسلام للأمر الواقع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رواه البخاري ومسلم (1709) كتاب الإمارة بنحوه .
الاستقامة 1/41،42.
بل يجب إعداد النفوس والأمة بأسرها للجهاد في سبيل الله عز جل وتقوية العزائم وشحذ الهمم , والأخذ بجميع الأسباب المشروعة ولاستكمال جانب القدرة الإيمانية والمادية حتى يأذن الله عز وجل بنصره في الوقت الذي يعلم فيه سبحانه أن عباده المؤمنين قد بذلوا ما في وسعهم من البناء والإعداد والأخذ بالأسباب .
بعض المرجئة وأهل الفجور يرون أن إنكار المنكر من الفتن:
وآخرون من المرجئة وأهل الفجور قد يرون ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ظناً أن ذلك من باب ترك الفتنة .
وهؤلاء يقابلون لألئك . ولهذا ذكر الأستاذ أبو منصور الماتريدي المصنف في الكلام وأصول الدين من الحنفية الذين وراء النهر ما قابل به المعتزلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , فذكر أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سقط في هذا الزمان(1) .(1/25)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المستدرك على مجموع الفتاوى 3/206 .
أخي المسلم:
لعل مما يعين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أموراً عدة أذكرها بإيجاز:
أولاً: معرفة فضل الله عز وجل علينا ونعمه التي لا تعد ولا تحصى, فإن هذا من شكر النعم والقيام ببعض حق الله ـ عز وجل ـ.
ثانياً: إخلاص النية لله ـ عز وجل ـ في هذا العمل العظيم والقيام بها طاعة وقربة لله ـ عز وجل ـ لا انتصاراً للنفس أو لإظهار حظوظ النفس.
ثالثاً: تثبيت النية للقيام بهذه الشعيرة العظيمة, فإن أراد الذهاب للعمل تفكر في منكرات الزملاء والأصدقاء وجعل لكلِ مُنكَرٍ حلاً لإزالته وردة.
رابعاً: تعاهد من حوله للقيام بهذه الشعيرة العظيمة فالطالب يكسب معه زملاء ويسعون لإزالة المنكر الذي يعرفون حتى يكون ذلك أقوى وأوقع.
خامساً : الرفق بالناس والبحث عن مداخل شرعية لإزالة المنكر .
سادساً: الصبر وتوطين النفس على ما تلاقيه حين, وبعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
سابعاًً: استشعار الأجر العظيم حين القيام بهذا الأمر العظيم فإن ذلك يهون الأذى ويزيل الوحشة.
ثامناً: الإحسان إلى الناس بالكلمة الطيبة والابتسامة المعبرة حتى نصل إلى قلوب الناس آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر.
تاسعاً: تعريف الناس بأحكام المنكرات وإيصالها إليهم, فإن الملاحظ مع كثرة الفتن أن البعض يجهل بعض الأحكام الشرعية في ذلك.
عاشراً: الاستعانة بالله ـ عز وجل ـ والتوكل عليه وطلب العون والتوفيق.
الحادي عشر: كثرة الدعاء والإلحاح على الله ـ عز وجل ـ بأن يسدد المساعي ويوفق إلى الخير.
الثاني عشر: الاستفادة من الوسائل الحديثة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ومن ذلك استخدام الرسائل الشخصية والهاتف والجوال والإنترنت والصحف
والمجلات وغيرها ولله الحمد كثيرة.
أخي المسلم:(1/26)
(لقد كتبت ما تقدم من الكلام وما أعلم عند أحد من الذنوب أكثر مما أعلم عندي , وإني لكثيرُ الإسراف على نفسي غير مُحكم لكثير من أمري ولو أن المرء لا يعِظ حتى يُحكِم نفسه إذن لتواكل الخير ولرفع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإذن لاستحلت المحارم وقلَّ الواعظون والساعون لله تعالى بالنصيحة في الأرض والشيطان وأعوانه يودون أن لا يأمر أحد بمعروف ولا ينهى عن منكر,وإذا أمرهم أو نهاهم عابوه بما فيه وبما ليس فيه(1)).
أسأل الله الكريم أن يجعلنا ممن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر, وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين, وصلى الله على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لطائف المعارف ص22 .
فهرس
الموضوع رقم الصفحة
المقدمة ...........................................................3
المدخل ............................................................4
بواعث الأمر بالمعروف .........................................15
بعض الثمرات .....................................................23
خطوات الإنكار ................................................29
حالات الإعفاء من الإنكار ...................................32
فضولي ............................................................48
الفهرس ...........................................................56
تم بحمد الله(1/27)