سلسلة الآداب الشرعية (1)
النَّصِيْحَةُ
تأليف
إسلام منصور عبد الحميد
كلية أصول الدين – جامعة الأزهر
المُقَدِمَةُ
الحَمْدُ للهِ الواحدِ الأحدِ ، الفردِ الصَمَدِ ، الذي لَمْ يَلِدْ ، ولم يُوْلَدْ ، ولَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ .
وبَعْد :
فَهِذِهِ هِيَ أَوْلُ رِسَالةٍ فِيْ هَذِهِ السِلْسِلَةِ المُبَاْرَكَةِ بِأِذْنِ اللهِ " سِلْسِلَةُ الآدَاْبِ الشَرْعِيْةِ " وَأَبْدَأُهَا بِآدَابِ النَّصِيْحَةِ ، وَجَاءَتْ فِي سِتَةِ عَنَاويْن :
أَوْلَاً : لِمَاذَا النَّصِيْحَةُ ؟
ثَاْنِيْاً : تَعْرِيْفُ النَّصِيْحَةِ ، والفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الفَضِيْحَةِ ( التَعْيِيِرِ أَوْ التَثْرِيْبِ ) وَالغَيْبَةِ .
ثَاْلِثَاً : مَشْرُوْعِيَةُ النَّصِيْحَةِ ، وَمَكَاْنَتُهَاْ فِي الدِّيْنِ ، وَأَهَمِيَتُهَاْ .
رَاْبِعَاً : لِمَاْذَاْ لَاْ نَقْبَلُ النَّصِيْحَةَ ؟
خَامِسَاً : أَنْوَاعُ النَّصِيْحَةِ ، وَحُكْمُ كُلِّ نَوْعٍ .
سَاْدِسَاً : قَوَاْعِدُ ، وَأُصُوْلُ ، وَآدَاْبُ النَّصِيْحَةِ .
فَيَاْ أَيُهَا القَارِئُ لِهَذِهِ الرِسَالَةِ لَاْ تَعْجَلْ فِيْ قِرَاْءَتِهَاْ ! فَوَاللهِ لَقَدْ كُتِبَتْ مِنْ أَجِلِكَ ، مِنَ القَلْبِ ، وَثِقْ أَنَّ مَاْ كَاْنَ مِنَ القَلْبِ ذَهَبَ إِلَى القَلْبِ ، فَاصْبِرْ عَلى تَأَمُلِهَا لَعَلَكَ تَجِدْهَا فِيْ مِيْزَانِ حَسَنَاتِكَ يَوْمَ تَلْقَى اللهَ عَزَّ وَجَلَّ .
وَهَذِهِ الرِّسَالَةُ لَاْ أَقْصِدُ بِهَا شَخْصَاً بِعَيْنِهِ ، وَإِنَّمَاْ هِيَ عَامَةٌ إِلَى جَمِيْعِ المُسْلِمِيْنَ .
وَقَدْ كَتَبْتُ إِلَيْكَ هَذِهِ الآدَابَ بِدَافِعِ الحُبِّ ، فَاصْطَحِبْ مَعَكَ هَذَا المَعْنَى أَثْنَاءَ القِرَاءَةِ ، وَافْتَحْ لَهَا قَلْبَكَ ، وَإِنْ خَالَفَتْ مَا فِي نَفْسِكَ فَزِنْهَا بِمِيْزَانِ الشَرْعِ الَّذِي تَعْلَمُهُ وَلَاْ يَعْلَم حَقِيْقَتَهُ إِلَا اللهَ .
وَأَخِيْراً :(1/1)
فَقَدْ يَقُوْلُ بَعْضُ القَارِئِيْنَ لِهَذِهِ الرِّسَالةِ أَثْنَاءَ قِرَاءَتِهَا : لو قُدِّمَ هَذَا لكَانَ أَحْسَن ، ولو أخَرَّ هذا لكان يُسْتَحْسَنْ ، ولو حذف هذا لكان أصوب ، ولو زِيْدَ هذا لكان يُسْتَصْوَب .
فأقول لهم : هذه أمورٌ فنية ، واصطلاحاتٌ اجتهادية ، ويعلم اللهُ سبحانه وتعالي ، أنِّي بَذَلتُ جَهْدِي ، وإن أريد إلا الإصلاح ما استطعت .
وأرجو من كل قارئ لهذه الرسالة أن يبذل لصاحبها النصح بما يراه خطأ أو لا ينبغي .
إن تجد عيباً فسد الخللا
جل من عيب فيه وعلا .(1/2)
أولا ً: لماذا النصيحة ؟
أولا : لماذا النصيحة ؟
إن عرض هذا الموضوع في هذه الأوقات من الأهمية بمكان ، وذلك لعدةِ أسبابٍ ، منها :
1- حالُ الأمةِ اليومَ - إلا من رحم الله – هو القعودُ عنِ النَّصِيْحَةِ .
مع أنَّ الأصل في الأمة الإسلامية النصح والتناصح ، لقوله تعالي ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ... )(آل عمران: من الآية110) ، فإن ذلك يكاد يكون اليوم مفقوداً بيننا ، وبخاصة في ضرورات حياتنا ، من حفظ الدين والنسل والنفس والعقل والمال ، حيث يقعُ الإهدار والاعتداء علي هذه الضرورات من المسلمين أنفسهم ، بعضهم علي بعض ، بوسائل متعددة ، دون أن يوجد الناصحون الذين يكفون لحماية الحق وأهله ، بردع المعتدي وعدوانه ، وبذلك فقد المسلمون – أفرادا وشعوبا ودولا – العزة بفقد أهم مقوماتها وتسلط عليهم أعداؤهم بالاعتداء علي تلك الضرورات فأذلوهم جميعا جزاء وفاقا .
فجاءت هذه الرسالة تبين حكم النصيحة ، وعقوبة التخلف عن أداء هذا الواجب ، وتبين أن النصيحة هي الدين .
2- رفض النصح أصبح علي كل المستويات .
إن عدم قبول النصيحة ليس محصورا في طبقة معينة ، فلا نخدع أنفسنا ! لنقول إنَّ هذا العيب اليوم في الحاكم ، أو في العالم ، أو في الداعية ، ولكن هذا العيب موجود في الجميع ، بدون استثناء من القمة إلي القاعدة .
موجود عند بعض العلماء والدعاة والمجتهدين ، من حيث يشعرون أو لا يشعرون .
فنجد أن المعلم مثلا يستثقل أن يصحح الطالب له خطأ ، وتجد الداعية يستغرب أن يصحح أحد الاتباع عليه شيئا وقع فيه ولا يعطيه من الحرية إلا هامشا صغيرا جدا .
ولذلك نقول : إن الأمة اليوم لا زالت تعد النصح نوعا من الاستفزاز أو حطا للمكانة ، فلم يتعود الناس علي هذا ولم تتعود آذانهم عليه ! ولهذا صاروا يشمئزون منه ويستغربونه ويرونه شيئا عظيما !(1/1)
فجاءت هذه الرسالة تبين : أن النصيحة لا تعني انتقاص شأن المنصوح ، أو تكبر وترفع الناصح ، بل النصيحة تعني : الصدق ، والإخلاص ، وقبول الحق من أيِّ شخص كان ، وتبين أن الرجوع عن الخطأ هو الكمال المطلق .
3- خلطُ كثيرٍ من الناسِ بين النصيحة ، والفضيحة ( التعيير ، أو التثريب) أو بين النصيحة والغيبة .
( فإنهما يشتركان في أن كلا منهما : ذكر الإنسان بما يكره ذكره .
فذكر الإنسان بما يكره إذا كان المقصود منه الذم والعيب والنقص ، فهو حرام لأنه نوع من الغيبة المحرمة ومع ذلك فقد استثني العلماء بعض الحالات التي يجوز فيها أن ينال من الشخص بعينه وبذاته .
وكذلك فقد قرر علماء الحديث هذا في كتبهم ، وذكروا الفرق بين جروح الرواة ، وبين الغيبة وردوا علي من ساوى بينهما من المتعبدين وغيرهم ممن لا يتسع علمه )(1)
فجاءت هذه الرسالة تبين متي يجهر بالنصيحة ومتي يسرها ، ومع الجهر لا تكن تعييرا ولا تكن غيبة أو مع الإسرار لا تكن سكوتا عن الحق .
4- اتهام المنصوح للناصح .
إنك تجد المسلمين اليوم – إلا من رحم – ومع الأسف نجد أن كثيرا من الجماعات الإسلامية قد تعد من ينصحونها أعداء لها ، بل ربما تعدهم أحياناً أعداء للإسلام ذاته ، أما الأفراد فغالبنا يري من ينصحه ، أو يستدرك عليه ، أو يصحح خطأ وقع فيه ، حاسداً له ، أو حاقداً عليه .
فجاءت هذه الرسالة تبين أن الأصل في الناصح الأمانة ولا يجوز اتهامه في نيته ، بل يجب إكرامه ؛ ليعين المنصوح علي الحق ، إلا إذا جاءت القرائن الواضحة ، التي تدل علي فساد نيته ، وقصده ، فينتبه المنصوح لقصده ويتعامل معه ، مع عدم الإغفال عن الخطأ الذي نبهه عليه .
5- الاعتراف بالأخطاء إجمالاً مع عدم الاعتراف بآحادها ، وعدم تقبل مناقشاتها والدفاع عنها بصورة أو بأخرى .
__________
(1) النصيحة والتعيير / 2 – 3 بتصرف ) لابن رجب .(1/2)
نجد كثيرا من الناس يقول : نحن لسنا بمعصومين ، ونحن جميعا عرضة للخطأ ، لكنه يقف عند هذا الاعتراف المجمل المبهم ، فلا ينتقل من هذا الكلام العام إلي تشخيص الأخطاء ، والاعتراف الجاد بآحاد هذه الأخطاء ، ومن ثم السعي إلي التصحيح .
نعم نحن نقول : لم يَدَّع أحدٌ أنك مَلَك حتى تقول : أنا بشر ، ولم يدع أحد انك نبي أو رسول حتى تقول : أنا لست بمعصوم . كل الناس يعرفون أنك بشر ، وأنك عرضة للخطأ ، وكل إنسان يعترف بهذا ، بل قال كثير من الناس هذا الكلام وفي محاولة لتجاهل الأخطاء ، والدفاع عنها ، وإلباسها ثوب الصواب .
وبناء عليه نقول : هذا الاعتراف المبهم بأنك بشر ، أو أنك لست بمعصوم ، أو عرضة للخطأ ، لا يسمن ولا يغني من جوع ، ولا ينفعنا في قليل ولا كثير ، ما لم يتبعه شجاعة علي تقبل مناقشة هذه الأخطاء .
فجاءت هذه الرسالة تبين ما يجب علي المنصوح قبل النصيحة وأثناءها وبعدها .
6- سلوك كثير من المنتصحين أو الناصحين للمنهج الفرعوني .
إن كثيرا من المنتسببين إلي الإسلام أقرب ما يكونون إلي سلوك المنهج الفرعوني الذي يقول ( مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ)(غافر: من الآية29) .
ومن الصعب جدا علي كثير من الناس اليوم ، ممن ينتسبون إلي هذا الدين أيا كانوا سواء أكانوا من أصحاب النفوذ والسلطان أو العلماء أو الدعاة أو عامة من الناس ، من أصعب الأمور علي أحدهم أن يصغي أذنيه لتقبل النصيحة أو ملاحظة ، فضلا أن يوافق علي ذلك أو يسعى إلي تصحيح أخطاءه ، وكذلك من الصعب أن يقتنع الناصح بأي أعذار يتقدم بها المنصوح ، حتى إذا تحدثا أصبح حديثهم يشبه "حديث الطرشان" الذي لا يسمع أحدهما للآخر .
فجاءت هذه الرسالة تبين ما ينبغي علي الناصح والمنتصح من شروط علمية وأخلاقية ، وآداب نبوية ، أسأل الله سبحانه وتعالي أن ينفع بها .(1/3)
7- تفشي ظاهرة زلات العلماء .(1)
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : [ ثلاث يهدمن الدين : زلة العالم ، و جدال المنافق بالقرآن ، و أئمة مضلون ](2)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قوله : ( ويل للأتباع من عثرات العالم ) . قيل : و كيف ذاك ؟ قال : [يقول العالم شيئاً برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الاتباع ](3)
فإن ( العالِم يزِلُّ و لا بُدَّ ، إذ لَيسَ بمعصومٍ ، فلا يجوز قبول كلِّ ما يقوله ، و يُنزَّل قوله منزلة قول المعصوم ، فهذا الذي ذمَّه كلّ عالِم على وجه الأرض ، و حرَّموه ، و ذمُّوا أهلَه )(4).
وعلاقة زلة العالم بالنصيحة : أن كثيراً ما يُقال : ما بالكم تحذّرون من زلّة العالم مع كونه لا يخطئ إلا عن اجتهاد ، يستحق عليه الأجر ، و هو في جميع أحواله بين الأجر و الأجرين .
__________
(1) المراد من زلّة العالم هو : خطؤه و مجانبته الصواب باجتهاد في آحاد المسائل ، مع سلامة أصوله في الاستدلال و التقعيد . وراجع في هذه المسألة رسالة قيمة بعنوان ( موقف العقلاء من زلات العلماء ) للد / أحمد عبد الكريم نجيب.
(2) صحيح ] أورده ابن تيميّة في (الفتاوى الكبرى : 6 / 95 ) و صححه الألباني في ( مشكاة المصابيح 1 / 89 ).
(3) الموافقات / 3 / 318 ) ، و ( الفتاوى الكبرى / 6 / 96 ).
(4) إعلام الموقعين : 2 / 173 .(1/4)
و ردّاً على هذه الشبهة نقول : إنّ مكمن الخطورة في زلّة العالم ، ليس في كونها خطأ من مجتهد ، و لكن فيما يترتب عليها من عمل الأتباع و المقلدين من بعده ، و ممّا يستفاد من قول ابن عبّاس المتقدّم في التحذير من زلّة العالِم : ( فيترك قوله ذلك ، ثم يمضي الأتباع ) ، بيان أنّ خطر الزلّة في كون شرّها متعدياً إلى من قلّد صاحبها فيها ، و كفى بهذا محرّضاً على النكير على من صار إليها ، أو تترّس بها في تحليل ما حرّم الله ، و قد يلحق صاحبها إثم من استنّ به فيها ، شأنه في ذلك شأن من سنّ سنّةً سيّئة .
قال الشاطبي بعد أن سرد جملة من الآثار في التحذير من زلة العالم : ( و هذا كله ، و ما أشبهه ، دليل على طلب الحذر من زلة العالم ....)(1). من أجل ذلك كان واجبا على الأتباع تجاه زلة العالم التحذير منها والإنكار على من أصرَّ عليها أو تابَعَه فيها ، منطلقين في ذلك من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في النصيحة وآدابها.
و من النصيحة للعلماء الواجبة لهم ما ذهب إليه ابن رجب الحنبلي رحمه الله في قوله : ( و مِمَّا يختص به العلماء ردّ الأهواء المضلة بالكتاب و السنة على مُورِدِها ، و بيان دلالتهما على ما يخالف الأهواء كلها ، و كذلك رد الأقوال الضعيفة من زلاّت العلماء ، و بيان دلالة الكتاب و السنة على ردّها )(2).
فإذا أردنا خيراً بعلمائنا ، وورثة النبوّة في أمّتنا ، كان لِزاماً علينا أن نلتزم تجاههم بأدبَين جليلين :
الأوّل : توقيرهم و معرفة قَدرهم ، و عدَم الحط من مكانتهم ، أو الطعن في علمهم و أمانتهم بسبب ما قد يقعون فيه من زلاّت ، أو يخطئون فيه من الفتاوى و السؤالات .
__________
(1) الموافقات : 4 / 170
(2) جامع العلوم و الحكم ، ص : 98(1/5)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حين اضطره المقام إلى الخوض في مسألة زلات العلماء : ( نعوذ بالله سبحانه مما يفضي إلى الوقيعة في أعراض الأئمة ، أو انتقاص أحد منهم ، أو عدم المعرفة بمقاديرهم و فضلهم ، أو محادتهم و ترك محبتهم و موالاتهم ، و نرجو من الله سبحانه أن نكون ممن يحبهم و يواليهم و يعرف من حقوقهم و فضلهم ما لا يعرفه أكثر الأتباع ، و أن يكون نصيبنا من ذلك أوفر نصيب و أعظم حظ ، و لا حول و لا قوة إلا بالله )(1)
و قال الإمام الذهبي في ترجمة الإمام محمد بن نصر المروزي : ( و لو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له قمنا عليه و بدَّعناه ، و هجرناه ، لما سلم معنا ابن نصير ، و لا ابن مندة ، و لا من هو أكبر منهما ، و الله هو هادي الخلق إلى الحق ، هو أرحم الراحمين ، فنعوذ بالله من الهوى و الفظاظة )(2) .
الثاني : نصيحة الناس من الوقوع فيها ، سواء كانوا من أئمة المسلمين أو عوامهم.
قال رجل للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : إن ابن المبارك قال :كذا . فقال : إن ابن المبارك لم ينزل من السماء .(3)
و قال الإمام القرطبي في تفسيره : و قد ذَكَرَ الخلاف في حكم شرب النبيذ : ( فإن قيل : فقد أحل شربه إبراهيم النخعي ، و أبو جعفر الطحاوي ، و كان إمام أهل زمانه ، و كان سفيان الثوري يشربه ، قلنا : ذكر النسائي في كتابه أن أول من أحل المسكر من الأنبذة إبراهيم النخعي ، و هذه زلة من عالم ، و قد حُذِّرْنا من زلة العالم ، و لا حجة في قول أحد مع السنة ) .
8- تفشي ظاهرة التطاول علي العلماء ، أو التعصب لهم .(4)
إن الناس في هذا الزمان قد اختلفت مواقفهم مع العلماء إلي ثلاثة أصناف .
الصنف الأول :
__________
(1) الفتاوى الكبرى : 6 / 92.
(2) سير أعلام النبلاء : 40/14
(3) الفروع في الفقه الحنبلي : 6 / 381
(4) راجع أسباب انتشار هذه الظاهرة في كتاب ( حرمة أهل الإسلام ) للد / محمد إسماعيل المقدم .(1/6)
محب لهم مشفق عليهم ، منتبه لزللهم يدعو لهم ، يتحاشى الوقوع في أعراضهم ، يحاول جاهدا ، عدم المساس بهم ، لا كرامة لهم فقط ، وإنما كرامةً لمكانتهم التي في قلوب الناس جميعا ، مطيعهم وعاصيهم ، ويبذل النصيحة الواجبة لهم ، بأدب يليق بمكانتهم ، سالكا طرائقه الشرعية .
ولا شك أن هذا المسلك صواب لا غبار عليه ، وهو بعض ما نريد أنَّ نذهب إليه من خلال هذه الرسالة .
الصنف الثاني :
مبالغ في حبهم ، لا يري خطأ عليهم ، أو تقصيراً في جانبهم ، لذا لا يري نصحهم أو بمعني أخر ، تبيين الأمر وتجليته لهم ، وفي المقابل يشنع علي من بذل النصيحة لهم ، ويري الصواب دائماً في كل ما يقولون أو يسكتون عليه ، وكأنهم معصومين من الزلل والخطأ ، ولا شك أن هذا مسلك خطأ كثير فساده .(1)
الصنف الثالث :
صنف تحامل علي العلماء ، لشدة ما يري أنهم قصروا عن أداء ما كلفهم الله عن بذل الوسع في الصدع بالحق ، وعدم الخوف والملامة إلا من الله .
فهؤلاء أرخوا العنان لأقلامهم ، ووسعوا دائرة سبهم ، وتناولوا أعراضهم في كل شاردة وواردة ، وفي كل صغيرة وكبيرة ، وحملوهم وزر الأمة والوقوع في الغمة !!
وأخذ – هؤلاء – على متابعتهم وتتبعهم ، ومناقشة طرحهم ، ورد كلامهم وتسفيه عقولهم ، بل لا أبالغ إذا وصل الأمر إلى تكذيبهم .
وهذا الصنف الأخير محق في غضبه ، وزيادة ألمه ، ولكنه ، غير محق في إسقاط مكانتهم - شعروا بذلك أو لم يشعروا - بسبب موقف أو اثنين أو عشرة ؛ وذلك لأن الدين نصيحة وهذه النصيحة لها هدي يجب أن نتبعه كأي عبادة من العبادات لابد فيها الإخلاص مع متابعة النبي صلى الله عليه وسلم ، و [ مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ ](2) .
9- عدم الالتزام بآداب النصيحة
__________
(1) وسيأتي الحديث عن هذا في رسالة مستقلة بإذن الله .
(2) متفق عليه ] أخرجه البخاري ( 2697 ) ، ومسلم ( 1718 ) من حديث عائشة .(1/7)
وهذا السبب يعتبر جامع لكل الأسباب المتقدمة وغيرها ، فإن كثيرا من الناصحين ، وكذلك المنتصحين لا يلتزمون بآداب النصيحة ، وذلك إما لجهلهم بها وهم كثر ، وإما لغفلتهم عنها .
فينتج عن ذلك الخلاف ، والشقاق ، واتهام كل طرف للآخر .
فإن كثيرا من المخلصين لا يتبع هدي النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – في النصيحة ، مكتفيا بإخلاصه ، والعمل لا يكن مقبولا إلا إذا كان خالصا ، وصوابا .
فجاءت هذه الرسالة تبين هذه الآداب ، وأنها تتعلق بالناصح والمنصوح ، قبل النصيحة ، وأثناءها ، وبعدها .
من أجل ذلك كله ، جاءت هذه الرسالة ، راجيا من الله – سبحانه وتعالى أن ينفع بها .(1/8)
ثانيا : تعريف النصيحة ، والفرق بينها وبين الفضيحة أو ( التعيير والتثريب ) ، والغيبة
ثانيا : تعريف النصيحة ، والفرق بينها وبين الفضيحة أو ( التعيير والتثريب ) ، والغيبة
أولا : تعريف النصيحة
قال ابن فارس : النون والصاد والحاء " أصل يدل علي ملائمة بين شيئين وإصلاح لهما .اهـ ، وعلي هذا فالنصيحة لها معنيان :
المعني الأول : تخليص القول من الغش .
قال الخطابي : قيل إنها مأخوذة من نصحت العسل إذا خلصته من الشمع . شبهوا تخليص القول من الغش بتخليص العسل من الخلط (1).
قال الفخر الرازي : النصيحة أن يرغبه في الطاعة ويحذره من المعصية ويسعى في تقرير ذلك الترغيب لأبلغ الوجوه .اهـ (2)، وفي هذا التعريف إبراز جانب إيصال الخير إلي المنصوح والحرص علي ذلك حرصا يبلغ منتهاه .
وقال أبو عمرو ابن الصلاح : النصيحة كلمة جامعة تتضمن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادة وفعلا (3). اهـ وفي هذا التعريف بيان لصورتي النصح : الإرادة والفعل .
وقال القرطبي: النصح إخلاص النية من شوائب الفساد في المعاملة بخلاف الغش.اهـ (4) ، والقرطبي بهذا التعريف كأنه يريد أن يصور عمل الناصح من جهة الإخلاص وصفاء القلب بأنه ينقي نصيحته من كل ما يكدر النصيحة ، حتى لكأنه يحب للمنصوح ما يحبه لنفسه وهذه حال لا يتصور معها غش ، ولا تدليس ولا تغرير ، وهذا هو إخلاص النصح وإرادة الخير كل الخير للمنصوح له.
المعني الثاني : تحري صلاح المنصوح
قال النووي : النصيحة مأخوذة من نصح الرجل ثوبه إذ خاطه . فشبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوص له بما يسده من خلل الثوب .اهـ(5)
__________
(1) شرح النووي لمسلم /ح 55)
(2) مفاتيح الغيب 7/157
(3) جامع العلوم والحكم ص 76
(4) الجامع لأحكام القران 4/234
(5) النووي شرح مسلم /ح 55 )(1/1)
الناصح : يعني الخياط(1) ، والنصح : الخياطة ، والمنصحة : الإبرة . والمعني : أنه يلم شعث أخيه بالنصح كما تلم المنصحة (2) .
ومنه الثوب النصوح : كأنه صحيحة ليس فيها خرق ، وكان الذنب يمزق الدين ، والتوبة تخيطه .
ومن الممكن أن تقول في هذا المعني أيضا : هي إرادة بقاء نعمة الله تعالي علي أحد مما له فيها صلاح منفعة دينية أو دنيوية ، وإن شئت قلت : هي إرادة الخير للغير(3) .
وعلي هذا المعني فالنصيحة تتضمن معني الصدق مع الإخلاص كما في قوله تعالي : (يا أيها الذين أمنوا توبوا إلي الله توبة نصوحا ) (التحريم :8 ) أي : توبة صادقة ، لا عودة معها إلى سالف الذنب .
ونستخلص مما تقدم أن النصيحة مبناها الإخلاص للمنصوح وهو ما يحمل الناصح علي إرادة الخير له ، ودرء الضر عنه ، في أمور دنياه وأخراه ، وفي أمور معاشه ومعاده .(4)
خصائص النصيحة وسماتها :
وبتأمل هاذين المعنيين يلاحظ أن النصيحة من جهة مضمونها وطرقة عرضها ذات خصائص ثلاث :
1 – الإخلاص لله تعالي ، ويقتضي التنزه عن كل ما ينافي الإخلاص ، والتخلص من أغراض النفس والهوى ، كما يقتضي انتهاج المنهج النبوي في النصح والتذكير .
2- إرادة الخير وتوخيه للمنصوح ، ويقتضي الترفع عن كل ما ينافي دلك من الغش ، ونحوه .
3- بذل الوسع في سبيل النصيحة ، ويشمل كل صور التعبير عن إرادة النصح ، نصح بالقول واللسان ، ونصح بالولاء والمحبة ، ونصح بدفع الضرر ودرء الشر والتحذير منه ، ونصح يجلب الخير والترغيب فيه والدلالة عليه ، كل ذلك في حالة الغيب والشهادة .
__________
(1) مقاييس بن فارس / مادة ن ص ح
(2) الفتح / بـ الدين نصيحة )
(3) البريقة المحمودية / 2/250 )
(4) النصيحة / 9-10 ) للشيخ عبد الرب تواب الدين(1/2)
وهذه الخصائص الثلاث ، كما أنها ترجع إلي الإخلاص الذي هو أساس كل خير وبر ورشد ، فإنها – أيضا – تتضمن الخصال التي يتحلى بها الناصحون كالشفقة والرحمة والحنو والحرص علي بذل الخير وكف الشر (1)
ثانيا :. الفرق بين النصيحة والتعيير
التعيير : من العير : وهي ما رُكِبَ عليه من الحمير والإبل والبغال .
( ومنه قوله تعالي : ( ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ)(يوسف: من الآية70) والمعني : يا أصحابَ العير ، كقوله وأسأل القرية ، ويا خيل الله اركبي : أي يا أصحاب خيل الله ).(2)
والمراد أن التعيير : هو أن يظهر السوء ويشيعه في قالب النصح ويريد بذلك التوصل إلي غرض فاسد كصاحب العير الذي يتخذ العير وسيلةً لغرضه .
فمن الناس من يلبس غايته السيئة ثوب النصيحة ، قال تعالى حاكيا عن إبليس : ( وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) (لأعراف:21)
قال ابن رجب : ومِن أظهرِ التعيير ، إظهارُ السوء وإشاعتُه في قالب النصح ، وزعمُ أنه إنما يحمله على ذلك العيوب ، وكان في الباطن إنما غرضه التعيير والأذى ، فهو من إخوان المنافقين الذين ذمهم الله في كتابه في مواضع .
فإن الله تعالى ذم من أظهر فعلاً أو قولاً حسناً وأراد به التوصل إلى غرض فاسد يقصده في الباطن ، وعدَّ ذلك من خصال النفاق كما في سورة براءة التي هتك فيها المنافقين وفضحهم بأوصافهم الخبيثة : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (التوبة:107).
__________
(1) النصيحة / 9-10 ) للشيخ عبد الرب تواب الدين
(2) الجامع لأحكام القران 16 /337(1/3)
وقال تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران:188) فعن أبي سعيد الخدري : أن رجالاً من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلَّفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدِم رسول الله اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فنزلت هذه الآية .
فهذه الخصال خصال اليهود والمنافقين : وهو أن يظهر الإنسان في الظاهر قولاً أو فعلاً وهو في الصورة التي ظهر عليها حسن ، ومقصوده بذلك : التوصل إلى غرض فاسد ، فيحمده على ما أظهر من ذلك الحسن ، ويتوصل هو به إلى غرضه الفاسد الذي هو أبطنه ، ويفرح هو بحمده على ذلك الذي أظهر أنه حسن ، فتتم له الفائدة وتُنَفَّذُ له الحيلة بهذا الخداع .
ومن كانت هذه همته فهو داخل في هذه الآية ولابد ، فهو متوعد بالعذاب الأليم.
ومثال ذلك : أن يريد الإنسان ذمَّ رجل وتنقصه وإظهار عيبه لينفر الناس عنه إما محبة لإيذائه ، أو لعداوته ، أو مخافة من مزاحمته على مال أو رئاسة ، أو غير ذلك من الأسباب المذمومة ، فلا يتوصل إلى ذلك إلا بإظهار الطعن فيه ، بسبب ديني مثل : أن يكون قد ردَّ قولاً ضعيفاً من أقوال عالم مشهور ، فيشيع بين من يعظِّم ذلك العالم ، أن فلاناً يُبغِضُ هذا العالم ويذمُّه ويطعن عليه فيغرُّ بذلك كل من يعظِّمه ، فيجمع هذا المظهر للنصح بين أمرين قبيحين محرَّمين :
... أحدهما : أن يحمل ردُّ العالم القول الآخر على البغض والطعن والهوى ، وقد يكون إنما أراد به النصح للمؤمنين ، وإظهار ما لا له كتمانه من العلم .
... والثاني : أن يظهر الطعن عليه ليتوصل بذلك إلى هواه وغرضه الفاسد في قالب النصح والذب عن علماء الشرع .(1/4)
وبمثل هذه المكيدة كان ظلم بني مروان وأتباعهم ، يستميلون الناس إليهم وينفِّرون قلوبهم عن علي بن أبي طالب والحسن والحسين وذريتهم رضي الله عنهم أجمعين .
وأنه لما قُتِل عثمان رضي الله عنه لم ترَ الأمة أحق من علي رضي الله عنه فبايعوه ، فتوصل من توصل إلى التنفير عنه بأن أظهر تعظيم قتل عثمان وقُبحه ، وهو في نفس الأمر كذلك ، فبادروا إلى قتاله ديانةً وتقرُّباً ، ثم إلى قتال أولاده رضوان الله عليهم ، واجتهد أولئك في إظهار ذلك وإشاعته على المنابر في أيام الجُمَع وغيرها من المجامع العظيمة ، حتى استقر في قلوب أتباعهم أن الأمر على ما قالوه ، وأن بني مروان أحق بالأمر من علي وولده لقربهم من عثمان وأخذهم بثأره ، فتوصلوا بذلك إلى تأليف قلوب الناس عليهم ، وقتالهم لعلي وولده من بعده ، وثبت بذلك لهم الملك واستوثق لهم الأمر .(1)
وبهذا تعرف أن النصيحة والتعيير كلا منهما ظاهرة حسن ، ولكن التعيير باطنه إرادة العذاب ولذلك كان الجزاء من جنس العمل لمن أراده قال تعالي )لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران:188)
وسيأتي معنا في آداب النصيحة علي الناصح ، أن ينزه عن ذلك ، ويخلص النية ، وينبغي علي المنصوح ألا يسئ الظن بالناصح ، إلا إذا دلت القرائن الواضحة علي فساد نيته ، كما نقدم في إظهار الله لغرض المنافقين .
ثالثا :. الفرق بين النصيحة والغيبة
__________
(1) الفرق بين النصيحة والتعيير / 10 – 11 بتصرف ) .(1/5)
لقد بين صلي الله عليه وسلم حد الغيبة المحرمة فقال : [ أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ . قِيلَ : أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ قَالَ إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ ](1).
وقال النووي في الأذكار تبعا للغزالي : الغيبة ذكر المرء بما يكره سواه كان ذلك في بدن الشخص ، أو دينه أو دنياه ، أو نفسه ، أو خلقه ، أو خلقه أو ماله أو ولده أو زوجته أو خادمه أو ثوبه أو حركته أو طلاقته أو عبوسته أو غير ذلك مما يتعلق به ، سواء ذكرته باللفظ أو بالإشارة والرمز (2)هـ
قال الأمام القرطبي رحمه الله : لا خلاف أن الغيبة من الكبائر ، وان من اغتاب أحد عليه أن يتوب إلي الله عز وجل (3)
ما تكون به الغيبة .
قال الأمام النووي رحمه الله : أن الغيبة ذكر الإنسان بما يكره ، سواء ذكرته بلفظك أو في كتابتك رمزت إليه ، أو أشرت إليه بعينك أو يدك أو رأسك ..
ومن ذلك : غيبة المتفقهين والمتعبدين ، فإنهم يعرضون بالغيبة تعريضا يفهم به كما يفهم بالصريح ، فيقال لأحدهم : كيف حال فلان ؟ فيقول : الله يصلحه ، الله يغفر لنا ، نسأل الله العافية ، نحمد الله الذي لم يبتلينا بالدخول علي الظلمة ، نعوذ بالله من الشر ، الله يعاقبنا من قلة الحياء ، الله يتوب علينا ، وهذه أمثلة ، وإلا فضابط الغيبة ، تفهيمك المخاطب نقص إنسان .اهـ (4) .
__________
(1) صحيح ] أخرجه مسلم ( 2589 ) من حديث أبي هريرة .
(2) الأذكار النووية ص 288 بتصرف
(3) الجامع لأحكام القران 16 /337
(4) الأذكار النووية ص 290 – 291(1/6)
وقال الشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- : ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتي تارة في قالب ديانة وصلاح ، فيقول : ليس لي عادة أن أذكر أحدا إلا بالخير ، ولا أحب الغيبة ولا الكذب ، وإنما أخبركم بأحواله ، ويقول : والله إنه مسكين أو رجل جيد ...... ومنهم من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر ، فيظهر في هذا الباب أشياء من زخارف القول ، وقصده غير ما أظهر ، والله المستعان . اهـ (1)
متى تباح الغيبة ؟ وهو المقصود من النصيحة .
تُبَاح الْغِيبَة لِغَرَضٍ شَرْعِيّ , وَذَلِكَ لِسِتَّةِ أَسْبَاب :
أَحَدهَا : التَّظَلُّم ; فَيَجُوز لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَتَظَلَّم إِلَى السُّلْطَان وَالْقَاضِي وَغَيْرهمَا مِمَّنْ لَهُ وِلَايَة أَوْ قُدْرَة عَلَى إِنْصَافه مِنْ ظَالِمه , فَيَقُول : ظَلَمَنِي فُلَان ، أَوْ فَعَلَ بِي كَذَا .
الثَّانِي : الِاسْتِغَاثَة عَلَى تَغْيِير الْمُنْكَر ، وَرَدّ الْعَاصِي إِلَى الصَّوَاب , فَيَقُول لِمَنْ يَرْجُو قُدْرَته : فُلَان يَعْمَل كَذَا فَازْجُرْهُ عَنْهُ وَنَحْو ذَلِكَ .
الثَّالِث : الِاسْتِفْتَاء بِأَنْ يَقُول لِلْمُفْتِي : ظَلَمَنِي فُلَان أَوْ أَبِي أَوْ أَخِي أَوْ زَوْجِي بِكَذَا فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ ؟ وَمَا طَرِيقِي فِي الْخَلَاص مِنْهُ وَدَفْع ظُلْمه عَنِّي ؟ وَنَحْو ذَلِكَ , فَهَذَا جَائِز لِلْحَاجَةِ , وَالْأَجْوَد أَنْ يَقُول فِي رَجُل أَوْ زَوْج أَوْ وَالِد وَوَلَد : كَانَ مِنْ أَمْره كَذَا , وَمَعَ ذَلِكَ فَالتَّعْيِين جَائِز لِحَدِيثِ هِنْد وَقَوْلهَا : إِنَّ أَبَا سُفْيَان رَجُل شَحِيح .
__________
(1) مجموع الفتاوى / 28 /237- 238)(1/7)
الرَّابِع : تَحْذِير الْمُسْلِمِينَ مِنْ الشَّرّ , وَذَلِكَ مِنْ وُجُوه : مِنْهَا جَرْح الْمَجْرُوحِينَ مِنْ الرُّوَاة , وَالشُّهُود , وَالْمُصَنِّفِينَ , وَذَلِكَ جَائِز بِالْإِجْمَاعِ , بَلْ وَاجِب صَوْنًا لِلشَّرِيعَةِ , وَمِنْهَا الْإِخْبَار بِعَيْبِهِ عِنْد الْمُشَاوَرَة فِي مُوَاصَلَته , وَمِنْهَا إِذَا رَأَيْت مَنْ يَشْتَرِي شَيْئًا مَعِيبًا أَوْ عَبْدًا سَارِقًا أَوْ زَانِيًا أَوْ شَارِبًا أَوْ نَحْو ذَلِكَ تَذْكُرهُ لِلْمُشْتَرِي إِذَا لَمْ يَعْلَمهُ نَصِيحَة , لَا بِقَصْدِ الْإِيذَاء وَالْإِفْسَاد , وَمِنْهَا إِذَا رَأَيْت مُتَفَقِّهًا يَتَرَدَّد إِلَى فَاسِق أَوْ مُبْتَدِع يَأْخُذ عَنْهُ عِلْمًا , وَخِفْت عَلَيْهِ ضَرَره , فَعَلَيْك نَصِيحَته بِبَيَانِ حَاله قَاصِدًا النَّصِيحَة , وَمِنْهَا أَنْ يَكُون لَهُ وِلَايَة لَا يَقُوم بِهَا عَلَى وَجْههَا لِعَدَمِ أَهْلِيَّته أَوْ لِفِسْقِهِ , فَيَذْكُرهُ لِمَنْ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَة لِيُسْتَدَلّ بِهِ عَلَى حَاله , فَلَا يَغْتَرّ بِهِ , وَيَلْزَم الِاسْتِقَامَة .
الْخَامِس : أَنْ يَكُون مُجَاهِرًا بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَته كَالْخَمْرِ وَمُصَادَرَة النَّاس وَجِبَايَة الْمُكُوس وَتَوَلِّي الْأُمُور الْبَاطِلَة فَيَجُوز ذِكْره بِمَا يُجَاهِر بِهِ , وَلَا يَجُوز بِغَيْرِهِ إِلَّا بِسَبَبٍ آخَر .
السَّادِس : التَّعْرِيف فَإِذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِلَقَبٍ كَالْأَعْمَشِ وَالْأَعْرَج وَالْأَزْرَق وَالْقَصِير وَالْأَعْمَى وَالْأَقْطَع وَنَحْوهَا جَازَ تَعْرِيفه بِهِ , وَيَحْرُم ذِكْره بِهِ تَنَقُّصًا وَلَوْ أَمْكَنَ التَّعْرِيف بِغَيْرِهِ كَانَ أَوْلَى . وَاَللَّه أَعْلَم . اهـ (1)
وبهذا تعلم أن هذه الحالات الست هي النصيحة ، وبغير ذلك تكون الغيبة .
__________
(1) شرح النووي على مسلم / 2589 )(1/8)
ثالثا : مشروعية النصيحة ، ومكانتها في الدين ، وأهميتها .
ثالثاً : مشروعية النصيحة ، ومكانتها في الدين ، وأهميتها .
1- إن النصيحة هي الدين وعليها مدار الإسلام كله .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ الدِّينُ النَّصِيحَةُ . قُلْنَا : لِمَنْ ؟ قَالَ : لِلَّهِ ، وَلِكِتَابِهِ ، وَلِرَسُولِهِ ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَعَامَّتِهِمْ ] (1).
قال النووي : هَذَا حَدِيث عَظِيم الشَّأْن ، وَعَلَيْهِ مَدَار الْإِسْلَام .. ، وَأَمَّا مَا قَالَهُ جَمَاعَات مِنْ الْعُلَمَاء : أَنَّهُ أَحَد أَرْبَاع الْإِسْلَام ، أَيْ أَحَد الْأَحَادِيث الْأَرْبَعَة الَّتِي تَجْمَع أُمُورَ الْإِسْلَام ، فَلَيْسَ كَمَا قَالُوهُ ، بَلْ الْمَدَارُ عَلَى هَذَا وَحْدَهُ ...، وَمَعْنَى الْحَدِيث : عِمَاد الدِّين وَقِوَامه النَّصِيحَة . كَقَوْلِهِ : الْحَجُّ عَرَفَة أَيْ عِمَاده وَمُعْظَمه عَرَفَة . (2)
2 – النصيحة هي الواجب الذي يشترط لنجاة أهل الأعذار من الجهاد .
( لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (التوبة:91) .
3- النصيحة هي خلاصة دعوة كل رسول .
قال الله تعالى ، عن صالح - عليه السلام - بعد أن دعى قومه ورفضوا دعوته ( فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) (الأعراف:79) ، وقال تعالى في سورة الشعراء ( كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ) (الشعراء:141) ، مما يبين أن دعوة كل رسول كانت لنصح قومه.
4- من عقوبة عدم النصح اللعن ، وتركه تشبه باليهود .
__________
(1) صحيح ] أخرجه ( مسلم / 55 ) من حديث تميم الداري .
(2) شرح مسلم للنووي / 55 )(1/1)
قال تعالى ( لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة: 78 - 79) .
كان دأبهم ألا يتناصحوا ، فلا ينهى أحد منهم غيره عن قبيح يفعله! وأن إتيانهم المنكر وعدم تناهيهم عنه لمن أقبح ما كانوا يفعلون.(1)
قال السعدي : وإنما كان السكوت عن المنكر - مع القدرة - موجبا للعقوبة ، لما فيه من المفاسد العظيمة .
5- يدخل فيها الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر:
قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) [آل عمران:110]، وقال تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [التوبة:71]
6- النصيحة فيها فرصة لمحاسبة النفس
فإنَّ الإنسان قد ينصح نفسه دون أن يحتاج إلى غيره، وكذلك الجماعة قد تنتصح نفسها؛ بل الدول قد تنتصح نفسها.
ولذلك قال عمر رضي الله عنه [ حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا؛ فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ](2).
__________
(1) تفسير المنتخب .
(2) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (2/52) بإسناد حسن .(1/2)
وعَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ : كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ قَالَ قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ قَالَ قُلْتُ نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا قَالَ أَبُو بَكْرٍ فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا ذَاكَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمْ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ](1) ، والمقصود أن حنظلة نصح نفسه وحاسبها حتى اتهم نفسه بالنفاق، وكذلك فعل أبو بكر.
__________
(1) صحيح ] أخرجه مسلم في ( 2750 ) من حديث حنظلة .(1/3)
يقول ابن أبي مليكة: [ أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل ](1) . هؤلاء هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وسار من بعدهم التابعون لهم بإحسان.
7- النصح مهم لكشف الأخطاء وسرعة علاجها:
إن النصح هو الكشف الطبي المتواصل الذي يكتشف المرض بسرعة، وبالتالي يعالج قبل أن يستفحل، ويصل إلى مرحلة الخطر أو فقدان الأمل في العلاج؛ ولذلك لابد من النصح.
8- النصح مشاركة من الجميع في الإصلاح
بحيث يصبح كل فرد في المجتمع له دوره ومجاله، ولا يغدو الناس مجرد قطعان تساق، وهي لا تفكر ولا تعي.
9- النصح احتفاظ بإنسانية الإنسان .
حيث يتأمل وينظر ويعمل عقله، ويراجع ما يعرفه من نصوص الشرع، ومن نصوص الكتاب والسنة، فإذا وجد أمرًا لا يليق من الناحية الشرعية، أو من الناحية العقلية، أو من ناحية المصلحة، فإنه لا يتوانى عن النقد الصحيح البناء؛ وذلك لأنه يعلم أنه إن سكت فإنه يكون شريكًا في الإثم .
10- النصح مرآة تكشف عيوب النفس
كما أن من جوانب أهمية النصح أنه يجلي للإنسان وللأمة، وللجماعة وللدولة صفة نفسها وصورتها، فهو مرآة حقيقية لا زيف فيها ولا تزيُّد ولا تنقص.
وربما لا يستطيع الكثير من الناس أن يعرفوا عيوب أنفسهم؛ وذلك لأن الإنسان يمارس عيبه أحيانًا بشكل طبعي، وربما يعتقد أحيانًا صوابه ولا يرى أنه خطأ، فكم من إنسان يقع في الخطأ وهو يظن أنه صواب، فيحتاج إلى من يبصِّره بهذا الخطأ، ويقول له: أخطأت والصواب كذا وكذا.
__________
(1) أخرجه البخاري في الصحيح تعليقًا (1/26)، وأخرجه متصلاً في التاريخ الكبير (5/137) في ترجمة عبد الله بن أبي مليكة، وكذلك أخرجه محمد بن نصر في تعظيم قدر الصلاة (688) .(1/4)
رابعا ً: لماذا لا نقبل النصيحة ؟
رابعاً : لماذا لا نقبل النصيحة ؟
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ [ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ فَقَالَ أَلَا تُصَلُّونَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قُلْتُ لَهُ ذَلِكَ ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُدْبِرٌ يَضْرِبُ فَخِذَهُ وَيَقُولُ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ](1)
قال الحافظ :
وَفِيهِ أَنَّ الْإِنْسَان طُبِعَ عَلَى الدِّفَاع عَنْ نَفْسه بِالْقَوْلِ وَالْفِعْل , وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُجَاهِد نَفْسه أَنْ يَقْبَل النَّصِيحَة وَلَوْ كَانَتْ فِي غَيْر وَاجِب .اهـ.
والإنسان بطبيعته يحب المدح ويكره الذم، وقد قال أَبو ذَرٍّ – رضي الله تعالى عنه - قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ الْعَمَلَ مِنْ الْخَيْرِ وَيَحْمَدُهُ النَّاسُ عَلَيْهِ قَالَ تِلْكَ عَاجِلُ بُشْرَى الْمُؤْمِنِ ](2)
فلا تثريب على الإنسان أن يكون بطبعه يحب أن يمدح، أو على أقل تقدير لا يحب أن يذم؛ وذلك لأن في النقد نسبة الخطأ إلى الإنسان، وكذلك الذم فيه نسبة الخطأ إليه، والخطأ مكروه فطرة، فكل إنسان بفطرته يكره أن يخطئ، ويحب أن يصيب دائمًا.
__________
(1) متفق عليه ] أخرجه ( البخاري / 1127 ) ، و( مسلم / 1127 ) من حديث على بن أبي طالب .
(2) صحيح ] أخرجه ( مسلم / 2642 ) من حديث أبي ذر .(1/1)
ولكن ما دام أن الخطأ مكتوب على الإنسان لا محالة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [ كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ مَسْعَدَةَ عَنْ قَتَادَةَ ](1)، فما دمت لا يمكن أن تنفك عن الخطأ فإن المؤمن يفضّل أن يكاشف بالخطأ الآن ويبيَّن له، فهذا أحب إليه من السكوت، الذي تكون عقوبته سوءًا عليه في الدنيا والآخرة.
إنه يدري أن ثمة اعترافاً سوف يكون منه في الدار الآخرة بالأخطاء كلها، والمنافقون والمشركون والكفار كلهم سوف يعترفون بأخطائهم يوم القيامة اضطراراً: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النور:24] (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) [فصلت:22]، فهو اعتراف مفضوح لابد لهم منه.
لذلك يقول الأشهاد يوم القيامة: (هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود:18] فيعترفون بالخطأ؛ بل يفضحون بالخطأ فضحا على رؤوس الأشهاد بعدما كانوا ينكرونه، ويقولون: (وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام:23] ويقولون كما قال الله عز وجل: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جميعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ) [المجادلة:18]، فيُفضحون على رؤوس الأشهاد يوم القيامة.
__________
(1) حسن ] أخرجه ( الترمذي / 2499 ) من حديث أنس ، وحسنه الشيخ الألباني في ( المشكاة / ح2341 ) .(1/2)
أما المؤمن، فلأنه كان يعترف بخطئه في الدنيا، ويرجع عنه قريبًا ويحب أن يبيّن له؛ فإن الله تعالى يستره في الدار الآخرة، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم – فِي النَّجْوَى [ يُدْنو الْمُؤْمِنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُ فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ أَعْرِفُ قَالَ فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ فَيُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيُنَادَى بِهِمْ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ ٍ](1)
وما دام أن الخطأ لابد منه، فإن قبول النصح من الكمال البشري ، وإذا كان النقص مركبًا فيه وهو جزء من طبيعته، فمن الكمال أن يعرف هذا النقص، ويعمل على تلافيه.
مثال: شخصان كلاهما ناقص؛ لأن كلاً منهما بشر، فمعناه أن النقص موجود في الشخص الأول، وموجود في الشخص الثاني ولابد ، لكن الشخص الأول مصرّ لا يعترف بالنقص؛ بل ينكره، أو يعرفه ولكنه لا يعترف به، ولا حتى أمام نفسه، فهو يغالط نفسه ودائماً يدَّعي الكمال، فهذا الشخص عنده نقص من جهتين:
الجهة الأولى: النقص الفطري الموجود فيه، والجهة الثانية: إصراره على الخطأ، وعدم اعترافه به.
وأما الشخص الآخر، فعنده النقص الفطري الموجود في البشر جميعًا، ولكنه يعرف هذا النقص، ويعترف به، ويسعى إلى معالجته، فهذا -لاشك- أكمل وأعظم؛ لأن نقصه من جهة واحدة فقط، وهو النقص الأصلي الفطري، وله في مقابل هذا النقص كمال، وهو الشجاعة، والقدرة على الاعتراف، وكذلك العلم بهذا النقص، والعمل على إزالته.
أسباب الخوف من النصح:
__________
(1) متفق عليه ] أخرجه ( البخاري / 2441 ) ، و( مسلم / 2768 ) من حديث ابن عمر .(1/3)
أولاً: نجد كثيرًا من الناس يخافون من النصح؛ لأنهم يعدّون النصح نوعًا من التنقص، والبحث عن العيوب، وأنه لا يصدر إلا من حاسد، أو حاقد، وهذا المفهوم يجب تغييره، وأن يفهم الناس أن الذي ينصحك هو من يحبك؛ لأن صديقك من صدَقك لا من صدَّقك.
ثانيًا: ومنهم من يخاف من النصح لأن بيته من زجاج، فهو يحارب النصح ، تجنبًا للفضيحة، وسترًا على الهفوات والجرائم التي ارتكبها، سواء أكان هذا النصح في ذاته أو في جرائمه ؛ لأنه يعرف أن بناءه من زجاج، وأنه عرضة للفضيحة في أي وقت، ولذلك يعدّ النصح قضاء على مصالحه .
فهو إن كان حاكمًا عدّ النصح تشكيكًا للشعوب في جدارته وصلاحيته، وإن كان عالمًا عدّ النصح تشكيكًا للطلاب في علمه وفضله، وإن كان داعية عدّ النصح تشكيكًا للأتباع والمريدين في جدارته وصلاحيته وهكذا.
أما النبلاء والفضلاء و العلماء فلم يزالوا يستدلون على جدارة الشخص وعظمته ورجولته وكماله، بقدرته على الاعتراف بالخطأ والنقص، وقدرته أيضًا على التراجع عن ذلك بكل أريحية وسرور نفس وبدون أية حساسية، كما يستدلون على سفاهة إنسان بإصراره على الخطأ، ورفضه الاعتراف به.
إن آدم وحواء عليهما السلام، وقعا في الخطأ وأكلا من الشجرة، لكن بعد الخطأ: (قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 23]، ولذلك استحقا الرحمة، فرحمهما الله عز وجل وجعل مآلهما إلى الجنة، وفي مقابل ذلك فإن إبليس عصى الله تعالى ورفض السجود لآدم و(قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف:12]، فأصابه الكبرياء والغرور؛ ولذلك رفض السجود، فعاقبه الله عز وجل بقوله: (فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ.وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) [الحجر: 34،35].(1/4)
وكما أن لآدم ذرية، فلإبليس أيضًا أتباع وذرية، فمن الناس من يفعل الخطأ فيندم ويستغفر، ويقول: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) [القصص:16].
ومنهم من يفعل الخطأ ثم يستمرئه ويعجب به؛ بل يتحول إلى إنسان يبحث عن مخرج أو تصحيح يفلسف به هذا الخطأ؛ حتى يصبح هذا الخطأ صوابًا!
حتى إن بعض دول العالم اليوم أصبحت تبحث بحثًا جادًّا -كما يقولون- عن إعادة تعريف الجريمة؛ لقد وجدوا مثلاً أن الجرائم كثرت واشتهرت، فقالوا: إذن لابد أن نعيد النظر في تعريف الجرائم، فنبحث مثلاً عن الزنا هل هو جريمة؟! واللواط هل هو جريمة؟! كل هذه الأشياء أصبحوا يبحثون عن تعريف جديد لها؛ لإخراج هذه الأشياء أو بعضها من دائرة الجرائم؛ لأن السجون عندهم امتلأت، ولم يعد في إمكانهم أن يضعوا فيها أحدًا أكثر من ذلك: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) [طه: 124].
ومن المسلمين اليوم من يلوي أعناق النصوص، أو يبحث عن فُتيا أو رأي شاذ يدعم به خطأ وقع فيه.
وما أجمل أن يقول الإنسان: أنا أخطأت، وأسأل الله أن يغفر لي ويتوب علي .
طرق يمارسها البعض للهروب من الأخطاء
نحن نمارس - في بعض الأحيان - هروبًا من الأخطاء بطرائق مختلفة؛ لأننا لا نريد النصح ولا نحبه. ومن ذلك:
الطريقة الأولى:
أن نحيل إلى الصدفة، ونتجاهل السنن الكونية، فإذا وقعنا في خطأ أحلنا ذلك على الصدفة، أو على ظروف طارئة! ونسينا دورنا نحن في هذا الخطأ، ونسينا قول الله تعالى: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت:46]، ونسينا قول الله تعالى: (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى:30]، وقول الله عز وجل: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عمران: 165].
الطريقة الثانية:
تجاهل الخطأ والتقليل من شأنه وتبريره، أو حتى اعتباره صوابًا، فلا نعترف أن هذا خطأ؛ بل نقول إنه صواب ونصرّ عليه.
الطريقة الثالثة:(1/5)
هي الإحالة إلى القضاء والقدر، ونحن نعرف أن القضاء والقدر والاحتجاج به لم يُعفِ أبانا آدم عليه السلام من الاعتراف بخطئه: (قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف:23] .
الطريقة الرابعة:
هي أن نلقي باللوم على الآخرين، ونخرج نحن من دائرة المسؤولية .
الطريقة الخامسة:
تفسير الخطأ تفسيرًا هروبيًّا، وذلك كمن يفسر الفشل بأنه ابتلاء من الله تعالى، ويسوق الآيات الواردة في الابتلاء والاختبار، ولا يقول: ما سبب ما حصل؟! هل سببه خطأ مني، أم تقصير في اتخاذ الأسباب مثلاً؟ وكمن يفسر العجز بأنه نوع من الصبر، وكمن يفسر الجبن مثلاً بأنه نوع من الحكمة، وهكذا.(1/6)
خامساً : أنواع النصيحة وحكم كل نوع .
ثالثاً : أنواع النصيحة وحكم كل نوع
من الممكن أن نقسم النصيحة من حيثيات أربعة .
أولا : تنقسم النصيحة من حيث طريقتها إلى نصيحة بالقول و بالعمل .
فقد تقدم معنا في الحديث [ الدين النصحية ] ، قَالَ اِبْن بَطَّال - رَحِمَهُ اللَّه - فِي هَذَا الْحَدِيث : أَنَّ النَّصِيحَة تُسَمَّى دِينًا وَإِسْلَامًا وَأَنَّ الدِّين يَقَع عَلَى الْعَمَل كَمَا يَقَع عَلَى الْقَوْل .اهـ (1)
ثانيا : وتنقسم النصيحة من حيث المؤدية إليه : إلى نصيحة النفس والذات ، ونصيحة الغير .
النوع الأول : نصيحة النفس ، وهو ما ذكر في الحديث [ لِلَّهِ , وَلِكِتَابِهِ , وَلِرَسُولِهِ ] .
أَمَّا النَّصِيحَة لِلَّهِ تَعَالَى :
فَمَعْنَاهَا مُنْصَرِفٌ إِلَى الْإِيمَان بِهِ , وَنَفْيِ الشَّرِيكِ عَنْهُ , وَتَرْكِ الْإِلْحَاد فِي صِفَاته وَوَصْفِهِ بِصِفَاتِ الْكَمَال وَالْجَلَال كُلّهَا , وَتَنْزِيهه سُبْحَانه وَتَعَالَى مِنْ جَمِيع النَّقَائِص , وَالْقِيَام بِطَاعَتِهِ , وَاجْتِنَاب مَعْصِيَته , وَالْحُبّ فِيهِ , وَالْبُغْض فِيهِ , وَمُوَالَاة مَنْ أَطَاعَهُ , وَمُعَادَاة مَنْ عَصَاهُ , وَجِهَاد مَنْ كَفَرَ بِهِ , وَالِاعْتِرَاف بِنِعْمَتِهِ , وَشُكْره عَلَيْهَا , وَالْإِخْلَاص فِي جَمِيع الْأُمُور , وَالدُّعَاء إِلَى جَمِيع الْأَوْصَاف الْمَذْكُورَة , وَالْحَثّ عَلَيْهَا , وَالتَّلَطُّف فِي جَمْع النَّاس , أَوْ مَنْ أَمْكَنَ مِنْهُمْ عَلَيْهَا .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ رَحْمه اللَّه : وَحَقِيقَةُ هَذِهِ الْإِضَافَة رَاجِعَة إِلَى الْعَبْد فِي نُصْحه نَفْسه , فَاَللَّه تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ نُصْحِ النَّاصِح . (2)
وَأَمَّا النَّصِيحَة لِكِتَابِهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى :
__________
(1) شرح مسلم للنووي /ح 55 )
(2) شرح مسلم للنووي /ح 55 )(1/1)
فَالْإِيمَان بِأَنَّهُ كَلَام اللَّه تَعَالَى وَتَنْزِيله , لَا يُشْبِههُ شَيْءٌ مِنْ كَلَام الْخَلْق , وَلَا يَقْدِر عَلَى مِثْله أَحَد مِنْ الْخَلْق , ثُمَّ تَعْظِيمه وَتِلَاوَته حَقّ تِلَاوَته , وَتَحْسِينُهَا وَالْخُشُوع عِنْدهَا , وَإِقَامَة حُرُوفه فِي التِّلَاوَة , وَالذَّبّ عَنْهُ لِتَأْوِيلِ الْمُحَرِّفِينَ وَتَعَرُّض الطَّاعِنِينَ , وَالتَّصْدِيق بِمَا فِيهِ , وَالْوُقُوف مَعَ أَحْكَامه , وَتَفَهُّم عُلُومه وَأَمْثَاله , وَالِاعْتِبَار بِمَوَاعِظِهِ , وَالتَّفَكُّر فِي عَجَائِبه , وَالْعَمَل بِمُحْكَمِهِ , وَالتَّسْلِيم لِمُتَشَابِهِهِ , وَالْبَحْث عَنْ عُمُومه وَخُصُوصه وَنَاسِخه وَمَنْسُوخه , وَنَشْر عُلُومه , وَالدُّعَاء إِلَيْهِ وَإِلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَصِيحَته . (1)
قلت : ونفس ما قاله الخطابي فيما ختم به النصيحة لله ، يقال هنا أيضا ، فإن الله – سبحانه وتعالى – قد تكفل بحفظ كتابه ، فكلام الله صفته ، ولن يستطيع أحد أن يضر بها قال تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9) .
وَأَمَّا النَّصِيحَة لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
__________
(1) شرح مسلم للنووي /ح 55 )(1/2)
فَتَصْدِيقه عَلَى الرِّسَالَة , وَالْإِيمَان بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ , وَطَاعَته فِي أَمْرِهِ وَنَهْيه , وَنُصْرَتِهِ حَيًّا وَمَيِّتًا , وَمُعَادَاة مَنْ عَادَاهُ , وَمُوَالَاة مَنْ وَالَاهُ , وَإِعْظَام حَقّه , وَتَوْقِيره , وَإِحْيَاء طَرِيقَته وَسُنَّته , وَبَثّ دَعَوْته , وَنَشْرِ شَرِيعَته , وَنَفْي التُّهْمَة عَنْهَا , وَاسْتِثَارَة عُلُومهَا , وَالتَّفَقُّه فِي مَعَانِيهَا , وَالدُّعَاء إِلَيْهَا , وَالتَّلَطُّف فِي تَعَلُّمهَا وَتَعْلِيمهَا , وَإِعْظَامهَا , وَإِجْلَالهَا , وَالتَّأَدُّب عِنْد قِرَاءَتهَا , وَالْإِمْسَاك عَنْ الْكَلَام فِيهَا بِغَيْرِ عِلْم , وَإِجْلَال أَهْلهَا لِانْتِسَابِهِمْ إِلَيْهَا , وَالتَّخَلُّق بِأَخْلَاقِهِ , وَالتَّأَدُّب بِآدَابِهِ , وَمَحَبَّة أَهْل بَيْته وَأَصْحَابه , وَمُجَانَبَة مَنْ اِبْتَدَعَ فِي سُنَّته , أَوْ تَعَرَّضَ لِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابه , وَنَحْو ذَلِكَ . (1)
قلت : ونفس ما قاله الخطابي فيما ختم به النصيحة لله ، يقال هنا أيضا ، فإن الرسول – صلى الله عليه وسلم – أيضا لا يحتاج لكل هذا كما قال تعالى ( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر:51) ، إنما يحتاجه الإنسان لنفسه .
حكم هذا النوع
إن هذا النوع من النصح هو الإيمان الذي جاء في الحديث [ الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ](2) ، ولا ريب أن هذا من الإيمان الواجب الذي لا ينجو العبد في الدنيا والآخرة إلا به ، وستجد ذلك مبسوطا في إن شاء الله في ( سلسلة تبسيط العقائد الإسلامية ) .
والذي يهمنا هنا هو أهمية نصح الإنسان لنفسه أولا قبل نصحه لغيره ، وسيأتي تفصيل ذلك في آداب النصيحة .
__________
(1) شرح مسلم للنووي /ح 55 )
(2) متفق عليه ] أخرجه ( البخاري / 4777 ) ، و ( مسلم / 9 ) من حديث أبي هريرة .(1/3)
وهذا ما يسمى بالنقد الذاتي، فيكتشف خطأه بنفسه، ويحاسب نفسه بنفسه، بكثرة المراجعة والتحري واكتشاف الخطأ، ومن ثم إشهار الرجوع عن هذا الخطأ والاعتذار عنه، خاصة إذا كان خطأ معلنًا كفتوى شرعية، أو اجتهاد، أو منكر معلن وقع فيه هذا الإنسان، سواء وقع في هذا فرد أو جماعة أو دولة، فيكتشفون الخطأ بأنفسهم ويصححونه.
ونصح الإنسان لنفسه مهم جدًّا؛ لأنه دليل على شجاعة الإنسان، وتحرره من عبوديته لنفسه، واستعداده للتغيير والإصلاح، أما النصح من الآخرين فإنك قد تقبله أو لا تقبله، وقد تصر على ما أنت عليه وتقول: هذا أمر هين ونحو ذلك، وأما ما كان من نفسك فلديك استعداد أصلي للقبول.
أهمية نصح الإنسان لنفسه: تكمن أهميته في عدة أمور:
أولاً: أنه دلالة على شجاعة الإنسان، وقدرته على التصحيح.
ثانيًا: أن الإنسان في بعض الأحيان أقدر على ملاحظة نفسه، وربما يكون هناك أمور لا يستطيع الآخرون أن يدركوها؛ ولكن أنت تدركها. وعلى سبيل المثال: مقاصدك الداخلية، ونياتك، وأسرارك، وخواطرك لا يدركها الآخرون، وذلك أن في النفس جوانب لا يملك الناس أن ينتقدوك فيها؛ ولكنك أنت تملك أن تكتشفها بنفسك وتصححها.
ثالثًا: كما أن نصح الإنسان لذاته، أو نصح الأمة أو الجماعة أو الدولة لذاتها، يوجه طاقة الإنسان وجهة سليمة، بحيث يشغله عيبه عن عيوب الناس، أما أن يشتغل بعيب الناس وينسى عيبه، فهذا دليل على مرض مستتر موجود في ذاته.
النوع الثاني : نصيحة الغير ، وهو ما ذكر في الحديث [ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ ]
وأئمة المسلمين هم الأمراء ، والعلماء .
وَأَمَّا النَّصِيحَة لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ :(1/4)
فَمُعَاوَنَتهمْ عَلَى الْحَقّ , وَطَاعَتُهُمْ فِيهِ , وَأَمْرُهُمْ بِهِ , وَتَنْبِيههمْ وَتَذْكِيرهمْ بِرِفْقٍ وَلُطْفٍ , وَإِعْلَامهمْ بِمَا غَفَلُوا عَنْهُ وَلَمْ يَبْلُغهُمْ مِنْ حُقُوق الْمُسْلِمِينَ , وَتَرْك الْخُرُوج عَلَيْهِمْ , وَتَأَلُّف قُلُوب النَّاس لِطَاعَتِهِمْ .
وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَاد بِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ الْخُلَفَاء وَغَيْرهمْ مِمَّنْ يَقُوم بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَصْحَاب الْوِلَايَاتِ . وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور . وَحَكَاهُ أَيْضًا الْخَطَّابِيُّ . ثُمَّ قَالَ : وَقَدْ يُتَأَوَّل ذَلِكَ عَلَى الْأَئِمَّة الَّذِينَ هُمْ عُلَمَاء الدِّين , وَأَنَّ مِنْ نَصِيحَتهمْ قَبُول مَا رَوَوْهُ , وَتَقْلِيدهمْ فِي الْأَحْكَام , وَإِحْسَان الظَّنِّ بِهِمْ . (1)
وَأَمَّا نَصِيحَة عَامَّة الْمُسْلِمِينَ :
__________
(1) شرح مسلم للنووي /ح 55 )(1/5)
وَهُمْ مَنْ عَدَا وُلَاة الْأَمْر – من العلماء والأمراء - فَإِرْشَادهمْ لِمَصَالِحِهِمْ فِي آخِرَتهمْ وَدُنْيَاهُمْ , وَكَفّ الْأَذَى عَنْهُمْ فَيُعَلِّمهُمْ مَا يَجْهَلُونَهُ مِنْ دِينهمْ , وَيُعِينهُمْ عَلَيْهِ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْل , وَسِتْر عَوْرَاتهمْ , وَسَدّ خَلَّاتهمْ , وَدَفْع الْمَضَارّ عَنْهُمْ , وَجَلْب الْمَنَافِع لَهُمْ , وَأَمْرهمْ بِالْمَعْرُوفِ , وَنَهْيهمْ عَنْ الْمُنْكَر بِرِفْقٍ وَإِخْلَاصٍ , وَالشَّفَقَة عَلَيْهِمْ , وَتَوْقِير كَبِيرهمْ , وَرَحْمَة صَغِيرهمْ , وَتَخَوُّلهمْ بِالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَة , وَتَرْك غِشِّهِمْ وَحَسَدِهِمْ , وَأَنْ يُحِبَّ لَهُمْ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنْ الْخَيْر , وَيَكْرَه لَهُمْ مَا يَكْرَه لِنَفْسِهِ مِنْ الْمَكْرُوه , وَالذَّبّ عَنْ أَمْوَالهمْ وَأَعْرَاضهمْ , وَغَيْر ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالهمْ بِالْقَوْلِ وَالْفِعْل , وَحَثّهمْ عَلَى التَّخَلُّق بِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنْوَاع النَّصِيحَة , وَتَنْشِيط هَمِّهِمْ إِلَى الطَّاعَات . وَقَدْ كَانَ فِي السَّلَف رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ مَنْ تَبْلُغ بِهِ النَّصِيحَة إِلَى الْإِضْرَار بِدُنْيَاهُ . وَاَللَّه أَعْلَم . هَذَا آخِر مَا تَلَخَّصَ فِي تَفْسِير النَّصِيحَة . (1)
حكم هذا النوع من النصيحة .
الأصل في النصيحة الوجوب : لقول اللَّهُ تَعَالَى ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ )(المائدة: من الآية2) وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - [ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ أَوْ قَالَ لِجَارِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ](2)
__________
(1) شرح مسلم للنووي /ح 55 )
(2) متفق عليه] أخرجه ( البخاري / 13 ) ، و( مسلم / 45 ) من حديث أنس .(1/6)
وظَاهِرَ هَذَا الْحَدِيثِ أَدُلُّ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَقْصُودِ الَّذِي هُوَ وُجُوبُ النُّصْحِ حَيْثُ نَفَى الْإِسْلَامَ مَرَّتَيْنِ فِيمَنْ تَرَكَ النُّصْحَ ، وقوله { إنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ } ) وَكَرَّرَهُ فِي رِوَايَةٍ ثَلَاثًا فَقِيلَ التَّكْرِيرُ دَلِيلُ الْوُجُوبِ فَتَأَمَّلْ . (1)
أقول : إن النصيحة لا تخرج عن كونها ، فرض عين أو على الكفاية ، أو مندوبة ، أو حرام .
فتكون حراما :
إذا لم يتأدب الناصح بآدابها الواجبة ، كأن يقصد بها الإفساد ، أو يسعى للتجسس على المنصوح ، أو ينصحه بما ليس فيه ، أو ... ، كما ستأتي الآداب في عنوان الباب القادم .
وتكون فرض عين في حالات :
1- إذا استنصحك أخوك .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : { حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ : إذَا لَقِيته فَسَلِّمْ عَلَيْهِ , وَإِذَا دَعَاك فَأَجِبْهُ , وَإِذَا اسْتَنْصَحَك فَانْصَحْهُ , وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ , وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ , وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ } رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
قَوْلُهُ " وَإِذَا اسْتَنْصَحَك " أَيْ طَلَبَ مِنْك النَّصِيحَةَ " فَانْصَحْهُ " دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ نَصِيحَةِ مَنْ يَسْتَنْصِحُ وَعَدَمِ الْغِشِّ لَهُ .(2)
2- عند رؤية المنكر الذي سكت عنه الناس ، وعلمته أنت ، بحيث لا يترتب عليه منكر أكبر .
لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – [ مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ ] (3)
__________
(1) البريقة المحمودية / 2 / 250 )
(2) سبل السلام / 2 / 613 )
(3) صحيح ] أخرجه ( مسلم / 49 ) من حديث أبي سعيد .(1/7)
فقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( فَلْيُغَيِّرْهُ ) فَهُوَ أَمْر إِيجَابٍ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّة . وَقَدْ تَطَابَقَ عَلَى وُجُوب الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر الْكِتَاب وَالسُّنَّة وَإِجْمَاعُ الْأُمَّة وَهُوَ أَيْضًا مِنْ النَّصِيحَة الَّتِي هِيَ الدِّين . (1)
فَهِيَ وَاجِبَةٌ طَلَبُوا ذَلِكَ أَمْ لَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الدِّينُ النَّصِيحَةُ . قُلْنَا لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ }.(2)
3 – عند علمك بالخطر الذي لا يعلمه غيرك ، ولا يتفطن له إلا أنت قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ..) (المائدة:67) ، فالنبي – صلى الله عليه وسلم – هو وحده الذي كان يعلم هذا الخير ، ولذا تعين عليه .
قال النووي : قَدْ يَتَعَيَّن كَمَا إِذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَعْلَم بِهِ إِلَّا هُوَ أَوْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِزَالَته إِلَّا هُوَ , وَكَمَنْ يَرَى زَوْجَته أَوْ وَلَده أَوْ غُلَامه عَلَى مُنْكَر أَوْ تَقْصِير فِي الْمَعْرُوف . (3)
4- عندما تكون قدوة ينظر إليك الناس ، ويقتدون بك ، واشهر مثال على ذلك فعل الإمام أحمد في فتنة خلق القرآن .
وتكون فرض على الكفاية :
1- ذا قام من تعينت عليه بالكفاية ، فإن قاموا بواجبهم ورأيت أن ذلك لم يكف في النصح ، فيتعين عليك أيضا .
قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ : وَالنَّصِيحَةُ فَرْضُ كِفَايَةٍ يُجْزِئُ فِيهَا مَنْ قَامَ بِهَا وَتَسْقُطُ عَنْ الْبَاقِينَ . (4)
__________
(1) شرح مسلم للنووي /ح 55 )
(2) الشرح الصغير مع حاشية الصاوي / 4 / 742 )
(3) شرح مسلم للنووي /ح 55 )
(4) سبل السلام / 2 / 696 )(1/8)
قال النووي : ثُمَّ إِنَّ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر فَرْض كِفَايَة إِذَا قَامَ بِهِ بَعْض النَّاس سَقَطَ الْحَرَج عَنْ الْبَاقِينَ , وَإِذَا تَرَكَهُ الْجَمِيع أَثِمَ كُلّ مَنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ بِلَا عُذْرٍ وَلَا خَوْف .(1)
ولا تسقط النصيحة الواجبة على الأعيان ، أو على الكفاية حتى إذا ظن عدم الإفادة
قَالَ الْعُلَمَاء رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ : وَلَا يَسْقُط عَنْ الْمُكَلَّف الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر لِكَوْنِهِ لَا يُفِيد فِي ظَنِّهِ بَلْ يَجِب عَلَيْهِ فِعْلُهُ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَع الْمُؤْمِنِينَ . وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَمْر وَالنَّهْي لَا الْقَبُول . وَكَمَا قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : )مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ )(المائدة: من الآية99) وَمَثَّلَ الْعُلَمَاءُ هَذَا بِمَنْ يَرَى إِنْسَانًا فِي الْحَمَّام أَوْ غَيْره مَكْشُوفَ بَعْضِ الْعَوْرَةِ وَنَحْو ذَلِكَ . وَاَللَّه أَعْلَم . (2)
الرد على من أنكر وجوب النصيحة
__________
(1) شرح مسلم للنووي /ح 55 )
(2) شرح مسلم للنووي /ح 55 )(1/9)
وَأَمَّا قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ : ( عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)(المائدة: من الآية105) فَلَيْسَ مُخَالِفًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ لِأَنَّ الْمَذْهَب الصَّحِيح عِنْد الْمُحَقِّقِينَ فِي مَعْنَى الْآيَة أَنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ مَا كُلِّفْتُمْ بِهِ فَلَا يَضُرُّكُمْ تَقْصِير غَيْركُمْ مِثْل قَوْله تَعَالَى : (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)(الأنعام: من الآية164) وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمِمَّا كُلِّفَ بِهِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَر , فَإِذَا فَعَلَهُ وَلَمْ يَمْتَثِل الْمُخَاطَب فَلَا عَتْبَ بَعْد ذَلِكَ عَلَى الْفَاعِل لِكَوْنِهِ أَدَّى مَا عَلَيْهِ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْأَمْر وَالنَّهْي لَا الْقَبُول . وَاَللَّه أَعْلَم . (1)
وتكون مندوبة :
1- إذا قام بها من تعينت عليه ، أو قام بها من يحقق الكفاية .
2- إذا خشي الأذى على نفسه : وَالنَّصِيحَةُ لَازِمَةٌ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ الْبَشَرِيَّةِ إذَا عَلِمَ النَّاصِحُ أَنَّهُ يُقْبَلُ نُصْحُهُ وَيُطَاعُ أَمْرُهُ وَأَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ الْمَكْرُوهَ فَإِنْ خَشِيَ أَذًى فَهُوَ فِي سَعَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .(2)
3- النُّصْحُ بِغَيْرِ طَلَبٍ مَنْدُوبٌ ; لِأَنَّهُ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى الْخَيْرِ وَالْمَعْرُوفِ .(3) ، ويشهد لذلك أيضا نصح موسى عليه السلام ، لنبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – بأن يطلب من ربه التخفيف ، في رحلة المعراج .
ولذلك ينبغي أن نحرض الجميع على تهيئة الفرص للنصح ؛ حتى لا يغيب النصح ، أو يستحي منه الآخرون، ينبغي أن تتاح الفرصة للنقد البناء الصحيح الهادف بالوسيلة الصحيحة، وبالأسلوب المناسب، وبعيدًا عن أساليب الجرح، أو التنقص، أو سوء الظن، أو غير ذلك.
__________
(1) شرح مسلم للنووي /ح 55 )
(2) سبل السلام / 2 / 696 )
(3) سبل السلام / 2 / 613 )(1/10)
لكن لو فرض أن النصح كان بأسلوب غير مناسب، فإن هذا لا يمنع أبدًا من قبول النصيحة؛ فليس الجميع قادرين على إتقان قواعد النقد وأساليبه وطرائقه.
وإذا كنا نعرف أن المسلم للمسلم كاليدين تغسل إحداهما الأخرى؛ فنحن نعرف أن اليد قد يكون فيها أحيانًا نوع من الخشونة، فلا يمنع هذا من أن تغسل اليد الأخرى وفيها نوع من الخشونة، وكذلك أخوك المسلم ينتقدك، أو يصحح خطأك -ولو كان فيه شيء من الخشونة- فلا ينبغي أن تتردد في قبول هذا النصح .
ثالثا : تنقسم النصيحة من حيث التخصيص والتعميم ، إلى : نصح عام ، ونصح خاص .
أما النصح العام :
هو نقد المظاهر المنحرفة دون تخصيص، ودون أن نسمي أحدًا.
فتقول - مثلاً-: من الناس من يفعل كذا، ما بال أقوام يفعلون كذا؟، وفي القرآن كثير من هذا، ومن ذلك قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [البقرة:204] وقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ) [الحج:11] وقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ) [البقرة:8] وقد ورد كثير من هذا في سورة التوبة: كقوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) [التوبة:49]، كقوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ) [التوبة: 58]، كقوله تعالى: (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ) [التوبة:76]، وجاء الحديث في القرآن الكريم مستفيضًا عن هؤلاء. فهذا نصح عام: نقد المظاهر المنحرفة أو الأخطاء دون تحديد أصحابها.
النصح الخاص: وهو نصح الأشخاص، ولسنا نعني بالأشخاص الأفراد فقط ، فقد يكون الشخص المراد عبارة عن شخص معنوي -دولة، أو جماعة، أو مؤسسة-، وقد يكون فردًا بعينه.(1/11)
وثمة كثيرون يهتمون بالنصح العام، ولا يهتمون بالنصح الخاص، ويقولون لا داعي له، والواقع أنه لابد من الاثنين معًا؛ لأننا حين نتحدث عن مظاهر الانحراف عند الناس بصفة العموم، فإن كثيرًا منهم قد يظن أنه ليس المقصود بهذا النصح، وبالتالي فإنه لا يسعى إلى تغيير ما به من أخطاء. وخير مثال على ذلك، أننا إذا استمعنا إلى محاضرة أو خطبة فيها نقد لبعض الأخطاء، وكان هذا النصح عامًّا، فإننا قد نظن أن المخاطب غيرنا؛ ولذلك لابد - في كثير من الأحيان - من النقد التشخيصي المباشر، دون حاجة -بطبيعة الحال- إلى ذكر أسماء إلا بقدر الحاجة إلى ذلك، وهذا النصح لابد منه؛ لأنه أقرب إلى تحصيل المصلحة، وإزالة الخطأ وتحقيق المقصود.
وعلى النقيض من ذلك، فإن بعض الناس حسَّاساً جدًّا، وإذا سمع نصحا ولو كان مجملاً- ظن أنه المقصود؛ لأنه يسمع بحساسية فيقول: لماذا ينصحني فلان؟! فهذا الإنسان ينبغي أن يتنبه لأمرين:
أولاً: ما الذي جعلك تظن أن فلانًا يقصدك إلا وجود الخطأ عندك؟ إذا تنبه لهذا الخطأ.
ثانيًا: أنه كان يجب أن تقول لو لم ينصحك: لماذا لم ينصحك ؟! لأنه كرامة لك أن يهدي إليك أخوك المسلم عيبًا، سواء أهداه بطريقة صحيحة أو غير صحيحة، فالمسلمون ناصحون، والمنافقون غشاشون.
رابعا : تقسيم النصيحة من حيث كونها سرا ، وعلانية .
متى يكون النصح سرا ؟
1- أن يكون خطأ المنصوح غير ظاهر على الناس : [ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ](1) قَوْله : ( وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا ) أَيْ رَآهُ عَلَى قَبِيحٍ فَلَمْ يُظْهِرْهُ أَيْ لِلنَّاسِ , وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَقْتَضِي تَرْك الْإِنْكَار عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ .
__________
(1) متفق عليه ] أخرجه ( البخاري / 2442 ) ، و( مسلم / 2580 ) من حديث ابن عمر .(1/12)
2- أن يكون المنصوح من ذوي الهيئات ، وَنَحْوهمْ مِمَّنْ لَيْسَ هُوَ مَعْرُوفًا بِالْأَذَى وَالْفَسَاد . (1)
متى يكون النصح علانية ؟
1- أن يكون المنصوح معروفا بخطأه :
فَأَمَّا الْمَعْرُوف بِذَلِكَ فَيُسْتَحَبّ أَلَّا يُسْتَر عَلَيْهِ ، لِأَنَّ السَّتْر عَلَى هَذَا يُطْمِعهُ فِي الْإِيذَاء وَالْفَسَاد , وَانْتَهَاك الْحُرُمَات , وَجَسَارَة غَيْره عَلَى مِثْل فِعْله . (2)
2- أن يكون ممن يقتدى به ويبلغون دين الله:
كالرُّوَاة وَالشُّهُود وَالْأُمَنَاء عَلَى الصَّدَقَات وَالْأَوْقَاف وَالْأَيْتَام وَنَحْوهمْ فَيَجِب جُرْحهمْ عِنْد الْحَاجَة , وَلَا يَحِلّ السَّتْر عَلَيْهِمْ إِذَا رَأَى مِنْهُمْ مَا يَقْدَح فِي أَهْلِيَّتهمْ , وَلَيْسَ هَذَا مِنْ الْغِيبَة الْمُحَرَّمَة , بَلْ مِنْ النَّصِيحَة الْوَاجِبَة , وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ .(3)
وقد كان بعض السلف إذا بلغه قول ينكره على قائله يقول : ( كذب فلان ) ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : [ كذب أبو السنابل ](4) لما بلغه أنه أفتى أن المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملاً لا تحل بوضع الحمل حتى يمضى عليها أربعة أشهر وعشر .
... وقد بالغ الأئمة الوَرِعون في إنكار مقالات ضعيفة لبعض العلماء وردِّها أبلغ الردِّ كما كان الإمام أحمد ينكر على أبي ثور وغيره مقالات ضعيفة تفردوا بها ويبالغ في ردها عليهم .
__________
(1) شرح مسلم للنووي /ح 55 )
(2) شرح مسلم للنووي / 2580 )
(3) شرح مسلم للنووي / 2580 )
(4) صحيح ] أخرجه أحمد ، وأصله في الصحيحين ، وصححه الشيخ الألباني .(1/13)
... ومن ردَّ على سعيد بن المسيِّب قوله في إباحته المطلقة ثلاثاً بمجرد العقد وغير ذلك مما يخالف السنة الصريحة ، وعلى الحسن في قوله في ترك الإحداد على المتوفى عنها زوجها ، وعلى عطاء في إباحته إعادة الفروج ، وعلى طاووس قوله في مسائل متعددة شذَّ بها عن العلماء ، وعلى غير هؤلاء ممن أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم ومحبتهم والثناء عليهم .
... ولم يعد أحد منهم مخالفيه في هذه المسائل ونحوها طعناً في هؤلاء الأئمة ولا عيباً لهم ، وقد امتلأت كتب أئمة المسلمين من السلف والخلف بتبيين هذه المقالات وما أشبهها مثل كتب الشافعي وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور ومن بعدهم من أئمة الفقه والحديث وغيرهما ممن ادعوا هذه المقالات ما كان بمثابتها شيء كثير ولو ذكرنا ذلك بحروفه لطال الأمر جداً .
3- أن يكون من أهل البدع :
فأما أهل البدع والضلالة ومن تشبه بالعلماء وليس منهم فيجوز بيان جهلهم وإظهار عيوبهم تحذيراً من الاقتداء بهم .
قال الحسن البصري : رحمه الله : ( ليس لأهل البدع غيبة ) .
قيل لشعبة بن الحجاج : يا أبا بسطام كيف تركت علم رجال وفضحتهم فلو كففت فقال : أجلوني حتى أنظر الليلة فيما بيني وبين خالقي هل يسعني ذلك ، قال : فلما كان من الغد خرج علينا على حمير له فقال : قد نظرت فيما بيني وبين خالقي فلا يسعني دون أن أبين أمورهم للناس والسلام (1)
4- أن يكون الخطأ ظاهر ومعلوم بين الناس :
إن الصحابة رضي الله عنهم كان بعضهم يستدرك على بعض، وبعضهم يصحح لبعض علانية إذا كان الأمر يقتضي الإعلان إذا كان الخطأ معلنًا
__________
(1) - وانظر ( الكفاية ) للخطيب ، بل وكتب المصطلح وكتب التراجم .(1/14)
ولنتأمل في هذا الموقف، الذي قصه أنس رضي الله عنه ، قَالَ : [ مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ قَالَ عُمَرُ فِدًى لَكَ أَبِي وَأُمِّي مُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا خَيْرٌ فَقُلْتَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَمُرَّ بِجَنَازَةٍ فَأُثْنِيَ عَلَيْهَا شَرٌّ فَقُلْتَ وَجَبَتْ وَجَبَتْ وَجَبَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَمَنْ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ ](1) .
فالأخطاء المشهورة التي يتداولها الناس في أحاديثهم، ويتناقلونها فيما بينهم، لا وجه لأن يقال لمن ينكرها علانية : لا تتحدث فيها لأن ذلك يؤدي إلى نشرها؛ وذلك لأنها موجودة أصلاً والجميع يعرفها.
__________
(1) متفق عليه ] أخرجه ( البخاري / 1367 ) ، و ( مسلم / 949 ) من حديث انس .(1/15)
وإذا كان الخطأ ظاهرًا مشهورًا فلا معنى لإنكاره سرًّا، فإن الناس يقولون: أين العلماء؟ أين الدعاة؟ أين الخطباء؟ أين المصلحون؟ والأخطاء تقع صباح مساء وهم ساكتون عليها، لا يحركون ساكنًا، وماذا يدري الناس عما تقوله لفلان أو علان؟ أو ما كتبته، أو من رفعت نحوه سماعة الهاتف؟! وخاصة إذا تكررت هذه الأمور ولم تَزُل، لا بأس أن تنكر مرة ومرتين وعشرًا بالطريقة التي تناسبك، إذا ظل الأمر موجودًا فعليك أن تعلن بالنصيحة؛ حتى تعذر إلى الله ويعذرك الناس ويعرفوا أنك بذلت ما تستطيع، وحتى تحذّر الناس من هذا الأمر، وتبين لهم خطورته وعواقبه.
تنبيهان هآمان :
1- هناك قواعد في الحكم على الرجال أنهم من أهل البدع والضلالات ، أو من أهل العلم .(1)
2- هاذين النوعين من النصح يكونا من الإنسان لنفسه ، كما يكونا من الغير أيضا .
فقد يحاسب الإنسان نفسه سرًّا بينه وبين نفسه فيعاتبها ويوبخها، وهذا لا شك أنه أبعد عن الرياء، وهو يدعو الإنسان إلى أن يتواضع، ويعترف بالخطأ، ويراجع نفسه أولاً بأول، وقد يحاسبها علانية على ملأ من الناس وعلى مرأى ومسمع منهم.
وهذا له إيجابيات ومنافع كثيرة منها:
- أولاً: أنه يعترف بهذا الخطأ لئلا يتابع عليه، وهذا إن كان خطأ مشهورًا معروفًا متداولاً عند الناس، فيعلن أنه رجع عنه، أو تاب منه؛ لئلا يتابعه الناس عليه، كأن يكون صاحب بدعة تاب منها فيقول للناس: من كان يعرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا فلان بن فلان، كنت أقول: كذا وكذا، والآن تبت. من مثل ما قاله أبو الحسن الأشعري في خطبته المعروفة.
__________
(1) راجعها في رسالة بعنوان ( قواعد في الحكم على الآخرين ) لفضيلة الشيخ / وليد بن راشد السعدان .(1/16)
- ثانياً: أن يعوّد الآخرين على ذلك، فإن الناس يحنُّ بعضهم إلى بعض، ويقلد بعضهم بعضًا، فإذا كان العالم، أو الحاكم، أو الداعية عوَّد الناس أنه يعترف بالخطأ علانية وأمامهم فيقول: قلت كذا وهذا خطأ، وفعلت كذا وهذا خطأ، وقد رجعت عنه ؛ فإن الناس حينئذ يتعوَّدون على الاعتراف بأخطائهم والرجوع عنها، ومحاولة تصحيحها أولاً بأول.
- ثالثاً: أنه يقطع الطريق على الخصوم؛ لأنهم قد يأخذون هذه الأخطاء ويشنّعون بها عليك، فإذا اعترفت بها علانية قطعت الطريق عليهم.
- الفائدة الرابعة: أنه يضع الإنسان في مكانه الحقيقي، فلا يكون هناك تعصُّب لعالم ولا تحزُّب لجماعة، فإننا نجد من الطلاب من يتعصَّب لعالم من العلماء؛ لأنه لا يعرف إلا الصواب من أقواله، لكن لو أن هذا العالم قال: أنا أخطأت في كذا وكذا، عرف الناس حينئذ أنه ينبغي ألا يتعصبوا له، وأن يأخذوا أقواله باعتدال ودراسة ومقارنة.
وكذلك الحال بالنسبة لغيره، فمثلاً المتنفذ أو المسؤول، إذا كان يعترف بخطئه ويتراجع عنه؛ فإنه بذلك يشجع الناس على أن يوافوه بالخطأ ويناصحوه، كلما رأوا عليه شيئًا يحتاج إلى مناصحة.(1/17)
سادساً: قواعد وأصول وآداب النصيحة
سادساً: قواعد وأصول وآداب النصيحة
مما مضى يتضح لنا أن آداب النصيحة لا تتعلق فقط بالناصح كما يتخيل البعض ، بل تتعلق أيضا بالمنصوح .
وكل من الناصح والمنصوح لابد أن يتأدب بعدة آداب قبل النصيحة وأثناءها وبعدها .
وهذه الآداب منها ما يتعلق بالأخلاق ، ومنها ما يتعلق بالعلم .
لذلك فرتبت هذه الآداب على النحو التالي :
أولا : ما يجب على الناصح قبل النصيحة .
ثانيا : ما يجب على المنصوح قبل النصيحة .
ثالثا : ما يجب على الناصح أثناء النصيحة .
رابعا : ما يجب على المنصوح أثناء النصيحة .
خامسا : ما يجب على الناصح بعد النصيحة .
سادسا : ما يجب على المنصوح بعد النصيحة .
وقدمت في كل ذلك الآداب التي تتعلق بالأخلاق ثم الآداب التي تتعلق بالعلم ، دون أن أفصل بينهما لاتحاد موضوعهما .
أولا : ما يجب على الناصح قبل النصيحة .
اعلم ـ وفقك الله للخير ـ أن هناك عدة أمور يجب أن يتحلى بها من تصدى للنصح قبل أن يقوم بذلك ، وهي إجمالا :
أن النَّاصِحُ فِي دِينِ اللَّهِ يَحْتَاجُ إلَى عِلْمٍ وَعَقْلٍ وَفِكْرٍ صَحِيحٍ وَرَوِيَّةٍ حَسَنَةٍ وَاعْتِدَالِ مِزَاجٍ وَتُؤْدَةٍ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ هَذِهِ الْخِصَالُ فَالْخَطَأُ أَسْرَعُ إلَيْهِ مِنْ الْإِصَابَةِ وَمَا فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ أَدَقُّ وَلَا أَخْفَى وَلَا أَعْظَمُ مِنْ النَّصِيحَةِ . (1)
وإليك التفصيل :
1- أيها الناصح ! انصح لنفسك أولا
لا تجد الناصح إلا مشتغلاً بفرض يؤديه ، وفي جهاد نفسه عن محارم ربه و نواهيه ، وفي دعوة غيره إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، وفي التخلق بالأخلاق الجميلة والآداب المستحسنة !.
__________
(1) البريقة المحمودية / 2 / 250 )(1/1)
فاجْعَلْ نُصْحَ نَفْسِك غَنِيمَةَ عَقْلِك , وَلَا تُدَاهِنْهَا بِإِخْفَاءِ عَيْبِك وَإِظْهَارِ عُذْرِك , فَيَصِرْ عَدُوُّك أَحْظَى مِنْك فِي زَجْرِ نَفْسِهِ بِإِنْكَارِك وَمُجَاهَرَتِك مِنْ نَفْسِك الَّتِي هِيَ أَخَصُّ بِك لِإِغْرَائِك لَهَا بِأَعْذَارِك وَمُسَاءَتِك .
فَحَسْبُك سُوءًا رَجُلٌ يَنْفَعُ عَدُوَّهُ وَيَضُرُّ نَفْسَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : أَصْلِحْ نَفْسَك لِنَفْسِك يَكُنْ النَّاسُ تَبَعًا لَك . وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ : مَنْ أَصْلَحَ نَفْسَهُ أَرْغَمَ أَنْفَ أَعَادِيهِ , وَمَنْ أَعْمَلَ جِدَّهُ بَلَغَ كُنْهَ أَمَانِيهِ . وَقَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ : مَنْ عَرَفَ مَعَابَهُ فَلَا يَلُمْ مَنْ عَابَهُ .
وَأَنْشَدَ أَبُو ثَابِتٍ النَّحْوِيُّ لِبَعْضِ الشُّعَرَاءِ :
وَمَصْرُوفَةٌ عَيْنَاهُ عَنْ عَيْبِ نَفْسِهِ وَلَوْ بَانَ عَيْبٌ مِنْ أَخِيهِ لَأَبْصَرَا وَلَوْ كَانَ ذَا الْإِنْسَانُ يُنْصِفُ نَفْسَهُ لَأَمْسَكَ عَنْ عَيْبِ الصَّدِيقِ وَقَصَّرَا
فَهَذِّبْ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ نَفْسَك بِأَفْكَارِ عُيُوبِك وَانْفَعْهَا كَنَفْعِك لِعَدُوِّك فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ وَاعِظٌ لَمْ تَنْفَعْهُ الْمَوَاعِظُ . أَعَانَنَا اللَّهُ , وَإِيَّاكَ عَلَى الْقَوْلِ بِالْعَمَلِ وَعَلَى النُّصْحِ بِالْقَبُولِ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَكَفَى .(1)
__________
(1) أدب الدنيا والدين للماوردي / 358 ) .(1/2)
قال العلماء : وَالنُّصْحُ لِلَّهِ ، الْإِيمَانُ بِهِ وَنَفْيُ الشِّرْكِ عَنْهُ وَتَرْكُ الْإِلْحَادِ فِي صِفَاتِهِ وَوَصْفُهُ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ كُلِّهَا وَتَنْزِيهُهُ تَعَالَى عَنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ النَّقَائِصِ وَالْقِيَامِ بِطَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ وَالْحُبُّ فِيهِ وَالْبُغْضُ فِيهِ وَمُوَالَاةُ مَنْ أَطَاعَهُ وَمُعَادَاةُ مَنْ عَصَاهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ لَهُ تَعَالَى .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ : وَجَمِيعُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ رَاجِعَةٌ إلَى الْعَبْدِ مِنْ نَصِيحَةِ نَفْسِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ نُصْحِ النَّاصِحِينَ . (1)
واعلم أخيرا أنَّ نصحك لأخيك كجرح الرواة بعضهم في بعض و( الْجَرْحُ لَا يُقْبَلُ إِلَّا مِنْ عَدْلٍ .... ) . (2)
2- (ملاحظة "مؤشر الإخلاص" في قلبك اتجاه النصيحة) :
لو اطلعت على ضمير الناصح ، لوجدته ممتلئاً نوراً وأمنا ، ورحمة وشفقة. ولو شاهدتَ أفكاره ، لرأيتها تدور حول مصالح المسلمين ، مجملة ومفصلة. ولو تأملتَ أعمالَه وأقوالَه ، لرأيتَها كلها صريحة متفقة.
ويكون ذلك بوقوفك بنفسك على الدوافع الحقيقية التي حملتك على بذل هذه النصيحة، وهذه لن يقف على حقيقتها إلا الله سبحانه وتعالى ثم شخصك الكريم ؛ لأن ذلك محله القلب ، والقلب لا يطلع عليه إلا الله الذي { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } (غافر:19) .
وللكشف عن حقيقة دوافعك من النصيحة ومراقبة مؤشر الإخلاص في قلبك أجب على هذه الأسئلة أولا قبل إسداء النصيحة:
س1 ـ هل أنت محب (لفلان) الذي تنصحه ؟!. فإن كنت تحبه فبشارة خير. وإن كان غير ذلك فأجب على ما يلي:
س2 ـ هل تمنيت أن يكفيك غيرك بذل هذه النصيحة؟!!. فإن قلت : نعم فبشارة خير. وإن كان غير ذلك فأجب على ما يلي:
__________
(1) سبل السلام / 2 / 696 )
(2) شرح مقدمة مسلم للنووي )(1/3)
س3 ـ هل أحزنك صدور ذلك من (فلان) أم سررت بذلك ووجدتها فرصة لنصحه؟!. فإن قلت : نعم فبشارة خير. وإن كان غير ذلك فأجب على ما يلي:
س4 ـ هل كنت تتمنى أن تكون نصيحتك في السر بينك وبينه ، ولكنك لم تجد إلى ذلك سبيلا؟!!. فإن قلت : نعم فبشارة خير. وإن كان غير ذلك فأجب على ما يلي:
س5 ـ هل لو فعلها أحب الناس إليك كنت ستنصحه بنفس الكيفية والأسلوب ؟!. فإن قلت : نعم فبشارة خير. وإن كان غير ذلك فإليك هذه المذكرات الهامة :
1 ـ الإخلاص شرط لقبول العمل الصالح ، فإن فقده فهو طالح ؛ لحديث عمر مرفوعا: (إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى…)(1)
2 ـ صح من حديث أبي أمامة مرفوعا: [ إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا ، وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ ] (2).
3 ـ هل تعلم أن علاج الإخلاص يكون بكسر حظوظ النفس ، وقطع الطمع عن الدنيا ، والتجرد للآخرة حتى يغلب ذلك على قلبك؟!.
4 ـ هل تعلم أنه قيل : (يا نفس اخلصي تتخلصي) أي اخلصي لله تتخلصي من العذاب؟!.
5 ـ هل تعلم أن (رب عمل صغير يعظمه النية !! ورب عمل كبير تصغره النية) ؟!!.
3- (أن تقدم بين يديك محبة المنصوح أولا) وخآصة إن كان من أهل العلم:
قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – [ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ أَوْ قَالَ لِجَارِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ](3)
وأخص أهل العلم : لأن محبة العالم أو الداعية ليست للونه أو جنسه أو جماعته ، إنما لما يحمله من بقايا إرث النبوة وهو العلم الشرعي.
__________
(1) متفق عليه ] أخرجه ( البخاري / 1 ) و ( مسلم / 1907 ) من حديث عمر .
(2) صحيح ] أخرجه ( النسائي / 3140 ) من حديث أبي أمامة ، وصححه الشيخ الألباني في ( الصحيحة / ج1 / ص118 / ح52 )
(3) متفق عليه ] أخرجه ( البخاري / 13 ) ، و ( مسلم / 45 ) من حديث أنس .(1/4)
وقد تقول : أنا لا أحبه ؛ لأنه يفتي بالطامات ومتساهل !!.
فأقول لك : فأخبرني ـ وفقك الله ـ هل ما يفتي به باجتهاده أم بالتشهي ؟!!.
فإن قلت : باجتهاده .
فأقول لك ما قاله شيخ الإسلام: فأما الصديقون والشهداء والصالحون ، فليسوا بمعصومين، وهذا في الذنوب المحققة، وأما ما اجتهدوا فيه: فتارة يُصيبون وتارة يخطئون. فإذا اجتهدوا وأصابوا فلهم أجران. وإذا اجتهدوا وأخطئوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور لهم. وأهل الضلال يجعلون الخطأ والإثم متلازمين ، فتارة يغلون فيهم ويقولون: إنهم معصومون، وتارة يجفون عنهم ويقولون: إنهم باغون بالخطأ. وأهل العلم والإيمان: لا يعصمون ولا يؤثمون).
والمرء يعجب من صغيرة غيره ***أي امرئ إلا وفيه مقال
لسنا نرى من ليس فيه غميزة *** أي الرجال القائل الفعّال
وإن قلت : بل يفتي بالتشهي !!.
فأقول لك : وأين الدليل على ذلك ـ يرحمك الله ـ ؟!.
فإن قلت : مخالفته في فتواه النصوص الصريحة والصحيحة وجمهور أهل العلم؟!.
قلت لك : هل يلزم كل من تلبس بذلك أن تكون فتواه بالتشهي؟!.
يا أيها الحبيب إن العلم واسع ، وأسباب اختلاف العلماء قامت منذ الصدر الأول حتى يومنا هذا ، ولا يوجد أحد من أهل العلم ينكر وجود الخلاف في الفروع الفقهية ، فلا تضيق واسعا !! وعليك بقراءة كتاب (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) و(مقدمة في أصول التفسير) لابن تيمية ، حتى تقف على أسباب وحقيقة الخلاف بين أهل العلم حتى لا تنكر شيئا لا إنكار فيه ، أو تعطيه أكبر من حجمه.
أما إن قلت : لا أحبه ؛ لأنه متكبر .
فأقول لك : هذا إذا يدور في فلك الإيمان ؛ لأن الحب يكون لطاعة ، والبغض لمعصية، وإن ثبت أن فلانا من الدعاة من المتكبرين ، فحق لك بغضه في ذلك ، ولكن عليك الاحتراز من الخروج من البغض في الله إلى البغض لحظ النفس .(1/5)
واعلم ـ وفقك الله للخير ـ أن بغضك له بسبب شرعي لا يسوغ لك التشنيع به والاسترسال في ذمه وتعنيفه في النصيحة، ولذلك إن لم تكن ممن يملك زمام رابطة الجأش ، فأنصحك بعدم نصحه حتى لا تنحرف النصيحة عن وجهتها الصحيحة ، فتتحامل فيها على المنصوح.
يا أيها الحبيب يا من تريد بذل نصيحة لأحد العلماء أو الدعاة وتريد بها الخير استصحب معك هذه المعاني وأنت مقدم على نصيحة عالم أو نقده:
أ ـ ذكر أحد العلماء عند الإمام أحمد وكان متكئا من علة فاستوى جالسا وقال: (لا ينبغي أن يذكر الصالحون فنتكئ)!!!!!.
ب ـ قال الترمذي : (لم يسلم من الخطأ والغلط كبير أحد من الأئمة مع حفظهم) فكيف بعلماء زماننا ودعاتنا، وكيف بي أنا وأنت أيها الناصح الكريم ؟!!.
جـ ـ يجب على الجميع استيعاب حقيقة لا بد منها ، وهي وقوع الخلاف من عهد الصحابة وحتى يرث الله الأرض ومن عليها؛ لأن الخلاف سنة الله في خلقه وأسبابه كثيرة.
د ـ الفتوى غير ملزمة لأحد إن ترجح لديه مخالفتها لدليل معلوم لديه ، ولكن عدم الطعن في صاحب الفتوى والتشنيع بشخصه ملزم للجميع.
4- (أن تقدم بين يديك إحسان الظن) :
فإحسان الظن بالآخر والذهاب في ذلك إلى أبعد الحدود يجب أن يكون مطلقا لجميع المسلمين ، وأهل العلم والدعوة من باب أولى . كما قال الحق سبحانه وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } (الحجرات:12) .
وروى أبو هريرة مرفوعا: [إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ ، فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ ، وَلَا تَحَسَّسُوا ، وَلَا تَجَسَّسُوا ، وَلَا تَنَافَسُوا ، وَلَا تَحَاسَدُوا ، وَلَا تَبَاغَضُوا ، وَلَا تَدَابَرُوا ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا ](1) .
__________
(1) متفق عليه ] أخرجه ( البخاري / 5144 ) و ( مسلم / 2563 ) من حديث أبي هريرة .(1/6)
وعن عمر بن الخطاب قال : [لا تظنن بكلمة خرجت من في امرئ مسلم سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا ](1) .
وعن محمد بن سيرين قال : [ إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرا فإن لم تجد له عذرا فقل له عذر ](2) .
وعنه أيضا عن جعفر بن محمد قال : [ إذا بلغك عن أخيك الشيء تنكره فالتمس له عذرا واحدا إلى سبعين عذرا ، فإن أصبته وإلا قل لعل له عذرا لا أعرفه ](3).
وعنه أيضا عن سعيد بن المسيب قال : [ كتب إلى بعض إخواني من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك ولا تظنن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرا وأنت تجد له في الخير محملا ](4).
فالواجب على من سمع مقالة أو فتوى أن يحملها المحمل الحسن بكل وسعه ، ويقول في نفسه: لعله يريد كذا أو كذا ، ولا يقصد كذا أو كذا، فيتأول كلام الآخر بكل السبل، خاصة إذا سبق لذهننا ماهية هذا الشخص من خلال قرائن الحال.
وفي هذا الخصوص روى البيهقي في "الشعب" عن حفص بن حميد قال: [ إذا عرفت الرجل بالمودة ، فسيئاته كلها مغفورة ، وإذا عرفته بالعداوة ، فحسناته كلها مردودة عليه ].
5- أن تكون عالما بحال من تتكلم عنه ، أو معه ، فكيف تنصح إنساناً لا تعرفه.(5)
__________
(1) رواه المحاملي في "أماليه" .
(2) رواه البيهقي في "الشعب"
(5) يراجع رسالة ( مراعاة أحوال المخاطبين ) للد / فضل إلاهي .(1/7)
إِنَّمَا يَجُوز الْجَرْحُ لِعَارِفٍ بِهِ , مَقْبُول الْقَوْل فِيهِ , أَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ الْجَارِح مِنْ أَهْل الْمَعْرِفَة , أَوْ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَقْبَل قَوْله فِيهِ ; فَلَا يَجُوز لَهُ الْكَلَام فِي أَحَد ; فَإِنْ تَكَلَّمَ كَانَ كَلَامُهُ غِيبَةً مُحَرَّمَةً , كَذَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّه وَهُوَ ظَاهِرٌ .قَالَ : وَهَذَا كَالشَّاهِدِ يَجُوزُ جَرْحُهُ لِأَهْلِ الْجَرْح , وَلَوْ عَابَهُ قَائِلٌ بِمَا جُرِّحَ بِهِ أُدِّبَ وَكَانَ غِيبَةً . (1)
؟؟؟؟؟؟؟
6- لَيْسَ لِلناصح الْبَحْث وَالتَّنْقِير وَالتَّجَسُّس .
وَلَيْسَ ( للناصح ) الْبَحْث وَالتَّنْقِير وَالتَّجَسُّس وَاقْتِحَام الدُّور بِالظُّنُونِ , بَلْ إِنْ عَثَرَ عَلَى مُنْكَر غَيَّرَهُ جَهْده . هَذَا كَلَام إِمَام الْحَرَمَيْنِ .
وَقَالَ أَقْضَى الْقُضَاة الْمَاوَرْدِيُّ : لَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَبْحَث عَمَّا لَمْ يَظْهَر مِنْ الْمُحَرَّمَات .
فَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اِسْتِسْرَار قَوْم بِهَا لِأَمَارَة وَآثَار ظَهَرَتْ , فَذَلِكَ ضَرْبَانِ . أَحَدهمَا : أَنْ يَكُون ذَلِكَ فِي اِنْتَهَاك حُرْمَة يَفُوت اِسْتِدْرَاكهَا , مِثْل أَنْ يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقَ بِصِدْقِهِ أَنَّ رَجُلًا خَلَا بِرَجُلٍ لِيَقْتُلهُ أَوْ بِامْرَأَةِ لِيَزْنِيَ بِهَا فَيَجُوز لَهُ فِي مِثْل هَذَا الْحَال أَنْ يَتَجَسَّسَ , وَيُقْدِم عَلَى الْكَشْف وَالْبَحْث حَذَرًا مِنْ فَوَات مَا لَا يُسْتَدْرَك . وَكَذَا لَوْ عَرَفَ ذَلِكَ غَيْرُ الْمُحْتَسِبِ مِنْ الْمُتَطَوِّعَة جَازَ لَهُمْ الْإِقْدَام عَلَى الْكَشْف وَالْإِنْكَار .
__________
(1) شرح مقدمة مسلم للنووي )(1/8)
الضَّرْب الثَّانِي : مَا قَصُرَ عَنْ هَذِهِ الرُّتْبَة فَلَا يَجُوز التَّجَسُّس عَلَيْهِ , وَلَا كَشْف الْأَسْتَار عَنْهُ . فَإِنْ سَمِعَ أَصْوَات الْمَلَاهِي الْمُنْكَرَة مِنْ دَارٍ أَنْكَرَهَا خَارِج الدَّار لَمْ يَهْجُم عَلَيْهَا بِالدُّخُولِ لِأَنَّ الْمُنْكَر ظَاهِر وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْشِف عَنْ الْبَاطِن . (1)
وقريب من هذا الأدب الذي بعده .
7- تجنب النصح الذي يستهدف جمع مثال الإنسان وإحصاء أخطاءه .
قال صلى الله عليه وسلم [ من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله ](2)
فمن صور النقد المذموم، النقد الذي يستهدف جمع مثالب الإنسان، وإحصاء أخطائه؛ ليشهر به، فيكون بعض الناس -والعياذ بالله- مثل الذباب لا يقع إلا على الجرح، فيجمع عيوب الآخرين، ويتكلم عنهم في المجالس، وكأنه لا حسنة لهم قط، ولا سيئة له قط.
حالات استثنائية:
هناك حالات يجوز فيها تناول الأوضاع الشخصية، كما أشرنا إلى شيء من ذلك في الكلام على الغيبة ومتى تشرع ومن هذه الحالات النماذج الآتية:
- النموذج الأول: شخص مجاهر بالفسق والمعصية، ويسعى إلى إفساد المجتمع، توجهات غير محمودة، وبعض الناس ذوي النفوذ الذين ثبت تواطؤهم واشتراكهم في بعض المؤسسات، وبعض الأجهزة، وبعض المعاهد التي تحارب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فهؤلاء ينبغي بيان حالهم والتحذير منهم والكلام عنهم بأعيانهم؛ حتى يحذرهم الناس ويتجنبوهم، وقد جاء في ذلك أدلة سبق أن ذكرنا شيئًا منها.
- النموذج الثاني: قد يوجد شخص يُخشى أن يغتر الناس به؛ لأنه يتظاهر بالخير والصلاح، وله أهداف ومآرب أخرى، مثل المشعوذين والرقاة الذين يتضح انحرافهم ولكنهم يتسترون ببعض المظاهر التعبدية؛ ليخدع بها العامة، فهذا لابد من ذكره.
__________
(1) النووي شرح مسلم / 49 )(1/9)
النموذج الثالث: أيضًا هناك شخص لا يُنظر إليه باعتباره فلان بن فلان؛ بل ينظر إليه بالاعتبار العام، أي أنه صار مُلْكًا للأمة وللتاريخ، وصاحب نفوذ، أو شخصية علمية، أو شخصية اجتماعية، أو شخصية تاريخية، يعني أن قراراته وآراءه ومواقفه وشخصيته أصبحت منطبعة على الأمة كلها، وله تأثير قريب وبعيد وفي الحاضر والمستقبل، وهؤلاء لم يعودوا ملكًا لأنفسهم؛ بل عادوا ملكًا للأمة وملكًا للتاريخ، فلابد من تناول هؤلاء الأشخاص.
وما زال العلماء يكتبون عن تراجم هؤلاء بل عن غيرهم، يكتبون عن تراجمهم ويتحدثون عنهم، وقد يذكرون الحجاج بن يوسف مثلاً فيذكرون ما فعله من الجرائم والمنكرات والمظالم، وربما تكلموا فيه، وربما دعوا عليه، وقد يذكرون رجلاً آخر بعكس ذلك، كما يتكلمون عن الرجال الفضلاء الكبراء الأجلاء العدول، كعمر بن عبد العزيز، وصلاح الدين أو غيرهم.
- النموذج الرابع: كذلك الأشخاص الذين يجاهرون بجرائمهم، فماذا عساك أن تتستر على أديب كبير شعره يبين عنه، ويتكلم عن كل صور الفجور والفساد والانحلال؟ فماذا عساك أن تتستر على مثل هذا الإنسان أو غيره ممن يجاهرون بمعاصيهم؛ بل ينشرون ألوان فسقهم وخزيهم على الأمة؟!.
8 ـ أن تكون عالما بحقيقة ما تقوم بالنصح به ( التأهل العلمي ) :
وَذَلِكَ يَخْتَلِف بِاخْتِلَافِ الشَّيْء ; فَإِنْ كَانَ مِنْ الْوَاجِبَات الظَّاهِرَة , وَالْمُحَرَّمَات الْمَشْهُورَة كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَام وَالزِّنَا وَالْخَمْر وَنَحْوهَا , فَكُلّ الْمُسْلِمِينَ عُلَمَاء بِهَا , وَإِنْ كَانَ مِنْ دَقَائِق الْأَفْعَال وَالْأَقْوَال وَمِمَّا يَتَعَلَّق بِالِاجْتِهَادِ لَمْ يَكُنْ لِلْعَوَامِّ مَدْخَل فِيهِ , وَلَا لَهُمْ إِنْكَاره , بَلْ ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ . (1)
__________
(1) النووي شرح مسلم / 49 )(1/10)
فيجب على الناصح أن يكون مؤهلا علميا فيما سينصح به ، وعلى دراية تامة بأوجه الاجتهاد في المسألة ، ومعرفة الراجح من المرجوح فيه ؛ حتى إذا أنكر على العالم أو الداعية يتناسب إنكاره مع حجم المنكر ، ولا يبالغ في ذلك فيخرج عن الجادة والصواب.
إذن ، فليس كل أحد مؤهلاً للدخول في حوار صحي صحيح يؤتي ثماراً يانعة ونتائج طيبة .
والذي يجمع لك كل ذلك : ( العلم ) ؛ فلا بد من التأهيل العلمي للمُحاور ، ويقصد بذلك التأهيل العلمي المختص .
إن الجاهل بالشيء ليس كفؤاً للعالم به ، ومن لا يعلم لا يجوز أن يجادل من يعلم ، وقد قرر هذه الحقيقة إبراهيم عليه السلام في محاجَّته لأبيه حين قال :{ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً}(مريم:43).
وإن من البلاء ؛ أن يقوم غير مختص ليعترض على مختص ؛ فيُخَطِّئه ويُغَلِّطه .
وإن حق من لا يعلم أن يسأل ويتفهم ، لا أن يعترض ويجادل بغير علم ، وقد قال موسى عليه السلام للعبد الصالح :
{ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } (الكهف:66) .
فالمستحسن من غير المختص ؛ أن يسأل ويستفسر ، ويفكر ويتعلم ويتتلمذ ويقف موقف موسى مع العبد الصالح .
وكثير من الحوارات غير المنتجة مردُّها إلى عدم التكافؤ بين المتحاورين ، ولقد قال الشافعي رحمه الله : ( ما جادلت عالماً إلا وغلبته ، وما جادلني جاهل إلا غلبني ! ) . وهذا التهكم من الشافعي رحمه الله يشير إلى الجدال العقيم ؛ الذي يجري بين غير المتكافئين .
9- الْعُلَمَاء إِنَّمَا يُنْكِرُونَ مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ أَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَلَا .
الْعُلَمَاء إِنَّمَا يُنْكِرُونَ مَا أُجْمِعَ عَلَيْهِ أَمَّا الْمُخْتَلَف فِيهِ فَلَا إِنْكَار فِيهِ لِأَنَّ عَلَى أَحَد الْمَذْهَبَيْنِ كُلّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ .(1/11)
وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَار عِنْد كَثِيرِينَ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ أَوْ أَكْثَرهمْ . وَعَلَى الْمَذْهَب الْآخَر الْمُصِيب وَاحِد وَالْمُخْطِئ غَيْر مُتَعَيَّن لَنَا , وَالْإِثْم مَرْفُوع عَنْهُ , لَكِنْ إِنْ نَدَبَهُ عَلَى جِهَة النَّصِيحَة إِلَى الْخُرُوج مِنْ الْخِلَاف فَهُوَ حَسَن مَحْبُوب مَنْدُوب إِلَى فِعْلِهِ بِرِفْقٍ ; فَإِنَّ الْعُلَمَاء مُتَّفِقُونَ عَلَى الْحَثّ عَلَى الْخُرُوج مِنْ الْخِلَاف إِذَا لَمْ يَلْزَم مِنْهُ إِخْلَال بِسُنَّةٍ أَوْ وُقُوعٍ فِي خِلَاف آخَر . (1)
10- (ترك التعصب) :
فأحيانا نجد البعض من شدة تعصبه لعالم من العلماء يشنع تشنيعا شديدا على العلماء والدعاة المخالفين لرأي شيخه ، وهذه عصبية مقيتة تدل على ضعف إيمان وعقل وعلم صاحبها، فتعمى العصبية لشيخه بصره ، وتغشى على عقله ، فلا يرى حسنا إلا ما حسنه شيخه ، ولا صوابا إلا ما ذهب إليه شيخه!!. { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا } (البقرة:91) .
ولهذه العصبية تبعات خطيرة على صاحبها منها : أنها ستصده بكل قوة عن معرفة دليل المخالف لشيخه ، أو الاستماع إليه أو فهمه وتأمله.
11- (التأني في الإنكار ) :
وذلك خشية أن يقع صاحبه في الظلم، فقد ينكر على الآخر على عجالة بدون تأني ويكون إنكاره ليس له وجه ، فيقع المُنكِر ـ بضم الميم وكسر الكاف ـ في ظلم المنكر عليه ، فيقع في المخالفة الشرعية وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (الحج:71) .
فعلينا تذكر كلام حبيبنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه عنه أبو هريرة مرفوعا : (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يُقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) رواه مسلم.
__________
(1) النووي شرح مسلم / 49 )(1/12)
ولا أعني بذلك أن يصاب المؤمن ببرود الدم فيرى المنكر ولا يحرك ساكنا لا والله ، ولكن ما قصدته أن ما يظهر للبعض أنه منكر محتمل ويسعه الخلاف ، أو أنه غير متأكد من درجة المنكر ، فلا يدري بأي درجة يعالج؛ لأن لكل منكر طريقة إنكاره، ومن هنا وجب التفقه في علم الحسبة ، ومناهج السلف ؛ حتى نوفق في إنكارنا. فمن المنكرات ما يسكت عنه ، ومنها ما يعجل فيه بالإنكار ، وهذا بابه واسع يحتاج لعلم وخبرة. وهذا يفضي بنا إلى التنبيه التالي :
12- طلب علم ما لم يعلم (التَّثَبُّت من الأمر المنصوح فيه ) :
عَلَى الْجَارِح تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ , وَالتَّثَبُّت فِيهِ , وَالْحَذَر مِنْ التَّسَاهُل بِجَرْحِ سَلِيمٍ مِنْ الْجَرْحِ , أَوْ بِنَقْصِ مَنْ لَمْ يَظْهَر نَقْصُهُ ; فَإِنَّ مَفْسَدَة الْجَرْح عَظِيمَة ; فَإِنَّهَا غِيبَة مُؤَبَّدَة مُبْطِلَة لِأَحَادِيثِهِ , مُسْقِطَة لِسُنَّةٍ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَادَّة لِحُكْمٍ مِنْ أَحْكَام الدِّين . (1)
فإذا أشكل على المنكر أي أشكال ، فليبادر بالاستفهام كما قال الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ : [ يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم؟ ] (2) ، فإنما شفاء العي السؤال.
معنى ذلك أننا يجب أن نتثبت قبل الخوض في الرد كما نبهنا الله تعالى لذلك: { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } (الإسراء:36) .
فالعاقل يجب عليه أن يحذر من ترديد كلام الآخرين من غير التثبت منه وعقله وفهمه فيورط نفسه ويقع في المخالفة الشرعية التي جاء التحذير منها في حديث أبو هريرة مرفوعا: [ كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع ](3) رواه مسلم.
ويترتب على ذلك أن يقع هذا الشخص في [ التشبع بما لم يعط ، فهو كلابس ثوبي زور ](4)s كما روى ذلك الشيخان من حديث أسماء.
__________
(1) شرح مقدمة مسلم للنووي )
(2) رواه البخاري من حديث عمران بن حصين
(3) صحيح ] أخرجه ( مسلم /(1/13)
نسأل الله تعالى أن يردنا إلى الحق ردا جميلا ، ويرزقنا الإخلاص في القول والعمل.
13- لا يشترط في الناصح كمال الحال
قَالَ الْعُلَمَاء : وَلَا يُشْتَرَط فِي الْآمِر وَالنَّاهِي أَنْ يَكُون كَامِل الْحَال مُمْتَثِلًا مَا يَأْمُر بِهِ مُجْتَنِبًا مَا يَنْهَى عَنْهُ , بَلْ عَلَيْهِ الْأَمْر وَإِنْ كَانَ مُخِلًّا بِمَا يَأْمُر بِهِ , وَالنَّهْي وَإِنْ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِمَا يَنْهَى عَنْهُ ; فَإِنَّهُ يَجِب عَلَيْهِ شَيْئَانِ أَنْ يَأْمُر نَفْسه وَيَنْهَاهَا , وَيَأْمُر غَيْره وَيَنْهَاهُ , فَإِذَا أَخَلَّ بِأَحَدِهِمَا كَيْف يُبَاح لَهُ الْإِخْلَال بِالْآخَرِ ؟ قَالَ الْعُلَمَاء : وَلَا يَخْتَصُّ الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر بِأَصْحَابِ الْوِلَايَات بَلْ ذَلِكَ جَائِز لِآحَادِ الْمُسْلِمِينَ . قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ : وَالدَّلِيل عَلَيْهِ إِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ ; فَإِنَّ غَيْر الْوُلَاة فِي الصَّدْر الْأَوَّل , وَالْعَصْر الَّذِي يَلِيه كَانُوا يَأْمُرُونَ الْوُلَاة بِالْمَعْرُوفِ , وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنْ الْمُنْكَر , مَعَ تَقْرِير الْمُسْلِمِينَ إِيَّاهُمْ , وَتَرْكِ تَوْبِيخهمْ عَلَى التَّشَاغُل بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر مِنْ غَيْر وِلَايَة . وَاَللَّه أَعْلَم . (1)
ثانيا : ما يجب على المنصوح قبل النصيحة .
يجب على المنصوح قبل النصيحة أن ينصح لنفسه ، ويحاسبها ، وهذا حري بكل مؤمن صادق مع نفسه ، يريد لها الخير ، وراجع أنواع النصيحة في الفصل السابق .
ثالثا : ما يجب على الناصح أثناء النصيحة .
__________
(1) النووي شرح مسلم / 49 )(1/14)
و لقد اهتم الإسلام بالحوار اهتماماً كبيراً، وذلك لأن الإسلام يرى بأن الطبيعة الإنسانية ميالة بطبعها وفطرتها إلى الحوار ، أو الجدال كما يطلق عليه القرآن الكريم في وصفه للإنسان : ( وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ) بل إن صفة الحوار ، أو الجدال لدى الإنسان في نظر الإسلام تمتد حتى إلى ما بعد الموت، إلى يوم الحساب كما يخبرنا القرآن الكريم في قوله تعالى: ( يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها )
وعليه فإن للحوار أصولا متبعة ، وللحديث قواعد ينبغي مراعاتها ، وعلى من يريد المشاركة في أي حوار أن يكون على دراية تامة بأصول الحوار المتبعة ؛ لينجح ـ بحول الله ـ في مسعاه ، ويحقق ما يرمي إليه ، ومن آداب الحوار وأصوله ما يلي:
1- الإخلاص
فعلى الناصح إن يوطِّن نفسه ، ويُروِّضها على الإخلاص لله في كل ما يأتي وما يذر في ميدان الحوار وحلبته .
وهي لب الأمر وأساسه ، و أن يكون الهدف هو الوصول إلى الحقيقة ، متبعا في ذلك قاعدة : ( قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب ) فالحق ضالة المؤمن أنى وجده فهو أحق به، كما أنه ضالة كل عاقل . فيلزم من الحوار أن يكون حسن المقصد ليس المقصود منه الانتصار للنفس إنما يكون المقصود منه الوصول إلى الحق أو الدعوة إلى الله ـ عز وجل ـ كان الإمام الشافعي رحمه الله يقول ( ما ناظرت أحداً إلا وددت أن الله تعالى أجرى الحق على لسانه ) هذه أخلاق أتباع الأنبياء ، وهنا الإخلاص والتجرد.
ومن أجلى المظاهر في ذلك : أن يدفع عن نفسه حب الظهور والتميُّز على الأقران ، وإظهار البراعة وعمق الثقافة ، والتعالي على النظراء والأنداد . إن قَصْدَ انتزاع الإعجاب والثناء واستجلاب المديح ، مُفسد للأمر صارف عن الغاية .
وسوف يكون فحص النفس دقيقاً وناجحاً لو أن المُحاور توجه لنفسه بهذه الأسئلة :
- هل ثمَّت مصلحة ظاهرة تُرجى من هذا النقاش وهذه المشاركة . ؟(1/15)
- هل يقصد تحقيق الشهوة أو إشباع الشهوة في الحديث والمشاركة . ؟
- وهل يتوخَّى أن يتمخض هذا الحوار والجدل عن نزاع وفتنة ، وفتح أبواب من هذه الألوان حقهَّا أن تسدّ .؟
ومن التحسس الدقيق والنصح الصادق للنفس أن يحذر بعض التلبيسات النفسية والشيطانية فقد تتوهم بعض النفوس أنها تقصد إحقاق الحق ، وواقع دخيلتها أنها تقف مواقف إنتصارِ ذاتٍ وهوى . ويدخل في باب الاخلاص والتجرد توطين النفس على الرضا والارتياح إذا ظهر الحق على لسان الآخر ورأيه ، ويعينه على ذلك أن يستيقن أن الآراء والأفكار ومسالك الحق ليست ملكاً لواحد أو طائفة ، والصواب ليس حكراً على واحد بعينه . فهمُّ المخلص ومهمته أن ينتشر الحق في كل مكان ، ومن أيّ مكان ، ومن أيّ وعاء ، وعلى أيّ فم .
إن من الخطأ البيِّن في هذا الباب أن تظن أنّ الحق لا يغار عليه إلا أنت ، ولا يحبه إلا أنت ، ولا يدافع عنه إلا أنت ، ولا يتبناه إلا أنت ، ولا يخلص له إلا أنت .
ومن الجميل ، وغاية النبل ، والصدق الصادق مع النفس ، وقوة الإرادة ، وعمق الإخلاص ؛ أن تُوقِفَ الحوار إذا وجدْت نفسك قد تغير مسارها ودخلتْ في مسارب اللجج والخصام ، ومدخولات النوايا .(1)
10- بذل كل الطرق للنصح وهذا من علامة الإخلاص .
(أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) (النساء:63)
قال ابن عاشور :
فهذا الإعراض إعراض صفح أو إعراض عدم الحزن من صدودهم عنك، أي لا تهتم بصدودهم، فإن الله مجازيهم، بدليل قوله ( وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا)، وذلك إبلاغ لهم في المعذرة، ورجاء لصلاح حالهم، شأن الناصح الساعي بكل وسيلة إلى الإرشاد والهدى.
2- اختيار المكان المناسب ، محدود الحضور
__________
(1) أصول الحوار وآدابه في الإسلام صالح بن عبدالله بن حميد(1/16)
يذكر أهل العلم أن المُحاورات والجدل ينبغي أن يكون في خلوات محدودة الحضور ؛ قالوا : وذلك أجمع للفكر والفهم ، وأقرب لصفاء الذهن ، وأسلم لحسن القصد ، وإن في حضور الجمع الغفير ما يحرك دواعي الرياء ، والحرص على الغلبة بالحق أو بالباطل .
ومما استدل به على ذلك قوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } (سبأ:46) .
وذلك لأن الأجواء الجماهيرية والمجتمعات المتكاثرة تُغطي الحق ، وتُشوِّش الفكر ، والجماهير في الغالب فئات غير مختصة ؛ فهي أقرب إلى الغوغائية والتقليد الأعمى ، فَيَلْتَبسُ الحق .
أما حينما يكون الحديث مثنى وفرادى وأعداداً متقاربة يكون أدعى إلى استجماع الفكر والرأي ، كما أنه أقرب إلى أن يرجع المخطيء إلى الحق ، ويتنازل عما هو فيه من الباطل أو المشتبه .
بخلاف الحال أمام الناس ؛ فقد يعزّ عليه التسليم والاعتراف بالخطأ أما مُؤيِّديه أو مُخالفيه .
ولهذا وُجِّه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يخاطب قومه بهذا ؛ لأن اتهامهم له كانت اتهامات غوغائية ، كما هي حال الملأ المستكبرين مع الأنبياء السابقين .
ومما يوضح ذلك ما ذكرته كتب السير [ أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام ، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي ، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يصلي بالليل في بيته ، فأخذ كل واحد منهم مجلساً يستمع فيه ، وكلٌ لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا ؛وقال بعضهم لبعض لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً ،ثم انصرفوا .(1/17)
حتى إذا كانت الليلة الثانية ، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعتهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة ، ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعتهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود . فتعاهدوا على ذلك . ثم تفرقوا . فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج ، حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال : يا أبا ثعلبه ، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يُراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يُراد بها . قال الأخنس : وأنا والذي حَلَفْتَ به ! . قال : ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل ، فدخل عليه بيته فقال : يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال : ماذا سمعت ! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ؛ أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الرُّكَب وكنّا كفرسيّ رهان ، قالوا منّا نبي يأتيه الوحي من السماء ! فمتى نُدرك هذا ؟! والله لا نؤمن به ولا نصدقه . قال : فقام عنه الأخنس وتركه ](1) .
3- اختيار الزمن المناسب
[ لولا أن قومك حديثي عهد بكفر لهدمت الكعبة ..... ](2)
4- (أن تتحرى الألفاظ عند النصيحة) :
إن من أهم ما يتوجه إليه المُحاور في حوار ، التزام الحُسنى في القول والمجادلة ، ففي محكم التنزيل : ( وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً) (الاسراء:53) . { وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن } (النحل: 125) ، { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً }(البقرة :83) .(1/18)
فحق العاقل اللبيب طالب الحق ، أن ينأى بنفسه عن أسلوب الطعن والتجريح والهزء والسخرية ، وألوان الاحتقار والإثارة والاستفزاز .
ومن لطائف التوجيهات الإلهية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الباب ، الانصراف عن التعنيف في الردّ على أهل الباطل ، حيث قال الله لنبيه : { وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ) (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } (الحج : 68-69 ) .
وقوله : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ }(سبأ:24) . مع أن بطلانهم ظاهر ، وحجتهم داحضة .
ويلحق بهذا الأصل : تجنب أسلوب التحدي والتعسف في الحديث ، ويعتمد إيقاع الخصم في الإحراج ، ولو كانت الحجة بينه والدليل دامغاً .. فإن كسب القلوب مقدم على كسب المواقف . وقد تُفْحِم الخصم ولكنك لا تقنعه ، وقد تُسْكِته بحجة ولكنك لا تكسب تسليمه وإذعانه ، وأسلوب التحدي يمنع التسليم ، ولو وُجِدَت القناعة العقلية . والحرص على القلوب واستلال السخائم أهم وأولى عند المنصف العاقل من استكثار الأعداء واستكفاء الإناء . وإنك لتعلم أن إغلاظ القول ، ورفع الصوت ، وانتفاخ الأوداج ، لا يولِّد إلا غيظاً وحقداً وحَنَقاً . ومن أجل هذا فليحرص المحاور ؛ ألا يرفع صوته أكثر من الحاجة فهذا رعونة وإيذاء للنفس وللغير ، ورفع الصوت لا يقوّي حجة ولا يجلب دليلاً ولا يقيم برهاناً ؛ بل إن صاحب الصوت العالي لم يَعْلُ صوته – في الغالب – إلا لضعف حجته وقلة بضاعته ، فيستر عجزه بالصراخ ويواري ضعفه بالعويل . وهدوء الصوت عنوان العقل والاتزان ، والفكر المنظم والنقد الموضوعي ، والثقة الواثقة .(1/19)
على أن الإنسان قد يحتاج إلى التغيير من نبرات صوته حسب استدعاء المقام ونوع الأسلوب ، لينسجم الصوت مع المقام والأسلوب ، استفهامياً كان ، أو تقريرياً أو إنكارياً أو تعجبياً ، أو غير ذلك . مما يدفع الملل والسآمة ، ويُعين على إيصال الفكرة ، ويجدد التنبيه لدى المشاركين والمتابعين .
على أن هناك بعض الحالات الاستثنائية التي يسوغ فيها اللجوء إلى الإفحام وإسكات الطرف الآخر ؛ وذلك فيما إذا استطال وتجاوز الحد ، وطغى وظلم وعادى الحق ، وكابر مكابرة بيِّنة ، وفي مثل هذا جاءت الآية الكريمة :
{ وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } (العنكبوت: 46) .
{ لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِم } (النساء: من الآية148)
ففي حالات الظلم والبغي والتجاوز ، قد يُسمح بالهجوم الحادّ المركز على الخصم وإحراجه ، وتسفيه رأيه ؛ لأنه يمثل الباطل ، وحَسَنٌ أن يرى الناس الباطل مهزوماً مدحوراً .
وقبل مغادرة هذه الفقرة من الأدب ، لا بد من الإشارة إلى ما ينبغي من العبد من استخدام ضمير المتكلم أفراداً أو جمعاً ؛ فلا يقول : فعلتُ وقلتُ ، وفي رأيي ، ودَرَسْنا ، وفي تجربتنا ؛ فهذا ثقيل في نفوس المتابعين ، وهو عنوان على الإعجاب بالنفس ، وقد يؤثر على الإخلاص وحسن القصد ، والناس تشمئز من المتعالم المتعالي ، ومن اللائق أن يبدلها بضمير الغيبة فيقول : يبدوا للدارس ، وتدل تجارب العاملين ، ويقول المختصون ، وفي رأي أهل الشأن ، ونحو ذلك .
وأخيرا فمن غاية الأدب واللباقة في القول وإدارة الحوار ألا يَفْتَرِضَ في صاحبه الذكاء المفرط ، فيكلمه بعبارات مختزلة ، وإشارات بعيدة ، ومن ثم فلا يفهم . كما لا يفترض فيه الغباء والسذاجة ، أو الجهل المطبق ؛ فيبالغ في شرح ما لا يحتاج إلى شرح وتبسيط ما لا يحتاج إلى بسط .(1/20)
فامتلاك الكلمة قبل النطق بها هو دأب أهل الصلاح والخير ؛ حتى لا نقع في مخالفة شرعية {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } (قّ:18) .
وقال الحسن : (ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه) .
5- عدم اتهامه بما ليس فيه
قال الله تعالى : ( يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (النور:17)
قال السعدي :" يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ " أي: لنظيره, من رمي المؤمنين بالفجور. فالله يعظكم, وينصحكم عن ذلك, ونعم المواعظ والنصائح, من ربنا فيجب علينا مقابلتها, بالقبول والإذعان, والتسليم والشكر له, على ما بين لنا .
9- عدم اتهام النيات .
قال تعالى : (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) (النساء:63)
قال ابن كثير :
قَالَ تَعَالَى " أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَم اللَّه مَا فِي قُلُوبهمْ " هَذَا الضَّرْب مِنْ النَّاس هُمْ الْمُنَافِقُونَ وَاَللَّه يَعْلَم مَا فِي قُلُوبهمْ وَسَيَجْزِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَة فَاكْتَفِ بِهِ يَا مُحَمَّد فِيهِمْ فَإِنَّهُ عَالِم بِظَوَاهِرِهِمْ وَبَوَاطِنهمْ . وَلِهَذَا قَالَ لَهُ " فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ " أَيْ لَا تُعَنِّفهُمْ عَلَى مَا فِي قُلُوبهمْ .اهـ
6- الإنصاف ( كن عادلا في نصحك ، ونقدك ).
العدل يتطلب منك أن تعترف لخصمك بالحق الذي عنده، وحتى أقرب الناس إليك ينبغي أن تعترف بالخطأ الموجود لديه ، قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" [المائدة:8](1/21)
وكما قال عمار رضي الله عنه في صحيح البخاري: ( ثَلاَثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ : الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ ، وَبَذْلُ السَّلاَمِ لِلْعَالَمِ ، وَالإِنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَارِ ).
والإنصاف خلق عزيز يقتضي أن تنزل الآخرين منزلة نفسك في الموقف، والإنصاف ضرورة، وله قواعد منها:
1. أن ما ثبت بيقين لا يزول إلا بيقين؛ فمن ثبت له أصل الإسلام لا يخرج من الإسلام ويحكم بكفره إلا بيقين، ومن ثبتت له السنة لا يخرج منها إلا بيقين، وهكذا من ثبت له شيء؛ فإنه لا يُنزع منه إلا بيقين.
2. الخطأ في الحكم بالإيمان أهون من الخطأ في الحكم بالكفر؛ أي لو أنك حكمت لشخص بالإسلام بناءً على ظاهر الحال، حتى لو كان من المنافقين مثلاً أو ليس كذلك؛ فإن هذا أهون من أن تتسرع وتحكم على شخص بالكفر، ويكون ليس كذلك؛ فتقع في الوعيد ( وَمَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ أَوْ قَالَ : عَدُوَّ اللَّهِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلاَّ حَارَ عَلَيْهِ ). أي رجع عليه .
3. في مسائل الاجتهاد لا تأثيم ولا هجران، وهذا ذكره ابن تيمية -رحمه الله- وهذا مذهب أهل السنة: أنهم لا يرون تأثيماً لكل من اجتهد في المسائل كلها من غير تفريق بين الأصول والفروع، فمن استفرغ وسعه في معرفة مراد الله عز وجل ، وكان أهلاً لذلك، فإنه لا يأثم بهذا الاجتهاد بل هو بين أجر وأجرين، فلا تأثيم في مسائل الاجتهاد، ولا ينبغي أن يكون ثمت تهاجر بين المؤمنين.
4. التحفظ عن تكفير فرد بعينه أو لعنه، حتى لو كان من طائفة، أو كان من أصحاب قولٍ، يصح أن يوصف أنه كفر، وها هو الإمام أحمد -رحمه الله- كان يُكفّر الجهمية، ويكفر من يقول القرآن مخلوق، ومع ذلك لم يكفر أحداً منهم بعينه، لا المأمون ولا سواه، بل كان يدعو له، ويستغفر له، ويجعله في حِلٍ مما صنع فيه .(1/22)
5. الأخذ بالظاهر، والله يتولى السرائر، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إِنِّى لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ قُلُوبَ النَّاسِ ، وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ ) .
6. تسلط الجهال على تكفير علماء المسلمين من أعظم المنكرات، ولقد اتفق أهل السنة على أن علماء المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ، بل عامة المسلمين لا يجوز تكفيرهم بمجرد الخطأ، يقول ابن رجب -رحمه الله-: أكثر الأئمة غلطوا في مسائل يسيره، مما لا يقدح في إمامتهم وعلمهم فكان ماذا؟ لقد انغمر ذلك في بحر علمهم، وحُسن مقصدهم، ونصرهم للدين، والانتصاب للتنقيب عن زلاتهم ليس محموداً ولا مشكوراً، لاسيما في فضول المسائل التي لا يضر فيها الخطأ، ولا ينفع فيها كشفه وبيانه.
والعجيب أن كثيراً من الناس قد يتحفظون ويتورعون عن أكل الحرام -مثلاً-، أو عن شرب الخمر، أو عن مشاهدة الصور العارية والمحرمة، ولكن يصعب عليه كف لسانه؛ فتجده يَفْرِي في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي بما يقول، ولهذا قرر العلماء أن كلام الأقران بعضهم في بعض لا يُعبأ به، لاسيما إذا لاح أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، وما ينجو منه إلا من عصم الله.
قال الذهبي -رحمه الله-: ما علمت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئتُ لسردت من ذلك كراريس.(1/23)
سأل أحمد بن حنبل -رحمه الله- بعض الطلبة من أين أقبلتم؟ قالوا: جئنا من عند أبي كُريب، وكان أبو كُريب ينالُ من الإمام أحمد، وينتقده في مسائل؛ فقال نِعم الرجل الصالح! خذوا عنه وتلقوا عنه العلم، قالوا: إنه ينال منك ويتكلم فيك! قال أيُّ شيء حيلتي فيه، إنه رجلٌ قد ابتُلي بي. وحدث الأعمش عن زِرّ بن حُبيش وأبي وائل، وكان زر بن حُبيش علوياً؛ يميل إلى علي بن أبي طالب، وكان أبو وائل عثمانياً، وكانوا أشد شيء تحاباً وتوادّاً في ذات الله عز وجل، وما تكلم أحدهما في الآخر قط حتى ماتا، ولم يُحدث أبو وائل بحضرة زر؛ لأنه كان أكبر منه سناً، ولهذا قال الذهبي -رحمه الله-: وهو يترجم لأبي محمد بن حزم صاحب الْمُحلى وشيخ الظاهرية، قال: ولي ميل لأبي محمد بن حزم؛ لمحبته للحديث الصحيح ومعرفته به، وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يقول في الرجال والعلل، وفي المسائل البشعة في الفروع والأصول، وأقطع- لاحظ قوله: وأقطع- بخطئه في غير ما مسألة، ولكني لا أكفره ولا أضلله، وأرجو له العفو والمسامحة وللمسلمين، وأخضع لفرط ذكائه وسعة علومه.
إن من الإنصاف أن تقبل ما لدى خصمك من الحق والصواب، حتى لو كان فاسقاً، بل حتى لو كان مبتدعاً، بل حتى لو كان كافراً. ولذلك استنكر ابن تيمية -رحمه الله- على بعض المنتسبين للسنة فرارهم من التصديق، أو الموافقة على حق يقوله بعض الفلاسفة، أو المتكلمين؛ بسبب النفرة والوحشة، أو إعراضهم عن بعض فضائل آل البيت، وقال -رحمه الله-: لا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني، فضلاً عن الرافضي قولاً فيه حق أن نتركه أو نرده كله، بل لا نرد إلا ما فيه من الباطل دون ما فيه من الحق.
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله- في تفسيره: إذا تكلم العالم على مقالات أهل البدع؛ فالواجب عليه أن يعطي كل ذي حق حقه، وأن يبين ما فيها من الحق والباطل، ويعتبر قربها من الحق وبعدها عنه.(1/24)
وهكذا تلوح لك في هذه النصوص؛ أمارات الإنصاف والعدل، حتى مع الخصوم المباعدين، فضلاً عن الإخوة المتحابين.
يقول ابن عقيل : ( وليقبل كل واحد منهما من صاحبه الحجة ؛ فإنه أنبل لقدره ، وأعون على إدراك الحق وسلوك سبيل الصدق .
قال الشافعي رضي الله عنه : ما ناظرت أحداً فقبل مني الحجَّة إلا عظم في عيني ، ولا ردَّها إلا سقط في عيني ) .
إذا فالحوار الإيجابي الصحي هو الحوار الموضوعي الذي يرى الحسنات والسلبيات في ذات الوقت ، ويرى العقبات ويرى أيضا إمكانيات التغلب عليها ، وهو حوار صادق عميق وواضح الكلمات ومدلولاتها وهو الحوار المتكافئ الذي يعطى لكلا الطرفين فرصة التعبير والإبداع الحقيقي ويحترم الرأي الآخر ويعرف حتمية الخلاف في الرأي بين البشر وآداب الخلاف وتقبله .
7 - النصيحة سرا أبلغ للقبول .
(أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) (النساء:63)
قال ابن كثير :
" وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسهمْ قَوْلًا بَلِيغًا " أَيْ وَانْصَحْهُمْ فِيمَا بَيْنك وَبَيْنهمْ بِكَلَامٍ بَلِيغ رَادِع لَهُمْ .
قال السعدي :
" وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا " أي: انصحهم سرا, بينك وبينهم, فإنه أنجح لحصول المقصود, وبالغ في زجرهم وقمعهم, عما كانوا عليه. وفي هذا دليل على أن مقترف المعاصي, وإن أعرض عنه, فإنه ينصح سرا, ويبالغ في وعظه, بما يظن حصول المقصود به.
قال ابن رجب :
وكان السلف يكرهون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذا الوجه ويحبون أن يكون سراً فيما بين الآمر والمأمور فإن هذا من علامات النصح فإن الناصح ليس له غرض في إشاعة عيوب من ينصح له وإنما غرضه إزالة المفسدة التي وقع فيها .(1/25)
وأما إشاعة وإظهار العيوب فهو مما حرمه الله ورسوله قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النور:19)
والأحاديث في فضل السر كثيرةٌ جدَّاً .
وقال بعض العلماء لمن يأمر بالمعروف : ( واجتهد أن تستر العصاة فإن ظهور عوراتهم وهن في الإسلام أحقُّ شيء بالستر : العورة ) .
8- عدم التعيير والتثريب .
قال ابن رجب :
فإذا أخبر أحد أخاه بعيب ليجتنبه كان ذلك حسناً لمن أُخبر بعيب من عيوبه أن يعتذر منها إن كان له منها عذر وإن كان ذلك على وجه التوبيخ بالذنب فهو قبح مذموم .
وقيل لبعض السلف : أتحبُّ أن يخبرك أحد بعيوبك ؟ فقال : ( إن كان يريد أن يوبخني فلا ) .
فالتوبيخ والتعيير بالذنب مذموم وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تُثَرَّبَ الأمة الزانية مع أمره بجلدها فتجلد حداً ولا تعير بالذنب ولا توبخ به .
وفي الترمذي وغيره مرفوعاً : [ من عيَّر أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله ](1)
__________
(1) قال ابن رجب :
فإذا أخبر أحد أخاه بعيب ليجتنبه كان ذلك حسناً لمن أُخبر بعيب من عيوبه أن يعتذر منها إن كان له منها عذر وإن كان ذلك على وجه التوبيخ بالذنب فهو قبح مذموم .
وقيل لبعض السلف : أتحبُّ أن يخبرك أحد بعيوبك ؟ فقال : ( إن كان يريد أن يوبخني فلا ) .
فالتوبيخ والتعيير بالذنب مذموم وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تُثَرَّبَ الأمة الزانية مع أمره بجلدها فتجلد حداً ولا تعير بالذنب ولا توبخ به .
وفي الترمذي وغيره مرفوعاً : " من عيَّر أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله " . وحُمل ذلك على الذنب الذي تاب منه صاحبه . قال الفضيل : ( المؤمن يستر وينصح ، والفاجر يهتك ويُعيِّر ) .
فهذا الذي ذكره الفضيل من علامات النصح والتعيير ، وهو أن النصح يقترن به الستر والتعيير يقترن به الإعلان .(1/26)
وحُمل ذلك على الذنب الذي تاب منه صاحبه . قال الفضيل : ( المؤمن يستر وينصح ، والفاجر يهتك ويُعيِّر ) .
فهذا الذي ذكره الفضيل من علامات النصح والتعيير ، وهو أن النصح يقترن به الستر والتعيير يقترن به الإعلان .
فلهذا كان إشاعة الفاحشة مقترنة بالتعيير وهما من خصال الفجار لأن الفاجر لا غرض له في زوال المفاسد ولا في اجتناب المؤمن للنقائص والمعايب إنما غرضه في مجرد إشاعة العيب في أخيه المؤمن وهتك عرضه فهو يعيد ذلك ويبديه ومقصوده تنقص أخيه المؤمن في إظهار عيوبه ومساويه للناس ليُدخل عليه الضرر في الدنيا .
... وأما الناصح فغرضُه بذلك إزالة عيب أخيه المؤمن واجتنابه له وبذلك وصف الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128)
ووصف بذلك أصحابه فقال : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (الفتح:29) .
ووصف المؤمنين بالصبر والتواصي بالمرحمة .(1/27)
... وأما الحامل للفاجر على إشاعة السوء وهتكه فهو القوة والغلظة ومحبته إيذاء أخيه المؤمن وإدخال الضرر عليه وهذه صفة الشيطان الذي يزيِّن لبني آدم الكفر والفسوق والعصيان ليصيروا بذلك من أهل النيران كما قال الله : (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (فاطر:6) .
وقال بعد أن قص علينا قصته مع نبي الله آدم عليه السلام ومكرَه به حتى توصل إلى إخراجه من الجنة : ( يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا)(لأعراف: من الآية27).
فشتان بين من قصده النصيحة وبين من قصده الفضيحة ولا تلتبس إحداهما بالأخرى إلا على من ليس من ذوي العقول الصحيحة .
...
إن كثيرا من الناس اليوم يعدون النصح صورة من صور الثلب، والعيب، والتجريح ، والتشهير، والتأليب على الشخص المنصوح ، ولذلك لا يقبلون النصح ؛ لأنهم يعدّونه نوعًا من التنقص.
وكذلك هم لا ينصحون إنسانًا إلا إذا أبغضوه، وحاربوه، فهم ينصحونه ؛ لأنهم يسعون إلى إسقاطه، لا لأنهم يسعون إلى معرفة الحق من الباطل، بل همهم جمع المثالب، وحشد المعايب.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه: [ لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة ](1)، فاللعان: هو الذي لا يعرف من الناس إلا موضع العيب، فكلما ذُكر عنده شخص عابه، فإن ذُكر عنده شخص بعبادة قال: نعم. عابد، ولكنه ليس بعالم، والعبادة بلا علم تضر أكثر مما تنفع! فإن ذكر عنده شخص بعلم قال: نعم هو عالم، ولكن المهم النية [ إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ](2) ، فإن ذكر عنده شخص بجهاد قال: [ ورُبَّ قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته ](3) !، فإن ذكر عنده شخص بالإنفاق في سبيل الله قال: (فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) [الأنفال:36].(1/28)
وهكذا كلما ذُكر عنده شخص بمحمدة أو مدح أو ثناء، بحث عن عيب يلصقه به، وكأنه لا يسره إلا أن يذكر الناس عنده بالشر والسوء! وهذا موجود عند فئة من الناس اليوم!
11- الرفق الرفق
قال تعالى : (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) (النساء:63)
هَذَا الضَّرْب مِنْ النَّاس هُمْ الْمُنَافِقُونَ ، ومع هذا يوجهه إلى أخذهم بالرفق والنصح لهم .
وَيَنْبَغِي لِلْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَر أَنْ يَرْفُق لِيَكُونَ أَقْرَب إِلَى تَحْصِيل الْمَطْلُوب . فَقَدْ قَالَ الْإِمَام الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ : ( مَنْ وَعَظَ أَخَاهُ سِرًّا فَقَدْ نَصَحَهُ وَزَانَهُ , وَمَنْ وَعَظَهُ عَلَانِيَة فَقَدْ فَضَحَهُ وَشَانَهُ ) (1)
وتأمل قوله تعالى : ( وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) (القصص:20)
فتجد أن أحدهم كان كلما خاطب أخيه في رسائله قال له : (أخي الحبيب فلان) ، فلما بدا له أن ينصحه في مسألة ما ، قال : (الأخ فلان) ، عجبا لك!! ما خاطبته قط إلا وتقول: أخي الحبيب ، فلما كان أحوج ما يكون الكلام لذلك عند النصيحة جردت (أخ) من ياء المتكلم التي تتضمن معنى التلطف والقرب ، وتذكر قول إبراهيم عليه السلام لأبيه الكافر: { إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} (مريم:42) وقول لقمان لابنه وهو ينصحه: { يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ } (لقمان:17) ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه الكافر أبي طالب : (يا عماه). فتأمل ـ رحمك الله ـ .
12- بلاغة القول .
__________
(1) م 49(1/29)
وأعني به الوضوح والتأثير ، قال تعالى : (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) (النساء:63)
قال ابن كثير :
" وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسهمْ قَوْلًا بَلِيغًا " أَيْ وَانْصَحْهُمْ فِيمَا بَيْنك وَبَيْنهمْ بِكَلَامٍ بَلِيغ رَادِع لَهُمْ .اهـ
( وقل لهم في أنفسهم قولا بليغًا) تعبير مصور كأنما القول يودع مباشرة في الأنفس ويستقر مباشرة في القلوب وهو يرغبهم في العودة والتوبة والاستقامة والاطمئنان إلى كنف الله وكنف رسوله بعد كل ما بدا منهم من الميل إلى الاحتكام إلى الطاغوت ; ومن الصدود عن الرسول – صلى الله عليه وسلم - حين يدعون إلى التحاكم إلى الله والرسول فالتوبة بابها مفتوح والعودة إلى الله لم يفت أوانها بعد ; واستغفارهم الله من الذنب واستغفار الرسول لهم فيه القبول.
قال ابن عاشور :
والبليغ فعيل بمعنى بالغ بلوغا شديدا بقوة، أي: بالغا إلى نفوسهم متغلغلا فيها. اهـ
13- تبيين مواطن الاتفاق والاختلاف من البداية .
إنّ بِدْءَ الحديث والحوار بمواطن الاتفاق طريق إلى كسب الثقة وفُشُوِّ روح التفاهم . ويصير به الحوار هادئاً وهادفاً .
الحديث عن نقاط الاتفاق وتقريرها يفتح آفاقاً من التلاقي والقبول والإقبال ، مما يقلّل الجفوة ويردم الهُوَّة ويجعل فرص الوفاق والنجاح أفضل وأقرب ، كما يجعل احتمالات التنازع أقل وأبعد .
والحال ينعكس لو استفتح المُتحاورون بنقاط الخلاف وموارد النزاع ، فلذلك يجعل ميدان الحوار ضيقاً وأمده قصيراً ، ومن ثم يقود إلى تغير القلوب وتشويش الخواطر ، ويحمل كل طرف على التحفُّز في الرد على صاحبه مُتتبِّعاً لثغراته وزَلاته ، ومن ثم ينبري لإبرازها وتضخيمها ، ومن ثم يتنافسون في الغلبة أكثر مما يتنافسون في تحقيق الهدف .
ومما قاله بعض المُتمرّسين في هذا الشأن :(1/30)
دَعْ صاحبك في الطرف الآخر يوافق ويجيب بـ ( نعم ) ، وحِلْ ما استطعت بينه وبين ( لا ) ؛ لأن كلمة ( لا ) عقبة كؤود يصعب اقتحامها وتجاوزها ، فمتى قال صاحبك : ( لا ) ؛ أوجَبَتْ عليه كبرياؤه أن يظلّ مناصراً لنفسه .
إن التلفظ بـ ( لا ) ليس تفوُّها مجرداً بهذين الحرفين ، ولكنه تَحفُّز لكيان الإنسان بأعصابه وعضلاته وغدده ، إنه اندفاع بقوة نحو الرفض ، أما حروف ( نعم ) فكلمة سهلة رقيقة رفيقة لا تكلف أي نشاط جسماني .
ويُعين على هذا المسلك ويقود إليه ؛ إشعارك مُحدثَّك بمشاركتك له في بعض قناعاته ؛ والتصريح بالإعجاب بأفكاره الصحيحة وأدلته الجيدة ومعلوماته المفيدة ، وإعلان الرضا والتسليم بها . وهذا كما سبق يفتح القلوب ويُقارب الآراء ، وتسود معه روح الموضوعية والتجرد .
وقد قال علماؤنا : إن أكثر الجهل إنما يقع في النفي ؛ الذي هو الجحود والتكذيب ؛ لا في الإثبات ، لأن إحاطة الإنسان بما يُثْبتُه أيسر من إحاطته بما ينفيه ؛ لذا فإن أكثر الخلاف الذي يُورث الهوى نابع ؛ من أن كل واحد من المختلفين مصيب فيما يُثْبته أو في بعضه ، مخطيء في نفي ما عليه الآخر .
14- تقديم الأدلة الصحيحة المُثبِتة أو المرجِّحة .
وفي هذين الطريقين جاءت القاعدة الحوارية المشهورة : ( إن كنت ناقلاً فالصحة ، وإن كنت مدَّعيّاً فالدليل ) .
وفي التنزيل جاء قوله سبحانه : { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وفي أكثر من سورة :البقرة :111 ، والنمل 64 . { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي } (الانبياء:24) . { قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (آل عمران:93) .
15- الاتفاق على منطلقات ثابتة وقضايا مُسَلَّمة .(1/31)
وهذه المُسَلَّمات والثوابت قد يكون مرجعها ؛ أنها عقلية بحتة لا تقبل النقاش عند العقلاء المتجردين ؛ كحُسْنِ الصدق ، وقُبحِ الكذب ، وشُكر المُحسن ، ومعاقبة المُذنب .
أو تكون مُسَلَّمات دينية لا يختلف عليها المعتنقون لهذه الديانة أو تلك .
وبالوقوف عند الثوابت والمُسَلَّمات ، والانطلاق منها يتحدد مُريد الحق ممن لا يريد إلا المراء والجدل والسفسطة .
ففي الإسلام الإيمان بربوبية الله وعبوديَّته ، واتَّصافه بصفات الكمال ، وتنزيهه عن صفات النقص ، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، والقرآن الكريم كلام الله ، والحكم بما أنزل الله ، وحجاب المرأة ، وتعدد الزوجات ، وحرمة الربا ، والخمر ، والزنا ؛ كل هذه قضايا مقطوع بها لدى المسلمين ، وإثباتها شرعاً أمر مفروغ منه .
إذا كان الأمر كذلك ؛ فلا يجوز أن تكون هذه محل حوار أو نقاش مع مؤمن بالإسلام لأنها محسومة .
فقضية الحكم بما أنزل الله منصوص عليها بمثل : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ... } (النساء:65) . { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (المائدة:45) .
وحجاب المرأة محسوم بجملة نصوص :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ } (الأحزاب:59) .
وقد يسوغ النقاش في فرعيات من الحجاب ؛ كمسألة كشف الوجه ، فهي محل اجتهاد ؛ أما أصل الحجاب فليس كذلك .
الربا محسوم ؛ وقد يجري النقاش والحوار في بعض صوره وتفريعاته .(1/32)
ولهذا فإننا نقول إن من الخطأ – غير المقصود – عند بعض المثقفين والكاتبين إثارة هذه القضايا ، أعني : تطبيق الشريعة – الحجاب – تعدد الزوجات – وأمثالها في وسائل الإعلام ، من صحافة وإذاعة على شكل مقالات أو ندوات بقصد إثباتها أو صلاحيتها . أما إذا كان المقصود : النظر في حِكَمِها وأسرارها وليس في صلاحيتها وملاءمتها فهذا لا حرج فيه ، إذْ :{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ }(الأحزاب:36)
وأخيراً فينبني على هذا الأصل ؛ أن الإصرار على إنكار المُسلَّمات والثوابت مكابرة قبيحة ، ومجاراة منحرفة ، وليس ذلك شأن طالبي الحق .
16- من أدب النصيحة العلمية ( الوعظ ) تبيين الحكم مع الترغيب والترهيب ، ونعم المواعظ ما جاء عن الله .
( فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)(الأعراف: من الآية185) ) (المرسلات:50) (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ)(الجاثية: من الآية6)
(أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) (النساء:63)
قال السعدي :
" وَعِظْهُمْ " أي: بين لهم حكم الله تعالى, مع الترغيب في الانقياد لله, والترهيب من تركه.
17- سلامة كلامِ الناصح ودليله من التناقض ؛ فالمتناقض ساقط بداهة .
ومن أمثلة ذلك ما ذكره بعض أهل التفسير من :
وصف فرعون لموسى عليه السلام بقوله : { سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } (الذريات:39) .
وهو وصف قاله الكفار – لكثير من الأنبياء بما فيهم كفار الجاهلية – لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم . وهذان الوصفان السحر والجنون لا يجتمعان ، لأن الشأن في الساحر العقل والفطنة والذكاء ، أما المجنون فلا عقل معه البته ، وهذا منهم تهافت وتناقض بيّن .(1/33)
نعت كفار قريش لآيات محمد صلى الله عليه وسلم بأنها سحر مستمر ، كما في قوله تعالى : { وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } (القمر:2) .
وهو تناقض ؛ فالسحر لا يكون مستمراً ، والمستمر لا يكون سحراً .
19- عدم التعصب للمذهب أو الطريقة أو الشيخ أو الجماعة أو الطائفة أو الحزب
إن إتباع الحق ، والسعي للوصول إليه ، والحرص على الالتزام ؛ وهو الذي يقود الحوار إلى طريق مستقيم لا عوج فيه ولا التواء ، أو هوى الجمهور ، أو الأتْباع .. والعاقل – فضلاً عن المسلم – الصادق طالبٌ حقٍّ ، باحثٌ عن الحقيقة ، ينشد الصواب ويتجنب الخطأ .
يقول الغزاليّ أبو حامد : ( التعاون على طلب الحق من الدّين ، ولكن له شروط وعلامات ؛ منها أن يكون في طلب الحق كناشد ضالّة ، لا يفرق بين أن تظهر الضالّة على يده أو على يد معاونه . ويرى رفيقه معيناً لا خصماً . ويشكره إذا عرَّفه الخطأ وأظهره له ) .. الإحياء .
ومن مقولات الإمام الشافعي المحفوظة : ( ما كلمت أحداً قطّ إلا أحببت أن يُوفّق ويُسدّد ويُعان ، وتكون عليه رعاية الله وحفظه .
وما ناظرني فبالَيْتُ ! أَظَهَرَتِ الحجّةُ على لسانه أو لساني ) .
وفي ذمّ التعصب ولو كان للحق ، يقول الغزالي :
( إن التعصّب من آفات علماء السوء ، فإنهم يُبالغون في التعصّب للحقّ ، وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار ، فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة ، وتتوفر بواعثهم على طلب نُصرة الباطل ، ويقوى غرضهم في التمسك بما نُسبوا إليه . ولو جاؤوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة ، لا في معرض التعصب والتحقير لأنجحوا فيه ، ولكن لمّا كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع ، ولا يستميل الأتْباع مثلُ التعصّب واللعن والتّهم للخصوم ، اتخذوا التعصب عادتهم وآلتهم ) .(1/34)
والمقصود من كل ذلك أن يكون الحوار بريئاً من التعصّب خالصاً لطلب الحق ، خالياً من العنف والانفعال ، بعيداً عن المشاحنات الأنانية والمغالطات البيانيّة ، مما يفسد القلوب ، ويهيج النفوس ، ويُولد النَّفرة ، ويُوغر الصدور ، وينتهي إلى القطيعة .
ولهذا قيل: " حُبكَ الشيء يعْمِي وَيُصِمُّ " ، إن المتعصب أعمى، لا يعرف أعلى الوادي من أسفله، ولا يستطيع أن يميز الحق من الباطل، وقد يتحول المتعصب بنفس الحرارة ونفس القوة من محب إلى مبغض؛ ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما في سنن الترمذي، ويروى مرفوعاً، والموقوف أصح: [ أَحبِب حَبِيبَكَ هَوْنًا ما ، عَسَى أَنْ يَكُونَ بغيضك يوماً ما ، وَأَبْغضْ بغيضك هَونا ما عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يوماً مَا](1).
وقد يكون الغلو أحياناً، أو المبالغة، أو التعصب لأقوام؛ هم أشد ما يكونون بعداً عن ذلك وكراهية له، ولكنهم قد يُبتلون بمن يتعصب لهم أو يغلو فيهم، فهذا الإمام محمد بن يحيى النيسابوري أخذه الحزن على الإمام أحمد لما مات في بغداد؛ فقال حقٌ على أهل كل بيت في بغداد أن يقيموا مناحة على موت الإمام أحمد؛ فقال الذهبي -رحمه الله-: إن النيسابوري تكلم بمقتضى الحزن، لا بمقتضى الشرع، وإلا فإن النياحة منهيٌ عنها في الشريعة.
وقال بعضهم: في خُراسان يظنون أن الإمام أحمد من الملائكة، ليس من البشر.
وقال آخر: نظرة عندنا من أحمد تعدل عبادة سنة.
قال الذهبي: هذا غلو لا ينبغي.
وقال محمد بن مصعب لسوط ضربه أحمد أكرم من أيام بشر الحافي كلها؛ فقال الذهبي -رحمه الله- بشر عظيم القدر كأحمد، ولا ندري وزن الأعمال، إنما هو عند الله تعالى والله أعلم بذلك.
لقد كان الإمام أحمد -رحمه الله- رجلاً متواضعاً، بعيداً عن التكلف، ولكنَّ هذه الأشياء قد تخرج من أقوام في حالة انفعال في حزن أو غيره، وبكل حال فهي أقوال مرذولة ينبغي اطراحها والرد عليها وإنكارها، كما فعل الذهبي وغيره.(1/35)
وظهرت ورقة من الإنترنت مكتوب فيها: ابن باز هو الجماعة، وإن شئت فالألباني.
نقول بملء أفواهنا: ابن باز -رحمة الله تعالى عليه- من أئمة المسلمين، ولكن من الصعب أن تُختصر الأمة في رجل لا في ابن باز، ولا الألباني، ولا ابن عثيمين، ولا في هذا ولا في ذاك؛ فإن هذه الأمة جعل الله فيها من الخير الكثير، وتنوع المواهب والقدرات والعلوم الكثير الطيب المبارك، واعتبار شخص واحد هو الجماعة، وأنه يتعين على الناس اتباعه، والأخذ عنه أمر مردود حتى بمقياس هؤلاء الأئمة؛ فإن الشيخ ابن باز -رحمه الله- لما كان مفتياً لهذه المملكة كان لا يرى رأيه ملزماً للناس، ويرى أن قوله مثل قول غيره من العلماء، يمكن أخذه بالدليل، ويمكن رده بالدليل، فلا تطلب من الناس أكثر مما يرى الشيخ نفسه، فمن الوفاء له أن تلتزم بهذا الأدب.
والتعصب يورث أحياناً نقيض ذلك، يورث ازدراء الآخرين ممن لا يدخلون معه في عصبيته، كما يروى عن بعض فقهاء الكوفة مثلاً أنه حج ونزل بالحجاز ولقي علماءها: عطاء وطاووس وسعيد بن جبير وغيرهم، فلما رجع إلى الكوفة قال: يا أهل الكوفة! أبشروا فوالله لأنتم أهل فقه الزمان كله، لفقهاء الحجاز كلهم عطاء وطاووس وسعيد مثل صبيانكم بل مثل صبيان صبيانكم . ولا أدري ما المراد بصبيان صبيانكم؛ يعني صبيانكم أفقه منهم.
وقال أحدهم عن ابن الجوزي وهو يعدد مثالبه وأخطاءه فيما يزعم قال: ما رأيت أحداً يوثق بعلمه ودينه وعقله راضياً عنه. فعلق الذهبي -رحمه الله- بقوله: إذا رضي الله عنه فلا اعتبار بهؤلاء.
إنك كثيراً ما تسمع التقليل من شأن فلان؛ لأنه ليس على مذهبنا ، ليس على طريقتنا ، ليس من جماعتنا، فلان لا علم عنده ، فلان ليس بشيء.
21- الالتزام بوقت محدد في الكلام
ينبغي أن يستقر في ذهن المُحاور ألا يستأثر بالكلام ، ويستطيل في الحديث ، ويسترسل بما يخرج به عن حدود اللباقة والأدب والذوق الرفيع .(1/36)
يقول ابن عقيل في كتابه فن الجدل : ( وليتناوبا الكلام مناوبة لا مناهبة ، بحيث ينصت المعترض للمُستَدِلّ حتى يفرغ من تقريره للدليل ، ثم المُستدِلُّ للمعترض حتى يُقرر اعتراضه ، ولا يقطع أحد منها على الآخر كلامه وإن فهم مقصوده من بعضه ) .
وقال : ( وبعض الناس يفعل هذا تنبيهاً للحاضرين على فطنته وذكائه وليس في ذلك فضيلة إذ المعاني بعضها مرتبط ببعض وبعضها دليل على بعض ، وليس ذلك علم غيب ، أو زجراً صادقاً ، أو استخراج ضمير حتى يفتخر به ) ( 9 ) .
والطول والاعتدال في الحديث يختلف من ظرف إلى ظرف ومن حال إلى حال ، فالندوات والمؤتمرات تُحدَّد فيها فرص الكلام من قبل رئيس الجلسة ومدير الندوة ، فينبغي الإلتزام بذلك .
والندوات واللقاءات في المعسكرات والمنتزهات قد تقبل الإطالة أكثر من غيرها ، لتهيؤ المستمعين . وقد يختلف ظرف المسجد عن الجامعة أو دور التعليم الأخرى .
ومن المفيد أن تعلم ؛ أن أغلب أسباب الإطالة في الكلام ومقاطعة أحاديث الرجال يرجع إلى ما يلي :
1- إعجاب المرء بنفسه .
2- حبّ الشهرة والثناء .
3- ظنّ المتحدث أن ما يأتي به جديد على الناس .
4- قِلَّة المبالاة بالناس في علمهم ووقتهم وظرفهم .
والذي يبدوا أن واحداً منها إذا استقر في نفوس السامعين كافٍ في صرفهم ،وصدودهم ، مللهم ، واستثقالهم لمحدِّثهم .
وأنت خبير بأن للسامع حدّاً من القدرة على التركيز والمتابعة إذا تجاوزها أصابه الملل ، وانتابه الشُّرود الذّهني . ويذكر بعضهم أن هذا الحد لا يتجاوز خمس عشرة دقيقة .
ومن الخير للمتحدث أن يُنهي حديثه والناس متشوفة للمتابعة ، مستمتعة بالفائدة . هذا خير له من أن تنتظر الناس انتهاءه وقفل حديثه ، فالله المستعان .
22- حسن الاستماع وأدب الإنصات وتجنب المقاطعة(1/37)
كما يطلب الالتزام بوقت محدد في الكلام ، وتجنب الاطالة قدر الإمكان ، فيطلب حُسن الاستماع ، واللباقة في الإصغاء ، وعدم قطع حديث المُحاور . وإنّ من الخطأ أن تحصر همَّك في التفكير فيما ستقوله ، ولا تُلقي بالاً لمُحدثك ومُحاورك ، وقد قال الحسن بن علي لابنه ، رضي الله عنهم أجمعين :
( يا بنيّ إذا جالست العلماء ؛ فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول ، وتعلًم حُسْنَ الاستماع كما تتعلم حسن الكلام ، ولا تقطع على أحد حديثاً – وإن طال – حتى يُمسك ) .
ويقول ابن المقفع :
( تَعلَّمْ حُسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام ؛ ومن حسن الاستماع : إمهال المتكلم حتى ينقضي حديثه . وقلة التلفت إلى الجواب . والإقبال بالوجه . والنظر إلى المتكلم . والوعي لما يقول ) .
لا بدّ في الحوار الجيِّد من سماع جيِّد ؛ والحوار بلا حُسْن استماع هو ( حوار طُرْشان ) كما تقول العامة ، كل من طرفيه منعزل عن الآخر .
إن السماع الجيِّد يتيح القاعدة الأساسية لالتقاء الآراء ، وتحديد نقاط الخلاف وأسبابه . حسن الاستماع يقود إلى فتح القلوب ، واحترام الرجال وراحة النفوس ، تسلم فيه الأعصاب من التوتر والتشنج ، كما يُشْعِرُ بجدّية المُحاور ، وتقدير المُخالف ، وأهمية الحوار . ومن ثم يتوجه الجميع إلى تحصيل الفائدة والوصول إلى النتيجة
23- تقدير المنصوح واحترامه
ينبغي في مجلس الحوار التأكد على الاحترام المتبادل من الأطراف ، وإعطاء كل ذي حق حقه ، والاعتراف بمنزلته ومقامه ، فيخاطب بالعبارات اللائقة ، والألقاب المستحقة ، والأساليب المهذبة .
إن تبادل الاحترام يقود إلى قبول الحق ، والبعد عن الهوى ، والانتصار للنفس . أما انتقاص الرجال وتجهيلها فأمر مَعيب مُحرّم .(1/38)
وما قيل من ضرورة التقدير والاحترام ، لا ينافي النصح ، وتصحيح الأخطاء بأساليبه الرفيعة وطرقه الوقورة . فالتقدير والاحترام غير المَلَقِ الرخيص ، والنفاق المرذول ، والمدح الكاذب ، والإقرار على الباطل .
ومما يتعلق بهذه الخصلة الأدبية أن يتوجه النظر وينصرف الفكر إلى القضية المطروحة ليتم تناولها بالبحث والتحليل والنقد والإثبات والنَّقص بعيداً عن صاحبها أو قائلها ، كل ذلك حتى لا يتحول الحوار إلى مبارزة كلامية ؛ طابعها الطعن والتجريح والعدول عن مناقشة القضايا والأفكار إلى مناقشات التصرفات ، والأشخاص ، والشهادات ، والمؤهلات والسير الذاتية .
فلستَ بأصدق إيماناً بالضرورة، ولا أوسعَ علماً، ولا أرجحَ عقلاً ممن تختلف معه، ولهذا قال يحيى بن سعيد: ما برح المستفتون يسألون، فيجيب هذا بالتحريم، وهذا بالإباحة، فلا يعتقد الْمُبيحُ أن الْمُحَرِّمَ هلك، ولا يعتقد الْمُحَرِّمُ أن المبيحَ هلك.
وكان الإمام أحمد يقول: ما عبر الجسر إلينا أفضل من إسحاق، وإن كنا نختلف معه في أشياء؛ فإنه لم يزل الناس يخالف بعضهم بعضا.
كتب أحدهم رأياً في مسألة من المسائل الفقهية ونشرها؛ فقال له أحد المناقشين: لماذا تبحث هذه المسألة التي لم يبحثها العلماء من قبلك؟! قال له: لقد بحثوها وأوسعوها بحثاً. قال له: إذاً فلماذا تبحثها وقد بحثوها، ألا يكفيك بحثهم عما فعلت.
إن أفهام الرجال ليست وحياً، والمدارس الفقهية، أو الدعوية ليست هي الإسلام، وإن كانت تنتسب إليه وترجع إليه.(1/39)
وفي صحيح مسلم عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: [ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ في خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا ثُمَّ قَالَ : وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلاَ تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلاَ ذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ فَإِنَّكُمْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِى أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ ](1) .
لاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم يوصي رجلاً من أصحابه اختاره لقيادة الجيش، والنبي صلى الله عليه وسلم حاضر بين أظهُرهم، ويقول له: لا تنزل الناس على ذمة الله وذمة رسوله، ولا على حكم الله وحكم رسوله؛ لأنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله وحكم رسوله أم لا ، ولقد سمعت بأذني غير مرة من يتكلم بمسألة قصارى ما يُقال فيها: إنها اجتهادية؛ فيقول: أنا لا أتكلم من قِبل نفسي أنا لا أقول برأي، وإنما هذا منهج الله، هذا حكم الله، و أقول: سبحان الله؛ فهل الآخرون يأخذون من التوراة، أو الإنجيل؟ كلا؛ بل الجميع يدورون على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولكن يكون المعنى قابلاً لأكثر من اجتهاد، وأكثر من محمل، وأكثر من رأي.
يقول ابن القيم -رحمه الله-: لا يجوز أن يقول لما أداه إليه اجتهاده، ولم يظفر فيه بنص إن الله حرم هذا وأوجب هذا، أو هذا حكم الله.(1/40)
ويقول ابن تيميه -رحمه الله-:ولكن كَثِيرًا من النَّاسِ يَنْسُبُونَ ما يقولونه إلى الشَّرْعِ وليس من الشَّرْعِ ; بل يقولون ذلك إما جَهْلاً وَإما غَلَطًا وَإما عَمْدًا وَافْتِرَاءً.
إنه لا وصاية على الناس ولا إلزام بمذهب معين، وقد عرض المنصور على إمام دار الهجرة مالك بن أنس أن يعمم كتاب الموطأ على الأمصار، وأن يُلزم الناس بالأخذ به، فنهاه عن ذلك، وقال: يا أمير المؤمنين! لا تفعل، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وعملوا بذلك، ودانوا به من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وإن ردهم عما اعتقدوه شديد فدع الناس وما هم عليه وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم.
وهذا من فقه هذا الإمام وتقواه؛ فإن كثيراً من المختلفين لو استطاع أحدهم أن يستميل إليه السلطان ليتقوى به على خصومه؛ لفعل.
وقد وقع هذا كثيراً في التاريخ والواقع؛ فإن كثيراً من المختلفين من المذاهب الفقهية أو الاعتقادية، ربما استنصروا بالسلطان على خصومهم وأعدائهم؛ فأبعدوهم وآذوهم.
فالحوار غير الجدال ، واحترام أراء الآخرين أمر مطلوب ، ولنا في حوار الأنبياء مع أقوامهم أسوه حسنة، فموسى وهارون أمرا أن يقولا لفرعون قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى . وفى سورة سبأ يسوق الله لنا أسلوبا لمخاطبة غير المسلمين حيث يقول فى معرض الحوار . "وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" .
26- استعمال الصبر والمداراة ، واحتمال الأذى ومقابلة السيئة بالحسنة :(1/41)
كما أمر الله -تبارك وتعالى- بذلك في غير ما موضع من كتابه "وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ"[فصلت:34]، وبهذا استمال النبي صلى الله عليه وسلم قلوب أعدائه، وعالج قسوتها وشماسها ونفارها، حتى لانت واستقادت وقبلت الحق؛ فالكلمة الطيبة والابتسامة الصادقة الصافية، والإحسان إلى الآخرين بالقول والفعل؛ من أسباب زوال العداوة وتقارب القلوب "وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظيمٍ"[فصلت:35] .
قال قائل لأبي حنيفة ينكر عليه أخذه بالقياس .
كُنَّا مِنَ الدِّينِ قَبْلَ اليَومِ فِي سِعَةٍ *** حَتَّى بُلِينَا بِأَصْحَابِ الْمَقَايِيسِ
قَومٌ إِذَا اجْتَمَعُوا صاحوا كأنهم *** ثَعَالِبٌ ضَبَحَتْ بَيْنَ النَّوَاوِيسِ
فسمع أبو حنيفة بذلك؛ فأرسل له هدية، وكانت هذه الهدية رشوة، لكنها رشوة بطريقة شرعية صحيحة؛ فلما قبض الهدية قال:
إِذَا مَا النَّاسُ يَوْماً قَايَسُونَا *** بِآبِدَةٍ مِنَ الفُتْيَا طَرِيفَهْ
أَتَيْنَاهُمْ بِمِقْيَاسٍ صَحِيحٍ *** مُصِيبٍ مِنْ قِيَاسِ أَبِي حَنِيفَهْ
إِذَا سَمِعَ الفَقِيهُ بِهَا وَعَاهَا *** وَأَوْدَعَهَا بِحِبْرٍ فِي صَحِيفَهْ
ومن ذلك: ألا تكثر العتاب والمحاسبة، وفي صحيح البخاري (باب من لم يواجه الناس بالعتاب) وذكر فيه حديث عائشة قَالَت صنع النبي صلى الله عليه وسلم شَيْئًا فَرَخَّصَ فِيهِ فَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَخَطَبَ فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ : ( مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّىْءِ أَصْنَعُهُ ، فَوَاللَّهِ إِنِّى لأَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً ). ومن ذلك عدم الانتقام والتشفي، والانتصار للنفس.(1/42)
39- لا تداهنه ولا تغشه ، وخآصة عند طلب النصيحة
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( وَإِذَا اِسْتَنْصَحَك ) فَمَعْنَاهُ طَلَبَ مِنْك النَّصِيحَة , فَعَلَيْك أَنْ تَنْصَحهُ , وَلَا تُدَاهِنهُ , وَلَا تَغُشّهُ . (1)
27- فهم نفسية الطرف الآخر ، ومعرفة مستواه العلمي ، وقدراته الفكرية
سواء كان فردا أو مجموعة ؛ ليخاطبهم بحسب ما يفهمون.
[ خاطبوا الناس بما يعرفون ...](2)
32- البعد عن اللجج ، ورفع الصوت ، والفحش في الكلام
قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث ابن مسعود ( ليس المؤمن باللعان ولا بالطعان ولا الفاحش ولا البذيء )(3) وفي صحيح البخاري عن عبدالله بن عمرو ابن العاص ـ رضي الله عنه ـ انه قال: ( لم يكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاحشاً ومتفحشاً )(4) وكان يقول : ( إن من خياركم أحسنكم أخلاقا )(5) .
فليس من قوة الحجة المبالغة في رفع الصوت في النقاش والحوار بل كل ما كان الإنسان أهداء كان أعمق .
40- جاهد نفسك على التخلق بخلق النصح .
جاهد نفسك على التخلق بخلق النصح ، تجد حلاوة الإيمان ، وتكن من أولياء الرحمن ، أهل البر والإحسان .
41- ليس من شروط الحوار الناجح أن ينتهي أحد الطرفين إلى قول الطرف الآخر.
من المهم في هذا الأصل إدراك أن الرأي نسبيُّ الدلالة على الصواب أو الخطأ ، والذي لا يجوز عليهم الخطأ هم الأنبياء عليهم السلام فيما يبلغون عن ربهم سبحانه وتعالى . وما عدا ذلك فيندرج تحت المقولة المشهورة ( رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب ) .
__________
(1) شرح مسلم للنووي/ 2162 )(1/43)
وبناء عليه ؛ فليس من شروط الحوار الناجح أن ينتهي أحد الطرفين إلى قول الطرف الآخر . فإن تحقق هذا واتفقنا على رأي واحد فنعم المقصود ، وهو منتهى الغاية . وإن لم يكن فالحوار ناجح . إذا توصل المتحاوران بقناعة إلى قبول كلٍ من منهجيهما ؛ يسوغ لكل واحد منهما التمسك به ما دام أنه في دائرة الخلاف السائغ .
وفي تقرير ذلك يقول ابن تيمية رحمه الله : ( وكان بعضهم يعذر كل من خالفه في مسائل الاجتهادية ، ولا يكلفه أن يوافقه فهمه ) ا هـ . من المغني .
ولكن يكون الحوار فاشلاً إذا انتهى إلى نزاع وقطيعة ، وتدابر ومكايدة وتجهيل وتخطئة .
رابعا : ما يجب على المنصوح أثناء النصيحة .
1- قصد إظهار الحق الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن رجب :
علماء الدين كلُّهم مجمعون على قصد إظهار الحق الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ولأنْ يكون الدين كله لله وأن تكون كلمته هي العليا ، وكلُّهم معترفون بأن الإحاطة بالعلم كله من غير شذوذ شيء منه ليس هو مرتبة أحد منهم ولا ادعاه أحد من المتقدمين ولا من المتأخرين فلهذا كان أئمة السلف المجمع على علمهم وفضلهم يقبلون الحق ممن أورده عليهم وإن كان صغيراً ويوصون أصحابهم وأتباعهم بقبول الحق إذا ظهر في غير قولهم . (1)
... ولم يترك ذلك أحد من أهل العلم ولا ادعى فيه طعناً على من ردَّ عليه قولَه ولا ذمَّاً ولا نقصاً اللهم إلا أن يكون المصنِّف ممن يُفحش في الكلام ويُسيءُ الأدب في العبارة فيُنكَر عليه فحاشته وإساءته دون أصل ردِّه ومخالفته ، إقامةً للحجج الشرعية والأدلة المعتبرة .
__________
(1) النصيحة والتعيير / 3 ) .(1/44)
وسبب ذلك أن علماء الدين كلُّهم مجمعون على قصد إظهار الحق الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ولأنْ يكون الدين كله لله وأن تكون كلمته هي العليا ، وكلُّهم معترفون بأن الإحاطة بالعلم كله من غير شذوذ شيء منه ليس هو مرتبة أحد منهم ولا ادعاه أحد من المتقدمين ولا من المتأخرين فلهذا كان أئمة السلف المجمع على علمهم وفضلهم يقبلون الحق ممن أورده عليهم وإن كان صغيراً ويوصون أصحابهم وأتباعهم بقبول الحق إذا ظهر في غير قولهم .
... كما قال عمر رضي الله عنه في مهور النساء وردَّت المرأة بقوله تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (النساء:20) ، فرجع عن قوله وقال : ( أصابتِ امرأةٌ ورجلٌ أخطأ ) وروي عنه أنه قال : ( كل أحد أفقه من عمر ) .
... وكان بعض المشهورين إذا قال في رأيه بشيء يقول : ( هذا رأينا فمن جاءنا برأي أحسنَ منه قبلناه ) .
... وكان الشافعي يبالغ في هذا المعنى ويوصي أصحابه باتباع الحق وقبول السنة إذا ظهرت لهم على خلاف قولهم وأن يضرب بقوله حينئذٍ الحائط ، وكان يقول في كتبه : ( لا بد أن يوجد فيها ما يخالف الكتاب والسنة لأن الله تعالى يقول : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء:82)
... وأبلغ من هذا أنه قال : ( ما ناظرني أحد فباليت أظهرت الحجة على لسانه أو على لساني ) . ...
... وهذا يدل على أنه لم يكن له قصد إلا في ظهور الحق ولو كان على لسان غيره ممن يناظره أو يخالفه . ...(1/45)
... ومن كانت هذه حاله فإنه لا يكره أن يُردَّ عليه قولُه ويتبين له مخالفته للسنة لا في حياته ولا في مماته . وهذا هو الظن بغيره م أئمة الإسلام ، الذابين عنه القائمين بنَصْرِه من السلف والخلف ولم يكونوا يكرهون مخالفة من خالفهم أيضاً بدليل عَرَضَ له ولو لم يكن ذلك الدليل قوياً عندهم بحيث يتمسكون به ويتركون دليلهم له . ...
... ولهذا كان الإمام أحمد رحمه الله تعالى يذكر إسحاق بن راهويه ويمدحه ويثني عليه ويقول : ( وإن كان يخالف في أشياء فإن الناس لم يزل بعضهم يخالف بعضا ) أو كما قال .
... وكان كثيراً يُعرضُ عليه كلام إسحاق وغيره من الأئمة ، ومأخذهم في أقوالهم فلا يوافقهم في قولهم ولا يُنكِر عليهم أقوالهم ولا استدلالهم وإن لم يكن هو موافقاً على ذلك كله ... وقد استحسن الإمام أحمد ما حكي عن حاتم الأصم أنه قيل له : أنت رجل أعجمي لا تفصح وما ناظرك أحد إلا قطعته فبأي شيء تغلب خصمك ؟ فقال بثلاث : أفرح إذا أصاب خصمي وأحزن إذا أخطأ وأحفظ لساني عنه أن أقول له ما يسوؤه أو معنى هذا فقال أحمد : (ما أعقله من رجل ) .
... فحينئذٍ فرد المقالات الضعيفة وتبيين الحق في خلافها بالأدلة الشرعية ليس هو مما يكرهه أولئك العلماء بل مما يحبونه ويمدحون فاعله ويثنون عليه .
... فلا يكون داخلاً في الغيبة بالكلية فلو فرض أن أحداً يكره إظهار خطئه المخالف للحق فلا عبرة بكراهته لذلك فإن كراهة إظهار الحق إذا كان مخالفاً لقول الرجل ليس من الخصال المحمودة بل الواجب على المسلم أن يحب ظهور الحق ومعرفة المسلمين له سواءٌ كان ذلك في موافقته أو مخالفته .
... وهذا من النصيحة لله ولكتابه ورسوله ودينه وأئمة المسلمين وعامتهم وذلك هو الدين كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم .(1/46)
... وأما بيان خطأ من أخطأ من العلماء قبله إذا تأدب في الخطاب وأحسن في الرد والجواب فلا حرج عليه ولا لوم يتوجه إليه وإن صدر منه الاغترار بمقالته فلا حرج عليه وقد كان بعض السلف إذا بلغه قول ينكره على قائله يقول : ( كذب فلان ) ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : " كذب أبو السنابل " لما بلغه أنه أفتى أن المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملاً لا تحل بوضع الحمل حتى يمضى عليها أربعة أشهر وعشر .
... وقد بالغ الأئمة الوَرِعون في إنكار مقالات ضعيفة لبعض العلماء وردِّها أبلغ الردِّ كما كان الإمام أحمد ينكر على أبي ثور وغيره مقالات ضعيفة تفردوا بها ويبالغ في ردها عليهم هذا كله حكم الظاهر .
... وأما في باطن الأمر : فإن كان مقصوده في ذلك مجرد تبيين الحق ولئلا يغتر الناس بقالات من أخطأ في مقالاته فلا ريب أنه مثاب على قصده ودخل بفعله هذا بهذه النية في النصح لله ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم .
... وسواء كان الذي بين الخطأ صغيراً أو كبيراً فله أسوة بمن رد من العلماء مقالات ابن عباس التي يشذ بها وأُنكرت عليه من العماء مثل المتعة والصرف والعمرتين وغير ذلك .
... ومن ردَّ على سعيد بن المسيِّب قوله في إباحته المطلقة ثلاثاً بمجرد العقد وغير ذلك مما يخالف السنة الصريحة ، وعلى الحسن في قوله في ترك الإحداد على المتوفى عنها زوجها ، وعلى عطاء في إباحته إعادة الفروج ، وعلى طاووس قوله في مسائل متعددة شذَّ بها عن العلماء ، وعلى غير هؤلاء ممن أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم ومحبتهم والثناء عليهم .(1/47)
... ولم يعد أحد منهم مخالفيه في هذه المسائل ونحوها طعناً في هؤلاء الأئمة ولا عيباً لهم ، وقد امتلأت كتب أئمة المسلمين من السلف والخلف بتبيين هذه المقالات وما أشبهها مثل كتب الشافعي وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور ومن بعدهم من أئمة الفقه والحديث وغيرهما ممن ادعوا هذه المقالات ما كان بمثابتها شيء كثير ولو ذكرنا ذلك بحروفه لطال الأمر جداً .
... وأما إذا كان مرادُ الرادِّ بذلك إظهارَ عيب من ردَّ عليه وتنقصَه وتبيينَ جهله وقصوره في العلم ونحو ذلك كان محرماً سواء كان ردُّه لذلك في وجه من ردِّ عليه أو في غيبته وسواء كان في حياته أو بعد موته وهذا داخل فيما ذمَّه الله تعالى في كتابه وتوعد عليه في الهمز واللمز وداخل أيضاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم : "يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لا تؤذوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته " . وهذا كله في حق العلماء المقتدى بهم في الدين فأما أهل البدع والضلالة ومن تشبه بالعلماء وليس منهم فيجوز بيان جهلهم وإظهار عيوبهم تحذيراً من الاقتداء بهم . وليس كلامنا الآن في هذا القبيل والله أعلم. (1)
2- الإحسان إلى الناصح المخلص ، وإكرامه
قال ابن رجب:
ومن عُرف منه أنه أراد بردِّه على العلماء النصيحة لله ورسوله فإنه يجب أن يُعامَل بالإكرام والاحترام والتعظيم كسائر أئمة المسلمين الذين سبق ذكرهم وأمثالهم ومن تبعهم بإحسان .
ومن عرف منه أنه أراد برده عليهم التنقص والذم وإظهار العيب فإنه يستحق أن يقابل بالعقوبة ليرتدع هو ونظراؤه عن هذه الرذائل المحرمة .
__________
(1) النصيحة والتعيير / 3 ) .(1/48)
ويُعرف هذا القصد تارة بإقرار الرادِّ واعترافه ، وتارة بقرائن تحيط بفعله وقوله ، فمن عُرف منه العلم والدين وتوقير أئمة المسلمين واحترامهم لم يَذكر الردَّ وتبيين الخطأ إلا على الوجه الذي يراه غيره من أئمة العلماء .
وأما في التصانيف وفي البحث وجب حمل كلامه على الأول ومن حمل كلامه [على غير ذلك ] – والحال على ما ذُكر – فهو ممن يَظن بالبريء الظن السوء وذلك من الظن الذي حرمه الله ورسوله وهو داخل في قوله سبحانه : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (النساء:112) ، فإن الظن السوء ممن لا تظهر منه أمارات السوء مما حرمه الله ورسوله فقد جمع هذا الظانّ بين اكتساب الخطيئة والإثم ورمي البريء بها.
ويقوي دخوله في هذا الوعيد إذا ظهرت منه – أعني هذا الظان – أمارات السوء مثل: كثرة البغي والعدوان وقلة الورع وإطلاق اللسان وكثرة الغيبة والبهتان والحسد للناس على ما آتاهم الله من فضله والامتنان وشدة الحرص على المزاحمة على الرئاسات قبل الأوان .
فمن عُرفت منه هذه الصفات التي لا يرضى بها أهل العلم والإيمان فإنه إنما يحمل تَزْمنة العلماء [وإذا كان ] ردُّه عليهم على الوجه الثاني فيستحق حينئذٍ مقابلته بالهوان ومن لم تظهر منه أمارات بالكلية تدل على شيء فإنه يجب أن يحمل كلامه على أحسن مُحْمَلاتِهِ ولا يجوز حمله على أسوأ حالاته . وقد قال عمر رضي الله تعالى عنه : ( لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المسلم سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً ) . (1)
3- الصبر على أذى الناصح .
__________
(1) النصيحة والتعيير / 7 - 8) .(1/49)
( البخاري / 6059 حَدِيث اِبْن مَسْعُود فِي إِخْبَاره النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ الْقَائِل " هَذِهِ قِسْمَة مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْه اللَّه " سَيَأْتِي شَرْحه مُسْتَوْفًى فِي " بَاب الصَّبْر عَلَى الْأَذَى " إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَقَوْله فِي هَذِهِ الرِّوَايَة فَتَمَعَّرَ وَجْهه بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَة أَيْ تَغَيَّرَ مِنْ الْغَضَب , وَلِلْكُشمِيهَنِيّ فَتَمَغَّرَ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَة أَيْ صَارَ لَوْنه لَوْن الْمَغَرَة , وَأَرَادَ الْبُخَارِيّ بِالتَّرْجَمَةِ بَيَان جَوَاز النَّقْل عَلَى وَجْه النَّصِيحَة , لِكَوْنِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُنْكِر عَلَى اِبْن مَسْعُود نَقْله مَا نَقَلَ , بَلْ غَضِبَ مِنْ قَوْل الْمَنْقُول عَنْهُ , ثُمَّ حَلُمَ عَنْهُ وَصَبَرَ عَلَى أَذَاهُ اِئْتِسَاءًا بِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام وَامْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ( فَبِهُدَاهُمْ اِقْتَدِهِ ) .
قال ابن رجب : ...
ومن بُلي بشيء من هذا المكر فليتق الله ويستعن به ويصبر فإن العاقبة للتقوى . كما قال الله تعالى : بعد أن قصَّ قِصَّة يوسف وما حصل له من أنواع الأذى بالمكر والمخادعة :(1/50)
( وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ )(يوسف: من الآية21) ، وقال الله تعالى حكاية عه أنه قال لإخوته : ( أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا )(يوسف: من الآية90) ، وقال تعالى في قصة موسى عليه السلام وما حصل له ولقومه من أذى فرعون وكيده قال لقومه : ( اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا)(لأعراف: من الآية128) ، وقد أخبر الله تعالى أن المكر يعود وباله على صاحبه قال تعالى : ( وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ )(فاطر: من الآية43) ، وقال تعالى : (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا)(الأنعام: من الآية123) ، والواقع يشهد بذلك فإن من سبر أخبار الناس وتواريخ العالم وقف على أخبار من مكر بأخيه فعاد مكره عليه وكان ذلك سبباً في نجاته وسلامته على العجب العجاب .
لو ذكرنا بعض ما وقع من ذلك لطال الكتاب واتسع الخطاب والله الموفق للصواب وعليه قصد السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً . (1)
خامسا : ما يجب على الناصح بعد النصيحة .
1- أنت مأمور بالنصيحة غير مأمور باستجابة المنصوح
(وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (هود:34)
قال السعدي :
" وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ "
. أي: إن إرادة الله غالبة, فإنه إذا أراد أن يغويكم, لردكم الحق. فلو حرصت غاية مجهودي, ونصحت لكم أتم النصح - وهو قد فعل عليه السلام - فليس ذلك بنافع لكم شيئا.
" هُوَ رَبُّكُمْ " يفعل بكم ما يشاء, ويحكم فيكم, بما يريد " وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " فيجازيكم بأعمالكم.
قال ابن عاشور :
__________
(1) النصيحة والتعيير / 15) .(1/51)
( ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم وإليه ترجعون[34]( عطف على وعظهم بحلول العذاب وتوقعه بيان حال مجادلته إياهم التي امتعضوا منها بأنها مجادلة لنفعهم وصلاحهم، وفي ذلك تعريض بتحميقهم وتسفيه آرائهم حيث كرهوا ما هو نفع لهم.
فالمراد بالنصح هنا هو ما سماه قومه بالجدال، أي هو أولى بأن يسمى نصحا لأن الجدال يكون للخير والشر كما تقدم.
فوائد :
2- اِحْتِمَال الْأَذَى بعد بَذْل النَّصِيحَة
( البخاري / 1283 / عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِامْرَأَةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ اتَّقِي اللَّهَ وَاصْبِرِي قَالَتْ إِلَيْكَ عَنِّي فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي وَلَمْ تَعْرِفْهُ فَقِيلَ لَهَا إِنَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَتْ بَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ فَقَالَتْ لَمْ أَعْرِفْكَ فَقَالَ إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى .
قال ابن حجر : وَفِيهِ التَّرْغِيب فِي اِحْتِمَال الْأَذَى عِنْد بَذْل النَّصِيحَة وَنَشْر الْمَوْعِظَة .اهـ
سادسا : ما يجب على المنصوح بعد النصيحة .
1- الاعتراف بالخطأ
البشر هم البشر ، لا عصمة لأحدٍ منهم بعدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بل كلّهم خطاء ، و خير الخطّائين التوابون .
و قد نُدبنا إلى الرجوع عن الخطأ ، و التوبة ، و لا فَرق في ذلك بين عامي و عالم ، أو أمير و مأمور ، أو كبير و صغير .
و حريٌّ به إن بان له الحق أن يرجع إليه ، و يعضَّ عليه بالنواجذ ، لينجو بنفسه ، و ينجو بنجاته الأتباع من بعده .(1/52)
و له في ذلك أسوة حسنةٌ في نبيِّ الرحمة - صلى الله عليه وسلم - الذي ما ترك خيراً إلا و أرشدنا إليه ، و لا شراً إلا أخذ بحُجَزِنا فصرفنا عنه ، و حذَّرَنا منه ، و قد كان مدرسةً في اتباع الحقّ و الرجوع عمّا يخالفه .
فقد قعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و أبو بكر يبكيان بعد أن تبيّن لهما الحق في مسألة أسارى بدر ، خلافاً لما ذهبا إليه .
أخرج مسلم في صحيحه عن عمَر بن الخطّاب رضي الله عنه في قصّة أسارى بدر ـ و كانوا سبعين رجلاً من المشركين ـ أنّهم : ( لما أسروا الأسارى ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر ، و عمر : ( ما ترون في هؤلاء الأسارى ؟ ) فقال أبو بكر : يا نبي الله هم بنو العم و العشيرة أرى أن تأخذ منهم فديةً ، فتكون لنا قوةً على الكفار ، فعسى الله أن يهديهم للإسلام . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما ترى يا ابن الخطاب ؟ ) قلت : لا و الله يا رسول الله ، ما أرى الذي رأى أبو بكر ، و لكني أرى أن تُمكنا فنضرب أعناقهم ... فهَوِيَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر ، و لم يهوَ ما قلتُ ، فلما كان من الغد جئتُ ، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و أبو بكر قاعِدَين يبكيان ، قلت : يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي ، أنت و صاحبك فإن وجدت بكاءً بكيتُ ، و إن لم أجد بكاءً تباكيتُ لبكائكما . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أبكي للذي عَرض علي أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عُرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة ، شجرة قريبة من نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، و أنزل الله عز و جل : ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَ اللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ و اللهُ عَزيزٌ حَكِيمٌ ) [ الأنفال : 67 ] .
فما أروعه من مثَل ، و يالِحُسنِها من تربية !(1/53)
نبيّ الرحمة ، و صدّيق هذه الأمّة ، يبكيان ، و يعلّمان الدعاة و العلماء ، أدباً رفيعاً من آداب الدعاة ، في الرجوع إلى الحق ، و التمسك به .
و هكذا كان أصحابه رضوان الله عليهم من بعده ، يتلمسون سبل الهدى ، و ينصاعون إلى الحق ، و يعرضون عمّا يخالفه ، و لا يجد الواحد منهم غضاضةً في الرجوع عن رأيه ، و قبول الحقّ ممّن جاء به ، كائناً من كان .
كيف ، و هم المتواصون بالحقّ ، المتواصون بالصبر !!
و ما أجمل قول فاروق هذه الأمة رضي الله عنه في كتابه لمعاوية بن أبي سفيان عامله على الشام : ( و لا يمنعك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك و هديت لرشدك أن تراجع الحق فإن الحق قديم و مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل ) .
قال السرخسي رحمه الله معقباً على كلام الفاروق هذا : ( و ليس هذا في القاضي خاصة بل هو في كل من يبين لغيره شيئا من أمور الدين الواعظ و المفتي و القاضي في ذلك سواء إذا تبين له أنه زل فليُظهر رجوعه عن ذلك ، فزلة العالم سبب لفتنة الناس ... و قوله : الحق قديم ؛ يعنى هو الأصل المطلوب ، و لأنه لا تنكتم زلة من زل ، بل تظهر لا محالة فإذا كان هو الذي يظهر على نفسه كان أحسن حالاً ، ثم العقلاء ، من أن تظهر ذلك عليه مع إصراره على الباطل ) [ المبسوط : 16 / 62 ] .
قلت : و ما إصرار المخطئ على خطئه بعد قيام الحجة عليه ، و وضوح المحجّة بين يديه ، إلا ضرب من ضروب المكابرة ، لا يصير إليها إلا مخذول أخذته العزّة بالاثم ، فآثر العاجل على الآجل ، و هذا حال علماء السوء الذين ابتليت بهم الأمّة قديماً و حديثاً ، و لهؤلاء خطر داهمٌ تتعيّن مقابلته بالنكير و التحذير .
روى مسلم في صحيحه عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : ( يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ، و لا يستنون بسنتي ، و سيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس ) .(1/54)
و روى أحمد و غيره بإسناد حسن عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال لكعب : إني أسألك عن أمر فلا تكتمني قال : و الله لا أكتمك شيئاً أعلمه . قال : ما أخوف شيءٍ تخافه على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : أئمة مضلون . قال عمر : صدقت ، قد أسر ذلك إليَّ و أعلمنيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
و قال عبد الله بن المبارك رحِمَه الله :
و هل أفسد الدين إلا الملوك
و أحبار سوء و رهبانها
و مثل أحبار ( علماء ) السوء كما روي عن المسيح عليه السلام : كمثل صخرة وقعت في فم النهر ، لا هي تشرب و لا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع ، أو كمثل قناة الحُش ظاهرها جص و باطنها نتن ، و مثل القبور ظاهرها عامر و باطنها عظام . [ انظر : إحياء علوم الدين: 1/74 ] .
... و ردعاً لهؤلاء ( ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتيين ، فمن صلح للفتيا أقره ، و من لا يصلح منعه ، و نهاه أن يعود ، و تواعده بالعقوبة إن عاد ، و طريق الإمام إلى معرفة من يصلح للفتوى ، أن يسأل علماء وقته ، و يعتمد أخبار الموثوقين فيهم ) قاله الخطيب البغدادي [ كما في آداب الفتوى ، للنووي ، ص : 17 ، 18 ] .
... قال ابن القيم رحمه الله : ( من أفتى الناس ، و ليس بأهل للفتوى فهو آثم عاصٍ ، و من أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضاً ) .
ثمّ نقل عن أبي الفرج ابن الجوزي رحمه الله قوله : ( و يلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية ، و هؤلاء بمنزلة من يدل الركب و ليس له علم بالطريق ، و بمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة ، و بمنزلة من لا معرفة له بالطب ، و هو يطب الناس ، بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم، و إذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب و السنة و لم يتفقه في الدين ! ) [ إعلام الموقّعين : 4 / 17 ] .
نماذج في الاعتراف بالخطأ والخروج منه.
موسى عليه السلام:(1/55)
فموسى عليه السلام يقول في قصته مع الخضر: (لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا) [الكهف:73]. ويقول: (إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا) [الكهف: 76].
- عيسى عليه السلام:
اقرأ قصة عيسى عليه السلام، التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ رأى عيسى بن مريم رجلاً يسرق فقال له: أسرقت؟! قال: كلا، والله الذي لا إله إلا هو، فقال عيسى: آمنت بالله وكذبت عيني ].
إنه في شدة تواضعه واعترافه، يرى السارق ثم يقول لما حلف بالله الذي لا إله إلا هو: [آمنت بالله وكذبت عيني ].
- محمد صلى الله عليه وسلم:(1/56)
أما محمد صلى الله عليه وسلم فهو صاحب القدح المعلى في ذلك، وكيف لا، وقد خاطبه الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه يأمره بالاستغفار وبالتقوى؟! يقول الله عز وجل: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [محمد:19]، ويقول: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ.وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا.فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر:1-3]، ويقول: (إِنَّا أنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا. وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا.وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا) [النساء:105-107]، ?ويقول: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ) [الأحزاب:1]، ويقول: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ) [التحريم:1]، ويقول: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ) [الأنفال: 67].
وهكذا عاتب الله نبيه صلى الله عليه وسلم، وأمره بالاستغفار، وبالتقوى، ونهاه عن طاعة الكافرين والمنافقين، ولهذا كان من شأنه صلى الله عليه وسلم أمر عجيب، في تواضعه، وقبوله للرأي الآخر، وإعراضه عن الجاهلين، ورجوعه إلى ما يرى أنه صواب إذا قاله أحد.(1/57)
فمن ذلك أنه لما كان يوم حنين [ آثر النبي صلى الله عليه وسلم أناسًا في قسمة الغنائم، فقال رجل: والله إن هذه قسمة ما عُدل فيها، وما أريد بها وجه الله . فقال النبي صلى الله عليه وسلم: رحم الله موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر ]، والثابت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالقبض على هذا الرجل الذي قال تلك الكلمة، وشكّك في القيادة العليا -قيادة النبي صلى الله عليه وسلم-، ولا أن يودع في السجن، ولا فتح محاضر التحقيق معه، ولا شهّر به ولا فضحه، وإنما تركه حرًّا طليقًا لم يتعرض له بشيء سوى أنه صلى الله عليه وسلم قال: [ رحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر ]، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق المبرأ المنزه.
مثال آخر: وآخرون طعنوا فيما يتعلق بموضوع الولاة، واختيار العمال والأمراء الذين كان يختارهم النبي صلى الله عليه وسلم لبعض المغازي، والبعوث، والجيوش، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بعثًا، وأمّر عليهم أسامة بن زيد، فطعن بعض الناس في إمارته، وكان من هؤلاء الناس بعض الصحابة الفضلاء كعياش بن أبي ربيعة المخزومي وغيره، فلما ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال: [ إن تطعنوا في إمارته، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل -يعني زيد بن حارثة؛ لأنهم طعنوا فيه عندما عينه النبي صلى الله عليه وسلم أميرًا في سرية مؤتة- وايمُ الله إن كان لخليقًا للإمارة -يعني أنه جديرٌ بها، وأنه أهل لذلك- وإن كان لمن أحب الناس إليَّ، وإن هذا -يعني أسامة بن زيد- لمن أحب الناس إليَّ بعده!].
وأيضًا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بفتح محاضر التحقيق مع هؤلاء الذين طعنوا في هذا الأمير الذي عينه، ولا سجنهم، ولا عاتبهم، بل لم يقل لهم النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنتم فيكم وفيكم وفيكم! وإنما بيّن الحقيقة، وأن هذا الرجل جدير بالإمارة وخليق بها.(1/58)
هذا المنهج التربوي النبوي العظيم، ظل هو السنة المتبعة للمسلمين قرونًا طويلة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم، سواء أكانوا من الخلفاء والحكام، أو من العلماء والدعاة، أو من عامة الناس.
- أبو بكر الصديق رضي الله عنه:
وهذا أبو بكر رضي الله عنه سمع الناس يثنون عليه، فكان يقول: [ اللهم اجعلني خيرًا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون ]، فلا يغتر بثنائهم، وإنما يسأل الله تعالى أن يغفر له ما لا يعلمون من عيوبه.
ولنتأمل هذا الموقف من مواقفه رضي الله عنه:
فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: [ كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما صاحبكم فقد غامر فسلَّمَ، وقال يا رسول الله: إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى عليَّ، فأقبلت إليك فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثًا، ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل: أثَمَّ أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسلم، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعَّر، حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه فقال: "يا رسول الله، والله أنا كنتُ أظْلَمَ، مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت، وقال أبو بكر صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ مرتين فما أوذي بعدها ]. والشاهد أن أبا بكر رضي الله عنه، كان سريعاً إلى الرجوع إلى الحق والاعتراف به.
- عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
أما عمر رضي الله عنه، فكما كان شديدًا في الحق؛ وكان شديدًا على نفسه، ولذلك أعلنها صيحة مدوية: [ رحم الله من أهدى إليَّ عيوبي ] ، ولم يشترط عمر -رضي الله عنه- أن تسر أو تعلن، ولم يشترط أسلوبًا معينًا في النصح؛ بل المهم أنك تهدي له عيوبه بأي شكل.(1/59)
وكان رضي الله عنه يتقبل النصيحة حتى وهو على المنبر، فربما صعد وقال: [ أيها الناس اسمعوا وأطيعوا ، فقام رجل من الرعية من عامة الناس، وقال: لا سمع ولا طاعة! فقال: لم، رحمك الله؟ قال: أعطيتنا ثوبًا ثوبًا ولبست ثوبين! فقال: قم يا عبد الله بن عمر!، فيقوم ابن عمر ويشرح القضية أنه قد أعطاه ثوبه، فلبس عمر ثوبه وثوب ولده عبد الله؛ لأنه رجل فارع الطول ].
ومرة أخرى يقول له رجل: [ لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بسيوفنا ] ، وهذا لا يعني أنهم كانوا سوف يخرجون عليه بالسيف؛ بل المقصود أن هؤلاء الناس كان لديهم استعداد لأن يقوّموا الخطأ من أي إنسان كائنًا من كان، حتى ولو كان من عمر رضي الله عنه.
2- إذا وجدت الناصح فاغتنم صحبته .
إذا وجدت الناصح فاغتنم صحبته ، وإذا تشابهت عليك المسالك فاستعن بمشاورته.(1/60)
الخاتمة
وبعد : فقد أتيت على ما عمدت إلى جمعه في هذه الرسالة ، مفتقرا إلى الله – سبحانه وتعالى أن يتقبل مني هذا العمل ، وأن أجده يوم أحتاج إليه ( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء:88 - 89)
وأسأل الله – سبحانه وتعالى – أن ينفع بها قارئها ، وكاتبها ، ومستمعها ، ومبلغها .
( سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الصافات:180 - 182)
كتبه الفقير إلى عفو ربه ، وهداه ، ومغفرته ، ورزقه ، ورحمته :
إسلام منصور عبد الحميد
مصر / القاهرة
بعد منتصف ليله الاثنين
9/6/1425هـ الموافق 26/7/2004م(1/1)