سلسلة القادة و مشروع النهضة
النهضة.. من الصحوة إلى اليقظة
د. جاسم سلطان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. أما بعد:
ففي هذه اللحظة التاريخية التي يتصاعد فيها صدى التحولات العالمية حتى يصم الآذان، ويعلو فيها صوت المآذن حتى ينتظم الآفاق, تنبعث من تحت الركام التاريخي الطويل أمة الإسلام, عارية الصدر إلا من جلال الحق في وجه قوى الظلام المدججة بأعتى الأسلحة الفتاكة للأجسام والعقول.. معركة تبدو للوهلة الأولى محسومة. تكون الغلبة فيها لمنطق القوة لا لقوة المنطق.. في هذه اللحظة نؤمن أن قدر الله غالب.. وأن دعوة الحق منتصرة.. فكما نهضت الأمة من سباتها ورفعت رأسها عالياً رغم كيد الخصوم وجهل الأحباب، فهي لا شك قادرة على تحصيل أسباب القوة والمنعة ولو بعد حين.. وحين تحرس القوة الحق. فلا يقف شيء أمامه..فإن الحق يأسر القلوب والعقول، والقوة تردع الطامعين والباغين. تلك هي الآمال، نقولها ونربطها بمشيئة الله عز وجل، واثقين من تأييده إن بذلنا وسعنا.
لماذا الفهم؟؟
إن موضوع النهضة، ومحاولة الكتابة عنه ضرورة لابد منها؛ لأنها متعلقة بأمرين مهمين وهما:
الأول: موضوع الفهم، فإن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وقد قدم البخاري باباً أسماه "بابُ العلم قبل القول والعمل" وذلك لأن العمل بلا علم أمر فيه خلل كبير، فصواب العمل مقترن بالعلم الذي قاد إليه.
الأمر الثاني: والمرتبط بالموضوع الأول، هو ضرورة تنظيم الخارطة المعرفية الذهنية للعاملين في حقل النهضة. فكثير من المعارف والمعلومات التي يتلقاها الفرد الذي يهتم بشأن أمته تأتي من أطراف مختلفة، وفي غالب الأحيان تأتي أفكاراً متناقضة، ولا توجد خارطة معرفية منظمة مسبقة، بحيث يضع فيها الفرد العامل ما يتلقاه من معارف ومعلومات في مكانها الصحيح.(1/1)
هذان الأمران؛ الفهم وتنظيم الخارطة المعرفية للعاملين في حقل الدعوة والمهتمين بأمر الأمة؛ يأتيان في قائمة الأولويات، ولعل الكثير من المخلصين اليوم يرون بوضوح حجم الاضطراب الذي يسود الساحة الإسلامية في قاعدتها الفكرية الواسعة، ما أدى إلى خلل على الجانب التنفيذي.
الخارطة الذهنية
وفكرة الخارطة الذهنية المنظمة يمكن تقريبها للقاريء بفكرة الحاسوب (الكمبيوتر)، أو فكرة الهاتف النقال، فتخيل معي أخي الكريم؛ لو أنك كنت ممن يستخدم الهاتف النقال دون أن يكون به قاعدة منظمة للبيانات، وقمت بإدخال الأسماء والأرقام، ثم أردت استعادة الأرقام وهذه الأسماء والتوفيق بينها، إنه سيتأكد لك أن هذا الأمر محال، فالأمر الذي يجعل الجهاز فعالاً ومنتجاً في مخرجاته؛ هو تنظيم قاعدة البيانات الداخلية التي تستقبل المعلومات من الخارج، وبالتالي تقوم بعمليات التحويل، وإخراجها لك مرة أخرى لتستفيد منها.
قس ذلك على عقل الإنسان فحينما تنظم القاعدة المعرفية في أي علم من العلوم أو معرفة من المعارف، يمكن منها أن تتحول الجزيئات إلى معنىً واضح، يسهل استخراجه والاستفادة منه.
مواقف الناس من قضية الفهم:
الصنف الأول: صنف محب، شديد العاطفة ولكنه لا يريد أن يتعب ذهنه بعلم ولا بفهم. ورغم صواب نية هؤلاء العاملين إلا أن خطرهم كبير أثناء مراحل السير، فهم عرضة للشبهات، والشبهات دواؤها العلم، وعند اشتداد الكروب قد يصبح هؤلاء عبئاً على الدعوة وحركة النهضة، حيث قد يركبون تيارا ًيقود إلى عكس اتجاه النهضة، ويؤدي إلى تدمير جهود العاملين فيها، وقديماً قيل "الرأي قبل شجاعة الشجعان". فإعمال النظر والفكر وحسن التصور مقدمة ضرورية لحسن العمل، ولذلك اشترط في العمل لكي يكون صواباً أن تتوفر له النية الصالحة. والنية الصالحة وحدها ليست كافية، بل لابد للعمل كي يكون صواباً أن يكون عن علمٍ وعن نظرٍ وعن تصورٍ صحيح.(1/2)
الصنف الثاني: وهو صنف يمكن أن نقول عنه أنه قارئ بدرجة من الدرجات، ولكنه أيضاً غير راغب في البحث والتحقيق، وهذا الصنف من الناس كثير النقد، قليل العمل وينظر إلى كل أمر بمنظار أسود. وهؤلاء أيضاً يشكلون عائقاً وعبئاً على عملية النهوض والاستنهاض.
الصنف الثالث: هو صنف عامل ناقد باحث عن التطوير باستمرار، يستند إلى جهد ثري في محاولة البحث والنظر، مع عدم إهمال العمل وبذل الجهد، وعدم الاكتفاء بالمقاعد العادية البعيدة عن
ساحة الفعل، وهذا صنف مبارك تقوم عليه الدعوات وتتحقق به النهضات.
الصنف الرابع: فهو أيضاً صنف مبارك جهده منصب على البحث والنظر والتحليل والتفصيل، ولكن قد يشوب عمله البعد عن الواقع والاكتفاء بمستوى النظرية عن ملامسة الواقع وفهمه.
والشارع سبحانه وتعالى قد أمرنا بالتبيّن فقال "فتبينوا"(1)، وأمرنا بطلب البرهان "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"(2). وقد قرر العلماء أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، والداعية في سيره في مشروع النهضة إنما هو يصدر الأحكام على الأشياء ويتخذ قرارات في أثناء السير، فإن لم يكن التصور واضحاً خرجت الأحكام أيضا منقوصة وقاصرة.
نحن أمام حاجة كبيرة جداً للعلم، حتى نستطيع أن نقوم بالعمل على وجهه الأكمل. وتجدر الملاحظة هنا أن العلم والعمل يسيران متوازيين مع بعضهم البعض، فالعمل يطرح أسئلة على العقل، تلجئ الإنسان لمزيد من البحث والنظر والعلم، والعلم يولد أفكاراً ومبادرات، والمبادرات حين تتنزل على الواقع تشذب وتطرح أسئلة جديدة، وهكذا تتولد الحياة في الأفكار ويزداد الإنسان علماً ويرتقي.
__________
(1) سورة الحجرات:6
(2) سورة البقرة: 111(1/3)
وبالتالي يلزم للإنسان المسلم الجانبان: الجانب العلمي والجانب والعملي، وإذا انفصل أحدهما عن الآخر فإما أن يعمل الإنسان ويكون عمله عكس ما يتمنى ويشتهي لنقص علمه، أو يعلم الإنسان الكثير ولكنه أيضاً لا يمارس ما يعلمه في الواقع فتكون المحصلة أيضاً صفرية.
خطة البحث:
إن الإعداد لمثل هذا البحث – والذي هو ضمن سلسلة تتحدث عن قضية النهضة وأدواتها - قد استغرق ما يزيد على العشر سنوات. وتم تدريس مفردات هذه السلسلة في أقطار كثيرة. وهذه هي المحاولة الأولى لتجميع ما كان متناثراً، بين مخطوطات يدوية، وتسجيلات صوتية، ودورات تدريبية. وصياغته في سياق واحد. لذلك فقد لا يأخذ الكتاب الشكل المعتاد عليه في مثل هذا النوع من الكتب.
وتتناول السلسلة بوجه عام:
فلسفة النهضة ووضع إطا ر يكمن فهمها من خلاله.
قوانين النهضة، والتي تحكم حركات التحولات الاجتماعية.
مشروع النهضة وأهدافه ووسائله ومراحله.
ويتناول هذا الكتاب الفلسفة الكبرى للنهضة. ويعتني بتحديد المستلزمات الأساسية للانتقال من طور الارتجال والاندفاع وضبابية الرؤية إلى الرشد ووضح الرؤية. ويتم كل ذلك من خلال:
شرح بعض المصطلحات التي ينبغي الإحاطة بها لأي عامل للنهضة لتنظيم خارطته الذهنية وتحديد طبيعة المرحلة التي تمر بها أمتنا في طريقها نحو النهوض.
وضع حركة النهضة في سياقها التاريخي.
تحديد إطار لفهم مراحل التحول الحضاري، ومن ثم تحديد إطار لفهم المرحلة الحالية.
تحديد نموذج وطريقة تفكير القائد المطلوب.
تحديد احتياجات صانع القرار العامل للنهضة.
توضيح أهمية دراسة التاريخ للقائد.
تحديد صورة الإسلام الذي يجب استدعاؤها وتَمَثُّل العاملين للنهضة بها.
تحديد التحديات التي يواجهها المشروع.
الإجابة على السؤال الهام: من أين يبدأ الإصلاح؟
توضيح دور ثقافة الأرقام ولغة الإحصاء في مشروع النهضة.
هدم جدران الإحباط بمعاول الأمل.(1/4)
وقد رأينا أن نقسم هذا البحث إلى فصل تمهيدي، تليه أبواب متعددة لمحاولة توضيح فلسفة مشروع النهضة وأسسه ومنطلقاته. وصغنا هذه الأبواب على شكل مشاهد، نتحدث في كل مشهد عن الوضع الراهن ونقطة البدء لتغيير هذا الواقع وتصورنا للمشهد المستقبلي والخطوات العملية لتحقيق هذا المشهد.
تحديات واجهتنا:
لقد قمنا بتحديد الشريحة المستهدفة من هذه السلسلة، ومن هذا الكتاب، فيممنا وجهنا إلى الشريحة الغالبة من الشباب التي تتطلع إلى العمل الجاد. وإحداث التحولات الكبرى. وواجهتنا عدة معوقات، حاولنا التغلب عليها. مثل:
كيف يمكن أن يستفيد القارئ مما يقرأ، ليكون خارطته المعرفية المنظمة؟!
وكيف يمكن تقديم المادة في شكل يجيب على حالة الإحباط المنتشرة بين صفوف الكثير من المجتمعات الإسلامية؟؟!
وكيف يمكن أن تصبح الفكرة شائعة بين الجمهور؟!
وكيف يمكن أن تغادر الفكرة رفوف النخب إلى الإنسان المتوسط والبسيط؟؟!
وكيف يمكن أن تتحول الفكرة إلى مادة قابلة للاستخدام في النهضة في وجه دعاة اليأس والقنوط؟!
تلك هي الأسئلة، وكانت هذه محاولتنا لعمل رأس جسر لهذا المشروع الكبير، لنقله من ساحة التصور النظري البحت للطبقة العليا من المفكرين والمنظرين، إلى الطبقة الوسطى والدنيا التنفيذية في المشروع.
إن هذا الكتاب جزء من سلسلة نسأل الله أن تكتمل وتتكامل. نبدأها بهذه القطرة الأولى لتتبعها قطرات، وقد ترددنا كثيراً في إخراج هذه الورقات، والحديث عن هذا الموضوع بشكل مفتوح، ولكن تشجيع الأحباب، والكثير ممن استمع إلى هذه المحاولة قاد إلى اتخاذ القرار الأخير بنشرها، رغم يقيننا أنه ما زال الكثير والكثير الذي يتوجب علينا عمله، والقيام به، ولكن الأعمار بيد الله عز وجل، والإنسان لا يضمن إذا وجد اليوم أن يبقى إلى الغد، فالمسارعة في الخير - وإن كان قليلا ً- ونشره واجب لا يجب تأخيره، خاصة إذا حان وقته.(1/5)
وأخيرا نسأل الله العون والسداد . فإن أصبنا فمن الله وإن أخطأنا فمن أنفسنا ومن الشيطان. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
هناك الكثير من المفاهيم والنماذج، التي نرى أنه لا غنى عنها في مثل هذا النوع من الدراسات، نحاول أن نبسطها قدر الإمكان، ونبتعد عن التعقيد، وسنشير - في ثنايا هذه الدراسة- إلى المواضع الصعبة، والتي نرى أنه رغم صعوبتها، فإنه لابد للعامل أن يدركها، وأن يبذل الجهد في محاولة استيعابها، لضرورتها في تنظيم الخارطة الذهنية، وسنبذل ما نستطيع في سبيل ذلك والوصول إلى هذا النوع من التبسيط.
المشروع:
ولنبدأ بكلمة المشروع، ويتساءل القارئ ما وجه الحديث عن تفسير كلمة المشروع، ونعتقد أنها من الكلمات الهامة التي تشغب على بعض المتناولين لقضية النهضة، ويتساءلون فيها قائلين بأن وصف المشروع الإسلامي بأنه مشروع قول غير مشروع!! ونقول أن المتعامل مع قضية النهضة، يجب أن تكون لديه إجابة محددة، لمثل هذا السؤال فعندما نتعامل مع كلمة مشروع، ونفتح "منجد الطلاب" مثلاً نجد أن كلمة مشروع تحتمل المعاني التالية: ما سوغه الشارع، والأمر المشروع هو ما بدأت بعمله.
وفي نطاق هذين المعنيين، فالمشروع الإسلامي أمر سوغه الشارع، وهو أمر قد بدأ به وتتم الحركة في إطاره، فمن الناحية اللغوية يجوز لنا أن نتناول وأن نستخدم كلمة مشروع.
ويقول أهل الإدارة: أن كلمة مشروع تعني أنشطة متتابعة مصممة، للوصول إلى مخرجات محددة، من خلال ميزانية محددة، ومدى زمني محدد.(1)
ومن هذه الزاوية فإن كلمة مشروع التي نتعامل معها، لا تنطبق حرفياً على مشروع النهضة، ولكن يمكن أن نقارب ونسدد فيها، إذا كان المدخل مدخلاً إدارياً، حيث أن تحديد الزمن بدقة والذي تستلزمه عملية النهضة أو تحديد الموازنات الضرورية لعملية النهضة في إطارها العام الكبير أمر دونه خرط القتاد .
__________
(1) - انظر كتاب Project Management في الصفحة السادسة لأندي بروس مثلاً.(1/6)
... أما في العلوم السياسية فيقصد بكلمة مشروع أي أيديولوجيا(1)تسعى للهيمنة. وهنا ينبغي التركيز على قولنا أنها تسعى للهيمنة، فكل أيديولوجيا تسعى للهيمنة، يطلق عليها كلمة مشروع(2)، مثلما يتم الحديث عن الليبرالية كمشروع فيقال: (..Political liberalism as a project..).
... إذاً يمكن التعامل مع الأفكار النهضوية على أنها مشروع، ويمكن أن نطلق ذلك إذا تعاملنا مع الكلمة بسعة في الإدارة أيضاً، أما من الناحية اللغوية فيمكن استخدامها قطعاً بدون تخوف. وفيما يخص العلوم السياسية فهي باب مفتوح يمكن التعامل معه بدون أي حرج، وبذلك تكون كلمة "مشروع" قد اتضحت وأصبح استخدامها مشروعاً في هذا المجال الذي نتحدث عنه.
النهضة:
... إن الكثيرين ممن يتحدثون عن النهضة، لا يمتلكون إطاراً يحددون به معنىً للنهضة. ونود أن نشير إلى بعض القضايا المتعلقة بهذا الموضوع. ولن نلجأ إلى المصطلحات الغامضة المتعلقة بتعريفها اللغوي، ولكن سنتناول موضوع النهضة من حيث أنها كلمة دخلت على اللغة العربية للتماهي مع كلمة النهضة التي وردت في التراث الأوربي، وبالتالي لا يمكن إدراك معناها في غياب المعنى الذي اجتلبت منه أساساً، وهو معنى كلمة النهضة في الثقافة الأوروبية. يقول الدكتور نور الدين حاطوم في كتابه "تاريخ عصر النهضة الأوروبية ": "(النهضة) تفتح عجيب للحياة بأشكالها المختلفة، بلغت مظاهره الكبرى بين 1490 و1560.. وهي بالمعنى العام الواسع تدفق من الحيوية أثار البشرية الأوروبية فتبدلت على أثره حضارة أوروبا بكاملها. وهي بالمعنى الضيق نزوة حياتية في أعمال الفكر. إنها ضمة تطلع وتوق وهواية وسمو أكثر منها مذهب أو نظام. إنها دافع داخلي جدد حياة العقل والحواس والمعرفة والفن."
__________
(1) سنتحدث عن معنى أيدلوجيا لاحقاً
(2) انظر كتاب A Project to be Realized أوGlobal Liberalism and Contemporary Africa in millennium ، volume24، سنة 1992.(1/7)
ويقول في مقدمة الكتاب: "إن عصر النهضة الأوروبية أو القرن السادس عشر الذي ندرس تاريخه في هذا الكتاب هو العصر الذي يبدأ برحلة كريستوفر كولومبس الأولى سنة 1492، وحروب إيطاليا 1494، وينتهي بين وفاة اليزابيث ملكة إنجلترا 1603، وموت هنري الرابع ملك فرنسا 1610.. لقد حدثت في هذا العصر حوادث عظيمة، وتبدلات عميقة في أنظمة الدول الداخلية، وفي سيماء أوروبا العامة، وفي علاقات هذه القارة مع القارات الأخرى. ولذا تختلف حوادث القرن السادس عشر اختلافاً كلياً عما نعرفه في القرن الوسيط، الذي انتهى في السنوات الأخيرة من القرن الخامس عشر". ويقول:(1/8)
"وإذا انتهى العصر الوسيط كما تنتهي الأشياء في التاريخ، إلا أن هذه الأشياء لا تزول تماماً، بل تبقى مع الزمن، فإننا نجد في حياة رجال القرن السادس عشر وأفكارهم وأعمالهم كثيراً من معالم العصر الوسيط الراحل. وليس في سياق التاريخ واستمراره انقطاع للحوادث البشرية، بل إن هذه الحوادث تجري في تطور بطئ مستمر، وقد يقع أن يحدث ما يؤخر سيرها، غير أنها تعاود الكرة وتستأنف تقدمها ولو ببطء وخجل." ويقول أيضاً: "تتجلى مظاهر التجديد في أوروبا عصر النهضة، بحوادث كبرى، وتطورات عظيمة، أشبه ما تكون بثورات،؛ فكرية دينية، أخلاقية سياسية تجديدية، في الاقتصاد الجديد."(1). و يقول نور الدين حاطوم أيضاً: "وبدا لنا القرن السادس عشر وكأنه التفاتة نحو الماضي أكثر منها نحو المستقبل، أو رجعة نحو ماضيين يجملهما معاً، وهما القديم الوثني والقديم العبري- المسيحي، أو نحو الإلياذة والكتاب المقدس. وما النهضة والإصلاح الديني في البدء إلا حركتان متوازيتان وباتجاه واحد لتتعرف إحداهما بحقيقة الحياة الإنسانية في العصر القديم، ولتعيد الأخرى الدين المسيحي إلى نقاوته القديمة الأولى. فحين نحاول أن نجد ثورة، لا نجد في الحقيقة إلا رجعية.."
... هذه الكلمات الهامة التي يشير إليها نور الدين حاطوم تشير إلى أن مفهوم النهضة في الفكر الأوروبي لم يكن قطيعة مع الماضي؛ بل هي تواصل معه واستجلاب الخيرية التي كانت فيه، ثم انطلاقٌ إلى المستقبل لمحاولة البحث عن فرصه، وما يمكن اقتناصه منه.
هذه قضية في غاية الأهمية، إذ يدّعي البعض في واقعنا الإسلامي بأننا يجب أن نترك الماضي بخيره وشره، وأن نتبنى ما عند الآخر بخيره وشره، وننطلق إلى المستقبل، وهذا أمر لم يحدث حتى في الحضارة التي يقوم
البعض بتقليدها والإعجاب بها.
__________
(1) العبارات الأخيرة في الفقرة التي تبدأ من كلمة "تتجلى.." أجري عليها بعض التحريف البسيط.(1/9)
... كما يقول نور الدين حاطوم:".. ولكن يجب أن لا نأخذ بالظواهر فننكر على القرن السادس عشر كل تجديد. إن روح أي عصر من العصور لا يتمثل بعقلية الكتل والدهماء والجماهير، بل بعقلية الصفوة المختارة من أبنائه، فئة من الأبطال - كما يقول كارليل- حملة المشاعل الذين ينيرون للناس طريق المستقبل خلال ديجور الحاضر.."
وانظر إلى هذه العبارات "حملة المشاعل الذين ينيرون للناس طريق المستقبل خلال ديجور الحاضر" فرواد النهضة الذين تتحدث عنهم الحضارة الأوروبية في تلك الفترة، هم القلة التي حملت المشاعل وبدأت تكشف للناس عن جمال الماضي، وعن إمكانية الفعل في المستقبل، ولم تكن الفئة التي دعت إلى القطيعة مع الماضي، واليأس من المستقبل.
ونكمل مع نور الدين حاطوم : ".. وإذا درسنا رجال الفكر في هذا العصر، رأينا عندهم مفهوماً جديداً للعلم والطبيعة والدين والأخلاق الفردية و الاجتماعية. ومما يجدر ذكره أن هؤلاء الأبطال يشعرون بأنهم في عصر حديث.."
إن الناظر في أعمال هؤلاء المجددين في هذا العصر يرى أنهم متقدمين على عصورهم، كما يقول نور الدين حاطوم ".. ولكن المجددين كثيراً ما يتقدمون عصرهم ويكونون عرضة لاضطهاد معاصريهم ممن لا يفهمون آراءهم: مثال ذلك كوبرنيك ( 1473 – 1543م)، فقد برهن على حركة الكواكب حول نفسها وحول الشمس، فحكم البابا بأن نظريته مخالفة للكتاب المقدس. وبالرغم من أن كوبرنيك نفسه كان من أبناء القرن السادس عشر، فقد كانت الفكرة الثورية الجديدة التي أتى بها
متقدمة على القرن الذي عاش فيه.."، وقل ذلك على ليوناردو دافينشي وغيره من المفكرين الذي اضطهدوا بسبب آرائهم، التي سبقت عصرهم وتقدمته.
نعود إلى معنى كلمة النهضة التي بدأنا بها ونقول أنها: حركة فكرية عامة، حية منتشرة، تتقدم باستمرار في فضاء القرن، وتطرح الجديد دون قطيعة مع الماضي.
فهذه الكلمة تحتوي على جملة مفردات:
حركة
فكرية عامة
حية
منتشرة(1/10)
تتقدم باستمرار في فضاء القرن
وتطرح الجديد دون قطيعة مع الماضي.
وتشمل مجالات العلم والدين والسياسية والاقتصاد والاجتماع وما إلى ذلك. فهذه الحياة الجديدة وهذا التصور الجديد لإمكانية الفعل التاريخي، ولإمكانية النظر للكون بمنظار جديد، هي السمة الأساسية لما يسمى بعصر النهضة، وهي في الوقت نفسه ليست حركة في أرض منسابة سهلة، بل إن الحركة التي تقودها هذه النخب- التي أطلق عليها كارليل "الأبطال"- تتعرض للاضطهاد والتنكيل والمقاومة، ولكن ذلك جزء من ضريبة هذا الوضع النهضوي الذي يتحرك فيه المجتمع.
إذا قمنا بالمقاربة لكلمة النهضة في واقعنا المعاصر؛ سنجد التماثل والتماهي في حركة التيارات
الإسلامية الجديدة التي تدعوا إلى التطوير في التعليم والاجتماع وفي السياسة وفي الاقتصاد، وتدعوا للارتباط بالنافع من تراث الأمة والخير من إنتاجها. هذا التمازج الحي بين حركة الأصالة وحركة التجديد يرسم معالم عصر النهضة الذي يتحرك فيه الآن هذا التيار الضخم من العاملين في حقل النهضة.
التنمية:
... وهناك مصطلح آخرمقارب للنهضة. ففي كثير من الأحيان يتكلم الناس عن التنمية ولا يتحدثون عن النهضة، وهذا المفهوم -مفهوم التنمية أو الـ Development- الذي ينتشر والذي يستخدم، يشكل جزئية من جزئيات النهضة، وليس ذات النهضة وذلك إذا أردنا النظر للصورة بشكل أعم. فمن المفهوم الأوروبي أيضاً جاءت كلمة Development "التنمية" مع حركة التعليم واستيراد المجتمعات الإسلامية لكثير من المفاهيم الواردة من التراث الأوروبي.(1/11)
... يقول عبد الحق الشكيري عن كلمة التنمية : "في المفهوم الغربي يقصد بها: تنشيط الاقتصاد الوطني، وتحويله من حالة الركود والثبات إلى حالة الحركة والديناميكية، عن طريق زيادة مقدرة الاقتصاد الوطني لتحقيق زيادة سنوية ملموسة في إجمالي الناتج الوطني، مع تغيير في هياكل الإنتاج ووسائله، ومستوى العمالة، وتزايد الاعتماد على القطاع الصناعي والحرفي . ولهذا اعتبرت الزيادة السنوية في إجمال الناتج الوطني، ومتوسط دخل الفرد من المؤشرات الأساسية للتنمية....." - 1.
من خلال رؤيتنا لمفهوم التنمية في الفكر الأوروبي، ومن خلال النظر إلى هذا المفهوم عند عدد
كبير من مستخدميه، فإنه مفهوم ضيق يتعلق بالجانب الاقتصادي ومفرداته. على أن عبد الحق الشكيري يحاول أن يطرح مفهوماً أعم وهو أقرب إلى مفهوم النهضة والحضارة فيقول: (.. إن جوهر عملية التنمية -يقصد في التصور الإسلامي- هو تغيير حضارة، يتناول أبنية المجتمع كافة، ويشمل جوانبه المادية والمعنوية. إن أي نظرية للتنمية لابد أن تنبثق من واقع وظروف هذه المجتمعات..).(1)
مما سبق يتبين لنا أن مفهوم النهضة هو مفهوم الحراك الاجتماعي لعصر ما نحو الفاعلية الحضارية، وأن مفهوم التنمية في الفكر الأوروبي هو مفهوم يقتصر على الجانب الاقتصادي ومؤشراته، ونستنتج أن السعي نحو الحضارة يشملهما أي يشمل عملية الحراك النهضوي، ويشمل عملية التنمية الاقتصادية من أجل إحداث فعل حضاري.
الحضارة:
__________
(1) نفس المصدر السابق(1/12)
ما ذكرناه سابقاً يقودنا إلى موضوع الحضارة التي نسعى إليها، والحضارة كلمة عامة يقصد بها حالة مزدوجة من العطاء المادي في البناء العمراني، والتنمية والاستقرار والإسهام في التراث الإنساني، وزيادة نمائه، ويضيف إليها البعض في بعض الدراسات بأن الأمر فيه متسع للقول أن هذا هو معنى المدنية، وأنه يلزم لوضع مفهوم "حضارة" أن يكون داخل هذا البناء مفهوم أخلاقي ديني، ولا نرى في ذلك تلازماً صرفاً، إلا إذا اعتبرنا أن أي مفهوم فلسفي داخلٌ في هذا المعنى. فإذا قلنا أن الحضارة الصينية قامت على الكونفوشيوسية؛ فنقصد في هذا السياق معنيين معنى الاستقرار والبناء والتنمية والإسهام الحضاري، ومعنى داخلي وهو أن تكون هناك قيم سائدة هي الكونفوشيوسية، وفي هذا المعنى
يمكن إدراك مفهوم الحضارة الواسع.
... إذاً المجتمعات تسعى في طريقها للحضارة لجانبين:
جانب استقرار وتنمية،
وجانب آخر: أن يكون لها منظومة قيمية، وأن تسهم في الحضارة البشرية.
وحركة النهضة هي حركة لإحداث تحولات تقود إلى الوضع الحضاري المطلوب. ومن هنا تتضح بعض المعاني الغامضة في أقصى ما يمكن أن نشرحه في هذين الجانبين الهامين.
سؤال هام:
... إذا عدنا إلى الحديث عن قضية النهضة فإنه يُطرح سؤال هام يقول: في أي سياق تأتي قضية النهضة؟؟
... وللإجابة على هذا السؤال نعرض النموذج التالي:
إذا نظرنا إلى القرن السابع الميلادي 622م ونظرنا إلى القرن الحادي عشر الميلادي 1097م ثم نظرنا إلى القرن العشرين 1924م لوجدنا ثلاثة محطات كبيرة وهامة في تاريخ العالم الإسلامي.
فالمحطة الأولى الهامة في تاريخ العالم الإسلامي 622م شهدت انطلاقة المشروع الإسلامي وتحوله من شكل التنظيم إلى شكل الدولة المعاصرة - إن جاز تعبير الدولة المعاصرة - حيث نقصد بذلك(1/13)
وجود مجتمع لديه قيادة ولديه دستور ولديه جهاز الشورى ولديه جهازه الدفاعي أو جيشه الذي يتحرك بإمرته. هذا الشكل الذي كانت بذوره موجودة يمكن أن نطلق عليه بشكل أو بآخر بذور الدولة الحديثة. إذا نظرنا إلى هذه المحطة الهامة في تاريخ البشرية حيث بزغ ما يمكن أن نطلق عليه النظام العالمي الجديد. وقدم المسلمون فيه نموذجاً جديداً لمفهوم الإنسانية، ومفهوم الحرب، ومفهوم السلم، ومفهوم العدالة، ومفهوم تعايش الأديان، ومفهوم الدستور، وغير ذلك. ثم إذا انتقلنا إلى القرن الحادي عشر حيث بدأ الهجوم الأوروبي الضخم في شكل الحملات الصليبية على العالم الإسلامي 1097م، الأمر الذي استنزف موارد العالم الإسلامي بشكل متصل لمدة ثلاثة قرون. ثم تواصل هذا الهجوم على الأطراف - بعد أن كان يستهدف القلب - وتم إنجاز المشروع الغربي بإسقاط الخلافة الإسلامية سنة
1924م وهي المحطة الثالثة الهامة التي يجب تذكرها والتي أدت إلى هزة كبيرة في العالم الإسلامي نتيجة لثلاثة أمور .
الأول: انكشاف حالة التخلف في العالم الإسلامي .
الثاني: سقوط العالم الإسلامي تحت أيدي حركة الهيمنة والاستكبار أو ما أطلق عليه الاستعمار.
الثالث: تمزيق العالم الإسلامي إلى وحدات صغيرة لا يجمعها جامع.
وبالتالي تولدت ثلاثة عناوين كبيرة تحرك تحتها العالم الإسلامي بعدها .
العنوان الأول عنوان النهضة والتقدم في مقابل عنوان التخلف .
وعنوان التحرير في مقابل معادلة وعنوان الاستعمار والاحتلال.
وعنوان الوحدة في مقابل عنوان التمزيق.(1/14)
وقد شمل ذلك جميع ألوان الطيف السياسي في المجتمعات الإسلامية، حيث كانت العناوين متشابهة فنرى مثلاً عناوين "الوحدة الحرية التقدم"، هي نفس العناوين التي نتحدث عنها في "الوحدة والنهضة والتحرير"، وقد تحدث عن هذه العناوين القوميون، وتحدث عنها الإسلاميون على وجه سواء، ولكن المنطلقات كانت مختلفة؛ فكان منطلق الإسلاميون التواصل مع الماضي واستجلاب الصالح منه، ثم تعزيز الهوية من خلاله، والانطلاق لمواجهة المستقبل بحركة التجديد في جميع المجالات. بينما قررت قطاعات ليست باليسيرة في التيار القومي القطيعة مع الماضي بشكل أو بآخر واعتباره تراثاً وليس عقيدة، واستبعاده من معادلة السياسية، وإبقائه في زاوية ضيقة وهي مجال الاجتماع، ولكن وعلى كل حال ظلت العناوين الثلاثة الرئيسية وهي "الوحدة والنهضة والتحرير" هي محاور الاهتمام.
إذاً موضوع النهضة يأتي في سياق تاريخي طويل ممتد بدأ من قيام الدولة الإسلامي ووضعها لنموذج الدولة ونموذج جديد للحضارة البشرية، ومروراً ببداية الهجوم العالم الغربي الكبير منذ القرن الحادي عشر على العالم الإسلامي، وانتهاء بنجاح المشروع الغربي في تفتيت العالم الإسلامي، والسيطرة على مقدراته، وفرض التخلف عليه وإدامته، ثم حركة الإحياء الإسلامي، والنهضة الإسلامية التي بدأت مع هذا الزلزال الكبير الذي بدأ سنة 1900م أو الذي تجلى سنة 1924م - في عبارة أصح – حين أعلن عن سقوط الخلافة الإسلامية.
المحطات الهامة في التاريخ
المحطة ... السمات ... النتائج
سنة 622م
انطلاقة المشروع الإسلامي ... تحول المشروع إلى نظام الدولة.
تكون مجتمع
قيادة
دستور
جهاز شورى
جهاز دفاعي ... دولة حديثة
مفاهيم جديدة عن:
الإنسانية
الحرب والسلم
العدالة
تعايش الأديان
الدستور......
سنة 1097 م
القرن الحادي عشر بداية الهجوم الأوروبي على العالم الإسلامي في الحملات الصليبية. ... استهداف القلب(1/15)
ثم هجوم عل الأطراف ... استنزاف موارد العالم الإسلامي
لثلاثة قرون.
سنة 1924م
إنجاز المشروع بإسقاط الخلافة الإسلامية. ... انكشاف حالة التخلف
الاستعمار والاحتلال.
التمزق ... هزة كبيرة للعالم الإسلامي.
إلى هنا نكون قد أجبنا على التساؤل حول كلمة مشروع، وكلمة النهضة والتنمية، والحضارة ومعانيها، ثم تطرقنا إلى قضية السياق الذي تأتي فيه عملية النهضة، وفكرة النهضة للعالم الإسلامي.
والآن نبدأ في تناول بعض الأمور التي قد تكون صعبة في البداية، ولكنها في غاية الأهمية لتنظيم الخارطة الذهنية للقارئ.
المصطلحات الأربعة:
سنبدأ ببعض المصطلحات التي يصعب تجاوزها لضرورتها في ترتيب الخارطة العقلية للعاملين، ولشيوع بعضها في كثير من الكتابات وفي التناول اليومي لكثير من المثقفين. ويجب أن نلفت النظر إلى أن هذه المصطلحات تعددت تعريفاتها وتنوعت، وما سنذكره هنا من تعريف لكل مصطلح هو ما اخترناه لسيستمر معنا طوال البحث. ونذكر أربعة مصطلحات هامة نرى أنها تشتمل على بعض التعقيد للوهلة الأولى:
الأول: مصطلح ما وراء الأيدلوجيا أو الميتا أيديولوجي
الثاني: مصطلح الأيديولوجيا
الثالث: مصطلح البارادايم
الرابع: مصطلح الاستراتيجية.
... هذه المصطلحات تتداخل في أذهان كثير من الناس، وتشكل حاجزاً دون التواصل بين العاملين في مجال النهضة بل والمتحاورين في كثير من الأحيان، ولذلك رأينا ضرورة فك الاشتباك بين هذه المصطلحات الأربعة وتوضحيها بقدر ما يتسع له المقام في هذا البحث.
ما وراء الأيديولوجيا:
... مفهوم ما وراء الأيديولوجيا يمكن أن نقول عنه أنه مجموع النصوص المرجعية، سواء كانت مقدسة أو غير مقدسة، وبصفتها نصوصاً مرجعية فعادة ما يحتكم إليها في الحديث.(1/16)
ولكل إنسان مراجعه الأساسية، ففي الفكر الإسلامي نجد خلفنا تراثاً يتمثل في المصدرين الخالدين؛ الكتاب والسنة، ثم في الكثير من أعمال الفقهاء والمفكرين والمفسرين والمحدثين وغيرهم. وفي التراث الغربي هناك هوبز ومونتسكيو وجان جاك رسو وغيرهم. كما نجد ماركس، ولينين، وإنجليز في هذا السياق الكبير الذي يمثله التراث. هذه كلها عبارة عن الكتابات المرجعية التي يستند إليها العاملون في مجال الأيديولوجيا، كل حسب تراثه ومعتقداته.
وبالنسبة للمسلمين تشكل النصوص مرجعية ووعاءً كبيراً ينطلق منه الجميع في الفهم وبناء الصورة الذهنية للإسلام، وعن الممكن وغير الممكن في نطاقه وفي نطاق أسواره. هذه النصوص المرجعية هي التي تشكل هذا البناء الذي يطلق عليه ما وراء الأيديولوجيا أو الميتا أيديولوجي. يقول أندرو هيود في كتاب Foundation of Politics أو "أسس السياسة" ".. إن الأيديولوجيا العليا أو خلفية الأيديولوجيا هي التي تضع الأساس التي تقف عليه الحوارات الأيديولوجيا.. فإذا شئنا قلنا أن قاعدة كل الحوارات الأيديولوجية بعد ذلك أو البناء الثاني الذي سنتحدث عنه هو النصوص والمرجعيات التي يستند إليها المتحاورون..".
الأيديولوجيا:
أما الأيديولوجيا وهي الطابق الثاني في هذا السياق فهي كما يقول أندرو هيود ".. عبارة عن أفكار مترابطة بدرجة أو بأخرى، توفر أساساً لعمل سياسي منظم سواء كان الهدف منه حفظ أو تشذيب أو هدم نظام توزيع القوة القائم..".
إذاً يمكن أيضاً - كما يقول هيود. - أن ينظر للأيديولوجيات على أنها "توفر تصوراً للنظام في شكل رؤية عالمية، وتوفر نموذجاً للمستقبل المنشود في شكل خطوط عريضة عن كيفية إحداث التغيير السياسي. وهي في مستوى الجوهر اقتراب من الفلسفة السياسية. وعلى مستوى التنفيذ تأخذ شكل حراك سياسي".(1/17)
... نعود فنقول أن الأيديولوجيا عبارة عن أفكار مترابطة بدرجة أو بأخرى -ليست أفكاراً متناثرة بعيدة بعضها عن بعض- أي أنها أفكار تأتي في نسق ووفق عمليات ربط معينة، وهذه الأفكار عندما تجمع ويربط بينها تستخدم لعمل سياسي منظم. ونحن نعرف أن العمل السياسي في جوهره إما أن يقوم لحفظ نظام موجود، أو يقوم لتشذيب النظام وتعديله، أو لتغييره وإحلال شيء آخر مكانه. أما قول هيود في نظام توزيع القوى فهو يتوافق مع كون النظام السياسي في حقيقته هو نظام توزيع قوة. حيث تتوزع القوى بين رئيس الجمهورية أو رئيس الدولة وبين مجلس الشورى وبين المجالس المنتخبة أو غير المنتخبة وبين القضاء وبين الجهاز التنفيذي وهو الحكومة، فمن هذه الأبنية المتنوعة الجهاز التشريعي والجهاز التنفيذي والجهاز والقضائي، تتوزع القوى فيما بينها، إما بما يسمى توازن القوى أو باضطراب
القوى حسب النظام السياسي التي تتمثل فيه ولكن في الأخير هو توزيع للقوى بين الأطراف المختلفة داخل المنظومة السياسية.
... لكن هناك أبعاد أخرى للأيديولوجيا - كما يقول هيود - ذلك أنها تشكل رؤية عالمية. فالليبرالية لا تعتبر نفسها بنت الولايات المتحدة الأمريكية أو بنت فرنسا أو المنظومة الأوروبية، بل ترى أنه يجب أن تهيمن على العالم. وهذا ما تصرح به كل الوثائق الرسمية التي تصدر من جميع الجهات
الأوروبية فهي منظومة تسعى للهيمنة، وبمعنى أخر أنها تعتبر نفسها منظومة معيارية. ولا تقتصر على بلد ما بل هي منظومة عالمية.
إن الأيديولوجيا في جوهرها هي منظومة قيمية لا تقتصر على مكان معين، بل يرى أهلها أنها صالحة للعالم كله. قس على ذلك المنظومة الشيوعية قبل سقوطها، وكيف كانت تنظر لنفسها كمنظومة عالمية. وكذلك المنظومة الإسلامية في منظورها العالمي. فالأيديولوجيا بشكل أو بآخر لها منظور عالمي.(1/18)
... كذلك من خصائص الأيديولوجيا؛ أنها توفر نموذجاً للمستقبل المنشود في شكل خطوط عريضة عن كيفية إحداث التغير السياسي، وما الذي يجب تغييره. فهي تقدم تصوراً لشكل الدولة الذي يجب أن يكون. ففي الدولة الليبرالية الغربية أو في المنظور الليبرالي الغربي هناك شكل للدولة ترى أنه صالح أن يكون لكل الدول، وفي المنظومة الشيوعية مثل ذلك وفي المنظومة الإسلامية أيضاً تجد ذلك. أما قول هيود أن الأيديولوجيا "في مستوى الجوهر هي اقتراب من مستوى الفلسفة السياسية وعلى مستوى التنفيذ تأخذ شكل حراك سياسي" هو أن الأيديولوجيا لا تتوقف عند التصورات بل هي تقوم بالحشد وجذب الناس حول الفكرة ومحاولة تحقيقها على أرض الواقع.
بذلك يكون قد تكون عندنا طابقين: الطابق الأول "ما وراء الأيديولوجيا"، وهو مكون من النصوص المرجعية سواء كانت مقدسة أو غير مقدسة. والطابق الثاني "الأيديولوجيا" حيث تربط هذه الأفكار وتطرح في عملية الاحتشاد حولها ومحاولة بعثها على أرض الواقع في شكل نظام.
البارادايم:
... المفهوم الثالث وهو البارادايم ويقصد به: المنظور الشامل. ففي مرحلة تاريخية معينة، تسود بعض النظريات وتجد قبولاً والتفافاً من كثير من الناس حولها. وتصبح طريقة في التفكير وينطلق الإنسان في هذا السياق، ويتحدث مثلاً عن التنمية في فترة من الفترات، فيجد أمامه مجموعة تفسيرات للتنمية، كنظرية آدم سميث، أو تحليل ريكاردو، أو تحليل ماركس أو يجد نظرية الدفعة القوية أو نظرية النمو غير المتوازن. فالمقصود أن طريقة تفكيره تتأثر بمثل هذه المناظير الشاملة العامة ويطرح أفكاره من خلالها.
فالبارادايم عبارة عن مجموع المنظور الشامل المنتشر في فترة زمنية معينة، والذي يؤثر على أفكار الناس ويجعلهم ينطلقون منه في الحديث عن الأشياء، وذلك يشمل تصورات كثيرة جداً، حول السياسية والاقتصاد والتخطيط وغير ذلك من الأعمال.(1/19)
... وخطورة البارادايم أنه في كثير من الأحيان يغلق آفاق العقل على رؤية أحادية للواقع – منظار ذو لون محدد – تمنع رؤية الحقيقة الواضحة.
الاستراتيجية: ...
... يخلط الناس بين هذه المفاهيم السابقة وبين ما يطلق عليه الاستراتيجية أو الخطة الاستراتيجية، فالخطة الاستراتيجية إذا أردنا التدقيق والتحقيق والتعرف على معناها دون اللجوء إلى المصطلحات المعقدة؛ فهي عبارة عن دراسة لعدد من الأشياء في واقع معين في مكان معين:
دراسة الذات.
دراسة الطرف الآخر المواجه.
دراسة الأرض أو المجال الذي يتم الصراع فيه.
دراسة الظروف المحيطة بالصراع.
تحديد البدائل والوسائل التي يمكن بها تحقيق النصر.
المفاضلة بين هذه البدائل.
اختيار البديل الأمثل للوصول إلى الأهداف في ظل المعرفة الشاملة بالذات وبالآخر وبالأرض التي يتم عليها الصراع وبالمجال والظروف المحيطة بالصراع.
فالفارق بين الأيديولوجيا وما وراء الأيديولوجيا والبارادايم -وهو المستوى النظري الحاكم -وبين المستوى التخطيطي الذي يطلق عليه الاستراتيجية، هو عندما تنزل من وضع الدراسة والتحليل إلى وضع التشكل في وثيقة، أو في تصور فكري أو في شكل رؤية وفي شكل مهمة وفي شكل قيم وفي شكل مجالات عمل وفي شكل مراحل وفي شكل أهداف عامة.
هذا المستوى أيضاً يختلف عن المستوى الأخير، وهو مستوى الخطط التنفيذية، عندما تنتقل هذه الخطط الاستراتيجية العامة إلى منفذين سواء كانوا إدارات أو أقسام أو فروع وتصل إلى الخطط التفصيلية جداً على مستوى التنفيذ.(1/20)
حين نخلط بين هذه المستويات في الحديث ولا يتبين القارئ عن أي مستوى نتحدث، فإننا نقع في خطأ فادح. فحين نتكلم عن الأيديولوجيا والتصورات العامة ينطلق إنسان ليتساءل عن الخطة التنفيذية، أو يسأل عن الاستراتيجية!! عندها يصبح الاتصال بين الأطراف مرتبكا،ً فيجب تحديد مستوى الحديث حتى يمكن أن نتبين أن المستوى ينتهي عند نقطة معينة، ويبدأ المستوى التالي عند النقطة التي تليه.
ترتيب المفاهيم الأربعة:
إذا أجرينا فك الاشتباك بين هذه الأدوار المختلفة، سنصورها كالتالي: بداية ما وراء الأيديولوجيا، وتقف عليها الأيديولوجيا، ثم يقف عليها البارادايم -إن صح التعبير- ثم تأتي قضية الاستراتيجية لتجعل الموضوع دقيقا متعلقاً بمكان وزمان وظرف محدد، ثم تأتي الخطط التنفيذية لنقل الموضوع إلى واقع الحياة العملية.
مقولة: "حسبنا كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -"
بقي أن نشير إلى معضلٍ كبير يواجه كثيراً من العاملين في الساحة الإسلامية عند الحديث عن موضوع النهضة، وهو قول القائل" حسبنا كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -" وهو قول صحيح، ومهم أن نتبين معناه قبل أن نسارع إلى الاختلاف حوله.(1/21)
فعندما نتحدث عن فلسفة التاريخ، وعن النهضة وعن التنمية وعن العمل السياسي، فنحن نلجأ في كثير من الأحيان إلى أصحاب الفن والعلماء في هذه المجالات المتخصصة للاستشهاد بهم والحديث عنهم. وقول القائل هنا يعني أننا قادرون على الاستغناء عن كل ذلك بالرجوع إلى نصوص الكتاب والسنة، وفي ذلك خلط كبير وظلم كبير للدين وللإسلام. ولبيان ذلك نقول قاعدة عامة هي أن العلم علمان: علم في الكتاب، وعلم أشار إليه الكتاب. فإن كتاب الله عز وجل فصل في العبادات وفيما هو من شأن الدين المحض، ولكنه عندما تعامل مع الخبرة الإنسانية قال "فاسألوا أهل الذكر أن كنتم لا تعلمون"(1). ولكل مجال من المجالات أهل الذكر فيه والخبراء فيه. وبالتالي هو مما أشار إليه القرآن ويدخل في ذلك العلوم التطبيقية والعلوم الإنسانية وكل ما يترتب على الخبرة الإنسانية إنما هو داخل في الكتاب الكريم وفي سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفي العلم الذي أشار إليه الكتاب.
فإذا أدرك القارئ الفاضل هذه العبارة البسيطة أن العلم علمان علم بالكتاب وعلم أشار إليه الكتاب، زال اللبس والغموض حول هذا المعنى العام، أما إن أراد القائل أن أي اجتهاد بشري يخالف كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو مرفوض، فهذا صحيح فعلمنا بكتاب الله وسنة رسوله يضع لنا موازين
عامة للقبول والرفض. أما إن كان يقصد أننا بقراءة الكتاب والسنة نستغني عن العلوم التطبيقية والعلوم الإنسانية فهو خطأ فادح وأمر بيِّن خطأه لا شك.
مواصفات القادة:
هناك تساؤل يقول: لماذا يجب أن يدرس القادة مشروع النهضة؟
كثيرٌ من الناس يملك زمام الأمور في المجتمعات الإسلامية وليس له تصور واضح عن مشروع النهضة، ما أدى إلى خلل كبير. وانظر إلى النموذج الذي طرحه جيمس كلاوسنتس (2) والذي يصف فيه القائد بأنه يتمتع بثلاثة أمور:
__________
(1) سورة الأنبياء: 7
(2) بروفيسور في مجال الإدارة سنة 1988م(1/22)
أولها: الرؤية Visionوهي تصور عما ينبغي أن يكون، مبني على كل ما ذكرناه في موضوعات ما وراء الأيديولوجيا والأيديولوجيا والبارادايم وكل هذه المعاني الكبيرة التي تقود إلى تصور ورؤية واضحة للمستقبل، وما يمكن أن يتحقق فيه في ظل معرفة الإمكانيات والممكنات.
ثانيها: الالتزام Commitment فالرؤية التي لا تعمل في فراغ، تحتاج إلى هذا الالتزام بها وبتحقيقها في أرض الواقع. فالالتزام والانضباط وتسخير الأوقات والجهود لتحقيق الرؤية، هي العنصر الثاني القيادي الهام.
ثالثها: المهارات القيادية أو المهارات الإدارية أو ما يطلق عليه Managerial Skills، وإدارة الناس وتوجيههم وحثهم واستقطابهم للقيام بالأعمال المنوطة بهم، وهو عمل كبير لا يتقنه إلا القادة البارعون. فالقائد لا يستطيع أن يقوم بمهامه بمعزل عن الناس، إنما يحقق أهدافه وأهداف مؤسسته من خلال استقطاب أكبر عدد من الناس لتنفيذ هذه الأعمال وللقيام بها. وكلما ازدادت قدرته على ذلك ازدادت إمكانية الفعل لديه وإمكانية التأثير. وانظر إلى هذه الدائرة التي تتكامل:
... رؤية قوية وتصور واضح، فمجال عالم الفكر عند القائد من أهم المجالات الضخمة التي تفرقه عن المدير الذي قد يمتلك المهارات الإدارية ليسخر الناس للقيام بالأعمال التي يقومون بها، فهو لا يغادر الواقع الذي يعيش فيه إلى النظر للمستقبل، بينما القادة يمتلكون رؤية يدفعون المؤسسات والمجتمعات إليها ويقودونهم بها.
مستلزمات نجاح المشروع:
إن الكثير من الناس لا يدركون أن نجاح المشروع النهضوي مرتبط بمجموعة قضايا.
أولاً: الإحاطة بالمبدأ، والإيمان به والتقدير له(1)
والإحاطة بالمبدأ هو وجود تصور شامل، وخارطة كاملة للمبدأ الذي ندعو إليه في ذهن العامل في مجال النهضة لمفهومها ومجالاتها.
__________
(1) انظر مجموعة رسائل حسن البنا، في رسالته إلى أي شيء ندعو الناس.(1/23)
والإيمان به يطلق على وجود إيمان أو تصديق جازم بالفكرة وصلاحيتها، والمراد هنا الإيمان بأن هذه النهضة قابلة التحقق وأنها حق لهذه الأمة.
وقضية تقدير الفكرة لا تأتي إلا بمقارنتها بغيرها، والإيمان بعلوها وسموها على غيرها، فكلما كانت الفكرة أكبر قيمة لدى معتنقها كلما كان الإنسان معطياً لها ما يوافق ثمنها وقيمتها.
هذه العناصر أمر تحتاجه أي فكرة ، فما بالك إذا كانت هذه الفكرة النهضوية هي
الإسلام. تستند إليه وتنطلق منه، وتسعى لتعزيز وجوده في عالم الإنسان وفي البشرية. كم يكون حجم العطاء وأهمية الإحاطة بالمبدأ والتقدير له حينها؟.
ثانياً: يلزمنا بعد ذلك معرفة المسار والخطوط العريضة التي تتحرك فيها عملية النهضة، فبدون معرفة المسار والخطوط العريضة، يصعب الحراك، وكثير من العاملين في الساحة الإسلامية لا يعرف المسار الذي تتحرك فيه النهضات، ولا يعرف مستلزمات هذا الحراك، وبالتالي تتقاطع الخطوط وتضطرب الصفوف وتضيع الجهود.
ثالثاً: موضوع التطوير المستمر، ففكرة النهضة ومشروعها ليس عملاً جامداً استاتيكياً لا حياة فيه؛ بل هو تفاعل مستمر مع العقل البشري يحتاج إلى تطوير مستمر. وفي كل فترة من الفترات يحتاج الخطاب الإسلامي النهضوي إلى تجديد في منطقه ومفرداته وفي مناطق تركيزه، بسبب تغير الظروف والأحوال والاهتمامات. كما يحتاج إلى معالجة جوانب القصور والانغلاق فيه، إذ لا يمكن أن يدعي مدعي من البشر أنه يمتلك فكرة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، فذلك أمر مستحيل ولذلك فعملية التطوير المستمرة ضرورية، يقول المولى عز وجل "الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً"(1) فإن كان عمل فرد ما حسنٌ اليوم أو الأحسن اليوم، فيجب أن يأتي فرد آخر بأحسن منه.
__________
(1) سورة الملك: 2(1/24)
وهكذا تستمر عملية التطوير المستمرContinuous Improvement من داخل المفهوم الإسلامي من خلال هذا المعنى الهام والعظيم "أيكم أحسن عملا". ذلك هو الهدف الرئيسي، وكلما كان هناك عملٌ حسن، كلما كان هناك عمل أحسن منه، ثم يأتي من يعمل أحسن من ذلك. وهكذا
تتطور الحياة وتتقدم.
رابعاً: توسيع دائرة الشورى والمناصحة، ويعتقد الكثيرون أن دائرة التنظيمات والأحزاب المنغلقة كافية لتطوير المشروع الإسلامي، وبما أن المشروع الإسلامي كبير الحجم، ضخم التكاليف، فإنه لا يمكن إلا أن تقوم به الأمة مجتمعة بجهودها وجماعاتها ومنظماتها وحكوماتها وأحزابها وأفرادها، وبالتالي يجب أن تتسع دائرة الشورى والمناصحة لتشمل جميع المعنيين بأمر النهضة في المجتمعات الإسلامية دون إقصاء ودون حجر ودون تضييق، بسبب المذاهب والطوائف والجماعات والأحزاب والتصورات. فالإسلام أكبر من كل ذلك وهمه أشمل وأهم وأعظم.
خلاصة:
خلاصة الأمر في قول الله تبارك وتعالى في سورة العصر "والعصر - إن الإنسان لفي خسر - إلا الذي آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر - " فالمشروع الإسلامي يحتاج كأي فكرة إلى الإيمان به، إيماناً جازماً قاطعاً لا يحتمل شكاً ولا تأويلاً أنه الحق من الله سبحانه وتعالى، وأن العمل له واجب. وهذا الإيمان لا يتأتى إلا بإدراك الفكرة وعظمتها وسموها وشمولها. فمعرفة الفكرة والإيمان بها هو الشرط الأول لها.
المسألة الثانية تحرى أفضل الأعمال التي تقود إلى نجاح الفكرة، فإن الأعمال تتفاضل وتختلف درجاتها، فإذا ضيع الضروري واستعيض عنه بالحاجي أو عوض عن الحاجي بالتحسيني(1)
__________
(1) الضروري: هو الأمر الذي تتوقف عليه حياة المجتمع واستقراره.بحيث تختل الحياة عند فواته.=
= الحاجيات: أو الحاجي هو الأمر الذي يحتاج الناس إليه، ولا يختل نظام الحياة عند فواته، ولكن تلحق الناس المشقة من فواته.
التحسيني: هو ما يفعله الناس على مقتضى الآداب العالية والخلق القويم، ولا يختل نظام الحياة ولا تلحق بالمجتمع مشقة لفواته.(1/25)
فإن في ذلك خللاً كبيراً. فصلاح الأعمال شرط لنجاح الأفكار وبالتالي يستقيم عند الإنسان النظر والعمل.
أما المسألة الثالثة التواصي بالحق. فالتواصي بالحق لا يكون إلا في مجموع من الناس حيث يتبادلون الآراء ووجهات النظر. وذلك معنى الشورى الشاملة التي يحتاج فيها المرء إلى من يعينه، ولا تقتصر على حزب أو طائفة من الطوائف، ولا على جماعة من الجماعات، كما ذكرنا سابقاُ.
أما قولنا تواصوا بالصبر فإن هذا المشروع النهضوي الضخم يحتاج كأي فكرة إلى صبر وأي صبر، وإلى تحمل وأي تحمل، فإن نجاح الأفكار العظيمة لا يتأتى بمجرد الآمال، إنما بالعمل الشاق المرير الذي تكرهه النفوس.
ومن يتهيب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر
أطوار حركة النهضة
إن حركة النهضة تمر بسلسلة من العمليات. تبدأ من طور الصحوة واليقظة، وتتجلى في شكل النهضة التي تولد بعدها أشكال العمران أو الحالة الحضارية في تجلياتها المادية.
الصحوة:
وهي أولى مراحل انقشاع سحب التبلد الذهني. وسنستخدم هذا المصطلح هنا لوصف المرحلة الأولى في البعث الحضاري.
من أعراضها الإيجابية: الإحساس بالذات والهوية.
من أعراضها السلبية: عدم تمتع أشكالها التنفيذية الانطلاقية بالرشد الكامل، فهي في جزء منها قد تبدو فوضوية غير منضبطة.(1/26)
... فالصحوة هي إرهاصات لحالة جديدة تعتري مجتمعاً ما، واضحة أحياناً ومشوشة أحياناً أخرى. ولكنها صرخات الجنين الأولى وحركة من صحا من نومه فجأة، ولكنه لم يستيقظ بعد ويتنبه لمحيطه الخارجي بشكل سليم، فربما اصطدم بمقعد أو دولاب دون أن يقصد أو يريد. ولكن هذه الأخطار تزيده صحواً وتنقله للاستيقاظ الكامل. وقد جاءت مرحلة الصحوة للأمة بعد مرحلة سبات عميق وركود مميت مكَّن أقدام المستكبرين من أن تدوس أرضها، وأن تخترق سهام الأفكار الغازية فضاءها العقلي .. فانطلقت عمليات البعث الفكري الأولى بدءاً خجولاً في شكل دفاعي؛ لتطور نفسها بعد ذلك في شكل هجومي، ولكنها ظلت حركة عقلية للنخب والمثقفين، وليست زاداً للأمة بعمومها. فقيض الله من رجالات الأمة من نزلوا بهذه الأفكار لجماهير الأمة فبينوا عظمتها وسموها على غيرها، وكشفوا للأمة نقاط ضعف غيرها من الأفكار. ونجحت جهودهم في حشد الجماهير حول الإسلام, فتراجعت أمامهم جميع الأفكار وانزوت وانحصرت، ولولا سطوة السلطان ما بقى منها شيء.(1/27)
... والصحوة في جوهرها تيار عاطفي ضخم. تيار مؤمن بالإسلام ومبادئه, ولكنه قليل الخبرة، ضحل المعرفة بتفصيلات واقعه. تيار يفتقد الخبرة والصبر ليكتشف مناهج التغيير وطرائقه. تيار يتعجل قطف الثمار ولا يحسن فن ترقب الفرص. وفي خضم هذه العجلة دفعت الأمة وطلائعها الشابة الدم والدمع والعرض في مقابل القليل من النتائج. تضحيات كبيرة وثمرات قليلة. إنها مرحلة تعلمت الأمة فيها عقم واقعها وعظمة فكرتها، ولكنها لا تمتلك المناهج وخطط التعامل مع مشكلة الزمان والمكان، ولا تمتلك ما تحتاجه من تعدد الوسائل وطرق العمل وما يلزم لذلك من سعة الفكر والقدرة على الابتكار. وهي مرحلة على ما بها من حركة عشوائية أو شبه عشوائية وما بها من عثرات طبيعية في مسارات الأمم والشعوب - مرت بها فرنسا ومرت بها اليابان ومرت بها بريطانيا وغيرهم كثير - إلا أنها ظاهرة إيجابية تدل على أن الأمة قد أفاقت. إنها مرحلة تطول أو تقصر ولكنها موجودة لا محالة. إنها بشارة – رغم ما بها من آلام ومخاض – تقول أن الأمة قررت أن تهجر السكون.
أما اليقظة:
فهي حالة تالية تنقشع فيها بقايا الخِمار العقلي، ويعرف فيها المرء مكانه ووضعه بالنسبة لما يحيط به من أشياء وبشر، فتتضح الرؤية، ويكيف حركته ليسير بين عالم الموجودات المادية حوله وينظم علاقته بعالم البشر المحيط به.
أعراضها الإيجابية: الرشد والوعي والعمل المخطط المدروس، في ظل رؤية تجمع الجهود العملية التي كانت تبدو متباينة أو متضاربة في مرحلة الصحوة.
... وميلاد مرحلة اليقظة من مرحلة الصحوة أمر طبيعي فلو كانت مرحلة الصحوة بطبعها طور (أولي الأيدي) أو التنفيذيين فمرحلة اليقظة تضيف إلى التنفيذ دور (ذوي الأبصار)، لتتكامل معادلة (أولي الأيدي والأبصار) التي أشار إليها القرآن(1)
__________
(1) "واذكر عبادنا إبراهيم وإسماعيل وإسحاق أولي الأيدي والأبصار" سورة ص: 45(1/28)
, إن العقول هنا تبدأ في التفكير في كل مسلمات المرحلة السابقة وطرق عملها. إنها مرحلة يطبعها الانتقال من طور المبادئ والعواطف والشعارات إلى إعمال العقل وإطلاق طاقاته الخلاقة. إنها مرحلة تتكثف فيها الجهود لفك الأغلال عن العقل. إنها مرحلة تبدع المناهج والتصورات اختراعات وأساليب جديدة، وتنقل الأمة من مرحلة الانتظار إلى مرحلة المشاركة الفعلية حتى تتجلى ثمرتها بعدها في مرحلة النهضة.
وأما النهضة: فهي حالة تالية عندما ينظم عالم الأفكار(1) ويستيقظ عالم المشاعر(2) ويندفع الإنسان فيها متحرراً من قيود الخوف ليمارس دوره في جميع المجالات.
أعراضها الإيجابية: استشعار الإنسان لذة العمل والاكتشاف والقوة، فهي حالة تتخلل كل أشكال الحياة، وحالة تعطي للوقت قيمته في حياة الأمة، وتعطي للتفوق والإبداع تقديرهما. إنها مرحلة تدفق الشلال – الذي كان يسمى بالصحوة – ليصوغ كل مجالات الحياة - العلمية والتطبيقية - صياغة جديدة.
في مرحلة النهضة يعم نور البحث والنظر وتولد الإبداعات التي تؤسس لنشوء عالم الأشياء الذي يزود الحق بالقوة فيسيران معاً.
وأخيراً تأتي الحضارة:
وهي حالة من بناء النموذج المنشود في عالم الواقع متمثلاً في نموذج فكري متقدم، وعالم علاقات وسلوك(3) متقدم، وعالم من الإنتاج المادي الصناعي والمعماري والفني متقدم(4).
مشروع اليقظة
__________
(1) يقصد بعالم الأفكار التصورات وإدراك العالم الخارجي ومجموعة المبادئ والصواب والخطأ والمشاعر والأحاسيس.
(2) أفرد بعض العلماء عالم المشاعر والأحاسيس كعالم رابع منفرد ولم يدرجوه تحت عالم الأفكار.
(3) يقصد بعالم العلاقات والسلوك الحياة الاجتماعية والمدنية والعلاقات المنظمة للأفراد والجماعات.
(4) ويطلق عليه عالم الأشياء، ويقصد به البنية المادية المحسوسة كالمصانع والمنازل والجسور وغيرها.(1/29)
... مما سبق يتبين أن مرحلة الصحوة قد استوفت أهدافها، وآتت أكلها في شكل تيار جارف من الطاقات التي تبغي نهضة أمتها. والحاجة الآن ملحة إلى الانتقال إلى مرحلة اليقظة، لاستثمار هذه الطاقات المباركة وفق رؤية استراتيجية لتندفع الجهود كلها في مسار النهضة.
... إن مرحلة الصحوة – كما ذكرنا – تمثلت في حماس جارف وقلة رشد وجهود قد تبدو متضاربة أحياناً، ومرحلة اليقظة تتطلب زيادة مساحة النظر والبحث لاستخدام وسائل جديدة وفق رؤية وشراكة استراتيجية تجمع كل الطامحين للنهضة.
أهداف مرحلة اليقظة:
نقل الأمة من طور الصحوة العاطفي(الحماس مع قلة الرشد وضبابية الرؤية) إلى مرحلة اليقظة الراشدة العاقلة حيث يتم تنظيم الجهود العملية وفق رؤية استراتيجية تجمع كل الطاقات.
العاملون في المشروع:
يضم المشروع كل جهد نافع لأي تيار أو حزب أو مؤسسة أو حكومة أو أفراد مستقلين.
احتياجات مرحلة اليقظة:
في اعتقادنا أن هذه المرحلة تحتاج إلى ثلاثة عوامل:
التحضير الفكري الشامل والمتواصل للأمة تحضيراً ينتشلها من اليأس، ويبعث فيها الأمل ويجيب على تساؤلاتها أو شكوكها، ويوضح الرؤية، ويرسم الطريق، ويفتح لها مسارات عمل جديدة تتلاءم مع طبيعة المرحلة.
توصيل هذا المشروع إلى النخب المؤثرة الحاكمة بأحسن الوسائل، وأفضل السبل، بحيث تقتنع بإمكانية عودة الحياة الحضارية، والدخول في التنافس البشري حول الأولوية، منطلقين من قواعد المشروع الإسلامي الذي أطلقه المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بأمر من ربه جل وعلا.
إيجاد مشاريع عمل مشتركة بين كل تيارات الأمة - الراغبة في النهضة – لتؤدي إلى النتيجة الحتمية في نهضة مجتمعاتنا.
سياسات مرحلة اليقظة:
البعد عن الارتجال أو الاكتفاء باستثارة العواطف وفقط. حيث أن المرحلة يجب أن تسير في كل حركاتها على أدق قواعد البحث العلمي.
الانطلاق من القواسم المشتركة للعاملين من أجل نهضة الأمة.(1/30)
عدم رفع لافتة لمدرسة مذهبية أو حزبية بعينها.
عدم إقصاء أي جهد نافع يصب في نهضة الأمة. حيث أن هذا المشروع لا يستغني عن النخب المؤثرة والقيادات الرشيدة الفاضلة من كل التيارات والأحزاب والجماعات وكل المخلصين من الحكام والمحكومين، بالإضافة إلى الدعاة والأفراد المستقلين.
لقد آن الأوان أن يرى هذا المشروع النور (مرحلة اليقظة) بشكل منظم، فمقدماته لم تنقطع من أعمال رجالات الإسلام ومفكري الأمة , آن أوانه وإلا ذهبت جهود الصحوة وتضحياتها هدراً وتساقطت ثمارها وجفت وزالت لغفلة الزرّاع عن ميعاد الحصاد.
إن هذا المشروع يهدف إلى تنظيم الخارطة المعرفية ويهدف إلى اجتثاث الأفكار القاتلة التي تعوق تيار الصحوة من التدفق والوصول إلى هدفه باحتباسه رهيناً لتصورات قاصرة ورؤى تجاوزها الزمن.
إلى هنا ينتهي الفصل التمهيدي وننتقل بعده إلى مشاهد الكتاب إن شاء الله.
المشهد الراهن
لا شك أن حركة الصحوة الإسلامية المعاصرة قد لاقت قبولاً واسعاً بين المسلمين وبين الشباب المسلم. في عملية احتشاد كبيرة وضخمة في الظاهر. هذا الاحتشاد الكمي الضخم في الساحة الإسلامية قد شهدناه بالفعل في مناطق عديدة من العالم. وهذه الكتلة البشرية الضخمة – من حيث الكم - نشهدها في الشوارع، وفي الجامعات، وعند صناديق الاقتراع في كثير من الأحيان عندما تتاح الفرصة للناس أن يعبروا عن آرائهم.
هذا التيار الضخم الذي استطاع أن يستقطب الكثير من الناس يقوده الإيمان التقليدي. سواءً بالإسلام أو بالمشروع النهضوي في المجتمعات الإسلامية. ونقصد بالإيمان التقليدي هذه العاطفة وهذا الإحساس العام اتجاه أن هذا هو الصواب.(1/31)
هذا المشهد الرائع الذي نرى فيه جموع المسلمين الغفيرة تنقاد بإيمانها نحو تحقيق مشروعها وحلمها الضخم تشوبه بعض الشوائب أو الدخن. فهذه الجموع تعاني من اضطراب شديد حول تحديد أهدافها وتدرجها وتتابعها، وحول مراحل السير، وحول الوسائل وطبيعتها، وغيرها من الأمور المتعلقة بحركة المشروع وتطوره. مما أدى إلى كثرة التساؤلات التي لا تجد من يجيب عليها، وحتى إذا وجدت الإجابات فلا تجد من ينشرها ويوصلها للجماهير المتعطشة إليها.
فإذا تخيلت معنا هذا المشهد الذي يصور ساحة الفعل في مشروع النهضة الإسلامي وقد ازدحمت بجموع ضخمة من الأناس الأفاضل الأخيار، ذوى العواطف الجياشة، والإيمان القوي، وهم يسيرون أحياناً ويجلسون أحياناً أخرى، تارةً يتفقون وتارةً يتخبطون وتارة يتوهون في ساحة الفعل
الواسعة المترامية الأطراف في العالم كله. إنه مشهد يسرك للوهلة الأولى حيث ترى كثرة الجموع والمخلصين، ولكن ما أن ترى تحركاتهم وإشاراتهم وتلويحاتهم وسكونهم وشرودهم وتخبطهم وطريقة سيرهم حتى يصيبك الحزن والذعر من الفوضى العارمة التي تسود هذا المشهد.
رفع الواقع:
ليراجع كل منا نفسه، ثم لينظر إلى العاملين والمتحمسين والمؤمنين بالمشروع الإسلامي المحيطين به – أياً كان انتماؤهم – وليعرض هذه التساؤلات على نفسه أولاً ثم عليهم بعدها. ومن الإجابات يمكننا أن نرفع الواقع المحيط بنا:
هل الإيمان بالمشروع النهضوي متجذر يحدوه الأمل واليقين أم متلعثم يسوده الشك والتردد؟
هل الفكرة واضحة في خطوطها العريضة ومقنعة أم أنها ضبابية ومبهمة؟
هل الأسباب والدوافع لتبنيها واضحة صلبة أم هشة رخوة؟
ما درجة إلحاح الفكرة بمعيار الوقت والجهد المبذولين فيها؟
ما هو هدف المشروع النهضوي الذي تتحرك له الأمة؟
ما هي ضمانات نجاح المشروع؟
ما هي الإمكانات المتاحة؟
ما هي المهارات اللازمة لنجاح المشروع؟
ما هي العوائق في وجه المشروع؟
ما هي الأخطار المتوقعة؟(1/32)
ما هي النتائج الملموسة والفوائد المتوقعة إذا نجح المشروع؟
ما هي وسائل تنفيذ المشروع؟
ما هي مراحل السير في المشروع؟
ما هي السياسات المتبعة في تنفيذ المشروع؟
ما هي تكلفة المشروع؟ (المال والبشر وغيرها من الموارد)
إذا وجدت إجابات هذه الأسئلة الخمسة عشر حاضرة لديك ولدى المحيطين بك من العاملين فهذا يعني سلامة الموقف وصحة الحالة. أما إذا كان العكس فالوضع جزء من المشهد السابق.
نقطة البدء:
إن مشروع النهضة المعاصر في شقه الإسلامي - والذي لقي القبول على مستوى واسع فيما عُرِف بظاهرة الصحوة- يحتاج إلى الكثير من النظر والتجويد، حتى يؤتيَ ثماره، ويحقق النصاب الذي يحدث به التحول الاجتماعي المطلوب في مجتمعات المسلمين.
فقول الله عز وجل: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"(1) يجب أن يُلحظ فيه أن السنن الاجتماعية في التغيير تتعلق بالأقوام والمجتمعات، وليست في جوهرها تحول يحدث لفرد أو اثنين أو عشرة أو عشرين.. إنه لابد من تشكُّل نسبة اجتماعية معينة تصل إلى الدرجة الحرجة(2)
__________
(1) سورة الرعد: 11
(2) يقصد بالنقطة الحرجة critical point الدرجة التي يعقبها مباشرة حدوث التحول. فالماء مثلاً لا يتحول من صورته السائلة إلى صورته الغازية (البخار) إلا إذا وصلت درجة حرارة الماء إلى الدرجة الحرجة. وعند هذه الدرجة بالتحديد تتشابه خصائص الصورة السائلة والغازية ويختلطان. وفوق هذه الدرجة مباشرة يكون الماء في صورته الغازية، وتحتها مباشرة يكون في صورته السائلة. فهي النقطة الحرجة بين الثبات والتحول.
The critical temperature is that temperature above which unique liquid and gas phases do not exist. As you approach the critical temperature, the properties of the gas and liquid phases become the same, so above the critical temperature there is only one phase.(1/33)
. أي تحول نوعي وكمي كافٍ لإحداث التغيير في المجتمعات، كما نرى في الثورات الاجتماعية الكبرى كالثورة الفرنسية والبلشفية وغيرها.
إذاً هذا التحول لا يحدث تلقائياً.. وقد أشار الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا الأمر في الحديث الذي رواه أبو داوود فقال: "يوشك أن تداعى الأمم عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها".. قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال :"بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور
أعدائكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن".. قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت".
"فالصحابة رضوان الله عليهم في محاولة تفسير هذه الظاهرة - عملية التغيير السلبية – فكأنهم يرجعون هذه المسألة إلى عالم الكم. ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يرد القضية إلى مسارها الحقيقي بوعي سنني عميق بعيداً عن عالم الكم قائلا: "بل أنتم كثير".. ينظر فيرى تحول الواقع الإسلامي من خلال تحول رصيد ما بالنفوس"(1) وإن صح التعبير إلى النوع كبديل عن الكم.
إن من الواضح أن الاحتشاد الكمي كبير جداً في الساحة الإسلامية، أما الاحتشاد النوعي فهو قليل جداً، للأسباب التي سنحاول أن نعالج بعضها في هذا السياق الذي نتحدث عنه.
__________
(1) برغوث عبد العزيز بن مبارك – المنهج النبوي والتغيير الحضاري.(1/34)
... ولا يعني ذلك زهداً في الكم، ولكن يعني أن الكم النوعي داخل هذا المجموع هو الذي يوظف الجهود ويقود عملية التحول حتى تؤتي ثمارها. "ويجب أن يتوافر في أفراد الكتلة الحرجة الإصرار والمثابرة والبعد عن الروتين الحكومي، فالكتلة الحرجة تدربوا على مخاطبة الرأي العام وكيفية التأثير على الآخرين، وهم يملكون خبرات ومهارات يجب استعمالها بدون الروتين الحكومي، ويجب أن يعتبر كل فرد منهم مسئولاً عن هذه المؤسسة .. مسئولاً عن توضيح الحقائق والرد على المغالطات. إن هذه القوة الضاربة تستطيع أن تحدث تأثيراً كبيراً في الرأي العام وتشكله..."(1)
المطلب الأول:
إن أول المطالب العقلية والشرعية تقول أن العلم مقدم على القول والعمل. فالعلم أولاً، وبعده يأتي القول والعمل. والعلم هنا علم حقيقي وليس علم متوهم. علم حقيقي بالموضوع الذي يتم الحديث عنه. فالحكم على الشيء فرع عن تصوره. ونحن هنا نتحدث عن النهضة، وقد أشرنا في التمهيد إلى أن النهضة هي عبارة عن نشاط عقلي فكري في المقام الأول، يحدث في مجتمع من المجتمعات، يقود إلى الانطلاق في مجالات العمل في كل مناحي الحياة، واكتشاف آفاقها، في السياسية والاقتصاد والاجتماع والعلوم التطبيقية وغير ذلك.
هذا الحراك المستمر النشط الذي يفتح أبواباً جديدة، ويعيد اكتشاف العالم مرة أخرى، ويوفر مساحات جديدة للنظر في الحياة، يطلق عليه النهضة.
ولكي تشهد مجتمعاتنا مثل هذا التحول الضخم تحتاج إلى عاملين:
العامل الأول: وهو بناء كتلة حرجة كمية وكيفية تستطع أن تحرك عجلة التغيير.
والعامل الثاني: أننا نحتاج إلى رفع كثير من القيود التي تعوق عملية التحول والوصول إلى هذه الكتلة.
لذا فإن هذا العمل الضخم هو عمل مزدوج يقوم على بناء الكتلة وفك القيود التي تحول دون نمائها وتطورها.
__________
(1) حسين كامل بهاء الدين – مفترق الطرق(1/35)
إذا تبين لنا هذا النموذج البسيط الذي نتحدث عنه، وقررنا أن الكتلة البشرية الحالية الموجودة من ناحية الكم ليست بالقليلة. سنجد أن الكتلة النوعية التي تحول الكتلة الكمية إلى قوة حقيقة فاعلة، وتستثمرها، هي المُعوَّل عليها – حقيقةً - في إحداث التغيير بعد الله سبحانه وتعالى واستمداد عونه.
الفهم.. الفهم
نقول أن تيار الصحوة الإسلامية قد استقطب كثيراً من الناس. ولكنه فرط لعقود مديدة في اكتساب الكم النوعي الذي يحسم الرهان في نهاية المطاف. والذي يقوم باستثمار الحدث لصالح اندفاعة جديدة وتقدم جديد للمشروع النهضوي في المجتمعات الإسلامية.
إذاً الإيمان التقليدي - سواء بالإسلام أو بالمشروع النهضوي في المجتمعات الإسلامية ونقصد به هذه العاطفة والإحساس العام اتجاه أن هذا هو الصواب - من غير وعي لمستلزمات تحقيق النتائج لهذا الصواب أمر في غاية الخطورة يهدد كل هذه الجهود العملاقة بالخطر.
وبذلك يكون أول واجباتنا أن نُكوِّن داخل هذا البناء الضخم كماً أكبر من العقول قبل أن نعتني بالكم الكبير من الأرقام والزيادة الكمية - إن صح التعبير - البشرية.
يقول الله تعالى: "إنما يخشى الله من عباده العلماء"(1)، فالعلماء هم أعلم وأكثر فهماً ووعياً لفضل الله ونعمته؛ لاطلاعهم على دقائق الأمور وآثار الكون من خلال البحث والنظر.
وهكذا نستطيع أن نقول أن قضية العلم مقدمة على القول والعمل. وقدمنا سابقاً أن العلم
لا يقصد به فقط العلم بالكتاب والسنة؛ إنما العلم بما أشار إليه الكتاب والسنة من هذا الكون الواسع الفسيح، في العلوم التطبيقية، وفي التجربة الإنسانية عامة، "قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين"(2). هذا النظر الواسع في الكون، هذا البحث الاستنطاقي للتجربة البشرية مطلوب بشدة في هذه المرحلة التاريخية من حياة الأمة ومن تقدمها.
__________
(1) سورة فاطر: 28
(2) سورة الأنعام: 11(1/36)
وسنتناول هنا نموذجين اثنين يوضحان مكان العلم من القول والعمل، وكيف أنه يسبقهما.
النموذج الأول:
دورة حياة اتخاذ القرارات
لو تساءلنا: كيف تتشكل عملية اتخاذ القرارات في الواقع في مشروع النهضة الإسلامي بشكل عام؟سنجد أن عملية اتخاذ القرارات تتشكل في ستة مستويات. يمثلها هذا النموذج. وليس هذا النموذج منطبقاً فقط على الحالة الإسلامية في المجتمعات الإسلامية؛ بل هو نموذج عام ينطبق عليها وعلى غيرها. وهذه المستويات الست هي:
المستوى الأول: النصوص المرجعية والتراث الثقافي:
لأي مجتمع من المجتمعات الإنسانية مرجعية نصوصية تراثية وثقافية. فإذا نظرنا إلى الحالة الإسلامية نجد أن المرجعية التي تستند إليها هي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وذلك لتتعرف على أحكام الإسلام وتعاليمه في العقائد والتصورات والعبادات والتشريعات والأخلاق والآداب وشتى مجالات الحياة.. وكمعيار لبيان الصواب والخطأ.. يقابله في الفكر الغربي تراث كبير شكلته المسيحية كديانة، ثم أفكار مفكري عصر النهضة. من أمثال توماس هوبز، جان جاك روسو وغيرهم كآباء مؤسسين للفكر الغربي في السياسة والاقتصاد والاجتماع حيث تعتبر نصوصهم – وفقاً لتصوراتهم - بمثابة النصوص "المقدسة" في الديانات السماوية، مع الفارق الواضح.
فلكل مجتمع مستوى تراثياً نصوصياً يحتكم إليه ويرجع إليه للنظر في الحاضر والمستقبل ويمثل مصفاة أولى Filter في عملية اتخاذ القرار.
المستوى الثاني: مستوى علوم العصر وقناعاته
فعلى مستوى علوم العصر وقناعاته سنجد أن لكل عصر مفاهيم تطرح نفسها في الساحة، وتحتاج إلى مناقشة وتطوير، وتفرض نفسها بصيغة أو بأخرى على كل أعمال هذا العصر.(1/37)
فمثلاً في الفترة الإسلامية الأولى سنجد أن كل المفاهيم والمصطلحات والمناقشات كانت متأثرة بالكتاب والسنة، وبالتراث العربي الذي دخل في تكوين هذه العقلية العربية في الفترات المبكرة منها بحكم الواقع. فهناك الشعر والأدب واللغة، وكلها تشكل العقل من حيث ندري أو لا ندري، وجاءت نصوص الكتاب والسنة المقدسة على هذا التراث لتزيل منه الفاسد وتقوم فيه ما يجب أن يقوم.
إذاً على مستوى النصوص المرجعية في فترة من فترات الأمة كان الكتاب والسنة مع ما هو موجود من التراث العربي القائم يمثل المرجعية والقناعات، ثم وجدنا المسلمين يتقدمون إلى حضارات أخرى. فتدخل الفلسفة والمنطق إلى ساحة العالم الإسلامي وتحدث صراعات وتحولات كبيرة جداً على مستوى الفكر، ويصبح هناك منظاراً جديداً للنظر لنصوص الكتاب والسنة. وتظهر المدارس الفلسفية المتنوعة في العالم الإسلامي. وهكذا في كل عصر سنجد أمامنا مثل هذه التحولات.
وإذا جئنا في العصور الحديثة وجدنا أن بروز الشيوعية أثرى الحياة بنظرات وكتابات جديدة جداً وأثَّرت هذه اللغة - على الأقل في بعدها الاشتراكي الاجتماعي - حتى على الخطاب الإسلامي في فترة من فترات تطوره بشكل أو بآخر. وكذلك الرأسمالية أثَّرت على الخطاب الإسلامي في فترة من فترات تطوره بشكل أو بآخر. ثم جاءت اكتشافات العصر لتضيف أبعاداً، وتتطور العلوم الإنسانية لتضيف أبعاداً أخرى.
وهكذا تستمر عملية المدخلات على المستوى الثاني من علوم العصر وتطوره، وتؤثر - إن صح التعبير – كمصفاة ثانية Filter للنظر إلى الواقع واستشراف المستقبل من خلال النصوص السابقة.
وبذلك يكون لدينا مستوىً ثانٍ يجب تصوره في هذا البناء الكلي، وهو مؤثر وهام في كل عصر من العصور.
المستوى الثالث: أعمال المفكرين في كل عصر:(1/38)
الآن يأتي دور قادة النهضات ليستوقفوا التراث ويستفيدوا من علوم العصر ومدخلاته ويكوِنوا ما يسمى بالأيديولوجيا. وهي عبارة عن الأفكار المنظمة المترابطة التي يجتمع حولها الناس، تفسر لهم الواقع، ترسم لهم خط العمل في المستقبل - طريق التغيير السياسي بالذات - وتبشرهم بغد أفضل(1).
هذا التعريف للأيديولوجيا ينقلنا لمستوى ثالث، وهو أعمال المفكرين في هذا العصر التي تستلهم من النصوص المرجعية والتراث الثقافي (المستوى الأول)، وتستلهم من علوم العصر وقناعاته (المستوى الثاني) لتخرج بمنظومة فكرية (الأيديولوجيا) تجمع الناس حولها، وتفسر لهم الواقع، وتبشرهم بالمستقبل، وترشدهم إلى طريق التغيير. ومن هذا المستوى تُستقى كثير من التصورات حول ما الذي يجب عمله لاستنهاض الأمة. وتمثل هذه الأيديولوجيا المصفاة الثالثة Filter في عملية اتخاذ القرارات.
وإذا استعرضنا مسار المشروع الإسلامي ابتداءً من محمد بن عبد الوهاب، إلى السنوسية، وإلى خير الدين بربروسا، وإلى جمال الدين الأفغاني، وإلى محمد عبده ومدرسته، والكواكبي ثم محمد رشيد رضا، ثم حسن البنا في فترة لاحقة، ثم بعد ذلك حزب التحرير للنبهاني. سنجد أمامنا عشرات التصورات حول طرائق العمل والأيديولوجيا المناسبة للانطلاق للمستقبل. كل هذا يضعنا أمام منظومة للمستوى الثالث.
المستوى الرابع: تصور الحل وبداية التخطيط الاستراتيجي:
__________
(1) Andrew Heywood, Foundation Politics.(1/39)
... نأتي إلى أن كل حركة نهضة إنما تعمل في مكان وزمان محدد، هذا المكان وهذا الزمان له ظروفه ومعطياته ومدخلاته. فالواقع في إفريقيا غير الواقع في آسيا غير الواقع في أوروبا غير الواقع في أستراليا. ثم إذا نظرنا إلى المناطق الأصغر للدويلات التي تنتشر في هذه القارات سنجد أن كل دولة لها ظروفها ومعطياتها. وحركة النهضة عندما تنطلق، تنطلق من منطقة ما - على الأقل من ناحية المفكر والمؤسس - فيتشكل بذلك مستوى رابع يضع تصورات الحل الخاص بهذه المنطقة. ويبدأ التخطيط لواقع محدد وظرف محدد. هذا المستوى من التخطيط والذي يطلق عليه التخطيط الاستراتيجي يضع تصورات وأفكار وحلول في مدى زمني منظور يمتد إلى عشر أو عشرين أو ثلاثين سنة، لكنه تخطيط ينظر لظرف وزمان ومكان محدد. هذا المستوى الرابع – التخطيط الاستراتيجي – لا يزال محصوراً في عالم التصورات والأفكار قبل الدخول في عالم التنفيذ.
المستوى الخامس: الخطط القصيرة المدى:
ثم يأتي تخطيط على مستوى أدنى من ذلك. وهو المستوى الخامس والذي يتكلم عن خطط قصيرة المدى: ماذا نفعل على مدى سنة من الزمن؟
وهنا لابد أن تكون المستهدفات محددة، وأن يكون التحرك أكثر دقة، وتأتي التفصيلات على هذا المستوى المحدد من الأفكار.
المستوى السادس: الخبرات العملية:
نستطيع أن نقول أنه ينتج عن ذلك مستوى سادس وهو الخبرات العملية المتولدة عن الاحتكاك بالواقع. هذا الاحتكاك بالواقع يولد مراجعات لمستوى النصوص و العلوم و الفكر و التخطيط الاستراتيجي و الخطط القصيرة الأمد، وتعود الدورة مرة أخرى لتستمر كدورة حية كاملة لتغيير الواقع والتعامل معه.
وبذلك يكون أمامنا ستة مستويات تتولد عنها القرارات المحركة للنهضة.
النموذج الثاني:
احتياجات قادة المشروع الإسلامي:
إذا فهمنا النموذج السابق فهماً جيداً، وحاولنا أن ننتقل لفلسفة النهضة أو لمشروع النهضة في عصرنا الحديث، وتساءلنا:(1/40)
ما الذي يجب على صناع القرار في مشروع النهضة أن يفعلوه؟
وما الذي يجب أن يزود به ويعد له هؤلاء الصفوة المختارة من معارف وعلوم تضمن لعملية الانتشار والتوسع والقبول بين جماهير الناس أن تحقق أهدافها من خلال نوعية القيادة التي ننتجها؟
ما الذي تحتاجه هذه القيادة لإنجاز المشروع الإسلامي؟
وللإجابة على هذه التساؤلات ننتقل إلى النموذج الثاني والذي يتكون من خمسة مستويات:
المستوى الأول: تصور واضح على مستوى الفلسفة والبواعث:
إن أول قضية رئيسة يحتاج إليها العامل في مشروع النهضة – والذي يعرِّفه برغوث عبد العزيز في كتابه "المنهج النبوي والتغيير الحضاري" بأنه (المبلِّغ الذي يحمل هم الدعوة الحضارية التي تنبثق في أصولها ومنهجها عن مصادر التوحيد الإسلامي) - أن يكون لديه تصور على مستوى الفلسفة والبواعث. ويدخل في جملة ذلك تصورٌ متكاملٌ للإسلام ، غير ممزقٍ ولا مجزأ. تصور واحد يجمع الإسلام في رؤية أو في إدراك واضح لأبعاده المختلفة. ولعل محاولة سعيد حوى في كتاب "الإسلام" تقدم نموذجاً لوضع صورة متكاملة للإسلام - وإن لم تكن الأمثل - إلا أن حسب المرء أن يقدم ما يستطيع في لحظته
التاريخية وزمنه. ويمكن إضافة الكثير على ما كتبه الأستاذ سعيد حوى عليه رحمة الله. إلا أن هذه المحاولة
تعتبر محاولة متميزة وإن كنا نقول أنه ينقصها الكثير والكثير من العمل.
ويدخل في هذه الفلسفة تصور واضح عن موضوع البحث، وهو النهضات. ودراسة الخبرات الإنسانية المتعلقة بالنهضات، واستكشاف القوانين الفاعلة واستخلاصها بحيث تكون هي المنارات الكبرى والأساسية التي يدور حولها بعد ذلك التخطيط والتنفيذ.(1/41)
ويدخل في ذلك أيضاً وبدون شك كل ما يمكن أن يوسع مساحة الإدراك العقلي. كمدخل واضح لعلم السياسية والاقتصاد والجيوبوليتك وعلم الاجتماع وفلسفة التاريخ والتفاوض السياسي والتخطيط الاستراتيجي. كل هذه العلوم تجعل القاعدة العقلية للفاعل النهضوي أكثر قدرة على التعامل مع قضايا الواقع. وكلما انتقص شيء من هذه العلوم كلما كانت الأحكام على الأشياء لاحقاً أضعف، وأحياناً تعرض المشروع النهضوي للخطر الشديد. فالحكم على الشيء - كما أسلفنا - فرع عن تصوره.
إذاً يجب على من يعمل في مجال النهضة أن يكون لديه تصور جيد لمستوى النصوص ومستوى علوم العصر ومستوى قوانين النهضة، وبالتالي يستطيع أن يُكون بدايات جيدة، وقاعدة صلبة قوية يضع عليها وتنطلق منها بقية المستويات.
المستوى الثاني: تصور واضح على مستوى الأهداف:
لقد تحدثنا عن أهمية الصورة الواضحة على مستوى الفلسفة والتصور الذهني العام. ومن المهم أن تكون الأهداف أيضاً واضحةً وبشكل جلي، خاصةً لهذه الكتلة الحرجة النوعية داخل البناء الإسلامي العام.
وقد شهدنا في السنوات الماضية الكثير من الاضطراب حول مستوى الأهداف، وتدرجها وتتابعها والنظر إليها. فمعظم الأهداف التي نادت بها الحركات والمؤسسات الفاعلة في الساحة الإسلامية لم تتحقق(1).. وبدون منظومة أهداف عامة - يستطيع أن يهضمها العامل في ساحة النهضة -
__________
(1) "الإخفاق في تحقيق الأهداف الكبيرة يؤدي إما إلى تكيف إيجابي أو تكيف سلبي. فالتكيف الإيجابي يقتضي طاقة أكثر وجهداً أعظم.. وهذا التكيف الإيجابي لا يقدر عليه إلا من أوتيَ قدراً طيباً من الذكاء وبعد النظر وطول النفس والصبر والمثابرة والموضوعية.. أما التكيف السلبي.. فقد يؤدي إلى العدوانية أو النكوص أو الانسحابية أو الإسقاط أو الانفصام أو التقمص.." د. عبد الله النفيسي، على صهوة الكلمة، صـ 118.(1/42)
لا يمكن أن ننجز شيئاً؛ لأن مستويات الأهداف تتضارب وتتشعب، ولا يستطيع الإنسان أن يدرك الهام والأهم منها.
المستوى الثالث: تصور واضح على مستوى المراحل:
ثم لا بد للعاملين في مجال النهضة أن يدركوا مراحل السير. وفي مراحل السير أيضاً يأتي ما نطلق عليه الغطاء النظري للمرحلة. فكل مرحلة من مراحل العمل تحتاج إلى غطاء نظري يقوم به قادة النهضة وشراحها. إذ أن جماهير العاملين تحتاج إلى ملاءة كبيرة تفسر المرحلة، وتدفع بالجهود، حتى تؤتي المرحلة ثمارها. أما إذا تحرك الناس في فراغ، فإن هذا الفراغ يخلق الاضطرابات والنزاعات والتشتت، وهو ما نشهده في كثير من الأحيان في ساحة الفعل النهضوي في المجتمعات الإسلامية.
إذاً تصور مراحل السير في غاية الأهمية. وبالتالي لابد من تزويد العاملين في مشروع النهضة بمراحل السير بشكل واضح ومميز.
المستوى الرابع: تصور واضح على مستوى الوسائل:
... وهناك أمر رابع في غاية الأهمية، وهو تصور الوسائل. وتصور الوسائل يأتي من العلم الحقيقي بعملية التغيير، وما تحتاج من وسائل، وكيف تمت عمليات التغيير عبر التاريخ. أما أن يضغط
الواقع في اتجاه معين لتقييد الوسائل في ذهن العاملين في مشروع النهضة، فذلك أمر خطير، لأنه يجافي العلم، ويجافي المنطق.
ولا يميز الكثيرون بين مستوى اختيار وسيلة محددة بسبب ظرف معين وإقصاء أخرى لأسباب موضوعية في فترة محددة، وبين الحديث عن حرمة هذه ومنع تلك، وتغيير تلك الوسيلة ورفض وسيلة أخرى.
يجب النظر لوسائل التحول الاجتماعي كلها، وتدريسها، وبيان إيجابياتها وسلبياتها، وتحت أي شروط تفعل، وتحت أي شروط يصبح ضررها كبير، وبالتالي تتكون العقلية العلمية التي نحتاجها في الصفوة المختارة داخل حركة النهضة الإسلامية.
المستوى الخامس: تصور واضح للواقع وقضاياه:
ثم لابد من تصور واضح للواقع وقضاياه. فإن عدم إدارك قضايا الواقع واتخاذ موقف حيالها ضعف شديد وخطر جسيم.(1/43)
... الأمر الآخر الخطير أن توجد الإجابات على تساؤلات العاملين ولا نجد من يستطيع أن ينشرها، ويوصلها للجماهير المستهدفة، وهم طلائع النهضة، والعاملين في ساحة النهضة في المجتمعات الإسلامية.
كما نحتاج أيضاً إلى تصور للواقع وقضاياه، وإجابات عليها. فلا يمكن أن تكون قضية الحرية والعدالة والمساواة والعلاقات الدولية والقضايا الأخرى مغيبة من عقول الشباب، ومن عقول العاملين في الساحة الإسلامية، ومتروكة لمن ليس له باع في العلم. وقليلو العلم في الساحة كثر.
إذاً نحن نحتاج إلى قول واضح غير مشتت في الدين، في الاجتماع، في السياسة، في الاقتصاد، في العلاقات الدولية، وما إلى ذلك. وأن يصل هذا الأمر مقنعاً إلى العاملين في الساحة الإسلامية. ولا يكون الهدف منه أن تكون هناك نسبة مائة بالمائة مقتنعة به؛ إنما أن يكون هذا هو الأعم والأغلب والأكثر انتشاراً والأكثر قبولاً؛ لأن ساحة الفعل عند الحركة إذا اضطربت لا يمكن جمع شتاتها.
المستوى السادس: الخبرات العملية المتولدة من الاحتكاك:
ثم لابد من أمر أخير. إن الممارسة والاحتكاك بالواقع تولد خبرات. وهذه الخبرات - للأسف الشديد وفي كثير من المجتمعات وربما كظاهرة تراثية - عندما تتعلق بدراسة مفاصل حساسة للفشل في مراحل معينة، يتم تجنبها، والهروب منها، لعدم إثارة العواطف والنزاعات، وعدم التشهير بالأفراد والأشخاص وما إلى ذلك. وتحرم الأمة من خبرات كبيرة كان يجب أن توظف لصالح عدم تكرار هذه الأخطاء في المستقبل، لأن عملية استكمال دورة الحياة لمشروع النهضة تستلزم هذه المراجعات المستمرة لمناطق الفشل بالذات قبل مناطق النجاح، بحيث لا يكرر الفشل. وتكرر نفس الأسباب دون أن تستفيد الأمة منها عبرةً ووعياً.(1/44)
إذاً يحتاج قادة مشروع النهضة الإسلامي - في النموذج الثاني الذي نتحدث عنه - إلى قراءة في النصوص والفلسفة والبواعث، وإلى تصور دقيق لقوانين النهضة، ويحتاجون لأهداف واضحة، ويحتاجون إلى غطاء يفسر مراحل السير، ويحتاجون إلى تصور للوسائل، ويحتاجون إلى تصور لقضايا الواقع، ويحتاجون إلى قراءة جيدة لسلبياتنا وإيجابياتنا؛ حتى يزيدوا من الإيجابيات ويتفادواْ السلبيات في مستقبل الأيام.
هذه القضايا كلها تحتاج إلى العلم قبل القول والعمل. وكثير من العاملين ممن يطمحون لقيادة عملية النهضة - ونتيجة البطالة الفكرية أو نتيجة القصور في الساحة النهضوية العامة الموجودة في المجتمعات الإسلامية والأمران الموجودان – يعانون من كسل شديد في العلم والتعلم.
كما يوجد قصور شديد من جانب أدوات النشر والإعلام - بمن فيهما من المفكرين - في التأكيد على أهمية العلم قبل القول والعمل.
ونتيجة لكسل العاملين وقصور أجهزة الإعلام تزدحم ساحة الفعل في مشروع النهضة الإسلامي بجموع ضخمة من الأناس الأفاضل الأخيار، ذوى العواطف الجياشة، والعلم القليل، ثم يتصدون لشؤون العامة، ولقضايا الأمة، فيسيئون من حيث أرادوا الإحسان.
هذا الخلط بين الكم العاطفي وبين النوعية التي يرتكز عليها البناء في أي مجتمع من المجتمعات خلط خطير، وإذا استمر يهدد هذه الجهود الضخمة وهذه الصحوة الإسلامية بالخطر الكبير.
المشهد المستقبلي:
إنه المشهد نفسه.. الذي يضم الكثير من العاملين الأفاضل الأخيار، ذوي العواطف الجياشة، والإيمان القوي. إلا أنك لا ترى فيه هذه الفوضى العارمة، ولا هذا الاضطراب المخيف.
إنك تلحظ في هذا المشهد كماً أكبر من العقول التي تقود هذه الجموع الضخمة المتعاطفة والمتحمسة. تراهم يجيبون على تساؤلات الجموع بثبات وثقة.. يصيغون الأفكار.. يتخذون القرارات.. يمدون جماهير العاملين باحتياجاتهم المشروعة، من معرفة بالأهداف والمراحل والوسائل وغيرها.(1/45)
إنها جموع على قلب رجل واحد.. يتحركون معاً.. ويسكنون معاً.. ويهرولون معاً.. ويقفون معاً.. حتى إذا اختلفوا فهم يجيدون فن الاختلاف.
نحو التنفيذ:
للوصول إلى هذا المشهد الجميل المبهج لا نحتاج إلا لمطلب واحد، ألا وهو العلم قبل القول والعمل. ونقصد به نشر العلم النافع والمتعلق بقضية النهضة بين تلك الجموع الغفيرة. وحث هذه الجموع على التعلم والتخلي عن البطالة العقلية. فإذا ما انتشر العلم كثرت الكتلة النوعية المبتغاة. ولتحقيق ذلك:
لابد أن يحرص العاملون في المشروع الإسلامي لنهضة الأمة – أفراداً كانوا أو جماعات – على امتلاك أدوات القادة ومنها:
أدوات العلوم الشرعية.
أدوات العلوم الإنسانية.
أدوات العلوم الإدارية.
ويمكن الرجوع في ذلك إلى سلسلة أدوات القادة.
لابد أن يحرص قادة المشروع على توضيح البواعث والأهداف والمراحل والوسائل وظروف الواقع والمراجعات والخبرات للعاملين في المشروع، مع مراعاة أدق قواعد البحث العلمي، وبعيداً عن الارتجال.
لابد أن يحرص قادة النهضة والعاملون على دراسة تجاربهم السابقة، وتجارب غيرهم من العاملين، والوقوف على نقاط القوة والضعف فيها، وإلا تكررت الأخطاء.
لابد أن يحرص العاملون – أفراداً كانوا أو جماعات – على تكوين رؤية وتصور واضح عن الواقع وقضاياه، من خلال الاتصال المباشر بالوسائل الإعلامية المختلفة، والقراءة المستمرة لتحليلات مفكري العصر.
لابد أن يتم التواصل والتفاعل بين قادة وطلاب النهضة من جهة وبين مفكري الأمة وعلمائها وإعلامييها من جهة أخرى.
تذكر أن
النهضة هي نشاط عقلي فكري، يقود إلى الانطلاق في شتى مناحي الحياة.
أول مطالب النهضة "علم حقيقي".
العلم مقدم على القول والعمل.
الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
الكتلة الحرجة هي الكتلة الكمية والنوعية الكافية لإحداث التحول والتغيير في المجتمعات.
النهضة بحاجة إلى كتلة كمية ضخمة، وكتلة نوعية مزودة بأدوات القيادة.(1/46)
النهضة تحتاج إلى كم أكبر من العقول لقيادة الجموع الضخمة المتعاطفة.
اتخاذ القرار يحتاج إلى: علم بالنصوص، ومفاهيم العصر، وآراء مفكري العصر، والتخطيط الاستراتيجي، والتخطيط قصير المدى، والخبرات المولدة للمراجعة والتقويم.
ليست كل فكرة أيديولوجيا، ولكن الأيديولوجيا هي المنظومة الفكرية التي تجمع الناس حولها، وتفسر لهم الواقع، وتبشرهم بالمستقبل، وترسم لهم طريق التغيير.
احتياجات طلاب النهضة: علم بالبواعث، وبالأهداف، وبالمراحل، وبالوسائل، وبالواقع، وبالخبرات.
القادة الذين لا يجيبون على أسئلة الواقع يسمحون بتفجير الأوضاع من حولهم، ثم يستنفذون كامل طاقاتهم في إخمادها.
تعج ساحة الفعل في المجتمعات الإسلامية بالكثير من الحركات والتجمعات؛ بل والأفراد الذين يعملون لإحداث نهضة إسلامية حقيقية في مجتمعاتهم. هذه الجموع الضخمة من العاملين في المشروع لابد وأن لديهم بواعث(1) دفعتهم دفعاً نحو المشاركة الفعَّالة في إحداث التغيير.
وتعاني الكثرة الغالبة من المشاركين في المشروع الإسلامي من عدم القدرة على تحديد هذه البواعث أو توضيحها وشرحها للآخرين. فهي بالنسبة لهم كائن هلامي ضخم يستشعرون وجوده؛ بل هم على يقين كامل وثقة تامة من وجوده، إلا أنهم لا يستطيعون تحديد شكله أو أبعاده. ولا يستطيعون وصفه أو رسمه أو تحديده.
وهكذا هي البواعث.. يستشعرها العاملون، ويتيقنون بوجودها بين أضلعهم، إلا أنهم لا يستطيعون شرحها وتوصيفها بشكل دقيق وعلمي لجماهير الأمة ليلحقوا بركبهم. فاختلجت صدورهم، وتلجلجت الكلمات على ألسنتهم، وفقدوا الثقة في أنفسهم، فتخلف الكثير عنهم.
__________
(1) نقصد بالبواعث هنا البواعث العامة التي أطلقت المشروع في عموم الأمة ولا نقصد بها البواعث الشخصية كتحصيل الأجر والثواب والتقرب إلى الله وغيرها.(1/47)
ليراجع العاملون في كل مكان أنفسهم. وليحاولوا أن يشرحوا لأنفسهم أو لمن حولهم بواعث النهضة الإسلامية. فإذا تمكنوا من شرحها وتبسيطها وتوضيحها فبها ونعمت.. وإن لم يستطيعوا فليبدءوا معنا في تحديد هذه البواعث الكبرى الأساسية المشتركة بين جميع العاملين في الساحة الإسلامية والتي يجتمعون عليها ويلتفون حولها.
وتعين هذه المحاولة على رفع الواقع المحيط وتحديد مواطن الخلل. ...
نستعرض في هذا المشهد البواعث الكبرى للنهضة الإسلامية. وقد أشرنا في المشهد الأول إلى قضية هامة، مفادها أن المستوى الأول للفكر الإنساني وكيفية تشكيله هو مستوى المادة الخام للنصوص المرجعية، سواءً كانت مقدسة أو تراثية (مستوى النصوص المرجعية والتراث الثقافي).
ثم قلنا إن المستوى الثاني من الأفكار هو ما يطرحه العقل من مدخلات وتصورات تواكب ثقافة العصر وعلومه (مستوى ثقافة العصر وقناعاته).
وسنحاول من خلال استعراض هذا المشهد بناء لبنة جديدة في تفكير طلاب النهضة من خلال تناول البواعث الكبرى للنهضة الإسلامية. وذلك من خلال محاولة الرد على هذا السؤال: ما هي المحركات الأولى التي أطلقت فكرة النهضة في المجتمعات الإسلامية؟
نموذج الإسلام
يوضح هذا النموذج مبدأ شمول الإسلام. وعلى الرغم من أن كثيراً من المسلمين لا يدركون بصورة واضحة معنىً واضحاً لشمول الإسلام، إلا أنه يندر أن يوجد مسلم لا يقول بأن الإسلام يحتوى على كل شيء فالله تبارك وتعالى يقول: "ما فرطنا في الكتاب من شيء"(1)، ويقول: "ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدىً ورحمةً وبشرى للمسلمين"(2). ففي الوعي العام للمسلم يحتوي الكتاب والسنة – المرجعية الإسلامية الأولى - على منظومة مهيمنة على الحياة، وإن لم تتضح معالم هذه المنظومة لدى العامة.
__________
(1) سورة الأنعام: 38
(2) سورة النحل: 89(1/48)
وبما أننا نهتم بتنظيم الخارطة المعرفية للعاملين في مشروع نهضة الأمة، فإن رؤية الصورة الكلية للإسلام، وبيان معنى هذا المفهوم المجمع عليه – ألا وهو مفهوم شمول الإسلام – نعتقد بأنه من الضروريات ومن الواجبات، وليس من التحسينيات أو من نوافل القول.
الطابق الأول في البناء الإسلامي
ويتكون الإسلام من بناء قاعدته العقيدة الإسلامية، والتي تقوم على التوحيد الخالص لله عز وجل - ربوبيةً وألوهيةً وأسماءً وصفات - ومن هذه الوحدانية المطلقة التي يؤمن بها الإنسان المؤمن، ومن التصديق الجازم بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نقل عن ربه عز وجل هذا المنهاج لتكوين الأمة ولبناء مجتمع إنساني جديد، يقوم الطابق الأول من البناء الإسلامي.
الطابق الثاني
أما في الطابق الثاني للبناء الإسلامي فتوجد العبادات لتعزيز البناء
الإسلامي. تذكيراً بالعقيدة، ونقلاً للإسلام من دائرة الفكرة إلى دائر العمل، من خلال التذكير اليومي للمسلم، والتذكير الأسبوعي، والتذكير الشهري، والتذكير السنوي بأنه صاحب منهاج وطريق حياة. ولن نستفيض في هذا الشرح عن وظيفة كل عبادة من العبادات كإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام،
وما يندرج تحت هذا النوع من العبادات من مسميات وأسماء ومعان تنفع المؤمن.
الطابق الثالث
ننطلق إلى الطابق الثالث في بناء الإسلام، وهو طابق الأخلاق والتزكية. وله منظومة كاملة يقوم عليها.
قمة البناء
ثم إذا نظرنا إلى قمة الهرم في الإسلام سنجد مفهوم الجهاد. ورغم الخلاف القائم بين من يتحدثون عن جهاد الدفع وجهاد الطلب، فإننا نتحدث في هذا السياق عن المعنى العام الذي يستوعبه مفهوم الجهاد، وهو أن يكون للمجتمع المسلم جيش يحمي حدود دولته، ويصونها من الاختراق الخارجي.(1/49)
ثم يأتي في المرتبة التالية بعدها نظام كان يطلق عليه ديوان المظالم، والذي يطلق عليه في عصرنا هذا المحكمة الدستورية العليا. وهذا النظام يقوم على حماية الفرد العادي ومؤسسات الدولة من جور ذوي الجاه والسلطان.
ثم يأتي نظام ثالث وهو نظام الحسبة ليقوم بحماية المجتمع الإسلامي من الداخل، والاهتمام بصورته النقية الناصعة، ليكون مثالاً ونموذجاً لبقية المجتمعات.
أعمدة البناء
إذاً في قمة البناء الجهاد وديوان المظالم ونظام الحسبة. وفي قاعدة البناء العقيدة والعبادة والأخلاق. وبالإضافة إلى ذلك لم يترك الإسلام فرعاً من فروع الحياة – كالسياسة والاقتصاد والاجتماع والتعليم والإعلام
والصحة والقانون وغير ذلك - إلا وأدلى بدلوه فيه، فيضع له بعض الضوابط، وينظم فيه بعض القواعد حتى يضبط الحركة فيه. هذه الفروع تمثل أعمدة البناء التي تربط بين قاعدته وقمته.
من هذا البناء المتكامل نشأ في وعي المسلمين أن هناك منظومة إسلامية قيمية كاملة - لها كينونتها، ولها شخصيتها، ولها تجلياتها في أرض الواقع - تمت ممارستها عبر القرون. وتضعف هذه الممارسة أحياناً، وتقوى أحياناً، ولكنها في وعي المسلم تمثل نظاماً كاملاً للحياة يُستهدى به، ويُسترشد به، ويُقاس به الصواب من الخطأ.
... في ظل هذا الوعي بالذات، ينشأ وعي بالآخر المغاير. فحيث وجد وعي بالذات وتصور لها، فكل ما هو خلاف الذات وخارجها له تصور آخر ووضع آخر. وتلك معضلة كبيرة تقف أمام عمليات الهيمنة على المجتمعات
الإسلامية، فهي مجتمعات لها منظومتها القوية التي لا تسمح لها بالذوبان في المنظومات المغايرة. وهي بذلك تختلف عن مجتمعات أخرى منظومتها القيمية هشة، ويمكن استيعابها داخل منظومة الحضارة الغربية.(1/50)
فإذا اتضحت هذه الصورة للإسلام الشامل وتم الاتفاق عليها، كانت أحد باعثين كبيرين في حصانة المجتمعات الإسلامية، وقدرتها على التترس حول هويتها في أوقات الأزمات من خلال شرائح معينة في المجتمع.
التحديات الكبرى
إن كل تحدٍ يتعرض له الإنسان لابد وأن يواجهه بسلسلة من الاستجابات التي يرجو من خلالها دفع هذا التحدي عنه، وهذا قانون بشري جامع في المدافعة عندما يحيق بالمجتمع ضرر أو تتهدد مصالحه.
فإذا جئنا لهذا القرن الذي انقضى، سنجد أن هناك ثلاثة أمراض أو قضايا كبيرة شكلت حزمة من التحديات في وجه المجتمع الإسلامي وقد كانت تحتاج إلى إجابات مكافئة.
أما التحدي الأول الذي اكتشفه المجتمع الإسلامي لدى دخول نابليون بونابرت إلى مصر سنة 1798م فكان حالة التخلف التي يعيشها هذا المجتمع، والذي كان مشدوداً إلى نموذجه الخاص، ولا يعتقد بوجود نموذج منافس له. فانكشف له في تلك اللحظة التاريخية الصعبة من حياة الأمة أن المجتمع الإسلامي في حالة تخلف بالنسبة للآخر الغربي المقابل.
ثم مع دخول المستعمر برزت معضلة أخرى أو تحدٍ آخر، وهي معضلة الاستكبار والهيمنة واستغلال موارد البلاد والتحكم في شؤونها. وتلك قضية أخرى كانت تحتاج إلى ما يقابلها.
ثم وجد المسلمون - الذين كانوا يمثلون مجتمعاً واحداً تحت دولة الخلافة الإسلامية العثمانية والتي كانت بمثابة الكيان السياسي الوحيد المعبر عن المجتمعات الإسلامية – وجدوا أنفسهم متجزئين. وحدثت عملية تفتيت كبيرة وضخمة للمجتمعات الإسلامية، وأُنشئت دويلات صغيرة في كل أنحاء العالم الإسلامي.
قضايا وحلول
هذه التحديات أو القضايا الثلاث: التخلف، والاستعمار، والتفتيت، نشأ في مقابلها ثلاثة حلول، أصبحت هي الشعارات العامة لحركة المجتمعات الإسلامية بعد ذلك، وهي: النهضة في مقابل التخلف، والتحرير في مقابل الاستعمار، والوحدة في مقابل التمزق والتفتيت.(1/51)
ولم يكن الخلاف الذي نشأ في المجتمعات الإسلامية – فيما بعد - حول موضوع النهضة أو التحرير أو الوحدة؛ بل حول المرجعية أو المنظومة التي تُنفذ من خلالها هذه الشعارات أو الحلول. هل هي المنظومة الثقافية الإسلامية، أم يجب استجلاب المنظومة الشيوعية أو المنظومة الرأسمالية للتحول؟ وما زال هذا الصراع في المجتمعات الإسلامية على أشده حول هذه المرجعية. هل يقوم بناء النهضة والتحرير والوحدة على أرضية الإسلام أم يقوم على أرضية المنظومة الغربية بعد أن سقطت المنظومة الشرقية؟
وبغض النظر عن هذا الخلاف القائم، فستظل هذه القضايا الثلاث - التخلف الذي تقابله فكرة النهضة، والاستعمار الذي تقابله فكرة التحرير، والتفتيت الذي تقابله فكرة الوحدة – هي محور الصراع إلى يومنا هذا، وحتى يشاء الله.
وتُثار في الأذهان الكثير من التساؤلات حول السبب الأصيل في نكسات أمتنا وانكساراتها. هل هو الاستعمار أم التخلف أم الفرقة والتمزق؟ ولماذا نلقي بتبعات أعمالنا على الآخر دائماً ونكيل إليه الاتهامات حول هزائمنا ونكساتنا؟
وتستخدم هذه الذريعة أو هذا المنطق في إسكات كل صوت يشير إلى الاستعمار كسبب أصيل في مشكلة العالم الإسلامي.
أما التخلف فهو ظاهرة تسبق الاستعمار. وسنتناول هذه الظاهرة وأسباب ظهورها في مجتمعاتنا الإسلامية - بشيء من التفصيل - في مشهد لاحق.
وظاهرة الاستعمار والتي كانت الوجه الآخر لظاهرة التخلف - بمعنى أن المجتمعات المتخلفة تشكل فراغاً يغري كل القوى التي تمتلك القدرات على أن تهيمن على هذه المجتمعات وتستفيد من ثرواتها - هذا الاستعمار والاستكبار والرغبة في الهيمنة - والتي هي جوهر الاستعمار - كرست التخلف وكانت شرطاً لاستمراره. فكلما أراد مجتمع من المجتمعات الإسلامية أن ينطلق من عقال التخلف أعادته آليات الاستعمار إلى نقطة الصفر مرة أخرى. فما نشتكي منه حالة تخلف تؤدي حالة الاستعمار إلى ديمومته واستمراره.(1/52)
أما قضية الوحدة فأمرها يحتاج إلى تفكير مليٍّ بعد أن فُتِّتَ العالم الإسلامي هذا التفتيت الكبير، وسنتناولها في كتاب آخر إن شاء الله. لكن حسبنا في هذا السياق أن نشير إلى منظومة ثالثة نريد من طلاب النهضة أن يتذكروها، ألا وهي نظرية الاستعمار.
النقطة الأولى: النهضة الأوروبية
إذا تخيل العاملون للنهضة شلالاً من الأحداث، يبدأ من نقطة هي النهضة الأوروبية من بداية القرن الخامس عشر الميلادي- أي حدوث التحول العلمي المعرفي العقلي في المجتمعات الأوروبية، والتحول الاقتصادي الرأسمالي في المجتمعات الغربية، والتحول الاجتماعي الذي سنتحدث عن مظاهره اللاحقة بعد ذلك، والانطلاق من مرحلة الإقطاع إلى مرحلة الليبرالية ثم الديمقراطية بعدها - هذه النهضة والتي تمثلت في هذه التحولات الكبيرة في المجتمعات الأوروبية يمكن أن تكون نقطة البداية في هذا الشلال.
...
النقطة الثانية: العلمانية
ثم لننطلق مع شلال الأحداث إلى المرحلة الثانية، فيتجلى أثر هذه العوامل التي ذكرناها في:
بروز ظاهرة روح الفردية في المجتمعات الأوروبية.
بروز ظاهرة الإلحاد بنسب مختلفة. حيث لم يبق من الكنيسة في الداخل إلا الرمز، إلى جانب دورها الخارجي في ترويج الحالة الاستعمارية. أما في المجتمعات الأوروبية فالغالب الأعم من المجتمع ملحد بشكل من الأشكال.
بروز ظاهرة الربا. فالمجتمعات الأوروبية مجتمعات ربوية بشكل لا مثيل له.
بروز ظاهرة الإباحية - أي أنماط العلاقات غير الشرعية والشاذة بين الرجل والمرأة؛ بل بين الرجل والرجل، والمرأة والمرأة - في هذه المجتمعات. والتي هي في أساسها تمرد على ظاهرة الزواج وظاهرة الأسرة، إلى أنماط جديدة من ألوان المعاشرة الجنسية والاستمتاع بالغرائز الجسدية.(1/53)
شكلت هذه الظواهر الأربع قناعات لدى قادة المجتمع الأوروبي قادتْهُ إلى التوصل إلى ضرورة نزع الدين من ثلاث مناطق: المدرسة والمحكمة ونظام الحكم. وتكرس في أوروبا مبدأ العلمانية على هذه الأسس. أن المدارس يجب أن تُجنب الظاهرة الدينية، وأن المحاكم يجب أن تُنفذ فيها قوانين وضعية لا علاقة لها بالأديان، وأن نظام الحكم هو نظام بشري، يضعه البشر، ولا يجب أن يتدخل فيه أي نص سماوي.
كان هذا تشكيلاً للحياة الأوروبية، وكان يمكن أن يكون نموذجاً محلياً، ولكنه كأي أيديولوجيا لا تقبل البقاء في مساحة من الأرض، بل تعد نفسها نموذجاً عالمياً لابد من نقله إلى كل أنحاء العالم.
النقطة الثالثة: تشكل الأيديولوجيا
أما النقطة الثالثة من الشلال فهي تحول هذه المنظومة الفكرية القيمية إلى أيديولوجيا تسعى للهيمنة على مستوى العالم. وتقرر أن بقية المنظومات ما هي إلا منظومات ثانوية، يجب أن تتوارى في مقابل هذا المشروع الضخم - كما يقول بعض الكتاب الغربيين في مراحل لاحقة (Liberalism is an unfinished project) فهو مشروع لم ينتهي إلى الآن ويجب أن يستمر حتى يُنجز على مساحة العالم بالكامل.
النقطة الرابعة: إنشاء الدول الرديفة(1/54)
لإيجاد هذا المشروع الذي يحتوى هذه الأيديولوجيا، أو يقف على هذه الأيديولوجيا الليبرالية بالمعنى الغربي - وخاصة في شقها المتعلق بنزع الدين من المدرسة والمحكمة والحكم - والذي يستند إلى ذراع أكبر، وهي القضية الاقتصادية، واستغلال موارد الدول الأخرى -تحرك المشروع الغربي. ولكنه أيقن في تحركه وانتشاره بأن أي عملية استعمار تحتاج إلى مبرر خلقي. فاتُخذت تكأة الرجل الأبيض(1)، وقضية تحرير المجتمعات الأخرى كمنطق للتحرك. وهنا لعبت الدبلوماسية والعسكر - وبعد ذلك المدارس والجامعات والإعلام - دوراً ضخماً في تكريس النموذج وتحريكه من بلد إلى آخر. فتمكن المشروع الغربي من فرض سيطرته على الدول الناشئة والتي بدأت تتبلور فيما بعد حركة التحرير وثورة هذه المجتمعات ضد ظاهرة الاستعمار. ثم تم إغراء من لم يقع تحت هذه السيطرة بقضية الاستدانة لتنمية بلادهم. ومع وجود الفراغ العلمي والقصور الإداري والفساد المالي،
__________
(1) يقصد بتكأة الرجل الأبيض – أو رسالة الرجل الأبيض – المهمة الكبرى الملقاة على عاتقه والمتمثلة في تحرير الشعوب ونقل الحضارة إليها وانتشالها من التخلف والفقر والجهل، مع الأخذ في الاعتبار أنه هو أرقى الأجناس وأكثرها ذكاءً وتحضراً، وأن الشعوب والأمم على اختلافها في حاجة إليه للخروج من هذا النفق المظلم إلى نور الحضارة والعلم. ذلك منظور القائلين برسالة الرجل الأبيض.(1/55)
كانت المحصلة الأكيدة أن تبدد هذه الأموال، ولا يحسن استخدامها، وأن تقع هذه الدول في شراك مصيدة الديون، والتي لم تخرج منها حتى بعد استقلالها. وإلى اليوم تقع كثير من دول العالم في أمريكا الجنوبية وفي العالم العربي وفي العالم الإسلامي وفي آسيا تحت مصيدة الديون التي تتراكم شيئاً فشيئاً، وتؤدي إلى المرحلة الأخرى، وهي العجز عن السداد. ثم يتدخل صندوق النقد الدولي والقوى الاستعمارية لتفرض سيطرتها على اقتصاد هذه الدول. وتصبح هي المسيطرة على الاقتصاد. فتكون بذلك مرحلة أخرى من الشلال قد بدأت، وهي المطالبة بتطوير هذه البلاد – والمقصود به نزع الدين من المدرسة والمحكمة والحكم - لإقامة الدولة الرديف المؤيدة والمساندة للمشروع الغربي، والمعارضة والنابذة لهوية الأمة. وبالتالي تصبح هذه الأنظمة، وهذه الدول بمثابة الذراع الأيمن القوي الذي يرتكز عليه المشروع الغربي في أمتنا، والذي يبطش بأعداء هذا المشروع.
وهكذا يتم تأمين انتشار وتطبيق النموذج الغربي وضمان استمرار تدفق المصالح إليه – بأيدينا وبأموالنا - مع حرمان هذه الدول من المعرفة الحقيقية، والقدرة على النهوض الاقتصادي المستقل فيما بعد.
النقطة الخامسة: انتشار المشروع وانتقاله
وهكذا يصبح عندنا حلقة مفرغة من تعزيز الحالة الاستعمارية ثم دعم ودفع المشروع مرة ثانية في دول أخرى. وهكذا أصبحت هناك منظومة عالمية تتكون في القلب من النظام الاستعماري أو الدول التي تقع في القلب وتمثلها الآن - كما يقال - دول الشمال، ومنظومة تقع في دائرة الاستغلال والحرمان من المعرفة العلمية الحقيقية العميقة وتمثلها دول الجنوب. ومن هذه الجدلية الكبيرة تبرز ظاهرة الصراع الموجودة الآن في العالم،(1/56)
إن القضايا الثلاث الرئيسة التي تحتاجها البشرية هي: الحرية والعدالة والتعاون. فإذا افتقدت الأمم الحرية والعدالة، وغاب التعاون - الذي لا يتحقق إلا بهما - تنشأ الاضطرابات والصراعات، وتنشأ إشكاليات لا حصر لها ولا يمكن وقفها، لأن تلك سنة الله تعالى: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض"(1). ولا يتم هذا التدافع إلا بطغيان بعض القوى على قوى أخرى والأمر لله من قبل ومن بعد.
أشرنا في هذا المشهد إلى باعثين كبيرين هما: مبدأ شمول الإسلام الذي يشكل المنظومة القيمية الحاكمة في المجتمعات الإسلامية بشكل عام، والظاهرة المستجدة على هذه المجتمعات والتي مثلتها ظاهرة التخلف والاستعمار ثم التفتيت، وأدت إلى نشوء حركة ضخمة لها وجهان: الوجه الأول حركة وطنية أو قومية تريد أن تدافع وتغالب المستعمر لتخرج من التخلف إلى النهضة، ومن الاستعمار إلى التحرير، ومن التفتيت إلى الوحدة، ولكن على أسس عرقية أو على أسس وطنية. أما الوجه الآخر الذي برز في المجتمعات الإسلامية ومثل ضمير الأمة فهو المناداة بنفس المطالب - النهضة والتحرير والوحدة - ولكن على قاعدة الإسلام، وعلى قاعدة المنظومة الإسلامية التي جاء بها الكتاب والسنة وتكونت في اللاوعي عند هذه الجموع الضخمة من المسلمين.
إنه مشهد ترى فيه الجموع الغفيرة من المخلصين والعاملين لنهضة هذه الأمة وقد اتضحت في عقولهم بواعثهم نحو النهضة والتغيير. فانطلقوا يجوبون الآفاق. يبينونها للجاهلين، ويشرحونها للغافلين. ويمدون بها أيديهم نحو الغارقين والتائهين. في ثقة وقوة وثبات. فانطلقت الأمة – كل الأمة – يحدوها الأمل نحو غد أفضل مشرق.
ليتحقق هذا المشهد الرائع لابد لطلاب النهضة أن يحفظوا ويفهموا ويستوعبوا النموذجين المذكورين. وهما:
__________
(1) سورة البقرة: 251(1/57)
نموذج الإسلام: الذي يمثل الباعث الأول للنهضة، والذي يعجز الكثيرون عن شرحه وتبسيطه في كلمات معدودات؛ بل ويغفلون جوانب فيه ويركزون على جوانب أخرى. إما ناسين أو متناسين. ولعلاج هذه المشكلة ليس على طلاب النهضة سوى استيعاب وحفظ الشكل أو النموذج الشارح لمبدأ شمول الإسلام.
نموذج التحديات الكبرى: والتي تمثل في مجموعها الباعث الثاني للنهضة. والتي لا يستطيع الكثيرون سردها أو ترتيبها في أذهانهم أو في حديثهم. وننصح الرواد بحفظ النموذج الموضح للتحديات الكبرى وما قابلها من استجابات أو شعارات.
تذكر أن
للنهضة باعثان أساسيان هما: مبدأ شمول الإسلام، والتحديات والقضايا الكبرى التي تواجه الأمة.
التحديات التي تواجه الأمة هي: التخلف والاستعمار والتفتت.
النهضة تقابل التخلف، والتحرير يقابل الاستعمار، والوحدة تقابل التفتت.
أجمع العاملون في الساحة على وجوب مدافعة هذه التحديات الثلاثة، ولكن اختلفت المرجعية وقاعدة الانطلاق ما بين إسلامية وقومية ووطنية واشتراكية وغيرها.
المحطات الكبرى للمشروع الغربي هي: النهضة الأوروبية، ثم العلمانية، ثم تبلور الأيديولوجيا، ثم إقامة الدول الرديفة، ثم الانتشار والتنقل بين الدول المختلفة لبسط السيطرة والهيمنة.
مطالب الأمم ثلاثة هي: الحرية والعدالة والتعاون.(1/58)
عندما نرفع أستار التعصب والتحزب والعاطفة عن هذا المشهد – وهي أستار تحول دون رؤية المشهد على حقيقته - سنجد أمامنا جموعاً – في غالبها - قد أجدبت أفكارها وأقفرت. وسنجد إقبال أبناء الصحوة الإسلامية – وهم الطليعة المنوط بها قيادة عملية التقدم والنهضة والتغيير - على القراءة والعلم والتعلم ضعيفاً. وإقبالهم على قراءة التاريخ، والتجارب الإنسانية بعمومها نادراً ومحدوداً، ويكاد يقتصر على نموذج أو نموذجين مبتورين لإسم أو إسمين من تراثنا، في غياب نسق فكري يقوم على منهجية في البحث والنظر. كما أن استخدامهم وتفعيلهم لأدوات العلم واستخدام العقل والابتعاد عن الظن وطلب البرهان نادر، وإقبالهم على فتح أبواب غير مطروقة وعدم الاكتفاء بقول وعمل من مضى قليل.
وفي وسط المشهد سنجد جموعاً تدور حول نفسها. اجتمعت على اجترار إنتاج الماضي بدلاً من فرزه، والوقوف عنده، وبدلاً من فتح آفاق للمستقبل، والاكتفاء باتباع الوسائل بدلاً من ابتداعها، والاهتمام بالأشكال بدلاً من الاهتمام بالجوهر.
وبجوار هذه الجموع الدائرة سنجد أناساً قد وقفوا لا يريدون أن يبرحوا أماكنهم. يحملون شعارات ويرفعون رايات كُتب عليها: "نحن أعداء ما نجهل" ويصيحون قائلين: هذا طريق أو محاولة جديدة لا نعرفها، فلماذا نسلكها ونجربها أو حتى نستمع إليها؟؟!! فبدلاً من أن يقول قائلهم: لم لا نحاول؟ نجده يصرخ ويقول: لم نحاول؟؟!!
وفي أطراف المشهد سنجد مجموعة من المقلدين. لا يتساءلون وإنما يقلدون فِعل الأقدمين وأعمالهم دون تفكير في جدواها في لحظتها الراهنة.
وخلفهم سنجد آخرين يعتمدون الظنون والأوهام دون مطالبة قادتهم بالتدليل والبرهان على صحة ما ذهبوا إليه من أفكار وتصورات؛ بل
ويفترضون أن الخطأ غير وارد ويكفيهم قول قادتهم دليلاً وبرهاناً. كما أنهم يعتقدون أن قياداتهم ومفكريهم يعرفون كل شيء، وما عليهم سوى اتباعهم والسير على منهاجهم.(1/59)
وسنجد آخرين يعانون من الأسر والسجن بين قضبان إنجازات الماضي. فلا يشيرون إلى إنجازات الحاضر؛ ناهيك عن الإنجازات المستقبلية المرتقبة، مع عدم استعدادهم لنقد الذات ومراجعة المسار وتدارك أخطاء ذلك الماضي، وذلك استناداً إلى أن عليهم بذل الجهد وليس عليهم إدراك النتائج. ولأن مراجعة الماضي هو فتح لأبواب الفتنة والخلاف والنزاع والشقاق، والفتنة نائمة لعن الله من أيقظها، وهكذا تكرر نفس الأخطاء وتسيل الدماء وتدفع هذه التجمعات المأمولة ثمن أخطائها مرة ومرتين وثلاث مرات.
كما ستجد غالبية هذه الجموع لا تركز على ما يُقال، وإنما على من يقول. فالقائل أهم من الفكرة أو القول.
كما أن البعض يعاني من التسطيح الشديد للأمور أو المبالغة والتهويل فيها.
نحن أمام منظومة فكرية في ساحة النهضة في المجتمعات الإسلامية تحتاج في كثير منها إلى تغيير شامل. كرستها – عن حسن نية - كثير من المؤسسات الخيرة العاملة في الساحة الإسلامية من الأحزاب والجماعات والتنظيمات والمؤسسات الحكومية وغيرها، وهي من إفرازات البيئة ذاتها التي ولدت فيها تلك المؤسسات أو الأحزاب.
اعرض هذه الأسئلة على نفسك أولاً وأجب عليها بصراحة وصدق. ثم اعرضها على من تعرف من العاملين والمؤمنين والمتحمسين في المشروع الإسلامي واستعرض إجاباتهم. وحينها ستدرك البون الشاسع بين محاولاتنا – نحن المؤمنين المخلصين – المتخلفة للنهوض بالأمة وبين ممارسات الآخر – المبنية على أدق قواعد البحث العلمي – لاستنزاف الأمة وتركيعها.
كم كتاباً تقرأ في العام؟
ما هي نوعية الكتب التي تقرؤها؟ (ارسم خارطة توضح نوعية الكتب التي تقرؤها)
هل تقرأ في التاريخ بعمومه وتطلع على التجارب البشرية المختلفة أم أنك لا تقرأ سوى التاريخ الإسلامي وسِيَر الصحابة والتابعين؟
كم كتاباً قرأت حول قضية النهضات والتغيير في الأمم؟(1/60)
كم كتاباً قرأت في العلوم الإدارية أو الإنسانية(1)؟
هل تجيد استخدام القلم والورقة لتوضيح أو تلخيص أفكارك؟
هل تجيد استخدام الكومبيوتر والإنترنت؟
عند اطلاعك على إنجازات الماضي القريب أو البعيد.. هل تكتفي بالإعجاب به أم تأخذ منه العبر والدروس؟
هل تكتفي بتقليد الآخرين في أعمالهم وأفكارهم أم أنك تبحث دائماً عن الإبداع والتطوير؟
هل جلست يوماً إلى قائدك تطالبه بتوضيح الطريق لك بالدليل والبرهان؟
هل تُقدِمُ على المحاولات الجديدة والجريئة أم أنك أسير التكرار؟
هل تعتقد أن قادة الأمة ومفكريها يعلمون كل شيء وأنهم يخططون لكل شيء؟
هل تعتقد أنهم أدرى منك بالواقع والمستقبل وما عليك سوى اتباعهم لتصل إلى ما تريد؟
هل حدثك أحد عن إنجازات الحاضر أو الإنجازات المستقبلية المرتقبة؟
هل تركز على الفكرة أم على قائلها؟
هل تسطح الأمور وتبسطها أم تبالغ وتهول فيها؟
بإجابتك على هذه الأسئلة بصراحة وصدق ووضوح تتعرف على نفسك وعلى من حولك. تعرف كيف تفكر ويفكرون. كيف تتخذون القرارات. تتعرفون على حقيقة الخلفيات أو الأسس التي تبنون عليها تصوراتكم وأهدافكم ووسائلكم.
والآن بإمكانك أن تتوقع النتائج المترتبة على محاولاتنا المرتبكة للنهوض بالأمة في مواجهة الممارسات المدروسة والمعدة بعناية فائقة من أعدائنا لوقف تقدم الأمة.
__________
(1) العلوم الإنسانية هي مجموع الأبحاث والدراسات المنظمة والتي اكتسبت صفة العلم من خلال تحديد موضوعها ومصطلحاتها وبناء مناهج البحث فيها. وهي في مجموعها تعالج مختلف ظواهر الاجتماع البشري المتعددة. وتشمل العلوم الإنسانية: علم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم الأنتروبولوجيا (أي الإنسان)، وعلم الإتنولوجيا (أي الإناسة أو الشعوب)، وعلم الألسنيات، وعلم الاقتصاد السياسي، وعلم التاريخ، وعلم السياسة، وعلم الجغرافيا السياسية، وعلم الإدارة، وغيرها.(1/61)
نستعرض في هذا المشهد حالة التخلف التي كنا قد أشرنا إليها في المشهد السابق. ولعل حالة التخلف حالةٌ يطول شرحها والحديث عنها. ولكننا سنتناول أمراً واحداً ذا أهمية قصوى في هذا السياق، ألا وهو التحولات الأولى التي تقود إلى التخلف.
وفي تناولنا للتحولات الكبرى المؤدية إلى التخلف سنستعرض فكرة العوالم الثلاثة عند مالك بن نبي(1)، ثم سنستعرض أنماط التفكير التي جاء الإسلام ليحاربها، ثم بعدها نستعرض ما حدث في مجتمعاتنا بعد ذلك وماهية الحاضر الذي نعيشه ويعيشه العاملون في تيار النهضة في الجانب الفكري الذي أفرز ارتباكات الواقع والممارسة.
إن عدداً من الباحثين ممن يعكفون على مسائل البلدان النامية يميلون إلى تفسير مظاهر التخلف بأسباب تقنية واقتصادية محضة. فهم يركزون في مفاهيمهم على هذا المعيار أو ذاك، ويوجزون كل تعقيدات التخلف في مقولات اقتصادية كمية. فهم يحددون معايير ودلائل مختلفة من أجل تمييز التخلف، لكن معاييرهم ودلائلهم بصورة عامة ذات طابع كمي.
أما العلم المعاصر فلم يستطع أن يخلق أية نظرية موحدة عن التخلف ولم يتمكن من إبراز العوامل الرئيسة ذات العلاقة بمصدر هذه الظاهرة ولا البرهان على علاقة سببية فيما يتعلق بظهور التخلف.
__________
(1) مالك بن نبي (1905م – 1973م)
مفكر جزائري، أكب على دراسة المشكلات الراهنة في العالم الإسلامي وإمكانيات تطوره في المستقبل.
ولد في قسطنطينة، ودرس الهندسة متخصصاً في علم الإلكترونيات. من أهم مؤلفاته التي كتبت بالفرنسية: الظاهرة الإسلامية – مذكرات شاهد على القرن – القضايا الكبرى – الصراع الفكري – مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي.(1/62)
وهنا لابد أن نميز بين (التأخر) و(التخلف) و(النمو المتدني). فاليونان متأخرة عن الولايات المتحدة من حيث مستوى تطورها الاقتصادي، لكنه ليس لدينا على ما يبدو أي سبب لتصنيفها بين البلدان المتخلفة، واليونان ليست متقدمة كثيراً على الأرجنتين بناء على المعيار الكمي نفسه. لكننا عندما نأخذ في اعتبارنا مفهومي التخلف والتطور على أنمها مقولتان كيفيتان، فإننا نميل لتصنيف الأرجنتين بين فئة البلدان المتخلفة.
وهكذا فإنه يجب علينا أولاً تحديد معنى التخلف وتحديد معايير التخلف. هل المقصود هو التخلف عما بلغه الغرب؟ إذا كان الجواب بالإيجاب فسؤالنا في أي الجوانب تخلفنا؟ ثم ينبغي تكرار السؤال: تخلف بالمقارنة بماذا؟
ولتحديد التخلف يجب علينا أولاً أن نقوم بتحديد التقدم.. ما هو الذي نعتبره تقدماً؟!. وبعد أن نقوم بتحديد ما نعتبره تقدماً يمكننا أن نشرع في محاولة تقرير ما إذا كنا متأخرين أو غير متأخرين على ضوء رؤيتنا نحن للتقدم الذي نحدده لأنفسنا.
وينبغي أن نعلم إن التخلف نابع من أسباب متداخلة التأثير، منها الاستبداد السياسي الداخلي والسيطرة الأجنبية والفقر الاقتصادي وإغلاق
باب الاجتهاد أو عدم استعماله(1)
__________
(1) "كان الفقهاء في عهد الخلافة الراشدة وما تلاها من عهود بني أمية يجتهدون في استنباط الأحكام المتعلقة بالحكم والاقتصاد وغيرهما، ثم يعرضون اجتهاداتهم على الحكام. فيأخذون بها ويطبقونها. فتظهر مشاكل جديدة إما أنها لم تكن موجودة من قبل أو نتيجة خلل وقصور في الاجتهاد. فيجتهد الفقهاء مرة ثانية ويعرضون اجتهاداتهم على الحكام فيطبقونها وتظهر مشاكل.. وهكذا كان باب الاجتهاد مفتوحاُ على مصراعيه. وتسمى هذه الدورة دورة حياة الفقه.
إلا أنه ابتداء من العهد المرواني توقفت دورة الحياة تلك. فقد كانت الاجتهادات تعرض على الحكام فلا يطبقونها. وهكذا توقف الاجتهاد في المجالات المتعلقة بالحكم والاقتصاد واستمر في الأمور التعبدية أو الفردية" د. إبراهيم الأنصاري، التجديد في أصول الفقه. دراسة لاجتهادات المعاصرين، رسالة دكتوراه.(1/63)
والروح اليائسة المتفشية.
وخلاصة القول أن التخلف معنى لا يتضح إلا عند المقارنة وتحديد مجال هذه المقارنة كماً وكيفاً. وتقاس مجتمعات اليوم تحت النموذج الليبرالي المفروض بالمعايير التالية:
السياسي: بالتوافق مع النظام المعياري العالمي للديمقراطية وحقوق الإنسان.
الاقتصادي: بالناتج القومي. وتجاوز الاقتصاد الأحادي والريعي إلى الاستغلال الجيد للموارد. ودخل الفرد.
الاجتماعي: بمدى تجانس النسيج الاجتماعي ودرجة التراضي فيه.
الصناعي: القدرات التصنيعية وما يتعلق بها من التكنولوجيا بمعناها الشامل (البحث والتصنيع والاستخدام).
وعلى حركة النهضة أن تحسم أمرها في تحديد معاييرها الموضوعية وأن تبني حركتها على أساس هذه المعايير.
ليست حالة التخلف وليدة يوم وليلة، ولكنها موغلة في القدم منذ بدايات الدولة الإسلامية. أما التحول إليها بقوة فكان مع اكتشاف أوروبا لطريق رأس الرجاء الصالح. والذي أدى لدخول العالم الإسلامي في نفق مظلم لانقطاع شريان الحياة التجاري من قلب العالم الإسلامي ليمر بالطريق الجديد. فاستطاعت أوروبا الوصول إلى الموانئ الهندية والصينية وبالتالي حصار العالم الإسلامي من الأطراف بعد أن فشلت في اختراقه من العمق من خلال الحروب الصليبية.
وجعل انقطاع الوفرة المالية التجارية وتزايد الاستقطاعات العسكرية في قرون مليئة بالحروب عجلة الحياة العلمية تدور في اتجاه سالب خلال القرن السادس عشر. ومن المعلوم أن الإنفاق على التعليم والصحة هو أول ما يتأثر بالركود الاقتصادي،. أما عن السبب الذي منع العالم الإسلامي من التكيف السريع مع الحالة الجديدة مواجهة عملية التغير الدولي فيرجع إلى عوامل التحلل في الكيان الإسلامي(1) والتي سنستعرضها من خلال هذا الشكل التوضيحي:
__________
(1) يمكن الرجوع إلى كتاب الذاكرة التاريخية للأمة، حيث يحتوي على تحليل شامل وواف للأسباب المتراكمة والتي أدت إلى تخلف العالم الإسلامي.(1/64)
لقد قدم مالك بن نبي في كتاباته تصوراً يتمثل في ثلاثيته المشهورة بقوله: "أن الإنسان يعيش في ثلاثة عوالم: عالم الأفكار، وعالم الأشخاص، وعالم الأشياء. فلكل حضارة عالم أفكارها، وعالم أشخاصها، وعالم أشيائها".
ويقصد بعالم الأفكار مجموعة المعتقدات والمسلمات والتصورات والمبادئ(1) والنماذج التي تحتويها عقول مجتمع ما في لحظة تاريخية ما. ويدخل في هذا العالم أيضاً كل أنماط التفكير والقيم والمشاعر والأحاسيس.
أما عالم الأشخاص فيقصد به مجموعة العلاقات والنظم والاتصالات والقوانين التي تنظم حياة الأشخاص الذين يكونون هذا المجتمع فيما بينهم.
أما عالم الأشياء فهو كل ما ينتجه هذا المجتمع من مبانٍ وشوارع وزراعة وصناعة، وغير ذلك من المنتجات والخدمات المحسوسة والملموسة.
فإذا نظرنا إلى حاضر العالم الإسلامي سنجد اضطراباً وضعفاً شديدين في تلك العوالم الثلاث. فعالم الأفكار أصبح قفراً مجدباً. بينما اختل عالم الأشخاص والعلاقات، ودليل ذلك ما نشهده في انتشار الاختلالات الاجتماعية وانعدام العدالة أو ضعفها والطغيان، وما إلى ذلك من صور الاختلال في العلاقات البشرية. أما عالم الأشياء التي ننتجها فهو ضعيف جداً ولا يكاد يذكر مقارنةً بما تنتجه البشرية جمعاء.
من أين يبدأ الإصلاح؟
وهنا يأتي السؤال الهام، وهو من أين يجب أن يبدأ الإصلاح؟ وبأي هذه العوالم الثلاثة يجب علينا أن نبدأ؟ هل لابد أن نبدأ بإصلاح عالم الأفكار أولاً؟ أم أنه لابد من البدء بإصلاح عالم العلاقات بين الناس؟ ولماذا لا يكون البدء بإصلاح عالم الأشياء هو أول الطريق نحو النهضة؟!
وللإجابة على هذا التساؤل سنبسط كلام مالك بن نبي حول حله
__________
(1) يقصد بالمبادئ مجموعة الصواب والخطأ التي يعتقدها المجتمع ويبني على أساسها أحكامه وقراراته.(1/65)
للمشكلة من خلال هذا الحوار الذي تخيله، واستعرض فيه حيرة المفكرين بين هذه الثلاثة عوالم، بين قائل بأن الفكرة أولاً، وبين من قال أن عالم الأشياء أولاً.. ثم يستطرد في عرض الحل الذي توصل إليه بعد طول تفكير. وتعتمد فكرة هذا الحل على إيقاف بعض العوامل عن العمل وتحريك بعضها، ليمكن بذلك اكتشاف العامل المؤثر على بقية العوامل.
حاول أن تتخيل معنا قوماً من الأمازون أو من الأدغال الأفريقية، بعالمهم الفكري المتواضع وبدائيتهم وقد تم نقلهم إلى ألمانيا، بينما نقل الشعب الألماني إلى أفريقيا أو إلى الأمازون، ماذا كان سيحدث حينها؟ الأمر سيبدو واضحاً جلياً، وهو أن الألمان في هذه الحالة سيعمِّرون المناطق الأمازونية أو الأفريقية ويصلحونها، بينما ستُدَمَّرُ ألمانيا ببنائها وحضارتها وشوارعها على يد القبائل البدائية ..
أما الشاهد من هذه القصة فهو أن عالم الأفكار عندما يكون نامياً ومتطوراً ويحتوي على أفكار، يستطيع أن يخلق عالم الأشياء حوله. والعكس ليس بصحيح. فعالم الأشياء المتطور إذا لم يقابله عالم أفكار متطور يمكن أن يدمر تحت مطارق التخلف الفكري. والأمر بَيِّنٌ وواضحٌ وجليّ. فعالم الأفكار يمثل المنطقة التي تتم فيها التحولات الكبرى أولاً. هذا عند التجريد، أما في الواقع الحي فالعوالم الثلاثة تتفاعل بشكل دائري لا يتوقف. وهذا الشرح السابق هو محاولة لإيجاد أول الخيط.
مثال آخر:
تخيل أن شخصاً كانت كل معلوماته عن الزهور، فإن عالم علاقاته سيكون بتجار الزهور، وبعاشقي اقتنائها، وبالتالي سيكون عالم أشياؤه هو إنتاج وزراعة كل متعلقات الزهور.(1/66)
إذا قرر هذا الشخص أن يغير من عالم أشيائه، وأن يكون له تأثير في مجتمعه، فقرر دراسة الإعلام، وتغير عالم أفكاره، ثم ترتب على ذلك تغير عالم العلاقات، فصارت كل علاقاته بالمخرجين، والمصورين، والمنتجين، وغيرهم من أهل هذا المجال، وبالتالي سيتطور عالم الأشياء من تجارة الزهور إلى صناعة السينما والمسرح وغيرها من وسائل التأثير.
إن عالم الأفكار إذا تغير فإن عالم العلاقات يتغير معه، ومن ثم عالم الأشياء.
المنطق يقول:
إنك إذا قررت أن تعمل في وظيفة ما فإن أول ما تطلبه أن تتعرف وتفهم طبيعة العمل ومن ثم تبدأ بعالم الأفكار، ثم تتعرف على من ستتعامل معهم (عالم العلاقات)، ثم تبدأ في الإنتاج (عالم الأشياء). وكلما تمكنت من فهم العمل الذي ستقوم به، وكانت شبكة العلاقات متينة، كلما كان عالم الأشياء رائعاً.
إن من يعتزم خوض أي مشروع فإنه يقوم بدراسته أولاً (عالم الأفكار)، ثم يحدد علاقاته تبعاً لطبيعة المشروع - فعالم علاقات تاجر الأخشاب يختلف عن عالم علاقات تاجر اللحم - ومن ثم يختلف عالم أشيائهما.
إن عالم الأفكار يترتب عليه عالم العلاقات، ويترتب عليهما عالم الأشياء.
...(1/67)
وقد نزل القرآن الكريم على أمة تعاني من اختلال جميع العوالم. اختلال في عالم الأفكار(1)، وفي عالم العلاقات(2)
__________
(1) يظهر هذا الاختلال في دعائهم للمولى عز وجل "وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم" سورة الأنفال: 32. كما يظهر هذا الاختلال واضحاً في عبادتهم للأصنام والنجوم والكواكب؛ بل ربما عبد أحدهم ربه الذي صنعه من العجوة في أول النهار ثم يأكله عندما يجوع في آخر النهار.
(2) يظهر هذا الاختلال فيما رواه البخاري في صحيحه "عن عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء، فنكاح منها نكاح الناس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته، فيصدقها ثم ينكحها، ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها، أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم قد عرفتم الذي كان من أمركم، وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحبت باسمه، فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع به الرجل، ونكاح الرابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا، كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها، ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط به ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك، فلما بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم". كما يظهر هذا الاختلال في أشعارهم وأمثالهم كقول الشاعر: وأحياناً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا. والمثل العربي الشائع: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً.(1/68)
، وفي عالم الأشياء(1).
فإذا نظرنا إلى الإسلام ثم إلى نوعية العقلية التي سادت في المنطقة العربية قبل الوحي لوجدنا هذا الاختلال واضحاً. فسنجد أن عالم أفكارها كان يعاني من ثلاثة اختلالات كبرى. أولها اختلال قيمي مفاهيمي. فلقد كانت مجموعة الأفكار التي طرحتها الحالة الجاهلية - من قبيل قولهم "بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا"(2)، وقولهم "حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا"(3) – دليل أساس على أكبر الآفات في وجه التقدم. فلقد تجمدت وتبلدت عقولهم، وتوقفت عن إنتاج الأفكار، واكتفت بما أنتجته عقول الآباء والأجداد والسابقين. ثم هي بعد ذلك لا تفعل شيئاً سوى أن تستكمل مسيرة الحياة، فتسير إلى الأمام
بمجمل ما هو موروث من أفكار وأقوال ومعتقدات. فمن أين يأتي التقدم
والتطور إذا كان الإنسان قد أوقف عقله وجمده ومنعه من التفكير؟ بل وربما أغلق الأقدمون عقولهم كذلك على فكرة أول شخص بدأ بوضع ما يراه. فأهل الجاهلية لا يريدون إرهاق عقولهم في البحث عن الحقيقة. فجاء الإسلام ليقابل هذه النمطية المتكلفة في التفكير وهذا الأداء المتخلف في الفعل، فكان رد القرآن عليهم "أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون"(4) و "أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون"(5)، وغيرها من المواجهات القرآنية التي أُريدَ بها تصحيح العقل وتنظيم المنهج العلمي في البحث والتفكير بإنكار حالة الانحباس الماضوي.
__________
(1) كان عالم الأشياء ضعيفاً جداً. فقد كان العرب في الجاهلية رعاة في الصحراء، يعيشون في الخيام، قوام حياتهم الرعي والتجارة والإغارة على القوافل والتجار والقبائل.
(2) سورة البقرة: 170
(3) سورة المائدة: 104
(4) سورة البقرة: 170
(5) سورة المائدة: 104(1/69)
وواكب هذا الاختلال القيمي المفاهيمي إعراض شديد عن التعلم والعلم. فيصف القرآن حالتهم بقوله: "جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً"(1)، فهو إعراض كامل عن تلقي أي معلومات، وعن الاستفادة من ملكات السمع والبصر والنظر والعقل. هذه المنظومة المختلة جاء الإسلام ليعالجها. فقدم لنا نموذجاً راقياً لما يمكن أن نسميه بالثورة الفكرية التي أحدثها الإسلام. فكانت أول قضية يثيرها القران الكريم بشكل كبير قوله تعالى: "اقرأ.. الذي علم بالقلم.."(2)، وقوله: "والقلم وما يسطرون"(3)، وقوله: "أفلا يبصرون... أفلا يسمعون... أفلا يعقلون...".
ثم يأتي الخلل الثالث في العقلية الجاهلية، ألا وهو الاعتماد على الظن. فكان قولهم "وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر"(4)، فكان رد القرآن عليهم "وما لهم بذلك من علم إن هم إلا
يظنون"(5). ويواجه القرآن هذه الحالة فيقول: "وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة، إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين"(6). ويقول: "إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً"(7).
__________
(1) سورة نوح: 7
(2) سورة العلق
(3) سورة القلم: 1
(4) سورة الجاثية: 26
(5) سورة الجاثية: 24
(6) سورة الجاثية: 32
(7) سورة النجم: 28(1/70)
إن هذا الخلل الفكري المتمثل في اختلال العقل والإعراض الشديد عن العلم والتعلم والاعتماد على الظن واجهه القرآن مواجهة عنيفة وقوية، لأن هذه الملكات المعطلة، وهذا التصور القاصر هو أمر في غاية الخطورة ولا يمكن أن تبنى الأمم والحضارات عليه. فالأمم التي تمتنع عن القراءة ولا تستخدم القلم، هي أمم حظها ضعيف من التقدم. والعكس صحيح، فلقد أشار جودت سعيد في كتابه "اقرأ وربك الأكرم" في معرض تفسيره للنص القرآني في سورة العلق (.. أن الذين ينالون كرم الرب وغناه هم القراء أو أكثر الناس قراءة في العالم.. فاليونان كانوا أكثر الناس قراءة وكتابة أيام حضارتهم.. وهم الذين نالوا كرم الرب وكرامته بين العالم، فقد سيطروا على أكبر رقعة في العالم.. والمسلمون.. انطلقوا من كلمة (اقرأ).. إنهم في عصرهم كانوا أقرأ الناس.. لقد نالوا كرم الرب وكرامته من سعة في الدنيا ومكانة في العالم.. وإذا نظرنا حولنا في هذا العصر الذي نعيش فيه نجد أن الذين يتمتعون بخيرات العالم وينالون من الكرم والكرامة هم قراء هذا العصر..) وينطبق هذا الأمر كذلك على كل من عطل السمع والبصر واكتفى بمقولات السابقين وجهدهم. ورغم هذا التوجيه القرآني "اقرأ" فلا زالت تنتشر مثل هذه الظاهرة اليوم بين أبناء الصحوة الإسلامية؛ ناهيك عن بقية المجتمع. فحجم الإقبال على القراءة وعلى العلم والتعلم في هذه المجتمعات أو في هذه النهضات قليل، وحجم استخدام أدوات العلم قليل، وحجم تجاوز مقولات السابقين قليل، وهو أمر يهدد جهود هذه(1/71)
الصحوة المباركة. إذ أن عملية التقدم وتغيير هذه المجتمعات مرهون بالتحول الضخم الذي لابد وأن يطرأ على هذه المسارات المتعلقة بالقراءة واستخدام القلم واستخدام العقل والابتعاد عن الظن وطلب البرهان وفتح أبواب غير مطروقة وعدم الاكتفاء بقول وعمل من مضى. وكل هذه المسارات سنجد أن الكثيرين ممن يقومون على شأن هذه الصحوة إما أنهم لا يحسنونها، أو لا يدركون خطورة القصور فيها؛ بل سنجد ظاهرة أخرى خطيرة، وهي ظاهرة اجترار إنتاج الماضي بدلاً من فرزه، والوقوف عنده بدلاً من فتح آفاق المستقبل، والاكتفاء باتباع الوسائل بدلاً من ابتداعها، والاهتمام بالأشكال بدلاً من الاهتمام بالجوهر. ولترجع إلى موضوعاتنا وإنتاجاتنا المتعلقة بالنهضة لتكتشف ظاهرة خطيرة، ألا وهي الامتناع عن قراءة التاريخ، وقراءة التجارب الإنسانية، والاقتصار على نموذج أو نموذجين مبتورين لاسم أو اسمين من تراثنا، في غياب نسق فكري يقوم على منهجية في البحث والنظر هذه المقتطفات المبتورة، مما يؤدي إلى أضرار كثيرة.
إننا أمام ظاهرة كبيرة ومنتشرة. نشأت بذورها وترعرعت في الجاهلية، وعلاجها اليوم متوفر في الإسلام. فلقد أعلى القرآن من شأن القراءة والعلم وأدوات التعلم. فقال تعالى: "اقرأ باسم ربك الذي خلق... اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم"(1)، "ن والقلم وما يسطرون"(2)، "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، إنما يتذكر أولو الألباب"(3)، "شهد الله أنه لا اله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط"(4)، وغيرها من الآيات الكثيرة التي تحث على التعلم. كما أعلى المولى جل وعلا من
__________
(1) سورة العلق 3: 4
(2) سورة القلم: 1
(3) سورة الزمر: 9
(4) سورة آل عمران: 18(1/72)
شأن العقل وذم إهماله، فقال تعالى: "إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون"(1)، "إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون"(2). ثم دلنا القران على أهمية طلب البرهان والدليل، فقال تعالى: "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"(3)، وذم قضية الظن التي لا تقوم على البحث والنظر فقال: "إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون"(4)، "وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئاً"(5)، "وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون"(6). فالظن تصور لا يستند إلى دليل وهو ضد العلم، ونقصد بذلك الظن الذي لا يقوم على البحث العلمي.
وهكذا توجه كل هذه الآيات رسالة واحدة كبيرة مفادها أن استخدم عقلك ودع التقليد واتباع الأقدمين(7)، واطلب البرهان والدليل ولا تعتمد على الظنون.
إن القرآن في خطابه إنما يخاطب أصحاب العقول وذوي الألباب، لا أصحاب البطالة الفكرية.
وإذا استرسلنا في عالم أفكارنا المعاصر قليلاً سنتناول أربعة عشر نمطاً من أنماط التفكير أو من الأفكار القاتلة التي تشل حركة الصحوة اليوم:
الخلط بين المبدأ والمنهج.
سوء تعريف التربية.
التفكير النمطي.
الميل للمجاراة (عدم اعتبار بعد الزمان وبعد المكان).
نقل العادة.
مقاومة التغير.
عدم التوازن بين التنافس والتعاون.
الانسياق التام دون التثبت بدليل أو برهان.
الأفكار غير طموحة ولا تناسب الهمم العالية.
عدم التركيز على القول بل على القائل.
التحفز للرد على الفكرة وعدم الاستعداد للإنصات الجاد لها وتقييمها.
الاعتقاد بأن القيادات تعرف كل شيء و المبالغة في تقدير قدراتهم.
عدم الاستعداد لنقد الذات ومراجعة المسار وتدارك الأخطاء.
__________
(1) سورة يوسف: 4
(2) سورة الأنفال: 22
(3) سورة البقرة: 111
(4) سورة الأنعام: 116
(5) سورة يونس: 36
(6) سورة الجاثية: 24
(7) ليس اتباع الأقدمين مذموم في عمومه، لكن المراد ألا يكون حاجزاً دون التطور والإبداع والتقدم، فليس كل قديم مرفوض.(1/73)
تسطيح الأمور أو المبالغة والتهويل فيها.
أولاً: الخلط بين المبدأ والمنهج
... وهذا الخلط أو عدم الإدراك هو أول هذه المخاطر التي تشل صحوة اليوم. (ولقد كان من رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين أن تضمن وحيه إلى الناس نمطين من المفاهيم لا يستغني عنهما العقل البشري:
مفاهيم تتعلق بالمبدأ: فصلت نظام القيم في الإسلام، وبينت مضامين الرسالة. وتجسيدات تلك الرسالة في ميادين السياسة والاقتصاد والاجتماع.. فهي مفاهيم تتعلق بـ"ماذا"؟ لا بـ"كيف"؟
ومفاهيم تتعلق بالمنهج: بينت طرائق التطبيق ومناهج التغيير.. فهي تتعلق
بـ"كيف"؟ لا بـ"ماذا"؟)(1)
فكثير من العاملين في ساحة الفعل النهضوي إذا حدثتهم عن تجديد الوسائل والطرائق والمناهج ردوا عليك بثبات المبادئ وأهمية الإصرار عليها. وهكذا تُشل حركة الصحوة لاعتماد الكثير من أبنائها الوسائل والطرائق كمبادئ وثوابت.
ثانياً: سوء تعريف التربية
فهناك فكرة تسيطر على كثير من قادة الصحوة الإسلامية مفادها أن عملية التغيير والتحول القائمة على التدافع والتصارع لا يمكن أن تتم قبل أن تستكمل جموع العاملين تزكية نفوسها وتربيتها روحياً وإيمانياً.
__________
(1) محمد بن مختار الشنقيطي. الحركة الإسلامية في السودان، مدخل إلى فكرها الاستراتيجي والتنظيمي. دار الحكمة. لندن.(1/74)
ورغم أن هذه المقولة أو الفكرة قد أصابت كبد الحقيقة في بعض جوانبها إلا أنها ليست صحيحة بالكلية. (فالصحابي الجليل أبو محجن الثقفي كان مولعاً بالشراب، مشتهراً به، وكان سعد بن أبي وقاص حبسه فيه. فلما كان يوم القادسية وبلغه ما يفعل المشركون بالمسلمين ألح على أم ولد لسعد – وكان سعد قد أوثقه إلى سارية عندها – أن تفك وثاقه ليقاتل مع المسلمين، وتعهد لها أن يرجع في وثاقه بعد المعركة. فحمل على المشركين حملة صادقة حتى قال سعد: "لولا أن أبا محجن في الوثاق لظننت أنه أبو محجن وأنها فرسي")(1). وهكذا نجد هذا الصحابي الذي صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاهد في سبيل الله يرتكب كبيرة من الكبائر. فهو لم يستكمل التربية بعد، ورغم ذلك لم يمنعه قادة الإسلام من الخروج في الجيش للجهاد الذي هو من أشق العبادات على النفس بحجة نقص التربية أو الإيمان، بل لقد شهد له سعد بن أبي وقاص بالكفاءة، ولم يقل "أخشى من أن نؤتى من قبل أبي محجن" لأن لكل إنسان نقاط قوة ونقاط ضعف، وأبو محجن كانت نقطة قوته في كفاءته وحبه للجهاد، ونقطة ضعفه في حبه الخمر، غير أن الجهاد
يمحو الخطايا فهو خير معين لصاحب الخطيئة على تركها.
إن تزكية النفس لا تكون إلا بالامتثال لواجب الوقت الذي يريده الله منا، ولم نسمع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منع صحابياً عن الجهاد لذنب أو كبيرة، بل كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يمنع من لم يجاهد في غزوة تبوك من أن يلحق به في غزوة أخرى "فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين"(2)،
__________
(1) محمد أحمد إسماعيل المقدم. علو الهمة. المكتبة التوفيقية. بتصرف
(2) سورة التوبة: 83(1/75)
لقد ترتب على هذا التفكير انتشار مقولات مثل: "نفتقد العلم الشرعي" أو "نفتقد الإيمانيات". ورغم إقرارنا بأهمية هذه الجوانب وكونها شرطاً لتحقق موعود الله لنا بوراثة الأرض إلا أننا نرى أنها لا يجب
أن تقف عائقاً وحائلاً بين الشباب وبين الانطلاق الفعال في الساحة الإسلامية ومحاولة التغيير والنهوض.
إن شرط النجاح أن تتلازم حالتي العمل والتربية. أما أن تمضي السنوات تلو السنوات، ولا يسأل أحد نفسه عن إنتاجيته الحقيقية في مجتمعه ودوره في عملية استنهاض المجتمع بحجة أنه يربي نفسه ومن معه فهو مؤشر خطير يشير إلى تخلف الحالة الإسلامية. فكثير من التجمعات والهيئات الإسلامية تنكفئ على نفسها وتتجه إلى داخلها بحجة تربية الصف الداخلي وذلك عن طريق بعض الممارسات الضيقة، بينما تبتعد عن مجالات الحياة وعن الانتشار الحقيقي في المجتمعات والمناطق المؤثرة بحجة الحفاظ على تماسك الصف الداخلي والابتعاد بالعاملين عن مواضع الفتنة. فتجد الفرد العامل المخلص لا يكتب ولا يناظر ولا يحاضر ولا يحمل عبء أي مشروع حقيقي سوى حضور بعض المناشط الداخلية التي لا يعول عليها كثيراً في استنهاض المجتمعات.
ثالثاً: التفكير النمطي(1)
__________
(1) يقصد بالتفكير النمطي ذلك النوع من التفكير المقيد بالعادة Habit – Bound Thinking. وقد عده الباحثان إسَاكسِن وترِفِنجَر من أبرز عقبات التفكير الإبداعي.(1/76)
... فكثير من العاملين توقف واكتفى بمجموعة من المعارف دون البحث عن معارف جديدة، ومن ثم عدم الاستعداد للتفكير في قضية جديدة. وهذا الصنف من الناس عدو ما يجهل ولا تختلف طريقة تفكيره عن طريقة تفكير السابقين – مع الفارق الكبير طبعاً – عندما رفضوا التفكير في القضية الجديدة المعروضة عليهم، ألا وهي قضية البعث. فقديماً قال المشركون: "وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا تراباً أئنا لفي خلق جديد"(1)، بينما هو يقول: هذا طريق أو محاولة جديدة لا أعرفها، فلماذا أسلكها وأجربها أو حتى أستمع لها. فإذا وُجدت هذه النمطية من التفكير التي لا تريد أن تزيد على ما تعلمته في مرحلة من مراحل حياتها؛ بل وتتكلس عند
فكرة أو فكرتين، أو نموذج أو نموذجين ثم لا تريد أن تتعلم المزيد، ثم وبسبب التقادم في ساحات الفعل – المشروعية التاريخية - تتصدر للمهام وهي لا تحتوي في منظومتها الفكرية على ما يؤهلها للاستجابة لمتطلبات الوقت والعصر، ولا لمعرفة ما يدور حولها، فكم تكون الكارثة عندما تتخذ القرارات الهامة في مجالات الحياة بناءً على هذا النمط من التفكير؟!!
ولا نعني بذلك أن العمر السني هو الفيصل، بل مواكبة الحياة وجِدَّة التفكير وسعته وقدرته على استيعاب ما يدور هو الفيصل. فكم من صغير السن شاخ وهو صبي، وكم من كبير السن ظل متجدداً إلى لحظة وفاته.
رابعاً: الميل للمجاراة(2) (عدم اعتبار بعد الزمان وبعد المكان)
__________
(1) سورة الرعد: 5
(2) يقصد بالميل للمجاراة Conformity النزعة للامتثال إلى المعايير السائدة والتي تعيق استخدام جميع المدخلات الحسية، وتحد من احتمالات التخيل والتوقع، وبالتالي تضع حدوداً للتفكير الإبداعي.(1/77)
والمقصود به تقليد الآباء والأجداد دون التفكير في مدى صواب أو خطأ ما فعلوه. ومدى حتمية اتباع منهاجهم والنسج على أسلوب تفكيرهم. فلقد قال المشركون: "قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون"!(1) فيرد الله تبارك وتعالى عليهم في موضع آخر بقوله: "أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون"(2).
ولا نقصد بالمجاراة التقليد في أمور الفقه والتمذهب، إنما نقصد التقليد في قضايا الحياة المختلفة. فهذا الإنسان الذي لا يتساءل وحسبه أن يجد الأقدمون قد اعتمدوا حلاً واختاروه فيعتمده ويختاره بدوره دون أن ينظر فيه، هذا الإنسان بطريقة تفكيره هذه لا يمكن أن يقود نهضة ولا تغييراً أو حتى مجموعة من المتحمسين المخلصين. هذا الاتباع والتقليد دون النظر وتقليب الأمور والأفكار يؤدي أيضاً إلى تكلس الحياة وتوقفها عند نقطة ما تمثل رؤية شخص يُبجَل أو يُعظَم لسبب أو لآخر، ثم بعد ذلك يتوقف التفكير تماماً ويصبح الأمر اجتراراً لكل ما جرى وما قيل.
وقد لا تكون المجاراة في التصورات فحسب؛ فقد يكرر جيل تلو جيل أعمالاً بعينها، دون أن يفكر في جدواها في لحظته الراهنة، فتصبح في نظره حلاً لكل العصور أو مفتاحاً لكل الأبواب. ولكن لعلها كانت مجدية في فترة ما ولم تعد كذلك. فللمكان حكمه، وللزمان والظرف والعوائد أحكامها وتأثيراتها. وكل من أهملها فقد ضيق واسعاً.
ونعود لنؤكد في هذا السياق بان الأماكن تتعدد وتختلف. كما يتغير الزمن والظرف المحيط حتى في نفس المكان. ولا يقف القادة المبدعون عاجزين أمام هذه التحولات. فهم سرعان ما يحدثون التغييرات اللازمة للاستجابة للزمان والمكان. وهم حين يغيرون يدركون أن عدد المحاولات
__________
(1) سورة الصافات: 74
(2) سورة البقرة: 170(1/78)
للوصول لإجابة سؤال المرحلة والشكل المطلوب لمواجهتها قد لايتم اكتشافه من محاولة أو محاولتين.. فهم مشغولون – إن صح التعبير – بصناعة المفتاح الملائم لفتح الباب الذي يقف أمامهم. فهم يغيرون باستمرار في شكل المفتاح وحجمه وعدد أسنانه.
إن المشكلة التي يواجهها العقل الإداري أحياناً تكمن في تقديس مفتاح بعينه، واعتقاد أنه صالح لكل زمان ومكان ولكل باب.. بينما كل دارس للتجارب التاريخية يعلم أن هناك عدداً من المفاتيح لا حصر له تم إبداعه من قبل القادة لمواجهة الظروف المختلفة التي أحاطت بهم.. فتنسيق الأنشطة الإنسانية للوصول إلى الهدف هو إبداع متجدد. وإيجاد أفضل أداة فعالة مسألة تحتاج إلى الكثير من التفكير والتطوير والتغيير، حتى يمكن تحقيق الأهداف والوصول للنتائج. والجمود عند شكل واحد وأسلوب واحد وخطة واحدة مهما تغيرت الظروف وحتى لو تأكدت الحركة من عقم الوسيلة عن بلوغ الهدف هو انتحار أو تقصير لا عذر لأحد فيه.
خامساً: نقل العادة
فعندما تترسخ لدى الأفراد أنماط وأبنية ذهنية معينة كانت فعالة في التعامل مع مواقف جديدة ومتنوعة، فإنه غالباً ما يتم تجاهل استراتيجيات جديدة أكثر فاعلية.
ومن العبارات القاتلة التي تلخص هذه العقبة قول بعضهم: "لقد كنا دائماً نفعل هذا بنجاح" أو "كنا دائماً نحل المشكلة بهذه الطريقة".
سادساً: مقاومة التغير
... فهناك نزعة عامة لمقاومة الأفكار الجديدة والحفاظ على الوضع الراهن بوسائل عديدة، خوفاً من انعكاساتها على العاملين واستقرارهم – أفراداً كانوا أو جماعات. ولذلك تستخدم بعض العبارات القاتلة للرد على الأفكار الجديدة. مثل قول بعضهم: "لن تنجح هذه الطريقة في حل المشكلة" أو "هذه الفكرة سوف تكلف كثيراً جداً" أو "لم يسبق أن فعلنا(1/79)
هذا من قبل" أو "لماذا نلجأ للجديد؟ ألن تكون معه مشاكل؟"(1)
ونقصد بالطبع التسرع في سرد تلك العبارات قبل دراسة الفكرة دراسة جيدة أو محاولة البناء عليها. أما أن يقرر قادة العمل أن وسيلة ما لن تنجح أو أنها سوف تكلفهم كثيراً بعد مدارسة الفكرة وتقليبها فهذا فعل محمود ولا شك.
سابعاً: عدم التوازن بين التنافس والتعاون
... وهناك حاجة ماسة وملحة للمزج بين روح التنافس وروح التعاون بين الأفراد والجماعات والمؤسسات وغيرها، وذلك لتحقيق إنجازات قيمة. فكثير من التنظيمات يصل التنافس المفرط بينها إلى حد الاقتتال بالألسن والأيدي. كما يصل التعاون المفرط أحياناً إلى وضع الكثير من القيود والاعتبارات عند التحرك. مما يكون سبباً في فقدان الاتصال بالمشكلة الحقيقية أو التقدم في حلها. ولذلك فإن التوازن بينهما شرط من شروط
الإبداع والإنتاج.
ثامناً: الانسياق التام دون التثبت بدليل أو برهان
__________
(1) هذا السؤال يرد عليه الفيلسوف هيغل في تفسيره المثالي للتاريخ بقوله: "فالفكرة تولد ويولد معها نقيضها جنيناً في بطنها يكبر ويصارعها حتى تتكون من الاثنين فكرة جديدة وهكذا يتقدم العالم ويتطور حتى يصل لمرحلة الاتزان والكمال التام (إن كل فترة تنمي فكرتها الرئيسية إلى الحد الأقصى ثم تولد أضدادها أو نقائضها) . ولنضرب مثالا على هذا الكلام: ففكرة الحرية المطلقة لدى اليونان ولدت في اليونان القديمة وحملت في بطنها جنينها المناقض لها وهو الفوضى، وحين وصلت الفوضى قمتها ولدت الفكرة الجديدة وهي= =الحرية المقيدة، وخلاصتها أن الإنسان حر كشخص ولكن حدود حريته في عدم التأثير على الكيان العام للدولة والمجتمع، هذا الصراع بين المتناقضات الفكرية يؤدي إلى التطور نحو الأفضل بصورة مطردة حتى نصل للعالم المثالي الكامل من كل جوانبه.(1/80)
وهذا النمط من التفكير يبتلى به من اعتمد الاتباع بغير علم، وافترض استحالة أن يخطئ من سبقه أو أن تكون رؤية السابقين قاصرة أو غير واضحة. لذلك ذم الله أيضاً هذا الأسلوب وذم من يتبع الأقدمين بغير علم، فقال تعالى: "ما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً"(1). وبعض العاملين في الصحوة اليوم يتبعون ظنوناً وأوهاماً دون أن يتثبتوا من مدى صحة ظنونهم وأوهامهم هذه، ودون مطالبة قادتهم
بالتدليل والبرهان على صحة ما ذهبوا إليه من أفكار وتصورات؛ بل ويفترضون أن الخطأ غير وارد وأنهم لا يحتاجون إلى الدليل أو البرهان، ويكفيهم قول قادتهم دليلاً وبرهاناً. هذا النمط القاتل من التفكير القائم على الانسياق التام وراء فكرة ما على اعتبار أن شخصاً أو قائداً فكر فيها – دون مطالبته بالدليل والبرهان - واجهه القرآن. فأرشدنا ربنا تبارك وتعالى
إلى كيفية قبول أي فكرة فيقول: "قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا "(2)، ويقول في موضع آخر: "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين"(3).
تاسعاً: الأفكار غير طموحة ولا تناسب الهمم العالية
وهذه مشكلة كبيرة تواجه الفكر والمشروع الإسلامي النهضوي المعاصر. فكثير من المسلمين أقصى وغاية مناهم والغالب على تفكيرهم أن يرووا ظمأهم بعبادة معينة أو ممارسة معينة في جزئية من جزئيات الإسلام، ثم لا ينظرون إلى الصورة الكبرى واحتياجات الإسلام الملحة والضرورية. وجل ما يتحدثون عنه من قضايا - وإن كانت هامة – فغالباً ما تكون في آخر سلم الأولويات المعاصرة.
إن من أراد للإسلام أن ينهض يجب أن يسير على خطين: إصلاح نفسه، والعمل لتغيير الواقع الذي يحيط به، والمشاركة في عظائم الأمور التي تدور حوله.
__________
(1) النجم: 28
(2) الأنعام: 148
(3) سورة البقرة: 111(1/81)
ولكن ما يحدث في واقع الإسلام أن بعض المسلمين يهربون من الخط الثاني – خط التبعات والمسئوليات والكفاح والبذل – إلى الخط الأول ليرضوا ضمائرهم، فيقضون حياتهم بين الحرمين، ويشيدون المساجد، ويطعمون الطعام، وينحرون تقرباً وزلفى إلى الله. كل ذلك على أهميته وعظيم أجره إلا أن الله تبارك وتعالى حذر من الاكتفاء به وحصر الإسلام فيه، فقال تعالى: "أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله
واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله. لا يستوون عند الله. والله لا يهدي القوم الظالمين"(1). ولقد قرظ الشاعر هؤلاء القوم – وصدق - فقال:
أيفيد الشرع ذكرٌ في مساجد كالقصور
أيرد البغي وعظ دون جيش في الظهير؟؟!!
فالاهتمام بالخط الأول دون الثاني هو من قبيل إرضاء الضمائر وليس هذا ما خلقنا من أجله، وليس هو دين الله في تمامه وكماله.
وصنف آخر من المسلمين يغرق في الخط الأول بحجة تنمية الذات وتنمية الروح والقلب. ويوسوس له الشيطان أنه ليس كفءً لخدمة الإسلام والعمل له والبذل في سبيله ما دام يُذنب ويقع في الأخطاء والآثام. وهو بذلك يدخل في هذه الدائرة المغلقة، فلا يخرج منها ليفكر في أحوال الأمة وآلام المجتمعات. ولو تأمل قليلاً لوجد أن زيادة الإيمان لا تكون إلا بالعمل الجاد للإسلام، الذي يحيي في نفس الإنسان كل المعاني الإيمانية، ويدفعه دفعاً نحو العبادة والصالحات، ليتزود أكثر، وينطلق لأداء مهامه.
أما الصنف الثالث من المسلمين، والمنوط به النهوض بالأمة وتحقيق آمالها وأحلامها، هذا الصنف الذي يحاول جاهداً أن يسير على الخطين ما استطاع فهو يعاني من الأسر والسجن بين قضبان إنجازات الماضي. هذا الصنف المخلص لا يجد من يحدثه عن إنجازات الحاضر؛ ناهيك عن الإنجازات المستقبلية المرتقبة. وقادته وموجهوه لا يحدثونه إلا عن إنجازات الماضي،
__________
(1) سورة التوبة: 19(1/82)
والحديث عن إنجازات الماضي فحسب يضعف الهمم العالية، ويولد بلادة في التفكير، والاعتماد - كل الاعتماد - على الآخرين في تحقيق الإنجازات.
ولقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حريصاً أن يظل طموح أصحابه وجنده وأتباعه في القمة دائماً، فوعد سراقة بن مالك - في رحلة الهجرة - بسواري كسرى، وهو المطارد المطرود من بلده وقومه. فهو يبشر سراقة بالإنجاز المستقبلي المرتقب وهو انتشار الإسلام في ربوع العالم، وليس هذا فحسب؛ بل وسيتم هذا الإنجاز في حياة سراقة، ولاشك أن هذا طموح ما بعده طموح.
لقد كان بإمكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يحدث سراقة عن إنجازات الماضي، عن بيعتي العقبة، وهجرتي الحبشة، ودخول الإسلام المدينة وانتشاره بين أهلها، وعن خروجه من بلده رغم كيد قومه بنجاح ومهارة، إلا أنه لم يحدثه عن كل ذلك؛ بل حدثه عن إنجاز مستقبلي مرتقب لتطمح نفسه وتعلو همته.
أما الآن فإذا سأل سائل عن إنجازات الصحوة الإسلامية فلن تجد إلا من يحدثك بحديث الماضي، بالرغم من وجود الإنجازات التي لم يحسن عرضها. والنفوس بطبعها تواقة إلى من يشير إلى المستقبل ويمتلك رؤية واضحة له، ومعرضة عمن يكثر من الدفاع عن الماضي مهما كان عظيماً.
عاشراً: عدم التركيز على القول بل على القائل
من آفات التفكير التي يعاني منها العاملون في تيار الصحوة عدم التركيز على ما يُقال، وإنما التركيز من يقول. فالقائل أهم من الفكرة أو القول. وهذا يتمثل في ظاهرتين:(1/83)
الأولى: عدم قبول الفرد للكلام إلا من شخصية تنتمي إلى حزبه أو تنظيمه وجماعته. وكل فكرة أو قول يصدر عنها فهو مقبول. بينما لو طرح أي قائل أو عالم أو عامل لا ينتمي إلى حزبه أو تنظيمه وجماعته فكرةً أو رأياً؛ بل ربما كان أكثر حنكة وأقوم سبيلاً لرفضه دون بحث أو نظر. وصدق المولى حين قال: "وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم"(1). فالكثيرون لا يحللون ولا يدرسون ما يُقال وما يطرح عليهم من أفكار، بل هم أسرى لشخصيات بعينها. إذا قالت فقولها صواب، ومن خالفها فهو جاهل لا علم له ولا وعي.
والثانية: هي رفض الكلام أو الفكرة التي تُعرض. فبدلاً من أن يتم تهذيب أو نقد أو تطوير الفكرة ينصرف التركيز على صاحبها. ويصبح الحديث عن ذاته، وتترك الفكرة وتنسى. كما اتهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسحر والجنون "وقالوا معلم مجنون"(2). فالكفار لم يناقشوا الفكرة، بل ركزوا على شخصية القائل. وقد تزداد الأمور سوءاً وذلك بالنيل من صاحب الفكرة، ونيته وولائه وتربيته، وتتم رسم صورة له في أذهان الناس بحيث يبدو وكأنه لص أو منحرف ما كان يرجو الإصلاح، فإذا ما ذكر اسمه تُذكر الصفات التي أُلصقت به ولا تُذكر فكرته، تماماً كما حدث مع الطفيل بن عمرو الدوسي الذي نصحه المشركون بأن يسد أذنه حتى لا يسمع كلام محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -. فلما رآه الطفيل لم يذكر أفكار وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل تذكر تحذيرات المشركين فأسرع بسد أذنه، ولولا أنه كان عاقلاً لبيباً حكيماً لما أقبل على
الاستماع لقول وفكرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) سورة الزخرف: 31
(2) سورة الدخان: 14(1/84)
فعلى العقل المسلم أن يتجاوز هذه الآفة لينظر للحق من حيث هو حق وليس لقائله. فإذا تكرست ظاهرة الاصطفائية في الاستماع وكرس الإنسان جهده للنظر للقائل بدلاً من النظر للفكرة والتصور فلن يكون هناك انتفاع بهذه الأفكار المتدفقة في العالم، والتي يمكن أن تشكل أحياناً قفزات كبيرة وواسعة إلى الأمام.
حادي عشر: التحفز للرد على الفكرة وعدم الاستعداد للإنصات الجاد لها وتقييمها
بعض الناس عندما يسمع أي فكرة أو تصور لا يرهق عقله في التعرف على دقائقها وعلى جوانب الفائدة فيها أو إمكانية تطويرها والبناء عليها، وإنما يصبح همه وشغله الشاغل أن ينقد هذه الفكرة بفكرة أخرى مضادة، فيبدأ بالبحث عن العيوب في الفكرة التي أمامه دون أن ينتبه للجانب الإيجابي فيها.
ما الذي يضير العاملين والقادة لو قلبوا الأفكار المعروضة عليهم ذات اليمين وذات الشمال؟ فما كان فيها من خير يتم التركيز عليه وتنميته، وما كان فيها من خطأ تتم مراجعته وتصويبه أو إسقاطه وإلغاؤه.
ثاني عشر: الاعتقاد بمعرفة القيادات لكل شيء و المبالغة في تقدير قدراتهم
ومن الأخطار التي تحدق بالفكر الإسلامي في هذه المرحلة الاعتقاد بأن القيادات والمفكرين يعرفون كل شيء، وما على الأفراد إلا الاتباع. هذا التواكل الذي يتربى عليه الأفراد يجفف منابع الأفكار، ليكتشف المرء بعد مرور السنين أن اعتقاده بمعرفة القادة وقدراتهم ليس في محله، فيكون قد عطل عقله وضيع أوقاته ولم يُفِد الإسلامَ من قدراته وملكاته.
إن تعليق النظر والعقل على شخص لا نعلم – على وجه اليقين – نصيبه من العلم وقدراته وملكاته أمر في غاية الخطورة. ويؤدي إلى تجفيف
منابع التفكير في قطاعات وشرائح كبيرة، لو أعملت عقولها لربما أنتجت
خيراً من قياداتها وممن ينظرون في أحوالها.(1/85)
يجب تربية الأفراد على أنهم ليسو كماً مهملاً، وأن قياداتهم لا يشترط أن تحيط علماً بكل شيء، وأن هذه القيادات تحتاج إلى آراء وأفكار العاملين، وأن قرارات وأفكار وتصورات القادة تحتاج إلى مزيد من التفكير والنظر، وأن كل فكرة تطرح إما أن تبين جانباً من القصور أو تبين طريقاً خطأً يمكن إسقاطه بعد مناقشته، أو طريقاً للبناء يمكن استثماره. ولا ينظر للشخص بمكانته.
وليس هذا في حالة عدم التأكد من خبرة وعلم القائد فقط، بل حتى إن وجدت الثقة والتقدير للقيادة فهذا لا يعني إلغاء دور التفكير والبحث عن سبل العمل المنتجة، فهذا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يتقدم له الحباب بن المنذر ليوضح له أن الموقع الذي اختاره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بداية غزوة بدر معسكراً للمسلمين لا يصلح، فينزل القائد - صلى الله عليه وسلم - على رأي صاحبه، وهذا سلمان الفارسي رضي الله عنه يشير على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القائد بفكرة الخندق فيمضيها القائد - صلى الله عليه وسلم - ويأمر بالتخندق. كل هذه المعطيات تدل على أن هذه الكتلة البشرية كانت تفكر وتنظر، ولا تُسلٍّم - حتى مع وجود المصطفى - صلى الله عليه وسلم - - بأن القيادة تملك حلول كل المشاكل، وأن بيدها مفاتيح كل شيء، وأن المستوى القيادي يعلم كل شيء، فتتعطل بذلك العقول، وتضيع الطاقات، التي هي ثروة هذه الأمة. وهذه هي غزوة الأحزاب لا تحسم لصالح المسلمين إلا بتدخل شخصية لم تسلم إلا في أجواء الغزوة، نعيم بن مسعود الذي جاء للرسول - صلى الله عليه وسلم - - بعد أن أسلم – ويطلب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يساهم معهم فلا يطلب النبي منه سوى أن يخذل عن المسلمين، وبالفعل يأتي بفكرة إبداعية – ليست من إبداع الرسول القائد – وتحسم المعركة لصالح المسلمين. لم يكن التفكير حكراً على أبي بكر وعمر وصفوة الصحابة، إنه منهج تربوي نبوي في منتهى الرقي لفن التعامل وإدارة(1/86)
الصراع.
وهذا سيدنا موسى يأخذ الأمر من الله عز وجل- الذي يعلم السر وأخفى – بالذهاب إلى فرعون، فيفكر ويقترح "رب إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يقتلون. وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءاً يصدقني إني أخاف أن يكذبون"(1). لقد سجل الله لنا هذا الموقف حتى لا تقدس القيادات وإن كانت على أعلى مستوى، لأن التفكير عبادة وحق لكل مسلم، فكيف بسيدنا موسى يقترح في خطة العمل وهو يتعامل مع رب العالمين؟؟!!
ثالث عشر: عدم الاستعداد لنقد الذات ومراجعة المسار وتدارك الأخطاء
ومن أشد ما تعاني منه عقولنا عدم الاستعداد لنقد الذات ومراجعة المسار وتدارك الأخطاء، وذلك استناداً إلى أن الإنسان عليه بذل الجهد وليس عليه إدراك النتائج. والخلط بين قدرية النتائج وحدوثها بقدر الله ومشيئته وقتما يشاء وبين المراجعة والنظر في الخطة والتصور ومجال الأخطاء خطأ فادح لا يغتفر. فالله تبارك وتعالى أجاب المسلمين لما تعجبوا من هزيمتهم في غزوة أحد بقوله: "أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم.."(2)، أي راجعوا سلسلة القرارات والأعمال التي قمتم بها وستدركون مواضع الخلل والقصور. هذا البحث المستمر عن التحسين والتجويد والتطوير تقوم به كل المجتمعات. أما في مجتمعاتنا -
فلسبب أو لآخر - يعتبر النظر إلى الماضي والنظر في أخطائه سبةً أو فتحاً لأبواب الفتنة والخلاف والنزاع والشقاق، والفتنة نائمة لعن الله من أيقظها، وهكذا تكرر نفس الأخطاء وتسيل الدماء وتدفع المجتمعات والقوى الحية ثمن أخطائها مرة ومرتين وثلاث مرات، دون أن يتنبه أحد إلى بساطة الحل، وإلى أن الثمن المدفوع في هذا الخطأ هو مقابل الحصول على فرصة في
__________
(1) سورة القصص: 34
(2) سورة آل عمران: 165(1/87)
المستقبل. قد يستغرب القارئ هذا القول، ولكن استمع إلى إجابة توماس أديسون عندما سأله أحد الصحفيين عن حقيقة الإشاعة القائلة بأنه أجرى ألف تجربة فاشلة، فكان رده: "لقد عرفت ألف طريق لا يؤدي إلى الحل الصحيح". فهو لم يحاول إخفاء تجاربه الفاشلة؛ بل اعتبرها نجاحاً مهد له الطريق نحو المستقبل. ويقول روبرت شولر: "أفضل أن أغير رأيي وأنجح على أن أستمر على نفس الطريقة وأفشل"(1)، أما تيس روز فيقول: "إن أي اعتذار لا يصاحبه تغيير يعتبر إهانة"(2)، بينما يقول ونستون تشرشل: "لا يكفي أن نقوم بعمل ما نستطيع، بل علينا أن نقوم بعمل ما هو مطلوب"(3). وفي المؤسسات الكبرى في الولايات المتحدة الأمريكية توجد ملفات كاملة للأخطاء والتجارب الفاشلة التي مرت بها، بحيث يتم الاستفادة منها.
رابع عشر: تسطيح الأمور أو المبالغة والتهويل فيها
ومما يؤدي إلى التخلف التسطيح الشديد للأمور أو المبالغة والتهويل فيها. فبعض المسلمين لديه حلول جاهزة وبسيطة لكل المشاكل. وقسم آخر يهول من الأمور ويضخمها بحيث يتعذر معها فعل شيء، ودائماً ما يكون حديثه عاطفياً ارتجالياً، ويشير من حين لآخر إلى القائد المنقذ الذي سيحرر العالم. وكلا الصنفين يؤدي إلى قتل الإبداع والمبادرة بالأفكار الجديدة.
إننا أمام منظومة فكرية في ساحة النهضة في المجتمعات الإسلامية تحتاج في بعض أجزائها إلى تغيير شامل. وكثير من المؤسسات الخيرة العاملة في الساحة الإسلامية من الأحزاب والجماعات والمؤسسات الحكومية وغيرها تقوم - من حيث لا تدري أو من حيث تدري - بتكريس هذه الظواهر وتربية النشء والعاملين عليها. فهي من جانب تتحدث عن
__________
(1) داني كوكس. القيادة في الأزمات. بيت الأفكار الدولية
(2) نفس المرجع السابق
(3) نفس المرجع السابق(1/88)
النهضة، ومن جانب آخر تربي على كل ما يؤدي إلى وقف تيار النهضة. إن عملية البحث عن الفكرة النيرة وقدح العقول في المجتمعات الإسلامية وتغيير أنماط التفكير التي سبق ذكر بعضها هنا هي مقدمة ضرورية لانطلاقة النهضة الإسلامية.
أشرنا من قبل إلى تعريف مالك بن نبي لعالم الأفكار. وعلمنا أنه يشمل كل أنماط التفكير والقيم والمشاعر والأحاسيس وقد استعرضنا مجموعة الأفكار القاتلة المنتشرة بين أبناء الصحوة الإسلامية خاصةً وبين جماهير الأمة والمجتمعات عامة.
وقبل أن نترك هذا المشهد لابد أن نستعرض مجموعة من القيم والأفكار الهامة التي تفتقدها مجتمعاتنا بصفة عامة. وسنشير هنا إلى ستة أفكار أو قيم هامة:
أولاً: قيمة الوقت
... يقول مالك بن نبي: "وبتحديد فكرة الزمن، يتحدد معنى التأثير والإنتاج، وهو معنى الحياة الحاضرة الذي ينقصنا. هذا المعنى الذي لم نكسبه بعد، هو مفهوم الزمن الداخل في تكوين الفكرة والنشاط، في تكوين المعاني والأشياء، فالحياة والتاريخ الخاضعان للتوقيت كان وما يزال يفوتنا قطارهما، فنحن في حاجة ملحة إلى توقيت دقيق، وخطوات واسعة لكي نعوض تأخرنا، ووقتنا الزاحف صوب التاريخ لا يجب أن يضيع هباءً".(1)
ويقول: "وسيثبت هذا عملياً فكرة الزمن في العقل الإسلامي، أي في أسلوب الحياة في المجتمع، وفي سلوك أفراده، فإذا استغل الوقت هكذا فلم يضع سدى، ولم يمر كسولاً في حقلنا، فسترتفع كمية حصادنا العقلي واليدوي والروحي، وهذه هي الحضارة."(2)
إن أمتنا لا زالت تتعامل مع الوقت على أنه شيء غير محوري في قضية النهضة، وسادت أفكار قاتلة تقول بأن حركة النهضة يمكن أن تتم في مئات السنين، وذلك لتبرير السير البطيء جداً في طريق النهضة، وتم استدعاء - في غير محله – لبعض القصص مثل قصة سيدنا نوح للتدليل على أن مئات السنين ليست مقياساً في عمر الأمم.
__________
(1) مالك بن نبي، شروط النهضة
(2) نفس المرجع السابق(1/89)
ورغم أن سيدنا نوح قارب الألف عام في دعوته، إلا أن ذلك لا يعني أن يكون السقف الزمني لمشروع النهضة مفتوحاً لهذا الحد، فحتى سيدنا نوح شهد النصر (الطوفان) في عصره، وهذه كانت أعمار الأمم، أي أن جيله شهد بداية الدعوة كما شاهد انتصارها في نهاية المطاف، فلقد كانت أعمار الأجيال كلها طويلة.
وها هو المشروع النبوي ينجز في وقت قياسي وينجح النبي - صلى الله عليه وسلم - في وضع لبنة قوية للمشروع في ثلاثة وعشرين عاماً، قس ذلك على الأمم الناهضة مثل الصين واليابان وألمانيا. ويعقب مالك بن نبي على تجربة ألمانيا - عقب الحرب العالمية الثانية، وبعد أن حطمت الحرب كل جهازها الإنتاجي – بقوله: "يمكننا أن ندرك قيمة الوقت مباشرة في عودة الحياة الاجتماعية والاقتصادية، لشعب لم يبق لديه من الوسائل إثر الحرب الثانية إلا العناصر الثلاثة: الإنسان والتراب والزمن"(1)
إن تيار النهضة بحاجة أن يدرك قيمة الوقت، وأن كل تأخر فإنه يعني مزيد من التخلف، خاصة إن كان المتربصون بالمشروع يتحركون ليل نهار.
ثانياً: مفهوم الإيمان:
فالإيمان إذا ما ذكر في مجتمعاتنا قفزت إلى أذهاننا قضايا الوحدانية والنبوة واليوم الآخر. وآخرون – وهم كُثُر – يستحضرون قصص العباد والنساك والزهاد. ولا شك أن الإيمان يشمل كل هذا، ولكن ليس هذا كل الإيمان.
إن مفهوم الإيمان مفهوم إيجابي يدفع إلى الحركة والفعل. فأول ما يشير إليه مفهوم الإيمان هو:
1. التحرر من الخوف:
فأهل الجاهلية كانوا يخافون من القوى الغيبية ومن قوى الطبيعة المختلفة. فكانوا يتعبدون إلى بعضها تزلفاً ظناً منهم بأنها تمنع عنهم ضراً أو
تجلب إليهم خيراً. فلما آمن الناس بربهم وعلموا حقيقة هذه القوى الغيبية والطبيعية وأمنوا جانبها انطلقوا يجوبون أصقاع الأرض آمنين بأن النفع والضر من عند الله وحده.
2. وضوح القضايا الكبرى:
__________
(1) المصدر السابق(1/90)
... فالإنسان - وبخاصة الفلاسفة – عانى من حيرة شديدة حول قضايا الغيب: كالبعث والحساب وبدء الخلق والحكمة من الخلق وغيرها. فجاء الإسلام ووضح أصول الوحدانية والنبوة والحساب.
3. القدرة على التركيز على الكون المسخر والإحسان فيه:
... فبعد أن أمن الإنسان جانب القوى الغيبية والطبيعية فاطمأن قلبه، وزالت حيرة عقله بتعرفه على الأمور الغيبية التي طالما بحث فيها. انطلق يستثمر قدراته في إعمار هذا الكون المسخر له بلا خوف أو حيرة. وبالتالي أصبح لهذا الإنسان هدفاً ومنهاجاً ينطلق به وإليه.
... إن خلاصة مفهوم الإيمان هي التحرر. التحرر من الخوف القلبي، والحيرة العقلية.
وهنا يأتي السؤال: ما الذي نقصده بهذا الكلام؟ وما الذي نريد الإشارة إليه؟
نريد بشرحنا هذا لمفهوم الإيمان أن يعرف قادة وطلاب النهضة ما هو الجزء المنوط بهم. فالإيمان حرر قلوبهم وعقولهم لينطلقوا ويركزوا على استعمار الأرض وخلافتها وإعمار هذا الكون المسخر لهم. أما أن يظل الكثيرون محبوسين داخل دائرة قضايا القوى الغيبية كالجآن والشياطين وغيرها أو داخل دائرة قضايا الإيمان فيثيرون قضايا الفرق والنحل وشبهاتهم وافتراءاتهم فهؤلاء يعودون إلى السجن أو القيد الذي حررهم الإيمان منه. فيركزون ويجتهدون حيث تكفي المعلومة البسيطة، ويضيعون ويهملون حيث يجب التركيز والإتقان والإبداع.
وبالنظر إلى الثورة العلمية والتكنولوجية والمعلوماتية في أوروبا سنجد أن هذه الأمم قد اتخذت المسيحية ظِهْريّا، وكفرت بخرافاتها وأساطيرها وانطلقت في الكون المسخر تُعمِّر وتستعمر. فحررت عقولها وقلوبها أولاً ثم ركزت على الكون. وهذا ما فعله الإيمان بالضبط.(1/91)
ولا نقصد بهذا المثال أن ننبذ ديننا، ولكن نقصد أن قضايا الغيب والإيمان تكفيها المعرفة القلبية والعقلية، ويكفينا منهج السلف الصالح من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتابعيهم. فإنهم لم يكثروا الجدال في هذه القضايا وإنما انطلقوا يجوبون الأرض، ففتحوا نصف العالم القديم في أقل من ثلاثين عاماً؛ بل لم يكونوا يعرفون تلك المصطلحات التي شاعت في علوم الكلام وغيرها من القضايا التي أثيرت فيما بعد.
ثالثاً: فلسفة العمل الصالح
وأول ما يتبادر إلى أذهان العقلية المسلمة بالعمل الصالح العمل التعبدي والخيري. كالصلاة والإنفاق وعمارة بيوت الله وإطعام الطعام. وكل هذا يدخل في باب العمل الصالح. ولكن العمل الصالح في حقيقته هو كل عمل ينهض بالأمة. فهناك فارق كبير بين المخترع المبتكر المسلم والمعتمر الذي يذهب إلى بيت الله الحرام كل سنة أو سنتين. وإلى هذا المعنى أشار العالم التابعي الجليل عبد الله بن المبارك حينما بعث إلى الفُضَيْل بن عياض - والملقب بعابد الحرمين – برسالة فيها:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا وهج السنابك والغبار الأطيب
ففي ذلك العصر كان قتال الروم هو العمل الصالح الذي به تنهض الأمة وتتقدم. فكان بذلك الجهاد خير من ملازمة المسجد الحرام والصلاة فيه على عظم أجره ومثوبته.
والله تبارك وتعالى قال في كتابه: "الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً"(1) ولم يقل أيكم يعمل عملاً حسناً. فالله يريدنا أن نقوم
بأحسن الأعمال. فالأعمال الحسنة كثيرة، ولكن ما هو أفضلها وأحسنها في هذا الوقت؟ وهو ما يطلق عليه العلماء "واجب الوقت".
... ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحشد المجتمع بأسره ويحفزه. يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) سورة تبارك: 2(1/92)
"من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة نفاق".(1)
"من جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا"(2).
الحديثان السابقان يمثلان سلسلة الدعم المادي والتجهيز المعنوي للمرابط.
"ومن خلف غازياً في سبيل الله بخير فقد غزا".(3)
وهذا الحديث يمثل سلسلة العمل الاجتماعي والتعليمي لكل المجتمع الذي يقف خلف المرابط.
... قارن هذا الحشد النبوي بما فعلته ألمانيا عندما بنت نفسها بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى. لقد كان ما حدث لها دافعاً لتطوير قدراتها العسكرية، وتنظيماتها في مختلف الميادين في الحقبة النازية. وما قدرتها على البناء ثانية بعد الحرب العالمية الثانية إلا ثمرة لعالم الأفكار المنظم، والقيم السائدة والمتبقية – حتى بعد فشل ألمانيا في الحرب الثانية.
... وتخيل معي الفكرة ثلاثية الجوانب، فإن عملية تنظيم الدفاع عن الوطن تحتاج إلى:
جيش منظم: مثقف مجهز مدرب قطعاً بما يكافئ ويفوق الأعداء المحتملين.
ولكن ما شكل المجتمع الذي يقف خلف هذا الجيش؟؟
عمل علمي: إنه مجتمع منظم ومثقف ومجهز ومدرب، كذلك ففكرة تجهيز الجيش ليست بإعطائه السلاح وفقط، ولكنها تبدأ من إعداد الطفل في الروضة، وتصل إلى البحث العلمي في المعهد والجامعة، وتمتد لتشمل المصنع الذي يحول البحوث إلى معدات وأجهزة تحرك عجلة الاقتصاد وتوفر للجيش أفضل السلاح، في تدفق لا ينقطع، وتنتهي بخطوط الإمداد وجودتها وما يسمى باللوجستيك. فهل يمكن أن ينجح مجتمع بدون كل ذلك؟!
عمل اجتماعي: إنه الضلع الثالث في المعادلة، وهو العمل الاجتماعي بكل أشكاله، ليضمن الأمن الاجتماعي لكل من على الثغور المختلفة
ترى هل تبين لك امتداد العمل الصالح وشبكته الواسعة؟؟ فأين ذلك ممن قصر العمل الصالح على مبلغ من المال يدفعه لعاجز أو في رحلة عمرة، ثم هو في غير ذلك مسيء ومقصر.
__________
(1) رواه النسائي
(2) رواه البخاري
(3) رواه البخاري(1/93)
... إن نجاح المجتمعات مرهون بصواب الفكرة عن العمل الصالح.
من هنا نعلم أن الحرص على القيام بأحسن الأعمال، وجعل ذلك الأمر ميداناً للتنافس بين العاملين؛ بل حتى أن تنافس نفسك وتحاول أن تتفوق عليها، هذا الحرص هو الضمان الوحيد لاستمرار عجلة الحياة. أما مقولة "ليس في الإمكان أحسن مما كان" فهي تؤدي إلى إيقاف عجلة الحياة.
رابعاً: قيمة العمل في فريق
وهي قيمة تفتقدها مجتمعاتنا بصفة عامة. فمجتمعاتنا قائمة على العمل الفردي والإنجاز الفردي. بينما قيمة أو كلمة الفريق تعني عدة أشياء.
فهي تعني التعاون والتواصل وجودة وسرعة الإنتاج، وهي الأشياء التي يفتقدها العمل الفردي.
وللعمل في فريق مستلزماته كالتعاون والتناصح - الذي إذا ما افتقد الفريق روحه يصبح متنافراً، بينما روح التناصح تدعو للتعاون والتكامل، وتجنب الأخطاء التي قد تعتري العمل – وتنوع المهارات والتركيز على نقاط القوة عند كل فرد.
خامساً: رعاية الحقوق
فرعاية حق الله تكون بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. ورعاية حق النفس يكون بحفظها عن كل ما يهلكها. ورعاية حق الناس يكون بإنصافهم
حتى لو اختلفنا معهم في عقائدهم وتصوراتهم. وقد كان جوهر انتصار المسلمين الأوائل هو قدرتهم على الإنصاف.
إن رعاية هذه الحقوق الثلاث ضمانة من ضمانات النجاح، والجور عليها هو أول الطريق نحو الفشل المحقق.
سادساً: الصبر
والشائع في مجتمعاتنا أن الصبر يكون على المصائب. بينما الصبر في حقيقته هو وقف النفس على المشقة، ومنه الصبر على أداء الأعمال حتى تنجز. فالصبر يكون على الدراسة وعلى الدعوة إلى الله وعلى البحث العلمي وعلى التفكير للأمة وعلى إقبال الدنيا وإعراضها.(1/94)
مما سبق ندرك أن هناك ستة قيم هامة لابد من غرسها في عالم أفكارنا. ويمكن إيجازها في سورة العصر. فالله تبارك وتعالى يفتتح السورة بالقسم بالعصر في إشارة إلى قيمة الوقت. ثم يقرر حقيقة خسران الإنسان إلا من أدرك مفهوم الإيمان (آمنوا) ومفهوم العمل الصالح (عملوا الصالحات) وأدركوا قيمتي العمل في فريق ورعاية الحقوق (تواصوا بالحق) وقيمة الصبر (تواصوا بالصبر).
أثر الأفكار القاتلة: ...
...
إذا انتشرت داخل العقل ما يطلق عليه مالك بن نبي، الأفكار القاتلة، في الدين، وفي السياسة، وفي الاجتماع، وفي الاقتصاد، وفي الفن؛ فهذه الأفكار القاتلة تشكل القيود الحقيقية على إحداث نتائج في الواقع العملي، ولذلك سنجد - كما يقول نور الدين حاطوم في النهضة الأوروبية ويمكن الرجوع إلى ذلك في كتاب الذاكرة التاريخية - بأن حركة الإحياء في الغرب لم تبدأ بالنظر للمستقبل، إنما بدأت بتنقية التراث، ومحاولة استجلاب أحسن ما فيه من أفكار وإحيائها، فذهبوا إلى التراث الوثني؛ اليوناني والروماني على حساب المسيحية، وبدءوا يستلهمون منه فكرة المنطق، وفكرة البحث العلمي، والأفكار الأخرى التي رأوها نافعة، ثم أعادوا
هذا النافع بإحيائه، وبدءوا في النظر للمستقبل(1).
... إذاً كما يقول نور الدين حاطوم، لم تكن حركة النهضة كما تبدو حركة تنظر إلى المستقبل، بقدر ما كانت حركة رجعية، تنظر إلى الماضي، لكن هذه النظرة إلى الماضي كانت نظرة إيجابية، تستلهم من الماضي أحسن ما فيه،
وتؤسس عليه المستقبل المنشود،
إن العودة إلى الكتاب والسنة مطلب حقيقي، وأول هذه العودة يجب أن يكون بما بدأت به الدعوة من تغيير عالم الأفكار، والذي يتمثل في نظرة الإنسان للإله والكون والغيب والعالم المحيط به، وأيضاً تغيير أنماط التفكير التي تعيق أي حركة نهضوية حضارية من أسلوب التفكير المعوق.
__________
(1) نور الدين حاطوم، تاريخ النهضة الأوروبية، دمشق: دار الفكر.(1/95)
إنه مشهد ترى فيه الجموع الغفيرة من المخلصين والعاملين لنهضة هذه الأمة وقد تخلصت من الأفكار والمقولات القاتلة للإبداع والإنتاج. فانطلقت تفكر وتبدع في شتى مجالات الحياة.. تصنعها وتصوغها لتحقق نهضة الأمة التي ترنو إليها وتشتاق لها جماهير الأمة.
ليتحقق هذا المشهد الرائع لابد أن تحرص المؤسسات العاملة في الساحة الإسلامية من الأحزاب والجماعات والمؤسسات الحكومية والجهات المعنية بالعملية التربوية وغيرها على تغيير أنماط التفكير الشائعة لدى أفرادها، وإعادة النظر في طرق تربية النشء، والأفكار التي يتم تنشئتهم عليها.
وحتى يتم ذلك فمن الممكن الاستعانة بالسلسلة الكاملة للمناهج والأدوات التي ترسم وتنظم الخارطة الذهنية في العقول المسلمة.
تذكر أن
الإنسان يعيش في ثلاثة عوالم: عالم الأفكار، وعالم الأشخاص، وعالم الأشياء.
التغيير والإصلاح يبدأ من عالم الأفكار أولاً.
القرآن نزل على أمة يميزها اختلال جميع العوالم.
عالم أفكار الجاهلية كان يعاني من اختلال قيمي ومفاهيمي وإعراض شديد عن العلم والتعلم والاعتماد على الظن.
عالم أفكارنا المعاصر يعاني من مجموعة من أنماط التفكير التي تهدد حركة الصحوة بالشلل والجمود.، وهي: الخلط بين المبدأ والمنهج / سوء تعريف التربية / التفكير النمطي / الميل للمجاراة / نقل العادة / مقاومة التغير / عدم التوازن بين التنافس والتعاون / الانسياق التام دون التثبت بدليل أو برهان / الأفكار ليست طموحة ولا تناسب الهمم العالية / عدم التركيز على القول بل على القائل / التحفز للرد على الفكرة / الاعتقاد بأن القيادات تعرف كل شيء / عدم الاستعداد لنقد الذات وتدارك الأخطاء / المبالغة في تسطيح أو تهويل الأمور.
النفوس تواقة لمن يحدثها عن المستقبل، لا من يحدثها عن أمجاد الماضي ولو كان عظيماً.(1/96)
سنرى في هذا المشهد الجديد كثيراً من العاملين الذين لا يروْن من الإسلام إلا جانبه الهين اللين. وينكفئون إلى ممارسات ضيقة إذا ما احتاج الأمر إلى بحث ونظر وتصور وعمل جاد في مواجهة الواقع. إنهم لا يعدون العمل العقلي عملاً حقيقياً. بل ويعتقدون أنه بإمكان أي مجموعة أن تتجاوزه وتنجح في تحقيق أهدافها. بينما على الطرف النقيض يظن آخرون أن العمل العقلي وحده كفيل بالنجاح، وإن لم يكن بلسان المقال فبلسان الحال.
وسنرى في المشهد أيضاً بعض القادة الذين يحيلون قضية إعداد التصورات لمواجهة احتياجات الحاضر ومواجهة المستقبل إلى غيرهم من المفكرين، فإذا ما قدمت إليهم لم يفهموا مضمونها ولا اللغة التي كتبت بها. ثم يمارسون ما كانوا يمارسونه في الماضي دون وعي بما قُدِم لهم من جهد. وتدور الأحداث دورتها، وتعود الانكسارات في كل مرة يتحركون فيها.
وهناك الكثيرون الذين لا يحفظون من التجارب والنماذج التاريخية الناجحة سوى سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيرة عمر بن عبد العزيز والناصر صلاح الدين الأيوبي. ويعقب هذه التجارب فراغ معرفي كامل.
وسنجد في الساحة كثيراً من العاملين في مشروع النهضة الذين لا يريدون تحمل أي نوع من المخاطر، وإنما يريدون نجاحاً وإنجازاً بارداً مبرداً لا عوج فيه ولا أمتاً. فهم محجمون عن أي مبادرة أو فعل حقيقي لاعتقادهم بوجوب تحمل غيرهم التكاليف، أما هم فلم يحن دورهم بعد. فلصعوبة الأوضاع ووطأتها الشديدة فإقدامهم غير وارد، وصبرهم طويل، ولا يدري هؤلاء أن "الغُنْم بالغُرْم" وأن كل العظماء تحملوا وأقدموا حين أحجم الآخرون، وعم المثل القائل: "ما فاز باللذة إلا الجسور". وهكذا تتم حراسة فكرة الإحجام عن العمل بمجموعة مقولات عن الحكمة والروية، فأين هي تلك الحكمة؟؟!!(1/97)
استعرض هذه الأسئلة. ثم اعرضها على من تعرف من العاملين والمؤمنين والمتحمسين في المشروع الإسلامي واستعرض إجاباتهم. ثم حدد مكان وأهمية ونوعية دراسة التاريخ في عقول العاملين من خلال هذه الإجابات.
كم كتاباً في التاريخ تقرأ في العام؟
ما هي نوعية الكتب التاريخية التي تقرؤها؟ (ارسم خارطة توضح نوعية الكتب التي تقرؤها)
هل تقرأ في التاريخ بعمومه وتطلع على التجارب البشرية المختلفة أم أنك لا تقرأ سوى بعضاً من التاريخ الإسلامي وبعضاً من سِيَر الصحابة والتابعين؟
كيف تقرأ كتب التاريخ أو التجارب التاريخية؟ وما هي الجوانب التي تركز عليها؟
ما هي أهمية دراسة التاريخ؟
بمثل هذه الأسئلة تعرف نموك العقلي في صناعة النهضة، ووعيك في مرحلة اليقظة. فإن لم تكن من المجدين في النظر فيقيناً ليس عندك إلحاح السؤال الضروري لبناء الوعي. ومهما علت عاطفتك فهي وحدها لا تكفي، لأن معادلة النصر تقوم على "أولي الأيدي والأبصار". أي من يمتلكون القدرة التنفيذية مع الرؤية وبعد النظر.
استعرضنا في المشهد السابق قضية التخلف. ومما لاشك فيه أن انتشال الأمة من هذا التخلف الذي يحجب خيوط الفجر – الذي بدت تباشيره - عن عيوننا يحتاج إلى قادة.
إن إطلاق الطاقة الكامنة داخل هذه الجموع الملتفة حول الإسلام يحتاج إلى قادة.. فكيف نعد هؤلاء القادة ونجهزهم لتحمل هذه المسئوليات؟؟
نعتقد أن ما يحتاجه القادة كثير، ولكننا سنركز في هذا المشهد على موضوع واحد، وهو أهمية وجود قاعدة تاريخية صلبة لدى قادة المستقبل.
يعتقد الكثيرون أن دراسة التاريخ(1)
__________
(1) التاريخ هو دراسةٌ للتطور البشري في جميع جوانبه.. أياً كانت معالمه، وهو وعاء الخبرة البشرية، وهو الماضي والحاضر والمستقبل.(1/98)
هي دراسة الماضي. ولكن التاريخ ليس هو الماضي. إنه قاعدة الحاضر. كما أنه انعكاس كليهما على المستقبل. فمن لم يكن له تاريخ أو نصيب وافر من تجربة البشرية فهو في عناء كبير، وفي جهل فاضح. لأنه يبدأ من الطفولة البشرية. أي أنه يبدأ من الصفر.
والنظر إلى التاريخ عمل عقلي يحتاج إلى جهد من القادة. إلا أن العطالة العقلية - التي أشرنا إليها من قبل – والسائدة في مجتمعاتنا جعلت كثيراً من العاملين لا يروْن من الإسلام إلا جانبه الهين اللين. ولكن عندما يحتاج الأمر إلى بحث ونظر وتصور وعمل جاد في مواجهة الواقع، ينكفئ الكثيرون إلى ممارسات ضيقة، ويبتعدون عن هذا المجال الشاق. وكما أن الأمة بحاجة إلى الإيمان والإخلاص والعبادة والصلاة، فهي بحاجة لعقل راجح يوجه حركتها، ولعمل دءوب يجيب على أسئلة الواقع وعلى تناقضاته.
وهنا لابد من الإشارة إلى أمر هام وهو أن كثيراً من العاملين في ساحة المشروع الإسلامي لنهضة الأمة لا يعدون العمل العقلي عملاً حقيقياً. بل ويعتقدون أنه بإمكان أي مجموعة أن تتجاوزه وتنجح في تحقيق أهدافها. بينما على الطرف النقيض يظن آخرون أن العمل العقلي وحده كفيل بالنجاح، وإن لم يكن بلسان المقال فبلسان الحال. وكلا الطرفين ذميم.
طرق تفكير القادة
نعود مرةً أخرى لموضوع إعداد القادة عقلياً في مجال التاريخ، لننقل ما قاله جون بيريه في كتابه "الذكاء والقيم المعنوية في الحرب". فهو يقول: ".. ويحدد القائد بفكره ثلاثة مواقف ويتبع ثلاث طرق في التفكير: الأولى طريق المنظِّر الذي يمعن الفكر في التجارب، ويستخرج منها قواعد عامة، ويشترك في إعداد التصورات..".(1/99)
وتثير هذه المقولة الكثير من التساؤلات حول قادة المشروع المعاصرين ورصيدهم من العلم بالتجارب التاريخية، وحول مدى قدرتهم على استخلاص القواعد العامة. كما أنها تثير سؤالاً آخر حول كم القادة الذين يحيلون قضية إعداد التصورات لمواجهة احتياجات الحاضر ومواجهة المستقبل إلى غيرهم من المفكرين، فإذا ما قدمت إليهم لم يفهموا مضمونها ولا اللغة التي كتبت بها. ثم يمارسون ما كانوا يمارسونه في الماضي. وهكذا يعيد التاريخ نفسه، وتدور الأحداث دورتها، وتعود الانكسارات في كل مرة يتحركون فيها، إذ أنهم يكررون تجاربهم السابقة دون وعي بمتطلبات الحاضر والمستقبل.
وهكذا فلابد من إعداد القائد ليلعب دور المنظِّر الذي يمعن الفكر في التجارب، ويستخرج منها قواعد عامة، ويشترك في إعداد التصورات. فهذه هي أول الوظائف الفكرية التي يجب تدريب وإعداد القائد عليها.
ثم يتبع جون بيريه بقوله: ".. إن القائد له طريق الطبيب، الذي يحلل ويناقش، ويوازن المعطيات في حالة خاصة محددة..".
ففي كل يوم تُستجد ظروف، وتُطرح قضايا، وتُثار أسئلة، وتُواجه وقائع جديدة، ويحتاج القائد لمواجهتها أن يحلل حالة خاصة في وضع خاص وتحت ظروف خاصة، فلابد أن يمتلك هذه القدرة على المناقشة والتحليل والموازنة. وتدريب القادة على اتباع هذه الطريقة يحتاج إلى الكثير من العمل.
أما الأمر الثالث والهام عند جون بيريه فيتضح في قوله: ".. وطريق رجل الأعمال الذي يستنتج ويقرر وينفذ..".
إذ أن طريق التنظير والقراءة وإعداد التصورات، وطريق التحليل والمناقشة وعمل الموازنات إذا توقف عند هذا الحد يصاب الإنسان بالشلل التحليلي(1). فلابد من استكمال هذين العنصرين بعنصر ثالث وهو عنصر
__________
(1) يقصد بالشلل التحليلي المبالغة في التنظير والقراءة وعمل الموازنات والتحليلات مع الإحجام عن التنفيذ وأخذ المبادرات واقتناص الفرص. أي الاكتفاء بالعلم دون العمل.(1/100)
المبادرة وقبول تحمل المخاطر المحسوبة calculated risk)).
إن كثيراً من العاملين في مشروع النهضة اليوم لا يريدون تحمل مثل هذا النوع من المخاطر، ولكنهم يريدون نجاحاً وإنجازاً بارداً مبرداً لا عوج فيه ولا أمتاً، وهو ما يخالف أي قراءة تاريخية، ولننظر في تجارب الأنبياء والمرسلين قبل النظر في تجارب غيرهم من القادة والمصلحين، فهل أدت تجربة من هذه التجارب إلى عالم مثالي سواءً في مرحلة ما قبل التمكين أو في أثناء مرحلة الصراع والتدافع أو حتى بعد التمكين دون تحمل المخاطر والآلام؟ أم أن كل هذه الرسالات وتلك الحركات كانت لها مصاعبها التي واجهتها خلال هذه المراحل والأطوار المختلفة؟ فالعالم المثالي - الذي ينشده بعض العاملين بشروط كاملة لا ضرر فيها ولا مخاطرة - غير وارد في أحوال البشر والمجتمعات.
فلابد للقائد من طريق رجل الأعمال الذي يستنتج ويقرر وينفذ ويقتنص الفرص ويتحمل هذا الجزء من المخاطر المحسوبة.
إذاً يحتاج قادة المشروع إلى اتباع طريق المنظِّر، وطريق الطبيب الذي يحلل حالة خاصة لمريض بعينه ويناقش ويوازن، وطريق رجل الأعمال الذي يستنتج ويقرر وينفذ. فإذا ما توافرت هذه المواصفات الثلاث لدى قيادة المشروع النهضوي نكون قد حظينا بالقيادة المطلوبة والتي نسعى إليها.
إننا نبني جزءاً من التفكير الاستراتيجي لدى القائد عندما نزوده بخارطة تاريخية يتعامل بها مع الواقع، فالتفكير الاستراتيجي كما يقول كنيتش أوميه في كتابه "فن التفكير الاستراتيجي": "التفكير الاستراتيجي يبدأ أولاً بفهم واضح لكل عنصر من عناصر الوضع القائم، ثم ينطلق مستخدماً أقصى القدرات العقلية لإعادة ترتيب العناصر بأفضل طريقة تحقق الميزة التنافسية".(1/101)
وأقصى القدرات العقلية في تصورنا هي هذا البناء الذي تكمن في أحد أهم مدخلاته قضية التجارب التاريخية وتنوعها. إذ أنها تعطي سعةً كبيرةً في العقل بالإضافة لعناصر أخرى في التفكير القيادي التي يجب أن يدرسها أي إنسان يعتني بالشأن العام في مجتمعاتنا العربية والإسلامية.
وهكذا فإن النماذج التاريخية تلعب دوراً كبيراً في تشكيل هذه العقلية الاستراتيجية. ولكن ما الذي يدرسه القائد في التاريخ وكيف يدرس؟؟
يستهدف علم التاريخ جمع المعلومات عن الماضي وتحقيقها وتدوينها وتفسيرها. ولا نقصد بذلك أن يتحول القادة إلى أكاديميين، ولكن عندما تأتي قضية التفسير يأتي دور القائد في جزئه التنظيري التصوري الذي يشارك فيه في بناء التصورات، فهو يقوم بمقارنة وربط الجزئيات بالكليات من خلال اطلاعه على حقول واسعة من التجربة البشرية مع القدرة على
تشكيل المعلومات في نسق ثم استنتاج الخلاصات. فغاية القائد أن يفهم القوانين العامة، وأن يفهم النواميس الكونية، وأن يفهم سنة الله في خلقه لأنه يتعامل مع السنن. وانظر إلى قول البنا في مؤتمره الخامس: "لا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة، ولكن غالبوها واستخدموها، وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض". هذه القدرات المتنوعة للقائد في فهم القوانين ثم الاستفادة منها في التعامل مع قوانين أخرى هي المحصلة الكبرى لدراسة التاريخ. وبالتالي فلابد لمعاهد تخريج قادة النهضة من العناية بدراسة النماذج التاريخية الناجحة والفاشلة في قضايا التغيير والتمكين.
النماذج الشائعة في عقول طلاب النهضة(1/102)
يحلو للبعض عندما نتحدث عن التاريخ أن يذكر سرداً للسيرة النبوية المطهرة المشرفة، أو أن يقفز إلى فترة عمر بن عبد العزيز أو صلاح الدين الأيوبي. لكن كم بين هذه الفترات من تجارب ثرية سالبة وموجبة يمكن البناء عليها واستخلاص النتائج منها؟!. وإذا كانت الذاكرة لا تحتوي إلا نموذجاً أو نموذجين – هذا إذا افترضنا حسن القراءة لهذه النماذج - فعندها تصبح حصيلة هذا القائد ضئيلة وضعيفة، وبالتالي يصبح حكمه على الأمور ومقارباته شديدة البعد عن الواقع وعما هو مطلوب.
التاريخ كأداة من أدوات القادة
لذا فلابد لقادة النهضة من دراسة النماذج التاريخية. فالتاريخ ليس علماً للمتعة؛ بل هو أداة هامة لعدد من الأشياء:
- هو أداة من أدوات استخراج النماذج والمقاربات من واقع القائد والمستقبل المتوقع.
- وهو أداة للإقناع. فعندما تتحاور مع شخص ما ثم تستلهم التاريخ لتدلل على ما تقول، فأنت تتكلم عن شيء حقيقي، لا عن أوهام أو ظنون.
- وهو أداة لرفع الروح المعنوية. وانظر مثلاً في هذا الجانب إلى الطريقة التي يتبعها الغرب في رفع الروح المعنوية عند أتباعه باستخدام التاريخ.
التاريخ أداة لاستخراج النماذج:
إن نظرة واحدة على عمليات التحرك لتغيير الواقع في التاريخ تضعنا أمام نماذج لا حصر لها من الممكنات. فما هي قراءاتنا حول المشاكل التي واجهها قادة التغيير والحلول التي جربوها؟؟
ماذا نقرأ مثلاً في: تجارب الأنبياء غير المحاربين وتجارب الأنبياء المحاربين؟ وكم عدد المحاولات التي جربها الرسول - صلى الله عليه وسلم - للانتقال من شريحة البدء إلى إيجاد شريحة التغيير؟؟ وما هي دلالات هذه المحاولات المتنوعة؟؟ وما هي الاستجابات المختلفة لقضايا الواقع وما دلالتها؟؟ وما هي العبرة من تحركات العلويين ومآلات تجاربهم؟ وما هي العبرة من تحرك العباسيين ونجاحاتهم؟؟ وما هي العبرة من تحركات ومآلات الخوارج وغيرهم؟؟ وهكذا...(1/103)
وماذا نقرأ في: التجربة الألمانية والفرنسية والبريطانية والروسية والصينية؟ وما هي تجارب الثوار في أمريكا الجنوبية وما العبرة منها؟؟ وهكذا...
إن تنوع الوسائل والنماذج تعطي سعة لا حصر لها سواء على مستوى الاستراتيجية، أو على مستوى التكتيك.. فكل تجربة تغيير أو احتشاد للنهضة في مجتمع ما هي إلا خبرة مضافة ودرس يحتاج إلى تعلم. وتدريب القادة على القراءة والربط والمقاربات وعمل النماذج هو أول أولويات طلاب النهضة.
التاريخ أداة لرفع الروح المعنوية
تقول زيغرد هونيكه في كتابها المشهور "شمس الله تشرق على الغرب": "من يتصفح مائة كتاب تاريخ لا يجد اسماً لذلك الشعب (العرب) في ثمانية وتسعين منها. وحتى اليوم فإن تاريخ العالم لا يبدأ بالنسبة للإنسان الغربي وتلميذ المدرسة إلا بمصر القديمة وبابل بدءاً خاطفاً سريعاً!! ثم يتوسع ويتشعب في بلاد الإغريق وروما!! ثم ماراً مروراً سريعاً ببيزنطة!! منتقلاً إلى القرون الوسطى المسيحية لينتهي منها آخر الأمر بالعصور الحديثة".
والسؤال الآن:
لماذا المرور السريع في سرد الحضارات القديمة؟؟!!
ولماذا التشعب والتوسع في سرد حضارات بلاد الإغريق وروما؟؟!!
ولماذا تم اختزال فترة العصور الوسطى ثم التوسع في العصور الحديثة؟؟!!
ويمكن إجمال الأسباب التي دعت المؤرخين الأوروبيين إلى تناول وعرض التاريخ بهذه الطريقة فيما يلي:
أن تقزيم دور الحضارات المشرقية في زاوية صغيرة من كتاب التاريخ – عند صناعة العقل الأوروبي - يجعل فترة روما والإغريق تأخذ بعداً أكبر. وبالتالي تُهمَّش أدوار الحضارات الأخرى، فيصبح التاريخ البشري كله قبل روما وقبل اليونان – في العقل الأوروبي -هو فترة قليلة في الوجدان.
أن التضخيم لفترة اليونان والرومان وإنجازاتها يغرس في الشعور والعقول أن إنجازات الإغريق والرومان هي أم التراث الإنساني. وهذا من قبيل البعث النفسي للشعوب الأوروبية.(1/104)
أن تقزيم واختزال وتهميش فترة العصور الوسطى (عصور الظلام في العقل الأوروبي) وبيزنطة - وهي تقرب من عشرة قرون سادت فيها الحضارة الإسلامية وحضارات أخرى – رغم أنها الأطول في التاريخ الأوروبي يشعر القارئ والطالب الأوروبي أن أوروبا كانت باستمرار مهد الحضارة. وأن الذكاء الأوروبي هو أمر ممتد منذ القدم وحتى زوال الكون.
الانتقال المباشر إلى عصر النهضة والعصور الحديثة والإشادة بهما لأنهما يمثلان العصر الأوروبي المجيد.
ثم يتم التوسع في التاريخ الأوروبي المعاصر الذي يمثل قمة البعث النفسي والعظمة والمجد الأوروبييْن.
وبذلك أسقط المؤرخون الأوروبيون الحضارات القديمة بضربة فنية، وأسقطوا الحضارة الإسلامية التي امتدت عشرة قرون متواصلة بضربة فنية أخرى، وجعلوا تاريخ العالم يبدو خطاً غير منقطع للتاريخ الأوروبي، فيعيدون بذلك تشكيل عقلية الطالب الأوروبي لاستقبال هذه المعلومة، وعندها لا يتبقى في عقليته إلا عظمة اليونان والرومان، واتصال ذلك بعظمة أوروبا الحالية و يسقط ما بينها من فجوات أو تساؤلات.
فإذا نظر الطالب إلى هذه الحضارة الممتدة العظيمة، رآها في القمة دائماً وعلى مر العصور، فهي لابد أن تسود وأن تهيمن. بينما العالم الآخر - في عينيه - لابد وأن يكون مهيَمناً عليه.(1/105)
وهكذا فإن استخدام التاريخ بهذه الطريقة هو استخدام في مجال الصراع، وليس استخداماً محايداً للتاريخ(1).
التاريخ أداة لخفض الروح المعنوية
__________
(1) إن إعادة عرض المادة التاريخية بأسلوب مغاير هو من أهم واجبات العاملين في مشروع النهضة اليوم، وذلك لأن ما نقل عن الكتب الأوروبية وطرق تنظيم المادة العلمية التاريخية لديهم تحقق أغراضهم من البعث النفسي - وهو ما تحقق بالفعل للأوروبيين – وتفعل عكس ذلك في نفوس أبناء أمتنا، حيث تعلي من شأن الآخر وتحط من قدر الذات، وهو أمر خطير لو تنبه إليه المربون والعاملون. لذلك فإنه لابد من اختيار المرحلة الزمنية النموذج وإبراز أهم إنجازاتها والتي قد اكتشفها الآخرون قبل أن نكتشفها نحن. ولنتذكر دائماً:
1. أن المنهج العلمي هو ابتكار إسلامي. وأن نقل العلوم التطبيقية كالطب والكيمياء والفيزياء والفلك وعلم النبات من البدائية إلى علوم تخضع للمنهج العلمي هو اكتشاف إسلامي، ولا يقلل من شأنه تراجع العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر بحال من الأحوال.
2. أن تحويل العلوم الإنسانية إلى علم حقيقي يرجع فضله إلى العلامة ابن خلدون. وكل من جاء بعده تأثر به بشكل مباشر أو غير مباشر.
نعتقد أنه إذا تم توظيف هذه الإنجازات التاريخية توظيفاً جيداً فسوف يمثل ذلك حلقة هامة من أهم حلقات البعث النفسي في الأمة. فعلى العاملين أن يركزوا كثيراً حيث يجب التركيز، وأن يجيبوا بدقة على الأسئلة التالية:
- لماذا ندرس؟
- ماذا ندرس؟
- كيف نعرض؟
- كيف ندرس؟
- كيف نُقوِّم؟(1/106)
وهنا لابد من الإشارة إلى أمر هام، وهو أن التاريخ إذا كان يستخدم كأداة لرفع الروح المعنوية - لو كان المقصود بناء أمة – فهو يستخدم أيضاً لتشويه الأمم وخفض روحها المعنوية – لو كان المقصود هدم أمة. فلو كان المراد هو بناء الأمة يتم استعراض تاريخ الإنجازات في الفتوحات والتقدم والتوسع الحضاري والتاريخ العلمي وتاريخ الإنجازات التطبيقية في مجالات العلوم وغيرها وهو ما يسمى بالتاريخ الكبير. أما إذا كان المراد تشويه سمعة أمة أخرى فيتم استعراض تاريخ القصور والصراعات التي كانت على الحكم, وأحوال الملوك ورجال ونساء البلاط وهو ما يسمى بالتاريخ الصغير، ويتم تجاهل التاريخ الكبير تماماً.
إذاًَ هناك تاريخ كبير يرفع من معنويات أي أمة، وهناك تاريخ صغير يمكن أن يحط من قدر أي أمة. فإذا افترضنا أن التاريخ ليس أداة محايدة تُذكر فيها كل الإيجابيات والسلبيات - وذلك لا يحصل في الغالب - إنما يستخدم التاريخ في كثير من الأحيان كتاريخ وظيفي؛ بمعنى أنه يستخدم لتعزيز قوة ومنعة أمة ما وحصانتها وإحساسها بهويتها، فإذا وجدت في مجتمعاتنا من يشتغلون بالتاريخ الصغير وينسون تاريخ الفتوحات وتاريخ العظماء والمبدعين في الأمة فاعلم أنهم يعملون لصالح مشروع آخر. هذه حقيقة لا يجادل فيها إلا من لا يعرف نوعية الدراسات التاريخية التي تقدم، وكيف يقدم التاريخ وكيف يستخدم.
ما يجب أن يدرسه طلاب النهضة
نعود لنقرر أننا يجب أن نحدد المساحة التي يحتاجها قائد النهضة من التاريخ. فمما لاشك فيه أنه لا يوجد الوقت الذي يستطيع فيه الإنسان أن يقرأ كل شيء، فما الذي سننتقيه من التجارب لتتم دراسته؟ وكيف ندرب طلاب النهضة على الدراسة المنهجية لهذه التجارب؟(1/107)
إن الحد الأدنى الذي يحتاجه القائد هو دراسة شيء من نهضات الأمم في الشرق وفي الغرب. وليبدأ بتاريخ أمته. فليبدأ بدراسة السيرة النبوية ودراسة التاريخ الإسلامي. وهذه الدراسة تلعب دوراً كبيراً في تأطير الفكر الإسلامي النهضوي.
ثم ليدرس تاريخ الصين، وتاريخ الثورة الفرنسية قبل وأثناء وبعد قيامها، وتاريخ بريطانيا، وتاريخ اليابان، وتاريخ ماليزيا، وربما يحتاج الإنسان أن يقرأ تاريخ قارة أمريكا الجنوبية إذ أن كثيراً من المسلمين يعتقدون أن ظاهرة الهيمنة وظاهرة الاحتقار وظاهرة الأذى تقع على المسلمين وحدهم، وينسون أن شعوباً مسيحية ممتدة في أمريكا الجنوبية تعاني مما يعاني منه المسلمون. وفي ذلك توسيع للآفاق، في نظرة إنسانية شاملة، تبحث عن العدل والإنصاف، وليس عن الاستعلاء لسبب أو لآخر، لقول الله سبحانه وتعالى: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم"(1)، وقوله: "وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين"(2). إن قضية الاستعلاء والاستكبار تشمل البشرية، وإن التحرير يجب ألا ينصب على تحرير المسلمين وحدهم، بل على تحرير البشرية من الظلم، وبعدها للبشرية أن تختار، وللناس أن يختاروا عقائدهم وأديانهم كما يشاءون، ولكن على قاعدة سواء من العدل تشمل جميع الناس مسلمهم وكافرهم.
__________
(1) آل عمران: 64
(2) سبأ: 24(1/108)
إذاً يحتاج الإنسان إلى خارطة معرفية جيدة على الأقل في هذه المساحات التي تحدثنا عنها. كما أننا نحتاج إلى دراسة الفرق الإسلامية دراسة متمعنة في معطياتها العامة، وفي أثر الواقع عليها، وفي قيادتها، وفي إدارتها، وفي اختيار شرائحها، وفي الخطاب الذي تترست به، وفي التمويل، وفي التأمينات، وفي السياسات، وفي أطروحاتها الشرعية، وفي التوقيت، وفي الصبر والحكمة والأناة فيها، وفي الاستراتيجية والتكتيك، وفي الإشكاليات التي واجهتها، سواء كانت هذه التجارب ناجحة أو فاشلة. إن دراسة بهذا المعنى الذي ذكرناه تثري عقلية القائد وتضع له نماذج كثيرة ومتعددة يستطيع أن يلجأ إليها.
وحسبك أن تقرأ في التجارب الناجحة التجربة العباسية قبل التمكين، لترى عظم الثروة التي قد تتاح عند دراسة التجارب التاريخية بشكل مختلف وبطريقة مختلفة.
ويلزم القائد أن تكون له خارطة مبسطة لا تزيد عن صفحة واحدة لتاريخ أمته بحيث يستطيع أن ينسب كل المعلومات الأخرى التي ترد إليه إلى هذه الخارطة الصغيرة الموجودة في ذهنه. وسوف نتحدث عن هذه الخارطة التاريخية في كتاب منفصل بإذن الله.
كيفية تناول التجارب التاريخية
السؤال الذي يتلو ذلك: ما هي نوعية الدراسات التي يجب أن نضعها في القضية التاريخية ونقترحها على القادة؟
عند دراسة أي تجربة من التجارب التاريخية التي وصلت إلى التمكين يجب دراسة ما فعلته هذه الحركة أو الدولة أو التنظيم أو غيرها في فترة ما قبل التمكين. فتدرس المعطيات العامة فيها، ودرجة المرونة عند قيادتها في اختيار البدائل، وعدم الانغلاق على بديل واحد، وأثر الواقع واختيارها للموقع، واختيارها للقيادة وتأمينها، ونوعية الإدارة التي نظمتها، وكيف اختارت شريحة البدء وشريحة التغيير وشريحة ما بعد التمكين؟ وكيف(1/109)
صاغت خطابها قبل وأثناء وبعد التمكين؟ وما هي نوع التأمينات التي حصنت بها حركتها وهي تتحرك في كل مرحلة من المراحل؟ ثم ما هي السياسات العامة التي اتبعتها؟ وكيف تعاملت مع قضية الشرعية؟ وكيف اختارت توقيتات التحركات؟ وما درجة الحكمة والصبر والأناة لدى قادتها؟ وما هي الاستراتيجية والتكتيك في عملها؟ ثم ما هي الإشكاليات التي واجهتها وكيف تغلبت عليها؟
ويتوقف كثير من العاملين عند هذه المرحلة، ويهملون دراسة الدولة بعد قيامها. فكثير من طلاب النهضة يعتقدون أن الدولة التي تواجه صعوبات بعد التمكين لم تعد إعداداً جيداً لمرحلة التمكين، وهذا خطأ فادح،
إذ أن كل حركة تصل إلى التمكين لابد أن تواجه بإشكاليات تهدد وجودها ابتداءً. حدث هذا في حركات التمكين التي قادها الأنبياء، وفي حركات التمكين التي قادها المصلحون، بل وحتى في حركات التمكين التي قادها غير المسلمين في عصرنا هذا وفي كل عصر.
إن الدولة عندما تنشأ تواجه بالعديد من المشاكل التي تهدد وجودها، ثم هي تتعامل بتوازنات الدولة حتى تستطيع أن تحقق استقراراً ما فتنتقل من تهديد الوجود إلى إيجاد الاستقرار وتأمينه الاستقرار للانطلاق إلى مرحلة النهضة والتنمية.
لابد أن يدرس طلاب النهضة فترة الاضطراب الأولى التي تحدث في أعقاب التمكين، ثم كيف ينشأ الاستقرار، وما عوامل الاستقرار التي أدت إلى إحداث التوازن؟ ثم كيف انتقلت أي دولة لعملية التنمية أو تراجعت من التنمية إلى منحدرات تهديد الوجود؟.
إن دراسة هذا الخط الحي المتحرك في أي دولة من الدول هام جداً بالإضافة إلى دراسة أسباب الهبوط أوالانكسار إن حدث.
أما أن يكتفي بعض قادة المشروع بمشاهدة التجارب ليحكموا على هذه أنها تنقصها التربية، وعلى تلك أنها لم توفر قاعدة صلبة، ثم لا تُعرَّفُ هذه القاعدة الصلبة تعريفاً واضحاً ولا تحدد هذه التربية وكيف يحكم عليها؛ فإن هذا أمر خطير يؤدي إلى مجموعة أمور:(1/110)
الأمر الأول: أننا لا نستفيد من تجارب البشرية.
الأمر الثاني: النظرة الطوباوية(1) (المثالية) التي تتوقع وجود مغنم من دون مغرم.
الأمر الثالث: إشاعة البطالة الفكرية، وعدم إعمال العقل للتحول وإجراء اللازم للاستفادة من هذه التجارب والاقتباس منها.
وللتغلب على هذه القضية الخطيرة يجب التفكير في كيفية الاستفادة من التجارب الأخرى وتطويرها والبناء عليها وتجنب عثراتها بدلاً من الاكتفاء بموقع الناقد الذي يعتقد أن هناك نموذجاً مثالياً سيحدث في مكان ما، وذلك لا يمكن أن يحدث بأي حال من الأحوال، والتاريخ شاهد على ذلك والواقع أيضاً يشهد.
إذا تمكنا من فعل ذلك نكون قد وضعنا أيدينا على منطقة هامة في تشكيل العقل القيادي وتنظيمه وترتيبه، بحيث يستطيع التعامل مع الواقع، ويستطيع أن يستشرف المستقبل وفي يده أدوات ونماذج جديدة. وكلما زادت هذه النماذج والأدوات، كلما كانت القدرة على إصدار أحكام أكثر علمية وأكثر نضجاً أمراً شائعاً داخل هذه المجتمعات الإسلامية المراد نهضتها على جميع المستويات وعلى جميع الأصعدة.
أما القادة المستقبليين للأمة فيجب ألا يُتركوا للأعداء ليبنوا لهم تصوراتهم ويقزموا أدوارهم ويحولوهم إلى أدوات لخدمة مشاريعهم المركزية. فهم جزء من أمل الأمة في التحول والنهضة.
إن انتشار ثقافة النماذج التاريخية وقوانين النهضة أساس في صناعة قادة الغد. ويجب ألا يقتصر على شريحة دون شريحة أو فئة دون فئة.. فحينما تصبح هذه النماذج والقوانين ثقافة مجتمع يمكن التعويل عليه، خاصةً في ظروفنا التي نشاهدها ونعلمها كأمة.
قراءة المسار التاريخي:
هل تسير تجارب النهضة في خط مستقيم صاعد أم في خط متعرج؟؟
__________
(1) يقصد بالطوباوية Topism المثالية، وممن نادى بها أفلاطون وأرسطو والفارابي في كتاباتهم عن المدينة الفاضلة.(1/111)
إن دراسة نهضة أي مجتمع تشير إلى أن تقدم أي مجتمع لا يتم بشكل مستقيم، بل بشكل متعرج، ولكن المحصلة النهائية هي خط مستقيم عندما تزال الانكسارات.
وهذا معنى مهم لقادة النهضة عند الحكم على أي تجربة، فالمقياس العام ليس عدم وجود انكسارات وتراجعات، ولكن بقراءة الخط العام وتقدمه. فتجربة ماوتسي تونج في الصين تكللت بنجاح مذهل في المحصلة، ولكن دراسة التفصيلات تظهر أن العملية كانت كالسير في طريق مليء بالحفر و النتوءات. فمن ركز على الحفر والنتوءات ولم يستطع أن يرى الخط العام فلاشك أنه أخطأ القراءة.
إنه مشهد ترى فيه الجموع الغفيرة من المخلصين والعاملين لنهضة هذه الأمة وقد فطنت لأهمية دراسة التاريخ والتجارب البشرية. فعكفت على استخلاص النتائج، وطرائق التغيير الناجحة والفاشلة، فتعرفت على مقومات النجاح وأسباب الفشل. فسارت في طريقها على هدى وبصيرة.
ليتحقق هذا المشهد الرائع فلابد من تنفيذ الأمور التالية:
على قادة وطلاب النهضة دراسة التجربة النبوية والعباسية والفرنسية والأمريكية والبريطانية والصينية واليابانية دراسة نوعية.
على قادة وطلاب النهضة دراسة التجارب المتعلقة بالإنسانية المضطهدة، مثل قارة أمريكا الجنوبية، ليستعدوا لحمل مشاعل تحرير البشرية ..كل البشرية مسلمها وكافرها، وليتمكنوا من لغة الخطاب الحضاري.
على قادة وطلاب النهضة دراسة الخط الحي المتحرك للدول: الوجود والاستقرار والتنمية.
على مفكري الأمة وعلمائها أخذ خطوات جادة نحو إعادة عرض التاريخ بما يحقق البعث النفسي لجموع العاملين وجماهير الأمة وقادتها.
على الجهات التثقيفية والمؤسسات الإعلامية أن تستخدم التاريخ كأداة لرفع الروح المعنوية، وأن تعرض تجارب الأمم التي أرادت النهوض وتسلط الضوء على النقاط المفصلية في حركات النهضة.
تذكر أن
التاريخ ليس هو الماضي، ولكنه قاعدة الحاضر، وانعكاس الاثنين على المستقبل.(1/112)
القائد يتبع ثلاث طرق في التفكير: طريق المنظر والطبيب ورجل الأعمال.
دراسة التجارب التاريخية هي جزء من بناء الفكر الاستراتيجي للقادة.
التاريخ يستهدف جمع المعلومة وتحقيقها وتدوينها وتفسيرها.
دور القائد هو مقارنة الوقائع وربط الجزئيات بالكليات، والإطلاع على حقول واسعة من المعرفة والتجربة، وتشكيل المعلومات في نسق واستخلاص النتائج.
التاريخ هو أداة لاستخراج النماذج والمقاربات، وأداة للإقناع، وأداة لرفع الروح المعنوية.
العالم الأوروبي أعاد عرض التاريخ بما يحقق البعث النفسي للشعوب والجماهير الأوروبية.
يعد إعادة عرض التاريخ بما يحقق البعث النفسي للأمة الإسلامية من أهم واجبات العاملين في مشروع النهضة اليوم.
التاريخ نوعان: تاريخ كبير يرفع الروح المعنوية، وتاريخ صغير لخفض الروح المعنوية للشعوب.
التجربة النبوية، والتجارب الصينية واليابانية والفرنسية والبريطانية والعباسية تعد من أهم التجارب التي يجب على القادة دراستها. وهي ليست الوحيدة بل مقترح أولي.
دراسة التجارب التاريخية لابد أن تكون دراسة نوعية استقرائية، لا دراسة قصصية للمتعة والتسلية.
المراحل التي تمر بها الدول هي مراحل تهديد الوجود ثم تهديد الاستقرار ثم تهديد التنمية. ولكل مرحلة فلسفة عمل وتوازنات مختلفة. وقراءة طرق وأنماط الأداء في كل مرحلة تعطي رؤية مختلفة لأنواع الأداء وفنونه.
سنرى في هذا المشهد الجديد كثيراً من العاملين الذين لا تزيد ثقافتهم عن الثقافة الخطابية المعهودة، أو الثقافة الصحفية البسيطة، بينما ثقافتهم الإحصائية ومعرفتهم بالمؤشرات الحساسة وطريقة قراءتها واستخدامها لتغيير الواقع معرفة محدودة جداً. كما أن الكثيرون يعتقدون أن هذه الثقافة الإحصائية ثقافة دخيلة على الإسلام.(1/113)
وسنجد الكثير من التجمعات والهيئات والحركات المساهمة في المشروع النهضوي لهذه الأمة تفتقد أبسط المعلومات عن أهم القضايا التي تواجهها أمتنا؛ بل تفتقد ثقافة المعلومات. إذ ليس من ثقافة بيئتنا استخدام المعلومات. بل وحتى مراكز البحث ذات الصلة بهذا النشاط الإحصائي قد لا تتميز بالكفاءة المطلوبة، وربما تفتقد إلى الرؤية الواضحة لما يجب أن يكون عليه حال الأمة، بل وربما لا تستخدم مؤشرات القياس الحساسة التي تحتاجها حركة النهضة. وليت الصعوبات تتوقف عند هذا الحد، ولكن الأخطر من ذلك هو عدم وصول المعلومات – حتى ولو كانت غير دقيقة - للعاملين في حقل التغيير. فالمراكز والبحوث تعمل في جانب، والقادة والعاملون يجتهدون في جانب آخر. ويفتقد كلاهما إلى التواصل والتآزر والتعاون.
وهكذا أضحت الساحة الإسلامية ميداناً للأنشطة والأعمال الكثيرة التي لا يدرك العاملون نتائجها وهل آتت أُكُلَها أم لا، وهل تُحدِث فارقاً في حركة الأمة ونهضتها أم لا.
استعرض هذه الأسئلة. ثم اعرضها على من تعرف من العاملين والمؤمنين والمتحمسين في المشروع الإسلامي واستعرض إجاباتهم. ثم حدد مكان وأهمية ونوعية دراسة التاريخ في عقول العاملين من خلال هذه الإجابات.
هل أنت مدرب على التعامل مع الإحصاءات والأرقام؟
هل تقرأ الإصدارات التي تصدرها مراكز البحوث والدراسات؟
كم إصداراً قرأت حتى الآن؟
كم عدد المرات التي قمت فيها ببناء خارطة لأنشطتك وأعمالك بناء على المعلومات الواردة في هذه النشرات والإصدارات؟
هل قمت بعمل إحصاء كمي أو وصفي بغرض جمع معلومات معينة في الساحة التي تعمل فيها؟ كم مرة؟
هل تستخدم مؤشرات قياس معينة لمعرفة مدى تقدم أو تأخر أنشطتك؟
ما هي القضايا أو الملفات الكبرى التي يجب على قادة وطلاب النهضة مواجهتها والتعامل معها؟(1/114)
بمثل هذه الأسئلة تعرف هل تمتلك ثقافة إحصائية تمكنك من رفع الواقع المحيط والبناء على المعلومات المتوفرة أم أنك تمارس الفعل بشكل عفوي دون بحث أو نظر.
استعرضنا في المشهد السابق أهمية دراسة التاريخ، والتجارب التي لابد من دراستها، وطريقة تناول ودراسة هذه التجارب. أما في استعراضنا لهذا المشهد فسنتناول أهمية رفع الواقع، وأهمية الثقافة الإحصائية والمعلوماتية، وأهمية الاتصال بمراكز البحوث والدراسات ودعمها.
إن تقدم المجتمعات ونهضاتها لا تُبنى على الأوهام ولا على الأحلام أو التوقعات العشوائية، ولكنها تنطلق من حقائق الواقع المحيط بعد رصده وتكميمه وتوصيفه توصيفاً دقيقاً مبنياً على أدق قواعد البحث العلمي.
تُعرَّفُ عملية التغيير بأنها انتقال وضع ما من حال إلى حال آخر. هذا الانتقال من حال إلى آخر يستلزم ثلاثة أمور:
أولاً: يستلزم أن نحدد بشكل علمي ماهية الحالة التي ننطلق منها.
ثانياً: يستلزم أن نحدد ماهية الحالة المطلوب بلوغها أو الوصول إليها.
ثالثاً: يستلزم بعد ذلك قياس الحالة التي نتجت عن تدخلات قادة وطلاب النهضة لمعالجة الواقع.
ونضرب لذلك مثالاً بالمدرس الذي يُدرِّس لطلابه مادة الكيمياء. فالحالة التي ينطلق منها المدرس هي علمه بأن هناك حالة أولية من الجهل – لدى طلابه – بمادة أو علم الكيمياء الذي يتناوله. وانطلاقاً من علمه بهذه الحالة من الجهل يتدخل عن طريق القيام بأنشطة مختلفة لنقل الخبرة التعليمية. ثم يستخدم طريقة ما لقياس النتائج (ويقصد بالنتائج تغير الحالة الأولية التي كان عليها الطلاب من الجهل إلى الاستيعاب والفهم نتيجة لتدخله). فإذا لم تتحقق النتائج يقوم المدرس بإعادة تدريس الخبرة التعليمية وإيجاد وسائل أخرى لعرض المعلومة.(1/115)
وبالمثل، فبالرجوع إلى مشروع النهضة سنجد أن هناك مجالات كثيرة يتم التدخل فيها لمحاولة استنهاض الأمة واستثمار قدراتها وخيراتها في سبيل إيجاد مكان لها على الخريطة العالمية. وتلعب المعلومات دوراً كبيراً وحيوياً في محاولات الاستنهاض والاستثمار. فمما لا شك فيه أن الواقع الذي يعيشه العالم اليوم والمعلومات المتداولة في مختلف المجالات وعلى شتى الأصعدة هي معلومات مادية محددة يمكن قياسها؛ بمعنى آخر يمكن تكميم هذا الواقع وهذه المعلومات؛ أي معالجتها كمياً.
فحين يتحدث الإحصائيون مثلاً عن عدد المهتمين بالشأن الإسلامي على صفحات المجلات والجرائد أو في الفضائيات أو في غيرها من وسائل الإعلام فهذا واقع أو معلومة يمكن تكميمها وقياسها – معالجتها ومعاملتها كمياً - ويستطيع المهتمون بهذا الواقع أو هذه المعلومة أن يحددوا
تراجع أو تقدم هذه الظاهرة في أي مرحلة من المراحل لعمل التدخلات اللازمة أو لإيجاد البدائل المناسبة.
ولكن ينبغي على طلاب النهضة عند التعامل مع الواقع أن يعلموا أنهم يتعاملون مع واقع متغير. فالمعلومة التي نحصل عليها اليوم ونعتبرها كنزاً دفيناً ستكون في الغد بلا ثمن أو فائدة. فلا يمكن أن تكون هي نفسها وفي ذاتها المعلومة الموجودة في الغد، فالواقع متغير ولابد من متابعته.
إذاً هذا الحراك النهضوي الضخم الذي تقوم به دول وشعوب ومؤسسات وأفراد وأحزاب وتجمعات وجماعات يتعرض للخطر إذا لم يحدد ويقاس ويتابع. لذا فلابد من تحديد هذا الحراك بشكل يمكن قياسه، ولابد من متابعته لمعرفة ما يطرأ عليه.
لماذا رفع الواقع؟(1/116)
إن هدفنا الأساسي من الإشارة إلى رفع الواقع هو أن تتقدم الحالة الإسلامية من الحالة البسيطة التي يعمل فيها العاملون دون أن يدركوا نتائج أعمالهم وهل آتت أُكُلَها أم لا، وهل تَدَخُلهم يُحدِث فارقاً في حركة الأمة ونهضتها أم لا، إلى الحالة المتقدمة الواعية التي يدرك فيها كل عامل طبيعة مشاركته في مشروع النهضة، ونتيجة عمله وتدخله وأثرهما على المشروع
الإسلامي سواء بالسلب أو بالإيجاب.
وحتى تتحقق هذه النقلة الكبيرة، وهذا التطور المرجو في المشروع الإسلامي فلابد من تحقيق الآتي:
أولاً: لابد من تحليل الواقع إلى ملفات كبيرة. ثم ترتيب القضايا والملفات الفرعية داخل كل ملف منها.
ثانياً: لابد من وجود نظام يضمن المتابعة. فتوافر المعلومات وانتظام عملية المتابعة يؤدي إلى معرفة الموقف القائم، بل وإحداث التدخل الضروري في التوقيت والظرف المناسب.
ثالثاً: لابد من معرفة نتائج التدخل، ثم إعادة الكرة مرة ثانية بعملية تدخل أخرى لإحداث نقلة أخرى، وهكذا.
التحديات الكبرى أمام تطوير الحالة الإسلامية
ومما لا شك فيه أن هناك الكثير من الصعوبات التي تقف حائلاً بين العاملين وبين تنفيذ مثل هذا المشروع. بعض هذه الصعوبات متعلق بالموارد، وبعضها متعلق بالمكان، والبعض الآخر متعلق بالزمان، ولا تقف الصعوبات عند هذا الحد؛ بل تتعداها إلى الكثير من مراكز البحث التي قد لا تتميز بالكفاءة المطلوبة، وربما تفتقد إلى الرؤية الواضحة لما يجب أن يكون عليه حال الأمة، بل وربما لا تستخدم مؤشرات القياس الحساسة التي تحتاجها حركة النهضة. وليت الصعوبات تتوقف عند هذا الحد، ولكن الأخطر من ذلك هو عدم وصول المعلومات – حتى ولو كانت غير دقيقة -
للعاملين في حقل التغيير. فالمراكز والبحوث تعمل في جانب، والقادة والعاملون يجتهدون في جانب آخر. ويفتقد كلاهما إلى التواصل والتآزر والتعاون.(1/117)
ومن الأسباب - التي أدت إلى هذه الفجوة بين مراكز البحث وبين القادة والعاملين – ما هو متعلق بهذه المراكز من حيث تجويد منتجاتها وتمويلها عن طريق ضخ الأموال فيها وإيجاد المتخصصين والكوادر المناسبة لها، وذلك أمر ميسور لو تم توعية المستثمرين وقادة الدول بأهمية هذه المراكز البحثية ودورها الفعَّال في مشروع الأمة. ولكن وصول هذه المعلومات إلى المستفيدين الحقيقيين - وهم النشطاء من العاملين في ساحة التغيير - أمر آخر تكتنفه صعوبات متعلقة بعقلية كثير من العاملين في الساحة النهضوية، إذ أن كثيراً منهم لا تزيد ثقافتهم عن الثقافة الخطابية المعهودة، أو الثقافة الصحفية البسيطة، كما أن معرفتهم بالمؤشرات الحساسة وطريقة قراءتها واستخدامها لتغيير الواقع معرفة محدودة. ولذلك ينبغي أن يتم التركيز على تدريب هذه الكوادر على قراءة المعلومات واستيعابها والعمل من خلالها؛ بل وتدريبهم على إقامة المراكز الصغيرة التي تعنى بأنشطة معينة وظواهر محددة في بيئات معينة. عندها فقط يمكن أن تصبح حركة الصحوة في العالم الإسلامي حركة علمية قائمة على المعرفة الحقيقية.
الإسلام ورفع الواقع
ويعتقد كثير من الناس أن هذا أمر جديد ودخيل على الإسلام، ولكنه في الحقيقة أمر أصيل في ديننا. فالمصطفى - صلى الله عليه وسلم - طلب من المسلمين - لدى دخوله المدينة - أن يحصوا له من بها من المسلمين. وهو ما يمثل تعداداً رقمياً مبكراً للمسلمين، ثم طلب منهم بعد ذلك أن يحصوا له من يستطيع القراءة والكتابة، وبعد أن اكتملت واتضحت الرؤية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحدد الحالة الأولية - بعد اطلاعه على الأرقام المطلوبة والتي كان مجملها أن كم(1/118)
المسلمين الذين يحسنون القراءة والكتابة في قاعدة الإسلام الأولى وهي المدينة عدد غير كافٍ - كان تدخله - صلى الله عليه وسلم - لتغيير هذا الواقع عقب أول غزوة من غزواته عندما جعل من شروط إطلاق أسرى بدر أن يعلم كل أسير عشرة أفراد من مسلمي المدينة القراءة والكتابة.
فنحن أمام عملية إحصاء كمي أعقبها عملية تدخل لمحاولة إيجاد حل للواقع الذي رأى الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه لابد من تغييره. فكانت نتيجة هذا التدخل هي إيجاد قاعدة معرفية – تقرأ وتكتب - داخل المجتمع الإسلامي.
ولم يستخدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - طريقة الإحصاء الكمي فقط؛ بل إنه استخدم أيضاً ما يطلق عليه في العلوم الحديثة الاستقراء الإحصائي. وقد كان ذلك في بدايات غزوة بدر، عندما سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحد الأسرى من المشركين عن عدد جيش قريش، ولما كان الأسير لا يعرف يقيناً عدد الجيش سأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عدد الإبل التي ينحرونها كل يوم وعندما علم عدد الإبل استطاع أن يحدد – على وجه التقريب – عدد الجيش المهاجم. وبذلك يكون الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد استخدم المعلومة المتوسطة – وهي عدد الإبل - لاستشراف معلومة غائبة – وهي عدد المهاجمين.
وهكذا نرى أن الاستقراء الإحصائي موجود في التراث الإسلامي منذ البدايات المبكرة للرسالة الإسلامية. فما بالنا اليوم ونحن في عصر الثورة المعلوماتية نفتقد أبسط المعلومات عن أهم القضايا التي تواجهها أمتنا؛ بل نفتقد ثقافة المعلومات. إذ ليس من ثقافة بيئتنا استخدام المعلومات. وبذلك يكون التحول إلى المعلوماتية أمر في غاية الأهمية للانتقال من حالة الصحوة إلى حالة اليقظة.(1/119)
نحن إذاً أمام قضيتين أو معضلتين كبيرتين: أولهما معضلة متعلقة بمراكز البحوث وآلية توصيل المعلومات للمستفيدين، والمعضلة الثانية تتمثل في عقلية المستفيدين التي قد تجد المعلومة ولا تستفيد منها، كما أنها ليست مدربة على اتخاذ القرار بناء على المعلومات المتوفرة.
المشروع القائد
ويعتقد كثير من الناس أن التخطيط في حالة غياب معلومات شاملة هو عملية مستحيلة، ونرجع في ذلك إلى كتاب عبد العزيز العجمي والآخرين سنة 1983 في مقدمة التنمية والتخطيط حيث يقول: ".. أن كثيراً من الدول تعمل على إيجاد مشروع قائد، مشروع يطلق بقية الطاقات، ويوفر الإحصائيات عن منطقة مهمة من مناطق العمل، وبعد ذلك يخلق هذا المشروع المشاريع الثانية من الاعتماد على النمطية والإحصائية.. ". وكذلك يمكن اعتماد مثل ذلك في المشروع الإسلامي النهضوي الضخم. فتكون البداية من مشروع قائد أو منطقة مهمة، تشحذ الطاقات، وتدرب الكوادر، وتوفر المعلومات والإحصائيات التي تستخدم بعد ذلك في المشاريع الثانية.
ويحتاج قادة وطلاب النهضة المعاصرون أن ينظموا في عقولهم الخارطة الكبيرة للملفات الأساسية ابتداءً من غير تفصيلات، ثم يُدخِلوا بعد ذلك تفصيلات وعناوين بسيطة يرون أن هذه الملفات تحتوي عليها. ومن كبرى هذه الملفات في عالمنا الإسلامي:
أولاً: الملف السياسي:
يشمل الملف السياسي في مجتمعاتنا اليوم قضيتين أساسيتين، القضية الأولى هي قضية الاستعمار أو الهيمنة بكل تجلياتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والاجتماعية. والقضية الثانية هي حالة التشتت وعدم الرغبة في التعاون والحزبية والفرقة، فالحكومات في جانب والأحزاب في جانب والمنظمات في جانب والتجمعات في جانب والمستقلين في جانب. ولابد من إيجاد قاسم مشترك بين المخلصين في كل هذه المناحي لإيجاد قاعدة من التعاون العام لاستنهاض هذه المجتمعات.(1/120)
وهناك فرق واضح بين الأحزاب كجزء من التعددية السياسية التي تتيح للجميع أن يصلوا لأهدافهم من أجل خدمة أمتهم بالطريقة التي يؤمنون بها، وتُمَكِّن شرائح المجتمع من التعبير عن رغباتها ومعتقداتها بطريقة منظمة وفعالة، وبين الحزبية التي يتعصب فيها كل فرد لحزبه بينما ينظر بتعالٍ للآخرين.
وإذا كانت الحرية والمساواة والعمل بروح الفريق الواحد في خدمة المجتمع محمودة – وهي ما عليه الأحزاب – فإن الحزبية مذمومة تشيع الأحقاد والبغضاء بين الناس.
أما الأيديولوجيات على اختلافها وتنوعها فإسقاطها بالكامل على أرض الواقع أمر مستحيل وغير ممكن عملياً؛ بل ويؤدي إلى الاضطراب والاقتتال بين معتنقيها. ولكن تبقى الكلمة السواء التي يمكن أن يلتف ويتكاتف حولها الجميع، لتشكل قاسماً إنسانياً مشتركاً لكل الموجودين في ساحة الفعل في المجتمعات الإسلامية بشكل عام، وتبقى الأيديولوجيات
لمعتنقيها يبشرون بها ويدعون إليها. فإذا ما اختارت الجماهير أحد الأيديولوجيات وصوتت لها أمكن لمعتنقيها أن يطبقوا شيئاً من أفكارها برضا الناس وبقدر ما تسمح به المجتمعات. لتبقى عملية التراضي والتعايش هي الأساس في هذه المجتمعات.
خلاصة القول أن الملف السياسي عندنا يحتوي على قضيتين كبيرتين هما الاستعمار وتجلياته الأخرى والحزبية وما يتفرع عنها من شقاق وصراع.
ثانياً: الملف الاقتصادي:
يشمل الملف الاقتصادي قضيتين كبيرتين هما:ظاهرة الربا، وسيطرة الشركات الأجنبية على الاقتصاديات الوطنية.
و قضايا كثيرة أخرى متفرعة يشملها الملف الاقتصادي كالفقر والبطالة . ولكننا نكتفي بوضع العناوين الأساسية الكبرى التي تمس العالم الإسلامي كله. أما الملفات الأخرى الخاصة ببعض المناطق دون غيرها فلا نخصها بالذكر. إذ أن الملف الاقتصادي ملف ضخم ويشمل الكثير من الملفات الثانوية والخاصة بمناطق معينة.
ثالثاً: الملف الفكري:(1/121)
الملف الفكري هو ملف شائك. يشبه حقول الألغام. فما تكاد تخطو خطوة حتى تفاجأ بانفجار هنا ودمار هناك. فعالم الأفكار في العالم الإسلامي يعاني من فوضى رهيبة ومنتشرة في كافة المستويات، والعقلية المسلمة غير منظمة ولا مرتبة. مما يؤدي إلى بروز مجموعات تعتقد باستمرار أنها الفرقة الناجية وأن أجندتها (الدينية والزمنية) يجب أن تكون هي الأجندة المرجعية للجميع، وأن استنتاجاتها هي حقائق غير قابلة للجدل، وأن ما عند الآخرين هو خطأ مطلق وما عندها هو صواب مطلق، وبالتالي هي ليست مستعدة للحديث مع الآخرين أو للتفاهم معهم حول القواسم المشتركة؛ بل هي مستنفرة للاعتراض، فخطابها ناقد معترض باستمرار. أولوياتها في فوضى، تستوي عندها القضايا العقدية كالجنة والنار بالقضايا الملحة التي يعاني منها المجتمع. هذا الاختلاط والفوضى في الأفكار السلبية والاصطراع الذي تولده على أرض الواقع أمر خطير لابد من تنظيمه. فلابد أن تنظم العلاقة بين عالم الاعتقاد وعالم الأيديولوجيا من جهة وبين عالم الواقع وعالم التعايش وعالم الرحمة وعالم البناء وعالم التنمية - الذي يجب أن يوجد على أرض الواقع ولا يمكن أن يوجد إلا في وجود صيغ للتعايش توقف:
حالة الاستعلاء للبعض على الآخرين باحتكار الصواب.
وحالة الاستعداء وهو خطاب السباب والانتقاص من المخالف. لأن فشل مشروع التسوية الداخلية يؤدي إلى مشكلة ثالثة حتمية وهي:
حالة الاستدعاء: وهي طلب الأجنبي كحكم وأداة ضبط.
رابعاً: الملف الاجتماعي:(1/122)
أكثر ما يهدد العالم الإسلامي الآن في الملف الاجتماعي الإباحية والتقليد. فالعالم يهوي بسرعة فائقة وجنونية نحو هاوية الإباحية، والتي تبدأ من انفصال العلاقات الزوجية وتحولها إلى علاقات خارج الزوجية مروراً بالمظاهر الخارجية كالعُريْ لتنتهي بالزواج المثلي والعلاقات المثلية بين الرجال والرجال، وبين النساء والنساء، بل قد تمتد بعلاقات بين الأطفال أو بعلاقات بالحيوانات في المستقبل تحت اسم الحرية.
إذاً هناك عالم متوحش من الإباحية يمد أطرافه في المجتمعات الحضارية أو المدنية – التي تدعي الحضارة والمدنية - وهو يغزو المجتمعات الإسلامية بشكل من الأشكال. وكرد فعل لهذه الأفكار الغازية نشأت الأفكار النقيضة بدعوى سد الذرائع، فنشأ عالم التجمد وحُرِم الإنسان من كل الحريات وأُغلِقَت الأبواب أمام كل أنواع الحقوق التي وفرها الدين والإسلام لكل إنسان بحجة عدم الوصول إلى الإباحية. وكلا الطرفين ذميم.
أما التقليد فيقصد به اعتبار الآخر في مركز الأستاذية. ومركز الأستاذية هذا يقتضي أن يقلد التلميذ أستاذه في كل شيء. وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً شبراً وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن"(1).
خامساً: الملف القانوني:
... يشهد الملف القانوني صراعاً شديداً حول قضايا المرأة وحقوق الأقليات وغيرها من القضايا الكثير والكثير.
إلا أننا يجب أن نكون حذرين ونحن نتعامل مع الملف القانوني لأن بعض القضايا يجب ألا نتوقف أمامها وبعضها جائر وينتهك أبجديات الأمة ودينها وإسلامها. لذا يجب أن نكون منتبهين لجملة العوامل التي تتحرك أمامنا في الملف القانوني.
سادساً: الملف التعليمي:
__________
(1) صحيح البخاري(1/123)
أما الملف التعليمي فهو يشهد فوضى واضطراباً كبيرين. فهناك محاولات للتجديد ولكن الكثير من هذه المحاولات يريد الانفلات من الإسلام تحت دعوى التجديد والمعاصرة. وهذا أدى إلى تراجع اللغة العربية بسرعة، ما يبشر بأنها ستكون في المستقبل لغة ثانية في مجتمعاتنا، وسيكون الطفل العربي أقدر على قراءة وفهم كتاب باللغة الإنجليزية من أن يقرأ كتاباً باللغة العربية.
إن حجم الاستثمارات التي يجب أن توضع في تطوير اللغة العربية، وفي عملية الترجمة للكتب الأجنبية بحيث تصل للقارئ العربي في وقتها يجب أن يتضاعف مرات ومرات. ويجب أن لا نستكثر ذلك على اللغة العربية إذا كنا نريد مشروعاً حضارياً واستنهاض أمة واستبقاء هويتها. كما يجب تطوير كل البنية التعليمية من الفلسفة والأهداف إلى قضايا التنفيذ والإدارة. وهو مطلب مُلِح إذا أردنا دخول السباق الحضاري.
سابعاً: الملف المعنوي:
وهو يشمل ظاهرة اليأس والاستسلام والإحساس بعدم جدوى كل محاولات التغيير والنهضة. ويتولى كِبر محاولة التيئيس هذه تيار كبير وإعلام ضخم. ولابد لتيار النهضة أن يتصدى لتيار التيئيس. وأن يعيَ أن هذا الطريق - وإن كان صعباً أو مليئاً بالعقبات، وإن كان فيه تقدم وتأخر -
لابد أن يبلغ مداه، وليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، وليظهرن على الدين كله ولو كره المشركون كما بشرنا بذلك ربنا عز وجل ونبينا - صلى الله عليه وسلم -.
وهكذا فإنه عندما يتم تحديد الملفات الكبرى ثم تحديد القضايا الفرعية في كل ملف، يمكن تكميم الظاهرة، ثم اختيار أهم المؤثرات التي يمكن أن نتابع بها عملية التقدم في هذه الملفات. ثم يجب ألا يتوقف البحث عند هذه النقطة؛ بل يجب أن تنشر هذه المعلومات في كتاب ربع سنوي أو سنوي أو كل سنتين.(1/124)
ولكن ماذا تعني هذه الأبحاث للعامل في مركز من المراكز الحضارية، أو في مسجد من المساجد؟ ماذا تعني لتلميذ المدرسة وللمدرس؟ ماذا تعني لكل نقاط الفعل في المجتمعات الإسلامية إذا لم توجد عقلية تستطيع أن تستفيد من هذه المادة وتستطيع أن تطور آليات عمل متعلقة بهذه الأرقام؟
إن الجهد المنوط بقادة النهضة من أجل إعداد وتدريب الكوادر على ثقافة المعلومات والإحصاء جهد شاق ومضنٍ. وإذا لم يقوموا به يصبح عندنا المزيد من الأوراق التي تنشر ولا تجد المستقبلين ولا المستفيدين، لأن الفعل لا ينتهي إلى حلقاتها المطلوبة من جمع المادة إلى تنظيمها، إلى ترتيبها إلى وحدات، إلى توصيلها إلى المستفيدين، إلى تعامل المستفيدين معها، إلى تحولها إلى مشاريع في التخطيط، إلى متابعتها بحيث تكتمل دورة التخطيط كاملة وتصبح الأرقام لها معنى وتصبح لنا حياة جديدة معتمدة على المعلوماتية.
إنه مشهد ترى فيه الجموع الغفيرة من المخلصين والعاملين لنهضة هذه الأمة وقد فطنت لأهمية الثقافة الإحصائية والمعلوماتية. فغدوا قادرين على رفع الواقع، وتحديد القضايا أو الملفات الكبرى التي يجب عليهم التعامل معها.
ليتحقق هذا المشهد الرائع فلابد من تنفيذ الأمور التالية:
لابد أن يعمل المفكرون والمصلحون على توعية المستثمرين وقادة الأمة بأهمية المراكز البحثية، وتوجيه الأموال والطاقات لها.
لابد أن يوجه المفكرون والمصلحون والمربون طاقاتهم نحو ترتيب وتنظيم عقلية طلاب النهضة، والارتفاع بثقافتهم من الثقافة الخطابية المعهودة والثقافة الصحفية البسيطة إلى الثقافة المعلوماتية.
لابد من تدريب طلاب النهضة على الحس الخبري وكيفية الحصول على المعلومة وتوثيقها.
لابد من تدريب طلاب النهضة على قراءة المعلومات واستيعابها والعمل من خلالها.
لابد من تدريب طلاب النهضة على إقامة المراكز البحثية الصغيرة التي تعنى بأنشطة معينة وظواهر محددة في بيئات معينة.(1/125)
لابد أن يحرص طلاب النهضة على استيعاب وحفظ خارطة الملفات الكبرى في مشروعهم النهضوي الجامع.
تذكر أن
عملية التغيير تُعرَّفُ بأنها انتقال وضع ما من حال إلى حال آخر.
التغيير يستلزم ثلاثة أمور: تحديد الحالة الأولية التي ننطلق منها ثم تحديد الحالة المطلوبة ثم قياس نتائج تدخلاتنا لتغييرها.
مشروع النهضة يتعامل مع واقع متغير، فلابد من تحديده وقياسه ثم متابعته.
رفع الواقع ينقل تيار النهضة من طور الصحوة إلى طور اليقظة.
الانتقال لمرحلة اليقظة يتطلب تحليل الواقع إلى ملفات كبيرة، مع انتظام المتابعة وتوافر المعلومات، ثم معرفة نتائج التدخل وتكرار عملية التدخل عدة مرات.
التحديان الكبيران أمام عملية تطوير الحالة الإسلامية هما: مراكز البحث وآلية توصيل المعلومات للمستفيدين، وعقلية المستفيدين أنفسهم وضعف تدريبهم.
الملفات الكبرى في المشروع الإسلامي هي: الملف السياسي والاقتصادي والفكري والاجتماعي والقانوني والتعليمي والمعنوي.
كل ملف من هذه الملفات الكبرى يحتوي على عدة ملفات فرعية لابد من التعامل معها.
عملية رفع الواقع هي عملية لها جذورها القوية في التراث الإسلامي، وليست أمراً دخيلاً علينا.
سنلاحظ في هذا المشهد الجديد انتشار ظاهرة أخرى بين جماهير الأمة؛ بل حتى بين أجيال الصحوة الإسلامية وبين العاملين في مشروع النهضة الإسلامية. هذه الظاهرة هي ظاهرة اليأس والإحساس بعدم إمكانية الفعل أو النهوض بالأمة واسترجاع مكانتها الحضارية.
وسنسمع الكثير من العبارات والمقولات التي تشير إلى هذا اليأس القاتل الذي يسود قطاعات كبيرة من الناس والعاملين مثل: "لا فائدة! ما الذي يمكن عمله؟! لقد سبقنا الآخرون بمراحل كبيرة! العالم يتقدم ونحن نتأخر! انظر إلى أوضاعنا وأحوالنا؟!!" وتستطيع أن تلمح في ثنايا هذه العبارات وفي صوت قائلها صوت اليأس.(1/126)
وستجد الكثيرين من أبناء الأمة ينسحبون من ساحة الفعل الإسلامي ويبحثون عن الخلاص الفردي، والتي تبدو مظاهره واضحة وجلية، كمظاهر العمرة والحج المتكرريْن، ومظاهر حلق العلم الصغيرة وغيرها. وهذا الانسحاب أدى إلى هذا الخمول المميت الذي يسود ساحة الفعل الإسلامي.
استعرض هذه الأسئلة. ثم اعرضها على من تعرف من العاملين والمؤمنين والمتحمسين في المشروع الإسلامي واستعرض إجاباتهم.
هل تعتقد حقاً في إمكانية نهوض الأمة من كبوتها وخروجها من هذا الواقع الأليم الذي تعيشه؟
ما هي دلالات هذه الإمكانية؟
ما هي مظاهر اليأس في مجتمعاتنا الإسلامية؟
كيف يمكن التغلب على ظاهرة اليأس الجاثم على صدور المجتمعات الإسلامية؟
أشرنا في المشهد السابق إلى الملفات الكبرى التي تواجه أمتنا. ولمسنا ثقل هذه الملفات وضخامتها وتعقيداتها المركبة.هذا الإحساس بثقل التركة أو التبعة التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا أدى إلى انتشار ظاهرة أخرى بين جماهير الأمة؛ بل حتى بين أجيال الصحوة الإسلامية وبين العاملين في مشروع النهضة الإسلامية. هذه الظاهرة هي ظاهرة اليأس والإحساس بعدم إمكانية الفعل أو النهوض بالأمة واسترجاع مكانتها الحضارية.
وسنحاول في هذا المشهد الرد على التساؤلات المثارة حول إمكانية الخروج من هذا الواقع الصعب الجاثم فوق صدر الأمة، وهل هذا النفق المظلم يمكن الخروج منه؟ وهل هذا الواقع الصعب يمكن أن يزول ليله؟ وهل هذا اليأس القاتل الذي يسود قطاعات كبيرة من الناس والعاملين – والذي أدى إلى هذا الخمول المميت - هل يمكن إخراج الناس من غياهبه؟
ثم سنستعرض بعض الأدوية الناجعة لعلاج هذه الظاهرة القاتلة لحركات النهضة والتنمية في المجتمعات.(1/127)
... إن ظاهرة اليأس هي ظاهرة شائعة. وطرق التعبير عنها متفاوتة. فقد يُعبَرُ عنها بالتعبير المباشر مثل: "لا فائدة! ما الذي يمكن عمله؟! لقد سبقنا الآخرون بمراحل كبيرة! العالم يتقدم ونحن نتأخر! انظر إلى أوضاعنا وأحوالنا!!"
... كل هذه العبارات المباشرة والمعبرة عن اليأس تقابلها - عند جموع العاملين في الحقل الإسلامي - عبارات لا تقل عنها في مستوى اليأس، ولكنهم – أي العاملين - يستخدمون طرق التعبير غير المباشرة مثل قولهم: "سننتصر إن شاء الله عز وجل، والإسلام قادم!!"، إلا أنك تلمح في ثنايا هذا الصوت صوت يائس. فقولهم "إن شاء الله" هنا هي على التعليق لا على التحقيق(1). فلقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يحث الجند على الجهاد ويقول لهم: سننتصر على التتار. فانبرى له بعض من حوله وقالوا له: قل إن شاء الله. فقال: أقول إن شاء الله على التحقيق لا على التعليق. فمثل هذه العبارات والآيات والأحاديث التي تتحدث عن الأمل، وطريقة عرضها، وما يتبعها من سكون وبطالة تكون دلالة يأس لا دلالة أمل. فعندما نلحظ جموع المسلمين يستشهدون بقول الله عز وجل "إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون"(2) على الأمل الراسخ في قلوبهم، ثم تجدهم عقب انتهائهم من ذكر الآية ينسحبون من ساحة الفعل الإسلامي ويبحثون عن الخلاص الفردي، والذي تبدو مظاهره واضحة وجلية، كمظاهر العمرة والحج المتكرريْن، ومظاهر حلق العلم الصغيرة على ما في كل هذه السلوكيات من الخير. هذا الاستشهاد بالآية الكريمة الذي لا يجاريه عمل في الواقع أو مشاريع محمولة على أكتاف هؤلاء الرجال - تدل على هذه الحرقة وعلى
__________
(1) المقصود بالتعليق هنا كقول أحدهم لصاحبه ألقاك غداً فيرد عليه بالمشيئة وهو عازم في قرارة نفسه على عدم لقائه. أما التحقيق فهو رده بالمشيئة مع عزمه واتخاذ الأسباب الكفيلة بتحقيق هذا اللقاء.
(2) سورة يوسف: 87(1/128)
هذا الشعور بالأمل في انتصار الأمة وتحركها – وإنما يجاريه سعى للخلاص الفردي هو حديث باطنه وجوهره يأس، وظاهره أمل.
... إنه شكل جديد من التصوف. سنيٌ في مظهره ولا يتحرك خارج الإطار المشروع. ولكنه عندما يكتفي بهذه المساحة الضئيلة من الفعل فإنه بذلك يخرج؛ بل ويهرب من المعركة الحقيقية. معركة أن يحمل جزءاً من الهم الإسلامي صَغُرَ أو كَبُرْ، إما ليقوم به مباشرة أو ليعين غيره على القيام به. وعندئذٍ تكون حلق العلم وحلق التربية الروحية هي الزاد المعين على ممارسة الفعل الحقيقي، ولا تكون ساحة للهروب من المعركة الحقيقية والفعل الجاد اللازم لانتشال الأمة الإسلامية من رقدتها وسباتها.
وفي مثل هذه اللحظات الصعبة من تاريخ أي أمة والتي يجسدها القرآن بقول الله عز وجل: "حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا"(1)، "وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا"(2) يأتي في مثل هذه اللحظة فعل قادة النهضة وخطابهم الذي يفعل فعل السحر في قلوب الناس فينتشلهم من مثل هذه الوهدات.
ويمثل اليأس سجناً معنوياً وعقلياً كبيراً للشعوب والمجتمعات. وحتى نتمكن من تحرير عقول وقلوب مجتمعاتنا من هذا السجن الكبير فلابد من هدم جدرانه الأربعة التي تطبق علينا. وسنستخدم لذلك أربعة معاول:
المعول الأول: هو علم الاجتماع. ويوضح لنا هذا العلم قضية هامة. مفادها أن حقائق اليوم هي أحلام الأمس، وأحلام اليوم حقائق الغد. هكذا يخبرنا علماء الاجتماع.
__________
(1) سورة يوسف: 110
(2) سورة الأحزاب: 10(1/129)
ويُعرف العلماء علم الاجتماع بأنه علم دراسة الظواهر الاجتماعية التي تنشأ عن وجود الإنسان في المجتمع(1). فنتيجة لوجود الإنسان داخل هذا الإطار الاجتماعي يتقولب ذهنه وتتشكل مقولاته. فهو لا يفكر مسبقاً في أن يتصرف بشكل اجتماعي، إنما يتم ذلك تلقائياً. فهو يردد ما يقال، ويشترك فيما يحدث، ويتفاعل بما يدور حوله. فعندما ينشأ القالب الفكري اليائس بتأثير هذا الضغط الاجتماعي وتكرار المقولات والسلوكيات اليائسة، ينشأ عندنا نوع جديد من التفكير الجمعي اليائس. وهنا يأتي دور قادة النهضة، ألا وهو كسر هذا القالب الفكري اليائس(2).
ومدخل علم الاجتماع يعين قادة النهضة على تفكيك وهدم الجدار الأول - من الجدران الأربعة الكبيرة التي تحيط باليائسين - المتمثل في القوالب الفكرية اليائسة.
إن كثيراً مما كان يعتقد الناس - في فكرهم الجمعي - أنه غير ممكن في فترة تاريخية محددة وغير قابل للتحقيق، أصبح في فترة لاحقة ممكناً ومنطقياً، وغيره يعدو جنوناً ورجعية وتخلفاً.
__________
(1) المجتمع هو عبارة عن مجموعة أفراد استقروا في بيئة ما. تكونت لديهم أهداف ورغبات مشتركة. توجد بينهم قواعد ونظم تدار من خلالها العلاقات المتبادلة.
(2) تحت ظرف معين وفي بيئة معينة، يسود قالب فكري معين عن شيء ما. هذا القول والشعور – القالب الفكري – يفرض نفسه على الفرد من خلال ذيوعه وانتشاره وقوة الإكراهات الاجتماعية التي تصحبه. فلو كان شعور المجتمع هو قدرته على التقدم وتفوقه على الآخرين، فستسود فكرة "الممكن" ويكتسبها الإنسان، بينما حين يكون شعور المجتمع هو العجز واليأس فستسود فكرة "المستحيل" ويكتسبها الإنسان. لكن الخبرة البشرية تفيد أن المجتمعات حين تتحرك وتتبع القلة المبدعة سرعان ما يتحول المستحيل ممكناً، وهكذا..(1/130)
فلو حاولت أن تتخيل مشهداً مسرحياً يجسد مجموعة من الناس وهي تنظر إلى عباس بن فرناس - وهو يكتب كتاباته وأفكاره حول عملية طيران الإنسان – نظرات استنكار ودهشة وإشفاق عليه مما أصاب عقله، ثم طويت عدداً من القرون لتنتقل بسرعة إلى أوروبا في مشهد آخر يجسد الفرمان الذي أصدرته الكنيسة والقائل بأن الله قد خلق الزعانف للأسماك كي تسبح في البحر، وخلق الأجنحة للطيور كي تطير في الهواء، وخلق للإنسان قدمين كي يسير على الأرض. ولو شاء له أن يطير لخلق له جناحين، وعلى ذلك فكل من يقول بإمكانية الطيران أو يفكر في ذلك فهو مخالف للكتاب المقدس ولمشيئة الرب. وهو داخل في دائرة الكفر والهرطقة.
... لو انتقلت بهذين المشهدين إلى عالمنا المعاصر ووقتنا الراهن. وناديت بمثل هذا الفكر الذي ساد في لحظة تاريخية معينة، فكيف سيتقبل أبناء هذا العصر هذه الأفكار؟؟!! لا شك أنهم لن يحملوا هذه الدعوة محمل الجد، ولن يعيروها اهتمامهم، لأنهم يرونها خارج نطاق العقل والمنطق. وتلك حقيقة لا تحتاج إلى التدليل أو البرهان. وإن شئت فلتراجع تاريخ الشعوب والأمم في لحظة تاريخية معينة، لترى كيف اعتقد الناس في تلك اللحظة التاريخية أن هذه الأمة لا يمكن أن تحقق آمالها، وفي لحظة أخرى نرى هذه الأمة قد بلغت شأناً عجيباً، ما يجعل الناس يعتقدون أنها لم تكن في حالة ضعف في يوم من الأيام(1).
إن علم الاجتماع يدلنا على ظاهرة اجتماعية متكررة. ففي لحظة معينة وتحت ضغط واقع ما، يعتقد الناس في عدم إمكانية الفعل، وفي لحظة تاريخية أخرى يصبح عكس هذا التفكير جنوناً.
فكيف يهدم علم الاجتماع جدار اليأس؟
__________
(1) يمكن الرجوع إلى سلسلة "أمم أرادت النهوض" والتي تعرض بعضاً من التجارب التاريخية للمؤلف نفسه.(1/131)
نقول أنه تحت ضغط واقع اليأس اليوم في مجتمعاتنا، يعتقد الكثيرون أن انتقالنا إلى حالة اجتماعية أخرى وإلى مفاهيم فكرية أخرى أمر محال، ولكن علم الاجتماع يخبرنا بعكس ذلك، فأحلامنا في النهضة والتقدم والتحول والتغير ستكون حقيقة بإذن الله تعالى، على سبيل التحقيق لا على سبيل التعليق. فإن أحلام الأمس هي حقائق اليوم، وأحلام اليوم هي حقائق الغد.
المعول الثاني: هو علم التاريخ. وهو العلم المنوط به هدم الجدار الثاني المحيط بفكرة اليائسين. ولا نحتاج لهدم هذا الجدار أن ندرس التاريخ كله، ولكن يكفينا منه ظاهرة واحدة كفيلة بتحطيم ونسف هذا الجدار، وهي الظاهرة التي أطلقنا عليها اسم "قانون المعطيات الصفرية".
وحتى نفهم هذا القانون أو هذه الظاهرة علينا استعراض الأسئلة التالي:
ما هي أوضاع الجزيرة العربية يوم أن نزل الوحي والتي انطلقت منها الدعوة الإسلامية؟
ما هي أوضاع فرنسا قبل الثورة والتي انطلقت منها نحو ثورتها ثم نحو فرنسا المعاصرة؟
ما هي أوضاع اليابان التي انطلقت منها لنهضتها المعاصرة؟
ما هي أوضاع الصين التي انطلقت منها الثورة الماوية؟
إن الحديث عن المعطيات التي أُتيحت لرواد النهضة، والحالة المعنوية العامة السائدة في المجتمع والتي ورثوها تعطي مؤشراً حقيقياً لكل
الرواد بأن كل النهضات إنما انطلقت من حالة تخلف ومعطيات لا نقول صعبة؛ بل صفرية.
التجربة النبوية والمعطيات الصفرية
ولنضرب مثالاً بالجزيرة العربية. فعندما نزل الوحي بالقرآن الكريم على رجل لا يملك سوى قليل من التمر وشيء من الماء، في مكانٍ موحشٍ هو ذلك الغار النائي في قمة الجبل، نزل هذا الوحي بتكليف هائل وشاق. فما هو هذا التكليف؟ ومن هو المكلف؟ وبم كُلِف؟(1/132)
تمثل هذا التكليف وهذه المهمة الشاقة في قوله تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"(1). أما المكلف فهو رجل في عقده الرابع، ولك أن تتأمل واقع البيئة التي كان يعيش فيها، وواقع القوم الذين كان يحيى بين أظهرهم. أما طبيعة التكليف فهو تبليغ دعوة الإسلام إلى العالمين – كل العالمين – إنساً كانوا أو جناً، أينما كانوا، في شرق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها.
فإذا قارنت بين المعطيات المتوفرة للمصطفى - صلى الله عليه وسلم - وبين طبيعة المهمة المكلف بها، ستجد أن إمكانية تنفيذ هذه المهمة هو من باب المستحيل. فلو تأملنا واقع البيئة الوحشية التي كان يعيش فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولو قدرنا ما يحتاجه - صلى الله عليه وسلم - لتنفيذ هذه المهمة من كثافة بشرية كمية، وكثافة بشرية نوعية، ثم لو فكرنا في الكثافة الكمية التي يحتاجها لاختراق بلاد مثل الصين، والكثافة الكمية التي يحتاجها لاختراق بلاد فارس أو مملكة الروم، سنجد أن الأمر لا يعدو كونه حلماً غير قابل للتنفيذ. وحتى لو توافرت الكثافة الكمية المناسبة فهل يمتلك القيادة النوعية المعدة والجاهزة والقادرة والمهيأة للقيام بهذا الدور الكبير؟! وحتى لو افترضنا توفر هذين العنصرين في مكة في تلك اللحظة – وهو ما لم يحدث – فكيف استقبل أهل مكة؛ بل أقرب الأقربين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الفكرة؟؟ وكم كانت درجة مقاومة المحيط
الحيوي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذه الفكرة؟؟ لو تتبعنا سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - سنجد أنه بعد ثلاثة عشرة سنة من العمل الجاد في مكة لم تنجح الفكرة في استقطاب سوى ثمانين أو بضعاً وثمانين شخصاً في مكة، بينهم النساء والرجال والشيوخ والأطفال والعبيد والأحرار.هذا الخليط من البشر الذي لا يزيد عن بضع وثمانين نفراً، هل يمكن أن يتحمل مهمةً بهذه الضخامة؟؟!
__________
(1) سورة الأنبياء: 107(1/133)
ثم إذا افترضنا أن هذه المنطقة من العالم – التي تتألف من قبائل
بدوية رعوية، تنتقل من مكان إلى آخر، لا يسلم فيها بيت من حالة ثأر، تقتتل لعشرات السنين حول ناقة أو سباق خيل، يقوم اقتصادها على السلب والنهب والغارات والغزو، غير مدربة على العمل المنظم الكبير – إذا افترضنا أنه قد تم استيعابها داخل المشروع النهضوي الإسلامي فما هي قدرتها على مواجهة الإمبراطوريتين العظيمتين الروم والفرس.
ثم هذه المنطقة التي تم استيعابها ما هي قدراتها العلمية والمعرفية التي تؤهلها لإدارة عملية الإحياء الحضاري للمجتمعات التي سيقومون بغزوها؟؟ فمن السهل أن تغزو أمة وأن تنتصر عليها عسكرياً، أما أن تنتصر عليها حضارياً فهذا شأن آخر. وإليك نموذج التتار المنتصرين، ما الذي خلفوه وراءهم؟؟!!
... إن مشروعاً مثل مشروع المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، لم يكن مشروع غزو للنهب والسلب؛ بل لقد كان مشروع توسع حضاري، كي تستقر اللغة ويستقر الدين في هذه المجتمعات. فما هي إمكانية هؤلاء العرب الذين لم يكونوا يعرفون القراءة الكتابة وليس لهم سابق معرفة بالأداء الحضاري كي يتغلبوا على فلسفات وثقافات واتجاهات منتشرة في هذه المجتمعات الجديدة؟؟!!
لقد كانت المعطيات المتاحة للمصطفى - صلى الله عليه وسلم - في هذه اللحظة التاريخية معطيات صفرية. ولم تكن مبشرة بتلك النتائج التي تحققت بعد أربعين سنة من الفعل الحضاري للمسلمين.
فإذا كانت تجربة الرسول - صلى الله عليه وسلم - مؤيدة بالوحي من السماء فلننظر في غيرها من التجارب التاريخية لغير المسلمين. والذين قاموا من أجل إصلاح مجتمعاتهم، ولم يكن لعامل الدين أي دور في تحركاتهم.
التجربة الصينية والمعطيات الصفرية(1/134)
إذا استعرضنا أوضاع الصين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، سنجد أمامنا دولة شاسعة مترامية الأطراف. تعاني من الكثافة السكانية الهائلة، حيث بلغ عدد سكانها تسعمائة مليون نسمة في ذلك الوقت، معظمهم من الفلاحين. تعاني على المستوى الصحي من المجاعات والأمراض المتوطنة كمرض الرمد الحبيبي، وترتفع بين سكانها نسبة العمى ارتفاعاً مخيفاً. هذا بالإضافة إلى مائة مليون مدمن. أما على المستوى الثقافي فقد كانت تعاني من الجهل والتخلف التكنولوجي وانبهار الطبقة المثقفة بالغرب وثقافته. وعلى المستوى الاقتصادي عانت الصين من القيود الاقتصادية الشديدة الوطأة الناتجة عن المعاهدات غير المتكافئة مع الغرب، بالإضافة إلى تخريب اليابان للاقتصاد الصيني. أما على المستوى الاجتماعي فقد كان نسيجها الاجتماعي مهترئاً ومهدداً بالتفكك. والصراع في داخلها على أشده نتيجة تعدد العرقيات. أما على المستوى السياسي، فعلى الصعيد الداخلي كانت تعاني من الصراع الداخلي بين العرقيات المتنازعة التي تريد الاستقلال وترفض التوحد وتعادي الدولة المركزية. بينما على الصعيد الخارجي احتلت بريطانيا أجزاءً من الصين لتصبح مستعمرات بريطانية – كمستعمرة هونج كونج – ثم يشن الغرب عليها حرب الأفيون في عام 1840م لينتج عنها مائة مليون مدمن. وفي عام 1860م يحرق الإنجليز والفرنسيون قصر الصيف. ثم تحتل اليابان الصين عام 1895م، وبعدها تغزو منشوريا.
ثم ينبري شاب يُدعى ماوتسي تونج - وهو من الطبقة المتوسطة، فلم يكن سليل أسرة حاكمة، أو في قمة الهرم السياسي أو هرم القوة، بل(1/135)
كان طالباً في كلية الفلسفة في السنة الثانية – ويعزم على إعادة تنظيم الشعب الصيني وتعليمه من جديد؛ بل والوصول به إلى قمة التعلم. ويعزم على الانتصار على قوى التفكك والتحلل في مجتمعه، ومواجهة الحكومة المركزية، والقضاء عليها، واستعادة ممتلكات بلاده، وتحريرها من الاستعمارين البريطاني والياباني، والحصول على أنواع التكنولوجيا النووية وأنواع القوة التي تحتاجها الصين للحماية من الغزو الخارجي. كما يقرر أن يزيل المرض من الصين، وأن يقضي على مشكلة الأفيون!!! لقد قرر بناء صين موحدة وقوية ومتقدمة!!!
... إذا كان هذا هو الأمل والحلم الكبير، وكان هذا الشاب الصيني البسيط هو صاحب هذا الحلم وهذا الأمل، وكانت تلك هي الأوضاع والمعطيات التي يمكن أن يتحرك من خلالها. فما هي إمكانية النجاح؟؟!!
لقد تحرك ماوتسي تونج، وتحركت معه هذه الفئة من الناس، ومروا بآلام المخاوف كلها: تجارب فاشلة؛ مآسي عظيمة عانى منها الشعب الصيني؛ خسائر عظيمة؛ ولكن انطلق مشروع كبير في الصين، واستمر هذا المشروع يزحف يوماً بعد يوم. فهل تحقق الحلم؟ وإلى أين وصلت الصين اليوم؟ وما هو موقعها الدولي؟ وكم يبلغ ميزانها التجاري في التعامل مع الأمم المتحدة؟ وإلى من يميل؟ وكم نسبة النمو في الصين الآن؟ وما هو موقف هونج كونج و تايون منها؟ وكيف ينظر العالم اليوم لمستقبل الصين؟
إذا نظرت إلى المعطيات الصفرية الأولى، ثم قارنت النتائج بها، ستجد هذه الحقيقة البارزة، وستجد هذا التاريخ شاهد على إمكانية الفعل التاريخي.
شواهد تاريخية أخرى
والأمثلة والشواهد التاريخية على صدق هذه الظاهرة وصحة هذا القانون كثيرة وبينة. فدولة مثل اليابان كيف كانت أوضاعها عقب الحرب العالمية الثانية، والتي انتهت باستسلامها وإذلالها؟ كيف كانت أحوالها بعد
أن أُمطرت بقنبلتين نوويتين قتلت وجرحت وشوهت وشردت وهجرت الملايين؟ ثم أين هي اليابان الآن؟(1/136)
وأين كانت ألمانيا التي كانت مكونة من ثلاث مائة دويلة وحدها بسمارك ثم انهزمت في الحرب العالمية الأولى؟ وكيف أعادت بناء نفسها بعد أن فُتت وهُدمت واقتُطعت أجزاء من أراضيها وانهارت معنويات جماهيرها بعد تلك الهزيمة؟ وكيف اعتلت قمة العالم لتواجه دوله الكبرى في
حرب ضروس؟ ثم كيف كانت أحوالها عندما فُتت وقُسمت وأذلها الحلفاء المنتصرون؟ لقد دُمرت ألمانيا بالكامل في أعقاب الحرب العالمية الثانية حتى قَل رجالها الذين هم قوام نهضتها، وانتشر الدمار والخراب في أرجائها، وفُرِضَت عليها شروط قاسية. أين وصلت ألمانيا الآن؟
وأين كانت الهند؟ تلك الأمة الكبيرة، المتعددة الأديان والأعراق واللغات، وكيف كان نسيجها الاجتماعي؟ وكيف واجهت تلك الأوضاع والمعطيات المتمثلة في الاستعمار والجهل والفقر وتفسخ النسيج الاجتماعي؟ وكيف أصبحت اليوم قوة نووية تكنولوجية عالمية؟
إن هذه الظاهرة أو هذا القانون التاريخي هو قادر على هدم الجدار الثاني من جدران اليأس؛ بل وهو مدخل كبير للتبشير بالأمل ونشر ثقافة "إمكانية الفعل" في المجتمعات الإسلامية، في هذه المرحلة التاريخية الهامة من تاريخ هذه المجتمعات.
المعول الثالث: وهو المنطق(1). وهو الأداة التي يتم بها هدم الجدار الثالث من جدران اليأس.فالمنطق يخبرنا بأن من استعد للعمل والبذل ونشط فيهما، وأخلص نيته لله عز وجل - استجابةً لأمره تبارك وتعالى: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون"(2) – فهو فائز، فلو انقضت حياته قبل
__________
(1) المنطق هو آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن من الخطأ في التفكير. فهو عموماً محاولة للبحث عن قواعد عامة للتفكير الصحيح.
(2) سورة التوبة: 105(1/137)
أن تحين فرصة تحقيق الآمال؛ فلا شك أنه سيكون من الفائزين برضوان الله في الآخرة، ثم إنه قد استمتع بحياته لأنه عاش لقضية ما وجاهد في سبيلها. أما إذا حانت الفرصة وتحققت الآمال، فقد فاز بالفرحتين: فرحة النصر والتمكين في الدنيا "ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله"(1)، وفرحة الفوز برضوان الله في الآخرة لبذله وإخلاصه.
أما مصير من لم يستعد فهو الحسرة والندامة في الدنيا والآخرة. حسرة على ضياع الفرصة التي جاءته إلا أنه لم يقم بعمل مكافئ لها ولم يستعد لاقتناصها، وأما إذا لم تحن الفرصة ولقي الله ربه من غير عمل ومن غير استجابة لأمره عز وجل، فهو في حسرة من سخط ربه عليه.
فالمنطق يقول إن العمل في كل الأحوال هو سفينة الخلاص. وهو سفينة نوح. سفينة النجاة .
المعول الرابع: وهو المبشرات. ونقصد بها ما بشرنا به ربنا جل في علاه، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - من آيات وأحاديث تبشر هذه الأمة بالغلبة والنصر والتمكين.
فعندما ترزأ الأمة دهراً من الزمان وتئن تحت وطأة هذا الواقع الثقيل الأليم، تلهج الألسنة وترتفع الأصوات متسائلة (هل من مخرج؟؟). وهذا ما حدث مع خباب بن الأرت عندما ذهب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد أعجزته الحيلة أمام سطوة وقوة أهل مكة، فما كان منه إلا أن قال لقائده - صلى الله عليه وسلم -: "ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟". فعندما تزداد وطأة الواقع وضغطه يبدأ الناس في السؤال عن المخرج. وهنا تأتي المبشرات لتهدم جدار اليأس الأخير.
فمن هذه المبشرات الحوار الذي يستعرضه القرآن الكريم بين فرعون وملئه وموسى ومن معه، يقول تعالى:
"وقال الملأ من قوم فرعون: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك؟!
قال: سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون.
قال موسى لقومه: استعينوا بالله واصبروا، إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
__________
(1) سورة الروم: 4، 5(1/138)
قالوا: أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا.
قال: عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون"(1).
ومن المبشرات قوله تعالى: "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون. هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون"(2). وقوله: "ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنهم لهم المنصورون. وإن جندنا لهم الغالبون"(3). وكتاب الله مليء بمثل هذه المبشرات التي تبعث الأمل في النفوس.
ومن المبشرات في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار"(4)، وقوله: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها"(5)، وغيرها كثير من الأحاديث التي تبشر الأمة بالنهضة والتقدم.
إذاً باستخدام هذه المعاول الأربعة – الاجتماع والتاريخ والمنطق والمبشرات - تنطلق النفس البشرية من إسارها، وتحطم أغلالها وقيودها،
وتهدم سجنها الذي حبست فيه حيناً من الدهر. فتنطلق للعمل، مستعينة بالمشيئة على التحقيق لا على التعليق.
فامتلاك قادة وطلاب النهضة لهذه الأدوات الأربع يمكنهم من هدم جدران اليأس المحيطة بالفرد المسلم اليوم. والخروج من دائرة اليأس هي الخطوة الأولى نحو الخروج من هذا الواقع.
إنه مشهد ترى فيه ظاهرة اليأس وقد اختفت من مجتمعاتنا أو كادت. وترى جموع العاملين وقد فطنت إلى معاول وأدوات هدم اليأس. فانطلقت بين جماهير الأمة تزرع في قلوبها الأمل وتنتزع اليأس انتزاعاً من صدور طالما أثخنها اليأس بالجراح.
ليتحقق هذا المشهد الرائع فلابد من تنفيذ الأمور التالية:
لابد أن يعمل المفكرون والمصلحون على نشر ثقافة الأمل بين جماهير الأمة من خلال الإسهاب في الكتابة عن دلالات النهضة الأربع وشرحها.
__________
(1) سورة الأعراف: 127-129
(2) سورة الصف: 8-9
(3) سورة الصافات: 171-173
(4) رواه الترمذي
(5) رواه مسلم(1/139)
لابد من إعادة عرض التجربة النبوية والتركيز على إمكانية الفعل رغم المعطيات الصفرية.
لابد من الاهتمام بعرض تجارب الأمم التي نهضت والتركيز على إمكانية الفعل رغم المعطيات الصفرية.
لابد من الاهتمام بعرض تجارب المخترعين وكيف استطاعوا أن يصلوا إلى ما كان يظنه الناس جنوناً.
لابد من تعزيز الجانب الروحي وتجديد الإيمان بموعود الله ونبيه - صلى الله عليه وسلم - للأمة بالنصر والغلبة والتمكين.
تذكر أن
من مظاهر اليأس البحث عن الخلاص الفردي والانسحاب من ساحة الفعل الإسلامي أو ما يطلق عليه التصوف السلبي على أساس أن التصوف السني الصحيح كان قمة في العمل والعطاء.
للتعبير عن اليأس طريقان: طريق التعبير المباشر وغير المباشر.
يمثل اليأس سجناً معنوياً وعقلياً كبيراً للشعوب والمجتمعات.
يتطلب هدم اليأس أربعة معاول: الاجتماع والتاريخ والمنطق والمبشرات ثم تراكم الإنجازات الملموسة..
يمثل قانون المعطيات الصفرية أداة رئيسة لهدم اليأس.
التجربة النبوية والصينية واليابانية والألمانية كلها شاهدة على صحة ظاهرة المعطيات الصفرية.
وفي نهاية هذه الدراسة نحب أن نؤكد على أن بوادر الانتقال من طور الصحوة إلى طور اليقظة باتت تلوح في الأفق. وأن تيار الصحوة في عمومه في حاجة إلى من يمد يده ليقطف ثمار هذه المرحلة وينطلق بها إلى المرحلة التالية (مرحلة اليقظة).
وكما أشرنا من قبل فإن مرحلة الصحوة هي التي أيقظت القلوب وهيجت العواطف والحماسة، وبذرت بذور الإسلام في نفوس جماهير الأمة. وقد آن الأوان لننتقل من طور الخطاب العاطفي الحماسي إلى طور الخطاب العقلي الدقيق، المبني على أدق قواعد البحث العلمي.(1/140)
وحتى ننتقل إلى طور اليقظة، ونحقق النهضة المنشودة لهذه الأمة فإننا بحاجة إلى التعرف على القوانين والسنن الحاكمة لنهضات الأمم. وهو ما سنتناوله في كتاب منفصل بإذن الله تعالى، حيث سنتناول قوانين النهضة وطرق التعامل معها واستخدامها بالشرح والتحليل.
ونحب أن نوجه الشكر والتحية لكل من ساهم بجهده أو وقته أو ماله أو نفسه في مرحلة ما قبل الصحوة من المفكرين والعلماء ثم في طور الصحوة المباركة والتي امتدت طيلة القرن المنصرم وإلى اليوم، منذ أن أشعل فتيلها الرجال المخلصون في الأمة وحتى تفرعها وتشكلها في شكل تيارات وجماعات ومؤسسات مباركة، أثرت اجتهاداتها وجهودها المرحلة، والتقت رغباتها على إكمال مسيرة الصحوة. والسير بها إلى نهايتها.
وأخيراً نسأل الله تبارك وتعالى أن يتقبل منا هذا العمل البسيط، وأن يجعله في ميزان حسناتنا. وأن ينفع به كاتبه وقارئه. كما نسأل الله أن يكون هذا الكتاب خطوة حقيقية نحو تطوير الفعل النهضوي على الساحة الإسلامية، وأن يكون منطلقاً للجموع التي تبحث عن ساحة حقيقية للفعل والتقدم والنهضة.
أطوار حركة النهضة
المحطات الكبرى في التاريخ الإسلامي
المحطات الهامة في التاريخ
المحطة ... السمات ... النتائج
سنة 622م
انطلاقة المشروع الإسلامي ... تحول المشروع إلى نظام الدولة.
تكون مجتمع
قيادة
دستور
جهاز شورى
جهاز دفاعي ... دولة حديثة
مفاهيم جديدة عن:
الإنسانية
الحرب والسلم
العدالة
تعايش الأديان
الدستور......
سنة 1097 م
القرن الحادي عشر بداية الهجوم الأوروبي على العالم الإسلامي في الحملات الصليبية. ... استهداف القلب
ثم هجوم عل الأطراف ... استنزاف موارد العالم الإسلامي
لثلاثة قرون.
سنة 1924م
إنجاز المشروع بإسقاط الخلافة الإسلامية. ... انكشاف حالة التخلف
الاستعمار والاحتلال.
التمزق ... هزة كبيرة للعالم الإسلامي.
ترتيب المفاهيم الأربعة:
مواصفات القائد
عاملان لتحقيق النهضة(1/141)
دورة حياة اتخاذ القرارات
احتياجات قادة المشروع الإسلامي:
نموذج الإسلام
التحديات الكبرى
نموذج العلمانية
نظرية الاستعمار
بواعث النهضة
المعايير المعاصرة لقياس التخلف
عوامل التحلل في كيان الدولة الإسلامية
العوالم الثلاثة
عالم أفكار الجاهلية
عالم أفكارنا المعاصر
طريقة تفكير القائد
أهمية دراسة النماذج التاريخية
دور القائد
استخدام أداة التاريخ
مستلزمات عملية التغيير
مطالب تطوير الحالة الإسلامية
التحديات الكبرى أمام التطوير
ملفات الواقع الكبرى
دورة حياة الفعل
دلائل النهضة
الفهرس
المقدمة ...................................................................................................................................... 1
تمهيد ......................................................................................................................................... 8
العلم قبل القول والعمل ....................................................................................................... 29
البواعث الكبرى للنهضة الإسلامية ...................................................................................... 52
قضية التخلف ......................................................................................................................... 72
أهمية دراسة التاريخ ................................................................................................................ 116
أهمية رفع الواقع ..................................................................................................................... 137
دلائل النهضة الأربعة .............................................................................................................. 156(1/142)
الخاتمة ........................................................................................................................................ 175
ملحق النماذج .......................................................................................................................... 177(1/143)