المورد العذب المعين من آثار أعلام التابعين
محمد خلف سلامة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، الجاعل خير الناس بعد النبيين قرن الصحابة ثم التابعين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين؛ وأشهد أن محمداً رسول الله وخاتم الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وعليهم أجمعين، وعلى أتباع نبينا من الصحابة والتابعين وعلى آله وعترته الطيبين الطاهرين، وسلم تسليماً، وبعد.
فهذا كتاب جمعت فيه قدراً طيباً مما روي عن التابعين في عامة أبواب التزكية وأعمال القلوب؛ أسأل الله أن ينفع به من يطالعه ويتدبره؛ ولا أشك أن بنا – جميعاً - حاجة كبيرة إلى آثار السلف في الأبواب المذكورة من الدين؛ وتشتد الحاجة إلى ذلك عند من كان خطيباً أو مشاركاً في الدعوة إلى الله أو واعظاً أو مربياً أو نحو ذلك من الوظائف الدينية.
وأذكر قبل البدء بالمقصود بعض الآثار المبينة لبعض فضائل معرفة آثار السلف ومن كان على طريقتهم في أبواب التزكية والزهد؛ وبيان عظم تأثرهم بأخبار الرقائق، فدونك ما تيسر منها ما يلي:
روى أبو نعيم في (حلية الأولياء) (5/103) عن مفضل بن غسان قال: قال عمرو [بن قيس الملائي]: حديث أرقق به قلبي وأتبلغ به إلى ربي أحب الي من خمسين قضية من قضايا شريح.
وروى فيه أيضاً (4/313) عن الشعبيّ قال: لو أنَّ رجلاً سافرَ من أقصى الشامِ إلى أقصى اليمنِ فحفظَ كلمةً تنفعُهُ فيما يستقبلُ من عمرِهِ رأيتُ أنَّ سفرَهُ لمْ يَضِعْ.(1/1)
وروى البغوي في (مسند علي بن الجعد) (1047) عن بكر بن خنيس عن ضرار يعني بن عمرو عن قتادة قال: باب من العلم يحفظه الرجل لصلاح نفسه وصلاح من بعده أفضل من عبادة حول(1).
وروى أبو نعيم في (حلية الأولياء) (5/29) عن حسن بن صالح قال: قال زبيد: سمعت كلمة فنفعني الله عز وجل بها ثلاثين سنة.
وروى ابن حبان في (روضة العقلاء) (ص40) عن الحسن البصري قال: لأن يتعلم الرجل باباً من العلم فيعبد به ربه فهو خير له من أن لو كانت الدنيا من أولها إلى آخرها له فوضعها في الآخرة(2). (وانظر الزهد ص268 والمصنف 7/188 ومفتاح دار السعادة 1/118)
وقال عباس الدوري في (تاريخه) (3/569): (قال يحيى [بن معين]: ورأيت وكيع بن الجراح أخذ في (كتاب الزهد) يقرؤه؛ فلما بلغ حديثاً منه ترك الكتاب، ثم قام فلم يحدث، فلما كان الغد وأخذ فيه بلغ ذلك الحديث قام أيضاً ولم يحدث؛ حتى صنع ذلك ثلاثة أيام؛ قلت ليحيى: وأي حديث هو؟ قال: حديث مجاهد، قال: أخذ عبد الله بن عمر ببعض جسدي، قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض جسدي، فقال: يا عبد الله بن عمر كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)(3).
وروى البيهقي في (شعب الإيمان) (1/544) عن عثمان بن سعيد الدارمي قال: سمعت نعيم بن حماد يقول: كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب الرقاق يصير كأنه ثور منحور أو بقرة منحورة من البكاء لا يجترىء أحد منا أن يدنو منه أو يسأله عن شيء إلا دفعه(4).
__________
(1) وورد هذا الأثر في (صفة الصفوة) (3/259) بهذا اللفظ: (باب من العلم يحفظه الرجل يطلب به صلاح نفسه وصلاح الناس، أفضل من عبادة حول كامل).
(2) كان بعض الحكماء يقول: ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلمُ؟! وأي شيء فات من أدرك العلمَ؟! مختصر منهاج القاصدين ص22).
(3) ونقله الذهبي في (سير أعلام النبلاء) (9/149).
(4) وذكره ابن الجوزي في (صفة الصفوة) (4/137-138).(1/2)
وروى فيه أيضاً (2/288) عن نعيم بن حماد قال: كان ابن المبارك يكثر الجلوس في بيته فيقال له: تكثر الجلوس في بيتك ألا تستوحش؟! فيقول: كيف أستوحش وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان؟!
وذكر ابن الجوزي في (صفة الصفوة) (4/137) عن شقيق بن إبراهيم قال: قيل لابن المبارك: إذا صليت معنا لمْ تجلس معنا؟! قال: أذهب أجلس مع الصحابة والتابعين؛ قلنا له: ومن أين الصحابة والتابعون؟! قال: أذهب أنظر في علمي فأدرك آثارهم وأعمالهم؛ ما أصنع معكم؟! أنتم تغتابون الناس! فإذا كانت سنة مئتين فالبعد من كثير من الناس أقرب إلى الله، وفر من الناس كفرارك من أسد وتمسك بدينك يسلم لك.
وروى البيهقي في (الشعب) (2/299) عن أحمد بن عبد الله بن أبي الحواري حدثني أخي محمد قال: قال علي بن الفضيل لأبيه: يا أبه ما أحلى كلام أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم! قال: يا بني وتدري لما حلا؟! قال: لا يا أبه، قال: لأنهم أرادوا به الله تبارك وتعالى.
وروى أبو عبد الرحمن السلمي في (طبقات الصوفية) (ص124-125) والبيهقي في (الشعب) (2/297) عن عبد الله بن محمد بن منازل قال: سئل حمدون القصار: ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟! قال: لأنهم تكلموا لعز الإسلام ونجاة النفوس ورضى الرحمن، ونحن نتكلم لعز النفس وطلب الدنيا وقبول الخلق.
وروى ابن أبي الدنيا في (الورع) (ص50) عن الضحاك قال: أدركت الناس وهم يتعلمون الورع وهم اليوم يتعلمون الكلام.
وروى ابن أبي الدنيا في (الصمت) (ص294) عن الليث بن سعد عن عبيد الله بن أبي جعفر عن أبي خلدة قال: أدركت الناس وهم يعملون ولا يقولون ، وهم اليوم يقولون ولا يعملون.(1/3)
وقال ابن القيم في (الفوائد) (ص104) : قال حماد بن زيد : قلت لأيوب : العلم اليوم أكثر أو فيما تقدم ؟ فقال: الكلام اليوم أكثر، والعلم فيما تقدم أكثر(1)
__________
(1) وقال ابن القيم في (مدارج السالكين) عقب شيء ذكره : (ولهذا كلامهم [يعني السلف ومتقدمي علماء الأمة وزهادها] قليل فيه البركة ، وكلام المتأخرين كثير طويل قليل البركة) ؛ جاء ذلك في ثنايا قوله في (المدارج) (1/138-140) : (فالأولى الكلام في هذه المقامات على طريقة المتقدمين من أئمة القوم كلاماً مطلقاً في كل مقام مقام ، ببيان حقيقته وموجبه وآفته المانعة من حصوله والقاطع عنه ، وذكر عامه وخاصه ، فكلام أئمة الطريق هو على هذا المنهاج ، فمن تأمله كسهل بن عبدالله التستري وأبي طالب المكي والجنيد بن محمد وأبي عثمان النيسابوري ويحيى بن معاذ الرازي ، وأرفع من هؤلاء طبقة مثل أبي سليمان الداراني وعون ابن عبدالله الذي كان يقال له : حكيم الأمة ، وأضرابهما ، فإنهم تكلموا على أعمال القلوب وعلى الأحوال كلاما مفصلا جامعا مبينا مطلقا من غير ترتيب ولا حصر للمقامات بعدد معلوم فإنهم كانوا أجل من هذا وهمهم أعلى وأشرف إنما هم حائمون على اقتباس الحكمة والمعرفة وطهارة القلوب وزكاة النفوس وتصحيح المعاملة ولهذا كلامهم قليل فيه البركة وكلام المتأخرين كثير طويل قليل البركة .
ولكن لا بد من مخاطبة أهل الزمان باصطلاحهم إذ لا قوة لهم للتشمير إلى تلقي السلوك عن السلف الأول وكلماتهم وهديهم ولو برز لهم هديهم وحالهم لأنكروه ولعدوه سلوكاً عامياً وللخاصة سلوك آخر ، كما يقال؟؟ ضلال المتكلمين وجهلتهم إن القوم كانوا أسلم وإن طريقنا أعلم كما يقول من لم يقدر قدرهم من المنتسبين إلى الفقه إنهم لم يتفرغوا لاستنباطه وضبط قواعده وأحكامه اشتغالا منهم بغيره والمتأخرون تفرغوا لذلك فهم أفقه ، فكل هؤلاء محجوبون عن معرفة مقادير السلف وعن عمق علومهم وقلة تكلفهم وكمال بصائرهم وتالله ما امتاز عنهم المتأخرون إلا بالتكلف والاشتغال بالأطراف التي كانت همة القوم مراعاة أصولها وضبط قواعدها وشد معاقدها وهممهم مشمرة إلى المطالب العالية في كل شيء فالمتأخرون في شأن والقوم في شأن وقد جعل الله لكل شيء قدرا) .(1/4)
.
وروى أبو خيثمة في (العلم) (ص25) عن شيخه عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن زيد عن أيوب قال: قال رجل لمطرف(1): أفضل من القرآن تريدون؟! قال: لا، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا.
وروى أبو نعيم في (حلية الأولياء) (8/165) عن رسته الطالقاني قال: قام رجل إلى ابن المبارك فقال: يا أبا عبد الرحمن في أي شيء أجعل فضل يومي؟ في تعلم القرآن أو في طلب العلم؟ فقال: هل تقرأ من القرآن ما تقيم به صلاتك؟ قال: نعم؛ قال: فاجعله في طلب العلم الذي يعرف به القرآن.
وروى السلمي في (طبقات الصوفية) (ص127) عن حمدون القصار قال: من نظر في سير السلف عرف تقصيره وتخلفه عن درجات الرجال.
وروى البيهقي في (الشعب) (2/303) عن أحمد بن سعيد الدارمي قال: سمعت من علي [بن] المديني كلمة أعجبتني، قرأ علينا حديث الغار ثم قال: إنما نقل إلينا هذه الأحاديث لنستعملها لا لنتعجب منها.
وروى المروزي في (تعظيم قدر الصلاة) (1/190) عن ابن جريج قال: قلت لعطاء(2): أقبض بكفي اليمنى على عضدي اليسرى وكفي اليسرى على عضدي اليمنى؟ فكرهه(3) وقال: إنما الصلاة خشوع قال الله: (الذين هم في صلاتهم خاشعون)، فقد عرفتم الركوع والسجود والتكبير ولا يعرف كثير من الناس الخشوع!!.
__________
(1) مُطَرِّفُ بنُ عبد الله بن الشِّخِّير العامري البصري تابعي جليل حكيم وعابد فاضل، توفي سنة خمس وتسعين، ذكره محمد بن سعد في الطبقة الثانية من أهل البصرة، وقال: (روى عن أبي بن كعب، وكان ثقة له فضل وورع وعقل وأدب، وقال العجلي: كان ثقة ولم ينج بالبصرة من فتنة ابن الأشعث إلا رجلان: مطرف وابن سيرين؛ ولم ينج منها بالكوفة إلا رجلان: خيثمة بن عبد الرحمن وإبراهيم النخعي). انظر (تهذيب الكمال) (28/69).
(2) هو ابن أبي رباح، العالم الجبل تلميذ ابن عباس، قال أيوب بن سويد: سمعت الأوزاعي يقول: مات عطاء وهو أرضى أهل الأرض. (الحلية 3/311)
(3) أي كره هذا السؤال.(1/5)
وقال ابن الجوزي في (منهاج القاصدين) كما في (مختصره): (ومن أراد أن ينظر في سير القوم، ويتفرج في بساتين مجاهداتهم، فلينظر فى كتابي المسمى بـ ( صفة الصفوة)، فإنه يرى من أخبار القوم ما يعدُّ نفسه بالإضافة إليهم من الموتى، بل من أخبار المتعبدات من النسوة ما يحتقر نفسه عند سماعه ).
وقال ابن الجوزي في (صيد الخاطر): (رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب إلا أن يمزج بالرقائق والنظر في سير السلف الصالحين ، لأنهم تناولوا مقصود النقل وخرجوا عن صور الأفعال المأمور بها إلى ذوق معانيها والمراد بها ؛ وما أخبرتك بهذا إلا بعد معالجة وذوق لأني وجدت جمهور المحدثين وطلاب الحديث همة أحدهم في الحديث العالي وتكثير الأجزاء ، وجمهور الفقهاء في علوم الجدل وما يغالب به الخصم ؛ وكيف يرق القلب مع هذه الأشياء؟! وقد كان جماعة من السلف يقصدون العبد الصالح للنظر إلى سمته وهديه، لا لاقتباس [علمه]؟؟ وذلك أن ثمرة علمه هديه؛ وسمته فافهم هذا وامزج طلب الفقه والحديث بمطالعة سير السلف والزهاد في الدنيا ليكون سبباً لرقة قلبك ).
وقال أبو زرعة الدمشقي في (تاريخه): (حدثنا أبو مسهر قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز [عن] عروة بن رويم قال: تحدثوا عنهم، يعني السلف).
وقال العلامة المعلمي في (رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله) (ص107):
(وقد كان في السلف الصالح كثير من الزهاد والعبّاد، فلم يكن الناس يرجعون إليهم، ولا إلى أقوالهم، في الأمور العلمية، وإنما كانوا يرجعون إليهم في دقائق الورع وترقيق القلوب ومداواة النفوس، ونحو ذلك).
وقال العلامة ابن مفلح في (الآداب الشرعية) (2/84) : (وقال مهنا : إن أبا عبد الله سألوه عن القصص فرخص فيه ، فقلت له: حدثنا عبدالرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر أنه كان يخرج من المسجد يقول: ما أخرجني إلا القصاص ولولاهم ما خرجت .(1/6)
فقال لي: يعجبني القصاص اليوم لأنهم يذكرون عذاب القبر ويخوفون الناس .
فقلت له: حدثنا ضمرة قال: جاءنا سفيان هاهنا فقلنا: نستقبل القصاص بوجوهنا؟ فقال: ولوا البدع ظهوركم .
فقال أحمد : نعم ، هذا مذهب الثوري ).
قال بعض أهل العلم من المعاصرين : (وفي هذا النقل فوائد منها:
1-اختلاف الفتوى باختلاف الزمان والمكان وهو أصل مهم من أصول الفتوى كما ذكره القرافي وابن القيم وغيرهما.
2-أهمية تنقيح المناط في المنقول عن السلف.
3-أن مخالفة ظاهر الأثر لاختلاف المناط لاتقدح في اتباع الإنسان وكونه على جادة السلف بل ليس هذا مخالفة للمنقول عند التحقيق .
4-أن المنقول عن واحد من السلف قد يكون مذهبا شخصيا له وليس علما على منهج السلف بحيث يبدع مخالفه ولهذا قال الإمام"هذا مذهب الثوري".
5-أنه يتسامح في الوعظ والرقائق في رواية الأحاديث ما لايتسامح في أحاديث الأحكام وهي مسألة خلافية والجمهور على ذلك وإن شدد فيها بعض أهل عصرنا .
وقال ابن الجوزي في (صيد الخاطر) (ص111) : (وقد كان جماعة من السلف يرون تخليط القصاص فينهون عن الحضور عندهم ؛ وهذا على الإطلاق لا يحسن اليوم لأنه كان الناس في ذلك الزمان متشاغلين بالعلم فرأوا حضور القصص صاداً لهم واليوم كثر الإعراض عن العلم , فأنفع ما للعامي مجلس الوعظ , يرده عن ذنب, و يحركه إلى توبة , وإنما الخلل في القاص فليتق الله عز و جل) .
************************
هذا وقد كنت كتبت للكتاب مقدمة طويلة فيها بيان عظم فضائل آثار السلف في التزكية؛ وشدة حاجة المسلمين – ولا سيما في هذه الأعصر – إليها؛ وفيها بيان تساهل أهل العلم في رواية آثار السلف في أبواب الرقائق وأعمال القلوب، وفيها فصول أخرى تناسب مقصود الكتاب، فحذفت من هذه النشرة تلك المقدمة، باستثناء ما تقدم، وباستثناء التنبيهين التاليين، فإنه لا بدَّ منهما:
التنبيه الأول
في بيان من هم الذين نقلت آثارهم في المتن(1/7)
طبقات التابعين بحسب تقسيم ابن حجر لهم في كتابه "تقريب التهذيب" أربع، فقد قال في مقدمته مبيناً لطبقات الرواة فيه: "وأما الطبقات:
فالأولى: الصحابة على اختلاف مراتبهم ---
الثانية: طبقة كبار التابعين كابن المسيب ---
الثالثة: الطبقة الوسطى من التابعين، كالحسن وابن سيرين.
الرابعة: طبقة تليها، جُلُّ روايتهم عن كبار التابعين، كالزهري وقتادة.
الخامسة: الطبقة الصغرى منهم، الذين رأوا الواحد والاثنين، ولم يثبت لبعضهم السماع من الصحابة كالأعمش.
السادسة: طبقة عاصروا الخامسة، لكن لم يثبت لهم لقاء أحد من الصحابة، كابن جريج.
السابعة: كبار أتباع التابعين كمالك والثوري". إلى آخر كلامه في بيان تلك الطبقات.
ومما لا بد من التنبيه عليه هنا أنني ذكرت في كتابي هذا بعض من هو من الطبقة السادسة المذكورة، ولا شك أن في هذا الصنيع نوع من التجوز والتسمح ولكني رأيت ذلك لا يضاد موضوع الكتاب، إذ أنه ليس كتاباً في الحديث أو في الطبقات أو في الجرح والتعديل، أو في نحو ذلك من أبواب العلوم التي تحتاج إلى تدقيق وتشديد، ثم إني رأيت أنني إذا لم أدخلهم في هذا الكتاب كان لا بد لي من إدخالهم في الكتاب الآخر الذي في نيتي جمعه إذا أعانني الله على ذلك وهو (وصايا وحكم أتباع التابعين) ويظهر أن ذلك الصنيع أيضاً غير سالم – بحسب تقسيم ابن حجر - من التجوز والتوسع، فإن ظاهر صنيع ابن حجر أنه لم يعدهم من أتباع التابعين، ألم تر أنه وصف الطبقة السابعة بقوله: "كبار أتباع التابعين"؟! والله أعلم.
التنبيه الثاني
في شرح طريقة تخريجي أو عزوي
للآثار الواردة في متن هذا الكتاب
سلكت في عزو وتخريج آثار هذا الكتاب مسلكاً يتبين من الأمور الآتية:(1/8)
الأول: خرجت الآثار عقبها مباشرة، فذكرت أسماء الكتب التي ورد فيها الأثر مع رقم الصفحة وقبله رقم المجلد إن كان الكتاب أكثر من مجلد. وأحياناً أذكر رقم الأثر لا رقم الصفحة؛ وضابط التمييز بينهما أن رقم الصفحة مسبوق بحرف (ص) بخلاف رقم الأثر فهو مجرد من مثل ذلك فليس بين اسم الكتاب وبينه شيء.
وإذا كان أول مصدر مذكور هو حلية الأولياء أو كان هو المصدر الوحيد فإني اكتفي بذكر رقم المجلد والصفحة فلا أذكر اسمه، فليعلم هذا الاصطلاح.
الثاني: وقد جريت في ذكر مصادر الآثار على طريقة الاختصار في الغالب؛ فلا بد هنا من التنبيه على معاني الاختصارات التي استعملتها عند تخريج الآثار فدونك بيان ذلك:
كل رقمين محصورين بين قوسين وبينهما خط مائل ولم أذكر قبلهما اسم الكتاب فالمراد بهما رقم المجلد ورقم الصفحة من كتاب حلية الأولياء؛ كما تقدم قبل قليل؛ ولكني خرَجت في الهامش عن هذا الأصل أحياناً عندما تكون قرينة الخروج ظاهرة كما إذا نقلت مجموعة من الآثار من كتاب واحد أصرح بإسمه في أول النقل.
الرمز (صف) يراد به صفة الصفوة لابن الجوزي وهو تهذيب واختصار لحلية الأولياء.
(رك) يراد به الزهد لابن المبارك.
(التهجد) يراد به (التهجد وقيام الليل) لابن أبي الدنيا.
(الجامع) يراد به (جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله) لابن عبد البر.
(المصنف) يراد به مصنف ابن أبي شيبة؛ وأما مصنف عبد الرزاق فأذكر اسمه كاملاً.
(الزهد) يراد به عند الاطلاق (الزهد) للإمام أحمد بن حنبل.
(الورع) يراد به عند الإطلاق (الورع) لابن أبي الدنيا، وأما (الورع) رواية المروزي عن أحمد وغيره، فأشير إليه باسم (الورع للمروزي).
(الشعب) يراد به (شعب الإيمان) للبيهقي.
العزو إلى كتاب الشكر إن كان برقم الصفحة فهو على الأصل، وإن كان برقم مجرد فهو رقم الأثر في طبعة دار ابن كثير سنة 1407 هـ.(1/9)
الثالث: لفظ كل أثر هو لفظه الوارد في أول مصدر أعزوه إليه دون التقيد بألفاظ المصادر الأخرى المذكورة معه؛ وقد كنت حريصاً على اختيار أكمل الروايات وأبعدها عن التحريف والخطأ بحسب ظني. وإذا وجدت المصادر متساوية أو متقاربة في هذا المعنى آثرت النقل من أقدمها تصنيفاً في الغالب.
الرابع: حذفت أسانيد هذه الأخبار، طلباً للاختصار واستبعاداً للتعقيد الذي قد يثقل على معظم القراء ويعوقهم عن الانتفاع بالكتاب على الوجه الذي أرجوه.
الخامس: بدأت الآثار في الأعم الأغلب بكلمة (قال) ونحوها من صيغ الجزم عند المحدثين، وليس مرادي بهذه الصيغ الجزم بصحة تلك الأخبار إلى من أعزوها إليهم، وإنما اخترت (قال) ونحوها طلباً لسهولة التعبير ووضوح التركيب واختصار العبارة ونحو ذلك مما أراه أنفع للقارئ المبتدئ، فليعلم ذلك.
السادس: لم أشترط فيما نقلته في هذا الكتاب من الأخبار صحة أسانيدها، وذلك لأمور أهمها ما يلي:
أولها: أن باب هذه الأخبار هو باب الترغيب والترهيب في آداب وأعمال قلبية متفق على أنها من أبواب الدين وشعب الإيمان.
ثانيها: أن هذه الأخبار ليس بينها شيء عن أحدٍ من الصحابة ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هي من أقوال التابعين، وليس لشيء منها حكم الرفع.
ثالثها: أنني اخترت من أقوالهم ما لم أرَ فيه مخالفة لشيء من نصوص الوحيين، فما من قول من هذه الأقوال إلا ويمكن لأهل العلم – إن شاء الله تعالى - توجيهه توجيهاً صحيحاً مقبولاً موافقاً للدليل الشرعي.
وهذا موضع الشروع بالمقصود؛ وقبل ذلك: أسأل الله لي ولك التوفيق وحسن القبول؛ والانتفاع بما نسمع ونقول؛ وأعوذ بالله أن يجعل حظنا من الحكمة سماعها أو نقلها دون العمل بمقتضاها، ونصيبنا من الموعظة الإعجاب بها دون المصير إلى حقها والقيام بواجبها، ومن أن يكون ما نسمعه من العلم حجةً علينا يوم نلقاه، وحسبنا الله وحده، لا إله غيره ولا ربّ سواه.(1/10)
خصائص السلف من الصحابة وكبار التابعين
قيل للحسن البصري: سبقنا القوم على خيلٍ دُهمٍ ونحن على حمر معقرة! فقال: إن كنتَ على طريقهم فما أسرع اللحاق بهم. (الفوائد ص43)
قال الحسن: اعرفوا المهاجرين بفضلهم واتبعوا آثارهم؛ وإياكم وما أحدث الناس في دينهم؛ فإن شر الأمور المحدثات. (الزهد ص273)
قال الحسن: إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أكياساً، عملوا صالحاً وأكلوا طيباً وقدموا فضلاً، لم ينافسوا(1) أهل الدنيا في دنياهم ولم يجزعوا من ذلها أخذوا صفوها وتركوا كدرها والله ما تعاظمت في أنفسهم حسنة عملوها ولا تصاغرت في أنفسهم سيئة أمرهم الشيطان بها. (الشعب 7/374)
قال حوشب: سألت الحسن فقلت: يا أبا سعيد رجل آتاه الله مالاً فهو يحج منه ويصل منه، أله أن يتنعم فيه؟ فقال الحسن: لا، لو كانت الدنيا له ما كان له إلا الكفاف ويقدم فضل ذلك ليوم فقره وفاقته، إنما كان المتمسك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أخذ عنهم من التابعين كانوا يكرهون أن يتخذوا العقد والأموال في الدنيا ليركنوا إليها ولتشتد ظهورهم فكانوا ما آتاهم الله من رزق أخذوا منه الكفاف وقدموا فضل ذلك ليوم فقرهم وفاقتهم، ثم حوائجهم بَعْدُ في أمر دينهم ودنياهم فيما بينهم وبين الله عز وجل. (الزهد ص271)
__________
(1) في الأصل (يناقشوا).(1/11)
قال الحسن(1): وهل يطيب الطعام إلا بالملح؟ ثم قال: فكيف بقوم قد ذهب ملحهم(2)؟! (المصنف 7/190)
قال الحسن: كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان رضي الله عنه فأتناول سقفها بيدي. (جامع العلوم والحكم ص42)
قال الحسن: لقد أدركت أقواماً وصحبت طوائف منهم ما سألوا الله عز وجل الجنة قط، حياءً من الله عز وجل. (الزهد ص260)
قال الحسن: والله لقد أدركت أقواماً لو شاء أحدهم أن يأخذ هذا المال من حله أخذه، فيقال لهم: ألا تأتون نصيبكم من هذا المال فتأخذونه حلالاً؟! فيقولون: لا، إنا نخشى أن يكون أخذه فساداً لقلوبنا(3). (الزهد ص262-263)
قال الحسن: لقد رأيت أناساً تعرض لأحدهم الدنيا حلالاً فلا يتبعونها، يقولون: ما ندري ما حالنا فيها. (الزهد ص265)
قال الحسن: والله لقد أدركت أقواماً وإنْ كان أحدهم ليرث المال العظيم، قال: وإنه والله لمجهود شديد الجهد؛ قال: فيقول لأخيه: يا أخي إني قد علمت أن ذا ميراث وهو حلال ولكني أخاف أن يفسد علي قلبي وعملي، فهو لك، لا حاجة لي فيه؛ قال: فلا يرزأ منه شيأ ابداً؛ وهو والله مجهود شديد الجهد(4)
__________
(1) بعد أن روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه: أنتم في الناس كمثل الملح في الطعام.
(2) قال الإمام أحمد في (فضائل الصحابة) (17) : (حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجُعْفِيُّ ، عَنْ أَبِي مُوسَى يَعْنِي إِسْرَائِيلُ ، عَنِ الْحَسَنِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : أَنْتُمْ فِي النَّاسِ كَمَثَلِ الْمِلْحِ فِي الطَّعَامِ ، قَالَ : يَقُولُ الْحَسَنُ : وَهَلْ يَطِيبُ الطَّعَامُ إِلا بِالْمِلْحِ ؟ قَالَ : ثُمَّ يَقُولُ الْحَسَنُ : فَكَيْفَ بِقَوْمٍ قَدْ ذَهَبَ مِلْحُهُمْ ؟) .
(3) قال الحسن: أدركت أقواماً كانت الدنيا تعرض لأحدهم حلالاً فيدعها فيقول: والله ما أدري على ما أنا من هذه إذا صارت في يدي. (رك ص178)
(4) وهذه رواية أخرى:
قال الحسن: أدركت أقواماً يدعون إلى الحلال وهم مجتهدون فيه [كذا ولعل الصواب مجهدون] فيدعونه يقولون: نخشى أن يفسدنا، حتى يموتوا جهداً. (الورع ص56)(1/12)
. (الزهد ص260 والزهد الكبير ص69)
قال الحسن: لقد أدركت أقواماً ما كانوا يشبعون ذلك الشبع وإن كان أحدهم ليأكل حتى إذا رد نفسه أمسك ذابلاً ناحلاً مقبلاً على شأنه. (المصنف 7/198 و رك ص57 والحلية)
قال الحسن: أدركت أقواماً يبذلون أوراقهم ويخزنون ألسنتهم ثم أدركت من بعدهم أقواما خزنوا أوراقهم وأرسلوا ألسنتهم(1). (المصنف 7/189 والزهد ص286)
قال الحسن: ما كنت تلقى المسلمين إلا في مساجدهم أو في صوامعهم يعني بيوتهم(2) أو حِلا(3) من الدنيا يعذرون بها، فلم يكونوا اسقط بين ذلك يحثى النساء في وجوههم، كأنه يعني المجانين. (رك ص4)
قال يحيى بن المختار: سمعت الحسن وجاءه رجل فزحم الناس فضحك الرجل وقال: إذا جئت زحمت فضحك الآخر، فقال: مه، ثم ضحك أيضا فقال: كان الناس والسن لا يزيد الرجل إلا خيراً، وليس من جرب كمن لم يجرب، فالناس اليوم يذهبون سفالاً سفالاً؛ قلَّت الأمانة واشتد الشح، فإنا لله وإنا اليه راجعون؛ والله ما أصبح بها مؤمن إلا أصبح مهموماً محزوناً مما يراعي من نفسه ومما يراعي من الناس؛ ذهبت الوجوه والمعارف فلا نكاد اليوم نعرف شيئاً إن الدنيا كانت مَرَّةً مقبلة حلوة فقد ذهبت حلاوتها وذهبت طمأنيتها وذهبت سلوتها وذهب صفوها وبقي كدرها. (رك ص9-10)
__________
(1) وهذه رواية أخرى: قال الحسن: كنا في أقوام ينفقون أوراقهم ويخزنون ألسنتهم وإنا بقينا في أقوام يرسلون ألسنتهم ويخزنون أوراقهم. (الشعب 4/265)
(2) قال الحسن: صوامع المؤمنين بيوتهم. (المصنف 7/198 والحلية 3/19)
(3) كذا، ولعلها (حِلٍّ).(1/13)
قال الحسن: عيروا(1) أعمالهم بالحزن فأعطوا الفرح والأمان؛ تجشموا مشقة الدنيا وشغلوا فيها أنفسهم عنها لآخرتهم فأشعروا الخشية قلوبهم، ذهلوا عن أزواجهم وأولادهم فزوجوا الحور العين وأخدموا الغلمان المخلدين في آخرتهم، اختاروا التواضع لله في الدنيا فارتفعت عنده منازلهم، خرجوا من الدنيا خميصة بطونهم خفيفة ظهورهم نقية جلودهم، رضَّوا خالقهم فأرضاهم. (الهم والحزن ص78)
كان الحسن يقول: أدركت أقواماً كان أحدهم أشح على عمره منه على دراهمه ودنانيره. (رك ص4 والعمر والشيب ص81)
قال الحسن: لقد أدركت اقواماً إن كان الرجل ليجلس مع القوم يرون أنه عيي وما به عي، إنه لفقيه مسلم. (الزهد ص261 والعلم ص10)
قال الحسن: أدركت أقواماً ما كان أحدهم يستطيع أن يسر عملاً فيعلنه، قد علموا أن أحرز العملين من الشيطان عمل السر، وإن أحدهم ليكون عنده الزور وإنه ليصلي خلف الوجه ما يعلم به زوره. (الزهد ص262 وانظر المصنف 7/187)
قال الحسن: إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به جاره؛ وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس؛ وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزور وما يشعرون به؛ ولقد أدركنا أقواماً ما كان على ظهر الأرض من عمل يقدرون على أن يعملوه في سر فيكون علانية أبداً. (رك ص45)
قال الحسن: كان الرجل يتعبد عشرين سنة لا يشعر به جاره وأحدهم(2) يصلي ليلة أو بعض ليلة فيصبح وقد استطال على جاره؛ وإن كان القوم ليجتمعون فيتذاكرون فتجيء الرجل عبرته فيردها ما استطاع، فإن غُلب قام عنهم(3). (البداية والنهاية 9/268)
__________
(1) لعل هذه الكلمة مصحفة عن (قيدوا) أو عن غيرها.
(2) يذم الحسن بهذا الكلام جماعات من أهل عصره.
(3) قال الحسن: إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها فاذا خشي أن تسبقه قام. (الزهد ص262)(1/14)
قال محمد بن ذكوان: غدوت يوم السبت فصليت الغداة في المسجد الجامع وإذا النضر بن عمرو، قاص من قصاص أهل الشام، يقص عليهم؛ فلما فرغ تكلم الحسن فجمع القول واختصر ثم سكت، فأقبل عليه النضر بن عمرو فقال: يا أبا سعيد إن الله تبارك وتعالى خلق الدنيا وخلق ما فيها فلم يخلق ما فيها من رئاستها وبهجتها وزينتها إلا لعباده فقال: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ؛ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)(1)؛ فأخذ في هذا النحو، فلما فرغ من قوله أهوى الحسن بيده إلى ركبة النضر فجعل يهزها وقال: أيها الرجل اتق الله في نفسك ولا تؤفك ولا تهلك وإياك وهذه الأمانيّ أن ترجح فيها، فإن أحداً لم يعط بأمنيته خيراً من خير الدنيا والآخرة(2)؛ إن الله اختار نبيكم صلى الله عليه وسلم لنفسه وبعثه برسالاته وجعله رسولا إلى خلقه ثم أنزل عليه كتابه ثم وضعه من الدنيا موضعاً وقوّت له فيها قوتاً، حتى إذا نظر أهل الدنيا إلى مكانه من الدنيا ومكان الدنيا منه قال: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)(3)؛ ههنا أمرنا أن نأخذ بأمره وأن نقتدي بهديه وأن نسلك طريقه وأن نعمل بسنته؛ فما بلغْنا فبمن الله ورحمته، وما قصَّرْنا استغفرنا؛ فذاك باب مخرجنا؛ فأما الأماني فلا خير فيها ولا في أحد من أهلها؛ قال النضر عند ذلك: يا أبا سعيد والله إنا على ما كان فينا لنحب ربنا؛ قال الحسن: قد قال ذلك قوم على عهد نبيكم صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد والله إنا لنحب ربنا فأنزل الله على نبيه: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ)(4)
__________
(1) الأعراف (31-32).
(2) انظر هذه القطعة في (الزهد) (ص284).
(3) الأحزاب (21).
(4) آل عمران (31)؛ ووردت هذه القطعة الأخيرة من هذا الأثر في (طريق الهجرتين) (ص451) وانظر (مجموع الفتاوى) (2/454) و(جامع العلوم والحكم) (ص75).(1/15)
؛ فجعل الله اتباع سنة محمد صلى الله عليه وسلم عَلَماً لحبه وأكذب من خالفها أيها الرجل اتق الله في نفسك فإني قد أدركت أقواماً كانوا قبلك في صدر هذه الأمة كانوا موافقين لكتاب ربهم ولسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم إذا جنهم الليل قياماً على أطرافهم يفترشون وجوههم يناجون الذي خلقهم في فكاك رقابهم؛ إن عملوا حسنة دأبوا في شكرها وسألوا الله أن يتقبلها؛ وإن عملوا سيئة بكَّتهم وسألوا الله أن يغفرها؛ إذا أشرف لهم شيء من الدنيا أخذوا منه قوتهم ووضعوا الفضل في معادهم؛ وإن زوي عنهم قالوا: هذا نظر من الله وخيار، فكانوا كذلك؛ وعلى ذلك والله ما سلموا من الذنوب ولا بلغوا إلا بالمغفرة؛ وأصبحت أيها الرجل مخالفاً للقوم في زيهم وخوفهم وجدهم واجتهادهم، فالله الله في نفسك فإني قد رأيت أقواماً كانوا قبلك بمثل مكانك يخطبون على هذا الخشب تهتز بهم الدواب ويصونون الخرق ويشيدون المدن، خرجوا من سلطانهم ومن دنياهم فقدموا على ربهم ونزلوا على أعمالهم فالله الله في نفسك، اعمل لها واحذر عليها إن كان لك حاجة فيها(1). (تعظيم قدر الصلاة 2/675- 677)
__________
(1) قال الحسن: كان والله من أدركت من صدر هذه الأمة ما قالوا بألسنتهم فكذلك في قلوبهم؛ كانوا والله موافقين لكتاب ربهم ولسنة نبيهم فإذا جنهم الليل فقيام على أطرافهم يفترشون وجوههم تجري دموعهم على خدودهم يرغبون إلى ربهم في فكاك رقابهم إذا أشرف لهم من الدنيا شيء أخذوا منه قوتهم ووضعوا الفضل في معادهم وأدوا إلى الله فيه الشكر؛ وإن زوي عنهم استبشروا وقالوا: هذا [نظر] من الله واختبار [لعلها واختيار] منه لنا، إن عملوا بالحسنى سرتهم ودعوا الله أن يتقبلها منهم؛ وإن عملوا بالسيئة ساءتهم واستغفروا الله منها. (التهجد ص443)(1/16)
قال الحسن: والله لقد أدركت أقواماً وصحبت طوائف منهم ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا أقبل، ولا يتأسفون على شيء منها أدبر(1)، ولهي كانت أهون في أعينهم من هذا التراب، كان أحدهم يعيش خمسين سنة ولم يُطْوَ له(2) ثوبٌ قط ولا نُصب له قدر، ولا جُعل بينه وبين الأرض شيئاً، ولا أمر في بيته بصنعة طعام قط(3)؛ فإذا كان الليل فقيام على أطرافهم يفترشون وجوهم تجري دموعهم على خدودهم يناجون ربهم في فكاك رقابهم كانوا إذا عملوا الحسنة دأبوا في شكرها وسألوا الله أن يقبلها وإذا عملوا السيئة أحزنتهم وسألوا الله ان يغفرها؛ فما زالوا كذلك على ذلك فوالله ما سلموا من الذنوب ولا نجوا إلا بالمغفرة؛ وإنكم أصبحتم في أجل منقوص والعمل محفوظ، والموت واللهِ في رقابكم، والنار بين أيديكم؛ فتوقعوا قضاء الله عز وجل في كل يوم وليلة. (الزهد ص285)
__________
(1) وانظر (الزهد) (ص263)
(2) أي ليس له الا ثوبه الذي هو لابسه.
(3) قال الحسن: والله لقد أدركت أقواماً ما طوي لأحد منهم ثوب قط، ولا أمر أهله بصنعة طعام قط، ولا جعل بينه وبين الأرض شيئاً قط؛ وإن كان أحدهم ليقول: لوددت أني أكلت أكلة فتصير في جوفي مثل الآجرة؛ وكان يقول: بلغنا أن الآجرة تبقى في الماء ثلاثمئة سنه. (الزهد ص260 والمصنف 7/190 و رك ص57)(1/17)
قال الحسن: لقد صحبت أقواماً يبيتون لربهم في سواد هذا الليل سجداً وقياماً يقومون هذا الليل على أطرافهم تسيل دموعهم على خدودهم فمرة ركعا ومرة سجدا يناجون ربهم في فكاك رقابهم لم يملوا كلال السهر لما قد خالط قلوبهم من حسن الرجاء في يوم المرجع؛ فأصبح القوم بما أصابوا من النَّصَب لله في أبدانهم فرحين وبما يأملون من حسن ثوابه مستبشرين؛ فرحم الله امرءاً نافسهم في مثل هذه الأعمال ولم يرض من نفسه لنفسه بالتقصير في أمره واليسير من فعله فإن الدنيا عن أهلها منقطعة والأعمال على أهلها مردودة؛ قال [الراوي عنه]: ثم يبكي حتى تبتل لحيته بالدموع. (التهجد ص340-341)
قال الحسن: قد والله تعجبت [مـ]ـمن كان قبلكم كانوا إذا جنهم الليل فقيام على أطرافهم يفترشون وجوههم تجري دموعهم على خدودهم يناجون الذي خلقهم في فكاك رقابهم فنعتهم في كتابه أحسن النعت فقال: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً)؛ والهون في كلام العرب السكينة والوقار(1)؛ (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً؛ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً)(2)؛ هذه والله صفتهم، وهذه والله حليتهم؛ والله ما سلموا من الذنوب، ولا نجوا إلا بالمغفرة. (التهجد ص442)
قال علقمة بن مرثد في ذكر الثمانية من التابعين: وأما الحسن فما رأينا أحداً أطول حزناً منه؛ ما كنا نراه إلا حديث عهد بمصيبة، ثم قال: نضحك ولا ندري لعل الله قد اطلع على بعض أعمالنا، وقال: لا أقبل منكم شيئاً، ويحك يا ابن آدم هل لك بمحاربة الله يعني قوة، والله لقد رأيت أقواماً كانت الدنيا أهون على أحدهم من التراب تحت قدميه، ولقد رأيت أقواماً يمسي أحدهم ولا يجد عنده إلا قوتاً فيقول: لا أجعل هذا كله في بطني فيتصدق ببعضه ولعله أحوج إليه ممن يتصدق به عليه. (السير 4/585)
__________
(1) هذا كلام للحسن معترض في أثناء الآيتين.
(2) الفرقان (63-64).(1/18)
قال الحسن: لقيت أقواماً كانوا فيما أحل الله لهم أزهد منكم فيما حرم الله عليكم، ولقد لقيت أقواماً كانوا من حسناتهم أشفق أن لا تقبل منهم من سيآتكم(1)، ولقد صحبت أقواماً كان أحدهم يأكل على الأرض وينام على الأرض، منهم صفوان بن محرز المازني؛ وكان(2) يقول: إذا أويت إلى أهلي وأصبت رغيفاً أكلته فجزى الله الدنيا عن أهلها شراً، والله ما زاد على رغيف حتى فارق الدنيا، يظل صائماً ويفطر على رغيف ويشرب عليه من الماء حتى يتروى ثم يقوم فيصلى حتى يصبح؛ فإذا صلى الفجر أخذ المصحف فوضعه في حجره يقرأ حتى يترحل النهار؛ ثم يقوم فيصلي حتى ينتصف النهار؛ فإذا انتصف النهار رمى بنفسه على الأرض فنام إلى الظهر؛ فكانت تلك نومته حتى فارق الدنيا، فإذا صلى الظهر قام فصلى إلى العصر؛ فإذا صلى العصر وضع المصحف في حجره فلا يزال يقرأ حتى تصفر الشمس. (صف3/227)
قال الحسن في قول الله تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)(3): عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها، وخافوا أن ترد عليهم؛ إن المؤمن جمع إحساناً وخشية؛ والمنافق جمع إساءة وأمناً. (المدارج 1/512)
قال الحسن: أدركت أقواماً لو أنفق أحدهم ملء الأرض ما أمن، لعظم الذنب في نفسه. (جامع العلوم والحكم ص174)
__________
(1) يقول: خوفهم من حسناتهم أكثر من خوفكم من سيئاتكم؛ يخافون أن لا تقبل حسناتهم أكثر من خوفكم أن تعذبوا على سيئاتكم، فلله درهم، ورضي الله عنهم.
(2) أي صفوان.
(3) المؤمنون (60).(1/19)
كان الحسن يقول: إني أدركت صدر هذه الأمة ثم طال بي عمر حتى أدركتكم؛ فوالذي لا إله غيره لهم كانوا أبصر في دينهم بقلوبهم منكم في دنياكم بأبصاركم، ولهم كانوا فيما أحل الله لهم أزهد منكم فيما حرم الله عليكم، ولهم كانوا من حسناتهم ألا تقبل منهم أشد شفقة منكم من سيئاتكم أن تؤخذوا بها(1). (الإشراف ص260)
قال الحسن: لقد عهدت المسلمين وإن الرجل منهم يصبح فيقول: يا أهليه يا أهليه يتيمكم يتيمكم؛ يا أهليه يا أهليه مسكينكم مسكينكم؛ يا أهليه يا أهليه جاركم جاركم؛ وأُسْرِعَ بخياركم وأنتم كل يوم ترذلون. (الأدب المفرد ص61)
قال الحسن: والله لقد أدركت أقواماً ما كانوا يردون سائلاً إلا بشيء؛ ولقد كان الرجل منهم يخرج فيأمر أهله أن لا يردوا سائلاً. (الزهد ص260 وانظر المصنف 7/200)
__________
(1) قال الحسن: والله لقد ادركت أقواماً كانوا فيما أحل الله لهم أزهد منكم فيما حرم عليكم؛ ولقد كانوا أشفق من حسناتهم أن لا تقبل منهم [منكم] أن تؤاخذوا بسيئاتكم. (الزهد ص260 وانظر الورع ص56 والبيان والتبيين 3/155)(1/20)
قال الحسن في هذه الآية: (كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً)(1): الأواب إلى الله بقلبه وعمله؛ وفي هذه الآية: (يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ)(2): كانوا يعملون ماعملوا من أعمال البر وهم يخافون أن لا ينجيهم ذلك من عذاب الله؛ وفي هذه الآية (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً)(3): حلماء، وإن جُهل عليهم لم يجْهلوا؛ هذا نهارهم إذا انتشروا به في الناس؛ (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً)(4): هذا ليلهم اذا خلوا بينهم وبين ربهم تبارك وتعالى، وفي هذه الاية (إن عذابها كان غراماً) قال: علموا أن كل غريم مفارق غريمه إلا غريم جهنم. (الزهد ص286)
كان الحسن إذا قرأ هذه الآية: (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً)(5) قال: لأمر ما أسهر ليلهم وخشع نهارهم؛ وقال الحسن عند هذه الآية أيضاً: هذا ليلهم إذا خلوا فيما بينهم وبين ربهم، يراوحون بين أطرفهم. (التهجد ص441 و ص442)
__________
(1) قال تعالى: (رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً) [الإسراء 25].
(2) قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) [المؤمنون 60].
(3) فال تعالى: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً) [الفرقان 63].
(4) الفرقان (64).
(5) الفرقان (64).(1/21)
ذكر الحسن هذه الآيات (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً)(1) فقال: إن المؤمنين لما جاءتهم هذه الدعوة من الله صدقوا بها فوصل نفعها إلى قلوبهم فخشعت لذلك قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم؛ فكنتَ إذا رأيتَهم رأيتَ قوماً كأنما يرون ما يوعدون رأي العين(2). (تعظيم قدر الصلاة 2/760-761)
قال الحسن في وصفهم [يعني الصحابة وكبار التابعين]: إذا مروا بآية فيها ذكر الجنة بكوا شوقاً، وإذا مروا بآية فيها ذكر النار ضجوا صراخاً، كأن زفير جهنم عند أصول آذانهم. (التخويف من النار ص81)
قال قتادة: سمعت مطرف بن عبد الله بن الشخير يحدث عن حكيم بن قيس بن عاصم عن أبيه أنه أوصى بنيه عند موته، فقال: عليكم بالمال واصطناعه، فإنه مَنبهة للكريم، ويُستغنى به عن اللئيم، وإياكم ومسألة الناس فإنها آخر(3) كسب الرجل. (روضة العقلاء ص224)
دخلتْ ابنةُ عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ على عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ فقالتْ: يا أميرَ المؤمنينَ أنا بنتُ عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ أبي شَهِدَ بدراً وقُتلَ يومَ أحدٍ فقال عمر:
تلكَ المكارمُ لا قعبانِ من لبنٍ
شِيبا(4) بماءٍ فعادا بعْدُ أبوالا(5)
سليني ما شئتِ، فسألتْ فأعطاها ما سألتْ. (5/322)
كان الربيع بن خثيم يبكي حتى تبل لحيتَه دموعُه، فيقول: أدركنا أقواماً كنا في جنبهم لصوصاً. (2/108-109)
عن أبي حصين وطلحةَ بن مصرف، قال أحدهما: لقد أدركتُ أقواماً لو رأيتَهم لاحترقتْ كبدُكَ؛ وقال الآخر: لقد أدركتُ أقواماً ما كنا في جنوبهم إلا لصوصاً. (5/19)
__________
(1) الفرقان (63).
(2) كانت (المتقين) فظننتها مصحفة عن (العين) فأثبتُّ هذه.
(3) لعلها (أخس)، وإن كانت لفظة (آخر) محفوظة في هذا الأثر فمعناها آخر الكسب مرتبة وأدونه وأردؤه.
(4) أي مُزِجا.
(5) البيت لأبي الصلت الثقفي كما في (غريب الحديث) للخطابي (1/111).(1/22)
قال يوسف بن أسباط: سمعت(1) مكث الحسن ثلاثين سنة لم يضحك وأربعين سنة لم يمزح؛ قال: وقال الحسن(2): لقد أدركت أقواماً ما أنا عندهم إلا لص(3). (الشعب 4/265 و صف 3/234)
سئل ابن سيرين مرة عن فتيا فأحسن الاجابة فيها فقال له رجل: والله يا أبا بكر لأحسنتَ الفتيا فيها، أو القول فيها، وعرَّضَ كأنه يقول: ما كانت الصحابة لتحسن أكثر من هذا! فقال محمد: لو أردنا فقههم لما أدركته عقولنا. (2/263)
قال محمد بن واسع: لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة قد بل ما تحت خده من دموعه لا تشعر به امرأته، ولقد أدركتُ رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي إلى جانبه. (2/347)
قال محمد بن واسع: إن كال الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته معه لا تعلم به. (2/347)
قال أبو التياح يزيد بن حميد الضبعي: أدركت أبي ومشيخة الحي إذا صام أحدهم ادّهنَ ولبس صالح ثيابه؛ ولقد كان الرجل يقرأ عشرين سنة ما يعلم به جيرانه. (3/83)
قال ميمون بن مهران: أدركتُ من لم يكن يملأُ عينيهِ من السماءِ خوفاً من ربه عز وجل. (4/88)
قال إبراهيم التيمي: كم بينَكم وبينَ القومِ!! أقبلتْ عليهمُ الدنيا فهربُوا منها وأدبَرَت عنكم فاتبعتموها. (4/212)
قال عون بن عبد اللهِ: إنَّ مَن كانَ قبلَكم كانوا يجعلونَ للدنيا ما فضلَ عنْ آخرتِهم وإنَّكم اليومَ تجعلونَ لآخرتِكم ما فضلَ عنْ دنياكم. (4/242)
قال خالد بن معدان: سبقوكم بثلاثٍ: كانوا لا يُعْوِزُهم الفقرُ، ولا يشكّون لمن(4) صلى، ولم يجبُنوا إذا لقوا. (5/211)
قال عمر بن عبد العزيز: ما قومٌ أشْبَه بالسلف من الأعراب لولا جفاء فيهم. (البيان والتبيين 2/164)
__________
(1) لفظة (سمعت) يحتمل أنها زيدت خطأ فإنها ليست في الصفوة.
(2) فماذا يقول أمثالنا؟
(3) وانظر (فيض القدير) (3/479).
(4) لعل الأصح (بمن).(1/23)
قال القاسم بن محمد بن أبي بكر: خصلتان كانتا في الناس ذهبتا منهم: الجود بما رزقهم الله وقيام الليل. (التهجد ص512-513)
قال خليد بن عبد الله العصري: المؤمن لا تلقاه إلا في ثلاث خلال: في مسجد يعمره(1) أو بيت يستره(2) أو حاجة من أمر دنيا لا بأس بها. (2/232)
قال أبو عوانة: قال قتادة: كان المؤمن لا يرى إلا في ثلاث مواطن: في مسجد يعمره، أو بيت يستره، أو حاجة لا بأس بها. (مسند ابن الجعد 1051)
قدمَ عطاءٌ الخراسانيُّ على هشامٍ(3) فنزلَ على مكحولٍ فقالَ لمكحولٍ: هاهنا أحدٌ يحرِّكُنا(4)؟ قال: نعم، يزيدُ بنُ ميسرةَ، فأتَوهُ فقال عطاءٌ: حرِّكنا رحمَكَ الله؛ قالَ: نعمْ، كانتِ العلماءُ إذا عَلِموا عمِلوا، فإذا عملوا شُغِلوا، فإذا شُغِلوا فُقِدوا، فإذا فُقِدوا طُلِبوا، فإذا طُلبوا هَرَبوا؛ قال: أعدْ عليَّ، فأعادَ عليهِ فرجعَ عطاءٌ ولم يلقَ هشاماً. (5/234-235)
قال يزيد بن ميسرة: كان أشياخُنا يسمّونَ الدنيا: الدنية، ولو وجدوا لها اسماً شراً منه لسموها! كانوا إذا أقبلتْ إلى أحدِهم دنيا قالوا: إليكِ إليكِ عنا يا خنزيرة، لا حاجةَ لنا بِكِ، إنا نعرف إلهنا. (5/235)
قال إبراهيم النخعي: كان من كان قبلكم في أشفق الثياب(5) وأشفق القلوب. (4/230)
قال إبراهيم النخعي: كان من كان قبلكم من أهل الميسرة خصبهم في بيوتهم، وكان في اللباس تجوز، فكانوا يبدأون فيغلقون عليهم أبوابهم، قال: فإن كان فضلاً فعلى الأقارب، وإن كان فضلاً فعلى الجيران، وإن كان فضلاً فها هنا وها هنا؛ وكان يعجبهم أن يكون في بيوتهم التمر للزائرين والسائل. (4/230)
__________
(1) أي بكثرة الصلاة والتعبد فيه.
(2) أي ويبعده عن الناس وما يكونون سبباً فيه من الشرور والمعاصي.
(3) ابن عبد الملك.
(4) أي يعظنا ويرقق قلوبنا.
(5) لأنها بالية ورخيصة.(1/24)
قال محمد بن سوقة: زعموا أن ابراهيم النخعي كان يقول: كنا إذا حضرنا الجنازة أو سمعنا بميت عرف [ذلك] فينا أياماً لأنا قد عرفنا أنه قد نزل به أمر صيره إلى الجنة أو الى النار؛ قال: وإنكم في جنائزكم تتحدثون بأحاديث دنياكم(1). (4/227-228)
قال إبراهيم النخعي: كانوا يستحبون الزيادة ويكرهون النقصان [أي في العمل] وإلا فشيء ديمة، وكان إذا فاتهم شيء من الليل قضوه بالنهار. (رك ص468 والحلية 4/228)
ذكر الأعمش أن رجلاً أعطاه مالاً يخرج به الى ماه(2) يشترى به زعفراناً قال: فذكرت ذلك لإبراهيم فقال: ما كانوا يطلبون الدنيا هذا الطلب. (4/229)
قال ابراهيم النخعي: كانوا يكرهون الطلب في أطارف الأرض. (العقد الفريد 10/151)
قال إبراهيم النخعي: كانوا يطلبون الدنيا فإذا بلغوا الأربعين طلبوا الآخرة. (ذم الدنيا 443)
قال مغيرة: كنت إذا رأيت أبا إسحاق [السبيعي] ذكرت به الصدر الأول. (صف 3/104)
قال عطاء الخراساني: لما رأيتُ الصحافَ الصغارَ(3) قد ظهرتْ عرفتُ أنَّ البركةَ قد رُفعت. (5/199)
قال حميد: كان بكر [بن عبد الله المزني] مجاب الدعوة. (صف3/249)
كانوا اذا ذكروا البصرة قالوا: شيخها الحسن وفتاها بكر [بن عبد الله]. (البيان والتبيين 1/68)
قال إبراهيم بن إسماعيل: كان بين سليمان التيمي وبين رجل شيء فنازعه فتناول الرجل سليمان فغمز بطنه فجفت يد الرجل. (صف3/299)
قال مجاهد: كنا نفتخر بفقيهنا وقاضينا(4)؛ فأما فقيهنا فابن عباس، وأما قاضينا فعبيد بن عمير(5). (صف2/ 207)
__________
(1) عن وكيع عن سفيان عن محمد ابن سوقة عن ابراهيم قال: كانت تكون فيهم الجنازة فيظلون الأيام محزونين يعرف ذلك فيهم. (4/227 و رك ص83)
(2) بالأصل (مائة).
(3) يعني صغار الصحون ونحوها.
(4) لعل الصواب (وقاصنا)، وكذلك الموضع الآتي.
(5) هو عبيد بن عمير بن قتادة الليثي المكي ويكنى أبا عاصم.(1/25)
ذكر عمرو بن ميمون عن أبيه قال: لقد مات سعيد بن جبير وما على الأرض أحد إلا وهو يحتاج إلى علمه. (صف3/85-86)
قال سفيان الثوري: خمسة من أهل الكوفة يزدادون في كل يوم خيراً، فذكر ابن أبجر وأبا حيان التيمي وعمرو بن قيس وابن سوقة وأبا سنان. (5/100)
قال أبو أسامة: كان ابن عون إذا ذَكر من يعجبه ذكر رجاء بن حيوة(1). )صف4/213)
قال ابن عون: ثلاثة لم أر مثلهم كأنهم التقوا فتواصوا: ابن سيرين بالعراق، والقاسم بن محمد بالحجاز، ورجاء بن حيوة بالشام. (صف4/214)
قال مطر الوراق: ما رأيت شامياً أفضل من رجاء بن حيوة. (صف4/213)
قال أبو يونس ابن أبي شبيب: شهدتُ عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ وهو يطوفُ بالبيتِ وإنَّ حجزةَ إزارِه لغائبةٌ في عُكَنِه(2)، ثم رأيتُه بعدما استُخلِفَ ولو شئتُ أن أعدَّ أضلاعَه من غيرِ أن أمسَّها لفعلتُ. (5/257)
قال سفيان الثوري: الخلفاء خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز؛ رضي الله عنهم. (صف2/113)
قال ابراهيم: كان عبد الله(3) يشبه النبي [صلى الله عليه وسلم] في هديه ودله وسمته وكان علقمة [بن قيس النخعي] يشبه بعبد الله(4)
__________
(1) ثقة، فقيه، كندي، فِلَسطيني، كان سبباً في تولي عمر بن عبد العزيز الخلافة بعد سليمان.
(2) العُكْنةُ: الطي الذي في البطن من السِّمن، والجمعُ عُكْنٌ وأعْكَان.
(3) ابن مسعود رضي الله عنه.
(4) قال مرة بن شراحيل: كان علقمة من الربانيين. (صف3/27)
وقال أبو ظبيان: أدركت ما شاء الله من أصحاب النبي [صلى الله عليه وسلم] يسألون علقمة ويستفتونه. (صف3/27)
وبمناسبة ذكر ما تقدم من التشبيه أذكر هنا تذييلاً عليه؛ قال الذهبي في (السير) (11/316-317): ([قال] حميد بن عبد الرحمن الرواسي: يقال: لم يكن أحد من الصحابة أشبه هدياً وسمتاً ودَلاً من ابن مسعود بالنبي صلى الله علية وسلم؛ وكان أشبه الناس به علقمة؛ وكان أشبه الناس بعلقمة إبراهيم؛ وكان أشبههم بإبراهيم منصور؛ وأشبه الناس به سفيان الثوري؛ وأشبه الناس به وكيع؛ وأشبه الناس بوكيع، فيما قاله محمد بن يونس الجمال، أحمد بن حنبل).(1/26)
. (صف3/27)
عن الحسين بن عبيد الله النخعي قال: لم يترك علقمة إلا داره وبرذوناً(1) ومصحفاً؛ وأوصى به(2) لمولى له كان يقوم عليه في مرضه. (2/100)
عن إبراهيم عن علقمة أنه قال لامرأته في مرضه: تزيني واقعدي عند رأسي لعل الله يرزقك بعض عُوّادي(3). (2/100)
عن مالك أن عمر بن عبد العزيز قال: لو كان لي من الأمر شيء لوليت القاسم بن محمد [بن أبي بكر] الخلافة. (صف2/88)
قال يحيى بن سعيد: ما أدركنا بالمدينة أحداً نفضله على القاسم بن محمد. (2/184 و صف2/88)
قال أبو الزناد: ما رأيت فقيهاً أفضل من القاسم بن محمد. (2/183-184)
حدث عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: ما رأيت أحداً أعلم بالسنة من القاسم بن محمد؛ وكان الرجل لا يعد رجلاً حتى يعرف السنة. (2/184 و صف2/89)
عن حماد بن زيد عن أيوب قال: سمعت القاسم يُسأل بمنى، فيقول: لا أدري، لا أعلم، فلما أكثروا عليه قال: والله ما نعلم كل ما تسألون عنه، ولو علمنا ما كتمناكم، ولا حل لنا أن نكتمكم؛ قال: وسمعت يحيى بن سعيد يقول: سمعت القاسم يقول: ما نعلم كل ما نسأل عنه، ولأن يعيش الرجل جاهلاً بعد أن يعرف حق الله تعالى عليه خير له من أن يقول ما لا [يـ]ـعلم. (2/184)
قال أبو الزناد: ما كان القاسم يجيب إلا في الشيء الظاهر(4). (الطبقات الكبرى 5/187)
قال إبراهيم بن عمرو بن كيسان: أذكرهم في زمان بني أمية يأمرون في الحاج صائحاً يصيح: لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح(5)؛ فإن لم يكن عطاء فعبد الله بن أبي نجيح. (صف2/213)
__________
(1) أي دابة.
(2) لعلها (بها) أو (بهن).
(3) أي يتزوجها من بعدِه.
(4) هذا مع ما تقدم من شهادة العلماء بفضله بل بأفضليته في العلم وغيره.
(5) عن عمرو بن سعيد عن أمه قالت: قدم إبن عمر مكة فسألوه فقال: أتجمعون لي يا أهل مكة المسائل وفيكم ابن أبي رباح؟! (صف2/212)(1/27)
قال ابراهيم [النخعي]: ما من قرية إلا وفيها من يدفع عن أهلها به وإني لأرجو أن يكون أبو وائل [شقيق بن سلمة] منهم. (صف3/28)
قال هشام بن حسان: حدثني من لم تر عيناي مثله؛ فقلت في نفسي: اليوم يستبين فضل الحسن وابن سيرين، قال: فأشار بيده إلى ابن عون وهو جالس؛ قال الربالي: فذكرته للخليل بن شيبان فقال: سمعت عمر بن حبيب يقول: [سمعت] عثمان البتي يقول: مارأت عيناي مثل ابن عون(1). (صف 3/310 وتهذيب الكمال 15/399)
قال قرة بن خالد: كنا نعجب من ورع ابن سيرين فأنساناه ابنُ عون. (صف3/310)
قال خارجة بن مصعب: صحبت عبد الله يعني ابن عون أربعاً وعشرين سنة فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة. (صف3/309)
قال الزهري: لم أر هاشمياً أفضل من علي بن الحسين(2)، وما رأيت أحداً كان أفقه منه(3). (صف2/99)
قال يعقوب الماجشون: إن رؤية محمد بن المنكدر تنفعني في ديني. (صف2/143)
قال شعبة: ما رأيت بالكوفة شيخاً خيراً من زبيد الايامي(4)؛ وما رأيت عمرو بن مرة [الجملي] في صلاته إلا ظننت أنه لا ينصرف حتى يستجاب له.. (صف3/106)
__________
(1) قال سعيد بن عامر: لم تر بعينيك كوفياً ولا بصرياً مثل ابن عون. (صف3/309)
(2) ونسب مثل هذا القول إلى أبي حازم أيضاً.
(3) قال رجل لسعيد بن المسيب: ما رأيتُ أحدا أورع من فلان، قالَ: هل رأيت علي بن الحسين؟ قال: لا، قال: ما رأيتُ أحداً أورع منه. (صف2/99)
(4) وقال شعبة كما في رواية وردت في الحلية: ما رأيت رجلاً خيراً وأفضل من زبيد. (5/29)(1/28)
قالَ شعبةُ(1): ما رأيتُ عَمْراً بنَ مُرّةَ في صلاة قط إلا ظننتُ أنَّه لا ينفتل(2) حتى يستجابَ لهُ، مِن اجتهادِه!(3). (5/94)
قال حصين: أتينا مرة بن شراحيل الطيب نسأل عنه، فقالوا: إنه في غرفة له قد تعبد اثنتي عشرة سنة فدخلنا عليه. (صف3/34 والمصنف 7/150)
قال العلاء بن عبد الكريم الأيامي: كنا نأتى مرة الهمداني فيخرج إلينا فنرى أثر السجود في جبهته وكفيه وركبتيه وقدميه(4) فيجلس معنا هنيهة ثم يقوم قائماً فإنما هو ركوع وسجود. (التهجد ص286 والحلية 4/162 و صف)
قال ابن المبارك حدثنا رجل عن مرة الطيب قال: لما كانت الفتنة الأولى عصمه الله منها فقال: عُصمت منها! لأحدثن لله شكراً، فكان يصلي في اليوم والليلة خمسين ركعة يختم فيها القرآن؛ فلما كانت فتنة ابن الزبير عصم منها فقال: عصمت منها! لأحدثن لله شكراً، فكان يصلي في اليوم والليلة عدد سور القرآن، مئة ركعة وأربع عشرة ركعة، يختم فيها القرآن(5). (4/162-163)
__________
(1) تقدم هذا الأثر في المناقب.
(2) أي لا ينصرف من صلاته؛ قال ابن منظور في (لسان العرب) (11/514): (الفَتْل: لَيُّ الشيء كلَيِّك الحبلَ وكَفَتْلِ الفَتِيلةِ؛ يقال: انْفَتَلَ فلانٌ عن صَلاتِه: أَي انصرفَ).
(3) وقال سفيان: قلت لمسعر: من أفضل من رأيت؟ قال: ما يخيل إلي أني رأيت أحداً أفضله على عمرو بن مرة، وما رأيته قط يدعو هكذا إلا قلت: يستجاب له. (5/94)
(4) قال الذهبي: بلغنا عنه أنه سجد لله حتى أكل التراب جبهته. (السير 4/75)
(5) قال الذهبي في السير عقب نقله طائفة من هذه الأخبار: قلت: ما كان هذا الولي يكاد يتفرغ لنشر العلم ولهذا لم تكثر روايته وهل يراد من العلم إلا ثمرته؟(1/29)
قال مسعر: سمعت عبد الملك بن ميسرة يقول ونحن في جنازة عمرو بن مرة(1): إني لأحسبه خير أهل الأرض. (صف3/106)
قال رجاء بن حيوة: إن يفخر علينا أهل المدينة بعابدهم ابن عمر فإنا نفخر عليهم بعابدنا ابن محيريز(2). (السير4/495)
قال الأوزاعي: كان ابن أبي زكريا يقدم فلسطين فيلقى ابن محيريز فتتقاصر إليه نفسه لما يرى من فضل ابن محيريز. (صف4/207)
قال رجاء: أتانا نعي ابن عمر ونحن في مجلس ابن محيريز فقال ابن محيريز: والله إن كنت لأعد بقاء ابن عمر أماناً لأهل الأرض؛ وقال رجاء بعد موت ابن محيريز: وأنا والله إن كنت لأعد بقاء ابن محيريز أماناً لأهل الأرض. (صف 4/206)
قال أعرابي لأهل البصرة: من سيد أهل هذه القرية؟ قالوا: الحسن، قال: بم سادهم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه واستغنى هو عن دنياهم. (جامع العلوم والحكم ص301)
كتبَ عمرُ بن عبد العزيز إلى عَدِيِّ بنِ أرطاة(3): أما بعدُ، فإنك لن تزالَ تُعنّي إليَّ رجلاً من المسلمينَ في الحر والبردِ تسألُني عنِ السنةِ، كأنكَ إنما تعظِّمُني بذلكَ، وأيمُ اللهِ لحسْبُكَ بالحسنِ، فإذا أتاك كتابي هذا فسلِ الحسنَ لي ولكَ وللمسلمينَ، فرحمَ اللهُ الحسنَ فإنه من الإسلام بمنزلٍ ومكانٍ، ولا تقرينَّهُ كتابي هذا. (5/307)
__________
(1) هو عمرو بن مرة بن عبد الله بن طارق الجَمَلي، المرادي أبو عبد الله الكوفي، الأعمى، ثقة عابد، جعله ابن حجر في الخامسة من طبقات التقريب، وقال: مات سنة ثماني عشرة ومئة، وقيل قبلها.
(2) هو عبد الله بن محيريز بن جنادة بن وهب أبو محيريز القرشي الجمحي المكي، وصفه الذهبي في السير بقوله: الإمام الفقيه القدوة الرباني، وبقوله: وكان من العلماء العاملين ومن سادة التابعين. (السير4/495)
(3) وكان على البصرة.(1/30)
قال الحسن: ما ضربت ببصري ولا نطقت بلساني ولا بطشت بيدي ولا نهضت على قدمي حتى أنظر على طاعة أو على معصية، فإن كانت طاعة تقدمت، وإن كانت معصية تأخرت. (الورع ص116 وكلمة الإخلاص ص35 وجامع العلوم والحكم ص76)
قال الأشعث: كنا إذا أتينا الحسن لا يسأل عن خبر ولا يخبر بشيء، وإنما كان في أمر الآخرة. (الطبقات 7/67)
قال حميد ويونس: ما رأينا أحداً أكمل مروءة من الحسن. (السير 5/574)
قيل ليونس: أتعرف أحداً يعمل بعمل الحسن؟ فقال: والله لا أعرف أحداً يقول بقوله فكيف يعمل بعمله؟! ثم وصفه فقال: إذا أقبل فكأنه أقبل من دفن حميمه، وإذا جلس فكأنه أُمِرَ بضرب عنقه! وإذا ذكرت النار فكأنها لم تخلق إلا له! (المعارف ص195 والعقد الفريد 10/63)
قال أيوب: كان الحسن يتكلم بكلام كأنه الدر فتكلم قوم من بعده بكلام يخرج من أفواههم كأنه القيء. (السير 4/577)
قال خالد بن صفوان: لقيت مسلمة بن عبد الملك فقال: يا خالد أخبرني عن حسن أهل البصرة، قلت: أصلحك الله، أخبرك عنه بعلم، أنا جاره إلى جنبه وجليسه في مجلسه وأعلم مَن قِبلي به، أشبه الناس سريرة بعلانية وأشبهه قولاً بفعلٍ، إن قعد على أمر قام به، وإن قام على أمر قعد عليه، وإن أمر بأمر كان أعمل الناس به وإن نهى عن شيء كان أترك الناس له، رأيته مستغنياً عن الناس ورأيت الناس محتاجين إليه، قال: حسبك، كيف يضل قوم هذا فيهم؟! (السير 4/576)
قيل للحسن: يا أبا سعيد إن قوماً زعموا أنك تذم ابن عباس، فبكى حتى اخضلت لحيته ثم قال: إن ابن عباس كان من الاسلام بمكان، وإن ابن عباس كان من العلم بمكان، وكان والله له لسان سؤول وقلب عقول، وكان والله مثجاً يسيل غرباً. (البيان والتبيين 1/60)(1/31)
الإخلاص والنيات والمقاصد(1)
__________
(1) الإخلاص هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة؛ وهو تصفية العمل من كل شائبة كالعجب والرياء والسمعة والمن. والمخلص هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الناس من أجل صلاح قلبه مع الله عز وجل، ولا يحب أن يطلع الناس على مثاقيل الذر من عمله.
وقد عني السلف بالإخلاص عناية فائقة، إذ هو أول أعمال القلوب وجوداً وأهمها شأناً وأعلاها مرتبة وأساسها موضعاً، ثم اهتم به كذلك العلماء الربانيون والعُبّاد الموفقون، فصنف فيه العلماء المؤلفات وأفردوا له الأبواب، وابتدأوا دعواتهم ومصنفاتهم في الغالب بالتذكير به والحث عليه لأن الإخلاص وسائر أعمال القلوب شأنها عظيم وأمرها خطير وهي تحتاج إلى مجاهدة وعناية، وعليها مدار النجاة، فإن أعمال الجوارح لا بد أن تحْصل إذا صحّت أعمال القلوب.
قال ابن أبي جمرة: وددت لو أنه كان من الفقهاء من ليس له شغل إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم ويقعد للتدريس في أعمال النيات ليس إلا، فإنه ما أتي كثير من الناس إلا من تضييع ذلك.
والإخلاص حقيقة الدين ومفتاح دعوة الرسل عليهم السلام قال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء) [البينة 5]، وقال تعالى: (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) [الزمر 2]؛ وهو لب العبادة وروحها، وإن كانت في الحقيقة كلها لب وكلها روح؛ وقال ابن حزم: (النية سر العبودية وهي من الأعمال بمنزلة الروح من الجسد، ومحال أن يكون من العبودية عمل لا روح فيه، فهو جسد خراب).
والإخلاص أمر خفي يكمن في القلب فلا يعلم حقيقته إلا الله، ولكن له علامات كثيرة منها: الحرص على العمل وعلى إخفائه؛ ومنها المبادرة إلى العمل وعدم التسويف؛ ومنها إتقان العمل في السر؛ ومنها الصبر والتحمل وعدم التشكي؛ ومنها حب خمول الذكر وعدم محبة الشهرة؛ ومنها كراهة المجاملة والمداهنة والتصنع والتكلف؛ ومنها قلة المبالاة بالحظوظ الدنيوية.
وللإخلاص والاحتساب وصدق النية فضائل عظيمة ومنافع متكاثرة، وفيما يلي بعضها:
1- بالاخلاص والاحتساب وإرادة وجه الله تتحول المباحات إلى قربات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليه حتى ما تجعل في فم امرأتك)؛ رواه البخاري؛ ولذلك قال زبيد اليامي: (إني أحب أن تكون لي نية في كل شيء حتى في الطعام والشراب).
وما من عمل مباح إلا ويمكن للمرء أن ينوي به القربة إلى الله تعالى، مثل أن ينوي به التقوي على الطاعة أو التفرغ لها، أو التهيؤ لها أو ينوي به الاستغناء عن المعصية والتعفف عنها والتقوّي على دفعها.
2- الإخلاص سبب لمغفرة الذنوب ولو فحشت، قال ابن تيمية رحمه الله: (والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه فيغفر به كبائر----كالبغي التي سقت كلباً، فقد حضر في قلبها من الإخلاص ما لا يعلمه إلا الله فغفر الله لها).
وبالاخلاص في التوبة غفر الله لقاتل مئة الأنفس المذكور في الحديث المشهور.
3- بالإخلاص في العمل يحصل تنفيس الكروب، والدليل على ذلك حديث الثلاثة الذين حبستهم صخرة ففرج الله عنهم؛ وقد كان يقول كل واحد منهم: اللهم إنك إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه.
4- بالإخلاص والتقوى يرزق المؤمن الحكمة، ويوفق للصواب والتمييز بين الحق والباطل، قال تعالى: (إِنْ تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً) [الأنفال 29].
5- بالإخلاص يدرك الإنسان الأجر على ما يعجز عنه من العمل، قال الله تعالى: (وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ) [التوبة 92]؛ فعن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة فقال: إن بالمدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم المرض)؛ وفي رواية إلا شركوكم في الأجر؛ رواه مسلم.
ورواه البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: (رجعنا من غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أقواماً خلفنا بالمدينة ما سلكنا شعباً ولا وادياً إلا وهم معنا حبسهم العذر).
وقال صلى الله عليه وسلم: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه).
وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)، رواه مسلم.
6- بالاخلاص في التمني يكتب ثواب العمل الصالح لمن عجز عنه وتمناه بصدق ولو كان عملاً عظيماً، كرجل ليس لديه مال فيرى رجلاً يتصدق بماله فيقول: لو كان لي مثل هذا عملت مثلما يعمل، فهما في الأجر سواء؛ فقد روى الترمذي عن أبي كبشة عمرو بن سعد الأنماري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه: ما نقص مالُ عبد من صدقة؛ ولا ظُلم عبدٌ مظلمةً صبر عليها إلا زاده الله عزاً؛ ولا فتَح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر، أو كلمة نحوها؛ وأحدثكم حديثاً فاحفظوه؛ قال: إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلماً، فهو يتقي فيه ربَّه ويصل فيه رحِمَه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل؛ وعبد رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، فهو نيته؛ فأجرهما سواء؛ وعبد رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً، فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل رحمه، ولا يعلم لله فيه حقاً؛ فهذا بأخبث المنازل؛ وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان فهو نيته، فوزرهما سواء)، قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
ولهذا المعنى والذي قبله قال يحيى بن أبي كثير: (تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل)؛ وقال داود الطائي: (رأيت الخير كله إنما يجمعه حسن النية وكفاك به خيراً وإن لم تنصب)؛ أي حتى وإن لم تتعب فإن ما حصلته من اجتماع قلبك لله وقوة إرادة رضاه ومثوبته وكثرة الحرص على طاعته وشدة الرغبة فيها: أمر عظيم جداً؛ قال الفضيل: إنما يريد الله عز وجل منك نيتك وإرادتك؛ وقال داود الطائي أيضاً: (البر همة التقي، ولو تعلقت جميع جوارحه بحب الدنيا لردته يوماً نيته إلى أصلها).
7- بالإخلاص في طلب الحق والحكم الشرعي يؤجر المرء ولو أخطأ كالعامل والمفتي والقاضي.
8- بالإخلاص ينجو المرء من الفتن، مثل تنجية الله ليوسف عليه السلام من كيد امرأة العزيز وغيرها من النسوة، قال تعالى: (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف 24].
9- بالإخلاص تتحقق الكفاية قال الله تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) [الزمر 36]؛ وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وما بين الناس).
10- بالإخلاص يكتب للمرء القبول بين الناس ويعظم انتفاعهم بعلمه ودعوته ووعظه وقصصه؛ والنص والتاريخ والواقع شهود على ذلك عدول.
11- بالاخلاص تندفع الوساوس والهموم والرياء، قال أبو سليمان الداراني: (إذا أخلص العبد انقطع عنه كثرة الوساوس والرياء).
هذه بعض أمهات فضائل الإخلاص، ولكن الاخلاص كان لعظمته وخطورته عزيزاً ونادراً، وهكذا أراده الله تعالى أن يكون بهذا الوصف؛ ولذا يصعب تحققه إلا عند من استثناه الله تعالى فوفقه إليه؛ وهذه بعض كلمات السلف والمتقدمين من أهل العلم والعبادة والزهد في هذا المعنى:
1- قال سفيان: (ما عالجت شيئاً أشد عليّ من نيتي إنها تنقلب علي).
2-قال يوسف بن أسباط: (تخليص النية من فسادها أشد على العاملين من طول الاجتهاد).
3- قال سهل بن عبد الله التستري: (الإخلاص أعز من الكبريت الأحمر).
4- قال يوسف بن الحسين: (كم أجتهد في إسقاط الرياء من قلبي، فينبت لي على لون آخر).
5- قال الفضيل بن عياض: (ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما)
فمن عزم على عبادة وتركها مخافة أن يراه الناس فهو واقع في نوع من أنواع الرياء؛ ولكن لو ترك العمل ليفعله في الخفاء، فهذا بحسب حاله ومقصده؛ وأما المقتدى به المنظور إليه الذي يلمس من نفسه الصدق في نيته إن شاء الله، فإن كان يستحب في حقه إظهار عمل من الأعمال فليظهره، وكذلك إن كان العمل الذي يريد عمله المشروع فيه الإظهار.
قال ابن قدامة: (وفي الإظهار فائدة الإقتداء، ومن الأعمال ما لا يمكن الإسرار به كالحج والجهاد، والمظهر للعمل ينبغي أن يراقب قلبه حتى لا يكون فيه حب الرياء الخفي بل ينوي الإقتداء به)؛ قال: (ولا ينبغي للضعيف أن يخدع نفسه بذلك، ومثل الذي يظهره وهو ضعيف كمثل إنسان سباحته ضعيفة فنظر إلى جماعة من الغرقى فرحمهم فأقبل إليهم فتشبثوا به وغرقوا جميعاً).
تنبيه: ليس من الرياء أن يشتهر المرء ولكن الشهرة يمكن أن توقع في الرياء!!
انتهى الكلام على هذا الموضوع، وقد استفدت بعضه من شريط مفرغ للشيخ محمد صالح المنجد حفظه الله.(1/32)
قالَ شفيُّ بنُ ماتعٍ الأصبحيّ: إنَّ الرجلينِ ليكونانِ في الصلاةِ مناكبُهما جميعاً، ولَمَا بينَهما كما بينَ السماءِ والأرضِ، وإنهما ليكونانِ في بيتٍ صيامُهما واحدٌ(1) ولَمَا بينَ صيامِهما كما بينَ السماءِ والأرضِ. (5/167)
قال الحسن: المرائي يريد أن يغلب قدر الله فيه، هو رجل سوء، يريد أن يقول الناس: هو صالح؛ فكيف يقولون وقد حل من ربه محل الأردياء؛ فلا بد من قلوب المؤمنين أن تعرفه. (الكبائر ص144)
قال الحسن: صم ولا تبغ في صومك؛ قيل: وما بغيي في صومي؟ قال: أن يقول الرجل: ارفعوا لي كذا ارفعوا لي كذا فإني أريد الصوم غداً. (رك ص219)
قال الحسن: رحم الله عبداً وقف عند همه، فإن أحداً لا يعمل حتى يهم، فإن كان لله عز وجل مضى، وإن كان لغير الله أمسك. (5/458 وإغاثة اللهفان ص81)
قال ميمون بن مهران: إن أعمالَكم قليلةٌ فأخلصوا هذا القليل. (4/92)
قال الحسن: ما من أحد عمل عملاً إلا سار في قلبه سورتان؛ فإذا كانت الأولى منهما فلا تهيدنه الآخرة(2). (لسان العرب 3/440-441)
قال الحسن في قول الله عز وجل (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ)(3): كان إذا قال قال لله، وإذا عمل عمل لله، وإذا نوى نوى لله. (الشعب 5/350)
قال الحسن: لا يزال العبد بخير ما إذا قال قال لله وإذا عمل عمل لله عز وجل. (الزهد ص271)
قال مطرِّف: صلاح القلب بصلاح العمل وصلاح العمل بصحة النية. (2/199)
قال مطرِّف: إذا استوت سريرة العبد وعلانيته قال الله عز وجل: هذا عبدى حقاً. (صف 3/225)
__________
(1) في الأصل (واحداً).
(2) شرح هذا الأثر صاحب (لسان العرب) (3/440-441) فقال: (أي لا يمنعنه ذلك الذي تقدمت فيه نيته ولا يحركنه ولا يزيلنه عنها والمعنى: إذا أراد فعلاً وصحت نيته فيه فوسوس له الشيطان فقال: إنك تريد بهذا الرياء فلا يمنعه ذلك من فعله).
(3) هود (75).(1/33)
كان صفوان بن محرز وإخوانه يجتمعون فيتحدثون فلا يرون تلك الرقة، فيقولون: يا صفوان حدث أصحابك، فيقول: الحمد لله، فيرق القوم وتسيل الدموع من أعينهم وكأنها أفواه المزادة. (2/214)
قال أبو العالية: اجتمع إلي أصحاب محمد فقالوا: يا أبا العالية لا تعمل عملاً تريد به غير الله فيجعل الله ثوابك على ما أردت؛ قال: واجتمع إلي أصحاب محمد فقالوا: يا أبا العالية لا تتكلن على غير الله فيكلك الله إلى من اتكلت عليه(1). (التوكل على الله 39)
قال قتادة: حدثنا العلاء بن زياد أن رجلاً كان يرائي بعمله فجعل يشمر ثيابه ويرفع صوته إذا قرأ فجعل لا يأتي على أحد إلا سبه ولعنه ثم رزقه الله تعالى يقيناً بعد ذلك فخفض من صوته وجعل صلاته فيما بينه وبين ربه عز وجل فجعل لا يأتى بعد ذلك على أحد إلا دعا له بخير. (صف3/254 والحلية 2/243)
قال أبو عمران الجوني: تصعد الملائكة بالأعمال فينادَى الملك: ألقِ تلك الصحيفة! ألقِ تلك الصحيفة! فتقول الملائكة: ربنا قالوا خيراً وحفظناه عليهم، فيقول تبارك وتعالى: لم يرد به وجهي، قال: وينادى الملك اكتب لفلان كذا وكذا، مرتين، فيقول: يا رب إنه لم يعمله! فيقول جل وعز: إنه نواه. (صف3/ 265)
قال مالك بن دينار: منْ لمْ يكنْ صادقاً فلا يَتَعَنَّ(2). (2/360)
ذكر الربيع بن المنذر عن أبيه قال: قال محمد بن الحنفية: يا منذر، قلت: لبيك، قال: كلُّ ما لا يُبتغى به وجه الله تعالى يضمحل. (3/176)
قال عمرُ بنُ ذر: ربما قيلَ لابراهيم التيميِّ: تكلمْ، فيقول: ما تحضرني نية(3)
__________
(1) قال أبو العالية: قال لي أصحاب محمد: لا تعمل لغير الله فيكلك الله عز وجل إلى من عملت له. )صف3/212)
(2) فإنه لا يفلح ولا ينجو إلا الصادقون.
(3) قال ابن فارس عن أبي الحسن القطان: (أصبت ببصري وأظن أني عوقبت بكثرة كلامي أثناء الرحلة)؛ قال الذهبي: (صدق والله فإنهم كانوا مع حسن القصد وصحة النية غالباً يخافون من الكلام وإظهار المعرفة).
وقال بعضهم: (ينبغي للعالم أن يتحدث بنية وحسن قصد، فإن أعجبه كلامه فليصمت؛ وإن أعجبه الصمت فلينطق؛ فإن خشي المدح فليصمت، ولا يفتر عن محاسبة نفسه، فإنها تحب الظهور والثناء).(1/34)
. (4/211)
قال عيسى بن كثير الأسدي الرقي: مشيت مع ميمون بن مهران حتى أتى باب داره ومعه ابنه عمرو فلما أردت أن انصرف قال له عمرو: يا أبت ألا تعرض عليه العشاء؟ قال: ليس ذلك من نيتي. (الصمت ص247)
قال سلمة بن كهيل: ما رأيت أحداً يطلب بعلمه ما عند الله تعالى إلا ثلاثة: عطاء [بن أبي رباح] وطاووس ومجاهد. (3/311 وصف2/212)
قال هشام بن حسان: ما رأيت أحداً يطلب بالعلم وجه الله عز وجل إلا يونس بن عبيد. (صف3/306)
قال الحسن: النية أبلغ من العمل. (الزهد ص280)
قال يحيى بن أبي كثير: تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل(1). (3/70)
قال بديل العقيلي: من أراد بعلمه وجه الله أقبل الله عليه بوجهه وأقبل بقلوب العباد إليه، ومن عمل لغير الله تعالى صرف عنه وجهه وصرف قلوب العباد عنه. (3/63 و صف 3/266)
قال عبدة بن أبي لبابة: إن أقرب الناس من الرياء آمنهم له. (صف3/110)
قال بلالٌ بن سعد: لا تكنْ ولياً للهِ في العلانيةِ وعدوَّه في السرّ. (5/228 وصفة المنافق ص74)
قال بلال بن سعد: عبادَ الرحمنِ اعلموا أنكم تعملونَ في أيامٍ قصارٍ لأيامٍ طوالٍ، وفي دارِ زوالٍ لدارِ مقامٍ وفي دارِ نصبٍ وحزنٍ لدارِ نعيمٍ وخُلْدٍ، ومن لم يعمل على اليقينِ فلا يغتر(2). (5/231)
ذكر الأعمش عن ابراهيم قال: إن الرجل ليتكلم بالكلام على كلامه المقت ينوي به الخير فيلقى الله له العذر في قلوب الناس حتى يقولوا: ما أراد بكلامه إلا الخير، وإن الرجل ليتكم الكلام الحسن لا يريد به الخير فيلقي الله في قلوب الناس حتى يقولوا: ما أراد بكلامه الخير. (4/229-230)
__________
(1) سُئِل سهل بن عبد الله التستري: (أي شيء أشد على النفس؟ قال: الإخلاص لأنه ليس لها فيه نصيب)؛ فمع الإخلاص تنسى حظوظ النفس.
قال ابن المبارك: (رب عمل صغير تكثره النية، ورب عمل كبير تصغره النية).
(2) أي فلا يغتر بعمله، ولكن أخشى أن تكون هذه الكلمة مصحفة عن (يتعنَّ).(1/35)
قال زبيد اليامي: يسرني أن يكون لي في كل شيء نية حتى في الأكل والنوم. (صف3/99)
عن ابن عم لعمرو بن عتبة قال: نزلنا في مرج حسن فقال عمرو بن عتبة: ما أحسن هذا المرج ما أحسن الآن لو أن مناديا ينادي: يا خيل الله اركبي، فخرج رجل وكان في أول من لقي، فأصيب ثم جيء به فدفن في هذا المرج، قال: فما كان بأسرع من أن نادى منادٍ: يا خيل الله اركبي فخرج عمرو في سرعان الناس في أول من خرج فأتى عتبة فأخبر بذلك فقال: علي عَمْراً، عليَّ عمراً، فأرسل في طلبه فما أدرك حتى أصيب(1)، قال: فما أراه دفن إلا في مركز رمحه وعتبة يومئذ على الناس(2). (صف3/72)
__________
(1) عن علقمة قال: خرجنا ومعنا مسروق وعمرو بن عتبة ومعضد غازين فلما بلغنا ماسبذان وأميرها عتبة بن فرقد قال لنا ابنه عمرو بن عتبة: إنكم إن نزلتم عليه صنع لكم نزلاً ولعله أن يظلم فيه أحداً، ولكن إن شئتم قِلنا في ظل هذه الشجرة وأكلنا من كِسَرنا ثم رحنا، ففعلنا، وقطع عمرو بن عتبة جبة بيضاء فلبسها وقال: والله إن تحدر الدم على هذه حسن؛ فرمي فرأيت الدم يتحدر على المكان الذي وضع يده عليه فمات. (صف3/70-71)
عن عبد الرحمن بن يزيد قال: خرجنا في جيش فيهم علقمة ويزيد بن معاوية النخعى وعمرو بن عتبة ومعضد قال: فخرج عمرو بن عتبة وعليه جبة جديدة بيضاء فقال: ما أحسن الدم يتحدر على هذه فخرج فتعرض للقصر فأصابه حجر فشجه، قال: فتحدر عليها الدم ثم مات منها فدفناه؛ ولما أصابه الحجر فشجه جعل يلمسها بيده ويقول: إنها صغيرة، وإن الله ليبارك في الصغير. (صف3/71)
(2) وهذه الغزاة التي استشهد فيها هي غزاة آذربيجان وذلك في خلافة عثمان رضي الله عنه.(1/36)
قال علي بن محمد: كان سبب حبس إبراهيم التيمي أن الحجاج طلب إبراهيم النخعي فجاء الذي طلبه فقال: أريد إبراهيم، فقال إبراهيم التيمي: أنا إبراهيم، فأخذه وهو يعلم(1) أنه إبراهيم النخعي فلم يستحل أن يدله عليه فجاء به الحجاج فأمر بحبسه في الديماس ولم يكن لهم ظل من الشمس ولا كن من البرد وكان كل اثنين في سلسلة فتغير إبراهيم فجاءته أمه في الحبس فلم تعرفه حتى كلمها فمات في السجن فرأى الحجاج في منامه قائلا يقول مات في هذه الليلة رجل من أهل الجنة فلما اصبح قال هل مات الليلة أحد بواسط؟ قالوا: نعم، إبراهيم التيمى مات في السجن؛ فقال: حلم، نزغة من نزغات الشيطان، فأمر به فألقي على الكناسة. (صف3/92)
قال عبد الرحمن بن الحكم حدثني أبي قال: رأيت سفيان الثوري يجيء إلى عمرو [بن قيس الملائي] ينظر إليه لا يكاد يصرف بصره عنه، أظنه يحتسب في ذلك. (5/103)
قال أبو مسلم الخولاني: لأن يولد لي مولود يحسن الله عز وجل نباته حتى إذا استوى على شبابه و كان أعجب ما يكون إلي قبضه مني: أحب إلي من أن يكون لي الدنيا وما فيها. (صف4/213)
قال كثير بن تميم الداري: كنت جالساً مع سعيد بن جبير فطلع عليه ابنه عبد الله وكان به من الفقه فقال: إني لأعلم خير حالاته، قالوا: وما هو؟ قال: أن يموت فأحتسبه. (صف3/79)
عن زياد بن أبي حسان أنه شهد عمر بن عبد العزيز حين دفن إبنه عبد الملك استوى قائماً وأحاط به الناس فقال: والله يا بني لقد كنت براً بأبيك؛ والله ما زلت منذ وهبك الله لي مسروراً بك؛ ولا والله ما كنتُ قط أشد سروراً ولا أرجى لحظي من الله فيك منذ وضعتك في المنزل الذي صيرك الله إليه؛ فرحمك الله وغفر لك ذنبك وجزاك بأحسن عملك، ورحم كل شافع يشفع لك بخير من شاهد وغائب؛ رضينا بقضاء الله وسلمنا لأمره، الحمد لله رب العالمين ثم انصرف. (صف2/130)
__________
(1) أي يحسب.(1/37)
قال أبو عمرو الأوزاعي: خرجت في بطن قدمه يعني عروة [بن الزبير] بثرة فترامى به ذلك إلى أن نُشرت ساقه، فقال لما نشرت: اللهم إنك تعلم أني لم أمش بها إلى حرام قط أو إلى سوء قط(1). (صف2/87)
خرج عمرو بن عتبة بن فرقد فاشترى فرساً بأربعة آلاف درهم فعنَّفوه يستغْلونَه فقال: ما من خطوة يخطوها يتقدمها إلى عدو إلا وهي أحبُّ إليَّ من أربعة آلاف. (4/156-157)
عن صالح الدهان أن جابر بن زيد كان لا يماكس في ثلاث: في الكراء إلى مكة وفي الرقبة يشتريها للعتق وفي الأضحية، وكان لا يماكس في كل شيء يتقرب به إلى الله عز وجل. (صف3/237)
اشترى صفوان بن مُحرز بدَنةً(2) بتسعة دنانير، فقيل له: أتشتري بدنة بتسعة دنانير وليس عندك غيرُها(3)؟! قال: سمعت الله تبارك وتعالى يقول: (لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ(4)(5). (البيان والتبيين 3/153)
بعث محمد بن المنكدر إلى صفوان بن سليم بأربعين ديناراً، ثم قال لبنيه: يا بني ما ظنكم برجل فرغ صفوان لعبادة ربه عز وجل؟! (3/149)
__________
(1) عن نافع بن ذؤيب قال: لما قدم عروة بن الزبير على الوليد بن عبد الملك فخرج برجله الاكلة فبعث إليه يعني الوليد بالأطباء فأجمع رأيهم على أن لم ينشروها قتلته فقال: شأنكم بها، قالوا: نسقيك شيئاً لئلا تحس بما نصنع بك، قال: لا، شأنكم بها؛ قال: فنشروها بالمنشار فما حرك عضوا عن عضو وصبر فلما رأى القدم بأيديهم دعا بها فقلبها في يده ثم قال: والذي حملني عليك أنه ليعلم أني ما مشيت بك إلى حرام قط؛ أو قال: معصية.
(2) البدنة: ناقة أو بقرة تنحر بمكة، سميت بذلك لأنهم كانوا يسمنونها فتبدن.
(3) أي غير تلك الدنانير.
(4) ما أعظم هذا اليقين، وما أحسن هذا التدبر والفهم.
(5) الحج (36)، وتمامها (وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ).(1/38)
عن سعيد بن مرجانة أنه قال سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرب منها إرباً منه من النار حتى إنه يعتق باليد اليد وبالرجل الرجل وبالفرج الفرج؛ فقال علي بن الحسين: أنت سمعت هذا من أبي هريرة؟ قال سعيد: نعم، فقال لغلام له أفره غلمانه: أُدعُ مطرفاً، فلما قام بين يديه قال: اذهب فأنت حر لوجه الله عز وجل---، وكان عبد الله بن جعفر قد أعطى علي بن الحسين بهذا الغلام الذي أعتقه ألف دينار. (صف2/97)
كان الحارثُ بن سويدٍ اذا شتمَه الرجلُ يقولُ: من يعملْ مثقالَ ذرةٍ خيراً يرَه، ومنْ يعملْ مثقالَ ذرةٍ شراً يره؛ كل ذلك يحصى. (4/127)
قال الأوزاعي: كان القاسم يقدم علينا مرابطاً متطوعاً فلا ينصرف حتى يستأذن فكان يتأول هذه الآية (وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ)(1). (6/80)
قال أبو حازم: عند تصحيح الضمائر تغفر الكبائر، وإذا عزم العبد على ترك الآثام أمه(2) الفتوح. (3/230)
قال أبو بكر بن أصرم: قيل لابن المبارك: ابن عون بمَ ارتفع؟ قال: بالاستقامة(3). (صف3/309)
قال مكحول: ما أخلص عبد قط أربعين يوماً إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه. ( )
الصدق
قال أبو مجلز: قال رجل لقومه: عليكم بالصدق فإنه نجاة. (الصمت ص228)
قال الشعبي: عليك بالصدق حيث تُرى أنه يضرك؛ فإنه ينفعك، واجتنب الكذب في موضع ترى أنه ينفعك؛ فإنه يضرك. (البيان والتبيين 2/199)
__________
(1) النور (62).
(2) في (أدب الدنيا والدين): (أتته الفتوح)؛ ويظهر أنه الصواب.
(3) قال روح بن عبادة: ما رأيت رجلاً أعبد من ابن عون. (صف3/309)(1/39)
قال أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي: "ربعى بن حراش: كوفي تابعي ثقة، من كبار التابعين، يقال إنه لم يكذب كذبة قط! كان له ابنان عاصيان زمن الحجاج؛ وقيل للحجاج: إن أباهما لم يكذب كذبة قط لو أرسلت إليه فسألته عنهما، فأرسل إليه فقال: أين ابناك؟ قال: هما في البيت!! قال: قد عفوت عنهما لصدقك. (ثقات العجلي 1/350 و صف3/36 والصمت ص229)(1)
قال محمد بن اسحاق: جاء أعرابي إلى القاسم بن محمد فقال: أنت أعلم أو سالم؟ فقال: ذاك منزل سالم، فلم يزده عليها حتى قام الأعرابي. قال محمد بن اسحاق: كره أن يقول: هو أعلم مني فيكذب أو يقول: أنا أعلم منه فيزكي نفسه. (2/184)
قال ابن قتيبة: حدثني أبو حاتم عن الأصمعي قال: كتب محمد بن كعب، فانتسب، فقال: (القرظي)، فقيل له: (أو الأنصاري)؛ فقال: أكره أن أمنَّ على الله بما لم أفعل. (المعارف ص202)
التوبة
قال الحسن: ابن آدم ترك الخطيئة أهون عليك من معالجة التوبة؛ ما يؤمنك أن تكون أصبت كبيرة أُغْلِقَ دونها باب التوبة فأنت في غير معمل. (السير 4/578)
كان الحسن يقول: إذا أذنب العبد ثم تاب لم يزدد من الله إلا قرباً. (فيض القدير 3/285)
قال الحسن في قوله تعالى (غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ)(2): غافر الذنب لمن لم يتب، وقابل التوب ممن تاب. (العظمة 2/524)
__________
(1) وأما لفظ رواية (الصمت) فهو عن أبي بردة بن عبد الله بن أبي بردة قال: كان يقال: إن ربعي بن حراش رضي الله عنه لم يكذب كذباً قط، فأقبل ابناه من خراسان قد تأجلا فجاء العريف إلى الحجاج فقال: أيها الأمير إن الناس يزعمون أن ربعي بن حراش لم يكذب قط، وقد قدم ابناه من خراسان وهما عاصيان فقال الحجاج: علي به، فلما جاء قال: أيها الشيخ، قال: ما تشاء؟ قال: ما فعل ابناك؟ قال: المستعان الله، خلفتهما في البيت، قال لا جرم، والله لا أسوؤك فيهما هما لك.
(2) غافر (3).(1/40)
قال مكحولٌ في قوله تعالى ([وَ]لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً)(1): وضع عنهم الإثمَ في الخطأِ، ووضع المغفرةَ على العمد. (5/182)
قال سعيد الجريري: قلت للحسن: يا أبا سعيد الرجل يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب، حتى متى؟ قال: ما أعلم هذا إلا أخلاق المؤمنين. (6/201 والزهد ص281)
قال إياس بن أبي تميمة: شهدت الحسن في جنازة أبي رجاء على بغلة والفرزدق إلى جنبه على بعير فقال له الفرزدق: قد استشرفنا الناس يقولون: خير الناس وشر الناس؛ قال: يا أبا فراس كم من أشعث أغبر ذي طمرين خير مني، وكم من شيخ مشرك؟؟ أنت خير منه؛ ما أعددت للموت؟ قال: شهادة أن لا إله إلا الله، قال: إن معها شروطاً فإياك وقذف المحصنة؛ قال: هل من توبة؟ قال: نعم. (السير 4/584)
سئل الحسن عن التوبة النصوح فقال: ندم بالقلب واستغفار باللسان وترك بالجوارح وإضمار أن لا يعود(2). (زاد المسير 8/314)
قال الحسن: كنا نحدَّث أنه من عيَّرَ أخاه بذنب قد تاب إلى الله منه ابتلاه الله عز وجل به. (الزهد ص281 والصمت ص170 والبداية والنهاية 9/271)
سأل رجل الحسن فقال: العبد إذا تاب من الذنب أيغفر له؟ قال: نعم؛ قال: فيمحوه الله عنه؟ قال: لا والله حتى يوقفه عليه ويسائله عنه؛ ثم بكى الحسن فقال: لو لم يبك العبد إلا للحياء من الله تعالى لكان ينبغي له أن يبكي. (تعظيم قدر الصلاة 2/842 وانظر جامع العلوم والحكم ص180)
قال الأوزاعي: قال بلال بن سعد: إن الله يغفر الذنوب ولكن لا يمحوها من الصحيفة حتى يقفه عليها يوم القيامة وإن تاب. (صف4/217)
__________
(1) الأحزاب (5).
(2) قال الحسن في التوبة النصوح: هي أن يكون العبد نادماً على ما مضى مجمعاً على أن لا يعود فيه. (المدارج 1/309)(1/41)
كان أبو مسلمٍ الخولاني إذا وقف على خربةٍ قال: يا خربة أين أهلك؟! ذهبوا وبقيتْ أعمالُهم وانقطعت الشهواتُ وبقيت الخطيئةُ، ابن آدم ترْكُ الخطيئةِ أهونُ منْ طلبِ التوبة. (2/126)
قال أبو حازم: إن العبد ليعمل الحسنة تسُرُّه حين يعملها وما خلق الله من سيئة أضرَّ له منها؛ وإن العبدَ ليعمل السيئة حتى تسوءه حين يعملها، وما خلق الله من حسنة أنفعَ له منها، وذلك أن العبدَ ليعمل الحسنة تسره حين يعملها فيتجبر فيها ويرى أن له بها فضلاً على غيره، ولعل الله تعالى أن يحبطها ويحبط معها عملاً كثيراً، وان العبد حين يعمل السيئةَ تسوءه حين يعملها ولعل الله تعالى يحْدِثُ له بها وجلاً يلقى الله تعالى، وإن خوفَها لفي جوفه باق(1). (3/242)
قال أبو حازمٍ: نحنُ لا نريدُ أن نموتَ حتى نتوبَ، ونحنُ لا نتوبُ حتى نموتَ، واعلمْ أنك إذا متَّ لم تُرفعِ الأسواقُ بموتِكَ، إنَّ شأنَكَ صغيرٌ فاعرفْ نفسَكَ. (3/232)
قال أبو حازم: تجدُ الرجلَ يعملُ بالمعاصي فاذا قيلَ له: تحبُّ الموتَ؟ قالَ: لا وكيفَ وعندي ما عندي! فيقالُ لهُ: أفلا تتركُ ما تعملُ من المعاصي؟ فيقولُ: ما أريدُ تركَهُ وما أحبُّ أن أموتَ حتى أتركَه. (3/232)
قال بلالٌ بن سعد: عبادَ الرحمنِ يقالُ لأحدِنا: أتحبُّ أنْ تموتَ؟ فيقولُ: لا، فيقالُ: لِمَ؟ فيقولُ: حتى أعملَ، ويقولُ: سوفَ أعملُ، فلا يحبُّ أنْ يموتَ ولا يحبُّ أن يعملَ؛ وأحبُّ شيءٍ إليهِ أن يؤخرَ عملَ الله، ولا يحبُّ أنْ يؤخِّرَ عنه عرَضَ الدنيا. (5/230)
قال ميمون بن مهران: لا خيرَ في الدنيا إلا لرجلين: رجلٍ تائبٍ، ورجلٍ يعمل في الدرجات(2). (4/83)
__________
(1) وردت عنه رواية أخرى مختصرة نصها: ان الرجل ليعمل السيئة ما عملَ حسنةً قطُّ أنفعَ له منها، ويعمل الحسنة ما عمل سيئة قط أضر عليه منها.
(2) فهما رجلان: الأول يعمل في تكفير الخطيئات؛ والثاني يعمل في تحصيل الحسنات.(1/42)
قال ميمون بن مهران: من أساء سراً فليتب سراً، ومن أساء علانيةً فليتب علانيةً، فإن اللهَ يغفرُ ولا يعيِّرُ، والناسُ يعيرون(1) ولا يغفرون. (4/92)
قال الحسن عن ميمون بن مهران: يا ابنَ آدمَ خففْ عن ظهرِك، فإنَّ ظهرَكَ لا يُطيقُ كلَّ الذي تحملُ عليهِ من ظلمِ هذا وأكلِ مالِ هذا وشتمِ هذا، وكلُّ هذا تحمله على ظهرك!! فخفف عن ظهرك. (4/92)
قيلَ لسعيد: من أعبدُ الناسِ؟ قالَ: رجلٌ اجترحَ من الذنوبِ فكلما ذكرَ ذنوبَهُ احتقرَ عملَهُ. (4/279)
قال عون بن عبد الله: ما أقبحَ السيآتِ بعدَ السيآتِ! وما أحسنَ الحسناتِ بعدَ السيآت! وأحسنُ من ذلكَ الحسناتُ بعدَ الحسنات. (4/249)
قال عون بن عبد الله: اهتمامُ العبدِ بذنبهِ داعٍ إلى تركِه؛ وندمُه عليهِ مفتاحٌ للتوبةِ؛ ولا يزالُ العبدُ يهتمُّ بالذنبِ يصيبُه حتى يكونَ أنفعَ لهُ مِن بعضِ حسناتِه(2). (4/251)
قال عون بن عبد الله: قلب التائب بمنزلة الزجاجة يؤثر فيها جميع ما أصابها فالموعظة إلى قلوبهم سريعة وهم إلى الرقة أقرب؛ فداووا القلوب بالتوبة فلرب تائب دعته توبته إلى الجنة حتى أوفدته عليها وجالسوا التوابين فإن رحمة الله إلى التوابين أقرب. (صف3/104)
قال عون بن عبد الله: جالسوا التوابينَ فإنهم أرقُّ الناسِ قلوباً. (4/249)
قال مكحول: أرق الناس قلوباً أقلهم ذنوباً. (الرقة والبكاء 66 والحلية 5/180)
كان عمرُ بن عبد العزيز يخطُبُ فيقولُ: أيها الناسُ مَن ألمَّ بذنبٍ فليستغفرِ اللهَ وليتبْ فإن عادَ فليستغفرِ اللهَ وليتبْ، فإن عادَ فليستغفرِ اللهَ وليتبْ، فإنما هي خطايا مطوقةٌ في أعناقِ الرجالِ، وإنَّ الهلاكَ كلَّ الهلاكِ الإصرارُ عليها. (5/296)
__________
(1) في الأصل (يعيروك) والذي أثبته أقرب.
(2) وقال عون: جرائم التوابين منصوبة بالندامة نصب أعينهم لا تقر للتائب في الدنيا عين كلما ذكر ما اجترح على نفسه. (4/251)(1/43)
عن زيد بن أبي أنيسة عن عطاء بن أبي رباح أنه سئل عن التوبة من الفرية، قال: تمشي إلى صاحبك فتقول: كذبتُ بما قلتُ لك وظلمتُ وأسأتُ فإن أخذتَ فبحقك وإن شئتَ عفوتَ. (الصمت ص172)
قال عيسى بن يونس: كنا عند محمد بن كعب القرظي فأتاه رجل فقال: يا عبد الله: ما تقول في التوبة؟ قال: ما أحسنها، قال: أفرأيت إن أعطيت الله عهداً أن لا أعصيه أبداً؟ فقال له محمد: فمن حينئذ أعظم جرماً منك؟! تتألى على الله أن لا ينفذ فيك أمره؟! (صف2/133)
التقوى والحذر وشدة الخوف من الله(1)
__________
(1) قال في (مختصر منهاج القاصدين) (ص399) عقب ذكره جملة من أخبار الخائفين والخاشعين:
(فهذه مخاوف الملائكة والأنبياء والعلماء والأولياء، ونحن أجدر بالخوف منهم، ولكن ليس الخوف بكثرة الذنوب، ولكن بصفاء القلوب وكمال المعرفة، وإنما أمِنّا لغلبة جهلنا وقوة قساوتنا؛ فالقلب الصافي تحركه أدنى مخافة، والقلب الجامد تنبو عنه كل المواعظ).
وقال فيه أيضاً (ص384):
(ومن ثمرات الخوف، أنه يقمع الشهوات، ويكدر اللذات، فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهة، كما يصير العسل مكروهاً عند من يشتهيه إذ علم أن فيه سماً، فتحترق الشهوات بالخوف، وتتأدب الجوارح، ويذل القلب ويستكين، ويفارقه الكبْر والحقد والحسد، ويصير مستوعب الهمِّ لخوفه، والنظر في خطر عاقبته، فلا يتفرغ لغيره، ولا يكون له شغل إلا المراقبة والمحاسبة، والمجاهدة، والضنة بالأنفاس واللحظات، ومؤاخذة النفس فى الخطرات والخطوات والكلمات، ويكون حاله كحال من وقع في مخالب سبع ضارٍ لا يدرى أيغفل عنه فيفلت، أو يهجم عليه فيهلكه، ولا شغل له إلا ما وقع فيه.
فقوة المراقبة والمحاسبة بحسب قوة الخوف، وقوة الخوف بحسب قوة المعرفة بجلال الله تعالى، وصفاته، وبعيوب النفس، وما بين يديها من الأخطار والأهوال .
وأقل درجات الخوف مما يظهر أثره فى الأعمال، أن يمنع المحظورات، فإن منع ما يتطرق إليه إمكان التحريم، سمي ورعاً، وإن انضم إليه التجرد والاشتغال بذلك عن فضول العيش، فهو الصدق ).
وقال فيه أيضاً (ص385):
(وهذا [أي الخوف القاصر القليل الجدوى] هو الغالب على الناس كلهم، إلا العارفين والعلماء، أعني العلماء بالله وبآياته، وقد عزَّ وجودهم؛ وأما المرتسمون برسوم العلم فإنهم أبعد الناس عن الخوف).
وقد هذبت هنا ما ذكره البيهقي في (باب الخوف) من كتابه (شعب الإيمان) فحذت المرفوع والمكرر والأسانيد وآثار يسيرة رغبت عنها وأبقيت ما يلي فدونكه:
قال البيهقي: (الحادي عشر من شعب الإيمان وهو باب في الخوف من الله تعالى ثم قال:
(قال الحليمي رحمه الله: والخوف على وجوه:
أحدها: ما يحدث من معرفة العبد بذلة نفسه وهوانها وقصورها وعجزها عن الامتناع عن الله تعالى جده إن أراده بسوء وهذا نظير خوف الولد والديه وخوف الناس سلطانهم وإن كان عادلاً محسناً وخوف المماليك ملاكهم.
والثاني: ما يحدث من المحبة وهو أن يكون العبد في عامة الأوقات وجلاً من أن يكله إلى نفسه ويمنعه مواد التوفيق ويقطع دونه الأسباب وهذا خلق كل مملوك أحسن إليه سيده فعرف قدر إحسانه فإحبه فإنه لا يزال يشفق على منزلته عنده خائفاً من السقوط عنها والفقد لها.
الثالث: ما يحدث من الوعيد وقد نبه الكتاب على هذه الأنواع كلها.
أما الأول فقوله تعالى (ما لكم لا ترجون لله وقاراً) أي لا تخافون لله عظمة---.
وأما الثاني فإن الله جل ثناؤه أثنى على الذين يدعونه فيقولون (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) وقرأ الآية؛ وسماهم الراسخين في العلم؛ ومعلوم أن أحداً لا يدعو فيقول: رب لا تزغ قلبي بعد إذ هديتني إلا وهو خائف على الهدى الذي أكرمه الله تعالى به أن يسلبه إياه؛ وأخبر عن أهل الجنة أنهم يقولون: (إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين) [و]قرأ الآيتين؛ وجاء في التفسير أنهم كانوا مشفقين من أن يسلبوا الإسلام فيوردوا يوم القيامة موارد الأشقياء وكانوا يدعون الله أن لا يفعل بهم ذلك؛ وكذلك سائر نعم الله وإن كان الإسلام أعلاها.
وأما الثالث، قال في غير موضع من كتابه: (يا أيها الناس اتقوا ربكم)، وقال: (وإياي فاتقون)، وقال: (قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة) فأمر بالتقوى وهي أن يقي المخاطبون أنفسهم من نار جهنم بفعل ما أمر الله به وترك ما نهى الله عنه؛ ومعنى (اتقون) اتقوا عذابي ومؤاخذتي---. (1/464-467)
عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز وجل (ما لكم لا ترجون لله وقاراً) يقول: عظمة؛ وقوله (وقد خلقكم أطواراً) يقول: نطفة ثم علقة ثم مضغة. (1/464-465)
عن أبي الربيع عن ابن عباس في قوله تعالى (ما لكم لا ترجون لله وقاراً) قال: لا تعلمون لله عظمة. (1/465)
عن منصور عن مجاهد في قوله (ما لكم لا ترجون لله وقاراً) قال: لا تبالون عظمة ربكم؛ (وقد خلقكم أطواراً) قال: نطفة ثم علقة ثم مضغة، شيئاً بعد شيء. (1/465)
عن منصور عن مجاهد في قوله (ما لكم لا ترجون لله وقاراً) قال: لا تبالون لله عظمة؛ قال: والرجاء الطمع والمخافة. (1/465)
سأل منصور بن زاذان رجل: ما كان الحسن يقول في قوله (ما لكم لا ترجون لله وقاراً) قال: لا تعلمون له عظمة ولا تشكرون له نعمة. (1/465)
عن سفيان عن السدي في قوله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) [الأنفال 2]؛ قال: إذا هم بمعصية أو ظلم أو نحو هذا قيل له: اتق الله وجل قلبه. (1/469)
عن عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن منصور عن مجاهد (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) [الرحمن 46] قال: يذنب فيذكر مقامه فيدعه. (1/469)
عن إبراهيم ومجاهد في قوله (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) قالا: هو الرجل يريد أن يذنب فيذكر مقام ربه فيدع الذنب. (1/469)
عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول في خطبته: خير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله عز وجل.(1/470)
عن القاسم بن عبد الرحمن قال: قال عبد الله: كفى بخشية الله علماً، وكفى بالاغترار بالله جهلاً. (1/471-472)
عن مسروق قال: كفى بالمرء علماً أن يخشى الله وكفى بالمرء جهلاً أن يعجب بنفسه. (1/472)
عن أبي حازم أن عامر بن عبد الله بن الزبير أخبره أن أباه أخبره أن عبد الله بن مسعود أخبره أنه لم يكن بين إسلامه [وفي رواية: إسلامهم] وبين أن نزلت هذه الآية يعاتبهم الله بها إلا أربع سنين (ولا تكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون). (1/473)
عن أبي الأشهب قال: سمعت الحسن يقول: (والذين يؤتون ما اتوا وقلوبهم وجلة) قال: كانوا [يعلمون] ما يعلمون من أعمال البر وهم مشفقون أن لا ينجيهم ذلك من عذاب الله عز وجل. (1/478)
عن الضحاك بن عبد الرحمن قال: سمعت بلال بن سعد يقول: عباد الرحمن هل جاءكم مخبر يخبركم أن شيئاً من أعمالكم تقبلت منكم؟! أو شيء من خطاياكم غفرت لكم؟! (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون)؛ والله لو عجل لكم الثواب في الدنيا لاستقللتم كلكم ما افترض عليكم [أي ولسارعتم إلى طاعة الله من أجل ذلك الثواب العاجل]؛ أفترغبون في طاعة الله لتعجيل دار همّ ولا ترغبون وتنافسون في جنة أكلها دائم وظلها تلك عقبي الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار. (1/480)
عن الضحاك قال: سمعت بلال بن سعد يقول: استحيوا من الله واحذروا الله، لا تأمنوا مكر الله ولا تقنطوا من رحمة الله. (1/480)
عن عبد الله بن عبد الرحمن بن إبراهيم الأنصاري من ولد أنس عن أبيه عن جده أنس قال: يا بني إياكم والسفلة، قالوا: وما السفلة؟ قال: الذي لا يخاف الله عز وجل. (1/480)
عن الحسن قال: أبصر أبو بكر طائراً على شجرة فقال: طوبى لك يا طير، تأكل الثمر وتقع على الشجر لوددت أني ثمرة ينقرها الطير. (1/485)
عن الضحاك قال: مر أبو بكر رضي الله عنه على طير قد وقع على شجرة فقال: طوبى لك يا طير تطير فتقع على الشجر ثم تأكل من الثمر ثم تطير ليس عليك حساب ولا عذاب ياليتني كنت مثلك؛ والله لوددت أني كنت شجرة إلى جانت الطريق فمر علي بعير فأخذني فأدخلني فاه فلاكني ثم إزدردني ثم أخرجني بعراً ولم أكن بشراً؛ قال: فقال عمر رضي الله عنه: يا ليتني كنت كبش أهلي سمنوني ما بدا لهم حتى إذا كنت كأسمن ما يكون زارهم بعض من يحبون فذبحوني لهم فجعلوا بعضي شواء وبعضه قديداً ثم أكلوني ولم أكن بشراً قال: وقال أبو الدرداء: يا ليتني كنت شجرة تعضد وتؤكل ثمرتي ولم أكن بشراً. (1/485)
عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه نظر إلى طير حين وقع على الشجر فقال: ما أنعمك يا طير تأكل وتشرب وليس عليك حساب وتطير، يا ليتني كنت مثلك. (1/485)
عن عرفجة: قال أبو بكر رضي الله عنه: من إستطاع أن يبكي فليبك، ومن لم يستطع فليتباك؛ يعني التضرع. (1/493)
عن عائشة رضي الله عنها قالت: وكان أبو بكر إذا بكى لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن. (1/493)
عن عمر الفاروق أنه كان في وجهه خطان أسودان من البكاء. (1/493)
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: إذا دمعت عيناك وسالت دموعك على خدك فلا تلقها بثوبك وامسح بها وجهك حتى تلقى الله بها. (1/493)
عن وهب بن منبه قال: لما أصاب داود الخطيئة اعتزل النساء ولزم العبادة حتى سقط ثم بكى حتى خدت الدموع وجهه. (1/495)
عن جعفر بن سليمان حدثنا ثابت قال: بلغنا أن داود عليه السلام يقول: أوه قبل الوقوع في النار، أوه قبل أن لا تنفع أوه. (1/495)
عن علي بن علي قال: كان عطاء السليمي يبكي حتى خشي على عينه فأتي طبيب يداوي عينه، قال: أداوي بشرط أن لا تبكي ثلاثة أيام! قال: فاستكثر ذلك وقال: لا حاجة لنا فيك. (1/496)
عن بلال بن سعد قال: رب مسرور مغبون ورب مغبون لا يشعر؛ فويل لمن له الويل ولا يشعر، يأكل ويشرب ويضحك وقد حق عليه في قضاء الله عز وجل أنه من أهل النار! فيا ويل لك روحاً ويا ويل لك جسداً فلتبك ولتبك عليك البواكي لطول الأبد. (1/496-497)
عن زهير السلولي قال: كان رجل من بلعنبر قد تهيج بالبكاء فكان لا يُكاد يرى إلا باكياً فعاتبه رجل من إخوانه فقال: لم تبكي رحمك الله هذا البكاء الطويل؟! فبكى ثم قال:
بكيت على الذنوب لعظم جرمي
وحق لكل من يعصي البكاء
فلو كان البكاء يرد همي
لاسعدت الدموع مع دماء
قال: ثم بكي حتى غشي عليه فقام الرجل عنه وتركه. (1/497)
عن علي بن عثام قال: قال كهمس الهلالي: بكيت على ذنب عشرين سنة، قالوا: وما هو؟ قال: غديت رجلاً فأخذت من جدار جار لي قطعة لبنة ليغسل يده. (1/497)
قال: وقال عطاء السليمي: بكيت على ذنب أربعين سنة، صدت حمامة وإني أحمد الله إليكم تصدقت بثمنها على المساكين [قال البيهقي: وكأنه ارتاب بها هل هي مملوكة أو غير مملوكة]. (1/497)
عن جعفر بن سليمان قال: التقى ثابت وعطاء السليمي ثم تفرقا فلما كان عند الهاجرة جاء عطاء [أي إلى ثابت] فخرجت الجارية إليه ثم دخلت وهو يريد القائلة فقالت: أخوك عطاء! فخرج إليه فقال: يا أخي في هذا الحر؟! قال: ظللت صائماً فاشتد علي الحر فذكرت حر جهنم فأحببت أن تعينني على البكاء فبكيا حتى سقطا. (1/497-498)
عن المحاربي قال: كان ضرار ومحمد بن سوقة إذا كان يوم الجمعة طلب كل واحد منهما صاحبه فإذا اجتمعا جلسا يبكيان. (1/498)
عن يوسف بن يوسف الباهلي يقول: سمعت عبد الله بن ثعلبة يقول: تضحك ولعل كفنك قد خرج من عند القصار وأنت لا تدري. (1/499)
عن عبد الله بن المبارك عن الأوزاعي عن يحيي بن أبي كثير قال: قال سلميان بن داود عليهما السلام لابنه: يا بني لا تكثر الغيرة على أهلك ولم تر منها سوءاً فترمى بالشر من أهلك وإن كانت بريئة؛ ولا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تستخف فؤاد الرجل الحكيم؛ قال: وعليك بخشية الله عز وجل فإنها غاية لكل شيء. (1/499)
عن محمد بن نصر الخزاعي الصائغ قال: سمعت بشر بن الحارث الحافي وقد ضحك عنده رجل فقال: احذر يا ابن الأخ لا يؤاخذك الله على هذا. (1/499)
عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال في قول الله عز وجل: (ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) قال: الصغيرة الضحك. (1/500)
عن القاسم الجوعي قال: سمعت منبه بن عثمان الخمي يقول: قال آدم عليه السلام: كنا سبياً من سبي الجنة فسبانا إبليس بالخطيئة فليس ينبغي لنا إلا البكاء والحزن حتى نرجع إلى الدار الذي منها سبينا. (1/500)
عن سعيد بن النعمان قال: قلت لغفيرة: ما تملين هذا البكاء؟ قالت: يا سعيد كيف يمل ذو داء من شيء يرى أن له فيه من دائه شفاء. (1/501)
عن زائدة بن قدامة قال: كان منصور بن المعتمر إذا رأيته قلت رجل أصيب بمصيبة؛ ولقد قالت له أمه: ما هذا الذي تصنع بنفسك؟! تبكي الليل عامته لا تكاد أن تسكت! لعلك يا بني أصبت نفساً، أقتلت قتيلاً؟! فقال: يا أمه أنا أعلم بما صنعت نفسي. (1/502)
عن الحسن بن عرفة العبدي قال: رأيت يزيد بن هارون بواسط وهو من أحسن الناس عينين ثم رأيته بعين واحدة ثم رأيته وقد ذهبت عيناه فقلت له: يا أبا خالد ما فعلت العينان الجميلتان؟ قال: ذهب بهما بكاء الأسحار. (1/502)
عن الحسن بن أبي الحسن البصري قال: لما حضرت معاذاً الوفاة فجعل يبكي فقيل له: أتبكي وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت وأنت؟! فقال: ما أبكي جزعاً من الموت أن حل بي ولا دنيا تركتها بعدي، ولكن إنما هما القبضتان قبضة في النار وقبضة في الجنة فلا أدري في أي القبضتين أنا. (1/502)
عن عبد الله بن هبيرة أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: لأن أدمع دمعة من خشية الله أحب إلي من أن اتصدق بألف دينار. (1/502)
عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان أنه قال: رب يوم لو أتاني الموت لم أشك فأما اليوم فقد خالطت أشياء لا أدري على ما أنا فيها وأوصى أبا مسعود فقال: عليكم بما تعرفون ولا تألون [كذا] في أمر الله. (1/503)
عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه أنه قال لعبد الله بن مسعود عند موته: أوصني، قال: أوصيك أن تتقي الله وتلزم بيتك وتحفظ لسانك وتبكي على خطيئتك. (1/503)
عن الحارث بن سويد قال: قال عبد الله بن مسعود: لوددت أن الله عز وجل غفر لي ذنباً من ذنوبي وأني سميت عبد الله بن روثة. (1/503)
عن حميد بن هلال قال: قال عبد الله بن مسعود: وددت أني نسبت إلى روثة وأن الله تعالى تقبل مني حسنة واحدة من عملي. (1/503)
عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: قال عبد الله: لو تعلمون بعيوبي ما تبعني منكم رجلان؛ ولوددت إني دعيت عبد الله بن روثة وأن الله غفر لي ذنباً من ذنوبي. (1/504)
عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال عبد الله: والذي لا إله غيره لوددت أني انقلبت روثة وأني دعيت -- روثة وأن الله غفر لي ذنبا واحداً. (1/504)
عن جعفر بن نمير القزويني قال: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول: كيف يفرح المؤمن في دار الدنيا إن عمل سيئة خاف أن يؤخذ بها، وإن عمل حسنة خاف أن لا تقبل منه، وهو إما مسيء وإما محسن. (1/504)
عن علي بن عبد الله قال: قال يحيى بن معاذ الرازي: كيف ينجيني عملي وأنا بين حسنة وسيئة، فسيئاتي لا حسنات فيها وحسناتي مخلوطة بالسيئات وأنت لا تقبل إلا الإخلاص من العمل فما بقي بعد هذا إلا جودك. (1/504)
عن الجريري قال: سئل الجنيد هل يسقط الخوف عن العبد؟ فقال: لا، [وكلـ]ما كان العبد أعلم بالله كان له أشد خوفاً؛ والخائفون على ثلاث طبقات: خائف من الإجرام، وخائف من الحسنات أن لا تقبل وخائف من العواقب قال الله تعالى ولا يخاف عقباها. (1/504-505)
عن صالح بن أحمد بن حنبل قال: لما حضرت أبي الوفاة فجلست عنده والخرقة بيدي أشد بها لحييه، قال: فجعل يغرق ثم يفيق ويفتح عينيه ويقول: بيده هكذا لا بعد لا بعد لا بعد، ففعل هذا مرة وثانية فلما كان في الثالثة قلت له: يا أبه إيش هذا الذي لهجت به في هذا الوقت؟! فقال: يا بني أما تدري؟! قلت: لا، فقال: إبليس لعنه الله قائم بحذائي عاض على أنامله يقول: يا أحمد فتَّني! فأقول: لا حتى أموت. (1/505)
عن ابن المبارك أخبرنا سفيان عن رجل قال أراه عن عطاء بن يسار قال: تبدى إبليس لرجل عند الموت فقال: نجوت! فقال: ما نجوت وما أمنتك بعد. (1/505)
عن سفيان الثوري عن غسان المديني عن عطاء بن يسار قال: أشرف إبليس على رجل في الموت فقال: قد أمنتني فقال ما أمنتك بعد. (1/505-506)
عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة انه كان يقول في آخر عمره: اللهم إني أعوذ بك أن أزني أو أعمل بكبيرة في الإسلام، يقول بعض أصحابه يا أبا هريرة: ومثلك يقول هذا أو يخافه وقد بلغت من السن ما بلغت وانقطعت عنك الشهوات وقد شافهت النبي صلى لله عليه وسلم وبايعته وأخذت عنه؟! قال: ويحك وما يؤمنني وإبليس حي؟!. (1/506)
عن جبير بن نفير قال: دخلت على أبي الدرداء منزله بحمص فإذا هو قائم يصلي في مسجده فلما جلس يتشهد جعل يتعوذ بالله من النفاق فلما انصرف قلت: غفر الله لك يا أبا الدرداء ما أنت والنفاق؟! قال: اللهم غفراً ثلاثاً، من يأمن البلاء؟! من يأمن البلاء؟! والله إن الرجل ليفتتن في ساعة فينقلب عن دينه. (1/506)
عن محمد بن عجلان حدثني شيخ من أهل الشام قال: قال أبو الدرداء: ما لي لا أرى حلاوة الإيمان تظهر عليكم؟! والذي نفسي بيده لو أن دب الغابة وجد طعم الإيمان لظهر عليه حلاوته، ما خاف عبد على إيمانه إلا منحه، وما أمن عبد على إيمانه إلا سلبه. (1/506)
عن المعلى بن زياد قال: سمعت الحسن يقول: والله ما أصبح على وجه الأرض ولا أمسى على وجه الأرض مؤمن إلا وهو يتخوف النفاق على نفسه وما أمن النفاق إلا منافق. (1/506)
عن روح قال: قال ابن المبارك: إن البصراء لا يأمنون من أربع خصال: ذنب قد مضى لا يدري ما يصنع الرب فيه، وعمر قد بقي لا يدري ماذا فيه من الهلكات، وفضل قد أعطي لعله مكر واستدراج، وضلالة قد زينت له فيراها هدى؛ وإن زيغ القلب ساعة ساعة، أسرع من طرفة عين، قد يسلب دينه وهو لا يشعر. (1/507)
عن ابن جابر قال: سمعت بلال بن سعد وهو يقول في دعائه: اللهم اني أعود بك من زيغ القلوب وتبعات الذنوب ومن مرديات الأعمال ومضلات الفتن. (1/507)
عن محسن بن موسى قال: كنت عديل سفيان الثوري إلى مكة فرأيته يكثر البكاء فقلت له: يا أبا عبد الله بكاؤك هذا خوفاً من الذنوب؟! قال: فأخذ عوداً من المحمل فرمى به فقال: إن ذنوبي أهون علي من هذا ولكن أخاف أن أسلب التوحيد. (1/508)
عن أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت إسحاق بن خلف يقول: ليس شيء أقطع لظهر إبليس من قول ابن آدم: ليت شعري بما يختم لي! قال: عندها [أي عند ذلك] ييأس منه ويقول: متى يعجب هذا بعمله؟! (1/508)
عن عمر بن حفص بن غياث حدثني أبي قال: لما احتضر عمرو بن قيس الملائي بكى فقال له أصحابه: على ما تبكي من الدنيا فوالله لقد كنت غضيض العيش أيام حياتك فقال: والله ما أبكي على الدنيا وإنما أبكي خوفاً من أن أحرم خير الآخرة. (1/508-509)
عن سعيد بن عبد العزيز قال: سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: أفضل البكاء بكاء العبد على ما فاته من أوقاته على غير الموافقة أو بكاء على ما سبق له من المخالفة. (1/509)
عن سفيان بن عيينة قال: غضب الله الداء الذي لا دواء له. (1/509)
عن أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت أبا سليمان [الداراني] يقول: أصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله تعالى؛ ومفتاح الآخرة الجوع ومفتاح الدنيا الشبع. (1/510-511)
[قلت: الجوع ليس من العبادات والقُرَب؛ وإنما هو قد يكون سبباً لرقة القلب وذكائه وتحسين الطبع وطرد الغفلة وعلو الهمة وزيادة الافتقار إلى الله تعالى؛ وهو على كل حال أفضل من الشبع بكثير فالجوع نافع للقلب والدين في الغالب والشبع ضار بهما في الغالب].
عن إبراهيم بن بشار قال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: الهوى يردي وخوف الله يشفي، واعلم أن ما يزيل عن قلبك هواك إذا خفت من تعلم انه يراك. (1/511)
عن الأصمعي قال: كنت أطوف بالبيت فرأيت أعرابياً يطوف فذكر قصة أعرابية، قال: قلت: فبينك وبين من تهوى شيء؟ قال: لا إلا ليلة فإني رمت منها شيئاً فقالت: أما تستحي؟! قلت: وممن أستحي فلا يرانا إلا الكواكب؟! قالت: فأين مكوكبها؟!. (1/511)
عن عبد الله بن شبيب حدثنا العتبي قال: لقي رجل أعرابية فأرادها على نفسها فأبت وقالت: أي ثكلتك أمك أما لك زاجر من كرم؟! أما لك ناه من دين؟! قال: قلت: والله لا يرانا إلا الكواكب! قالت: ها بأبي أنت وأين مكوكبها. (1/511-512)
عن أبي عبد الله بن خفيف قال: لما قدم أبو العباس بن سريج قاضياً على فارس دخلنا عليه فسأله أبو عبد الله النجراني قال: متى يهش الراعي غنمه بعصا الرعاية عن مراتع الهلكة؟ فقال: إذا علم إن عليه رقيباً، ثم قال: يا شيخ هذا علم شريف له مجلس خاص إذا شئتم حضرت معكم وأذاكركم. (1/512)
عن فضيل بن عياض قال: رهبة العبد من الله تعالى على قدر علمه بالله، وزهادته في الدنيا على قدر شوقه إلى الجنة. (1/512)
عن إبراهيم بن أدهم قال: كان داود الطائي يقول: إن للخوف حركات تعرف في الخائفين ومقامات تعرف في المحبين وإزعاجات تعرف في المشتاقين وأين أولئك؟! أولئك هم الفائزون. (1/513)
عن الجنيد قال: سمعت السري يقول: شيئان مفقودان: الخوف المزعج والشوق المقلق. (1/513)
عن ذي النون بن إبراهيم قال: صلاة الفرض مفتاح [باب] الخوف؛ والنافلة مفتاح باب الرجاء؛ وذكر الله الدائم مفتاح باب الشوق؛ وليس بالخوف تنال الفرض؛ ولكن بالفرض تنال الخوف؛ ولا بالرجاء تنال النافلة؛ ولكن بالنافلة تنال الرجاء؛ ومن شغل قلبه ولسانه بالذكر قذف الله في قلبه نور الاشتياق إليه؛ وهذا سر الملكوت فاعقله واحفظه. (1/513)
عن أبي بكر الرازي قال: سمعت إبراهيم بن شيبان يقول: الخوف إذا سكن القلب أحرق مواضع الشهوات فيه وطرد عنه رغبة الدنيا وأسكت اللسان عن ذكر الدنيا. (1/513)
عن يوسف بن أسباط قال: سمعت محمد بن النضر يقول: ما من عامل يعمل في الدنيا إلا وله من يعمل في الدرجات في الآخرة، فإذا أمسك أمسكوا فيقال لهم: ما لكم لا تعملون؟! فيقولون: صاحبنا لاه؛ قال يوسف: عجبت لكم كيف تنام عين مع المخافة أو يغفل قلب بعد اليقين بالمحاسبة؟! من عرف وجوب حق الله على عباده لم تشتمل عيناه أبداً إلا بإعطاء المجهود من نفسه؛ خلق الله القلوب مساكن للذكر فصارت مساكن للشهوات، والشهوات مفسدة للقلوب وتلف للأموال؛ لا يمحو الشهوات من القلوب إلا خوف مزعج أو شوق مفلق [كذا]. (1/513-514)
عن إبراهيم بن سعد قال: قال لي المأمون: يا إبراهيم قال لي الرشيد: ما رأت عيناي مثل الفضيل بن عياض! قال لي وقد دخلت عليه: يا أمير المؤمنين فرغ قلبك للحزن والخوف حتى يسكناه فيقطعاك عن معاصي الله تعالى ويباعداك من عذاب النار. (1/514)
عن أحمد بن عاصم الأنطاكي قال: قلة الخوف من قلة الحزن في القلب؛ وإذا قل الحزن في القلب خرب كما يخرب البيت، إذا لم يسكن خرب. (1/514)
عن علي بن عثام قال: قال مالك بن دينار: يقال إن القلب إذا لم يحزن خرب كما أن البيت إذا لم يسكن خرب. (1/514)
وعنه قال: قال مالك بن دينار: الحزن تلقيح العمل الصالح. (1/515)
عن ابن المبارك قال: من أعظم المصائب للرجل أن يعلم من نفسه تقصيراً ثم لا يبالي ولا يحزن عليه. (1/515)
عن حاتم الأصم قال: سمعت شقيقاً يقول: ليس للعبد صاحبٌ خير من الهم والخوف، همّ فيما مضى من ذنوبه، وخوف فيما لا يدري ما ينزل به. (1/515-516)
عن الجريري قال: سمعت سهلاً [التستري] يقول: لا يبلغ أحد حقيقة الخوف حتى يخاف مواقع علم الله فيه ويحزن علي ذلك. (1/516)
عن أبي محمد جعفر بن محمد الصوفي قال: كنت عند الجنيد فدخل الشبلي فقال جنيد: من كان الله همه طال حزنه، فقال الشبلي: لا يا أبا القاسم بل من كان الله همه زال حزنه؛ قال البيهقي رحمه الله: قول الجنيد محمول على ذكر الدنيا وقول الشبلي محمول على الآخرة، وقول الجنيد محمول على حزنه عند رؤية التقصير من نفسه في القيام بواجباته وقول الشبلي محمول على سروره بما أعطي من التوفيق في الوقت حتى جعل الهم هماً واحداً والله أعلم. (1/516)
أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: سئل الإستاذ أبو سهل الصعلوكي في قوله [تعالى] (فبذلك فليفرحوا) [يونس 58]: كيف يفرح من لا يأمن؟! فقال: إذا نظر إلى الفضل فرح؛ وإذا رجع حزن حتى يكون فرِحاً في وقت محزوناً في وقت كحال الخوف والرجاء. (1/516)
عن مسعر عن بكير عن إبراهيم [التيمي] قال: ينبغي لمن لم يحزن أن يخاف أن لا يكون من أهل الجنة لأنهم قالوا: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) [فاطر 34]؛ وينبغي لمن لم يشفق أن يخاف أن لا يكون من أهل الجنة لأنهم قالوا: (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ) [الطور 26]. (1/517)
عن عبد الله بن بكر قال: سمعت الحسن يقول: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [الواقعة 10-11] قال: أما المقربون فقد مضوا هنيئاً لهم؛ ولكن اللهم اجعلنا من أصحاب اليمين؛ قال: وأتى على هذه الآية (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً) [النبأ 21] قال: ألا إن على الباب رصداً فمن جاء بجواز جاز، ومن لم يجيء بجواز حبس. (1/517)
عن أبي بكر الموصلي قال: خرج فتح الموصلي إلى المصلى يوم الأضحى، قال: خرج فنظر إلى القتار ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: إلهي تقرب المتقربون إليك بقربانهم وإني متقرب إليك بحزني يا محبوب، قال: ثم سقط مغشياً عليه. (1/518)
عن شعيب بن محرز قال: حدثتني سلامة العابدة قالت: بكت عبيدة بنت أبي كلاب أربعين سنة حتى ذهب بصرها فقيل لها: ما تشتهين قالت الموت! قيل: ولم ذاك؟ قالت: إني أخشى كل يوم أصبح أن أجني على نفسي جناية يكون فيها عطبي أيام الآخرة. (1/518)
عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: قلت ليزيد بن مرثد: ما لي أرى عينك لا تجف؟! قال: وما مسألتك؟ قلت: لعل الله تعالى ينفع به، قال: إن الله عز وجل توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار! والله لو توعدني أن يسجنني في الحمام كنت حرياً أن لا يجف لي دمع، فقلت: هكذا في خلواتك قال: والله إنه لتوضع القصعة بين أيدينا فيعرض لي فأبكي ويبكي أهلي ويبكي صبياننا لا يدرون ما أبكانا والله إني لأسكن إلى أهلي فيعرض لي فيحول بيني وبين ما أريد فتقول أهلي: يا ويحها ما خصت به معك من طول الحزن ما تقر لي معك عين. (1/518-519)
عن حوشب بن مسلم الثقفي عن الحسن أنه كان يكره ذكر الموت عند الطعام. (1/519)
عن حفص بن حميد قال: رأيت سهل بن علي في المسجد يجول كأنه أبله من الخوف وهو يقول: النار النار وترتعد فرائصه حتى أخذني البكاء. (1/519)
عن السَّرِيّ قال: الخوف على ثلاثة أوجه: خوف في الدين وهو موجود في العامة يعلمون أنه يجب الخوف من الله عز وجل؛ وخوف عارض عند تلاوة القرآن والقصص رقة كرقة النساء [ليس] لها ثبوت؛ وخوف مزعج مقلق يُنحل القلب والبدن ويذهب بالنوم والطعم؛ ولا يسكن خوف الخائف أبداً حتى يأمن ما يخاف. (1/519)
عن الحارث الغنوي قال: آلى ربعي بن حراش أن لا يفتر عن أسنانه ضاحكاً حتى يعلم أين مصيره فما ضحك إلا بعد موته؛ وآلى أخوه ربعي بعده ألا يضحك حتى يعلم أفي الجنة هو أو في النار؛ قال الحارث الغنوي: فلقد أخبرني غاسله انه لم يزل متبسماً على سريره وكنا نغسله حتى فرغنا منه. (1/520)
عن المعلى بن زياد عن الحسن قال: قال غزوان الرقاشي: لله علي أن لا يراني ضاحكاً حتى أعلم أي الدارين داري، قال الحسن: فعزم، والله ما رؤي ضاحكاً حتى لحق بالله عز وجل. (1/520)
عن غيلان قال: سمعت مطرفاً [بن عبد الله بن الشخير] يقول: لو أتاني آت من ربي فخيرني بين أن يخبرني أفي الجنة أنا أم في النار وبين أن أصير تراباً لاخترت أن أصير تراباً. (1/520)
عن عبد الله بن رباح الأنصاري عن كعب: (إن إبراهيم لأواه) قال: كان إذا ذكر النار قال: أوه. (1/522)
عن بشر بن منصور قال: كنت أوقد بين يدي عطاء العبدي - وهو السليمي - في غداة باردة فقلت له: يا عطاء يسرك الساعة لو أنك أمرت أن تلقي نفسك في هذه النار لا تبعث إلى الحساب قال: فقال: إي ورب الكعبة قال: ثم قال: والله مع ذلك لو أمرت بذلك لخشيت أن تخرج نفسي فرحاً قبل أن تصل إليها. (1/522-523)
عن الجنيد بن محمد قال: سمعت السري يقول: إني لأنظر إلى أنفي كل يوم مراراً مخافة أن يكون وجهي قد اسود. (1/523)
عن الجنيد بن محمد قال: سمعت السري يقول: ما أحب أن أموت حيث أعرف! فقيل له: ولم ذاك يا أبا الحسن؟ قال: أخاف أن لا يقبلني قبري فافتضح. (1/523)
عن إبراهيم بن أدهم قال: كان عطاء السليمي إذا انتبه في جوف الليل يضرب بيده فزعا إلى أعضائه يحسها مخافة أن تكون قد غير[ت] خلقته. (1/523)
عن بشر بن الحارث قال: قال أويس: لا يخطئك هذا الأمر حتى تكون كأنك قتلت الناس أجمعين. (1/523)
عن يزيد بن يزيد البكري قال: قال أويس القرني---: كن في أمر الله كأنك قتلت الناس كلهم. (1/523)
عن عبد الله بن المبارك أخبرنا سفيان الثوري قال: كان لأويس القرني رداء إذا جلس مس الأرض وكان يقول: اللهم إني أعتذر إليك من كبد جائعة وجسد عار وليس لي إلا ما على ظهري وفي بطني. (1/523-524)
عن عباد بن الوليد القرشي قال: قال مالك بن دينار: لولا أن يقول الناس: جن مالك، للبست المسوح ووضعت الرماد على رأسي أنادي في الناس: من رآني فلا يعص ربه. (1/524)
عن الصلت بن مسعود قال: خرج الحسن بن صالح بن حي يوماً من بيته فنظر إلى جراد يطير فقال: (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ) [القمر 7]؛ ثم خر مغشياً عليه. (1/524)
عن أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت رابعة [يظهر أنها زوجته وليست بالعدوية] تقول: ما رأيت ثلجاً قط إلا ذكرت تطاير الصحف ولا رأيت جراداً قط إلا ذكرت الحشر، ولا سمعت أذاناً قط إلا ذكرت منادي القيامة؛ قالت: وقلت لنفسي: كوني في الدنيا بمنزلة الطير الواقع حتى يأتيك قضاءه. (1/524)
عن أبي طارق اللبان قال: كان عبد العزيز بن سلمان إذا ذكر القيامة صرخ كما تصرخ الثكلى ويصرخ الخائفون من جوانب المسجد ورفع الميتان من جوانب مجلسه. (1/525)
عن عنبسة الخواص قال: كان عتبة الغلام يزورني فربما بات عندي قال: فبات عندي ذات ليلة فبكى في السحر بكاءاً شديداً فلما أصبح قلت: لقد فزعت قلبي منذ الليلة ببكائك فبم ذاك يا أخي؟ فقال: يا عنبسة والله إني إذا تذكرت يوم العرض على الله – ثم مال ليسقط فاحتضنته، فجعلت أنظر إلى عينية يتقلبان قد اشتدت حمرتهما، قال: ثم أزبد وجعل يخور فناديته: عتبة عتبة حبيبي، قال: فلبث ثلاثاً لا يجيبني ثم هدأ فناديته: عتبة عتبة فأجابني بصوت خفي: قطع ذكر العرض على الله أوصال المحبين؛ قال: ثم جعل يحشرج ويردد حشرجة الموت ويقول: أتراك تعذب محبيك وأنت الحي الكريم؛ قال: فلم يزل يرددها حتى والله أبكاني. (1/525)
عن عبد الله بن الجوزي الأسدي حدثني محمد بن السماك قال: دخلت البصرة فقلت لرجل كنت أعرفه: دلني على عبادكم فأدخلني على رجل عليه لباس الشعر طويل الصمت لا يرفع رأسه إلى أحد، قال: فجعلت استنطقه الكلام فلا يكلمني، قال: فخرجت من عنده فقال لي صاحبي: ها هنا ابن عجوز هل لك فيه؟ قال: فدخلنا عليه فقالت العجوز: لا تذكروا لابني شيئاً من أمر جنة ولا نار فتقتلوه علي فليس لي غيره؛ قال: فلما دخلنا عليه فإذا عليه من اللباس مثل ما على صاحبه منكس الرأس طويل الصمت فرفع رأسه فنظر إلينا ثم قال: أما ان للناس موقفاً لا بد أن يقفوه، قال: قلت: بين يدي من رحمك الله؟! قال: فشهق شهقة فمات؛ قال ابن السماك: فجاءت العجوز فقالت: قتلتم ابني؟! قال: فكنت فيمن صلى عليه رحمه الله تعالى. (1/525-526)
عن الحسن بن محمد الهاشمي عن محمد بن السماك قال: كنت أطوف أطلب العباد والزهاد فذكر لي رجل بعبادان قد رفض الدنيا وأقبل على الآخرة جداً واجتهاداً فأتيت عبادان فسألت عنه فوصف لي داره فأتيت إلى باب دار كبيرة ليس عليها إلا باب بمصراع صغير فقرعت الباب فخرجت إلي جارية خماسية فقالت: من الطارق بالباب؟ قلت: أنا يا جارية، هذا منزل فلان العابد؟ قالت: نعم، قلت لها: استأذني عليه فإن أنا دخلت عليه وهبت لك درهماً! فقالت: يا عبد الله ما رأيت أحداً هو أجهل منك أدخل فما على أبي من حاجب وإنما الحجاب على أبواب الملوك وأبناء الملوك فبهت متعجباً من قولها، ثم دخلَت ودخلتُ معها، وإذا دار قوراء ليس فيها إلا بيت صغير فدخلت البيت فإذا أنا برجل قد نحل من غير سقم وقد احتفر قبراً عند رجليه وقد دلى رجليه فيه وفي يده خوص يشقه وهو يتلو هذه الآية: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) بصوت حزين فسلمت عليه فرد علي السلام وقال: أمن إخواني أنت؟ قلت: نعم، ولست من أهل البصرة ولا من أهل عبادان؛ قال: فمن أين أنت؟ قلت: من أهل الكوفة، قال: فما اسمك؟ قلت: محمد بن السماك، قال: لعلك الواعظ، قلت: نعم؛ قال: فأخذ يدي بيديه جميعاً ثم قال لي: مرحباً وحياك الله يا أخي بالسلام ومتعنا واياك في الدنيا بالإخوان؛ يا أخي ما زالت نفسي متطلعة إلى لقائك تحب أن تعرض داءها على دواءك، أُعْلمك يا أخي أن بي جرحاً قديماً قد أعيي المعالجين قبلك فتأتاه برفقك وألصق عليه ما تعلم انه يلائمه من مراهمك؛ قال: فعلمت أن الرجل يريد أن أعظه فقلت: يا أخي وهل يداوي مثلي مثلك وجرحي أنغل من جرحك وذنبي أعظم من ذنبك؟! فقال: سألتك بالله إلا ما وعظتني فقلت له: يا أخي قد عملت أن ذنبك الذي أذنبت لم يمح وأن لذاذتك لم تبق وأن الموت يطلبك صباحاً ومساءً وأنك تصير غداً إلى ضيق اللحود وظلمة القبور ومسألة منكر ونكير فلما قلت له ذلك شهق شهقة [و]خر في قبره يخور كما [يخور] الثور إذا وجي في منحره وأقبلت امرأته وابنته تبكيان من وراء الحجاب وتقولان: سألناك بالله لا تزده شيئاً فتقتله علينا؛ فأفاق فقال: يا أخي قد وافق دواءك دائي ولصق مرهمك بجرحي أخي ابن السماك زدني فقلت له: يا أخي إن أهلك وولدك قد حلفوني أني لا أزيدك شيئاً فأقبل عليهم [كذا] وقال: إعلم يا أخي انه ليس أحد أشد علي وبالاً ولا أعظم جرماً فيَّ إذا وقفت بين يدي ربي من أهلي وولدي؛ فقلت: يا أخي ما بعد ظلمة القبور وضيق اللحود ومسألة منكر ونكير إلا الطامة؟! قال: وما هي يا ابن السماك؟ فقلت له: إذا أخذ إسرافيل يعني في نفخ الصور وبعثر ما في القبور وجئنا نحن بأثقالنا تحمل على الظهور فكم يا أخي في ذلك اليوم من مناد ينادي بالويل والثبور؟! وأعظم من ذلك أيضاً توبيخ الرب إيانا عند قراءة السيئات التي قد أحصى علي وعليك فيه النقير والفتيل والقطمير، وملائكة متزرون بأزر من نار، غضاب لغضب الرحمن، ينتظرون ما يقال لهم بالغضب: خذوه فغلوه؛ قال: فشهق شهقة فخر في قبره كأنه ثور قد وجي في منحره وبال فعرفت بالبول ذهاب عقله فأقبلت ابنته فاجتذبته وأسندته إلى صدرها ومسحت وجهه بكمها وهي تقول: بأبي وأمي عينين طال ما سهرتا في طاعة الله؛ بأبي وأمي عينين طال ما غضتا عن محارم الله؛ وأفاق فقال لي: عليك السلام يا ابن السماك أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله؛ وشهق الثالثة فظننت أنها مثل الأوليين فحركته فإذا الرجل قد فارق الدنيا. (1/526-528)
عن محمد بن الحسين [البرجلاني] قال: حدثني محرز أبو هارون الضبي قال: كان عندنا رجل بالكوفة يغدو إلى الفرات فلا يزال يبكي حتى يرتفع النهار ثم يرجع فيقيل فإذا صلى انتصب لله فلا يزال مصلياً إلى العصر ثم يروح إلى الفرات فيقعد يبكي، قال: فقيل له في ذلك فقال: هذا مطيع لله أجراه برحمته وصيره رزقا لعباده وأنا أعصيه غير خائف ولا متوقع للنقم قال: ثم خر ميتاً، قال أبو هارون: فأنا حضرت جنازته وما علمت أن أحداً علم بموته فتخلف عنه. (1/530)
عن منصور بن عمار قال: حججت حجة فنزلت سكة من سكك الكوفة فخرجت في ليلة مظلمة فإذا بصارخ يصرخ في جوف الليل وهو يقول: إلهي وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي إياك مخالفتك ولقد عصيتك إذ عصيتك وما أنا بنكالك عاقل ولكن خطيئة عرضت أعانني عليها شقائي وغرني سترك المرخى علي وقد عصيتك بجهدي وخالفتك بجهلي فالآن من عذابك من يستنقذني وبحبل من اتصل إن أنت قطعت حبلك عني؟! واشباباه واشباباه! فلما فرغ من قوله قرأت من كتاب الله عز وجل (ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد) الآية، فسمعت حركة شديدة لم أسمع بعدها حساً فمضيت فلما كان الغد رجعت في مدرجتي فإذا أنا بجنازة قد وضعت وإذا عجوز كبيرة فسألتها عن أمر الميت ولم تكن عرفتني فقالت: مر ها هنا رجل لا جزاه الله إلا جزاءه مر بابني البارحة وهو قائم يصلي فتلا آية من كتاب الله فلما سمعها ابني تقطعت مرارته فوقع ميتاً. (1/530-531)
عن بهز بن حكيم قال: أمنا زرارة بن أبي أوفى في مسجد بني قشير فقرأ المدثر فلما انتهى إلى هذه الآية (فإذا نقر في الناقور) خر ميتاً، قال بهز: فكنت فيمن حمله. (1/531)
عن حصن بن القاسم الوراق قال: كنا عند عبد الواحد بن زيد وهو يعظ فناداه رجل من ناحية المسجد كف يا أبا عبيدة لقد كشفت قناع قلبي؛ فلم يلتفت عبد الواحد إلى ذلك فمر في الموعظة فلم يزل الرجل يقول: كف يا أبا عبيدة لقد كشفت قناع قلبي وعبد الواحد يعظ لا يقطع موعظته حتى والله حشرج الرجل حشرجة الموت وخرجت نفسه، وأنا والله شهدت جنازته يومئذ ما رأيت بالبصرة يوماً أكثر باكياً من يومئذ. (1/532)
عن إسماعيل بن نصر العبدي قال: نادى مناد في مجلس صالح المري: ليقم الباكون المشتاقون إلى الجنة فقام أبو جهث فقال: اقرأ يا صالح [فقرأ]: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلا) فقال أبو جهث: أرددها يا صالح، فما فرغ من الآية حتى مات أبو جهث. (1/532)
عن يحيى بن بسطام حدثنا أبو طارق قال: شهدت ثلاثة رجال أو نحوهم ماتوا في مجلس الذكر يمشون بأرجلهم صحاحاً إلى المجالس وأجوافهم والله قرحة فإذا سمعوا الموعظة انصدعت قلوبهم فماتوا، قال يحيى: فقلت لأبي طارق: مجتمعين؟ قال: لا بل متفرقين، في المجلس الرجل والرجلان ونحو ذلك. (1/532)
عن عبيد الله بن موسى قال: كنت أقرأ على علي بن صالح، فلما بلغت إلى قوله (فلا تعجل عليهم) سقط الحسن بن صالح يخور كما يخور الثور، فقام إليه علي فرفعه ومسح على وجهه ورش عليه الماء وأسنده إليه. (1/533)
عن عبد الله بن محمد القرشي [هو ابن أبي الدنيا]: حدثني رجل من قريش وقال: إنه من ولد طلحة بن عبيد الله قال: كان توبة بن الصمة بالرقة وكان محاسباً لنفسه فحسب فإذا هو ابن ستين سنة فحسب أيامها فإذا هي احد وعشرون ألف يوم وخمسمئة يوم فصرخ وقال: يا ويلتي ألقى المليك بأحد وعشرين ألف ذنب فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب؟! ثم خر مغشياً عليه فإذا هو ميت. (1/533)
عن المعلى بن زياد عن الحسن قال: كان لصفوان سرب يبكي فيه. (1/533)
عن أبي بكر بن عياش قال: دخلت على أبي حصين أعوده وهو قاعد هكذا - وخفض أبو بكر رأسه حتى جعله بين ركبتيه وهو قاعد - فقال: لو رأيته لرحمته ثم قرأ (وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين)، (وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم). (1/533-534)
عن يوسف بن أسباط قال: مكث عبد العزيز بن أبي رواد أربعين سنة لا يرفع طرفه إلى السماء. (1/534)
عن حفص بن عبد الرحمن قال: أتيت مسعر بن كدام ليحدثني وكأنه رجل أقيم على شفير قبر ليدفع فيه؛ وقال مرة أخرى: على شفير جهنم ليلقى فيها. (1/534)
عن يحيى بن يمان قال: لقيني سفيان الثوري عند جبل بني فزارة فقال إني لأرى الشيء يجب علي أن آمر به أو أنهي عنه لا أفعل فأبول دماً. (1/534)
عن يوسف بن أسباط قال: كان سفيان الثوري إذا أخذ في ذكر الآخرة يبول الدم. (1/535)
عن يحيى بن اليمان قال: سمعت سفيان الثوري يقول: لقد خفت الله خوفاً وددت أنه خفف عني. (1/535)
عن داود بن يحيى بن يمان عن أبيه قال: قال الثوري: خفت الله خوفاً عجبت لي كيف ما مت! إلا أن لي أجلاً أنا بالغه. (1/535)
عن علي بن عثام قال: بكى سفيان يوماً ثم قال: بلغني أن العبد أو الرجل إذا كمل نفاقه ملك عينيه فبكى. (1/535)
عن زيد بن أبي الزرقاء قال: حمل ماء سفيان الثوري إلى طبيب في علته فلما نظر قال: هذا ماء رجل قد أحرق الخوف جوفه. (1/535)
عن عمرو بن حمزة ابن أخت سفيان الثوري قال: ذهبت ببول سفيان الثوري إلى الديراني فأريته إياه فقال: ما هذا ببول حنيف! قلت: بلى والله من خيارهم، وكان لا يخرج من باب الدير، قال: أنا أجيء معك إليه، قلت لسفيان: إنه يأتيك فأتاه فمس عرقه فقال: هذا رجل قد قطع الحزن كبده. (1/535-536)
عن ابن أخي سفيان قال: لما تعبد سفيان سقم وكنا نعرض تفسرته على المطببين فلا يعرفون ما به حتى حملناه إلى راهب في ناحية الحيرة، قال: فلما نظر إلى تفسرته قال: ليس بصاحبكم مرض إنما الذي به لما دخله من الخوف أو نحو هذا. (1/536)
عن رشدين بن خباب قال: مرض حازم بن الوليد بن بجير الأزدي فدعوت له طبيباً فنظر إليه فلما خرج تبعته فقال: ما بصاحبكم هذا إلا الحزن، فلما عدت أخبرته أن الطبيب قال لي: ما بصاحبكم إلا الحزن، قال: صدق، إني ذكرت مواقف يوم القيامة ففزع لذلك قلبي. (1/536)
عن خالد بن خداش قال: كنت أقعد إلى وسيم البلخي---وكان أعمى وكان يحدث ويقول: أوه القبر وظلمته واللحد وضيقه كيف أصنع؟! ثم يغمى عليه ثم يعود فيحدث ويصنع ذا مرات حتى يقوم. (1/536)
عن العباس بن الوليد قال: سمعت أبي يقول: سمعت الأوزاعي يقول: إذا ذُكرت جهنم فليبك من كان باكياً. (1/536-537)
عن رباح بن الجراح الموصلي قال: كانت آمنة بنت المروع من الخائفين وكانت إذا ذكرت النار قالت: أدخلوا النار وأكلوا من النار [و]شربوا من النار وعاشوا في النار، ثم تبكي وكان بكاؤها أطول من ذلك؛ قال: وكانت إذا ذكرت النار وأهل النار بكت وأبكت وما رأيت أحداً أشد خوفاً منها ولا أكثر بكاء. (1/537)
عن السري قال: قلت لبعض العباد: ما الذي أنصب العباد وأخشاهم؟ قال: ذكر المقام وخوف الحساب، ثم قال لي: يا أبا الحسن ولم لا تذوب أبدان العباد والزهاد والخدام فزعاً والقيامة أمامهم ولهم في يومها ما قد علموا؟! ثم صاح صيحة أفزعتني ثم قال: يا أبا الحسن من لي في ذلك الموقف؟! ومن لتحسري وتذللي ولجوعي ولعطشي؟! ثم قال: إليك يا أبا الحسن فقد حركت مني ساكناً وأبرزت مني غماً كامناً ثم صاح فقال: واطول وقفتاه واتحسراه واثقل ظهراه من حمل الذنوب والمظالم والخطايا وأوساخ العيوب؛ ثم قال: أوه من حملها، أوه من ذكرها، أوه من ثقلها، أوه من إقراري بها على نفسي؛ ثم استرجع فقال: سيدي فأين سترك الجميل القديم سيدي وأين حلمك سيدي فأين عفوك سيدي فأين فضلك المعتمد به لعبادك؟ سيدي فاستنقذني وبرحمتك فسلمني؛ ثم بكى وأبكانا معه فتركته وهو باكٍ حزين فزع القلب وإنصرفت عنه. (1/537)
عن غيلان قال: قال مطرف: لقد كاد خوف النار أن يحول بيني وبين أن أسأل الجنة. (1/538)
عن سفيان بن عيينة قال: أقلهم ذنباً أخوفهم لربه عز وجل لأنهم أصفاهم قلباً. (1/538)
عن جعفر قال: سمعت مالكاً يقول: يا هؤلاء إنما المؤمن مثل الشاة المأبورة التي أكلت إبرة فهي تأكل ولا تقطع علتها، لما قد خالطه من الحزن لما بين يديه. (1/538)
عن يحيى بن أيوب قال: دخلت مع زافر بن سليمان على الفضيل بن عياض بالكوفة فإذا الفضيل وشيخ معه، قال: فدخل زافر وأقعدني على الباب، قال زافر: فجعل الفضيل ينظر إلي ثم قال: يا أبا سليمان هؤلاء أصحاب الحديث ليس شيء أحب إليهم من قرب الإسناد، ألا أخبرك بإسناد لا شك فيه؟!: رسول الله صلى الله عليه وسلم [عن] جبريل عليه السلام عن الله تعالى: (ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد) قرأ الآية فأنا وأنت يا أبا سليمان من الناس، قال: ثم غشي عليه وعلى الشيخ وجعل زافر ينظر إليهما، قال: ثم تحرك الفضيل فخرج زافر وخرجت معه والشيخ مغشي عليه. (1/538-539)
عن محمد بن بشر المكي قال: كنا يوماً ماضين مع علي بن الفضيل فمررنا بمجلس بني الحارث المخزومي ومعلم يعلم الصبيان، قال: ويقرأ (ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) فشهق ابن فضيل شهقة خر مغشياً عليه فجاء الفضيل فقال: بأبي قتيل القرآن! ثم حُمل فحدثني بعض من حمله أن الفضيل أخبره أن علياً ابنه لم يصل ذلك اليوم الظهر ولا العصر ولا المغرب ولا العشاء فلما كان في جوف الليل أفاق. (1/539)
عن جعفر بن محمد قال: قيل لفضيل بن عياض: ما سبب موت ابنك علي؟ قال: بات يتلو القرآن فأصبح في محرابه ميتاً. (1/539-540)
عن الأعمش عن زيد بن وهب قال: غزونا فمررنا بأجمة في مكان مخوف فإذا رجل نائم عند فرسه قلنا: يا عبد الله ما لك؟! قال: وما لي؟! قلنا: في مثل هذا المكان تنام؟! قال: إني لأستحي من ربي أن يعلم أني أخاف شيئاً غيره. (1/540)
عن علي بن عثام: قال عمر بن عبد العزيز: من خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن لم يخف الله خاف من كل شيء. (1/540-541)
عن سري بن المغلس قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: من خاف الله لم يضره أحد، ومن خاف غير الله لم ينفعه أحد. (1/541)
عن فيض بن إسحاق الرقي قال: قال الفضيل بن عياض: إن خفت الله لم يضرك أحد وإن خفت غير الله لم ينفعك أحد. (1/541)
عن فيض بن إسحاق الرقي قال: سألت الفضيل بن عياض عن شيء، قال: من خاف الله خاف منه كل شيء، ومن خاف غير الله خاف من كل شيء. (1/541)
عن أبي الخير الديلمي قال: قال أبو عمرو الدمشقي: حقيقة الخوف أن لا تخاف مع الله أحداً. (1/541)
عن يحيى بن معاذ الرازي قال: على قدر حبك لله يحبك الخلق، وعلى قدر خوفك من الله يهابك الخلق، وعلى قدر شغلك بأمر الله يشغل في أمرك الخلق. (1/541)
عن المغيرة بن حكيم قال: قالت لي فاطمة بنت عبد الملك امرأة عمر بن عبد العزيز: يا مغيرة إنه يكون في الناس من هو أكثر صلاة وصياماً من عمر، وما رأيت أحداً قط أشد فرقاً من ربه من عمر؛ كان إذا صلى العشاء قعد في المسجد ثم يرفع يديه فلم يزل يبكي حتى تغلبه عينه ثم ينتبه فلم يزل رافعاً يديه يبكي حتى تغلبه عينه. (1/542)
عن إبراهيم بن عبيد بن رفاعة قال: شهدت عمر بن عبد العزيز ومحمد بن قيس يحدثه فرأيت عمر يبكي حتى اختلفت أضلاعه. (1/542)
عن ميمون بن مهران أن عمر بن عبد العزيز أتي بسلق وأقراص فأكل ثم اضطجع على فراشه وغطى وجهه بطرف ردائه وجعل يبكي ويقول: عبد بطيء بطين يتباطأ ويتمنى على الله منازل الصالحين!! (1/542)
عن المفضل بن غسان الغلابي قال: كان عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: لا يجف دمعه من هذا البيت:
ولا خير في عيش امرىء لم يكن له
من الله في دار القرار نصيب
(1/245)
عن قتادة قال: قال لي العلاء بن زياد: ما نحن إلا كمثل القوم وضعنا أنفسنا في النار وإن شاء الله أن يخرجنا منها برحمته أخرجنا. (1/542-543)
عن مورق [العجلي] قال: ما وجدت للموت مثلاً إلا كمثل رجل على خشبة في البحر فهو يقول: يا رب [يا رب]، لعل الله أن ينجيه. (1/543 و 2/39)
عن سعيد بن عبد الله بن الربيع بن خثيم عن عمته قالت: كنت أقول لأبي: يا أبتاه ألا تنام؟ فيقول: يا بنية كيف ينام من يخاف البيات. (1/543)
عن مالك بن دينار قال: قالت ابنة الربيع بن خثيم: يا أبتاه إني أرى الناس ينامون وأنت لا تنام؟! قال: يا بنية إن أباك يخاف البيات. (1/543)
عن أبي عثمان الحناط قال: سمعت ذا النون وشكا إليه رجل السبات فقال له: لو خفت البيات لما غلبك السبات؛ ثم أنشأ ذو النون يقول: تحل لمولاك بالطاعة، والبس له قناع ذل الفاقة، يرى اهتمامك ببلوغ رضوانه فيؤديك بذلك منازل الأبرار. (1/543)
عن ذي النون يقول: ثلاث من أعلام الخوف: الورع عن الشبهات بملاحظة الوعيد، وحفظ اللسان من مراقبة النظر العظيم، ودوام الكمد إشفاقاً من غضب الحليم. (1/543)
عن عثمان بن سعيد الدارمي قال: سمعت نعيم بن حماد يقول: كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب الرقاق يصير كأنه ثور منحور أو بقرة منحورة من البكاء لا يجترىء أحد منا أن يدنو منه أو يسأله عن شيء إلا دفعه. (1/544)
عن أبي إسحاق إبراهيم بن الأشعث قال: مرض ابن المبارك مرضاً فجزع حتى رأوه جزعاً فقيل له: إنه ليس بك كل ذلك وأنت تجزع هذا الجزع! قال: مرضت وأنا بحال لا أرضاه. (1/544)
قال أبو إسحاق: وقال الفضيل يوماً وذكر عبد الله وقال: أما إني أحبه لأنه يخشى الله عز وجل. (1/544)
قال أبو إسحاق: قيل لابن المبارك: رجلان أحدهما خائف والآخر قتل في سبيل الله؟ قال: أحبهما إلي أخوفهما. (1/544)
عن أبي خزيمة العابد قال: دخلت على عبد الله [بن المبارك] وهو مريض فجعل يتقلب على فراشه من الغم فقلت له: يا أبا عبد الرحمن ما هذا؟! أصبر! قال: ومن يصبر على أخذ الله؟! إن أخذه أليم شديد. (1/544)
عن عبد الله بن عاصم الهروي أن شيخاً دخل على عبد الله بن المبارك فرآه على وسادة خشنة مرقعة، قال: فأردت أن أقول له فرأيت به من الخشية حتى رحمته فإذا هو يقول: قال الله عز وجل: (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) [النور 30]، قال: لم يرض الله أن ننظر إلى محاسن المرأة فكيف بمن يزني بها؟! وقال الله عز وجل: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ) [المطففين 1] في الكيل والوزن، فكيف بمن يأخذ المال كله؛ وقال الله عز وجل: (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً) [الحجرات 12] ونحو هذا، فكيف بمن يقتله؛ قال: فرحمته وما [لعلها لما] رأيته فيه؛ فلم أقل له شيئاً. (1/545)
عن العباس بن أبان ذكره عن بعض العلماء قال: ذو الدين يخاف العقاب، وذو الكرم يخاف العار، وذو العقل يخاف التبعة. (1/545)
عن ثمامة عن أنس بن مالك قال: كنت أصنع خبزة لهم فسمعت نقيض الأرض فخرجت فإذا الأرض قد تشققت؛ وإذا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكون ويدعون حتى ذهبت. (1/547)
عن عبيد الله بن النضر حدثني أبي انها كانت ظلمة على عهد أنس حتى كأن النهار مثل الليل، قال: فأتيته بعد ما انجلت فقلت: يا أبا حمزة هل كان يصيبكم مثل هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: معاذ الله إن كانت الريح لتشتد فنبتدر إلى المسجد أينا يدخله أولاً. (1/547)
عن أبي زكريا الخلقاني الهمداني قال: كنا عند علي بن بكار فمرت سحابة فسألته عن شيء فقال لي: اسكت حتى تجوز هذه السحابة! أما تخشى أن يكون فيها حجارة نرمى بها؟!. (1/547)
عن أبي بكر بن هارون الحمال قال: سمعت الحارث المحاسبي يقول وذكر البلاء فقال: هو للمخلطين عقوبات وللتائبين طهارات وللطاهرين درجات. (1/547)
عن الحسين بن منصور قال: كثيراً ما كنت أسمع علي بن عثام يقول: اللهم لا تبل أخبارنا. [قال البيهقي: وهذا كقوله تعالى (وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد 31]؛ وذلك فيما يبتليهم به في الجهاد وغيره لينظر كيف صبرهم فخاف علي بن عثام أن لا يقوم بصبره فقال: اللهم لا تبل أخبارنا]. (1/548)(1/44)
قال حُميدٌ: بَيْنَا الحسنُ في يوم مِن رجَب في المسجدِ، وهو يمصُّ ماءً ويمجُّهُ، تنفس تنفساً شديداً، ثم بكى حتى ارتعدتْ منكباه، ثم قالَ: لو أنَّ بالقلوبِ حياةً، لو أنَّ بالقلوبِ صلاحاً، لأبكيتُكم من ليلةٍ صبيحتُها يومُ القيامةِ؛ إنَّ ليلةً تَمَخَّضُ عن صبيحة يومِ القيامةِ ما سمع الخلائقُ بيومٍ قَطُّ أكثرَ فيه من عورةٍ باديةٍ ولا عينٍ باكيةٍ، من يوم القيامة(1). (2/143-144)
أتى رجلٌ ميمون بن مهران فقال له: لا يزالُ الناسُ بخيرٍ ما كنتَ فيهم! قال: لا يزالُ الناسُ بخيرٍ ما اتقوا الله. (4/90)
كتبَ عمرُ بن عبد العزيز إلى رجلٍ: أوصيكَ بتقوى اللهِ الذي لا يقبَلُ غيرَها ولا يرحمُ إلا أهلَها ولا يُثيبُ إلا عليها؛ فانَّ الواعظينَ بها كثيرٌ والعاملينَ بها قليلٌ. (5/267)
صعدَ عمرُ بن عبد العزيز المنبرَ فقالَ: يا أيُّها الناسُ اتقوا اللهَ فإن تقوى اللهِ خلفٌ مِن كل شيءٍ، وليس لتقوى اللهِ خلفٌ، يا أيها الناسُ اتقوا اللهَ، أطيعوا من أطاعَ اللهَ، ولا تُطيعوا من عصى الله. (5/297)
قال مالك بن أنس: مات رجل من بني أمية من مترفيهم ومات يومئذ بسر بن سعيد(2)، فقال عمر بن عبد العزيز: إن كان المدخلان واحداً فعيش فلان أحب إلينا؛ فقال مزاحم: إنك لاتزال توغر من أخيك عليكفقال: إذا رأيتُ الحقَّ قلتُه. (صف2/103)
قال أبو مالك بشر بن الحسن: نازع ابنَ عونٍ رجلٌ فقال: لولا أن يُكتب علي لقلت(3). (صف3/310)
__________
(1) كان عمرُ بنُ ذرٍّ إذا قرأ هذه الآية (مالك يوم الدين) قال: يا لكَ مِن يومٍ ما أملأَ ذكرَكَ لقلوبِ الصادقين. (5/10)
(2) هو بسر بن سعيد مولى الحضرميين، كان من العباد المنقطعين وأهل الزهد في الدنيا، قال مالك: مات بسر ولم يدع كفنا.
(3) يقول: لولا أن الملائكة تكتب ما أقول لدافعت عن نفسي أو لرددت عليك بمثل ما تقول.(1/45)
قال ثابت: قال مطرِّف بن عبد الله: إن كان من هذه الأمة أحدٌ ممتحن القلب فإن مذعوراً ممتحن القلب. (صف3/252)
قال العلاء بن زياد العدوي: إنما نحن قومٌ وضعْنا أنفسَنا في النارِ إن شاء اللهُ أنْ يخرجَنا منها أخرجَنا. (2/245)
قال الحسن: والله ما تعاظم في أنفسهم ما طلبوا به الجنة حين أبكاهم الخوف من الله تعالى. (2/152)
كان يزيد بن أبان الرقاشي يقول في قصصه: ويحك يا يزيد من يترضى عنك ربَّك؟! ومن يصوم لك أو يصلي لك؟! ثم يقول: يا معشر مَن القبرُ بيتُه والموتُ موعدُه ألا تبكون؟! فبكى حتى سقطت أشفار عينيه(1). (3/51)
قال الحسن: من خاف الله أخاف الله منه كل شيء، ومن خاف الناس أخافه الله من كل شيء. (البيان والتبيين 3/146 والعقد الفريد 10/19)
قال الحسن: مر عامر [بن عبد قيس] بالحراس ليلة فكلموه فلم يكلمهم، ثم كلموه فتكلم، فقالوا: لقد سكتَّ حتى خفناك، فقال: لأن تختلف الأسنة في جوفي أحب من أن يعلم الله من قلبي أني أخاف سواه. قال الحسن: قد خاف من كان خيراً من عامر؛ خاف موسى نبي الله صلى الله عليه وسلم. (تعظيم قدر الصلاة 2/831)
قال علي بن زيد: بات الحسن عندنا، فبات باكياً، فلما أصبح قلت: يا أبا سعيد لقد أبكيتَ الليلةَ أهلَنا، قالَ: يا علي إني قلتُ: يا حسن، يعني نفسَه، لعل الله نظر إليك على بعض هناتك فقال: اعمل ما شئتَ فلستُ أقبل منك شيئاً. (الزهد ص280)
قال حفص بن عمر: بكى الحسن فقيل له ما يبكيك؟! فقال: أخاف أن يطرحني غداً في النار ولا يبالي. (صف 3/233)
قال عطاء الازرق: سمعت رجلاً سأل الحسن: كيف أنت؟ كيف حالك؟ قال: بأشر(2) حال وما حال من أصبح وأمسى ينتظر الموت لا يدري ما يفعل الله به. (الزهد ص262 وروضة العقلاء ص31-32 والزهد الكبير ص221)
__________
(1) زِيدَ في الأصل بين كلمتي (معشر) و (من): كلمةُ (إخواني) موضوعة بين حاصرتين، وفيها نظر.
(2) في (الزهد الكبير): (بأشد).(1/46)
قال يزيد بن حوشب: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز كأن النار لم تخلق إلا لهما. (صف 3/233 والتخويف من النار ص21-22)
قال أبو مجلز لاحق بن حميد: أكيس المؤمنين أحذرهم. (3/112)
قالَ عمرو بن مهاجر: قال عمر بن عبدِ العزيز: إذا رأيتَني قد مِلتُ عن الحقِّ فضع يدَك في تلبابي ثم هزَّني ثم قلْ: يا عمرُ ما تصنعُ؟! (5/292)
قال أبو وائل: خرجنا مع عبد الله بن مسعود ومعنا الربيع بن خثيم فمررنا على حداد فقام عبد الله ينظر حديدةً في النار، فنظر الربيع إليها، فتمايل ليسقط، فمضى عبد الله، حتى أتينا على أتون على شاطىء الفرات، فلما رآه عبد الله والنار تلتهب في جوفه قرأ هذه الآية: (إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) إلى قوله (ثُبُوْرَا) (1)، فصعق الربيع، فاحتملناه فجئنا به إلى أهله(2)---. (صف3/66)
قال يحيى بن سعيد: دخلنا على سعيد [بن المسيب] نعوده ومعنا نافع بن جبير فقالت أم ولده: إنه لم يأكل منذ ثلاث فكلموه فقال نافع بن جبير: إنك من أهل الدنيا ما دمت فيها، ولا بد لأهل الدنيا مما يصلحهم، فلو أكلت شيئاً قال: كيف يأكل من كان على مثل حالنا هذه؟! بضعة يذهب بها إلى النار أو إلى الجنة، فقال نافع: ادع الله أن يشفيك فإنَّ الشيطان قد كان يغيظه مكانك من المسجد. (2/165)
__________
(1) الفرقان (12-13) وتكملتهما: (وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً).
(2) قال الأعمش: مر الربيع بن خثيم في الحدادين فنظر إلى كير فصعق؛ قال الأعمش: فمررت بالحدادين لأتشبه به فلم يكن عندي خير. (صف3/66-67)(1/47)
قال مُطَرِّفُ بنُ عبد الله بن الشخير: لو سألْنا اللهَ أنْ يُميتَنا مِن خشيتِهِ(1) كنا أحقَّ بذلك، ولقد علمتُ أنَّ ربي تعالى لَيَرضى منا بدونِ ذلك(2). (2/199)
قال غيلان: سمعت مطرفاً يقول: لو أتاني آت من ربي فخيرني بين أن يخبرني أفي الجنة أنا أم في النار، وبين أن أصير تراباً(3) لاخترت أن أصير تراباً. (الشعب 1/520 والحلية 2/199)
قال مطرف: لو كان لي نفسان لقدمت إحداهما قبل الأخرى، فإن هجمتْ على خير أتبعتها الأخرى، وإلا أمسكتها، ولكن إنما لي نفس واحدة ما أدري على ما تهجم خير أو شر. (2/199)
كان إخوان مطرف عنده فخاضوا في ذكر الجنة فقال مطرف: لا أدري ما تقولون! حال ذكر النار بيني وبين الجنة. (2/202)
قال عبد الله بن أبي الهذيل: لقد شغلتِ النارُ من يعقلُ عن ذكرِ الجنةِ. (4/358)
قال مطرف: لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لوجدا سواءً لا يزيد أحدهما على صاحبه. (2/208)
قال الأعمش: قال لي مطرف بن عبد الله: وجدت الغفلة التي ألقاها الله عز وجل في قلوب الصديقين من خلقه رحمة رحمهم بها، ولو ألقى في قلوبهم الخوف على قدر معرفتهم ما هنأهم العيش. (2/210)
قال مطرف: لو حلفت لرجوت أن أبرَّ: إنه ليس أحد من الناس إلا وهو مقصر فيما بينه وبين ربه عز وجل. (2/201)
كان مطرف يقول: ما من الناس أحد إلا وهو أحمق فيما بينه وبين ربه عز وجل، ولكن الحمق بعضه أهون من بعض. (رك ص527)
قال وهب بن منبه: خلق ابن آدم أحمق، ولولا حمقه ما هنأه العيش. (عقلاء المجانين ص13)
قال مورقٌ العجليُّ: ما وجدتُ للمؤمنِ في الدنيا مثلاً إلا مثلَ رجلٍ على خشبةٍ في البحرِ وهو يقولُ: يا رب يا رب، لعلَّ اللهَ أن ينجيَه. (2/235)
__________
(1) أي أن يرزقنا من شدة الخشية ما يكون سبباً في موتنا.
(2) يريد أن يقول: إننا رغم ذلك التخفيف مقصرون مفرّطون.
(3) يعني قبل الإخبار.(1/48)
قال الحسن: مات أخ لنا فصلينا عليه فلما وضع في قبره ومد عليه الثوب جاء صلة بن أشيم فأخذ بناحية الثوب ثم نادى يا فلان بن فلان:
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة
وإلا فإني لا إخالك ناجيا
قال: فبكى وأبكى الناس. (صف3/219)
سئل ابن سيرين عمن يسمع القرآن فيصعق؟ قال: ميعاد ما بينا وبينهم أن يجلسوا على حائط فيُقرأ عليهم القرآنُ من أوله ألى آخره، فإن سقطوا فهم كما يقولون. (2/265)
قال الحارث بن سعيد: كان أبو عمران الجوني إذا سمع الأذان تغير لونه وفاضت عيناه. (صف3/265)
كان محمد بن واسع إذا قيل له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ قال: ما ظنك برجل يرحل كل يوم إلى الآخرة مرحلة؟! (2/348)
قال حزم: قال محمد بن واسع(1): يا إخوتاه تدرون أين يذهب بي؟! يذهب بي والله الذي لا إله إلا هو إلى النار، أو يعفو عني. (2/348)
قال جعفر بن سليمان الضبعي: جئت أعوده [يعني هارون بن رئاب] فإذا هو يجود بنفسه؛ فما فقدت وجه رجل فاضل إلا وقد رأيته عنده؛ فجاءه محمد بن واسع فقال: يا أخي كيف تجدك؟ قال: هو ذا أخوكم يذهب به إلى النار أو يعفو الله عنه؛ قال جعفر: وبلغني عن محمد بن واسع أنه قالها عند الموت فأظن أنه تعلمها منه. (تهذيب الكمال 30/83)
قال عمارة بن زاذان: إن مالك بن دينار لما حضره الموت قال: لولا أني أكره أن أصنع شيئاً لم يصنعه أحد كان قبلي لأوصيت أهلى إذا أنا مت أن يقيدوني وأن يجمعوا يديَّ إلى عنقي فينطلقوا بي على تلك الحال، حتى أدفن كما يصنع بالعبد الآبق(2). (صف3/288)
قال مالك بن دينار: لقد هممت أن آمرَ إذا مت فأُغَلّ فأدفع إلى ربي مغلولاً كما يدفع العبد الآبق إلى مولاه. (2/360)
__________
(1) أي قبيل موته.
(2) زاد بعضهم في رواية أخرى: فإذا سألنى ربي تعالى قلت: أي رب لم أرض لك نفسي طرفة عين قط. (صف3/288 وانظر الحلية 2/360 ومحاسبة النفس 112)(1/49)
قال عبد الله بن مرزوق: بلغني أن مالك بن دينار دخل المقابر ذات يوم فإذا رجل يدفن فجاء حتى وقف على القبر فجعل ينظر إلى الرجل وهو يدفن فجعل يقول: مالك غداً هكذا يصير، وليس له شيء يتوسده في قبره، فلم يزل يقول: غداً مالك هكذا يصير، حتى خر مغشياً عليه في جوف القبر، فحملوه فانطلقوا به إلى منزله مغشياً عليه. (صف3/279)
قال مالك بن دينار: لو كان لأحد أن يتمنى لتمنيت أن يكون لي في الآخرة خص من قصب فأروى من الماء وأنجو من النار. (صف3/286)
قال مالك: لو استطعتُ أنْ لا أنامَ لمْ أَنَمْ، مخافةَ أن ينزِلَ العذابُ وأنا نائمٌ، ولو وجدتُ أعواناً لفرَّقتُهم ينادونَ في سائرِ الدنيا كلِّها: يا أيها الناسُ النارَ النار!! (2/369)
قال مالك: لو وجدت أعواناً لناديت في منار البصرة بالليل: النار النار. (2/371)
قال مالك: لولا أن يقول الناس: جُنَّ مالك، للبست المسوح ووضعت الرماد على رأسي أنادي في الناس: من رآني فلا يعصِ ربه عزوجل. (2/371)
قال مالك: الخوف على العمل أن لا يتقبل أشد من العمل. (2/377)
قيل لمالكِ: ألا ندعو لكَ قارئاً يقرأُ؟ قالَ: إنَّ الثَّكلى لا تحتاجُ إلى نائحةٍ، فقيلَ لهُ: ألا تستسقي؟ قالَ: أنتمْ تستبطئونَ المطرَ لكنّي أستبطىء الحجارةَ. (2/373)
قال حماد بن زيد: سمعت يونس بن عبيد قال يوماً: توشك عينك أن ترى ما لم تر، وتوشك أذنك أن تسمع ما لم تسمع! ثم لا تخرج من طبقة إلا دخلت فيما هو أشد منها، حتى يكون آخر ذلك الجواز على الصراط. (3/22)
قال عبد الواحد بن زيد: سمعت فرقداً السبخي يقول: ما انتبهت من نومي إلا خفت أن أكون قد مسخت. (صف3/272)
قال أبو حازم: لو نادى منادٍ من السماء بأمْنِ أهل الأرض من دخول النار لحق عليهم الوجل من حضور ذلك الموقف ومعاينة ذلك اليوم. (3/230)
قال أبو حازم: من أعظمِ خصلةٍ تُرْجَى للمؤمنِ أن يكونَ أشدَّ الناسِ خوفاً على نفسه، وأرجاه لكل مسلم. (حسن الظن ص97 والحلية 3/233)(1/50)
مر طاووس بروّاس(1) قد أخرج رأساً فغشي عليه. (4/4)
عن عبد الله بن بشر أن طاووساً اليماني كان له طريقان إلى المسجد، طريق في السوق، وطريق آخر، فكان يأخذ في هذا يوماً وفي هذا يوماً، فإذا مر في طريق السوق فرأى تلك الرؤوس المشوية لم يتعَشَّ(2) تلك الليلة. (صف2/285)
قال العوام بن حوشب: ما رأيت [عبد الله] بن أبي الهذيل إلا وكأنه مذعور. (صف3/33)
قال محمد بن سوقة: إن المؤمنَ الذي يخافُ اللهَ لا يسمنُ ولا يزدادُ لونُه إلا تغيراً. (5/3)
قال عبدُ الأعلى التيمي: شيئان قطعا عني لذاذةَ الدنيا: ذِكْرُ الموتِ والوقوفُ بينَ يدي اللهِ عزَّ وجلَّ. (5/88-89)
دخل عمرُ بن عبد العزيز على امرأتِه فقالَ: يا فاطمةُ عندكِ درهَمٌ أشتري به عنباً؟! قالت: لا، قالَ: فعندَك نُمِّيّة(3)، يعني الفلوس، أشتري بها عنباً؟ قالت: لا! فأقبلتْ عليهِ فقالَتْ: أنتَ أميرُ المؤمنينَ لا تقدِرُ على درهَمٍ ولا نُمّيّةٍ تشتري بها عنباً؟! قال: هذا أهونُ علينا من معالجةِ الأغلالِ غداً في نار جهنم. (5/259)
قالَ المغيرةُ بنُ حكيمٍ: قالتْ لي فاطمةُ بنتُ عبدِ الملك: يا مغيرةُ قد يكونُ منَ الرجالِ من هو أكثرُ صلاةً وصياماً من عمر، ولكني لم أرَ منَ الناسِ أحداً قطّ كانَ أشدَّ خوفاً من ربِّه من عمر! كانَ إذا دخلَ البيتَ ألقى نفسَه في مسجدِه فلا يزالُ يبكي ويدعو حتى تغلبَه عيناه! ثم يستيقظُ فيفعلُ مثلَ ذلكَ ليلتَه أجمع(4). (5/260)
__________
(1) أي يشوي رؤوس الغنم ويبيعها.
(2) ووقع في رواية (ينعس) بدل (يتعش).
(3) النُّمِّيّة: الفَلْس، وجمعها نَمَامي كذرية وذراري؛ انظر (المعجم الاقتصادي الاسلامي) لأحمد الشرباصي (ص468-469).
(4) قال الوليد بن أبي السائب: ما رأيت أحداً قطُّ الخوفُ - أو قال: الخشوع - أبيَنُ على وجهه من عمر بن عبد العزيز. (5/260)(1/51)
قال وهيبُ بنُ الوردِ: اجتمع بنو مروانَ على بابِ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ، وجاءَ عبدُ الملكِ بنُ عمرَ ليدخلَ على أبيهِ، فقالوا له: إما أنْ تستأذنَ لنا، وإما أن تُبلغَ أميرَ المؤمنينَ عنا الرسالةَ؛ فالَ: قولوا، قالوا: إنَّ مَن كانَ قبْلَه من الخلفاءِ كانَ يعطينا ويعرِفُ لنا موضعَنا، وإنَّ أباكَ قد حرَمَنا ما في يديهِ! قالَ: فدخلَ على أبيهِ فأخبرَه عنهم، فقال له عمرُ: قلْ لهم: إنَّ أبي يقولُ لكم: (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(1). (5/277)
حج سليمانُ ومعه عمر فخرج سليمانُ إلى الطائفِ فأصابه رعدٌ وبرْقٌ ففزِعَ سليمانُ! فقال لعمر: ألا ترى ما هذا يا أبا حفص؟ قال: هذا عندَ نزولِ رحمتِه فكيف لو كانَ عندَ نزولِ نقمتِه(2)؟! (5/288)
قيلَ لعمرَ بن عبد العزيز: لو اتخذتَ حرساً واحترزتَ في طعامِك وشرابِك(3) فإنَّ مَن كانَ قبْلَك يفعلُه! فقالَ: اللهم إن كنتَ تعلمُ أني أخافُ شيئاً دونَ يومِ القيامةِ فلا تؤمِّنْ خوفي. (5/292)
__________
(1) الأنعام (15) ويونس (15) والزمر (13).
(2) وجاء في رواية أخرى أنه بينا عمر بن عبدالعزيز مع سليمان بعرفات إذ برقت وأرعدت رعدا شديدا ففزع منه سليمان فنظر إلى عمر وهو يضحك فقال يا عمر: أتضحك وأنت تسمع ما تسمع؟ قال: يا أمير المؤمنين هذه رحمة الله أفزعتك كيف لو جاءك عذابه؟! وفي رواية ثالثة: كان عمر بن عبدالعزيز واقفا مع سليمان بعرفة فرعدت رعدة من رعدتها مه [كذا] فوضع سليمان صدره على مقدم الرحل وجزع منها فقال له عمر يا أمير المؤمنين هذه جاءت برحمة فكيف لو جاءت بسخطة؟! قال ثم نظر سليمان إلى الناس فقال ما أكثر الناس فقال عمر خصماؤك يا أمير المؤمنين فقال له سليمان ابتلاك الله بهم. (5/288)
(3) أي من السم ونحوه.(1/52)
سأل محمدُ بنُ عبدِ الملِكِ بنِ مروانَ فاطمةَ بنتَ عبدِ الملكِ امرأةَ عمر: ما ترينَ بدو مرضِ عمرَ الذي ماتَ فيه؟ فقالت: أرى جُلَّ ذلكَ، أو بدوه، الخوف. (5/315)
كان لعمرَ أخٌ واخاهُ في اللهِ، عبدٌ مملوكٌ يقال له: سالم؛ فلما استُخلِفَ دعاه ذاتَ يومٍ فأتاهُ فقال له: يا سالمُ إني أخافُ أن لا أنجو! قالَ: إن كنتَ تخافُ فنِعِمّا؛ ولكني أخافُ أن لا تخافَ؛ إنَّ اللهَ أسكنَ عبداً داراً فأذنبَ فيها ذنباً واحداً فأخرجهُ من تلكَ الدارِ! ونحنُ أصحابُ ذنوبٍ كثيرةٍ نريدُ أن نسكنَ تلكَ الدار(1)!! (5/329)
قال الحسن بن أبي عمرطة: رأيت عمر بن عبد العزيز قبل أن يستخلف فكنت تعرف الخير في وجهه؛ فلما استخلف رأيت الموت بين عينيه. (الزهد الكبير ص166)
__________
(1) اللهم اسكنا الجنة برحمتك؛ آمين.(1/53)
قال زياد بن أبي زياد المديني: أرسلني ابن عامر بن أبي ربيعة إلى عمر بن عبد العزيز في حوائج له فدخلت عليه وعنده كاتب يكتب، فقلت: السلام عليكم، فقال: وعليك السلام ثم انتبهت، فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته؛ فقال: يا ابن أبي زياد إننا لسنا ننكر الأولى التي قلت(1)، والكاتب يقرأ عليه مظالم جاءت من البصرة، فقال لي: اجلس، فجلست على أسكفة الباب وهو يقرأ وعمر يتنفس صعداً، فلما فرغ أخرج من كان في البيت حتى وصيفاً كان فيه؛ ثم قام يمشي إليَّ حتى جلس بين يدي ووضع يديه على ركبتي ثم قال: يا ابن أبي زياد استدفأت في مدرعتك هذه - قال: وعليَّ مدرعة من صوف - واسترحتَ مما نحن فيه؛ ثم سألني عن صلحاء أهل المدينة رجالهم ونسائهم؛ فما ترك منهم أحداً إلا سألني عنه؛ وسألني عن أمور كان أمر بها بالمدينة فأخبرته؛ ثم قال لي: يا ابن أبي زياد ألا ترى ما وقعت فيه؟! قال: قلت: أبشر يا أمير المؤمنين، إني أرجو لك خيراً؛ قال: هيهات هيهات؛ قال: ثم بكى حتى جعلت أرثي له؛ فقلت: يا أمير المؤمنين بعض ما تصنع؛ فإني أرجو لك خيراً؛ قال: هيهات هيهات؛ أشتُم ولا أُشْتَم، وأضرِب ولا أضرَب، وأوذي ولا أوذَى؛ ثم بكى حتى جعلت أرثي له فأقمت حتى قضى حوائجي ثم أخرج من تحت فراشه عشرين ديناراً فقال: استعن بهذه، فإنه لو كان لك في الفيء حق أعطيناك حقك، إنما أنت عبد، فأبيت أن آخذها، فقال: إنما هي من نفقتي فلم يزل بي حتى أخذتها؛ وكتب إلى مولاي يسأله أن يبيعني منه، فأبى وأعتقني. (صف2/122)
__________
(1) يعني بالأولى التحية المجردة عن مناداته بإمارة المؤمنين.(1/54)
قال عبيد الله بن محمد التميمي: سمعت أبي وغيره يحدث أن عمر بن عبد العزيز لما ولي منع قرابته ما كان يجري عليهم وأخذ منهم القطائع التي كانت في أيديهم فشكوا إلى عمته أم عمر فدخلت فقالت: إن قرابتك يشكونك ويزعمون أنك أخذت منه خير غيرك قال منعتهم حقا ولا أخذت منهم حقاً فقالت: إني رأيتهم يتكلمون وإني أخاف أن يهجّوا(1) عليك يوماً عصيباً؛ فقال: كل يوم أخافه دون يوم القيامة فلا وقاني الله شره؛ قال: ودعا بدينار وخبث ومجمرة فألقى الدينار في النار وجعل ينفخ على الدينار حتى إذا احمرَّ تناوله بشيء فألقاه على الخبث فنش فقال: أي عمة أما تأوين لإبن أخيك من مثل هذا؟ فقامت فخرجت على قرابته فقالت: تزوجون إلى آل عمر(2) فإذا نزعوا الشبه جزعتم؟! إصبروا له. (صف 2/122-123)
قال أبو نوح الأنصاري: وقع حريق في بيت فيه علي بن الحسين وهو ساجد فجعلوا يقولون له: يا ابنَ رسول الله النار يا ابن رسول الله النار! فما رفع رأسه حتى أطفئت فقيل له مالذي ألهاك عنها؟! قال: ألهتني عنها النار الأخرى. (صف2/93-94)
لما حج زين العابدين أراد أن يلبي فارتعد وقال: أخشى أن أقول: لبيك اللهم لبيك فيقال لي: لا لبيك!! فشجعوه على التلبية، فلما لبى غشي عليه حتى سقط عن الراحلة. (البداية والنهاية 9/105)
__________
(1) لعلها (يهجموا) أو (يهيجوا).
(2) ابن الخطاب.(1/55)
بينا(1)
__________
(1) هذه ليست مصحفة عن (بينما) كما قد يتوهمه كثير من المبتدئين، بل هي الأفصح هنا، والفرق بينها وبين (بينما) أن (بينا) ظرف زماني واقع في أثناء زمن أطول منه، وأما (بينما) فظرف واقع بين طرفين، كقولك (بينما دخل زيد وخرج قرأ عمرو سورة طويلة)؛ ومثال استعمال بينا قولك (بينا زيد جالس قرأ عمرو مئة آية)؛ وجاء في (معجم قواعد اللغة العربية) للشيخ عبد الغني الدقر ما لفظه (بَيْنَا وبَيْنَمَا: أصْلُهُما: بَيْنَ مُضافَةً إلى أوْقات مضافَةٍ إلى جُملةٍ، فَحُذِفَتِ الأوْقاتُ وعُوِّضَ عنها (الألِفُ) [يعني في بينا]، أو (مَا) [يعني في بينما].
وهما مَنْصُوبَتَا المَحَلّ، والعامِلُ فِيهما ما تَضَمَّنَتُهْ (إذْ) مِنْ مَعْنى المُفَاجَأة، كقولك: (بَيْنَا أَنَا مُنْطَلِقٌ إذْ جَاءني بَيْنَ أوقاتِ انْطِلاَقِي، وقد تأتي (بينا) بدون (إذْ) بعدَها، وهو فصيحٌ عند الأصمعي، وعليه الحديثُ في البخاري: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بينَا أنا نَائِمٌ رأيت النَّاسُ يُعْرَضُون عليّ) الحديث.
وما بعد (بَيْنَا) و(بَيْنَمَا) إذا كان اسماً رُفِع بالابتداءِ وما بَعدَه خَبر.
وإذا كان بعد (بينا) اسم ثم فعل - ومثلها (بينما) - كان عَامِلُهُمَا مَحْذُوفاً يفسِّرُهُ الفعلُ المذكورُ نحو (بينما بكرٌ يعملُ في حقله إذ رأى مالاً).
وإعْرابُهُما: عَلَى الظَّرفيةَ الزَّمَانِّيةِ لأَنَّهُما - في الأصل مُضَافتان إلى أَوْقَات، والأَلِفُ أو (ما) عوَضٌ عن المُضَافِ إلَيْهِ كَمَا تَقَدَّم).(1/56)
محمد بن المنكدر ذات ليلة قائم يصلي إذ استبكى وكثر بكاؤه حتى فزع أهله وسألوه: ما الذي أبكاه؟ فاستعجم عليهم وتمادى في البكاء فأرسلوا إلى أبي حازم فأخبروه بأمره فجاء أبو حازم إليه فإذا هو يبكي، قال: يا أخي ما الذي أبكاك؟! قد رعت أهلك! أفمن علة أم ما بك؟! فقال: إنه مرت بي آية في كتاب الله عز وجل، قال: وما هي؟ قال: قول الله تعالى (وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ)(1)؛ فبكى أبو حازم أيضاً معه، واشتد بكاؤهما! فقال بعض أهله لأبي حازم: جئنا بك لتفرج عنه فزدته! فأخبرهم ما الذي أبكاهما. (3/146)
قال ثابت البناني: أيُّ عبدٍ أعظم حالاً من عبد يأتيه ملك الموت وحده ويدخل قبره وحده ويوقف بين يدي الله وحده ومع ذلك ذنوب كثيرة ونعم من الله كثيرة؟. (الزهد الكبير ص218)
قال عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: قلتُ ليزيدٍ بنِ مرثدٍ(2): ما لي أرى عينَكَ لا تجفُّ؟! قالَ: وما مسألتُك عنهُ؟ قلتُ: عسى الله أن ينفعني به، قال: يا أخي إن الله قد توعدني إن أنا عصيتُه أن يسجنَني في النار، واللهِ لو لم يتوعدْني أن يسجنَني إلا في الحمامِ لكنتُ حرياً أن لا تجفَّ لي عينٌ! قالَ: فقلتُ لهُ: فهكذا أنتَ في خلواتك؟! قال: وما مسألتُك عنه؟ قلت: عسى الله أن ينفعَني به، فقالَ: واللهِ إنَّ ذلكَ ليعرضُ لي حينَ أسكنُ إلى أهلي فيحولُ بيني وبينَ ما أريدُ! وإنه ليوضَعُ الطعامُ بينَ يديَّ فيعرضُ لي فيحولُ بيني وبين أكلِه حتى تبكي امرأتي ويبكي صبيانُنا ما يدرونَ ما أبكانا! ولربَّما أضجرَ ذلكَ امرأتي فتقولُ: يا ويحَها! ما خُصِصْتُ به مِن طولِ الحزنِ معك في الحياة الدنيا؛ ما تقرُّ لي معك عينٌ. (5/164)
__________
(1) الزمر (47).
(2) هو أبو عثمان الهمْداني، الصنعاني، من صنعاء دمشق، ثقة، قال ابن حجر من الثالثة.(1/57)
قال بلالٌ: أمّا ما وَكَلَكُم بهِ فتضيّعونَ! وأمّا ما تكفَّلَ لكم بهِ فتطلبون!! ما هكذا نعتَ اللهُ عبادَه المؤمنينَ! أَذَوُوا عقولٍ في طلبِ الدنيا وبلْهٌ عما خُلقْتُم له؟!! فكما ترجونَ رحمةَ اللهِ بما تؤدّونَ من طاعةِ اللهِ فكذلك أشْفِقوا من عقابِ اللهِ بما تنتهكون من معاصي الله. (5/230)
عن إبراهيم التيمي عن أبيه [يزيد] قال: قدمت البصرة فربحت فيها عشرين ألفاً فما أكثرت بها فرحاً، وما أريد أن أعود إليها لأني سمعت أبا ذر يقول: إن صاحب الدرهم يوم القيامة أخف من صاحب الدرهمين(1). (صف3/30)
قال سفيان الثوري: لو رأيتَ منصوراً يصلي لقلتَ: يموتُ الساعةَ(2). (5/40)
قال عبد الله بن إدريس: سمعت عمي يذكر قال: كان كردوس يقول ويقص علينا زمن الحجاج: إن الجنة لا تنال إلا بعمل، اخلطوا الرغبة بالرهبة ودوموا على صالح الأعمال، والقوا الله بقلوب سليمة وأعمال صادقة؛ وكان يكثر من أن يقول: من خاف أدلج، من خاف أدلج. (صف3/72-73)
قال جعفر بن ناجية: سألت عطاء بن أبي رباح عن أشياء من معاشنا بأصبهان، فجعل يقول: مكروه؛ فقلت: يا أبا محمد كيف السبيل إلى ذاك؟ فقال: أكل الحجارة خير من علاج جهنم. (طبقات المحدثين بأصبهان 1/387 وذكر أخبار أصبهان 1/242)
__________
(1) عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه أنه خرج إلى البصرة فاشترى رقيقاً بأربعة آلاف ثم باعهم فربح أربعة آلاف فقلت: يا أبة لو أنك عدت إلى البصرة فاشتريت مثل هؤلاء فربحت فيهم فقال: يا بني لم تقول هذا؟! فوالله ما فرحت بها حين أصبتها ولا أحدث نفسي أن أرجع فاصيب مثلها. (صف3/30)
(2) قال أبو بكر بن عياش: لو رأيت منصور بن المعتمر وعاصماً والربيع بن ابي راشد في الصلاة وقد وضعوا لحاهم على صدورهم عرفت أنهم من أبرار الصلاة. (5/40)(1/58)
قال الحسن : خرج هرم بن حيان وعبد الله بن عامر يؤمّان الحجاز؛ فجعلت أعناق رواحلهما تخالجان الشجر؛ فقال هرم لابن عامر : أتحب أنك شجرةٌ من هذه الشجر؟ فقال ابن عامر : لا والله؛ لما أرجو من ربي؛ فقال هرم : لكني والله لوددتُ أني شجرةٌ من هذه الشجر، أكلتني هذه الناقة، ثم قذفتني بعراً، ولم أكابد الحساب؛ يا ابن عامر إِني أخاف الداهية الكبرى؛ إما إلى الجنة وإما إلى النار ؛ قال الحسن : وكان هرم أفقهَ الرجلينِ وأعلمَهما بالله . (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم سنة 46 والزهد ص233 والمتمنين ص37)
الرقة والبكاء(1)
قال مالك بن دينار: دخلت مع الحسن السوق فمر بالعطارين فوجد تلك الرائحة، فبكى ثم بكى حتى خفت أن يغشى عليه، ثم قال: يا مالك والله ما هو إلا حلول القرار من الدارين جميعاً: الجنة أو النار؛ ليس هناك منزل ثالث؛ من أخطأته والله الرحمةُ صار إلى عذاب الله. (الرقة والبكاء 52 وتهذيب الكمال 6/125)
__________
(1) قال ابن القيم في (الفوائد) (ص118): (قال بعض الزهاد: ما علمت أن أحداً سمع بالجنة والنار تأتي عليه ساعة لا يطيع الله فيها بذكر أو صلاة أو قراة أو إحسان فقال له رجل: إني أكثر البكاء فقال: إنك أن تضحك وأنت مقر بخطيئتك خير من أن تبكي وأنت مدل بعملك، وإن المدل لا يصعد عمله فوق رأسه؛ فقال: أوصني، فقال: دع الدنيا لأهلها كما تركوا هم الآخرة لأهلها؛ وكن فى الدنيا كالنحلة، إن أكلتْ أكلتْ طيباً، وإن أطعمت أطعمت طيباً، وإن سقطت على شيء لم تكسره ولم تخدشه).(1/59)
قال المعلى بن زياد القردوسي: كان لصفوان بن محرز سَرَبٌ(1) يبكي فيه(2)؛ وكان يقول: قد أرى مكان الشهادة لو تشايعني(3) نفسي. (صف3/227 ومحاسبة النفس 134)
قال قتادة: كان زياد بن مطر العدوي قد بكى حتى عمي وبكى ابنه العلاء بن زياد بعده حتى عشى بصره؛ وكان إذا أراد أن يتكلم أو يقرأ أجهشه البكاء. (صف3/254)
حضر محمد محضراً فيه بكاء فلما فرغوا أتوا بالطعام فتنحى محمد ناحية فجلس فقالوا له: يا أبا بكر ألا تدنو إلى الطعام فتأكل؟! قال: إنما يأكل من بكى! كأنه يعيب عليهم الطعام بعد البكاء، أو مع البكاء. (2/347)
قال عبد العزيز بن سلمان العابد: انطلقت أنا وعبد الواحد بن زيد إلى مالك بن دينار فوجدناه قد قام من مجلسه فدخل منزله وأغلق عليه باب الحجرة فجلسنا ننتظره ليخرج أو لنسمع له حركة فنستأذن عليه فجعل يترنم بشيء لم نفهمه ثم بكى حتى جعلنا نأوى له من شدة بكائه ثم جعل يشهق ويتنفس حتى غشى عليه؛ قال: فقال لي عبد الواحد: انطلق ليس لنا مع هذا اليوم عمل، هذا رجل مشغول بنفسه. (صف3/279)
قال جعفر: رأيت مالك بن دينار يتقنع بعباء، أو قال: بكساء، ثم يقول: إله مالك قد علمت ساكن الجنة من ساكن النار، فأي الدارين دار مالك؟ وأى الرجلين مالك؟ ثم يبكي. (صف3/285-286)
قال مالك بن دينار: البكاء على الخطيئة يحط الذنوب كما تحط الريح الورق اليابس. (الرقة والبكاء ص50-51)
قال مالك بن أنس: كان محمد بن المنكدر سيد القراء، ولا يكاد أحد يسأله عن حديث إلا كان يبكي. (3/147)
__________
(1) في (مختار الصحاح) (ص123): (والسَّرَبُ بفتحتين: بيت في الأرض؛ وانْسَرَبَ الحيوان وتَسَرَّبَ دخل فيه؛ قلت: ومنه قوله تعالى (فاتخذ سبيله في البحر سَرَبا) ).
(2) قال الحسن: كان لصفوان بن محرز سرب لا يخرج منه إلا للصلاة. (صف3/227-228)
(3) في المحاسبة (تتابعني)(1/60)
قال مالك بن أنس: كنا ندخل على أيوب السختياني فإذا ذكرنا له حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى حتى نرحمه(1). (3/4)
نظر يونس بن عبيد إلى قدميه عند موته فبكى فقيل له: ما يبكيك با أبا عبد الله؟ قال: قدماي لم تغبرّا في سبيل الله عز وجل. (صف3/304)
قال أبو معشر: رأيت أبا حازم – لما يقص في المسجد ويبكي – يمسح بدموعه وجهه فقلت: يا أبا حازم لم تفعل هذا؟! قال: بلغني أن النار لا تصيب موضعاً أصابته الدموع من خشية الله تعالى. (صف2/ 157)
قال أبو معشر: رأيت عون بن عبد الله في مجلس أبي حازم يبكى ويمسح وجهه بدموعه فقيل له: لم تمسح وجهك بدموعك؟ قال: بلغني أنه لا تصيب دموع الإنسان مكانا من جسده إلا حرم الله عز وجل ذلك المكان على النار(2). (صف3 / 104)
قال أبو هارون: كان [عون بن عبد الله] يحدثنا وللحيته رش بالدموع. (صف3/101)
قال أبو معشر: كان محمد بن كعب القرظي يقص ودموعه تجري على خديه، فإن سمع باكياً زجره وقال: ما هذا؟! (الرقة والبكاء 152)
__________
(1) ما أحسن أن يجتمع عند المرء العلم والتقوى وما أشد انتفاع الناس حينئذ بعلمه ودعوته؛ قال الذهبي في ترجمة الحافظ أبي البركات عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي البغدادي (462-538) في (التذكرة) (4/1282-1283): (الحافظ العالم محدث بغداد0000 قال السمعاني: هو حافظ ثقة متقن واسع الرواية دائم البشر سريع الدمعة عند الذكر حسن المعاشرة، جمع الفوائد وخرج التخاريج، لعله ما بقي جزء مروي إلا وقد قرأه وحصل نسخته، ونسخ الكتب الكبار، مثل الطبقات لابن سعد، وتاريخ الخطيب؛ وكان متفرغاً للحديث: إما أن يقرأ عليه، أو ينسخ شيئاً---؛ وقال ابن ناصر:000ولم يتزوج قط؛ وقال ابن الجوزي: كنت أقرأ عليه وهو يبكي، فاستفدت ببكائه أكثر من استفادتي بروايته، وكان على طريقة السلف، انتفعت به ما لم أنتفع بغيره).
(2) انظر نحو هذا الثر في ترجمة أبي حازم!!(1/61)
طلبَ ابنُ أخي(1) محمدٍ بنِ سوقةَ منه شيئاً فبكى فقال له: والله يا عم لو علمتُ أنَّ مسألتي تبلغُ منكَ هذا ماسألتُك، قال: ما بكيتُ لسؤالِكَ إنما بكيتُ لأني لم أبتديك قبلَ سؤالِك(2). (5/7)
سأل رجل عمران بن مسلم القصير فأعطاه وبكى، فقيل له: ما يبكيك وقد قضيت حاجته؟قال: حيث أحوجته إلى مسألتي. (الجواهر المجموعة ص181)
قال عبد الأعلى التيمي: منْ أوتيَ من العلم ما لا يُبكيهِ لخليقٌ أن لا يكونَ أوتيَ علماً ينفعُهُ، لأنَّ اللهَ تباركَ وتعالى نعتَ العلماءَ فقالَ: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً،،،،،،الآيةَ)(3). (5/88 وأخلاق العلماء 43)
قال مالك بن دينار: من لم يؤتَ من العلم ما يَقْمَعُه(4) فما أوتي من العلم لا ينفعه. (أدب الدنيا والدين ص70)
قال عبد السلام مولى مسلمة بن عبد الملك: بكى عمر بن عبد العزيز فبكت فاطمة فبكى أهل الدار لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء! فلما تجلت عنهم العبرة قالت له فاطمة: بأبي أنت يا أمير المؤمنين مم بكيت؟ قال: ذكرت منصرف القوم من بين يدي الله عز وجل فريق في الجنة وفريق في السعير؛ ثم صرخ وغشي عليه. (صف2/120)
قال سعيد بن صالح: رأيت أبا وائل يسمع النوح ويبكي. (صف3/28)
قال معرف بن واصل: رأيت أبا وائل شقيق بن سلمة ويده في يد ابراهيم التيمي، فكلما ذكَّر ابراهيم انتفض شقيق وبكى. (الرقة والبكاء 114)
قال مغيرة: كان إبراهيم التيمي يذكِّرُ في منزل أبي وائل فكان أبو وائل ينتفض انتفاض الطير. (صف3/29)
__________
(1) كانت في الأصل (أخ).
(2) دخل محمد بن سوقة مكة ثمانين مرةً مِن بينِ حجةٍ وعمرة. (5/6)
(3) الإسراء (107).
(4) أي يصرفه عن الدنيا.(1/62)
قال أشعث بن سوار: دخلت على يزيد الرقاشي فقال: يا أشعث تعال نبكي على الماء البارد في يوم الظمأ؛ قال: وجعل يقول: سبقني العابدون وقطع بي والَهْفاه! وقد صام اثنتين وأربعين سنة. (صف3/288)
بكى ثابت حتى كادت عينه تذهب(1) فجاءوا برجل يعالجها فقال: أعالجها على أن تطيعني، قال: وأي شيء؟ قال: على أن لا تبكي! قال: فما خيرهما إن لم تبكيا؟! وأبى أن يتعالج(2). (2/323)
قال بشر بن منصور: بكى بديل العقيلي حتى قرحت مآقيه فكان يعاتب في ذلك فيقول: إنما أبكي خوفاً من طول العطش يوم القيامة. (الرقة والبكاء 196 و صف3/265)
قال ابن شوذب: كنت إذا رأيت هارون بن رئاب فكأنما أقلع عن البكاء. (صف3/288)
قال سفيان بن عيينة: كان قيس بن مسلم يصلي حتى السحر ثم يجلس فيهيج البكاء ساعة بعد ساعة ويقول: لأمر ما خلقنا، لأمر ما خلقنا، لئن لم نأت الآخرة بخير لنهلكن. (التهجد ص199-200)
__________
(1) قال حماد بن زيد: رأيت ثابتاً البناني يبكي حتى أرى أضلاعه تختلف. (2/322)
(2) وفي رواية: قيل لثابت البناني: يقولون: ليس بعينك بأس إن لم تكثر البكاء، قال: فما أرجو بعيني؟! (2/323)
وفي رواية أخرى: اشتكى ثابت البناني عينيه فقال له الطبيب: اضمن لي خصلة تبرأ عيناك فقال: وما هي؟ قال: لا تبك، قال: وما خير في عين لا تبكي؟! (2/323)(1/63)
قال سفيان بن عيينة: زار قيس بن مسلم محمد بن جحادة ذات ليلة، فأتاه وهو في المسجد بعد صلاة العشاء ومحمد قائم يصلي، فقام قيس بن مسلم في الناحية الأخرى يصلي، فلم يزالا على ذلك حتى طلع الفجر، وكان قيس بن مسلم إمام مسجده، فرجع إلى الحي فأمهم ولم يلتقيا ولم يعلم محمد بمكانه؛ فقال له أهل المسجد: زارك أخوك قيس بن مسلم البارحة فلم تنفتل إليه! قال: ما علمت بمكانه، فغدا عليه فلما رآه قيس بن مسلم مقبلاً قام إليه فاعتنقه ثم خلوا جميعاً فجعلا يبكيان(1). (التهجد ص200 و صف 3/127-128)
قال سفيان: عمرو بن قيس هو الذي أدبني وعلمني قراءة القرآن وعلمني الفرائض فكنت أطلبه في سوقه، فإن لم أجده في سوقه وجدته في بيته: إما يصلي وإما يقرأ في المصحف، كأنه يبادر أموراً تفوته، فإن لم أجده في بيته وجدته في بعض مساجد الكوفة في زاوية من بعض زوايا المسجد، كأنه سارق، قاعداً يبكي، فإن لم أجده وجدته في المقبرة قاعداً ينوح على نفسه؛ فلما مات عمرو بن قيس أغلق أهل الكوفة أبوابهم وخرجوا بجنازته---". (5/100-101)
قال طلحة بن مصرف: كان لرجل عَبرة كل يوم، فقال له غلام له: لئن كان هذا دأبك ليذهبن بصرك ولتلتمس لك قائداً(2). (5/20)
__________
(1) كان محمد بن جحادة من العابدين وكان يقال: إنه لا ينام من الليل إلا أيسره، فرأت امرأة من جيرانه كأن عليه [لعل هذه اللفظة زائدة] حللاً فرقت على أهل مسجدهم فلما انتهى الذي يفرقها إلى محمد بن جحادة دعى بسفط مختوم فأخرج حلة خضراء قالت: لم يقم لها بصري؛ قالت: فكساه إياها وقال: هذه لك بطول السهر، قالت تلك المرأة: فوالله لقد كنت أراه بعد ذلك فأتخايلها عليه تعني الحلة. (التهجد ص351).
(2) لعل ذلك الرجل هو طلحة نفسه ولكن أراد أن يخفي ذلك.(1/64)
قال زائدة بن قدامة: كان منصور بن المعتمر إذا رأيته قلت: رجل قد أصيب بمصيبة، منكس الطرف منخفض الصوت رطب العينين إن حركته جاءت عيناه بأدمع، ولقد قالت له أمه يوماً: ما هذا الذي تصنع بنفسك تبكي الليل عامته لا تكاد تسكت؟! لعلك يا بني أصبت نفساً؟! لعلك قتلت قتيلاً؟! قال فيقول: يا أماه أنا أعلم ما صنعت بنفسي. (صف3/114 ومحاسبة النفس 90)
قال زائدة: إنَّ منصورَ بنَ المعتمر صامَ ستينَ سنةً يقومُ ليلُها ويصومُ نهارُها(1)، وكان يبكي، فتقولُ له أمُّه: يا بُنيَّ قتلتَ قتيلاً؟! فيقولُ: أنا أعلمُ بما صنعتْ نفسي(2) فإذا كانَ الصبحُ كحلَ عينيهِ ودهنَ رأسَه وبرق(3)َ شفتيهِ، وخرجَ إلى الناس. (5/41)
ذكر سفيان بن عيينة منصور بن المعتمر فقال: قد كان عمش من البكاء. (5/41)
قال القاسم الأعرج: كان سعيد بن جبير يبكي بالليل حتى عمِش وفسدت عيناه. (التهجد ص393 والحلية 4/272)
قال هشيم: دخلنا على سيار أبي الحكم وهو يبكي فقلنا: ما يبكيك؟! قالَ: ما أبكى العابدين قبلي. (صف3/13)
قال معاذ بن زياد: كان يحيى بن مسلم البكاء قد اعتم بعمامة فأدارها على حلقه وجعل لها طرفين يبكى حتى يبل هذا الطرف ثم يبكى حتى يبل الطرف الآخر ثم يحلها من رأسه ويبكى وينتحب حتى يبل العمامه بأسرها ثم يبكى وينتحب حتى يبل أردانه. (صف 3/296)
قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا وكيع عن سفيان عن زكرياء العبدي عن ابراهيم النخعي أنه بكى في مرضه فقالوا له: يا أبا عمران ما يبكيك؟! قال: وكيف لا أبكي وأنا انتظر رسولاً من ربي يبشرني إما بهذه وإما بهذه. (4/224 وانظر رواية اخرى لهذا الأثر في المصدر نفسه)
__________
(1) وكذلك قال سفيان الثوري.
(2) في الأصل (بنفسي).
(3) في الأصل (وفرق)، وأثبتُّ ما في (سير أعلام النبلاء) (5/406).(1/65)
قال سفيان بن عيينة: كان عمر بن عبد العزيز يوماً ساكتاً وأصحابه يتحدثون فقالوا له: ما لك لا تتكلم يا أمير المؤمنين؟! قال: كنت مفكراً في أهل الجنة كيف يتزاورون فيها وفي أهل النار كيف يصطرخون فيها؛ ثم بكى. (الرقة والبكاء 64 وسيرة عمر ص154)
قال يزيدُ بن ميسرة: البكاءُ مِن سبعةِ أشياءٍ: منَ الفرحِ والحزنِ والفزعِ والوجعِ والرياءِ والشكرِ، وبكاءٌ من خشيةِ الله، فذلك الذي تطفئُ الدمعةُ منه أمثالَ الجبالِ من النار(1)
__________
(1) بكاء المؤمن أنواع كثيرة: بكاء الخوف من الله وبكاء الحياء من الله وبكاء الندم على المعاصي وبكاء التقصير في الطاعات وبكاء الخوف من سوء الخاتمة وبكاء الخوف مما قد سبق عليه في علم الله وتقديره، وبكاء الشكوى من الباطل وأهله، وبكاء الغربة، وبكاء الحزن على أحوال المسلمين وأهل الحق، وبكاء الشوق إلى لقاء الله، وبكاء الشوق إلى الجنة وأهلها، وبكاء خوف الحرمان، وبكاء الحرمان من مراتب من الخير والفضل، وبكاء التعظيم لله، وبكاء الشعور بالعجز عن طاعة الله، وغير ذلك من أنواع البكاء، نسأل الله أن يوفقنا إلى العلم به وإلى طاعته وأسباب مرضاته.
وعن أبي إسحاق الفزاري قال: سمعت سفيان الثوري يقول: البكاء عشرة أجزاء تسعة لغير الله وواحد لله فاذا جاء الذي لله في السنة مرة فهو كثير. (7/11)
وقال ابن القيم في (زاد المعاد) (1/184-185):
(والبكاء أنواع:
أحدها: بكاء الرحمة والرقة.
والثاني: بكاء الخوف والخشية.
والثالث: بكاء المحبة والشوق.
والرابع: بكاء الفرح والسرور.
والخامس: بكاء الجزع من ورود المؤلم وعدم احتماله.
والسادس: بكاء الحزن.
والفرق بينه وبين بكاء الخوف أن بكاء الحزن يكون على ما مضى من حصول مكروه أو فوات محبوب وبكاء الخوف يكون لما يتوقع في المستقبل من ذلك.
والفرق بين بكاء السرور والفرح وبكاء الحزن أن دمعة السرور باردة والقلب فرحان ودمعة الحزن حارة والقلب حزين؛ ولهذا يقال لما يُفرح به: هو قرة عين، وأقر الله به عينه، ولما يُحزِن: هو سخينة العين، وأسخن الله عينه به.
والسابع: بكاء الخور والضعف.
والثامن: بكاء النفاق، وهو أن تدمع العين والقلب قاس، فيظهر صاحبه الخشوع وهو من أقسى الناس قلباً.
والتاسع: البكاء المستعار والمستأجر عليه، كبكاء النائحة بالأجرة، فإنها كما قال عمر بن الخطاب: تبيع عبرتها وتبكي شجو غيرها.
والعاشر: بكاء الموافقة، وهو أن يرى الرجل الناس يبكون لأمر ورد عليهم فيبكي معهم ولا يدري لأي شيء يبكون ولكن يراهم يبكون فيبكي.
وما كان من ذلك دمعاً بلا صوت فهو (بكى)، مقصور؛ وما كان معه صوت فهو (بكاء)، ممدود، على بناء الأصوات؛ وقال الشاعر:
بكت عيني وحق لها بكاها وما يغني البكاء ولا العويل
وما كان منه مستدعى متكلفاً فهو التباكي؛ وهو نوعان: محمود ومذموم، فالمحمود: أن يُستجلَبَ لرقة القلب ولخشية الله لا للرياء والسمعة، والمذموم أن يُجْتَلَب لأجل الخلق).(1/66)
. (5/235)
قال الحسن: إن العينين لتبكيان؛ وإن القلب ليشهد عليهما بالكذب. (الرقة والبكاء ص45-46)
قال الربيع بن صبيح: كنا عند الحسن فوعظ فانتحب رجل فقال الحسن: أما والله ليسألنك الله عز وجل يوم القيامة: ما أردت بهذا؟! (الزهد ص270 والحلية 6/305 والزهد لهناد 2/439)
قال عبد الكريم بن رشيد: كنت في حلقة الحسن فجعل رجل يبكي وارتفع صوته فقال الحسن: إن الشيطان ليُبكي هذا الآن. (الزهد ص273)
سألَ عبّادٌ شميطَ بنَ عَجلان: هل يبكي المنافقُ؟ فقالَ: يبكي من رأسِهِ، فأما قلبُهُ فلا. (3/129)
قال اسماعيل بن ذكوان: دخل إياس بن معاوية وأبوه إلى مسجد فيه قاص يقص عليهم، فلم يبقَ أحد من القوم إلا بكى غير إياس وابيه، فلما تفرقوا قال معاوية بن قرة لابنه: أتُرانا شرَّ أهلِ هذا المجلس؟! قال إياس: إنما هي رقة في القلوب، فكما تُسرع إلى الدمعة فكذلك تسرع إليها الفتنة. (الرقة والبكاء 39)
سُرِقَ مصحفٌ لمالك فوعَظَ أصحابَهُ فجعلوا يبكون فقالَ: كلُّنا نبكي فمن سرق المصحف!!! (2/385)
التوكل(1)
__________
(1) من خصائص المؤمنين أنهم يتوكلون على الله في عامة أحوالهم، ولكن كلما اشتد عليهم الأمر وضاقت عليهم السبل كان توكلهم أعظم وأكمل؛ ثم يكون ذلك التوكل سبباً في زيادة إيمانهم، بحسبه، قال الله تعالى: (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليما) [الأحزاب]؛ وقال تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم) [آل عمران]؛ وقال تعالى: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون) [الأنفال].
ولا يصح في العقل فضلاً عن الشرع أن يتوكل المرء على من لا يعلم حاله ولا على من لا يرحمه ولا على من لا يقدر على نصرته وتحقيق غايته وتسهيل طلبته، وكذلك لا يستقيم شرعاً ولا عقلاً التوكلُ على من لا يدفع عن نفسه موتاً ولا مرضاً ولا يسمع الدعاء ولا يعلم بالشكوى؛ ولذا قال تعالى: (وتوكل على الحي الذي لا يموت) [الفرقان]؛ وقال تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الشعراء 217-219]؛ وقال تعالى: (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) [إبراهيم]؛ وقال تعالى: (فإذا عزمت فتوكل على الله) [آل عمران]؛ وقال تعالى: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) [الطلاق]، أي كافيه؛ والآيات في فضل التوكل كثيرة معروفة.
وأما الأحاديث فكثيرة أيضاً وفيما يلي بعضها:
فالأول: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لى هذا موسى وقومه ولكن انظر إلى الأفق فإذا سواد عظيم فقيل لي: انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب؛ فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا وذكروا أشياء فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما الذي تخوضون فيه؟ فأخبروه فقال: هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: أنت منهم؛ ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، فقال: سبقك بها عكاشة)؛ متفق عليه.
والرهيط بضم الراء تصغير رهط وهم دون عشرة أنفس والأفق الناحية والجانب وعكاشة بضم العين وتشديد الكاف وبتخفيفها والتشديد أفصح.
الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنهما، أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت اللهم أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني أنت الحي الذي لا تموت والجن والإنس يموتون). متفق عليه؛ وهذا لفظ مسلم واختصره البخاري.
الثالث: عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضاً قال: (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقى في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا (إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل). رواه البخاري.
وفي رواية له عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان آخر قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقي في النار: (حسبي الله ونعم الوكيل).
الرابع: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير)؛ رواه مسلم.
قيل: معناه متوكلون؛ وقيل: قلوبهم رقيقة.
الخامس: عن جابر رضي الله عنه أنه غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم قِبَل نجد؛ فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معهم، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه؛ فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت سمرة فعلق بها سيفه، ونمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي فقال: (إن هذا اخترط علي سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتاً، قال: من يمنعك مني؟ قلت: الله؛ ثلاثاً، ولم يعاقبه؛ وجلس)؛ متفق عليه.
وفي رواية: قال جابر: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع، فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلق بالشجرة فاخترطه فقال: تخافني؟ قال: لا؛ قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله.
قال النووي في (رياض الصالحين): (قوله (قفل) أي رجع؛ والعضاه: الشجر الذي له شوك؛ والسمرة، بفتح السين وضم الميم: الشجرة من الطلح، وهي العظام من شجر العضاه؛ واخترط السيف: أي سله، وهو في يده صلتاً: أي مسلولاً، وهو بفتح الصاد وضمها).
السادس: عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا فلان إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت؛ فإنك إن مت من ليلتك مت على الفطرة؛ وإن أصبحت أصبت خيراً)؛ متفق عليه.
وفي رواية في الصحيحين عن البراء قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن، وقل--- [وذكر نحوه ثم قال:] واجعلهن آخر ما تقول).
السابع: عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: نظرت إلى أقدام المشركين ونحن في الغار، وهم على رؤوسنا، فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا؛ فقال: ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟)؛ [متفق عليه].
وقال ابن القيم في (الفوائد) (ص86-87):
(التوكل على الله نوعان:
أحدهما: توكلٌ عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية.
والثاني: التوكل عليه في حصول ما يحبه هو ويرضاه من الإيمان واليقين والجهاد والدعوة إليه.
وبين النوعين من الفضل ما لا يحصيه إلا الله.
فمتى توكل عليه العبد في النوع الثاني حق توكله كفاه النوع الأول تمام الكفاية.
ومتى توكل عليه في النوع الأول دون الثاني كفاه أيضاً، لكن لا يكون له عاقبة المتوكل عليه فيما يحبه ويرضاه.
فأعظم التوكل عليه: التوكل في الهداية وتجريد التوحيد ومتابعة الرسول وجهاد أهل الباطل فهذا توكل الرسل وخاصة أتباعهم.
والتوكل تارة يكون توكل اضطرار والجاء بحيث لا يجد العبد ملجأ ولا وزَراً إلا التوكل كما إذا ضاقت عليه الأسباب وضاقت عليه نفسه وظن أن لا ملجأ من الله إلا إليه، وهذا لا يتخلف عنه الفرج والتيسير البتة.
وتارة يكون توكل اختيار، وذلك [هو] التوكل مع وجود السبب المفضي إلى المراد.
فإن كان السبب مأموراً به ذم على تركه [أي ترك السبب]، وإن قام بالسبب وتركَ التوكل ذم على تركه أيضاً [أي ترك التوكل]، فإنه واجب باتفاق الأمة ونص القرآن، والواجب القيام بهما والجمع بينهما.
وإن كان السبب محرماً حرم عليه مباشرته وتوحد السبب في حقه في التوكل فلم يبق سبب سواه، فإن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المراد ودفع المكروه، بل هو أقوى الأسباب على الإطلاق.
وإن كان السبب مباحاً نظرتَ هل يُضْعفُ قيامُك به التوكلَ أو لا يضعفه، فإن أضعفه وفرق عليك قلبَك وشتَّت همَّك فتركه أولى؛ وإن لم يضعفه فمباشرته أولى لأن حكمة أحكم الحاكمين اقتضت ربط المسبَّب به فلا تعطل حكمته مهما أمكنك القيام بها ولا سيما إذا فعلتَه عبودية، فتكون قد أتيت بعبودية القلب بالتوكل، وعبودية الجوارح بالسبب المنوي به القربة.
والذي يحقق التوكل القيام بالأسباب المأمور بها فمن عطلها لم يصح توكله، كما أن القيام بالأسباب المفضية إلى حصول الخير يحقق رجاءه فمن لم يقم بها كان رجاؤه تمنياً، كما أن من عطلها يكون توكله عجزاً وعجزه توكلاً [كذا هذه العبارة الأخيرة].
وسر التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب علي الله وحده فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها، كما لا ينفعه قوله "توكلت على الله" مع اعتماده على غيره وركونه إليه وثقته به؛ فتوكل اللسان شيء وتوكل القلب شيء؛ كما أن توبة اللسان مع إصرار القلب شيء وتوبة القلب وإن لم ينطق اللسان شيء؛ فقول العبد "توكلت على الله" مع اعتماد قلبه على غيره مثل قوله (تبت إلى الله) وهو مصر على معصيته مرتكب لها). انتهى كلام الإمام ابن القيم.(1/67)
قال سعيد بن جبير: التوكلُ على اللهِ جِمَاعُ(1) الإيمان. (التوكل على الله 6 والحلية 4/274)
أصاب محمد بن كعب القرظي مالاً فقيل له: ادخر لولدك من بعدك! قال: لا ولكن ادخره لنفسي عند ربي وادخر ربي لولدي. (الزهد الكبير ص182)
قال الحسن: إن العز والغنى يجولان في طلب التوكل، فإذا ظفرا أوطنا(2). (6/306)
قال الحسن: إنَّ مِن توكل العبد أن يكون الله هو ثقته. (التوكل على الله 19 وجامع العلوم والحكم ص437)
قال عباد بن منصور: سئل الحسن عن التوكل فقال: الرضا عن الله. (التوكل على الله 18 والشعب 2/98)
قال مسلم بن يسار: اعملْ عملَ رجلٍ لا يُنجيهِ الا عملُهُ، وتوكلْ توكلَ رجلٍ لا يصيبُه إلا ما كتبَه اللهُ عز وجلَّ له. (2/292)
قال عامرٌ بن عبد قيس التميمي لابنَي عم له: فوِّضا أمركما إلى الله تستريحا. (2/92)
قال ابن عون: لو أن رجلاً انقطع إلى هؤلاء الملوك في الدنيا لانتفع فكيف بمن ينقطع إلى من له السماوات والارض وما بينهما وما تحت الثرى؟! (صف3/310)
قيل لأبي حازم: إنك لمسكين! فقال: كيف أكون مسكيناً ومولاي له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى؟! (أدب الدنيا والدين ص120)
قيل لأبي حازم: يا أبا حازم ما مالُك؟ قال: ثقتي بالله تعالى وإياسي مما في أيدي الناس. (3/232)
__________
(1) جاء في (مختار الصحاح) (ص47): (وجِمَاعُ الشيء بالكسر: جمعُه، تقولُ: جِمَاعُ الخباءِ الأخبيةُ؛ ويقال: الخمرُ جِماع الإثم).
(2) قال أبو جعفر محمد بن زين العابدين: (الغنى والعز يجولان في قلب المؤمن فإذا وصلا إلى مكان التوكل أوطناه). (صف2/108)
وأنشد بعضهم:
يجول الغنى والعز في كل موطن* ليستوطنا قلب امرىء إن توكلا
ومن يتوكل كان مولاه حسبه**** *** وكان له فيما يحاول معقلا
إذا رضيت نفسي بمقدور حظها**تعالت وكانت أفضل الناس منزلا
(انظر الحلية 6/306)(1/68)
أتوا أبا حازم فقالوا له: يا أبا حازم أما ترى قد غلا السعر؟! فقال: وما يُغِمُّكم من ذلك؟! إن الذي يرزقنا في الرخص هو الذي يرزقنا في الغلاء. (3/239)
قال يحيى بن أبي كثير: مكتوب في التوراة: ملعون من كان ثقته بإنسان مثله. (التوكل على الله 62)
قال الحسن: إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله عز وجل. (جامع العلوم والحكم ص290)
كتب بعضُ عمالِ عمرَ بنِ عبد العزيز إليه: إنك قد أضررتَ بـ[بـ]ـيتِ المالِ، أو نحوه، فقال عمر: أَعطِ ما فيه فإذا لم يبق فيه شيء فاملأه زبلاً. (5/278)
قال سعيدٌ: منِ استغنى باللهِ افتقرَ الناسُ إليه. (2/173)
جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال: علمني شيئاً ينفعني الله به؛ قال: أكثرْ من ذكر الموت واقصر أملك، وخصلة ثالثة إن أنت أصبتها بلغتَ الغاية القصوى وظفرتَ بالعبادة؛ قال: ما هي؟ قال: التوكل. (التوكل 59)
قال الأعمش: استعان بي مالكُ بنُ الحارثِ(1) في حاجةٍ فجئتُ في قباءٍ مخرّقٍ! فقال: لو لبستَ ثوباً غيرَه! فقلتُ: امشِ فإنما حاجتُك بيدِ الله؛ قال: فجعل يقولُ في المسجدِ: ما صرتُ مع سليمانَ إلا غلاماً. (5/49-50)
__________
(1) وهو شيخ الأعمش.(1/69)
قال أبو العالية: إن الله تعالى قضى على نفسه أن من آمن به هداه؛ وتصديق ذلك في كتاب الله (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ)(1)، ومن توكل عليه كفاه، وتصديق ذلك في كتاب الله (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)(2)، ومن أقرضه جازاه، وتصديق ذلك في كتاب الله (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً)(3)؛ ومن استجار من عذابه أجاره، وتصديق ذلك في كتاب الله (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً)(4)، والاعتصام الثقة بالله، ومن دعاه أجابه، وتصديق ذلك في كتاب الله (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)(5). (2/221-222)
الرجاء
قال الحسن: إن الله تعالى لم يقصص عليكم ذنوب الأنبياء تعييراً لهم، ولكن لئلا تقنطوا من رحمته؛ قال ابن الجوزي: يعني الحسن أن الحجة للأنبياء ألزم فإذا قبل التوبة منهم كان إلى قبولها منكم أسرع. (زاد المسير 4/207)
__________
(1) التغابن (11).
(2) الطلاق (3).
(3) البقرة (245).
(4) آل عمران (103).
(5) البقرة (186).(1/70)
قال مطَرِّف بن عبد الله بن الشخّير: إني لأستلقي من الليل على فراشي فأتدبر القرآن وأعرض عملي على عمل أهل الجنة، فإذا أعمالهم شديدة، (كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ)(1)، (يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً)(2)، (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً)(3) فلا أراني فيهم، فأَعرضُ نفسي على هذه الآية (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)(4) فأرى القوم مكذبين(5)، وأمرُّ بهذه الآية (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً)(6) فأرجو أن أكون أنا وأنتم يا إخوتاه منهم. (2/198)
قال الفضيلُ بنُ عياضٍ: قالَ الحسنُ: إنما هي طاعةُ اللهِ أو النارُ، وقالَ ابنُ سيرينَ: إنما هي رحمةُ اللهِ أو النار(7). (2/269)
قال الحسن البصري: الرجاء والخوف مطيتا المؤمن. (الزهد ص265 والحلية 2/156)
__________
(1) الذاريات (17).
(2) الفرقان (64).
(3) الزمر (9).
(4) المدثر (42).
(5) يعني فهو ليس منهم.
(6) التوبة (102)، وتمامها (عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
(7) الظاهر من العبارتين أن كلام ابن سيرين هنا أفقه، فالمرء لا ينجو من النار بالطاعات، وإنما ينجو منها برحمة الله؛ وورد في (الحلية) (2/348) عن فضيل بن عياض قال: قال مالك بن دينار: إنما هو طاعة الله أو النار فقال محمد بن واسع: إنما هو عفو الله أو النار؛ ولكن لا أشك في أن الحسن، وكذلك محمد بن واسع، كان مصيباً لأنه لم يرد أن يقول: كل من أطاع الله سلم من النار؛ ولكنه أراد أن يقول: من لم يطع الله فهو في النار، فالحسن ناظر إلى جانب الهلكة وابن سيرين ناظر إلى جانب النجاة.(1/71)
قال مطرف: لو جيء بميزان تَرِيصٍ(1) فوزن خوف المؤمن ورجاؤه كانا سواء يذكر رحمة الله فيرجو ويذكر عذاب الله فيخاف. (حسن الظن بالله ص115 وانظر الحلية 2/208)
قال محمد بن مطرف: دخلنا على أبي حازم الأعرج لما حضره الموت فقلنا: يا أبا حازم كيف تجدك؟ قال: أجدني بخير أجدني راجياً الله حسَنَ الظن به، إنه والله لا يستوي من غدا وراح يعمر عقد الآخرة لنفسه فيقدمها أمامه قبل أن ينزل به الموت حتى يقدم عليها فيقوم لها وتقوم له ومن غدا وراح في عقد الدنيا يعمرها لغيره ويرجع إلى الآخرة لا حظ له فيها ولا نصيب. (حسن الظن ص116)
__________
(1) قال ابن قتيبة في (غريب الحديث) (3/755): (جاء في الحديث: لو وزُن رَجاءُ المُؤمِن وخَوْفُه بميزان تريص مازادَ أَحدُهما على الآخر. التَّرِيص: المُحْكمْ؛ يقال: أَتْرَصْت الشيء إذا أَحكمته وأَجدت عَمَله. قال ذوُ الإصْبع يذكر سِهاماً: من المنسرح:
تَرَّص أَفواقَها وقَومَّها أَنْبَلُ عَدْوان كلّها صَنَعا
أنَبْلَ: أحَذَقَ).(1/72)
قال الحسن: الذي جمع الطمع في قلوبهم يوصلهم إلى ما يطمعون(1). (طريق الهجرتين ص566)
ذكر عبد الله بن مسلم بن يسار أن أباه كان يكره أن يمس ذكره بيمينه ويقول: إني لأرجو أن آخذ كتابي بيميني. (2/293)
قال ابن عون: ما رأيت أحداً كان أعظم رجاء للموحدين من محمد بن سيرين، كان يتلو هؤلاء الآيات(2): (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ)(3) ويتلو (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ)(4) ويتلو (لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى)(5). (حسن الظن ص77)
__________
(1) هذا بشرط الصدق والعمل الصالح؛ وأما الأماني المجردة عن العمل فلا خير فيها؛ ففرْقٌ بين الرجاء والتمني؛ فالرجاء يكون مع بذل الجهد واستفراغ الطاقة في الإتيان بأسباب الظفر والفوز؛ والتمني حديث النفس بحصول ذلك مع تعطيل الأسباب الموصلة إليه؛ قال الله تعالى في أهل الرجاء: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ) [البقرة 218]؛ وقال في أهل التمني: (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً) [النساء 123]؛ وقال الحسن: إن قوماً ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا وليست لهم حسنة يقول: إني أحسن الظن بربي! كذب، ولو أحسن الظن بربه لأحسن العمل. (الوجل ص28-29 وانظر فيض القدير 5/67)
(2) مستدلاً على رجائه لأهل التوحيد بأنهم ليسوا من الأصناف المذكورة في هذه الآيات.
(3) الصافات (35).
(4) المدثر (42-47).
(5) الليل (15-16).(1/73)
قال ابن عون: ما رأيت أحداً كان أعظم رجاء لهذه الأمة من محمد بن سيرين وأشد خوفاً على نفسه منه. (حسن الظن ص100)
قال معاذ بن معاذ: ما رأيت أحداً أعظمَ رجاءً لأهل الاسلام من ابن عون، لقد ذُكر له الحجاج وأنا شاهد فقيل: إنهم يزعمون أنك تستغفر للحجاج! فقال: ما لي لا أستغفر للحجاج من بين الناس؟! وما بيني وبينه؟! وما كنت أبالي أن أستغفر له الساعة! قال معاذ: وكان إذا ذكر عنده الرجل بعيب قال: إن الله تعالى رحيم. (3/41)
قال عطاء بن السائب: دخلنا على أبي عبد الرحمن [السلمي] في مرضه الذي مات فيه، قال: فذهب بعض القوم يُرَجّيه فقال: أنا لا أرجو ربي(1) وقد صمت له ثمانين رمضان؟!(2). (صف3/58 وحسن الظن ص113)
قال عمر بن الوليد: خرج عمر بن عبد العزيز يوم الجمعة وهو ناحل الجسم فخطب كما كان يخطب ثم قال: أيها الناس من أحسن منكم فليحمد الله ومن أساء فليستغفر الله ثم إن عاد فليستغفر الله ثم إن عاد فليستغفر الله فإنه لا بد لأقوام أن يعملوا أعمالاً وضعها الله في رقابهم وكتبها عليهم. (حسن الظن ص77)
قال محمد بن كعب القرظي: الكبائر ثلاث: أن تأمنَ مكرَ الله، وأن تقنطَ من رحمة الله، وأن تيأسَ من روح الله، وتلا هذه الآيات (أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)(3)؛ (وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ)(4)؛ وقال يعقوب عليه السلام لبنيه: ([وَ]لاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)(5). (3/216-217)
__________
(1) في (حسن الظن): (إني لأرجو).
(2) أي كيف لا أرجوه؟! وهذا الصوم نوع واحد من أنواع عبادته وقرباته، وقد قال أبو إسحاق السبيعي: أقرأ أبو عبد الرحمن السلمي القرآن في المسجد أربعين سنة. (صف3/58)
(3) الأعراف (99).
(4) الحجر (56).
(5) يوسف (87).(1/74)
عن جرير عن منصور عن إبراهيم قال: كانوا يقولون ويرجون إذا لقي الله الرجل المسلم وهو نقي الكف من الدم أن يتجاوز الله عنه ويغفر له ما سوى ذلك من ذنوبه. (4/225)
حسن الظن بالله
والإيمان بسعة رحمته وعِظم مغفرته
قال الحسنُ في قولِهِ عزَّ وجلَّ (هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ)(1): إنَّ المؤمنَ أحسنَ الظنَّ بربِّهِ فأحسنَ العملَ، وإنَّ المنافقَ أساءَ الظنَّ فأساءَ العمل(2). (2/144 وصفة المنافق ص75)
ذكر زيدٌ بن أسلم أن رجلاً كان في الأمم الماضية يجتهد في العبادة ويشدد على نفسه ويقنِّطُ الناسَ من رحمة الله تعالى، ثم مات فقال: أي رب ما لي عندك؟ قال: النار، قال: يا ربِّ وأين عبادتي واجتهادي؟! فقيل له: إنك كنت تقنّطُ الناسَ من رحمتي في الدنيا وأنا أقنّطكَ اليوم من رحمتي. (3/222)
__________
(1) الحاقة (19-20).
(2) لا تناقض بين قول الحسن هذا وبين قوله التي ذكرته في موضع آخر من الكتاب، أعني ما نقله عنه ابن القيم في (المدارج) (1/512) من أنه قال في قول الله تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) [المؤمنون 60]: (عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها، وخافوا أن تردَّ عليهم؛ إن المؤمن جمع إحساناً وخشية؛ والمنافق جمع إساءة وأمناً)؛ انتهى؛ وذلك لأن المؤمن يحسن الظن بربه وهو مع ذلك شديد الخوف على نفسه، والفاجر لم يحسن الظن بربه وهو مع ذلك غير خائف منه؛ فالمؤمن اجتمع عنده الخشية وحسن الظن وحسن العمل، والمنافق أو الفاجر اجتمع عنده الأمن وسوء الظن وسوء العمل، نعوذ بالله من حال أهل البوار.(1/75)
عن الأوزاعي عن بلال بن سعد قال: يؤمر بإخراج رجلين من النار فإذا خرجا ووقفا قال الله لهما كيف وجدتما مقيلكما وسوء مصيركما؟ فيقولان: شر مقيل وأسوأ مصير صار إليه العباد، فيقول لهما: بما قدمت أيديكما وما أنا بظلام للعبيد، قال: فيأمر بصرفهما إلى النار فأما أحدهما فيعدو في أغلاله وسلاسله حتى يقتحمها وأما الآخر فيتلكأ فيأمر بردهما فيقول للذي عدا في أغلاله وسلاسله حتى اقتحمها: ما حملك على ما صنعت وقد خبرتها؟ فيقول: إني قد خبرت من وبال المعصية ما لم أكن أتعرض لسخطك ثانية، قال: ويقول للذي تلكأ: ما حملك على ما صنعت فيقول حسن ظني بك حين أخرجتني منها ألا تردني إليها فيرحمهما ويأمر بهما إلى الجنة. (حسن الظن ص69)
قال مجاهد: يؤمر بالعبد إلى النار يوم القيامة فيقول: ما كان هذا ظني، فيقال: ما كان ظنك؟ فيقول: أن تغفر لي، فيقول: خلوا سبيله. (صف2/210)
قال عمرو بن ميمون(1)
__________
(1) كان عمرو هذا أحد عبّاد المسلمين كما يتبين من هذه الآثار الثلاثة التالية:
قال أبو إسحاق: كان عمرو بن ميمون إذا دخل المسجد فرئي ذكر الله عز وجل. (صف3/35)
ذكر إبراهيم أن عمرو بن ميمون كان يوتد له في حائط المسجد فكان إذا سئم من القيام في الصلاة وشق عليه أمسك بالوتد يعتمد عليه أو يربط له حبل فيمسك به. (المصنف 7/157)
عن أبي اسحاق ان عمرو بن ميمون حج مئة حجة وعمرة. (صف3/35)؛ قلت: كذا رواه اسرائيل عن جده أبي اسحاق، ورواه شعبة عن أبي اسحاق أنه حج ستين حجة وعمرة؛ وكلاهما كثير فما أعظم اجتهاد السلف رحمهم الله.(1/76)
: ما يسرني أن أمري يوم القيامة الى أبوي(1). (4/150)
كان أبو الجوزاء أوس بن عبد الله يقول: لو أن ناساً من فقهائكم وأغنيائكم انطلقوا إلى رجل فقيهٍ غنيّ فسألوه كوزاً من ماء أكان يعطيهم؟ قالوا: يا أبا الجوزاء ومن يمنع كوزاً من ماء؟! قال أبو الجوزاء: والله لَلّهُ(2) أجودُ بجنته من ذلك الرجل بذلك الكوز من ماء. (3/79)
قال مسروق: إني أحسن ما أكون ظناً(3) حين يقول لي الخادم: ليس في البيت قفيز ولا درهم. (2/97)
قال شملة بن هزال أبو الحتروش البختري: سمعت الحسن في جنازة فيها الفرزدق والقوم، حافين(4) بالقبر، يتذاكرون الموت، فقال الحسن: يا أبا فراس ما أعددت لهذا؟! قال: شهادة ألا إله إلا الله منذ ثمانين سنة فقال: اثبت عليها وأبشر أو نحو هذا. وفي رواية أخرى: فقال الحسن: نعمت العدة ونعمت العدة. (حسن الظن ص101)
__________
(1) ذلك من عظم معرفته بسعة كرم الله وفضله وعطائه وجوده وإحسانه وعفوه ومغفرته ورأفته، ومن شدة وثوقه بسعة رحمة الله وأنه أرحم بعبده من الوالد بولده، وكذلك فإنه يعلم أن الله يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء لا يبالي بأحد ولا يخاف عاقبة أمر يصنعه، ولا يتعاظمه ذنب ولا تضره مغفرة ولا ينقص ملكه ولو أعطى كل مسلم ما يتمناه في الجنة؛ نسأل الله رحمته ومغفرته إنه هو الغفور الرحيم.
وروى ابن أبي الدنيا في (حسن الظن بالله ص45) عن يحيى بن يمان قال: قال سفيان الثوري: (ما أحب أن حسابي جعل إلى والدي ربي خير لي من والدي).
وروى أبو نعيم في (الحلية) (6/251) بسنده عن محمد بن إسماعيل البخاري قال: سمعت بعض أصحابنا يقول: عاد حمادُ بن سلمة سفيانَ الثوريَّ فقال سفيان: يا أبا سلمة أترى يغفر الله لمثلي؟! فقال حماد: والله لو خُيِّرتُ بين محاسبة الله إياي وبين محاسبة أبويَّ لاخترتُ محاسبة الله على محاسبة أبويّ؛ وذلك أن الله تعالى أرحم بي من أبويّ.
(2) في الأصل (لا الله)، تحريف.
(3) أي بالله تبارك وتعالى.
(4) حال.(1/77)
قال أبو موسى التيمي: توفيت النوار امرأة الفرزدق فخرج في جنازتها وجوه أهل البصرة وخرج فيها الحسن فقال الحسن للفرزدق: ما أعددت لهذا اليوم يا أبا فراس؟! قال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ ثمانين سنة؛ قال: فلما دفنت قام على قبرها فقال:
أخاف وراء القبر إن لم يعافني
أشد من القبر التهاباً وأضيقا
إذا جاءني يوم القيامة قائد
عنيف وسواق يسوق الفرزدقا
لقد خاب من أولاد آدم من مشى
إلى النار مغلول القلادة أزرقا(1)
(المصنف 7/246)
عن الأصمعي عن سلام بن مسكين قال: قيل للفرزدق: علام تقذف المحصنات؟! فقال: والله لله أحب إلي من عيني هاتين أتراه معذبي بعدها؟! (حسن الظن ص101)
قال المعتمر بن سليمان التيمي: قال أبي حين حضرته الوفاة: يا معتمر حدثني بالرخص لعلي ألقى الله وأنا حسن الظن به. (حسن الظن ص40 والحلية 3/31)
عن حصين عن إبراهيم قال: كانوا يستحبون أن يلقنوا العبد محاسن عمله عند موته لكي يحسن ظنه بربه. (حسن الظن ص40)
__________
(1) وهذه رواية أخرى:
لما ماتت النوار امرأة الفرزدق ودفنت وقف الفرزدق على قبرها وأنشد بحضور الحسن رحمه الله هذه الأبيات قال: [فذكرها وزاد]:
يساق إلى نار الجحيم مسربلاً سرابيل قطران لباساً محرقا
إذا شربوا فيها الصديد رأيتهم يذوبون من حر الصديد تمزقا
فبكى الحسن رحمة الله عليه. (التخويف من النار ص121)(1/78)
عن سلام عن قتادة في قوله تعالى (إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ)(1) قال: غفر لهم الذنب العظيم وشكر لهم [العمل] اليسير. (فضيلة الشكر ص34)
__________
(1) قال تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ؛ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ؛ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ؛ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) [فاطر 32-35].(1/79)
قرأ الحسن هذه الآية: ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم)(1) فقال: أنفس هو خلقها وأموال هو رزقها(2)
__________
(1) التوبة (111).
(2) أي وهو مع ذلك يشتريهما، فضلاً منه وتكرماً ورحمة؛ بل هو تعالى يقبلهما ممن يبذلهما لوجهه بإخلاص ولو كان فيهما من العيوب ما فيهما، بشرط أن لا يكون البذل معيباً؛ فما أحسن قول ابن القيم في (الفوائد): (فاشتر نفسك فالسوق قائمة والثمن موجود ---)؛ وما أحسن قوله في (الفوائد) أيضاً: (سبحان الله، في النفس : كِبر إبليس وحسد قابيل وعتو عاد وطغيان ثمود وجرأة نمرود واستطالة فرعون، وبغي قارون، وقحة هامان وهوى بلعام وحيل أصحاب السبت، وتمرد الوليد، وجهل أبي جهل ؛ وفيها من أخلاق البهائم : حرص الغراب، وشره الكلب، ورعونة الطاووس، ودناءة الجعل، وعقوق الضب، وحقد الجمل، ووثوب الفهد، وصولة الأسد، وفسوق الفأرة، وخبث الحية، وعبث القرد، وجمع النملة، ومكر الثعلب، وخفة الفراش، ونوم الضبع؛ غير أن الرياضة والمجاهدة تذهب ذلك؛ فمن استرسل مع طبعه فهو من هذا الجند، ولا تصلح سلعته لعقدِ ( إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ [وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ]) [التوبة 111-112، ومابين الحاصرتين أنا زدته]؛ فما اشترى إلا سلعة هذبها الإيمان فخرجت من طبعها إلى بلد سكانه التائبون العابدون؛ سلم المبيع قبل أن يتلف في يدك فلا يقبله المشتري، قد علم المشتري بعيب السلعة قبل أن يشتريها، فسلمها ولك الأمان من الرد ؛ قدر السلعة يعرف بقدر مشتريها والثمن المبذول فيها والمنادي عليها، فإذا كان المشتري عظيماً والثمن خطيراً والمنادي جليلاً كانت السلعة نفيسة .
يا بائعاً نفسه بيع الهوان لو استرجعت ذا البيع قبل الفوت لم تخب
وبائعاً طيب عيش ما له خطر ** بطيف عيش من الآمال منتهب
غبنت والله غبناً فاحشاً ولدى * * *يوم التغابن تلقى غاية الحرب
ووارداً صفو عيش كله كدر * * * أمامك الورد حقاً ليس بالكذب
وحاطب الليل في الظلماء منتصباً* * لكل داهية تدني من العطب
ترجو الشفاء بأحداق بها مرض *فهل سمعت ببرء جاء من عطب
ومفنياً نفسه في أثر أقبحهم * ** *وصفا للطخ جمال فيه مستلب
وواهباً نفسه من مثل ذا سفها**لو كنت تعرف قدر النفس لم تهب
شاب الصبا والتصابي بعد لم يشب*وضاع وقتك بين اللهو واللعب
وشمس عمرك قد حان الغروب لها*والفيء في الأفق الشرقي لم يغب
وفاز بالوصل من قد جدَّ وانقشعت*عن أفقه ظلمات الليل والسحب
كم ذا التخلف والدنيا قد ارتحلت*ورسل ربك قد وافتك في الطلب)
إلى أن قال:
(ما في الخيام أخو وجد يريحك إن*بثثته بعضَ شأن الحب فاغترب
وأسر في غمرات الليل مهتدياً * * بنفحة الطيب لا بالعود والحطب
وعاد أخي جبن ومعجزة * * * وحارب النفس لا تلقيك في الحرَب
وخذ لنفسك نوراً تستضيء به* يوم اقتسام الورى الأنوار بالرتب)
إلى أن قال: يا من هو من أرباب الخبرة، هل عرفت قيمة نفسك ؟ إنما خلقت الأكوان كلها لك ؛ يا من غذي بلبان البر وقلب بأيدي الألطاف، كل الأشياء شجرة وأنت الثمرة، وصورة وأنت المعنى، وصدف وأنت الدر، ومخيض وأنت الزبْد ----) إلى آخر كلامه رحمه الله.
وقال في موضع آخر من (الفوائد):
إذا كان شيء لا يساوي جميعه * جناح بعوض عند من صرتَ عبدَه
ويملك جزءٌ منه كلَّك ما الذي * * * يكون على ذا الحال قدرُك عنده
وبعت به نفساً قد استامها بما * * * لديه من الحسنى وقد زال وده(1/80)
!. (المصنف 7/221)
قال عبيد الله بن شميط: سمعت أبي ذكر المعاصي فأكبرها وأعظمها ثم قال: وإن كان كل ما عصيت به عظيماً فإنه في سعة رحمتك صغير. (حسن الظن ص64)
قال الشعبي: لقد سمعت من عبد الملك بن مروان كلاماً على أعواده هذه حسدته عليه سمعته يقول: اللهم إن ذنوبي عظمت فجلت عن الصفة وإنها صغيرة في جنب عفوك فاعف عني. (حسن الظن ص106)
قال أبو عمران الجوني: كنت في جيش بالشام فجمع بيني وبين القاضي أمير الجند فحدثني القاضي عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: يجيء المؤمن يوم القيامة قد أخذ صاحب الدَّين فيقول: ديني على هذا، فيقول الله: أنا أحق من قضى عن عبدي، قال: فيرضي هذا من دينه ويعفو لهذا. (حسن الظن ص109)
لقي مالك بن دينار أبان بن أبي عياش فقال مالك: إلى كم تحدث الناس بالرخص؟! فقال: يا أبا يحيى إني أرجو أن ترى من عفو [الله] يوم القيامة ما تخرق له كساءك هذا من الفرح. (حسن الظن ص96)
قال عبد الله بن صالح العجلي: أبطأ عن علي بن الحسين أخ له كان يأنس به فسأله عن إبطائه فأخبره أنه مشغول بموت ابن له وأن ابنه كان من المسرفين على نفسه فقال له علي بن الحسين: إن من وراء ابنك ثلاث خلال: أما أولها فشهادة إلا إله إلا الله، وأما الثانية فشفاعة رسول الله، وأما الثالثة فرحمة الله التي وسعت كل شيء. (حسن الظن ص103)
قال مورق: كان رجل يعمل السيئات وإنه خرج إلى البرية فجمع تراباً فاضطجع عليه مستلقياً فقال: يا رب اغفر لي ذنوبي فقال: إن هذا ليعرف أن له رباً يغفر ويعذب فغفر له. (حسن الظن ص103)
قال مغيث بن سمي: بينما رجل خبيث فتذكر يوماً إذ قال: اللهم غفرانك اللهم غفرانك فغفر له. (حسن الظن ص103)
قال أبو عثمان النهدي: إنما جعلت الرحمة للذنوب. (حسن الظن ص113)
عن مغيرة عن إبراهيم قال: إن أحق من استُغفر له المذنب. (حسن الظن ص113)(1/81)
قال محمد بن المنكدر: بينا أنا ذات ليلة أصلي إذ قلت: لو علمت أحب الأعمال إلى الله وأرضاها له أجهدت فيه نفسي فغلبتني عيناي فأتيت في منامي فقيل لي: إنك تريد أمرا لا يكون، إن الله يحب أن يغفر. (حسن الظن ص113)
قال مطر الوراق: تنجزوا موعود الله بطاعة الله فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين. (الزهد الكبير ص297)
قال الحارث بن سويد قال: ما زالت الشفاعة بالناس يوم القيامة حتى إن إبليس الأبالس ليتطاول رجاء أن تناله. (زهد هناد 1/142)
عن سفيان عن مسعر عن عون بن عبد الله (وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا)(1) قال: إني لأرجو أن لا يعيدكم الله إليها بعد أن أنقذكم منها. (حسن الظن ص117)
عن يحيى بن معين حدثنا سعيد بن عامر قال: بلغني عن ابن عون أنه قرأ (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)(2) فقال: إني لأرجو أن لا يعذبكم. (حسن الظن ص117)
عن محمد بن جابر قال: سمعت محمد بن المنكدر في قول [الله] (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ)(3) قال: هل جزاء من أنعمت عليه بالإسلام إلا الجنة، هل جزاء من قال لا إله إلا الله إلا الجنة. (حسن الظن ص121)
عن غالب القطان عن بكر بن عبد الله المزني في قوله (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ)(4) قال: ثُنْيا(5) من ربنا على جميع القرآن. (حسن الظن ص121)
__________
(1) آل عمران (103).
(2) الأنبياء (107).
(3) الرحمن (60).
(4) النساء (48).
(5) أي استثناء.(1/82)
عن سلام عن معاوية بن قرة قال: ما يسرني بهذه الآية الدنيا وما فيها، قول [الله] (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)(1) الآية(2)؛ ألا ترى أنه ليس فيهم خير؟! (حسن الظن ص122)
قال بلالٌ بن سعد: إنَّ لكم ربّاً ليسَ إلى عقابِ أحدِكم بسريعٍ، يُقيلُ العثرةَ، ويقبلُ التوبةَ، ويقبلُ من المقْبِلِ، ويعطفُ على المدبِر. (5/223)
قال حبيب بن أبي ثابت: كان يقال: ائتوا اللهَ في بيته(3) فإنه لمْ يُؤتَ مثلُه في بيتِه، ولا أحد أعرف بالحق(4) من الله. (5/61)
قال ابن أبي الدنيا: حدثني علي بن الجعد عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن محمد بن المنكدر قال: كان عمر بن عبد العزيز يبغض الحجاج فنفس عليه بكلمة قالها عند الموت: اللهم اغفر لي فإنهم زعموا أنك لا تفعل؛ فحدثني غير علي بن الجعد أن ذلك بلغ الحسن البصري فقال: أقالها؟! قالوا: نعم، قال: عسى. (حسن الظن ص107 والبداية والنهاية 9/138)
عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: ما حسدت الحجاج عدو الله على شيء حسدي إياه على حبه القرآن وإعطائه أهله عليه وقوله حين حضرته الوفاة: اللهم اغفر لي فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل. (البداية والنهاية 9/138)
__________
(1) قال تعالى: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) [المدثر 42-47].
(2) لو قال: (الآيات) لكان أجود، ويظهر أن الإختصار بهذه الكيفية من عمل بعض رواة الأثر أو النسخة.
(3) يعني المسجد الحرام أو كل مسجد.
(4) ومن ذلك حق الوافدين إليه الداخلين إلى بيوته في الأرض وهي المساجد.(1/83)
قال سفيان بن عيينة: صلى محمد بن المنكدر على رجل من أهل المدينة كان يؤْبَن بشر، وقال: إني لأستحيي من أن يعلم الله من قلبي أني ظننت أن رحمته عجزت عنه(1). (حسن الظن ص101 والحلية 3/148)
وقف الحسن على قبر وكيع بن أبي الأسود فقال: اللهم ارحم وكيعاً فإن رحمتك لن تعجز عن وكيع(2). (حسن الظن بالله ص101)
جاء حبيب أبو محمد إلى خشبة ابن برجان وهو مصلوب فجعل يدعو له ويترحم عليه فقيل له: تدعو لابن برجان؟! قال: فلمن أدعو للحسن وابن سيرين؟! (حسن الظن ص113)
قال الحسن: إن الله لا يجازي عبده بذنوبه؛ والله ما جازى الله عبداً قط بالخير والشر إلا هلك؛ ولكن الله إذا أراد بعبد خيراً أضعف له الحسنات وألقى عنه السيئات. (الشعب 1/254)
قال الحسن في قول الله تعالى (مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ)(3) قال: ذاك لمن أراد الله هوانه؛ فأما من أراد الله كرامته فإنه يتجاوز عن سيئاته في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون. (المصنف 7/237 والزهد لهناد 1/248 والشعب 7/153)
قال الحسن: انظروا إلى هذا الكرم والجود(4)
__________
(1) لفظ (الحلية) هو: صلى ابن المنكدر على رجل فقيل له: تصلي على فلان؟! فقال: إني أستحي من الله أن يعلم مني أن رحمته تعجز عن أحد من خلقه.
(2) انظر ما تقدم ذكره في حق وكيع بن أبي الأسود في باب التكبر والعجب.
(3) النساء (123).
(4) أي في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) [البروج 10]؛ قال ابن القيم في (التبيان في أقسام القرآن) (ص57-59) في تفسير معنى القسم في سورة (البروج) بعد كلام ذكره:
(والأحسن أن يكون هذا القسم مستغنياً عن الجواب لأن القصد التنبيه على المقسم به وأنه من آيات الرب العظيمة ويبعد أن يكون الجواب قتل أصحاب الأخدود الذين فتنوا أولياءه وعذبوهم بالنار ذات الوقود؛ ثم وصف حالهم القبيحة بأنهم قعود على جانب الأخدود شاهدين ما يجري على عباد الله تعالى وأوليائه عياناً ولا تأخذهم بهم رأفة ولا رحمة ولا يعيبون عليهم ديناً سوى إيمانهم بالله العزيز الحميد الذي له ملك السماوات والأرض وهذا الوصف يقتضي إكرامهم وتعظيمهم ومحبتهم فعاملوهم بضد ما يقتضي أن يعاملوا به؛ وهذا شأن أعداء الله دائماً ينقمون على أوليائه ما ينبغي أن يحَبّوا ويكرموا لأجله، كما قال تعالى (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ) [المائدة 59]؛ وكذلك اللوطية نقموا من عباد الله تنزيههم عن مثل فعلهم فقالوا: (أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) [الأعراف 82].
وكذلك أهل الإشراك ينقمون من الموحدين تجريدهم التوحيد وإخلاص الدعوة والعبودية لله وحده.
وكذلك أهل البدع ينقمون من أهل السنة تجريد متابعتها وترك ما خالفها، وكذلك المعطلة ينقمون من أهل الاثبات إثباتهم لله صفات كماله ونعوت جلاله.
وكذلك الرافضة ينقمون على أهل السنة محبتهم للصحابة جميعهم وترضيهم عنهم وولايتهم إياهم، وتقديم من قدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم وتنزيلهم منازلهم التي أنزلهم الله ورسوله بها.
وكذلك أهل الرأي المحدث ينقمون على أهل الحديث وحزب الرسول أخذهم بحديثه وتركهم ما خالفه وكل هؤلاء لهم نصيب وفيهم شبه من أصحاب الأخدود وبينهم وبينهم نسب قريب أو بعيد.
ثم أخبر سبحانه أنه أعد لهم عذاب جهنم وعذاب الحريق حيث لم يتوبوا، وأنهم لو تابوا بعد أن فتنوا أولياءه وعذبوهم بالنار لغفر لهم ولم يعذبهم وهذا غاية الكرم والجود؛ قال الحسن: انظروا إلى هذا الكرم والجود، يقتلون أولياءه ويفتنونهم وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة، انظروا إلى كرم الرب تعالى يدعوهم إلى التوبة وقد فتنوا أولياءه فحرقوهم بالنار؛ فلا ييأس العبد من مغفرته وعفوه ولو كان منه ما كان، فلا عداوة أعظم من هذه العداوة، ولا أكفر ممن حرق بالنار من آمن بالله وحده وعبده وحده ومع هذا فلو تابوا لم يعذبهم وألحقهم بأوليائه؛ ثم ذكر سبحانه جزاء أوليائه المؤمنين ثم ذكر شدة بطشه وأنه لا يعجزه شيء فإنه هو المبدىء المعيد ومن كان كذلك فلا أشد من بطشه وهو مع ذلك الغفور الودود، يغفر لمن تاب إليه ويوده ويحبه فهو سبحانه الموصوف بشدة البطش ومع ذلك هو الغفور الودود المتودد إلى عباده بنعمه الذي يود من تاب إليه وأقبل عليه وهو الودود أيضا أي المحبوب؛ قال البخاري في (صحيحه): (الودود الحبيب)؛ والتحقيق أن اللفظ يدل على الأمرين على كونه وادا لأوليائه ومودودا لهم فأحدهما بالوضع والآخر باللزوم فهو الحبيب المحب لأوليائه يحبهم ويحبونه؛ وقال شعيب عليه السلام: (إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ) [هود 90]؛ وما ألطف اقتران اسم الودود بالرحيم وبالغفور، فإن الرجل قد يغفر لمن أساء إليه ولا يحبه؛ وكذلك قد يرحم من لا يحب؛ والرب تعالى يغفر لعبده إذا تاب إليه، ويرحمه ويحبه، مع ذلك، فإنه يحب التوابين وإذا تاب إليه عبده أحبه ولو كان منه ما كان)؛ إلى آخر كلامه في تفسير هذه السورة العظيمة؛ وأنا استرسلت في نقل هذا الكلام وإن ضعف ارتباط أكثره بما نحن بصدده، لأني أرى أن قوة الكلام المنقول تغني في كثير من الأحيان عن قوة مناسبته للمقام، وأحسب أن حسن معناه يخفف كثيراً من ثقل طوله؛ نفعني الله وإياك بما نقول وننقل وبما نسمع ونجمع، اللهم آمين.(1/84)
: يقتلون أولياءه ويفتنونهم وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة! أُنظروا إلى كرم الرب تعالى يدعوهم إلى التوبة وقد فتنوا أولياءه فحرقوهم بالنار! فلا ييأس العبد من مغفرته وعفوه ولو كان منه ما كان فلا عداوة أعظم من هذه العداوة ولا أكفر ممن حرق بالنار من آمن بالله وحده وعبده وحده ومع هذا فلو تابوا لم يعذبهم وألحقهم بأوليائه. (التبيان في أقسام القرآن ص58)
قيل للحسن: كيف يعفو عنهم وقد سلط عليهم أعداءهم(1) حتى قتلوا منهم من قتلوا ومثلوا بهم ونالوا منهم ما نالوه؟ فقال: لولا عفوه عنهم لاستأصلهم، ولكن بعفوه عنهم دفع عنهم عدوهم بعد أن كانوا مجمعين على استئصالهم. (زاد المعاد 3/226 ومختصر زاد المعاد للإمام محمد بن عبد الوهاب ص280)
قال الحسن: كانوا يرجون في حمّى ليلة كفارة لما سلف من الذنوب. (الزهد ص280 والمرض والكفارات ص40)
__________
(1) أي في قوله تعالى (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران 152]؛ وذلك بشأن معركة أحد؛ وما أحسن وأنفع كلام ابن القيم في (زاد المعاد) على معركة أحد وتفسيره للآيات الواردة بشأنها، واستنباطه للعبر والعظات من الخسارة فيها بعد النصر العظيم في أولها؛ فراجعه تنتفع به بإذن الله.(1/85)
دعي الحسن إلى طعام فنظر إلى فرقد وعليه جبة صوف(1) فقال: يا فرقد لو شهدتَ الموقف لخرَّقتَ ثيابَك(2) مما ترى من عفو الله تعالى(3)
__________
(1) وكأن الحسن رأى أنه قد غلب على حال فرقد شدة الخوف والحزن، غلبة ضعُف معها رجاؤه.
(2) أي فرحاً.
(3) وتكميلاً للآثار التي أوردتها في هذه الأبواب الأربعة أنقل هنا ما انتقيته من كتاب (حسن الظن بالله) لابن أبي الدنيا، مما لم يتقدم ذكره:
عن خلف بن تميم قال قلت لعلي بن بكار: ما حسن الظن بالله؟ قال لا يجمعك والفجار في دار واحدة. ص25
عن سليمان بن الحكم بن عوانة أن رجلاً دعا بعرفات فقال: لا تعذبنا بالنار بعد أن أسكنت توحيدك قلوبنا، قال: ثم بكى وقال: ما إخالك تفعل بعفوك، ثم بكى وقال: ولئن فعلت فبذنوبنا لتجمعن [لعلها لا تجمعن] بيننا وبين قوم طال ما عاديناهم فيك. ص25
قال أبو حفص الصيرفي: بلغني أن عمر بن ذر كان إذا تلا: (وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ) [النحل 38] قال: ونحن نقسم بالله جهد أيماننا ليبعثن الله من يموت؛ أتراك تجمع بين القسمين في دار واحدة؛ وبكى أبو حفص بكاء شديداً. ص27
عن منصور بن الحجاج قال: قال عمر بن ذر إن لي في ربي جل وعز أملين: أملاً أن لا يعذبني بالنار، فإن عذبني لم يخلدني فيها مع من أشرك به. ص28
حدثني أحمد بن محمد بن البراء البجلي قال أخبرت أن عمر بن ذر لما حج اجتمع الناس إليه فقالوا: يا أبا ذر ادعُ بدعوة، فقال: نعم، اللهم ارحم قوماً لم يزالوا مذ خلقتهم على مثل ما كانت عليه السحرة يوم رحمتهم؛ [قلت: يعني التوحيد]. ص27
قال ابن أبي الدنيا: حدثنا أبو جعفر المؤدب أحمد بن بشر بن الحارث في جنازة بشر بن الحارث قال: حدثنا عطاء بن المبارك قال: قال بعض العُبّاد: لما علمت أن ربي يلي محاسبتي زال عني حزني لأن الكريم إذا حاسب عبده تفضل. ص40
قال ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن يحيى بن أبي حاتم الأزدي قال: سألت عبد الله بن داود عن التوكل؟ فقال: أرى أن التوكل حسن الظن. ص40
قال ابن أبي الدنيا: حدثني سلمة بن شبيب حدثنا بن أبي الحواري قال سمعت أبا سليمان الداراني يقول: من حسن ظنه بالله ثم لا يخاف الله فهو مخدوع. ص40
عن محمد بن أبان عن حميد قال: كان لي ابن أخت مرهق فمرض فأرسلت إليَّ أمه فأتيتها فإذا هي عند رأسه تبكي فقال: يا خالي ما يبكيها؟ قلت: ما تعلم منك، قال: أليس إنما ترحمني؟ قلت: بلى قال: فإن [الله] أرحم بي منها---. ص45
عن إدريس بن عبد الله المروزي قال: مرض أعرابي فقيل له: إنك تموت، [قال] وأين أذهب؟ قالوا: إلى [الله] قال فما كراهتي أن أذهب إلى من لا أرى الخير إلا منه. ص46
قال ابن أبي الدنيا: حدثني مفضل بن غسان عن أبيه قال: احتضر النضر بن عبد الله بن حازم فقيل له: أبشر، فقال: والله ما أبالي أمت أم ذُهب بي إلى الأبلة؛ والله ما أخرج من سلطان ربي إلى غيره ولا نقلني من حال قط إلى حال إلا كان ما نقلني إليه خيراً مما نقلني عنه. ص46
عن الأعمش عن أبي سعيد عن أبي الكنود قال: مر عبد الله على قاص يذكر النار فقال: يا مذكِّر لمَ تقنط الناس؟! ثم قرأ ([قُلْ] يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ) [الزمر 53]. ص61
عن إسرائيل عن ثوير عن أبيه عن علي قال: أحب آية في القرآن إليَّ: (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً) [النساء 48]. ص62
عن عون بن عبد الله قال: قال عبد الله: ليغفرن [الله] يوم القيامة مغفرة لم تخطر على قلب بشر. ص75
عن يونس بن عبيد عن محمد بن سيرين قال: قال علي عليه السلام: أي آية في القرآن أوسع؟ فجعلوا يذكرون آياً من القرآن (وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً) [النساء 110]، أو نحوها، فقال علي: ما في القرآن آية أوسع من (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر 53]. ص77
عن جرير عن منصور عن الشعبي عن شتير قال: سمعت عبد الله يقول: إن أكبر آية في القرآن فرجاً آية في سورة الغرف ((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ) [الزمر 53]؛ فقال مسروق: صدقت. ص79
عن إبراهيم بن الأشعث قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: لو أدخلني الله النار فصرت فيها ما أيسته. ص95
عن الفضيل بن عياض عن سليمان عن خيثمة قال: قال عبد الله: والذي لا إله غيره ما أعطيَ عبدٌ مؤمنٌ شيئاً خيراً من حسن الظن بالله؛ والذي لا إله غيره لا يحسن عبد بالله الظن إلا أعطاه ظنه ذلك بأن الخير في يده. ص96
عن عاصم بن بهدلة قال: لا تذهب الدنيا حتى يقوم البكاؤون: باك يبكي على دينه، وباك يبكي على دنياه؛ فأحسنهم حالاً أحسنهم ظناً بالله. ص96
عن بكر بن سليمان الصواف قال: دخلنا على مالك بن أنس في العشية التي قبض فيها؛ فقلنا: يا أبا عبد الله كيف تجدك؟ قال: ما أدري ما أقول لكم، إلا أنكم ستعاينون غداً من عفو الله ما لم يكن لكم في حساب، قال: ثم ما برحنا حتى أغمضناه. ص96
عن شهر بن حوشب قال: لما أري إبراهيم عليه السلام ملكوت السماوات والأرض رأى رجلاً يعصي الله، فدعا عليه، ثم آخر، ثم آخر، فدعا عليهم، فهلكوا؛ فنودي: يا صاحب الدعوة إني قد خلقت ابن آدم لثلاث: أخرج منه ذرية يعبدوني وتلا (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) [الروم 19]؛ أو يتوب إليّ ما بينه وبين الهرم فأتوب عليه، ولا تأخذني عجلة العباد؛ أو يتمادى فالنار من ورائه. ص97
قال ابن أبي الدنيا: حدثني الحسين بن عبد الرحمن قال ابن السماك: --- ولقد فكرت في طاعة المطيعين فوجدت رحمتك متقدمة لطاعتهم، ولولا ذلك لما وصلوا إليها، فنسألك بالرحمة المتقدمة للمطيعين قبل طاعتهم لما مننت بها على العاصين بعد معصيتهم. ص98
عن خزيمة أبي محمد العابد قال: كان عمر بن ذر يقول: اللهم ارحم قوماً أطاعوك في أحب طاعتك إليك: الإيمان بك والتوكل عليك، وارحم قوماً أطاعوك في ترك أبغض المعاصي إليك: الشرك بك والافتراء عليك، قال: فكان بعضهم يقول: إن كان كل ما عصي الله به عظيماً فإنه في سعة رحمته صغير. ص98
عن صالح المري عن شيخ من أهل البصرة قال: قيل لعلي بن أبي طالب عليه السلام [كذا]: إن ها هنا رجلاً قد خولط ولم يكن بحاله بأس فظننا أنه أذنب ذنباً يرى في نفسه أن ذلك الذنب لا يغفر له فصار إلى ما ترى، قال: عليَّ به فأدخل عليه، فقال: اسمع ما أقول لك، إن الذي أدرك منك عدوُّك بقنوطك من رحمة الله أعظم من ذنبك الذي أذنبت، فقال الرجل: هاه، فأفاق. ص100
عن زهير بن معاوية قال: سمعت أبا شيبة الزبيدي يقول: خِفْت نفسي ورجوت ربي، فأنا أحب أن أفارق من أخاف إلى من أرجوه. ص100
قال ابن أبي الدنيا: حدثنا عبد الله بن محمد بن إسماعيل المقرئ قال: لما احتضر بشر بن منصور السليمي ضحك وقال: أخرج من بين ظهراني من أخاف فتنته وأقدم على من لا أشك في رحمته؛ وأخبرني عبد الله قال: قيل له: أوص بدَينك قال: أنا أرجو ربي لذنبي، لا أرجوه لدَيني، فلما مات قضى عنه دينه بعض إخوانه. ص100
قال ابن أبي الدنيا: أنشدني أحمد بن العباس النمري:
وإني لأرجو اللهَ حتى كأنني أرى بجميل الظن ما الله صانع
ص100
عن داود بن أبي هند قال: تمثل معاوية عند الموت:
هو الموت لا منجا من الموت والذي نحاذر بعد الموت أدهى وأفظع
ثم قال: اللهم فأقل العثرة وعاف من الزلة وجد بحلمك على جهل من لم يرج غيرك ولم يثق إلا بك، فإنك واسع المغفرة، ليس لذي خطيئة مهرب إلا أنت؛ قال: فبلغني أن هذا القول بلغ سعيد بن المسيب فقال: لقد رغب إلى من لا مرغوب إليه مثله، وإني لأرجو ألا يعذبه. ص106
عن أبي المنذر الكوفي أن معاوية جعل يقول وهو في الموت: إن تناقش يكن نقاشك يا رب عذاباً لا طوق لي بالعذاب، أو تجاوز فأنت رب رحيم عن مسيء ذنوبه كالتراب. ص106
قال ابن أبي الدنيا: أخبرنا أبو علي الحسين بن عبد الرحمن أنشدني أبو عمران السلمي:
وإني لآتي الذنب أعرف قدره******وأعلم أن الله يعفو ويغفر
لئن عظَّم الناسُ الذنوب فإنها**وإن عظمت في رحمة الله تصغر
ص106
عن عبد الواحد بن زيد قال: قلت لزياد النميري: ما منتهى الخوف؟ قال: إجلال الله عن مقام السوءات، قال: قلت: فما منتهى الرجاء؟ قال: تأميل الله على كل الحالات. ص111
قال أبو محمد أزهر: دخلنا على جعفر بن سليمان نعوده في مرضه فقال: ما أكره لقاء ربي. ص113
عن عبد الله بن الفرج قال: قال فتح الموصلي: كبرت عليَّ خطاي وكثرت حتى لقد آيستني من عظيم عفو الله؛ ثم قال: وأنّى آيس منك وأنت الذي جدت على السحرة بعد أن غدوا كفرة فجرة؟! وأنَّى آيس منك وأنت ولي كل نعمة وخير؟! وأنى آيس منك وأنت المغيث عند الكرب؟! فلم يزل يقول: وأنى آيس منك حتى سقط مغشياً عليه. ص114
عن سفيان بن عيينة عن داود بن شابور: قال لقمان لابنه: يا بني خف الله خوفاً يحول بينك وبين الرجاء، وارجه رجاء يحول بينك وبين الخوف؛ قال: فقال: أي أبه إنما لي قلب واحد إذا ألزمته الخوف شغله عن الرجاء، وإذا الزمته الرجاء شغله عن الخوف!! قال: أي بني إن المؤمن له قلب كقلبين يرجو الله بأحدهما ويخافه بالآخر. ص115
قال ابن أبي الدنيا: أنشدني محمود الوراق:
حسن ظني بحسن عفوك يا*****رب جميل وأنت مالك أمري
صنت سري عن القرابة والأهل* **جميعاً وكنت موضع سري
ثقة بالذي لديك من الستر**********فلا تخزني يوم نشري
يوم هتك الستور عن حجب الغيب****فلا تهتكن للناس ستري
لقّنّي حجتي وإن لم تكن يا رب*** ***لي حجة ولا وجه عذر
ص116
عن عباد بن العوام عن سفيان الثوري (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ) [النحل 99]، قال: ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر. ص117
عن يوسف بن أسباط قال: سمعت سفيان الثوري يقول: (وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [البقرة 195] قال: أحسنوا بالله الظن. ص117
عن قيس بن الربيع قال: سمعت زيد بن علي يقول: إنما سمى نفسه المؤمن لأنه آمنهم من العذاب. ص117
انتهى النقل من كتاب (حسن الظن) وأردفها بهذه الآثار الثلاثة الداخلة في باب حسن الظن أيضاً، وهي من كتاب (الشكر) لابن أبي الدنيا:
عن القاسم بن عثمان الدمشقي قال: قلت ليمان بن معاوية الأسود العابد: رأيت إبراهيم بن أدهم؟ فضحك وقال: وأكبر من إبراهيم، قلت: من؟ قال: سفيان الثوري، ثم قال: سمعت أخي سفيان بن سعيد الثوري يقول: ما كان الله لينعم على عبد في الدنيا فيفضحه في الآخرة وحق على المنعم أن يتم على من أنعم عليه. (الشكر ص49)
قلت: إن صح هذا الخبر عن سفيان فلا شك أنه يريد به نعمة التوبة والطاعة وستر الذنوب ونحو ذلك؛ وأما نعمة المال والصحة ونحوهما فليست مرادة له هنا قطعاً.
عن أحمد بن أبي الحواري قال: قلت لأبي معاوية الأسود: يا أبا معاوية ما أعظم النعم علينا في التوحيد نسأل الله أن لا يسلبناه؟ قال: يحق على المنعم أن يتم على من أنعم عليه. (الشكر ص49)
عن أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت محمد بن إسحاق من أهل عكا قال: سمعت أبا معاوية الأسود اليمان العابد يقول: الله أكرم من أن ينعم بنعمة إلا أتمها أو يستعمل بعمل إلا قبله. (الشكر ص49)(1/86)
. (3/47)
شُكْرُ النعمة
مر محمد بن المنكدر بشاب يقاوِمُ امرأةً فقال: يا بني ما هذا جزاء نعمةِ الله عز وجل عليك. (الشكر 85)
قال عامر الشعبي: الشكر نصف الإيمان، والصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله. (الشكر 57 طبعة السواس)
قال طاوس: إذا أنعم الله عز وجل على عبد نعمةً ثم جعل إليه حوائج الناس، فإن صبر واحتمل، وإلا عرَّض تلك النعمة للزوال. (اصطناع المعروف ص109 وقضاء الحوائج 50 والجواهر المجموعة 387)
قال الحسن: خصلتان من العبد إذا صلحتا صلح ما سواهما: الركون إلى الظلمة والطغيان في النعمة، قال الله عز وجل: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ)(1)، وقال الله عز وجل: (وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي)(2). (2/158)
قال الحسن: نعم الله أكثر من أن تشكر إلا ما أعان عليه؛ وذنوب ابن آدم أكثر من أن يَسْلمَ منها إلا ما عفا الله عنه. (الكامل 1/116)
قال سليمان التيمي: إن الله أنعم على العباد على قدره وكلفهم الشكر على قدرهم. (الشكر ص7)
قال بكر بن عبد الله المزني: ما قال عبد: الحمد لله، إلا وجبت عليه نعمة بقوله: الحمد لله، قال: فما جزاء تلك النعمة؟ قال: جزاؤها أن تقول: الحمد لله، فجاءت نعمة أخرى، فلا تنفذ نعم الله عز وجل. (الشكر ص35 و ص7)
قال وهب بن منبه: مكتوب في حكمة آل داود: العافية الملك الخفي. (الشكر ص43)
عن ابن أبي نجيح عن مجاهد (إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً)(3) قال: لم يأكل شيئاً قط إلا حمد الله ولم يشرب شرابا قط إلا حمد الله ولم يمس شيئا قط إلا حمد الله عليه ولم يبطش بشيء قط إلا حمد الله عليه فأثنى عليه انه كان عبداً شكوراً. (الشكر ص70)
__________
(1) هود (113).
(2) طه (81).
(3) الإسراء (3)، والموصوف هو نبي الله نوح صلى الله عليه وسلم.(1/87)
عن هشام بن سعد سمعت محمد بن كعب قال: كان نوح عليه السلام إذا أكل قال: الحمد لله وإذا شرب قال: الحمد لله وإذا ركب قال: الحمد لله فسماه الله عبدا شكوراً. (الشكر ص70)
قال رجل من قيس يكنى أبا عبد الله: بينا أنا ذات ليلة عند الحسن فقام من الليل يصلي فلم يزل يردد هذه الآية حتى أسحر: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا)(1) فلما أصبح قلنا: يا أبا سعيد لم تكن تجاوز هذه الآية سائر الليلة! قال: إن فيها معتبراً، ما ترفع طرفاً ولا ترد إلا وقع على نعمة، وما لا نعلم من نعم الله أكثر. (التهجد ص159)
قال الحسن: أكثروا ذكر هذه النعم، فإن ذكرها شكر. (رك ص503 والشعب 4/102 والشكر ص16 وعدة الصابرين ص98)
قال عمر بن عبد العزيز: ذكر النعم شكر. (الشكر 58 طبعة ياسين السواس وسنن سعيد بن منصور كما في الدر المنثور 6/363)
قال الحسن: قال داود عليه السلام: إلهي لو أن لكل شعرة مني لسانين يسبحانك الليل والنهار ما قضيتُ نعمةً من نعمك. (الشكر ص13 والمصنف 7/72 وشفاء العليل ص38)
قال شيبان: كان الحسن إذا جلس مجلساً يقول: لك الحمد بالإسلام ولك الحمد بالقرآن ولك الحمد بالأهل والمال بسطت رزقنا وأظهرت أمتنا وأحسنت معافاتنا ومن كل ما سألناك ربنا أعطيتنا فلك الحمد كثيراً كما تنعم كثيراً؛ أعطيتَ خيراً كثيراً، وصرفت شراً كثيراً فلوجهك الجليل الباقي الدائم الحمد، الحمد لله رب العالمين(2). (الشكر ص55 وعدة الصابرين ص116)
__________
(1) إبراهيم (34).
(2) أصلحت موضعين من هذا الأثر اعتماداً على طبعة ياسين السواس وعلى (عدة الصابرين)؛ وإليك رواية أخرى مقاربة لهذه:
عن عبد الواحد بن صفوان قال: سمعت الحسن إذا قعد في مجلسه قال: اللهم لك الحمد بما بسطت في رزقنا وأظهرت أمننا وأحسنت معافاتنا ومن كل ما سألناك من صالح أعطيتنا فلك الحمد بالإسلام ولك الحمد بالأهل والمال ولك الحمد باليقين والمعافاة. (الشكر ص68)(1/88)
عن عبد المؤمن بن عبيد الله السدوسي أبو عبيدة قال: كان الحسن يقول إذا ابتدأ حديثه: الحمد لله اللهم ربنا لك الحمد كما خلقتنا ورزقتنا وهديتنا وعلمتنا وأنقذتنا وفرجت عنا؛ لك الحمد بالاسلام والقرآن، ولك الحمد بالأهل والمال والمعافاة؛ كبتَّ(1) عدونا وبسطت رزقنا وأظهرت أمتنا(2) وجمعت فرقتنا وأحسنت معافاتَنا ومن كلِّ – واللهِ – ما سألناك ربنا أعطيتنا؛ فلك الحمد على ذلك حمداً كثيراً؛ لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث أو سر أو علانية أو خاصة أو عامة أو حي أو ميت أو شاهد أو غائب؛ لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت. (الشكر ص8)
عن يوسف الصباغ عن الحسن قال: قال موسى عليه السلام: يا رب كيف يستطيع آدم أن يؤدي شكر ما صنعته إليه؟! خلقته بيدك ونفخت فيه من روحك وأسكنته جنتك وأمرت الملائكة فسجدوا له؟! فقال: يا موسى علم أن ذلك مني فحمدني فكان ذلك شكراً لما صنعته له. (الشكر ص9)
قال علي بن زيد بن جدعان: كنا عند الحسن البصري وهو متوار في منزل أبي خليفة العبدي فجاء رجل فقال: يا أبا سعيد توفي الحجاج فخر ساجداً(3). (فضيلة الشكر ص56)
لما بشر الحسن بموت الحجاج سجد شكراً لله تعالى وكان مختفياً فظهر وقال: اللهم أَمَتَّهُ فأذهِبْ عنا سنته. (البداية والنهاية 9/138)
عن أيوب عن أبي قلابة قال: لا تضركم دنيا إذا شكرتموها. (الشكر ص24)
قال الحسن: كان أهل قرية أوسع الله عليهم حتى كانوا يستنجون بالخبز فبعث الله عليهم الجوع حتى أنهم كانوا يأكلون ما يقعدون به. (المصنف 7/236)
__________
(1) كبَتَ اللهُ العدوَّ: صرفه وأذله وردَّه بغيظه.
(2) لعلها (أمننا).
(3) قال العلاء بن المغيرة: بشرت الحسن بموت الحجاج وهو مختف فخر لله ساجداً. (عدة الصابرين ص112)(1/89)
ذكر روح بن قاسم أن رجلاً من أهله تنسك فقال: لا آكل الخبيص أو الفالوذج، لا أقوم بشكره؛ قال: فلقيت الحسن فقلت له في ذلك فقال الحسن: هذا انسان أحمق! وهل يقوم بشكر الماء البارد(1)؟!. (الشكر ص28 والزهد ص264 وانظر الطبقات 7/174)
قال الحسن في قوله تعالى (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ)(2): يعدد(3) المصائب وينسى النعم(4). (الشعب 4/153 و 7/217 والشكر 62 وعدة الصابرين ص99 وسنن سعيد بن منصور وتفاسير عبد بن حميد والطبري وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور 6/385 وانظر التبيان في أقسام القرآن ص51)
قال الحسن: بلغني أن الله عز وجل اذا أنعم على قوم سألهم الشكر، فإذا شكروه كان قادراً أن يزيدهم، فإذا كفروه كان قادراً أن يقلب نعمته عليهم عذاباً(5). (الشعب 4/127 وانظر الشكر ص11 و ص24 وعدة الصابرين ص99)
عن المبارك عن الحسن قال: إن الله ليمتع بالنعمة ما شاء فإذا لم يشكر قلبها عليهم عذاباً. (الشكر ص11)
__________
(1) قال البيهقي: هذا الذي قاله الحسن رحمه الله وإيانا في عجز الخلق عن القيام بشكر أدنى نعمة من نعم الله عز وجل صحيح، وقد استحب بعض أهل السلف الاقتصاد في اللباس والطعام علماً منهم بأنهم إذا كانوا عاجزين عن القيام بشكر أدنى نعمة من نعم الله عز وجل كانوا عن القيام بشكر النعم العظام أعجز. (الشعب 4/139 وانظر عدة الصابرين ص101)
(2) العاديات (6).
(3) وفي رواية (يذكر) بدل (يعدد)
(4) قال ابن أبي الدنيا: أنشدنا محمود الوراق في ذلك:
يا أيها الظالم في فعله******والظلم مردود على من ظلم
إلى متى أنت وحتى متى* *تشكو المصيبات وتنسى النعم
الشكر ص25
(5) قال بعض العلماء عقب هذا الكلام: ولهذا كانوا يسمون الشكرَ: الحافظَ، لأنه يحفظ النعم الموجودة، والجالب، لأنه يجلب النعم المفقودة.(1/90)
ذكر عبد الله بن شبرمة أن الحسن كان يقول إذا شرب الماء: الحمد لله الذي جعله عذباً فراتاً برحمته ولم يجعله ملحاً أجاجاً بذنوبنا]. (الشكر ص27 والشعب 4/107 وانظر الفتوحات الربانية لابن علان 5/235)
قال بكر بن عبد الله المزني: ينزل بالعبد الأمر فيدعو الله عز وجل فيصرفه عنه فيأتيه الشيطان فيُضْعِف شكرَه فيقول: إن الأمر كان أيسر مما تذهب اليه؛ قال: أوَلا يقول العبد: كان الأمر أشد مما أذهب إليه ولكن الله عز وجل صرفه عني. (الشكر ص13)
قال هشام بن سلمان: كنت قاعداً عند الحسن وبكر بن عبد الله المزني فقال له الحسن: هات يا أبا عبد الله دعوات لإخوانك؛ فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: والله ما أدري أي النعمتين أفضل علي وعليكم؟ أنعمة المسلك أم نعمة المخرج إذ أخرجه الله منا؟! قال الحسن: لقد قلتَ عجباً يا بكر، إنها لمن نعمه العظام. (الشكر 187 والشعب 4/114 وعدة الصابرين ص119)
قال الحسن: يا لها من نعمة تأكل بلذة ويخرج سرحاً؛ لقد كان ملك من ملوك هذه القرية يرى الغلام من غلمانه يأتي الحب فيكتاز(1) ثم يجرجر قائماً، فيقول: يا ليتني كنت مثلك! ما يشرب حتى يقطع عنقه العطش؛ فإذا شرب كان له في تلك الشربة موتات؛ يا لها من نعمة تأكل بلذة وتخرج سرحاً(2). (الشكر 189 والشعب 4/115 وعدة الصابرين ص119)
قال الحسن: ما أنعم الله على عبد نعمة إلا عليه تبعة إلا سليمان بن داود، فإن الله قال: (هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)(3). (رك ص59)
قال أبو حازم: كلُّ نعمةٍ لا تقرِّبُ من اللهِ عزَّ وجلَّ فهي بلية. (الشكر ص11 والحلية 3/230 وفضيلة الشكر 75)
قالَ أبو حازمٍ: اذا رأيتَ الله عز وجل يتابِعُ نِعَمَهُ عليكَ وأنتَ تعصيهِ فاحذرْهُ. (الشكر ص15 والحلية 3/244 وفضيلة الشكر ص59)
__________
(1) أي يتناول الماء بالكوز.
(2) يعني سهلاً.
(3) سورة ص (39).(1/91)
قال يزيد بن ميسرة – وكان قد قرأ الكتب - : أجد فيما أُنزل: أيحزن عبدي أن أقبض عنه الدنيا وذلك أقرب له مني؟! أوَيفرحُ عبدي أن أبسط له الدنيا وذلك أبعد له مني؟! ثم قرأ: (أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَّا يَشْعُرُونَ)(1). (ذم الدنيا 154)
قال رجلٌ لشريح: إني أعهَدُكَ وإنَّ شأنَكَ لشُوَينٌ! فقالَ شريح: أراك تعرفُ نعمةَ اللهِ على غيرك وتجهلها في نفسك(2). (4/36)
كان مطرف بن عبد الله يقول: لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن ابتلى فأصبر وكان أخوه أبو العلاء يزيد بن عبد الله يقول: اللهم أي ذلك كان خيراً فعجل لي(3). (2/212 وصف3/232)
عن عون بن عبد الله قال: قال بعض الفقهاء: إني روَّأْتُ في أمري(4) فلم أر خيراً لا شر معه إلا المعافاة والشكر، فرُبَّ شاكرٍ بلاءً(5)، ورب معافى غير شاكر؛ فإذا سألتم الله عز وجل فاسألوهما جميعاً. (الشكر ص30)
__________
(1) المؤمنون (55-56).
(2) وجاء في رواية الأصمعي: قال رجل لشريح: لقد بلغَ اللهُ بك يا أبا أمية! قال: إنك لتذكر النعمة في غيرك وتنساها فيك! قال: اني والله لأحسدك على ما أرى بك! قال: ما ينفعك الله بهذا ولا ضرني. (4/136-137)
(3) روى الفقرة الأولى منه ابن أبي الدنيا في (الشكر) (ص14 و ص25 وص63) والخرائطي في (فضيلة الشكر) (ص46)، وزاد: (ونظرت في الخير الذي لاشر فيه فلم أر مثل المعافاة والشكر).
(4) أي نظرت فيه وتعقبته ولم أتعجل بجواب.
(5) عن شعبة عن قتادة قال: ذكر لنا أن أبا الدرداء كان يقول: رب شاكر نعمة غير منعم عليه ولا يدري ويا رُبَّ حامل فقه غيرُ فقيه. (الشكر ص24)
إن كانت هذه العبارة محفوظة من سقط أو تغيير فمعناها فيما يظهر هو أن في الناس من يشكر الله على بعض ما هو فيه مما يظنه نعمة وهو في حقيقة الأمر مصيبة في دينه.(1/92)
جاء رجل إلى يونس بن عبيد فشكا إليه ضيقاً من حاله ومعاشه واغتماماً منه بذلك، فقال له يونس: أيسرك ببصرك هذا الذي تبصر به مئة ألف؟ قال: لا، قال: فسمعك الذي تسمع به يسرك به مئة ألف؟ قال: لا، قال: ففؤادك الذي تعقل به يسرك به مئة ألف؟ قال: لا، قال: فيداك يسرك بهما مئة ألف؟ قال: لا، قال: فرجلاك؟ قال: فذكَّرَهُ نعم الله عز وجل عليه فأقبل عليه يونس فقال: أرى لك مئين ألوفاً وأنت تشكو الحاجة!. (صف3/304-305 والشكر ص36)
قال رجل لأبي حازم: ما شكر العينين يا أبا حازم؟ قال: ان رأيت بهما خيراً أعلنته وإن رأيت بهما شراً سترته؛ قال: فما شكر الأذنين؟ قال: إن سمعتَ بهما خيراً وعيتَه، وإن سمعتَ بهما شراً أخفيته؛ قال: فما شكر اليدين؟ قال: لا تأخذ بهما ما ليس لهما ولا تمنع حقاً لله هو فيهما؛ قال: فما هو شكر البطن؟ قال: أن يكون أسفله طعاماً وأعلاه علماً؛ قال: فما شكر الفرج؟ قال: كما قال [الله تعالى]: (إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) إلى قوله (فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُون)(1)؛ قال: فما شكر الرجلين؟ قال: إذا رأيت حياً غبطته استعملت بهما عمله وان رأيت ميتاً مقتَّه كففتهما عن عمله وأنت شاكر لله؛ فأما من شكر بلسانه ولم يشكر بجميع أعضائه فمثله كمثل رجل له كساء فأخذ بطرفه ولم يلبسه فلم ينفعه ذلك من الحر والبرد والثلج والمطر. (الشكر ص44 والحلية 3/243)
مر وهب بن منبه بمبتلى أعمى مجذوم مقعَدٍ عريان، به وضحٌ، وهو يقول: الحمد لله على نعمته، فقال رجلٌ كان مع وهب: أي شيء بقي عليك من النعمة تحمدُ اللهَ عليها؟! فقال له المبتلى: ارمِ ببصرِك إلى أهلِ المدينةِ فانظر إلى كثرةِ أهلها، أوَلا أحمدُ اللهَ أنه ليس فيها أحدٌ يعرفُه غيري. (الشكر ص60 والحلية 4/68)
__________
(1) المؤمنون (6-7).(1/93)
قيلَ لخيثمةَ بن عبد الرحمن: أيُّ شيءٍ يسمنُ في الجدبِ والخِصبِ وأيُّ شيءٍ يهزلُ في الخصبِ والجدبِ؟ قالَ: أما الذي يسمنُ في الجدبِ والخصبِ فهو المؤمنُ إنْ أعطيَ شكرْ، وإن ابتليَ صبرْ، والذي يهزلُ في الخصبِ والجدبِ فهو الكافرُ، إنْ أعطيَ لم يشكرْ وإن ابتليَ لم يصبرْ، وشيءٌ هو أحلى منَ العسلِ ولا ينقطعُ، وهيَ الألفةُ التي جعلَها اللهُ بينَ المؤمنينَ. (4/118)
قال طلحة بن مصرف: ما شيء يسمن في الخصب والجدب وما شيء يهزل في الخصب والجدب وما شيء أحلى من العسل؟ قال: الذي يسمن في الخصب والجدب المؤمن: إن أعطي شكر وإن ابتلي صبر؛ وأما الذي يهزل في الخصب والجدب الفاجر، أو الكافر، إذا أعطي لم يشكر وإذا ابتلي لم يصبر؛ وأما الذي هو أحلى من العسل فالألفة التي جعلها الله عز وجل بين عباده؛ وقال لي طلحة: للقيك أحب إلي من العسل. (5/17)
قال رجاء بن حيوة لعبد الملك بن مروان في أسارى ابن الأشعث: إن الله قد أعطاك ما تحب من الظفر فأعط الله ما يحب من العفو. (أدب الدنيا والدين ص252)
قال عمر بن عبد العزيز: قيدوا نعم الله عز وجل بالشكر لله تعالى(1). (الشكر ص13)
عن عبد الله بن عمر بن عبد العزيز قال: ما قلب عمر بن عبد العزيز بصره على نعمة أنعم الله بها عليه إلا قال: اللهم إني أعوذ بك أن أبدل نعمك كفراً أو أكفرها بعد معرفتها أو أنساها فلا أثني بها. (الشكر ص26)
__________
(1) ذكر هذا الأثر المبرِّد في (الكامل) (1/302) وزاد فيه (وقيدوا العلم بالكتاب).(1/94)
كان محمد بن المنكدر يقوم من الليل فيتوضأ ثم يدعو فيحمد الله عز وجل ويثني عليه ويشكره، ثم يرفع صوته بالذكر! فقيل له: لمَ ترفعُ صوتك؟ قال: إنَّ لي جاراً يشتكي يرفع صوته بالوجع، وأنا أرفع صوتي بالنعمة(1). (3/146)
قال يزيد بن ميسرة: أحسِنوا صحابةَ نعمِ الله، فواللهِ ما أنفرَها عن قومٍ فكادت ترجعُ إليهم. (5/238)
قال عقبة الأصم: كنا عند أبي تميمة الهجيمي(2) فجاءه بكر بن عبد الله فقال: يا أبا تميمة كيف أصبحت؟ قال: بين نعمتين أميل بينهما، لا أدري أيتهما أفضل: ذنب ستره الله علي فلا يستطيع أحد أن يرميني به، ومحبة رزقنيها الله من عباده، وعزته ما بلغها عملي(3). (الزهد الكبير ص223)
عن بكر بن عبد الله أنه لحق حمالاً عليه حمله وهو يقول: الحمد لله واستغفر الله، قال: فانتظرته حتى وضع ما على ظهره وقلت له: أما تحسن غير ذا؟ قال: بلى، أُحْسِن خيراً كثيراً، أقرأ كتاب الله؛ غير أن العبد بين نعمة وذنب، فأحمد الله على نعمائه السابقة واستغفره لذنوبي، فقلت: الحمال أفقه من بكر. (الشكر ص25)
__________
(1) كان محمد بن المنكدر ربما قام من الليل يصلي ويقول: كم من عين الآن ساهرة في رزء، وكان له جارٌ مبتلى، فكان يرفع صوته من الليل يصيح، وكان محمد يرفع صوته بالحمد! فقيل له في ذلك فقال: يرفع صوته بالبلاء وأرفع صوتي بالنعمة. (3/147)
(2) هو طريف بن مجالد البصري، مات نحو سنة 95 هـ.
(3) ورواه ابن أبي الدنيا في (الشكر) (ص43) عن عقبة بن عبد الله الرفاعي قال: دخلت أنا وبكر بن عبد الله المزني على أبي تميمة الهجيمي نعوده فقال له بكر: كيف أصبحت يا أبا تميمة---فذكره.
ورواه فيه أيضاً (ص18) عن يونس بن عبيد قال: قال رجل لأبي تميمة: كيف أصبحت؟ فذكره.(1/95)
عن عبيد الله بن أبي حميد قال: سمعت بكر بن عبد الله المزني يقول: لقيت أخاً لي من أخواني [من] الضعفاء فقلت: يا أخي أوصني، فقال: ما أدري ما أقول! غير أنه ينبغي لهذا العبد أن لا يفتر عن الحمد والاستغفار؛ وابن آدم بين نعمة وذنب، ولا تصلح النعمةُ إلا بالحمد والشكر، ولا الذنبُ إلا بالتوبة والاستغفار؛ قال: فأوسَعَني علماً ما شئتُ. (الشكر ص51)
قال معاوية بن قرة: من لبس ثوباً جديداً فقال: بسم الله والحمد لله غفر له؛ وقال: من أكل طعاماً فقال: بسم الله والحمد لله، غفر له؛ ومن شرب فقال: بسم الله والحمد لله، غفر له. (الشكر ص21)
عن مسعر عن عون بن عبد الله قال: لبس رجل قميصاً جديداً فحمد الله فغفر له، فقال رجل: لا أرجع حتى أشتري قميصاً جديداً وألبسه وأحمد الله؛ قال مسعر: يرجو الثواب بذلك. (الشكر ص29)
عن سفيان بن عيينة عن محمد بن سوقة قال: مررت مع عون بن عبد الله بالكوفة على قصر الحجاج فقلت: لو رأيت ما نزل بنا ههنا زمن الحجاج! فقال: مررت كأنك لم تدع الى ضر مسك؛ ارجع فاحمد الله واشكره؛ ألم تسمع إلى قول الله عز وجل: (مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ)(1). (الشكر ص23)
قال أيوب السختياني: إن من نعم الله على العبد أن يكون مأموناً على ما جاء به. (الشكر ص30)
__________
(1) يونس (12).(1/96)
عن سفيان بن عيينة عن مسعر قال: كان عبد الأعلى التيمي يقول: أكثروا سؤال العافية فإن المبتلي وإن اشتد بلاؤه ليس بأحق بالدعاء من المعافى الذي لا يأمن البلاء؛ وما المبتلون اليوم إلا من أهل العافية بالأمس، وما المبتلون بعد اليوم إلا من أهل العافية اليوم؛ ولو كان بلاء يجره خير ما كنا من رجال البلاء(1)؛ ولو كان بلاء قد أجهد في الدنيا وأجزى في الآخرة فما يؤَمِّن من بلاء قد أجهد في الدنيا وأخزى في الآخرة؟! فما يؤَمِّن من أطال المقام على معصية الله أن يكون قد بقي له في بقية عمره من البلاء ما يجهده في الدنيا ويفضحه في الآخرة؛ ثم يقول عند ذلك: الحمد لله الذي إن نعد نعمه لا نحصيها، وإن ندأب له عملاً لا نجزيها، وإن نعمَّر فيها لا نبليها. (الشكر 154)
عن جعفر بن محمد قال: فقد أبي بغلة له فقال: لئن ردها الله علي لاحمدنه بمحامد يرضاها فما لبث ان اتي بها بسرجها ولجامها فركبها فلما استوى عليها وضم إليه ثيابه رفع رأسه الى السماء ثم قال: الحمد لله ولم يزد عليها، فقيل له في ذلك! فقال: وهل تركت شيئاً - أو قال: أبقيت شيئاً - ؟! جعلت الحمد لله كلَّه عز وجل. (الشكر ص38)
قال الحسن: خلق الله آدم حين خلقه فأخرج أهل الجنة من صفحته اليمنى وأخرج أهل النار من صفحته اليسرى فدبوا على وجه الأرض فيهم الأعمى والأصم والمبتلي فقال آدم: يا رب ألا سويت بين ولدي؟! قال: يا آدم أردت أن أُشْكَر. (الشكر ص57)
عن العلاء بن المغيرة قال: بُشر الحسن بموت الحجاج وهو مختفي فسجد. (الشكر ص47)
قال وهب بن منبه: رؤوس النعم ثلاثة، فأولها: نعمة الإسلام التي لا تطيب الحياة إلا بها؛ والثانية: نعمة العافية التي لا تطيب الحياة إلا بها؛ والثالثة: نعمة الغنى التي لا يتم العيش إلا بها. (الشكر 169)
__________
(1) هذه الجملة الأخيرة الشرطية وقع فيها في الأصل خلل فأصلحتها باجتهاد مني، ولعلي أصبت فيها أو قاربت.(1/97)
قال سعيد بن جبير في قول الله (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ)(1) قال: من طاعتي. (فضيلة الشكر ص39)
قال محمد بن كعب القرظي: يا هؤلاء احفظوا اثنتين: شكر النعم وإخلاص الإيمان. (فضيلة الشكر ص44)
قال بكر بن عبد الله المزني: يا بن آدم إذا أردت أن تعلم قدر ما أنعم الله عليك فغمض عينيك(2)
__________
(1) ابراهيم (7).
(2) ومن أجل الفائدة أسوق هنا أحسن آثار (الشكر) لابن أبي الدنيا مما هو عن غير التابعين في الغالب:
عن أبي عمران الجوني عن أبي الجلد قال: قرأت في مسألة داود عليه السلام أنه قال: أي رب كيف لي أن أشكرك وإني لا أصل شكرك إلا بنعمتك؟! قال: فأتاه الوحي أن يا داود أليس تعلم أن الذي بك من النعم مني؟ قال: بلى يا رب، قال: فإني أرضي بذلك منك. (ص7)
عن أبي عمران الجوني عن أبي الجلد قال: قرأت في مسألة موسى عليه السلام أنه قال: يا رب كيف لي أن أشكرك وأصغر نعمة وضعتها عندي من نعمك لا يجازي بها عملي كله؟ قال: فأتاه الوحي أن يا موسى الآن شكرتني. (ص7)
[عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي عمرو الشيباني قال: قال موسى يوم الطور: يا رب إن أنا صليت فمِن قِبلك وإن أنا تصدقت فمن قبلك وإن بلغت رسالاتك فمن قبلك فكيف أشكرك؟! قال: يا موسى الآن شكرتني. فضيلة الشكر ص45]
عن خالد بن معدان: سمعت عبد الملك بن مروان يقول: ما قال عبد كلمة أحب إليه وأبلغ في الشكر عنده من أن يقول: الحمد لله الذي أنعم علينا وهدانا للإسلام. (ص8)
قال محمد بن إدريس: يروى عن علي أنه قال لرجل من همدان: ان النعمة موصلة بالشكر والشكر معلق بالمزيد وهما مقرونان في قرن فلن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد. (ص11)
عن عبدة بن سليمان سمعت مخلد بن حسين يقول: كان يقال: الشكر ترك المعاصي. (ص11)
عن عبد العزيز بن عمير قال: سمعت أبا سليمان الواسطي يقول: ذكر النعمة يورث الحب لله. (ص11)
عن أبي بردة قال: قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام فقال لي: ألا تدخل بيتاً دخله رسول الله ونطعمك سويقاً وتمراً؟ ثم قال: إن الله عز وجل إذا جمع الناس غداً ذكَّرهم ما أنعم عليهم فيقول العبد بآية ماذا؟ فيقول: آية ذاك أنك كنت في كربة كذا وكذا فدعوتني فكشفتها عنك وآية ذاك أنك كنتَ في سفر كذا وكذا فاستصحبتني فصحبتك؛ قال: ويذكره حتى يذكر يقول: فآية ذاك انك خطبت فلانة بنت فلان وخطبها معك خُطّابٌ فزوجتُك ورددتُهم. (ص12). [اخترت في هذه الرواية طبعة ياسين السواس، وهو فيها برقم 22].
عن أبي بردة عن عبد الله بن سلام: إن الله عز وجل يقعد عبده بين يديه فيعدد عليه نعمه، هذا الحديث، فبكى ثم بكى ثم قال: اني لأرجو أن لا يقعد الله عبداً بين يديه فيعذبه. (ص12)
قال سفيان: رأى وُهيبٌ قوماً يضحكون يوم الفطر فقال: إن كان هؤلاء تُقبل منهم صيامُهم فما هذا فعل الشاكرين؛ وإن كان هؤلاء لم يُتقبل منهم صيامُهم فما هذا فعل الخائفين. (ص14)
قال محمد بن يزيد بن خنيس: انصرف الناس ذات يوم من العيد فرأى وهيب الناس وهم يمرون في ذلك الزي فنظر إليهم ساعة ثم قال: عفا الله عنا وعنكم، لئن كنتم أصبحتم مستيقنين أن الله قد تقبل منكم هذا الشهر لقد كان ينبغي لكم أن تصبحوا مشاغيل عما أنتم فيه بطلب الشكر وإن كانت الأخرى: خائفين أن لا يكون قد تقبل منكم - لقد كان ينبغي لكم أن تكونوا أشغل فكراً عما أنتم فيه اليوم. (ص67)
عن الهقل بن زياد عن الأوزاعي أنه وعظ فقال في موعظته: أيها الناس تقووا بهذه النعم التي أصبحتم فيها، على الهرب من نار الله عز وجل الموقدة التي تطلع على الأفئدة، فإنكم في دار الثواء فيها قليل، وأنتم فيها تؤجلون، خلائف بعد القرون الذين استقبلوا من الدنيا أنفها وزهرتها، فهم كانوا أطول منكم أعماراً وأمدَّ أجساماً وأعظم آثاراً؛ فخدّوا الجبال وجابوا الصخور ونقبوا البلاد مؤيدين ببطش شديد وأجسام كالعماد، فما لبثت الأيام والليالي ان طوت مدتَهم وعفتْ آثارَهم وأخوتْ منازلَهم وأنستْ ذكرَهم، فما تحس منهم من أحد ولا تسمع لهم ركزاً؛ كانوا بلهو الأمل آمنين لبيات قوم غافلين أو لصباح قوم نادمين؛ ثم إنكم قد علمتم الذي نزل بساحتهم بياتاً من عقوبة الله عز وجل فأصبح كثير منهم في ديارهم جاثمين وأصبح الباقون ينظرون في آثار نقمة الله وزوال نعمه ومساكن خاوية فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم وعبرة لمن يخشى؛ وأصبحتم من بعدهم في أجل منقوص ودنيا مقبوضة، في زمان قد ولى عفوه وذهب رخاؤه فلم يبق منه إلا حمأة شر وصُبابة كدر وأهاويل عبر وعقوبات غبر وأرسال فتن وتتابع زلازل ورذالة خلف بهم ظهر الفساد في البر والبحر، فلا تكونوا أشباهاً لمن خدعه الأمل وغره طول الأجل فتبلَّغ بالأماني؛ نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن وعى نذره فانتهى وعقل سراه فمهد لنفسه. (ص14)
عن عبد الله بن سلام أن موسى عليه السلام قال: يا رب ما الشكر الذي ينبغي لك؟ قال: يا موسى لا يزال لسانك رطباً من ذكري. (ص18)
عن مخلد بن حسين عن محمد بن لوط كان يقال: الشكر ترك المعصية. (ص19)
عن مالك بن دينار قال: قرأت في بعض الكتب ان الله عز وجل يقول: يا بن آدم خيري ينزل إليك وشرك يصعد إلي وأتحبب إليك بالنعم وتتبغض الي بالمعاصي ولا يزال ملك كريم قد عرج الي منك بعمل قبيح. (ص19)
قال أبو علي المدائني: كنت أسمع جاراً لي يقول في الليل يا إلهي خيرك إلي نازل، وشري إليك صاعد؛ وكم ملك كريم قد صعد إليك بعمل قبيح؛ أنت مع غنائك عني تتحبب الي بالنعم؛ وأنا مع فقري إليك وفاقتي إليك أتمقَّت إليك بالمعاصي؛ وأنت في ذلك تجبرني وتسترني وترزقني. (ص20)
عن صغدي بن أبي الحجراء قال: كنا ندخل على المغيرة بن محمد فنقول: كيف أصبحت يا أبا محمد؟ قال: أصبحنا مغرقين في النعم مقصرين في الشكر، يتحبب إلينا ربنا عز وجل وهو عنا غني ونتمقت اليه ونحن اليه محتاجون. (ص20)
عن عبد الله بن ثعلبة قال: إلهي من كرمك أنك [كأنك] تطاع فلا تعصى، ومن حلمك أنك تُعصى [و]كأنك لا تَرى، وأي زمن لم يعصك فيه سكان أرضك فكنت والله عليهم بالخير عواداً!. (ص20)
عن إبراهيم بن الأشعث سمعت فضيل بن عياض يقول: كان يقال: من عرف نعمة الله بقلبه وحمده بلسانه لم يستتم ذلك حتى يرى الزيادة لقول الله عز وجل: (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم 7]. (ص23)
وقال [إبراهيم أيضاً]: سمعته يعني فضيل بن عياض يقول: كان يقال: من شكر النعمة أن تُحدِّث بها. (ص23)
عن إبراهيم بن الأشعث سمعت الفضيل يقول: قال الله عز وجل: يا ابن آدم إذا كنت تتقلب في نعمتي وأنت تتقلب في معصيتي فاحذرني لا أصرعك بين معاصيك، يا بن آدم اتقني ونم حيث شئت. (ص24)
عن مزاحم بن زفر عن مسعر قال: لما قيل لهم: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً) [سبأ 13] قال: لم تأت على القوم ساعة إلا وفيهم مصل. (ص28)
عن سفيان الثوري قال: الستر من العافية. (ص30)
عن محمد بن يونس الكديمي قال حدثني أبو سفيان المقدسي قال: قال زياد: إن مما يجب لله عز وجل على ذي النعمة بحق نعمته ألا يَتَوصل بها إلى معصيته. (ص31)
قال ابن أبي الدنيا: أنشدني محمود الوراق:
إذا كان شكري نعمة الله نعمة***علي له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله***وان طالت الأيام واتصل العمر
إذا مس بالسراء عم سرورها**وان مس بالضراء أعقبها الأجر
ولا منهما إلا له فيه منة*****تضيق بها الأوهام والبر والبحر
(ص31)
قال ابن أبي الدنيا: حدثنا أحمد بن عبيد التميمي قال: قال أعرابي: الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه. (ص32)
قال ابن السماك: كتبت إلي محمد بن الحسن حين ولي القضاء بالرقة: أما بعد فلتكن التقوى من بالك على كل حال وخف الله في كل نعمة عليك لقلة الشكر عليها مع المعصية بها، فإن النعمة حجة وفيها تبعة، فأما الحجة فيها فالمعصية بها، وأما التبعة فيها فقلة الشكر عليها؛ فعفى الله عنك كلما ضيعت من شكر أو ركبت من ذنب أو قصرت من حق. (ص32)
عن أنس بن مالك قال: سمعت عمر بن الخطاب سلم على رجل فرد عليه السلام فقال عمر للرجل: كيف أنت؟ قال الرجل: أحمد الله إليك قال عمر: هذا أردت منك. (ص34)
عن علقمة بن مرثد عن ابن عمر قال: لعلنا نلتقي في اليوم مراراً (يسأل بعضنا عن بعض وإن نريد) بذلك إلا لنحمد الله. (ص34). [العبارة بين القوسين أصلحتها اجتهاداً]
عن عبد الرحمن بن أبي عوف الجُرَشي قال: سمعت عبد الله بن مِخْمَر الشَّرْعَبِي يقول على المنبر ونظر إلى الناس قد صفّروا وحمّروا واستراشوا ولبسوا فأقبل عليهم فقال: يا حسناه ويا جمالاه!! بعد العدمِ: الخيام من الأدَم، والحَوْتَكِيَّة والبُرود! أصبحتم زُهْراً وأصبح الناس غُبْراً؛ أصبح الناس ينسجون وأنتم تلبسون؛ وأصبح الناس يعطون وأنتم تأخذون؛ وأصبح الناس ينتجون وأنتم تركبون؛ وأصبح الناس يزرعون وأنتم تأكلون. فبكى وأبكاهم. (ص35). [وقد أثبت ما في مطبوعة ياسين السواس 96].
عن سليم بن عامر قال: سمعت عبد الله بن قرط الأزدي وكان من أصحاب النبي [صلى الله عليه وسلم] وهو يقول على المنبر في يوم أضحى أو فطر ورأى على الناس ألوان الثياب فقال: يا لها من نعمة ما أسبغها! يا لها من كرامة ما أظهرها! وإنه ما زال عن جادة قوم شيء أشد عليهم من نعمة لا يستطيعون ردها، وإنما تثبت النعمة بشكر المنعَم عليه للمُنعِم. (ص35 وفضيلة الشكر ص66)
عن المعتمر بن سليمان سمعت أبي يحدث عن أبي عثمان عن سليمان أن رجلاً بسط له في الدنيا فانتزع ما في يديه فجعل يحمد الله ويثني عليه، حتى لم يكن له فراش إلا باري [أي حصير من قصب] فجعل يحمد الله ويثني عليه وبسط لآخر في الدنيا فقال لصاحب الباري: أرأيتك أنت علام تحمد الله؟! قال: أحمده على ما لو أعطيت به ما أُعطي الخلق لم أعطهم إياه به؛ قال: وما ذاك؟ قال: أرأيت بصرك؟ أرأيت لسانك؟ أرأيت يديك؟ أرأيت رجليك. (ص36)
عن شرحبيل أن أبا الدرداء كان يقول: الصحة غنى الجسد. (ص36)
عن أبي الحواري قال: جلس فضيل بن عياض وسفيان بن عيينة ليلة إلى الصباح يتذاكران النعم؛ فجعل سفيان يقول: أنعم الله علينا في كذا، أنعم الله علينا في كذا، فعل بنا كذا، فعل بنا كذا. (ص41)
عن عبد الله بن داود عن سفيان في قوله (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) [القلم 44] قال: نسبغ عليهم النعم ونمنعهم الشكر؛ وقال غير سفيان: كلما أحدثوا ذنباً أحدثت لهم نعمة، قال ابن داود: وينسوا. (ص41)
قال ابن أبي الدنيا: أنشدني أحمد بن موسى الثقفي:
وكم من نعمة لله تمسي****وتصبح ليس تعرفها كبيره
وكم من مدخل لو متَّ فيه** **لكنت به نكالا في العشيره
وقيتَ السوء والمكروه فيه** *ورحتَ بنعمة فيه ستيره
(ص43)
عن راشد بن سعد قال: دعي عثمان إلى قوم اجتمعوا على ريبة لهم فانطلق ليأخذهم فتفرقوا قبل أن يبلغهم فأعتق رقبة شكراً لله ألا يكون جرى على يديه خزي مسلم. (ص43)
عن حسين بن علي الجعفي عن عبد الملك بن أبجر قال: ما من الناس إلا مبتلى بعافية لينظر كيف شكره وببلية لينظر كيف صبره. (ص46)
عن سفيان الثوري قال: لقد أنعم الله على عبد في حاجة أكثر من تضرعه اليه فيها. (ص46)
قال ابن أبي الدنيا: حدثت عن سعيد بن عامر قال: قال سلام بن أبي مطيع: متى شئت أن ترى مَن النعمةُ عليك أكثرُ منها عليه رأيته؛ قال سلام: إي والله إذا اغلقت عليك بابك جاءك من يسألك يدق عليك ليعرفك نعمته عليك؛ هذا الكلام عن غير سعيد بن عامر. (ص48)
عن زهير البابي عن سلام بن أبي مطيع قال: دخلت على مريض فإذا هو يئن فقلت له: اذكر المطروحين في الطريق؛ اذكر الذين لا مأوى لهم ولا من يخدمهم؛ قال: ثم دخلت عليه بعد ذلك فلم أسمعه يئن؛ قال: وجعل يقول: اذكر المطروحين في الطريق؛ اذكر من لا مأوى له ولا من يخدمه. (ص48)
عن حكيم بن جعفر عن عبد الله بن أبي نوح قال: قال لي رجل على بعض السواحل: كم عاملته تبارك اسمه بما يكره فعاملك بما تحب؟ قلت: ما أحصي ذلك كثرة، قال: فهل قصدت إليه في أمر كربك فخذلك؟ قلت: لا والله ولكنه أحسن إلي فأعانني، قال: فهل سألته شيئاً قط فأعطاك؟ قلت: وهل منعني شيئاً سألته؟! ما سألته شيئاً قط إلا أعطاني ولا استعنت به إلا أعانني، قال: أرأيت لو أن [بعض] بني آدم فعل بك بعض هذه الخلال ما كان جزاؤه عندك؟ قلت: ما كنت أقدر له على مكافأة ولا جزاء، قال: فربك أحق وأحرى أن تُدْئِبَ نفسك له في أداء شكر نعمه عليك وهو المحسن قديماً وحديثاً إليك؛ والله لشكره أيسر من مكافأة عباده، إنه تبارك وتعالى رضي بالحمد من العباد شكراً. (ص48)
عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: يقال: إنه ليكون في المجلس الرجل الواحد يحمد الله فتنقضي لأهل ذلك المجلس حوائجهم كلهم. (ص50)
حدثني الحسن حدثني الحارث حدثنا عبد الله بن وهب حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: ذكر بعض أهل العلم [أن] في بعض الكتب التي أنزلها [الله] إن الله قال: سُروا عبدي المؤمن فكان لا يأتيه شيء يحبه إلا قال: الحمد لله الحمد لله ما شاء الله، قال: روعوا عبدي المؤمن، قال: فلا تطلع عليه طليعة من طلائع المكروه إلا قال الحمد لله الحمد لله، قال: إني أرى عبدي يحمدني حين روعته كما يحمدني حين سررته ادخلوا عبدي دار عدن كما يحمدني على كل حالاته. (ص50)
قال ابن أبي الدنيا: حدثني أبو أيوب القرشي مولى بني هاشم قال: قال داود عليه السلام: رب أخبرني ما أدنى نعمتك علي؟ فأوحى الله اليه يا داود تنفس فتنفس فقال: هذا أدنى نعمتي عليك. (ص51)
عن أبي المليح قال: قال موسى عليه السلام: رب ما أفضل الشكر؟ قال: أن تشكرني على كل حال. (ص52)
عن محمد بن النضر الحارثي قال: بلغني أن الله أوحى الى موسى أن يا موسى بن عمران كن يقظاناً مرتاداً لنفسك أخداناً، وكل خدن لا يؤاتيك على مسرتي فلا تصحبه فإن ذلك عدو وهو يقسي قلبك؛ وأكثر من ذكري حتى تستوجب الشكر وتستكمل المزيد. (ص56)
عن سلام بن أبي مطيع قال: أتينا الجريري وكان من مشايخ أهل البصرة وكان قد قدم من الحج فجعل يقول: أبلانا الله في سفرنا كذا، وأبلانا في سفرنا كذا؛ ثم قال: إن تعداد النعم من الشكر. (ص59)
عن أبي البختري الطائي عن علي بن أبي طالب قال: أتى بختنصر بدانيال النبي عليه السلام فأمر به فحبس، وأضرى أسدين فألقاهما في جب معه وطيَّن عليه وعلى الأسدين ثم حبسه خمسة أيام مع الأسدين ثم فتح عنه بعد خمسة أيام، فوجد دانيال قائماً يصلي والأسدين في ناحية الجب لم يعرضا له فقال له بختنصر: أخبرني ماذا قلت فدُفع عنك؟! قال: قلت الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره، والحمد لله الذي لا يخيب من رجاه، والحمد لله الذي لا يكل من توكل عليه إلى غيره، والحمد لله الذي هو ثقتنا حين تنقطع عنا الحيل؛ الحمد لله الذي هو رجاؤنا حين يسوء ظننا بأعمالنا؛ والحمد لله الذي يكشف ضرنا عند كربنا؛ الحمد لله الذي يجزي بالإحسان إحساناً؛ الحمد لله الذي يجزي بالصبر نجاة. (ص173)
عن ابن سيرين قال: كان ابن عمر يكثر النظر في المرآة وتكون معه في الأسفار فقلت له: ولمَ؟ قال: أنظر، فما كان في وجهي زين وهو في وجه غيري شين أحمد الله عليه. (ص175)
عن سفيان بن عيينة قال: عمل رجل من أهل الكوفة بخلق دنيء فأعتق جارية له إذ عافاه الله من ذلك الخلق؛ قال: وأمطر أهل مكة مطراً فهدمت منه البيوت فأعتق ابن أبي رواد جارية له شكراً لله إذ عافاه الله من ذلك. (ص176)
عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم وسأله رجل فقال: ما تمام النعمة؟ قال: أن تضع رجلاً على الصراط ورجلاً في الجنة. (ص62)
[قلت: حكى صاحب (المقصد الأرشد في ذكر أصحاب الإمام أحمد) (2/398): عن محمد بن حسنويه صاحب الأدم عن أبي عبد الله أحمد بن حنبل أنه جاءه رجل من أهل خراسان فقال: يا أبا عبد الله قصدتك من خراسان أسألك عن مسألة! قال له: سل؛ قال: متى يجد العبد طعم الراحة؟ قال: عند أول قدم يضعها في الجنة.
وقال المناوي في (فيض القدير) (2/563) بعد كلام ذكره: (ومن ثَمَّ سئل بعض العارفين: متى يجد العبد طعم الراحة؟ فقال: عند أول قدم يضعها في الجنة)].
عن ابن شوذب قال: قال عبد الله: إن لله عز وجل على أهل النار منة ولو شاء أن يعذبهم بأشد من النار لعذبهم. (ص63)
عن شهر بن حوشب قال: سمعت عائشة تقول: ما من عبد يشرب من الماء القراح فيدخل بغير أذى ويخرج بغير أذى إلا وجب عليه الشكر. (ص65)
كتب بعض الحكماء إلى أخ له: أما بعد يا أخي فقد أصبح بنا من نعم الله ما لا نحصيه مع كثرة ما نعصيه، فما ندري أيها نشكر، أجميل ما [أ]ظهر أم قبيح ما ستر؟ ص66
عن عباءة بن كليب قال: كتب إلي ابن السماك: أما بعد فإني كتبت إليك وأنا مسرور مستور، وأنا بهما مغرور، ذنب ستره علي فقد طابت النفس به كأنه مغفور، ونِعم أبلاها، فأنا بها مسرور----فليت شعري ما عواقب هذه الأمور؟ ص66
عن عبد الله [بن المبارك] قال: سمعت علي بن صالح في قوله (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) [إبراهيم 7] قال: أي من طاعتي. ص67
عن عنبسة بن الأزهر قال: كان محارب بن دثار قاضي أهل الكوفة قريب الجوار مني فربما سمعته في بعض الليل يقول ويرفع صوته: أنا الصغير الذي ربيتَه فلك الحمد، وأنا الضعيف الذي قويته فلك الحمد، وأنا الفقير الذي أغنيته فلك الحمد، وأنا الساغب الذي أشبعته فلك الحمد، وأنا العاري الذي كسوته فلك الحمد، وأنا المسافر الذي صاحبته فلك الحمد، وأنا الغائب الذي أدَّيتَه فلك الحمد، وأنا الراجل الذي حملته فلك الحمد، وأنا المريض الذي شفيته فلك الحمد، وأنا الداعي الذي أجبته فلك الحمد، ربنا ولك الحمد ربنا حمداً لك على كل نعمة. ص68
قال ابن أبي الدنيا: حدثني علي بن الحسن قال: سمعت أبا طالب يقول في كلامه: اختط لك الأنف فأقامه وأتمه فأحسن تمامه، ثم أدار منك الحدقة فجعلها بجفون مطبقة وبأشفار معلقة، ونقلك من طبقة الى طبقة، وحنن عليك الوالدين برِقّةٍ ومِقَة، فنعمه عليك مُورِقة وأياديه بك محْدِقة. ص68
قال ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن صالح التميمي قال: كان بعض العلماء إذا تلا (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا) [إبراهيم 34] قال: سبحان من لم يجعل في أحدٍ من معرفة نعمه إلا المعرفة بالتقصير عن معرفتها، كما لم يجعل في أحد من ادراكه أكثر من العلم أنه لا يدركه، فجعل معرفة نعمه بالتقصير عن معرفتها شكراً كما شكر علم العالِمين أنهم لا يدركونه فجعله إيماناً علماً منه أن العباد لا يجاوزون ذلك. (الشكر 198)
قال بعض الحكماء: لو لم يعذب على معصيته لكان ينبغي أن لا يعصى لشكر نعمته. ص71
وهذه آثار أخرى من (فضيلة الشكر) للخرائطي:
عن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد قال: حدثتني أمي قالت: كان بمرو امرأة تلد البنات فولدت تسع بنات فلما حملت العاشرة قال لها النساء: يا فلانة إن ولدت هذه المرة ابنة فاحمدي الله، قالت: إن ولدت ابنة لم أحمد الله قالت: فولدت خنزيرة قالت أمي: فأتيتها فنظرت إلى الخنزيرة تحت ثيابها فعاشت ثلاثة أيام ثم ماتت. ص37
عن الأصبغ بن نباتة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات 21] قال: سبيل الغائط والبول. ص40
عن الفضيل بن عياض قال: إن الله عز وجل ليشكر العبد إذا قال: الحمد لله؛ وإن كان على فراش وَطِيءٍ وعنده شابة حسناء. ص42
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أول من يدخل الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله عز وجل في السراء والضراء. ص43
قال الخرائطي: أنشدني عبد الله بن أبان العسقلاني لمحمود الوراق - من الوافر:
عطيَّتُه إذا أعطى سرورٌ****وإن أخذ الذي أعطى أثابا
فأي النعمتين أحق شكراً******وأحمد عند منقلب إيابا
أنعمته التي أهدت سروراً**أم الأخرى التي أهدت ثوابا
بل الأخرى وإن نزلت بكره***أعم لصابر فيه احتسابا
ص43
عن سليمان بن يسار أن عمر بن الخطاب مر بشعب بين مكة والمدينة فقال: الحمد لله لقد رأيتني أرعى في هذا الشعب على الخطاب وكان ما علمت فظاً غليظاً ثم أصبحت خليفة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم يجوز أمري فيهم ثم قال:
لا شيء فيما ترى إلا بشاشته***يبقى الإله ويودي الأهل والمال
ص46
قال الخرائطي: أنشدني المبرد ليزيد بن محمد بن المهلب بن أبي صفرة:
إلهي لا تفتنا منك رحمة**** **وعافية وتوفيقاً وعصمه
فما زلنا نعرف منك خيراً****ويحسد حاسد فيطيل رغمه
وكم أذنبتُ من ذنب عظيم***فلم تفضح، ولم تعجل بنقمه
وكيف بشكر ذي نعم إذا ما**شكرْتُ له فشكري منه نعمه
ص47
عن ابن شهاب عن ابن لكعب بن مالك قال: لما أتى كعب بن مالك الذي بشره بتوبته سجد وأعطى الذي بشره ثوبيه. ص54
عن شعيب بن طلحة التيمي عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر أنها لما قتل ابنها عبد الله بن الزبير كان عندها شيء أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم في سفط فأمرت طارقاً بطلبه فلما جاءها به سجدت. ص55
عن محمد بن قيس الهمداني قال: سمعت أبا موسى الهمداني [يقول]: رأيت علياً وهم يطلبون المخدج وهو يَعْرق ويقول: ما كذبت ولا كذبت فلما وجده خر ساجداً. ص55
عن سالم بن عبد الله أن كعب الأحبار قال لعمر بن الخطاب: إنا لنجد (ويل لسلطان الأرض من سلطان السماء) قال عمر: إلا من حاسب نفسه؛ قال كعب: إلا من حاسب نفسه، فكبر عمر وخر ساجداً. ص56
عن الهيثم بن مالك الطائي قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: على المنبر: إن للشيطان مصالي وفخوخاً، وإن من مصالي الشيطان وفخوخه البطر بأنعم الله، والفخر بإعطاء الله، والكبرياء على عباد الله، واتباع الهوى في غير ذات الله عز وجل. ص57
عن أبي عمر الضرير قال: حدثنا أبو سلمة مولى لعتيك قال: قالت هند: إذا رأيتم النعم مستدرة فبادروا بتعجيل الشكر قبل حلول الزوال. ص58
قال الخرائطي: أنشدني بعض أصحابنا:
بدا حين أثرى بإخوانه*****ففلل عنهم شباة العدم
وذكَّره الحزم غب الأمو ر فبادر قبل انتقال النعم
ص58
قال الخرائطي: حدثنا إبراهيم بن الجنيد قال: حدثنا محمد بن الحسين قال: مر ديراني من الرهبان فقلنا: أين تريد؟ قال: أجول أطلب صلاح قلبي، قلت: فمن أين أقبلت؟ فبكى ثم قال: أقبلت من عند قوم ملوا نعم الله عندهم فخفت أن يسلبهم إياها عندما رأيت من تضييعهم شكرها فهربت عند ذلك فهل من مرشد يرشد إلى خير أو يدل عليه. ص60
عن علي بن أبي طالب أنه قال لجليس له يوماً: أشكر المنعِم عليك وأنعِم على الشاكر لك فإنه لا نفاذ للنعم إذا شُكرت ولا بقاء لها إذا كُفرت والشكر زيادة في النعم وأمان من الغير. ص66
قال الخرائطي: أنشدني عمران بن موسى المؤدب:
فإنك إن ذوقتني ثمر الغنى** ****حمدتَ الذي أجنيك من ثمر الشكر
وإن يفْنَ ما أعطيتَ في اليوم أو غد*فإن الذي أعطيك يبقى على الدهر
ص67
قال الخرائطي: أنشدني محرز بن الفضل الرازي:
لأشكرنك معروفاً هممت به* *إن اهتمامك بالمعروف معروف
ولا ألومك إذ لم يمضه قدر**فالشيء بالقدر المحتوم مصروف
ص67
عن عبيد الله بن العبشي: قال رجل لسفيان بن عيينة: يا أبا محمد ما حديث تحدثونه؟! قال: ما هو يا ابن أخي؟ قال: تقولون إن الله يقول: أيما عبد كانت له إلي حاجة فشغلَه شاغل عن مسألتي حاجتَه أعطيته فوق أمنيته، فقال: وما تنكر من هذا؟! أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت:
إذا أثنى عليه المرء يوماً****كفاه من تعرضه الثناء
ص67
عن أبي يزيد الفيض بن إسحاق قال: قال الفضيل بن عياض: خلتان لا أبيع إحداهما بشيء، قول الناس: قد أحسنت، لو أعطيت رجلاً ألف دينار فقال لك: أحسنت جزاك الله خيراً كان الذي أعطاك خيراً من الذي أخذ، والأخرى لا تشتريها بشيء قول الناس: قد أسأت. ص68
سمعت أبا العباس المبرد يقول: قال أعرابي لعبد الله بن جعفر: لا ابتلاك الله ببلاء يعجز عنه صبرك وأنعم عليك نعمة يقصر عنها شكرك. ص68
عن عوف بن أبي جميلة قال حدثنا خالد الربعي قال: كان يقال: إن من أجدر الأعمال أن لا تؤخر عقوبته، أو تعجل عقوبته: الأمانة تخان والرحم تقطع والإحسان يكفر. ص70
قال الخرائطي: حدثنا نصر بن داود قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا علي بن عاصم عن الجريري عن عبد الله بن شقيق عن كعب الأحبار قال: شر الحديث التجديف؛ قال نصر: قال أبو عبيد: قال الأصمعي: التجديف هو الكفر بالنعم، يقال منه: جدف الرجل تجديفاً؛ وقال الأموي: هو استقلال ما أعطاه الله عز وجل. ص70.(1/98)
. (الشكر ص62)
الصبر
قال عبد الله بن المبارك: أخبرنا عبد الله بن لهيعة عن عطاء بن دينار أن سعيد بن جبير قال: الصبر اعتراف العبد لله بما أصابه منه، واحتسابه عند الله ورجاء ثوابه؛ وقد يجزع الرجل وهو يتجلد، لا يُرى منه الا الصبر(1). (عدة الصابرين ص79)
قال عبيد بن عمير الليثي: ليس الجزع أن تدمع العين ويحزن القلب، ولكن الجزع القول السيء والظن السيء. (تسلية أهل المصائب ص111 وعدة الصابرين ص80)
قال الحسن: ما من جرعتين أحب إلى الله من جرعة مصيبة موجعة محرقة ردها صاحبها بحسن عزاء وصبر، وجرعة(2) غيظ ردها صاحبها بحلم. (تسلية أهل المصائب ص110 وعدة الصابرين ص79)
قال بكر بن عبد الله المزني: إن الله ليجرع عبده المؤمن من المرارة لما يريد به من صلاح عاقبة أمره، قال: أما رأيتم المرأة تؤجر ولدها الصبر - أو قال الحضض(3) - تريد به عافيته. (2/228)
قال الحسن البصري: الصبر كنز من كنوز الخير لا يعطيه الله إلا لعبد كريم عنده. (عدة الصابرين ص77)
كان الحسن يقول: والله لتصبرن أو لتهلكن، هو والله الشديد الهلكة. (الزهد ص281)
__________
(1) قال ابن القيم: (فقوله (اعتراف العبد لله بما أصاب منه) كأنه تفسير لقوله (إنا لله)؛ فيعترف أنه ملك لله يتصرف فيه مالكه بما يريد؛ وقوله (راجياً به ما عند الله) كأنه تفسير لقوله (وإنا إليه راجعون)، أي ترد إليه فيجزينا على صبرنا ولا يضيع أجر المصيبة؛ وقوله (وقد يجزع الرجل وهو يتجلد)، أي ليس الصبر بالتجلد، وانما هو حبس القلب عن التسخط على المقدور، ورد اللسان عن الشكوى، فمن تجلد وقلبه ساخط على القدر فليس بصابر).
(2) وردت هذه الكلمة في الأصل بإعجام الزاي في الموضعين، وقد نقل ابن تيمية في (الاستقامة) (2/271-272) عن الحسن هذه العبارة: (ما تجرع عبد جرعة أعظم من جرعة حلم عند الغضب وجرعة صبر عند المصيبة).
(3) عصارة شجر له ثمر كالفلفل.(1/99)
كان الحسن يقول: إنكم لا تنالون ما تحبون إلا بترك ما تشتهون، ولا تدركون ما تؤملون إلا بالصبر على ما تكرهون. (البيان والتبيين 3/164)
قال الحسن: لا تكرهوا النقمات الواقعة والبلايا الحادثة فلرب أمر تكرهه فيه نجاتك ولرب أمر تؤثره فيه عطبك. (شفاء العليل ص34)
قال وهب: مكتوب في الحكمة: قصر السفه النصَبُ، وقصر الحلم الراحة، وقصر الصبر الظفر(1). (عدة الصابرين ص77)
قال الحسن: كان أيوب عليه السلام إذا أتاه آت فقال له: ذهب لك كذا، فيقول: مهما تبقي نفسي أحمدك على حسن بلائك. (فضيلة الشكر ص35)
قال أبو بكر الهذلي: قلت للحسن: أكان نساء المهاجرات يصنعن ما يصنع النساء اليوم قال: لا ولكن ههنا خمش وشق جيوب ونتف أشعار ولطم خدود ومزامير شيطان؛ صوتان قبيحان فاحشان: عند نعمة إن حدثت وعند مصيبة إن نزلت(2)؛ ذكر الله المؤمنين فقال: (وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)(3)؛ وجعلتم أنتم في أموالكم حقاً معلوماً للمغنية عند النعمة(4) والنائحة عند المصيبة(5). (إغاثة اللهفان ص255)
قال الحسن في قوله تعالى (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ)(6): أمرهم أن يصبروا على دينهم ولا يتركوه لشدة ولا رخاء ولا سراء ولا ضراء وأمرهم أن يصابروا الكفار وأن يرابطوا المشركين. (الجهاد ص139)
__________
(1) قال ابن القيم: قصر الشيء وقصاراه: غايته وثمرته.
(2) قال الحسن: صوتان ملعونان: مزمار عند نعمة، ورنة عند مصيبة. (الكبائر ص184)
(3) المعارج (24-25).
(4) بالأصل (النغمة) وهو تصحيف من ناسخ أو طابع.
(5) قال الحسن: صوتان ملعونان: مزمار عند نعمة [في الأصل نغمه] ورنة عند مصيبة. (إغاثة اللهفان 1/255)
(6) آل عمران (200).(1/100)
قال الحسن: الرضا عزيز ولكن الصبر معوَّلُ المؤمن(1). (جامع العلوم والحكم ص195)
قال عمر بن عبد العزيز: أما الرضاء فمنزلة عزيزة أو منيعة، ولكن جعل الله في الصبر معولاً حسناً. (عدة الصابرين ص79)
ولما مات عبد الملك ابنه صلى عليه ثم قال: رحمك الله لقد كنت لي وزيراً، وكنت لي معيناً؛ قال [الراوي]: والناس يبكون وما يقطر من عينيه قطرة. (عدة الصابرين ص79)
قال الحسن: إذا شئت رأيت بصيراً لا صبر له، فإذا رأيت بصيراً ذا صبر فهنالك(2). (رك ص6)
__________
(1) قال ابن رجب: والفرق بين الرضا والصبر: أن الصبر كف النفس وحبسها عن السخط مع وجود الألم وتمني زوال ذلك وكف الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع. والرضا انشراح الصدر وسعته بالقضاء وترك تمني زوال الألم وإن وجد الإحساس بألم لكن الرضا يخففه ما يباشر القلب من روح اليقين والمعرفة وإذا قوي الرضا فقد يزيل الإحساس بالألم بالكلية كما سبق.
(2) رواية أخرى: قال الحسن: إذا شئت أن ترى بصيراً لا صبر له رأيته؛ وإذا شئت أن ترى صابراً لا بصيرة له رأيته؛ فإذا رأيت صابراً بصيراً فذاك. (الفوائد ص200 و212)(1/101)
قال الحسن: حادثوا هذا القلوب فإنها سريعة الدثور؛ واقدعوا(1) هذه الأنفس فإنها طُلَعَةٌ(2)؛ وإنها تنازع إلى شر غاية؛ وإنكم إن لم تقدعوها(3) لم تبق من أعمالكم شيئاً؛ فتصبَّروا وتشددوا، فإنما هي ليال تعد، وإنما أنتم ركب وقوف يوشك أن يدعى أحدكم فيجيب ولا يلتفت؛ فانقلبوا بصالح ما بحضرتكم؛ إن هذا الحق أجهد الناس وحال بينهم وبين شهواتهم؛ وإنما صبر على هذا الحق من عرف فضله ورجا عاقبته(4). (صف 3/236 و رك ص91 ومحاسبة النفس ص102 والكامل 2/290 والبداية والنهاية 9/268 والحلية 2/144 وزهر الآداب 1/117)
__________
(1) اقدعوا: كفوا؛ وتصحفت في (حلية الأولياء) إلى (واقرعوا).
(2) أي كثيرة التطلع إلى الشيء. وتصحفت في (حلية الأولياء) إلى (خليعة).
(3) ورد في بعض هذه المصادر (تقاربوها) أو (تطيعوها) أو (تزعوها) أو غير ذلك، والصواب (تقدعوها) وما كان بمعناها.
(4) قال المبرد في (الكامل) عقبه: (قوله (حادثوا) مثَل، ومعناه: اجلوا واشحذوا، تقول العرب: حادثَ فلانٌ سيفه، إذا جلاه وشحذه---والدثور: الدُّروس---ومعناه: تعهدوها بالفكر؛ وقوله (فإنها طُلَعة) يقول كثيرة التشوف والتنزي إلى ما ليس لها).
وجاء في (لسان العرب) (2/134): (ومحادثة السيف جلاؤه وأحدث الرجل سيفه وحادثه إذا جلاه، وفي حديث الحسن: حادثوا هذه القلوب بذكر الله فإنها سريعة الدثور؛ معناه اجلوها بالمواعظ واغسلوا الدرن عنها وشوقوها حتى تنفوا عنها الطبع والصدأ الذي تراكب عليها من الذنوب وتعاهدوها بذلك كما يحادث السيف بالصقال).(1/102)
عن عبد الله بن بكر المزني عن الحسن قال: إن هذا الحق جهد الناس وحال بينهم وبين شهواتهم، وإنما صبر على هذا الحق من عرف فضله ورجا عاقبته؛ إن من الناس ناساً قرأوا القرآن (لا يعلمون سنته)(1)؛ وإن أحق الناس بهذا القرآن من اتبعه بعمله وإن كان(2) لا يقرؤه؛ إنك لتعرف الناس ما كانوا في عافية، فإذا نزل بلاء صار الناس إلى حقائقهم: صار المؤمن إلى إيمانه، والمنافق إلى نفاقه. (الشعب 7/219 والزهد ص287)
قال الحسن: إن هذا الدين دين واصب وإنه من لا يصبر عليه يدعه، وإن الحق ثقيل، وإن الانسان ضعيف؛ وكان يقال: ليأخذ أحدكم من العمل ما يطيق فانه لا يدري ما قدر أجله، وإن العبد إذا ركب بنفسه العنف وكلف نفسه ما لا يطيق أوشك أن يسيب ذلك كله حتى لعله لا يقيم الفريضة وإذا ركب نفسه التيسير والتخفيف وكلف نفسه ما تطيق كان أكيس، أو قال: كان أكثر العاملين وأمنعها من هذا العدو؛ وكان يقال: شر السير الحقحقة(3). (رك ص468)
قال الحسن: ما كان مؤمن قط فيما مضى ولا يكون مؤمن فيما بقي إلا إلى جنبه منافق يؤذيه. (طبقات الحنابلة 2/214)
__________
(1) تصحفت في الزهد لأحمد إلى (لا يعملون سيئة).
(2) كانت (كانوا).
(3) قال أبو عبيد في (غريب الحديث) (2/28-29): (---ومن هذا حديث سلمان رحمه الله: وشر السير الحَقْحَقة؛ وقد قاله مطرف بن الشخير لابنه؛---عن إسحاق بن سويد قال: تَعَبّد عبد الله بن مطرف فقال له مطرف: يا عبدالله! العلم أفضل من العمل، والحسنة بين السيئتين، وخير الأمور أوساطها؛ وشر السير الحقحقة؛ وأما قوله: الحسنة بين السيئتين, فأراد أن الغلو في العمل سيئة، والتقصير عنه سيئة، والحسنة بينهما، وهو القصد).(1/103)
قال الحسن في قوله تعالى (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً)(1) قال: يقول الفقير: لو شاء الله لجعلني غنياً مثل فلان، ويقول السقيم: لو شاء الله لجعلني صحيحاً مثل فلان، [و]يقول الأعمى: لو شاء الله لجعلني بصيراً مثل فلان. (الشعب 7/219)
قال محمد بن علي الباقر لابنِهِ: يا بنيَّ إياكَ والكسلَ والضجَرَ، فإنهما مفتاحُ كلِّ شرٍّ، إنك إن كسلتَ لم تؤدِّ حقّاً وإن ضجرتَ لم تصبِرْ على حق. (3/183)
قال مالكٌ بن دينار: ما مِن أعمالِ البِرِّ شيءٌ إلا ودونَهُ عقبةٌ، فإنْ صَبَرَ صاحبُها أَفْضتْ به إلى رَوْحٍ، وإنْ جزعَ رجع. (2/371 وصف3/275)
قال مالك بن دينار: لما وقعت الفتنة أتيت الحسن ثلاثة أيام أسأله: يا أبا سعيد ما تأمرني؟ فلا يجيبني، قال: فقلت: يا أبا سعيد أتيتك ثلاثة أيام أسألك وأنت معلمي فلا تجيبني! فوالله لقد هممت أن آخذ الأرض بقدمي وأشرب من أمواه(2) الأنهار وآكل من بقل البرية حتى يحكم الله عز وجل بين عباده، قال: فأرسل الحسن عينيه باكياً ثم قال: يا مالك ومن يطيق ما تطيق؟! ولكنا والله ما نطيق هذا. (صف3/284)
قال محمد الباقر بن علي بن الحسين(3): ندعو الله فيما نحب، فإذا وقع الذي نكره لم نخالف الله عز وجل فيما أحب. (3/187)
كانَ أبو حازمٍ سلمة بن دينار يمرُّ على الفاكهةِ في السوقِ فيشتهيها فيقولُ: موعدُكِ الجنة. (3/246)
قال جويرية بن أسماء: مر أبو حازم بجزار فقال: يا أبا حازم خذ من هذا اللحم فإنه سمين، قال: ليس معي درهم، قال: أنظرك، قال: أنا أنظر نفسي. (صف2/165)
قالَ حبيبٌ بن أبي ثابت: ما استقرضتُ مِن أحدٍ شيئاً أحبَّ إليَّ من نفسي، أقولُ لها: أمهلي حتى يجئَ مِن حيثُ أحب. (5/61)
__________
(1) الفرقان (20).
(2) في الأصل (أفواه).
(3) قال ابن حجر في (التقريب): ثقة فاضل من الرابعة.(1/104)
قال ميمون بن مهران: لا تجدُ غريماً أهونَ عليكَ مِن بطنِكَ أو ظهرِك(1). (4/91)
قالَ ميمون بن مهران: ما نالَ عبدٌ شيئاً من جسيمِ(2) الخيرِ – من نبيٍّ أو غيرِه - إلا بالصبرِ. (روضة العقلاء ص162 والحلية 4/90 وعدة الصابرين ص77)
عن سفيان عن رجل عن ابن منبه قال: لما بعث الله تبارك وتعالى موسى وهارون إلى فرعون قال: لا يرعْكما لباسه الذي لبس من الدنيا، فإن ناصيته بيدي، ليس ينطق ولا يطرف ولا يتنفس إلا بإذني؛ ولا يعجبْكما ما متع به منها فإنما هي زهرة الحياة الدنيا وزينة المترفين ولو شئت أن أزينكما بزينة من الدنيا يعرف فرعون حين يراها أن مقدرته تعجز عما أوتيتما لفعلت ولكني أرغب بكما عن ذلك فأزوي ذلك عنكما وكذلك أفعل بأوليائي وقديماً ما خرت لهم في أمور الدنيا، إني لأذودهم عن نعيمها كما يذود الراعي الشفيق غنمه عن موارد الهلكة وإني لأجنبهم سلوتها كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن مبارك العُرّة(3) وما ذاك لهوانهم علي ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالما موفوراً لم يكلمه الطمع ولم تنتقصه الدنيا بغرورها إنما يتزين لي أوليائي بالذل والخشوع والخوف والتقوى تثبت في قلوبهم فتظهر على أجسادهم فهي ثيابهم التي يلبسون ودثارهم الذي يظهرون وضميرهم الذي يستشعرون ونجاتهم التي بها يفوزون ورجاؤهم الذي إياه يؤملون ومجدهم الذي به يفخرون وسيماهم التي بها يعرفون؛ فإذا لقيتهم فأخفض لهم جناحك وذلل لهم قلبك ولسانك؛ واعلم أنه من أخاف لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ثم أنا الثائر له يوم القيامة. (التواضع والخمول ص104-105)
__________
(1) يعني أنَّ صبْرَ المرءِ على الجوع والعري والتعب أهون وأيسر من صبره على غلبة الدين له وتسلط الدائنين عليه.
(2) تصحفت في (روضة العقلاء) إلى (جسم).
(3) القذر وعذرة الناس.(1/105)
قال خيثمة بن عبد الرحمن: تقول الملائكة: يا رب عبدك المؤمن تزوي عنه الدنيا وتعرضه للبلاء؟ قال: فيقول للملائكة: اكشفوا لهم عن ثوابه قالوا: يا رب لا يضره ما أصابه في الدنيا! قال: ويقولون: عبدك الكافر تزوي عنه البلاء وتبسط له الدنيا قال: فيقول للملائكة: اكشفوا لهم عن عقابه، قال: فإذا رأوا عقابه قالوا: يا رب لا ينفعه ما أصابه من الدينا. (صف 3/94)
قال أبو حازم: نعمةُ اللهِ فيما زوَى عني من الدنيا أعظمُ من نعمتِهِ عليَّ فيما أعطاني منها، إنّي رأيتُهُ أعطاها قوماً فهلكوا(1). (الشكر ص42 والحلية 3/233)
عن ثابت البناني أنه سئل عن الاستدراج فقال: ذلك مكر الله بالعباد المضيعين. (الشكر ص41)
قال يونس بن عبيد: إن العبد إذا كانت له عند الله منزلةٌ فحفظها وأبقى عليها، ثم شكر الله ما أعطاه: أعطاه الله أشرفَ منها؛ وإذا ضيع الشكرَ استدرجه الله وكان تضييعه للشكر استدراجاً. (الشكر ص41-42)
كان عونٌ بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي الكوفي يقولُ: إنَّ من العصمةِ أنْ تطلبَ الشيءَ من الدنيا ولا تجدُهُ، وكانَ يقولُ: إنَّ مِن أعظمِ الخيرِ أنْ ترى ما أوتيتَ منَ الاسلامِ عظيماً عند ما زُويَ عنْكَ من الدنيا(2). (4/243)
قال عمر بن سعيد: دعا سعيد بن جبير ابنه حين دعي ليقتل فجعل ابنه يبكي فقال: ما يبكيك؟! ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة؟!. (صف3/80)
__________
(1) عن جعفر بن برقان عن صالح بن مسمار قال: نعمة الله فيما زوى عني من الدنيا أفضل من نعمته فيما أعطاني. ص44
وعن عبد الله عن معمر سمعت صالح بن مسمار يقول: ما أدري أنعمته علي فيما بسط علي أفضل أم نعمته فيما زوى عني. ص69
(2) عن مجمع الأنصاري عن رجل من أهل الخير قال: لنعم الله فيما زوى عنا من الدنيا من نعمة أفضل مما بسط لنا منها وذلك أن الله لم يرضها لنبيه فأكون فيما زوى لنبيه أحب إلي من ان أكون فيما كره وسخط. (الشكر ص40)(1/106)
قال الربيع بن أبي صالح: دخلت على سعيد بن جبير حين جيء به إلى الحجاج وهو موثق، فبكيت، فقال: ما يبكيك؟! قلت: الذي أرى بك؛ قال: فلا تبكِ، فإن هذا قد كان في علم الله تعالى، ثم قرأ (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا)(1). (تاريخ واسط ص90)
خطب عمرُ بن عبد العزيز فقالَ: ما أنعمَ اللهُ على عبدٍ نعمةً ثم انتزعها منه فعاضَه، مما انتزع منه، الصبرَ، إلا كان ما عاضه خيراً مما انتزع منه؛ ثم قرأ هذه الآية: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)(2). (5/298)
قال بكار: كان ابن عون في مرضه أصبر مَن أنت راءٍ، ما رأيته يشكو شيئاً من علته حتى مات. (صف3/312)
لما ماتَ عبدُ الملكِ بنُ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ كتبَ إلى الأمصارِ ينهى أن يُناحَ عليه، وكتبَ: إنَّ اللهَ أحبَّ قبضَهُ، وأعوذُ باللهِ أن أخالفَ محبتَه. (5/306)
قال ميمون بن مهران: عزى رجل عمر بن عبد العزيز على ابنه عبد الملك فقال عمر: الأمر الذي نزل بعبد الملك أمر كنا نعرفه فلما وقع لم ننكره(3). (تسلية أهل المصائب ص114)
__________
(1) الحديد (22).
(2) الزمر (10).
(3) كتب ميمون بن مهران إلى عمر بن عبد العزيز يعزيه عن ابنه عبد الملك، فكتب إليه عمر: كتبت إلي تعزيني عن ابني عبد الملك وهو أمر لم أزل انتظره، فلما وقع لم أنكره. (البيان والتبيين 2/192)
وقال المبرد في (الكامل) (4/37): (ومن أحسن القول في هذا المعنى في الاسلام: قول علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام [كذا] حين مات ابنه فلم يُرَ منه جزع، فسئل عن ذلك، فقال: أمر كنا نتوقعه [بالأصل نتوقه]، فلما وقع لم ننكره؛ وفي هذا زيادة تنتظر، وفضل تسليم لقضاء الله عز وجل).(1/107)
قال هشام بن عروة: خرج أبي(1) إلى الوليد بن عبد الملك فوقع في رجله الاكلة، فقال له الوليد: يا أبا عبد الله أرى لك قطعها(2)؛ قال: فقطع وإنه لصائم، فما تضور وجهه؛ قال: ودخل ابن له، أكبر ولده، اصطبل الدواب فرفسته دابة فقتلته فما سمع من أبي في ذلك شيء حتى قدم المدينة فقال: اللهم إنه كان لي أطراف أربعة فأخذت واحداً وأبقيت ثلاثة فلك الحمد، وكان لي بنون أربعة فأخذتَ واحداً وأبقيتَ لي ثلاثة(3) فلك الحمد، وأيمُ اللهِ لئن أخذتَ لقد أبقيتَ، ولئن أبليتَ طالما عافيت(4)
__________
(1) قال أبو بكر بن عبد الرحمن: العلم لواحد من ثلاثة: لذي حسب يزينه به، أو لذي دين يسوس به دينه، أو لمن يختلط بالسلطان ويدخل إليه يتحفه بعلمه وينفعه به، قال: ولا أعلم أحداً جمع هذه الخلال إلا عروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز فكلاهما جمع الحسب والدين ومخالطة السلطان. (الجامع ص186)
(2) قال الزهري: وقعت في رجل عروة الأكلة، قال: فصعدت في ساقه فبعث الوليد إليه الأطباء فقالوا: ليس لها دواء إلا القطع قال فقطعت فما تضور وجهه. (2/179)
(3) جاء في بعض الروايات ما فيه شيء من مخالفة لهذا الخبر، فقد ورد أنه لما شخص عروة من عند الوليد إلى المدينة أتته قريش والأنصار يعزونه في ابنه ورجله فقال له عيسى بن طلحة بن عبيد الله: يا أبا عبد الله قد صنع الله بك خيراً؛ والله ما بك حاجة إلى المشي؛ فقال: ما أحسن ما صنع الله إليَّ، وهبَ سبعة بنين فمتعني بهم ما شاء، ثم أخذ واحداً، وأبقى ستة، وأخذ عضواً وأبقى لي خمساً: يدين ورجلاً وسمعاً وبصراً. (2/179)
(4) كان عروة يقرأ ربع القرآن كل يوم في المصحف ويقوم به ليله، فما تركه إلا ليلة قطْعِ رجلِه، ثم عاود حزبه من الليلة المقبلة؛ وتمثل عند القطع بأبيات معن بن أوس:
لعمرك ما أهويت كفي لريبة
ولا حملتني نحو فاحشةٍ رجلي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها
ولا دلني رأيي عليها، ولا عقلي
وأعلم أني لم تصبني مصيبة
من الدهر إلا قد أصابت فتى قبلي
(2/178)(1/108)
. (2/179)
قال يونس بن يزيد: سألت ربيعة بن أبي عبد الرحمن: ما منتهى الصبر؟ قال: أن يكون يوم تصيبه المصيبة مثله قبل أن تصيبه. (3/262 وعدة الصابرين ص79)
عن رجل من ولد عمار بن ياسر قال: كان عند علي بن الحسين [بن علي] قوم فاستعجل خادماً له بشواء كان له في التنور فأقبل به الخادم مسرعاً وسقط السفود من يده على بني لعلي أسفل الدرجة فأصاب رأسه فقتله فقال علي للغلام: أنت حر، لمْ تعمده؛ وأخذ في جهاز إبنه. (صف2/100)
قال الأصمعي: دخلنا على كهمس العابد فجاء بخمسة وعشرين بُسرة حمراء، فقال: هذا الجهد من أخيكم، والله المستعان. (روضة العقلاء ص244 وانظر صف 3/315)
قال ليث: حدثتُ طلحةَ في مرضِهِ الذي ماتَ فيهِ أنَّ طاووساً كانَ يكرهُ الأنينَ، قال: فما سُمعَ طلحةُ يئنُّ حتى ماتَ رحمه الله. (5/18)(1/109)
قال اسحاق بن ابراهيم: مات ابن لشريح [القاضي] فلم يصيحوا عليه، ولم يشعر به أحد، فقيل له: يا أبا أمية(1) كيف هو؟ قال: قد سَكَن عَلَزُه(2) ورجاه أهله، ولم يكن منذ اشتكى أسكنَ منه الليلةَ(3). (روضة العقلاء ص215)
عن الشعبي أن شريحاً قال: إني لأصاب بالمصيبة فأحمد الله عليها أربع مرات: أحمده إذ لم تكن أعظم مما هي؛ وأحمده إذ رزقني الصبر عليها؛ وأحمده إذ وفقني للإسترجاع لما أرجو فيه من الثواب؛ وأحمده إذ لم يجعلها في ديني. (الشعب 7/197)
__________
(1) في الأصل (آمنة).
(2) العلز محركة: قلق وخفة وهلع يصيب المريض والمحتضر.
(3) لما ماتَ ذرُّ بنُ عمرٍ بنِ ذرٍّ الهمداني - وكانَ موتُه فجأةً - جاء أباه أهلُ بيتِه يبكونَ، فقالَ: ما لكم؟! إنا واللهِ ما ظُلِمْنا ولا قُهِرْنا، ولا ذُهِبَ لنا بحقٍ، ولا أُخطِىءَ بنا، ولا أُريدَ غيرُنا، وما لنا على اللهِ معتَبٌ؛ فلما وضعهُ في قبرِه قالَ: رحمَكَ اللهُ يا بُنَيَّ، واللهِ لقدْ كنتَ بي بارّاً، ولقدْ كنتُ عليكَ حَدِباً، وما بي إليكَ مِن وحشةٍ، ولا إلى أحدٍ بعدَ اللهِ فاقة، ولا ذهبتَ لنا بعزٍّ، ولا أبقيتَ علينا مِن ذُلٍّ، ولقدْ شغلَني الحزنُ لكَ عن الحزنِ عليك؛ يا ذرّ لولا هولُ المطلَعِ ومحشره لتمنيتُ ما صرتَ إليه؛ فليتَ شعري يا ذرّ ما قيلَ لكَ، وماذا قلتَ؟! ثمّ قالَ: اللهمَّ إنّكَ وعدتَني الثوابَ بالصبرِ على ذرّ، اللهمَّ فعلى ذرٍّ صلواتك ورحمتك؛ اللهم إني قد وهبتُ ما جعلتَ لي من أجرٍ على ذرٍّ لذرٍّ صلةٌ مني فلا تعرّفْهُ قبيحاً، وتجاوزْ عنه فإنكَ أرحم بهِ مني؛ اللهم وإني قد وهبتُ لذرٍّ إساءتَه إليَّ فهبْ له إساءتَه إليكَ فإنكَ أجودُ منّي وأكرمُ؛ فلما ذهب لينصرفَ قالَ: يا ذرّ قد انصرفنا وتركناك! ولو أقمنا ما نفعناك . (5/108)(1/110)
عن سعيد بن عبد العزيز قال: قال شريح: ما أصيب عبد بمصيبة إلا كان لله عز وجل عليه فيها ثلاث نعم: أن لا تكون كانت في دينه وأن لا تكون أعظم مما كانت وأنها كائنة فقد كانت(1). (الشكر ص30)
قال عمر بن عبد العزيز: إذا استأثر الله بشيء فالْهَ عنه(2). (الكامل 4/37)
قال محمد بن المنكدر: إني خلفت زياد بن أبي زياد مولى ابن عياش وهو يخاصم نفسه في المسجد يقول: اجلسي أين تريدين؟! أين تذهبين؟! أتخرجين إلى أحسن من هذا المسجد؟! أنظري إلى ما فيه! تريدين أن تبصري دار فلان ودار فلان ودار فلان؟! قال: وكان يقول لنفسه: ما لك من الطعام يا نفس إلا هذا الخبز والزيت وما لك من الثياب إلا هذان الثوبان وما لك من النساء إلا هذه العجوز أفتحبين أن تموتي؟! فقالت: أنا أصبر على هذا العيش(3). (محاسبة النفس 147 و صف2/105-106)
قال خالد بن أبي عثمان القرشي: كان سعيد بن جبير يعزيني في ابني فرآني أطوف بالبيت متقنعاً، فكشف القناع عن رأسي وقال: الاستكانة من الجزع(4)
__________
(1) عن حريز بن عثمان عن حبيب بن عبيد قال: ما ابتلى الله عبداً ابتلاء إلا كان لله عليه فيه نعمة ألا يكون ابتلاه بأشد منه. (الشكر ص46)
(2) أي أضربْ عنه.
(3) قال الآجري في (الغرباء) (ص83): حدثنا أبو الفضل العباس بن يوسف الشكلي قال حدثني محمد بن الحسين بن العلاء البلخي قال: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول: يا ابن آدم طلبت الدنيا طلب من لا بد له منها وطلبت الآخرة طلب من لا حاجة له إليها، والدنيا قد كفيتها وإن لم تطلبها، والآخرة بالطلب منك تنالها، فاعقل شأنك. وقال يحيى: ابن آدم حفت الجنة بالمكاره وأنت تكرهها وحفت النار بالشهوات وأنت تطلبها، فما أنت إلا كالمريض الشديد الداء، إن صبرت نفسك على مضض الدواء اكتسبت بالصبر عاقبة الشفاء، وإن جزعت نفسك على ما تلقى من ألم الدواء طالت بك علتك.
(4) وقع في التسلية (على أبي) بدل (في ابني)، و(الاستتار) بدل (الاستكانة).
وقال ابن القيم عقب هذا الأثر: (وأما قول كثير من الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: (لا بأس أن يجعل المصاب على رأسه ثوباً يعرف به)، قالوا: (لأن التعزية سنة، وفي ذلك تيسير لمعرفته حتى يعزيه)؛ ففيه نظر؛ وأنكره شيخنا؛ ولا ريب أن السلف لم يكونوا يفعلون شيئاً من ذلك، ولا نقل هذا عن أحد من الصحابة والتابعين؛ والآثار المتقدمة كلها صريحة في رد هذا القول؛ وقد أنكر اسحاق بن راهوايه أن يترك لبس ما عادته لبسه، وقال: هو من الجزع. وبالجملة فعادتهم أنهم لم يكونوا يغيرون شيئاً من زيهم قبل المصيبة، ولا يتركون ما كانوا يعملونه، فهذا كله مناف للصبر. والله سبحانه أعلم).(1/111)
. (عدة الصابرين ص80 وتسلية أهل المصائب ص111)
الرضا بالله تعالى وبقدره(1)
قال الحسن: إذا أراد [الله] قبْضَها [أي النفس] اطمأنت إلى ربها ورضيت عن الله فيرضى الله عنها. (المدارج 2/179)
قال عبد الواحد بن زيد: قلت للحسن: يا أبا سعيد من أين أُتي هذا الخلق؟ قال: من قلة الرضا عن الله، قلت: ومن أين أوتي(2) قلة الرضا عن الله؟ قال: من قلة المعرفة بالله. (روضة العقلاء ص160)
قال فرقد السبخي: قرأت في التوراة: من أصبح حزيناً على الدنيا أصبح ساخطاً على ربه عز وجل؛ ومن جالس غنياً فتضعضع له ذهب ثلثا دينه(3)، ومن أصابته مصيبة فشكا إلى الناس فإنما يشكو ربه عز وجل. (صف3/272)
__________
(1) قال ابن القيم في (الفوائد) (ص87-88):
الجاهل يشكو الله إلى الناس، وهذا غاية الجهل بالمشكو والمشكو إليه، فإنه لو عرف ربه لما شكاه، ولو عرف الناس لما شكا إليهم؛ ورأى بعض السلف رجلاً يشكو إلى رجل فاقته وضرورته فقال: يا هذا والله ما زدتَ على أن شكوتَ من يرحمك إلى من لا يرحمك؛ وفي ذلك قيل:
إذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم
والعارف إنما يشكو إلى الله وحده؛ وأعرف العارفين من جعل شكواه إلى الله من نفسه لا من الناس، فهو يشكو من موجِبات تسليط الناس عليه، فهو ناظر إلى قوله تعالى (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم) وقوله (وما أصابك من سيئة فمن نفسك) وقوله (أوَ لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم).
فالمراتب ثلاثة: أخسها أن تشكو الله إلى خلقه؛ وأعلاها أن تشكو نفسك إليه؛ وأوسطها أن تشكو خلقه إليه. انتهى.
(2) أي الخلق.
(3) كأن ثلثاً منهما يذهب بسبب مجرد مجالسته ورؤيته وسماع كلامه؛ والثلث الآخر يذهب للتضعضع له، والله أعلم.(1/112)
قال أبو حصين: أتيت سعيد بن جبير بمكة فقلت: إن هذا الرجل قادم يعني خالد بن عبد الله ولا آمنه عليك فأطعني واخرج؛ فقال: والله لقد فررت حتى استحييت من الله قلت: والله إني لأراك كما سمتك أمك سعيداً؛ قال: فقدم مكة فأرسل إليه فأخذه فأخبرني(1) يزيد بن عبد الله، قال: أتينا سعيد بن جبير حين جىء به فإذا هو طيب النفس وبنية له في حجره فنظرت إلى القيد فبكت فشيعناه إلى باب الجسر فقال له الحرس: أعطنا كفلاء فإنا نخاف أن تغرق نفسك! قال يزيد: فكنت فيمن كفل به. (صف3 / 80)
قال الأوزاعيُّ: كانَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ إذا عرَضَ له أمرٌ مما يكرهُ قالَ: بقدرٍ ما كانَ، وعسى أن يكونَ خيراً. (5/315)
قال أشعث بن سعيد: قال ابن عون: لن يصيب العبد حقيقة الرضا حتى يكون رضاه عند الفقر كرضاه عند الغنى، كيف تستقضي الله في أمرك ثم تسخط إن رأيت قضاءه مخالفاً لهواك ولعل ما هويت من ذلك لو وفق لك: فيه هُلْكُك؛ وترضى قضاءه إذا وافق هواك ما أنصفت من نفسك ولا أصبت باب الرضا(2). (صف3/311)
قال سفيان: دخلنا على زبيد فقلنا له: استشف الله، أو: شفاك الله، فقال: أستخير الله(3). (5/30)
عن محمد بن فضيل عن أبيه قال: دخلنا على طلحة بن مصرف نعوده فقال له أبو كعب: شفاك الله، فقال: استخير الله عز وجل. (5/17)
خرجَ بإبهام شريحٍ قرحةٌ فقالوا: لو أَرَيْتَها الطبيبَ! قال: هو الذي أخرجها. (4/133 والزهد لهناد بن السري)
__________
(1) المتكلم هنا يظهر أنه أبو حصين ويحتمل أنه الراوي عنه.
(2) قال الدارمي في (سننه) (362): أخبرنا عبد الله بن موسى عن عثمان بن الأسود عن عطاء قال: قال موسى: يا رب أي عبادك أحكم؟ قال: الذي يحكم للناس كما يحكم لنفسه؛ قال: يا رب أي عبادك أغنى؟ قال: أرضاهم بما قسمت له؛ قال: يا رب أي عبادك أخشى لك؟ قال: أعلمهم بي.
(3) عن جرير عن فضيل قال: دخلت على زبيد الايامي وهو مريض، فقلت: شفاك الله، فقال: استخير الله. (5/30)(1/113)
قال الأعمش: اشتكى شريح رجله فطلاها بالعسل وجلس في الشمس فدخل عليه عواده فقالوا: كيف تجدك؟ قال: صالحاً، فقالوا: ألا أريتها الطبيب؟ فقال: قد فعلت فقالوا: فما قال لك؟ قال: وعد خيراً. (صف3/38-39)
قال الشيباني: أخبرني صديق لي قال: سمعني شريح وأنا أشتكي بعض ما غمني إلى صديق لي، فأخذ بيدي وقال: يا ابن أخي إياك والشكوى إلى غير الله! فإنه لا يخلو من تشكو إليه أن يكون صديقاً أو عدواً، فأما الصديق فتحزنه ولا ينفعك، وأما العدو فيشمت بك. (العقد الفريد 10/137-138)(1/114)
قال الحسن [في حق أهل النار]: لقد دخلوا النار وإنَّ حمده لفي قلوبهم؛ ما وجدوا عليه(1) حجة ولا سبيلاً(2)
__________
(1) أي على الله تبارك وتعالى.
(2) من أجل تكميل هذا المعنى الذي ذكره الحسن وشرحه والتوسع فيه أسوق لك كلام ابن القيم الذي وردت في أثنائه كلمة الحسن هذه؛ قال في (القوائد): (وهو [يعني الله تبارك وتعالى] الذي أصلح الفاسدين وأقبل بقلوب المعرضين وتاب على المذنبين، وهدى الضالين وأنقذ الهالكين، وعلم الجاهلين، وبصر المتحيرين وذكر الغافلين، وآوى الشاردين ؛ وإذا أوقع عقاباً أوقعه بعد شدة التمرد والعتوّ عليه، ودعوة العبد إلى الرجوع إليه والإقرار بربوبيته وحقه مرة بعد مرة، حتى إذا أيس من استجابته والإقرار بربوبيته ووحدانيته أخذه ببعض كفره وعتوّه وتمرده بحيث يعذر العبد من نفسه ويعترف بأنه سبحانه لم يظلمه وأنه هو الظالم لنفسه كما قال تعالى عن أهل النار : ( فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير ) [الملك 11]، وقال عمن أهلكهم في الدنيا إنهم لما رأوا آياته وأحسوا بعذابه قالوا : ( يا ويلنا إنا كنا ظالمين ، فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيداً خامدين ) [الأنبياء 14-15] ، وقال أصحاب الجنة التي أفسدها عليهم لما رأوها : ( قالوا سبحان الله إنا كنا ظالمين) [القلم 29] ، قال الحسن: لقد دخلوا النار وإن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه حجة ولا سبيلا ً؛ ولهذا قال تعالى : ( فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين) [الأنعام 45]؛ فهذه الجملة في موضع الحال، أي قطع دابرهم حال كونه سبحانه محموداً على ذلك، فقطع دابرهم قطعاً مصاحباً لحمده، فهو قطع وإهلاك يحمد عليه الرب تعالى، لكمال حكمته وعدله ووضعه العقوبة في موضعها الذي لا يليق به غيرها؛ فوضعها في الموضع الذي يقول من علم الحال : لا تليق العقوبة إلا بهذا المحل، ولا يليق به إلا العقوبة، ولهذا قال عقيب إخباره عن الحكم بين عباده ومصير أهل السعادة إلى الجنة وأهل الشقاء إلى النار : (وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين) [ الزمر 75] ، فحذف فاعل القول إشعاراً بالعموم وأن الكون كله قال : ( الحمد لله رب العالمين) لما شهدوا من حُكمِهِ [لعلها حكمة] الحق وعدله وفضله ؛ ولهذا قال في حق أهل النار : ( قيل ادخلوا أبواب جهنم) [ الزمر 72] ، كأن الكون كله يقول ذلك حتى تقوله أعضاؤهم وأرواحهم وأرضهم وسماؤهم، وهو سبحانه يخبر أنه إذا أهلك أعداءه أنجى أولياءه ولا يعمهم بالهلاك بمحض المشيئة ) إلى آخر كلام ابن القيم، وهذه بعض الآيات الدالة على هذا المعنى المتقدم: قال تعالى: (وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) [الأعراف 4-5]، وقال تعالى: (وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) [الأنبياء 11-14]، وقال: (قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء إِذَا مَا يُنذَرُونَ وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ) [الأنبياء 45-46]وقال: (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ) [الأنبياء 97]؛ وانظر الصواعق المرسلة (4/1497) وروضة المحبين (ص65).(1/115)
. (الفوائد ص162)
اليقين
قال محمد بن علي الباقر: الايمان ثابت في القلوب واليقين خطرات، فيمر اليقين بالقلب فيصير كأنه زبر الحديد، ويخرج منه فيصير كأنه خرقة بالية. (3/180)
قال علي بن الحسين: لو كان الناس يعرفون جملة الحال في فضل الاستبانة وجملة الحال في صواب التبيين لأعربوا عن كل ما تخلج في صدورهم ولوجدوا من برد اليقين ما يغنيهم عن المنازعة إلى كل حال سوى حالهم. (البيان والتبيين 1/59)
قال ميمون بن مهران: يقولُ أحدُهم(1): اجلس في بيتِك وأ[غـ]ـلق عليكَ بابَك، وانظر: هل يأتيك رزقُك؟! نعم والله لو كان له مثل يقين مريم وإبراهيم عليهما السلام وأغلق بابه وأرخى عليه ستره. (4/87)
المراقبة
قال حفص بن عمر: قال الربيع بن خثيم: إذا تكلمت فاذكر سمع الله إليك، وإذا هممت فاذكر علمه بك، وإذا نظرت فاذكر نظره إليك، وإذا تفكرت فاذكر اطلاعه عليك، فإنه يقول تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً))(2). (صف3/68)
قال إبراهيم التيمي: لقد أدركت سبعين شيخاً من أصحاب عبد الله(3)، أصغرُهم الحارثُ بنُ سويد فسمعته يقرأ (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ) حتى انتهى إلى قولِه (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ)(4) فقال: إنَّ هذا لإحصاء شديد. (4/127)
قال إبراهيم: كان الرجل يأتي الحارث بن سويد فيشتمه، فإذا فرغ قال الحارث: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ)(5)، كفى هذا إحصاءً. (صف 3/43 والحلية 4/127)
التواضع
__________
(1) أي ممن قلَّ يقينه بأن الله هو الذي يرزق عباده كما يشاء.
(2) الإسراء (34).
(3) ابن مسعود.
(4) الزلزلة (7-8).
(5) الزلزلة (7-8).(1/116)
خرج الحسن ويونس وأيوب يتذاكرون التواضع، فقال لهما الحسن: وهل تدرون ما التواضع؟ التواضع أن تخرج من منزلك فلا تلق [؟؟] مسلماً إلا رأيت له عليك فضلاً. (التواضع والخمول ص152)(1)
عن حبيب بن أبي ثابت عن يحيى بن جعدة قال: من وضع وجهه لله ساجداً فقد بريء من الكبر. (التواضع والخمول ص206)
__________
(1) وهذه آثار أخرى في هذا الباب أخذتها من (التواضع والخمول) لابن أبي الدنيا:
عن ثابت عن أنس بن مالك قال: كان أبو بكر يخطبنا فيذكر بدء خلق الإنسان حتى إن أحدنا ليقذر؛ ويقول: خرج من مجرى البول مرتين. ص199
عن سليمان بن المغيرة قال: قال عيسى بن مريم عليه السلام: طوبى لمن علمه الله كتابه ثم لم يمت جباراً. ص202
عن ابن المرتفع سمع ابن الزبير في قوله تعالى (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات 21] قال: سبيل الغائط والبول. ص204
عن ابن عباس في قوله تعالى (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ) [عبس 24]، قال: إلى خرئه. ص204-205
قال ابن أبي الدنيا: حدثني أبو جعفر محمد بن أبي رجاء القرشي قال: قال محمد بن كناسة الأسدي:
كل شيء ملحت من طعم الدنيا
وقزحت في ظهر الخوان
صائر بعد أن تلقمه لوناً
ولكن من أخبث الألوان
فإذا حان وقت إخراجـه منك
ففكر في ذلة الإنسان
وإذا ما وضعته في مكان
فالتفتْ واعتبر بذاك المكان
ص205
عن ابن عياش عن نافع بن جبير أنه قال: إن الناس يقولون: فيه تيه، والله لقد ركبت الحمار ولبست الشملة. ص210
عن عبد الله بن هبيرة أن سلمان سئل عن السيئة التي [لا] تنفع معها حسنة قال: الكبر. ص211
حدثني مفضل بن غسان عن أبيه قال: رأى العمري العابد رجلاً من آل علي يمشي يخطر فأسرع إليه فأخذه بيده فقال: يا هذا إن هذا الذي أكرمك الله به لم تكن هذه مشيته قال: فتركها الرجل بعد. ص218
عن جميل بن زيد قال: رأى ابن عمر رجلاً يجر إزاره فقال: إن للشيطان إخواناً مرتين أو ثلاثاً. ص218(1/117)
عن عمر مولى غفرة عن محمد بن حسين بن علي من ولد علي إنه قال: ما دخل قلب امرئ شيء من الكبر قط إلا نقص من عقله بقدر ما دخل من ذلك، قل أو كثر. (التواضع والخمول ص210)
قال الحسن: من خصف نعليه ورقع ثوبه وعفر وجهه لله فقد بريء من الكبر. (التواضع والخمول ص256)
قال الحسن: السجود يذهب بالكبر والتوحيد يذهب بالرياء. (التواضع والخمول ص273)
قال يونس بن عبيد: لا كبر مع السجود ولا نفاق مع التوحيد. (التواضع والخمول ص211)
قال معاوية بن عبد الكريم: ذكر عند الحسن الزهد فقال بعضهم: اللباس، وقال بعضهم: المطعم، وقال بعضهم: كذا، فقال الحسن: لستم في شيء الزاهد الذي إذا رأى أحداً قال: هذا أفضل مني. (الزهد الكبير ص79-80 وذم الدنيا 307)
قال سفيان بن عيينة: قال وهب بن منبه: لا يستكمل الرجل العقل حتى يستكمل عشر خصال: حتى يكون الخير منه مأمولاً والشر منه مأموناً، وحتى لا يتبرم بكثرة حوائج الناس من قبله، وحتى يكون الفقر أحب إليه من الغنى والذل أعجب إليه من العز والتواضع أحب إليه من الشرف، وحتى يستقل كثير المعروف من نفسه ويستكثر قليل المعروف من غيره؛ والعاشرة وما العاشرة؟ بها شادَ مجده وعلا جدُّه: إذا خرج من بيته لم يلق أحداً إلا رأى أنه خير منه. (المداراة ص47)
كان الربيع يكنس الحش(1) بنفسه فقيل له: إنك تُكفَى هذا؟! قال: إني أحب أن آخذ بنصيبي من المهنة. (2/116)
قال سعيدٌ: يدُ اللهِ فوقَ عبادِهِ، فمن رفعَ نفسَهُ وضعهُ اللهُ، ومن وضعَها رفعَهُ اللهُ، الناسُ تحتَ كنفِهِ يعملون أعمالَهم، فإذا أرادَ اللهُ فضيحةَ عبدٍ أخرجهُ مِنْ تحْتِ كنفِهِ فبدَتْ للناسِ عورتُه. (2/166)
__________
(1) المكان الذي تقضى فيه الحاجة؛ وفي (مختار الصحاح): (الحشُّ بفتح الحاء وضمها البستان وهو أيضاً المخرج لأنهم كانوا يقضون حوائجهم في البساتين والجمع حُشُوش).(1/118)
كان بكر بن عبد الله المزني إذا رأى شيخاً قال: هذا خير مني، عبَدَ الله قبلي؛ وإذا رأى شاباً قال: هذا خير مني ارتكبت من الذنوب أكثر مما ارتكب؛ وكان يقول: عليكم بأمر إن أصبتم أجرتم وإن أخطأتم لم تأثموا، وإياكم وكل أمر إن أصبتم لم تؤجروا وإن أخطأتم أثمتم! قيل: ما هو؟ قال سوء الظن بالناس، فإنكم لو أصبتم لم تؤجروا وإن أخطأتم أثمتم. (2/226)
قال بكر بن عبد الله: إنْ عرَضَ لك إبليسُ بأنَّ لكَ فضلاً على أحدٍ من أهلِ الإسلامِ فانظرْ: فإن كانَ أكبرَ منك فقلْ: قد سبقَني هذا بالإيمانِ والعملِ الصالحِ فهو خيرٌ مني، وإن كان أصغرَ منك فقلْ: قد سبقتُ هذا بالمعاصي والذنوبِ واستوجبتُ العقوبةَ فهو خيرٌ مني؛ فإنكَ لا ترى أحداً مِن أهلِ الاسلام إلا أكبرَ منكَ أو أصغرَ منك(1)؛ قال: وإن رأيتَ إخوانَكَ المسلمينَ يكرمونك(2) ويعظمونك ويَصِلونك فقل أنتَ: هذا فضلٌ أخذوا به(3)، وإن رأيت منهم جفاءً وانقباضاً فقل: هذا ذنبٌ أحدثتُه(4). (2/226 والمداراة ص53-54)
قال بكر بن عبد الله: تذلل المرء لإخوانه تعظيم له في أنفسهم. (2/226)
آذى ابن لمحمد بن واسع رجلاً فقال له محمد: أتؤذيه وأنا أبوك(5) وإنما إشتريت أمك بمئة درهم؟! (2/350)
عن محمد بن عبد الله الزراد قال: رأى محمد بن واسع ابناً له يخطر بيده فدعاه فقال: تدري من أنت؟ أما أمُّك فاشتريتُها بمئتي درهم! وأما أبوك فلا أكثر الله في المسلمين ضربه!. (التواضع والخمول ص218 والحلية 2/350)
__________
(1) أي في السن.
(2) كان في الأصل (من) قبل (يكرمونك) فحذفتها تبعاً لرواية (المداراة).
(3) أي قل: إن ذلك من فضلهم وكرمهم وإحسانهم وتغافلهم عن نقص إخوانهم وعن زلاتهم من غير أن تظن أنك أهلٌ لذلك الإكرام والتعظيم.
(4) أي وقع ذلك الجفاء بسبب ذنب من الذنوب.
(5) يحتقر نفسه.(1/119)
قال نعيم بن ميسرة: كان عمرو بن قيس الملائي يقريء الناس القرآن فكان يجلس بين يدي رجل رجل حتى يفرغ منهم، وكان إذا مشى لا يمشي أمامهم فيقول: تعالوا نمشي جميعاً. (5/102)
قال الضحاك بن عثمان: لما انصرف عمر بن عبد العزيز عن قبر سليمان بن عبد الملك صُفَّت له مراكب سليمان فقال:
ولولا التقى ثم النهى خشية الردى
لعاصيت في حب الصبا كل زاجر
قضى ما قضى فيما مضى ثم لا يرى
له صبوة أخرى الليالي الغوابر
ثم قال: إن شاء الله لا قوة إلا بالله، قدموا إلي بغلتي. (صف2/113)(1/120)
قال عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: لما دفن عمر بن عبد العزيز سليمان بن عبد الملك وخرج من قبره سمع للأرض هدة(1) أو رجة، فقال: ما هذه؟ فقيل: هذه مراكب الخلافة يا أمير المؤمنين قربت إليك لتركبها! فقال: ما لي ولها؟! نحّوها عني! قربوا إلى بغلتي! فقربت إليه بغلته فركبها فجاءه صاحب الشرط يسير بين يديه بالحربة فقال: تنح عني ما لي ولك؟ إنما أنا رجل من المسلمين فسار وسار معه الناس حتى دخل المسجد فصعد المنبر واجتمع الناس إليه، فقال: يا أيها الناس إني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني فيه ولا طلبة له ولا مشورة من المسلمين وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم فصاح المسلمون صيحة واحدة قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا بك فل أمرنا باليمن والبركة فلما رأى الأصوات قد هدأت ورضي به الناس جميعا حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي وقال: أوصيكم بتقوى الله فإن تقوى الله خلف من كل شيء ليس من تقوى الله عز وجل خلف فاعملوا لآخرتكم فإنه من عمل لآخرته كفاه الله تبارك وتعالى أمر دنياه وأصلحوا سرائركم يصلح الله الكريم علانيتكم وأكثروا ذكر الموت وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم فإنه هادم اللذات وإن من لا يذكر من آبائه فيما بينه وبين آدم عليه السلام أبا حيا لمُعْرَقٌ(2)في الموت(3)، وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها عز وجل ولا في نبيها ولا في كتابها إنما اختلفوا في
__________
(1) لعلها (هزة).
(2) جاء في (لسان العرب): (لمعرق له في الموت أي إن له فيه عرقاً، وإنه أصيل في الموت).
(3) قال عبيد الله بن العيزار: خطبنا عمر بن عبد العزيز بالشام على منبر من طين فحمد الله وأثنى عليه ثم تكلم بثلاث كلمات فقال: (أيها الناس أصلحوا سرائركم تصلح علانيتكم واعملوا لآخرتكم تكفوا دنياكم واعلموا أنَّ رجلاً ليس بينه وبين آدم أب حي لمُعْرَقٌ [تصحفت هذه الكلمة في الأصل إلى (لمغرق)] له في الموت والسلام عليكم). (5/265)(1/121)
الدينار والدرهم وإني والله لا أعطى أحدا باطلا ولا أمنع أحدا حقا ثم رفع صوته حتى أسمع الناس فقال: يا أيها الناس من أطاع الله فقد وجبت طاعته ومن عصى الله فلا طاعة له أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم ثم نزل فدخل فأمر بالستور فهتكت والثياب التي كانت تبسط للخلفاء فحملت وأمر ببيعها وإدخال أثمانها في بيت مال المسلمين ثم ذهب يتبوأ مقيلا فأتاه ابنه عبد الملك فقال يا أمير المؤمنين ماذا تريد أن تصنع قال أي بني أقيل قال تقيل ولا ترد المظالم قال أي بني إني قد سهرت البارحة في أمر عمك سليمان فإذا صليت الظهر رددت المظالم قال يا أمير المؤمنين من لك أن تعيش إلى الظهر قال ادن مني أي بني فدنا منه فالتزمه و قبل بين عينيه وقال الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني فخرج ولم يقل وأمر مناديه أن ينادي ألا من كانت له مظلمة فليرفعها فقام إليه رجل ذمي من أهل حمص أبيض الرأس واللحية فقال يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله قال وما ذاك قال العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني أرضى والعباس جالس فقال له: يا عباس ما تقول؟ قال: أقطعنيها أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك وكتب لي بها سجلاً فقال عمر: ما تقول يا ذمي؟ قال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله عز وجل فقال عمر: كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد بن عبد الملك؛ قم فاردد عليه يا عباس ضيعته؛ فرد عليه فجعل لا يدع شيئاً مما كان في يده وفي يد أهل بيته من المظالم إلا ردها مظلمة مظلمة فلما بلغت الخوارج سيرة عمر وما رد من المظالم اجتمعوا فقالوا ما ينبغي لنا أن نقاتل هذا الرجل فبلغ ذلك عمر بن الوليد بن عبد الملك فكتب إليه: إنك قد أزريت على من كان قبلك من الخلفاء وعبت عليهم وسرت بغير سيرتهم بغضا لهم وشنئا لمن بعدهم من أولادهم قطعت ما أمر الله به أن يوصل إذ عمدت إلى أموال قريش ومواريثهم فأدخلتها في بيت المال جوراً وعدواناً، ولن تترك(1/122)
على هذا! فلما قرأ كتابه كتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عمر بن الوليد: السلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين؛ أما بعد، فإنه بلغني كتابك وسأجيبك بنحو منه أما أول شأنك ابن الوليد – كما زُعم - فأمك بنانة أمة السكون كانت تطوف في سوق حمص وتدخل وتدور في حوانيتها ثم الله أعلم بها إشتراها ذبيان من فيء المسلمين فأهداها لأبيك فحملت بك فبئس المحمول وبئس المولود ثم نشأت فكنت جبارا عنيدا تزعم أني من الظالمين لم حرمتك وأهل بيتك فيء الله عز وجل الذي فيه حق القرابة والمساكين والأرامل وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعملك صبياً سفيهاً على جند المسلمين تحكم فيهم برأيك ولم تكن له في ذلك نية إلا حب الوالد لولده فويل لك وويل لأبيك ما أكثر خصماءكما يوم القيامة وكيف ينجو أبوك من خصمائه؛ وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعمل الحجاج بن يوسف يسفك الدم الحرام ويأخذ مال الحرام وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من استعمل قرة بن شريك أعرابياً جافياً على مصر، أذن له في المعازف واللهو والشرب؛ وإن أظلم مني وأترك لعهد الله من جعل لعالية البربرية سهماً في خمس العرب؛ فرويداً يا ابن بنانة فلو التقى حلقتا البطان ورد الفيء إلى أهله لتفرغت لك ولأهل بيتك فوضعتهم على المحجة البيضاء فطالما تركتم الحق وأخذتم في بنيات الطريق ومن وراء هذا ما أرجو أن أكون رأيته: بيع رقبتك وقسْم ثمنك بين اليتامى والمساكين والأرامل فإن لكلٍّ فيك حقاً، والسلام علينا، ولا ينال سلام الله الظالمين. (صف2/114-117)
قال مسلم: دخلت على عمر بن عبد العزيز وعنده كاتب يكتب وشمعة تزهر وهو ينظر في أمور المسلمين؛ قال: فخرج الرجل فأطفئت الشمعة وجيء بسراج إلى عمر فدنوت منه فرأيت عليه قميصاً فيه رقعة قد طبق ما بين كتفيه؛ قال: فنظر في أمري. (صف2/118)(1/123)
قال رجاء بن حيوة: كان عمر بن عبد العزيز من أعطر الناس وأخيلهم في مشيته فلما استخلف قوموا ثيابه اثني عشر درهماً، كمته وعمامته وقميصه وقباءه وقرطقه ورداءه وخفيه. (صف2/119)
هَمَّ السراج [سراج عمر] ليلةً بأنْ يخمد فوثب إليه رجاء بن حيوة ليصلحه، فأقسم عليه عمر فجلس، ثم قام عمر فأصلحه؛ فقال له رجاء: أتقوم يا أمير المؤمنين؟! قال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، ورجعتُ وأنا عمر بن عبد العزيز. (الكامل 1/237)
قال ابراهيم: كان علقمة يتزوج إلى أهل بيت دون أهل بيته يريد بذلك التواضع. (2/100)
قال سفيان: لو رأيت الأعمش لقلت: مسكين. (صف 3/118)
عن عمر بن خالد عن قتادة قال: من أعطي مالاً أو جمالاً وثياباً وعلماً ثم لم يتواضع كان عليه وبالاً يوم القيامة. (التواضع والخمول ص142)
عن جويبر عن الضحاك: (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ)(1) قال: المتواضعين. (التواضع والخمول ص142-143)
عن الأعمش قال: ربما رأيت مع إبراهيم التيمي الشيء يحمله، يقول: إني لأرجو فيه الأجر يعني في حمله. (التواضع والخمول ص147)
عن طريف قال: رأيت الربيع بن خثيم يحمل عَرَقةً إلى بيت عمته. (التواضع والخمول ص147-148)
عن إسماعيل بن أبي خالد قال: رأيت مصعب بن سعد [بن أبي وقاص] عليه ملاءة صفراء وهو قاعد مع المساكين. (التواضع والخمول ص148-149)
عن إبراهيم بن أبي عبلة قال: رأيت أم الدرداء مع نساء المساكين جالسة ببيت المقدس. (التواضع والخمول ص149)
عن عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن زيد قال: ما رأيت محمد بن واسع إلا وكأنه يبكي وكان يجلس مع المساكين والبكائين. (التواضع والخمول ص149)
قال حميد: كانت قيمة ثياب بكر بن عبد الله أربعة آلاف، وكان يجالس الفقراء والمساكين يحدثهم ويقول إنه يعجبهم ذلك(2). (2/227)
__________
(1) الحج (34).
(2) يعني أنهم يسرهم أن يجلس إليهم الغني أو المهيب من الناس جلسة تواضع وأخوة.(1/124)
عن سهم بن عبد الحميد قال: حدثوني أن بكر بن عبد الله المزني كان يلبس الكسوة تساوي أربعة آلاف ويجالس المساكين ومعه الصرر فيها الدراهم فيدسها إلى ذا وإلى ذا، قال: وكان موسراً فمات ولم يخلف شيئاً، فقال الحسن: إن بكراً عاش عيش الأغنياء ومات موت الفقراء. (التواضع والخمول ص141)
لبس مطرف بن عبد الله الصوف وجلس مع المساكين فقيل له في ذلك فقال: إن أبي كان جباراً فأحب أن أتواضع لربي عز وجل، لعله(1) يخفف عن أبي تجبره. (2/200)
غاب ابن لمطرف فلبس جبة وأخذ عصا أو قصبة في يده وقال: أتمسكن لربي لعله يرحمني فيرد علي ولدي. (2/209)
عن مسعر قال: مر الحسين بن علي [على] مساكين وقد بسطوا كساءً وبين أيديهم كسراً [كذا] فقالوا: هلم يا أبا عبد الله فحول وركه وقرأ (إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ)(2)؛ فأكل معهم ثم قال: قد أجبتكم فأجيبوني فقال للرباب – يعني امرأته: أخرجي ما كنت تدخرين. (التواضع والخمول ص151)
عن المسعودي عن يحيى بن كثير قال: رأس التواضع ثلاث: أن ترضى بالدون من شرف المجلس وأن تبدأ من لقيته بالسلام وأن تكره المدحة والسمعة والرياء بالبر. (التواضع والخمول ص155)
قال عمرو بن قيس الملائي: ثلاث من رؤوس التواضع: أن تبدأ بالسلام على من لقيت، وأن ترضى بالمجلس الدون من الشرف، وأن لا تحب الرياء والسمعة والمدحة في عمل الله. (5/101)
عن مجاهد قال: إن الله لما أغرق قوم نوح شمخت الجبال وتواضع الجودي فرفعه الله فوق الجبال وجعل قرار السفينة عليه. (التواضع والخمول ص155)
عن المسيب بن رافع عن عامر بن عبد الله قال: من تواضع تخشعاً رفعه الله ومن تكبر تعظماً وضعه الله. (التواضع والخمول ص158-159)
__________
(1) في الأصل (ولعله).
(2) النحل (23).(1/125)
قال يزيدُ بن ميسرة: كانت أحبارُ بني اسرائيلَ، الصغيرُ منهم والكبيرُ، لا يمشي إلا بالعصا، مخافةَ أن يَختالَ في مِشيتِه إذا مشى(1)
__________
(1) وهذه آثار أخرى في الباب انتقيتها من (التواضع والخمول) لابن أبي الدنيا:
عن يوسف بن أسباط قال: يجزئ قليل الورع من كثير العمل، ويجزىء قليل التواضع من كثير الاجتهاد. (ص141)
عن إبراهيم بن الأشعث قال: سألت الفضيل عن التواضع قال: التواضع أن تخضع للحق وتنقاد له، ولو سمعته من صبي قبلته منه، ولو سمعته من أجهل الناس قبلته منه. (ص141-142)
عن أبي صالح الفراء قال: سمعت ابن المبارك يقول: رأس التواضع أن تضع نفسك عند من هو دونك في نعمة الدنيا حتى تُعلمه أن ليس لك بدنياك عليه فضل وأن ترفع نفسك عمن هو فوقك في نعمة الدنيا حتى تعلمه أنه ليس له بدنياه عليك فضل. (ص142)
عن إسماعيل بن ذكوان قال: دُخل على النجاشي في عقب نعمة، قال: وعليه أطلاس وهو مرسل رأسه فقال بعض القوم: أيها الملك أو لم تنبئنا أن قد سررت؟! قال: بلى، قال: ما هذه الاستكانة؟! قال: إني قرأت فيما أوحى الله تبارك وتعالى إلى عيسى بن مريم: إذا أنعمت عليك نعمة فاستقبلها بالاستكانة أتمها عليك. (ص143)
عن عمرو بن مرداس عن كعب قال: ما أنعم الله على عبد من نعمة في الدنيا فشكرها لله وتواضع بها لله إلا أعطاه الله نفعها في الدنيا ورفع له بها درجة في الآخرة؛ وما أنعم الله على عبد من نعمة في الدنيا فلم يشكرها لله ولم يتواضع بها لله إلا منعه الله نفعها في الدنيا وفتح له طبقاً من النار يعذبه به إن شاء الله أو يتجاوز عنه. (ص143-144)
عن إسحاق بن سعيد بن عمرو بن سعيد قال: قال يحيى بن الحكم بن أبي العاص لعبد الملك: أي الرجال أفضل؟ قال: من تواضع عن رفعة وزهد على قدرة وترك النصرة على قوة. (التواضع والخمول ص144 والإشراف على منازل الأشراف ص209)
عن زكريا بن أبي خالد البلدي قال: دخل ابن السماك على هارون فقال: يا أمير المؤمنين والله لتواضعك في شرفك أشرف لك من شرفك، فقال: ما أحسن ما قلت؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن امرءاً آتاه الله جمالاً في خلقه وموضعاً في حسبه وبسط له في ذات يده فعف في جماله وواسى في ماله وتواضع في حسبه كُتب في ديوان الله من خالص الله، قال: فدعى هارون بدواة وقرطاس وكتب هذا الكلام بيده. (ص144-145)
عن يونس بن حلبس قال: كان أبو عبيدة بن الجراح وهو أمير يحمل سطلاً له من خشب حتى يأتي حمام أبان. (ص145)
عن علوان بن داود البجلي حدثني شيخ من همدان عن أبيه قال: بعثني قومي في الجاهلية بخيل أهدوها لذي الكلاع فأقمت ببابه سنة لا أصل إليه ثم أشرف إشرافة على الناس من غرفة له فخروا له سجوداً ثم جلس فلقيته بالخيل فقبلها، ثم لقد رأيته بحمص وقد أسلم يحمل الدرهم اللحم فيبتدره قومه ومواليه فيأخذونه منه فيأبى تواضعاً وقال:
أفٍّ لذي الدنيا إذا كانت كذا أنا منها كلَّ يوم في أذى
ولقد كنتُ إذا ما قيل: من أنعم الناس معاشاً؟ قيل: ذا
ثم بدلتُ بعيش شقوةً حبذا هذا شقاءً؛ حبذا
(ص140)
عن الأصبغ بن نباتة قال: كأني أنظر إلى عمر بن الخطاب معلقاً لحماً في يده اليسرى وفي يده اليمنى الدرة يدور في الأسواق حتى دخل رحله. (ص147)
عن صالح بياع الأكسية عن أمه أو جدته قالت: رأيت علياً اشترى تمراً بدرهم فحمله في ملحفته فقلت أحمل عنك يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، أبو العيال أحق أن يحمل. (ص148)
عن حكيم بن محمد الأحمسي قال: كان سليمان بن داود إذا أصبح تصفح وجوه الأغنياء والأشراف حتى يجيء إلى المساكين فيقعد معهم ويقول: يا رب مسكين مع مساكين. (ص148)
قال ابن أبي الدنيا: حدثني الحسين بن عبد الرحمن قال: قال بعض الناس كما تكره أن يراك الأغنياء في الثياب الدون فكذلك فاكره أن يراك الفقراء في الثياب المرتفعة. (ص150)
عن عبد المؤمن الموصلي قال: قال صدقة القاري: العجب للغني إذا جلس يحدث المسكين كيف لا يستحيي منه. (ص150)
عن مسلمة بن جعفر عن سعد الطائي قال: كان عيسى بن مريم يقول: طوبى للمتواضعين في الدنيا هم أصحاب المنائر يوم القيامة، طوبى للمصلحين بين الناس في الدنيا هم الذين يورَّثون الفردوس يوم القيامة، طوبى للمطهرة قلوبهم في الدنيا هم الذين ينظرون إلى الله يوم القيامة. (ص154)
انتهى ما أردت نقله في هذا الموضع عن كتاب (التواضع والخمول) لابن أبي الدنيا.(1/126)
. (5/238)
سوء الظن بالنفس
قرأ الحسن هذه الاية: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى)(1) فقال(2): يا لكع ما أجد لك ههنا شيئاً. (زوائد الزهد ص265)
قال مالك بن دينار: إذا ذكر الصالحون فأف لي وتف. (صف3/278)
قال جعفر بن سليمان: جاء محمد بن واسع إلى مالك بن دينار فقال: يا أبا يحيى إن كنت من أهل الجنة فطوبى لك، فقال: ينبغي لنا إذا ذكرنا الجنة أن نخزى. (صف3/279)
قال مالك: والله لو وقف ملك بباب المسجد وقال: يخرج شر من في المسجد لبادرتكم إليه. (صف3/281-282)
قال بشر بن الحارث: قال رجل لمالك بن دينار: يا مرائي! قال: متى عرفت اسمي؟! ماعرف اسمي غيرك!. (صف3/287)
قال ابن شوذب: اجتمع يونس بن عبيد وعبد الله بن عون فتذاكرا الحلال فكلاهما يقول: ما أرى في بيتي درهماً حلالاً. (صف3/306)
قال يونس: إني لأعد مئة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسي واحدة منها. (محاسبة النفس ص80 و صف3/307)
__________
(1) طه (82)؛ وقال ابن الجوزي في (مختصر منهاج القاصدين) (ص390): (ومن أعجب ما ظاهره الرجاء، وهو شديد التخويف، قوله تعالى (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى) فإنه علق المغفرة على أربعة شروط يبعد تصحيحها).
(2) يخاطب نفسه إذ وجدها قد طمعت في مغفرة الله لرجائها أن تكون داخلة في أصحاب الصفات المذكورة في الآية؛ وهذا الخطاب جرى على طريقة إساءة الظن بالنفس، وما أحسن ذلك؛ ولا سيما إذا اجتمع مع حسن الظن بالله، بل لا بد من اجتماعهما عند المؤمن.(1/127)
قال ميمون بن مهران: ما أقلَّ أكياسَ الناسِ، لا يبصرُ الرجلُ أمرَه حتى ينظرَ إلى الناسِ وإلى ما أُمِروا بهِ، والى ما قد أكَبُّوا عليهِ من الدنيا فيقولُ: ما هؤلاءِ إلا أمثالُ الأباعرِ التي لا هَمَّ لها إلا ما تجعلُ في أجوافِها حتى إذا أبصرَ غفلتَهم نظرَ إلى نفسِهِ، فقالَ: واللهِ إني لأراني من شرِّهم بعيراً واحداً. (4/89)
قال إبراهيم التيمي(1): ما عرضتُ قولي على عملي(2) إلا خشيتُ أن أكونَ مكذباً. (صفة المنافق ص75 والحلية 4/211 والصمت ص90)
قال رجل لعمر بن عبد العزيز: يا أميرَ المؤمنينَ كيف أصبحتَ؟ قالَ: أصبحتُ بطيئاً بطيناً متلوثاً في الخطايا، أتمنى على الله الأماني!(3). (5/287)
قال سعيد بن محمد الثقفي: سمعت القاسم بن غزوان قال: كان عمر بن عبد العزيز يتمثل بهذه الأبيات:
أيقظان أنت اليوم أم أنت نائم
وكيف يطيق النوم حيران هائم
فلو كنت يقظان الغداة لحرقت
مدامع عينيك الدموع السواجم
بل أصبحت في النوم الطويل وقد دنت
إليك أمور مفظعات عظائم
نهارك يا مغرور سهو وغفلة
وليلك نوم والردى لك لازم
يغرك ما يفنى وتشغل بالمنى
كما غر باللذات في النوم حالم
وتشغل فيما سوف تكره غبه
كذلك في الدنيا تعيش البهائم
(صف2/124)
__________
(1) قال العوام بن حوشب: ما رأيت رجلا قط خيرا من إبراهيم. (صف3/90)
(2) وردت العبارة في (الحلية) على عكس ما هنا، هكذا (عملي على قولي).
(3) وقال الثوري: ضرب عمر بن عبد العزيز بيده على بطنه ثم قال: بَطينٌ، بطيءٌ عن عبادة ربه، متلوث بالذنوب والخطايا، يتمنى على الله منازل الأبرار بخلاف أعمالهم!. (5/287)(1/128)
قال هوذة بن عبد العزيز: زحم سالمَ بنَ عبدِ الله بن عمر رجلٌ فقال سالم: بعضَ هذا رحمك الله! فقال له الرجل: ما أراك إلا رجل سوء! فقال سالم: ما أحسبك أبعدت(1). (صف2/90)
قال صخر بن أبي صخر: قال عامر بن عبد الله بن الزبير: أنا من أهل الجنة؟! أوَنا من أهل الجنة؟! أوَمثلي يدخل الجنة؟! (محاسبة النفس 146)
عن شرحبيل أن عَمْراً بن الأسود كان يدع كثيراً من الشبع مخافة الأشر؛ وكان إذا خرج من بيته إلى المسجد قبض يمينه على شماله مخافة الخيلاء. (صف4/201)
رحمة الخلق
قال عبد الرحمن بن جبيات: قيل لعمرو [بن قيس الملائي]: ما الذي نرى بك من تغير الحال؟ قال: رحمة للناس من غفلتهم عن أنفسهم. (5/102)
كتب صالحُ بنُ عبدِ الرحمنِ وصاحبٌ له وكانا قد ولاهما عمرُ [بن عبد العزيز] شيئاً من أمرِ العراقِ فكتبا إلى عمرَ يعرّضانِ له أنَّ الناسَ لا يُصلحُهم إلا السيف! فكتب إليهما: خبيثينِ من الخبثِ، رديئينِ من الردى!! تُعرّضانِ لي بدماءِ المسلمينَ: ما أحدٌ مِنَ الناسِ إلا ودماؤكما أهونُ عليَّ مِن دمه. (5/307)
كتبَ عمرُ بن عبد العزيز إلى خُزّانِ بيوتِ الأموالِ: إذا أتاكم الضعيفُ بالدينارِ لا ينْفقُ منه فأبدلوه عنه من بيتِ المالِ. (5/311)
عن يزيد بن عبد الله عن أخيه مطرف قال: إن الله ليرحم برحمة العصفور. (رك ص619)
عن يزيد بن عبد الله عن أخيه مطرف أنه أصاب مرة حمرة فأرسلها وقال: أتصدق بك اليوم على فراخك. (رك ص619)
__________
(1) في كتاب (الورع) لأحمد (ص186): (ذكرت لأبي عبد الله [يعني أحمد] رجلاً فقال: في نفسي شغل عن ذكر الناس، وذكر له رجل فقال: ما أعلم إلا خيراً، قيل له: قولك فيه خلاف قوله فيك؟! فتبسم وقال: ما أعلم إلا خيراً، هو أعلم وما يقول، تريد أن أقول ما لا أعلم، وقال: رحم الله سالماً [بن عبد الله بن عمر] زَحمت راحلته رجلاً [بالأصل: رجل] فقال الرجل لسالم: أراك شيخ سوء قال: ما أبعدت).(1/129)
عن الأوزاعي عن القاسم [بن مخيمرة] أنه كره صيد الطير أيام فراخه. (6/81)
كانَ لعمرَ بن عبد العزيز غلامٌ يعملُ على بغلٍ لهُ يأتيهِ بدرهَمٍ كلَّ يومٍ، فجاءه يوماً بدرهمٍ ونصفٍ، فقالَ: ما بدا لك؟! فقالَ: نفقَتِ السوقُ، قال: لا، ولكنكَ أتعبتَ البغلَ! أرحْهُ ثلاثةَ أيامٍ. (5/260)
قال يوسف بن عطية الصفار: رأيت الحسن البصري قاعداً في الشمس يفُتُّ لُبابَ الخبز للنمل. (ثقات ابن حبان 8/254).
الحياء
قال وهب بن منبه: كان إذا كانَ في الصبي خلقان الحياء والرهبة طُمعَ [في] رشده. (4/36)
قال وهب بن منبه: الإيمان عريان ولباسه التقوى وزينته الحياء وماله العفة. (مكارم الأخلاق ص41)
قال الأحنف بن قيس: أربع من كن فيه كان كاملاً، ومن تعلق بخصلة منهن كان من صالحي قومه: دين يرشده، أو عقل يسدده، أو حسب يصونه، أو حياء يَقناه(1). (البيان والتبيين 2/196-197)
قال سعيد بن جبير: رأيت رجلاً يصنع شيئاً يُكره فقيل له: ألا نهيته؟! قال: استحييت منه. (مكارم الأخلاق ص44)
الوفاء بالوعدِ، وأداءُ الأمانة، الخيانة و إفشاء السر
عن عبد ربه القصاب قال: واعدت محمد بن سيرين رحمه الله أن أشتري له أضاحي فنسيت وعده بشغل ثم ذكرت بعدُ فأتيته قريباً من نصف النهار وإذا محمد ينتظرني فسلمت عليه ورفع رأسه فقال: أما إنه قد يقبل أهون ذنب منك فقلت: شغلت وعنفني أصحابي في المجيء إليك وقالوا: قد ذهب ولم يقعد إلى الساعة فقال: لو لم تجيء حتى تغرب الشمس ما قمت من مقعدي هذا إلا للصلاة أو حاجة لا بد منها. (الصمت ص232)
عن الحسن بن عبيد الله قال: قلت لإبراهيم: الرجل يواعد الرجل الميعاد ولا يجيء، قال: لينتظر ما بينه وبين أن يدخل وقت الصلاة التي تجيء. (الصمت ص232)
__________
(1) أي يلزمه.(1/130)
قال شعبة: ما واعدت أيوب موعداً قط إلا قال لي حين يريد أن يفارقني: ليس بيني وبينك موعد فإذا جئت وجدته قد سبقني. (الصمت ص233)(1)
عن الليث بن سعد قال: كانت ترمص عينا سعيد بن المسيب حتى يبلغ الرمص خارج عينيه، وصَفَ يحيى(2) بيده إلى المحاجر، فيقال له: لو مسحت هذا الرمص! فيقول: فأين قولي للطبيب وهو يقول لي: لا تمس عينك فأقول: لا أفعل. (الصمت ص248)
عن قرة بن خالد عن الحسن قال: قال سمرة بن جندب وكان داهية: لأن أقول: لا، أحب إلي من أن أقول: نعم، ثم لا أفعل. (الصمت ص248)
عن سعيد بن يزيد قال: سمعت الشعبي يتمثل:
أنت الفتى كل الفتى* *إن كنت تصدق ما تقول
لا خير في كذب الجواد***وحبذا صدق البخيل
(الصمت ص249)
عن مجاهد في قوله (وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ)(3) قال: رجلان خرجا على ملأٍ قعود فقالا: والله لئن رزقنا الله من فضله لنصدقن فلما رزقهم بخلوا به. (الصمت ص250)
كان أبو بكر بن عبد الرحمن [بن الحارث] حارساً لعروة حتى إنه أودع مالاً فأصيب؛ فقال له عروة: لا ضمان عليك! قال: قد علمتُ ولكن لا تتحدثْ قريش أن أمانتي خربت؛ فباع مالاً له فقضاه. (صف2/92)
قال مالك بن دينار: كفى بالمرء خيانة أن يكون أميناً للخونة، وكفى بالمرء شراً أن لا يكون صالحاً ويقع في الصالحين. (صف3/282)
قال مالك: كان يقال: كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا للخونة. (2/372)
قال يحيى بن أبي كثير: ثلاث لا تكون في بيت إلا نزعت منه البركة: السرفُ والزنا والخيانة(4). (3/69)
قال الحسن: إن من الخيانة أن تحدث بسر أخيك. (الصمت ص214)
قال الأعمش: يضيق صدر أحدهم بسره حتى يحدث به ثم يقول: اكتمه عليّ!!. (روضة العقلاء ص191)
__________
(1) عن فرات بن سلمان قال: كان يقال: إذا سُئلت فلا تَعِدْ؛ وقل: أسمع ما تقول فإن يقدَّر شيء يكن. (الصمت ص232)
(2) راوي هذا الأثر.
(3) التوبة (75).
(4) وانظر الأثر التالي.(1/131)
مشاورة أهل الدينِ والنصحِ والعقلِ الرجيح
قال تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(1)؛ قال قتادة: أمره بمشاورتهم تألفاً لهم وتطييباً لأنفسهم؛ وقال الضحاك: أمره بمشاورتهم لما علم فيها من الفضل؛ وقال الحسن البصري: أمره بمشاورتهم ليستن به المسلمون ويتبعه فيها المؤمنون وإن كان عن مشورتهم غنياً. (أدب الدنيا والدين ص473)
قال الحسن في قوله تعالى: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ)(2): ما كان يحتاج(3) إليهم، ولكن أحب أن يستن به من بعده. (روضة العقلاء ص191 وتهذيب الأسماء 1/166)
قال الحسن: لا يندم من شاور مرشداً. (روضة العقلاء ص193)
قال وهب بن منبه: في التوراة أربعة أحرف مكتوبة: من لم يشاور يندم؛ ومن استغنى استأثر؛ والفقر الموت الأحمر؛ وكما تَدين تُدان. (روضة العقلاء ص192)
قال عمر بن عبد العزيز: إن المشورة والمناظرة بابا رحمة ومفتاحا بركة لا يضل معهما رأي ولا يفقد معهما حزم. (أدب الدنيا ص474)
قال الحسن: والله ما استشار قوم قط إلا هدوا لأفضل ما بحضرتهم ثم تلا (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)(4). (الأدب المفرد ص100 وانظر روضة العقلاء ص192 و193)
الحلم والعفو وسلامة الصدر
والصبرُ على أذى الناس(5) ومداراتُهم(6)
__________
(1) آل عمران (159).
(2) آل عمران (159).
(3) أي النبي صلى الله عليه وسلم.
(4) الشورى (38).
(5) الفرق بين الحلم والصبر هو أن الحلم معناه أن لا يخرجك أذى الناس واستغضابهم لك عن حد الاعتدال؛ وأما الصبر فهو أن لا تخرجك المصيبة عن حد الاعتدال والاحتمال؛ والصبر يطلق أحياناً على الحلم من غير عكس، فإن الحلم لا يطلق على الصبر على المصيبة.
(6) قال محمد بن الحسين الآجري (ت 360هـ) في (الغرباء) (ص79-80) في بيان معنى الغربة والمداراة والمداهنة:
(الغرباء في وقتنا هذا من أخذ بالسنن وصبر عليها وحذر البدع وصبر عنها واتبع آثار من سلف من أئمة المسلمين وعرف زمانه وشدة فساده وفساد أهله فاستغنى بإصلاح شأن نفسه من حفظ جوارحه وترك الخوض فيما لا يعنيه وعمل في إصلاح كسرته وكان طلبه من الدنيا ما فيه كفايته في ترك الفضل الذي يطغيه ودارى أهل زمانه ولم يداهنهم وصبر على ذلك فهذا غريب، من يأنس إليه من العشيرة والإخوان [قليل]، ولا يضره ذلك؛ فإن قال قائل: افرق لنا بين المداراة والمداهنة قيل له: المداراة يثاب عليها العاقل ويكون محموداً بها عند الله عز وجل وعند من عقل عن الله عز وجل؛ هو الذي يداري جميع الناس الذين لا بد له منهم ومن معاشرتهم لا يبالي ما نقص من دنياه وما انتهك به من عرضه بعد أن يسلم دينه فهذا رجل كريم غريب في زمانه. والمداهن فهو الذي لا يبالي ما نقص من دينه إذا سلمت له دنياه قد هان عليه ذهاب دينه وانتهاك عرضه بعد أن تسلم له دنياه، فهذا فعل مغرور، فإذا عارضه العاقل فقال: هذا لا يجوز لك فعله! قال: نداري فيكسو المداهنة المحرمة اسم المداراة وهذا غلط كبير من قائله فاعلم ذلك).
وقال ابن حبان في (روضة العقلاء) (ص70): (الواجب على العاقل أن يلزم المداراة مع من دفع اليه في العشرة من غير مقارفة المداهنة إذ المداراة من المداري صدقة له والمداهنة من المداهن تكون خطيئة عليه. والفصل بين المداراة والمداهنة: هو أن يجعل المرء وقته في الرياضة لإصلاح الوقت الذي هو له مقيم بلزوم المداراة من غير ثلم في الدين من جهة من الجهات فمتى ما تخلق المرء بخلق شابهُ [أي خالطه] بعض ما كره الله منه في تخلقه فهذا هو المداهنة لأن عاقبتها تصير إلى قُلٍّ، ويلازم المداراة لأنها تدعو الى صلاح أحواله؛ ومن لم يدار الناس ملوه).
ثم قال: (الواجب على العاقل أن يداري الناس مداراة الرجل السابح في الماء الجاري ومن ذهب إلى عشرة الناس من حيث هو [أي بما يحبه ويرتضيه] كدَّر على نفسه عيشه ولم تصف له مودته لأن وداد الناس لا يُستجلَب إلا بمساعدتهم على ما هم عليه إلا أن يكون مأثماً؛ فإذا كانت حالة معصية فلا سمع ولا طاعة والبشر قد ركب فيهم أهواء مختلفة وطبائع متباينة فكما يشق عليك ترك ما جبلت عليه فكذلك يشق على غيرك مجانبة مثله فليس إلى صفو ودادهم سبيل إلا بمعاشرتهم من حيث هم [أي كما يرغبون ويريدون] والإغضاء عن مخالفتهم في الأوقات).
ثم قال: (من التمس رضا جميع الناس التمس ما لا يدرك ولكن يقصد العاقل رضا من لا يجد من معاشرته بداً وإن دفعه الوقت الى استحسان أشياء من العادات كان يستقبحها واستقباح أشياء كان يستحسنها ما لم يكن مأثماً فإن ذلك من المداراة وما أكثر من دارى فلم يسلم فكيف توجد السلامة لمن لا يداري).
ثم روى عن حماد بن اسحق عن المدائن قال قال معاوية: (لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت قيل وكيف قال لأنهم إن مدوها حليها وإن خلو مددتها).
ثم قال: (من لم يعاشر الناس على لزوم الإغضاء عما يأتون من المكروه وترك التوقع لما يأتون من المحبوب كان إلى تكدير عيشه أقرب منه إلى صفائه، وإلى أن يدفعه الوقت إلى العداوة والبغضاء أقرب منه إلى أن ينال منهم الوداد وترك الشحناء؛ ومن لم يدار صديق السوء كما يداري صديق الصدق ليس بحازم).
ثم قال: (العاقل إذا دفعه الوقت إلى صحبة من لا يثق بصداقته أو صداقة من يثق بأخوته فرأى من أحدهما زلة فرفضه لزلته بقي وحيداً لا يجد من يعاشر، فريداً لا يجد من يخادن، بل يغضي على الأخ الصادق زلاته ولا يناقش الصديق السيء على عثراته لأن المناقشة تلزمه في تصحيح أصل الوداد أكثر مما تلزمه في فرعه؛ ومن أنواع المداراة ما حدثني الحسن بن سفيان حدثنا عبد الله بن أحمد ابن شبويه حدثنا الحسن بن واقع حدثنا ضمرة عن ابن شوذب قال: كانت لرجل جارية فوطئها سراً فقال لأهله: إن مريم كانت تغتسل في هذه الليلة فاغتسلوا، فاغتسل هو واغتسل أهله؛ قال ابن شوذب: وكانت مريم تغتسل في كل ليلة).(1/132)
قال رجاء بن حيوة: الحلمُ أرفع من العقل، لأن الله تَسمّى به. (5/172)
قال الحسن: ما نحل الله عباده(1) شيئاً أجل من الحلم؛ ومن ثم أثنى الله تعالى على خليله وابنه به لما انشرحت صدورهم لما ابتلاهمـ[ـا] الله به من الذبح، فقال: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ)(2)؛ (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ)(3). (فيض القدير 5/418)
قالَ الربيعُ بن خثيم: الناسُ رجلانِ: مؤمنٌ وجاهلٌ، فأما المؤمنُ فلا تؤذِهِ، وأما الجاهلُ فلا تجاهلْه. (2/111 والزهد لأحمد 2/211 ومداراة الناس 7و22 والحلم 38 والشعب 6/353)
قال بكرُ بنُ عبدِ اللهِ المزني: لا يكونُ الرجلُ تقياً حتى يكونَ بطيءَ الطمَعِ بطيءَ الغضب. (2/225)
كان بكر بن عبد الله يقول: أطفئوا نار الغضب بذكر نار جهنم. (البيان والتبيين 3/141)
قال الحسن: من كانت له أربع خلال حرمه الله على النار وأعاذه من الشيطان: من يملك نفسه عند الرغبة والرهبة وعند الشهوة وعند الغضب. (2/144)
قال يحيى بن أبي كثير: لا يعجبْكَ حلمُ امرىءٍ حتى يُغْضَبَ، ولا أمانتُهُ حتى يُطْمَعَ، فإنّكَ لا تدري على أيِّ شقيه يقع. (3/69)
قال عنبر مولى الفضل بن أبي عياش: كنت جالساً مع وهب بن منبه فأتاه رجل فقال: إني مررتُ بفلانٍ وهو يشتمُك فغضب فقال: ما وجد الشيطانُ رسولاً غيرَك؟! فما برحتُ مِن عندِه حتى جاءه ذلك الرجلُ الشاتمُ فسلمَ على وهب فردَّ عليه ومدَّ يدَه وصافحه وأجلسه إلى جنبه. (4/71)
قال أبان بن أبي راشد القشيري: كنت اذا أردت الصائفةَ(4) أتيتُ ميمونَ بنَ مهران أودعُه فما يزيدني على كلمتين: اتقِ اللهَ ولا يغيِّرْكَ طمعٌ ولا غضبٌ. (4/85)
__________
(1) بعد توحيده وتعظيمه.
(2) هود (75).
(3) الصافات (101).
(4) هي الغزوة في الصيف.(1/133)
قال العوام بن حوشب: سمعت ابراهيم التيمي يقول: إن الرجل ليظلمني فأرحمه(1). (صف3/91)
قال إبراهيم: إن كان الرجلُ من الحي ليجيء فيسبُّ الحارثَ بنَ سويد فيسكت؛ فإذا سكتَ قامَ فنفضَ رداءَه ودخل. (4/126)
كان عون بن عبد الله إذا غضب على غلامه قال: ما أشبهك بمولاك(2)! أنت تعصيني وأنا أعصي الله، فإذا اشتد غضبه قال: أنت حرٌّ لوجه الله. (روضة العقلاء ص139)
قالَ الشعبيُّ: زينُ العلمِ حلمُ أهله. (4/318)
عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال: ما أوتي شيء إلى شيء أزين من الحلم إلى علم. (العلم لأبي خيثمة ص21)
قال رجاء بن حيوة: يقالُ: ما أحسنَ الاسلامَ يزينُهُ الإيمانُ، وما أحسنَ الإيمانَ يزينُه التُّقى، وما أحسنَ التُّقى يزينهُ العلمُ، وما أحسنَ العلمَ يزينه الحلمُ، وما أحسنَ الحلمَ يزينه الرفقُ. (5/173)
__________
(1) قال رجل لعمرو بن عبيد: إني لأرحمك مما يقول الناس فيك، قال: أفتسمعني أقول فيهم شيئاً؟ قال: لا؛ قال: إياهم فارحم. ذكره ابن قتيبة في (عيون الأخبار) (2/24).
قلت: والمسلم الذي يطلب السير على الطريقة المستقيمة أولى بهذا الخلق من عمرو هذا فإنه كان من رؤوس المبتدعة، وكان أهلاً لأن يُحذَّر منه.
وأنشد غير واحد من أهل الأدب لمحمود الوراق:
إني شكرت لظالمي ظلمي
وغفرت ذاك له على علمي
ورأيته أسدى إلي يداً
لما أبان بجهله حلمي
رجعت إساءته عليه وإحساني
فراح مضاعف الجرم
وغدوت ذا أجر ومحمدة
وغدا بكسب الذم والإثم
فكأنما الإحسان كان له
وأنا المسيء إليه في الحلم
ما زال يظلمني وأرحمه
حتى بكيت له من الظلم
الشعب 6/57
(2) يعني نفسه.(1/134)
قال إسماعيل بن أبي حكيم: غضب عمر بن عبد العزيز يوماً فاشتد غضبه وكان فيه حدة وعبد الملك(1) حاضر فلما سكن غضبه قال: يا أمير المؤمنين أنت في قدر نعمة الله عليك وموضعك الذي وضعك الله به وما ولاك من أمر عباده يبلغ بك الغضب ما أرى؟! قال: كيف قلت؟ فأعاد عليه كلامه فقال: أما تغضب يا عبد الملك؟ فقال: ما تغني سعة جوفي إن لم أردد فيه الغضب حتى لا يظهر منه شيء أكرهه. (صف2/128)
دخل عمر بن عبد العزيز المسجد ليلة في الظلمة فمر برجل نائم فعثر به فرفع رأسه وقال: أمجنون أنت؟ فقال عمر: لا، فهم به الحرس فقال عمر: مه، إنما سألني: أمجنون؟ فقلت: لا. (مختصر منهاج القاصدين ص237)
قال عمر بن عبد العزيز: ثلاث من كن فيه فقد كمل: من لم يخرجه غضبه عن طاعة الله؛ ولم يستزله رضاه إلى معصية الله؛ وإذا قدر عفا وكفّ. (الكامل 1/116)
قال بكار بن محمد: كان ابن عون لا يغضب؛ فإذا أغضبه إنسان قال: بارك الله فيك. (روضة العقلاء ص139 و صف3/310)
كان لابن عون جمل يستقى الماء فإذا غلام ابن عون قد ضرب الجمل فذهب بعينه فجاء الغلام وقد أرعب وظن أنهم قد شكوه فلما رآه قد أرعب قال: اذهب فأنت حر لوجه الله عز وجل. (صف3/311)
جاء غلام لابن عون قال: فقأت عين الناقة! قال: بارك الله فيك! قال: قلت: فقأت عينها فتقول: بارك الله فيك؟! قال: أقول: أنت حر لوجه الله(2). (3/39)
قال عبد الغفار بن القاسم: كان علي بن الحسين [بن علي] خارجاً من المسجد فلقيه رجل فسبه فثارت إليه العبيد والموالي فقال علي بن الحسين: مهلاً عن الرجل، ثم أقبل على الرجل فقال: ما ستر عنك من أمرنا أكثر! ألك حاجة نعنيك عليها؟! فاستحيا الرجل فألقى عليه خميصة كانت عليه وأمر له بألف درهم فكان الرجل بعد ذلك يقول: أشهد أنك من أولاد الرسول. (صف2/100)
__________
(1) ابن عمر.
(2) كان ابن عون لا يغضب، فإذا أغضبه الرجل قال: بارك الله فيك.(1/135)
قال أبو يعقوب المدني: كان بين حسن بن حسن وبين علي بن الحسين بعض الأمر فجاء حسن بن حسن إلى علي بن الحسين وهو مع أصحابه في المسجد فما ترك شيئاً إلا قاله له؛ قال: وعلي ساكت؛ فانصرف حسن فلما كان في الليل أتاه في منزله فقرع عليه بابه فخرج إليه فقال له علي: يا أخي إن كنت صادقاً فيما قلت لي فغفر الله لي وإن كنت كاذبا فغفر الله لك السلام عليكم وولى قال فاتبعه حسن فالتزمه من خلفه وبكى حتى رثى له ثم قال: لا جرم لا عدت في أمر تكرهه؛ فقال علي: وأنت في حل مما قلت لي(1). )صف2/94)
عن سفيان الثوري عن سليمان عن أبي رزين قال: جاء رجل الى الفضيل بن بزوان فقال: إن فلاناً يقع فيك! فقال: لأغيظن من أمره، يغفر الله لي وله؛ قيل: من أمره؟ قال: الشيطان. (رك 234 وانظر صف 3/72 والورع لأحمد ص186)
قال عروة بن الزبير: رب كلمة ذل احتملتها أورثتني عزاً طويلاً. (صف2/85)
قال الحسن: قال الأحنف بن قيس: والله ما سمعت كلمة إلا طأطأت لها رأسي لما هو أعظم منها(2)
__________
(1) قال سفيان: جاء رجل إلى علي بن الحسين رضي الله عنه فقال له: إن فلانا قد آذاك ووقع فيك قال: فانطلق بنا إليه فانطلق معه وهو يرى أنه سينتصر لنفسه فلما أتاه قال: يا هذا إن كان ما قلتَ فيَّ حقاً فغفر الله لي، وإن كان ما قلتَ فيَّ باطلاً فغفر الله لك. (صف2/94)
كلم رجل زين العابدين فافترى عليه فقال: إن كنا كما قلت فنستغفر الله، وإن لم نكن كما قلت فغفر الله لك، فقام إليه الرجل فقبل رأسه وقال: جُعلتُ فداك، ليس كما قلتُ أنا، فاغفر لي؛ قال: غفر الله لك؛ فقال الرجل: (الله أعلم حيث يجعل رسالته) [الأنعام 124]. (صف2/95)
(2) لعل المراد أنه كان إذا عابه أحد بشيء فإنه يذْكر من عيوب نفسه - عند سماعه لذلك - ما يراه هو أشد من ذلك العيب المذكور، فيطأطئ رأسه ولا يرد على ذلك العائب أو الشاتم بشيء، والله أعلم.
ثم ترجح عندي بعد زمن من كتابة هذا التعليق أن الصواب غيره وأنه إنما كان يسكت على أول كلمة ويصبر عليها لئلا يسمع ما هو أكبر منها أو أشد أو أكثر، وفي هذا المعنى روى البيهقي في (الشعب) (6/345) عن يوسف بن الحسين قال: سمعت سلمة يقول: قال شبيب بن شيبة: من سمع كلمة فسكت عنها سقط عنه ما بعدها، ومن أجاب عنها سمع ما هو أغلظ منها، وأنشأ يقول:
وتنفر نفس المرء من وقع شتمة ويشتم ألفاً بعدها ثم يسكت(1/136)
. (صف3/199)
قيل للأحنف بن قيس: ما الحلم؟ قال: أن تصبر على ما تكره قليلاً. (عدة الصابرين ص77)
قال معاوية بن هشام لخالد بن صفوان: بم بلغ فيكم الأحنف بن قيس ما بلغ؟ قال: إن شئت حدثتك ألفاً وإن شئت حذفت لك الحديث حذفاً، قال: احذفه لي حذفاً، قال: فإن شئت فثلاثاً، وإن شئت فاثنتين، وإن شئت فواحدة، قال: ما الثلاث؟ قال: كان لا يشره ولا يحسد ولا يمنع حقاً، قال: فما الثنتان؟ قال: كان موفقا للخير معصوماً من الشر؛ قال: فما الواحدة؟ قال: كان أشد الناس على نفسه سلطاناً. (صف3/199)
وقف رجل عليه مقطَّعات على الأحنف يسبه – وكان عمرو بن الأهتم جعل له ألف درهم على أن يسفِّه الأحنف – فجعل لا يألو أن يسبه سباً يُغضِبُ والأحنفُ مطرِقٌ لا يكلمه؛ فلما رآه لا يكلمه أقبل الرجل يعضُّ إبهامه ويقول: يا سوأتاه! والله ما يمنعه من جوابي إلا هواني عليه! (الكامل 3/78)
قال الأحنف: لا تزال العرب عرباً ما لبست العمائم وتقلدت السيوف ولم تعدُد الحِلم ذلاً ولا التواهب(1) فيما بينها ضَعةً. (الكامل 1/179)
قال محمد بن الحسين: إن أبا السوار العدوي أقبل عليه رجل بالأذى فسكت حتى بلغ منزله ودخل(2) قال: حسبك إن شئت. (صف3/231)
قال هشام بن حسان: كان أبو السوار العدوي يعرض له الرجل فيشتمه فيقول له: إن كنتُ كما قلتَ إني إذاً لرجل سوء. (المداراة ص53 وصف3/231)
عن سعيدِ بنِ سويدٍ، من حرسِ عمرَ بنِ عبدِ العزيز، قال: صلى بنا عمرُ بنُ عبدِ العزيز الجمعةَ ثم جلس وعليه قميصٌ مرقوعُ الجيبِ مِن بين يديه ومن خلفه! فقال له رجلٌ: يا أميرَ المؤمنين إن الله قد أعطاك فلو لبستَ! فنكَّسَ مليّاً ثم رفع رأسَه إليه فقالَ: إن أفضلَ القصدِ عند الجِدَة، وأفضلَ العفوِ عند المقدرة. (التواضع والخمول ص172-173 والحلية 5/261)
__________
(1) وهو أن يهب الرجل من حقه ما لا يستكره عليه.
(2) في الأصل (أو دخل).(1/137)
قال عمر بن عبد العزيز: أحب الأمور إلى الله ثلاثة: العفو في القدرة، والقصد في الجِدَة، والرفق في العبادة(1)، وما رَفَق أحد بأحد في الدنيا إلا رفق الله به يوم القيامة. (روضة العقلاء ص167)
سُرقَ للربيعِ بن خثيم فرَسٌ، فقالَ أهلُ مجلسِهِ: ادعُ اللهَ عليهِ! قالَ: بلْ أَدْعُ اللهَ له، اللهم إن كانَ غنياً فأَقْبِلْ بقلبِهِ، وإنْ كانَ فقيراً فأَغْنِه. (2/111)
قال إياس بن معاوية: كان أفضلهم عندي، يعني الماضين، أسلمهم صدراً وأقلهم غيبة. (3/125)
قال سفيان بن دينار التمار: سألتُ ماهانَ الحنفيَّ: ما كانت أعمال القوم؟ قال: كانت أعمالُهم قليلةً وكانت قلوبُهم سليمةً. (4/365)
عن الأعمش عن إبراهيم قال: جاء رجل إلى علقمة فشتمه فقال علقمة: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً)(2) الآية، فقال الرجل: أمؤمن أنت؟! قال: أرجو. (2/100)
قال أبو حازم: لا تكون عالماً حتى تكون فيك خصال: لا تبغ على من فوقك ولا تحقر من دونك ولا تأخذ على علمك دنيا. (المداراة ص41)
عن ابن جريج عن مجاهد: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً)(3) قال: إذا أوذوا صفحوا. (المداراة ص39-40)
عن سفيان عن السدي: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً)(4) قال: لم يكلموهم. (المداراة ص40)
عن سفيان الثوري عن يونس بن عبيد عن حميد بن هلال قال: أدركت الناس يعدون المداراة صدقة تخرج فيما بينهم، وكان يقال: إذا بلغك عن أخيك ما تكره فالقَهُ بما يحب فإنك تقضمه جمرته وهو لا يشعر. (المداراة ص48)
__________
(1) لعلها (العباد) بدل (العبادة).
(2) الأحزاب (58).
(3) الفرقان (72).
(4) الفرقان (72).(1/138)
قالَ عبدُ العزيز بن عمر: قال لي أبي: يا بنيَّ إذا سمعتَ كلمةً من امرىءٍ مسلمٍ فلا تحملْها على شيءٍ من الشرِّ ما وجدتَ لها محملاً من الخير(1). (5/278 والمداراة ص48)
عن غالب القطان عن بكر بن عبد الله المزني قال: لا تعادِ من الناس من يملك لك ما لا تملك له، ثم يقول(2): هذا الرجل الفاجر يملك أن يبهتك بما يبهتك(3) ويكذب عليك ويقول فيك الباطل، وأنت منعك من ذلك ما يمنعك. (المداراة ص52)
عن كنانة بن جبلة قال: قال بكر بن عبد الله: ما عليك أن تنزل الناس منزلة أهل البيت فتنزل من كان أكبر منك منزلة أبيك وتنزل من كان منهم قرينك منزلة أخيك وتنزل من كان أصغر منك منزلة ولدك فأي هؤلاء تحب أن يهتك ستره؟!. (المداراة ص54)
قال مكحول: التقى يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم عليهما السلام فضحك عيسى في وجهه يحيى وصافحه فقال له يحيى: يا ابن خالتي أراك ضاحكاً كأنك قد أمنت! فقال له عيسى: يا ابن خالتي ما لي أراك عابساً كأنك قد يئست؟! فأوحى الله تعالى إليهما أن أحبكما إلي أبشكما لصاحبه. (المداراة ص63 والإخوان ص193 والحلية 5/181)
قال سعيد بن عبد الرحمن الزبيدي: يعجبني من القراء كل سهل طلق مضحاك، فأما من تلقاه ببشر ويلقاك بعُبوس يَمُنُّ عليك بعمله فلا أكثر الله في القراء ضرْبَ هذا(4). (روضة العقلاء ص76 والمداراة ص65)
قال أبو سنان: قلت لسعيد بن جبير: المجوسي يوليني من نفسه ويسلم علي أفأرد عليه؟ فقال سعيد: سألت ابن عباس عن نحو من ذلك فقال: لو قال لي فرعون خيراً لرددت عليه. (المداراة ص93-94)
__________
(1) لفظ كتاب (المداراة) هو: (فاحملها على أحسن ما تجد حتى لا تجد محملاً). وقد ورد هذا الأثر في (المداراة) (ص50) منسوباً إلى عمر بن الخطاب.
(2) في الأصل (تقول) بالتاء.
(3) في الأصل (ينهتك) بالنون.
(4) أي مثيله وشبيهه.(1/139)
قال هشام بن عروة بن الزبير: عطس نصراني طبيب عند أبي فقال له: رحمك الله؛ فقيل له: إنه نصراني! قال أبي: رحمة الله على العالمين. (المداراة ص95)
قال وهب بن منبه: ثلاث من كن فيه أصاب البر: سخاوة النفس والصبر على الأذى وطيب الكلام. (المداراة ص95 والصمت ص180)
قال قتادة: قال لقمان لابنه: أي بني اعتزل الشر كيما(1) يعتزلك، فإن الشر للشر خلق. (المداراة ص113-114)
قال زيد بن أسلم: إن لقمان قال لابنه: من قال الشر يطفئ الشر فإن كان صادقاً فليوقد ناراً عند نار ثم لينظر هل تطفئ إحداهما الأخرى، ألا فإن الخير يطفئ الشر كما يطفئ الماء النار. (المداراة ص114)
قال الشعبي: قال ابن صوحان لابن زيد أنا كنت أحب إلى أبيك منك، وأنت أحب إلي من ابني، خصلتان أوصيك بهما احفظهما مني: خالق الفاجر وخالص المؤمن فإن الفاجر يرضى منك بالخلق الحسن وإنه يحق عليك أن تخالص المؤمن. (المداراة ص38)
قال عروة بن الزبير: مكتوب في الحكمة: لتكن كلمتك طيبةً، وليكن وجهك بسطاً، تكن أحبَّ إلى الناس ممن يعطيهم العطاء. (المداراة ص49 والحلية 2/178)
قال محمد بن الحنفيةِ: ليسَ بحكيمٍ مَن لمْ يعاشِرْ بالمعروفِ مَن لا يجدُ بدًّا مِن معاشرتِه حتى يجعلَ اللهُ له فرجاً ومخرجاً(2). (3/175 و8/162 والمداراة 20 والشعب 6/267 وتهذيب الكمال 26/152 والغرباء ص81)
عن عبد الله بن المبارك عن عبد الوهاب بن الورد قال: جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال إني قد حدثت نفسي أن لا أخالط الناس فما ترى؟ قال: لا تفعل إنه لا بد للناس منك ولا بد لك منهم لك إليهم حوائج ولهم إليك حوائج ولكن كن فيهم أصم سميعاً أعمى بصيراً سكوتاً نطوقاً. (المداراة ص42)
__________
(1) في الأصل الذي نقلت منه (كما).
(2) روى هذا الحديث ابن المبارك وقال في آخره في رواية بعض المصادر المذكورة: (لولا هذا الحديث ما جمعني وإياكم على حديث)؛ وفي بعضها: (هذا مثلي ومثلكم).(1/140)
قال الشعبيُّ: تعايشَ الناسُ بالدينِ زمناً طويلاً حتى ذهبَ الدينُ ثمَّ تعايشَ الناسُ بالمروءةِ زمناً طويلاً حتى ذهبت المروءةُ، ثم تعايشَ الناسُ بالحياءِ زمناً طويلاً حتى ذهبَ الحياءُ ثم تعايشَ الناسُ بالرغبةِ والرهبةِ وأظنُّ أنهُ سيأتي بعدَ هذا ما هو أشدُّ منه. (4/312)
قال أيوبُ السختيانيُّ: لا ينبل الرجل حتى يكون فيه خصلتان: العفة عما في أيدي الناس، والتجاوز عما يكونُ منهم. (مكارم الأخلاق ص28 والمداراة ص46 والحلية 3/5)
قال الحسن البصري: التودد إلى الناس نصف العقل(1). (الإخوان ص192 والمداراة ص50)
قال ميمون بن مهران: التودد إلى الناس نصف العقل، وحسن المسألة نصف العلم، واقتصادك في معيشتك يُلقي عنك نصف المؤونة. (روضة العقلاء ص65 والشعب 4/167 و 5/254)
قال أبو مسلم: كانَ الناسُ ورقاً لا شوكَ فيهِ، فإنهم اليومَ شوكٌ لا ورقَ فيه، إنْ ساببْتَهم سابّوك، وإنْ ناقدْتهم ناقَدوكَ، وإن تركتَهم لمْ يتركوكَ. وإنْ نفَرتَ(2) منهمْ يُدْرِكوكَ، قال له مخاطَبُه: فما أصنع؟ قال: هبْ عِرضَكَ ليومِ فقرِكَ، وخذْ شيئاً من لا شيء(3). (2/123-124 والمداراة ص96)
قال أبو شعبة الطحان: سمعت سالم بن عبد الله يقول: إن من ابتغاء الخير اتقاء الشر. (المداراة ص35-36)
__________
(1) ورد هذا الأثر من كلام جعفر الصادق في (الحلية) (3/195).
(2) لعل صواب هذه الكلمة (فررت) أو (تفر) كما في (المداراة).
(3) عن يحيى بن سعيد قال قال أبو الدرداء: أدركت الناس ورقاً لا شوك فيه فأصبحوا شوكاً لا ورق فيه إن نقدتهم نقدوك وإن تركتهم لا يتركوك! قالوا: فكيف نصنع؟ قال تقرضهم من عرضك ليوم فقرك. (المداراة ص31-32)
وعن مكحول عن أبي أمامة قال: كان الناس كشجرة ذات جنى ويوشك أن يعودوا كشجرة ذات شوك. (المداراة ص101)(1/141)
قال عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب لابنه محمد: إياك ومعاداة الرجال، فإنها لا تُعدمُكَ مكرَ حليم، أو مباذاة(1) جاهل. (روضة العقلاء ص98)
قالَ عمر بن عبد العزيز: ما طاوعني الناسُ على ما أردتُ منَ الحقِّ حتى بسطتُ لهم من الدنيا شيئاً. (5/290)
قال الحسن: سأل موسى جماعاً من العمل فقيل له: انظر ما تريد أن يصاحبك به الناس فصاحب الناس به. (المصنف 7/74)
قال مجاهد: سأل يحيى بن زكريا ربه عز وجل قال: ربِّ اجعلني أَسْلَمُ على ألسنة الناس ولا يقولون فيَّ إلا خيراً! قال: فأوحى الله عز وجل إليه: يا يحيى لم أجعل هذا لي فكيف أجعله لك؟! (الزهد الكبير ص104)
قال الربيع بن صبيح: قلت للحسن: إن ههنا قوماً يتبعون السقط من كلامك ليجدوا إلى الوقيعة فيك سبيلاً! فقال: لا يكبر ذلك عليك! فلقد أطمعت نفسي في خلود الجنان فطمعت، وأطمعتها في مجاورة الرحمن فطمعت، وأطمعتها في السلامة من الناس فلم أجد إلى ذلك سبيلاً، لأني رأيت الناس لا يرضون عن خالقهم فعلمت أنهم لا يرضون عن مخلوق مثلهم. (6/305 والبداية والنهاية 9/271)
قال الحسن: يا ابن آدم اصحب الناس بأي خلق شئت يصحبوك عليه. (روضة العقلاء ص71 والسير 4/584)
قال الحسن: ابن آدم اصحب الناس بمكارم أخلاقك، فإن الثواء فيهم قليل. (مكارم الأخلاق ص28)
قال يحيى بن أبي كثير: قرأ تُ في الحكمةِ: ابنَ آدمَ ابدأ أهلكَ بمكارمِ الأخلاقِ فإنَّ الثواءَ معهم قليل(2)
__________
(1) المباذاة: البذاءة والسفه بالسباب والشتم ونحوهما.
(2) وهذه جملة من الآثار هي زبدة ما رواه ابن أبي الدنيا في كتابه (المداراة) من الآثار الموقوفة على غير التابعين؛ وأما هذه – أعني آثار التابعين - فقد نقلتها في متن الكتاب:
عن الأصمعي قال: بلغني عن ابن عون قال: كتب الحسن بن علي إلى الحسين رضي الله عنهما يعيب عليه إعطاء الشعراء فقال الحسين رضي الله عنه: إن خير المال ما وقي به العرض. ص113
عن جبير بن نفير عن أبي الدرداء قال: إنا لنكشر في وجوه أقوام ونضحك إليهم وإن قلوبنا لتلعنهم. ص36
عن يونس عن الحسن أن عمر بن الخطاب قال: خالطوا الناس بالأخلاق وزايلوهم بالأعمال. ص37
عن ربيعة بن ناجد قال: خطبنا علي بن أبي طالب أو قال خطب علي أصحابه فقال: كونوا في الناس كالنحلة في الطب فإنه ليس شيء من الطير إلا يستضعفها ولو يعلم ما في أجوافها لم يفعل، خالقوا الناس بأخلاقكم وألسنتكم وزايلوهم بأعمالكم وقلوبكم فإن لامرئ ما اكتسب وهو يوم القيامة مع من أحب. ص40-41
عن الأصمعي قال: لما حضرت جدي علي بن الأصمع الوفاة جمع بنيه فقال أي بني عاشروا الناس معاشرة إن عشتم حنوا إليكم وإن متم بكوا عليكم. ص46
قال أخو سفيان بن عيينة: قال رجل لمعاوية: المروءة إصلاح المال ولين الكف والتحبب إلى الناس. ص46-47
عن عمر قال: أعقل الناس أعذرهم لهم. ص49
عن عبد الرحمن بن أبي عوف الجرشي قال: جلس داود عليه السلام خالياً فقال الله عز وجل: يا داود ما لي أراك خالياً؟ قال: هجرت الناس فيك يا رب العالمين، قال يا داود ألا أدلك على ما يستثني وجوه الناس إليك وتبلغ فيه رضاي خالق الناس بأخلاقهم واحتجز الإيمان بيني وبينك. ص49-50
قال ابن أبي الدنيا: حدثنا بشر أبو نصر أن عبد الملك بن مروان دخل على معاوية وعنده عمرو بن العاص فسلم وجلس ثم لم يلبث أن نهض فقال معاوية: ما أكمل مروءة هذا الفتى! فقال عمرو: يا أمير المؤمنين إنه أخذ بأخلاق أربعة وترك أخلاقا ثلاثة إنه أخذ بأحسن البشر إذا لقي وبأحسن الحديث إذا حدث وبأحسن الاستماع إذا حدث وبأيسر المؤونة إذا خولف وترك مزاح من لا يوثق بعقله ولا دينه وترك مجالسة لئام الناس وترك من الكلام كل ما يعتذر منه. ص51
عن عبد الوارث عن أنس بن مالك في قول الله تبارك وتعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ؛ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت 34-35] قال: الرجل يشتمه أخوه فيقول: إن كنت صادقاً فغفر الله لي وإن كنت كاذباً فغفر الله لك. ص52-53
عن سلم بن وازع التيمي عن موسى بن أبي عمران وكان من طلبة العلم قال: قال عيسى بن مريم ليحيى بن زكريا صلى الله عليهما: إذا قيل لك ما فيك فأحدث لله شكراً وإذا قيل لك ما ليس فيك فأحدث لله شكراً أعظم من ذلك الشكر إذ يسر لك حسنة لم يكن لك فيها عمل. ص54
عن عكرمة عن ابن عباس قال: من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه وإن كان مجوسياً ذلك بأن الله عز وجل يقول: (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) [النساء 86]. ص94
عن حماد بن سلمة عن حميد الطويل قال: قال ابن عمر:
البر شيء هين***وجه طليق وكلام لين
ص95-96
قال بعض الحكماء: الكلام اللين يغسل الضغائن المستكنة في الجوارح. ص96
عن يحيى بن سعيد قال: بلغني أن أبا الدرداء كان يقول: ما من يوم أصبح فيه لا يرميني الناس فيه بداهية إلا عددتها لله علي نعمة. ص101
عن حسان بن ثابت قال:
فإن أمرأ أمسى وأصبح سالماً***من الناس إلا ما جنى لسعيد
ص102
عن أبي الأحوص عن ابن مسعود قال: كل يوم وليلة تمر بك معافى في نفسك وأهلك ومالك كرامة من الله ونعمة لا تدري ما حسب ذلك حتى يصيبك ما لا بد منه. ص102
عن إبراهيم بن شماس قال: (سمعت حفص بن حميد الأكاف وقال لي: كيف أنت؟ قلت: بخير؛ قال: قد تكلم أهل مرو بقدومك، قلت: لا أدري، قال: (جاءني غير واحد فقال: قدم إبراهيم)؛ ثم قال لي [أي قال حفص لإبراهيم بعد أن رآه مشهوراً]: من بنى مدينة مرو؟ قلت: لا أدري! قال: رجل يبني مدينة مثل هذه لا تدري من بناها فغداً من يكون حفص؟! من يكون إبراهيم؟! [يعني أنهما سيُنْسيان ويُجهلان من باب أولى]؛ لا تغتر بهذا القول، [يعني كلام الناس في المرء وشهرته عندهم]؛ ثم قال: جربت الناس مذ خمسين سنة، فما وجدت أخاً لي ستر لي عورة ولا غفر لي ذنباً فيما بيني وبينه، ولا وصلني إذا قطعته، ولا أمنته إذا غضب؛ فالإشتغال بهؤلاء حمق كبير؛ كلما أصبحت تقول: أتخذ اليوم صديقاً ثم تنظر ما يرضيه عنك؟ أي هدية أي تسليم أي دعوة؟! فأنت أبداً مشغول). ص106-107
عن محمد بن عيسى قال: قال يزيد بن أبي حبيب: الأقاويل محفوظة والسرائر مبلوة وكل نفس بما كسبت رهينة، وقد أصبح الناس منقوصين مدخولين إلا من عصم الله، فقائلهم ناعر [نعر معناها صاح أو خالف وأبى] ومستمعهم غائب [أي غير حاضر القلب] وسائلهم متعنت ومحسنهم متكلف، يكاد أفضلهم رأياً يردُّه [أي يغير رأيه في الأمر] أدنى الرضا وأدنى السخط، ويكاد أصلبهم عوداً تنكأُه [أي تجرحه] اللحظة وتستحليه [لعلها وتستميله] الكلمة. ص107
[قلت: وهو كلام جدير أن يحفظ].
عن عبد الله بن خبيق قال: قال محمد بن يوسف: استشرت سفيان الثوري في المقام بالشام فقال: لا أرى لك ذلك لأنها بلاد فتنة، ولكن إن صح عزمك فعليك ببعض السواحل، ثم استفد مئة صديق، فإذا استقصيت أمرهم فاطرح تسعة وتسعين وكن من الواحد في شك؛ واعلم أنه لم يكن في الأرض إلا وزيرين: ولدي آدم، غضب أحدهما على الآخر، فقتله. ص107-108
عن يحيى بن سعيد قال: قال لي نصر بن يحيى بن أبي كثير: من عاشر الناس داراهم ومن داراهم راياهم. ص109
[هذا الكلام يحتمل أنه ليحيى لا لابنه وأنه وقع في النسخة وهم أو تحريف].
عن بلال بن أبي الدرداء قال: قال لي أبي: يا بني إذا رأيت الشر فدعه وأهله. ص113
عن الزهري عن أبي إدريس الخولاني أنه سمع أبا الدرداء يقول: ألا أخبركم بخير من الصدقة والصيام؟ إصلاح ذات البين، وإياكم والبغضة فإنها هي الحالقة. ص119
عن مقسم عن ابن عباس في قوله تعالى (فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ) [الأنفال 1]: هذا تحريج من الله على المؤمنين أن يتقوا ويصلحوا ذات بينهم. ص119-120
عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن عبد الله بن رواحة أنه أصاب من جارية له، فنددت به امرأته، فأخذت شفرة ثم أتته فوافقته قد قام منها، قالت: أفعلتها يا ابن رواحة؟ قال: ما فعلت شيئاً؛ قالت: لتقرأن قرآناً أو لأبعجنك بها، قال: ففكرت في قراءة القرآن وأنا جنب فهبت ذلك وهي امرأة غَيْرَى وبيدها شفرة ولا آمنها فقلت:
وفينا رسول الله يتلو كتابه* ***إذا انشق مشهور من الصبح ساطع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه*****إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا********به موقنات أن ما قال واقع
فألقت السكين وقالت: آمنت بالله وكذبت البصر. ص135-136
عن خالد بن عبد الله عن يونس قال: بلغني عن ابن عباس أنه كان يقول: النساء عورة خلقن من ضعف فاستروا عوراتهن بالبيوت وداروا ضعفهن بالسكوت. ص140-141
عن الشعبي عن ابن عباس قال: كنت أطوف مع عمر حول الكعبة فإذا أعرابي على عنقه امرأة مثل المهاة وهو يقول:
صرت لهذه جملاً ذلولا*****موطأ أتبع السهولا
أعدلها بالكف أن تميلا**أحذر أن تسقط أو تزولا
أرجو بذلك نائلا جزيلا
فقال له عمر: من هذه المرأة التي قد وهبتَ لها حجك؟ قال: هذه امرأتي، والله إنها مع ما ترى من صنعي بها لحمقاء مرغامة أكول قمامة مشومة الهامة ما تبقي لها خامة فقال عمر: ما تصنع بها إذا كان هذا قولك فيها؟! قال: حسناء فلا تفرك وأم عيال فلا تترك؛ قال: إما لا، فشأنك بها. ص143(1/142)
. (3/69)
الرفق
قالَ عبدُ الملِك بنُ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ لأبيهِ عمرَ: ما يمنعُك أن تنفذَ لرأيك في هذا الأمر(1) فواللهِ ما كنتُ أبالي أن تَغلي بي وبكَ القدورُ في إنفاذِ الأمرِ، فقال عمر: إني أروضُ الناسَ رياضةَ الصعْبِ(2)، فإن أبقاني اللهُ مضيتُ لرأيي؛ وإن عجلتْ عليَّ منيةٌ فقد علمَ اللهُ نيتي؛ إني أخافُ إن بادهتُ(3) الناسَ بالتي تقولُ أن يُلْجِئوني إلى السيفِ، ولا خيرَ في خيرٍ لا يجيءُ إلا بالسيف. (5/281)
__________
(1) يعني من إصلاح أخطاء من تقدمه من الخلفاء والأمراء وإقامة الحق بلا أدنى تهاون أو مجاملة، فلا محاباة عنده لقوي ولا قريب ولا شريف ولا نسيب.
(2) جاء في (مختار الصحاح) (ص152): (الصَّعْبُ: نقيضُ الذلولِ، وامرأة صَعْبةٌ، والمُصْعَبُ: الفحل، وأصْعَبْتُ الجملَ فهو مُصْعَبٌ، إذا تركتَه فلم تركبه ولم يمسه حبل؛ وصَعُبَ الأمرُ مِن باب سهل: صار صَعْباً؛ واسْتَصْعَبَ أيضاً).
(3) لعلها (بادرت).(1/143)
دخل عبد الملك بن عمر على عمر فقال: يا أميرَ المؤمنين إن لي إليك حاجة فأخْلني وعنده مسلمة بن عبد الملك، فقال له عمر: أسرٌّ دونَ عمِّك؟! فقالَ: نعم، فقام مسلمة وخرج وجلس بين يديه فقال له: يا أميرَ المؤمنينَ ما أنت قائلٌ لربك غداً إذا سألك فقال: رأيتَ بدعةً فلم تُمِتْها أو سنةً لم تُحْيها؟! فقال له: يا بني أشيء حمَّلَتْكَه الرعيةُ إلي أم رأي رأيتَه مِن قِبل نفسك؟! قال: لا والله ولكن رأيٌ رأيتُه مِن قبَل نفسي وعرفتُ أنك مسئولٌ فما أنتَ قائلٌ؟! فقال له أبوه: رحمك الله وجزاك مِن ولدٍ خيراً فوالله إني لأرجو أن تكونَ من الأعوانِ على الخيرِ؛ يا بنيَّ إنَّ قومَك قد شدوا هذا الأمرَ عقدةً عقدةً وعروةً عروةً، ومتى ما أريدُ مكابرتَهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا عليَّ فتقاً تكثر فيه الدماء؛ والله لزوالُ الدنيا أهونُ علي من أن يهراقَ في سببي محجمة من دم! أوَما ترضى أن لا يأتي على أبيك يومٌ من أيامِ الدنيا إلا وهو يُميت فيه بدعةً ويحيي فيه سنةً حتى يحكمَ الله بيننا وبين قومِنا بالحقِّ وهو خيرُ الحاكمين. (5/282-283 و صف2/129)
قال محمد الباقر: من أُعطي الخُلق والرفق فقد أعطي الخير كله والراحة، وحسُنَ حالُه في دنياه وآخرته، ومن حُرم الرفقَ والخُلقَ كان ذلك له سبيلاً إلى كل شر وبلية إلا من عصمه الله تعالى. (3/186-187)
النظافة
قال مكحول: مَن نظف ثوبه قلَّ همُّه، ومن طابت ريحه زاد عقله، ومن جمع بينهما زادت مروءته. (صيد الخاطر ص170)(1)
رأى طاووس رجلاً مسكيناً في عينيه عمش وفي ثوبه وسخ فقال له: عُدْ أنَّ الفقر من الله فأين أنت عن الماء؟!(2)
__________
(1) طبعة دار البيان.
(2) عن المطلب بن زياد عن عبد الملك بن عمير قال: إن الله إذا أحب عبداً حسن خلقه وخلقه. (التواضع والخمول ص188)
عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال أن نفراً أرادوا سفراً فأتوا عائشة فقالوا: يا أم المؤمنين من يؤمنا؟ قالت: اقرؤكم لكتاب الله، قالوا: كلنا في القراءة سواء، قالت: فأعلمكم بالسنة، قالوا: كلنا في السنة سواء؛ قالت: فأقدمكم في الهجرة، قالوا: كلنا في الهجرة سواء، قالت: فأحسنكم وجهاً عسى أن يكون أحسنكم خلقاً. (التواضع والخمول ص190)(1/144)
(4/14)
آداب الاعتذار ومعانيه
قال ابن عون: اعتذر رجل عند إبراهيم فقال: قد عذرناك غير معتذر إن الإعتذار يخالطه الكذب. (الصمت ص248 والحلية 4/224 والبيان والتبيين 1/194)
سمعَ طلحةُ بن مصرف رجلاً يعتذرُ إلى رجلٍ فقالَ: لا تكثر الاعتذارَ إلى أخيكَ، أخافُ أنْ يبلغَ بكَ الكذبَ. (5/17)
قال مطرف: المعاذر مفاجر(1)، والمعاتب مغاضب. (الزهد ص241 والصمت ص248)
الأدب ومكارم الأخلاق
قال طاوس: إن هذه الأخلاق منائح يمنحها الله من يشاء من عباده فإذا أراد الله بعبد خيراً منحه منها خلقاً صالحاً. (مكارم الأخلاق ص26)
قال عبد الملك بن عمير: إن الله عز وجل إذا أحب عبداً حسن خلقه وخلقه. (المداراة ص79-80)
قال رجل لميمون بن مهران: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت مستوحشاً كم من خلق كريم وفعل جميل قد درس تحت التراب. (مكارم الأخلاق ص29)
قال حميد بن هلال: دخلت الكوفة وجلست إلى الربيع بن خثيم فقال: يا أخا بني عدي عليك بمكارم الأخلاق فكن بها عاملاً ولها صاحباً واعلم أن الذي خلق مكارم الأخلاق لم يخلقها ولم يدل عليها حتى أحبها وحببها إلى أهلها. (مكارم الأخلاق ص29)
عن هلال بن أيوب قال: سئل الشعبي عن حسن الخلق؟ قال: البذلة والعطية والبشر الحسن؛ قال هلال: وكان الشعبي كذلك. (التواضع والخمول ص191 ومداراة الناس ص82)
سئل الحسن عن حسن الخلق؟ قال: الكرم والبذلة والاحتمال(2). (التواضع والخمول 235 والكرم والجود ص55 ومداراة الناس ص82)
قال ابن سيرين: ثلاثة ليس معهم(3) غربة: حسن الأدب وكف الأذى ومجانبة الريب(4). (2/276)
عن ابن عون أن محمد [بن سيرين] كان يحدثهم أن حُسْنَ الخلق عون على الدين. (التواضع والخمول ص193)
__________
(1) أظنها (مفاخر) بضم الميم وبالخاء.
(2) وفي (مجموع الفتاوى) (7/9): قيل للحسن البصري: ما حسن الخلق؟ قال: بذل الندى وكف الأذى وطلاقة الوجه.
(3) لعلها (معهن).
(4) معنى هذه الحكمة أن صاحب هذه الأخلاق الثلاثة لا يضره الاغتراب.(1/145)
قال ليث: كنت أمشي مع طلحة فقال: لو علمت أنك أسنُّ مني في ليلة ما تقدمتك. (5/17)
الكرم والجود
مرَّ بأسماء بن خارجة [الفزاري](1) جَوارٍ يلتقطن البعر، فقال: لمن أنتنَّ؟ فقلنَ: لبني سُليم؛ فقال: واسوأتاه! جواري بني سليم يلتقطن البعر على بابي! يا غلام انثر عليهن الدراهم! فنثر عليهن الدراهم وجعلن يلتقطْنَ. (الجواهر المجموعة ص97)
قال هشام بن حسان: ما رئي الحسن يتصدق بدراهم عدد قط، كان يخرج عطاءه فيحفن منه لآل فلان وآل فلان حتى يقول له ابنه [إن] لك عيالاً! فيطرح إليه ما بقي. (زهد هناد 1/338)
قال يونس: أخذ الحسن عطاءه فجعل يقسمه، قال: فذكر أهله حاجة فقال لهم: دونكم بقية العطاء، أما إنه لا خير فيه إلا أن يصنع به هذا. (الطبقات 7/170)
قال عبد الواحد بن زياد: دخلت أنا ومالك بن دينار ومحمد بن واسع وفرقد السبخي على الحسن فإذا هو قائم يصلي وفي البيت سلة من رطب فمد محمد بن واسع يده إليها فجرها وجعل يأكل منها فقال له مالك: مه، فكلمه بالفارسية، أي لا تأكل حتى يأذن له صاحبك؛ فأقبل محمد بن واسع يأكل منها ولا يلتفت إلى قوله، فالتفت الحسن إليهم وقال: ويحك يا مويلك هكذا كنا لا يحتشم بعضنا من بعض حتى فجعتنا أنت وأصحابك. (المتحابين في الله ص80)
__________
(1) تابعي من أهل الكوفة، كان سيد قومه، جواداً مقدماً عند الخلفاء؛ توفي سنة 66هـ.(1/146)
كان للحسن بيت إذا فتح بابه فهو إذنه فجاءه أعرابي فصادفه مفتوحاً فدخل والحسن في المذهب فجاء إلى شيء تحت سرير الحسن فأخرجه وجعل يأكل فنظر إليه الحسن وجعل يبكي فقيل له: ما يبكيك يا أبا سعيد؟! فقال: ذكرني هذا أخلاق قوم قد مضوا(1) قال الحسن: يأكل الرجل من منزل صديقه حتى ينهاه ثم قرأ (أَوْ صَدِيقِكُم)(2). (الإخوان ص245 والزهد ص312-313)
كان الحسن إذا فقد الرجل من إخوانه أتاه فسلم عليه وسأله عن حاله، فإذا خرج من عنده، دعا الخادمة فأعطاها صرة فيها دراهم فقال: ادفعيها إلى مولاتك فقولي: استنفقيها؛ ولا تعلمي سيدك بها. (مكارم الأخلاق ص95)
لقي الحسن بعض إخوانه فلما أراد أن يفارقه خلع عمامته وألبسها إياه وقال: إذا أتيتَ أهلك فبعها واستنفقْ بثمنها. (الإخوان ص219 ومكارم الأخلاق ص96)
أهدى رجل للحسن تسع سلال سكر وبدرة فيها عشرة آلاف درهم، فرد العشرة آلاف وقال: لا نطيق مكافأة هذا؛ وقبل التسع سلال. (الزهد ص287)
__________
(1) وانظر (المتحابين في الله) (ص80).
(2) يعني قوله تعالى (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ-----وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ-----أَوْ صَدِيقِكُمْ) [النور 61].
وهذه رواية أخرى تشبه تلك: دخل رجل على الحسن فوجده نائماً على سريره ووجد عند رأسه سلة فيها فاكهة ففتحها فجعل يأكل منها فانتبه فرأى الرجل يأكل فقال: رحمك الله هذا والله فعل الأخيار. (الإخوان ص 244).
وقال قتادة: دخلنا على الحسن وهو نائم وعند رأسه سلة فجذبناها فإذا خبز وفاكهه وجعلنا نأكل، فانتبه فرآنا فسره، فتبسم وهو يقرأ (أو صديقكم) لا جناح عليكم. (السير 4/577)(1/147)
قال رجل للحسن: يا أبا سعيد الرجل يشتري الشاة فيصنعها ويدعو عليها نفراً من إخوانه؟ قال: وأين أولئك؟! ذهب أولئك(1). (مكارم الأخلاق ص100 والإخوان ص238)
قال الحسن: ان كان الرجل ليخلف الرجل في أهله أربعين عاماً بعد موته(2). (رك ص231 ومكارم الأخلاق ص99)
قال الحسن: الحياء والتكرم خصلتان من خصال الخير لم تكونا في عبد إلا رفعه الله بهما. (الكرم والجود ص45 ومكارم الأخلاق ص43)
قال شعبةُ: ما وعدتُ أيوبَ [السختياني] موعداً إلا وجدتُه قد سبقني إليه. (3/4)
عن ابن عباس وعلي بن الحسين قالا: سادة الناس في الدنيا الأسخياء، وسادة الناس في الآخرة الأتقياء. (الجواهر المجموعة ص53)
قال ميمون بن مهران: إذا نزل بك ضيف فلا تكلف له ما لا تطيق، وأطعمه من طعام أهلك، والقه بوجه طلق، فإنك إن تكلفت له ما لا تطيق أوشك أن تلقاه بوجه يكرهه. (الشعب 7/96)
قال عمرو بن دينار: ما رأيت أحداً أهون عليه الدينار والدرهم من ابن شهاب(3) وما كانت عنده إلا مثل البعر. (صف2/138)
__________
(1) قال يونس بن عبيد: كنا عند الحسن البصري فأهديت إليه سلة من سكر ففتحها فلم أر سكراً كان أحسن منه فقال برجله: اهضموا، أي كلوا. (الإخوان ص244)
(2) رواية أخرى: قال الحسن: أدركت أقواماً إن كان الرجل ليخلف أخاه في أهله أربعين عاماً. (الزهد ص261)
(3) هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ويكنى أبا بكر وهو حافظ كبير مشهور.(1/148)
عن عقيل بن خالد عن ابن شهاب أنه كان يكون معه في السفر قال: فكان يعطي من جاءه وسأله حتى إذا لم يبق معه شيء تسلف من أصحابه فلا يزالون يسلفونه حتى لا يبقى معهم شيء فيحلفون أنه لم يبق معهم شيء فيستسلف من عبيده فيقول: أي فلان أسلفني وأُضعفُ لك كما تعلم، فيسلفونه، ولا يرى بذلك بأساً(1)، فربما جاءه السائل فيقول: أبشر فسيأتي الله بخير فيقيض الله لابن شهاب أحد رجلين: إما رجل يهدي له ما يسعهم، وإما رجل يبيعه ويُنْظره؛ قال: وكان يطعمهم الثريد ويسقيهم العسل(2). (صف2/139)
قال عمرو بن دينار: دخل علي بن الحسين [بن علي] على محمد بن أسامة بن زيد في مرضه فجعل محمد يبكي فقال علي: ما شأنك؟ قال: علي دين، قال: كم هو؟ قال: خمسة عشر ألف دينار! قال: فهو علي. (صف2/101)
قال عفان: أهدى حسام بن مصك إلى قتادة نعلاً؛ قال: فأخذها قتادة فجعل يحركها وهي تنثني من رقتها؛ قال: فقال قتادة: إنك لتعرف سخف الرجل في هديته. (مسند ابن الجعد 1017)
المروءة والبعد عن الدناءة
قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: المروءة مروءتان، فللسفر مروءة، وللحضر مروءة: فأما مروءة السفر فبذل الزاد، وقلة الخلاف على الأصحاب، وكثرة المزاح في غير مَساخط الله؛ وأما مروءة الحضر: فإدْمان الاختلاف(3) إلى المساجد، وكثرة الإخوان في الله، وقراءة القرآن. (روضة العقلاء ص232 والاشراف على منازل الاشراف ص277)
__________
(1) أي لا يراه محرماً لأنه ليس من الربا عنده.
(2) عن ضمام عن عقيل بن خالد أنه أخبره أن ابن شهاب كان يخرج إلى الأعراب يفقههم ويعطيهم [لعلها ويعظهم] فجاءه رجل وقد نفذ ما في يده فمد الزهري يده إلى عمامة عقيل فنزعها فأعطاها الرجل، وقال لعقيل: أعطيك خيراً منها. (الإشراف على منازل الأشراف ص277)
(3) في (روضة العقلاء): (فالإدمان) بدل (فإدمان الإختلاف) ،وهي عبارة (الإشراف)، فاخترتها لوضوح معناها.(1/149)
قال ابن سيرين: ثلاثة ليست من المروءة: الأكل في الأسواق، والادّهان عند العطار، والنظر في مرآة الحجام. (روضة العقلاء ص233)
قال ابراهيم النخعي: النظر في مرآة الحجام دناءة. (4/233)
نصيحة المسلمين والفرق بين النصيحة والتعيير
قال وكيع: حدثني أبي قال: كنت جالساً مع زبيد [اليامي] فأتاه رجل ضرير يريد أن يسأله فقال له زبيد: إن كنت تريد أن تسأل عن شيء فإن معي غيري. (صف3/99)
قال معاوية بن عبد الكريم: سمعت بكر بن عبد الله المزني يقول يوم الجمعة وأهل المسجد أحفل ما كانوا قط: لو قيل لي: خذ بيد خير أهل المسجد لقلت: دلوني على أنصحهم لعامتهم، فإذا قيل هذا أخذت بيده؛ ولو قيل لي: خذ بيد شرهم لقلت دلوني على أغشهم لعامتهم؛ ولو أن منادياً ينادي من السماء: أنه لا يدخل الجنة منكم إلا رجل واحد لكان ينبغي لكل إنسان أن يلتمس أن يكون ذلك الواحد، ولو أن منادياً ينادي من السماء: أنه لا يدخل النار منكم إلا رجل واحد لكان ينبغي لكل إنسان أن يفْرقَ(1) أن يكون هو ذلك الواحد. (2/224)
قال معمر عن أبي بكر المزني قال: لو انتهيت إلى المسجد يوم الجمعة وهو ملآن يغص بالرجال فقال لي قائل: أي هؤلاء شر لقلت لقائلي: أيهم أغش لجماعتهم؟ فإذا قال: هذا، قلت: هو شرهم؛ وما كنت لأشهد على خيرهم أنه مؤمن مستكمل الايمان إذاً لشهدت أنه من أهل الجنة؛ وما كنت لأشهد على شرهم أنه منافق بريء من الإيمان، إذاً لشهدت أنه من أهل النار؛ ولكني أخشى على محسنهم وأرجو لمسيئهم؛ فما ظنكم بمسيئهم إذا خشيت على محسنهم؟! وما ظنكم بمحسنهم إذا رجوت لمسيئهم؟! (2/224)
قال الحسن: الاسلام وما الاسلام؟ أن يسلم قلبك لله تعالى وأن يسلم منك كل مسلم وذي عهد(2). (رك ص231)
__________
(1) أي يخاف.
(2) قال الفضيل: المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير. (الفرق بين النصيحة والتعيير ص35).
وقال ابن حزم: وإن نصحتَ بشرط القبول منك فأنت ظالم. (مداواة النفوس ص110)(1/150)
الدعوة(1) والتعليم والنصح والإرشاد
قال معمر: تلا الحسن (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(2) [فـ]ـقال: هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب الخلق إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحاً في إجابته، وقال: إنني من المسلمين؛ فهذا خليفة الله. (تفسير الطبري 24/118 و رك ص507 ومفتاح دار السعادة 1/153)
__________
(1) قال ابن القيم في (الفوائد) (ص161): (فلو سلك الدعاة المسلك الذي دعا الله ورسوله به الناس إليه لصلح العالم صلاحاً لا فساد معه).
وقال فيها أيضاً (ص61): (علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدْعون إليها الناس بأقوالهم ويدْعونهم إلى النار بأفعالهم؛ فكلما قالت أقوالهم للناس: هلموا، قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم فلو كان ما دعوا إليه حقاً كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصوره أدلاء وفي الحقيقة قطاع الطرق).
وقال ابن حجر في (فتح الباري) (10/466) في أثناء شرحه لحديث التكفير: وهذا يقتضي أن من قال لآخر: أنت فاسق، أو قال له: أنت كافر، فإن كان ليس كما قال كان هو المستحق للوصف المذكور، وأنه إذا كان كما قال لم يرجع عليه شيء لكونه صدق فيما قال؛ ولكن لا يلزم من كونه لا يصير بذلك فاسقاً ولا كافراً أن لا يكون آثماً في صورة قوله له: أنت فاسق، بل في هذه الصورة تفصيل: إن قصد نصحه أو نصح غيره ببيان حاله جاز، وإن قصد تعييره وشهرته بذلك ومحض أذاه لم يجز، لأنه مأمور بالستر عليه وتعليمه وعظته بالحسنى، فمهما أمكنه ذلك بالرفق لا يجوز له أن يفعله بالعنف، لأنه قد يكون سبباً لإغرائه وإصراره على ذلك الفعل كما في طبع كثير من الناس من الأنفة لا سيما إن كان الآمر دون المأمور في المنزلة.
(2) فصلت (33).(1/151)
قال الطبري: حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد عن قتادة قوله (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ)(1) الآية، قال: هذا عبد صدَّق قولَه عملُه ومولجَه مخرجُه وسرَّه علانيتُه وشاهدَه مغيبُه؛ وإن المنافق عبد خالف قوله عمله ومولجه مخرجه وسره علانيته وشاهده مغيبه. (تفسير الطبري 24/118)
قال الحسن: من استطاع منكم أن يكون إماماً لأهله إماماً لمن وراء ذلك فليفعل، فإنه ليس شيء يؤخذ عنك إلا كان لك فيه نصيب. (المصنف 7/199)
عن ليث عن مجاهد (وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ)(2) قال: معلماً للخير. (العلم لأبي خيثمة ص12)
قال فرقد السبخي: قال عيسى بن مريم: طوبى للناطق في آذان قومٍ يسمعون كلامه، إنه ما تصدق رجل بصدقة أعظم أجراً عند الله تعالى من موعظة قوم يصيرون بها إلى الجنة. (3/46)
قال الحسن: أحب العباد إلى الله الذين يحببون الله إلى عباده ويعملون في الأرض نصحاً. (الزهد ص285-286 والصمت ص133)
كتب أبو الأبيض - وكان عابداً - إلى بعض إخوانه: أما بعد فإنك لم تكلف من الدنيا إلا نفساً واحدة، فإن أنت أصلحتها لم يضرَّك إفساد(3) من فسد بصلاحها، وإن أنت أفسدتها لم ينفعك صلاح من صلح بفسادها، واعلم أنك لن تسلم من الدنيا حتى لا تبالي مَن أكَلَها من أحمر أو أسود. (3/111)
قال الحسن: الأذن مجاجة وللنفس حمضة(4). (لسان العرب 2/362)
__________
(1) فصلت (33).
(2) مريم (31).
(3) لعلها (فساد).
(4) معناه أن للنفس شهوة في استماع العلم والأذن لا تعي ما تسمع ولكنها تلقيه نسيانا كما يمج الشيء من الفم.(1/152)
قال الزهري: الأُذُن مَجَّاجةٌ وللنفس حَمْضَةٌ(1) . (غريب الحديث لابن سلام 4/474)
قال الحسن: إن في بعض الكتب: ابن آدم تدعو إلي وتفر مني وتذكّر بي(2) وتنساني؟! (رك ص69)
قال الحسن: عظ الناس بفعلك ، ولا تعظهم بقولك. (الزهد ص273)
رأى مالكٌ رجلاً يسيءُ صلاتَهُ فقالَ: ما أرحمَني بعيالِهِ! فقيل له: يا أبا يحيى يسيءُ هذا صلاتَهُ وترحمُ عيالَهُ؟! قالَ: إنَّه كبيرُهم ومنهُ يتعلمون. (2/383)
قال عبد الله بن بشر: إن الرجل ربما جلس إلى أيوب السختياني فيكون لما يرى منه أشد اتباعاً منه لو سمع حديثه. (3/7)
قال يزيدُ بنُ ميسرةَ: لا تبذلْ علمَكَ لمنْ لا يسألُهُ، ولا تنثُرِ اللؤلؤَ عندَ من لا يلتقِطُه، ولا تنشُرْ بضاعتَكَ عندَ من يكسِّدُها عليك. (5/235)
عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال: موعظة الجاهل كالمغني عند رأس الميت. (الأمر بالمعروف ص49)
قال مغيرة: كان رجل على حال حسنة فأحدث، أو أذنب، ذنباً؛ فرفضه أصحابه ونبذوه؛ فبلغ إبراهيم ذلك فقال: تداركوه وعظوه ولا تدعوه. (4/232-233)
قال الحسن: لولا الميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم ما حدثتكم بكثير مما تسألون عنه. (الطبقات 7/158)
__________
(1) قال أبو عبيد: (المجَّاجةٌ التي تمجُّ ما تسمع, يعني أنها تُلقيه فلا تقبله إذا وُعظتْ بشيء أو نُهيت عنه. وقوله: وللنفس حَمْضَةٌ, الحمضة الشهوة للشيء , وإنما أُخذت من شهوة الإبل للحَمْض ، وذلك إذا مَلَّت الخُلَّة اشتهت الحمضة, وهو كل نبت فيه مُلوحة, والخُلَّة ما لم تكن فيه ملوحة. قال الأصمعي: والعرب تقول: الخلة خبز الإبل والحمض فاكهتها).
(2) كانت في الأصل (وتذكرني)، ولها وجه أيضاً وذلك بتشديد اللام، لا بتخفيفها.(1/153)
قال ثابت: كان الحسن في مجلس، فقيل لأبي العلاء يزيد بن الشخير: تكلم، قال: أوَهناك أنا؟! ثم ذكر الكلام ومؤنته وتبعته؛ قال ثابت: فأعجبني؛ قال: ثم تكلم الحسن: [فقال]: تقول أينا هناك؟! لود الشيطان أنكم أخذتموها عنه فلم يأمر أحد بخير ولم ينه أحد عن شر. (الزهد ص245-246 وانظر الزهد ص268)
قال الحسن: العلماء ثلاثة: منهم عالم لنفسه ولغيره فذلك أفضلهم وخيرهم؛ ومنهم عالم لنفسه فحسن(1)؛ ومنهم عالم لا لنفسه ولا لغيره، فذلك شرهم. (المصنف 7/199)
عن عبد الوهاب قال حدثنا أيوب عن كتاب أبي قلابة قال: العلماء ثلاثة: فعالم عاش بعلمه وعاش الناس بعلمه؛ وعالم عاش بعلمه ولم يعش الناس بعلمه؛ وعالم لم يعش بعلمه ولم يعش الناس بعلمه. (2/283)
قال أبو مسلم الخولاني: العلماءُ ثلاثةٌ: رجلٌ عاشَ بعلمِه وعاشَ الناسُ معه؛ ورجلٌ عاشَ بعلمِه ولم يَعِشِ الناسُ معه؛ ورجلٌ عاش الناسُ بعلمِه وأهلكَ نفسَه(2)!! (5/121)
__________
(1) لعلها (فحسب).
(2) يظهر أن أصل الكلام لأبي مسلم يرويه عنه أبو قلابة، فقد قال الدارمي في (سننه) (361): أخبرنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة قال: قال أبو مسلم الخولاني: (العلماء ثلاثة: فرجل عاش في علمه وعاش معه الناس فيه؛ ورجل عاش في علمه ولم يعش معه فيه أحد؛ ورجل عاش الناس في علمه، وكان وبالاً عليه).
فالرواية الأولى التي ظاهرها أنها منتهية إلى أبي قلابة إما أن تكون خلاف الظاهر، وأن الذي كان في الكتاب هو رواية أبي قلابة عن أبي مسلم، أو يكون في الرواية سقط أو وهم، فصارت من كلام أبي قلابة لا من كلام أبي مسلم، أو أن أبا قلابة قالها ابتداء من نفسه، وأثبتها في كتابه قولاً له بعد أن سمعها من أبي مسلم ورضيها وأعجب بها.(1/154)
قال الحسن: المؤمن يداري ولا يماري، ينشر حكمة الله، فإن قبل حمد الله، وإن ردت حمد الله عز وجل. (الغرباء ص81 وانظر طبقات الحنابلة 2/39 و150 وزوائد نعيم بن حماد في زهد ابن المبارك ص 8 والحلية 7/270)
جلس الحسن يحدث، فأُهدِيَ له فردَّه، وقال: إن من جلس هذا المجلس ثم قبل فليس له عند الله خلاق، أو قال: فليس له خلاق. (الزهد ص283)
كان صلة بن أشيم يخرج إلى الجبانة فيتعبد فيها، فكان يمر على شباب يلهون ويلعبون فيقول لهم: أخبروني عن قوم أرادوا سفراً فحادوا النهار عن الطريق وناموا بالليل متى يقطعون سفرهم؟ قال فكان كذلك يمر بهم ويعظهم فمر بهم ذات يوم فقال لهم هذه المقالة فانتبه شاب منهم فقال: يا قوم إنه لا يعني بهذا غيرنا، نحن بالنهار نلهو وبالليل ننام، ثم اتبع صلة فلم يزل يختلف معه إلى الجبانة فيتعبد معه حتى مات. (2/238)
عن ثابت أن صلة بن أشيم وأصحابه أبصروا رجلاً قد أسبل إزاره فأراد أصحابه أن يأخذوه بألسنتهم فقال صلة: دعوني أكفيكموه، قال: يا ابن أخي إن لي إليك حاجة، قال: وما ذاك يا عم؟ قال: ترفع إزارك، قال: نعم ونعمة عين، فقال لأصحابه: هذا كان أمثل، لو أخذتموه قال: لا أفعل؛ وفعل(1). (التواضع والخمول ص218 و صف3/216)
قال عمر لمؤدبه: كيف كانت طاعتي إياك وأنت تؤدبني؟ فقال: أحسن طاعة؛ قال [عمر]: فأطعني الآن كما كنتُ أطيعك إذ ذاك، خذ من شاربك حتى تبدو شفتاك، ومن ثوبك حتى تبدو عقباك. (الكامل 1/365)
__________
(1) وأما لفظ (صفة الصفوة) فهو أن صلة وأصحابه مر بهم فتى يجر ثوبه، فهمَّ أصحاب صلة أن يأخذوه بألسنتهم أخذاً شديداً، فقال صلة: دعوني أكفكم أمره؛ فقال: يا ابن أخي إنَّ لي إليك حاجة، قال: وما حاجتك؟ قال: أن ترفع إزارك، قال: نعم، ونعمى عين؛ فرفع إزاره؛ فقال صلة لأصحابه: هذا كان أمثل مما أردتم، لو شتمتموه لشتمكم.(1/155)
قال سفيان: جاء طلحة إلى عبد الجبار بن وائل - وعنده قوم - فسارَّه بشيء، ثم انصرف، فقال: أتدرون ما قال لي؟ قال: رأيتك التفتَّ أمسِ وأنت تصلي. (روضة العقلاء ص197)
قال الحسين بن علي الحلواني: دخل اللصوص إلى بيت مالك بن دينار فلم يجدوا في البيت شيئاً فأرادوا الخروج من داره فقال مالك: ما عليكم لو صليتم ركعتين!. (صف3/287)
عن سفيان عن الزهري قال: كان عروة يتألف الناس على حديثه. (العلم لأبي خيثمة ص10)
قال زياد: كانَ زبيد الأياميُّ مؤذنَ مسجدِه، فكانَ يقولُ للصبيان: يا صبيان تعالوا فصلّوا أهبْ لكم الجوزَ! فكانوا يجيئونَ ويصلّونَ ثم يحوطون حولَه! فقلنا له: ما تصنع بهذا؟! قال: وما عليَّ أشتري لهم جوزاً بخمسة دراهم ويتعودون الصلاة؟!. (5/31)
عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء قال: كنا نجمع الصبيان فنحدثهم. (العلم لأبي خيثمة ص20)
قال أبو اسحاق الشيباني: دنوتُ من ماهان أبي صالح لما أرادَ ابنُ أبي مسلم أنْ يُقَطِّعَه ويصلبه فقال: تنحَّ يا ابنَ أخي لا تسأل عن هذا المقام(1)!! (4/364)
قال إبراهيم بن أبي عبلة: كنا نجلس إلى عطاء الخراساني؛ فكان يدعو بدعوات؛ فغاب يوماً فتكلم رجل من المؤذنين؛ فأنكر رجاء بن حيوة صوتَه؛ فقال رجاء: من هذا؟ قال: أنا يا أبا المقدام؛ قال: اسكت؛ فإنا نكره أن نسمع الخير إلا من أهله. (5/172)
الوعظ القصص
قال الحسن: القَصص بدعة، ونعمت البدعة، كم من أخ يستفاد ودعوة تستجاب. (تلبيس ابليس ص17 وجامع العلوم والحكم ص192)
قال سفيان: دخل قاصٌّ مسجد سيار (أبي الحكم) فجعل يقص فقام سيار فقعد على باب المسجد يستاك، وكان القاص يعجب منه فقال له سيار: أنا في سنة وأنت في بدعة. (تاريخ واسط ص86)
__________
(1) انظر كمال نصحهم للمسلمين حتى في مثل هذه الحالة العصيبة.(1/156)
قال مالك بن مغول: مر الحسن بقاص فقال: إن بك لشراً، (أو إن)(1) بي لشراً، لا أرى كلامك ينجح فيك ولا في. (زهد هناد 2/438)
قال عامر بن عبد قيس التميمي: الكلمة اذا خرجت من القلب وقعت في القلب واذا خرجت من اللسان لم تجاوز الآذان. (البيان والتبيين 1/59)
قال عمرُ بن عبد العزيز: لا ينفعُ القلبَ إلا ما خرجَ مِن القلب. (5/288)
قال مالك بن دينار: إنما العالم أو القاص الذي إذا أتيته فلم تجده في بيته قص عليك بيته فترى حصيراً للصلاة، ترى مصحفاً، ترى إجانة للوضوء، ترى أثر الآخرة. (2/373)
كان قاصٌّ يجلس قريباً من مسجد محمد بن واسع فقال يوماً وهو يوبخ جلساءه: ما لي أرى القلوب لا تخشع وأرى العيون لا تدمع وما لي أرى الجلود لا تقشعر؟! فقال محمد: يا عبد الله ما لي أرى القوم أتوا إثماً من قِبلك؟! إن الذكر إذا خرج من القلب وقع على القلب. (2/351)
قال عمر بن محمد بن المنكدر: بينا أنا جالس مع أبي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ مر بنا رجل يحدث الناس ويفتيهم ويقص، قال: فدعاه أبي فقال له: يا أبا فلان إن المتكلم يخاف مقت الله عز وجل، وإن المستمع يرجو رحمة الله عز وجل. (3/148)
قال أبو إدريس الخولاني: لأن أرى في طائفةِ المسجدِ ناراً [تـ]ـتَّقدُ أحبُّ إليَّ من أن أرى فيها رجلاً يقُصُّ ليسَ بفقيهٍ(2). (5/124)
__________
(1) تصحفت هاتان الكلمتان في الأصل إلى (وإن) والصواب ما استبدلته بهما؛ ففي (البيان والتبيين) (1/59): (قال الحسن رضي الله تعالى عنه وسمع متكلماً يعظ فلم تقع موعظته بموضع من قلبه ولم يرقَّ عندها: يا هذا إن بقلبك لشراً أو بقلبي). وكذلك في (زهر الآداب) (1/196).
(2) لأن ما يفسده أكثر مما يصلحه.(1/157)
قال بكر بن عبد الله المزني: كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له حاجب يقربه ويدنيه، وكان هذا الحاجب يقول: أيها الملك أحسن إلى المحسن ودع المسيء تكفك إساءته؛ قال: فحسده رجل على قربه من الملك فسعى به فقال: أيها الملك إن هذا الحاجب هو ذا يخبر الناس أنك أبخر! قال: وكيف لي بأن أعلم ذلك؟! قال: إذا دخل عليك تدنيه لتكلمه فإنه يقبض على أنفه، قال: فذهب الساعي فدعا الحاجب إلى دعوته واتخذ مرقة وأكثر فيها الثوم، فلما أن كان من الغد دخل الحاجب فأدناه الملك ليكلمه بشيء، فقبض على فيه، فقال الملك: تنحَّ، فدعا بالدواة وكتب له كتاباً وختمه وقال: اذهب بهذا إلى فلان، وكانت جائزته مئة ألف، فلما أن خرج استقبله الساعي فقال: أي شيء هذا؟! قال: قد دفعه إلي الملك، فاستوهبه فوهبه له، فأخذ الكتاب ومر به إلى فلان، فلما أن فتحوا الكتاب دعوا بالذباحين فقال: اتقوا الله يا قوم فإن هذا غلط وقع علي وعاوِدوا الملك! فقالوا: لا يتهيأ لنا معاودة الملك وكان في الكتاب: إذا أتاكم حامل كتابي هذا فاذبحوه واسلخوه واحشوه التبن ووجهوه إلي فذبحوه وسلخوا جلده و وجهوا به إليه؛ فلما ان رأى الملك ذلك تعجب فقال للحاجب: تعال وحدثني واصدقني، لما أدنيتك لماذا قبضتَ على أنفك؟ قال: أيها الملك إن هذا دعاني إلى دعوته واتخذ مرقة وأكثر فيها الثوم فأطعمني فلما أن أدناني الملك قلت: يتأذى الملك بريح الثوم! فقال: ارجع إلى مكانك وقل ما كنت تقوله، ووصله بمال عظيم؛ أو كما ذكره. (2/228-229)(1/158)
عن حماد بن سلمة عن حميد أن رجلاً ساوم بعبد فقال مولاه: إني أبرأ إليكم من النميمة فقال: نعم أنت بريء منها، قال: فاشتراه فجعل يقول لمولاه: إن امرأتك تبغي وتفعل وتفعل وإنها تريد أن تقتلك ويقول للمرأة: إن زوجك يريد أن يتزوج عليك ويتسرى عليك فإن أردت أن أعطفه عليك فلا يتزوج عليك ولا يتسرى فخذي الموسى فاحلقي شعرة من حلقه إذا نام وقال للزوج: إنها تريد أن تقتلك إذا نمت، قال: فذهب فتناوم لها وجاءت بموسى لتحلق شعرة من حلقه فأخذ بيدها فقتلها فجاء أهلها فاستعدوا فقتلوه. (الصمت ص158-160)
قال الشعبيُّ: مرِضَ الأسدُ فعادَه السباعُ ما خَلا الثعلب، فقال الذئبُ: أيها الملكُ مرضتَ فعادَكَ السباعُ إلا الثعلبَ! قال: فإذا حضرَ فاعلمْني، قالَ: فبلغَ ذلكَ الثعلبَ فجاءَ فقالَ له الأسدُ: يا أبا الحصين عادني السباعُ كلُّهم فلمْ تعدني!! قال: بلغني مرَضُ الملِكِ فكنتُ في طلبِ الدواءِ! قال: فأيّ شيءٍ أصبتَ؟ قال: قالوا: خرزة في ساقِ الذئبِ ينبغي أن تُخرَجَ! قال: فضرَبَ الأسدُ بمخالبِهِ إلى ساقِ الذئبِ! فانسَلَّ الثعلبُ وقعدَ على الطريقِ، فمرَّ بهِ الذئبُ والدماءُ تسيلُ عليه! قال: فناداه الثعلبُ: يا صاحبَ الخفِّ الأحمرِ إذا قعدتَ بعدَ هذا عندَ السلطانِ فانظرْ(1) ماذا يخرجُ من رأسِك! وأما هذه فقد خرجتْ من رجلك. (4/317)
__________
(1) أي فانتظر.(1/159)
عن الفضل بن الربيع قال: حج أمير المؤمنين الرشيد فأتاني فخرجت مسرعاً فقلت: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك فقال: ويحك قد حك في نفسي شيء فانظر لي رجلاً أسأله، فقلت: هاهنا سفيان بن عيينة، فقال: إمض بنا إليه، فأتيناه فقرعت الباب، فقال: من ذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعاً، فقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك، فقال له: خذ لما جئناك له رحمك الله، فحدثه ساعة ثم قال له: عليك دَين؟ قال: نعم، فقال: أبا عباس إقض دينه؛ فلما خرجنا قال: ما أغنى عني صاحبك شيئاً، أنظر لي رجلاً أسأله، فقلت له: هاهنا عبد الرزاق بن همام، قال: امض بنا إليه، فأتيناه فقرعت الباب، فقال: من هذا؟ قلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعاً، فقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك، قال: خذ لما جئناك له، فحادثه ساعة ثم قال له: عليك دين؟ قال: نعم، قال: أبا عباس اقض دينه؛ فلما خرجنا قال: ما أغنى صاحبك شيئاً، أُنظر لي رجلاً أسأله، قلت: هاهنا الفضيل بن عياض، قال: امض بنا إليه فأتيناه فإذا هو قائم يصلي يتلو آية من القرآن يرددها فقال: اقرع الباب، فقرعت الباب فقال: من هذا فقلت أجب أمير المؤمنين فقال: ما لي ولأمير المؤمنين؟! فقلت: سبحان الله، أما عليك طاعة؟! أليس قد روي عن النبي [صلى الله عليه وسلم] أنه قال: ليس للمؤمن أن يذل نفسه فنزل ففتح الباب ثم ارتقى إلى الغرفة فأطفأ المصباح، ثم التجأ إلى زاوية من زوايا البيت فدخلنا فجعلنا نجول عليه بأيدينا فسبقت كف هارون قبلي إليه، فقال: يا لها من كف ما ألينها إن نجت غداً من عذاب الله عز وجل، فقلت في نفسي: ليكلمنه الليلة بكلام نقي من قلب تقي، فقال له: خذ لما جئناك له رحمك الله، فقال: إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب القرظي ورجاء بن حيوة فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا علي، فعد الخلافة بلاء وعددتها أنت وأصحابك نعمة، فقال له(1/160)
سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله فصم عن الدنيا وليكن إفطارك من الموت(1)؛ وقال له محمد بن كعب القرظي: إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المسلمين عندك أباً وأوسطهم عندك أخاً وأصغرهم عندك ولداً، فوقر أباك وأكرم أخاك وتحنن على ولدك؛ وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله عز وجل فأحبَّ للمسلمين ما تحب لنفسك واكره لهم ما تكره لنفسك ثم مت إذا شئت؛ وإني أقول لك: إني أخاف عليك أشد الخوف [من] يوم تزل فيه الأقدام فهل معك رحمك الله من يشير عليك بمثل هذا؟ فبكى هارون بكاء شديداً حتى غشي عليه فقلت له: ارفق بأمير المؤمنين؛ فقال: يا ابن أم الربيع تقتله أنت وأصحابك وأرفق به أنا؟! ثم أفاق فقال له: زدني رحمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين بلغني أن عاملاً لعمر بن عبد العزيز شكا إليه فكتب إليه عمر: يا أخي أذكرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، وإياك أن يُنْصَرَفَ بك من عند الله فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء؛ قال: فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر بن عبد العزيز فقال له: ما أقدمك؟ قال: خلعت قلبي بكتابك لا أعود إلى ولاية أبداً حتى ألقى الله عز وجل؛ قال: فبكى هارون بكاء شديداً، ثم قال له: زدني رحمك الله، فقال: يا أمير المؤمنين إن العباس عم المصطفى جاء إلى النبي [صلى الله عليه وسلم] فقال: يا رسول الله أمّرني على إمارة فقال له النبي [صلى الله عليه وسلم]: إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعت أن لا تكون أميراً فافعل؛ فبكى هارون بكاء شديداً وقال له: زدني رحمك الله؛ فقال: يا حسن الوجه أنت الذي يسألك الله عز وجل عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن إستطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل؛ وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك، فإن النبي [صلى الله عليه
__________
(1) كذا (من الموت) ولعلها (في الموت) أو (منها عند الموت) أو نحو ذلك مما تستقيم به العبارة.(1/161)
وسلم] قال: من أصبح لهم غاشاً لم يرح رائحة الجنة، فبكى هارون وقال له: عليك دين؟ قال: نعم دين لربي يحاسبني عليه فالويل لي إن سألني والويل لي إن ناقشني والويل لي إن لم ألهم حجتي؛ قال: إنما أعني دين العباد؛ قال: إن ربي لم يأمرني بهذا، أمر ربي أن أوحده وأطيع أمره فقال عز وجل: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ {56} مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ {57} إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)(1)؛ فقال له: هذه ألف دينار خذها فأنفقها على عيالك وتقوَّ بها على عبادتك، فقال: سبحان الله أنا أدلك على طريق النجاة وأنت تكافئني بمثل هذا سلمك الله ووفقك؛ ثم صمت فلم يكلمنا فخرجنا من عنده فلما صرنا على الباب قال هارون: أبا عباس إذا دللتني على رجل فدلني على مثل هذا، هذا سيد المسلمين، فدخلت عليه امرأة من نسائه فقالت: يا هذا قد ترى ما نحن فيه من ضيق الحال فلو قبلت هذا المال فتفرجنا به، فقال لها: مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه فلما كبر نحروه فأكلوا لحمه، فلما سمع هارون هذا الكلام قال: ندخل فعسى أن يقبل المال، فلما علم الفضيل خرج فجلس [في] السطح على باب الغرفة فجاء هارون فجلس إلى جنبه فجعل يكلمه فلا يجيبه فبينا نحن كذلك إذ خرجت جارية سوداء فقالت: يا هذا قد آذيت الشيخ منذ الليلة، فانصرف رحمك الله؛ فانصرفنا(2). (صف2/242-246)
__________
(1) الذاريات (56-58).
(2) لم أشأ أن اختصر هذه القصة رغم ما فيها من تطويل غير داخل في شرط كتابي هذا وذلك لما تضمنته من العبرة والموعظة.(1/162)
عن الذيال بن عباد قال: كتب أبو حازم الأعرج إلى الزهري: عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك أصبحت شيخاً كبيراً وقد أثقلتك نعم الله عليك فيما أصح من بدنك وأطال من عمرك وعلمت حجج الله تعالى مما علمك من كتابه وفقهك فيه من دينه وفهمك من سنة نبيه فرمى بك في كل نعمة أنعمها عليك وكل حجة يحتج بها عليك الغرض الأقصى ابتلى في ذلك شكرك وأبدى(1) فيه فضله عليك وقد قال عز وجل: (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)(2)؛ فانظر أي رجل تكون إذا وقفت بين يدي الله عز وجل فسألك عن نعمه عليك كيف رعيتها وعن حججه عليك كيف قضيتها فلا تحسبن الله عز وجل راضياً منك بالتعذير ولا قابلاً منك التقصير، هيهات ليس ذاك أخذ على العلماء في كتابه إذ قال (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ)(3)؛ إنك تقول إنك جدل ماهر عالم قد جادلت الناس فجدلتهم وخاصمتهم فخصمتهم إدلالا منك بفهمك واقتداراً منك برأيك فأين تذهب عن قول الله عز وجل (هَاأَنتُمْ هَؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(4)؛ اعلم أن أدنى ما ارتكبت وأعظم ما احتقبت أن آنست الظالم وسهلت له طريق الغي بدنوك حين أدنيت وإجابتك حين دعيت، فما أخلقك أن ينوه غداً باسمك مع الجرمة وأن تسأل عما أردت باغضائك عن ظلم الظلمة، إنك أخذت ما ليس لمن أعطاك، جعلوك قطباً تدور عليه رحى باطلهم وجسراً يعبرون بك إلى بلائهم وسلماً إلى ضلالتهم، يدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم، فلم يبلغ أخص وزرائهم ولا أقوى أعوانهم لهم إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم واختلاف الخاصة والعامة إليهم، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك، وما أقل ما
__________
(1) في الأصل (وأبدا).
(2) إبراهيم (7).
(3) آل عمران (187).
(4) النساء (109).(1/163)
أعطوك في قدر ما أخذوا منك! فانظر لنفسك فإنه لا ينظر لها غيرك، وحاسبها حساب رجل مسؤول، وانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيراً وكبيراً، وانظر كيف إعظامك أمر من جعلك بدينه في الناس مبجلاً وكيف صيانتك لكسوة من جعلك بكسوته مستتراً، وكيف قربك وبعدك ممن أمرك أن تكون منه قريباً، ما لك لا تتنبه من نعستك وتستقيل من عثرتك؟! فتقول: والله ما قمت لله عز وجل مقاماً واحداً أحيي له فيه ديناً ولا أميت له فيه باطلاً، أين شكرك لمن استحملك كتابه واستودعك علمه؟! ما يؤمنك أن تكون من الذين قال الله عز وجل [فيهم]: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى)(1) الآية؛ إنك لست في دار مقام، قد أوذنت بالرحيل، فما بقاء المرء بعد أقرانه؟! طوبى لمن كان في الدنيا على وجل، ما يؤمن من أن يموت وتبقى ذنوبه من بعده؟ إنك لم تؤمر بالنظر لوارثك على نفسك، ليس أحد أهلاً أن ترد له على ظهرك، ذهبت اللذة وبقيت التبعة، ما أشقى من سعد بكسبه غيره! احذر فقد أتيت، وتخلَّص فقد وهلت، إنك تعامل من لا يجهل، والذي يحفظ عليك لا يغفل، تجهز فقد دنا منك سفر بعيد، وداو دينك فقد دخله سقم شديد، ولا تحسبن أني أردت توبيخك وتعييرك وتعنيفك، ولكني أردت أن تنعش ما فات من رأيك وترد عليك ما عزب عنك من حلمك وذكرت قوله تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)(2)، أغفلت ذكر من مضى من أسنانك وأقرانك وبقيت بعدهم كقرن أعضب فانظر هل ابتلوا بمثل ما ابتليت به أو دخلوا في مثل ما دخلت فيه؟ وهل تراه دخر لك خيراً منعوه أو علمك شيئاً جهلوه؛ فإذا كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا في كبر سنك ورسوخ علمك وحضور أجلك فمن يلوم الحدث في سنه الجاهل في علمه المأفون في رأيه المدخول في عقله؟!
__________
(1) الأعراف (169)، وتتمتها (وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ).
(2) الذاريات (55).(1/164)
ونحمد الذي عافانا مما ابتلاك به والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. (صف 2/160-164)
قال الحسن: لما نزلت (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ )(1) قال رجل من المسلمين: حسبي، إن عملت مثقال ذرة من خير أو شر رأيتها، انتهت الموعظة. (رك ص28)
لما حضر الموتُ الحسنَ دخل عليه رجال من أصحابه فقالوا له: يا أبا سعيد زودنا منك كلمات تنفعنا بهن، قال: إني مزودكم ثلاث كلمات ثم قوموا عني ودعوني ولما(2) توجهت له: ما نهيتم عنه من أمر فكونوا من أترك الناس له، وما أمرتم به من معروف فكونوا من أعمل الناس به، واعلموا أن خطاكم خطوتان: خطوة لكم وخطوة عليكم، فانظروا أين تغدون وأين تروحون. (2/154)
__________
(1) الزلزلة (7-8).
(2) كذا بالأصل وكأن اللام هنا زائدة أو تكون الواو هي الزائدة.(1/165)
وعظ الحسن أصحابه فقال: إن الدنيا دارُ عملٍ، من صحبها بالنقص لها والزهادة فيها سعد بها ونفعته صحبتها، ومن صحبها على الرغبة فيها والمحبة لها شقي بها وأجحف بحظه من الله عز وجل ثم أسلمته إلى ما لا صبر له عليه ولا طاقة له به من عذاب الله؛ فأمرُها صغير، ومتاعها قليل، والفناء عليها مكتوب، والله تعالى ولي ميراثها، وأهلها محولون عنها إلى منازل لا تبلى ولا يغيرها طول الثواء منها يخرجون؛ فاحذروا – ولا قوة إلا بالله – ذلك الموطنَ، وأكثروا ذكرَ ذلك المنقلب(1)؛ واقطع يا ابنَ آدمَ من الدنيا أكثرَ همك، أو لتقطعن حبالها بك فينقطع ذكر ما خلقت له من نفسك ويزيغ عن الحق قلبك وتميل إلى الدنيا فترديك، وتلك منازلُ سوءٍ بيِّنٌ ضُرُّها منقطع نفعُها مفضية والله بأهلها إلى ندامة طويلة وعذاب شديد؛ فلا تكونن يا ابنَ آدمَ مغتراً، ولا تأمنْ ما لم يأتك الأمان منه، فإن الهول الأعظم ومفظعات الأمور أمامك لم تخلص منها حتى الآن! ولا بد من ذلك المسلك وحضور تلك الأمور، إما يعافيك من شرها وينجيك من أهوالها، وإما الهَلَكةُ، وهي منازل شديدة مخوفة محذورة مفزعة للقلوب، فلذلك فاعددْ، ومن شرها فاهربْ، ولا يلهينك المتاع القليل الفاني، ولا تربص بنفسك فهي سريعة الانتقاص من عمرك، فبادر أجلَك ولا تقل: غداً غداً، فإنك لا تدري متى إلى الله تصير!؛ واعلموا أن الناس أصبحوا جادين في زينة الدنيا، يضربون في كل غمرة، وكلٌّ معجب بما هو فيه راض به، حريص على أن يزداد منه، فما لم يكن من ذلك لله عز وجل وفي طاعة الله فقد خسر أهله وضاع سعيه، وما كان من ذلك في الله وفي طاعة الله فقد أصاب أهله به وجه أمرهم ووفقوا فيه بحظهم، عندهم كتاب الله وعهده وذكر ما مضى وذكر ما بقي والخبر عمن وراءهم، كذلك أمر الله اليوم وقبل ذلك أمره فيمن مضى، لأن حجة الله بالغة والعذر بارز وكل موافٍ اللهَ بما(2)
__________
(1) في الأصل (المنفلت) وهو تصحيف.
(2) في الأصل (ولما) بدل (بما).(1/166)
عمل ثم يكون القضاء من الله في عباده على أحد أمرين: فمقضيٌّ له رحمته وثوابه فيا لها نعمة وكرامة، ومقضي له سخطه وعقوبته فيا لها حسرة وندامة، ولكن حق على من جاءه البيان من الله بأن هذا أمره وهو واقع: أن يصْغُرَ في عينه ما هو عند الله صغير، وأن يعظم في نفسه ما هو عند الله عظيم؛ أو ليس ما ذكر الله من الكرامة(1) لأهلها فيما بعد الموت والهوان ما يطيب نفس امرىء عن عيشة دنياه؟! فإنها قد أذنت بزوال، لا يدوم نعيمها ولا تؤمن فجائعها، يبلى جديدها ويسقم صحيحها ويفتقر غنيها، ميالة بأهلها لعابة بهم على كل حال؛ ففيها عبرة لمن اعتبر وبيان؛ فعلامَ تنتظر يا ابنَ آدم؟! أنت اليوم في دار هي لافظتك وكأنْ قد بدا لك أمرها فإلى انصرام ما يكون سريعاً، ثم تفضي بأهلها إلى أشد الأمور وأعظمها خطراً؛ فاتق الله يا ابن آدم، وليكن سعيك في دنياك لآخرتك فإنه ليس لك من دنياك شيء إلا ما صدرت أمامك، فلا تدخرن عن نفسك مالك ولا تتبع نفسك ما قد علمت أنك تاركه خلفك، ولكن تزود لبعد الشقة واعدد العدة أيام حياتك وطول مقامك قبل أن ينزل بك من قضاء الله ما هو نازل فيحول دون الذي تريد، فإذا أنت يا ابن آدم قد ندمت حيث لا تغني الندامة عنك؛ ارفض الدنيا ولتسْخُ بها نفسُك، ودع منها الفضلَ فإنك إذا فعلتَ ذلك أصبت أربح الأثمان من نعيم لا يزول، ونجوت من عذاب شديد ليس لأهله راحة ولا فترة؛ فاكدح لما خلقت له قبل أن تفرق بك الأمور فيشق عليك اجتماعها؛ صاحب الدنيا بجسدك وفارقها بقلبك، ولينفعك ما قد رأيت مما قد سلف بين يديك من العمر، وحال بين أهل الدنيا وبين ما هم فيه، فإنه عن قليل فناؤه ومخوف وباله؛ وليزدك إعجاب أهلها بها زهداً فيها وحذراً منها؛ فإن الصالحين كذلك كانوا؛ واعلم يا ابن آدم أنك تطلب أمراً عظيماً لا يقصر فيه إلا المحروم الهالك؛ فلا تركب الغرور وأنت ترى سبيله، ولا تدعْ حظَّك وقد عرض عليك وأنت
__________
(1) تصحفت في الأصل إلى (الكراهة).(1/167)
مسؤول ومقول لك فأخلص عملك؛ وإذا أصبحت فانتظر الموت وإذا أمسيت فكن على ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ وإن أنجى الناس من عمل بما أنزل الله في الرخاء والبلاء، وأمر العباد بطاعة الله وطاعة رسوله، فانكم أصبحتم في دار مذمومة، خُلقتْ فتنةً وضرب لأهلها أجلٌ إذا انتهوا إليه يبيد، أخرجَ نباتَها وبث فيها من كل دابة ثم أخبرهم بالذي هم إليه صائرون وأمر عباده فيما أخرج لهم من ذلك بطاعته وبين لهم سبيلها، يعني سبيل الطاعة، ووعدهم عليها الجنة، وهم في قبضته، ليس منهم بمعجز له، وليس شيء من أعمالهم يخفى عليه، سعيهم فيها شتى، بين عاص ومطيع له، ولكلٍّ جزاء من الله بما عمل ونصيب غير منقوص، ولم أسمع الله تعالى فيما عهد إلى عباده وأنزل عليهم في كتابه رغَّبَ في الدنيا أحداً من خلقه ولا رضي له بالطمأنينة فيها ولا الركون إليها! بل صرف الآيات وضرب الأمثال بالعيب لها والنهي عنها ورغب في غيرها، وقد بين لعباده أن الأمر الذي خلقت له الدنيا وأهلها عظيم الشأن هائل المطلع، نقلهم عنه أراه(1) إلى دار لا يشبه ثوابهم ثواباً ولا عقابهم عقاباً، لكنها دار خلود يدين الله تعالى فيه العباد بأعمالهم ثم ينزلهم منازلهم، لا يتغير فيها بؤس عن أهلها ولا نعيم، فرحم الله عبداً طلب الحلال جهده حتى إذا دار في يده وجَّهه وجْهه الذي هو وجْهُه؛ ويحك يا ابن آدم ما يضرك الذي أصابك من شدائد الدنيا إذا خلص لك خير الآخرة؛ (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)(2) هذا فضح القوم، ألهاكم التكاثر عن الجنة عند دعوة الله تعالى وكرامته! والله لقد صحبنا أقواماً كانوا يقولون: ليس لنا في الدنيا حاجة، ليس لها خلقنا، فطلبوا الجنة بغدوهم ورواحهم وسهرهم، نعم والله حتى أهرقوا فيها دماءهم ورجوا فأفلحوا ونجوا، هنيئاً لهم لا يطوي أحدهم ثوباً ولا يفترشه ولا تلقاه إلا صائماً ذليلاً متبائساً خائفاً حتى
__________
(1) كذا في الأصل.
(2) التكاثر (1-2).(1/168)
إذا دخل إلى أهله إن قرب إليه شيء أكله وإلا سكت، لا يسألهم عن شيء ما هذا وما هذا؟؛ ثم قال:
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
(2/140-143)
قال الحسن: [يا ابن آدم عملك عملك! فانما هو لحمُك ودمُك، فانظر على أي حال تلقى عملَك! إن لأهل التقوى علاماتٍ يُعرفون بها: صدق الحديث والوفاء بالعهد وصلة الرحم ورحمة الضعفاء وقلة الفخر والخيلاء وبذل المعروف وقلة المباهاة للناس وحسن الخلق وسعة الخلق مما يقرب إلى الله عز وجل]؛ يا ابن آدم إنك ناظر إلى عملك يوزن(1) خيره وشره فلا تحقرن من الخير شيئاً وإن هو صغر، فانك إذا رأيتَه سرك مكانه، ولا تحقرن من الشر شيئاً فإنك إذا رأيته ساءك مكانه، فرحم الله رجلاً كسب طيباً وأنفق قصداً وقدم فضلاً ليوم فقره وفاقته؛ [وجهوا هذه الفضول حيث وجهها الله وضعوها حيث أمر بها الله أن توضع فإن من قبلكم كانوا يشترون أنفسهم بالفضل من الله وإن هذا الموت هو أضر بالدنيا ففضحها فوالله ما وجد بعد[ه] ذو لب فرحاً]؛ هيهات هيهات، ذهبت الدنيا بحالتي مآلها، وبقيت الأعمال قلائد في أعناقكم، أنتم تسوقون الناس والساعة تسوقكم، وقد أسرع بخياركم فما تنتظرون؟! المعاينة؟! فكأن قد! إنه لا كتاب بعد كتابكم ولا نبي بعد نبيكم؛ يا ابن آدم بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعاً، ولا تبيعن آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعاً(2). (2/143 والمصنف 7/237)
__________
(1) تصحفت هذه الكلمة في (المصنَّف) إلى (فزد).
(2) قطعتان من هذا الأثر جعلتُ كلاً منهما بين حاصرتين مربعتين، القطعة الأولى زيادة في الحلية على المصنَّف، والثانية بعكسها.(1/169)
قال الحسن: رحم الله امرءاً عرف ثم صبر ثم أبصر فبصر، فإن أقواماً عرفوا فانتزع الجزعُ أبصارَهم فلا هم أدركوا ما طلبوا ولا هم رجعوا إلى ما تركوا؛ اتقوا هذه الأهواء المضلة البعيدة من الله التي جماعها الضلالة وميعادها النار، لهم محنة، من أصابها أضلته، ومن أصابته قتلته؛ يا ابن آدم دينك دينك فإنه هو لحمك ودمك، إن يسلم لك دينك يسلم لك لحمك ودمك، وإن تكن الأخرى فنعوذ بالله، فإنها نار لا تطفى وجرح لا يبرأ وعذاب لا ينفد أبداً ونفس لا تموت؛ يا ابن آدم إنك موقوف بين يدي ربك ومرتهن بعملك، فخذ مما في يديك لما بين يديك عند الموت يأتيك الخبر، إنك مسؤول ولا تجد جواباً؛ إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت المحاسبة من همه. (2/145-146)(1/170)
قال أبو بكر الهذلي: كنا نجلسُ عندَ الحسنِ فأتاه آتٍ فقالَ: يا أبا سعيدٍ دخلْنا آنفاً على عبدِ اللهِ بنِ الأهتمِ(1) فإذا هو يجودُ بنفسِهِ، فقلنا: يا أبا معمرٍ كيفَ تجدُك؟ قالَ: أجدُني واللهِ وَجِعاً، ولا أظنُّني إلا لما بي(2)، ولكن ما تقولونَ في مئةِ ألفٍ في هذا الصندوقِ لم تُؤَدَّ منْها زكاةٌ ولم يوصَلْ منها رَحِمٌ؟! فقلنا: يا أبا معمر فلِمَ كنتَ تجمعُها؟! قالَ: كنتُ واللهِ أجمعُها لرَوعةِ الزمانِ وجفْوةِ السلطانِ ومكاثرةِ العشيرةِ، فقالَ الحسنُ: انظروا هذا البائسَ أنَّى أتاهُ الشيطانُ فحذّرهُ روعةَ زمانِهِ وجفْوةَ سلطانِهِ عما استودَعه اللهُ إياهُ وعمَّرهُ فيهِ! خرّجّ واللهِ منهُ كئيباً حزيناً ذميماً مُليماً(3)، أيها عنكَ(4) أيُّها الوارثُ لا تُخدَعْ كما خُدِعَ صويحِبُكَ أمامَكَ، أتاكَ هذا المالُ حلالاً فإيّاكَ وإياكَ أن يكونَ وبالاً عليكَ! أتاكَ واللهِ مِمن كانَ لهُ جموعاً منوعاً يدأَبُ فيهِ الليلَ والنهارَ، يقطعُ فيهِ المفاوزَ والقفارَ مِنْ باطلٍ جمعَهُ ومِنْ حقٍّ منعَه، جمعَهُ فأوعاهُ، وشدَّه فأوكاهُ، لم يؤدِّ منه زكاةً، ولمْ يَصِلْ منه رحِماً؛ إنَّ يومَ القيامةِ ذو حسراتٍ، وإنَّ أعظمَ الحسراتِ غداً أن يرى أحدُكم مالَهُ في ميزانِ غيرِه أوَتَدرونَ كيفَ ذاكم؟ رجلٌ آتاهُ اللهُ مالاً وأمرَهُ بإنفاقِهِ في صنوفِ حقوقِ اللهِ فبخِلَ بهِ فوَرِثَهُ هذا الوارثُ فهو يراهُ في ميزانِ غيرِهِ فيا لَها عثرةً لا تقالُ وتوبةً لا تنال. (2/144-145 وانظر الجواهر المجموعة ص127-128)
__________
(1) هو خالد بن صفوان التميمي أحد فصحاء العرب المشهورين.
(2) أي يرى أنه ميت.
(3) أي فاعلاً لما يُلام عليه.
(4) أي احذر.(1/171)
قال الحسن: يا ابنَ آدمَ سرطاً سرطاً؟! جمعاً جمعاً في وعاء؟! وشداً شداً في وكاء؟! ركوبَ الذلولِ ولبوسَ الليِّنِ؟! ثم قيلَ: ماتَ فأفضى واللهِ إلى الآخرةِ، إنَّ المؤمنَ عملَ للهِ تعالى أياماً يسيرةً فواللهِ ما ندمَ أن يكون أصابَ من نعيمِها ورخائِها ولكنْ راقت الدنيا له فاستهانها وهضَمها لآخرتِهِ، وتزوَّدَ منها فلم تكن الدنيا في نفسه بدارٍ ولم يرغبْ في نعيمِها، ولم يفرحْ برخائِها، ولم يتعاظمْ في نفسِهِ شيءٌ من البلاءِ، إن نزلَ بهِ مع احتسابِهِ للأجرِ عندَ اللهِ، ولم يحتسبْ نوالَ الدنيا حتى مضى راغباً راهباً فهنيئاً هنيئاً، فأمَّنَ اللهُ بذلكَ روعتَهُ وسترَ عورَتَه، ويسَّر حسابَه وكانَ الأكياسُ منَ المسلمينَ يقولونَ: إنما هو الغدُوُّ والرواحُ وحظٌّ مِنَ الدُّلجةِ والاستقامة، لا يلبثك يا ابن آدم أن على الخير(1) حتى ان العبدَ إذا رزقه اللهُ تعالى الجنةَ فقد أفلحَ وإن الله تعالى لا يخدعُ عن جنتِهِ ولا يعطى بالأماني، وقد اشتد الشحُّ وظهرتِ الأمانيُّ وتمنى المتمني في غروره. (2/146-147)
قال الحسن بن حماد: سمعت أبي حماداً يقول: دخلت البصرة فسألت مرحوم العطار: هل بقي من جلساء الحسن أحد؟ فقال: بقي شيخ، فأتيته، فقلت له: رحمك الله إن رأيت أن تحدثني بعض كلام الحسن فأتعظ به، فقال: كان الحسن كثيراً ما يقول في كلامه: يا ابن آدم نطفة بالأمس وجيفة غداً، والبلى فيما بين ذلك يمسح جنبيك؛ كأن الأمر يعنى به غيرك؛ إن الصحيح من لم تمرضه الذنوب؛ وإن الطاهر من لم تنجسه الخطايا؛ وإن أكثركم ذكراً للآخرة أنساكم للدنيا؛ وإن أنسى الناس للآخرة أكثرهم(2) ذكرا للدنيا؛ وإن أهل العبادة من أمسك نفسه عن الشر؛ وإن البصير من أبصر الحرام فلم يقربه؛ وإن العاقل من يذكر يوم القيامة ولم ينس الحساب. (الزهد الكبير ص68)
__________
(1) هذه العبارة غير بينة في معناها.
(2) بالأصل (أكثركم).(1/172)
قال مالك بن دينار: نحنُ رهائنُ الأمواتِ وهم محتَبَسونَ حتى تردَّ إليهم الرهائنُ فَيُحشَرونَ جميعاً ثم غُشِيَ عليه. (2/371)
قالَ جعفرُ بنُ سليمانَ: سمعتُ أبا عِمرانَ الجونيَّ يقولُ في قصصهِ: حتى متى تبقى وجوهُ أولياءِ الله تحتَ أطباق الترابِ، وإنما هم محتبسون ببقيةِ آجالِكم أيتها الأمةُ حتى يبعثَهم اللهُ تعالى إلى جنته وثوابه. (2/309)
قالَ أبو عمران الجوني: ما من ليلة تأتي إلا وتنادي: اعملوا في ما استطعتم من خيرٍ فلن أرجعَ اليكم إلى يوم القيامة. (2/310)
قال أبو عمران الجوني: إنه ليسَ بين الجنةِ والنارِ طرقٌ ولا فَيافٍ ولا منزلٌ هنالك لأحدٍ، مَن أخطأتْه الجنةُ صارَ إلى النار. (2/310)
قال قتادة: مكتوب في التوراة ابن آدم أرزقك وتعبد غيري! ابن آدم تعمل بعمل الفجار وتبتغي ثواب الأبرار! ابن آدم تجتني من الشوك العنب! كما تدين تدان، كما تزرع تحصد، ابن آدم كما ترحم ترحم، ابن آدم كيف ترجو رحمة الله وأنت لا ترحم عباده؟! ابن آدم تدعو إلي وتفر مني؟! (الزهد الكبير ص275-276)
قال مالك بن دينار: مكتوب في التوراة: كما تدين تدان وكما تزرع تحصد. (اقتضاء العلم العمل ص98)
قال مالك بن دينار: مثل قراء هذا الزمان كمثل رجل نصب فخاً ونصب فيه برة فجاء عصفور فقال: ما غيبك في التراب؟ قال: التواضع، قال: لأي شيء انحنيت؟ قال: من طول العبادة، قال: فما هذه البرة المنصوبة فيك؟ قال: أعددتها للصائمين، فقال: نعم الجار أنت؛ فلما كان عند المغرب دنا العصفور ليأخذها فخنقه الفخ فقال العصفور: إن كان العباد يخنقون خنقك فلا خير في العباد اليوم. (صف3/276)
قال مالك لثابت البناني: أنا أبطُّهم فأخرج القيحَ والدمَ، وأنت تدهنهم بالكدا(1)، يعني تحدثهم بالرخص وأنا أشدد عليهم. (2/377)
__________
(1) كذا في الأصل، ولعلها (كدي) ففي لسان العرب: (ومسك كَدِيّ: لا رائحة له).(1/173)
قال مالك: كنت عند بلال بن أبي بردة وهو في قبة له فقلت: قد أصبت هذا خالياً فأي قصص أقص عليه؟ فقلت في نفسي: ما له خير من أن أقص عليه ما لقي نظراؤه من الناس! فقلت له: أتدري من بنى هذا الذي أنت فيه؟! بناها عبيد الله بن زياد، وبنى البيضاء وبنى المسجد، فولي ما ولي فصار من أمره أن هرب فطُلبَ فقتل؛ ثم ولي البصرة بشر بن مروان، فقالوا: أخو أمير المؤمنين، فمات بالبصرة، فحملوه وحشد الناس في جنازته، ومات زنجي فحمله الزنج على طُنٍّ(1) من قصب، فذُهب بأخي أمير المؤمنين فدفنوه، وذُهب بالزنجي فدفنوه؛ ثم جعلتُ أقصُّ عليه أميراً أميراً حتى انتهيت إليه، فقلت في نفسي: قد بنيتَ داراً بالكوفة فلم ترَها حتى أخذتَ فسجنتَ فعذبتَ حتى قتل فيها. (2/379-380)
قال مالك: أتيت على قبر فإذا عليه مكتوبٌ:
يا أيها الركب سيروا إن غايتكم
أن تصبحوا ذات يوم لا تسيرونا
حُثُّوا المطايا وأَرْخُوا مِن أزمتها
قبل الممات وقَضُّوا ما تقضونا
كنا أناساً كما كنتم فغيَّرنا
دهرٌ فسوف كما كنا تكونونا
(2/382)
قال ابن شوذب: سمعت فرقداً [السبخي] يقول: إنكم لبستم ثياب الفراغ قبل العمل! ألم تروا إلى الفاعل إذا عمل كيف يلبس أدنى ثيابه، فإذا فرغ اغتسل ولبس ثوبين نقيين؟! وأنتم تلبسون ثياب الفراغ قبل العمل! (صف3/273)
__________
(1) الطُّنُّ بالضم: حُزمة القصب، والقصبة الواحدة من الحُزمة طُنَّة. كذا في (مختار الصحاح) (ص167).(1/174)
دخل سليمان بن عبد الملك المدينةَ حاجاً فقال: هل بها رجلٌ أدركَ عِدّةً من الصحابة؟ قالوا: نعم، أبو حازم، فأرسلَ إليه، فلما أتاه قال: يا أبا حازم ما هذا الجفاء؟! قال: وأيُّ جفاءٍ رأيتَ مني يا أميرَ المؤمنين؟! قال: وجوه الناس أتوني ولم تأتني! قال: والله ما عرفتَني قبل هذا ولا أنا رأيتُكَ فأي جفاءٍ رأيتَ مني؟! فالتفتَ سليمان إلى الزهري فقال: أصاب الشيخُ وأخطأتُ أنا! فقال: يا أبا حازم ما لنا نكرهُ الموتَ؟! فقال: عمَّرتم الدنيا وخرَّبتم الآخرة فتكرهون الخروجَ من العمران إلى الخراب! قالَ: صدقتَ؛ فقال: يا أبا حازم ليت شعري ما لنا عند الله تعالى غداً؟ قال: اعرض عملَك على كتاب الله عز وجل، قال: وأين أجده من كتاب الله تعالى؟ قال: قال الله تعالى: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)(1)، قال سليمان: فأين رحمة الله؟! قال أبو حازم: قريبٌ من المحسنين؛ قال سليمان: ليت شعري كيف العرضُ على الله غداً؟ قال أبو حازم: أما المحسن كالغائب يَقْدم على أهله، وأما المسيء كالآبق يُقْدَمُ به على مولاه؛ فبكى سليمان حتى علا نحيبُه واشتد بكاؤه! فقالَ: يا أبا حازم كيف لنا أن نصلح؟ قال: تدعوأ(2) عنكم الصلَفُ(3) وتمسكوا بالمروءة وتقسموا بالسوية وتعدلوا في القضية، قال: يا أبا حازم وكيف المأخذ من ذلك؟ قال: تأخذه بحقه وتضعه بحقه في أهله، قال: يا أبا حازم من أفضل الخلائق؟ قال: أولوا المروءة والنهى، قال: فما أعدل العدل؟ قال: كلمة صدق عند من ترجوه وتخافه، قال: فما أسرع الدعاء إجابة؟ قال: دعاء المحسن للمحسنين، قال: فما أفضل الصدقة؟ قال: جهد المقل إلى يد
__________
(1) الانفطار (13-14).
(2) كانت (تدعون)، فكتبتها بحذف النون، لتكون الأفعال المتعاطفة في هذا السياق متحدة في إعرابها.
(3) قال ابن الأثير في (النهاية) (3/47) في بيان معنى الصلف: (هو الغُلوّ في الظَّرف والزيادةُ على المِقْدار معَ تكبُّر).(1/175)
البائس الفقير لا يتبعها منٌّ ولا أذى، قال: يا أبا حازم من أكيس الناس؟ قال: رجلٌ ظفرَ بطاعة الله تعالى فعمل بها ثم دل الناس عليها، قال: فمن أحمق الخلق؟ قال: رجلٌ اغتاظ في هوى أخيه وهو ظالم له فباع آخرته بدنياه، قال: يا أبا حازم هل لك أن تصحبنا وتصيب منا ونصيب منك؟ قال: كلا، قال: ولمَ؟ قال: إني أخاف أن أركنَ إليكم شيئاً قليلاً فيذيقني الله ضعفَ الحياة وضعفَ الممات ثم لا يكون لي منه نصيراً؛ قال: يا أبا حازم ارفع إليَّ حاجتَكَ، قال: نعم، تدخلني الجنةَ وتخرجني من النارِ، قال: ليس ذاك إليَّ! قال: فما لي حاجة سواها؛ قال: يا أبا حازم فادعُ الله لي؛ قال: نعم، اللهم إن كان سليمان من أوليائك فيسره لخير الدنيا والآخرة، وإن كان من أعدائك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى؛ قال سليمان: قط؟! قال أبو حازم: قد أكثرتُ وأطنبتُ إن كنتَ أهلَه، وإن لم تكن أهلَه فما حاجتُك أن ترمي عن قوس ليس لها وتر؛ قال سليمان: يا أبا حازم ما تقول فيما نحن فيه؟ قال: أوَتعفيني يا أميرَ المؤمنين؟! قال: بل نصيحة تلقيها إلي، قال: إنَّ آباءَك غصبوا الناسَ هذا الأمرَ فأخذوه عنوةً بالسيف من غير مشورة ولا اجتماع من الناس وقد قَتلوا فيه مقتلةً عظيمةً وارتحلوا، فلو شعرت ما قالوا وقيل لهم! فقال رجل من جلسائه: بئسَ ما قلتَ! قال أبو حازم: كذبتَ إن الله تعالى أخذ على العلماء الميثاق ليبيننه للناس ولا يكتمونه! قال: يا أبا حازم أوصني، قال: نعم سوف أوصيك وأُوجِز: نزِّه الله تعالى وعظمه أن يراك حيث نهاك أو يفقدَك حيث أمرك؛ ثم قام، فلما ولّى قال: يا أبا حازم هذه مئة دينار أنفقْها ولك عندي أمثالها كثير؛ فرمى بها وقال: والله ما أرضاها لك فكيف أرضاها لنفسي؟! ---- فإن كانت هذه المئة دينار عوضاً عما حدثتك فالميتة والدم ولحم الخنزير في حال الاضطرار أحلُّ منه؛ وإن كان من مال المسلمين فلي فيها شركاء ونظراء، إن وازيتهم وإلا فلا حاجة لي فيها! إن(1/176)
بني اسرائيل لم يزالوا على الهدى والتقى حيث كانت أمراؤهم يأتون إلى علمائهم رغبة في علمهم، فلما نكسوا ونفسوا وسقطوا من عين الله تعالى وآمنوا بالجبت والطاغوت كان علماؤهم يأتون إلى أمرائهم ويشاركونهم في دنياهم وشركوا معهم في قتلهم(1)؛ قال ابن شهاب: يا أبا حازم إياي تعني أو بي تعرِّض؟ قال: ما إياك اعتمدت ولكن هو ما تسمع، قال سليمان: يا ابن شهاب تعرفُه؟ قال: نعم جاري منذ ثلاثين سنة ما كلمته كلمة قط، قال أبو حازم: إنك نسيتَ الله فنسيتني ولو أحببتَ اللهَ تعالى لأحببتني، قال ابن شهاب: يا أبا حازم تشتمني؟! قال سليمان: ما شتمك ولكن شتمتْكَ نفسُكَ أما علمت أنَّ للجارِ على الجارِ حقاً كحق القرابة(2)؛ فلما ذهب أبو حازم قال رجل من جلساء سليمان: يا أمير المؤمنين تحب أن يكون الناس كلهم مثل أبي حازم؟ قال: لا(3).
__________
(1) كذا في الأصل.
(2) فضل الزهري وجلالته وعلمه وحفظه أمور مسلمة شهيرة غنية عن التذكير بها، ولكن السلف كانوا ينصح بعضهم بعضاً وربما شددوا في بعض المسائل وعظموا أمرها لأنهم كانوا يعظمون دين الله وشعائره ويبالغون في الحذر من الانحراف والمعاصي، وحق لهم ذلك.
(3) وجاء في الأصل رواية أخرى مختصرة وهي: أن بعض الأمراء أرسل الى أبي حازم فأتاه وعنده الافريقي والزهري وغيرهما، فقال له: تكلم يا أبا حازم، فقال أبو حازم: إن خيرَ الأمراء من أحب العلماءَ، وإن شرَّ العلماءِ من أحبَّ الأمراءَ؛ وإنه كان فيما مضى إذا بعث الأمراءُ إلى العلماء لم يأتوهم، وإذا أعطوهم لم يقبلوا منهم، وإذا سألوهم لم يرخصوا لهم، وكان الأمراء يأتون العلماء في بيوتهم فيسألونهم، فكان في ذلك صلاح للأمراء وصلاح للعلماء؛ فلما رأى ذلك ناسٌ من الناس قالوا: ما لنا لا نطلب العلم حتى نكون مثلَ هؤلاء؟! فطلبوا العلمَ فأتوا الأمراء فحدثوهم فرخصوا لهم وأعطوهم فقبلوا منهم، فجرئت الأمراء على العلماء وجرئت العلماء على الأمراء. (3/243-244)(1/177)
(3/234-237)
قال الزهري لسليمان بن عبد الملك(1): ألا تسأل أبا حازم ما قال في العلماء؟ قال: وما عسيتُ أن أقولَ في العلماء إلا خيراً! إني أدركتُ العلماءَ وقد استغنَوا بعلمهم عن أهلِ الدنيا ولم يستغنِ أهلُ الدنيا بدنياهم عن علمهم؛ فلما رأوا ذلك قدموا بعلمهم إلى أهل الدنيا ولم يُنِلْهمْ أهلُ الدنيا من دنياهم شيئاً! إن هذا وأصحابَه ليسوا علماء، إنما هم رواة؛ فقال الزهري: وإنه لجاري وما علمتُ أنَّ هذا عنده! قال: صدقَ أما إني لو كنتُ غنياً عرفتني!! فقال له سليمان: ما المخرج مما نحن فيه؟! قال: أن تمضي ما في يديك لما أُمِرتَ به وتكفَّ عما نهيتَ عنه؛ فقالَ: سبحان الله! من يطيق هذا؟! قال: من طلب الجنة وفرَّ من النار، وما هذا فيما تطلب وتفر منه؟! (3/233-234)
قال أبو حازم: إني لأعظ وما أرى للموعظةِ موضعاً وما أريد بذلك إلا نفسي. (3/240)
قال أبو حازم: إن الدنيا غرت أقواماً فعملوا فيها بغير الحق، ففاجأهم الموت فخلفوا مالهم لمن لا يحمَدهم، وصاروا لمن لا يعذِرهم، وقد خلَقَنا(2) بعدهم فينبغي أن ننظر الذي(3) كرهناه منهم فنجتنبه، والذي غبَطناهم به فنستعمله. (أدب الدنيا والدين ص128)
قال أبو حازم: لو أن أحدكم قيل له ضع ثوبك على هذا الهدف حتى يرمى لقال: ما كنت لأخرق ثوبي وهو يخرق دينه. (صف2/165)
قال أبو حازم: قد رضِيْتُ مِن أحدِكم أن يُبْقِي على دينِهِ(4) كما يُبقِى على نعليْهِ. (3/239)
دخل أبو حازمٍ على أميرِ المدينةِ فقالَ لهُ: تكلَّم، فقالَ لهُ: أُنظرِ الناسَ ببابِكَ، إنْ أدنيتَ أهلَ الخيرِ ذهبَ أهلُ الشرِّ، وإنْ أدنيتَ أهلَ الشرِّ ذهبَ أهلُ الخيرِ. (3/240)
__________
(1) في الأصل (هشام) بدل (عبد الملك).
(2) ضبطت في بعض كتب الأدب (خلَفْنا) وكأنه الصواب.
(3) كانت (للذي).
(4) أي يحافظ على دينه.(1/178)
قال وهب بن منبه في موعظة له: يا ابن آدم إنه لا أقوى من خالق ولا أضعف من مخلوق ولا أقدر ممن طلبته في يده ولا أضعف ممن هو في يد طالبه. (4/24)
قال وهب: إذا أردتَ أن تعملَ بطاعة الله عز وجل فاجتهدْ في نصحِكَ وعلمِكَ لله، فإن العملَ لا يُقبَلُ ممن ليسَ بناصح، وإنَّ النصحَ لله عز وجل لا يكملُ إلا بطاعة الله، كمثلِ الثمرةِ الطيبةِ ريحُها طيبٌ وطعمها طيب، كذلك مثلُ طاعةِ الله، النصحُ ريحها والعمل طعمها، ثم زينْ طاعةَ اللهِ بالعلم والحلم والفقه، ثم أكرمْ نفسَك عن أخلاق السفهاء وعبِّدها على أخلاق العلماء، وعوِّدها على فعل الحلماء، وامنعها عملَ الأشقياء، وألزِمْها سيرة الفقهاء، واعزلْها عن سُبل الخبثاء، وما كان لك من فضل فاعنْ بهِ من دونَك، وما كان فيمن دونك من نقص فأعنه عليه، حتى تبلّغه معك، فإن الحكيم يجمع فضوله ثم يعود بها على من دونه ثم ينظر في نقائص من دونه، ثم يقومها ويزجيها حتى يبلّغه. إن كان فقيهاً حمل من لا فقه له إذا رأى أنه يريد صحبته ومعونته؛ وإذا كان له مال أعطى منه من لا مال له، وإن كان مصلحاً استغفر الله للمذنب إذا رجا توبته؛ وإن كان محسناً أحسن إلى من أساء إليه واستوجب بذلك أجره؛ ولا يغتر بالقول حتى يجيء معه الفعل؛ ولا يتمنى طاعة الله إذا لم يعمل بها، فإذا بلغ من طاعة الله شيئاً حمد الله ثم طلب ما لم يبلغ منها؛ وإذا علم من الحكمة لم تشبعه حتى يتعلم ما لم يبلغ منها؛ وإذا ذكر خطيئته سترها عن الناس واستغفر الله الذي هو القادر على أن يغفرها، ثم لا يستعين على شيء من قوله بالكذب، فإن الكذب في الحديث مثل الأكلة في الخشبة يُرى ظاهرُها صحيحاً وجوفها نخر، لا يزال من يغتر بها يظن أنها حاملة ما عليها حتى تنكسر على ما فيها ويهلك من اغتر بها؛ وكذلك الكذب في الحديث لا يزال صاحبه يغتر به ويظن أنه مًعينه على حاجته وزائد له في رغبته حتى يعرف ذلك منه ويتبين لذوي العقول غروره ويستنبط(1/179)
العلماء ما كان يستخفي به عنهم، فاذا اطلعوا على ذاك من أمره وتبين لهم كذبوا خبره وأبادوا(1) شهادته واتهموا صدقه واحتقروا شأنه وأبغضوا مجلسه واستخفوا منه بسرائرهم وكتموا حديثهم وصرفوا عنه أمانتهم وغيبوا عنه أمرهم وحذِروه(2) على دينهم ومعيشتهم، ولم يُحضروه شيئاً من محاضرهم، ولم يأمنوه على شيء من سرهم ولم يحكموه في شيء مما شجر بينهم. (4/37)
قال وهب: إن الله تعالى ليس يحمدُ أحداً على طاعته، ولا يسألُ أحدٌ من الله الخيرَ إلا برحمته، وليس يرجو(3) خيرَ الناسِ ولا يخافُ شرَّهم، ولا يُعَطِّفُ اللهَ على الناس إلا رحمته إياهم؛ إن مكروا به مكرهم، وإن خادعوه رد عليهم خداعهم، وإن كاذبوه رد عليهم كذبهم، وان أدبروا قطع دابرهم، ولا يخاف منهم شيئاً، وإن أقبلوا قبِلَ منهم؛ وإن اللهَ عز وجلَّ لا يُعَطِّفُه على الناس شيء من أمرهم إلا التضرع إليه حتى يرحمهم؛ ولا يستخرجُ أحدٌ من الله شيئاً من الخير بحيلة ولا مكر ولا مخادعة ولا أوبة ولا سخط ولا مشاورة، ولكن يأتي بالخير من الله رحمتُه، ومن لم يتبع الخير من قِبل رحمته لا يجد باباً غير ذلك يدخل منه، فإن الله تعالى لا يُنال الخيرُ منه إلا بطاعته، ولا يعطفُ اللهَ على الناس شيء إلا تعبدهم له وتضرعهم إليه حتى يرحمهم، فإذا رحمهم استخرجت رحمتُه حاجتَهم من الله تعالى، وليس يُنالُ الخيرَ من الله من وجهٍ غيرِ ذلك، وليس إلى رحمة الله سبيلٌ يؤتى من قِبَله إلا تعبد العباد له وتضرعهم إليه، فإنَّ رحمةَ الله تعالى بابٌ كلُّ خيرٍ يبتغى من قِبله، وإنَّ مفتاحَ ذلك الباب التضرعُ إلى الله تعالى، فمن جاء بذلك المفتاح فتح لديه، ومن أراد أن يفتح ذلك الباب بغير مفتاحه لم يفتح له، وكيف ينفتحُ البابُ من غيرِ مفتاحِه؟! ولله عز وجل خزائنُ الخيرِ كلِّه، وبابُ خزائنِ اللهِ رحمتُه، ومفتاحُ رحمةِ
__________
(1) لعلها كانت (وردوا) ثم تصحفت.
(2) كانت في الأصل (وحزروه).
(3) أي الله تبارك وتعالى.(1/180)
الله التضرع إليه فمن حفظ ذلك المفتاح وجاء به فتح له الباب ودخل الخزائن، ومن دخل الخزائن فله فيها ما تشتهي الأنفس وتلذُّ الأعينُ وفيها ما يشاؤن وما يدَّعون، في مقام أمين، لا يُحَوَّلون عنها ولا يخافون، ولا ينصبون فيه ولا يهرمون ولا يفتقرون فيه ولا يموتون، في نعيم مقيم وأجرٍ عظيمٍ وثواب كريم، نزلاً من غفور رحيم. (4/39-40)
قال وهب: يا بني اتخذ طاعةَ الله تعالى تجارةً تريد(1) بها ربحَ الدنيا والآخرة، والايمانَ بالله تعالى سفينَتَك التي تحملُ عليها، والتوكلَ على الله تعالى دقلَها، والدنيا بحْرَك، والايامَ موجَك، والاعمالَ المفروضةَ تجارتَك التي ترجو بها ربحَها، والنافلةَ هديتَك التي تكرمُ بها، والحرصَ عليها الريحَ التي تسيرُ بها وتزجيها، ورَدَّ النفسِ عن هواها مراسيها التي ترسيها، والموتَ ساحلَها، واللهَ عز وجل مالكَها؛ وأحبُّ التجارِ إليهِ أفضلُهم بضاعةً وأكثرُهم هديةً، وأبغضُ التجارِ إليهِ اقلُّهم بضاعةً وأردأُهم هديةً؛ كما تكونُ تجارتُك تربحُ، وكما تكونُ هديتُك تُكرَم. (4/54)
__________
(1) في الأصل (تزيد).(1/181)
كان من كلامِ ابراهيمَ [التيمي] أنَّه يقولُ: أيُّ حسرةٍ أكبرُ على امرىءٍ مِن أنْ يرى عبداً كانَ لهُ، خوَّلَهُ اللهُ إيّاهُ في الدنيا، هو أفضل منزلةً منهُ عند اللهِ يومَ القيامة؟ِ! وأيَّ حسرةٍ على امرىءٍ أكبرُ من أن يصيبَ مالاً فيرثُهُ غيرُهُ فيعملُ فيهِ بطاعةِ اللهِ تعالى فيصيرُ وزرُهُ عليهِ وأجرُهُ لغيرِه؟! وأيُّ حسرةٍ على امرىءٍ أكبرُ منْ أنْ يرى مَن كانَ مكفوفَ البصرِ ففُتحَ لهُ عنْ بصرِه يومَ القيامةِ وعمِيَ هوَ؟! إنَّ مَن كانَ قبلَكم يفرّونَ منَ الدنيا وهيَ مقبلةٌ عليهِم ولهم مِن القدَمِ ما لهم، وأنتُم تتبعونَها وهيَ مدبرةٌ عنْكم ولكُم من الاحداثِ ما لَكم، فقيسوا أمرَكم وأمرَ القوم. وقالَ: أيُّ حسرةٍ على امرىءٍ أكبرُ منْ أنْ يُؤتيَهُ اللهُ علماً فلم يعملْ بهِ فسمعَه منهُ غيرُه فعملَ بهِ فيرى منفعتَه يومَ القيامةِ لغيرِهِ(1). (4/214-215)
قال عمر بن عبد العزيز: يا أيها الناسُ إنما أنتم أغراضٌ تنتضلُ فيها المنايا، إنكم لا تؤتَونَ نعمةً إلا بفراقِ أخرى! وأيةُ أكلةٍ ليست معها غصّةٌ؟! وأيةُ جرعةٍ ليس معها شرقةٌ؟! وإنَّ أمْسِ شاهدٌ مقبولٌ قد فجَعَكم بنفسِه وخلَّف في أيديكم حِكْمَتَه! وإنَّ اليومَ حبيبٌ مودِّعٌ، وهو وشيكُ الظعنِ؛ وإنَّ غداً آتٍ بما فيهِ، وأينَ يهربُ من يتقلبُ في يديّ طالبِه؟! انه لا أقوى من طالبٍ ولا أضعفَ من مطلوبٍ؛ إنما أنتم سفرٌ تحلّون عقدَ رحالِكم في غيرِ هذه الدارِ! إنما أنتم فروعُ أصولٍ قد مضت، فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله؟!. (5/265)
__________
(1) قال بعض السلف: أشد الناس ندامة عند الموت عالم مفرّط. (مختصر منهاج القاصدين ص35).(1/182)
خطب عمرُ بن عبد العزيز فحمدَ اللهَ وأثنى عليه ثم قالَ: أيُّها الناسُ إنَّ اللهَ تعالى خلقَ خلقَه ثم أرقدَهم ثم يبعثُهم مِن رقدتِهم؛ فإما إلى جنةٍ وإما إلى نارٍ؛ والله إن كنا مصدقينَ بهذا إنا لحمقى(1)؛ وإن كنا مكذبينَ بهذا إنا لهلكى! ثم نزل. (5/266)
خطب عمر فقال: أيها الناس إنكم خُلقتم لأمر إن كنتم تصدقون به إنكم لحمقى، وإن كنتم تكذبون به إنكم لهلكى، إنما خُلقتم للأبد، ولكنكم من دارٍ إلى دارٍ تُنقلون، عبادَ الله إنكم في دار لكم فيها من طعامكم غصص، ومن شرابكم شَرَق، لا تصفو لكم نعمة تسرون بها إلا بفراق أخرى تكرهون فراقها، فاعملوا لما أنتم صائرون إليه وخالدون فيه، ثم غلبه البكاء فنزل. (ذم الدنيا 234)
قال مَسلمةُ بنُ عبدِ الملِكِ بنِ مروان: دخلتُ على عمرَ بعدَ الفجرِ في بيتٍ كانَ يخلو فيه بعد الفجر فلا يدخلُ عليهِ أحدٌ، فجاءت جاريةٌ بطبقٍ عليهِ تمرٌ صبحاني، وكان يعجبُه التمرُ، فرفع بكفِّه منه فقالَ: يا مسلمةُ أترى لو أنَّ رجلاً أكلَ هذا، ثم شربَ عليهِ الماءَ، فإنَّ الماءَ على التمرِ طيبٌ، أكان يجزيهِ إلى الليلِ؟ قلتُ: لا أدري، فرفعَ أكثرَ منه، قالَ: فهذا؟ قلت: نعم يا أميرَ المؤمنينَ، كانَ كافيه دون هذا حتى ما يبالي أن لا يذوقَ طعاماً غيرَه؛ قال: فعلامَ ندخُلُ النار؟! قال مسلمةُ: فما وقعت مني موعظةٌ ما وقعت هذه. (5/277)
__________
(1) لقلة طاعاتنا وكثرة تقصيرنا وشدة غفلتنا.(1/183)
كتب عمرُ إلى بعض عماله: أما بعدُ فإني أوصيكَ بتقوى اللهِ ولزومِ طاعتِه، فإنَّ بتقوى اللهِ نجا أولياءُ اللهِ من سخطه، وبها تحقَّقَ لهم ولايتُه، وبها رافقوا أنبياءَهم، وبها نضَرت وجوهُهم، وبها نظروا إلى خالقِهم؛ وهي عصمةٌ في الدنيا من الفتنِ، والمخرجُ من كُرَبِ يومِ القيامةِ، ولم يقبلْ ممن بقي إلا بمثلِ ما رضي عمن مضى، ولِمن بقي عبرةٌ فيما مضى، وسنةُ اللهِ فيهم واحدةٌ، فبادِر بنفسِكَ قبلَ أن يؤخذَ بكَظَمِكِ(1) ويُخْلَصُ إليك كما خُلِصَ إلى من كانَ قبلَك(2) فقد رأيتَ الناسَ كيفَ يموتونَ وكيف يتفرقونَ! ورأيتَ الموتَ كيفَ يعجِّلُ(3) التائبَ توبتَه وذا الأملِ أملَه وذا السلطانِ سلطانَه؛ وكفى بالموتِ موعظةً بالغةً وشاغلاً عن الدنيا ومرغِّباً في الآخرة؛ فنعوذُ باللهِ من شرِّ الموتِ وما بعدَه، ونسألُ اللهَ خيرَه وخيرَ ما بعدَه؛ ولا تطلبنَّ شيئاً من عرَضِ الدنيا بقولٍ ولا فعلٍ تخافُ أن يضرَّ بآخرتِكَ فيُزري بدينِكَ ويمقتَكَ عليه ربُّكَ، واعلم أن القدرَ سيجري إليكَ برزقِكَ ويوفّيكَ أملَكَ مِن دنياكَ بغيرِ مزيدٍ فيهِ بحولٍ منكَ ولا قوةٍ ولا منقوصاً منهُ بضعفٍ؛ إنْ أبلاكَ اللهُ بفقرٍ فتعففْ في فقرِكَ واخبتْ لقضاءِ ربِّك، واعتبر بما قسمَ اللهُ لكَ مِن الاسلامِ ما زوى منكَ من نعمةِ الدنيا، فإنَّ في الاسلامِ خلَفاًَمن الذهبِ والفضةِ منَ الدنيا الفانيةِ؛ اعلم أنه لن يضرَّ عبداً صار إلى رضوانِ اللهِ وإلى الجنةِ ما أصابهُ في الدنيا من فقرٍ أو بلاءٍ؛
__________
(1) قال ابن الأثير في (النهاية في غريب الحديث) (4/178): (وفي حديث علي: لعلَّ اللهَ يُصْلح أمْرَ هذه الأمَّة ولا يُؤخَذ بأكْظَامِها، هي جمع كَظَم، بالتحريك وهو مَخْرَجُ النَّفَس من الحَلْق؛ ومنه حديث النَّخعِيّ: له التَّوْبَةُ ما لم يُؤخَذ بكَظَمِه أي عندَ خروجِ نَفْسِه وانقطاعِ نَفَسِه).
(2) خَلَصَ إليه الشيءُ: وصلَ؛ والمراد الموت.
(3) كذا في الأصل.(1/184)
وأنه لن ينفعَ عبداً صارَ إلى سخطِ اللهِ وإلى النارِ ما أصابَ في الدنيا من نعمةٍ أو رخاءٍ؛ ما يجدُ أهلُ الجنةِ مسَّ مكروهٍ أصابهم في دنياهم، وما يجدُ أهلُ النارِ طعمَ لذةٍ نعموا بها في دنياهم، كلُّ شيء من ذلك(1) كأن لم يكن؛ تشيِّعونَ غادياً أو رائحاً إلى اللهِ، قد قضى نحبَه وانقضى أجلُه، وتغيِّبونه في صَدْعٍ من الأرضِ---(2). (5/278-279)
قال عبدُ اللهِ بنُ المفضلِ التميميّ: آخرُ خطبةٍ خطبها عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ أن صعدَ المنبرَ فحمدَ اللهَ وأثنى عليه، ثم قالَ: أما بعدُ، فإنَّ ما في أيديكم أسلابُ الهالكينَ، وسيتركُها الباقونَ كما تركها الماضونَ، ألا ترونَ أنَّكم في كلِّ يومٍ وليلةٍ تشيّعونَ غادياً أو رائحاً، إلى الله تعالى، وتضعونَه في صَدْعٍ(3) منَ الأرضِ، ثم في بطنِ الصدعِ، غيرَ ممهَّدٍ ولا موسَّدٍ، قد خلعَ الأسلابَ وفارقَ الأحبابَ وأُسْكِنَ الترابَ وواجَهَ الحسابَ؛ فقيرٌ إلى ما قدَّمَ أمامَه، غنيٌّ عما تركَ بعده؛ أما واللهِ إني لأقولُ لكم هذا وما أعرفُ منْ أحدٍ منَ الناسِ مثلَ ما أعرفُ مِن نفسي؛ قال: ثم قالَ بطرَفِ ثوبِه على عينِه فبكى، ثم نزل؛ فما خرجَ حتى أُخرِجَ إلى حفرته. (5/266)
__________
(1) أي من المكروهات واللذات.
(2) حذفت أواخر هذا الخبر لأنها سترد في الخبر التالي.
(3) الصدع: الشق.(1/185)
قال سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب في بعض ما كتبه إلى عمر بن عبد العزيز: --- فإنه قد كان قبْلَك رجالٌ عملوا بما عملوا وأماتوا ما أماتوا من الحقِّ وأحيَوا ما أحيَوا من الباطلِ حتى وُلدَ فيه رجالٌ ونشأوا فيه وظنوا أنها السنةُ ولم يسدّوا على العبادِ بابَ رخاءٍ إلا فُتح عليهم(1) بابُ بلاءٍ؛ فإن استطعتَ أن تفتحَ عليهم أبوابَ الرخاءِ فإنك لا تفتحُ عليهم منها باباً إلا سُدَّ بهِ عنكَ بابُ بلاءٍ؛ ولا يمنعْكَ مِن نَزْعِ عاملٍ أن تقولَ: لا أجدُ من يكفيني عملَه، فإنك إذا كنتَ تنزعُ للهِ وتعملُ للهِ أتاح الله لك رجالاً وكالاً بأعوانِ الله، وإنما العونُ منَ اللهِ على قدرِ النيةِ؛ فإذا تمت نيةُ العبدِ تمَّ عونُ اللهِ له، ومن قصرتْ نيتُه قصرَ من الله العون له بقدر ذلك؛ فإن استطعتَ أن تأتي اللهَ يومَ القيامةِ ولا يتبعك أحدٌ بظلمٍ، ويجيءُ من كانَ قبلَك وهم غابِطون لك بقلةِ أتباعِك وأنتَ غيرُ غابطٍ لهم بكثرة أتباعهم فافعل؛ ولا قوةَ إلا بالله، فإنهم قد عاينوا وعالجوا نزعَ الموتِ الذي كانوا منه يفرون، وانشقت بطونهم التي كانوا فيها لا يشبعون، وانفقأت أعينُهم التي كانت لا تنقضي لذاتُها، واندقَّت رقابُهم في الترابِ غيرَ موسدين بعد ما تعْلَمُ مِن تظاهرِ الفرشِ والمرافقِ؛ فصاروا جيفاً تحت بطونِ الأرضِ، تحت آكامِها؛ لو كانوا إلى جنبِ مسكينٍ تأذى بريحِهم، بعد إنفاقِ ما لا يُحصى عليهم من الطِّيْبِ، كان إسرافاً وبداراً عن الحق! فإنا لله وإنا إليه راجعون؛ ما أعظمَ يا عمرُ -وأفظعَ - الذي سيق إليك من أمرِ هذه الأمة --- (5/285)
__________
(1) أي على الأمراء.(1/186)
خطبَ عمرُ بن عبد العزيز الناسَ فقال: أيها الناسُ إنكم لم تُخلقوا عبثاً، ولم تُتْرَكوا سدى؛ وإن لكم معاداً ينزلُ الله فيه للحكم فيكم والفصلِ بينكم، وقد خابَ وخسرَ مَن خرجَ مِن رحمةِ الله التي وسعت كلَّ شيءٍ وحُرِم الجنةَ التي عرضُها السماواتُ والأرضُ؛ ألا واعلموا أن الأمانَ غداً لمن حَذِرَ اللهَ وخافَه وباعَ نافداً بباقٍ وقليلاً بكثيرٍ وخوفاً بأمان؛ أوَلا تدرون أنكم في أسلابِ الهالكين وسيخلفها بعدَكم الباقونَ، كذلكم حتى تردَّ إلى خير الوارثين. (5/287)
قال عمر بن عبد العزيز في بعض خطبه: إن لكلِّ سفرٍ زاداً لا محالةَ، فتزودوا لسفرِكم من الدنيا إلى الآخرة التقوى، وكونوا كمن عاينَ ما أعدَّ اللهُ مِن ثوابِه وعقابِه ترْغبوا وترْهبوا، ولا يطولَنَّ عليكم الأمدُ فتقسى قلوبكم وتنقادوا لعدوِّكم، فإنه والله ما بُسِطَ أملُ مَن لا يدري لعله لا يصبحُ بعد مسائه ولا يُمسي بعدَ صباحه، ولربما كانتْ بين ذلك خطفاتُ المنايا! فكم رأيتُ ورأيتُم مَن كان بالدنيا مغتراً؛ وإنما تقرُّ عينُ مَن وثق بالنجاةِ مِن عذابِ الله؛ وإنما يفرحُ من أمِن مِن أهوالِ يومِ القيامةِ؛ فأما مَن لا يداوي كَلْماً(1) إلا أصابَه جُرحٌ في ناحيةٍ أخرى، أعوذ بالله أن آمرَكم بما أنهى عنهُ نفسي فتخسرَ صفقتي وتظهرَ غِيلتي(2) وتبدو مسكنتي في يومٍ يبدو فيهِ الغِنى والفقْرُ والموازينُ منصوبةٌ، ولقد عُنِيتم بأمرٍ لو عُنيتْ به النجومُ لانكدرتْ ولو عُنيت به الجبالُ لذابت، ولو عنيت به الأرضُ لتشققتْ، أَمَا تعلمونَ أنه ليسَ بينَ الجنةِ والنارِ منزلةٌ، وأنكم صائرون إلى إحداهما؟! (5/291-292)
__________
(1) الكَلْم: الجراحة، والجمع كُلومٌ وكِلام.
(2) في (مختار الصحاح) (ص203): (والغِيلَةُ بالكسرِ: الاغْتِيالُ، يقال: قتله غِيلَةً وهو أن يخدعه فيذهب به إلى موضع فيقتله فيه).(1/187)
دخل سابقٌ البربريُّ على عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ فقالَ لهُ: عظني يا سابق وأوجز، قال: نعم يا أميرَ المؤمنينَ، وأُبْلِغُ إن شاءَ الله، قال: هاتِ، فأنشده:
إذا أنتَ لم ترحلْ بزادٍ مِن التُّقى
ووافيتَ بعدَ الموتِ مَنْ قد تزودا
ندمتَ على أن لا تكونَ شركتَه
وأرصدتَ قبلَ الموتِ ما كانَ أرصدا
فبكى عمر حتى سقط مغشياً عليه. (5/318)
دخل يزيد الرقاشي على عمر بن عبد العزيز فقال له: عظني فقال: أنت أول خليفة يموت يا أمير المؤمنين، قال: زدني قال: لم يبق أحد من آبائك من لدن آدم إلى أن بلغت النوبة إليك إلا وقد ذاق الموت، قال: زدني، قال: ليس بين الجنة والنار منزل والله، إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)(1) وأنت أبصر ببرك وفجورك، فبكى عمر حتى سقط عن سريره. (الزهد الكبير ص216)
كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة: أما بعد إياك أن تدركك الصرعة عند الغرة فلا تقال العثرة ولا تمكن من الرجعة ولا يعذرك من تقدم عليه ولا يحمدك من خلفت له لما تركت له والسلام. (الزهد الكبير ص202)
كتب عمر إلى أخ له: يا أخي إنك قد قطعت عظيم السفر، وبقي أقله، فاذكر يا أخي المصادر والموارد، فقد أُوحي إلى نبيك محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن أنك من أهل الورود، ولم يخبرك أنك من أهل الصدر والخروج، وإياك أن تغرك الدنيا، فإن الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، أي أخي إن أجلك قد دنا، فكن وصيَّ نفسك ولا تجعل الرجال أوصياءك. (ذم الدنيا 112)
__________
(1) الانفطار (13-14).(1/188)
قال أبو سليم الهذلي: خطب عمر بن عبد العزيز فقال: أما بعد فإن الله عز وجل لم يخلقكم عبثاً ولم يدع شيئاً من أمركم سدى وإن لكم معاداً فخاب وخسر من خرج من رحمة الله وحرم الجنة التي عرضها السماوات والأرض واشترى قليلاً بكثير وفانياً بباق وخوفاً بأمن! ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين وسيخلفها بعدكم الباقون كذلك حتى ترد إلى خير الوارثين في كل يوم وليلة تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله عز وجل قد قضى نحبه وانقضى أجله حتى تغيبوه في صدع من الأرض في بطن صدع ثم تدعونه غير ممهد ولا موسد قد خلع الأسباب وفارق الأحباب وسكن التراب وواجه الحساب مرتهناً بعمله فقيراً إلى ما قدم غنياً عما ترك فاتقوا الله قبل نزول الموت! وأيم الله إني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحد منكم من الذنوب ما أعلم عندي وما يبلغني عن أحد منكم ما يسعه ماعندي إلا وددت أنه يمكنني تغييره حتى يستوي عيشنا وعيشه؛ وأيم الله لو أردت غير ذلك من الغضارة والعيش لكان اللسان مني به ذلولاً عالماً بأسبابه ولكن سبق من الله عز وجل كتاب ناطق وسنة عادلة دل فيها على طاعته ونهى فيها عن معصيته ثم وضع طرف ردائه على وجهه فبكى وشهق وبكى الناس وكانت آخر خطبة خطبها. (صف2/124 وانظر 5/287)
قال جعفر بن سليمان: غدوت على فرقد [السبخي] يوماً فسمعته يقول: إني رأيت الليلة في المنام كأنَّ منادياً ينادي من السماء: يا أشباه اليهود كونوا على حياءٍ من الله عز وجل(1). (3/46)
__________
(1) قال جعفر بن سليمان: غدوت على فرقدٍ يوماً فسمعته يقول: إني رأيت الليلةَ في المنام كأنَّ منادياً ينادي من السماء: يا أصحاب القصور يا أصحاب القصور يا أشباه اليهود، إن أعطيتم لم تشكروا وإن ابتليتم لم تصبروا!! ليس فيكم خير بعد العذاب. (3/46)(1/189)
قال بلالٌ بن سعد: أربعُ خصالٍ جارياتٌ عليكُم منَ الرحمنِ مع ظلْمِكم أنفسَكم وخطاياكم: أمّا رزقُهُ فدارٌّ عليكُم؛ وأما رحمتُه فغيرُ محجوبةٍ عنكم؛ وأما سترُهُ فسابغٌ عليكم؛ وأما عقابُه فلم يعجَّلْ لكم؛ ثم أنتم على ذلكَ لاهونَ تجترئون على إلهكم؛ أنتم تَكَلَّمونَ ويوشكُ اللهُ تعالى يتكلمُ وتسكتون(1)، ثم يثورُ من أعمالِكم دُخَانٌ تسوَدُّ منه الوجوه، فـ(اتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)(2)؛ عبادَ الرحمنِ لو غفرتْ لكم خطاياكم الماضيةُ لكانَ فيما تَستقبلونَ شغلٌ، ولو عملتم بما تعلمونَ لكنتم عبادَ الله حقاً. (5/231)
__________
(1) في الأصل (وتسكنون).
(2) البقرة (281)؛ والآية في المصحف معطوفة على ما قبلها بالواو، فحذف بلال الواو وأدخل الآية في اثناء كلامه على طريقة الاقتباس.(1/190)
كان عطاء الخراساني يومي(1) في حديثه يقول: إني لا أوصيكم بدنياكم أنتم بها مستوصَونَ وأنتم عليها حِرَاصٌ! وإنما أوصيكم بآخرتِكم، تَعَلَّمُنَّ أنه لن يُعتَقَ عبدٌ وإن كانَ في الشرفِ والمالِ، وإن قال: أنا فلانٌ بنُ فلانٍ، حتى يعتقَه الله تعالى من النار؛ فمن أعتقَه الله من النار عُتق، ومن لم يعتقه الله من النار كان في أشدِّ هلكةٍ هلَكَها أحدٌ قط؛ فجدّوا في دار المُعتَمَلِ(2) لدارِ الثواب، وجدّوا في دارِ الفناءِ لدارِ البقاء، فإنما سُمِّيت الدنيا لأنها أُدنيَ فيها المعتمَلُ، وإنما سميتِ الآخرةُ لأنَّ كلَّ شيءٍ فيها مستأخرٌ، ولأنها دارُ ثوابٍ ليس فيها عمل؛ فألصقوا إلى الذنوبِ إذا أذنبتم، إلى كلِّ ذنبٍ: اللهم اغفر لي، فإنه التسليمُ لأمرِ الله، وألصقوا إلى الذنوبِ لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، اللهُ أكبرُ كبيراً، والحمد لله رب العالمين، وسبحانَ الله وبحمده ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأستغفر الله وأتوبُ إليه، فإذا نُشرتِ الصحفُ وجاء هذا الكلامُ قد ألصقه كلُّ عبدٍ إلى خطاياه رجا بهذا الكلامِ المغفرةَ، وأذهبت هذه الحسناتُ سيئاتِهِ فإنَّ اللهَ تعالى يقولُ في كتابه: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ)(3)؛ فمن خرجَ مِن الدنيا بحسناتٍ وسيئاتٍ رجا بها مغفرةً لسيئاتِه، ومنْ أصرَّ على الذنوبِ واستكبرَ عن الاستغفارِ خرجَ ذلكَ اليومَ مصراً على الذنوبِ مستكبراً عن الاستغفارِ قاصَّه الحسابَ وجازاه بعملِه إلا من تجاوزَ عنه المتجاوزُ الكريمُ فإنه لذو مغفرةٍ للناسِ على ظلمِهم وهو سريعُ الحساب، واجعلوا الدنيا كشيء فارقتموه
__________
(1) جاء في (لسان العرب) (15/415): ([قال] الفراء: أَوْمى يُومي ووَمى يَمِي، مثل أَوْحى ووَحَى. وفي الحديث: كان يُصَلِّي على حِمارٍ يُومي إِيماء؛ الإِيماءُ: الإِشارة بالأَعْضاء كالرأْس واليد والعين والحاجب).
(2) يعني العمل.
(3) هود 114.(1/191)
فواللهِ لتفارقُنَّها، واجعلوا الموتَ كشيء ذقتموه فوالله لتذوقُنَّه، واجعلوا الآخرةَ كشيءٍ نزلتموه فواللهِ لتَنْزِلُنَّها، وهي دارُ الناسِ كلِّهم، ليس من الناسِ أحدٌ يخرجُ لسفرٍ إلا أخذَ لهُ أهبتَه وتجهّزَ له بجهازِه وأخذَ للحَرِّ ظلالةً وللعطشِ مزاداً وللبردِ لحافاً، فمن أخذَ لسفرِه الذي يُصلحُه اغتبطَ، ومن خرجَ إلى سفرٍ لم يتجهز له بجهازِه ولم يأخذْ له أُهْبَتَه ندِم، فإذا أضحى لم يجد ظلاً، وإذا ظمىءَ لم يجد ماءً يتروّى به، وإذا وجدَ البردَ لم يجدْ لذلكَ لحافاً؛ فلا أرى رجلاً أندمَ منه؛ وإنما هذا سفرُ الدنيا ينقطع عنه ولا يقيمُ فيه، فأكيسُ الناسِ من قامَ يتجهزُ لسفرٍ لا ينقطعُ فأخذَ في الدنيا لظمأٍ لا يروى؛ فمن آواهُ اللهُ في ظلِّ عرشِه لم يضْحَ أبداً، ومن أضحى يومئذٍ لم يستظلَّ أبداً، ومن قامَ فأخذَ لريٍّ لم يعطشْ أبداً، فإنَّ مَن عطِشَ يومئذٍ لم يروَ أبداً، ومنْ قامَ فأخذَ لكسوتِه لم يعْرَ أبداً، فإنه مَن عريَ يومئذٍ لم يكسَ أبداً، لم يُؤتَ(1) أحدٌ من الناسِ ببرائتين واحدة منهن بعد هول المطلع والثانية في القيامِ بين يدي الجبار تعالى يقضي في رقاب خلقه ما يشاءُ لا شريكَ له!! (5/194-195)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال الضحاك: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فرائض الله عز وجل. (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعبد الغني المقدسي 82)
قال الحسن: اذا كنت آمراً بالمعروف فكن من آخذِ الناس به، وإلا هلكت؛ واذا كنت ممن ينهى عن المنكر فكن من أنكر الناس له، والا هلكت. (الزهد ص260)
قال قتادة: إن في الجنة كوى إلى النار فيطلع أهل الجنة من تلك الكوى إلى النار فيقولون: ما بال الأشقياء وإنما دخلنا الجنة بفضل تأديبكم؟! فقالوا: إنا كنا نأمركم ولا نأتمر وننهاكم ولا ننتهي. (صف3/259)
__________
(1) في الأصل (يأتِ).(1/192)
قال الضحاك بن مزاحم في قول الله تعالى (لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ)(1)، قال: والله ما في القرآن آية أخوف عندي منها. (زوائد الحسين المروزي في زهد ابن المبارك ص19)
قال مالك بن دينار: اصطلحنا على حب الدنيا فلا يأمر بعضنا بعضاً، ولا ينهى بعضنا بعضاً، ولا يذرنا(2) الله على هذا، فليت شعري أي عذاب الله ينزل. (2/363)
قال مالك بن دينار: كان حبرٌ من أحبار بني اسرائيل يغشى منزله الرجال والنساء فيعظهم ويذكرهم بأيام الله، قال: فرأى بعض بنيه يوماً غمز النساء فقال: مهلاً يا بني، قال: فسقط عن سريره فانقطع نخاعه وأسقطت امرأته وقُتل بنوه في الجيش، فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم عليه السلام: أن أخبر فلاناً الحبر أني لا أخرج من صلبك صديقاً أبداً؛ ما كان غضبك لي إلا أن قلتَ: يا بني مهلاً؟! (2/372)
قال ميمون بن مهران: ما من صدقةٍ أفضلُ من كلمةِ حقٍّ عند إمام جائر. (4/89)
__________
(1) المائدة (63).
(2) في الأصل (يزرنا)، فأصلحتها.(1/193)
جاء رجل من مراد إلى أويس القرني [المرادي] فقال: السلام عليكم؛ قال: وعليكم [السلام]؛ قال: كيف أنت يا أويس؟ قال: بخير، نحمد الله؛ قال: كيف الزمان عليكم؟ قال: ما تسأل رجلاً إذا أمسى لم ير أنه يصبح وإذا أصبح لم ير أنه يمسي؟ يا أخا مراد إن الموت لم يبق لمؤمن فرحاً؛ يا أخا مراد إن معرفة المؤمن بحقوق الله لم تُبْقِ له فضة وذهباً؛ يا أخا مراد إن قيام المؤمن بأمر الله لم يبق له صديقاً؛ والله إنا لنأمرهم بالمعروف وننهاهم عن المنكر فيتخذونا أعداء، ويجدون على ذلك من الفساق أعواناً(1)، حتى والله لقد رموني بالعظائم؛ وأيم الله لا يمنعني ذلك أن أقوم لله بالحق. (الطبقات الكبرى 6/164 والزهد الكبير ص219 و صف 3/54 والاعتصام للشاطبي 1/30)
قال عمارة بن مهران: قيل للحسن: ألا تدخل على الأمراء فتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر؟ قال: ليس للمؤمن أن يُذل نفسه، إن سيوفهم لتسبق ألسنتنا؛ إذا تكلمنا قالوا بسيوفهم هكذا، ووصف لنا بيده ضرباً. (الطبقات 7/176)
__________
(1) ووردت الرواية في (صفة الصفوة) و(الاعتصام) بهذا اللفظ (نأمرهم بالمعروف فيشتمون أعراضنا ويجدون على ذلك أعواناً من الفاسقين---).(1/194)
قال علقمة بن مرثد: لما ولي عمر بن هبيرة العراق أرسل إلى الحسن وإلى الشعبي فأمر لهما ببيت وكانا فيه شهراً أو نحوه، ثم إن الخصي غدا عليهما ذات يوم فقال: إن الأمير داخلٌ عليكما فجاء عمر يتوكأ على عصا له فسلم ثم جلس معظماً لها فقال: إن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك ينفذ كتباً أعرف أن في انفاذها الهلكة فإن أطعته عصيت الله وإن عصيته أطعت الله عز وجل فهل تريا لي في متابعتي إياه فرجاً؟ ففال الحسن: يا أبا عمرو أجب الأمير، فتكلم الشعبي فانحط في حبل ابن هبيرة! فقال: ما تقول أنت يا أبا سعيد؟ فقال: أيها الأمير قد قال الشعبي ما قد سمعت؛ قال: ما تقول أنت يا أبا سعيد؟ فقال: أقول يا عمر بن هبيرة يوشك أن ينزل بك ملك من ملائكة الله تعالى فظ غليظ لا يعصي الله ما أمره فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك! يا عمر بن هبيرة إن تتق الله يعصمك من يزيد بن عبد الملك ولا يعصمك يزيد بن عبد الملك من الله عز وجل! يا عمر بن هبيرة لا تأمنْ أن ينظر الله إليك على أقبح ما تعمل في طاعة يزيد بن عبد الملك نظرة مقت فيغلق بها باب المغفرة دونك! يا عمر بن هبيرة لقد أدركت ناساً من صدر هذه الأمة كانوا والله على الدنيا وهي مقبلة أشد إدباراً من إقبالكم عليها وهي مدبرة؛ يا عمر بن هبيرة إني أخوفك مقاماً خوفكه الله تعالى فقال: (ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ)(1)؛ يا عمر بن هبيرة إن تكُ مع الله تعالى في طاعته كفاك بائقة(2) يزيد بن عبد الملك؛ وإن تك مع يزيد بن عبد الملك على معاصي الله وكلك الله إليه؛ قال: فبكى عمر وقام بعبرته؛ فلما كان من الغد أرسل إليهما بإذنهما وجوائزهما وكثر منه ما للحسن وكان في جائزته للشعبي بعض الإقتار، فخرج الشعبي إلى المسجد فقال: يا أيها الناس من استطاع منكم أن يؤثر الله تعالى على خلقه فليفعل، فوالذي نفسي بيده ما علم الحسن منه شيئاً فجهلته، ولكن أردت وجه ابن هبيرة
__________
(1) إبراهيم (14).
(2) أي شر.(1/195)
فأقصاني الله منه!!. قال: وقام المغيرة بن مخادش ذات يوم إلى الحسن فقال: كيف نصنع بأقوام يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير؟! فقال الحسن: والله لئن تصحب أقواماً يخوفونك حتى يدركك الأمن خير لك من أن تصحب أقواماً يؤمنونك حتى يلحقك الخوف؛ فقال له بعض القوم: أخبرنا صفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فبكى وقال: ظهرت منهم علامات الخير في السيماء والسمت والهدى والصدق وخشونة ملابسهم بالاقتصاد وممشاهم بالتواضع ومنطقهم بالعمل ومطعمهم ومشربهم بالطيب من الرزق وخضوعهم بالطاعة لربهم تعالى واستقادتهم للحق فيما أحبوا وكرهوا وإعطائهم الحق من أنفسهم؛ ظمئت هواجرهم ونحلت أجسامهم واستحقوا(1) بسخط المخلوقين رضى الخالق، لم يفرطوا في غضب ولم يحيفوا في جور ولم يجاوزوا حكم الله تعالى في القرآن، شغلوا الألسن بالذكر، بذلوا دماءهم حين استنصرهم وبذلوا أموالهم حين استقرضهم، ولم يمنعهم خوفهم في المخلوقين(2)، حسنت أخلاقهم وهانت مؤنتهم وكفاهم اليسير من دنياهم إلى آخرتهم. (2/149-150)
بعث ابن هبيرة(3) إلى ابن سيرين والحسن والشعبي، فدخلوا عليه فقال لابن سيرين: يا أبا بكر ماذا رأيت منذ قربتَ من بابنا؟ قال: رأيتُ ظلماً فاشياً، قال: فغمزه ابن أخيه بمنكبه فالتفت إليه ابن سيرين فقال: إنك لست تُسأل إنما أنا أسأل، فأرسل إلى الحسن بأربعة آلاف وإلى ابن سيرين بثلاثة آلاف وإلى الشعبي بألفين، فأما ابن سيرين فلم يأخذها. (2/268)
__________
(1) في (الحلية): (واستخفوا).
(2) كذا وردت هذه العبارة في الأصل، ويظهر أن فيها سقطاً أو تصحيفاً.
(3) وكان والياً على العراق.(1/196)
أتى مكحولاً رجلٌ فقالَ: يا أبا عبدِ الله قوله عز وجلَّ (عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)(1)؟ قال: يا ابن أخي لم يأتِ تأويلُ هذهِ بعدُ؛ اذا هاب الواعظُ وأنكرَ الموعوظُ فعليكَ حينئذٍ نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديتَ، يا أخي الآن نعظُ ويُسمعُ منا. (5/179)
كانَ كُرْزٌ إذا خرجَ أمرَ بالمعروفِ فيضربونَه حتى يُغشى عليه. (5/80)
قال رجاء: كان ابن محيريز يجيء بالكتاب إلى عبد الملك فيه النصيحة فيقرِئُهُ إياه ثم لا يُقِرّه في يده. (صف 4/206)
قال ابن حزم الأندلسي: روينا من أصح طريق--- أن أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه كانوا يستقبلون الجواري في الأزقة معهن الدفوف فيشققونها. (المحلى 9/55)
قال عبد الله بن محمد البغوي: حدثنا جدي حدثنا أشعث بن عبد الرحمن بن زبيد قال: رأيت جدي ورأى جارية معها زمارة من قصب فأخذها وشقَّها، ورأى جارية معها دف فأخذه فكسره. (5/32)
قال سعيدٌ: لا تملأوا أعينَكم من أعوانِ الظلمةِ إلا بإنكارٍ منْ قلوبِكم لكيْ لا تحبطَ أعمالُكم الصالحةُ. (2/170)
قال ميمون بن مهران: مثل الذي يرى الرجل يسيء في صلاته فلا ينهاه مثل الذي يرى النائم تنهشه حية ثم لا يوقظه. (الشعب 3/145)
قال عبد الله بن مسلم: كان لأبي(2) غلام لا يصلي وكان لا يضربه، يقول: ما أدري ما أصنع به قد غلبني. (الطبقات 7/187)
__________
(1) المائدة (105).
(2) هو مسلم بن يسار البصري نزيل مكة، أبو عبد الله الفقيه، ويقال له: مسلم سُكَّرة، ومسلم المُصْبِح، ثقة عابد، مات سنة مئة أو بعدها بقليل.
قالوا: كان مسلم ثقة فاضلاً عابداً ورعاً أرفع عندهم من الحسن حتى خرج مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فوضعه ذلك عند الناس وارتفع الحسن عنه. (الطبقات 7/187)(1/197)
قال عمارة: حضرت الحسن ودعي إلى عرس فجيء بجام [أي قدح] من فضة عليه خبيص أو طعام، فتناوله فقلبه على رغيف فأصاب منه؛ فقال رجل إلى جانبي: هذا نهيٌ في سكون. (الأمر بالمعروف ص36)
قال معتمر بن سليمان التيمي: سمعتُ أبي يقول: ما أغضبتَ رجلاً فقبل منك. (الأمر بالمعروف ص36 و38)
قال صالح بن زنبور: سمعت أم الدرداء تقول: من وعظ أخاه سراً فقد زانه، ومن وعظه علانية فقد شانه. (الأمر بالمعروف ص39)
الرد على أهل الأهواء والبدع والتحذير منهم(1)
قال الأوزاعي: حدثنا عطاء [بن ميسرة الخراساني] قال: ثلاثة لم تكن منهن واحدة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لم يحلف أحد منهم على قسامة؛ ولم يكن فيهم حروري؛ ولم يكن فيهم مكذب بالقدر. (5/199)
قال الحسن في قوله تعالى ([وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ] إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ)(2): أهل رحمة الله لا يختلفون. (زاد المسير 4/172)
قال أبو العالية الرياحي: عليكم بالأمر الأول الذي كانوا عليه قبل أن يتفرقوا. (تلبيس ابليس ص8)
قال عمر بن عبد العزيز: (قف حيث وقف القوم، فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كُفوا، ولهم كانوا على كشفها أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى، وإنهم لهم السابقون، فلئن كان الهدى ما أنتم عليه، لقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم: حدث بعدهم، فما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، ولقد وصفوا منه ما يكفي، وتكلموا منه بما يشفي، فما دونهم مقصّر، ولا فوقهم محصر، لقد قصر دونهم ناس فجفوا، وطمح آخرون عنهم فغلوا، وإنهم من ذلك لعلى هدى مستقيم. (البدع والنهي عنها لابن وضاح (ص؟؟ ) والمناظرة في القرآن الكريم لموفق الدين بن قدامة المقدسي ص )
__________
(1) عن إبراهيم قال: قال عبد الله [بن مسعود]: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم وكل بدعة ضلالة. (العلم لأبي خيثمة ص16)
(2) هود (118-119).(1/198)
قال عبد الله بن محيريز: يذهب الدين سُنةً سُنة كما يذهب الحبل قوةً قوة. (شرح أصول الاعتقاد 1/93 وسنن الدارمي 98 والحلية 5/144 والبدع والنهي عنها ص66 وتلبيس ابليس ص12)
قال يحيى بن أبي كثير: إذا لقيت صاحب بدعة في طريق فخذ في غيره. (الشريعة 2042 والابانة لابن بطة 469 و470 و471 وشرح أصول الاعتقاد 259)
قالَ مُطرفٌ: لو أُخرِجَ قلبي فجُعل في يدي هذهِ اليسار، وجيءَ بالخيرِ فجُعلَ في هذه اليمنى ما استطعت أنْ أُولِجَ(1) قلبي منه شيئاً حتى يكونَ اللهُ تعالى يضعُه. (2/201)
قال مطرف: الإنسان بمنزلة الحجر، إن جعل الله فيه خيراً كان فيه، وقرأ قول الله سبحانه (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ)(2)؛ وقال مطرف: إن ها هنا قوماً يزعمون أنهم إن شاؤوا دخلوا الجنة وإن شاؤوا دخلوا النار!! ثم حلف مطرف بالله ثلاثة أيمان مجتهد(3): أن لا يدخل الجنة عبدٌ أبداً إلا عبد شاء أن يدخله إياها عمداً. (2/201)
قال مطرف: إني وجدتُ العبد ملقىً بين ربه سبحانه وبين الشيطان، فإن استشلاه ربُّه أو استنقذه نجا؛ وإن تركه والشيطان ذهب به. (2/201)
قال مطرف: ليس لأحد أن يصعد فيلقي نفسه من فوق البئر ويقول: قدر لي، ولكن يحذر ويجتهد ويتقي، فإن أصابه شيء علم أنه لم يصبه إلا ما كتب الله له. (2/202)
قال مطرف: إن الله عز وجل لم يكل الناس إلى القدر؛ وإليه يعودون(4). (2/201)
__________
(1) أي أُدخِل.
(2) النور (40).
(3) لعلها (مجتهداً) حال، وأما إن كانت مجرورة فهي مضاف إليه.
(4) وفي رواية عنه (يصيرون) بدل (يعودون).(1/199)
اجتمع وهب بن منبه وعطاء الخراساني فقال له عطاء: يا أبا عبد الله ما هذا الكلام الذي بلغني أنه قد فشا عنك في القدر؟ فقال وهب بن منبه: ما تكلمتُ في القدر بشيء، ولا أعرفُ هذا؛ ثم حدث وهب بن منبه فقال: قرأت نيفاً وتسعين كتاباً من كتب الله عز وجل!!! منها سبعون أو نيف وسبعون ظاهرة في الكتابين؛ ومنها عشرون لا يعلمها إلا قليل من الناس؛ فوجدت فيها كلِّها أن من وكل الى نفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر. (4/24)
كتب شريحٌ إلى أخٍ له هربَ من الطاعونِ: أما بعدُ فإنك والمكان الذي أنت به بعينِ مَنْ لا يعجزُه مَن طَلبَ ولا يفوتُه مَن هرَب، والمكان الذي خلَّفْتَه لمْ يعجِّلْ أمرَ حِمامِه(1) ولم يظلمْهُ أيامَه؛ وإنك وإياهم لعلى بساطٍ واحدٍ(2)، وان المنتجَعَ(3) من ذي قدرة لقريب؛ والسلام. (4/136)
عن خالد بن دريك عن أبي عبيد الحاجب أنه سأل القاسم بن مخيمرة عن القدر فقال: بلغني أن قلوباً ستنكر ما كانت تعرف؛ فإذا فعلت ذلك نكست(4) وطبع عليها؛ فقلبي من تلك القلوب إن أطعتك وأصحابك. (6/82)
قال مالك بن دينار: أوحى الله إلي نبي من الأنبياء أن قل لقومك: لا تدخلوا مداخل أعدائي ولا تطعموا مطاعم أعدائي ولا تلبسوا ملابس أعدائي ولا تركبوا مراكب أعدائي فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي. (2/371)
قال مسلم بن يسار: إني لأصلي في نعليَّ وخلعهما أهون علي ما أبتغي بذلك إلا السنة. (الطبقات 7/187 والزهد ص249)
قال المعتمر بن سليمان التيمي: مات صاحب لي كان يطلب الحديث فجزعت عليه فرأى أبي جزعي عليه فقال: يا معتمر كان صاحبك هذا على السنة؟ قلت: نعم، قال: فلا تجزع عليه ولا تحزن عليه. (صف3/297)
__________
(1) الحمام تعني الموت، ولعل صواب العبارة هكذا: (لم يعجَّلْ على امرئٍ حمامَه).
(2) يعني الأرض.
(3) ورد في (مختار الصحاح) (ص270): (والمُنْتَجَعُ بفتح الجيم: المَنْزِل في طلَبِ الكلإ).
(4) كان هنا كلمة (عليها) فحذفتها.(1/200)
قال سعيد بن جبير: ما لم يعرف البدريون فليس من الدين. (الجامع 2/30)
قال الشَّعْبِي: ما جاءَك عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فخُذه ودَعْ ما يقول هؤلاء الصَّعافِقَة (1). (النهاية في غريب الحديث 3/31)(2)
قال إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني حدثني أبي عن جدي قال: لما ولاني عمرُ بنُ عبدِ العزيز الموصلَ قدِمْتُها فوجدتُها من أكبرِ البلادِ سرقاً ونقباً(3)، فكتبتُ إلى عمرَ أُعْلِمُه حالَ البلدِ، وأسألُه: آخذُ مِن الناسِ بالمظنَّةِ وأضربُهم على التهمةِ؟! أو آخذهم بالبينةِ وما جرت عليه عادةُ الناسِ؟ فكتبَ إليَّ أنْ خُذِ(4) الناسَ بالبينةِ وما جرت عليه السنةُ، فإنْ لمْ يصلحْهم الحقُّ فلا أصلحهم الله. (5/271)
قالَ بلالٌ بن سعد: ثلاثٌ لا يقبلُ معهنَّ عملٌ: الشركُ والكفرُ والرأيُ، قيلَ: وما الرأي؟ قالَ: يتركُ كتابَ اللهِ وسنةَ رسولِه ويعملُ برأيه. (5/229)
__________
(1) قال ابن الأثير: (هم الذين يدخُلُون السوق بلا رأْسِ مالٍ؛ فإذا اشتَرى التَّاجرُ شيئاً دخل معَه فيه؛ وَاحِدُهم صَعْفَق؛ وقيل صَعْفُوق؛ وصَعْفَقِيّ؛ أرادَ أنَّ هؤلاء لا عِلْم عندهم؛ فهم بمنْزِلة التّجار الذين ليس لهم رأسُ مالٍ؛ وفي حديث آخر أنه [أي الشعبي] سُئِل عن رجُل أفْطَرَ يوماً من رمضان، فقالَ: ما يقولُ فيه الصَّعافِقَة؟).
(2) قال ابن مسعود: لا يزال الناس صالحين متماسكين ما أتاهم العلم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن أكابرهم فإذا أتاهم من أصاغرهم هلكوا. (مصنف عبد الرزاق 20446)
وقال أيضاً: إنكم لن تزالوا بخير ما دام العلم في ذوي أسنانكم، فإذا كان العلم في الشباب أنف ذو السن أن يتعلم من الشباب. (العلم لأبي خيثمة ص35)
(3) هذه الكلمة تحتمل أن تكون مصحفة عن (ونهباً).
(4) في الأصل (آخذ) وكلاهما صحيح وتصرفت فأثبت (خذ) لأنها أليق بالسياق الذي في آخر الأثر.(1/201)
قال الحسن: لقد تكلم مطرِّف على هذه الأعواد بكلام ما قيل قبله ولا يقال بعده؛ قالوا: وما هو يا أبا سعيد؟ قال: الحمد لله الذي من الإيمان به الجهل بغير ما وصف به نفسه. (مجموع الفتاوى 4/6)
قال الشعبي: ما اختلفتْ أمةٌ بعدَ نبيِّها إلا ظهرَ أهلُ باطلِها على أهل حقها. (4/213)
قال الحسن: بلغنا أن إبليس قال: سولتُ لأمة محمد المعاصي فقطعوا ظهري بالإستغفار؛ فلما رأيت ذلك تمحلت لهم فسولت لهم ذنوباً لا يستغفرون الله منها(1)، هذه الأهواء(2). (زهد هناد 2/464)
قال الحسن: لا تمكن أذنيك صاحب هوى فيمرض قلبك؛ ولا تجيبن أميراً وإن دعاك لتقرأ عنده سورة من القرآن، فإنك لا تخرج من عنده الا شراً مما دخلت عليه. (جامع معمر 11/326 والشعب 7/60)
قال يونس: كان الحسن يقول: شر داء خالط قلباً، يعني الهوى. (الزهد ص264 والسنة لعبد الله 1/138)
قال الحسن: إن هذه الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم وإذا أدبرت عرفها كل جاهل. (الطبقات 7/166 والحلية 9/24)
قال الحسن: لا يصح القول إلا بعمل، ولا يصح قول وعمل إلا بنية، ولا يصح قول وعمل ونية إلا بالسنة. (اعتقاد أهل السنة 1/57 والاستقامة 2/309)
قال الحسن: اعلموا رحمكم الله أن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي(3)، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، ولا مع أهل البدع في بدعهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم؛ فكذلك فكونوا إن شاء الله. (تعظيم قدر الصلاة 2/678 وانظر إغاثة اللهفان ص70)
قال الحسن: وضع دين الله دون الغلو وفوق التقصير. (الزهد ص282)
__________
(1) لأنهم يظنونها قربة أو على الأقل تشربها قلوبهم ويتعصبون لها.
(2) ثم إن أصحاب الأهواء قلما يتوبون منها.
(3) قال الحسن: يا أهل السنة ترفقوا رحمكم الله فإنكم من أقل الناس. (اعتقاد أهل السنة 1/57)(1/202)
قال أعرابي للحسن: علمني ديناً وسُوطاً لا ذاهباً فروطاً ولا ساقطاً سقوطاً، فقال: أحسنت يا أعرابي، خير الأمور أوساطها، خير الأمور أحمدها مغبة(1). (مجمع الأمثال 1/243)
قال الحسن: قال أبو هريرة: لو حدثتكم بكل ما في جوفي لرميتموني بالبعر؛ قال الحسن: صدق والله، لو أخبرنا أن بيت الله يهدم أو يحرق ما صدقه الناس. (الطبقات 4/331)
قال قتادة: حدثنا مطرف قال: كنا نأتي زيد بن صوحان وكان يقول: يا عباد الله اكرموا واجملوا فإنما وسيلة العباد إلى الله بخصلتين: الخوف والطمع فأتيته ذات يوم وقد كتبوا كتاباً فنسقوا كلاماً من هذا النحو: إن الله ربنا ومحمد نبينا والقرآن إمامنا ومن كان معنا كنا وكنا له ومن خالفنا كانت يدنا عليه وكنا وكنا؛ قال: فجعل يعرض الكتاب عليهم رجلاً رجلاً فيقولون: أقررت يا فلان؟ حتى انتهوا إلي فقالوا: أقررت يا غلام؟ قلت: لا، قال: لا تعجلوا على الغلام، ما تقول: يا غلام؟ قال: قلت: إن الله قد أخذ عليَّ عهداً في كتابه فلن أحدث عهداً سوى العهد الذي أخذه الله عز وجل علي؛ قال: فرجع القوم من عند آخرهم، ما أقر به أحد منهم؛ قال: قلت لمطرف: كم كنتم؟ قال: زهاء ثلاثين رجلاً؛ قال قتادة: وكان مطرف إذا كانت الفتنة نهى عنها وهرب، وكان الحسن ينهى عنها ولا يبرح؛ وقال مطرف: ما أشبه الحسن إلا برجل يحذر الناس السيل ويقوم لسببه. (2/204)
قال الربيع بن أنس: كنت عند صفوان [بن محرز] فدخل عليه شاب من أصحاب الاهواء فذكر له شيئاً فقال له: أيها الفتى ألا أدلك على خاصة الله تعالى التي خص بها أولياءه؟! يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)(2) الآية. (2/215)
قال رفيع أبو العالية: ما أدري أي النعمتين أفضل أن هداني الله للإسلام أو عافاني من هذه الأهواء. (2/218)
__________
(1) أي عاقبة.
(2) المائدة (105).(1/203)
قال عاصم بن أبي النجود: قال أبو العالية: تعلموا الإسلام فإذا تعلمتوه فلا ترغبوا عنه وعليكم بالصراط المستقيم فإنه الإسلام ولا تحرفوا الإسلام يميناً ولا شمالاً؛ وعليكم بسنة نبيكم والذي كان عليه أصحابه وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء فحدثت الحسن فقال: صدق ونصح قال: فحدثت حفصة بنت سيرين فقالت: يا باهلي أنت حدثت محمداً بهذا؟ قلت: لا، قالت فحدثه إذاً. (اعتقاد أهل السنة 1/56 والاستقامة 1/254)
قال ابن سيرين: ما أخذ رجل ببدعة فراجعَ سنة. (سنن الدارمي 1/69 والباعث لأبي شامة ص14)
قال حماد بن زيد: قال لنا يونس بن عبيد: احفظوا عني ثلاثاً مت أو عشت: لا يدخلن أحدكم على سلطان يعظه، ولا يخل بامرأة شابة وإن أقرأها القرآن ولا يمكن سمعه من ذي هوى. (صف3/307)
عن حبيب بن الشهيد عن بعض أصحابه أن مسلم بن يسار مر بمسجد فأذن المؤذن فرجَّع فقال له المؤذن: ما ردك؟ قال: أنت رددتني. (الطبقات 7/187)
روى هشام بن حسان عن الحسن ومحمد قالا: لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم. (الطبقات 7/172)
عن سعيد بن عامر قال: سمعت جدي أسماء يحدث قال: دخل رجلان على محمد بن سيرين من أهل الأهواء فقالا: يا أبا بكر نحدثك؟ قال: لا، قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب الله عز وجل، قال: لا، لتقومن(1) عني أو لأقومنه؛ فقام الرجلان فخرجا. (الشريعة 2047)
قال صالح المري: دخل رجل على ابن سيرين وأنا شاهد ففتح باباً من أبواب القدر، فتكلم فيه؛ فقال ابن سيرين: إما أن تقوم، وإما أن نقوم. (طبقات ابن سعد 7/197 وشرح أصول الاعتقاد 1/133 والشريعة ص57)
قال سعيد بن عامر: دخلت على يونس بن عبيد، فقال: مررت بقوم يختصمون في القدر، فقلت: لو شغلتكم ذنوبكم ما اختصمتم في القدر. (ذكر أخبار اصبهان 1/146)
__________
(1) كذا، والجادة (لتقومان).(1/204)
قال أيوب السختياني: قال أبو قلابة: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تحادثوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون(1). (2/287 وسنن الدارمي 397 وشرح اصول الاعتقاد 244 والشريعة 2044)
عن سلام ابن أبي المطيع أن رجلاً من أهل الأهواء قال لأيوب السختياني: يا أبا بكر أسألك عن كلمة، قال: فولى أيوب وجعل يشير بأصبعه: ولا نصف كلمة، ولا نصف كلمة. (الشريعة 2046 وسنن الدارمي 404 والإبانة لابن بطة 377 والحلية 3/9 وشرح أصول الاعتقاد 1/143 وتلبيس ابليس ص13)
قال أيوب السختياني: ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا ازداد من الله بعداً. (3/9)
قال أيوب: إن من سعادة الحدَث(2) والأعجمي أن يوفقهما الله لعالم من أهل السنة. (شرح أصول الاعتقاد 1/60 وتلبيس ابليس ص9)
قال ابراهيم: أصحاب الرأي أعداء أصحاب السنن. (4/222)
قال ابراهيم: لا تجالسوا أهل الأهواء. (4/222)
عن عبد الله بن حكم قال: ذكر عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهما عند ابراهيم النخعي قال: ففضل رجل علياً على عثمان فقال ابراهيم: إن كان هذا رأيك فلا تجالسنا. (4/223-224)
عن جريرعن أبي إسحاق إبراهيم النخعي قال: علي أحب إلي من عثمان ولأن أخر من السماء أحب إلي من أن أتناول عثمان بسوء. (4/224)
عن ابراهيم قال: لو كنت مستحل دم احد من اهل القبلة لاستحللت دم الخشبية(3). (4/223)
عن الأعمش قال: ذكر عند ابراهيم المرجئة فقال: والله لهم أبغض إلي من أهل الكتاب. (4/223)
عن فضيل بن عمرو عن ابراهيم قال: اذا سألوك: أمؤمن أنت؟ فقل: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله. (4/224)
قال المعتمر بن سليمان التيمي: قال أبي: أما والله لو كشف الغطاء لعلمت القدرية أن الله ليس بظلام للعبيد. (3/33)
__________
(1) ورد في بعض الروايات بدل العبارة التي تحتها خط: (أو يلبّسوا عليكم في الدين بعض ما لُبّس عليهم).
(2) أي الصغير.
(3) أي الرافضة.(1/205)
قال بلال بن أبي بردة لمحمد بن واسع: ما تقول في القضاء والقدر؟ قال: أيها الأمير إن الله عز وجل لا يسأل يوم القيامة عباده عن قضائه وقدره، إنما يسألهم عن أعمالهم(1). (2/345)
قال محمد بن سيرين: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخدونه (2/278)
قال محمد بن سيرين: كانوا لا يسألون عن الاسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم؛ فننظر إلى أهل السنة فنأخذ حديثهم، وإلى أهل البدعة فلا نأخذ حديثهم (2/278)
قال أبو خالد الأحمر: كان عمرو [بن قيس الملائي] يقول: لا تجالس صاحب زيغ فيزيغ قلبك. (5/103)
قال مطر الوراق: عملٌ قليلٌ في سنة خيرٌ من عمل كثير في بدعة، ومن عمل عملاً في سنة قبل الله منه عمله، ومن عمل عملاً في بدعة رد الله عليه بدعته. (3/76)
قال داود بن أبي هند: أتيت الشام فلقيني غيلان(2) فقال: يا داود إني أريد أن أسألك عن مسائل! قلت: سلني عن خمسين مسألة وأسألك عن مسألتين! قال: سل يا داود، قلت: أخبرني ما أفضل ما أعطي ابن آدم؟ قال: العقل، قلت: فأخبرني عن العقل هو شيء مباح للناس من شاء أخذه ومن شاء تركه أو هو مقسوم بينهم؟ قال: فمضى ولم يجبني(3). (3/93)
قال إياس بن معاوية: ما كلمت أحداً من أصحاب الأهواء بعقلي كله إلا القدرية فإني قلت لهم: ما الظلم فيكم؟ قالوا: أن يأخذ الانسان ما ليس له، فقلت لهم: فإن لله عز وجل كل شيء. (3/124)
قال طلحة بن مصرف: إني لأكره الخروج يوم النيروز، إني لأراها شعبة من المجوسية، وأرى إنساناً أو أرجوحة. (5/20)
__________
(1) ليس مراده هنا أن للمسلم أن يعتقد في مسألة القدر ما يشاء وإنما مراده وجوب الانتهاء عن الجدل العقيم والخوض في الغيبيات التي ليس لأحد فيها إلا السمع والقبول والتسليم، كما هو شأن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.
(2) هذا داعية القدرية.
(3) لأنه إن أثبت القسمة فقد أثبت القدر، وإلا فقد وقع في كذب ظاهر مخالف للواقع.(1/206)
قال أبو إدريس الخولاني: لأَن أرى في جانبِ المسجدِ ناراً لا أستطيعُ إطفاءَها أحبُّ إليَّ من أن أرى فيهِ بدعةً لا أستطيعُ تغييرَها. (5/124)
قال أبو صخر حميد بن زياد: قلت لمحمد بن كعب القرظي يوماً: ألا تخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كان من رأيهم، وإنما أريد الفتن! فقال: إن الله قد غفر لجميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأوجب الله لهم الجنة في كتابه: محسنهم ومسيئهم. قلت: في أي موضع أوجب الله لهم الجنة في كتابه؟ فقال: سبحان الله! تقرأ قوله (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)(1)؛ فأوجب الله لجميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الجنة والرضوان، وشرط على التابعين شرطاً لم يشرطه عليهم، قلت: وما اشترط عليهم؟ قال: اشترط عليهم أن يتبعوهم بإحسان، يقول: بأعمالهم الحسنة، ولا يقتدون بهم في غير ذلك، قال أبو صخر: فوالله لكأني لم أقرأها قط وما عرفت لتفسيرها حتى قرأها عليَّ محمد بن كعب. (تاريخ دمشق 55/146-147)
قال إبراهيم بن ميسرة: ما رأيت عمر بن عبد العزيز ضرب إنساناً قط إلا إنساناًَ شتم معاوية فضربه أسواطاً(2)
__________
(1) التوبة (100).
(2) قال الربيع بن نافع: معاوية بن أبي سفيان ستر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإذا كشف الرجل الستر اجترأ على ما وراءه [أي من المهاجرين والأنصار وساقه ذلك إلى جحد الكتاب وتكذيب السنة والطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم]. (تاريخ ابن عساكر 59/209).
وروى الخطيب البغدادي من طريق الزبير حدثني عمي مصعب بن عبد الله قال: حدثني أبي عبدُ الله بن مصعب قال: قال لي أمير المؤمنين المهدي: يا أبا بكر ما تقول فيمن ينتقص أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم؟ قال: قلت: زنادقة، قال: ما سمعت أحداً قال هذا قبلك! قال: قلت: هم أرادوا رسول الله بنقص، فلم يجدوا أحداً من الأمة يتابعهم على ذلك، فتنقصوا هؤلاء عند أبناء هؤلاء، وهؤلاء عند أبناء هؤلاء، فكأنهم قالوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم يصحبه صحابة السوء وما اقبح بالرجل أن يصحبه صحابة السوء فقال: ما أراه إلا كما قلت. (تاريخ بغداد 10/174)
وقال الإمام أحمد: إذا رأيت أحداً يذكر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسوء فاتهمه على الإسلام. (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي 7/1252 وتاريخ ابن عساكر 59/209)
وقال الإمام أبو زرعة: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة. (الكفاية ص97 وتاريخ ابن عساكر 38/32).(1/207)
. (أصول أهل السنة للالكائي 7/1266)
عن أحمد بن عبد الله بن يونس عن ابن أبي ذئب عن الزهري قال: ما رأيت قوماً أشبه بالنصارى من السبئية. قال أحمد بن يونس: هم الرافضة. (الشريعة 2028 و2030)
قال الشعبي: ما كُذب على أحد في هذه الأمة كما كُذب على علي رضي الله عنه. (الشريعة 2032)
قال جامع بن أبي راشد: حدثنا أبو يعلى عن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أبو بكر؛ قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر؛ وخشيت أن يقول: عثمان، قلت: ثم أنت! قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين(1). (صحيح البخاري 3671)(2)
__________
(1) وهذا النقل عن أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - متواتر، وانظر طرق ذلك في كتاب فضائل الصحابة للإمام أحمد (ص300-313).
وروى البغوي في (مسند ابن الجعد) (1055) عن عبد الرزاق أنا معمر قال: قال قتادة، وسمع قوماً يفضلون علياً على عثمان، فغضب وقال: ما كان على هذا أولوكم؛ يعني أهل البصرة.
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في (فتح الباري) (7/34) (قد سبق بيان الاختلاف في أي الرجلين أفضل بعد أبي بكر وعمر: عثمان أو علي وأن الإجماع انعقد بآخره بين أهل السنة أن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة رضي الله عنهم أجمعين).
(2) وفي ختام هذا الباب (باب البدع والأهواء) إليك هذا التحقيق النفيس الذي كتبه أحد كبار علماء العصر، وهو المعلمي اليماني رحمه الله، فقد قال في (التنكيل) في بعض مناقشاته:
(فإن قيل: المكلف مأمور بالاستقامة على السراط، ولا يمكنه الإستقامة عليه حتى يعرفه، وإنما يعرفه بالبحث والنظر والتدبر، وحجج الحق كما سلف في المقدمة غير مكشوفة فالباحث معرض للخطأ، بل متدبر الحجج علم أنه يستحيل في العادة أن لا يختلف الناظرون فيها، فما الجامع بين الأمر باتباع الحجج وهو يؤدي إلى الاختلاف، وبين الزجر عن الاختلاف، وقد قال الله تبارك وتعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)، وقال سبحانه: (فاتقوا الله ما استطعتم)؟.
أقول وأسأل الله تبارك وتعالى التوفيق:
قولي: إن حجج الحق غير مكشوفة، إنما معناه - كما سلف - إنها بحيث يحتاج في إدراكها إلى عناء ومشقة، ويمكن من له هوى في خلافها أن يغالط نفسه وغيره بحيث يتيسر له زعم أنه إن لم يكن هو المحق فهو معذور.
واتباع الحجج لا يؤدي إلى اختلاف، وإنما يؤدي إليه اتباع الشبهات، وإنما الشأن في أمرين:
الأول: تمييز الحجج من الشبهات.
الثاني: معرفة الاختلاف المنهي عنه.
وجماع هذا في أمر واحد هو معرفة السراط المستقيم، وقد بينه الله تعالى بقوله (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ). وقد علمنا أن المنعم عليهم قطعاً من هذه الأمة هم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقد قال الله عز وجل: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) [يوسف 108]؛ وقال تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً)، [النساء 115].
فالسراط المستقيم هو ما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وقد تقدم بيان جوامعه في الباب الأول، وأول الباب الرابع.
فما اتضح من المأخذين السلفيين بحسب النظر الذي كان متيسراً للصحابة وخير التابعين، فهو من السراط المستقيم، وما خفي أو تردد فيه النظر فالسراط المستقيم هو السكوت عنه، قال الله تعالى لرسوله: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [الإسراء: 36]؛ وقال تعالى: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) [سورة ص: 86].
وفي (الصحيحين) من حديث جندب بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه).
فإن كان من الأحكام العملية والقضية واقعة ساغ الاجتهاد فيه على الطريقة التي كانت يجري عليها في أمثال ذلك الصحابة وأئمة التابعين.
فمن لزم هذه السبيل فهو الثابت على سبيل الحق والصراط المستقيم.
ومن لزم ذلك في المقاصد، وخاض في النظر المتعمق فيه، لتأييد الحق وكشف الشبهات، وقد تحققت الحاجة إلى ذلك، فلا يقضى عليه بالخروج عن السراط ما لم يتبين خروجه عنه في المقاصد. فتلحقه تبعة ذلك بحسب مقدار خروجه.
هذا والاختلاف المنهي عنه من لازمه - كما بينته الآيات - التحزب وأن يكون شيعاً.
وسبيل الحق بينة، والدين محفوظ قد تكفل الله تعالى بحفظه، وبأن لا تزال طائفة من الأمة قائمة عليه، فإن أخطأ عالم لم يلبث أن يجد من ينبهه على خطئه، فإن لم يتفق له ذلك، فالذي يوافقه أو يتابعه لا بد أن يجد من ينبهه. فلا يمكن أن يستولي الخطأ على فرقة من الناس يثبتون عليه ويتوارثونه إلا باتباعهم الهوى. ولهذا نجد علماء كل مذهب يرمون علماء المذاهب الأخرى بالتعصب واتباع الهوى، وأكثرهم صادقون بالجملة، ولكن الرامي يغفل عن نفسه، وكما جاء في الأثر: (يرى القذاة في عين أخيه، وينسى الجذع في عينه).
وعلى كل حال فإن الأمة قد اتبعت سَنَن من قبلها كما تواترت بذلك الأخبار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ذلك بل من أعظمه بل أعظمه أنها فرقت دينها وكانت شيعاً، وقد تواترت الأخبار أيضاً بأنه لا تزال طائفة قائمة على الحق، فعلى أهل العلم أن يبدأ كل منهم بنفسه فيسعى في تثبيتها على السراط، وإفرادها عن اتباع الهوى، ثم يبحث عن إخوانه، ويتعاون معهم على الرجوع بالمسلمين إلى سبيل الله، ونبذ الأهواء التي فرقوا لأجلها دينهم وكانوا شيعاً.
ويتلخص العمل في ثلاثة مطالب:
الأول: العقائد، وقد علمت أن هناك معدناً لحجج الحق وهو المأخذان السلفيان، ومعدناً للشبه، وهو المأخذان الخلفيان، فطريق الحق في ذلك واضح.
المطلب الثاني: البدع العملية، والأمر في هذا قريب لولا غلبة الهوى، فإن عامة تلك البدع لا يقول أحد من أهل العلم والمعرفة أنها من أركان الإسلام ولا من واجباته ولا من مندوباته، بل غالبهم يجزمون بأنها بدع وضلالات، وصرح قوم منهم بأن منها ما هو شرك وعبادة لغير الله عز وجل، وقد شرحت ذلك في كتاب (العبادة). وبحسبك هنا أن تستحضر أن من يزعم من المنتسبين إلى العلم أنه لا يرى ببعضها بأساً، أو زاد على ذلك أنه يرجى منها النفع، فإنه مع مخالفته لمن هو أعلم منه يعترف بأن في الأعمال المشروعة اتفاقاً ما هو أعظم أجراً وأكبر فضلاً بدرجات لا تحصى، وقد قال الله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن 16]، وفي (الصحيحين) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (الحلال بين، والحرام بين، وبينهما مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه)؛ وفي حديث آخر (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)؛ وفي حديث آخر (إنه لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً لما به بأس) [قلت: هذا يصح موقوفاً على بعض السلف ولا يصح رفعه].
والنظر الواضح يكشف هذا، فإنك لو كنت مريضاً فاتفق الأطباء على أشياء أنها نافعة لك، واختلفوا في شيء، فقال بعضهم: إنه سم قاتل، وقال بعضهم: لا نراه سماً ولكنه ضار، وقال بعضهم: لا يتبين لنا أنه ضار، وقال بعض هؤلاء: بل لعله لا يخلو من نفع. أفلا يقضي عليك العقل إن كنت عاقلاً بأن تجتنب ذاك الشيء؟
أوليس من يأمرك ويلح عليك أن تصرف وقتك في تناول ذاك الشيء تاركاً ما اتفقوا على نفعه بحقيق أن تعده ألد أعدائك؟!
وتدبر في نفسك أيصح من عاقل محب للإيمان خائف من الشرك أن يستحضر هذا المعنى ثم يصر على تلك البدع التي يخاف أن تكون شركاً؟!
أوليس من يصر إنما يشهد على نفسه أنه لا يبالي إذا وافق هواه أن يكون شركاً؟!
المطلب الثالث: الفقهيات، والاختلاف فيها إذا كان سببه غير الهوى أمره قريب، لأنه كما مرت الإشارة إليه لا يؤدي إلى أن يصير المسلمون فرقاً متنازعة وشيعاً متنابذة، ولا إلى إيثار الهوى على الهدى، وتقديم أقوال الأشياخ على حجج الله عز وجل، والالتجاء إلى تحريف معاني النصوص، وإذا كان المسلمون قد وقعوا في ذلك فإنما أوقعهم الهوى، فلا مخلص لهم منه إلا أن يستيقظ أهل العلم لأنفسهم فيناقشوها الحساب، ويكبحونها عن الغي ويتناسون ما استقر في أذهانهم من اختلاف المذاهب، وليحسبوها مذهباً واحداً اختلف علماؤه، وإن على العالم في زماننا النظر في تلك الأقوال وحججها وبيناتها، واختيار الأرجح منها، وقد نص جماعة من علماء المذاهب أن العالم المقلد إذا ظهر له رجحان الدليل المخالف لإمامه لم يجز له تقليد إمامه في تلك القضية، بل يأخذ بالحق لأنه إنما رخص له بالتقليد، عند ظن الرجحان، إذ الفرض على كل أحد طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا حاجة في هذا إلى اجتماع شروط الاجتهاد، فإنه لا يتحقق رجحان خلاف قول إمامك إلا في حكم مختلف فيه، فيترجح عندك قول مجتهد آخر، وحينئذ تأخذ بقول هذا الآخر متبعاً الدليل الراجح من جهة، ومقلداً في تلك القضية لذاك المجتهد الآخر من جهة؛ والفقهاء يجيزون تقليدَ المقلدِ غيرَ إمامه في بعض الفروع لمجرد احتياجه، فكيف لا يجوز بل يجب أن يقلده فيما ظهر أن قوله أولى بأن يكون هو الحق في دين الله؟ وقضية التلفيق إنما شددوا فيها إذا كانت لمجرد التشهي وتتبع الرخص، فأما إذا اتفقت لمن يتحرى الحق وإن خالف هواه فأمرها هين، فقد كان العامة في عهد السلف تعرض لأحدهم المسألة في الوضوء فيسأل عنها عالماً فيفتيه فيأخذ بفتواه، ثم تعرض له مسألة أخرى في الوضوء أيضاً أو الصلاة فيسأل عالماً آخر فيفتيه فيأخذ بفتواه، وهكذا. ومن تدبر علم أن هذا تعرض للتلفيق، ومع ذلك لم ينكره أحد من السلف فذاك إجماع منهم على أن مثل ذلك لا محذور فيه، إذا كان غير مقصود، ولم ينشأ عن التشهي وتتبع الرخص.
فالعالم الذي يستطيع أن يروض نفسه على هذا هو الذي يستحق أن يهديه الله عز وجل، ويسوغ له أن يثق بما تبين له، ويسوغ للعامة أن يثقوا بفتواه. نعم قد غلب اتباع الهوى وضعف الإيمان في هذا الزمان، فإذا احتيط لذلك بأن يرتب جماعة من أعيان العلماء للنظر في القضايا والفتاوى فينظروا فيها مجتمعين ثم يفتوا بما يتفقون عليه أو أكثرهم لكان في هذا خير كثير وصلاح كبير إن شاء الله تعالى.
فتلخص مما تقدم أن من اعتمد في العقائد المأخذين السلفيين ووقف معهما، واتقى البدع، وجرى في اختلاف الفقهاء على أنها مذهب واحد اختلف علماؤه فتحرى الأرجح، وكان مع ذلك محافظاً على الفرائض، مجتنباً للكبائر، فإن عثر استقال ربه وتاب وأناب، فهو من الطائفة التي أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها لا تزال قائمة على الحق، فليتعرف إخوانه، وليتعاضد معهم على الدعوة إلى الحق، والرجوع بالمسلمين إلى سواء السراط. فأما من أبى إلا الجمود على أقوال آبائه وأشياخه والانتصار لها، فيوشك أن يدخل في قول الله تبارك وتعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّه) [التوبة 31]، وقوله تعالى (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ)، [الجاثية 23].
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك واهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك، (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة 286]). انتهى كلام العلامة المعلمي رحمه الله تعالى رحمة واسعة.(1/208)
الابتلاء بالمرض وغيره من المصائب
قال عبد العزيز بن أبي رواد: رأيت في يد محمد بن واسع قرحة(1) قال: فكأنه رأى ما شق علي منها؛ فقال لي: تدري ماذا لله عليَّ في هذه القَرْحة من نعمةٍ؟! فأُسْكتُّ؛ قال: إذ لم يجعلها على حدقتي ولا على طرف لساني ولا على طرف ذكري؛ فهانت علي قرحته. (الشكر 149 والحلية 2/352)
قال مجاهد: ما من مرض يمرضه العبد إلا ورسول ملك الموت عنده حتى إذا كان آخر مرض يمرضه العبد أتاه ملك الموت فقال: أتاك رسول بعد رسول فلم تعبأ به؛ وقد أتاك رسول يقطع أثرك من الدنيا. (صف2/209)
كان الحسن يقول: إنما أنتم بمنزلة الغرض يرمى كل يوم، ليس من مرضة(2) إلا قد أصابتكم منه رمية، عقل من عقل وجهل من جهل، حتى تجىء الرمية التي لا تخطىء. (المرض والكفارات ص142)
قال الحسن البصري: اللهم لا تجعلني ممن إذا مرض ندم، وإذا استغنى فُتِن وإذا افتقر حزِن. (البصائر والذخائر 1/17-18)
ذكر الحسن الوجع فقال: أما والله ما هو بِشَرِّ أيام المسلم؛ أيام قورب له فيها من أجله، وذكر فيها ما نسي من معاده وكفر عنه خطاياه. (المرض والكفارات ص61 والمصنف 7/187؟ والشعب 7/201 وعدة الصابرين ص73)
قال الحسن: كان الرجل إذا طالت سلامته أحب أن يؤخذ منه تكفر به السيئات ويذكر به المعاد. (رك ص25)
قال الحسن: كان الرجل منهم، أو من المسلمين، إذا مر به عام لم يصَبْ في نفسه ولا ماله قال: ما لنا أتودع الله منا(3)؟! (الشعب 7/179)
قال سعيد بن جبير: ما زال البلاء بأصحابي حتى رأيتُ أن ليسَ لله فيَّ حاجةً، حتى نزل بي البلاء. (4/281)
قال وهب بن منبه: إن من كان قبلكم إذا أصاب أحدهم بلاء عده رخاء، وإذا أصابه رخاء عده بلاء. (4/58)
__________
(1) القرحة: البثرة إذا دب فيها الفساد.
(2) لعل الصواب (مرض).
(3) عن عبد الله بن المبارك عن سفيان قال: كان يقال: ليس بفقيه من لم يعد البلاء نعمة والرخاء مصيبة. (الشكر ص30)(1/209)
قال وهب بن منبه: من أصيبَ بشيءٍ من البلاء فقد سُلكَ به طريقُ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام(1)
__________
(1) قال ابن القيم في (عدة الصابرين) (ص76 وما بعدها):
(وكان عبد الله بن مسعود قد اشتدت به العلة فدخل عليه بعض أصحابه يعوده وأهله تقول: نفسي فداك، ما نطمعك؟ ما نسقيك؟ فأجابها بصوت ضعيف: بليت الحراقيف وطالت الضجعة، والله ما يسرني أن الله نقصني منه قلامة ظفر.
وطلق خالد بن الوليد امرأة له ثم أحسن عليها الثناء! فقيل له: يا أبا سليمان لأي شيء طلقتها؟! قال: ما طلقتها لأمر رابني منها ولا ساءني ولكن لم يصبها عندي بلاء.
ويذكر عنه: ما ضرب على مؤمن عرق الا كتب الله له به حسنة وحط به عنه سيئة ورفع له به درجة.
ولا ينافي هذا ما قدمناه من أن المصائب مكفرات لا غير لأن حصول الحسنة انما هو بصبره الاختياري عليها، وهو عمل منه.
وعاد رجل من المهاجرين مريضاً فقال: إن للمريض أربعاً: يرفع عنه القلم، ويكتب له من الأجر مثل ما كان يعمل في صحته، ويتبع المرض كل خطيئة من مفصل من مفاصله فيستخرجها؛ فإن عاش عاش مغفوراً له، وإن مات مات مغفوراً له؛ فقال المريض: اللهم لا أزال مضطجعاً---.
قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع عن مالك بن مغول عن السفر؟ قال: مرض أبو بكر رضي الله عنه فعادوه فقالوا: ألا ندعو لك الطبيب؟ فقال: قد رآني الطبيب، قالوا: فأي شيء قال لك؟ قال: إني فعال لما أريد.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن مجاهد قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وجدنا خير عيشنا بالصبر؛ وقال أيضاً: أفضل عيش أدركناه بالصبر، ولو أن الصبر كان من الرجال كان كريماً.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا إن الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا قطع الرأس بار الجسم؛ ثم رفع صوته فقال: ألا إنه لا إيمان لمن لا صبر له؛ وقال: الصبر مطية لا تكبو---.
وقال سليمان بن القاسم: كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر قال الله تعالى: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر 10]، قال: كالماء المنهمر.
وكان بعض العارفين في جيبه رقعة يخرجها كل وقت ينظر فيها، وفيها: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) [الطور 48].
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لو كان الصبر والشكر بعيرين لم أبال أيهما ركبت.
وكان محمد بن شبرمة إذا نزل به بلاء قال: سحابة صيف ثم تنقشع.
وقال سفيان بن عيينة في قوله تعالى (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة 24]: لما أخذوا برأس الأمر جعلناهم رءوساً---.(1/210)
. (4/56)
قال وهب بن منبه: ينزل البلاء ليستخرج الدعاء. (الشكر ص46)
قال عونٌ بن عبد الله: إنَّ الله ليُكرِهُ عبدَهُ على البلاءِ كما يُكرِهُ أهلُ المريضِ مريضَهم وأهلُ الصبيِّ صبيَّهم على الدواءِ ويقولونَ: اشربْ هذا فإنَّ لكَ في عاقبتِهِ خيراً. (4/252)
قال الحسن: كان داود النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اللهم لا مرض يضنيني ولا صحة تنسيني، ولكن بين ذلك. (المصنف 7/68-69)
قال ثابت: انطلقت أنا والحسن إلى صفوان بن محرز نعوده فإذا هو في خص من قصب مائل فخرج إلينا ابنه فقال: إن به بطناً شديداً لا تقدرون أن تدخلوا عليه! فقال الحسن: إن أباك أن يؤخذ من لحمه ودمه فيكفر عنه خطاياه خير له من أن يموت جميعاً فيأكله التراب؛ أو قال: فتأكله الارض، ولا يؤجر في ذلك. (الزهد ص257 والمرض والكفارات ص57 وعدة الصابرين ص74)
قال حبيب أبو محمد: عادني الحسن في مرض فقال لي: يا حبيب إنا إن لم نؤجر إلا فيما نحب قل أجرنا؛ وإن الله كريم يبتلي العبد وهو كاره، ويعطيه عليه الأجر العظيم. (المرض والكفارات ص61 والشعب 7/200)
قال حاتم بن بشر: مرض جدي عطاء الخراساني فدخل عليه محمد بن واسع يعوده فقال: سمعت الحسن يقول: إن العبد ليبتلى في ماله فيصبر ولا يبلغ بذلك الدرجات العلى، ويبتلى في ولده فيصبر ولا يبلغ بذلك الدرجات العلى، ويبتلى في بدنه فيصبر فيبلغ بذلك الدرجات العلى؛ قال: وكان عطاء قد أصابته مرضات. (المرض والكفارات ص79 والشعب 7/201)(1/211)
قال عثمان بن الهيثم: كان رجل بالبصرة من بني سعد وكان قائداً من قواد عبيد الله بن زياد فسقط عن السطح فانكسرت رجلاه فدخل عليه أبو قلابة يعوده فقال له: أرجو أن تكون لك خيرة فقال له يا أبا قلابة وأي خير في كسر رجليَّ جميعاً؟! فقال: ما ستر الله عليك أكثر. فلما كان بعد ثلاث ورد عليه كتاب ابن زياد أن يخرج فيقاتل الحسين فقال للرسول: قد أصابني ما ترى؛ فما كان إلا سبعاً حتى وافى الخبر بقتل الحسين فقال الرجل: رحم الله أبا قلابة لقد صدق إنه كان خيرة لي. (صف3/238)
قال بكر بن ماعز: كان بالربيع بن خثيم خبل من الفالج فكان يسيل من فيه لعاب؛ قال: فمسحته يوماً فرآني كرهت ذلك فقال: والله ما أحب أنه بأعتى الديلم على الله(1). (الزهد لهناد 1/231 و صف3/66)
قال سيار بن سلامة: دخلت على أبي العالية في مرضه الذي مات فيه فقال: إن أحبه إلي أحبه إلى الله عز وجل. (صف3/212)
قال عبد الملك بن عمير: قيل للربيع بن خثيم: ألا ندعو لك طبيباً؟ قال: أنظروني، فتفكر ثم قال: (وَعَاداً وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً)(2)؛ قال: فذكر من حرصهم على الدنيا ورغبتهم التي كانوا فيها؛ قال: فقد كانت فيهم أطباء وكانت فيهم مرضى فلا أرى المداوي بقي ولا المداوَى، هلك الناعت والمنعوت له لا حاجة لي فيه. (الزهد لهناد 1/230 وانظر صف 3/60)
ذكر مطرف عن كعب قال: أجد في التوراة: لولا أن يحزن عبدي المؤمن لعصبت الكافر بعصابة من حديد لا يصدع أبداً. (المرض والكفارات ص95)
__________
(1) عن داود قال: أصاب الربيع بن خثيم فالج؛ فكان بكر بن ماعز يقوم عليه ويدهنه ويغسل رأسه ويفليه؛ فبينما هو يغسل رأس الربيع ذات يوم، إذ سال لعاب الربيع، فبكى بكر فرفع رأسه إليه فقال: ما يبكيك؟! والله ما أحب أنه بأعتى الديلم على الله. (الزهد لهناد 3/231)
(2) الفرقان (38).(1/212)
قال ربيعة بن كلثوم بن جبر: دخلت على الحسن وهو يشتكي ضرسه وهو يقول: رب مسني الضر وأنت أرحم الراحمين. (الزهد ص281)
قال مسهر لعطية العوفي: كيف أصبحت؟ قال: في سلامة مشوبة بداء، وعافية داعية إلى فناء(1). (عقلاء المجانين ص7)
مبادرة الموت والاعتبار به
قال رجل للحسن: مات فلان فجأة! فقال: لو لم يمت فجأة لمرض فجأة ثم مات. (العقد الفريد 10/101)
قيل للحسن: إن فلاناً في النزع، فقال: ما زال في النزع منذ خرج من بطن أمه، ولكنه الآن أشد. (عقلاء المجانين ص7)
قال ثابت البناني: كنا نشهد الجنازة فلا نرى إلا مقنعاً باكياً. (الباعث لأبي شامة ص90 والإحياء 4/484)
قال الربيع بن خثيم: عجبت لملك الموت ولثلاثة: لملك ممنع في حصونه يأتيه ملك الموت ينزع نفسه ويدع ملكه خلفه؛ ولمسكين منبوذ بالطريق يقذره الناس أن يدنوا منه ولا يقذره(2) ملك الموت أن يأتيه فينزع نفسه [ويدع قذره](3)؛ ولطبيب نحرير يأتيه ملك الموت فـ[يـ]ـنزع نفسه ويدع طبه خلفه(4). (العظمة ص895 والحلية 2/115)
قال يونس: شهدت الحسن فسمعته حين ثقل وهو يقول: إنا لله وإنا اليه راجعون، قال: حتى فرغ، قال: فانكب عليه ابنه عبد الله، وقال: يا أبت ما لك تسترجع فقد أفزعتنا؟! فهل رأيت شيئاً؟! فقال: يا بني إني رجَّعت على نفسي اني لم أصب بمثلها قط. (الزهد ص284 والزهد الكبير ص203 ومحاسبة النفس 124 وقارن برقم 123 منه)
__________
(1) قالت الحكماء: كفاك بصحتك سقماً وبسلامتك داء.
وقال حميد بن ثور في بعض قصائده:
أرى جسدي قد رابني بعد صحة وحسبك داء أن تصح وتسلما
وأنشد بعض الأدباء:
كانت قناتي لا تلين لغامز وألانها الإصباح والإمساء
ودعوت ربي بالسلامة جاهداً لمعيشتي فإذا السلامة داء
وردت هذه المنقولات الثلاثة في (عقلاء المجانين) (ص7).
(2) تحرفت هذه الكلمة في (الحلية) (2/115) إلى (يقدر).
(3) زيادة من (الحلية).
(4) سقط من (الحلية) ذكر الثالث.(1/213)
قال الحسن: عاد رجل أخاً له فوافقه [في] الموت، فرأى (ما رأى من)(1) عكر الموت وكرب الموت؛ قال: فرجع إلى أهله وجاءوا بغدائه فقال: يا أهلاه عليكم بغدائكم! قالوا: يا فلان الضيعة! قال: يا أهلاه عليكم ضيعتكم! فوالله لقد رأيت مصرعاً لا أزال اعمل له حتى أقدم عليه. (الزهد ص270)
قال أبو بكر بن عياش: كان الحسن إذا رأى جنازة يقول: الحمد لله الذي لم يجعلني السواد المختطف؛ قال: ولا يحدّثُ يومئذ شيئاً. (الطبقات 7/177)
قال الحسن: كان رجل من المسلمين يبلغه موت أخ من اخوانه فيقول: إنا لله وإنا اليه راجعون، كدت والله أن أكون أنا السواد المختطف، فيزيده الله بذلك جداً واجتهاداً فيلبث بذلك ما شاء الله؛ ثم يبلغه موت الأخ من إخوانه فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، كدت والله أن أكون أنا السواد المختطف، فيزيده الله بذلك جداً واجتهاداً؛ قال: فردد الحسن هذا الكلام غير مرة؛ [قال:] فوالله ما زال [أي ذلك الرجل] كذلك حتى مات موتاً كيساً. (الزهد ص269)
قال الحسن: من أشراط، أو اقتراب، الساعة أن يأتي الموت خياركم فيلقطهم كما يلقط أحدكم أطايب الرطب من الطبق. (المصنف 7/198)
قال الربيع بن صبيح: قلنا للحسن: يا أبا سعيد عظنا فقال: إنما يتوقع الصحيح منكم داء يصيبه والشاب منكم هرماً يفنيه والشيخ منكم موتاً يرديه؛ أليس العواقب ما تسمعون؟! أليس غداً تفارق الروح الجسد؟! المسلوب غداً أهله وماله، الملفوف غداً في كفنه، المتروك غداً في حفرته، المنسي غداً من قلوب أحبته الذين كان سعيه وحزنه لهم؛ ابن آدم نزل بك الموت فلا تُرى قادماً ولا تجيء زائراً ولا تكلم قريباً ولا تعرف حبيباً، تنادَى فلا تجيب، وتسمع فلا تعقل؛ قد خربت الديار وعطلت العشار وأيتمت الأولاد؛ قد شخص بصرك وعلا نفسك واصطكت أسنانك وضعفت ركبتاك وصار أولادك غرباء عند غيرك. (6/304-305)
__________
(1) في الأصل (من مرأى).(1/214)
ذكر الحسن أن عثمان بن أبي العاص كان في جنازة فخلص إلى قبر خاسف وثم رجل من أهله، فقال: تعال يا فلان، فلما جاء قال: اطلع إلى بيتك؛ قال: أراه بيتاً ضيقاً يابساً مظلماً ليس فيه طعام ولا شراب ولا زوجة؛ قال: فإنه والله بيتك؛ قال: والله صدقتَ؛ أما والله لو قد رجعتُ نقلتُ من ذاك في هذا(1). (الزهد ص204)
كان الحسن يقول في موعظته: المبادرة عباد الله المبادرة؛ فإنما هي الأنفاس، لو قد حبست انقطعت عنكم أعمالكم التي تقربون بها إلى الله عز وجل؛ رحم الله امرأ نظر لنفسه وبكى على ذنوبه ثم يقرأ هذه الآية (إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً)(2)؛ ثم يبكي ويقول: آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخولك في قبرك. (الشعب 7/407)
قال عبد الواحد بن صفوان: كنا مع الحسن في جنازة فقال: رحم الله امرءاً عمل لمثل هذا اليوم، إنكم اليوم تقدرون على ما لا يقدر عليه إخوانكم هؤلاء من أهل القبور، فاغتنموا الصحة والفراغ قبل يوم الفزع والحساب. (ذم الدنيا 53)
قال الحسن: يتوسد المؤمن ما قدم من عمله في قبره إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، فاغتنموا المبادرة رحمكم الله في المهلة. (ذم الدنيا 52 واقتضاء العلم العمل ص97)
قال المروزي: قال أبو عبد الله [أحمد بن حنبل]: كأنك بالموت وقد فرق بيننا، ما أعدل بالفقر شيئاً؛ أنا أفرح إذا لم يكن عندي شيء، إني لأتمنى الموت صباحاً ومساءً؛ أخاف أن أفتن في الدنيا؛ قال مسروق: إنما تحفة المؤمن حفرته. (الورع لأحمد ص36 وانظر السير 11/215-216)
الحذر والمبادرة والمداومة على العبادة، وأخذ الدين بقوة
قال الحسن: ابن آدم السكين تحد(3) والكبش يعتلف والتنور يسجر. (2/151)
__________
(1) يريد أن يقدم من دنياه لآخرته.
(2) مريم (84).
(3) هذه الكلمة كانت في الأصل (تجذ).(1/215)
قال الحسنُ: ابنَ آدمَ أصبحتَ بين مطيَّتَينِ لا يُعرِّجانِ(1) بك، خطر الليلِ والنهارِ حتى تقدمَ الآخرةَ، فإما إلى الجنةِ وإما إلى النارِ، فمنْ أعظمُ خطراً منك؟! (2/152)
كانَ الحسنُ إذا تلا هذهِ الآيةَ (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ)(2) قال: من قالَ ذا؟ قاله منْ خلقَها وهو أعلم بها. (2/153)
قال الحسن: إياكم وما شغَلَ من الدنيا، فإنَّ الدنيا كثيرةُ الأشغالِ، لا يفتحُ رجلٌ على نفسِهِ بابَ شغلٍ إلا أوشكَ ذلك البابُ أن يفتحَ عليه عشرةَ أبوابٍ. (2/153)
قال الحسنُ: رحِمَ اللهُ رجلاً لم يَغُرَّهُ كَثرَةُ ما يرى من كثرة الناس، ابنَ آدمَ إنكَ تموتُ وحدَكَ، وتدخُلُ القبْرَ وحدكَ، وتُبعثُ وحدكَ، وتُحاسبُ وحدكَ، ابنَ آدمَ وأنتَ(3) المَعْنِيُّ وإياكَ يُراد. (2/155)
قال أيوب: سمعت الحسن يقول: إنكم وقوف ها هنا تنتظرون آجالكم وعند الموت تلقون الخبر، فخذوا مما عندكم لما بعدكم. (روضة العقلاء ص28)
قال الحسن: أيا فلان أترضى هذه الحال التي أنت عليها للموت إذا نزل بك؟ قال: لا؛ قال: أتحدث نفسك بالانتقال عنها إلى حال ترضاها للموت إذا نزل بك؟ قال: حديثاً بغير حقيقة؛ قال: أفبعد الموت دار فيها مستعتَب(4)؟ قال: لا(5)؛ قال: فهل رأيتَ عاقلاً رضي لنفسه بمثل الذي رضيتَ به لنفسك؟! (البيان والتبيين 3/140)
قيل للربيع: لو أرَحتَ نفسك! قال: راحتَها أُريد. (عيون الأخبار 2/372)
قالَ هرمُ بنُ حيّانٍ: لو قيلَ لي أَني من أهلِ النارِ لم أَدَعِ العملَ لِئَلا تلومَنِي نفسي فتقول: ألا صنعتَ ألا فعلتَ! (2/122)
__________
(1) عرَّج تعريجاً: أي ميّلَ وأقام وحبس المطية على المنزل، فالمراد أن العبد يسار به إلى نهايته ولا توقف في ذلك السير أو لا انحراف فيه عن وجهته.
(2) لقمان (33).
(3) كذا الأصل ولعل الواو زيدت خطأ.
(4) أي استرضاء.
(5) لأنه إذا مات ابن آدم انقطع عمله وبقيت آثار العمل.(1/216)
كان مطرف يقول: يا إخوتي اجتهدوا في العمل فإن يكن الأمر كما نرجو من رحمة الله وعفوه كانت لنا درجات في الجنة وإن يكن الأمر شديداً كما نخاف ونحاذر لم نقل: ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل، نقول: قد عملنا فلم ينفعنا ذلك(1). (اقتضاء العلم العمل ص95 والوجل ص29 ومحاسبة النفس 72 و صف3// 223)
عن سفيان قال: قال رجل لمحمد بن المنكدر ولرجل آخر من قريش: الجد الجد والحذر الحذر فإن يكن الأمر على ما ترجون كان ما قدمتم فضلاً، وإن يكن الأمر على غير ذلك لم تلوموا أنفسكم(2). (اقتضاء العلم العمل ص95)
قال أوفى بن دلهم: كان للعلاء بن زياد مال ورقيق فأعتق بعضهم وباع بعضهم وأمسك غلاماً أو اثنين يأكل غلتهما فتعبد فكان يأكل كل يوم رغيفين وترك مجالسة الناس فلم يكن يجالس أحداً؛ يصلي في جماعة ثم يرجع إلى أهله ويُجَمِّع(3) ثم يرجع إلى أهله ويشيع الجنازة ويعود المرضى ثم يرجع إلى أهله فطفىء فبلغ ذلك إخوانه فاجتمعوا فأتاه أنس بن مالك والحسن والناس وقالوا: رحمك الله أهلكت نفسك لا يسعك هذا فكلموه وهو ساكت حتى إذا فرغوا من كلامهم قال: إنما أتذلل لله عز وجل لعله يرحمني(4). (صف3/253 والحلية 2/243)
__________
(1) انظر (محاسبة النفس) (73).
(2) عن يحيى بن حميد بن عبد الملك بن أبي غنية قال: كتب محمد بن النضر الحارثي إلى أخ له: أما بعد فإنك في دار تمهيد وأمامك منزلان لا بد من أن تسكن أحدهما ولم يأتك أمان فتطمئن ولا براءة فتقصر والسلام. (اقتضاء العلم العمل ص96)
(3) أي يصلي الجمعة.
(4) عن هشام بن حسان أن العلاء بن زياد كان قوت نفسه رغيفاً كل يوم وكان يصوم حتى يخضر ويصلي حتى يسقط فدخل عليه أنس بن مالك والحسن فقال: إن الله تعالى لم يأمرك بهذا كله، فقال: إنما أنا عبد مملوك لا أدع من الاستكانة شيئاً إلا جئته به. (2/243)(1/217)
كان عونٌ يقولُ: اليومَ المضمارُ، وغداً السباقُ، والسبقةُ الجنةُ، والغايةُ النارُ، فبالعفوِ تنْجونَ، وبالرحمةِ تدخلونَ، وبالأعمالِ تقتسمونَ المنازلَ. (4/246)
قال علقمة بن مرثد: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين، منهم الأسود بن يزيد، كان مجتهداً في العبادة يصوم حتى يخضرَّ جسدُه ويصفرَّ، وكان علقمةُ بن قيس يقول له: ِلمَ تعذبُ هذا الجسد؟! قال: راحةَ هذا الجسد أريد؛ فلما احتضر بكى فقيل له: ما هذا الجزع؟! قال: ما لي لا أجزعُ؟! ومن أحقُّ بذلكَ مني؟! والله لو أتيت بالمغفرة من الله عز وجل لهمني الحياء منه مما قد صنعته، إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعفو عنه فلا يزالُ مستحياً منه؛ ولقد حج الأسود ثمانين حجة. (2/103)
ذكر عبد الله بن بشر أن علقمة والأسود بن يزيد حجّا، وكان الأسود صاحب عبادة، وصام يوماً فكان الناس بالهجير(1)، وقد تربد(2) وجهه، فأتاه علقمة فضرب على فخده فقال: ألا تتق الله يا أبا عمرو في هذا الجسد؟! علامَ تعذبُ هذا الجسد؟! فقال الأسود: يا أبا شبل الجد الجد. (2/104)
قال هلال بن خباب: خرجت مع سعيد بن جبير في أيام مضين من رجب فأحرم من الكوفة بعمرة ثم رجع من عمرته ثم أحرم بالحج في النصف من ذي القعدة وكان يخرج في كل سنة مرتين مرة للحج ومرة للعمرة. (صف3/ / 77-78)
قال أبو مسلم الخولاني: لو قيل لي: إن جهنم تسعر، ما استطعت أن أزيد في عملي. (2/124)
__________
(1) الهجير: نصف النهار عند اشتداد الحر.
(2) أي تغير، جاء في لسان العرب "تَرَبَّد وجهه أَي تغير من الغضب، وقيل: صار كلون الرماد، ويقال: ارْبَدَّ لونه كما يقال احمرَّ واحمارّ، وإِذا غضب الإِنسان تَرَبَّد وجهه كأَنَّه يسودّ منه مواضع، وارْبَدَّ وجهه وارْمَدَّ إِذا تغير، وداهية رَبْدَاءُ أَي منكرة، وتَرَبَّد الرجل: تَعبَّس".(1/218)
قال أبو ضمرة أنس بن عياض: رأيت صفوان بن سليم ولو قيل له: غداً القيامة، ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة. (3/159)
كان وهب بن منبه ربما صلى الصبح بوضوء العشاء وكان يقول: ما أحدثتُ لرمضان شيئاً قط، يعني أنه زاد في عمله. (التهجد ص470)
قالَ ابنُ محيريزٍ: عدنا عبادةَ(1) فأقبلَ أبو عبدِ اللهِ الصنابحيُّ [عبد الرحمن بن عسيلة] فلما رآه مقبلاً قالَ عبادةُ: منْ أحبَّ أنْ ينظرَ إلى رجلٍ كأنما عُرجَ بهِ إلى أهلِ السماءِ فنظرَ إلى أهلِ الجنةِ وأهلِ النارِ فرجعَ وهو يعملُ على ما يرى! فلينظرْ إلى هذا. (5/129 وانظر صف4/202)
قال الأوزاعي [في حسان بن عطية]: ما رأيت أحداً أكثر عملاً منه في الخير. (صف4/222)
ذكرت أمينة بنت عمران بن مسلم القصير أن أباها كان قد عاهد الله أن لا ينام بليل أبداً إلا مستغلباً؛ قالت: قال: إني حببتْ إلي طاعة الله تعالى طول الحياة؛ ولولا الركوع والسجود وقراءة القرآن ما باليت أن لا أعيش في الدنيا فواقاً؛ قالت: فلم يزل مجهوداً على ذلك حتى مات رحمه الله. (صف3/313)
كانت أمُّ منصورٍ بن المعتمر تقولُ له: يا بنيَّ إنَّ لعينِك عليكَ حقاً، ولجسمِكَ عليكَ حقاً، فكان يقولُ لها: دعي عنكَ منصوراً فإنَّ بينَ النفختينِ نوماً طويلاً. (5/41)
عن الوليد بن علي عن أبيه قال: كان سويد بن غفلة يؤمنا في شهر رمضان في القيام وقد أتى عليه عشرون ومئة سنة. (صف3/22)
قال عاصم: تزوج سويد بن غفلة وهو ابن ستة عشرة ومئة سنة وكان يمشي يأتي الجمعة ماشياً(2). (صف3/22)
__________
(1) ابن الصامت.
(2) قال حنش بن الحارث: رأيت سويد بن غفلة يمر بنا في المسجد إلى امرأة له من بنى أسد وهو ابن سبع وعشرين ومئة سنة---وقال محمد بن سعد مات سويد ابن ثمان وعشرين ومئة سنة في إحدى أو ثنتين وثمانين. (صف3/22-23)(1/219)
ذكر ابن عون أن الشعبي سئل عن الأسود فقال: كان صواماً حجاجاً قواماً(1). (المصنف 7/151)
قال ابن المبارك: قلت لهشيم: من منصور بن زاذان؟ قال: كان يصلي الغداة ولا يكلم أحداً حتى تطلع الشمس فإذا طلعت الشمس قام فصلى إلى نحو الزوال ويدخل منزله ثم يخرج إلى الظهر ويصلي ما بين الظهر إلى العصر ثم يصلي العصر ويسلم علينا فيقول: هل من مريض؟ هل من جنازة؟ فإن كان قام فتبع أو عاد، ثم صلى المغرب، فصلى ما بين المغرب والعشاء، ثم صلى العشاء، ثم يدخل منزله، قلت: كم كان هذا حاله؟ قال: أربعين(2) -----. (الزهد الكبير ص298)
قال اسماعيل بن زَبّان: إنما سمي أبو يونس العجلي القوي لقوته على العبادة صلى حتى أقعد وبكى حتى عمي وصام حتى صار كالحشفة(3). (صف 3/122)
قال عمر بن ذَرٍّ: قرأتُ [في](4) كتابِ سعيدِ بن جبيرٍ: اعلمْ أنَّ كلَّ يومٍ يعيشُهُ المؤمنُ غنيمةٌ. (4/276)
__________
(1) قال حنش بن الحارث: رأيت الأسود وقد ذهبت إحدى عينيه من الصوم. (صف3/24)
عن الحكم قال كان الأسود يصوم الدهر. (صف3/24)
عن إبراهيم قال: كان الأسود يختم القرآن في رمضان في كل ليلتين وكان ينام بين المغرب والعشاء وكان يختم القرآن في غير رمضان في كل ست ليال. (صف3/23)
(2) قال هشيم: لو قيل لمنصور بن زاذان: ملك الموت على الباب! ما كان عنده زيادة في العمل قال وذلك أنه كان يخرج ويصلي الغداة في جماعة ثم يجلس فيسبح حتى تطلع الشمس ثم يصلي الى الزوال ثم يصلي الظهر ثم يصلي الى العصر ثم يصلي العصر ثم يجلس فيسبح الى المغرب ثم يصلي المغرب ثم يصلي العشاء الآخرة ثم ينصرف الى بيته فيكتب عنه في ذلك الوقت. (الشعب 3/165)
(3) روى ابن قتيبة عن سعيد بن نصير قال: قال وكيع: أبو يونس، ومن أبو يونس! بَكَى حتى عمِي، وطاف حتى أُقعِد، وصلى حتى حَدِب. (عيون الأخبار 2/365)
(4) زيادة مني، ويصح الكلام بدونها ولكنه بها أقرب.(1/220)
مرَّ شريحٌ بقومٍ وهم يلعبون فقال: ما لكم؟! قالوا: فرغنا يا أبا أمية(1)! قال: ما بهذا أمر الفارغ. (4/134 واقتضاء العلم العمل ص102)(2)
قال معاوية بن قرة: أكثر الناس حساباً يوم القيامة الصحيح الفارغ(3). (اقتضاء العلم العمل ص103)
قال مسروق: إذا بلغ أحدكم أربعين سنة فليأخذ حذره من الله عز وجل. (صف3/25)
قال علقمة بن مرثد: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين منهم الربيع بن خثيم وكان يقول: أما بعد فأعدَّ زادَك وخذْ في جهازِك وكن وصيَّ نفسِك. (صف3/60)
قال أبو مسلم: يا أم مسلم سوّي رحلك فإنه ليس على جهنمَ معبرةٌ. (2/127)
ذكر عطية بن قيس أن ناساً من أهل دمشق أتوا أبا مسلم الخولاني في منزله وهو غاز بأرض الروم فوجدوه قد احتفر في فسطاطه جوبة(4) ووضع في الجوبة نطعاً وأفرغ فيه ماء يتصلق فيه وهو صائم! فقالوا له: ما يحملك على الصيام وأنت مسافر وقد رخص لك في الفطر في السفر؟! فقال: لو حضر قتال لأفطرت و تقويت للقتال؛ إن الخيل لا تجري إلى الغايات وهي بدن، إنما تجري وهي ضمر؛ إن بين أيدينا أياماً لها نعمل. (صف4/209-210)
__________
(1) في الأصل (أمامة) وما أثبتُّه هو المعروف في كنية شريح؛ وفي الاقتضاء: (فرغنا اليوم) بلا نداء.
(2) عن شعبة حدثنا سعيد الجريري قال غنيم بن قيس: كنا نتواعظ في أول الإسلام: ابن آدم إعمل في فراغك لشغلك وفي شبابك لهرمك وفي صحتك لمرضك وفي دنياك لآخرتك وفي حياتك لموتك. (اقتضاء العلم العمل ص101)
(3) عن هشام قال: كانت حفصة بنت سيرين تقول: يا معشر الشباب إعملوا فإنما العمل في الشباب. (اقتضاء العلم العمل ص109)
(4) أي حفرة؛ وفي (مختار الصحاح) (ص116): جاب: خرق وقطع.(1/221)
كان من أمر أبي مسلم الخولاني أن علق سوطاً في مسجده ويقول: أنا أولى بالسوط(1) من الدواب؛ فإذا دخلته فترةٌ مشَقَ ساقه سوطاً أو سوطين؛ وكان يقول: لو رأيتُ الجنةَ عياناً ما كان عندي مستزاد، ولو رأيت النار عياناً ما كان عندي مستزاد. (2/127)
قيل لأبي مسلم الخولاني حين كبرَ ورقَّ: لو قصَّرْتَ عن بعض ما تصنع! فقال: أرأيتم لو أرسلتم الخيلَ في الحلبة ألستم تقولون لفارسِها: دعْها وارفقْ بها حتى إذا رأيتم الغايةَ فلا تستبْقوا(2) منها شيئاً؟ قالوا: بلى، قال: فإني أبصرتُ الغايةَ، وإنَّ لكلِّ ساعٍ غايةً، وغايةُ كلِّ ساعٍ الموتُ فسابقٌ ومسبوق. (2/123)
كان العلاء بن زياد العدوي يقولُ: لِيُنْزِلْ أحدُكم نفسَهُ أنه قد حضره الموتُ فاستقالَ ربَّهُ تعالى نفسَهُ فأقاله، فليعملْ بطاعةِ اللهِ عز وجل. (2/244)
قال جعفر بن سليمان: سمعت أبا عمران الجوني يقول كثيراً: اهتبلوا غفلة الحمقى وامضوا حيث أُعْلِمَ لكم، وكلوا ما لا تعلمون إلى عالمه قبل أن يأتي حضورُ ما لا تستطيعون دفعه من الموت وجلائل الأمور. (2/309)
قال أبو عمران الجوني: تكون الأرض زماناً ناراً فماذا أعددتم لها؟! وذلك قوله تعالى: (وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً)(3). (2/314)
قال أبو عمران الجوني: وهبْك تنجو(4)! بعدَ كَم تنجو؟!. (صف3/265)
قال مالك بن دينار: كان عيسى عليه السلام يقول: إن هذا الليل والنهار خزانتان فانظروا ما تضعون فيهما وكان يقول: اعملوا لليل لما خلق له واعملوا للنهار لما خلق له. (الكبير ص295)
قال أبو عيسى: دخلنا على مالك بن دينار عند الموت فجعل يقول: لمثل هذا اليوم كان دؤوب أبي يحيى. (صف3/288)
__________
(1) في الأصل (بالسواط).
(2) انتقل من خطاب المفرد إلى خطاب الجماعة.
(3) مريم (71-72).
(4) أي افترض أنك تنجو من النار.(1/222)
قال شميط بن عجلان: إني واللهِ ما رأيتُ أبدانَكم إلا مطاياكم إلى ربِّكم عزَّ وجلَّ، ألا فأَنْضوها في طاعة الله يبارك الله فيكم. (3/131)
قال أبو حازم سلمة بن دينار: إن بضاعةَ الآخرةِ كاسدةٌ فاستكثروا منها في أوان كسادها، فإنه لو قد جاء يومُ نفاقها لم نصل منها لا إلى قليل ولا إلى كثير. (3/242)
قال أبو حازم: عجباً لقوم يعملون لدار يرحلون عنها كل يوم مرحلة ويدعون أن يعملوا لدار يرحلون إليها كل يوم مرحلة. (صف2/165)
قالت امرأة أبي حازم يوماً له: يا أبا حازم هذا الشتاء قد هجم، ولا بد لنا مما يصلحنا فيه، فذكرت الثياب والطعام والحطب، فقال: مِن هذا كله بُدٌّ، ولكن خذي ما لا بدَّ منه: الموتَ ثم البعثَ ثم الوقوفَ بين يدي الله تعالى ثم الجنةَ أو النار. (عيون الأخبار 2/373)
قال أبو حازم: أنظر الذي تحبُّ ان يكونَ معكَ في الآخرةِ فقدمْهُ اليومَ، وانظر الذي تكرهُ أن يكونَ معكَ ثَمَّ(1) فاتركه اليوم. (3/238)
قال أبو حازمٍ: كلُّ عملٍ تكرهُ الموتَ مِنْ أجلِهِ فاتركْه ثم لا يضرُّكَ متى متَّ. (3/239)
كان عبيد بن عمير إذا دخل الشتاء قال: يا أهل القرآن طال الليل لصلاتكم وقصر النهار لصيامكم، فاغتنموا. (التهجد ص415)
قال ميمون بن مهران في قوله تعالى (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً)(2)، و(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)(3): فالتمسوا لهذين الرصدين جوازاً. (4/84)
قال أبو المليح: قال لنا ميمون بن مهران ونحن حولَهُ: يا معشرَ الشبابِ قوَّتُكم اجعلوها - في شبابِكم ونشاطِكم - في طاعةِ اللهِ؛ يا معشرَ الشيوخِ حتى متى؟! (4/87)
__________
(1) أي هناك في الآخرة.
(2) النبأ (21).
(3) الفجر (14).(1/223)
كان زياد بن جرير يقولُ: تجهزتم؟ فسمعَهُ رجلٌ فقالَ(1): ما يعني بقولِهِ: تجهزتم؟ فَ[قيل له](2): يقولُ: تجهزوا للقاءِ اللهِ تعالى. (4/197)
قال إبراهيم التيمي: مثلتُ نفسي في النارِ أعالجُ أغلالَها وسعيرَها وآكلُ من زقّومِها وأشربُ من زمهريرِها، فقلتُ: يا نفسي أيّ شئٍ تشتهين؟ قالت: أرجعُ إلى الدنيا أعملُ عملاً أنجو بهِ من هذا العذابِ، ومثلتُ نفسي في الجنةِ مع حورِها وألبسُ من سندسِها واستبرقِها وحريرِها، فقلتُ: يا نفسي أيّ شئ تشتهين؟ قالت: أرجعُ إلى الدنيا فأعملُ عملاً أزدادُ من هذا الثوابِ، فقلتُ: أنتِ في الدنيا وفي الأمنيَّةِ. (4/211)
قال عونٌ بن عبد الله: قد ورد الأولُ، والآخِرُ متعَبٌ منتظِرٌ، فأصلحوا ما تقْدمونَ عليهِ بما تظْعنون عنه(3)، فإنَّ الخلقَ للخالقِ والشكرَ للمنعمِ(4)، وإنَّ الحياةَ بعدَ الموتِ والبقاءَ بعدَ القيامة. (4/246)
__________
(1) في الأصل (يقول) فجعلتها (فقال).
(2) زيادة مني قد يقتضيها السياق. ويصح حذفها فيكون زياد قد سمع سؤال ذلك الرجل فأجابه.
(3) أي أصلحوا آخرتكم بدنياكم.
(4) أي ان ما في أيديكم من المال ونحوه في هذه الدنيا فهو من خلق الله وعطائه وستتركونه، وإنه يجب شكره عليه.(1/224)
خطب عمر بن عبد العزيز فقال: إن الدنيا ليست بدارِ قرارِكم؛ دارٌ كتب الله عليها الفناءَ، وكتب على أهلِها منها الظعنَ؛ فكم عامر موثَّق عمّا قليلٍ مخرَّبٌ، وكم مقيم مغتبِط عما قليلٍ يظعنُ؛ فأحسنوا رحمكم اللهُ منها الرحلةَ بأحسنَ ما يحضركم من النقْلةِ، وتزودوا فإنَّ خيرَ الزاد التقوى؛ إنما الدنيا كفيءِ ظلالٍ قَلَصَ(1) فذهبَ؛ بينا ابنُ آدمَ في الدنيا ينافسُ فيها وبها قرير العينِ إذ دعاه اللهُ بقدَرِهِ ورماه بيومِ حتفِه، فسلبَه آثارَه ودنياه، وصيَّر لقومٍ آخرينَ مصانعَه ومَغْناه(2)؛ إنَّ الدنيا لا تسرُّ بقدَرِ ما تضرّ؛ إنها تَسُرُّ قليلاً وتجرُّ حزناً طويلاً. (5/292)
قال ميمونُ بنُ مهران: كنتُ جالساً عند عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ فقرأ (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ)(3) فقال لي: يا ميمون: ما أرى القبرَ إلا زيارةً، ولا بدَّ للزائرِ أن يرجعَ إلى منزلِه، يعني إلى الجنةِ أو النار. (5/317)
قال محمد بن واسع: قال خليد العصري: كلنا قد أيقن بالموت وما نرى له مستعداً! وكلنا قد أيقن بالجنة وما نرى لها عاملاً! وكلنا قد أيقن بالنار وما نرى لها خائفاً! فعلى ما تعرّجون وما عسيتم تنظرون؟! الموت؟! فهو أول وارد عليكم من الله بخير أو بشر، فيا إخوتاه سيروا إلى ربكم سيراً جميلاً. (صف3/231)
عن قتادة أن خليداً العصري قال: يا إخوتاه هل منكم من أحد لا يحب أن يلقى حبيبه؟ ألا فأحبوا ربكم وسيروا إليه سيراً كريماً. (صف3/231)
قال سفيان بن عيينة: اشترى عامر [بن عبد الله بن الزبير] نفسه من الله تعالى ست مرات(4). (3/166)
__________
(1) أي ارتفع، وقد يكون المراد (تقلّص) أي انضم وانزوى؛ ويقال: ظل قالص، إذا نقص؛ وعلى كل حال فمعنى العبارة واضح.
(2) أي موضعه الذي كان فيه.
(3) التكاثر (1-2).
(4) وقال في رواية أخرى: اشترى عامر بن عبد الله بن الزبير نفسه من الله تعالى بسبع ديات. (3/166)(1/225)
قال الأوزاعي: سمعت بلال بن سعد يقول: أيها الناس إنكم لم تخلقوا للفناء وإنما خلقتم للبقاء وإنما تنقلون من دار إلى دار كما نقلتم من الأصلاب إلى الأرحام ومن الأرحام إلى الدنيا ومن الدنيا إلى القبور ومن القبور إلى الموقف ومن الموقف إلى جنة أو نار. (الزهد الكبير ص213 وانظر صف4/217)
قال مصعب بن عثمان: كان عبد الرحمن بن أبان [بن عثمان بن عفان(1)] يشتري أهل البيت ثم يأمر بهم فيكسون ويدهنون ثم يعرضون عليه فيقول: أنتم أحرار لوجه الله أستعين بكم على غمرات الموت؛ قال: فمات وهو قائم في مسجده يصلي السبحة يعني الضحى. (صف2/148)
قال رجل من أهل الكوفة: جلسنا إلى عون بن عبد الله في مسجد الكوفة فسمعته يقول: إن من أغر الغرة انتظار تمام الأماني وأنت أيها العبد مقيم على المعاصي؛ قال: وسمعته يقول: لقد خاب سعي المعرضين عن الله؛ قال: وسمعته يقول: ما نؤمل إلا عفوه، وغلبه البكاء فقام. (حسن الظن بالله ص115)
قال مطرف: إن المنبتَّ(2) لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى. (لسان العرب 2/311)
قال مورقٌ العجلي: المتمسكُ بطاعةِ اللهِ إذا جبنَ الناسُ عنها كالكارِّ بعد الفارِّ. (2/235)
قال قتادة: منع البرُّ(3) النومَ، وكانوا ينامون قبل الاسلام، فلما جاء الاسلام أخذوا والله من نومهم وليلهم ونهارهم وأموالهم وأبدانهم ما تقربوا به إلى ربهم. (2/338)
قال إبن شوذب: شهدت جنازة طاووس بمكة سنة ست ومئة فسمعتهم يقولون: رحمك الله أبا عبد الرحمن حج أربعين حجة رحمه الله. (صف2/290)
__________
(1) في (التقريب): (ثقة مقل عابد، من السادسة).
(2) يقال للرجل إذا انقطع في سفره وعطبت راحلته: صار منبتاً.
(3) مراده الطاعات وأنواع العبادات.(1/226)
قال وهب بن منبه: الأجر معروض ولكن لا يستوجبه من لا يعملُ، ولا يجدُه من لا يبتغيه، ولا يبصرُه من لا ينظر إليه، وطاعةُ اللهِ قريبةٌ ممن يرغَبُ فيها، بعيدةٌ ممن يزهدُ فيها، ومن يحرصُ عليها يبتغيها، ومن لا يحبها لا يجدها، لا تسبقُ من سعى إليها، ولا يدركها من أبطأَ عنها، وطاعةُ الله تعالى تشرِّفُ من أكرمها، وتُهينُ من أضاعها، وكتابُ الله تعالى يدلُّ عليها، والايمانُ بالله تعالى يحض عليها(1). (4/54-55)
قيل لوهبٍ: أليس مفتاحُ الجنةِ لا إله إلا الله؟ قال: بلى ولكنْ ليسَ منْ مفتاحٍ إلا ولهُ أسنانٌ من أتى البابَ بأسنانِهِ(2) فتحَ له، ومن لم يأتِ البابَ بأسنانِهِ لم يفتحْ له. (4/66)
قال الحسن: لا إله إلا الله ثمن الجنة. (المصنف 7/199 وتأويل مختلف الحديث ص172)
وروي عنه أنه قال: هذا العمود فأين الطنب؟!(3). (جامع العلوم والحكم ص209)
قال ميمون بن مهران: من سرَّه أن يعلَمَ ما منزلتُهُ غداً فلينظرْ ما عملهُ في الدنيا فعليهِ ينزلُ. (4/91)
قال توبة العنبري: وفدني صالح بن عبد الرحمن إلى سليمان بن عبد الملك فخرجت من عند سليمان فدخلت على عمر بن عبد العزيز فقلت له: لك إلى صالح حاجة؟ قال: قل له: عليك بالذي يبقى لك عند الله فإن ما بقي لك عند الله لم يبق(4) لك عند الناس. (الزهد الكبير ص333)
__________
(1) وانظر (الحلية) (4/62).
(2) أي بأسنان ذلك المفتاح.
(3) يعني أن كلمة التوحيد عمود الفسطاط ولكن لا يثبت الفسطاط بدون أطنابه وهي فعل الواجبات وترك المحرمات.
وقال ابن رجب في (الجامع) (ص209-210): (قيل للحسن: إن ناساً يقولون: من قال: لا إله إلا الله، دخل الجنة؛ فقال: من قال: لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة؛ وقيل لوهب بن منبه: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة؟ قال: بلى ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك).
(4) كذا في الأصل، ولعل في العبارة سقطاً.(1/227)
قال جابر بن زيد: نظرت في أعمال البر فإذا الصلاة تجهد البدن ولا تجهد المالَ، والصيامُ مثل ذلك، والحج يجهد المال والبدن؛ فرأيت الحج أفضل من ذلك كله. (صف3/237)
قال شريح لرجل: يا عبد الله دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فوالله لا تدع من ذلك شيئاً فتجد فقده(1). (الزهد الكبير ص325)
قال عطاء الخراساني في قولِه تعالى (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ)(2) قال: من طولِ ما اغبرَّت في سبيل الله. (5/200)
قال الحسن: من رأى محمداً صلى الله عليه وسلم فقد رآه غادياً رائحاً لم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة، رُفع له علَمٌ فشمر له، النجا النجا ثم الوحا الوحا(3)!! على ما تعرجون وقد أسرع بخياركم وذهب نبيكم صلى الله عليه وسلم وأنتم كل يوم ترذلون؟! العيان العيان. (2/154)
قال الحسن في قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً)(4): من عجز في الليل كان له في النهار مستعتب، ومن عجز في النهار كان له في الليل مستعتب. (الزهد ص271)
قال جسر: دخلت على يونس بن عبيد فقال: منذ دخلت علينا قد مضى من آجالنا. (صف3/305)
قال محمد بن ثابت البناني: ذهبت ألقن أبي وهو في الموت فقلت: يا أبة قل: لا إله إلا الله، فقال: يا بني خلِّ عني فإني في وردي السادس أو السابع. (صف3/263)
__________
(1) قال شريح: لا يدع عبد شيئاً تحرجاً [أي خوف الوقوع في الإثم] فيجد فقده. (الزهد الكبير ص328)
قال ابن سيرين: سمعت شريحاً يحلف بالله: ما ترك عبد شيئاً لله فوجد فقده؛ قال ابن سيرين: ولا أرى شريحاً حلف إلا على علم. (صف3/38)
(2) عبس (38).
(3) النجا معناه السرعة وكذلك الوحا.
(4) الفرقان (62).(1/228)
قالَ رجاء بن حيوة لعَدِيٍّ بنِ عدي ولمعنٍ بنِ المنذرِ يوماً وهو يعظُهما: انظرا الأمرَ الذي تحبّانِ أن تلقيا الله عليهِ فخذا فيه الساعةَ، وانظرا الأمرَ الذي تكرهانِ أن تلقَيا اللهَ عليهِ فدعاه الساعة. (5/170)
قال خالد بنُ معدان: إذا فُتِحَ لأحدِكم بابُ خيرٍ فليسرعْ إليهِ فإنه لا يدري متى يُغلقُ عنه. (5/211)
قال أبو حازمٍ سلمةُ بنُ دينار: قالَ عمرُ بنُ عبدِ العزيز: عِظني يا أبا حازم، قال: قلتُ: اضطجع ثم اجعلِ الموتَ عندَ رأسِك ثم انظر ما تحبُّ أن تكونَ فيه تلكَ الساعةَ فخذ فيه الآنَ؛ وما تكرهُ أن يكونَ فيكَ تلك الساعةَ فدعْه الآن. (5/317)
قال عمر بن عبد العزيز في خطبته: لا تغرنكم الدنيا والمهلة فيها، فعن قليل عنها تُنقلون، وإلى غيرها ترتحلون، فاللهَ عبادَ اللهِ في أنفسكم، فبادِروا بها الفوت قبل حلول الموت، فلا يطولنَّ بكم الأمد، فتقسو قلوبكم، فتكونوا كقومٍ دُعوا إلى حظهم فقصروا عنه بعد المهلة، فندموا على ما قصروا عند الآخرة، ثم نحب وهو على المنبر. (ذم الدنيا 235)
قال إسماعيل بن أبي حكيم: دخل عبد الملك على أبيه عمر [بن عبد العزيز] فقال: أين وقع لك رأيك فيما ذكر لك مزاحم من رد المظالم فقال: علي إنفاذه فرفع عمر يده ثم قال: الحمد لله الذي جعل لي من ذريتي من يعينني على أمر ديني؛ نعم يا بني أصلي الظهر إن شاء الله ثم أصعد المنبر فأردها على رؤوس الناس؛ فقال عبد الملك: يا أمير المؤمنين من لك بالظهر ومن لك إن بقيت أن تسلم لك نيتك؟! فقال عمر: فقد تفرق الناس للقائلة! فقال عبد الملك: تأمر مناديك فينادي الصلاة جامعة ثم يجتمع الناس فأمر مناديه فنادى. (صف2/129)(1/229)
قال ابن أبي عبلة: جلس عمر [بن عبد العزيز] يوماً للناس فلما انتصف النهار ضجر ومل فقال للناس: مكانكم حتى أنصرف إليكم ودخل ليستريح ساعة فجاء إليه ابنه عبد الملك فسأل عنه فقالوا: دخل فاستأذن عليه فأذن له فلما دخل قال: يا أمير المؤمنين ما أدخلك؟ قال: أردت أن أستريح ساعة؛ قال: أوأمنت الموت أن يأتيك ورعيتك على بابك ينتظرونك وأنت محتجب عنهم؟ فقام عمر فخرج إلى الناس. (صف2/129)
قال يونس: أما ابن سيرين فإنه لم يعرض له أمران في دينه إلا أخذ بأوثقهما. (صف3/244)
قال اسماعيل بن أمية: قيل لمسروق: لو أنك قصرت عن بعض ما تصنع أي من العبادة! فقال: والله لو أتاني آت فأخبرني أن الله لا يعذبني لاجتهدت في العبادة؛ قيل: وكيف ذلك؟ قال: حتى تعذرني نفسي، إن دخلت جهنم لا ألومها؛ أما بلغك في قوله عز وجل (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)(1)، إنما لاموا أنفسهم حين صاروا إلى جهنم واعتقبتهم الزبانية وحيل بينهم وبين ما يشتهون وانقطعت عنهم الأماني ورفعت عنهم الرحمة وأقبل كل امرىء منهم يلوم نفسه. (صف3/25 ومحاسبة النفس 109)
كان عامر بن عبد قيس يقول: لذات الدنيا أربعة: المال والنساء والنوم والطعام، فأما المال والنساء فلا حاجة لي فيهما، وأما النوم والطعام فلا بد لي منهما، فوالله لأضرنَّ بهما جهدي. (2/88)(2)
__________
(1) القيامة (2).
(2) وراجع (حلية الأولياء) (2/90-91).(1/230)
قال قتادة: ابنَ آدمَ إنْ كنتَ لا تريدُ أنْ تأتيَ الخيرَ إلا بنشاطٍ فإنَّ نفسَكَ إلى السآمةِ وإلى الفترةِ وإلى الملل أميَلُ، ولكنَّ المؤمنَ هوَ المتحامِلُ، والمؤمِنَ المتقوّي وإنَّ المؤمنينَ هم العجاجونَ إلى اللهِ بالليلِ والنهارِ، وما زالَ المؤمنونَ يقولونَ: ربَّنا ربَّنا في السر والعلانيةِ حتى استجاب لهم(1). (2/336)
قال مالك بن دينار: إنَّ القلبَ المحبَّ للهِ يحبُّ النَّصَبَ(2) للهِ عزَّ وجلّ. (2/363)
قال شميط بن عجلان: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ جعلَ قوةَ المؤمنِ في قلبِهِ ولمْ يجعلْها في أعضائِهِ، ألا تَرَوْنَ أنَّ الشيخَ يكونُ ضعيفاً يصومُ الهواجرَ ويقومُ الليلَ والشابُّ يعجزُ عن ذلك. (3/130)
قال رجلٌ لأبي حازم: إنك متشدد! فقال أبو حازم: وما لي لا أتشدد وقد ترصدني أربعةَ عشرَ عدواً، أما أربعة فشيطان يفتنُني ومؤمنٌ يحسدُني وكافر يقتلني ومنافق يبغضني؛ وأما العشرة فمنها(3) الجوعُ والعطشُ والحرُ والبردُ والعريُ والهرمُ والمرضُ والفقرُ والموتُ والنارُ؛ ولا أطيقُهنَّ إلا بسلاحٍ تامٍّ، ولا أجدُ لهنَّ سلاحاً أفضلَ من التقوى. (3/231)
كان من كلام عبد الله بن عبيد بن عمير: لا تقنعن لنفسك باليسير من الأمر في طاعة الله عز وجل كعمل المَهين الدنيء، ولكن اجهد واجتهد، فعْلَ الحريص الحفي، وتواضع لله عز وجل دون الضعف، فِعْلَ الغريب السبي. (3/354)
__________
(1) معنى هذا الأثر أن المؤمن لا بد له من مجاهدة نفسه ومن مخالفتها عندما تريد غير الحق، ومن إكراهها على الخير عندما تفتر فيه، ومن تعويدها الإكثار من الطاعات وإن ضعفت عنها في أول أمرها، وتوانت فيها قبل أن تعتادها، وكذلك لا بد للمؤمن من ملازمة اللجأ إلى الله تعالى ودوام الاستعانة به فيما ينويه من الطاعات.
(2) أي التعب.
(3) كذا في (الحلية)، والصحيح (فهن) أو (فهي) أو نحو ذلك.(1/231)
قال الحسن: لما أتى الحجاج بسعيد بن جبير قال: أنت الشقي بن كسير قال: بل: أنا سعيد بن جبير؛ قال: بل أنت الشقي بن كسير! قال: كانت أمي أعرف باسمي منك قال: ما تقول في محمد؟ قال: تعني النبي قال: نعم قال سيد ولد آدم المصطفى خير من بقي وخير من مضى، قال: فما تقول في أبي بكر الصديق؟ قال: الصديق خليفة رسول الله مضى حميداً وعاش سعيداً ومضى على منهاج نبيه لم يغير ولم يبدل. قال: فما تقول في عمر؟ قال: عمر الفاروق خيرة الله وخيرة رسوله مضى حميداً على منهاج صاحبيه لم يغير ولم يبدل. قال فما تقول في عثمان؟ قال: المقتول ظلماً المجهز جيش العسرة الحافر بئر رومة المشتري بيته في الجنة، صهر رسول الله على ابنتيه، زوجه النبي بوحي من السماء. قال: فما تقول في علي؟ قال: ابن عم رسول الله وأول من أسلم وزوج فاطمة وأبو الحسن والحسين، قال: فما تقول فيَّ؟ قال: أنت أعلم بنفسك، قال: بث بعلمك، قال: إذاً نسوءك ولا نسرك، قال: بث بعلمك، قال: أعفني، قال: لا عفا الله عني إن أعفيتك، قال: إني لأعلم أنك مخالف لكتاب الله ترى من نفسك أموراً تريد بها الهيبة وهي التي تقحمك الهلاك وسترد غداً فتعلم، قال: أما والله لأقتلنك قتلة لم أقتلها أحداً قبلك ولا أقتلها أحداً بعدك، قال: إذاً تفسد علي دنياي وأفسد عليك آخرتك، قال: يا غلام السيف والنطع، فلما ولى ضحك قال: قد بلغني أنك لم تضحك! قال: قد كان ذلك، قال: فما أضحكك عند القتل؟ قال: من جرأتك على الله عز وجل ومن حلم الله عنك! قال: يا غلام اقتله، فاستقبل القبلة فقال: (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(1)؛ فصرف وجهه عن القبلة فقال: ([فـ]ـأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ)(2) قال: اضرب به الأرض، قال: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً
__________
(1) الأنعام (79).
(2) البقرة (115).(1/232)
أُخْرَى)(1) قال: اذبح عدو الله فما أنزعه لآيات القرآن منذ اليوم. (صف3/80-82)
قال ابن ذكوان: إن الحجاج بن يوسف بعث إلى سعيد بن جبير فأصابه الرسول بمكة فلما سار به ثلاثة أيام رآه يصوم نهاره ويقوم ليله فقال الرسول: والله إني لأعلم أني أذهب بك إلى من يقتلك فأذهب إلى أي طريق شئت! فقال له سعيد: إنه سيبلغ الحجاج أنك قد أخذتني فإن خليت عني خفت أن يقتلك ولكن اذهب بي إليه قال فذهب به فلما دخل عليه قال له الحجاج: ما اسمك؟ قال: سعيد بن جبير، فقال: بل شقي بن كسير، فقال: أمي سمتني، قال: شقيت، قال: الغيب يعلمه غيرك، قال له الحجاج: أما والله لأبدلنك من دنياك ناراً تلظى، قال سعيد: لو علمت أن ذلك إليك ما اتخذت إلهاً غيرك، ثم قال له الحجاج: ما تقول في رسول الله؟ قال: نبي مصطفى، خير الباقين وخير الماضين، قال: فما تقول في أبي بكر الصديق؟ قال: ثاني اثنين إذ هما في الغار أعز الله به الدين وجمع به(2) بعد الفرقة قال: فما هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ قال: فاروق، وخيرة الله من خلقه، أحب الله أن يعز الدين بأحد الرجلين فكان أحقهما بالخيرة والفضيلة، قال: فما تقول في عثمان بن عفان؟ قال: مجهز جيش العسرة والمشتري بيتاً في الجنة، والمقتول ظلماً، قال: فما تقول في علي؟ قال: أولهم إسلاماً وأكثرهم هجرة، تزوج بنت رسول الله التي هي أحب بناته إليه، فقال: فما تقول في معاوية؟ قال: كاتب رسول الله، قال: فما تقول في الخلفاء منذ كان رسول الله إلى الآن؟ قال: سيجزون بأعمالهم فمسرور ومثبور ولست عليهم بوكيل، قال: فما تقول في عبد الملك بن مروان؟ قال: إن يكن محسناً فعند الله ثواب إحسانه وإن يكن مسيئاً فلن يعجز الله، قال: فما تقول فيَّ؟ قال: أنت بنفسك أعلم، قال: بث فيَّ علمك، قال: إذاً أسوءك ولا أسرك، قال: بث، قال: نعم، ظهر منك جور في حد الله وجرأة على معاصيه بقتلك أولياء الله، قال: والله لأقطعنك
__________
(1) طه (55).
(2) أي المسلمين.(1/233)
قطعاً وأفرقن أعضاءك عضواً عضواً، قال: إذاً تفسد علي دنياي وأفسد عليك آخرتك والقصاص أمامك، قال: الويل لك من الله، قال: لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار، قال: اذهبوا به فاضربوا عنقه، قال سعيد: إني أشهدك أني اشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أستحفظك بها حتى ألقاك يوم القيامة، فلما ذهبوا به ليقتل تبسم فقال له الحجاج: مم ضحكت؟ قال: من جرأتك على الله عز وجل، فقال الحجاج: أضجعوه للذبح، فأُضجع فقال: (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)(1)؛ فقال الججاج: اقلبوا ظهره إلى القبلة فقرأ سعيد (فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ)(2)؛ فقال: كبوه على وجهه فقرأ سعيد (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى)(3)؛ فذبح من قفاه؛ قال: فبلغ ذلك الحسن بن أبي الحسن البصري فقال: اللهم يا قاصم الجبابرة اقصم الحجاج؛ فما بقي إلا ثلاثاً حتى وقع في جوفه الدود فمات. (صف3/82-85)
__________
(1) الأنعام (79).
(2) البقرة (115).
(3) طه (55).(1/234)
قالَ عمرُ بن عبد العزيز لحاجبِه: لا يدخلنَّ عليَّ اليومَ إلا مروانيٌّ، فلما اجتمعوا عندَه حمدَ اللهَ وأثنى عليه، ثم قالَ: يا بني مروانَ إنكم قد أعطيتم حظاً وشرفاً وأموالاً، إني لأحسبُ شطرَ أموالِ هذهِ الأمةِ أو ثلثَها(1) في أيديكم(2)!! فسكتوا فقال عمر: ألا تجيبوني؟! فقالَ رجلٌ من القومِ(3): والله لا يكونُ ذلكَ حتى يحالَ بينَ رءوسِنا وأجسادِنا! واللهِ لا نكفرُ آباءَنا ولا نُفْقِرُ أبناءَنا! فقال عمر: والله لولا أن تستعينوا عليَّ بمن أطلبُ هذا الحقَّ له لأصعرتُ(4) خدودَكم!! قوموا عني!! (5/273)
قال الحسن: رحم الله رجلاً لبس خلقاً وأكل كسرةً ولصق بالأرض وبكى على الخطيئة ودأب في العبادة. (2/149)
__________
(1) في الأصل (ثلثه).
(2) يريد عمر أن يأخذها منهم، أو يأخذ منهم حقوق الناس التي بأيديهم؛ فيرجعها إلى أهلها أو إلى بيت مال المسلمين، أو يصرفها في وجوهها.
(3) وقد عرف ما أراده عمر.
(4) أي لأمَلْتُها وذلك كناية عن إخضاعهم للحق.(1/235)
قال الحسن: لما حضر الناس باب عمر وفيهم سهيل بن عمرو وأبو سفيان بن حرب وتلك الشيوخ من قريش فخرج آذنه فجعل يأذن لأهل بدر لصهيب وبلال وأهل بدر وكان والله بدرياً، وكان يحبهم، وكان قد أوصى بهم؛ فقال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم قط! إنه يؤذن لهذه العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا فقال سهيل بن عمرو ويا له من رجل ما كان أعقله: أيها القوم إني والله لقد أرى الذي في وجوهكم فإن كنتم غضاباً فاغضبوا على أنفسكم: دعي القوم ودعيتم فأسرعوا وأبطأتم، أما والله لَمَا سبقوكم به من الفضل فيما لا ترون أشد عليكم فوتاً من بابكم هذا الذي تنافسونهم عليه؛ ثم قال: أيها القوم إن هؤلاء القوم قد سبقوكم بما ترون فلا سبيل لكم والله إلى ما سبقوكم إليه وانظروا هذا الجهاد فالزموه عسى أن يرزقكم [الله] شهادة؛ ثم نفض ثوبه فلحق بالشام فقال الحسن: صدق والله لا يجعل الله عبداً أسرع إليه كعبد أبطأ عنه. (الجهاد لابن المبارك ص85(1) والزهد ص114)
قال الحسن: الخير في هذين: الأخذ بما أمر الله والنهي عما نهى الله عنه. (الورع ص42)
قال الحسن: رأس مال المؤمن دينه حيث ما زال زال معه لا يخلفه في الرحال ولا يأتمن عليه الرجال. (الغرباء ص28 والبداية والنهاية 9/271-272)
قال الحسن: إن أصحاب هرم بن حيان قالوا له: أوصنا قال: أوصيكم بآخر سورة النحل: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)(2) إلى آخر السورة؛ فقالوا له: أوص، فقال: بما أوصي؟! إن نفسي صدَقتني في الحياة فصدَقتها عند الموت، ما لي إلا مصحفي وسلاحي وفرسي، فإذا أنا مت فاجعلوه في سبيل الله؛ فكان يقول فيما يقول: لم أر مثل الجنة نام طالبها ولم أر مثل النار نام هاربها. (الزهد لهناد 1/292)
__________
(1) تنبيه: هذا الكتاب منسوب لابن المبارك، وهو في الحقيقة ليس من تصنيفه.
(2) النحل (125).(1/236)
قال الحسن: إن رجلاً كان في شرب أصاب حداً فلم يقم عليه نبيهم ذلك الحد ثم بدا له ليقيمه عليه فامتنع عليه فبعث النبي الجنود فهزمت جنوده فقال: يا رب أبعث الجنود الى رجل امتنع من حد لأقيمه عليه فتهزم جنودي؟! فقال: إنك أخرت ولكن ابعث الآن فستنصر أو نحو هذا. (الجهاد لابن المبارك ص174)
كتب الحسن إلى فرقد: أما بعد فاني أوصيك بتقوى الله والعمل بما علمك الله والاستعداد لما وعد الله مما لا حيلة لأحد في دفعه ولا ينفع الندم عند نزوله فاحسر عن رأسك قناع الغافلين وانتبه من رقدة الجاهلين وشمر الساق فإن الدنيا ميدان مسابقة والغاية الجنة أو النار؛ فإن لي ولك من الله مقاماً يسألني وإياك فيه عن الحقير والدقيق والجليل والخافي ولا آمن آن يكون فيما يسألني وإياك عنه وساوس الصدور ولحظ العيون وإصغاء الأسماع وما أعجز عنه. (البداية والنهاية 9/268)(1/237)
قال الحسن: بينما رجلان من صدر هذه الأمة يتراجعان بينهما أمر الناس فقال أحدهما للآخر: ما بطأ بهم عن هذا الأمر بعد ما زعموا أن قد آمنوا؟! فجعل يقول: ضعف الناس والذنوب والشيطان يعرض بأمر لا يوافق الذي في نفسه؛ فقال: أبطأ بهم وثبرهم عن هذا الأمر بعد ما زعموا أن قد آمنوا، أن الله تبارك وتعالى أشهد الدنيا وغيَّب الآخرة فأخذ الناس بالشاهد وتركوا الغائب والذي نفسي بيده لو أن الله أظهر احداهما إلى جانب الأخرى حتى يعاينهما الناس ما عدّلوا ولا ميّلوا(1). (رك ص36 والزهد ص264 وذم الدنيا 58)(2)
قال الحسن: تمنوا وتمنوا فلما فاتهم ذلك جدوا. (رك ص82 والمتمنين ص60 وانظر المصنف 7/189)
قال معمر: لقي الحسن رجل يريد المسجد لصلاة العشاء في ليلة مظلمة اظنها ذات رداغ(3) فقال: أفي مثل هذه الليلة يا أبا سعيد؟ فقال الحسن: هو التشديد أو الهلكة. (زوائد نعيم بن حماد في زهد ابن المبارك ص1)
قال الحسن: إن الله عز وجل لو شاء لوكل هذا الأمر إلى العباد أو الناس فقال: من اجتهد لي جزيته ولكن أمر بأمر ونهى عن أمر ثم قال: اجتهدوا فيما أمرتكم. (الشعب 2/246)
قال الحسن: أي قوم المداومة، والله ما المؤمن بالذي يعمل شهراً أو شهرين أو عاماً أو عامين، لا والله ما جعل الله لعمل المؤمن أجلاً دون الموت. (الزهد ص271 و رك ص7)
__________
(1) تصرفت في هذا الأثر شيئاً يسيراً.
(2) قال أحمد في (الزهد) (ص198): حدثنا يزيد بن هرون انبأنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: كنا مع أبي موسى رحمه الله في مسير له فسمع الناس يتحدثون فسمع فصاحة فقال لي: يا أنس هلم فلنذكر ربنا عز وجل فإن هؤلاء يكاد أحدهم أن يفري الأديم بلسانه، قال: يا أنس ما بطأ بالناس عن الاخرة وما ثبرهم عنها؟ قال: قلت: الشهوات والشيطان، قال: لا والله، ولكن عجلت لهم الدنيا وأُخرت الاخرة، ولو عاينوا ما عدلوا ولا ميّلوا.
(3) جمع رَدَغ، وهو الماء والطين والوحل الشديد.(1/238)
قال أبو حُرّة: كان الحسن يحب المداومة في العمل، قال: وقال محمد [بن سيرين]: أرأيت إن نشط ليلة وكسل ليلة؟ فلم ير به بأساً. (المصنف 7/242)
قال الحسن: إذا نظر اليك الشيطان فرآك مداوماً في طاعة الله فبغاك وبغاك فرآك مداوما ملَّكَ ورفضك؛ وإذا كنت مرة هكذا ومرة هكذا طمع فيك. (الزهد ص7)
نظر إياس بن قتادة في المرآة فرأى شيبة فقال: ألا أراني حُمَيِّراً لحاجات بني تميم والموت يطلبني فخرج فنزل الشبكة فاتخذها مسجداً فلم يزل يعبد الله حتى مات؛ وقال: لأن ألقى الله مؤمناً مهزولاً أحب إلي من أن ألقاه منافقاً سميناً؛ فقال الحسن: رحمه الله علم أن النار تأكل اللحم ولا تأكل الإيمان. (العمر والشيب ص69)
سئل الحسن: يا أبا سعيد هل ينام ابليس؟ قال: لو نام لوجدنا لذلك راحة(1). (الزهد ص263)
قال الحسن: بادروا بالعمل الصالح قبل حلول الأجل، فإن لكم ما أمضيتم لا ما أبقيتم. (العقد الفريد 10/94)
كان الحسن يقول: ابن آدم إياك والتسويف فإنك بيومك ولست بغد فإن يكن غد لك فكن في غد كما كنت(2) في اليوم وإلا يكن لك [غد] لم تندم على ما فرطت في اليوم. (رك ص4 وزهد هناد 1/289 وذم الدنيا لابن أبي الدنيا وقصر الأمل له واقتضاء العلم العمل ص113 وفيض القدير 4/80)
قال الحسن: ابن آدم صمْ قبل أن لا تقدر على يوم يصومه، كأنك إذا ظمئت لم تكن رَوِيت، وكأنك إذا رويت لم تكن ظمئت. (العقد الفريد 10/94)
قال مورق العجلي: إني لقليل الغضب ولقلما غضبت فأقول في غضبي شيئاً ندمت عليه إذا رضيت، فقال رجل: إني أشكو إليك قسوة قلبي، لا أستطيع الصوم ولا أصلي!(3) فقال له مورق: إن ضعفت عن الخير فاضعف عن الشر فإني أفرح بالنومة أنامها. (2/235)
__________
(1) وهذه رواية أخرى: قيل للحسن: يا أبا سعيد أينام الشيطان؟ قال: لو غفل لوجدها كل مؤمن من قلبه. (المصنف 7/197)
(2) في بعض المصادر (كس) و (كست) مكان (كن) و (كنت).
(3) يريد صوم االتطوع وصلاته.(1/239)
قال الحسن: من كان قوياً فليعتمد على قوته في طاعة الله، ومن كان ضعيفاً فليكفَّ عن معاصي الله. (العقد الفريد 10/97)
قال أبو حُرّةَ: دخلنا على بكر بن عبد الله المزني نعوده فرفع رأسه فقال: عبد(1) رزقه الله قوةً فأعمَلَ نفسَه في طاعة الله، أو قصَّر به ضعف فلم يُعْملها في معاصي الله(2). (محاسبة النفس 109)
قال الحسن في قوله تعالى (وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ)(3) قال: مات عليها. (الزهد ص263)
قال الحسن: لما أحس جندب(4) بقدوم علي رضي الله عنه خرج راجعاً الى المدينة وتبعه بنو عدي فجعلوا يقولون: يا أبا عبد الله أوصنا رحمك الله فقال: اتقوا الله واقرؤوا القرآن فإنه نور الليل المظلم وهدى النهار على ما كان من جهد وفاقة فإذا عرض البلاء فاجعلوا أموالكم دون أنفسكم فإذا نزل البلاء فاجعلوا أنفسكم دون دينكم؛ واعلموا أن الخائب من خاب دينه، والهالك من هلك دينه؛ ألا لا فقر بعد الجنة ولا غنى بعد النار لأن النار لا يفك أسيرها ولا يبرأ ضريرها ولا يطفأ حريقها؛ وإنه ليحال بين الجنة وبين المسلم بملء كف دم أصابه من دم أخيه المسلم؛ كلما ذهب يدخل من باب من أبواب [الجنة] وجده يرد عنه، واعلموا أن الآدمي إذا مات فدفن لأنتنَ أولُ(5) من بطنه فلا تجعلوا مع النتن خبثاً، اتقوا الله في الأموال والدماء واجتنبوها ثم سلم وركب. (الشعب 4/346-347 وفضائل القرآن لأبي عبيد ص78 والسير 3/174)
__________
(1) لعل الأقرب (عبداً)، ويكون التقدير: رحم الله عبداً---؛ أو كن عبداً---؛ أو نحو هذين التقديرين.
(2) قال بكر: اجتهدوا في العمل، فإن قصَّر بكم ضعفٌ فكُفّوا عن المعاصي. (عيون الأخبار 2/369)
(3) قال تعالى (بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة 81].
(4) هو جندب بن عبد الله البجلي، صحابي جليل رضي الله عنه وعن الصحابة كلهم.
(5) أي قبل كل شيء.(1/240)
قرأ الحسن (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)(1) فقال: في الأموال والأولاد؛ (حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ، كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ)(2) قال: وعيد بعد وعيد ---. (المصنف 7/221)
تلا الحسن (واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً)(3)؛ الآية قال كان حوت حرمه الله في يوم وأحله لهم في سوى ذلك فكان يأتيهم في اليوم الذي حرم عليهم كأنه المخاض ما يمتنع من أحد فجعلوا يهمون ويمسكون حتى أخذوه، فأكلوا والله بها أوخم أكلة أكلها قومٌ قط(4)، أبقى(5) خزياً في الدنيا وأشد عقوبة في الآخرة؛ وأيم الله للمؤمن أعظم حرمة عند الله من حوت، ولكن الله جعل موعد قوم الساعة، والساعة أدهى وأمر. (المصنف 7/200 وانظر الفتاوى الكبرى 3/117 وزاد المسير 3 /278)
قال الحسن في قوله تعالى (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ [وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا])(6): تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام. (المصنف 7/200)
قال الحسن: الصراط حسك وسعدان، الزالون والزالات يومئذ كثير. (المصنف 7/187)
قال عبد الواحد بن زيد: قلت للحسن: يا أبا سعيد اخبرني عن رجل لم يشهد فتنة ابن المهلب، إلا أنه [قال] بلسانه ورضي بقلبه؛ قال: يا ابن أخي كم يد عقرت الناقة؟ قال: قلت: يد واحدة؛ قال: أليس قد هلك القوم جميعاً، برضاهم وتمالئهم. (الزهد ص289 وانظر البيان والتبيين 3/130)
__________
(1) التكاثر (1).
(2) التكاثر (2-3).
(3) الأعراف (163)؛ وتتمة الآية: (وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ )
(4) في الأصل (لوط) مكان (قط)، وهو تحريف مفسد للمعنى.
(5) خبر لمبتدأ مقدر بـ(هي)، والمراد الأكلة.
(6) الحج (2).(1/241)
دعي سعيد بن المسيب للبيعة للوليد وسليمان(1) بعد عبد الملك بن مروان، فقال: لا أبايع اثنين ما اختلف الليل والنهار، فقيل: أدخلْ من الباب واخرج من الباب الآخر(2)، قالَ: والله لا يقتدي بي أحد من الناس! فجلده مئة وألبسه المسوح(3). (2/170 ومختصر منهاج القاصدين ص122)
لما ضُرب سعيدٌ بن المسيب وأقيم للناس قالت له امرأة: يا شيخ لقد أُقِمْتَ مقام خزية! فقال: من مُقام الخزية فررت. (العقد الفريد 10/64)(4)
العمر وسرعة انقضائه، والدنيا وزوالها
قال الحسن: غَدا كلُّ امرىءٍ فيما يُهِمُّهُ، ومنْ هُمَّ بشيءٍ أكْثَرَ مِنْ ذكْرهِ، إنه لا عاجلةَ لمنْ لا آخرةَ لهُ، ومن آثَرَ دنياهُ على آخرتِهِ فلا دنيا له ولا آخرة. (2/144)
قال أبو حازم: يا بني لا تقتدِ بمن لا يخاف الله بظهرِ الغيبِ ولا يعفُّ عن العيب ولا يصلح عند الشيب. (3/230)
__________
(1) ابنَي عبد الملك.
(2) طلبوا منه التظاهر بالبيعة أمام الناس دون أن يفعلها؛ أي ليظن الناس أنه دخل ليبابع.
(3) قال عبد الرحمن بن عبد القاري لسعيد بن المسيب حين قدمت البيعة للوليد وسليمان بالمدينة بعد موت أبيهما: إني مشير عليك بخصال ثلاث، قال: وما هي؟ قال: تعتزل مقامك-----؛ قال: ما كنت لأغير مقاماً قمته منذ أربعين سنة، قال: تخرج معتمراً، قال: ما كنت لأنفق مالي وأجهد بدني في شيء ليس لي فيه نية، قال: فما الثالثة؟ قال: تبايع، قال: أرأيت إن كان الله أعمى قلبك كما أعمى بصرك فما عليّ؟! قال: وكان أعمى؛ قال رجاء: فدعاه هشام [بن إسماعيل أمير المدينة] إلى البيعة فأبى فكتب فيه إلى عبد الملك فكتب إليه عبد الملك: ما لك ولسعيد؟! ما كان علينا منه شيء نكرهه! فأما إذ فعلت فاضربه ثلاثين سوطاً وألبسه تبان شعر وأوقفه للناس لئلا يقتدي به الناس ---. (2/170-171)
(4) وفي رواية (الحلية) (2/172) أنه قالت له امرأة لما جُرِّد ليضرب: إن هذا لمقام الخزي! فقال لها سعيد: من مقام الخزي فررنا.(1/242)
قال الحسن: ابن آدم طأ الأرض بقدمك فإنها عن قليل قبرك! إنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطتَ من بطن أمك. (2/155)
قال فرقد السبخي: مكتوب في التوراة: يا ابن آدم أنت في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك. (عقلاء المجانين ص7)
قيل لابن يزيد الرقاشي: أكان أبوك يتمثل من الشعر شيئاً؟ قال: كان يتمثل:
إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى يدني من الأجل
(صف3/290)
قال الحجاج بن أبي عيينة: كان جابر بن زيد [أبو الشعثاء] يأتينا في مصلانا، قال: فأتانا ذات يوم عليه نعلان خلقان، فقال: مضى من عمري ستون سنة، نعلاي هاتان أحب إلي مما مضى، إلا يكُ خيراً قدمته. (3/88)
قال الحسن: لا تخالفوا الله عن أمره، فإن خلافاً عن أمره عمران دار قضى الله عليها الخراب. (2/155)
كان الحسن يقول: اجعل الدنيا كالقنطرة تجوز عليها ولا تَعْمُرُها. (الكامل 1/98)
قيل للحسن البصري: كيف ترى الدنيا؟ قال: شغلني توقع بلائها عن الفرح برخائها. (أدب الدنيا والدين ص464)
قال مجاهد: قال عيسى بن مريم عليهما السلام: من ذا الذي يبني على موج البحر داراً؟! تلكم الدنيا فلا تتخذوها قراراً؛ وقال أيضاً: الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها. (عقلاء المجانين ص14)
قال الحسن: ما مثلنا مع الدنيا إلا كما قال كُثَيِّر عزة:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومةً لدينا ولا مَقْليَّةً إن تَقَلَّتِ(1)
فما أحد فيها إلا وفي كل حال غرض لأسهم ثلاث: سهم بلية وسهم رزية وسهم منية. (فيض القدير 3/551)
قال إبراهيمُ بنُ عيسى اليشكري: سمعتُ الحسنَ إذا ذكرَ صاحبَ الدنيا يقولُ: واللهِ ما بقيتْ لهُ ولا بقيَ لها ولا سَلِمَ من تبعتِها ولا شرِّها ولا حسابِها، ولقد أُخرجَ منها في خِرَق. (2/144)
__________
(1) تقلت: تبغضت، وفيه إلتفات من الخطاب إلى الغيبة؛ ونسب صاحب (العقد الفريد) (10/79) هذا الكلام دون ما بعد البيت إلى الشعبي.(1/243)
قال الحسن البصري: نعمت الدار كانت الدنيا للمؤمن وذلك أنه عمل قليلاً وأخذ زاده منها إلى الجنة؛ وبئست الدار كانت للكافر والمنافق؛ وذلك أنه تمتع ليالي وكان زاده منها إلى النار(1). (الزهد ص284 وجامع العلوم والحكم ص295)
ذُكرت الدنيا عند الحسن فقال:
أحلامُ نوْمٍ أو كظلٍّ زائلِ إنَّ اللبيبَ بمثلها لا يُخدَعُ
(ذم الدنيا 23)
قال الحسن: مسكين ابن آدم، رضي بدار حلالها حساب وحرامها عذاب، إن أخذه من حِلِّه حوسب بنعيمه، وإن أخذه من حرام عُذِّب به، ابن آدم يستقل ماله ولا يستقل عمله، يفرح بمصيبته في دينه، ويجزع من مصيبته في دنياه. (ذم الدنيا 211)
قال الحسن: ابنَ آدم أنت أسير في الدنيا، رضيت من لذتها بما ينقضي ومن نعيمها بما يمضي، ومن ملكها بما ينفد، فلا تجمع الأوزار لنفسك، ولأهلك الأموال، فإذا متَّ حملت الأوزار إلى قبرك، وتركتَ أموالك لأهلك. (العقد الفريد 10/156)
قال روح(2) بن ثور: قلت للحسن: رجلان طلب أحدهما الدنيا بحلالها فاصابها ووصل منها الرحم وقدم منها لنفسه وجانب الاخر الدنيا؟ قال: أحبهما إليَّ الذي جانب الدنيا؛ قال: قلت: يا أبا سعيد طلبها بحلالها فاصابها فوصل منها رحمه وقدم منها لنفسه! قال: أحبهما إليَّ الذي جانب الدنيا. (الزهد ص273 و رك 554 وذم الدنيا 151 والزهد وصفة الزاهدين ص55)
__________
(1) قال الحسن في قوله تعالى (ولنعم دار المتقين) قال: الدنيا، لأنهم نالوا بالعمل فيها ثواب الآخرة. (زاد المسير 4/443)
(2) في الزهد وصفة الزاهدين: (الفضل) بدل (روح). وهاتان روايتان أخريان:
قال المعلى بن زياد الفردوسي: قلت للحسن: رجلان تفرغ أحدهما للعبادة والآخر يسعى على عياله أيهما افضل؟ قال: الذي تفرغ للعبادة أفضل. (الزهد ص271)
قالوا: وقد سئل الحسن البصرى فقيل له: رجلان أحدهما تارك للدنيا والآخر يكتسبها ويتصدق بها فقال التارك لها أحب إلي. (عدة الصابرين ص212)(1/244)
قال المعلى بن زياد: سمعت الحسن يحلف بالله: ما عال مقتصد قط. (الزهد ص274 وانظر رك ص191)
قال الحسن: ابن آدم لست بسابق أجلك ولا ببالغ أملك، ولا مغلوب على رزقك، ولا بمرزوق ما ليس لك، فعلامَ تقتل نفسك؟! (العقد الفريد 10/143)
قال الحسن في قول الله تعالى ([و]َجَمَعَ فَأَوْعَى)(1): ابن آدم سمعت وعيد الله وقد جمعت الدنيا. (تاريخ واسط ص182)
قال الحسن: ما أعطي رجل من الدنيا شيئاً إلا قيل له: خذه ومثله من الحرص. (البيان والتبيين 3/146)
قال الحسن: أبى الله تعالى أن يعطي عبداً من عباده شيئاً من الدنيا إلا بعوض خطر مثله من بلاء: إما عاجلاً وإما آجلاً. (2/155-156)
قال إبراهيم: ما أكلَ آكِلٌ أكلةٌ تسرُّهُ ولا شربَ شربةٌ تسرُّه إلا نقصَ بها من حظه من الآخرة. (4/212)
قال ابن المبارك: بلغنا عن الحسن أنه كان يقول: خباث كل عيدانك مضضنا فوجدنا عاقبته مراً(2). (رك ص191)
قال الحسن: ما بسطها لأحد إلا اغتراراً. (رك ص191)
قال يونس: كان الحسن ربما ذكر عمر [بن الخطاب] فيقول: والله ما كان بأولهم إسلاماً ولا بأفضلهم نفقة في سبيل الله ولكنه غلب الناس بالزهد في الدنيا والصرامة في أمر الله ولا يخاف في الله لومة لائم. (المصنف 7/95)
قال الحسن: والله ما أصبحَ في الدنيا ما يَغُرُّ ذا قلبٍ، وكلكم ذو قلب؛ ولكن ما يغرُّ ذا قلب حي. (ذم الدنيا 379)
__________
(1) المعارج (18).
(2) خباث بوزن قطام معدول من الخبث وحرف النداء محذوف أي يا خباث والمض مثل المص يريد إنا جربناك وخبرناك فوجدنا عاقبتك مرة. كذا في (لسان العرب) (2/143).(1/245)
رأى الحسن رجلاً يكيد بنفسه(1) فقال: إنَّ أمراً هذا آخره لجدير أن يزهد في أوله، وإن أمراً(2) هذا أوله لجدير أن يخاف آخره(3). (البيان والتبيين 3/127)
قال الحسن: ابن آدم لا تعلق قلبك في الدنيا فتعلقه بشر معلق، قطِّعْ حبالَها وغَلِّقْ أبوابَها، حسبك أيها المرء ما بلغك المحل، حمقاً تباهي بمالك، وحمقاً تباهي بولدك، وأنت في غم الساعة، هيهات هيهات، ذهبت الدنيا لحالٍ وبقيت الأعمال قلائد في أعناق بني آدم. (ذم الدنيا 405 وانظر عدة الصابرين ص192-193)
قال الحسن: وإذا شئت رأيته فاسقاً يتعمق بثلاثين ألفاً إلى النار! ما له قاتله الله باع خلاقه من الله بثمن عنز؟! وإن شئت رأيته مضيعاً مريداً في سبيل الشيطان، لا واعظ له من نفسه ولا من الناس. (الأدب المفرد ص61)
قال الحسن: إن المؤمن إذا طلب حاجة إن تيسرت قبلها بميسور الله عز وجل عليها وحمد الله عليها؛ وإن لم تتيسر تركها ولم يتبعها نفسه. (الزهد ص280)
قال الحسن: إن الرجل ليدخل المدخل ويجلس المجلس أو يأكل الأكله فيغير قلبه فاياكم والدخول على أهل البسطة، فإن الدخول عليهم يغير قلب الرجل فيتسخط ما في يديه. (الزهد ص281)
__________
(1) أي يجود بها عند الاحتضار.
(2) تصحفت (أمراً) في الموضعين في (البيان والتبيين) إلى (امرأً).
(3) وهذه رواية أخرى: نظر الحسن إلى ميت يدفن فقال والله إن أمرا هذا أوله لحري أن يخاف آخره وإن أمرا هذا آخره لحري أن يزهد في أوله (الزهد الكبير ص216 وفيض القدير 2/177)(1/246)
كان الحسن يقول: لما بعث الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلم يعرفون وجهه ويعرفون نسبه قال: هذا نبيي هذا خياري خذوا من سنته وسبيله، أما والله ما كان يغدى عليه بالجفان ولا يراح، ولا يغلق دونه الأبواب، ولا تقوم دونه الحجبة؛ كان يجلس بالأرض ويوضع طعامه بالأرض ويلبس الغليظ ويركب الحمار ويردف خلفه وكان يلعق يده، وكان يقول الحسن: ما أكثر الراغبين عن سنة نبي الله صلى الله عليه وسلم وما أكثر التاركين لها(1) ثم إن علوجاً فساقاً أكلة ربا وغلول قد شغلهم ربي عز وجل ومقتهم زعموا أن لا بأس عليهم فيما أكلوا وشربوا وستروا البيت وزخرفوها ويقولون: (مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)(2)؛ ويذهبون بها إلى غير ما ذهب الله بها إليه؛ إنما جعل الله ذلك لأولياء الشيطان؛ الزينة ما ركب ظهره، والطيبات ما جعل الله تعالى في بطونها؛ فيعمد أحدهم إلى نعمة الله عليه فيجعلها ملاعب لبطنه وفرجه وظهره؛ ولو شاء الله إذ أعطى العباد ما أعطاهم أباح ذلك لهم؛ ولكن تعقبها بما تسمعون: (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)(3)؛ فمن أخذ نعمة الله وطعمته أكل بها هنيئاً مريئاً، ومن جعلها ملاعب لبطنه وفرجه وعلى ظهره جعلها وبالاً [عليه] يوم القيامة. (2/153-154)
كان الحسن يقول: يا ابن آدم لا ترضِ أحداً بسخط الله ولا تطيعن أحداً في معصية الله، ولا تحمدن أحداً على فضل الله، ولا تلومن أحداً فيما لم يؤتك الله؛ إن الله خلق الخلق والخلائق فمضوا على ما خلقهم عليه فمن كان يظن أنه مزداد بحرصه في رزقه فليزدد بحرصه في عمره أو يغير لونه أو يزيد في أركانه أو بنانه. (الطبقات 7/174)
__________
(1) انظر (تعظيم قدر الصلاة) (2/677).
(2) الأعراف (32).
(3) الأعراف (31).(1/247)
قال الحسن: إذا سرك أن تنظر إلى الدنيا بعدك فانظر إليها بعد غيرك. (الشعب 7/407 والبيان والتبيين 3/144)
سئل الحسن عن أنفع الأدب فقال: التفقه في الدين والزهد في الدنيا والمعرفة بما لله عليك. (المدارج 2/376)
قال الحسن: لما حضرت سلمان الوفاة بكى فقيل له: ما يبكيك يا أبا عبد الله وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: ما أبكي جزعاً على الدنيا ولكن عهد إلينا عهدا فتركنا عهده عهد إلينا أن يكون بلغة أحدنا من الدنيا كزاد الراكب فلما مات نظر فيما ترك فإذا قيمته ثلاثون درهماً. (الشعب 7/306)
قال الحسن: كان يضرب مثل ابن آدم مثل رجل حضرته الوفاة فحضر أهله وعمله فقال لأهله: امنعوني قالوا إنما نمنعك من أمر الدنيا فأما هذا فلا نستطيع أن نمنعك منه فقال لماله: أنت تمنعني؟ قال: إني كنت زيناً زينت في الدنيا أما هذا فلا أستطيع أن أمنعك عنه، قال: فوثب عمله فقال: أنا صاحبك الذي أدخل معك قبرك وأزول معك حيثما زلت؛ قال: أما والله لو شعرت لكنت آثر الثلاثة عندي؛ قال الحسن: فالآن فآثروه على ما سواه. (المصنف 7/246)
قال الحسن: ما مال إلى أم دفر، يعني الدنيا، أحد قط إلا نسي العهد، أصحاب نبي فما سواهم. (زهد هناد 1/320)
قال الحسن: ما الدنيا كلها من أولها إلى آخرها إلا كرجلٍ نام نومةً فرأى في منامه ما يحب ثم انتبه. (ذم الدنيا 249)
قال يونس بن عبيد: ما شبهت الدنيا إلا كرجل نائم فرأى في منامه ما يكره وما يحب فبينما هو كذلك إذ انتبه. (ذم الدنيا 21 و صف3/307)
قال الحسن: إنما الدنيا لعقة. (الطبقات 7/174)
قال الحسن: يحشر [الله] الأمراء والأغنياء فيقول لهم: إنكم كنتم حكامَ المسلمين وأهلَ الغنى، قِبَلكم طلبتي. (الزهد ص285-286)(1/248)
جاء الحسن ابنه فقال له: سألت عن الرجل؟ فقال نعم، لرجل كان خطب ابنته، قال: مولى عتاقة هو؟ قال: نعم، فكان أصحابه وجدوا عليه من ذلك! قال: اذهب فزوجه، كم أعطاك؟ قال: أعطاني عشرة آلاف، قال: عشرة آلاف؟! عشرة آلالف؟! إذا أخذت منه عشرة آلاف فأي شيء يبقى؟! دع له ستة آلاف وخذ منه أربعة آلاف؛ فقال له رجل: يا أبا سعيد إن له معي لمئة ألف! قال: مئة ألف؟! مئة ألف؟! لا والله ما في هذا خير لا تزوجه!! فجاءت أم الجارية فقالت: أيش تحرمنا رزقاً ساقه الله إلينا؟! قال: اخرجي أيتها العلجة! قال الراوي: كأني أنظر إليها عجوز طويلة. (الطبقات 7/172)
قال الحسن: لو لم تكن لنا ذنوب نخاف على أنفسنا منها إلا حبنا الدنيا لخشينا على أنفسنا منها ان الله عز وجل يقول: (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ)(1)، أريدوا ما أراد الله عز وجل(2). (الزهد ص283 والزهد الكبير ص137 وانظر ذم الدنيا 394)
قال الحسن: طالبانِ يَطلبانِ: فطالب الآخرة مدرِكٌ بما طلَب، لا فوْتَ به عليه، وطالب الدنيا عسى أن يصيب منها قليلاً، وما يفوته منها أكثر، إن الدنيا لما فتحت على أهلها كلبوا والله أشد الكلَبِ(3)حتى عدا بعضهم على بعض بالسيف، وحتى استحل بعضهم حرمة بعض، فيا لهذا فساداً ما أكثره. (ذم الدنيا 430 وانظر لسان العرب 1/724)
قال الحسن: إن قوماً أكرموا الدنيا فصلبتهم على الخشب، فأهينوها فأهنأ ما تكون إذا أهنتموها. (ذم الدنيا 489 وانظر الطبقات 7/168 والزهد ص282 والمصنف 7/198 وذم الدنيا 314 والسير 4/579 وعدة الصابرين ص185)
قال الحسن: إنما الدنيا غموم وهموم، فإذا رأى أحدكم منها سروراً فهو ربح. (ذم الدنيا 389)
__________
(1) الأنفال (67).
(2) قال ابن السماك: قال رجل لإخوانه: تعالوا حتى نستغفر الله من شيء لا يستغفر الناس منه، حبنا الدنيا. (ذم الدنيا 395)
(3) جاء في اللسان: كلب على الشيء كلبا حرص عليه حرص الكلب واشتد حرصه.(1/249)
سُئل الحسن عن قوله عز وجل: (ثَمَنَاً قَلِيْلاً)(1) ما الثمن القليل؟ قال: الدنيا بحذافيرها. (ذم الدنيا 497)
كان الحسن وقتادة يقولان: ثلاث لا يسأل عنهن ابن آدم، وما خلاهن ففيه المسألة والحساب إلا ما شاء الله: كسوة يواري بها سوأته، وكسرة يشد بها صلبه، وبيت يكنه من الحر والبرد. (ورع أحمد ص188 وانظر زهد هناد 1/317)
قال الحسن: والله ما أبالي شرقت أم غربت. (عدة الصابرين ص185)
كان الحسن يقول: يا ابن آدم لا غنى بك عن نصيبك من الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أفقر---. (البيان والتبيين 3/136)
قال الحسن في قوله تعالى (وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)(2) قال: قدم الفضل وأمسك ما يبلغك. (المصنف 7/199)
قال عون في قوله عز وجل (وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)(3) قال: إن ناساً يضعونها على غيرِ موضعِها؛ إنما هيَ: أقبِلْ على طاعة ربِّك وعبادته(4). (4/247)
قال مجاهد في قوله تعالى (وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)(5) قال: عمرك أن تعمل فيه لآخرتك. (اقتضاء العلم العمل ص97)
دخل الحسن المسجد فإذا أصوات لثقيف فقال: ما هذه الأصوات؟ قالوا: ثقيف تختصم في عقدها، فقال: لزنبيل من تراب أحب إلي من كل عقدة(6) لثقيف. (زهد هناد 1/321 والمتمنين ص55)
قال رجل عند الحسن: الشحيح أعذر من الظالم، فقال الحسن: الظالم أعذر من الشحيح، الظالم يغفر الله له ظلمه والشحيح يدخله الله بشحه النار. (الإشراف على منازل الأشراف ص275)
__________
(1) وردت هذه الكلمة في أكثر من سورة، منها البقرة (41 و79 و174)، وآل عمران (77) والتوبة (9) والنحل (95).
(2) القصص (97).
(3) القصص (97).
(4) فالمراد اغتنام الحياة الدنيا في طاعة الله فهي مزرعة الآخرة وأوان البذر.
(5) القصص (97).
(6) العقدة بضم العين: الضيعة والعقار الذي اعتقده صاحبه ملكاً، والمكان الكثير الشجر والنخل والكلأ الكافي للإبل، وكل أرض مخصبة؛ كذا في القاموس المحيط.(1/250)
قال الحسن: إذا رأيتَ الرجلَ ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة. (ذم الدنيا 465)
قال الحسن: علامة حب الدنيا أن يكون دائمَ البطنة قليلَ الفطنة، همه بطنه وفرجه؛ فهو يقول في النهار: متى يدخل الليل حتى أنام؟ ويقول في الليل: متى أصبح من الليل حتى ألهو وألعب وأجالس الناس في اللغو وأسأل عن حالهم؟ (فيض القدير 2/78)
قال عبيد الله بن شميط: سمعت أبي إذا وصف أهل الدنيا قال: دائم البطنة قليل الفطنة، إنما همه بطنه وفرجه وجلده، يقول: متى أصبح فآكل وأشرب وألهو وألعب؟! ومتى أمسي فأنام؟! جيفة بالليل بطال بالنهار. (3/127)
دعي الحسن إلى وليمة فلما فرغ قال له صاحب البيت: انظر ما ترى؟ قال: أراك علقت خرقاً وزخرفت زخرفاً وقلت للناس: تعالوا فانظروا؛ فأما أهل الدنيا فغروك، وأما أهل الآخرة فمقتوك. (ورع أحمد ص137)
قال الحسن: والله ما أحد من الناس بسط الله عز وجل له دنيا فلم يخف أن يكون قد مكر به فيها إلا كان قد نقص علمه وعجز رأيه؛ وما أمسكها الله عز وجل عن عبد فلم يظن أنه قد خير له فيها إلا كان قد نقص علمه وعجز رأيه(1). (الزهد ص37 وذم الدنيا 42)
مر على الحسن برذون يهملج فقال(2): أوَما قد علمت أن الساعة إذا أقبلت أقبلت بغم. (المصنف 7/189)
قال الحسن: فوالله لقد رأيناهم صوراً ولا عقولاً وأجساماً ولا أحلاما،ً فراش نار وذباب طمع؛ يغدون بدرهمين ويروحون بدرهمين؛ يبيع أحدهم دينه بثمن العنز. (فيض القدير 3/211)
__________
(1) قال الحسن: من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له؛ ومن قتر عليه فلم ير أنه ينظر له فلا رأي له؛ ثم قرأ هذه الآية (حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون)؛ وقال: مكر بالقوم ورب الكعبة، أعطوا حاجتهم ثم أخذوا. (الكبائر ص227 وزاد المسير 3 /39 وانظر ذم الدنيا 43)
(2) أي لراكبه.(1/251)
قال الحسن: يعلمون متى زرعهم ومتى حصادهم؛ ولقد بلغ والله من عِلم أحدهم بالدنيا أنه ينقرُ الدرهمَ بظفره فيخبرك بوزنه ولا يحسن يصلي. (زاد المسير6/289)
قال الحسن في قوله تعالى (وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ)(1): والله ما ضربهم بعصا ولا قهرهم على شيء إلا أنه دعاهم إلى الأماني والغرور. (زاد المسير 6/450)
قال الحسن: ما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت وعملت الإنس. (دقائق التفسير 2/136)
قال مسروق: ما امتلأ بيت حبرة(2) إلا امتلأ عبرة(3). (2/97)
أخذَ مسروقٌ بيدِ ابن أخٍ لهُ فارتقَى بهِ على كنَاسةٍ بالكوفةِ، قال: ألا أُريكَ الدنيا؟! هذهِ الدنيا! أكلُوها فأفنَوها، لبسُوها فأبْلَوها، ركبُوها فأنْضَوها، سفكُوا فيها دماءَهم، واستحلُّوا فيها محارمَهم، وقطعوا فيها أرحامَهم. (2/96-97)
عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر أن مسروقاً كان يركب كل جمعة بغلة له ويجعلني خلفه فيأتي كناسة بالحيرة قديمة فيحمل عليها بغلته ثم يقول: الدنيا تحتنا. (المصنف 30593)
قال هرم بن حيان: ما آثر الدنيا على الآخرة حكيم، ولا عصى الله كريم. )صف3/214)
قال أبو بكر بن أبي الأسود: قال أبو مسلم الخولاني: ما طلبت شيئاً من الدنيا قط فولي لي، حتى لقد ركبت مرة حماراً فلم يمش فنزلت عنه وركبه غيري فعدا، قال: فأريتُ في منامي كأن قائلاً يقول لي: لا يحزنك ما زوي عنك من الدنيا وإنما يفعل ذلك بأوليائه وأحبائه وأهل طاعته؛ قال: فسري عني. (صف4/212-213)
قال سعيدٌ بن المسيب: إن الدنيا نذلةٌ، وهي إلى كل نذلٍ أمْيَلُ، وأنذلُ منها مَن أخذَها بغيرِ حقِّها وطلبَها بغيرِ وجهِها ووضعَها في غيرِ سبيلِها. (2/170)
قال مطرفٌ: إنَّ أقبَحَ ما طُلِبَتْ(4) به الدنيا عملُ الآخرةِ. (2/208)
__________
(1) سبأ (21).
(2) أي نعمة وسروراً.
(3) أي بكاء.
(4) يجوز أيضاً ضبطُها هكذا (طَلَبْتَ).(1/252)
قال الحسن: دخلنا على صفوان بن محرز وهو في بيت من قصب قد مال عليه فقلنا: لو أصلحته! فقال: كم من رجل مات وهذا قائم على حاله. (فيض القدير 5/485)
قال صفوان: إذا رجعت إلى أهلي وقدموا إلي رغيفاً فطرد عني الجوع فجزى الله الدنيا عن أهلها شراً. (2/214)
قال بكر بن عبد الله المزني: يكفيك من دنياك ما قنعت به ولو كفاً من تمر وشربة من ماء وظل خباء؛ وكل ما يفتح عليك من الدنيا شيء ازدادت نفسك لها مقتاً. (2/225)
قال بكر بن عبد الله: المستغني عن الدنيا بالدنيا كمطفئ النار بالتبن(1). (البصائر والذخائر 1/14)
قال العلاء بن زياد: رأيت الناس في النوم يتبعون شيئاً فتبعته فإذا عجوز كبيرة هتماء عوراء عليها من كل حلية وزينة فقلت ما أنتِ؟! قالت: أنا الدنيا، قلت: أسأل الله تعالى أن يُبَغِّضَكِ إلي، قالت: نعم إن أبغضت الدراهم(2). (2/243-244 و 244 وذم الدنيا 28 والمصنف 30519 الزهد)
قال ابن سيرين: إن رجلين اختصما في تخوم أرض فأوحى الله عز وجل اليها كلميهما، فقالت: يا مسكينان، أو يا شقيان، تختصمان فيَّ ولقد ملكني ألفُ أعور سوى الأصحاء؟! (2/276)
__________
(1) ورد هذا الأثر في (أدب الدنيا والدين) (ص520) منسوباً إلى عبد الله بن مسعود.
(2) لفظ (المصنَّف): رأيت في النوم كأني أرى عجوزاً كبيرة عوراء العين والأخرى قد كادت تذهب عليها، والحلية شيء عجب، قلت: ما أنت؟! قالت: الدنيا، قلت: أعوذ بالله من شرك! قالت: إن سرك أن تعوذ من شري فأبغض الدرهم.
ويشبه هذا ما رواه ابن أبي الدنيا في (ذم الدنيا) (30) وأبو نعيم في (الحلية) (8/304) عن أبي بكر بن عياش قال: رأيت في النوم عجوزاً شمطاء مشوهة تصفق بيديها وخلفها خلق يتبعونها، ويصفقون ويرقصون، فلما كانت بحذائي أقبلت عليَّ فقالت: لو ظفرتُ بكَ صنعتُ بك ما صنعتُ بهؤلاء؛ قال راويه: ثم بكى أبو بكر وقال: رأيت هذا قبل أن أقدم إلى بغداد.(1/253)
كان لمالك بن دينار جار كما شاء الله أن يكون، وكان إذا استقبله مالك يقول: يا أبا فلان إن كان المال الذي قد جمعته من حلال فقد آن لك أن تقتصر عليه، وإن كان من حرام فقد آن لك أن تردها على أربابها فكان من جوابه لمالك: يا مالك إنا ندق الدنيا دقاً دقاً، فقال مالك: إذاً والله يأتيك الموت فيدقك دقاً دقاً، فضرب الدهر ضرباته ما ضرب فمرض ذلك الرجل فدخل عليه مالك بن دينار فقال له: كيف تجدك؟ قال الرجل: بشر، فقال مالك: وكيف ذاك؟ قال الرجل: أتاني آت من ربي فقال: أبشرْ بشرٍّ. (الزهد الكبير ص173)
قال ابراهيم العكاشي: سمعت ابراهيم بن أدهم رحمه الله يحدث الأوزاعي قال: قال مالك بن دينار: من عرف الله تعالى لفي شغل شاغل، الويل كل الويل لمن ذهب عمره في الدنيا باطلاً. (العظمة ص328-329 والحلية 8/23)
قال مالك: إن الله جعل الدنيا دار مفر والآخرة دار مقر فخذوا لمقركم من مفركم وأخرجوا الدنيا من قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم؛ ففي الدنيا حييتم ولغيرها خلقتم؛ إنما مثل الدنيا كالسم أكله من لايعرفه واجتنبه من عرفه، ومثل الحية مسها لين وفي جوفها السم القاتل يحذرها ذوو العقول ويهوي إليها الصبيان بأيديهم. (صف3/285)
قال مالك: اتقوا السحارة، فإنها تسحر قلوب العلماء؛ يعني الدنيا. (2/364)
قال مالك: حُلّوا أنفسكم من الدنيا واثقاً واثقاً(1). (2/374)
قال حماد بن زيد: شكا رجل إلى يونس بن عبيد وجعاً يجده في بطنه فقال له يونس: يا عبد الله هذه(2) دار لا توافقك فالتمس داراً توافقك. (صف3/305)
قال فرقدٌ السبخيُّ: اتخذوا الدنيا ظِئراً والآخرةَ أمًّا، أما ترى الصبيَّ يُلقَى على الظئرِ فإذا ترعرعَ وعرفَ والدتَهُ ترك الظئرَ وألقَى نفسَهُ على والدتِهِ فإنَّ الآخرةَ أمُّكم، يوشِكُ أن تجْتَرَّكُم. (3/45)
__________
(1) يقول: تخلصوا من الدنيا وتخففوا منها شيئاً فشيئاً.
(2) أي الدنيا.(1/254)
قال عبيدُ اللهِ بنُ شميطٍ بن عجلان: سمعتُ أبي يقولُ ونظرَ إلى الناسِ يومَ عيدِهم في محشرِهم ومجمعِهم، فقالَ: هل تَرى إلا خرقةً تبلَى ولحماً يأكلُهُ الدودُ غداً. (3/129)
قال شميطٌ بن عجلان: إنَّ اللهَ تعالى وسَمَ الدنيا بالوحشةِ ليكونَ أُنْسَ المنقطعينَ إليه. (3/130 والرسالة المغنية ص62)
قال شميط: رجلانِ معذَّبانِ في الدنيا: رجلٌ أُعطِيَ الدنيا فهو متعوبٌ فيها ومشغولٌ بها، وفقيرٌ زُوِيَتْ عنه الدنيا فنفسُه تتقطَّعُ عليها حسراتٍ. (3/131)
قال شميط: بئس العبد عبد خلق للعبادة فصدته الشهوات عن العبادة، بئس العبد عبد خلق للعاقبة فصدته العاجلة عن العاقبة فزالت العاجلة وشقي بالعاقبة. (3/129)
قال شميط: كل يوم ينقص من أجلك وأنت لا تحزن، وكل يوم تستوفي من رزقك؛ قد أعطيت ما يكفيك وأنت تطلب ما يطغيك! لا بقليل تقنع ولا من كثير تشبع! فكيف [لا] يستبين للعالم جهلُ من قد عجز عن شكر ما هو فيه وهو مغتر في طلب الزيادة؟! أم كيف يعمل للآخرة من لا تنقضي من الدنيا شهوته ولا تنقضي فيها رغبته؟! فالعجب كل العجب لمصدق بدار الحق وهو يسعى لدار الغرور. (3/129)
كان محمد بن كعب القرظي يقول: الدنيا دار فناء ومنزل بلغة، رغبتْ عنها السعداء، وأسرعت من أيدي الأشقياء، فأشقى الناس بها أرغب الناس فيها، وأسعد الناس فيها أزهد الناس بها، هي المعذبة لمن أطاعها، المهلكة لمن اتبعها، الخائنة لمن انقاد لها، علْمها جهل، وغناؤها فقر، وزيادتها نقصان، وأيامها دول. (3/213)
قال أبو حازم: إنَّ قليلَ الدنيا يشغلُ عن كثيرِ الآخرةِ؛ وإنَّ كثيرَها يُنسيكَ قليلَها؛ وإنْ كنتَ تطلب من الدنيا ما يَكفيك فأدنى ما فيها يجزيك(1)؛ وإن كانَ لا يُغنيكَ ما يكفيك فليس فيها شيء يغنيك. (3/232)
__________
(1) تصحفت في الأصل إلى (يحزنك).(1/255)
ذكر أبو حازم الدنيا فقال: لئن نجونا من شرِّ ما أصبنا منها ما يضرنا ما زوي عنا منها؛ ولئن كنا قد تورطنا فيها فما طلبُ ما بقي منها إلا حُمْقٌ. (3/242)
لما ثقل عبد الملك بن مروان رأى غسالاً يلوي بيده ثوباً فقال: وددت أني كنت غسالاً لا أعيش إلا بما أكتسبه يوماً فيوماً فبلغ ذلك أبا حازم فقال: الحمد لله الذي جعلهم يتمنون عند الموت ما نحن فيه، ولا نتمنى نحن عنده ما هم فيه. (أدب الدنيا والدين ص121)
قال أبو حازمٍ: ما مضى من الدنيا فحلمٌ، وما بقي فأمانيٌّ. (3/238)
قال أبو حازم: إنما بيننا وبين الملوك يوم واحد، أما أمس فقد مضى فلا يجدون لذته، وإنا وهم من غد على وجل، وإنما هو اليوم، فما عسى أن يكون؟!(1) (أدب الدنيا والدين ص121)
قال سفيان بن عيينة: سمعت أبا حازم يقول: أوحى الله عز وجل إلى الدنيا من خدمك فأتعبيه ومن خدمني فاخدميه. (الزهد الكبير ص65)
قال أبو حازم: ما في الدنيا شيءٌ يسرُّكَ إلا وقد أُلْزِقَ بهِ شيءٌ يَسوءُك. (3/239)
قال عبيد بن عمير بن قتادة الليثي: الدنيا أمد والآخرة أبد. (ذم الدنيا 161 والحلية 3/273)
قال وهْبٌ بن منبه: مثَلُ الدنيا والآخرة مثلُ ضرتينِ: إنْ أرضيتَ إحداهما أسخطتَ الأخرى(2). (4/51)
قال ميمون بن مهران: الدنيا كلها قليل، وقد ذهب أكثر القليل، وبقي قليل من القليل(3). (ذم الدنيا 80 وانظر رقم 99 منه)
__________
(1) قال أبو حازمٍ: ما مضى من الدنيا فحلمٌ، وما بقي فأمانيٌّ. (3/238)
(2) ورد هذا الكلام أو نحوه من قول عدد من الصحابة والتابعين وغيرهم من أهل العلم والحكمة.
(3) قال ابن السماك كما في (سير أعلام النبلاء) (8/328-329): الدنيا كلها قليل والذي بقي منها قليل، والذي لك من الباقي قليل، ولم يبق من قليلك إلا قليل، وقد أصبحت في دار العزاء، وغداً تصير إلى دار الجزاء، فاشتر نفسك لعلك تنجو.(1/256)
كان ميمون يقولُ: الدنيا حلوةٌ خضرةٌ قد حُفَّت بالشهواتِ، والشيطانُ عدوٌّ حاضرٌ فطنٌ وأمرُ الآخرةِ آجلٌ، وأمرُ الدنيا عاجلٌ. (4/90)
قال عون بن عبد الله: الدنيا والآخرة في قلب ابن آدم ككفتي الميزان ترجح إحداهما بالأخرى(1)؛ وما تحاب رجلان في الله إلا كان أفضلهما أشدهما حباً لصاحبه. (صف3/101 والحلية 4/251)
قال عمرو: من طلبَ الآخرةَ أضرَّ بالدنيا؛ ومن طلبَ الدنيا أضرَّ بالآخرةِ؛ فأضرّوا بالفاني للباقي. (5/95)
قال عون: زهرة الدنيا غرور ولو تَحَلَّتْ بكل زينة، والخير الأكبر غداً في الآخرة؛ فنحن بين مسارع ومقصر. (ذم الدنيا 71)
قال سعيد بن جبير: إنما الدنيا جمعة من جمع الآخرة. (ذم الدنيا 251 والحلية 4/279-280)
قال عروة بن الزبير: إذا رأى أحدكم شيئاً من زينة الدنيا وزهرتها فليأت أهله وليأمرهم بالصلاة وليصطبر عليها، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ([وَ]لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ)(2) الآية. (2/179)
قال محمد بن سوقة: أمرانِ لو لم نعذَّبْ إلا بهما لكنا مستحقينَ بهما العذابَ: أحدُنا يزدادُ في دنياه فيفرحُ فرحاً ما علِمَ اللهُ منهُ قط أنه فرِحَ بشيءٍ قطُّ زِيدَ في دينِهِ مثله، وأحدُنا ينقصُ من دنياه فيحزنُ حزناً ما عَلِمَ اللهُ منه قط أنه حزنَ على شيء نقصه من دينِهِ مثله. (5/4)
قال بلالٌ بن سعد(3)
__________
(1) وفي لفظ: (بقدرِ ما ترجح إحداهما تخفُّ الأخرى). (ذم الدنيا 292)
(2) طه (131).
(3) قال الأوزاعي: كان بلال بن سعد من العبادة على شيء لم نسمع بأحد قوي عليه، كان له في كل يوم وليلة اغتسالة. (الشعب 3/169)
قال عبد الله بن المبارك: كان محل بلال بن سعد بالشام ومصر كمحل الحسن بالبصرة. (صف 4/217 وتاريخ دمشق 10/485)(1/257)
: عبادَ الرحمنِ لو سلِمتم من الخطايا فلم تعملوا فيما بينَكم وبينَ اللهِ خطيئةً ولم تتركوا للهِ طاعةً إلا جهدتم أنفسكم في أدائها إلا حبّكم الدنيا لوسعكم ذلك شراً إلا أن يتجاوز الله ويعفو. (5/231)
قال يزيد بن ميسرة: إن رجلاً ممن مضى جمعَ مالاً وولداً فأوعى؛ ولم يدعْ صنفاً من أصنافِ المالِ إلا اتخذَه؛ وابتنى قصراً وجعلَ عليهِ بابينِ وثيقينِ، وجعلَ عليهِ حرساً من غِلمانِه؛ ثم جمعَ أهلَه وصنعَ لهمْ طعاماً وقعدَ على سريرِهِ ورفعَ إحدى رجلَيْهِ على الأخرى وهمْ يأكلونَ! فلما فرغوا من طعامِهم قالَ: يا نفسُ انعمي لسنينَ!! قد حمعتُ ما يكفيكِ!! قالَ: فلم يفرغْ مِن كلامِه حتى أقبلَ إليهِ ملَكُ الموتِ في هيئةِ رجلٍ عليهِ خُلْقانٌ(1) من الثياب، في عنقِه مخلاةٌ يتشبهُ بالمساكينَ، فقرعَ البابَ قرعةً أفزعـ[ـتْـ]ـه وهو على فرشه، فوثبَ إليهِ الغلمةُ فقالوا: ما أنتَ؟! وما شأنُك؟! قال: ادعوا لي مولاكم! قالوا: إليكَ يخرجُ مولانا؟!! قال: نعم فادعوه، قال: فأرسلَ إليهم مولاهم: من هذا الذي قرعَ البابَ؟! فأخبروه بهيئته قال: فهلا فعلتم وفعلتم! قالوا: قد فعلنا؛ ثم أقبلَ أيضاً فقرعَ البابَ قرعةً هي أشدُّ من الأولى! قالَ: وهو على فراشه؛ قالَ: فوثبَ إليه الحرس؛ فقالوا: قد جئتَ أيضاً!! قال: نعم، فادعوا لي مولاكم وأخبِروه أني ملَكُ الموت! قالَ: فلما سمعوه أُلقيَ عليهم الذلُّ والتخشعُ فجاء الحرسَ فأخبروا سيدَهم بالذي قالَ لهم ملَكُ الموت؛ فقال لهم سيدُهم: قولوا له قولاً ليناً وقولوا له: هل يأخذ معه أحداً غيرَه! قالَ: فأتَوه فأخبَروه بذلك، قالَ: فدخلَ عليهِ فقالَ: قم فاصنع في مالكَ ما أنتَ صانعٌ فإني لستُ بخارجٍ منها حتى أُخرِجَ نفسَكَ! وأُحضِرَ مالَه بينَ يديه؛ فقال حينَ رآه: لعنكَ اللهُ مِن مالٍ! فأنت شغلتَني عن عبادةِ ربي ومنعتَني أن أتخلّى لربي! فأنطقَ اللهُ المالَ فقالَ: لِمَ
__________
(1) جمعُ خَلِق، أي بالي.(1/258)
سبَبْتَني وقد كنتَ وضيعاً في أعينِ الناسِ فرفعتُك لِما يُرى عليكَ مِن أثري، وكنتَ تحضرُ سُدَدَ الملوك(1) فتدخلُ، ويحضرُ عبادُ اللهِ الصالحونَ فلا يدخلونَ؟! ألم تكنْ تخطبُ بناتِ الملوكِ والسادةِ فتُنْكَحُ ويخطبُ عبادُ اللهِ الصالحونَ فلا يُنْكَحون؟! ألم تكن تنفقني في سُبُلِ الخبثِ ولا أتعاصى ولو أنفقتَني في سبيل الله لم أتعاصَ عليك؟ فأنتَ ألْوَمُ فيهِ مني؛ إنما خُلقتُ أنا وأنتم يا بني آدمَ من ترابٍ، فمنطلِقٌ بإثمٍ ومنطلقٌ ببِرٍّ؛ فهكذا يقولُ المالُ! فاحذروا؛ وقَبَضَ ملَكُ الموتِ روحَه فمات(2). (5/240-241)
قال عبد الرحمن بن حفص القرشي: بعث بعض الأمراء إلى عمر بن المنكدر بمال فجاء به الرسول فوضعه بين يديه فجعل عمر ينظر إليه ويبكي ثم جاء أبو بكر فلما رأى عمر يبكي جلس يبكي لبكائه ثم جاء محمد فجلس يبكي لبكائهما فاشتد بكاؤهم جميعا فبكى الرسول أيضا لبكائهم ثم أرسل إلى صاحبه فأخبره بذلك فأرسل ربيعة بن أبي عبد الرحمن ليستعلم علم ذلك البكاء فجاء ربيعة فذكر ذلك لمحمد فقال محمد: سله فهو أعلم ببكائه، فاستأذن عليه ربيعة فقال: يا أخي ما الذي أبكاك من صلة الأمير؟ قال: والله إني خشيت أن تغلب الدنيا على قلبي فلا يكون للآخرة فيه نصيب فذلك الذي أبكاني؛ قال: وأمر بالمال فتصدق به على فقراء أهل المدينة؛ قال: فجاء ربيعة فأخبر الأمير بذلك فبكى وقال: هكذا يكون والله أهل الخير رحمه الله. )صف2/145-146)
كراهةُ الموتِ وحبُّه
__________
(1) أي أبوابهم، وفي (مختار الصحاح) (ص123): (السُّدَّةُ بالضم: باب الدار، وفي الحديث (الشعث الرءوس الذين لا تفتح لهم السُّدَد).
(2) في ثبوت هذه القصة نظر ولكن مقصودنا من إيرادها الاعتبار بمعانيها.(1/259)
قال ابن زيد: أتى صفوان بن سليم إلى محمد بن المنكدر وهو في الموت فقال: يا أبا عبد الله كأني أراك قد شق عليك الموت، قال: فما زال يهون عليه الأمر وينجلي عن محمد حتى لكأن في وجهه المصابيح ثم قال له محمد: لو ترى ما أنا فيه لقرت عينك ثم قضى رحمه الله. (صف2 / 143)
قال الحسن: لو علم ابن آدم أن له في الموت راحة وفرجاً لشق عليه أن يأتيه الموت لما يعلم من فظاعته وشدته وهوله! فكيف وهو لا يعلم ما له في الموت من نعيم دائم أو عذاب مقيم؟! (6/305)
قال الحسن: لما كرهت الأنبياء الموت هون الله عليهم بلقائه لما أحبوه من تحفة وكرامة، حتى إن نفس أحدهم تنزع من بين جنبيه وهو يحب ذلك لما قد مثل له. (جامع العلوم والحكم 370)
قال رجل للحسن: إني أخاف الموت وأكرهه؟! فقال: إنك خلفت مالك، ولو قدمته لسرك اللحاق به. (أدب الدنيا والدين ص220-221)
قال علي بن عثام: قال مطرف بن عبد الله: هو الموت نخاوضه ولا بد منه، قيل(1): وما نخاوضه؟ قال: نروغ عنه(2). (الزهد الكبير ص231)
قال مطرف بن عبد الله: إنَّ هذا الموتَ قد أفسدَ على أهلِ النعيمِ نعيمَهم فاطلبوا نعيماً لا موتَ فيه(3). (2/204)
قال الحسنُ: فضحَ الموتُ الدنيا فلم يتركْ فيها لذي لبٍّ فرحاً. (2/149)
قال مالك بن دينار: أتت على رجل ممن كان قبلكم خمسمئة سنة؛ ثم أُتي بعدها فقيل له: أتحب الموت؟ قال: واحزناه من يحب أن يفارقَ هذا النسيم؟!! (2/380)
لقيَ خيثمةُ بنُ عبد الرحمنِ محاربَ بنَ دثارٍ فقالَ لهُ: كيفَ حبُّكَ للموتِ؟ قالَ: ما أحبُّه! قالَ خيثمةُ: إنَّ هذا بكَ لنقصٌ كبيرٌ. (4/115)
قال أبو عبد رب(4) لمكحول: يا أبا عبدِ اللهِ أتحبُّ الجنةَ؟ قال: ومن لا يحبُّ الجنةَ؟! قال: فأحبَّ الموتَ فإنكَ لن ترى الجنةَ حتى تموتَ. (5/177)
__________
(1) كانت (قال).
(2) نخاوضه من الخيض.
(3) يعني الجنة.
(4) انظر ترجمته في باب الكنى من (تقريب التهذيب).(1/260)
لما حضرَ أبا عطيةَ المذبوحَ الموتُ جزعَ منه فقالوا له: أتجزعُ مِن الموتِ؟! قالَ: ما لي لا أجزعُ وإنّما هي ساعةٌ ثم لا أدري أينَ يُسلَكُ بي(1). (5/154)
عن القاسم بن مخَيْمِرَة الهمداني(2) أنه قال لام ولد له: يا فلانة ما لي كنت أتمنى الموت فلما نزل بي كرهته؟! (6/81)
قال بكر بن عبد الله المزني: قال مطرف بن عبد الله: لو علمت متى أجلي لخشيت علي ذهاب عقلي ولكن الله منَّ على عباده بالغفلة عن الموت؛ ولولا الغفلة ما تهنأوا بعيش ولا قامت بينهم الأسواق. (صف3/225)
قال مطرف: قصر علم ابن آدم به ليهنئه عيشه. (رك ص527)
قال عمر بن عبد العزيز: لولا أن تكونَ بدعةً لحلفتُ أن لا أفرحَ من الدنيا بشيءٍ أبداً حتى أعلمَ ما في وجوهِ رسلِ ربي إليَّ عند الموتِ(3) وما أحبُّ أنْ يُهَوَّنَ عليَّ الموتُ لأنه آخرُ ما يؤجَرُ عليه المؤمن(4). (5/316)
قال إبراهيم النخعي: كانوا يستحسنون(5) شدة النزع للسيئة قد عملها لتكفرها(6). (4/232)
__________
(1) الانسان لا يحب بطبعه الألم ولا الموت، بل هو مجبول على حب السعادة والحياة، ولكن الموت إنما أحبه من أحبه من المؤمنين لغيره لا لذاته كما ترى المريض يحب أن تجرى له عملية جراحية فهو لا يحبها لذاتها ولكن لما يرجوه من الشفاء التي هي من أسبابه. وأما من كره الموت من أهل العلم والصلاح فهو إنما كرهه لما يخافه مما وراءه.
(2) كوفي الأصل ثم نزل الشام
(3) قال عمر بن ذر مثل هذه المقالة فقال: لولا أني أخاف أن لا يكون براً من القسم لأقسمت أن لا أفرح [في مطبوعة الحلية لا أخرج] بشيء من الدنيا حتى أعلم ما لي في وجوه رسل الله إليّ. (5/112)
(4) وقال في رواية: ما أحب أن تهون علي سكرات الموت لأنها آخر ما يكفر به عن المسلم. (5/317)
(5) في صفة الصفوة (يستحبون) مكان (يستحسنون) والمعنى متقارب.
(6) كانت (لتكون بها)؛ وقال إبراهيم: كانوا يستحبون المريض أن يجهد عند الموت. (صف3/89)(1/261)
قال خيثمة بن عبد الرحمن: كان يعجبهم أن يموت الرجل عند خير يعمله إما حج وإما عمرة وإما غزاة وإما صيام رمضان. (صف3/93)
قصر الأمل ، وكثرة ذكر الموت
كان عمر [بن عبد العزيز] يقول: أيها الناس إنما خلقتم للأبد، ولكنكم تنقلون من دار إلى دار. (الكامل 1/210)
قال أبو حازم: ابنَ آدم بعد الموت يأتيك الخبر. (3/240)
قال الحسن: كان آدم عليه السلام في الجنة وأمله وراء ظهره وأجله بين عينيه، فلما خرج من الجنة جعل أمله بين عينيه وأجله وراء ظهره. (الزهد الكبير ص232-233)
قال الحسن: السهو والأمل نعمتان عظيمتان ولولاهما ما مشى الناس في الطريق. (فيض القدير 6/282)
قال معتمر بن سليمان: سقط بيت لنا كان أبي يكون فيه، فضرب أبي فسطاطاً فكان فيه حتى مات، فقيل له: لو بنيته! فقال: الأمر أعجل من ذلك، غداً الموت. (3/30)
قال أبو موسى: كنا عند الحسن فجاء ابنه فقال: أي أبه إن هذا السهم قد انكسر! فنظر إليه الحسن فقال: الأمر أعجل من ذلك. (2/156)
قال هشام بن حسان: قيل للحسن: لم لا تغسل قميصك؟ قال: الأمر أسرع من ذلك. (الزهد الكبير ص226)
قال جعفر بن سليمان: سمعت مالك بن دينار يحدث عن الحسن قال: أربع من أعلام الشقاء: قسوة القلب وجمود العين وطول الأمل والحرص على الدنيا(1). (ذم الدنيا 36)
قال الحسن: إعمل لدنياك كأنك ميت غداً، ولا تجمعْ كأنك تعيش أبداً. (البصائر والذخائر 1/14)
قال الحسن: لا تخرج نفس ابن آدم من الدنيا إلا بحسرات ثلاث: أنه لم يشبع مما جمع، ولم يدرك ما أمَّل، ولم يحسن الزاد لما قدم عليه. (ذم الدنيا 275)
كان الحسن إذا أصبح وإذا أمسى قال لأهله ثلاث مرات: يا أهلاه الثوي فيكم قليل. (الزهد ص271)
قال الحسن: الدنيا ثلاثة أيام؛ أما أمس فقد ذهب بما فيه، وأما غداً فلعلك أن لا تدركه، فاليوم لك فاعمل فيه. (الزهد الكبير ص196)
__________
(1) أخرجه البيهقي في (الزهد الكبير) (ص195) موقوفاً على مالك.(1/262)
قال الحسن ذات يوم لجلسائه: يا معشر الشيوخ ما ينتظر بالزرع إذا بلغ؟ قالوا: الحصاد؛ قال: يا معشر الشباب إن الزرع قد تدركه العاهة قبل أن يبلغ. (الزهد الكبير ص201)
قال الحسن: يا ابن آدم ضع قدمك على أرضك، واعلم أنها بعد قليل قبرُك. (المصنف 7/237)
قال الحسنُ: ابنَ آدمَ إنما أنت أيامٌ، كلما ذهب يومٌ ذهبَ بعضُك. (2/148 ومختصر منهاج القاصدين ص77)
قال الحسن: الموت معقود بنواصيكم، والدنيا تطوى من ورائكم. (جامع العلوم والحكم ص382)
قال شميط بن عجلان: إن المؤمن يقول لنفسه: إنما هي ثلاثة، فقد مضى أمس بما فيه، وغداً أمل لعلك لا تدركه، إنك إن كنت من أهل غد فإن غداً يجيء برزق غد، إن دون غد يوماً وليلة تخترم فيها أنفس كثيرة لعلك المخترم فيها، كفى كل يوم همه. (الزهد الكبير ص196)
بينا سليمان بن عبد الملك في المسجد الحرام إذ أتيَ بحجرٍ منقوشٍ فطلبَ من يقرأه له، فأتي بوهب بن منبه فقرأه فإذا فيه: ابنَ آدم إنك لو رأيتَ قربَ ما بقي من أجلِكَ لزهدتَ في طويل أملِكَ ولرغبتَ في الزيادة من عملك، ولقصَّرتَ من حرصِك وحيلِك، وإنما يلقاكَ غداً ندمُكَ وقد زلت بكَ قدمُكَ وأسلمَكَ أهلُكَ وحشمُك، فبانَ منك الوليد القريب، ورفضك الوالدُ والنسيب، فلا أنتَ إلى دنياكَ عائد، ولا في حسناتك زائد، فاعمل ليومِ القيامةِ قبلَ الحسرةِ والندامة؛ فبكى سليمان بكاء شديداً. (4/69)
قال عونٌ بن عبد الله: ما أحدٌ ينزلُ الموتَ حقَّ منزلتِه إلا عدَّ غداً ليسَ من أجلِه؛ كم مِن مستقبلٍ يوماً لا يستكملُهُ وراجٍ غداً لا يبلغُه! لو تنظرونَ إلى الأجلِ ومسيرِه لأبغضتم الأملَ وغرورَه. (4/243)
قال أبو عثمان النهدي: بلغت نحواً من ثلاثين ومئة سنة وما مني شيء إلا قد عرفت النقص فيه إلا أملي فإني أرى أملي كما هو. (الزهد الكبير ص235)(1/263)
عن سويد الكلبي أن زر بن حبيش كتب إلى عبد الملك بن مروان كتاباً يعظه فيه، فكان في آخر كتابه: ولا يطمعنك يا أمير المؤمنين في طول الحياة ما يظهر من صحة بدنك فأنت أعلم بنفسك واذكر ما تكلم به الأولون:
إذا الرجال ولدت أولادها وبليت من كبر أجسادها
وجعلت أسقامها تعتادها فتلك زروع قد دنا حصادها
فلما قرأ الكتاب بكى حتى بل طرف ثوبه ثم قال: صدق زر، ولو كتب إلينا بغير هذا كان أرفق. (صف3/32)
قال الحسن: لم يزل الليل والنهار سريعين في نقص الأعمار وتقريب الآجال، هيهات قد صحبا نوحاً وعاداً وثمود وقروناً بين ذلك كثيراً، فأصبحوا قد قدموا(1) على ربهم ووردوا على أعمالهم، وأصبح الليل والنهار غضين جديدين، لم يبلهما ما مرا به، مستعدين لمن بقي بمثل ما أصابا به من مضى. (جامع العلوم والحكم ص383)
كان الربيع بن خثيم يقول: أكثروا ذكر هذا الموت الذي لم تذوقوا قبله مثله. (2/114)
قيل للربيع: لو جالستنا! فقال: لو فارق ذكرُ الموتِ قلبي ساعة فسد علي. (2/116)
قال سعيدٌ بن جبير: لوْ فارقَ ذكرُ الموتِ قلبي خشيتُ أنْ يَفسدَ عليَّ قلبي. (4/279)
قال صلة بن أشيم لمعاذة: ليكن شعارك الموت فإنك لا تبالين على يسر أصبحت من الدنيا أم على عسر. (صف3/219)
قال شميطٌ بن عجلان: مَن جعلَ الموتَ نصْبَ عينيهِ لم يبالِ بضيقِ الدنيا ولا بسعتِها. (3/129)
كتبَ عمرُ بن عبد العزيز إلى بعض أهلِ بيتِه: أما بعدُ فانكَ إن استشعرتَ ذكرَ الموتِ في ليلِكَ أو نهارِكَ بغَّضَ إليكَ كلَّ فانٍ وحبَّبَ إليكَ كلَّ باقٍ، والسلام. (5/264)
حدّثَ أبو عمران الجوني عن غيرِه قالَ: من قرَّبَ الموتَ منْ قلبِهِ(2) استكثَرَ ما في يديه. (2/312)
قال مجمعٌ بن يسار التيمي: ذِكْرُ الموتِ غِنى. (5/90)
قال رجاءُ بنُ حيوَةَ: ما أكثَرَ عبدٌ ذكرَ الموتِ إلا تركَ الحسدَ والفرحَ. (5/173)
__________
(1) في الأصل (أقدموا).
(2) أي أكثر من ذكر الموت واستحضار أحواله فيه.(1/264)
قال الحسن: ما أكثر عبد ذكر الموت إلا رأى ذلك في عمله ولا أطال الأمل(1) عبد قط إلا أساء العمل(2). (الزهد ص269)
قال الحسن: ما ألزم عبدٌ قلبَه ذكر الموت إلا صغرت الدنيا عنده وهان عليه جميع ما فيها. (شرح الصدور ص22)
عن الأوزاعي قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز رحمه الله برسالة لم يحفظها غيري وغير مكحول: أما بعد فإنه من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير ومن عد كلامه من عمله قل كلامه فيما لا ينفعه. (الصمت ص61)
كانت معاذة العدوية إذا جاء الليل تقول: هذه ليلتي التي أموت فيها فما تنام حتى تصبح، فإذا جاء النهار قالت: هذا يومي الذي أموت فيه، فما تنام حتى تمسي، وإذا جاء البرد لبست الثياب الرقاق حتى يمنعها البرد من النوم. (التهجد ص180)
قال عمر بن عبد العزيز: لقد نغص هذا الموتُ على أهلِ الدنيا ما هم فيهِ من غضارةِ الدنيا وزهوتِها، فبينا هم كذلكَ وعلى ذلكَ أتاهم جادٌّ من الموتِ فاخترمَهم مما هم فيه! فالويلُ والحسرةُ هنالكَ لمن لم يحذرِ الموتَ ويذكرْه في الرخاءِ فيقدم لنفسه خيراً يجده بعدما فارقَ الدنيا وأهلَها؛ ثم بكى عمر حتى غلبه البكاء فقام(3). (5/264)
دخلَ عنبسةُ بنُ سعيدٍ بنِ العاص(4) على عمرَ بن عبد العزيز فقال: يا أميرَ المؤمنينَ إنَّ منْ كانَ قبلَك منَ الخلفاءِ كانوا يُعطونَ عطايا منعتناها! ولي عيالٌ وضيعةٌ أفتأذنُ لي أن أخرجَ إلى ضيعتي وما يُصلِحُ عيالي؟! فقال عمر: أحبُّكم إلينا من كفانا مؤنتَه! فخرجَ مِن عندِه فلما صار عندَ الباب قالَ عمر: أبا خالد، أبا خالد! فرجعَ فقالَ: أكثرْ مِن ذكرِ الموتِ فإنْ كنتَ في ضيقٍ من العيشِ وسَّعه عليكَ، وإن كنتَ في سعةٍ من العيشِ ضيقَه عليك. (5/265)
__________
(1) في الأصل (أمل)، وتصح بحذف همزة (أطال).
(2) قال الحسن: ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل. (الشعب 7/407 والبيان والتبيين 3/144)
(3) أي من مجلسه.
(4) وهو من أقارب عمر.(1/265)
كان عمرُ بن عبد العزيز إذا ذكرَ الموتَ اضطربتْ أوصاله(1). (5/316)
قال ميمونُ بنُ مهران: دخلتُ على عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ يوماً وعنده سابقٌ البربريُّ الشاعرُ وهو يُنشدُ شِعراً، فانتهى في شعره إلى هذه الأبيات:
فكم مِن صحيحٍ بات للموتِ آمناً
أتته المنايا بغتةً بعدما هجع
فلم يستطع إذ جاءه الموتُ بغتةً
فراراً ولا منه بقوتِهِ امتنع
فأصبحَ تَبكيهِ النساءُ مقنَّعاً
ولا يسمعُ الداعي وإنْ صوتَه رفع
وقُرِّبَ مِن لحدٍ فصار مقيلَهُ
وفارقَ ما قد كانَ بالأمس قد جمع
فلا يتركُ الموتُ الغنيَّ لمالهِ
ولا معدما في المال ذا حاجة يدع
قال: فلم يزلْ عمرُ يبكي ويضطربُ حتى غُشيَ عليهِ فقمنا فانصرفنا عنه. (5/318)
خطب عمرُ بن عبد العزيز الناسَ فقالَ: أيها الناسُ لا يبعُدَنَّ عليكم ولا يطولَنَّ يومُ القيامةِ، فإنه مَن وافته منيتُه فقد قامتْ عليهِ قيامتُه، لا يستطيعُ أن يزيدَ في حسَنٍ ولا يُعتَبُ مِن سيءٍ، ألا لا سلامةَ لامرىءٍ في خلافِ السنةِ، ولا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الله، ألا وإنكم تُسمونَ الهاربَ مِن ظلمِ إمامِه: العاصي! ألا وإنَّ أولاهما بالمعصيةِ الإمامُ الظالمُ. (5/325)
قال يزيد بن أبان الرقاشي: ابن آدم إنك رقيق(2) على الناس غليظ بعضك على بعضك! لو نُعِيَ إليك بعضُ أهلك بكيت، وأنت كلَّ يوم تُنعى إليك نفسك [وَ]لا تبكيها(3)! (محاسبة النفس 116)
قال عيسى بن فروخ: كان الربيع بن خثيم إذا كان الليل ووجد غفلة الناس خرج إلى المقابر فيقول: يا أهل المقابر كنا وكنتم، فإذا اصبح فكأنه نشر من قبر. (صف3/61)
أحوال التابعين ووصاياهم عند الموت
__________
(1) وورد في رواية أن عمر كان إذا ذكر الموت انتفض انتفاض الطير وبكى حتى تجري دموعه على لحيته. (5/316)
(2) يحتمل أن تكون (رفيق) بالفاء.
(3) وفي مثل ذلك يقول الشاعر:
فيبكي على ميت ويغفل نفسه*** **كأنَّ بكفيه أماناً من الردى
وما الميت المقبور في صدر يومه*أحقُّ بأن يبكيه من ميت غدا(1/266)
قال يعلى بن عبيد: حدثنا أبو حيان عن أبيه قال: كتب الربيع بن خثيم وصية: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الربيع بن خثيم، وأشْهَدَ عليه، وكفى بالله شهيداً وجازياً لعباده الصالحين مثيباً، إني رضيت بالله رباً، وبالاسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وأن يعبد اللهَ من أطاعني في العابدين، ويَحْمَدَه في الحامدين، وينصح لجماعة المسلمين". (روضة العقلاء ص197-198)
ذكر ابن عون أن الحسن لما حضرته الوفاة استرجع ثم اخرج يده فحركها ثم قال: هذا والله منزلة صبر واستسلام. (وصايا العلماء ص78)
أوصى خيثمة أن يدفن في مقبرة فقراء قومه. (صف 3/94)
قال علقمة للأسود: إن أنا متُّ(1) فلقني لا إله إلا الله، فإذا أنا مت فلا تنعني لأحد فإني أخاف أن يكون نعياً كنعي الجاهلية فإذا خرجتم بجنازتي من الدار فاغلقوا الباب حين يخرج آخر الرجال وعلى أول النساء فإنه لا أرب لي فيهن(2)
__________
(1) أي اقتربت من الموت.
(2) وهذه بعض أخبار وأقوال العلماء والعبّاد والحكماء والزهاد والأدباء والأذكياء، عند موتهم أو موت أصحابهم وأقاربهم ونحوهم، أنقلها من كتاب الدرة في التعازي والمراثي من (العقد الفريد) لأحمد بن محمد بن عبد ربّه؛ فإنه قد قال في أول الكتاب المذكور:
(قد مضى قولنا في الزُهد ورجاله المَشْهورين ؛ ونحن قائلون بعَون الله وتوفيقه في النَّوادب والمراثي والتَعازي بأبلغ ما وَجدناه من الفِطر الذكيّة والألفاظ الشجيّة التي تُرقّ القلوبَ القاسية وتذيب الدموع الجامدة، مع اختلاف النَّوادب عند نزول المصائب.
فنادبة تُثير الحُزْن من رَبْضَته وتَبعث الوَجْدَ من رَقْدَته بصوتٍ كترجيع الطَير، تُقَطع أنفاسَ المآتم وتترك صدْعاً في القلوب الجلامد.
ونادبة تَخْفِض من نَشِيجها وتقْصِد في نحيبها وتَذهب مَذْهَب الصبر والاستسلام والثِّقة بجزيل الثواب ).
ثم ذكر قصصاً وأخباراً انتقيت منها ما يلي:
قال عمر بن ذَرّ : سألتُ أبي : ما بالُ الناس إذا وعظتَهم بَكَوْا وإذا وَعظهم غيرُك لم يَبكوا؟ قال : يا بُني ليست النائحة الثَكلى مثلَ النائحة المُستأجَرَة .
وقال الأصمعيّ : قلتُ لأعرابيّ : ما بالُ المراثي أشرفُ أشعاركم؟ قال : لأنّا نقولُها وقلوبنا مُحْترقة .
وقالت الحكماء : أعظم المصائب كلّها انقطاعُ الرّجاء .
وقالوا : كلُّ شيء يَبدو صغيراً ثم يَعْظُم، إلا المصيبةَ، فإنها تبدو عظيمة ثم تصْغُر .
الأصمعيّ عن مُعْتمر عن أبيه قال : لقِّنوا مَوْتاكم الشَّهادة فإذا قالوها فدَعوهم ولا تُضْجروهم .
وقال الحسن : إذا دخلتم على الرجل في المَوت فبَشِّروه لِيَلْقى ربّه وهو حسن الظنّ به وإذا كان حيًّا فخَوِّفوه .
أبو الحُبَاب قال : لما احتضر مُعاذ قال لخادمته : (وَيْحكِ ! هل أصْبَحْنَا قالت : لا ثم تركها ساعةً، ثم قال لها : انظُري، فقالت : نعم، قال : أعوذ باللهّ من صباحٍ إلى النار) ؛ ثم قال : (مَرْحباً بالموت مَرْحباً بزائر جاء على فاقة، أفلح من نَدِم ؛ اللهم إنك تعلم أني لم أحِبّ البقاء في الدنيا لِجَرْي الأنهار وغرْس الأشجار ولكن لمُكابدة اللَّيل الطويل وظمأ الهَواجر في الحرّ الشديد ومُزاحمة العُلماء بالرًّكب في مجالس الذِّكر) .
ولما حضرت الوفاةُ عمرَ بنَ عُتبه قال لرفيقه : نَزَلَ بي الموتُ ولم أتأهّب له؛ اللهم إنك تعلم أنه ما سَنح لي أمران لك في أحدهما رضاً ولي في الآخر هوًى إلا آثرْتُ رِضَاك على هَوَاي .
ابن السمَّاك قال : دخلتُ على يزيد الرَّقاشي وهو في الموت فقال لي : سَبَقَني العابدون وقُطع بي والهْفَاه ! .
موسى الأسْوارِيّ قال : دخلتُ على أزْدامَرْد وهو ثَقيل فإذا هو كالخُفَّاش لم يَبْقَ منه إلا رَأْسُه فقُلْت له : يا هذا ما حالُك؟ قال : وما حالُ من يُرِيد سفراً بعيداً بغير زاد؟ ويَنطلق إلى ملك عَدْل بغير حُجَّة؟ ويَدْخُل قبراً مُوحشاً بغير مُؤْنس؟
قال عمرُ بن عبد العزيز لأبي قِلاَبة وقد وَلي غَسْلَ ابنِه عبدِ الملك : إذا غَسّلته وكَفَّنتَه فآذنِّي قبل أن تُغَطِّي وجهه؛ فَفَعل، فنظر إَليه، وقال : رَحمك اللّه يا بُني وغَفَر لك .
ولما مات محمد بن الحجَّاج جَزع عليه جَزَعاً شديداً وقال : إذا غسَّلتموه وكَفَّنتُموه فآذنوني ففعلوا فنظر إليه وِقال مُتمثّلاً :
الآن لما كنتَ أكملَ مَنْ مَشى واْفترّ نابُك عن شَباة القارِحِ
وتكاملتْ فيك المُروءة كُلُّها وأعنْتَ ذلكَ بالفعال الصالح
فقيل له : اتّق اللّه واسترجع؛ فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون .
وقال عمر بن عبد العزيز لابنه عبد الملك : كيف تجدك يا بُني؟ قال : أجِدُني في الموت فاحْتَسِبْني، فإنّ ثوابَ اللّه خيرٌ لك منّي؛ قال : واللَّه يا بُني لأن تكون في ميزاني أحبَّ لي أن أكونَ في ميزانك؛ قال : وأنا واللهّ لأن يكون ما تُحبُّ أحبَّ إليّ من أن يكون ما أحِب .
لما احتضر عمرُ بن عبد العزيز رحمه الله استأذن عليه مَسْلمة بنُ عبد الملك فأذِن له، وأمره أن يُخفِّف الوَقْفة، فلما دخل وقف عند رأسه، فقال : جَزاك اللّه يا أميرَ المؤمنين عنّا خيراً، فلقد ألنتَ لنا قُلوباً كانت علينا قاسية، وجعلت لنا في الصالحين ذِكْراً .
القاسم بن محمد عن عائشة أمّ المؤمنين رضي اللهّ عنها : أنها دخَلَت على أبيها في مرضه الذي مات فيه فقالت له : يا أبَتِ اعهد إلى خاصتك وأنْفذ رأيك في عامّتك واْنقُل من دار جهازك إلى دار مُقامك، وإنك مَحْضُور ومًتَصِل بقلبي لوْعتُك، وأرى تخاذل أطْرافك وانتقاع لَوْنك؛ فإلى اللّه تَعْزيتي عنك، ولديه ثوابُ صَبْري عليك، أَرْقأ فلا أُرْقأ وأشْكُو فلا أُشْكَى .
فرفعِ رأسه فقال : (يا بُنيّة هذا يوم يُحَلّ فيه عن غِطائي، وأعاين جزائي، إنْ فرحاً فدائم، وإنْ تَرَحاً فمُقيم .
إني اضطلعت بإمامة هؤلاء القوم حين كان النكوص إضاعةً والحذر تَفْريطاً فشَهيدي اللّه، ما كان بقلبي إلا إياه، فتَبلَغتُ بصَحْفتهم، وتعلّلتُ بدرّة لقْحَتهم، وأقمت صَلاَي معهم، لا مُخْتالاً أشِراً ولا مُكابِراً بَطِراً، لم أعْدُ سَدَّ الجوْعة وتوْريةَ العَوْرة، طَوًى مُمغص تَهْفُو له الأحْشاء وتَجِب له الأمعاء، واضطررت إلى ذلك اضطرار الجَرِض إلى الماء المَعيف الآجن.
فإذا أنا مِتُّ فردِّي إليهم صَحْفتهم ولَقْحَتهم وعَبْدَهم ورحَاهم ودِثَارة ما فوقي اتقيت بها أذى البرد، ووِثارة ما تحتي اتقيتُ بها أذىَ الأرْض)؛ كان حَشْوهُما قِطَع السَّعف .
ودخل عليه عمر فقال : يا خليفةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد كلفتَ القومَ بعدك تَعَباً، ووَلَّيتهم نَصَباً؛ فهيهات مِن شقّ غُبَارك؛ فكيف باللحاق بك ؟
الفُضَيل بن عِيَاض قال : ما جَزع أحدٌ من أصحابنا عند الموت ما جزع سُفْيان الثوريّ فقلنا : يا أبا عبد الله ما هذا الجَزَع أليس تَذْهَب إلى من عَبَدْته وفَرَرْت ببدنك [لعلها بدينك] إليه فقال : ويحكم ! إني أسْلُك طريقاً لم أعرفه وأقْدم علِى ربٍّ لِم أره .
وقال صالح المًرِّي : دخلتُ على الحسن وهو في الموت وهو يُكثِر الاسترجاعَ فقال له ابنه : أمثْلك يَسترجع على الدنيا؟! قال : يا بُني ما أسْتَرجع إلا على نفسي التي لم أُصَب بمثلها قَطًّ .
الشَّعبي عن إبراهيم قال : لا يكون البُكاء إلا من فَضْلٍ " قُوة " فإذا اشتد الحُزن ذَهَبَ البكاء .
فلئن بَكَيْناهُ لَحُقّ لنا ولئن تَرَكْنا ذاك للصَّبرِ
فَلِمِثْله جَرَت العُيونُ دماً ولمثله جَمَدت ولم تَجْرِ
مر الأحنف بامرأة تبكي مَيتاً ورجل ينهاها فقال : دَعْها فإنها تَنْدُب عَهْداً قريباً وسَفراً بعيداً .
وقال أبو بكر بن عيّاش : نزلت بي مصيبة أوْجعتني فذكرتُ قولَ ذي الرُّمة :
لعل انحدار الدَّمع يُعْقِبُ راحةً من الوَجْد أو يَشْفي شَجِيّ البَلاَبِل
فَخَلوتُ فبكيتُ فسلوتُ .
قال بعضُهم : خرجنا مع زَيْد بن عليّ نُريد الحجَّ فلما بلغنا النِّبَاج وصرنا إلى مقابرها التفتَ إلينا فقال :
لكُلِّ أًناس مَقْبَرٌ بِفنائهم فهم يَنْقُصُون والقُبور تَزيدُ
فما إنْ تَزالُ دارُ حَيٍّ قد اخْرِبَتْ وقَبْرٌ بأَفْنَاءِ البُيوت جديد
هُمُ جِيرَةُ الأحياء أما مَزارُهم فدانٍ؛ وأما المُلتقى فبَعِيد
وقال : مررتُ بيزيد الرَّقاشيّ وهو جالسٌ بين المدينة والمقبرة فقلت له : ما أجْلسك ها هنا؟! قال : أَنْظُر إلى هذين العَسْكرين فعسكرٌ يَقْذِف الأحياء وعسكرٌ يلْتقم الموتى. [هذا الأثر اختصرته بحذف تتمته].
وكان عليُّ بن أبي طالب كرم الله وجهه إذا دخل المَقبرة قال : أما المنازل فقد سُكِنت وأما الأموال فقد قُسِّمت وأما الأزواج فقد نُكِحت فهذا خبر ما عندنا فليْتَ شِعْري ما عندكم ثم قال : والذي نفسي بِيده لو أذِن لهم في الكلام لقالوا : إن خير الزَّاد التَّقوى .
وكان عليُّ بن أبي طالب إذا دخل المقبرة قال : السلامُ عليكم يأهل الدِّيار المُوحِشة والمَحالّ المقفرة، من المؤمنين والمُؤمنات اللهم اغفرِ لنا ولهم وتجاوَز بعفوك عنّا وعنهم .
ثم يقول : الحمد لله الذي جعل لنا الأرض كفاتاً أحياءً وأمواتاً؛ والحمد للهّ الذي منها خَلَقنا وجعل إليها مَعَادنا؛ وعليها محشرنا طوبى لمن ذكر المَعاد وعمل الحسنات وقَنع بالكفاف ورَضي عن الله عزّ وجلِّ .
وكان الحَسَن البَصريّ إذا دخل المقبرة قال : اللهم رَبّ هذه الأجساد البالية والعِظامٍ النّخرة التي خَرَجت من الدُّنيا وهي بك مؤمنة أدخِل عليها رَوحاً منك وسَلاماً منَّا .
وكان عليُّ بن الفَضْل إذا دَخل المقبرة يقول : اللهم اجعل وَفَاتهم نجاةً لهم مما يَكْرَهون؛ واجعل حِسابهم زيادة لهم فيما يُحبون .
ولما دُفن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أقْبل عبدُ الله بن مَسعود وقد فاتَتْه الصلاةُ عليه فوَقَفَ على قَبره يبكي ويَطْرح رِداءه ثم قال : واللّه لئن فاتَتْني الصلاةُ عليك لا فاتَني حُسْنُ الثّناء؛ أما واللهّ لقد كنتَ سَخياً بالحقّ، بخيلاً بالباطل، تَرضى حين الرِّضا، وتَسْخَط حين السُّخْط، ما كنتَ عَياباً ولا مَدِّاحاً؛ فجزاك الله عن الإسلام خَيْراً .
ووقف عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه على قَبْر خَبّاب فقال : رَحم اللهّ خَبِّاباً لقد أسْلم رَاغِباً، وجاهد طائعاً، وعاش زاهداً، وابتُلي في جسمه فَصَبر؛ ولن يُضيِّعَ اللهّ أجرَ من أحسن عملاً .
عبدُ الرحمن بن الحسن عن محمد بن مُصْعَب قال : لما مات داود الطائي تكلَّم ابن السّماك فقال : إنّ داود نظر إلى ما بي يَدَيه من آخرته فأعشى بَصَرُ القَلْب بصرَ العيَنْ فكأنه لم ينْظر إلى ما إليه تَنْظرون، وكأنًكم لم تَنْظروا إلى ما إليه نظر، وأنتم منه تَعْجبون وهو منكم يَعْجَب، فلما رآكم مَفْتُونين مَغرورين قد أذهَلت الدّنيا عًقُولكم وأماتت بحبِّها قُلوبَكم استوحش منكم، فكنتَ إذا نظرتَ إليه حَسِبْتَه حيًّا وسْطَ أمْوات .
يا داود ما أعجب شأنك بين أهل زمانك ! أهَنت نَفْسك وإنما تُريد إكرامَها وأتْعبتها وإنما تُريد راحتها، أخشَنْت المَطعم وإنما تُريد طيبَه، وأخْشَنْت الملبس وإنما تُريد لينه، ثم أمَتَّ نَفْسك قبل أن تموت، وقَبرْتها قبل أن تُقْبَر، وعذَّبتها قبل أن تُعَذَّب؛ سَجَنْت نفسَك في بَيْتك ولا مَحدِّث لها ولا جليس معها، ولا فِرَاش تحتك، ولا ستر على بابك، ولا قُلّة تُبرَّد فيها ماءك، ولا صَحْفة يكون فيها غَداؤُك وعشاؤك .
يا داود [أ]ما تشْتهي من الماء بارده ولا من الطعام طيِّبه، ولا من اللِّباس ليِّنه؟! بلى ولكن زَهِدْت فيه لما بين يَدَيك، فما أصغر ما بذلتَ وما أحقرَ ما تَرَكْتَ في جَنْبِ ما رَغِبْت وأمًلت ! .
لم تقبل من الناس عَطيَّة ولا من الإخوان هدية، فلما مِتّ شَهَرَك رَبًّك بفَضْلك وألبسك رِدَاء عملك؛ فلو رأيت مَنْ حَضرَك؟!
وقف الأحنفُ بن قيسِ على قَبْر أخيه فأنشد :
فوالله لا أنْسى قَتيلاً رُزِئْتُه بجانب قوسىَ ما مَشيت على الأرض
على انها تَعْفُو الكُلومُ وإنما نوَكَّلُ بالأدنى وإن جلَّ ما يَمْضي
ووقف محمد بن الحَنَفية على قبر الحسن بن علي رضي الله عنه فخَنَقَتْه العَبرَة ثم نَطقَ فقال : يَرْحمك الله أبا أحمد؛ فلئن عزّت حَياتُك فلقد هَدَّت وفاتُك؛ ولَنِعْم الرُّوح روح ضَمّه بدَنك؛ ولَنِعْمَ البدن بَدَنٌ ضَمَّه كَفَنُك؛ وكيف لا تكون كذلك وأنت بقيّة ولد الأنبياء وسليل الهُدى وخامِس أصحاب الكِساء، غَذَتْك أكُفّ الحقّ ورُبيت في حِجْر الإسلام، فطِبْت حيّاً وطِبْت مَيِّتاً، وإن كانت أنفسنا غيرَ طيِّبة بفراقك ولا شاكة في الخِيار لك .
ووقَفت عائشة على قبر أبي بَكْر فقالت : نَضَّر الله وَجْهَك وشكرَ لك صالح سَعْيك فقد كًنت للدنيا مُذِلاً بإدبارك عنها، وكنت للآخرة مُعِزاً بإقبالك عليها؛ ولئن كان أجلَّ الحوادث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رُزْؤُك، وأعظم المصائِب بعده فقْدُك، إنَّ كتاب الله لَيعِد بحُسْن الصبر فيك وحُسن العِوَض منك؛ فأنا أتنجّزُ موعد الله بحسن العزاء عليك، وأستعيضه منك بالاستغفار لك؛ فعليك السلامُ ورحمة اللهّ، توديع غير قاليةٍ لك، ولا زارية على القضاء فيك؛ ثم انصرفت .
لما قُبض أبو بكر رضي الله عنه سُجِّي بثَوب فارتَجَّت المدينة بالبُكاء عليه، ودهش القوم كيوم قُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وجاء عليٌّ ابن أبي طالب باكياً مُسرعاً مسترجعاً، حتى وَقف بالباب وهو يقول : رَحمك الله أبا بكر، كنت واللهّ أولَ القوم إسلاماً، وأخلصهم إيماناً، وأشدهم يقيناً، وأعظمهم عناء، وأحفظهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحدبَهم على الإسلام، وأحناهم على أهله، وأشبههم برسول الله صلى الله عليه وسلم خُلُقاً وَفَضْلاً وَهَدْياً وسمتاً؛ فجزاك الله عن الإسلام وعن رسول اللهّ وعن المُسلمين خيراً؛ صدّقت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كَذًبه الناس وواسيتَه حين بَخِلوا وقمت معه حين قعدوا سمّاك اللهّ في كتابه صِدِّيقاً فقال : ( وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) [الزمر 33]، يريد محمداً [صلى الله عليه وسلم] ويُريدك .
كنت واللهّ للإسلام حِصْناً وعلى الكافرين عَذاباً لم تُفْلَل حُجَّتك ولم تَضْعُف بصيرتُك ولم تَجْبُن نفسك .
كنت كالجبلِ لا تُحَرِّكه العواصف ولا تُزيله القَواصف كنت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ضعيفاَ في بدنك قويًّا في أمر الله، متواضعاً في نَفْسك عَظيماً عند اللهّ، قليلاً في الأرض كثيراً عند المؤمنين؛ لم يَكن لأحد عِنْدك مَطْمَع ولا لأحدٍ عندك هَوَادة فالقويُّ عندك ضعيف حتى تأخذَ الحقّ منه، والضعيفُ عندك قويٌّ حتى تأخذ الحقّ له؛ فلا حَرَمنا الله أجرَك ولا أضَلنا بعدك .
لما هلك الإسْكندر قامت الخُطباء على رأسه فكان من قولهم : الإسكندر كان أمس أنطقَ منه اليوم، وهو اليوم أوعظُ منه أمس .
أخذ هذا المعنى أبو العتاهية فقال عند دَفْنه ولداً له :
كَفي حَزَناً بِدَفْنِك ثم أني نفضتُ تُرَاب قَبْرك من يَديا
وكنتَ وفي حياتك لي عِظاتٌ فأنتَ اليومَ أوعظُ منك حيّا
وَقف أبو ذرّ الهَمْداني على قبر ابنه ذرّ فقال : يا ذَرّ شغلني الحزن لك عن الحزْن عليك؛ فليت شِعْري ما قُلتَ وما قيل لك؟؛ ثم قال : اللهم إنّي قد وهبتُ لك إساءته إلي فَهَبْ له إساءته إليك .
فلما انصرف عنه التفتَ إلى قبره فقال : يا ذرّ قد انصرفنا وتَرَكْناك؛ ولو أقمنا ما نَفعناك . [هذا الأثر مذكور في متن بعض فصول الكتاب؛ وارتضيت تكراره لبلاغته وحكمته].
وقف محمد بن سُليمان على قبر ابنه فقال : اللهم إني أرجوك له وأخافك عليه، فحقق رجائي وآمِنْ خوفي .
وَقفت أعرابيّة على قبر أبيها فقالت : يا أبتِ إنَّ في اللهّ تبارك وتعالى من فَقْدِك عِوَضاً وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم من مُصيبتك أسْوة؛ ثم قالت : اللهمٍ نَزل بك عبدُك مُقْفِراً من الزاد مخشَوْشِن المِهاد غَنِيًّا عما في أيدي العباد فقيراً إلى ما في يَدَيك يا جواد، وأنت أي ربّ خيرُ من نزل به المؤًمِّلون واْسْتَغْنى بفَضْلِهِ المقِلًّون وولَجَ في سَعة رَحْمَته المُذْنبون .؛ اللهم فَليكن قِرَى عبدك منك رحمتَك ومِهادُه جنّتك؛ ثم انصرفت .
قال عبد الرحمن بن عمر : دخلْتُ على امرأة من نجد بأعلى على الأرض في خِباءٍ لها وبين يَدَيْها بُنَيّ لها قد نزلَ به الموتُ فقامتْ إليه فأَغْمضَته وعَصَبته وَسَجَّته وقالت : يابن أخي، قلتُ : ما تشائين؟ قالت : ما أَحَقَّ مَنْ أُلْبِسَ النِّعمةَ وأطِيلَت به النَظِرةُ أن لا يدعَ التوثّق من نَفْسه، قبل حل عُقْدته والحُلول بعَقْوَته والمحالة بينه وبين نَفْسه .
قال : وما يَقطر من عينها دمعة صبراً واحتساباً ؛ ثم نظرت إليه فقالت : واللهّ ما كان مالُه لبَطنه، ولا أمره لعِرْسه؛ ثم أنشدت :
رَحِيبُ ذِرَاعٍ بالتي لا تشينه وإن كانت الفَحْشاء ضاق بها ذَرْعا
وَقفَ عمرُ بن عبد العزيزِ على قبر ابنه عبد الملك فقال : رَحمك الله يا بُنيّ فلقد كنت سارًّا مولوداً بارًّا ناشئاً؛ وما أَحْسِب أنّي لو دعوتُك أَجبْتني .
سمع الحسنُ جارية واقفة على قبر أبيِها وهي تقول : يا أبتِ مثلَ يومك لم أَرَه؛ قال: الذي والله لم يرَ مثلَ يومه أبوك .
وسمع عمر بن عبد العزيز خَصِيًّا للوليد بن عبد الملك واقفاً على قبر الوليد وهو يقول : يا مولاي ماذا لَقِينا بعدك فقال له عمر : أما واللّه لو أُذِن له في الكلام لأخبر أنه لَقي بعدكم أكثرَ مما لَقيتم بعده .
أبو عمر بن يزيد قال : لما مات أخو مالك بن دِينار بكى مالك، وقال : يا أخي لا تَقَرُّ عيْني بعدك حتى أعْلم أفي الجنِّة أنت أم في النَّار؛ ولا أعلم ذلك حتى ألحق بك .(1/267)
. (2/101)
التعزية(1)
__________
(1) هذا فصل بديع في التعزية انتقيت جواهره ودرره من (العقد الفريد) لابن عبد ربه الأندلسي:
قال عبد الرحمن بن أبي بكر لسليمان بن عبد الملك يُعزِّيه في ابنه أيوب، وكان وليَّ عهده وأكبر ولده : يا أمير المؤمنين إنه من طال عمره فَقَدَ أحبَّتَهُ؛ ومن قَصر عُمره كانت مُصيبته في نفسه ؛ فلو لم يكن في مِيزانك لكُنْتَ في ميزانه .
وكَتَب الحسنُ بن أبي الحسن إلى عُمَر بن عبد العزيز يُعزِّيه في ابنه عبد الملك : وعوِّضْتَ أَجْرًا مِنْ فَقِيدٍ، فَلاَ يَكُنْ فَقِيدُكَ لا يَأتي وأَجْركَ يَذْهَبُ.
العُتْبىِ قال : قال عبدُ الله بن الأهْتَم : مات لي ابن وأنا بمكة فجزِعْتُ عليه جَزَعاً شديداَ فَدَخَل عليَّ ابن جُرَيجٍ يُعَزِّيني فقال لي : يا أبا محمد اسْلُ صَبراً واحْتِساباً قبْلَ أن تَسْلُو غفلة ونسْياناً كما تَسْلو البهائم .
وهذا الكِلامُ لعليّ ابن أبي طالب كرّم الله وجهَه يُعزِّي به الأشْعَتَ بن قيْس في ابن له، ومنه أخذه ابن جُرَيْج .
وقد ذكَرَه حبيب [أبو تمام الطائي] في شعره فقال :
وقال عليّ في التعازي لأشْعَثٍ وخاف عليه بعضَ تلك المآثِم
أتَصْبِرُ لِلْبلْوَى عَزَاءً وحِسْبَةً فَتُؤْجَرَ أَمْ تَسْلُو سًلُوَّ البهائم
أتى عليُّ أبي طالب كَرَّم الله وجهه لأشْعَث يُعَزِّيه عن ابنه فقال : إن تَحْزَنْ فقد استحقَّتْ ذلك مِنك الرّحم، وإن تَصْبر فإن في الله خَلَفاً من كلِّ هالك؛ مع أنّك إن صَبَرت جرَى عليك القَدَر، وأنت مَأجُور؛ وإن جَزِعْت جَرَى عليك القَدَر وأنت آثِم .
وعزَّى ابن السمَّاك رجلاً فقال : عليك بالصَّبْر فبه يَعْمل من احتَسَب، وإليه يَصير مَن جزع؛ واعلم أنه ليست مُصيبة إلا ومعها أعظمُ منها من طاعة الله فيها أو مَعْصيته بها .
الأصمعيّ قال : عزّى صالحٌ المُرِّي رجلاً بابنه فقال له : إنْ كانت مُصيبتك لم تُحْدِث لك مَوْعظةً فمُصِيبتك، بنَفْسك أعظمُ من مُصيبتك بابنك؛ واعلم أنّ التَّهْنِئَة على آجِل الثَّوَاب أولَى من التَّعزِية على عاجل المصيبة .
العُتْبىّ قال : عزّى أبي رجلاً فقال : إنما يَسْتوجب على اللهّ وَعْده من صبر لحقه، فلا تجْمَع إلى ما فُجِعت به الفَجيعةَ بالأجر، فإنها أعظمُ المصيبتن عليك؛ ولكلّ اجتماعٍ فُرْقة إلى دار الحُلولِ .
عزّى عبدُ الله بن عبَّاس عمر بن الخطّاب رضى الله تعالى عنه في بُني له صَغير فقال : عوَّضك الله منه ما عوّضه الله منك . [قلت: يعني الجنة].
وكان عليُّ بن أبي طالب رضى الله عنه إذا عزَّى قوماً قال : عليكم بالصَّبر، فإنّ به يأخُذ الحازم، وإليه يَرْجع الجازع .
وكان الحسنُ يقول في المُصيبة : الحمدُ لله الذي آجَرَنا على ما لو كلَّفنا غيرَه لعَجَزْنا عنه .
محمد بن الفَضل عن أبي حازم قال : مات عُقْبة بن عِيَاض بن غَنْم الفِهْريّ فعزَّى رجلٌ أباه فقال : لا تَجْزع عليه فقد قُتِل شهيداً فقال : وكيف أجزع على من كان في حَيَاته زينةَ الدُّنيا وهو اليومَ من الباقيَات الصَّالحات .
وعَزَّى أعرابيَ رجلاً فقال : أوصيك بالرِّضا من الله بقَضائه؛ والتنجًّز لما وعد به من ثوابه؛ فإنَ الدُّنيا دار زوال؛ ولا بد من لقاء اللهّ .
وَعزَّى [أعرابي] أيضاً رجلاً فقال : إنّ من كان لك في الآخرة أجراً خيرٌ لك ممن كان لك في الدُّنيا سرُوراً .
[وقال بعضهم]: التمس ما وَعد الله من ثَوَابه بالتّسليم لقضائِه والانتهاء إلى أمره فإن ما فات غير مُسْتَدْرَك .
وعزى موسى المَهْدِيّ إبراهيمَ بن سَلْم على ابن له مات فَجَزع عليه جزعاً شديداً فقال له : أَيسرُّك وهو بلية وفِتْنَة ويَحْزُنك وهو صَلَوات ورحمة؟!
وعَزَى رجلٌ بابن له فقال له : ذَهب أبوك وهو أصلُك وذَهب ابنك وهو فَرْعُك؛ فما بَقَاء مَن ذهب أصلُه وفرعه؟!
العُتْبى قال : عَزّى أكثَم بن صَيْفيّ عمرو بنَ هِنْد ملكَ العرب على أخيه فقال له : أيها الملك إنّ أهلَ الدار سَفْرٌ لا يَحُلّون عُقَد الرحال إلا في غَيْرها؛ وقد أتاك ما ليس بمردود عنك؛ وارتحل عنك ما ليس براجع إليك؛ وأقام معك مَن سَيَظْعن عنك ويَدَعك .
واعلم أنّ الدُنيا ثلاثة أيام : فأمس عِظَة وشاهدُ عَدْل فَجَعَك بِنفْسه وأبْقَى لك عليه حُكْمَك؛ واليوم غَنيمة وصَدَيق أتاك ولم تَأته، طالت عليك غَيْبَتُه وستُسْرع عنك رِحْلته؛ وغَد لا تَدري من أهلُه؛ وسيأتيك إنْ وَجَدك .
فما أحسَن الشُّكر للمُنْعم والتسليمَ للقادر ! وقد مَضت لنا أصولٌ نحن فُروِعها فما بَقَاء الفُروع بعد أصُولها ! واعلم أنّ أعظم من المُصيبة سوءُ الخَلف منها وخيرٌ من الخير مُعْطيه؛ وشرٌ من الشرّ فاعله .
عَزى شَبيبُ بن شَيْبَة المنصورَ على أخيه أبي العبّاس فقال : جَعل الله ثوابَ ما رُزِئت به لك أَجراً وأعْقَبك عليه صبرا وخَتَم لك ذلك بعافية تامّة ونعْمة عامّة؛ فثوابُ الله خير لك منه وما عند الله خير له منك وأحقُّ ما صُبر عليه ما ليس إلى تَغْييره سبيل .
وكتب إبراهيم بن إسحاق إلى بعض الخُلَفاء يُعَزِّيه : إنّ أحَقَّ مَن عَرف حقَ اللهّ فيما أَخَذ منه مَن عَرف نِعْمَته فيما أبقَى عليه .
يا أميرَ المؤمنين إِنّ الماضيَ قبلك هو الباقي لك، والباقيَ بعدك هو المأجور فيك؛ وإِنّ النِّعمة على الصابرين فيما ابتُلوا به أعظمُ منها عليهم فيما يُعَافَوْنَ منه .
دخل عبدُ الملك بن صالح دار الرّشيد فقال له الحاجبُ : إن أمير المؤمنين قد أصِيب بابن له ووُلد له آخر ؛ فلما دخل عليه قال : سرَّك الله يا أمير المؤمنين فيما ساءَك؛ ولا ساءَك فيما سرّك؛ وجَعل هذه بهذه، مَثُوبةً على الصبر، وجزاءً على الشكر .
ودخل المأمونُ عَلَى أم الفَضْل بن سَهل يُعَزِّيها بابنها الفَضْل بن سهل فقال : يا أُمّه إنك لم تَفْقِدِي إلا رؤيته، وأنا ولدُك مكانَه؛ فقالت : يا أمير المؤمنين إنّ رجلاً أفادني ولداً مثلك لَجَديرٌ أن أَجْزع عليه .
لما مات عبدُ الملك بن عمر بن عبد العزيز كتب عمر إلى عُمّاله : إِنَّ عبد الملك كان عبداً من عَبيد اللهّ أَحْسَنَ الله إليه، وإليّ فيه؛ أعاشه ما شاء، وقَبَضَه حين شاء؛ وكان - ما علمتُ من صالِحِي شباب أَهْل بَيْته، قراءةً للقرآن وتَحَرِّياً للخير؛ وأعوذ باللّه أن تكون لي مَحَبّة أخالف فيها محبة اللّه فإن ذلك لا يَحْسُن في إحسانه إليّ وتتابُع نعمه عليّ؛ ولا أعلمنّ ما بكت عليه باكية ولا ناحت عليه نائحة؛ قد نَهينا أهلَه الذين هم أحقُّ بالبكاء عليه .
دخل زيادُ بن عثمان بن زياد على سُليمان بن عبد الملك وقد تُوفي ابنه أيُّوب فقال : يا أميرَ المؤمنين إنّ عبدَ الرحمن ابن أبي بكر كان يقول : من أَحبّ البقاء - ولا بقاء - فَلْيُوَطِّن نفسه على المصائب .
عزّى محمدُ بن الوليد بن عتبة عُمَر بن عبد العزيز على ابنه عبد الملك فقال : يا أمير المؤمنين أعِدّ لما تَرَى عُدَّةً تكنِ لك جُنّة من الحُزن وسِتْراً من النار .
فقال عمر : هل رأيتَ حُزْناً يُحْتَجّ به أو غَفْلة يُنبّه عليها؟ قال : يا أميرَ المؤمنين لو أن رجلاً ترَك تعْزية رجل لِعِلْمِه وانتباهه لكُنَتَه؛ ولكن الله قضى أن الذِّكرى تنفع المؤمنين .
وتُوُفِّيَت أخْتٌ لعمر بن عبد العزيز فلما فرغ من دَفْنها دَنا إليه رجل فعزَّاه، فلم يَرُدَّ عليه شيئاً؛ ثم دنا إليه آخرُ فعزَّاه، فلم يرُدَّ عليه شيئاً؛ فلما رأى الناسُ ذلك أمسكوا عنه ومَشَوْا معه .
فلما بلغ البابَ أقبل على الناس بوجهه وقال : أدركتُ الناس وهم لا يُعَزون بامرأة إلا أن تكون أًمًّا؛ انقلبوا رحمكم اللهّ .
وقال بعض الحُكماء لسُليمان بن عبد الملك لما أصِيب بابنه أيّوب : يا أميرَ المؤمنين إنّ مثلَك لا يُوعَظ إلا بدون عِلْمه؛ فإن رأَيتَ أن تُقَدِّم ما أخَّرَت العَجَزة من حُسن العَزاء والصَّبر على المُصيبة فتُرضي ربَّك وتُرِيح بدنَك فافعل .
وكتب الحسنُ إلى عمر بن عبد العزيز يعزِّيه في ابنه عبد الملك ببيت شعر وهو :
وعُوِّضْتُ أَجْراً مِن فَقيد فلا يكُن فَقِيدُك لا يَأتي وأَجْرُك يَذْهَبُ
ولما حَضرت الإسكندرَ الوفاةُ كَتب إلى أمِّه : أن اصنَعي طعاماً يحضُره الناسُ؛ ثم تَقدّمي إليهم أن لا يَأكل منه مَحْزون ففَعلت .
فلم يبْسُط إليه أحدٌ يده فقالت : ما لكم لا تَأكلون فقالوا : إنك تقَدّمت إلينا أن لا يأكلَ منه مَحْزون وليس منَّا إلا من قد أصيب بِحَميم أو قرِيب فقالت : مات واللّه ابني وما أَوْصى إِليّ بهذا إلا ليُعَزِّينَى به .
وكان سهل بن هارون يقول في تَعْزِيته : إن التَهْنِئَة بآجل الثَوَاب أوجبُ من التَّعزية على عاجل [المصيبة].(1/268)
كان صلة بن أشيم في مغزى له ومعه ابن له فقال: أي بني تقدم فقاتل حتى أحتسبك فحمل فقاتل حتى قتل، فاجتمعت النساء عند امرأته معاذة العدوية فقالت: مرحباً، إن كنتن جئتن لتهنئنني فمرحباً بكن؛ وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن. (2/239)
حزن رجل على ولد له وشكا ذلك إلى الحسن فقال الحسن: كان ابنك يغيب عنك؟ قال: نعم، كان غيبته أكثر من حضوره، قال: فاتركه(1) غائباً، فإنه لم يغب عنك غيبة لك فيها أجر أعظم من هذه، فقال: يا أبا سعيد هونت علي وجدي على إبني. (الكبائر ص191 وتسلية أهل المصائب ص73 والعقد الفريد)
عن سُفيان الثّوْري عن سعيد بن جُبير قال : ما أعْطِيَتْ أمّةٌ عند المُصِيبة ما أعْطِيَت هذه الأمة من قولها (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) [البقرة 156]؛ ولو أعْطِيها أحدٌ لأعْطيها يَعْقوب حيثُ يقول : (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) [البقرة 84]. (العقد الفريد)
كتب عمر بن عبد العزيز إلى عمر بن عبيدِ الله بن عبدِ الله بن عتبة يعزيه على ابنِه: أما بعدُ فإنا قومٌ مِن أهلِ الآخرةِ أُسْكِنّا الدنيا، أمواتٌ أبناءُ أمواتٍ، والعجبُ لميتٍ يكتبُ إلى ميتٍ يعزيهِ عن ميتٍ! والسلام. (5/266)
__________
(1) في (تسلية أهل المصائب): (جزع) بدل (حزن)، و (فأنزله) بدل (فاتركه).(1/269)
عن بعض أهل البصرة أن مطرف بن [عبد الله بن] الشخير ماتت امرأته أو بعض أهله فقال ناس من إخوانه: انطلقوا بنا الى اخيكم مطرف لا يخلو به الشيطان فيدرك بعض حاجته منه فأتوه فخرج عليهم دهيناً في هيئة حسنة! فقالوا: خشينا شيئاً فنرجو أن يكون الله تعالى قد عصمك منه وأخبروه بالذي قالوا، فقال مطرف: لو كانت لي الدنيا كما هي ثم سئلتها بشربة أُسقاها يوم القيامة لافتديت بها(1). (رك ص187 وذم الدنيا 186 والزهد ص300)
مات ابن لمطرف بن عبد الله بن الشخير فخرج على الحي قد رجَّلَ جمته ولبس حلته فقيل له: ما نرضى منك بهذا وقد مات ابنك! فقال: أتأمروني أن أستكين للمصيبة؟! فوالله لو أنَّ الدنيا وما فيها لي فأخذها الله مني ووعدني عليها شربة ماء غداً ما رأيتها لتلك الشربة(2) أهلاً، فكيف بالصلوات والهدى والرحمة(3). (2/199 وانظر عدة الصابرين ص80)
__________
(1) وقال مطرف: لو كانت الدنيا لي فأخذها الله مني بشربة ماء ليسقيني بها يوم القيامة كان قد أعطاني بها ثمناً. (2/200)
(2) وقال مطرف: لو كانت الدنيا لي فأخذها الله مني بشربة ماء ليسقيني بها يوم القيامة كان قد أعطاني بها ثمناً. (2/200)
(3) يشير إلى قوله تعالى: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون). [سورة البقرة الآيات 155-157](1/270)
قال مبارك بن فضالة: دخلنا على الحسن حين نعي له أخوه وهو يبكي فدخل عليه بكر بن عبد الله فعزاه وقال: يا أبا سعيد إنك تعلم الناس وإنهم يرونك تبكي فيذهبون بهذا إلى عشائرهم فيقولون: رأينا الحسن يبكي عند المصيبة فيحتجون به على الناس، فحمد الله وأثنى عليه وقد خنقته العبرة فقال: الحمد لله إن الله جعل هذه الرحمة في قلوب المؤمنين فيرحم بها بعضهم بعضاً، فتدمع العين ويحزن القلب وليس ذلك بجزع، إنما الجزع ما كان من اللسان أو اليد، قال: ثم قال: إن الله لم يجعل حزن يعقوب عليه ذنباً إذ قال: (وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)(1)، ورحم الله سعيد بن أبي الحسن، دعا له بدعاء كثير، ثم قال: ما علمت في الأرض من شدة كانت تنزل بي إلا كان يود أنه كان وقى ذلك بنفسه. (الطبقات 7/178)
مات أخٌ لصلةَ بنِ أشيمَ فجاءه رجلٌ وهو(2) يَطْعَمُ فقالَ: يا أبا الصهباءِ إنَّ أخاكَ ماتَ فقالَ: هلمَّ فكُلْ فقدْ نُعِيَ لنا، أُدْنُ فكلْ، هيهاتَ، قدْ نُعي، فقالَ واللهِ ما سبقني إليك أحدٌ، فمن نعاه؟! قال: يقولُ اللهُ تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ)(3). (2/238-2/239)
__________
(1) يوسف (84).
(2) أي صلة.
(3) الزمر (30).(1/271)
قال ابن حبان في ترجمة أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي(1) من كتابه (الثقات): حدثني بقصة موته محمد بن المنذر بن سعيد قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق بن الجراح قال: حدثنا الفضل بن عيسى عن بقية بن الوليد قال: حدثنا الأوزاعي عن عبد الله بن محمد قال: خرجت الى ساحل البحر مرابطاً وكان رباطنا يومئذ عريش مصر، قال: فلما انتهيت إلى الساحل فإذا أنا ببطيحة وفي البطيحة خيمة فيها رجل قد ذهب يداه ورجلاه وثقل سمعه وبصره وما له من جارحة تنفعه إلا لسانه وهو يقول: اللهم أوزعني أن أحمدك حمداً أكافىء به شكر نعمتك التي أنعمت بها علي وفضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلاً؛ قال الأوزاعي: قال عبد الله: قلت: والله لآتين هذا الرجل ولأسألنه أنى له هذا الكلام؟! فهمٌ أم علمٌ أم إلهامُ ألهم، فأتيت الرجل فسلمت عليه فقلت: سمعتك وأنت تقول: اللهم أوزعني أن أحمدك حمداً أكافىء به شكر نعمتك التي أنعمت بها علي وفضلتني على كثير من خلقت تفضيلاً فأي نعمة من نعم الله عليك تحمده عليها؟! وأي فضيله تفضل بها عليك تشكره عليها؟! قال: وما ترى ما صنع ربي؟! والله لو أرسل السماء علي ناراً فأحرقتني وأمر الجبال فدمرتني وأمر البحار فغرقتني وأمر الأرض فبلعتني ما ازددت لربي إلا شكراً لما أنعم علي من لساني هذا؛ ولكن يا عبد الله إذ أتيتني لي إليك حاجة قد تراني على أي حالة أنا أنا لست أقدر لنفسي على ضر ولا نفع، ولقد كان معي بني لي يتعاهدني في وقت صلاتي فيوضيني وإذا جعت أطعمني وإذا عطشت سقاني ولقد فقدته منذ ثلاثة أيام فتحسسه لي رحمك الله فقلت والله ما مشي خلق في حاجة خلق كان أعظم عند الله أجراً ممن يمشي في حاجة مثلك فمضيت في طلب الغلام فما مضيت غير بعيد حتى صرت بين كثبان من الرمل فإذا أنا بالغلام قد افترسه
__________
(1) من عباد أهل البصرة وزهادهم يروى عن أنس بن مالك ومالك بن الحويرث روى عنه أيوب وخالد؛ مات بالشام سنة أربع ومئة في ولاية يزيد بن عبد الملك.(1/272)
سبع وأكل لحمه فاسترجعت وقلت: أنى لي وجه رقيق آتي به الرجل؟! فبينما أنا مقبل نحوه إذ خطر على قلبي ذكر أيوب النبي صلى الله عليه وسلم فلما أتيته سلمت عليه فرد علي السلام، فقال: ألست بصاحبي؟ قلت: بلى؛ قال: ما فعلت في حاجتي؟ فقلت: أنت أكرم على الله أم أيوب النبي؟ قال: بل أيوب النبي؛ قلت: هل علمت ما صنع به ربه؟ أليس قد ابتلاه بماله وآله وولده؟ قال: بلى، قلت: فكيف وجده؟ قال: وجده صابراً شاكراً حامداً؛ قلت: لم يرض منه ذلك حتى أوحش من أقربائه وأحبائه؟ قال: نعم؛ قلت: فكيف وجده ربه؟ قال: وجده صابراً شاكراً حامداً؛ قلت: فلم يرض منه بذلك حتى صيره غرضاً(1) لمار الطريق هل علمت؟ قال: نعم؛ قلت: فكيف وجده ربه؟ قال: صابراً شاكراً حامداً، أوجز رحمك الله؛ قلت له: إن الغلام الذي أرسلتني في طلبه وجدته بين كثبان الرمل وقد افترسه سبع فأكل لحمه فأعظم الله لك الأجر وألهمك الصبر، فقال المبتلى: الحمد لله الذي لم يخلق من ذريتي خلقاً يعصيه فيعذبه بالنار ثم استرجع وشهق شهقة، فمات؛ فقلت: إنا لله وانا إليه راجعون؛ عظمت مصيبتي؛ رجل مثل هذا إن تركته أكلته السباع وإن قعدت لم أقدر على ضر ولا نفع؛ فسجيته بشملة كانت عليه وقعدت عند رأسه باكياً فبينما أنا قاعد إذ تهجم علي أربعة رجال فقالوا: يا عبد الله ما حالك وما قصتك؟ فقصصت عليهم قصتي وقصته، فقالوا لي: اكشف لنا عن وجهه فعسى أن نعرفه فكشفت عن وجهه فانكب القوم عليه يقبلون عينيه مره ويديه أخرى ويقولون: بأبي عين طال ما غضت عن محارم الله وبأبي جسم(2) طال ما كان(3) ساجداً والناس نيام؛ فقلت: من هذا يرحمكم الله؟! فقالوا: هذا أبو قلابة الجرمي صاحب ابن عباس، لقد كان شديد الحب لله وللنبي صلى الله عليه وسلم؛ فغسلناه وكفناه بأثواب كانت معنا وصلينا عليه ودفناه فانصرف القوم وانصرفت الى رباطي فلما أن جن على الليل وضعت رأسي
__________
(1) كانت (عرضاً).
(2) كانت (وجسمه).
(3) في الأصل (كنت).(1/273)
فرأيته فيما يرى النائم في روضة من رياض الجنة وعليه حلتان من حلل الجنة وهو يتلو الوحي (سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)(1)، فقلت: ألست بصاحبي؟ قال: بلى، قلت: أنى لك هذا؟ قال: إن لله درجات لا تنال إلا بالصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء مع خشية الله عز وجل في السر والعلانية. (ثقات ابن حبان 5/3-5)
قال زيد بن أسلم: مات ابن لداود عليه السلام فجزع عليه فعزوه فيه فقيل له: ما كان يعدل عندك؟ قال: كان أحب إلي من ملء الأرض ذهباً؛ فقيل له: فإن لك من الأجر على قدر ذلك. (تسلية أهل المصائب ص110)
قال وهب بن منبه: ما من شيء إلا يبدو صغيراً ثم يكبر إلا المصيبة فإنها تبدو كبيرة ثم تصغر(2)
__________
(1) الرعد (24).
(2) وقال ابن القيم في (عدة الصابرين) (ص77 وما بعدها):
(وقدم عروة بن الزبير على الوليد بن عبد الملك ومعه ابنه محمد وكان من أحسن الناس وجهاً، فدخل يوماً على الوليد في ثياب وشيء، وله غديرتان، وهو يضرب بيده، فقال الوليد: هكذا تكون فتيان قريش، فعانه [أي حسده]، فخرج من عنده متوسناً فوقع في اصطبل الدواب فلم تزل الدواب تطؤه بأرجلها حتى مات؛ ثم ان الآكلة وقعت في رجل عروة فبعث إليه الوليد الأطباء فقالوا: إن لم تقطعها سرت إلى باقي الجسد فتهلك؛ فعزم على قطعها فنشروها بالمنشار فلما صار المنشار إلى القصبة وضع رأسه على الوسادة ساعة فغشي عليه ثم أفاق والعرق يتحدر على وجهه وهو يهلل ويكبر؛ فأخذها وجعل يقلبها في يده، ثم قال: أما والذي حملني عليك انه ليعلم اني ما مشيت بك إلى حرام ولا إلى معصية ولا إلى ما لا يرضى الله؛ ثم أمر بها فغسلت وطيبت وكفنت في قطيفة ثم بعث بها إلى مقابر المسلمين.
فلما قدم من عند الوليد المدينة تلقاه أهل بيته وأصدقاؤه يعزونه فجعل يقول: (لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً)، ولم يزد عليه؛ ثم قال: لا أدخل المدينة، إنما أنا بها بين شامت بنكبة أو حاسد لنعمة؛ فمضى إلى قصر بالعقيق فأقام هنالك، فلما دخل قصره قال له عيسى بن طلحة: لا أبا لشانئيك أرني هذه المصيبة التي نعزيك فيها، فكشف له عن ركبته فقال له عيسى: أما والله ما كنا نعدك للصراع، قد أبقى الله أكثرك: عقلك ولسانك وبصرك ويداك وإحدى رجليك؛ فقال له: يا عيسى ما عزاني أحد بمثل ما عزيتني به.
ولما أرادوا قطع رجله قالوا له: لو سقيناك شيئا كيلا تشعر بالوجع! فقال: إنما ابتلاني ليرى صبري أفأعارض أمره.
وسئل ابنه هشام كيف كان أبوك يصنع برجله التي قطعت إذا توضأ قال كان يمسح عليها---.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد حدثنا سلام قال: سمعت قتادة يقول: قال لقمان وسأله رجل: أي شيء خيراً؟ قال: صبر لا يتبعه أذى؛ قال: فأي الناس خيراً؟ قال: الذي يرضى بما أوتي؛ قال: فأي الناس أعلم؟ قال: الذي يأخذ من علم الناس إلى علمه؛ قيل: فما خير الكنز من المال أو من العلم؟ قال: سبحان الله؛ بل المؤمن العالم الذي إن ابتغي عنده خير وجد وان لم يكن عنده كف نفسه؛ وبحسب المؤمن أن يكف نفسه---.
وقال حسان ابن أبى جبلة أيضاً في قوله تعالى (فصبر جميل) قال: لا شكوى فيه---.
وقال مجاهد: (فصبر جميل) في غير جزع.
وقال عمرو بن قيس: (فصبر جميل) قال: الرضا بالمصيبة والتسليم---.
وقال همام عن قتادة في قوله تعالى (وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم) قال: كظم على حزن فلم يقل إلا خيراً.
وقال يحيى بن المختار عن الحسن: الكظيم: الصبور---.
وقال قيس بن الحجاج في قول الله (فاصبر صبراً جميلاً) قال: أن يكون صاحب المصيبة في القوم لا يعرف من هو.
وكان شمر إذا عزى مصاباً قال: اصبر لما حكم ربك.
وقال أبو عقيل: رأيت سالم بن عبد الله بن عمر بيده سوط وعليه إزار في موت واقد بن عبد الله بن عمر لا يسمع صارخة ينالها بالسوط إلا ضربها.
قال ابن أبى الدنيا: حدثني محمد بن جعفر بن مهران قال: قالت امرأة من قريش:
أما والذى لا خلد إلا لوجهه ومن ليس في العز المنيع له كفو
لئن كان بدء الصبر مراً مذاقه لقد يجتنى من غبه الثمر الحلو
قال: وأنشدنى عمرو بن بكير:
صبرت فكان الصبر خير مغبة وهل جزع يجدى علي فأجزع
ملكت دموع العين حتى رددتها إلى ناظرى فالعين في القلب تدمع
قال: وأنشدنى أحمد بن موسى الثقفي:
نبئت خولة أمس قد جزعت من أن تنوب نوائب الدهر
لا تجزعي يا خول واصبري إن الكرام بنوا على الصبر
قال: وحدثني عبد الله بن محمد بن اسماعيل التيمي أن رجلاً عزى رجلاً في ابنه فقال: إنما يستوجب على الله وعده من صبر له بحقه، فلا تجمع إلى ما أصبت به من المصيبة الفجيعةَ بالأجر، فإنها أعظم المصيبتين عليك وأنكى الرزيتين لك، والسلام.
وعزى ابن السماك رجلاً فقال: عليك بالصبر، فبه يعمل من احتسب، وإليه يصير من جزع---.
وقال ابن أبى الدنيا: حدثني الحسين بن عبد العزيز الحروزي قال: مات ابن لي نفيس فقلت لأمه: اتقي الله واحتسبيه واصبري؛ فقالت: مصيبتي أعظم من أن أفسدها بالجزع.
قال ابن أبي الدنيا: وأخبرني عمر بن بكير عن شيخ من قريش قال: مات الحسن بن الحصين أبو عبيد الله بن الحسن وعبيد الله يومئذ قاض على البصرة وأمير، فكثر من يعزيه فتذاكروا ما يتبين به جزع الرجل من صبره؛ فأجمعوا أنه إذا ترك شيئاً مما كان يصنعه فقد جزع). انتهى كلام ابن القيم وقد حذفت بعض ما نقله من الآثار لورودها في غير هذا الموضع.
وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي رحمه الله أن عبد الرحمن بن مهدي مات له ابن فجزع عليه جزعاً شديداً، فبعث إليه الشافعي يقول له: يا أخي عزِّ نفسك بما تعزي به غيرك، واستقبح من فعلك ما تستقبحه من غيرك؛ واعلم أن أمضّ المصائب فقد سرور وحرمان أجر، فكيف إذا اجتمعا مع اكتساب وزر؟فتناول حظك يا أخي إذا قرب منك قبل أن تطلبه وقد تناءى عنك؛ ألهمك الله عند المصائب صبراً، وأحرزَ لنا ولك بالصبر أجراً؛ ثم أنشده:
إني معزيك لا أني على ثقة من الخلود ولكن سنة الدين
فلا المعزَّى بباق بعد ميته ولا المعزي ولو عاشا إلى حين
ذكر هذا الأثر العلامة أبو عبد الله محمد بن محمد المنبجي في كتابه القيم (تسلية أهل المصائب) (ص111)، وقد عقد (ص109-115) فصلاً نفيساً فيما نقل من ألفاظ التعزية عن السلف والخلف؛ فراجعه، وراجع أيضاً (ص140-145) منه.
وقال أبو العتاهية كما في (نثر النظم وحل العقد) للثعالبي (ص168):
اصبرْ لكل مصيبة وتجلدِ واعلم بأن المرء غير مخلدِ
أوَما ترى أن المصائب جمة وترى المنيّة للعباد بمرصدِ
من لم يُصَبْ ممن ترى بمصيبة؟ هذا سبيلٌ لستَ فيه بأوحدِ
وإذا ذكرتَ مصيبةً تشجى بها فاذكرْ مصابك بالنبي محمدِ
صلى الله عليه وسلم.(1/274)
. (4/63)
العقل والتفكر
قال الحسن: تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله(1). (زهد هناد 2/469)
قال مطرف: ما أوتي عبد بعد الإيمان أفضل من العقل(2). (2/203)
قال مطرف: عقول الناس على قدر زمانهم. (2/203)
قال همام بن يحيى: قلنا لقتادة: أي الناس أغبط؟ قال: أعقلهم، قلنا: أعلمهم؟ قال: أعقلهم. (العقل وفضله ص42)
قال يحيى بن أبي كثير: أعلم الناس وأفضلهم أعقلهم. (العقل وفضله ص68)
قال معاوية بن قرة: إن القوم ليحجون ويعتمرون ويجاهدون ويصلون ويصومون، وما يعطون يوم القيامة إلا على قدر عقولهم. (2/300 و صف3/258)
كان مالك بن دينار يقول: العاقل الكامل من صلح مع الفاجر الجاهل. (2/372)
قال مالكٌ: يا هؤلاءِ إنَّ الكلبَ إذا طُرِحَ إليهِ الذهبُ والفضةُ لمْ يعرفْهما، وإذا طُرِحَ إليهِ العظمُ أكبَّ عليهِ، كذلك سفهاؤُكم لا يعرفونَ الحق. (2/360)
قال يونس بن عبيد: لا ينفعك القارئ حتى يكون له عقل. (العقل وفضله ص43)
__________
(1) المراد النهي عن التفكر في ذات الله وتفاصيل صفاته وكيفياتها ونحو ذلك مما تعجز العقول عن إدراكه، ومما يتخذه الشيطان ذريعة ليوقع ذلك المتفكر في الوسوسة أو الفلسفة أو الدخول فيما لا ينبغي له ولا يقبل منه ولا يقدر على فهمه؛ وأما التفكر في معاني أسمائه وصفاته، والتدبر لآيات عظمته وكبريائه، فهذا من الإيمان والعلم النافع.
(2) مراده العقل الكبير الذي يستعمله صاحبه في التفكر في آيات الله وتدبر كتابه وشرعه ويكون سبباً في تعظيم الله وشدة حبه ورجائه والتوكل عليه والخوف منه.(1/275)
قال إياس بن معاوية: لست بخب، والخب لا يخدعني، ولا يخدع ابن سيرين، وهو يخدع أبي ويخدع الحسن؛ ودخل [أي إياس] الشامَ وهو غلام، فتقدم خصماً له، وكان الخصم شيخاً كبيراً، إلى بعض قضاة عبد الملك بن مروان؛ فقال له القاضي: أتتقدم شيخاً كبيراً؟ قال: الحق أكبر منه؛ قال: أسكت، قال: فمن ينطق بحجتي؟ قال: لا أظنك تقول حقاً حتى تقوم؛ قال: لا إله إلا الله، أحقاً(1) هذا أم باطل؟ فقام القاضي فدخل على عبد الملك من ساعته فخبره بالخبر فقال عبد الملك: اقض حاجته الساعة وأخرجه من الشام لا يفسد علي الناس(2). (البيان والتبيين 1/68-69)
جاء ابنُ الكواء إلى الرَّبيعِ بنِ خُثيمٍ قالَ: دُلَّني علَى مَنْ هوَ خيرٌ منكَ؟ قالَ: نعمْ، منْ كانَ منطقُهُ ذكْراً، وصمتُهُ تفكّراً، ومسيرُهُ تدبّراً فهو خيرٌ مني. (2/106)
قال بكرُ بنُ خنيسٍ: قلت لسعيدِ بنِ المسيبِ وقد رأيتُ أقواماً يصلّون ويتعبدون: يا أبا محمدٍ ألا تتعبدُ مع هؤلاءِ القومِ؟ فقالَ لي: يا ابنَ أخي إنها ليست بعبادة(3)، قلتُ لهُ فما التعبدُ يا أبا محمد؟! قال: التفكرُ في أمرِ اللهِ والورعُ عن محارمِ اللهِ وأداءُ فرائضِ الله تعالى. (2/161-162)
__________
(1) كذا، والجادة الرفع.
(2) قال الجاحظ عقب هذا الكلام: (فإذا كان من إياس وهو غلام يخاف على جماعة أهل الشام فما ظنك به وقد كبرت سنه وعض ناجذه؛ وجملة القول في إياس أنه كان مفاخر مضر، ومن مقدمي القضاة؛ وكان فقيه البدن، رقيق المسلك في الفطن، وكان صادق الحدس، نقاباً، وعجيب الفراسة ملهماً؛ وكان عفيف الطعم كريم المدخل والشيم، وجيهاً عند الخلفاء، مقدماً عند الأكفاء؛ وفي مزينة خير كثير).
(3) أي ليست بعبادة كاملة أو ليست بأفضل العبادات.(1/276)
كان فتية من بني ليث عباداً وكانوا يروحون بالهاجرة إلى المسجد ولا يزالون يصلون حتى يصلى العصر، فقال صالح بن محمد بن زائدة لسعيد بن المسيب: هذه هي العبادة لو نقوى على ما يقوى عليه هؤلاء الفتيان! فقال سعيد: ما هذه العبادة ولكن العبادة التفقه في الدين والتفكر في أمر الله تعالى. (2/162)
قالَ عمرُ بن عبد العزيز: الكلامُ بذكرِ اللهِ حسَنٌ، والفكرةُ في نعمِ اللهِ أفضلُ العبادةِ. (5/314)
قال الحسن: لا فقرَ أشد من الجهل ولا مال أعود من العقل ولا عبادة كالتفكر، ولا حسب كحسن الخلق، ولا ورع كالكف. (الورع ص122)
قال الحسن: إن من أفضل العمل الورع والتفكر(1). (رك ص96 والورع ص53 والعلم ص29 وروضة العقلاء ص30)
قال الحسن: تفكر ساعة خير من قيام ليلة. (المصنف 7/190 والزهد ص271 ومفتاح دار السعادة 1/180)
قال عمرو بن قيس: بلغني أن تفكر ساعة خير من عمل دهر من الدهر. (العظمة ص305)
قال الحسن: ما زال أهل العلم يعودون بالتذكر على التفكر وبالتفكر على التذكر ويناطقون القلوب حتى نطقت فإذا لها أسماع وأبصار فنطقت بالعلم وأورثت الحكمة. (الاستقامة 1/210 والفتاوى الكبرى 5/200 والمدارج 1/441 ومفتاح دار السعادة 1/180)
قال الحسن: طول الوحدة أتم للفكرة وطول الفكرة دليل على طريق الجنة(2). (مفتاح دار السعادة 1/180)
قال الحسن: التفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك. (العظمة 1/228)
__________
(1) في (الزهد) لأحمد (ص265) عن الحسن قال: أفضل العلم الورع والتوكل؛ ويحتمل أن (والتوكل) مصحفة عن (والتفكر).
(2) عن وهب بن منبه رحمه الله قال: الصمت فهم للفكرة والفكرة مفتاح للمنطق والقول بالحق دليل على الجنة. (العظمة ص312-313)(1/277)
قال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان [الداراني] يقول: خرج مالك بن دينار رحمه الله بالليل إلى قاعة الدار وترك أصحابه في البيت وأقام إلى الفجر قائماً في وسط الدار فقال لهم: إني كنت في وسط الدار خطر ببالي أهل النار فلم يزالوا يعرضون علي بسلاسلهم وأغلالهم حتى الصباح. (العظمة ص309-310)
حج سليمان بنُ عبدِ الملك ومعه عمرُ بنُ عبدِ العزيز فلما أشرفَ على عقبةِ عسفان نظرَ سليمانُ إلى عسكرِه فأعجبَه ما رأى من حجرِه وأبنيتِه فقالَ: كيفَ ترى ما ها هنا يا عمرُ؟ قالَ: أرى يا أميرَ المؤمنينَ دنيا يأكلُ بعضُها بعضاً أنتَ المسئولُ عنها والمأخوذُ بما فيها!!؛ فطارَ غرابٌ من حجرةِ سُليمانَ ينعبُ، في منقارِه كسرةٌ، فقال سليمانُ: ما ترى هذا الغراب يقولُ؟ قالَ: أظنُّه يقولُ: مِن أينَ دخلتْ هذه الكسرةُ وكيف خرجتْ؟! قالَ: إنك لتجيءُ بالعجَبِ يا عمر! قالَ: إن شئتَ أُخْبِرُكَ بأَعجبَ من هذا أخبرتك، قالَ: فأخبرني، قالَ: من عرفَ اللهَ فعصاهُ، ومن عرفَ الشيطانَ فأطاعه، ومن رأى الدنيا وتقلُّبَها بأهلِها ثم اطمأنَّ إليها! قال سليمان: نغَّصْتَ علينا ما نحن فيه يا عمر! وضربَ دابَّتَه وسارَ، فأقبلَ عمرُ حتى نزلَ عن دابتِه فأمسكَ برأسِها، وذلكَ أنه سبقَ ثقله، فرأى الناسَ كلَّ منْ قدَّمَ شيئاً قدِمَ عليه، فبكى عمرُ فقالَ سليمانُ: ما يُبكيكَ؟ قالَ: هكذا يومَ القيامةِ: من قدَّم شيئاً قدِمَ عليه، ومن لم يقدِّمْ شيئاً قدِمَ على غيرِ شيء. (5/272)
قال ابن شوذب: رأيت الحجاج بن فرافصة واقفاً في السوق عند أصحاب الفاكهة! فقلت: ما تصنع ههنا؟! قال: أنظر إلى هذه المقطوعة الممنوعة. (3/108)(1/278)
قال بعض الرواة: قام زبيد الأيامي ذات ليلة للتهجد فعمد إلى مطهرة له قد كان يتوضأ منها فغمس يديه في المطهرة فوجد الماء بارداً شديداً كاد أن يجمد من شدة برده فذكر الزمهرير ويده في المطهر فلم يخرجها منها حتى أصبح فجاءت الجارية وهو علي تلك الحال فقالت: ما شأنك يا سيدي لم تصل الليلة كما كنت تصلي وأنت هاهنا قاعد على هذه الحال؟! قال: ويحك إني أدخلت يدي في هذه المطهرة فاشتد علي برد الماء فذكرت به الزمهرير فوالله ما شعرت بشدة برده حتى وقفت علي! انظري أن لا تحدثي بها أحداً ما دمت حياً، قال: فما علم بذلك أحد حتى مات. رحمه الله. (التهجد ص179)
قال الحسن في قوله تعالى (وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ)(1): إنما عاتبهم لأنه يحبهم. (العقل وفضله ص62)
قال الحسن: لا يتم دين الرجل حتى يتم عقله وما أودع الله امرأ عقلاً إلا استنقذه به يوماً. (روضة المحبين ص9 وانظر روضة العقلاء ص18 والعقل وفضله ص70)
قال الحسن: أنا للعاقل المدبِر أرجى مني للأحمق المقبل. (روضة العقلاء ص123)
قال الحسن: من لم يكن له عقل يسوسه لم ينتفع بكثرة روايات الرجال. (العقل وفضله ص64)
قال الحسن: جاء رجل بنبيذ إلى أحب خلق الله إليه أفسده؛ يعني العقل. (مختصر الشعب ص78-79)
قال الحسن: التقدير نصف الكسب، والتُّؤدة نصف العقل، وحسن طلب الحاجة نصف العلم. (العقد الفريد 6/88)
فضل العلم النافع
قال عبيد بن عمير: من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ويلهمه رشده فيه. (العلم ص17)
قال قتادة: كان مطرف يقول: فضل العلم أحب إلى الله من فضل العبادة؛ وخير دينكم الورع. (الزهد ص240 والورع لأحمد 45 والعلم لأبي خيثمة 13 وشرح السنة 1/280 والطبقات الكبرى 7/142)(2)
قال يحيى بن أبي كثير: ميراث العلم خير من ميراث الذهب واليقين الصالح خير من اللؤلؤ. (3/66-67)
__________
(1) البقرة (197).
(2) اقتصرت بعض هذه المصادر على هذا اللفظ (فضل العلم خير من فضل العبادة).(1/279)
قال أبو حازم: مثل العالم والجاهل مثل البنّاء والرقّاص(1) تجد البنّاء على الشاهق والقصرِ، معه حديدتُه، جالساً، والرقاص يحمل اللبن والطين على عاتقه على خشبة تحته مهواة لو زل ذهبت نفسه(2)، ثم يتكلف الصعود بها على هولِ ما تحته حتى يأتي بها إلى البناء، فلا يزيد البناء على أن يُعدلها بحديدته وبرأيه وبتقديره، فإذا سلما أخذ البناء تسعةَ أعشار الأجرة وأخذ الرقاص عشراً، وإنْ هلك ذهبت نفسه، فكذا العالم يأخذ أضعاف الأجر بعلمه. (3/245)
عن يونس بن عبيد عن الحسن قال: لقد طلب أقوام العلم ما أرادوا به الله ولا ما عنده؛ قال: فما زال بهم العلم حتى أرادوا به الله وما عنده. (سنن الدارمي 1/116)
بيان أن العلم لا ينفع حتى يعمل به حامله(3)
__________
(1) أي عامل البناء، والرقص في اللغة: الارتفاع والانخفاض.
(2) أي مات.
(3) مما ينبغي التنبه له أن العلم قد يطلب في كثير من الأحيان لمقاصد دنيوية، وقد يطلب لكونه مما تهواه الأنفس لمقاصد نفسية ومطالب غير شرعية، وكل ذلك يصحبه تلبيس خطير من ابليس لعنه الله فتخفى حقيقة الحال على ذلك الطالب في الغالب؛ وأيضاً التوسع في طلب العلم يشغل كثيراً من الطلاب عن العمل به وقد حذر الله تعالى ثم رسوله ثم السلف والعلماء من هذه الأمراض والعيوب تحذيراً شديداً صريحاً مؤكداً؛ فلا بد من أن يحذر طلبة العلم ولا سيما علم الحديث من تلبيس الشيطان عليهم بالغرور أو بترك العمل أو بغير ذلك.
قال الذهبي في (تذكرة الحفاظ) (1/204-205): (قال الخريبي: سمعت الثوري يقول: ليس شيء أنفع للناس من الحديث؛ وقال أبو أسامة: سمعت سفيان يقول: ليس طلب الحديث من عدة الموت لكنه علة يتشاغل بها الرجل؛ قلت [القائل هو الذهبي]: صدق والله؛ إن طلب الحديث [شيء غير] الحديث؛ فطلب الحديث اسم عرفي لأمور زائدة على تحصيل ماهية الحديث؛ وكثير منها مراق إلى العلم؛ وأكثرها أمور يشغف بها المحدث، من تحصيل النسخ المليحة، وتطلُّب الإسناد العالي، وتكثير الشيوخ، والفرح بالألقاب والثناء، وتمني العمر الطويل ليروي، وحب التفرد؛ إلى أمور عديدة لازمة للأغراض النفسانية لا الأعمال الربانية.
فإذا كان طلبك الحديث النبوي محفوفاً بهذه الآفات فمتى خلاصك منها إلى الإخلاص؟!
وإذا كان علم الآثار مدخولاً فما ظنك بعلم المنطق والجدل وحكمة الأوائل [يعني الفلسفة] التي تسلب الإيمان وتورث الشكوك والحيرة التي لم تكن واللهِ من علم الصحابة ولا التابعين، ولا من علم الأوزاعي والثوري ومالك وأبي حنيفة وابن أبي ذئب وشعبة؛ ولا والله عرفها ابن المبارك ولا أبو يوسف القائل: من طلب الدين بالكلام تزندق، ولا وكيع ولا ابن مهدي ولا ابن وهْب ولا الشافعي ولا عفان ولا أبو عبيد ولا ابن المديني وأحمد وأبو ثور والمزني والبخاري والأثرم ومسلم والنسائي وابن خزيمة وابن سريج وابن المنذر وأمثاله؛ بل كانت علومهم القرآن والحديث والفقه والنحو وشبه ذلك.
نعم، وقال سفيان أيضاً فيما سمعه منه الفريابي: ما من عمل أفضل من طلب الحديث إذا صحت النية فيه)؛ انتهى.
ونقله الزركشي في (النكت على مقدمة ابن الصلاح) (3/637-638):
وروى الخطيب في (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السمع) (1/77-78) منتقداً كثيراً من المنتسبين إلى هذا العلم الشريف من أهل عصره وغيرهم ممن جاءوا بعد العصور الخيرية الفاضلة: (وهم مع قلة كتبهم له وعدم معرفتهم به أعظم الناس كبراً وأشد الخلق تيهاً وعجباً لا يراعون لشيخ حرمة ولا يوجبون لطالب ذمة، يخرقون بالراوين ويعنفون على المتعلمين، خلاف ما يقتضيه العلم الذي سمعوه، وضد الواجب مما يلزمهم أن يفعلوه؛ وقد وصف أمثالهم بعض السلف)
ثم روى في ذلك المعنى عن عمرو بن الحارث وحماد بن سلمة كلاماً لهما.
ثم قال الخطيب: (والواجب أن يكون طلبة الحديث أكمل الناس أدباً وأشد الخلق تواضعاً وأعظمهم نزاهة وتديناً وأقلهم طيشاً وغضباً، لدوام قرع أسماعهم بالأخبار المشتملة على محاسن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وآدابه، وسيرة السلف الأخيار من أهل بيته وأصحابه، وطرائق المحدثين ومآثر الماضين، فيأخذوا بأجملها وأحسنها ويصدفوا عن أرذلها وأدونها).
ثم روى عن أبي عاصم أنه قال: (من طلب هذا الحديث فقد طلب أعلى أمور الدنيا فيجب أن يكون خير الناس).
وروى (1/79) عن سفيان بن عينية أنه كان يقول: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الميزان الأكبر، فعليه تعرض الأشياء، على خلقه وسيرته وهديه؛ فما وافقها فهو الحق، وما خالفها فهو الباطل).
وروى (1/80) عن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال: (قال لي أبي: يا بني ايت الفقهاء والعلماء وتعلم منهم وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم؛ فإن ذاك أحب إلي لك من كثير من الحديث).
وعن ابن المبارك قال: (قال لي مخلد بن الحسين نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من الحديث).
وعن محمد بن نعيم الضبي قال: سمعت أبا زكريا العنبري يقول: (علم بلا أدب كنار بلا حطب؛ وأدب بلا علم كروح بلا جسم).
قال الخطيب: (وإنما شبهت العلم بالنار، لما روينا عن سفيان بن عيينة أنه قال: ما وجدت للعلم شبهاً إلا النار نقتبس منها ولا ننتقص عنها).
قلت: إن ما تقدم لا يختص به علم الحديث وحده، بل هو شأن العلوم الشرعية الأخرى، كالفقه والتفسير ولغة الوحيين ونحو ذلك من العلوم التي يكون الأصل فيها أن يبتغى بها وجه الله تعالى.
وقد تكلم الخطيب في (الجامع) أيضاً على مسألة النية في الطلب فقال (1/80-81): يجب على طالب الحديث أن يخلص نيته في طلبه ويكون قصده بذلك وجه الله سبحانه.
ثم روى عن وكيع قال: (سمعت سفيان يقول: ما شيء أخوف عندي منه يعني الحديث وما من شيء يعدله لمن أراد الله به)؛ وقد تقدم هذا الأثر.
ثم روى (1/83) عن عبد العزيز بن أبي رزمة قال: (أتينا إسرائيل مع نفر من أهل خراسان فسألَنا؛ قلنا: نحن من أهل مرو؛ فقال: مرو أم خراسان، فإن استطعتم أن لا يكون أحد أسعد بما سمعتم منكم، فافعلوا؛ من طلب هذا العلم لله تعالى شرف وسعد في الدنيا والآخرة؛ ومن لم يطلبه لله خسر الدنيا والاخرة).
ثم قال الخطيب (1/83): (وليحذر أن يجعله سبيلاً إلى نيل الأعراض [لعلها الأغراض]، وطريقاً إلى أخذ الأعواض؛ فقد جاء الوعيد لمن ابتغى ذلك بعلمه).
ثم روى (1/84) عن إسحاق بن عيسى بن الطباع قال: قال حماد بن سلمة: (من طلب الحديث لغير الله مكر به).
ثم روى (1/85) عن ابن المبارك قال: (قيل لسفيان: من الناس؟ قال: العلماء، قيل: فمن السفلة؟ قال: الظلمة، قيل: فمن الغوغاء؟ قال: الذين يكتبون الحديث يأكلون به [أموال] الناس، قيل: فمن الملوك؟ قال: الزهاد).
قال الخطيب: (وليتق المفاخرة والمباهاة به، وأن يكون قصده في طلب الحديث نيل الرئاسة واتخاذ الاتباع وعقد المجالس، فإنَّ الآفة الداخلة على العلماء أكثرها من هذا الوجه).
ثم قال (1/87): (وليجعل حفظه للحديث حفظ رعاية لا حفظ رواية، فإن رواة العلوم كثير ورعاتها قليل، ورب حاضر كالغائب وعالم كالجاهل وحامل للحديث ليس معه منه شيء؛ إذ كان في اطِّراحه لحكْمه [يعني عدم العمل به] بمنزلة الذاهب عن معرفته وعلمه).
ثم روى (1/88) عن عبد الله بن المبارك قال: (من طلب الحديث وكتب ليُكتبَ عنه فلا يجد رائحة الجنة).
ثم روى (1/90) عن سفيان بن عيينة أنه قال: (إنما منزلة الذي يطلب العلم ينتفع به بمنزلة العبد يطلب كل شيء يرضي سيده، يطلب التحبب إليه، والتقرب إليه، والمنزلة عنده، لئلا يجد عنده شيئاً يكرهه)؛ وأنه قال: (إن أنا عملت بما أعلم فأنا أعلم الناس؛ وإن لم أعمل بما أعلم فليس في الدنيا أحد أجهل مني).
وروى (1/90) عن عبد الله بن المبارك عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان قال: قال أبو الدرداء: (من عمل بعشر ما يعلم علمه الله ما يجهل).(1/280)
قال الحسن: العلم علمان، فعلم في القلب، فذلك العلم النافع، وعلم على اللسان، فذلك حجة الله على بن آدم(1). (سنن الدارمي 364 والايمان لابن أبي شيبة 93 ومجموع الفتاوى 18/303 وجامع العلوم والحكم ص343 وفيض القدير 5/356)
قال مسعر: قيل لسعد بن إبراهيم: من أفقه أهل المدينة؟ قال: أتقاهم لربه. (صف 2/146)
قال يحيى بن أبي كثير: العالم من يخشى الله عز وجل(2). (3/67)
كان مجاهدٌ يقولُ: الفقيهُ من يخافُ اللهَ عزَّ وجلَّ. (3/280)
قال عمرانُ القصيرُ: سألتُ الحسنَ عن شيءٍ، فقلتُ: إنَّ الفقهاءَ يقولونَ كذا وكذا؛ فقالَ: وهلْ رأيتَ فقيهاً بعينك إنما الفقيه الزاهد في الدنيا البصير بدينه المداوم على عبادة ربه عز وجل(3). (2/147)
قال مطر الوراق: سألت الحسن عن مسألة فقال فيها فقلت: يا أبا سعيد يأبى عليك الفقهاء ويخالفونك؟ فقال: ثكلتك أمك يا مطر! وهل رأيت فقيها قط؟ وهل تدري ما الفقيه؟ الفقيه الورع الزاهد الذي لا يسخر ممن أسفل منه ولا يهمز من(4) فوقه ولا يأخذ على علم علمه الله حطاماً(5)
__________
(1) قال ابن رجب عقب هذا الكلام: (كما في الحديث "القرآن حجة لك أو عليك").
(2) قال الدارمي في (سننه) (363): أخبرنا محمد بن يوسف عن سفيان قال: كان يقال: العلماء ثلاثة: عالم بالله يخشى الله ليس بعالم بأمر الله؛ وعالم بالله عالم بأمر الله يخشى الله فذاك العالم الكامل؛ وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله لا يخشى الله فذلك العالم الفاجر.
(3) ذكر كلمة الحسن هذه ابن الجوزي في (منهاج القاصدين) كما في (مختصره) (ص28) وزاد: (الورع، الكافّ عن أعراض المسلمين العفيف عن أموالهم الناصح لهم).
(4) في (طبقات الحنابلة): (ولا يهزأ بمن).
(5) وهذه روايات أخرى:
سأل فرقد السبخي الحسن عن شيء فأجابه فقال: إن الفقهاء يخالفونك فقال الحسن: ثكلتك أمك فريقد وهل رأيت بعينيك فقيهاً؟! إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الاخرة البصير بدينه المداوم على عبادة ربه الذي لا يهمز من فوقه ولا يسخر بمن دونه ولا يبتغى على علم علمه الله تعالى أجراً. (مفتاح دار السعادة 1/89)
قال الحسن: الفقيه المجتهد في العبادة والزاهد في الدنيا المقيم على سنة محمد صلى الله عليه وسلم. (طبقات الحنابلة 2/150)
قال الحسن: ما رأيت فقيهاً قط، إنما الفقيه الزاهد في الدنيا الراغب في الآخرة الدائب على العبادة المتمسك بالسنة. (طبقات الحنابلة 2/150)
مر على الحسن رجل فقيل: هذا فقيه فقال أو تدرون من الفقيه إنما الفقيه العالم في دينه الزاهد في دنياه القائم على عبادة ربه. (مختصر الشعب ص45 وأخلاق العلماء ص54)(1/281)
. (أخلاق العلماء ص53 وطبقات الحنابلة 2/149-150)
قال مطر: خير العلم ما نفع؛ وإنما ينفع الله بالعلم من علمه ثم عمل به؛ ولا ينفع به من علمه ثم تركه. (جامع الخطيب 1/90 والمدخل إلى السنن الكبرى ص326)
قال ليثٌ: كنتُ أسألُ الشعبيَّ فيعرضُ عني ويجبهني بالمسألةِ فقلتُ: يا معشرَ العلماءِ يا معشرَ الفقهاءِ تروون(1) عنا أحاديثكم وتجبهوننا بالمسألة(2)؟! فقال الشعبي: يا معشر العلماء يا معشر الفقهاء(3)!!! لسنا بفقهاءَ ولا علماءَ، ولكنا قومٌ قد سمعنا حديثاً فنحنُ نحدِّثُكم بما سمعنا؛ إنما الفقيهُ مَن ورِعَ عن محارمِ الله والعالم من خاف الله(4). (4/311)
قال الشعبي: إنا لسنا بالفقهاء ولكنا سمعنا الحديث فرويناه ولكن الفقهاء من إذا علم عمل(5). (اقتضاء العلم العمل ص79)
__________
(1) كذا ولعل الصواب (تزوون).
(2) جاء في (لسان العرب) (13/483): (وجَبَه الرجلَ يَجْبَهُه جَبْهاً: رَدَّه عن حاجتِه واستقبلَه بما يكره. وجَبَهْتُ فلاناً إِذا استقبلته بكلام فيه غِلْظة. وجَبَهْتُه بالمكروه إِذا استقبلته به).
(3) ردد كلمة ليث استغراباً منها واستنكاراً لها؛ هذا إن كانت العبارة محفوظة ولم يكن التكرار خطأ من ناسخ أو طابع.
(4) وقال رجل للشعبي: أيها العالم؛ فقال: العالم من يخاف الله. (4/311)
(5) وهذه فائدة من كلام الشعبي، رواها عنه الشيباني قال: (كان يؤخذ العلم عن ستة من أصحاب رسول الله فكان عمر وعبد الله وزيد يشبه علمهم بعضهم بعضاً، وكان يقتبس بعضهم من بعض، وكان علي وأبيّ والاشعري يشبه علمهم بعضهم بعضاً، وكان يقتبس بعضهم من بعض، قال: فقلت له: وكان الأشعري إلى هؤلاء؟ قال: كان أحد الفقهاء). (العلم لأبي خيثمة ص23)(1/282)
قال سفيان: حدثني رجل من أهل الكوفة قال: سئل عامر، يعني الشعبي، لما حضرته الوفاة بمن تأمرنا؟ قال: ما أنا بعالم ولا أترك عالماً، وإن أبا حصين [الأسدي] رجل صالح(1). (تهذيب الكمال 19/406)
قال سفيان: كنت أسمع الزهري يقول: حدثني فلان وكان من أوعية العلم، ولا يقول: كان عالماً(2). (3/363)
قال الحسن: الإيمان إيمان من خشي الله عز وجل بالغيب ورغب فيما رغب الله فيه وترك ما يسخط الله ثم تلا الحسن لذلك (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)(3). (الزهد ص271-272)
قالَ مسروقٌ: كفَى بالمرءِ علماً أنْ يخشَى اللهَ وكفَى بالمرءِ جهلاً أنْ يُعْجَبَ بعلمِه(4)
__________
(1) قال مالك بن مغول: قيل للشعبي: أيها العالم، قال: ما أنا بعالم ولا أخلف عالماً وإن أبا حصين رجل صالح. (تهذيب الكمال 19/406)
(2) فهو يفرق بين من جمع علماً كثيراً ومن هو مستحق لاسم العالم وهو العالم بالله تعالى وشرعه، العامل بعلمه؛ فلا يلزم أن يكون كل صاحب علمٍ عالماً من ورثة الأنبياء.
(3) فاطر (28).
(4) قال ابن القيم في (الفوائد) (ص144): (لا ينتفع بنعمة الله بالإيمان والعلم إلا من عرف نفسه ووقف بها عند قدرها ولم يتجاوزه إلى ما ليس له ولم يتعد طوره ولم يقل هذا لي، وتيقن أنه لله ومن الله وبالله؛ فهو المانُّ به ابتداء وإدامة بلا سبب من العبد ولا استحقاق منه، فتذله نعم الله عليه وتكسره كسرة من لا يرى لنفسه ولا فيها خيراً ألبتة، وأن الخير الذي وصل إليه فهو لله وبه ومنه، فتحدث له النعم ذلاً وانكساراً عجيباً لا يعبر عنه .
فكلما جدد له نعمة ازداد له ذلاً وانكساراً وخشوعاً ومحبة وخوفاً ورجاء، وهذا نتيجة علمين شريفين :
علمه بربه وكماله وبره وغناه [وجوده] وإحسانه ورحمته، وأن الخير كله في يديه وهو ملكه يؤتي منه من يشاء ويمنع منه من يشاء، وله الحمد على هذا وهذا، أكملَ حمد وأتمه .
وعلمه بنفسه ووقوفه على حدها وقدرها ونقصها وظلمها وجهلها، وأنها لا خير فيها ألبتة، ولا لها، ولا بها، ولا منها، وأنها ليس لها من ذاتها إلا العدم؛ فكذلك من صفاتها وكمالها ليس لها إلا العدم الذي لا شيء أحقر منه ولا أنقص، فما فيها من الخير تابع لوجودها الذي ليس إليها [في بعض النسخ لها]، ولا بها .
فإذا صار هذان العلمان صبغة لها لا صيغة على لسانها علمتْ حينئذ أن الحمد كله لله والأمر كله له والخير كله في يديه، وأنه هو المستحق للحمد والثناء والمدح دونها، وأنها هي أولى بالذم والعيب واللوم .
ومن فاته التحقق بهذين العلمين تلونت به أقواله وأعماله وأحواله وتخبطت عليه ولم يهتد إلى الصراط المستقيم الموصل له إلى الله ؛ فإيصال العبد بتحقيق هاتين المعرفتين علماً وحالاً، وانقطاعه بفواتهما ؛ وهذا معنى قولهم : (من عرف نفسه عرف ربه)، فإنه من عرف نفسه بالجهل والظلم والعيب والنقائص والحاجة والفقر والذل والمسكنة والعدم، عرف ربه بضد ذلك، فوقف بنفسه عند قدرها ولم يتعد بها طورها، وأثنى على ربه ببعض ما هو أهله، وانصرفت قوة حبه وخشيته ورجائه وإنابته وتوكله إليه وحده، وكان أحب شيء إليه وأخوف شيء عنده وأرجاه له، وهذا هو حقيقة العبودية، والله المستعان .
ويحكى أن بعض الحكماء كتب على باب بيته : إنه لن ينتفع بحكمتنا إلا من عرف نفسه ووقف بها عند قدرها، فمن كان كذلك فليدخل، وإلا فليرجع حتى يكون بهذه الصفة ).
وقال في موضع آخر من (الفوائد) أيضاً (ص161-162) [طبعة مكتبة الإيمان بمصر]: (من علامات السعادة والفلاح أن العبد:
كلما زيد في علمه زيد في تواضعه ورحمته.
وكلما زيد في عمله زيد في خوفه وحذره.
وكلما زيد في عمره نقص من حرصه .
وكلما زيد في ماله زيد في سخائه وبذله.
وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في قربه من الناس وقضاء حوائجهم والتواضع لهم .
وعلامات الشقاوة أنه:
كلما زيد في علمه زيد في كبْره وتيهه.
وكلما زيد في عمله زيد في فخره واحتقاره للناس وحسن ظنه بنفسه.
وكلما زيد في عمره زيد في حرصه.
وكلما زيد في ماله زيد في بخله وإمساكه.
وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في كبره وتيهه.
وهذه الأمور ابتلاء من الله وامتحان يبتلي بها عباده فيسعد بها أقوام ويشقى بها أقوام .
وكذلك الكرامات امتحان وابتلاء، كالملْك والسلطان والمال؛ قال تعالى عن نبيه سليمان لما رأى عرش بلقيس عنده : (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر) [سورة النمل 40] فالنعم ابتلاء من الله وامتحان يظهر بها شكر الشكور وكفر الكفور؛ كما أن المحن بلوى منه سبحانه، فهو يبتلي بالنعم كما يبتلي بالمصائب، قال تعالى : ( فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا . . . .) [ الفجر 15- 17]؛ أي ليس كل من وسعت عليه وأكرمته ونعمته يكون ذلك إكراماً مني له، ولا كل من ضيقت عليه رزقه وابتليته يكون ذلك إهانة مني له ).
وقال في موضع ثالث من (الفوائد):
(أعلى الهمم في طلب العلم: طلب علم الكتاب والسنة والفهم عن الله ورسوله نفس المراد وعلم حدود المنزل.
وأخس همم طلاب العلم [همة من] قصر همته علي تتبع شواذ المسائل وما لم ينزل ولا هو واقع، أو كانت همته معرفة الاختلاف وتتبع أقوال الناس، وليس له همة إلى معرفة الصحيح من تلك الأقوال؛ وقل أن ينتفع واحد من هؤلاء بعلمه.
وأعلى الهمم في باب الإرادة: أن تكون الهمة متعلقة بمحبة الله والوقوف مع مراده الديني الأمري.
وأسفلها أن تكون الهمة واقفة مع مراد صاحبها من الله؛ فهو إنما يعبده لمراده منه لا، لمراد الله منه؛ فالأول يريد الله، ويريد مراده؛ والثاني يريد من الله، وهو فارغ عن إرادته).(1/283)
. (أخلاق العلماء 46 والعلم لأبي خيثمة ص9 و14 والحلية 2/95)
عن القاسم بن هزان سمع الزهري يقول: لا يرضين الناس قول عالم لا يعمل ولا عامل لا يعلم. (اقتضاء العلم العمل ص25)
قال مالك بن دينار: إن العبد إذا طلب العلم للعمل كسره علمه، وإذا طلبه لغير ذلك ازداد به فجوراً أو فخراً. (اقتضاء العلم العمل ص32 والحلية 2/372)
قال مطر: خير العلم ما نفع، وإنما ينفع الله بالعلم من علمه ثم عمل به، ولا ينفع به من علمه ثم تركه. (اقتضاء العلم العمل ص33)
قال حبيب بن عبيد الرحبي: تعلموا العلم واعقلوه وانتفعوا به، ولا تعلموه لتجملوا به، فإنه يوشك إن طال بكم العمر أن يُتجمل بالعلم كما يتجمل الرجل بثوبه(1). (اقتضاء العلم العمل ص33-34 والحلية 6/102 وأخلاق العلماء 80)
قال صالح بن رستم: قال أبو قلابة لأيوب: يا أيوب إذا أحدث الله لك علماً فأحدث لله عبادة ولا تكونن إنما همك أن تحدث به الناس. (اقتضاء العلم العمل ص34-35 و صف3/238)
__________
(1) ومن تعلم العلم ليتزين به فإنه يشينه، وهذا من مكر الله تعالى به؛ والجزاء من جنس العمل؛ ألا ترى أن العلم صار مهاناً لما تعاطاه اليهود، فلم يشرفوا، به بل شانهم علمهم؛ وما أحسن قول أفلاطون إن الفضيلة تستحيل في النفس الردية رذيلة كما يستحيل الغذاء الصالح في بدن السقيم إلى الفساد؛ ذكر قوله هذا صديق حسن خان في (أبجد العلوم) (1/106).
هذا عقوبته الدنيوية؛ وأما في الآخرة فعقوبته، والعياذ بالله، الخزي بين الناس، ثم يكون علمه حجة عليه لا له، وبذلك يكون خاسراً مذموماً؛ روى أبو نعيم في (الحلية) (6/251) عن إسحاق بن عيسى الطباع قال: سمعت حماد بن سلمة يقول: (من طلب الحديث لغير الله مكر به)؛ وحديث الثلاثة الذين هم أول من تسعَّر بهم النار معلوم مشهور.(1/284)
قال الحسن: تعلموا ما شئتم أن تعلموا؛ فلن يجازيكم الله على العلم حتى تعملوا؛ فإن السفهاء همتهم الرواية وان العلماء همتهم الرعاية. (جامع الخطيب 1/91 واقتضاء العلم العمل ص35)
قال ابن المنكدر: العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل. (اقتضاء العلم العمل ص35)
قال الحسن: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال؛ من قال حسناً وعمل غير صالح رده الله على قوله، ومن قال حسناً وعمل صالحاً رفعه العمل وذلك بأن الله تعالى يقول: (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)(1). (اقتضاء العلم العمل ص42-43)
عن المبارك بن فضالة عن الحسن: (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِه)(2) قال: عمله. (اقتضاء العلم العمل ص43)
قال الحسن في قول الله (كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)(3) قال: كل آدمي في عنقه قلادة تكتب فيها نسخة عمله، فإذا طويت قلدها فإذا بعث نشرت له؛ وقال(4): (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً)، يا ابن آدم أنصفك من خلقك [و]جعلك حسيب نفسك(5). (رك ص545)
__________
(1) فاطر (10).
(2) الإسراء (13).
(3) يعني قوله تعالى (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء 13-14).
(4) في الأصل (وقيل).
(5) قرأ الحسن: (وكل انسان لزمناه طائره في عنقه) فقال: لقد عدل عليك من جعلك حسيب نفسك. (الزهد ص287)(1/285)
قال أبو التياح: سمعت أبا السوار(1) يقول - وقرأ هذه الآية (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ)(2) قال: هما نشرتان(3) وطيةٌ، أما ما حييت يا ابن آدم فصحيفتك منشورة فَأَمْلِ فيها ما شئت! فإذا مِتَّ طُوِيَتْ ثم إذا بُعِثْتَ نُشِرَتْ: (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا). (صف3/230)
قال مالك بن مغول: سمعت الشعبي يقول: ليتني لم أكن علمت من ذا العلم شيئاً. (اقتضاء العلم العمل ص55)
قال محمد بن واسع: قال لقمان لابنه: يا بني لا تتعلم ما لا تعلم حتى تعمل بما تعلم. (اقتضاء العلم العمل ص56)
قال مالك بن دينار: إني وجدت في بعض الحكمة: لا خير لك أن تعلم ما لم تعلم ولم تعمل بما قد علمت، فإن مثل ذلك مثل رجل احتطب حطباً فحزم حزمة ذهبَ يحملها فعجز عنها فضم إليها أخرى. (اقتضاء العلم العمل ص56-57 والحلية 3/375)
قال مالك بن دينار: كنت مولعاً بالكتب أنظر فيها فدخلت ديراً من الديارات ليالي الحجاج فأخرجوا كتاباً من كتبهم فنظرت فيه فإذا فيه: يا ابن آدم لِمَ تطلب علم ما لم تعلم وأنت لا تعمل بما تعلم؟! ( )
قال أبو حازم: السر أمْلكُ بالعلانية من العلانية بالسر؛ والفعلُ أملكُ بالقولِ من القول بالفعل؛ فإذا كنت في زمانٍ يُرضى فيه من الفعل بالقول ومن العمل بالعلم، فأنت في شر زمان وشر أناس. (عيون الأخبار 2/363)
قال أبو حازمٍ: رضيَ الناسُ منَ العملِ بالعلمِ ومنَ الفعلِ بالقول(4). (3/241 واقتضاء العلم العمل ص60)
قال ابن عون: وددت أني خرجت منه كفافاً يعني العلم، ما أنا على شيء مقيم أخاف أن يدخلني النار غيره. (اقتضاء العلم العمل ص61)
__________
(1) أبو السوار هو حسان بن حريث العدوي من بني عدى بن زيد مناة، هذا هو المشهور في تسميته، وانظر ما سبق.
(2) الإسراء (13).
(3) النشرة الأولى للكتابة والثانية للقراءة.
(4) أي أنهم قنعوا بالعلم بديلاً عن العمل، وبالكلام بديلاً عن الفعل.(1/286)
قال مالك بن دينار: العالم الذي لا يعمل بعلمه بمنزلة الصفا إذا وقع عليه القطر زلق عنها. (2/372 واقتضاء العلم العمل ص62)
قال مالك بن دينار: قرأت في التوراة: إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل القطر عن الصفا. (اقتضاء العلم العمل ص61 والجامع)
قال وهب بن منبه: إن عيسى بن مريم عليه السلام قال: ويلكم يا عبيد الدنيا ماذا يغني عن الأعمى سعة نور الشمس وهو لايبصرها؟ كذلك لا يغني عن العالم كثرة علمه إذا لم يعمل به، ما أكثر أثمار الشجر وليس كلها ينفع ويؤكل(1)، وما أكثر العلماء وليس كلكم ينتفع بما علم، فاحتفظوا من العلماء الكذبة الذين عليهم لباس الصوف منكسين رؤوسهم إلى الأرض يطرفون من تحت حواجبهم كما ترمق الذباب، قولهم مخالف فعلهم، من يجتني من الشوك العنب ومن الحنظل التين؟! كذلك لا يثمر قول العالم الكذاب إلا زوراً؛ إن البعير إذا لم يوثقه صاحبه في البرية نزع إلى وطنه وأصله، وإن العلم إذا لم يعمل به صاحبه خرج من صدره وتخلى منه وعطله، وإن الزرع لا يصلح إلا بالماء والتراب، كذلك لا يصلح الإيمان إلا بالعلم والعمل، ويلكم يا عبيد الدنيا إن لكل شيء علامة يعرف بها وتشهد له أو عليه وإن للدين ثلاث علامات يعرف بهن: الإيمان والعلم والعمل. (اقتضاء العلم العمل ص68)
قال وهب بن منبه: قال الله تعالى فيما يعيب به أحبار بني إسرائيل: أتفقهون لغير الدين وتعلَّمون لغير العمل وتبتاعون الدنيا بعمل الآخرة؟! تلبسون جلود الضأن وتخفون أنفس الذئاب وتنقون القذى من شرابكم وتبتلعون أمثال الجبال من الحرام وتثقلون الدين على الناس أمثال الجبال ولا تعينونهم برفع الخناصر، تطيلون، الصلاة وتبيضون الثياب وتغتصبون مال اليتيم والأرملة، بعزتي حلفت لأضربن بفتنة يضل فيها رأي كل ذي رأي وحكمة الحكيم. (اقتضاء العلم العمل ص78-79)
__________
(1) في الأصل (ولا يؤكل)، ويظهر أن (لا) زائدة.(1/287)
عن سليمان التميمي عن سيار عن عائذ الله(1) قال: الذي يتبع الأحاديث ليحدث بها لا يجد ريح الجنة. (اقتضاء العلم العمل ص81)
عن الضحاك بن أبي حوشب قال: سمعت القاسم بن مخيمرة يقول: تعلم النحو أوله شغل وآخره بغي. (اقتضاء العلم العمل ص91)
عن إبراهيم بن أدهم عن مالك بن دينار قال: تلقى الرجل وما يلحن حرفاً وعمله لحن كله(2)
__________
(1) هو أبو ادريس الخولاني.
(2) عن إبراهيم بن أدهم قال: أعربنا في الكلام فما نلحن ولحنا في الأعمال فما نعرب. (اقتضاء العلم العمل ص91)
وعن أبي هارون محمد بن هارون قال: سمعت ابن أبي أويس يقول: حضر رجل من الأشراف عليه ثوب حرير قال: فتكلم مالك [بن أنس] بكلام لحن فيه قال: فقال الشريف: ما كان لأبوي هذا درهمان ينفقان عليه ويعلمانه النحو؟! قال: فسمع مالك كلام الشريف فقال: لأن تعرف ما يحل لك لبسه مما يحرم عليك خير لك من ضرب عبد الله زيداً وضرب زيد عبد الله. (اقتضاء العلم العمل ص94)
وعن الصولي قال: قال بعض الزهاد:
لم نؤت من جهل ولكننا**نستر وجه العلم بالجهل
نكره أن نلحن في قولنا**ولا نبالي اللحن في الفعل
(اقتضاء العلم العمل ص92)
وعن أبي بكر أحمد بن سلمان بن الحسن النجاد الفقيه قال: أنشدنا هلال بن العلاء الباهلي لنفسه:
سيبلى لسان كان يعرب لفظه***فيا ليته من وقفة العرض يسلم
وما ينفع الإعرابُ إن لم يكن تقى** وما ضر تقوى لسان معجم
(اقتضاء العلم العمل ص93)
وعن محمد بن المثنى السمسار قال: كنا عند بشر بن الحارث وعنده العباس بن عبد العظيم العنبري وكان من سادات المسلمين فقال له: يا أبا نصر أنت رجل قد قرأت القرآن وكتبت الحديث فلمَ لا تتعلم من العربية ما تعرف به اللحن حتى لا تلحن؟! قال: ومن يعلمني يا أبا الفضل؟! قال: أنا يا أبا نصر، قال: فافعل، قال: قل: ضرب زيدٌ عمراً، قال: فقال له بشر: يا أخي ولمَ ضربه؟! قال: يا أبا نصر ما ضربه، وإنما هذا أصل وضع، فقال بشر: هذا أوله كذب لا حاجة لي فيه. (اقتضاء العلم العمل ص93-94)(1/288)
. (اقتضاء العلم العمل ص91)
عن سفيان عن رجل عن الحسن أنه كان يتمثل هذا البيت إذا أصبح وإذا أمسى:
يسر الفتى ما كان قدم من تقى إذا عرف الداء الذي هو قاتله(1)
(اقتضاء العلم العمل ص99)
قال الضحاك بن مزاحم: إعمل قبل أن لا تسطيع أن تعمل فأنا أبغي أن أعمل اليوم فلا أستطيع. (اقتضاء العلم العمل ص110)
عن أبي الجوزاء: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)(2) قال: تسويفاً. (اقتضاء العلم العمل ص113)
عن عبد الله بن المبارك عن شعبة عن أبي إسحاق قال: قيل لرجل من عبد القيس: أوصِ، قال: إحذروا سوف. (اقتضاء العلم العمل ص113)
عن قتادة عن أبي الجلد قال: قرأت في بعض الكتب: إن سوف جند من جند إبليس. (اقتضاء العلم العمل ص114)
قال قتادة: العلماء كالملح: إذا فسد الشيء صلح بالملح، وإذا فسد الملح لم يصلح بشيء. (الجامع 1/184)
قال يحيى بن أبي كثير: العلماءُ مثلُ الملحِ، هو صلاحُ كلِّ شيءٍ، فإذا فسدَ الملحُ لم يصلحْهُ شيءٌ، وينبغي أن يوطأَ بالأقدامِ ثم يُلقى. (3/67)
قال الحسن: كان الرجل إذا تقرّأ وله دراهم ذهبت دراهمه؛ واليوم إذا تقرأ وليست له دراهم كثرت دراهمه(3)! (الشعب 5/364)
قال مالك بن دينار: سألت الحسن عن عقوبة العالم، قال: موت القلب، قلت: وما موت القلب؟ قال: طلب الدنيا بعمل الآخرة(4). (رك ص532 والزهد ص265)
__________
(1) أي إذا علم أنه وقع في مرض الموت أو ما هو سبب لهلاكه.
(2) الكهف (28).
(3) قال إبراهيم النخعي: قال عبد الله [بن مسعود]: إني لأكره أن أرى القارىء سميناً نسياً للقرآن. (4/227)
(4) قال مالك بن دينار: قلت للحسن: ما عقوبة العالم إذا أحب الدنيا؟ قال: موت القلب، فإذا أحب الدنيا طلبها بعمل الآخرة فعند ذلك ترحل عنه بركات العلم، ويبقى عليه رسمه. (البداية والنهاية 9/268)(1/289)
قال الحسن: من أحب الدنيا وسرته ذهب خوف الآخرة من قلبه(1)، ومن ازداد(2) علماً ثم ازداد على الدنيا حرصاً لم يزدد من الله إلا بعداً، ولم يزدد من الله إلا بغضاً. (روضة العقلاء ص35 وذم الدنيا 79 و358)
قال الحسن: العالم الذي وافق علمه عمله؛ ومن خالف علمه عمله فذلك راوية حديث سمع شيئاً فقاله. (الجامع 2/7)
قال الحسن: شرار عباد الله الذين يتبعون شرار المسائل يعمون بها عباد الله. (جامع العلوم والحكم ص93)
قال مالك بن دينار: لأنا للقارىء الفاجر(3) أخوف مني من الفاجر المبرز بفجوره، إن هذا أبعدهما غوراً. (اقتضاء العلم العمل ص75 والحلية 2/371)
قال أيوب: لا خبيث أخبث من قارىء فاجر. (3/11 واقتضاء العلم العمل ص75)
قال الحسن: ما رأيت أحداً أشد تولياً من قارئ إذا تولى(4). (المصنف 7/187)
قال أبو نضرة المنذر بن مالك: كنا نتحدث أنه ليس شيء أشد قسوة من صاحب كتاب إذا قسا. (3/98)
__________
(1) قال الحسن: ليس من حبك الدنيا طلبك ما يصلحك فيها، ومن زهدك فيها ترك الحاجة يسدها [كذا] عنك تركها، ومن أحب الدنيا وسرته ذهب خوف الآخرة من قلبه. (ذم الدنيا 162)
وقال فضيل بن عياض: فرحك بالدنيا للدنيا يذهب بحلاوة العبادة وهمك بالدنيا يذهب بالعبادة كلها. (الهم والحزن ص33)
(2) في مطبوعة روضة العقلاء (أراد) مكان (إزداد) ولعل ما أثبته هو الأصح.
(3) ضبط هذه الكلمة بالجيم هو الأقرب، ولكنها وردت في الحلية بالخاء، والمراد بها حينئذ - على فرض أنها محفوظة من التصحيف - صاحب العلم المرائي بعلمه المفتخر به.
(4) تقدم قول أبي نضرة المنذر بن مالك: كنا نتحدث أنه ليس شيء أشد قسوة من صاحب كتاب إذا قسا؛ وهو في (الحلية) (3/98).(1/290)
قال مالك بن دينار: إن من القراء قراء ذا الوجهين، إذا لقوا الملوك دخلوا معهم فيما هم فيه، وإذا لقوا أهل الآخرة دخلوا معهم فيما هم فيه، فكونوا من قراء الرحمن؛ وإن محمد بن واسع من قراء الرحمن(1). (2/345)
قال مالك: إن الشيطان ليلعبُ بالقراءِ كما يلعب الصبيان بالجوز(2). (2/375)
قال مالك: تلقى الرجل وما يلحن حرفاً وعمله كله لحن. (2/382)
قال شميط بن عجلان: يعمد أحدهم فيقرأ القرآن ويطلب العلم، حتى إذا علمه أخذ الدنيا فضمها إلى صدره وحملها على رأسه، فنظر إليه ثلاثة ضعفاء: امرأة ضعيفة وأعرابي جاهل وأعجمي فقالوا: هذا أعلم بالله منا، لو لم يرَ في الدنيا ذخيرة ما فعل هذا! فرغبوا في الدنيا وجمعوها، وكان يقول: فمثله كمثل الذي قال الله عز وجل: (ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم)(3). (3/130)
قال وهب بن منبه: إنَّ للعلمِ طغياناً كطغيان المال! (العلم لأبي خيثمة والحلية 4/55)
قال وهبٌ: مثل من تعلم علماً لا يعملُ به كمثلِ طبيبٍ معه دواءٌ لا يتداوى به. (4/71)
قالَ زياد بن جرير: ما فقهَ قومٌ لم يبلغوا التُّقى. (4/197)
__________
(1) وقال مالك أيضاً: القراء ثلاثة فقارىء للرحمن وقارىء للدنيا وقارىء للملوك ويا هؤلاء محمد بن واسع عندي من قراء الرحمن.
وقال أيضاً: للأمراء قراء للأغنياء قراء وإن محمد بن واسع من قراء الرحمن. (2/245)
وقال أيضاً: إن من الناس ناساً إذا لقوا القراء ضربوا معهم بسهم وإذا لقوا الجبابرة وأبناء الدنيا أخذوا معهم بسهم فكونوا من قراء الرحمن بارك الله فيكم. (2/363)
(2) إذا كان هذا حال كثير من أهل العلم فما ظنك بمن لا علم عنده؟!
(3) قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ) [النحل (24-25).(1/291)
قال الشعبيُّ: لا تمنعوا العلمَ أهلَهُ فتأثَموا، ولا تحدِّثوا بهِ غيرَ أهلِهِ فتأثموا. (4/324)
قال سفيان(1): سمعت عمرو بن قيس يقول: ينبغي لصاحب الحديث أن يكون مثل الصيرفي ينتقد الحديث كما ينتقد الصيرفي الدراهم فإن الدراهم فيها الزايف والبهرج؛ وكذلك الحديث. (5/103)
قال عاصم: قال لي أبو وائل: أتدري ما أُشَبِّهُ قراءَ أهلِ زمانِنا؟! قلت: ومن تشبههم؟ قال: أشبههم برجلٍ أسمنَ غنماً، فلما أرادَ ذبحَها وجدها غثاً لا تنقي؛ أو رجلٍ عمدَ إلى دراهم فلوس فألقاها في زئبق ثم أخرجها فكسَّرها فإذا هي نحاس(2). (4/104 وانظر الزهد الكبير ص119)
عن محمد بن حاطب عن علي بن الحسين [بن علي] أنه أتاه نفر من أهل العراق فقالوا في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم؛ فلما فرغوا قال(3): ألا تخبروني أنتم المهاجرون الأولون الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون؟! قالوا: لا، قال: فأنتم الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا [و]يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة؟! قالوا: لا، قال: أما أنتم فقد تبرأتم أن تكونوا من أحد هذين الفريقين؛ ثم قال: أشهد أنكم لستم من الذين قال الله عز وجل: (وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا)(4)؛ اخرجوا فَعَلَ الله بكم(5). (صف2/97-98)
__________
(1) عقب قوله (عمرو بن قيس أستاذي).
(2) وقال أبو وائل في رواية أخرى عنه: مثل قراء أهل هذا الزمان كمثل غنم ضوائن ذات صوف فغبط شاة منها فاذا هي لا تنقي، ثم غبط أخرى فاذا هي كذلك فقال: أف لك سائر اليوم. (4/105)
(3) في الأصل (فقال).
(4) الحشر (10).
(5) أي دعا عليهم.(1/292)
قال القاسم بن مخَيْمِرَة الهمداني: أتيت عمر بن عبد العزيز فقضى عني سبعين ديناراً وحمَلني على بغلة وفرض لي في كل سنة خمسين، فقلت: أغنيتني عن التجارة، فسألني عن حديث فقلت: هيبتي(1) يا أمير المؤمنين، كأنه كره أن يحدثه به على هذا الوجه(2)
__________
(1) كذا وفي الحلية (هنيني) وزاد في رواية الحلية الأخرى بعد هذه الكلمة (عطيتك) ولعل الصواب (هيّبتني) أو (هيبتني عطيتك) أي خوفتني بهذا الطلب عقب العطية، وذلك للعلة المذكورة.
(2) وهذا مختصر (اقتضاء العلم العمل) للخطيب البغدادي، حذفت منه المرفوع والمكرر وآثاراً أخرى غير كثيرة رأيتها تحتمل الحذف، وكذلك حذفت من هذا الموضع آثار التابعين لأني أوردتها في المتن، وكذلك الآثار الأخرى التي نثرتها في مواضع أخرى من الحاشية غير هذا الموضع:
قال الخطيب في خطبة الكتاب: (ثم إني موصيك يا طالب العلم بإخلاص النية في طلبه وإجهاد النفس على العمل بموجبه فإن العلم شجرة والعمل ثمرة، وليس يعد عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً، وقيل: العلم والد والعمل مولود، والعلم مع العمل والرواية مع الدراية [أي أن العلم لا ينفع إلا بالعمل به والرواية لا تنفع إلا بالدراية بها]، فلا تأنس بالعمل ما دمت مستوحشاً من العلم ولا تأنس بالعلم ما كنت مقصراً في العمل، ولكن اجمع بينهما وإن قل نصيبك منهما، وما شيء أضعف من عالم ترك الناس علمه لفساد طريقته وجاهل أخذ الناس بجهله لنظرهم إلى عبادته، والقليل من هذا مع القليل من هذا أنجى في العاقبة إذا تفضل الله بالرحمة وتمم على عبده النعمة؛ فأما المدافعة والإهمال وحب الهوينى والاسترسال وإيثار الخفض والدعة والميل مع الراحة والسعة فإن خواتم هذه الخصال ذميمة وعقباها كريهة وخيمة؛ والعلم يراد للعمل كما العمل يراد للنجاة؛ فإذا كان العمل قاصراً عن العلم [كان] كلاً على العالم؛ ونعوذ بالله من علم عاد كلاً وأورث ذلاً وصار في رقبة صاحبه غلاً--- وهل أدرك من أدرك من السلف الماضين الدرجات العلى إلا بإخلاص المعتقد والعمل الصالح والزهد الغالب في كل ما راق من الدنيا؟ وهل وصل الحكماء إلى السعادة العظمى إلا بالتشمير في السعي والرضى بالميسور وبذل ما فضل عن الحاجة للسائل والمحروم؟ وهل جامع كتب العلم إلا كجامع الفضة والذهب؟ وهل المنهوم بها إلا كالحريص الجشع عليهما؟ وهل المغرم بحبها إلا ككانزها؟ وكما لا تنفع الأموال إلا بإنفاقها كذلك لا تنفع العلوم إلا لمن عمل بها وراعى واجباتها فلينظر امرؤ لنفسه وليغتنم وقته فإن الثواء قليل والرحيل قريب والطريق مخوف والاغترار غالب والخطر عظيم والناقد بصير والله تعالى بالمرصاد وإليه المرجع والمعاد (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره). ص14-16
قال بعض الحكماء: العلم خادم العمل والعمل غاية العلم فلولا العمل لم يطلب علم ولولا العلم لم يطلب عمل ولأن أدع الحق جهلاً به أحب إلي من أن أدعه زهدا فيه. ص15
قال سهل بن مزاحم: الأمر أضيق على العالم من عقد التسعين مع أن الجاهل لا يعذر بجهالته لكن العالم أشد عذاباً إذا ترك ما علم فلم يعمل به. ص15
عن رجاء بن حيوة عن معاذ بن جبل قال: لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن جده فيما أبلاه وعمره فيما أفناه وماله من أين اكتسبه وفي أي شيء أنفقه وعن علمه كيف عمل فيه. ص18
عن علي قال: يا حملة العلم اعملوا به فإنما العالم من عمل، وسيكون قوم يحملون العلم يباهي بعضهم بعضاً حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره أولئك لا تصعد أعمالهم إلى السماء. ص22
عن علقمة عن عبد الله قال: تعلموا تعلموا فإذا علمتم فعلّموا. ص23
عن أبي هريرة قال: مثل علم لا يعمل به كمثل كنز لا ينفق منه في سبيل الله عز وجل. ص24
عن سليمان قاضي عمر بن عبد العزيز قال: قال أبو الدرداء: لا تكون عالماً حتى تكون متعلماً، ولا تكون بالعلم عالماً حتى تكون به عاملاً. ص26
عن الحسن قال: قال أبو الدرداء: ابن آدم اعمل كأنك تراه واعدد نفسك في الموتى واتق دعوة المظلوم. ص27
عن سهل بن عبد الله قال: العلم كله دنيا، والآخرة منه العمل به. ص28
عن سهل بن عبد الله قال: العلم أحد لذات الدنيا فإذا عمل به صار للآخرة. ص29
عن سهل بن عبد الله التستري قال: الناس كلهم سكارى إلا العلماء والعلماء كلهم حيارى إلا من عمل بعلمه. ص28
عن سهل بن عبد الله قال: الدنيا جهل وموات إلا العلم والعلم كله حجة إلا العمل به والعمل كله هباء إلا الإخلاص والإخلاص على خطر عظيم حتى يختم به. ص29
عن أبي بكر الرازي قال: سمعت الخواص يقول: ليس العلم بكثرة الرواية وإنما العالم من اتبع العلم واستعمله واقتدى بالسنن وإن كان قليل العلم. ص30
عن أحمد بن أبي الحواري قال: حدثني عباس بن أحمد في قوله تعالى (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) الآية، قال: الذين يعملون بما يعلمون نهديهم إلى ما لا يعلمون. ص30
عن أبي بكر الرازي قال: قال يوسف بن الحسين: في الدنيا طغيانان، طغيان العلم وطغيان المال، والذي ينجيك من طغيان العلم العبادة، والذي ينجيك من طغيان المال الزهد فيه؛ وقال يوسف: بالأدب تفهم العلم، وبالعلم يصح لك العمل، وبالعمل تنال الحكمة، وبالحكمة تفهم الزهد وتوفق له، وبالزهد تترك الدنيا، وبترك الدنيا ترغب في الآخرة، وبالرغبة في الآخرة تنال رضى الله عز وجل. ص30-31
عن أبي القاسم الجنيد قال: متى أردت أن تشرف بالعلم وتنسب إليه وتكون من أهله قبل أن تعطي العلم ما له عليك: احتجب عنك نوره وبقي عليك رسمه وظهوره، ذلك العلم عليك لا لك، وذلك أن العلم يشير إلى استعماله فإذا لم تستعمل العلم في مراتبه رحلت بركاته. ص31
عن أبي عبد الله الروذباري قال: من خرج إلى العلم يريد العلم لم ينفعه العلم، ومن خرج إلى العلم يريد العمل بالعلم نفعه قليل العلم. ص31
وعنه قال: العلم موقوف على العمل، والعمل موقوف على الإخلاص، والإخلاص لله يورث الفهم عن الله عز وجل. ص32
عن علي بن أبي طالب قال: هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل. ص35-36
عن راشد بن سعد قال: قال أبو الدرداء: ما علم الله عبداً علماً إلا كلفه الله يوم القيامة ضماره؟؟ من العمل. ص36
عن فضيل بن عياض قال: لا يزال العالم جاهلاً بما علم حتى يعمل به، فإذا عمل به كان عالماً. ص37
وعنه قال: إنما يراد من العلم العمل، والعلم دليل العمل. ص37
وعنه أيضاً قال: على الناس أن يتعلموا فإذا علموا فعليهم العمل. ص37
عن عبد الله بن المعتز قال: علم بلا عمل كشجرة بلا ثمرة. ص37
وقال أيضاً: علم المنافق في قوله وعلم المؤمن في عمله. ص38
قال الخطيب: أنشدنا محمد بن أبي علي الأصبهاني لبعضهم:
إعمل بعلمك تغنم أيها الرجل*****لا ينفع العلم إن لم يحسن العمل
والعلم زين وتقى الله زينته********والمتقون لهم في علمهم شغل
وحجة الله ياذا العلم بالغة********لا المكر ينفع فيها لا ولا الحيل
تعلم العلم واعمل ما استطعت به***لا يلهينك عنه اللهو والجدل
وعلِّم الناس واقصد نفعهم أبداً****** **إياك إياك أن يعتادك الملل
وعظ أخاك برفق عن زلته******فالعلم يعطف من يعتاده الزلل
وإن تكن بين قوم لا خلاق لهم*****فأمر عليهم بمعروف إذا جهلوا
فإن عصوك فراجعهم بلا ضجر*واصبر وصابر ولا يحزنك ما فعلوا
فكل شاة برجليها معلقة********عليك نفسك إن جاروا وإن عدلوا
ص38-39
عن يونس بن ميسرة بن حلبس الجيلاني قال: تقول الحكمة: تبتغيني ابن آدم وأنت واجدني في حرفين: تعمل بخير ما تعلم وتذر شر ما تعلم. ص40
عن أبي الدرداء قال: إن العبد يوم القيامة لمسؤول: ما عملت بما علمت؟ ص40-41
عن أبي الدرداء قال: إنما أخاف ان يكون أول ما يسألني عنه ربي أن يقول: قد علمت فما عملت؟ ص41 و42
عن ميمون بن مهران قال: قال أبو الدرداء: ويل للذي لا يعلم [وفي رواية: ويل لمن لا يعلم ولا يعمل مرة]، وويل للذي يعلم ولا يعمل سبع مرات. ص47
عن بشر بن الحارث قال: إنما فضل العلم العمل به ثم يرتقي به. ص43
عن بشر بن الحارث قال: العلم حسن لمن عمل به، ومن لم يعمل [به] ما أضرَّه [أي عليه]؛ وقال: هذه حجج، أو قال: هذه حجة، يعني على من علم. ص44
عن عباس العنبري حدثني عبد الصمد قال: سمعت سعيد بن عطار وكان بكى حتى برح قال: قال عيسى بن مريم: إلى متى تصفون الطريق إلى الدالجين وأنتم مقيمون مع المتحيرين؟! إنما يبتغى من العلم القليل ومن العمل الكثير. ص44
عن حفص بن حميد قال: دخلت على داود الطائي أسأله عن مسألة وكان كريماً فقال: أرأيت المحارب إذا أراد أن يلقى الحرب أليس يجمع آلته؟ فإذا أفنى عمره في الآلة فمتى يحارب؟! إن العلم آلة العمل فإذا أفنى عمره في جمعه فمتى يعمل؟!. ص44-45
عن أبي عبيد القاسم بن سلام قال: سمعني عبد الله بن إدريس أتلهف على بعض الشيوخ فقال لي: يا أبا عبيد: مهما فاتك من العلم فلا يفوتنك العمل. ص45
عن علي [بن أبي طالب] قال: الزاهد عندنا من علم فعمل، ومن أيقن فحذر، فإن أمسى على عسر حمد الله، وإن أصبح على يسر شكر الله، فهذا هو الزاهد. ص45
عن منصور بن زاذان قال: نبئت أن بعض من يلقى في النار ليتأذى أهل النار بريحه فيقال له: ويلك ما كنت تعمل؟! ما يكفينا ما نحن فيه من الشر حتى ابتلينا بك ونتن ريحك؟! قال: فيقول: إني كنت عالماً فلم أنتفع بعلمي. ص52
عن يحيى بن معاذ الرازي قال: مسكين من كان علمه حجيجه ولسانه خصيمه وفهمه القاطع بعذره. ص52
قيل لبعضهم: ألا تطلب العلم؟ فقال: خصومي من العلم كثير فلا أزداد. ص52-53
عن سري بن المغلس السقطي قال: كلما أزددت علماً كانت الحجة عليك أوكد. ص53
عن أبي الحسين محمد بن أحمد بن سمعون الواعظ قال: كل من لم ينظر بالعلم فيما لله عليه فالعلم حجة عليه ووبال. ص53
قال الخطيب: قرأت على ظهر كتاب لأبي بكر محمد بن عبد الله بن أبتان الهيتي:
إذا العلم لم تعمل به كان حجة*****عليك ولم تعذر بما أنت حامل
فإن كنت أبصرت هذا فإنما******يصدِّقُ قولَ المرء ما هو فاعل
ص54
عن الفريابي قال: سمعت سفيان الثوري يقول: ليتني لم أكتب العلم وليتني أنجو من علمي كفافاً لا علي ولا لي. ص55
عن ابن عيينة قال: العلم إن لم ينفعك ضرك؛ قال الخطيب: يعني إن لم ينفع بأن يعمل به ضره بكونه حجة عليه. ص55
عن ابن وهب حدثنا سفيان قال: كان عالم وعابد في بني إسرائيل فقال العالم للعابد: ما يمنعك أن تأتيني وتأخذ مني وأنت ترى الناس يأتوني؟! فقال العابد: تعلمتُ شيئاً فأنا أعمل به فإذا فني أتيتك. ص57
قال الخطيب: أنشدني أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الله الصوري لنفسه:
كم إلي كم أغدو إلى طلب العلم*مجداً في جمع ذاك حفيا
طالباً منه كل نوع وفن*** *وغريب ولست أعمل شيا
وإذا كان طالب العلم لا****يعمل بالعلم كان عبداً شقيا
إنما تنفع العلوم لمن كان****** بها عاملاً وكان تقيا
ص57
عن ابن المبارك قال: كان رجل ذا مال لم يسمع بعالم إلا أتاه حتى يقتبس منه فسمع أن في موضع كذا وكذا عالماً فركب السفينة وفيها امرأة فقالت: ما أمرك يا هذا؟ قال: إني مشغوف بحب العلم فسمعت أن في موضع كذا عالماً آتيه، قالت: يا هذا كلما زيد في علمك يزيد في عملك أو تزيد في علمك والعمل موقوف؟ فانتبه الرجل ورجع وأخذ في العمل. ص59
عن إبراهيم بن أدهم قال: خرج رجل يطلب العلم فاستقبله حجر في الطريق فإذا فيه منقوش: اقلبني تر العجب وتعتبر، قال: فأقلب الحجر فإذا فيه مكتوب: أنت بما تعلم لا تعمل كيف تطلب ما لا تعلم؟ قال: فرجع الرجل. ص59-60
عن عطاء قال: كان فتى يختلف إلى أم المؤمنين عائشة فيسألها وتحدثه فجاءها ذات يوم يسألها فقالت: يا بني هل عملت بعدما سمعت مني؟ فقال: لا والله يا أمَّه، فقالت: يا بني فبما تستكثر من حجج الله علينا وعليك. ص60
عن عمر بن أخت بشر بن الحارث قال: سمعت بشراً يقول: قال الفضيل: هذا الحديث لا يسمعه الرجل خير له من أن يسمعه ولا يعمل به. ص60
عن القاسم بن عبد الرحمن عن ابن مسعود قال: إني لأحسب العبد ينسى العلم كان يعلمه بالخطيئة يعملها. ص61
عن محمد بن العباس اليزيدي قال: أنشدنا أبو الفضل الرياشي:
ما مَن روى علماً ولم يعمل به*فيكف عن وتغ الهوى بأديب
حتى يكون بما تعلم عاملا**** من صالح فيكون غير معيب
ولقلما تجدي إصابة صائب*****أعماله أعمال غير مصيب
ص62-63
عن وهيب بن الورد قال: ضُرب مثل عالم السوء فقيل: مثل العالم السوء كمثل حجر دفع في ساقية فلا هو يشرب من الماء ولا هو يخلي عن الماء فيحيى به الشجر، ولو أن علماء السوء نصحوا لله في عباده فقالوا: يا عباد الله اسمعوا ما نخبركم به عن نبيكم وصالح سلفكم فاعملوا به ولا تنظروا إلى أعمالنا هذه الفشلة فإنا قوم مفتونون كانوا قد نصحوا لله في عباده ولكنهم يريدون أن يدْعوا عباد الله إلى أعمالهم القبيحة فيدخلوا معهم فيها. ص67
عن ابن عيينة قال: قال عيسى عليه السلام: يا علماء السوء جعلتم الدنيا على رؤوسكم والآخرة تحت أقدامكم، قولكم شفاء وعملكم داء، مثلكم مثل شجرة الدفلي تعجب من رآها وتقتل من أكلها. ص67. [الدفلي شجر مر أخضر حسن المنظر دائم الأزهار].
عن الأوزاعي قال: أنبئت أنه كان يقال: ويل للمتفقهين لغير العبادة والمستحلين الحرمات بالشبهات. ص78
عن أبي نعيم الفضل بن دكين قال: دخلت على زفر وقد غرغرت نفسه في صدره فرفع رأسه إلي فقال لي: يا أبا نعيم وددت أن الذي كنا فيه كان تسبيحاً. ص80
عن خالد بن الحارث الهجيمي قال: قيل لابن شبرمة: حدث تؤجر فأنشأ يقول:
يمنوني الأجر الجزيل وليتني نجوت كفافاً لا عليَّ ولا ليا
ص81
عن أبي يعقوب إسحاق بن إبراهيم الطبري قال: سمعت الفضيل قال: لو طلبت مني الدنانير كان أيسر إلي من [أن] تطلب مني الأحاديث، فقلت له: لو حدثتني بأحاديث فوائد ليست عندي كان أحب إلي من أن تهب لي عددها دنانير، فقال: إنك مفتون، أما والله لو عملت بما قد سمعت لكان لك في ذلك شغلاً عما لم تسمع، ثم قال: سمعت سليمان بن مهران يقول: إذا كان بين يديك طعام تأكله فتأخذ اللقمة فترمي بها خلف ظهرك، كلما أخذت اللقمة ترمي بها خلف ظهرك متى تشبع؟!. ص82
عن أبي مسهر عبد الأعلى بن مسهر قال: بكّر أصحاب الحديث على الأوزاعي، قال: فالتفت إليهم فقال:
كم من حريص جامع جاشع ليس بمنتفع ولا نافع
ص82
عن عبيد الله بن عمر القواريري قال: رأيت رضيعاً لسفيان بن عيينة قد جاء إلى فضيل فقال له [الفضيل]: أما يكفي ما في منزلكم من الشر حتى تجيء إلى [لعلها إلي] ها هنا، يعني الحديث. ص82-83
عن خالد بن خداش قال: قال لي الفضيل: تأتي سفيان؟ قلت: نعم، قال: نعم الرجل لولا أنه صاحب حديث. ص83
عن ابن عيينة قال: لو قيل لي: لِمَ طلبت الحديث؟ ما دريتُ ما أقول. ص83
عن أحمد بن عبيد الله بن عمار الثقفي حدثنا أبو زيد عمر بن شبة قال حدثني خلاد بن يزيد الأرقط – وكان أبو زيد إذا ذكر خلاداً وصف جلالته ونبله وقال: كان من الجبال الرواسي نبلاً – قال: أتيت سفيان بن عيينة فقال: إنما يأتي بك الجهل لا ابتغاء العلم [يقول له: تأتي بسبب جهلك، فلو كنت عالماً لشغلك العمل بعلمك عن طلب المزيد من العلم]، لو اقتصر جيرانك على علمك كفاهم، ثم كوم كومة من بطحاء ثم شقها بأصبعه ثم قال: هذا العلم أخذت نصفه ثم جئت تبتغي النصف الباقي فلو قيل: أرأيت ما أخذت هل استعملته؟! فإذا صدقت قلت: لا، فيقال لك: ما حاجتك إلى ما تزيد به نفسك وقراً على وقر؟! استعمل ما أخذت أولاً. ص83-84
عن نعيم بن حماد قال: سألت ابن عيينة أو سأله إنسان: مَن العالم؟ قال: الذي يعطي كل حديث حقه [أي من العمل]. ص84
عن عبيد الله بن موسى قال: قال سفيان الثوري: وددت أني لم أطلب الحديث وأن يدي قطعت من ها هنا لا بل من ها هنا وأشار إلى الكتف ثم أشار إلى المنكب قال: لا بل من ها هنا. ص84
عن حجاج بن محمد قال: قال سفيان الثوري: رضي الناس بالحديث وتركوا العمل. ص85
عن شعيب بن حرب قال: سمعت سفيان وأُرسل إليه فقال: حتى تعملوا بما تعلمون ثم تأتوني فأحدثكم، قال: وسمعت سفيان يقول: يدنسون ثيابهم ثم يقولون: تعالوا اغسلوها. ص85
عن يحيى بن سعيد قال: ما أخشى على سفيان شيئاً في الآخرة إلا حبه للحديث. ص85
عن أحمد بن حنبل حدثنا أبو قطن قال: سمعت ابن عوف قال: وددت أني خرجت منه كفافاً يعني من العلم. ص86
عن أبي قطن قال: قال شعبة: ما أنا مقيم على شيء أخاف أن يدخلني النار غيره يعني الحديث. ص86
عن أبي بكر الأثرم قال: وسمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل ذكر قول شعبة: ما أخاف أن يدخلني النار غيره يعني الحديث، فقال: يعلم أنه كان صادقاً في العمل؛ أو نحو هذا. ص86
عن شبابة قال: دخلت على شعبة في يومه الذي مات فيه وهو يبكي فقلت له: ما هذا الجزع يا أبا بسطام؟! أبشر فإن لك في الإسلام موضعاً فقال: دعني فلوددت أني وقاد حمام وأني لم أعرف الحديث. ص87
عن محمد بن هارون أبي نشيط الحربي قال: لقيني بشر بن الحارث في الطريق فنهاني عن الحديث وأهله، قال: وأقبلت إلى يحيى بن سعيد القطان فبلغني أنه قال : أنا أحب هذا الفتى وأبغضه فقيل له: لم تحبه وتبغضه؟! فقال: أحبه لمذهبه وأبغضه لطلبه الحديث. ص87
عن العباس بن عبد العظيم قال: قال بشر بن الحارث: إن أردت أن تنتفع بالحديث فلا تستكثر منه ولا تجالس أصحاب الحديث. ص87
عن إسحاق بن الضيف قال: قال لي بشر بن الحارث: إنك قد أكثرت مجالستي ولي إليك حاجة: إنك صاحب حديث وأخاف أن يفسدوا علي قلبي فأحب أن لا تعود إلي فلم أعد إليه. ص88
عن ابراهيم بن هاني النيسابوري قال: سمعت بشر بن الحارث يقول: ما لي وللحديث؟! ما لي وللحديث؟! إنما هو فتنة إلا لمن أراد الله به، قال: وقال بشر: يقولون إني أنهى عن طلب الحديث، أنا لا أقول شيء أفضل منه لمن عمل به، فإذا لم يعمل به فتركه أفضل. ص88
عن محمد بن يوسف الجوهري قال: قلت لبشر بن الحارث: أُقريءُ أبا الوليد الطياليسي منك السلام؟ وأردت أن أخرج إلى البصرة، فقال لي: إن أبا الوليد يموت وأنت تموت، تريد أن يقال: سمع؟! قد سمعت، انظر فيما سمعت فإنك إن لم تعمل به كان عليك وبالاً في القيامة. ص88
عن محمد ابن أيوب قال: قال أبو الوليد يوماً: ما يريدون بهذه الأحاديث إلا التكاثر، والقليل يجزيء لمن اتقى الله، أو نحوه، ثم قال: يجمع أحدهم المسند وكذا وكذا ليحول وجوه الناس إليه، ونحواً من هذا الكلام. ص89
عن أبي بكر بن عبد الله بن جعفر التاجر قال: سمعت أحمد بن حنبل وسئل عن رجل يكتب الأحاديث فيكثر؟ قال: ينبغي أن يكثر العمل به على قدر زيادته في الطلب، ثم قال: سبل العلم مثل سبل المال إن المال إذا ازداد ازدادت زكاته. ص89
عن وكيع بن الجراح عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع قال: كنا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به. ص90
عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال: أنشدني رجل من أهل البصرة:
فما لك يوم الحشر شيء سوى الذي**تزودته قبل الممات إلى الحشر
إذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصداً* ندمت على التفريط في زمن البذر
ص98
عن يعقوب بن سفيان قال: زعم شهاب بن عباد أنه بلغه أن سفيان كان يتمثل بأبيات الأعشى:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى*ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله***وأنك لم ترصد بما كان أرصدا
ص98
عن عباس بن محمد قال: قال يحيى بن معين هذا البيت:
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ذخراً يكون كصالح الأعمال
قال يحيى: هذا للأخطل. ص99
عن أحمد بن محمد بن مسروق الطوسي قال: قرأت على محمود بن الحسن من قوله:
بادر شبابك أن يهرما*****وصحة جسمك أن يسقما
وأيام عيشك قبل الممات*فما دهر من عاش أن يسلما
ووقت فراغك بادر به****ليالي شغلك في بعض ما
وقدم فكل امرىء قادم***على بعض ما كان قد قدما
ص102
عن محمد بن واسع الأزدي قال: كتب أبو الدرداء إلى سلمان: من أبي الدرداء إلى سلمان: يا أخي اغتنم صحتك وفراغك من قبل أن ينزل بك من البلاء ما لا يستطيع أحد من الناس رده عنك. ص104
عن يحيى بن حميد قال: كتب الأوزاعي إلى أخ له: أما بعد فقد أحيط بك من كل جانب وهو ذا يُسار بك في كل يوم فاحذر الله والقيام بين يديه. ص104
عن عطاء بن مسلم قال: كنت مع سفيان الثوري في مسجد الحرام قال: يا عطاء نحن جلوس والنهار يعمل عمله! قال: قلت أنا: في خير إن شاء الله، قال: أجل ولكنها مبادرة، قال: ثم قال لي: يا عطاء إن المؤمن في الموقف ليرى بعينه ما أعد الله له في الجنة وهو يتمنى أنه لم يخلق من هول ما هو فيه. ص104-105
عن ابن عم لأبي بكر النهشلي قال: دخل ابن السماك على أبي بكر النهشلي وهو في السَّوق [أي في الموت] وهو يوميء برأسه يصلي فقال: سبحان الله على هذا الحال؟! فقال: يا ابن السماك أبادر طي الصحيفة. ص105
عن عبدان بن عثمان قال: سمعت ابن المبارك يقول:
إغتنم ركعتبين زلفى إلى الله***إذا كنت ريحاً مستريحا
وإذا ما هممت بالنطق في الباطل فاجعل مكانه تسبيحا
ص105
عن أبي أحمد منصور بن محمد بن عبد الله الأزدي أنه أنشد لنفسه:
لا تحتقر ساعة مساعدة*** ****تمد يداً إلى طاعه
فالحي للموت والمنى خدع*والأمر من ساعة إلى ساعه
ص106
عن عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا قال: أنشدني أبو عبد الله أحمد بن أيوب:
إغتنم في الفراغ فضل ركوع***فعسى أن يكون موتك بغته
كم صحيح رأيت من غير سقم**ذهبت نفسه الصحيحية فلته
ص106
قال الخطيب: أنشدني أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد الأندلسي لنفسه:
إذا كنت أعلم علماً يقيناً***بأن جميع حياتي كساعه
فلم لا أكون ضنيناً بها**وأجعلها في صلاح وطاعه
ص106
عن عبد الله بن المبارك عن سعيد بن سالم وليس بالقداح قال: نزل روح بن زنباع منزلاً بين مكة والمدينة في يوم صائف وقرب غداءه فانحط راع من جبل فقال: يا راعي هلم إلى الغداء قال: إني صائم، قال روح: أوتصوم في هذا الحر الشديد؟! قال: فقال الراعي: أفأدع أيامي تذهب باطلاً فأنشأ روح يقول:
لقد ضننت بأيامك يا راع إذ جاد بها روح بن زنباع
ص107-108
عن عبد الله بن محمد بن عبيد القرشي قال: حدثني بعض أهل العلم قال: دعا قوم رجلاً إلى طعام في يوم قائظ شديد حره فقال: إني صائم فقالوا: أفي مثل هذا اليوم؟! قال: أفأُغبَن أيامي إذن؟! ص108
عن أبي بكر بن أبي الدنيا قال: حدثني بعض أهل العلم قال: دعا قوم رجلاً إلى طعام فقال: إني صائم فقالوا: أفطر وصم غداً، قال: ومن لي بغد؟ ص108
عن أحمد بن سعيد الدمشقي قال: قال عبد الله بن المعتز:
تناول الفرصة الممكنة ولا تنتظر غداً فمن لغد من حادث بكفيل
ص108
عن علي بن حسين عن أبيه أن علياً كان يقول: إعمل كل يوم بما فيه ترشد. ص109
عن عبيد الله بن محمد بن حفص القرشي عن أبيه قال: كتب رجل من الحكماء إلى أخ له شاب: أما بعد فإني رأيت أكثر من يموت الشباب وآية ذلك أن الشيوخ قليل. ص109
عن محمد بن أشكاب الصفار قال: حدثني رجل من أهله يعني أهل داود الطائي قال: قلت له: يا أبا سليمان قد عرفت الرحم بيننا وبينك فأوصني، قال: فدمعت عيناه ثم قال: يا أخي إنما الليل والنهار مراحل ينزلها الناس مرحلة مرحلة حتى ينتهي ذلك إلى آخر سفرهم فإن استطعت أن تقدم في كل يوم مرحلة زاداً لما بين يديها فافعل فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو، والأمر أعجل من ذلك فتزود لسفرك، واقض ما أنت قاض من أمرك فكأنك بالأمر قد بغتك وما أعلم أحداً أشد تضييعاً مني لذلك، ثم قام وتركني. ص110-111
عن إسحاق بن إبراهيم بن سنين قال: أنشدني عمر بن محمد بن أحمد:
أنت في غفلة الأمل**لست تدري متى الأجل
لا تغرنك صحة******فهي من أوجع العلل
كل نفس ليومها*******صبحة تقطع الأمل
فاعمل الخير واجتهد****قبل أن تمنع العمل
ص111
عن محمد بن أحمد بن البراء قال: أنشدني عبد الله بن محمد الأشعري المديني لمحمود:
مضى أمسك الماضي شهيداً معدلا**وأصبحت في يوم عليك شهيد
فإن كنت بالأمس اقترفت إساءة*******فثن بإحسان وأنت حميد
ولا تُرْجِ فعل الخير يوماً إلى غد******لعل غداً يأتي وأنت فقيد
فيومك إن أعتبته عاد نفعه*****عليك وماضي الأمس ليس يعود
ص111
عن يوسف بن أسباط قال: كتب إلي محمد بن سمرة السائح بهذه الرسالة: أي أخي إياك وتأمير التسويف على نفسك وإمكانه من قلبك، فإنه محل الكلال وموئل التلف، وبه تقطع الآمال، وفيه تنقطع الآجال، فإنك إن فعلت ذلك أدلته من عزمك وهواك عليه فعلاً، واسترجاعاً من بدنك من السآمة ما قد ولى عنك، فعند مراجعته إياك لا تنتفع نفسك من بدنك بنافعة، وبادر يا أخي فإنك مبادَرٌ بك، وأسرع فإنك مسروع بك [لعلها مسرَعٌ بك]؛ وجد فإن الأمر جد؛ وتيقظ من رقدتك وانتبه من غفلتك، وتذكر ما أسلفت وقصرت وفرطت وجنيت وعملت فإنه مثبت محصى فكأنك بالأمر قد بغتك فاغتبطت بما قدمت أو ندمت على ما فرطت. ص114(1/293)
. (صف3/95 والحلية 6/82-83)
فضل العلماء العاملين
قال هلالُ بنُ خبابٍ: قلتُ لسعيدِ بنِ جبيرٍ: ما علامةُ هلاكِ الناسِ؟ قالَ: إذا ذهبَ – أو هلكَ - علماؤُهم. (4/276)
قال الحسن البصري: كانوا يقولون: موت العالم ثلمة في الاسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار. (الزهد ص262)
قال أبو قلابة: مَثَلُ العلماء في الأرض مَثَلُ النجوم في السماء، مَن تركها ضَلَّ ومن غابت عنه تَحيَّر. (العقد الفريد 6/19)
قال الشعبي: كل أمة علماؤها شرارها إلا المسلمين، فإن علماءهم خيارهم(1). (الإيمان لابن تيمية ص270)
قال الحسن: لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم. (مختصر منهاج القاصدين ص24).
قال زيد بن أسلم: كنت مع أبي حازم في الصائفة(2) فأرسلَ عبد الرحمن بن خالد، وكان أصلحَ من بقي من أهل بيتِنا، إلى أبي حازم أن ائتنا حتى نسائلك وتحدِّثَنا، فقال أبو حازم: معاذ الله، أدركتُ أهلَ العلم لا يحملون الدين إلى أهل الدنيا، فلن أكونَ بأول من فعلَ ذلك، فإن كان لك حاجةٌ فأبلغنا؛ فتصدى له عبدُ الرحمن وسأل منه وقال له: لقد ازددت علينا بهذا كرامة. (3/238)
قال أبو حازم: لا تكونُ عالماً حتى يكونَ فيك ثلاثُ خصالٍ: لا تبغي على من فوقك، ولا تحتقر مَن دونك، ولا تأخذ على علمكِ دنيا. (3/243)
قال سعيد: وددتُ أنَّ الناسَ أخذوا ما عندي من العلم؛ فإنَّه مما يهمُّني. (4/283)
قال الحسن: ما أحسنَ الرجلَ ناطقاً عالماً، ومستمعاً واعياً، وواعياً عاملاً. (عيون الأخبار 2/125)
قال طاووس: من السنة أن يوقَّرَ العالم. (الجامع 1/129)
__________
(1) قال ابن تيمية تعليقاً على كلام الشعبي: وذلك أن كل أمة غير المسلمين فهم ضالون، وإنما يضلهم علماؤهم.
(2) الغزوة في الصيف.(1/294)
فضل علم السلف على علم الخلف(1)
قال عبد العزيز بن أبي حازم: سمعت أبي يقول: إن العلماء كانوا فيما مضى من الزمان إذا لقي العالمُ منهم مَن هو فوقَه في العلم كان يومَ غنيمة، وإذا لقي من هو مثله ذاكره، وإذا لقي من هو دونه لم يزْهُ عليه، حتى إذا كان هذا الزمانُ فهلك الناس. (3/246)
قال إياس بن معاوية: ما بعُدَ عهد قوم من نبيهم إلا كان أحسن لقولهم وأسوأ لفعلهم. (البدع والنهي عنها ص72)
قال حماد بن زيد: قلت لأيوب العلم اليوم أكثر أو فيما تقدم؟ فقال: الكلام اليوم أكثر، والعلم فيما تقدم أكثر(2)
__________
(1) هذا باب عظيم الخطر، والكلام عليه يطول، ولذا لن أعلق عليه إلا ببعض الإشارات فأقول: لقد وقع عند أكثر طلبة العلم اليوم - في مسألة طلبهم العلم وحملهم له - انحراف بعيد واختلاف شديد عن منهج السلف رضي الله عنهم في العلم، كانوا يطلبون العلم للعمل وكانوا يبغضون الجدال والافتراض، ويهابون الفتوى، ويقلّون الكلام ويكثرون العمل، ويعظمون كتاب الله كثيراً ويتلونه بتدبر وتفهم وتأثر، ويعملون بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤثرون العلم الذي يؤثر في قلوبهم ويرققها ويؤدي بهم إلى زيادة في تعظيم الله ومحبته وخوفه ورجائه وطاعته؛ ويحبون الاستماع أكثر مما يحبون الكلام ويؤثرون عدم الظهور والشهرة ويزيدهم العلم خوفاً من الله وتواضعاً وانكساراً وسوء ظن بالنفس؛ وأما الناس اليوم فحالهم ما تراه وتعلمه؛ سوى من يستثنيه الله من أهل الصلاح، وما أقلهم في هذه الأعصر، والله المستعان.
وانظر بعض تفاصيل هذا الباب في (فضل علم السلف على علم الخلف) لابن رجب، وأول أبواب كتابي هذا، وهو (خصائص السلف من الصحابة وكبار التابعين).
(2) عن كميل بن زياد عن عبد الله قال: إنكم في زمان كثير علماؤه قليل خطباؤه وإن بعدكم زماناً كثير خطباؤه والعلماء فيه قليل. (العلم لأبي خيثمة ص27)
وعن الليث بن سعد عن عبيد الله بن أبي جعفر عن أبي خلدة قال: أدركت الناس وهم يعملون ولا يقولون وهم اليوم يقولون ولا يعملون. (الصمت ص294)(1/295)
. (الفوائد ص104)
قال الضحاك: أدركت الناس وهم يتعلمون الورع، وهم اليوم يتعلمون الكلام(1). (الورع 50)
قال ابن جريج: قلت لعطاء: أقبض بكفي اليمنى على عضدي اليسرى وكفي اليسرى على عضدي اليمنى؟ فكرهه(2) وقال: إنما الصلاة خشوع، قال الله: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ)(3)؛ فقد عرفتم الركوع والسجود والتكبير، ولا يعرف كثير من الناس الخشوع. (تعظيم قدر الصلاة 1/190)
عن ليث عن مجاهد قال: ذهب العلماء فلم يبق الا المتكلمون وما المجتهد فيكم إلا كاللاعب فيمن كان قبلكم. (العلم لأبي خيثمة ص19 والحلية 3/280)
قال عبيد بن عمير الليثي: ما المجتهد فيكم إلا كاللاعب فيمن مضى. (3/269)
أخلاق العلماء
قال الحسن: كان الرجل إذا طلب العلم لم يلبث أن يرى ذلك في تخشعه وبصره ولسانه ويده(4). (رك ص26 والزهد ص285 وزهد هناد 2/533 والسير 4/583)
قال حماد بن زيد: سمعت أيوب يقول: ينبغي للعالم أن يضع الرماد على رأسه تواضعاً لله جلت عظمته. (أخلاق حملة القرآن ص88 وأخلاق العلماء 48)
قالَ رجلٌ للشعبيِّ: إنَّ فلاناً عالمٌ، قالَ: ما رأيتُ عليهِ بهاءَ العلمِ، قيلَ: وما بهاؤُه؟ قالَ: السكينةُ، إذا(5) علَّمَ لا يعنِّفُ، وإذا عُلِّمَ لا يأنَفُ. (4/323)
__________
(1) قال الضحاك: لقد أدركت أصحابي وما يتعلمون إلا الورع. (الزهد الكبير ص312)
قال الضحاك: لقد رأيتنا وما يتعلم بعضنا من بعض إلا الورع. (الورع 51)
(2) أي السؤال.
(3) المؤمنون (2).
(4) وقع في بعض الروايات: (في تخشعه وبصره ولسانه وزهده وصلواته).
(5) كذا الأصل، من دون واو، ويحتمل أنها (وإذا).(1/296)
طلب العلم(1): شروطه وآدابه(2)
__________
(1) قال ابن الجوزي في (صيد الخاطر): (من أنفق عصر الشباب في العلم، فإنه في زمن الشيخوخة يحمد جني ما غرس، ويلتذ بتصنيف ما جمع، ولا يرى ما يفقد من لذات البدن شيئًا بالإضافة إلى ما يناله من لذات العلم).
(2) أول ما ينبغي أن يعلمه طالب العلم فيعمل بمقتضاه، هو أنه لا بد أن يكون طلبه للعلم خالصاً لوجه الله؛ وأن تكون غايته معرفة الحق والعمل بمقتضى تلك المعرفة.
وليعلم بعد ذلك أن العلم قد يكون يوم القيامة حجة على المرء لا حجة له، وأن من أول من تسعر بهم النار القارئ أو العالم الذي طلب العلم ليذْكرَ به بين الناس، كما دل عليه حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وليعلم بعد ذلك أن بعض العلم أنفع من بعض، فليتحر الأنفع، وليستعن في تمييز ذلك بمن يثق به من صالحي أهل العلم، إن تيسر له لقياهم أو الاتصال بهم؛ وما أقلهم في هذا الزمان.
وليعلم بعد ذلك أن العلوم كثيرة جداً ومتشعبة غايةً، وأن العمر أقصر وأنفس من أن ينقضي بالطلب وحده، وهو أقصر من الإحاطة بكل العلوم، هذا مع عجز الإنسان وضعفه، ومع كثرة العوائق في طريق الطلب؛ ولذا كان لا بد من الاقتصار على القدر الأنسب والأنفع.
وإذا قلنا: العلم صعب، فليس المراد بذلك العلم الأساس الذي يحتاجه كل المسلمين سواء في أبواب الإيمان أو الفقه أو غيرهما، فذلك مما يسره الله تعالى تحصيله لأكثر المسلمين، في كل زمان ومكان، ولكنهم من أنفسهم وتقصيرهم يؤتون.
بل الصعب من العلم جمعه وتحصيله والتوسع فيه والانقطاع إليه من أجل أن يرتقي الطالب بإذن الله إلى مراتب العلماء، أعني علماء عصره؛ وأما إدراك السابقين، فبعيد مناله، إن لم يكن مستحيلاً؛ ولكن لا يصح أن ييأس المؤمن من عظيم فضل الله أحد.
ولا تظن أن بعض العلم صعب دون سائر العلوم؛ بل العلم كله متاعب ومصاعب، بكل فروعه وأنواعه، فهو وعر المرتقى عالي الذروة، فروعه عديدة وأصوله بعيدة، فمن طلبه فليعلم هذه الحقيقة وليقدم أو يحجم بحسب ما يعلم من نفسه؛ وما التوفيق إلا ممن له الخلق والأمر وبيده الخير وهو على كل شيء قدير.
ولقد أجهد العلماء أنفسهم غاية الإجهاد فبلغوا بتوفيق الله المراد، لمن شاء الله منهم أن يبلغ مراده؛ وأخبار اجتهادهم في الطلب وصبرهم في سبيل تحصيل العلم ومجازفاتهم في رحلاتهم كثيرة شهيرة خطيرة مثيرة، ولو جمعت في كتاب لكان من أحسن كتب التاريخ والقصص.
أخرج الرامهرمزي في (المحدث الفاصل) (ص202) والخطيب في (الجامع) (1/150) عن ابن الأصبهاني قال: (قيل لشريك: ما بال حديثك منتقى؟ قال: لأني تركت العصائد بالغدوات).
ثم أخرج عقبه عن يحيى بن أبي كثير ما تقدم في متن الكتاب من قوله: (لا يدرك العلم بالراحة).
وأخرج الرامهرمزي (ص202) عن حرملة قال: سمعت الشافعي يقول: (لا يطلب هذا العلم من يطلبه بالتملك وغنى النفس فيفلح؛ ولكن من طلبه بذلة النفس وضيق العيش وخدمة العلم أفلح).
وأخرج الرامهرمزي (ص203) عن شيخه الساجي قال: حدثنا الربيع أو حدثت عنه قال: (كان الشافعي يجزئ الليل ثلاثة أثلاث، الثلث الأول يكتب، والثاني يصلي، والأخير ينام).
وأخرج الخطيب في الجامع (2/174) عن أبي يوسف قال: (العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك؛ وأنت، إذا أعطيته كلك، من إعطائه البعض على غرر).
وعن أبي أحمد نصر بن أحمد العياضي الفقيه السمرقندي قال: (لا ينال هذا العلم إلا من عطل دكانه، وخرب بستانه، وهجر إخوانه ومات أقرب أهله إليه، فلم يشهد جنازته).
وأخرج الخطيب (1/150) عن علي بن عبد الله بن جعفر المديني قال: سمعت يحيى بن سعيد القطان وذكروا طلب الحديث فقال: (كنت اخرج من البيت قبل الغداة، فلا ارجع إلى العتمة).
وأخرج (1/151) عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول: (كنت ربما أردت البكور إلى الحديث فتأخذ أمي ثيابي وتقول: حتى يؤذن الناس، وحتى يصبحوا؛ وكنت ربما بكرت إلى مجلس أبي بكر بن عياش وغيره).(1/297)
قال شريك: سمعت شيخاً فحليته فقالوا: ذاك أبو ضمرة، قال: رأيت حماداً يكتب عند إبراهيم عليه كساء له أنبجاني وهو يقول: والله ما نريد به دنيا. (العلم لأبي خيثمة ص35)
عن الزهري عن أبي سلمة [بن عبد الرحمن بن عوف] قال: لو رفَقْتُ بابن عباس لأصبتُ منه علماً [كثيراً]. (أخلاق حملة القرآن ص91 وسنن الدارمي 1/111 و141 ومنه الزيادة الأخيرة)
قال ليث بن سليم: قال لي طاووس: ما تعلمتَ فتعلمْهُ لنفسك، فإن الأمانة والصدق قد ذهبا من الناس. (4/11)
قالَ الربيعُ بن خثيم لبكرِ بنِ ماعزٍ: يا بكرُ بنَ ماعزٍ اخْزِنْ عليْكَ لسانَكَ إلا مما لكَ ولا عليك(1)، فإنّي اتّهمتُ الناسَ على ديني(2)، أَطِعِ اللهَ فيما علمتَ، وما استُؤثِرَ بهِ عليكَ(3) فكِلْهُ إلى عالِمِهِ؛ لَأَنَا عليكم في العمْدِ أخْوفُ مِنّي عليكم في الخطأ. (2/108 والصمت ص59 و ص266)
عن الحسن بن عمرو عن ابراهيم [النخعي] قال: من ابتغى شيئاً من العلم يبتغي به وجه الله عز وجل آتاه الله منه ما يكفيه(4). (4/228 والعلم لأبي خيثمة ص27)
عن عون بن عبد الله قال: قلت لعمر بن عبد العزيز: يقال: إن استطعت أن تكون عالماً فكن عالماً، فإن لم تستطع فكن متعلماً، فإن لم تكن متعلماً فأحبهم، فإن لم تحبهم فلا تبغضهم، فقال عمر: سبحان الله، لقد جعل له مخرجاً. (العلم لأبي خيثمة ص6)
قال مجاهد: لا بأس بالسمر في الفقه. (العلم لأبي خيثمة ص27)
__________
(1) أي إلا فيما يكون لك فيه أجر من غير أن يكون عليك فيه وزر. وفي (الصمت) (ص59): (إلا مما لك ومما عليك)، أي إلا في حق لك على غيرك أو حق لغيرك عليك.
(2) يعني أنهم مظنة أن يكونوا سبباً في ضياع دين من خالطهم وحادثهم.
(3) أي لم تعلمه.
(4) هذا الأثر جعله ابن عبد البر في (الجامع) (1/191) من كلام إبراهيم التيمي، ويظهر أنه واهم في ذلك، فقد صرحت رواية أبي خيثمة بأنه النخعي.(1/298)
قال سفيان: كان عمرو بن قيس الملائي إذا أتى الرجل من أهل العلم جثا على ركبتيه فيقول: علمني مما علمك الله، يتأول(1) قوله تعالى (عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً)(2). (5/102)
روى مالك بن أنس عن ابن شهاب الزهري قال: إن هذا العلم أدب الله الذي أدب به نبيه صلى الله عليه وسلم، وأدب النبي صلى الله عليه وسلم أمته، أمانة الله إلى رسوله، ليؤديه على ما أُدِّي إليه؛ فمن سمع علماً فليجعله امامه، حجة فيما بينه وبين الله عز وجل. (جامع الخطيب 1/78)
قال الزهريُّ: كنا نأتي العالمَ فما نتعلمُ مِن أدبِهِ أحبُّ إلينا مِن عِلْمِهِ. (3/362)
قال مالك بن أنس: قال ابن سيرين: كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم؛ قال: وبعث ابن سيرين رجلاً ينظر كيف هدي القاسم وحاله. (جامع الخطيب 1/79)
قال الأعمش: كانوا يأتون همام بن الحارث يتعلمون من هديه وسمته(3). (صف3/36)
__________
(1) في الأصل (ويتأول)، وتعرية هذه الكلمة من الواو أنسب للسياق.
(2) الكهف (66).
(3) قال محمد بن عيسى: قدم ابن المبارك قدمة فقيل له: إلى أين تريد؟ قال: إلى البصرة، قيل له: من بقي؟ قال: ابن عون، آخذ من أخلاقه، آخذ من آدابه. (صف3/311)
وقال الذهبي في (السير) (11/316-317): (عن الحسين بن إسماعيل عن أبيه قال: كان يجتمع في مجلس أحمد زهاء خمسة آلاف أو يزيدون، نحو خمس مئة يكتبون والباقون يتعلمون منه حسن الأدب والسمت.
ابن بطة سمع النجاد يقول: سمعت أبا بكر بن المطوعي يقول: اختلفت إلى أبي عبد الله ثنتي عشرة سنة وهو يقرأ المسند على أولاده؛ فما كتبت عنه حديثاً واحداً، إنما كنت أنظر إلى هديه وأخلاقه).(1/299)
قال الأعمش: ما رأيت مثل طلحة [بن مصرف]، إن كنت قائماً فقعدت قطع القراءة؛ وإن كنت محتبياً فحللت حبوتي قطع القراءة، كراهية أن يكون قد أمَلَّني(1). (5/18)
قال مالك بن دينار: إنكم في زمان أشهب لا يبصر زمانكم إلا البصير، إنكم في زمان كثير تفاخرهم، قد انتفخت ألسنتهم في أفواههم وطلبوا الدنيا بعمل الآخرة، فاحذروهم على أنفسكم لا يوقعونكم في شباكهم. (2/364)
قال مالك بن دينار: يا عالِم! أنتَ عالم؟! تأكلُ بعلمِكَ وتفخرُ بعلمكَ! لو كان هذا العلمُ طلبتَهُ للهِ تعالى لرُؤِيَ فيكَ وفي عملِك(2). (2/378)
__________
(1) قال أبو معاوية: حدثنا الأعمش قال: كان طلحة بن مصرف يجيئني فأقريه فلا يطلبني حتى أخرج، فإن تنحنحت أو سعلت قام. (5/18)
عن ابن إدريس عن الأعمش قال: كان طلحة يقرأ علي، فإذا أخذت عليه الحرف قال: هكذا قرأنا، قال: فإن حركت يدي أو رجلي قال: السلام عليكم. (5/18)
قال أبو خالد الأحمر: سمعت الأعمش يقول: كان طلحة يجيء فيجلس على الباب فتخرج الجارية وتدخل لا يقول لها شيئاً حتى أخرج فيجلس ويقرأ؛ فما ظنكم برجل لا يخطىء ولا يلحن؟! فإن استندت على الحائط قال: السلام عليكم؛ ويذهب. (5/18)
أثبتُّ هذا التكرار في هذا الخبر عمداً لما في هذه الروايات من أدب رفيع وعزيز وعجيب، وما أفضل سلفنا وما أعظم خلائقهم وأقوم طرائقهم وألطف ذوقهم وأزكى نفسهم وأرهف حسهم.
(2) هذان الأثران هما أثر واحد رواه الآجري في (أخلاق العلماء) (79).(1/300)
قال عون بن عبد الله: كان يقالُ: مثَلُ الذي يطلبُ علمَ الأحاديثِ ويتركُ القرآنَ مثَلُ رجلٍ أخذَ بابَ زريبةٍ(1) فيها غنَمٌ فمرتْ به ظباءٌ(2) فاتبَعها يطلبُها فلم يدركْها فرجعَ فوجد غنمَه قد خرجت! فلا هذه أدركَ، ولا هذه أدرك! (4/245)
عن عبد العزيز بن أبي رواد عن عبد الله بن عبيد قال: العلم ضالة المؤمن، كلما أصاب منه شيئاً حواه وابتغى ضالة أخرى. (العلم لأبي خيثمة ص36)
قال عونٌ بن عبد الله: إنَّ مِن تمامِ التقوى أن تبتغيَ إلى ما قَد علمتَ منها علمَ ما لمْ تعلمْ، وإنَّ النقصَ فيما قدْ علمتَ تركُ ابتغاءِ الزيادةِ فيهِ، وإنما يحمِلُ الرجلَ على ترك ابتغاء الزيادة فيه قلة الانتفاع بما قد علم. (4/246)
قال سفيان بن عيينة: رأيت سليمان التيمي شيخاً كبيراً في كمه صحف يطلب العلم؛ وأخبروني أنه كان من المصلين وكانت له درجة ثمانين مرقاة فكان يصعدها فإذا انتهى إلى أولها يقوم فيصلي قبل أن يقعد. (الزهد الكبير ص193)
قال الشعبي: يا طلاب العلم لا تطلبوا العلم بسفاهة وطَيْشٍ، اطلبوه بسكينة ووقارٍ وتُؤدَة. (روضة العقلاء ص34)
قال الشعبيُّ: إنما كان يطلبُ هذا العلمَ من اجتمعتْ فيه خصلتانِ: العقلُ والنسكُ، فإنْ كانَ عاقلاً ولمْ يكنْ ناسكاً قيلَ: هذا أمرٌ لا ينالُهُ إلا النُسّاك فلِمَ تطلبُه؟! وإنْ كانَ ناسكاً ولم يكن عاقلاً قيلَ: هذا أمرٌ لا يطلبُهُ إلا العقلاءُ فلِمَ تطلبُه؟! قالَ الشعبيُّ: فقد رهبتُ أنْ يكونَ يطلبُهُ اليومَ منْ ليسَ فيهِ واحدةٌ منهما، لا عقلٌ ولا نسكٌ. (4/323)
قال مكحول: تفقه الرعاع فساد الدين، وتفقه السفلة فساد الدنيا. (الجامع ص160)
__________
(1) قال ابن الأثير في (النهاية) (2/99): (في حديث جُندب بن عامرٍ أنه كان يُصلِّي في الدِّبْن؛ الدّبْنُ: حَظِيرةُ الغنمِ إذا كانت من القَصَبِ؛ وهي من الخَشَب زَرِيبةٌ؛ ومن الحَجارة صِيرةٌ ).
(2) الظبْيُ: الغزال.(1/301)
قال أيوب السختياني: إنك لا تُبْصِرُ خطأَ معلِّمِكَ حتى تجالسَ غيرَه، جالِسِ الناسَ. (3/9)
قال يونس بن عبيد: عمَدْنا إلى ما يصْلِحُ الناسَ فكتبناه، وعمَدْنا إلى ما يُصلحُنا فتركناه، قالَ خالد بن خداش: يعني التسبيحَ والتهليلَ وذكرَ الخير. (3/23)
قال مجاهد: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث عرضات، أقفه على كل آية أسأله كيف أنزلت وكيف كانت. (صف2/209)
قال الشعبي: خرج مسروق إلى البصرة إلى رجل يسأله عن آية فلم يجد عنده فيها علماً، فأُخبر عن رجل من أهل الشام فقدم علينا ههنا(1) ثم خرج إلى الشام إلى ذلك الرجل في طلبها. (2/95)
عن أيوب الطائي قال: سألت الشعبي عن مسألة فقال: ما رأيت أحداً أطلب للعلم في أفق من الآفاق من مسروق(2). (2/95 والعلم لأبي خيثمة ص12)
قال أبو الجوزاء: صحبت ابن عباس ثنتي عشرة سنة(3) ما بقي من القرآن آية إلا سألته عنها. (صف3/258)
__________
(1) أي إلى الكوفة.
(2) قال ابن أبي شيبة: حدثنا عبد الله بن نمير عن مالك بن مغول عن أبي السفر عن مرة قال: ما ولدت همدانية مثل مسروق. (المصنف 7/148)
كان على بن المديني يقول: لا أقدم على مسروق أحدا من أصحاب ابن مسعود. (صف3/26)
(3) وفي رواية: جاورت ابن عباس ثنتي عشرة سنة في داره.(1/302)
قال الحسن: العامل على غير علم كالسالك على غير طريق والعامل على غير علم ما يفسد أكثر مما يصلح(1)؛ فاطلبوا العلم طلباً لا تضروا بالعبادة، واطلبوا العبادة طلباً لا تضروا بالعلم، فإن قوماً طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا(2). (الجامع ص136 ومفتاح دار السعادة 1/83)
قال الحسن: من استتر عن طلب العلم بالحياء لبس للجهل سرباله فاقطعوا سرابيل [الجهل] بالحياء فانه من رق وجهه رق علمه(3). (مفتاح دار السعادة 1/168)
قال أبو العالية: لا يتعلم مستحي ولا متكبر. (2/220)
قال الحسن: كنا نطلب العلم للدنيا فجرَّنا إلى الآخرة. (تفسير القرطبي 1/22)
خطب الحجاج بن يوسف فقال: أما بعد فإن الله قد كفانا مؤنة الدنيا وأمرنا بطلب الآخرة فليت الله كفانا مؤنة الآخرة وأمرنا بطلب الدنيا! فقال الحسن: ضالة مؤمن عند فاسق فلنأخذها. (المتمنين ص40 وفيض القدير 5/65)
__________
(1) قال الحسن: طلبنا هذا الأمر ونظرنا، فلم نجد أحداً عمل عملاً بغير علم إلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح. (الزهد ص288)
(2) قال الحسن: اطلب العلم طلباً لا يضر بالعبادة واطلب العبادة طلبا لا يضر بالعلم، فإن من عمل بغير علم كان يفسد أكثر مما يصلح. (المصنف 7/187 وانظر فيض القدير 4/434)
(3) قال الدارمي في (سننه) (1/147): أخبرنا إبراهيم بن إسحاق عن جرير قال: قال إبراهيم: من رق وجهه رق علمه؛ قال وكيع عن أبيه عن الشعبي قال: من رق وجهه رق علمه؛ وعن ضمرة عن حفص بن عمر قال: قال عمر بن الخطاب: من رق وجهه رق علمه.
وقال عباس الدوري في (تاريخه) (3/74): حدثنا أبو عاصم النبيل عن سفيان الثوري عن أبى محمد عن ابن عمر قال: من رق وجهه رق علمه.
وروى أبو نعيم في (الحلية) (6/364) عن سفيان الثوري قال: من رق وجهه رق عمله.
ورواه من كلام الثوري ثم ابن عمر ثم عمر البيهقيُّ في (المدخل إلى السنن الكبرى) (ص280).(1/303)
سمع الشعبي الحجاج بن يوسف وهو على المنبر يقول: أما بعد فإن الله كتب على الدنيا الفناء، وعلى الآخرة البقاء؛ فلا فناء لما كتب عليه البقاء، ولا بقاء لما كتب عليه الفناء؛ فلا يغرنَّكم شاهد الدنيا عن غائب الآخرة، وأقصروا من الأمل لقصر الأجل؛ فقال: كلام حكمة خرج من قلب خراب! وأخرج ألواحه فكتب(1). (زهر الآداب 1/182)
قال الحسن في قوله تعالى (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً)(2): في الدنيا العلم والعبادة، وفي الآخرة الجنة. (المصنف 7/199)
قال سلام بن مسكين: كان الحسن كثيراً ما يقول: يا معشر الشباب عليكم بالآخرة فاطلبوها، فكثيراً رأينا من طلب الآخرة فأدركها مع الدنيا، وما رأينا أحداً طلب الدنيا فأدرك الآخرة مع الدنيا. (الزهد الكبير ص65)
قال الحسن: من طلب العلم ابتغاء الآخرة أدركها ومن طلب العلم ابتعاء الدنيا فهو حظه منه، وقال الزهري: فذاك حظه منها. (اقتضاء العلم العمل ص66)
قال عتبة بن يقظان: كنا عند الحسن جلوساً وعنده فتيان لا يسألونه عن شيء فجعل بعضهم ينظر إلى بعض فقال: ما لهم حيارى ما لهم حيارى ما لهم تفاقدوا(3). (الطبقات 7/169)
قال مطر: ما زال قتادة متعلماً حتى مات. (صف3/259)
قال معمر: قال قتادة: جالست الحسن ثنتي عشرة سنة أصلي معه الصبح ثلاث سنين؛ وقال: ومثلي أخذ عن مثله. (مسند ابن الجعد 1020)
قال قتادة: باب من العلم يحفظه الرجل يطلب به صلاح نفسه وصلاح الناس أفضل من عبادة حول كامل. (صف 3/259)
__________
(1) المستغرب هنا أن الشعبي ما كان يكتب.
(2) البقرة (201).
(3) دعاء عليهم بالموت وأن يفقد بعضهم بعضاً.(1/304)
قال الحسن: لأن يتعلم الرجل باباً من العلم فيعبد به ربه فهو خير له من أن لو كانت الدنيا من أولها إلى آخرها له فوضعها في الآخرة(1). (روضة العقلاء ص40 وانظر الزهد ص268 والمصنف 7/188 ومفتاح دار السعادة 1/118)
قال مفضل بن غسان: قال عمرو [بن قيس الملائي]: حديث أرقق به قلبي وأتبلغ به إلى ربي أحب إلي من خمسين قضية من قضايا شريح. (5/103)
قال الشعبيُّ: لو أنَّ رجلاً سافرَ من أقصى الشامِ إلى أقصى اليمنِ فحفظَ كلمةً تنفعُهُ فيما يستقبلُ من عمرِهِ رأيتُ أنَّ سفرَهُ لمْ يَضِعْ. (4/313)
قال حسن بن صالح: قال زبيد [اليامي]: سمعت كلمة فنفعني الله عز وجل بها ثلاثين سنة. (5/29)
قال أبو عاصم: سألت ابن عون فقلت: حدثني بهذا الحديث إن خَفَّ عليك فقال: لا تقل إن خف فقلت له: لمه؟ قال: أكره أن أحدثك ولا يخف عليَّ فيكون على خلاف ما سألت. (صف3/311)
قال يحيى بن أبي كثير: تعلم الفقه صلاة ودراسة القرآن صلاة. (3/67)
قال نافع بن جبير(2) لعلي بن الحسين: أنت سيد الناس وأفضلهم تذهب إلى هذا العبد فتجلس معه يعني زيد بن أسلم؟! فقال: إنه ينبغي للعلم أن يتبع حيثما كان. (صف2/98)
جاء رجلٌ نبيلٌ كبيرُ اللحيةِ إلى الأعمشِ فسأله عن مسألةٍ خفيفةٍ من الصلاة فالتفتَ إلينا الأعمشُ وقالَ: أنظروا إليهِ! لحيتُهُ تحتملُ حفظَ أربعة آلاف حديثٍ ومسألتُه مسألةُ صبيان الكتاب!! (5/47)
قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون إذا اجتمعوا أن يخرج الرجل أحسن حديثه أو من أحسن ما عنده من حديثه. (4/229 والعلم لأبي خيثمة ص13)
__________
(1) كان بعض الحكماء يقول: ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلمُ؟! وأي شيء فات من أدرك العلمَ؟! (مختصر منهاج القاصدين ص22).
(2) كان ممن يضرب به المثل بالتكبر؛ وروى عنه ابن أبي الدنيا في (التواضع والخمول) (ص210) أنه قال: إن الناس يقولون: فيه تيه، والله لقد ركبت الحمار ولبست الشملة.(1/305)
قال علقمة: ما سمعته وأنا شاب فكأني أنظر إليه في قرطاس أو ورقة. (العلم لأبي خيثمة ص36)
قال أبو هلال: سمعت قتادة يقول: الحفظ في الصغر كالنقش في الحجر. (مسند ابن الجعد 1044)
سمع الأحنف بن قيس رجلاً يقول: التعلم في الصغر كالنقش في الحجر؛ فقال الأحنف: الكبير أكبر عقلاً ولكنه أشغل قلباً. (البيان والتبيين 1/259)
قال أبو البختري الطائي: لأن أكونَ في قومٍ أتعلمُ منهم أحبُّ إليَّ من أن أكونَ في قومٍ أعلّمُهم. (4/380)
قال يونسُ بنُ ميسرة: قالتِ الحكمةُ: يا ابنَ آدمَ تلتمسني وأنت تجدني في حرفين: تعملُ بخيرِ ما تعلمُ، وتدعُ شرَّ ما تعلم. (5/251)
عن جرير عن منصور عن إبراهيم قال: كانوا يجلسون فيتذاكرون العلم والخير والفقه، ثم يفترقون ولا يستغفر بعضهم لبعض. (4/225)
عن مغيرة عن إبراهيم [النخعي] قال: كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى صلاته وإلى هديه وإلى سمته. (4/225)
عن ابن عون عن إبراهيم [النخعي] قال: احذروا الكذابين(1). (4/222)
قال مغيرة: قيل للشعبي: رأيت قتادة؟ قال: نعم، كان حاطب ليل(2). (مسند ابن الجعد 1011)
عن معمر عن قتادة قال: لقد كان يستحب ألا تقرأ الأحاديث التي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على طهور. (مسند ابن الجعد 1032)
عن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة قال: تكرير الحديث في المجلس يذهب نوره؛ وما قلت لأحد قط: أعدْ علي. (مسند ابن الجعد 1030)
__________
(1) قيل لإبراهيم بن أدهم: إن فلاناً يتعلم النحو، فقال: هو إلى أن يتعلم الصمت أحوج.
(2) قال سفيان بن عيينة: قال لي عبد الكريم: يا أبا محمد تدري ما حاطب ليل؟ قلت: لا إلا أن تخبرنيه؛ قال: هو الرجل يخرج من الليل فيحتطب فتقع يده على أفعى فتقتله؛ هذا مثل ضربته لك لطالب العلم؛ إن طالب العلم إذا حمل من العلم ما لا يطيقه قتله علمه كما قتلت الأفعى حاطب ليل. (مسند ابن الجعد 1013).(1/306)
عن الحكم بن عطية عن ابن سيرين قال: كانوا يرون أن بني إسرائيل إنما ضلوا بكتب ورثوها. (العلم لأبي خيثمة ص35)
تقييد العلم
قال أبو هلال: قالوا لقتادة: نكتب ما نسمع منك؟ قال: وما يمنعك أن تكتب وقد أخبرك اللطيف الخبير أنه يكتب، (قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى)(1). (مسند ابن الجعد 1043)
قال المعتمر بن سليمان التيمي: كتب إليَّ أبي وأنا بالكوفة: اشتر الصحف واكتب العلم، فإن المال يفنى والعلم يبقى. (روضة العقلاء ص39)
عن أبي كيران قال: سمعت الشعبي قال: إذا سمعت شيئاً فاكتبه ولو في الحائط. (العلم لأبي خيثمة ص34)
حفظ العلم(2)
عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: إحياء الحديث مذاكرته، فذاكِروه، قال فقال عبد الله بن شداد: يرحمك الله كم من حديث أحييته في صدري قد كان مات. (العلم لأبي خيثمة ص19)
__________
(1) طه (52).
(2) إذا كان العلم في عهد التابعين كثيراً جداً كما وصفه الشعبي في كلمة تأتي في أول الفصل التالي، فهو في زماننا أكثر بكثير، ولكن علم السلف أكثر بركة وأنفع وأصدق حقيقة وأرفع من علوم هذا الزمان.
وبسبب أكثرية العلم في هذا العصر، فلا شك أنه صار أصعب حفظاً، وفهماً، فلسعته وانتشاره صعب بل تعذر حفظه، بل صعب وتعسر حفظ المهم منه فضلاً عن حفظ جميعه، ثم إن الحفظ في هذا العصر صار أشق وأصعب، بسبب ضعف الملكة؛ ولكن ربما يقال: إن الحاجة إلى الحفظ في كثير من أنواع العلم أصبحت اليوم غير مهمة في حق كثير من الطلبة، بسبب انتشار أجهزة الحاسوب والفهارس العلمية وغير ذلك.
وليست الصعوبة اليوم في الحفظ وحده، بل لقد أضيف إليها، كما تقدمت الإشارة إليه، صعوبةُ الفهم؛ وذلك بسبب ضعف اللسان وأمور أخرى كثيرة؛ والفهم هو الأهم، فنسبة الفهم إلى الحفظ تكون في غالب الأحيان كنسبة الغاية إلى الوسيلة أو اللباب إلى القشر.(1/307)
عن إبراهيم عن علقمة قال: تذاكروا الحديث، فإنَّ حياتَه ذكرُه. (العلم لأبي خيثمة ص19)
عن مغيرة عن إبراهيم عن علقمة قال: اطلبوا ذكْرَ الحديث، لا يدرس. (العلم لأبي خيثمة ص37)
عن عبد الرزاق عن معمر قال: قال محمد بن سيرين: قتادة أحفظ الناس؛ أو من أحفظ الناس. (مسند ابن الجعد 1009)
عن غالب القطان عن بكر قال: من سره أن ينظر إلى أحفظ من أدركنا فلينظر إلى قتادة. (مسند ابن الجعد 1010)
قال زيد أبو عبد الواحد: سمعت سعيد بن المسيب يقول: ما أتاني عراقي أحفظ من قتادة. (مسند ابن الجعد 1015)
عن أحمد بن حنبل نا عبد الرزاق عن معمر قال: قال قتادة: يا أبا النضر خذ المصحف؛ قال فعرض عليه سورة البقرة فلم يخطىء فيها حرفاً واحداً؛ قال: فقال: يا أبا النضر أحكمتُ؟ قال: نعم؛ قال: لأنا بصحيفة جابر بن عبد الله أحفظ مني بسورة البقرة(1). (مسند ابن الجعد 1019)
قال مطر: كان قتادة إذا سمع الحديث يختطفه اختطافاً؛ قال: وكان إذا سمع الحديث يأخذه العويل والزويل حتى يحفظه(2). (مسند ابن الجعد 1016)
قال ابن شوذب: قال رجل من أهل البصرة: إن لم تجد إلاّ [كذا] مثل عبادة ثابت وحفظ قتادة وورع ابن سيرين وعلم الحسن وزهد مالك، لا تطلب العلم. (مسند ابن الجعد 1029)
قال قتادة: ما من القرآن آية إلاّ قد سمعت فيها شيئاً. (مسند ابن الجعد 1031)
عن ابن شبرمة قال سمعت الشعبي يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء إلى يومي هذا ولا حدثني رجل بحديث قط إلا حفظته ولا أحببت أن يعيده علي. (صف3/75)
__________
(1) قال: وكانت قرئت عليه يعني الصحيفة التي يرويها سليمان اليشكري عن جابر.
(2) ومن طريف ما يروى في هذا الباب مما هو دال على نقص الإنسان، ما روي في (مسند ابن الجعد) (1064) عن خالد بن قيس قال: قال قتادة: ما نسيت شيئاً قط؛ ثم قال: يا غلام ناولني نعلي؛ قال: نعلك في رجلك!).(1/308)
عن وادع بن الأسود عن الشعبي قال: ما أروي شيئاً أقل من الشعر، ولو شئت لأنشدتكم شهراً لا أعيده. (صف3/75)
سعة العلم وصعوبة التبحر فيه، إلا بتوفيق من الله تعالى
قال الشعبي: العلمُ أكثرُ من عدد القطرِ فخذْ منْ كلِّ شيءٍ أحسنَهُ؛ ثمَّ تلا (فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)(1). (4/314)
قال إبراهيم النخعي: إني لأسمع الحديث فأنظر إلى ما يؤخذ به فآخذ به وأدع سائره(2). (4/225)
قال الربيع بن خثيم: إن من الحديث حديثاً له ضوء كضوء النهار، نعرفه به، وإن من الحديث حديثاً له ظلمة كظلمة الليل نعرفه بها. (معرفة علوم الحديث للحاكم ص62)
قال الزهري: إن هذا العلمَ إنْ أخذتَه بالمكاثرة غلبَك ولم تظفرْ منه بشيء، ولكن خذه مع الأيام والليالي أخذاً رفيقاً تظفر به. (3/364)
قال يحيى بن أبي كثير: لا يأتي العلم براحة الجسد(3)
__________
(1) الزمر (17-18).
(2) هذا من باب اجتناب الغرائب وما ليس عليه العمل؛ وهو قد يدخل أيضاً في باب الانتقاء والتخفف والاقتصار على المهم النافع.
(3) هذا المعنى متفق عليه بين علماء السلف، وهو معروف مشهور عندهم، ثم إن كثرة العلوم في هذه الأزمنة المتأخرة وتفرعها وتشعبها وطول ذيولها: أسباب زادت في صعوبتها من جهات عديدة، من جهة الاطلاع عليها وفهمها ومعرفة دقائقها وتفاصيلها؛ ومن جهة تحقيقها ومعرفة اختلاف العلماء فيها، ومن جهة حفظها وتلخيصها، ومن جهة العمل بها.
ولذلك فإن قول الشعبي (العلمُ أكثرُ من عدد القطرِ فخذْ منْ كلِّ شيءٍ أحسنَهُ)، ينبغي أن يعدَّ من محاسن الكلم ومعادن الحكم، ولا سيما في حق أهل هذا العصر؛ ولئن كان الشعبي وهو المضروب به المثل في سرعة الحفظ وكماله وسعة الاطلاع وطول الباع يقول هذا وهو في ذلك الزمان الذي كان العلماء والطلبة يستغنون فيه عن كثير مما يحتاجه طالب العلم اليوم؛ فما ظنك لو اطلع مثل الشعبي على أحوال هذا العصر المتأخر جداً وأحوال أهله؛ ماذا تظنه يقول لنا؟ وبأي شيء ينصحنا؟
نحن ابتعدنا عن اللغة بعداً صرنا به أقرب إلى العجمة منا إلى العربية؛ وانحرفنا عن لب العلم وأصله والنافع منه انحرافاً لا ينكره إلا من يجهل حقيقة الحال؛ وخرجنا عن جادة السلف والمتقدمين، في جل العلوم، في التفسير وعلوم القرآن، وفي الفقه وأصوله، وفي الحديث ورجاله، وفي التزكية ومتعلقاتها، وفي علوم الآداب ومشتقاتها، وفي النحو والصرف والبلاغة، بعدت علينا الشقة وطالت علينا الأسانيد وكثرت حولنا التراجم وازدحمت، وتراكمت بين أيدينا الاختلافات وتعقدت، ودخل في العلم من ليس من أهله، وتكلم في الأمور الخطيرة من لا يقبل الكلام من مثله.
كم علم تجدد علينا والصحابة عنه أغنياء، وكم عيب وقع في علمنا والسلف منه برءاء؛ آلاف من الكتب وآلاف من الكتّاب، آلاف من المسائل وآلاف من الأبواب؛ مئات من الفرق والزرافات، ومئات من الطرق والخلافات.
فإذا كان الحال كذلك فترى متى ينتهي المجتهد منا إلى ما كان يبتدئ به العامي من المسلمين في عصر أتباع التابعين مثلاً؟
لقد كثرت البدع والأهواء، وتعالت أصوات العقول القاصرة والآراء؛ حتى صار الحق بعيداً أو غريباً، وصار الباطل حبيباً أو قريباً؛ وحتى تشاكلت الأحوال والتبست، وتداخلت الأقوال وأشكلت، فكم من طالب حديث طال من العلم النافع حرمانه؛ وطالب فقه قل في طريق طلبه أعوانُه؛ وطالبِ عقيدة عاش في تيه؛ ومستفتٍ لم يطمئن قلبُه إلى قول مفتيه.
ولم تأت صعوبة العلم اليوم مما تقدم من الأسباب والعوائق فقط؛ وإنما صار مرتقى العلم وعراً جداً ومركبه صعباً حقاً، بسبب أمور أخرى تضاف إلى ما تقدم، وهي ضعف الهمم وغربة الحق وندرة الناصر المؤازر وظهور الكافر والفاجر، وانفتاح الدنيا، وكثرة مشاغلها وحاجاتها.
نعم، اليوم الهمم دانية ضئيلة، والهموم عالية ثقيلة، والعلوم – إلا ما استثناه الله منها – مائلة مميلة، والخلافات فيها وفي غيرها طويلة عريضة وبيلة.
اليوم وجوه الأيام حالت وتبدلت، وقلوب الأنام مالت وتغيرت، والآراء غرّبت بأهلها وشرّقت، والفرقة وقعت وتحققت، والغربة غير غريبة، والفتنة عجيبة عجيبة، والله وحده المستعان، وكفى به ناصراً ومعينا.
قماذا عسى أن يفعل طالب العلم في مثل هذه الظروف العصيبة والأيام الشديدة؟
فأرجع وأقول: ما أحكم كلمة الشعبي رحمه الله تعالى وما أليقها بحالنا!.(1/309)
. (3/66 والمحدث الفاصل ص202)
الفتوى والاستفتاء(1)
__________
(1) الفتيا شأنها عظيم جداً، وخطرها جسيم غايةً، ولذلك كان السلف يتدافعونها، وحذر الأئمة من التسرع في أمرها وبالغوا، وما ذاك إلا لمعرفتهم بشدة شأنها؛ حتى إن ابن معين، رحمه الله، سئل: أيفتي الرجل من مئة ألف حديث؟ قال: لا؛ قيل: ومن مئتي ألف؟ قال: لا؛ قيل: ثلاثمئة؟ قال: لا، قيل: خمس مئة ألف؟ قال: أرجو؛ أسنده إليه الخطيب في (الجامع) (2/174)؛ ثم قال الخطيب عقبه:
(وليس يكفيه إذا نصب نفسه للفتيا أن يجمع في الكتب ما ذكره يحيى، دون معرفته به، ونظره فيه، وإتقانه له، فإن العلم هو الفهم والدراية، وليس بالإكثار والتوسع في الرواية).
ثم روى عن مالك بن أنس قال: إن العلم ليس بكثرة الرواية؛ إنما العلم نور يجعله الله في القلب؛ وروى عقبه عن أبي همام قال: (سمعت شريكاً سئل عن قوله تعالى "يؤتي الحكمة من يشاءُ"، قال: الفهم).
وقد عقد ابن القيم في (بدائع الفوائد 3/792-794) فصلاً ذكر فيه خطورة الفتوى وكيف كان علماء السلف يهابونها ويتدافعونها؛ وذكر في ذلك آثاراً طيبة رأيت نسخها في هذا الموضع، وهذه هي:
ابن عيينة عن محمد بن المنكدر قال: إن العالم بين الله وبين خلقه فلينظر كيف يدخل بينهم.
وقال سهل بن عبد الله: من أراد أن ينظر إلى محاسن الأنبياء فلينظر إلى محاسن العلماء يجيء الرجل فيقول: يا فلان إيش تقول في رجل حلف على امرأته بكذا وكذا؟ فيقول: طلقت امرأته؛ وهذا مقام للأنبياء فاعرفوا لهم ذلك.
قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت مئة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول ما منهم من أحد إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.
وقال ابن مسعود: من أفتى الناس في كل ما يستفتونه فهو مجنون.
عن ابن عباس رضي الله عنهما نحوه.
وقال حصين الأسدي: إن أحدكم ليفتي في المسألة لو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر.
وعن الحسن والشعبي مثله.
وقال الحاكم: سمعت أبا عبد الله الصفار يقول: سمعت عبد الله ابن أحمد يقول: سمعت أبي يقول: سمعت الشافعي يقول: سمعت مالك بن أنس يقول: سمعت محمد بن عجلان يقول: إذا أخطأ العالم لا أدري أصيبت مقاتله.
وروى ذلك بنحوه عن ابن عباس.
وذكر أبو عمر عن القاسم بن محمد أنه جاءه رجل فسأله عن شيء فقال القاسم: لا أحسنه؛ فجعل الرجل يقول: إني دفعت إليك؛ لا أعرف غيرك؛ فقال القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي؛ والله لا أحسنه؛ فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ابن أخي الزمها، فوالله ما رأيت في مجلس أبيك مثل اليوم؛ فقال القاسم: والله لئن يقطع لساني أحب إلى من أن أتكلم بما لا أعلم.
وذكر أبو عمر عن ابن عيينة وسحنون: أجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً.
وكان مالك بن أنس يقول: من أجاب في مسألة فينبغي من قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة أو النار وكيف يكون خلاصه في الآخرة.
وسئل عن مسألة فقال: لا أدري؛ فقيل له: إنها مسألة خفيفة سهلة، فغضب وقال: ليس في العلم شيء خفيف؛ ألم تسمع قوله جل ثناؤه: (إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً) [المزمل 5]؛ فالعلم كله ثقيل؛ وخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة.
وقال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تصعب عليهم المسائل، ولا يجيب أحدهم في مسألة حتى يأخذ رأي صاحبه، مع ما رزقوا من السداد والتوفيق، مع الطهارة؛ فكيف بنا الذين غطت الخطايا والذنوب قلوبنا؛ [أقول: لينظر أهذا كله كلام مالك، أم في آخره كلام لابن القيم؟]
وقال عبد الرحمن بن مهدي: جاء رجل إلى مالك يسأله عن شيء أياماً ما يجيبه؛ فقال: يا أبا عبد الرحمن إني أريد الخروج وقد طال التردد إليك؛ فأطرق طويلاً ثم رفع رأسه وقال: ما شاء الله؛ يا هذا إني إنما أتكلم فيما احتسب فيه الخير؛ ولست أحسن مسألتك هذه.
وسئل الشافعي عن مسألة فسكت فقيل له: ألا تجيب يرحمك الله؟ فقال: حتى أدري الفضل في سكوتي أو في الجواب.
وكان سعيد بن المسيب لا يكاد يفتى فتيا ولا يقول شيئاً إلا قال: اللهم سلمني وسلم مني.
وقال سحنون: أشقى الناس من باع آخرته بدنياه؛ وأشقى منه من باع آخرته بدنيا غيره؛ فقال: تفكرت فيه، وجدته المفتي، يأتيه الرجل قد حنث في امرأته ورقيقته، فيقول له: لا شيء عليك، فيذهب الحانث فيستمتع بامرأته ورقيقته، وقد باع المفتي دينه بدنيا هذا.
وجاء رجل إلى سحنون يسأله عن مسألة فأقام يتردد إليه ثلاثة أيام، فقال: مسألتي أصلحك الله؛ اليوم ثلاثة أيام! فقال له: وما أصنع بمسألتك؟ مسألتك معضلة، وفيها أقاويل، وأنا متحير في ذلك؛ فقال: وأنت أصلحك الله لكل معضلة؛ فقال سحنون: هيهات يا ابن أخي، ليس بقولك هذا أبذل لحمي ودمي للنار؛ وما أكثر ما لا أعرف؛ إن صبرتَ رجوتُ أن تنقلبَ بمسألتك؛ وإن أردتَ أن تمضي إلى غيري فامض تجاب في مسألتك في ساعة؛ فقال: إنما جئت إليك ولا أستفتي غيرك؛ قال: فاصبر؛ ثم أجابه بعد ذلك.
وقيل له: إنك تسأل عن المسألة لو سئل عنها أحد من أصحابك لأجاب فيها، فتتوقف فيها؛ فقال: إن فتنة الجواب بالصواب أشد من فتنة المال.
وقال بعض العلماء: قلَّ من حرص على الفتوى وسابق إليها وثابر عليها إلا قل توفيقه واضطرب في أمره؛ وإن كان كارها لذلك غير مختار له ما وجد مندوحة عنه وقدر أن يحيل بالأمر فيه إلى غيره كانت المعونة له من الله أكثر، والصلاح في جوابه وفتاويه أغلب.
وقال بشر الحافي: من أحب أن يُسألَ فليس بأهلٍ أن يُسأل.
وذكر أبو عمر عن مالك: أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة، فوجده يبكي؛ فقال: ما يبكيك؟! أمصيبة دخلت عليك؟! وارتاع لبكائه؛ فقال: لا، ولكن استُفْتِي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم؛ قال ربيعة: ولبعض من يفتي ههنا أحق بالحبس من السراق.
انتهى ما أردت نقله هنا من كتاب (بدائع الفوائد).
وعقد ابن القيم في (إعلام الموقعين) (2/184-187) بياناً أسماه: (ذكر تحريم الإفتاء في دين الله بغير علم وذكر الإجماع على ذلك) قال فيه:
(قد تقدم قوله تعالى (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) وأن ذلك يتناول القول على الله بغير علم في أسمائه وصفاته وشرعه ودينه.
وروى مالك بن مغول عن أبي حصين عن مجاهد عن عائشة أنه لما نزل عذرها قبل أبو بكر رأسها، قالت: فقلت: ألا عذرتني عند النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت ما لا أعلم؟!
وروى أيوب عن ابن أبي مليكة قال: سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن آية فقال: أي أرض تقلني وأي وسماء تظلني وأين أذهب وكيف أصنع إذا أنا قلت في كتاب الله بغير ما أراد الله بها؟
وذكر البيهقي من حديث مسلم البطين عن عزرة التميمي قال: قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الجنة: وابَردها على كبدي؛ ثلاث مرات؛ قالوا: يا أمير المؤمنين، وما ذاك؟ قال: أن يُسأل الرجل عما لا يعلم فيقول: الله أعلم.
وذكر أيضاً عن علي رضي الله عنه قال: خمس إذا سافر فيهن رجل إلى اليمن كن فيه عوضاً من سفره: لا يخشى عبد إلا ربه؛ ولا يخاف إلا ذنبه؛ ولا يستحي مَن لا يعلم أن يتعلم؛ ولا يستحي مَن يعلم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: الله أعلم؛ والصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد.
وقال الزهري عن خالد بن أسلم، وهو أخو زيد بن أسلم: خرجنا مع ابن عمر نمشي فلحقَنا أعرابيٌّ فقال: أنت عبد الله بن عمر؟ قال: نعم؛ قال سألت عنك فدللت عليك، فأخبرني أترث العمة؟ قال: لا أدري؛ قال: أنت لا تدري؛ قال: نعم اذهب إلى العلماء بالمدينة فاسألهم فلما أدبر قبل يديه وقال: نعمّا قال أبو عبد الرحمن؛ سئل عما لا يدري فقال: لا أدري.
وقال ابن مسعود: من كان عنده علم فليقل به؛ ومن لم يكن عنده علم فليقل: الله أعلم؛ فإن الله قال لنبيه: (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين) [سورة ص 86].
وصح عن ابن مسعود وابن عباس: من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه فهو مجنون.
وقال ابن شبرمة: سمعت الشعبي إذا سئل عن مسألة شديدة قال: رُبَّ ذات وَبَر لا تنقاد ولا تنساق، ولو سئل عنها الصحابة لعضَلَتْ بهم.
وقال أبو حصين الأسدي: إن أحدهم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر لجمع لها أهل بدر.
وقال ابن سيرين: لأن يموت الرجل جاهلاً خير له من أن يقول ما لا يعلم.
وقال القاسم: من إكرام الرجل نفسه أن لا يقول إلا ما أحاط به علمه؛ وقال: يا أهل العراق والله لا نعلم كثيراً مما تسألوننا عنه؛ ولأن يعيش الرجل جاهلاً إلا أن يعلم ما فرض الله عليه خير له من أن يقول على الله ورسوله ما لا يعلم.
وقال مالك: من فقه العالم أن يقول: لا أعلم؛ فإنه عسى أن يتهيأ له الخير؛ وقال: سمعت ابن هرمز يقول: ينبغي للعالم أن يورث جلساءه من بعده لا أدري حتى يكون ذلك أصلاً في أيديهم يفزعون إليه.
وقال الشعبي: لا أدري نصف العلم.
وقال ابن جبير: ويل لمن يقول لما لا يعلم: إني أعلم.
وقال الشافعي: سمعت مالكاً يقول: سمعت ابن عجلان يقول: إذا أغفل العالم لا أدري، أصيبت مقاتله؛ وذكره ابن عجلان عن ابن عباس.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: جاء رجل إلى مالك، فسأله عن شيء؛ فمكث أياماً ما يجيبه؛ فقال: يا أبا عبد الله إني أريد الخروج؛ فأطرق طويلاً، ورفع رأسه، فقال: ما شاء الله، يا هذا، إني أتكلم فيما أحتسب فيه الخير، ولست أحسن مسألتك هذه.
وقال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: العجلة في الفتوى نوع من الجهل والخرَق.
قال: وكان يقال: التأني من الله، والعجلة من الشيطان.
وقال ابن المنكدر: العالم بين الله وبين خلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم.
وقال ابن وهب: قال لي مالك، وهو ينكر كثرة الجواب في المسائل: يا عبد الله ما علمتَ فقل؛ وإياك أن تقلد الناس قلادة سوء.
وقال مالك: حدثني ربيعة قال: قال لي أبو خلدة، وكان نعم القاضي: يا ربيعة أراك تفتي الناس، فإذا جاءك الرجل يسألك فلا يكن همك أن تتخلص مما سألك عنه.
وقال مالك ما أجبت في الفتوى حتى سألت من هو أعلم مني: هل تراني موضعاً لذلك؟ سألت ربيعة، وسألت يحيى بن سعيد، فأمراني بذلك؛ فقيل له: يا أبا عبد الله فلو نهوك؟ قال: كنت أنتهي.
وقال ابن عباس لمولاه عكرمة: اذهب فأفتِ الناس وأنا لك عون؛ فمن سألك عما يعنيه فأفته؛ ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته؛ فإنك تطرح عن نفسك ثلثي مؤنة الناس.
وكان أيوب إذا سأله السائل قال له: أعد؛ فإن أعاد السؤال كما سأله عنه أولاً أجابه، وإلا لم يجبه؛ وهذا من فهمه وفطنته رحمه الله.
وفي ذلك فوائد عديدة.
منها أن المسألة تزداد وضوحاً وبياناً بتفهم السؤال.
ومنها: أن السائل لعله أهمل فيها أمراً يتغير به الحكم، فإذا أعادها ربما بينه له.
ومنها: أن المسؤول قد يكون ذاهلاً عن السؤال أولاً، ثم يحضر ذهنه بعد ذلك.
ومنها: أنه ربما بان له تعنت السائل، وأنه وضع المسألة؛ فإذا غير السؤال وزاد فيه ونقص فربما ظهر له أن المسألة لا حقيقة لها، وأنها من الأغلوطات، أو غير الواقعات التي لا يجب الجواب عنها؛ فإن الجواب بالظن إنما يجوز عند الضرورة؛ فإن وقعت المسألة صارت حال ضرورة فيكون التوفيق إلى الصواب أقرب؛ والله أعلم).
انتهى وقد حذفت منه شيئاً يسيراً.
قلت: ولكن ليست الفتوى بالمعنى المعروف هي وحدها التي ينبغي أن يتأنى ويحذر المسلم فيها ويتقي ربه عند إرادة الإقدام عليها؛ بل كل مسألة علمية دينية فإن الكلام فيها خطير وعظيم، فالكلام في معنى آية قرآنية والحكم على حديث نبوي وتأصيل قاعدة فقهية واستنباط حكم شرعي من نص قرآني أو حديثي؛ كل ذلك عظيم شديد، وكل ذلك كان مما يهابه السلف ويأبون الدخول فيه أو المسارعة إليه، إلا ما كان الحق فيه واضحاً بيناً.
هذا وإن من أول العلوم التي استسهلها أهل هذا العصر أو أكثرهم وتسرعوا في الكلام على أخطر مسائلها والخوض في أهم أحكامها؛ هو علم الحديث وبيان أحوال الحاديث تصحيحاً وتعليلاً ورواتها تجريحاً وتعديلاً؛ مع أن المعروف الذي بينه أهل العلم أن من أصعب وأخطر أنواع الكلام في العلم الكلام في نقد الأخبار ورواتها، ولهذا قلَّ الأئمة في هذا الفن، وإن كثر طلابه والراغبون فيه والمشاركون لأهله، في كل عصر ومكان؛ فانظر مثلاً في كتب طبقات الفقهاء أو المفسرين أو النحاة أو الرواة، وقارن من تجدهم من حيث العدد بمن تعلمهم من علماء الجرح والتعديل ونقد الأحاديث يظهر لك صواب ما قلته جلياً؛ وما ذاك إلا لصعوبة هذا الفن وعجز أكثر الطلاب عنه.
وهذا الأمر لا بد أن يتيقنه كل من أراد أن يقدم على الاشتغال بعلم الحديث أو المشاركة فيه، فبمعرفة صعوبة علم نقد الأحاديث ورواتها تُعرف خطورة ما يقوم به من ينتقد أصحاب ذلك العلم ويبين مسالكهم فيه؛ ومن علم عظمة هذا الفن وشدة خطره فإنه حينئذ لن يتسرع في حكمٍ على راو أو حديث، ولن يستعجل نقد ناقد أو يستسهل مخالفة إمام أو تخطئته، بل يكون شأنه في ذلك التروي والتريث وحاله فيه التأني والتثبت.
وإليك بعض كلام أهل العلم في ذلك:
قال ابن دقيق العيد في (الاقتراح) (ص344): (أعراض المسلمين حفرة من حفر النار وقف على شفيرها طائفتان من الناس المحدثون والحكام).
وقال الذهبي في (الميزان) (3/45) : (والكلام في الرجال لا يجوز إلا لتام المعرفة تام الورع).
وقال ابن حجر في (نزهة النظر) (ص113): (ليحذر المتكلم في هذا الفن من التساهل في الجرح والتعديل، فإنه عن عدّل بغير تثبت كان كالمثبت حكماً ليس بثابت فيخشى عليه أن يدخل في زمرة من روى حديثاً وهو يظن أنه كذب؛ وإن جرّح بغير تحرز أقدم على الطعن في مسلم بريء من ذلك ووسمه بميسم سوء يبقى عليه عاره أبداً).
وقال المعلمي في مقدمته لكتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (صفحة ب – صفحة ج): (ليس نقد الرواة بالأمر الهين فإن الناقد لا بد أن يكون واسع الاطلاع على الأخبار المروية، عارفاً بأحوال الرواة السابقين وطرق الرواية، خبيراً بعوائد الرواة ومقاصدهم وأغراضهم، وبالأسباب الداعية إلى التساهل والكذب والموقعة في الخطأ والغلط، ثم يحتاج إلى أن يعرف أحوال الراوي متى ولد؟ وبأي بلد؟ وكيف هو في الدين والأمانة والعقل والمروءة والتحفظ؟ ومتى شرع في الطلب؟ ومتى سمع؟ وكيف سمع؟ ومع من سمع وكيف كتابه؟؛ ثم يعرف أحوال الشيوخ الذين يحدث عنهم وبلدانهم ووفياتهم وأوقات تحديثهم وعادتهم في التحديث، ثم يعرف مرويات الناس عنهم، ويعرض عليها مرويات هذا الراوي ويعتبرها بها، إلى غير ذلك مما يطول شرحه، ويكون مع ذلك متيقظاً، مرهف الفهم، دقيق الفطنة مالكاً لنفسه، لا يستميله الهوى ولا يستفزه الغضب، ولا يستخفه بادر ظن حتى يستوفي النظر ويبلغ المقر، ثم يحسن التطبيق في حكمه فلا يجاوز ولا يقصر. وهذه المرتبة بعيدة المرام عزيزة المنال لم يبلغها إلا الأفذاذ. وقد كان من أكابر المحدثين وأجلتهم من يتكلم في الرواة فلا يعول عليه ولا يلتفت إليه. قال الإمام علي بن المديني وهو من أئمة هذا الشان: (أبو نعيم وعفان صدوقان لا أقبل كلامهما في الرجال، هؤلاء لا يدعون أحداً إلا وقعوا فيه). وأبو نعيم وعفان من الأجلة، والكلمة المذكورة تدل على كثرة كلامهما في الرجال، ومع ذلك لا تكاد تجد في كتب الفن نقل شيء من كلامهما).
انتهى كلام المعلمي؛ ولقد سبقه إلى مقصد هذا الكلام في الجملة الأئمة، كالذهبي، فقد قال في ترجمة أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في (تذكرة الحفاظ) (1/3-4)، وهي أول تراجم الكتاب:
(إن الكذب أس النفاق وآية المنافق، والمؤمن يطبع على المعاصي والذنوب الشهوانية ، لا على الخيانة والكذب، فما الظن بالكذب على الصادق الأمين صلوات الله عليه وسلامه، وهو القائل: إن كذباً عليّ ليس ككذب على غيري ، من يكذب عليَّ بني له بيت في النار، ومن قال عليَّ ما لم أقل، الحديث. فهذا وعيد لمن نقل عن نبيه [صلى الله عليه وسلم] ما لم يقله مع غلبة الظن أنه ما قاله، فكيف حال من تهجم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعمد عليه الكذب، وقوَّله ما لم يقل؛ وقد قال عليه السلام: من روى عني حديثاً يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين. فإنا لله، وإنا إليه راجعون، ما ذي إلا بلية عظيمة وخطر شديد ممن يروي الأباطيل والأحاديث الساقطة المتهم نقلتها بالكذب. فحق على المحدث أن يتورع فيما يؤديه، وأن يسأل أهل المعرفة والورع ليعينوه على إيضاح مروياته. ولا سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزكي نقلة الأخبار ويجرحهم جهبذاً إلا بإدمان الطلب، والفحص عن هذا الشأن، وكثرة المذاكرة والسهر، والتيقظ والفهم، مع التقوى والدين المتين والإنصاف، والتردد إلى مجالس العلماء، والتحري والإتقان؛ وإلا تفعل:
فدع عنك الكتابة لست منها ولو سودت وجهك بالمداد
قال الله تعالى، عز وجل: (فاسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون). فإن آنست يا هذا من نفسك فهماً وصدقاً وديناً وورعاً، وإلا فلا تتعنَّ؛ وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأي ولمذهب، فبالله لا تتعب؛ وإن عرفت أنك مخلط مخبط مهمل لحدود الله، فأرحنا منك، فبعد قليل ينكشف البهرج وينكب الزغل، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله. فقد نصحتك، فعلم الحديث صلف، فأين علم الحديث؟ وأين أهله؟ كدت أن لا أراهم إلا في كتاب أو تحت تراب). انتهى كلام الذهبي.
وللأديب النقادة أبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي البصري المتوفى في عام (370هـ) في كتابه (الموازنة بين الطائيين أبي تمام والبحتري) (ص372-375) كلام نفيس قيم ماتع في بيان شروط طلبة النقد الأدبي ونحوها، ومعظم ذلك الكلام يصلح أن يمشي على ضوئه أو ينتفع به كل طالب علم في هذه الأعصر، بل ما أليق معاني كلامه ذاك بمن أراد أن يشارك في علم الحديث ويدخل فيه؛ وسأنقل لك أواخره ولولا تجنب الإطالة لنقلته كله؛ قال:
(ثم إني أقول بعد ذلك: لعلك - أكرمك الله - اغتررتَ بأن شارفتَ شيئاً من تقسيمات المنطق، وجُملاً من الكلام والجدال، أو علمْتَ أبواباً من الحلال والحرام، أو حفظتَ صَدْراً من اللغة، أو اطلعتَ على بعض مقاييس العربية؛ وأنك لما أخذتَ بطَرَف نوع من هذه الأنواع معاناةً ومزاولةً ومتَّصِلَ عنايةٍ
فتوحدتَ فيه ومُيِّزتَ: ظننتَ أن كل ما لم تلابسه من العلوم ولم تزاوله يجري ذلك المجرى، وأنك متى تعرضتَ له وأمررتَ قَريحتكَ عليه نفذَتْ فيه، وكشفتْ لك عن معانيه؛ وهيهات! لقد ظننتَ باطلاً ورمتَ عسيراً، لأن العلم – أيَّ نوعٍ كان – لا يدركه طالبه إلا بالانقطاع إليه والإكباب عليه والجد فيه والحرص على معرفة أسراره وغوامضه؛ ثم قد يتأتى جنس من العلوم لطالبه ويتسهل عليه، ويمتنع عليه جنس آخر ويتعذر؛ لأن كل امرئ إنما يتيسر له ما في طبعه قبولُه، وما في طاقته تعلُّمُه؛ فينبغي - أصلحك الله - أن تقفَ حيث وُقفَ بك، وتقنعَ بما قُسِمَ لك، ولا تتعدى إلى ما ليس من شأنك ولا من صناعتك). ا.هـ.
وقال الخطيب في (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع) (2/173): (فمن صفات الحافظ الذي يجوز إطلاق هذا اللفظ في تسميته: أن يكون عارفاً بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بصيراً، مميزاً لأسانيدها، يحفظ منها ما أجمع أهل المعرفة على صحته، وما اختلفوا فيه، للاجتهاد في حال نقلته---) إلى أن قال: (ويكون قد أنعم النظر في حال الرواة بمعاناة علم الحديث دون ما سواه، لأنه علم لا يعلق إلا بمن وقف نفسه عليه ولم يضم غيره من العلوم إليه).
ثم روى الخطيب عن الشافعي أنه مر بيوسف بن عمرو بن يزيد، وهو يذكر شيئاً من الحديث، فقال: يا يوسف، تريد أن تحفظ الحديث وتحفظ الفقه؟! هيهات!.(1/310)
قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت في هذا المسجد مئة وعشرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أحد يُسأل عن حديث أو فتوى إلا ودَّ أن أخاه كفاه ذلك؛ ثم قد آل الأمرُ إلى إقدام أقوام يدّعون العلمَ اليوم، يُقْدمون على الجواب في مسائل لو عَرَضت لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لجمع أهل بدر واستشارهم. (مختصر منهاج القاصدين ص37)
قال داود بن يزيد الأودي: قال لي الشعبي(1): يا أبا يزيد قم معي حتى أفيدك فمشيت معه وقلت: أي شيء يفيدني(2)؟ قال: إذا سئلت عما لا تعلم فقل: الله أعلم به، فإنه علم حسن. )صف3/75)
قال يحيى بن سعيد: سمعت القاسم يقول: ما نعلم كلَّ ما نُسأل عنه ولأَنْ يعيش الرجلُ جاهلاً بعد أن يعرف حقَّ الله تعالى عليه خيرٌ له من أن يقول ما لا يعلم(3). (2/184 والعلم لأبي خيثمة ص20)
كان ربيعة بن أبي عبد الرحمن يوماً جالساً فغطى رأسه ثم اضطجع فبكى فقيل له: ما يبكيك؟ قال: رياءٌ ظاهرٌ وشهوةٌ خفيةٌ! والناسُ عند علمائهم كالصبيانِ في حجورِ أمهاتِهم ما أمروهم به ائتمروا وما نهوهم عنه انتهوا(4). (3/259)
قال ربيعة: قال لي ابن خلدة الزرقي: إني أرى الناس قد ملَّكوك أمرَ أنفسهم فإذا سُئِلتَ عن المسألة فاطلب الخلاص منها لنفسك ثم للذي سألك. (3/260-261)
قال ابن زيد: مكث ربيعة دهراً طويلاً عابداً يصلي الليل والنهار فجالس القاسم فنطق بلب وعقل فكان القاسم إذا سئل عن شيء قال: سلوا هذا، لربيعة. (صف2 / 151)
__________
(1) قال ابن سيرين: قدمت الكوفة وللشعبي حلقة عظيمة وأصحاب رسول يومئذ كثير. (صف3/75)
عن أبي مجلز قال: ما رأيت أحداً أفقه من الشعبي. (صف3/75)
عن مكحول قال: ما لقيت أحداً أعلم بسنة ماضية من الشعبي. (صف3/75)
(2) لعلها بالتاء.
(3) في الأصل (علم) بدل (يعلم). ولفظ كتاب (العلم): (خير له من أن يفتي بما لا يعلم).
(4) أي أن العالِم على خطر شديد.(1/311)
قال سفيان بن عيينة: قال محمد بن المنكدر: الفقيه يدخل بين الله عز وجل وبين عباده فلينظر كيف يدخل. (صف2/144)
قال إسماعيل بن أبي خالد: كان الشعبي وأبو الضحى وإبراهيم وأصحابنا يجتمعون في المسجد فيتذاكرون الحديث فاذا جاءتهم فتيا ليس عندهم منها شيء رموا بأبصارهم إلى إبراهيم النخعي. (4/221)
قال الأعمش: كان إبراهيم يتوقى الشهرة فكان لا يجلس إلى الاسطوانة وكان إذا سئل عن مسألة لم يزد عن جواب مسألته فأقول له في الشيء يسأل عنه: أليس فيه كذا وكذا؟ فيقول: إنه لم يسألني عن هذا وكان إبراهيم صيرفي الحديث فكنت إذا سمعت الحديث من بعض أصحابنا عرضته عليه(1). (4/419-220)
عن منصور قال: ما سألت إبراهيم قط عن مسألة إلا رأيت الكراهية في وجهه؛ [و]يقول: أرجو أن تكون وعسى(2). (4/220 وصف 3/81)
عن إبراهيم قال: وددت أني لم أكن تكلمت، ولو وجدت بداً من الكلام ما تكلمت، وإن زماناً صرت فيه فقيهاً لزمان سوء(3). (4/223)
عن سفيان عن أبيه عن إبراهيم [النخعي] قال: سألته عن شيء فجعل يتعجب يقول: احتيج إلي؟! احتيج إلي؟! (4/226)
قال أبو حصين: أتيت إبراهيم [النخعي] أسأله عن شيء فقال: ما وجدت أحداً فيما بيني وبينك تسأله غيري(4). (4/226 والعلم لأبي خيثمة ص31)
__________
(1) عن شريك عن الأعمش قال: ما عرضت على ابراهيم حديثا قط إلا وجدت عنده منه شيئاً. (4/221)
(2) وأخرجه - دون الفقرة الأخيرة - من قول زبيد لا منصور أبو خيثمة في (العلم) (ص20) وأبو نعيم في (الحلية) (4/220)، ولكن من قول زبيد لا منصور.
(3) عن ميمون بن أبي حمزة قال: قال لي ابراهيم النخعي: لقد تكلمت ولو وجدت بداً ما تكلمت، وإن زماناً أكون فيه فقيه الكوفة لزمان سوء. (4/223)
(4) قال زبيد: سألت إبراهيم عن مسألة فقال ما وجدت أحدا من بيتك تسأله غيري. (4/226)(1/312)
قال عبد الله بن أشعث بن سوار: قلت للحسن: مات إبراهيم، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، إن كان لَقديم السن، لَكثير العلم. (4/221)
قال أشعث بن سوار: جلست إلى ابراهيم [النخعي] ما بين العصر إلى المغرب فلم يتكلم فلما مات سمعت الحكم وحماداً يقولان: قال إبراهيم، فأخبرتهما بجلوسي إليه فلم يتكلم! فقالا: أما إنه لا يتكلم حتى يُسأل. (4/226)
قال موسى الجهني: كان طلحة [بن مصرف] إذا ذكر عنده الاختلاف(1) قال: لا تقولوا: الاختلاف، ولكن قولوا: السعة. (5/19)
كان الربيع إذا أتاه الرجل يسأله قال: اتق الله فيما علمت وما استؤثر عليك(2) فكِلْهُ إلى عالمه، لأَنَا عليكم في العَمْدِ أخوف مني عليكم في الخطأ، وما خيرتكم(3) اليوم بخير، ولكنه خيرٌ من آخَرَ شَرٍّ منه، وما تتبعون الخير حق اتباعه، وما تفرون من الناس حق فراره، ولا كل ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم أدركتم، ولا كل ما تقرءون تدرون ما هو؛ ثم يقول: السرائر السرائر، اللاتي تخفين من الناس وهن لله تعالى بَوَادٍ(4)، التمسوا دواءهن، ثم يقول: وما دواؤهن إلا أن تتوب ثم لا تعود. (2/108)
قال عبد الرحمن بن حرملة: ما كان إنسان يجترىء على سعيد بن المسيب يسأله عن شيء حتى يستأذنه كما يستأذن الأمير. (صف2/79)
قال مغيرة: كنا نهاب إبراهيم [النخعي] كما نهاب الأمير. (صف3/88)
عن مالك أن رجلاً جاء إلى سعيد بن المسيب وهو مريض فسأله عن حديث وهو مضطجع فجلس فحدثه فقال له ذلك الرجل: وددت أنك لم تتعنَّ فقال: إني كرهت أن أحدثك عن رسول الله وأنا مضطجع. (صف2/80)
كان ابن سيرين إذا سئل عن شيء من الفقه الحلال والحرام تغير لونُهُ وتبدلَ، حتى كأنه ليس بالذي كان. (2/264)
__________
(1) أي اختلاف الأحكام العملية عند أهل الحق والعلم.
(2) أي ما غاب عنك علمه.
(3) لعلها (خيركم).
(4) أي ظاهرات بلا خفاء.(1/313)
قال عبد الصمد: قال أبو هلال: سألت قتادة عن مسألة فقال: لا أدري؛ قال: قلت: قل برأيك! قال: ما قلت برأيي منذ أربعين سنة؛ قلت: ابن كم كان يومئذ؟ قال: كان ابن نحو من خمسين سنة. (مسند ابن الجعد 1022)
قال أبو عوانة: سمعت قتادة يقول: ما أفتيت برأيي منذ ثلاثين سنة. (مسند ابن الجعد 1023)
قال مسلم بن يسار: إذا حدثت عن الله حديثاً(1) فقفْ حتى تنظر ما قبله وما بعده. (تفسير ابن كثير 1/7)
قال عمر بن عبد العزيز: من قال عندما لا يدري: لا أدري، فقد أحرز نصف العلم. (البيان والتبيين 2/91)
قال إبراهيم بن إسحاق الحربي: كان عطاء بن أبي رباح عبداً أسود لامرأة من أهل مكة وكان أنفه كأنه باقلاة؛ قال: وجاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه فجلسوا إليه وهو يصلي فلما صلى انفتل إليهم فما زالوا يسألونه عن مناسك الحج وقد حول قفاه إليهم ثم قال سليمان لابنيه: قوما، فقاما، فقال: يا ابنيَّ لا تَنِيا في طلب العلم فإني لا أنسى ذلَّنا بين يدي هذا العبد الأسود(2). (صف2/212)
قال سفيان الثوري: سمعت داود بن أبي هند وكان عاقلاً يقول: إنك إذا أخذت بالذي أجمعوا عليه لم يضرك الذي اختلفوا فيه، وإن الذي اختلفوا فيه هو الذي نهوا عنه. (3/92)
قال سليمان التيمي: لو أخذتَ برخصة كل عالم، أو زلة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله(3). (الأمر بالمعروف ص78 والجامع 2/91)(4)
__________
(1) يعني التفسير والإفتاء ونحوهما.
(2) قال أحمد بن حنبل: العلم خزائن يقسم الله لمن أحب، لو كان يخص بالعلم أحد[اً] لكان بيت النبي [صلى الله عليه وسلم] أولى؛ كان عطاء بن أبي رباح حبشياً، وكان يزيد بن أبي حبيب نوبياً أسود، وكان الحسن مولى للأنصار، وكان إبن سيرين مولى للأنصار. (صف2/211)
(3) وفي لفظ آخر: إذا أخذت برخصة العلماء كان فيك شر الخصال. (الأمر ص87)
(4) قال ابن عبد البر عقب إخراجه: هذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً.(1/314)
الكلام في الدين بالرأي
[يوضع خلف الأهواء]
قال أبو سلمة بن عبد الرحمن للحسن البصري: أرأيت ما تفتي الناس أشياء، سمعته أم برأيك؟ فقال الحسن: لا، والله ما كل ما نفتي به سمعناه؛ ولكن رأينا خير لهم من رأيهم لأنفسهم. (الطبقات 7/165)
عن أبي هاشم الرماني عن إبراهيم قال: لا يستقيم رأي إلا برواية ولا رواية إلا برأي(1). (4/225)
قال الأعمش: ما سمعت إبراهيم [النخعي] يقول في شيء برأيه قط. (العلم لأبي خيثمة 13 والحلية 4/222)
قال أبو حمزة الأعور: لما كثرت المقالات بالكوفة أتيت إبراهيم النخعي فقلت: يا أبا عمران أما ترى ما ظهر بالكوفة من المقالات؟! فقال: أوه! دققوا(2) قولاً واخترعوا ديناً من قِبَل أنفسهم، ليس من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا هو الحق، وما خالفه باطل؛ لقد تركوا دين محمد صلى الله عليه وسلم؛ إياك وإياهم. (4/223)
قال أبو حمزة: قلت لإبراهيم: انك إمامي وأنا أقتدي بك فدلني على الأهواء، قال: ما جعل الله فيها مثقال حبة من خردل من خير، وما الأمر إلا الأمر الأول(3). (4/222)
قال عاصم الأحول: كنت عند ابن سيرين فدخل عليه رجل فقال: يا أبا بكر ما تقول في كذا؟ قال: ما أحفظ فيها شيئاً، فقلنا له: فقل فيها برأيك؟ قال: أقول فيها برأيي ثم أرجع عن ذلك الرأي؟! لا والله. (2/268)
سئل أيوب عن شيء فقال: لم يبلغني فيه شيء فقيل له: قل فيه برأيك، فقال: لا يبلغه رأيي ---- وقال حماد بن زيد: سمعت أيوب وقيل له: ما لك لا تنظر في هذا؟ يعني الرأي فقال أيوب: قيل للحمار ألا تجتر؟! فقال: أكره مضغ الباطل. (3/8)
__________
(1) المراد الفقه وحسن الفهم.
(2) لعلها مصحفة عن (لفقوا).
(3) وفي رواية: عن أبي حمزة عن إبراهيم قال: والله ما رأيت فيما أحدثوا مثقال حبة من خير، يعني أهل الأهواء والرأي والقياس. (4/222)(2/1)
قال صالح بن مسلم: قال لي عامر الشعبي يوماً وهو آخذ بيدي: إنما هلكْتُم بأنكم تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس. (تاريخ اصبهان 2/182 والحلية 4/320)
عن صالح بن مسلم قال: قال عامر [الشعبي]: لقد تركتني هذه الصعافقة وللمسجد أبغض إلي من كناسة داري؛ يعني أصحاب القياس. (الصمت ص114)
قال ابن شهاب الزهري: دعُوا السُنَّة تمضي لا تَعْرِضُوا لها بالرأي. (إحكام الأحكام لابن حزم ص789)
الجدال والخصومة في الدين أو في غيره
قال عمر بن عبد العزيز: احذرِ المراءَ فإنَّه لا تؤمَنُ فتنتُه ولا تفهمُ حكمتُه. (5/320)
قال عمر بن عبد العزيز: إذا سمعت المراء فأقصر. (الصمت ص101)
قال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل. (الصمت ص116 و293)
قال ميمون بن مِهران: لا تمارينَّ عالماً ولا جاهلاً، فإنكَ إن ماريتَ عالماً خزنَ عنك علمَه، وإنْ ماريتَ جاهلاً خشن صدرك(1). (4/82)
قيل لميمون بن مهران: يا أبا أيوب ما لك لا تفارقُ أخاً لك عن قِلى(2)؟! قال: إني لا أماريهِ ولا أشاريه. (4/83 والصمت ص108)
قال الحكم: قال عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمهما الله: لا أماري صاحبي فإما أن أَكْذِبَهُ وإما أن أُغْضِبَه(3). (الصمت ص99)
عن الحكم عن محمد بن علي قال: لا تجالسوا أصحاب الخصومات فإنهم يخوضون في آيات الله. (الصمت ص115)
عن العوام بن حوشب عن ابراهيم النخعي في قوله تعالى: (فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)(4) قال: أغرى بينهم في الخصومات والجدال في الدين. (4/223)
__________
(1) في الأصل (بصدرك)؛ وفي (مختار الصحاح) (ص74): (وخاشَنَهُ ضد لاينه، وخَشَّنَ صدرَه تخشِيناً: أوغره؛ قلت: معنى أوغره أحماه من الغيظ).
(2) في الأصل (قلا)؛ والقلى: البغض.
(3) تصحفت في الأصل إلى (أعصيه).
(4) المائدة (14).(2/2)
عن عبد الله بن داود قال: سمعت سفيان عن الحسن بن عمرو عن فضيل قال: قال إبراهيم: ما خاصمت؟ قلت: لا، قال: قط؟ قال: قلت: قط؛ قال ابن داود كذا يعني. (الصمت ص115)
قال ابراهيم النخعي: ما خاصمت أحداً قط. (4/222)
قال شهر بن حوشب: قال لقمان عليه السلام لإبنه: أي بني لا تعلم العلم تباهي به العلماء أو تماري به السفهاء أو ترائي به في المجالس. (الصمت ص106)
عن حماد بن زيد عن محمد بن واسع قال: كان مسلم بن يسار يقولُ: إياكم والمراء فإنها ساعةُ جهلِ العالمِ، وبها يبتغي الشيطانُ زلَّته(1)، قال حماد: فقال لنا محمد: هذا الجدال هذا الجدال. (الصمت ص99-100 والحلية 2/294)
قال محمدُ بنُ واسعٍ: رأيت صفوانَ بن محرزٍ في المسجد وقريباً منه ناسٌ يتجادلون فرأيته قام فنفض ثيابَه وقال: إنما أنتم جَرَبٌ، مرتين. (الصمت ص100 والحلية 2/215)
جاء رجل إلى الحسن فقال: أنا أناظرك في الدين قال الحسن: أنا قد عرفت ديني فإن كان دينك قد ضل منك فاذهب فاطلبه. (طبقات الحنابلة 2/39 وانظر القدر ص215؟ )
قال الحسن: إنما يخاصم الشاك في دينه. (الصمت ص293)
قال معاوية بن قرة: كان يقال: الخصومات في الدين تحبط الأعمال(2). (الشريعة 2045 والحلية 2/301 وشرح أصول الاعتقاد 221 والحجة للأصبهاني ص249)
الإصلاح بين الناس
قال محمد بن كعب القرظي: من أصلح بين قوم فهو كالمجاهد في سبيل الله. (المداراة ص120)
__________
(1) أي زلة العالم.
(2) عن الأوزاعي قال: إذا أراد الله بقوم شراً فتح عليهم الجدل ومنعهم العمل. (اقتضاء العلم العمل ص79)
عن معروف بن فيروز الكرخي قال: إذا أراد الله بعبد خيراً فتح له باب العمل وأغلق عنه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبد شراً فتح له باب الجدل وأغلق عنه باب العمل. (اقتضاء العلم العمل ص79)(2/3)
قال الليث بن بكار: سمعت أبي يقول: كان سيار [أبو الحكم] يذهب إلى مجلس القاضي قبل أن يعقد؛ فلا يزال يصلح بين الخصوم حتى إذا جاء القاضي قام. (تاريخ واسط ص86)
القضاء
قال عمر بن عبد العزيز: إذا كان في القاضي خمس خصال فقد كمل، علم ما كان قبله، ونزاهة عن الطمع، وحلم عن الخصم، واقتداء بالأئمة، ومشاورة أهل الرأي. (البيان والتبيين 2/150)
قال أبو حرة: كان الحسن لا يأخذ على قضائه أجراً. (الطبقات الكبرى 7/172)
كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إلى عدي بن أرطاة: إن قبلك رجلين من مزينة، فولِّ أحدهما قضاء البصرة، يعني بكر بن عبد الله المزني، وإياس بن معاوية؛ فقال بكر: والله ما أحسن القضاء؛ فإن كنتُ صادقاً فما يحل لك أن توليني؛ وإن كنتُ كاذباً إنها لأحراهما. (البيان والتبيين 1/68)
قال أيوب: طُلب أبو قلابة لقضاء البصرة فهرب منها إلى الشام، فأقام حيناً ثم رجع، قال أيوب: فقلت له: لو وليت القضاء وعدلت كان لك أجران! فقال: يا أيوب إذا وقع السابح في البحر كم عسى أن يسبح؟! (العقد الفريد 10/130)
أريدَ محمد بن واسع على القضاء فأبى؛ فعاتبته امرأته، فقالت: لك عيال وأنت محتاج! قال: ما دمتِ ترَيني أصبر على الخل والبقل فلا تطمعي في هذا مني. (2/353)
قال الوضين بن عطاء: أراد الوليد بن عبد الملك أن يولي يزيد بن مرثد فبلغ ذلك يزيد فلبس فروة وقلبها فجعل الجلد على ظهره والصوف خارجاً وأخذ بيده رغيفاً وعرْقاً وخرج بلا رداء ولا قلنسوة ولا نعل ولا خف، وجعل يمشي في الأسواق ويأكل فقيل للوليد: إن يزيد قد اختلط وأخبر بما فعل فتركه. (صف4/205-206)(2/4)
قال أبو عوانة: لما أجلس منصور بن المعتمر في القضاء كان يأتيه الرجل فيقص عليه فيقول: قد فهمت ما قلت ولا أدري ما الجواب فيه فكان يفعل ذلك فذكروا ذلك لابن هبيرة وكان هو الذى ولاه، قال: هذا أمر لا يصلح إلا أن يعين(1) عليه صاحبه بشهوة فتركه(2). (صف3/112)
قال العلاء بن رؤبة: كانت لي حاجة إلى رجاء بن حيوة، فسألت عنه، فقالوا: هو عند سليمان بن عبد الملك؛ قال: فلقيته؛ فقال: ولَّى أميرُ المؤمنين اليومَ ابنَ موهب القضاءَ؛ ولو خيرتُ بين أن ألي، وبين أن أحمل إلى حفرتي، لاخترت أن أحمل إلى حفرتي؛ قلت: إن الناس يقولون: إنك أنت الذي أشرت به! قال: صدقوا؛ إني نظرت للعامة، ولم أنظر له. (5/170)
قال محمد بن سيرين: كنا عند أبي عبيدة بن حذيفة في قبة له فأتاه رجل فجلس معه على فراشه، فساره بشيء لم أفهمه، فقال له أبو عبيدة: فإني أسألك أن تضع إصبعك في هذه النار وكانون بين أيديهم فيه نار فقال الرجل: سبحان الله، فقال له أبو عبيدة: تبخل علي بإصبع من أصابعك في نار الدنيا، وتسألني أن أجعل جسدي كله في نار جهنم؟! قال: فظننا أنه دعاه إلى القضاء(3). (المصنف 35474)
العدل، والظلم والتجبر
عن سفيان عن واصل الأحدب قال: رأى ابراهيم [النخعي] أمير حلوان يسير في زرع فقال ابراهيم: الجور في الطريق خير من الجور في الدين. (4/229)
__________
(1) كأن الصواب (يعان).
(2) أخذ يوسف بن عمر - عامل الكوفة - منصوراً يريده على القضاء فامتنع قال فجاءه خصمان فقعدا بين يديه فلم يسألهما ولم يكلمهما وقيل ليوسف بن عمر: إنك لو نثرت لحمه لم يل لك قضاءً؛ فخلى عنه. (صف3/112)
(3) وروى أبو نعيم في (الحلية) (7/47) عن زيد بن أبي خداش قال: لقي سفان شريكاً بعد ما ولي قضاء الكوفة، فقال: يا [أبا] عبد الله بعد الإسلام والفقه والخير تلي القضاء وصرت قاضياً؟! فقال له شريك: يا أبا عبد الله لا بد للناس من قاضي؛ فقال له سفيان: يا أبا عبد الله لا بد للناس من شرطي.(2/5)
عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال: إقرار ببعض الظلم خير من القيام فيه. (4/14)
قال الحسن: إذا لم يعدل المعلم بين الصبيان كتب من الظلمة. (العيال ص534)
بينا عمر بن عبد العزيز يسيرُ يوماً في سوقِ حمصٍ فقامَ إليهِ رجلٌ عليهِ بُردانِ قطريانِ، فقالَ: يا أميرَ المؤمنينَ أمرتَ من كانَ مظلوماً أن يأتيكَ؟ قالَ: نعم، قالَ: فقد أتاكَ مظلومٌ بعيدُ الدارِ! فقال له عمرُ: وأينَ أهلُكَ؟ قالَ: بعدن أبين؛ قال عمر: واللهِ إنَّ أهلَك مِن أهلِ عمرَ لبعيدٌ؛ فنزلَ عن دابتِه في موضعِه فقالَ: ما ظُلامتُكَ(1)؟ قال ضيعةٌ لي وثبَ عليها واثبٌ فانتزعها مني! فكتب إلى عروةَ بن محمدٍ يأمره أن يسمعَ مِنـ[ـه] بيِّنتَه؛ فإن ثبتَ له حقٌّ دفعهُ إليهِ؛ وختمَ(2) كتابَهُ؛ فلما أراد الرجلُ القيامَ قال له عمر: على رسْلِكَ، إنك قد أتيتَنا من بلدٍ بعيدٍ فكم نفذَ لكَ زادٌ أو نفقتْ لك راحلةٌ وأخلقَ لكَ ثوبٌ، فحسبَ ذلكَ فبلغَ أحدَ عشرَ ديناراً، فدفعها عمرُ إليه. (5/280)
__________
(1) الظُّلاَمةُ والظَّليمَةُ والمَظْلَمَةُ بفتح اللام: ما تطلبه عند الظالِم، وهو اسم ما أخذه منك.
(2) أي عمر.(2/6)
قال هشام بنُ عبدِ الملك لعمر بن عبد العزيز: يا أميرَ المؤمنينَ إني رسولُ قومِكَ إليكَ؛ وإنَّ في أنفسِهم ما أكلمُكَ به؛ إنهم يقولونَ استأنِفِ العملَ برأيِكَ فيما تحتَ يديكَ، وخلِّ بينَ مَن سبقَكَ وبينَ ما ولَّوا بهِ من كانَ يلونَ أمرَه بما عليهِم ولهم؛ فقالَ له عمرُ: أرأيتَ لو أتيتَ بسجلّينِ أحدهما من معاويةَ والآخر من عبدِ الملكِ بأمرٍ واحدٍ، فبأيِّ السجلينِ كنتَ تأخذُ(1)؟ قال بالأقدمِ ولا أعدلُ بهِ شيئاً؛ قال عمرُ: فإني وجدتُ كتابَ اللهِ الأقدمَ فأنا حاملٌ عليهِ مَن أتاني ممن تحتَ يدي في ما لي(2) وفيما سبقني؛ فقال له سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان: يا أميرَ المؤمنينَ امضِ لرأيِك فيما وليتَ بالحقِّ والعدلِ، وخلِّ عمَّن سبقَك وعمّا ولّى خيره وشره، فإنكَ مكتفٍ بذلكَ فقال له عمر: أنشدكَ اللهَ الذي إليه تعودُ أرأيتَ لو أنَّ رجُلاً هلكَ وتركَ بنينَ صغاراً وكباراً فعزَّ الأكابرُ الأصاغرَ بقوّتِهم(3) فأكلوا أموالَهم فأدركَ الأصاغرُ فجاءوك بهِم وبما صنعوا في أموالهم ما كنتَ صانعاً؟ قالَ: كنتُ أردُّ عليهم حقوقَهم حتى يستوفوها؛ قالَ: فإنني قد وجدتُ كثيراً ممن قبلي من الولاةِ عزُّوا الناسَ بقوتِهم وسلطانِهم، وعَزَّهم بها أتباعُهم(4)، فلما وليتُ أتوني بذلك فلم يسعْني إلا الردُّ على الضعيفِ من القويِّ، وعلى المستضعَفِ من الشريفِ؛ فقال وفقك اللهُ يا أميرَ المؤمنين. (5/282)
__________
(1) في الأصل: (كنت آخذ)، ولذلك وجه صحيح أيضاً، ولكن الذي أثبتُّه أقرب.
(2) في الأصل (مالي)، ولعل الذي أثبتُّه هو الصحيح.
(3) أي غلبوهم.
(4) يعني أتباع الولاة.(2/7)
كتب عمرُ بن عبد العزيز إلى أهل الموسم: أما بعدُ فإني أُشْهِدُ اللهَ وأبرأُ إليهِ في الشهرِ الحرامِ والبلدِ الحرامِ ويومِ الحجِّ الأكبرِ: أني بريءٌ مِن ظُلْمِ مَن ظلَمكم وعدوانِ من اعتدى عليكم أنْ أكونَ أمرتُ بذلكَ أو رضيتُه أو تعمدتُه إلا أن يكونَ وهماً مني أو أمراً خفيَ عليَّ لم أتعمده؛ وأرجو أن يكون ذلك موضوعاً عني مغفوراً لي، إذا علم مني الحرصَ والاجتهادَ؛ ألا وانه لا إذنَ على مظلومٍ دوني(1)، وأنا مُعّوَّلُ كلِّ مظلومٍ؛ ألا وأي عاملٍ من عُمالي رغبَ عن الحقِّ ولم يعملْ بالكتابِ والسنةِ فلا طاعةَ له عليكم؛ وقد صيرتُ أمرَه إليكم، حتى يراجِعَ الحقَّ وهو ذميمٌ؛ ألا وإنَّه لا دولةَ بين أغنيائِكم ولا أثَرَةَ(2) على فقرائكم في شيء مِن فَيئِكم؛ ألا وأيما وارد ورد في أمرٍ يُصلِحُ اللهُ بهِ خاصاً أو عاماً مِن هذا الدينِ فله ما بينَ مئتي دينارٍ إلى ثلاثِ مئة دينارٍ على قدر ما نوى من الحسنة وتجشم من المشقةِ؛ رحم الله امرأً لم يتعاظمْه سفرٌ يُحيي اللهُ به حقاً لِمن وراءَه؛ ولولا أن أشغلَكم عن مناسكِكم لرسمتُ لكم أموراً من الحقِّ أحياها الله لكم وأموراً من الباطلِ أماتها اللهُ عنكم، وكان اللهُ هو المتوحدَ بذلكَ، فلا تحمدوا غيرَه فإنه لو وكلني إلى نفسي كنتُ كغيري، والسلام عليكم. (5/293)
كتب بعض عمالِ عمرَ إليهِ: أما بعدُ فإنَّ مدينتَنا قدْ خرِبَت فإنْ رأى أميرُ المؤمنينَ أن يَقطعَ لها مالاً يرمُّها(3) به فَعلَ، فكتب إليه عمرُ: أما بعدُ فقد فهمتُ كتابَكَ وما ذكرتَ أنَّ مدينتَكم قد خربتْ فإذا قرأتَ كتابي هذا فحصنْها بالعدلِ ونَقِّ طرقَها مِنَ الظلْمِ فإنَّه مرمَّتُها، والسلام. (5/305)
__________
(1) كذا هذه العبارة.
(2) الأثرة: الاستئثار بالشيء والاستبداد به.
(3) رَمَّ الشيءَ يرمُّه، بضم الراء وكسرها، رَمّاً ومَرَمَّةً: أصلحه.(2/8)
كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم: أما بعد، فإنك كتبت إلى سليمان كتباً لم ينظر فيها حتى قبض رحمه الله وقد بليت بجوابك؛ كتبت إلى سليمان تذكر أنه يقطع لعمال المدينة من بيت مال المسلمين ثمن شمع كانوا يستضيئون به حين يخرجون إلى صلاة العشاء وصلاة الفجر وتذكر أنه قد نفد الذي كان يستضاء به وتسأل أن يقطع لك من ثمنه بمثل ما كان للعمال، وقد عهدتك وأنت تخرج من بيتك في الليلة المظلمة الماطرة الوحلة بغير سراج، ولعمري لأنت يومئذ خير منك اليوم؛ والسلام.(صف2/119)
دخل مسلمة بن عبد الملك على عمر بن عبد العزيز في مرضته التي مات فيها، فقال: ألا توصي يا أمير المؤمنين؟ قال: فيمَ أوصي؟! فوالله إنْ(1) لي من مال؛ فقال: هذه مئة ألف فمر فيها بما أحببتَ، فقال: أوَتقبَلُ؟ قال: نعم؛ قال: تُردُّ على من أُخذت منه ظلماً؛ فبكى مسلمة ثم قال: يرحمك الله! لقد ألنتَ منا قلوباً قاسيةً، وأبقيتَ لنا في الصالحين ذكراً. (الكامل 1/237)
عن عامر [الشعبي] أن إبناً لشريح قال لأبيه: بيني وبين قوم خصومة فانظر فإن كان الحق لي خاصمتهم وإن لم يكن لي الحق لم أخاصمهم فقص قصته عليه فقال: انطلق فخاصمهم فانطلق إليهم فخاصمهم إليه فقضى على إبنه فقال له لما رجع إلى أهله: والله لو لم أتقدم إليك لم ألمك، فضحتني! فقال: والله يا بني لأنت أحب إلي من ملء الأرض مثلهم ولكن الله هو أعز على منك أن أخبرك أن القضاء عليك فتصالحهم فتذهب ببعض حقهم. (صف3/40)
قال الشعبي: شهدت شريحاً وجاءته امرأة تخاصم رجلاً فأرسلت عينيها وبكت، فقلت: يا أبا أمية ما أظنها إلا مظلومة؛ فقال: يا شعبي إن إخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون. (صف3/40)
__________
(1) نافية.(2/9)
عن مالك عن يحيى بن سعيد عن كاتب للحجاج يقال له: يعلى؛ قال مالك: وهو أخ لام سلمة الذي كان على بيت المال؛ قال: كنت أكتب للحجاج وأنا يومئذ غلام حديث السن يستخفُّني ويستحسنُ كتابتي، فأدخل عليه بغير إذن، فدخلت عليه يوماً بعد ما قتل سعيد بن جبير، وهو في قبة لها أربعة أبواب، فدخلت عليه مما يلي ظهره، فسمعته يقول: ما لي ولسعيد بن جبير؟! فخرجت رويداً وعلمت أنه إن علم بي قتلني، فلم ينشب الحجاج بعد ذلك إلا يسيراً(1). (4/291 و صف3/81)
قال مالك بن دينار: في التوراة: إن الله يبدد عظام رجل في يوم يجمع الله فيه الأولين والآخرين، تكلَّمَ بين اثنين بهوى. (2/372)
قال ميمون في قوله تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ)(2) قالَ: وعيدٌ للظالمينَ وتعزيةٌ للمظلوم. (4/83-84)
استعمل عمر بن عبد العزيز عاملاً فبلغه أنه عَمل للحجاجِ(3) فعزله، فأتاه يعتذرُ إليه فقالَ: لم أعملْ له إلا قليلاً، فقالَ: حسبُك من صحبةِ شرٍّ يومٌ أو بعضُ يومٍ. (5/289)
قال عمر بن عبد العزيز: إنما هلك من كان قبلنا بحبسهم الحق حتى يُشْتَرى منهم وبسطهم الظلم حتى يفتدى منهم. (5/311)
خرج عمر يوماً فقال: الوليد بالشام! والحجاج بالعراق! وقرة بن شريك بمصر! وعثمان بن حيان بالحجاز! ومحمد بن يوسف باليمن! امتلأت الأرض والله جوراً. (الكامل 2/109)
قال الأوزاعي: حدثني حسان [بن عطية] قال: يعذب الله الظالم بالظالم ثم يدخلهما النار جميعاً. (صف4/222)
قالَ بلالٌ بن سعد: أيُّها الناسُ اتقوا اللهَ فيمن لا ناصرَ لهُ إلا الله. (5/226)
__________
(1) قال ابن الجوزي في (صفة الصفوة) عقب روايته هذه القصة: (وفي رواية أخرى عاش بعده خمسة عشر يوماً، وفي رواية ثلاثة أيام، وكان يقول: ما لي ولسعيد بن جبير كلما أردت النوم أخذ برجلي).
(2) ابراهيم (42).
(3) أي كان عاملاً للحجاج بن يوسف.(2/10)
كان شُريحٌ القاضي يقول: سيعلمُ الظالمونَ حقَّ مَنْ نقضُوا، إنَّ الظالمَ ينتظرُ العقابَ، والمظلوم ينتظرُ النصرَ. (4/132)
عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: (وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ)(1) قال: بالسيف. (التواضع والخمول ص200)
عن إسماعيل بن سالم عن الشعبي قال: من قتل اثنين فهو جبار؛ ثم قرأ (أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ)(2). (التواضع والخمول ص200)
الشيطان(3)
__________
(1) الشعراء (130).
(2) القصص (19).
(3) فائدة في بيان السر في الأمر بالاستعاذة من الشيطان الرجيم؛ (وأصل هذا الكلام التالي لابن كثير رحمه الله في أوائل تفسيره عند كلامه على معنى الإستعاذة؛ فهذبته وتصرفت فيه):
الشيطان تام العداوة للإنسان لا يرده عن عداوته له مداراة ولا مصانعة؛ والإنسان تام العجز عن دفع الشيطان بنفسه بل هو أصلاً لا يراه فكيف يدفعه؟! فلهذا كان السبيل الوحيد للخلاص من كيده الاستعاذة الصادقة والاستعانة التامة بمن هو على كل شيء قدير، ومن نواصي كل مخلوق بيده؛ بخلاف الأعداء من الناس فالمرء يستعين الله عليهم ويأخذ بما أمر الله به من أسباب لدفع شرورهم.
قال تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف 199] فهذا فيما يتعلق بمعاملة الأعداء من البشر ثم قال: (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأعراف 200].
وقال تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ). [المؤمنون 96-98]
وقال تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). [فصلت 34-36]
فهذه ثلاث آيات ليس لهن رابعة في معناها وهو أن الله تعالى يأمر بمصانعة العدو الإنسي والإحسان إليه ليرده عنه طبعه الطيب الأصل إلى الموالاة والمصافاة ويأمر بالإستعاذة به تبارك وتعالى من العدو الشيطاني، إذ لا يقبل مصانعة ولا إحساناً ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم من قبل كما قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ) [الأعراف 27]، وقال تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر 6]؛ وقال: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) [الكهف 50].
وقد أقسم لأبينا آدم أنه له لمن الناصحين ومع ذلك كذب فكيف تكون معاملته لنا وقد أقسم على ضد النصح إذ اقسم على إغوائنا فقال: (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [ص82-83].
ثم لا بد من شدة الحذر من الشيطان فإن الغفلة عنه غاية في الخطورة بخلاف الغفلة عن العدو البشري فليست كذلك؛ فمن قتله العدو الظاهر البشري كان شهيداً، ومن قتله العدو الباطني كان طريداً؛ ومن غلبه العدو الظاهري كان مأجوراً؛ ومن قهره العدو الباطني كان مفتوناً موزوراً.
ولما كان الشيطان يرى الإنسان من حيث لا يراه استعاذ منه بالذي يراه ولا يراه الشيطان.
والطريقة الوحيدة للنجاة من شر الشيطان ومقاصده هي الاستعاذة بالله من الشيطان واتخاذه سبحانه وكيلاً في مدافعة شره؛ قال تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ) [النحل 98-100]؛ وقال تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) [الإسراء 65].(2/11)
كان مطرفٌ يقولُ: لو أَنَّ رجلاً رأى صيداً والصيدُ لا يراهُ، يختلُهُ، أليسَ يُوشِكُ أن يأخذَه؟ قالوا: بلى، قالَ: فإنَّ الشيطانَ هو يرانا ونحن لا نراه، فيصيب منا. (2/202)
عن حميد بن هلال قال: قال مطرف بن الشخير: تعجبون أنتم ممن هلك وأعجب أنا ممن نجا، إن ابن ادم أول زكمة؟ خلق منها من ضعف، وجعلت الدنيا شهوات واحضرت الانفس الشح وابتلى بالسراء والضراء، فإن كانت سراء كان بلاء وان كان ضراء كانت بلاء ويوكل به عدو يراه من حيث لا يراه؛ قال: ثم يقبل على القوم فيقول: والله لو أن أحدكم طلب صيداً فجعل يراه من حيث لا يراه لأوشك أن يظفر به(1). (الزهد ص241-242)
قال رجل للعلاء بن زياد: رأيت(2) كأنك في الجنة، فقال له: ويحك أما وجد الشيطانُ أحداً يسخر به غيري وغيرك؟! (2/245)
قال أبو حازم: إنَّ الشيطانَ إذا استمكنَ من عصمةِ امرىءٍ لم يبالِ ما صنَعَ ولو صلّى حتى يسقطَ لحمَ وجهِهِ ولمْ يكره فيما سوى ذلك. (3/231)
قال أبو حازم: وما إبليس؟! واللهِ لقد عُصِيَ فما ضرَّ(3) ولقد أُطيعَ فما نَفَعَ(4). (3/245)
قال مجاهد: من كثر خدمه كثرت شياطينه. (الزهد الكبير ص149)
قال خيثمة بن عبد الرحمن: كانوا يقولون: إن الشيطان يقول: كيف يغلبني ابنُ آدمَ؟! إذا رضي(5) كنتُ في قلبه، وإذا غضب طرتُ حتى أكونَ في رأسه(6). (4/117)
__________
(1) كان مطرفٌ يقولُ: لو أَنَّ رجلاً رأى صيداً والصيدُ لا يراهُ، يختلُهُ، أليسَ يُوشِكُ أن يأخذَه؟ قالوا: بلى، قالَ: فإنَّ الشيطانَ هو يرانا ونحن لا نراه، فيصيب منا. (2/202)
(2) أي في المنام.
(3) من عصاه.
(4) من أطاعه.
(5) أي كان سعيداً أو غير غاضب.
(6) في هذا التمثيل إشارة إلى تلاعب الشيطان بالناس ودخوله عليهم من باب الشهوات ومن باب الغضب.(2/12)
قال الحارث بنُ قيسٍ الجعفي: إذا كنتَ في أمرِ الآخرةِ فتمكَّثْ وإذا كنتَ في أمرِ الدنيا فتوحَّ(1)، وإذا هممتَ بأمرِ خيرٍ فلا تؤخرْهُ، وإذا أتاكَ الشيطانُ وأنتَ تصلي فقال: إنكَ مُراءٍ فزده طولاً. (4/127 والمصنف 7/153 والسير 4/78)
قال طلحة بن مصرف: المؤمن يجلب عليه إبليس من الشياطين أكثر من ربيعة ومضر. (5/19)
قال زبيد اليامي: قال ابليس لعنه الله: ما أصبت من أيوب شيئاً فرحت به إلا أني كنت إذا سمعت أنينه علمت أني قد أبلغت إليه. (محاسبة النفس 126)
النفس والهوى
قال محمد بن المنكدر: كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت. (3/147)
قال الحسن: أيسر الناس حساباً يوم القيامة الذين يحاسبون أنفسهم في الدنيا فوقفوا عند همومهم وأعمالهم، فإن كان الذي هموا به لهم مضوا، وإن كان عليهم أمسكوا؛ قال: وإنما يثقل الأمر يوم القيامة على الذين جازفوا الأمور في الدنيا، أخذوها من غير محاسبة فوجدوا الله عز وجل قد أحصى عليهم مثاقيل الذر، وقرأ (مَالِهذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا)(2). (محاسبة النفس 149)
__________
(1) في الأصل (فتوخ) وهو تصحيف وقد وقع في جملة من الكتب؛ ومعنى (توحَّ) أسرع، قال الزمخشري في (الفائق) (4/48): (وحى: أى تسرَّع إليه، من الوَحاَء وهو السرعة؛ يقال: الوَحاَءَ الوَحاَء، وسُمٌّ وَحِي: سريع القتل؛ واستوحيتُه: استعجلتُه، وتوحَّيْت تَوَحِّياً: تسرعت، والهاءُ ضمير الأمر أو للسكت).
وجاء في (مختار الصحاح) (ص297): (والوَحَا السُّرعة، يمد ويُقصر، ويقال: الوَحَا الوحا البِدار البِدار؛ والوَحِيٌّ على فَعِيل السريع، يقال: موتٌ وحِيٌّ).
(2) الكهف (49).(2/13)
كان الحسن يقول: ابن آدم إنك لن تصيب حقيقة الإيمان حتى لا تعيب الناس بعيب هو فيك، وحتى تبدأ بصلاح ذلك العيب فتصلحه من نفسك؛ فإذا فعلت ذلك كان شغلك في خاصة نفسك؛ وأحب العباد إلى الله من كان هكذا. (الصمت 131-132 والبيان والتبيين 3/135 و صف3/234)
قال الحسن: ابن آدم تبصر القذى في عين أخيك وتدع الجذل(1) معترضاً في عينك؟ وقال: إن للخير أهلاً وللشر أهلاً؛ من ترك شيئاً كفيه. (الزهد ص285-286 والمصنف 7/197 وانظر الصمت ص133)
قال حميد: قال لي الشعبي ونحن بمكة: إني أحب أن تخلي لي الحسن؛ قال: فقلت ذلك للحسن وأنا معه في بيت؛ قال: فقال: إذا شاء؛ قال: فجاء الشعبي وأنا على الباب، قال: فقلت: أدخل عليه فإنه في البيت وحده؛ قال: إنـ[ـه] أحب إلي أن تدخل معي، قال: فدخلت فإذا الحسن قبالة القبلة وهو يقول: يا ابن آدم لم تكن فكونت وسألت فأعطيت وسئلت فمنعت فبئس ما صنعت؛ قال: ثم يذهب ثم يرجع ثم يقول: يا ابن آدم لم تكن فكونت وسألت فأعطيت وسئلت فمنعت فبئس ما صنعت --- قال: ثم يذهب، قال: فأعاد ذلك مراراً، قال: فأقبل علي الشعبي فقال لي: يا هذا انصرف فإن هذا الشيخ في غير ما نحن فيه. (الطبقات 7/170-171)
قال الحسن: ابن آدم إنك تغدو وتروح في طلب الأرباح فليكن همك نفسك، فإنك لن تربح مثلها أبداً. (جامع العلوم والحكم ص221)
قال أبو مسلم الخولاني: أرأيتم نفساً إن أنا أكرمتها ونعمتها وودَعتها ذمتني غداً عند الله؟! وإن أنا أسخطتها وأنصبتها وأعملتها – أو كما قال – رضيت عني غداً؟! قالوا: من تيكم يا أبا مسلم؟! قال: تيكم والله نفسي. (2/124)
__________
(1) أي العود؛ قال ابن قتيبة في (غريب الحديث) (1/323): (والجِذْل أصلُ الشَّجَرة يُقْطَع، وفيها لغتان: جِذْل وجَذْل؛ هذا أصلُه، وربما جُعِل العود جِذْلاً).(2/14)
قال أبو قِلابةَ: إذا كان الانسانُ أعلمَ بنفسِهِ من الناسِ فذاكَ قَمِنٌ أن ينجوَ، وإذا كان الناسُ أعلمَ بهِ من نفسِهِ فذاك قمنٌ أن يَهْلكَ. (2/284)
قال قتادة: لم يُرَ أعطى من نفسٍ إذا عُوِّدَت ولا أضعف منها إذا لم تُعوَّد. (محاسبة النفس 121)
قال سليمان التيمي: إن للعين بدناً وضمراً: إذا عودتها السهر اعتادت، وإذا عودتها النوم اعتادت. (محاسبة النفس 142)
قال محمد بن واسع: مَنْ مقَتَ نفسَهُ في ذاتِ اللهِ أمَّنَهُ مِنْ مَقْتِه. (2/350)
قال المروزي: قلت لأبي عبد الله [أحمد بن حنبل]: ما أكثر الداعين لك! فتغرغرت عيناه وقال: أخاف أن يكون هذا استدراجاً، وقال: قال محمد بن واسع: لو أن للذنوب ريحاً ما جلس إلي منكم أحد. (الورع لأحمد ص164)
كان مالك بن دينار يقول في قصصه: ما أشد فطام الكبير(1). (البيان والتبيين 1/78 والكامل 1/209 وعيون الأخبار 2/369)
كان مالك بن دينار يقول: جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم. (الكامل 1/209)
قال أبو حازم: قاتلْ هواكَ أشدَّ ممن(2) تقاتل عدوك. (3/231)
قيل لعمر بن عبد العزيز: أي الجهاد أفضل؟ فقال: جهادك هواك. (الكامل 1/150 و209)
قال الحسن: لا يزال العبد بخير ما علم الذي يفسد عليه عمله؛ فمنهم من يزين له ما هو فيه، ومنهم من تغلبه الشهوة(3)
__________
(1) قال الجاحظ: (وهو كما قال القائل:
وتروض عرسك بعد ما هرمت ومن العناء رياضة الهرم
ومثله أيضاً قول صالح بن عبد القدوس:
والشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى في ثرى رمسه
إذا ارعوى عاد إلى جهله كذي الضنى عاد إلى نكسه).
(2) كذا الأصل.
(3) قال يوسف بن أسباط: سئل سفيان الثوري: من المجنون؟ فقال: من لم يميز غيه من رشده. (عقلاء المجانين ص13)
قال إبراهيم بن الأشعث: سمعت الفضيل بن عياض يقول: دعاك الله إلى دار السلام، وقد آثرت في دنياك المقام، وحذرك عدوك الشيطان، وأنت مؤالفه طول الزمان، وأمرك بخلاف هواك، وأنت مُعانيه صباحك ومساك، فهل الحمق إلا ما أنت فيه؟! (عقلاء المجانين ص13)
وقال عبد الصمد بن الفضل: سمعت خلف بن أيوب وسئل عن الأحمق، قال: من عمل لدنياه، ووافق هواه، وآثر على ربه سواه. (عقلاء المجانين ص13)
وقيل لآخر: من المجنون؟ قال: من لم يبال ما نقص من دينه بعد أن سلمت له دنياه. (عقلاء المجانين ص13)
وقيل لآخر: من المجنون؟ قال: من لم يأمن على روحه ساعة وهو يسعى في عمارة دنياه. (عقلاء المجانين ص13)
وسئل آخر: من الأخرق؟ فقال: من خرب آخرته بدنيا غيره. (عقلاء المجانين ص13)
وقال آخر: المجنون من التمس رضا الناس بسخط الله عز وجل. (عقلاء المجانين ص13)(2/15)
. (رك ص528)
قال أبو حازم: إنه ليس من يوم تطلع فيه الشمس إلا وهو يغدو على ابن آدم فيه علمه وهواه، ثم يتغالبان في صدره تغالب الزائدين(1) فيوم يغلبُ علمُهُ هواه فيومُ غنمٍ غنمَهُ، ويوم يغلبُ هواه علمَهُ فيومُ جرمٍ جرمه؛ قال: فإنك لتجدُ مِن عبادِ الله من يفتحُ علمه هواه كما يفتح إحدى الزائدين(2) لصاحبتها التي تغضب للتي تحب. (3/231)
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: قلت لأبي حازم يوماً: إني لأجدُ شيئاً يحزنني؛ قال: وما هو يا ابن أخي؟ قلت: حبي الدنيا؛ فقال لي: اعلم يا ابن أخي أن هذا الشيء ما أعاتب نفسي على حب شيء حببه الله تعالى إلي، لأن الله عز وجل قد حبب هذه الدنيا إلينا، ولكن لتكن معاتبتنا أنفسنا في غير هذا، أن لا يدعونا حبها الى أن نأخذ شيئاً من شيء يكرهه الله ولا أن نمنع شيئاً من شيء أحبه الله، فاذا نحن فعلنا ذلك لا يضرنا حبنا إياها. (3/243)
قال فضيل بن عياض: قال أبو حازم: اضمنوا لي اثنين أضمن لكم الجنة: عملاً بما تكرهون إذا أحبه الله تعالى وترك ما تحبون إذا كرهه الله عز وجل. (صف2/166)
قال أبو حازم: شيئانِ إذا عملتَ بهما أصبتَ بهما خيرَ الدنيا والآخرةِ ولا أُطوِّلُ عليكَ، قيل: وما هما؟ قال: تحتملُ(3) ما تكرَهُ إذا أحبَّهُ اللهُ وتكرَهُ ما تُحِبُّ إذا كرِهَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ. (3/241 و صف2/166)
قال وهب بن منبه: من جعلَ شهوتَه تحت قدمِه فزعَ الشيطانُ مِن ظله، ومن غلبَ حلمُه هواه فذاك العالم الغلاب. (4/60)
قال عمر بن عبد العزيز: أفضل الأعمال ما أُكرهت عليه النفوس. (محاسبة النفس 113)
قال عبد السلام بن حرب: سمعت مالك بن دينار يقول لنفسه: إني والله ما أريد بكِ إلا الخير – مرتين. (محاسبة النفس 65)
__________
(1) كذا في (الحلية).
(2) كذا في (الحلية).
(3) في (الحلية) و(صفة الصفوة) (تحمل) فجعلتها أنا هنا (تحتمل) اعتماداً على رواية أخرى لهذا الأثر تلي هذه الرواية في (الحلية).(2/16)
كان مالك يطوف بالبصرة في الأسواق فينظر إلى أشياء يشتهيها فيرجع فيقول لنفسه: أبشري فوالله ما حرمتك ما رأيتِ إلا لكرامتك علي. (صف3/278)
قال جعفر بن سليمان: سمعت مالك بن دينار يقول: رحم الله عبداً قال لنفسه النفيسة: ألستِ صاحبة كذا؟! ألستِ صاحبة كذا؟! ثم زمَّها(1) ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله فكان لها قائداً. (محاسبة النفس ص26)
قال يونس بن عبيد: ما لي تضيع لي الدجاجة فأجد(2) لها وتفوتني الصلاة(3) فلا أجد لها؟! (صف3/307)
قال يونس بن عبيد: لو أمرنا بالجزع لصبرنا(4). (العقد الفريد 10/7)
قال جعفر بن برقان: بلغني عن يونس بن عبيد فضل وصلاح فكتبت إليه: يا أخي بلغني عنك فضل وصلاح فأحببت أن أكتب إليك فاكتب إلي بما أنت عليه فكتب إلي: أتاني كتابك تسألني أن أكتب إليك بما أنا عليه وأخبرك أني عرضت على نفسي أن تحب للناس ما تحب لها، وأن تكره لهم ما تكره لها، فإذا هي من ذلك بعيد؛ ثم عرضت عليها مرة أخرى ترك ذكرهم إلا من خير؛ فوجدتُ الصومَ في اليوم الحار الشديد الحر بالهواجر بالبصرة أيسر عليها من ترك ذكرهم؛ هذا أمري يا أخي؛ والسلام. (صف3/302)
__________
(1) تصحفت في الأصل إلى (ذمها).
(2) أي أحزن.
(3) أي في الجماعة.
(4) يريد ثقل الموعظة على السمع وجنوح النفس إلى مخالفتها؛ ولكن لا يبعد عندي أن تكون كلمة (لصبرنا) محرفة عن نحو كلمة (لعجزنا)، كما في أثر آخر نقله صاحب (العقد الفريد) عن الحسن؛ إذ قال: (وكان الحسنُ يقول في المُصيبة : الحمدُ لله الذي آجَرَنا على ما لو كلَّفنا غيرَه لعَجَزْنا عنه )؛ فدوام الصبر أيسر على النفس من دوام الجزع، ذكر صاحب (العقد) أيضاً أن عليَّ بن أبي طالب رضى الله عنه كان إذا عزَّى قوماً قال : (عليكم بالصَّبر، فإنّ به يأخُذ الحازم، وإليه يَرْجع الجازع ).(2/17)
قال شميط بن عجلان: إن أولياء الله آثروا رضى الله عز وجل على هوى أنفسهم، وإن كانت أهواؤهم محنةً لهم، فأرغموا أنفسهم كثيراً لرضاء ربهم فأفلحوا وأنجحوا. (3/127)
قالَ محمد بن الحنفية: مَن كرمتْ عليه نفسُهُ لم يكن للدنيا عنده قدرٌ. (3/176)
قال مجاهدٌ: من أعزَّ نفسَهُ أذلَّ دينَهُ، ومنْ أذلَّ نفسَهُ أعزَّ دينَهُ. (الورع لأحمد ص48 والحلية 3/279)
قال محمد بن كعب القرظي: إذا أراد الله تعالى بعبدٍ خيراً جعل فيه ثلاث خلال: فقهٍ في الدين، وزهادةٍ في الدنيا، وبصرٍ بعيوبه. (3/213)
قال عبد الخالق بن موسى اللقيطي: جوع يزيد [الرقاشي] نفسه لله عز وجل ستين عاماً حتى ذبل جسمه ونهك بدنه وتغير لونه وكان يقول: غلبني بطني(1) فما أقدر له على حيلة. (صف3/288)
قال أبو حازم(2): يا أعرج يُنادَى يومَ القيامةِ: يا أهل خطيئة كذا وكذا فتقوم معهم، ثم ينادى: يا أهل خطيئة أخرى فتقوم معهم، فأراك يا أعرج تريدُ أن تقومَ مع أهلِ كل خطيئة!!. (3/230-231)
قال ميمون: لا يكونُ الرجلُ منَ المتقينَ حتى يحاسبَ نفسَهَ أشدَّ من محاسبةِ شريكِهِ حتى يعلمَ مِن أينَ مطعمُهُ ومِن أينَ ملبسُهُ، ومِن أينَ مشربُهُ، أمِن حلالٍ ذلكَ أم مِن حرامٍ. (4/89 وسنن الترمذي 4/638 ومحاسبة النفس ص25 وانظر ص26 منه)
__________
(1) أي بكثرة الأكل! تأمل هذا!.
(2) يحاسب نفسه ويلومها ويسيء الظن بها ويحتقر عمله.(2/18)
كان عون بن عبد الله يقول في بكائه وذكْرِ خطيئته: ويح نفسي بأي شيء لم أعص ربي؟ ويحي إنما عصيته بنعمته عندي! ويحي من خطيئة ذهبت شهوتها وبقيت تبعتها عندي! ويحي كيف أنسى الموت ولا ينساني؟ ويحي إن حجبت يوم القيامة عن ربي! ويحي كيف أغفل ولا يُغفل عني أم كيف تهنئني معيشتي واليوم الثقيل ورائي أم كيف لا تطول حسرتي ولا أدري ما يفعل بي أم كيف يشتد حبي لدار ليست بداري أم كيف أجمع بها وفي غيرها قراري أم كيف تعظم فيها رغبتي والقليل فيها يكفيني أم كيف أوثرها وقد أضرَّت بمن آثرها قبلي أم كيف لا أبادر بعملي قبل أن يغلق باب توبتي أم كيف يشتد إعجابي بما يزايلني وينقطع عني أم كيف لا يكثر بكائي ولا أدري ما يراد بي أم كيف تقر عيني مع ذكر ما سلف مني أم كيف تطيب نفسي مع ذكر ما هو أمامي؟! ويحي هل ضرت غفلتي أحداً سواي ام هل يعمل لي غيري إن ضيعت حظي؟! ويحي كأنه قد تصرم أجلي ثم أعاد ربي خلقي كما بدأني ثم وقفني وسألني ثم أشهدت الأمر الذي أذهلني وشغلت بنفسي من غيري وسارت الجبال وليس لها مثل خطيئتي وجمع الشمس والقمر وليس عليهما مثل حسابي وانكدرت النجوم وليست تُطلب بما عندي وحشرت الوحوش ولم تعمل مثل عملي وشاب الوليد وهو أقل ذنباً مني! ويحي ما أشد حالي وأعظم خطري! فاغفر لي واجعل طاعتك همتي ولا تعرض عني يوم تعرض ولا تفضحني بسرائري ولا تخذلني بكثرة فضائحي بأي عين أنظر إليك وقد علمتَ سرائري وكيف أعتذر إليك إذا ختمت على لساني ونطقت جوارحي بكل الذي كان مني إلهي أنا الذي ذكرت(1) ذنوبي، لم تقر عيني؛ أنا تائب إليك فاقبل ذلك مني ولا تجعلني لنار جهنم وقوداً بعد توحيدي وإيماني برحمتك(2). (صف3/102-103)
__________
(1) لعلها (الذي إن ذكرت).
(2) قال عون: ويحي كيف لا أفتَكُّ نفسي من قَبل أن يعلق بي رهني؟! (محاسبة النفس 107 وانظر ذم الدنيا 171)(2/19)
قال مطر الوراق: إن المؤمن يصبح تائباً ويمسي تائباً عاتباً(1) على نفسه مزري(2) عليها في كثير ولا يسعه إلا ذلك. (الزهد الكبير ص297)
عن شعبة عن منصور عن إبراهيم قال: بينما رجل عابد عند امرأة إذ عمد فضرب بيده إلى فخذها؛ قال: فأخذ بيده فوضعها في النار حتى نشت(3). (4/228)
قال جعفر بن سليمان: لقي مالك بن دينار ثابت البناني فقال له ثابت: يا أبا يحيى كيف بك؟ قال: كيف بمن هو ظاهر العيوب كثير الذنوب مستور على غير استحقاق؟! فكيف بك يا أبا محمد؟ قال: فكتف ثابت يده ومد عنقه وخفض رأسه وقال: هذا عذر الخطائين الأشرار(4)، قال: وأقبلا يبكيان حتى سقطا. (محاسبة النفس ص87)
عن هارون بن رئاب أن غزوان [بن زيد الرقاشي] وأبا موسى كانا في بعض مغازيهم فتكشفت جارية فنظر إليها غزوان فرفع يده فلطم عينه حتى نفرت(5) وقال: إنك للحاظة إلى ما يضرك. (محاسبة النفس ص92 و صف3/252)
قال عبد الله بن عبيد بن عمير: الإيمان قائد والعمل سائق والنفس حرون(6)، فإذا ونَى(7) قائدها لم تستقم لسائقها وإذا ونى سائقها لم تستقم لقائدها، فلا يصلح هذا إلا مع هذا حتى تقوم على الخير: الإيمان بالله مع العمل لله والعمل لله مع الإيمان بالله. (محاسبة النفس 86 و صف2/214-215)
__________
(1) لعلها (عائباً).
(2) لعلها (يزري).
(3) في بعض النسخ (نشفت).
(4) في الأصل (الأشراء).
(5) أي هاجت وورمت.
(6) جاء في (مختار الصحاح) (ص56) ما نصه: (فرس حَرُونٌ لا ينقاد، وإذا اشتد به الجري وقف؛ وقد حَرَنَ من باب دخل، وحَرُنَ بالضم صار حَرُوناً والاسم الحِرَان).
(7) في (مختار الصحاح) (ص737): (الوَنَى): الضَّعف والفتور والكلال والإعياء؛ يقال: ونى في الأمر يَنِي، بالكسر، ونَىً و وَنْياً.(2/20)
كان وهب بن منبه يقول: الإيمان قائدٌ والعمل سائق والنفس حرون، إنْ فتر قائدها صدت عن الطريق ولم تستقم لسائقها، وإن فتر سائقُها حرنت ولم تتبع قائدها فإذا اجتمعا استقامت طوعاً أو كرهاً؛ ولا تستطيع أبدى(1) إلا بالطوع والكره؛ إن كان كلما كره الإنسانُ شيئاً من دينه تركه أوشك أن لا يبقى معه من دينه شئ. (4/31)
كان وهب بن منبه يقول: طوبى لمن نظر في عَيبِه عن عيبِ غيرِه، وطوبى لمن تواضع لله من غيرِ مسكنةٍ ورحمَ أهلَ الذل والمسكنة، وتصدَّق من مالٍ جُمِع من غيرِ معصيةٍ، وجالسَ أهلَ العلم والحلم وأهلَ الحكمة، ووسعته السنةُ ولم يتعدها إلى البدعة. (4/67)
قال ثابت البناني: قيل لعيسى بن مريم عليه السلام: لو اتخذت حماراً تركبه لحاجتك، قال: أنا أكرم على الله عز وجل من أن يجعل لي شيئاً يشغلني عنه. (الزهد الكبير ص183)
قيل لرجل: صف لنا الأحنف بن قيس(2)، قال: ما رأيت أحداً أعظم سلطاناً على نفسه منه. (محاسبة النفس 117)
__________
(1) كذا في الأصل ولعلها (أبداً) بل لعل العبارة هكذا (ولا تستقيم أبداً)؛ وروى ابن أبي الدنيا في (محاسبة النفس) (83) عن جعفر بن برقان عن وهب بن منبه قال: (الإيمان قائد والعمل سائق والنفس بينهما حرون، فإذا قاد القائد ولم يسق السائق لم يغنِ ذلك شيئاً، وإذا ساقَ السائقُ ولم يقدِ القائدُ لم يغنِ ذلك شيئاً، وإذا قاد القائد وساق السائق اتبعته النفسُ طوعاً وكرهاً وطاب العمل).
(2) الأحنف بن قيس بن معاوية بن حُصين التميمي السعدي، أبو بحر، اسمه الضحاك، وقيل: صخر، مخضرم ثقة، قيل مات سنة سبع وستين، وقيل: اثنتين وسبعين.
قال الحسن: ما رأيت شريف قوم كان أفضل من الأحنف. (صف3/199؟)(2/21)
عن سلمة بن منصور عن غلام كان للأحنف اشتراه أبوه منصور قال: كانت عامة صلاة الأحنف بالليل(1) قال وكان يضع المصباح قريباً منه فيضع إصبعه على المصباح ثم يقول: حس! ثم يقول: يا أحنف(2) ما حملك على أن صنعت كذا يوم كذا؟! (الطبقات الكبرى7/95 ومحاسبة النفس ص58 و صف3/199)
قال علي بن عبد الله بن عباس(3): من لم يجد مس نقص الجهل في عقله وذل المعصية في قلبه ولم يستبن موضع الخلة في لسانه عند كلال حده عن حد خصمه فليس ممن يفزع عن ريبة ولا يرغب عن حال معجزة ولا يكترث لفصل ما بين حجة وشبهة. (البيان والتبيين 1/60)
__________
(1) في (محاسبة النفس) بدل هذه الجملة: (كنت أصحبه فكانت عامة صلاته الدعاء)
(2) وفي (صفة الصفوة) (يا حنيّف).
(3) علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب أمه زرعة بنت مشرح ولد ليلة قتل علي بن أبي طالب عليه السلام في رمضان سنة أربعين فسمي باسمه وكنى بكنيته فقال له عبد الملك بن مروان لا أحتمل لك الاسم والكنية فغير كنيته فصيرها أبا محمد وكان أجمل قرشى على وجه الأرض وأكثره صلاة وكان يقال له السجاد. (صف2/107)
وعن هشام بن سليمان المخزومي أن علي بن عبد الله بن عباس كان إذا قدم مكة حاجا أو معتمرا عطلت قريش مجالسها في المسجد الحرام وهجرت مواضع حلقها ولزمت مجلس علي بن عبد الله إعظاما وإحلالا وتبجيلا فإن قعد قعدوا وإن نهض نهضوا وإن مشى مشوا جميعا حوله وكان لا يرى لقرشي في المسجد الحرام مجلس ذكر يجتمع إليه فيه حتى يخرج علي بن عبد الله من الحرم. (صف2/107)(2/22)
قال الحسن: إن المؤمن قوام على نفسه يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر على غير محاسبة، إن المؤمن يفجأه الشيء يعجبه فيقول: والله إني لأشتهيك وإنك لمن حاجتي ولكن والله ما من وصلة إليك، هيهات حيل بيني وبينك! ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول: ما أردت إلى هذا؟! ما لي ولهذا؟! والله ما لي عذر بها، ووالله لا أعود لهذا أبداً إن شاء الله؛ إن المؤمنين قوم أوثقهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم؛ إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله عز وجل، يعلم أنه مأخوذ عليه في ذلك كله. (2/157)
القلوب(1)
__________
(1) قال ابن القيم في (الجواب الكافي) (ص140-143) في كلام له في عقوبات الذنوب:
(فسبحان الله كم من قلب منكوس وصاحبه لا يشعر، وقلب ممسوخ وقلب مخسوف به، وكم من مفتون بثناء الناس عليه ومغرور بستر الله عليه ومستدرج بنعم الله عليه؛ وكل هذه عقوبات وإهانة ويظن الجاهل أنها كرامة.
ومنها مكر الله بالماكر ومخادعته للمخادع واستهزاؤه بالمستهزىء وإزاغته لقلب الزائغ عن الحق.
ومنها نكس القلب حتى يرى الباطل حقاً والحق باطلاً والمعروف منكراً والمنكر معروفاً، ويُفسد ويرى أنه يُصلح ويصد عن سبيل الله وهو يرى أنه يدعو إليها، ويشتري الضلالة بالهدى وهو يرى أنه على الهدى، ويتبع هواه وهو يزعم أنه مطيع لمولاه؛ وكل هذا من عقوبات الذنوب الجارية علي القلوب.
ومنها حجاب القلب عن الرب فى الدنيا، والحجاب الأكبر يوم القيامة كما قال تعالى (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) فمنعتهم الذنوب أن يقطعوا المسافة بينهم وبين قلوبهم فيصلوا إليها فيروا ما يصلحها ويزكيها وما يفسدها ويشقيها، وأن يقطعوا المسافة بين قلوبهم وبين ربهم فتصل القلوب إليه فتفوز بقربه وكرامته وتقرّ به عيناً وتطيب به نفساً؛ بل كانت الذنوب حجاباً بينهم وبين قلوبهم، وحجاباً بينهم وبين ربهم وخالقهم.
ومنها المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ والعذاب فى الآخرة قال تعالى (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى)، وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر، ولا ريب أنه من المعيشة الضنك، والآية تتناول ما هو أعم منه وإن كانت نكرة فى سياق الإثبات فإن عمومها من حيث المعنى، فإنه سبحانه رتب المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه، وإن تنعم فى الدنيا بأصناف النعم؛ ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطّع القلوب، والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه؛ وإنما يواريه عنه سكرات الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة إن لم ينضم إلى ذلك سكر الخمر، فسكر هذه الأمور أعظم من سكر الخمر فإنه يفيق صاحبه ويصحو، وسكر الهوى وحب الدنيا لا يصحو صاحبه إلا إذا سكن في عسكر الأموات.
فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله فى دنياه وفي البرزخ ويوم معاده؛ ولا تقر العين ولا يهدأ القلب ولا تطمئن النفس إلا بإلهها ومعبودها الذي هو حق، وكل معبود سواه باطل.
فمن قرت عينه بالله قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه علي الدنيا حسرات.
والله تعالى إنما جعل الحياة الطيبة لمن آمن بالله وعمل صالحاً كما قال تعالى (من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)، فضمن لأهل الإيمان والعمل الصالح الجزاء فى الدنيا بالحياة الطيبة، والحسنى يوم القيامة؛ فلهم أطيب الحياتين، وهم أحياء في الدارين؛ ونظير هذا قوله تعالى (وللذين أحسنوا فى هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين) ونظيرها قوله تعالى (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله) ففاز المتقون المحسنون بنعيم الدنيا والآخرة وحصلوا على الحياة الطيبة في الدارين؛ فإن طيب النفس وسرور القلب وفرحه ولذته وابتهاجه وطمأنينته وانشراحه ونوره وسعته وعافيته مِن ترك الشهوات المحرمة والشبهات الباطلة: هو النعيم علي الحقيقة، ولا نسبة لنعيم البدن إليه؛ فقد قال بعض من ذاق هذه اللذة: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف؛ وقال آخر: إنه يمر بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب؛ وقال الآخر: إن فى الدنيا جنة هي في الدنيا كالجنة في الآخرة، فمن دخلها دخل تلك الجنة، ومن لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة؛ وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه الجنة بقوله: (إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر)؛ وقال: (ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة)؛ ولا تظن أن قوله تعالى (إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم) يختص بيوم المعاد فقط، بل هؤلاء فى نعيم في دورهم الثلاثة، وهؤلاء فى جحيم في دورهم الثلاثة؛ وأي لذة ونعيم فى الدنيا أطيب من بر القلب وسلامة الصدر ومعرفة الرب تعالى ومحبته والعمل على موافقته؟! وهل العيش في الحقيقة إلا عيش القلب السليم؟! وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على خليله عليه السلام بسلامة القلب فقال: (وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الصافات 83-84]؛ وقال حاكياً عنه أنه قال: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء 87-88].
والقلب السليم هو الذى سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكِبْر وحب الدنيا والرياسة؛ فسلم من كل آفة تبعده من الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، ومن كل شهوة تعارض أمره، وسلم من كل إرادة تزاحم مراده، وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله؛ فهذا القلب السليم فى جنة معجلة فى الدنيا، وفى جنة فى البرزخ، وفي جنة يوم المعاد؛ ولا تتم له سلامته مطلقاً حتى يسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد والاخلاص؛ وهذه الخمسة حجب عن الله، وتحت كل واحد منها أنواع كثيرة تتضمن أفراداً لا تنخصر، ولذلك اشتدت حاجة العبد بل ضرورته إلى أن يسأل الله أن يهديه الصراط المستقيم، فليس العبد أحوج إلى شيء منه إلى هذه الدعوة، وليس شيء أنفع منها؛ فإن الصراط المستقيم يتضمن علوماً وإرادات وأعمالاً وتروكاً ظاهرة وباطنة تجري عليه كل وقت---) إلى آخر كلامه في هذه المسألة، رحمه الله.(2/23)
قال بكر بن عبد الله المزني: لم يفْضلْ أبو بكر رضي الله عنه الناس بكثرة صوم ولا صلاة؛ وإنما فضلهم بشيء كان في قلبه. (الصلاة ومقاصدها للحكيم الترمذي ص80-81)
قال الحسن البصري: إنما غلبهم عمر رضي الله عنه بالصبر واليقين؛ لا بالصوم والصلاة(1). (الصلاة ومقاصدها للحكيم الترمذي ص81)
قال الحسن: إن القلوب تموت وتحيا؛ فإذا هي ماتت فاحملوها علي الفرائض؛ فإذا حييت فأدبوها في التطوع. (الزهد ص287)
كان الحسن يقول عند انقضاء مجلسه وختم موعظته: يا لها من موعظة لو صادفت من القلوب حياتاً! (العقد الفريد 10/7)(2)
قال الحسن: ابن آدم كيف يرق قلبك وهمك في آخر؟!. (الزهد ص259)
قال الحسن: أحب عباد الله إلى الله أكثرهم له ذكراً وأتقاهم قلباً. (جامع العلوم والحكم ص445)
قال ابن سيرين: إذا أراد الله تعالى بعبد خيراً جعل له واعظاً من قلبه يأمره وينهاه. (2/264)
قال أبو عمران الجوني: وعظ موسى عليه السلام قومه فشق رجل منهم قميصه فأوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام: قل لصاحب القميص لا يشق قميصه ولكن ليشرح لي عن قلبه. (صف 3/265)
قال قتادة في قوله (فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ)(3): عاب الله عليهم قسوة عند ذلك، فتضعضعوا لعقوبة الله بارك الله فيكم، ولا تعرضوا لعقوبة الله بالقسوة فإنه عاب ذلك على قوم قبلكم(4). (الدر المنثور 3/268)
قال مالك بن دينار: إن البدن إذا سقم ينجع فيه طعام ولا شراب ولا نوم ولا راحة وكذلك القلب إذا علق حب الدنيا لم ينجع فيه المواعظ. (صف3/278)
__________
(1) هذا الأثر إسناده ضعيف، وأما الذي قبله فإسناده صحيح؛ وانظر (تبييض الصحيفة بأصول الأحاديث الضعيفة) لمحمد عمرو عبد اللطيف (رقم 37).
(2) وانظر (العقد الفريد) (10/98) فثم زيادة على ما هنا.
(3) الأنعام (43).
(4) أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبو الشيخ.(2/24)
قال مالك بن دينار: لو أعلم أن قلبي يصلح على كناسة لذهبت حتى أجلس عليها. (صف3/283)
قال الحارث بن نبهان: قدمت من مكة فأهديت إلى مالك بن دينار ركوة، قال: فكانت عنده فجئت يوماً فجلست في مجلسه فلما قضاه قال لى: يا حارث تعال خذ تلك الركوة فقد شغلتْ عليَّ قلبي! فقلت: يا أبا يحيى إنما اشتريتها لك تتوضأ فيها وتشرب، فقال: يا حارث إني إذا دخلت المسجد جاءني الشيطان فقال لي: يا مالك إن الركوة قد سُرقت! فقد شغلت علي قلبي. (صف3/285)
قال مالك بن دينار: إن الصدق يبدو في القلب ضعيفاً كما يبدو نبات النخلة، يبدو غصناً واحداً فاذا نتفها صبي ذهب أصلها وإن أكلتها عنز ذهب أصلها، فتسقى فتنتشر وتسقى فتنتشر حتى يكون لها أصل أصيل يوطأ وظل يستظل به وثمرة يؤكل منها؛ كذلك الصدق يبدو في القلب ضعيفاً فيتفقده صاحبه ويزيده الله تعالى ويتفقده صاحبه فيزيده الله حتى يجعله الله بركة على نفسه ويكون كلامه دواءً للخاطئين؛ ثم يقول مالك: أما رأيتموهم؟! ثم يرجع إلى نفسه فيقول: بلى والله لقد رأيناهم: الحسن وسعيد بن جبير وأشباههم، الرجل منهم يحيي الله بكلامه الفئام من الناس(1). (2/359-360)
قال مالك: إنَّ البدنَ إذا سقِم لم ينجعْ فيه طعامٌ ولا شرابٌ ولا نومٌ ولا راحةٌ؛ وكذلك القلبُ إذا علِقَهُ حبُّ الدنيا لم تنجعْ فيه الموعظةُ. (2/363)
قال شميط بن عجلان: عجباً لابن آدم، بينما قلبه في الآخرة إذ حكه برغوث أو قملة فنسي الآخرة. (3/130)
__________
(1) وقال جعفر بن سليمان: سمعت مالك بن دينار يقول: أتدرون كيف ينبت البر كرجل غرز عوداً، فإن مر صبي فنتفها ذهب أصلها، وإن مرت به شاة أكلتها ذهب أصلها؛ ويوشك إن سُقي وتعوهد أن يكون له ظل يستظل به وثمرة يؤكل منها كذلك كلام العالم دواء للخاطئين. (2/362)(2/25)
قال الأعمش: كنا عند مجاهد فقال: القلب هكذا وبسط كفه فإذا أذنب الرجل ذنباً قال هكذا، وعقد واحداً، ثم أذنب وعقد اثنين ثم ثلاثاً ثم أربعاً، ثم رد الإبهام على الأصابع في الذنب الخامس ثم يطبع على قلبه؛ قال مجاهد: فأيكم يرى أنه لم يطبع على قلبه؟! (صف2/210)
قال خالد بن معدان: ما من عبد إلا و له أربع أعين: عينان في وجهه يبصر بهما أمر الدنيا، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر الآخرة؛ فإذا أراد الله بعبد خيراً فتح عينيه اللتين في قلبه فيبصر بهما ما وعد بالغيب؛ قال: وهما غيب، فآمن الغيب بالغيب؛ وإذا أراد الله بعبد غير ذلك تركه على ماهو عليه ثم قرأ (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)(1). (صف4/214)
قيل لأبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير: ألا نسقّفُ مسجدنا؟ قال: أصلحوا قلوبكم يكفكم مسجدكم. (2/212)
قال مطرفٌ: كأنَّ القلوبَ ليست منا(2)، وكأنَّ الحديثَ يُعْنَى(3) به غيرُنا(4). (2/202)
قال أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي: ما من أحد يريد خيراً أو شراً إلا وجد في قلبه آمراً وزاجراً: آمراً يأمر بالخير وزاجراً ينهى عن الشر. (2/283)
القلوب: قال جعفر بن سليمان: كنت عند مالك بن دينار فجاء هشام بن حسان وكان يأتيه هشام بن حسان وسعيد بن أبى عروبة وحوشب، يطلبون قلوبهم، فجاء هشام فقال: أين أبو يحيى؟ قلنا: عند البقال، قال: قوموا بنا إليه، قال: فحانت منه نظرة إلى هشام، فقال: يا هشام إني أعطي هذا البقال كل شهر درهماً ودانقين فآخذ منه كل شهر ستين رغيفاً، كل ليلة رغيفين، فإذا أصبتهما سخنا فهو أدمهما؛ يا هشام إني قرأت في زبور داود: إلهي رأيت همومي وأنت من فوق العلى؛ فانظر ما همومك يا هشام. (صف3/284)
الهم والحزن
__________
(1) محمد (24).
(2) قال ذلك بسبب قلة تأثرها بالعبرة والعظة، وكثرة اشتغالها بما لا ينفعها وبما لا يعود على صاحبها بخير.
(3) أي يراد.
(4) يعيب بهذا الكلام على الناس شدة غفلتهم عن مصائرهم.(2/26)
قال الحسن: إن العبد المؤمن ليعملُ الذنبَ فلا يزال به كئيباً. (2/158)
قال الحسنُ البصريُّ: إنَّ المؤمنَ يُصبحُ حزيناً ويمسي حزيناً، ولا يسعُهُ غيرُ ذلكَ، لأنهُ بين مخافتين: بين ذنب قد مضى لا يدري ما اللهُ يصنعُ فيه، وبين أجلٍ قد بقي لا يدري ما يُصيبُ فيه منَ المهالك. (2/132)
قال الحسن: إن المؤمن يصبح حزيناً ويمسي حزيناً وينقلب باليقين في الحزن، ويكفيه ما يكفي العنيزة، الكف من التمر والشربة من الماء. (2/132-133)
قال الحسنُ: يحقُّ لمَنْ يعلم أنَّ الموتَ موردُهُ وأنَّ الساعةَ موعدُهُ وأنَّ القيامَ بين يدي اللهِ تعالى مشهدُهُ: أنْ يطولَ حزنُه. (2/133)
قال عبد العزيز بن سلمان: سمعت مالك بن دينار يقول: عجباً لمن يعلم أن الموت مصيره والقبر مورده كيف تقر بالدنيا عينه؟ وكيف يطيب فيها عيشه؟ قال: ثم يبكي مالك حتى يسقط مغشياً عليه. (صف3/276)
قال الحسن: ما عبد الله بمثل طول حزن(1). (رك ص41 و540 والزهد ص284 والهم والحزن ص38)
قال الحسن: إن أكثر ما يرى للعبد في صحيفته يوم القيامة مما يسر به: الهمُّ الحزنُ. (الهم والحزن ص38)
قرأ الحسن هذه الآية (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ)(2) فقال: لا أعلم خليقة يكابد من الأمر ما يكابد هذا الإنسان. (رك ص69 وذم الدنيا 59 والتبيان في أقسام القرآن ص22)
ذكر الحسن ذات يوم قول أهل الجنة (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ)(3) فقال: أحزان أهل الدنيا يقطعها الموت، لكن أحزان الأخرة! وحق للمؤمن أن يحزن وجهنم أمامه مسيرة ثلاثة آلاف سنة؛ ألف سنة في هبوط، وألف سنة على متنها، وألف سنة في الصعود. (الهم والحزن ص65)
__________
(1) المراد بالحزن في هذا الأثر شدة الندم على ما سبق من المعاصي ومن النفريط في حق الله.
(2) البلد (4).
(3) فاطر (34).(2/27)
قال الحسن: غدا كل امرىء فيما يهمه ومن هُمَّ بشيء أكثر من ذكره؛ إنه لا عاجلة لمن لا آخرة له، ومن آثر دنياه على آخرته فلا دنيا له ولا آخرة، ومن أحسن القول وأساء الفعل كان---(1). (الزهد ص259)
قال الحسن: ما فارق يعقوبَ الحزنُ ثمانين سنةً، وما جفت عينه؛ وما أحد يومئذ أكرم على الله منه، حين ذهب بصره. (زاد المسير 4/271)
قال الحسن: إن رجلاً من صدر هذه الأمة كان إذا دخل المقابر نادى: يا أهل القبور بعد الرفاهية والنعيم معالجة الأغلال في النار؟ وبعد القطن والكتان لباس القطِران ومقطعات النيران؟! وبعد تلطف الخدم والحشم ومعانقة الأزواج مقارنة الشيطان في نار جهنم مقرنين في الأصفاد؟! (التخويف من النار ص120)
قال الحسن: إن أقواماً بكت أعينهم ولم تبك قلوبهم، فمن بكت عيناه فليبك قلبه(2). (المصنف 7/189)
قيل للحسن: إن عندنا قوماً يبكون ليسوا بذاك، ونرى قوماً أفضل منهم لا يبكون؛ قال الحسن: أولئك تبكي قلوبهم؛ أو كما قال. (الهم والحزن ص82)
قال عبد الواحد بن زيد: لو رأيت الحسن لقلت: قد بُثَّ عليه حزن الخلائق من طول تلك الدمعة وكثرة ذلك النشيج(3). (الهم والحزن ص48)
قال الحسن: والذي نفسي بيده ما أصبح في هذه القرية من مؤمن إلا وقد أصبح مهموماً محزوناً، ففروا إلى ربكم وافزعوا إليه فإنه ليس لمؤمن راحة دون لقائه. (الهم والحزن ص50)
قال الحسن: ذهبت المعارف وبقيت المناكر؛ ومن بقي من المسلمين فهو مغموم. (الزهد ص258)
__________
(1) بياض في الأصل، لعله (منافقاً) أو غيره.
(2) يدعوه إلى أن يشتد حزنه وخوفه.
(3) وهذه رواية أخرى: قال حكيم بن جعفر: قال لي مسمع: لو رأيت الحسن---فذكره. (صف 3/233)(2/28)
قال الحسن: والله إن أصبح فيها مؤمن إلا حزيناً؛ وكيف لا يحزن المؤمن وقد جاءه من [ربه] أنه وارد جهنم، ولم يأته أنه صادرٌ عنها؟! والله ليرين في دينه ما يحزنه، وليرين في دنياه ما يحزنه، وليظلمن فما ينتصر ابتغاء الثواب من الله، فهو فيها حزين ما دام فيها، فإذا فارقها، يعني عاد إلى الراحة والكرامة(1). (الهم والحزن ص98)
قال الحسن: قال رجل لأخيه: يا أخي هل أتاك أنك وارد النار؟ قال: نعم، قال: فهل أتاك أنك خارج منها؟ قال: لا، قال: ففيم الضحك؟ قال: فما رئي ضاحكاً حتى مات. (رك ص105 وزاد المسير 5/255)
ذكر الحسن هذه الآية (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً)(2) قال: المؤمنون قوم ذُلُل، ذلت والله الأسماع والأبصار والجوارح، حتى يحسبهم الجاهل مرضى؛ والله ما بالقوم من مرض، وإنهم لأصحاء القلوب، ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم، ومنعهم من الدنيا علمهم بالآخرة، (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ)(3)؛ والله ما أحزنهم حزن الناس ولا تعاظم في أنفسهم ما طلبوا به الجنة [حين] أبكاهم الخوف من النار(4)
__________
(1) كان الحسن يقول في قصصه: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر فالمؤمن يتزود والكافر يتمتع والله إن أصبح مؤمن فيها إلا حزينا وكيف لا يحزن من جاءه عن الله عز وجل أنه وارد جهنم ولم يأته أنه صادر عنها. (فيض القدير 3/421 وانظر التخويف من النار ص178)
(2) الفرقان (63).
(3) فاطر (34).
(4) أي أن بكاءهم من خوف الله دليل على أنهم لا يرون أنفسهم أهلاً للجنة وأنهم يستضعفون أعمالهم ويستقلون طاعاتهم وعباداتهم.
وهذه رواية أخرى:
قال الفرات بن سليمان: كان الحسن يقول: (إن المؤمنين قوم ذلت والله منهم الاسماع والأبصار والأبدان حتى حسبهم الجاهل مرضى وهم والله أصحاب القلوب ألا تراه يقول: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) [فاطر 34]؛ والله لقد كابدوا في الدنيا حزناً شديداً، وجرى عليهم ما جرى على من كان قبلهم؛ والله ما أحزنهم ما أحزن الناس، ولكن أبكاهم وأحزنهم الخوف من النار). (التخويف من النار ص22)(2/29)
وإنه من لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات؛ ومن لم ير لله عليه نعمة إلا في مطعم أو مشرب فقد قل علمه وحضر عذابه(1). (رك ص134 وانظر الحلية 2/152)
قال الحسن: إن المؤمن في الدنيا غريب، لا يجزع من ذلها، ولا ينافس أهلَها في عزها؛ الناس منه في راحة، ونفسه منه في شغل؛ فطوبى لعبد كسب طيباً وقدم الفضل ليوم فقره وفاقته؛ وجِّهوا هذا الفضل حيث وجهه الله؛ ولا تلقوها ها هنا فيما يضركم. (الزهد ص273 والمصنف 7/189 والغرباء ص23 والمدارج 3/197 وجامع العلوم والحكم ص380 ومحاسبة النفس 78)
قال الحسن: أغمي على رجل من الصدر الأول فبكى فاشتد بكاؤه فقالوا له: إن [الله] رحيم، إنه غفور، وإنه، فقال: أما والله ما تركت بعدي شيئاً أبكي عليه إلا ثلاث خصال: ظمأ هاجرة في يوم بعيد ما بين الطرفين، أو ليلة يبيت الرجل يراوح(2) بين جنبيه وقدميه أو غدوة أو روحة في سبيل الله. (الجهاد ص168)
قال جعفر بن سليمان: كنت إذا وجدت من قلبي قسوة نظرت الى وجه محمد بن واسع نظرةً؛ وكنت إذا رأيت وجه محمد بن واسع حسِبت أن وجهه وجه ثكلى. (2/347)
قال مطر الوراق: ما اشتهيت أن أبكي قط حتى أشتفي، إلا نظرت إلى وجه محمد بن واسع؛ وكنت إذا نظرت إلى وجهه كأنه ثكل عشرة من الحزن. (صف3/268)
__________
(1) قال الحسن: من لا يرى لله عليه نعمة إلا في مطعم أو مشرب أو لباس فقد قصر علمه وحضر عذابه. (الشكر 186 وعدة الصابرين ص119)
وعن الحسن قال: قال أبو الدرداء: لا تتبع بصرك كل ما ترى في الناس فإنه من يتبع بصره كل ما يرى في الناس يطل حزنه ولا يشفِ غيظه؛ ومن لا يعرف نعمة الله عليه إلا في مطعمه أو في مشربه، فقد قل عمله وحضر عذابه؛ ومن لم يكن غنياً في الدنيا فلا دنيا له. (المداراة ص102 وانظر الشكر ص33 وعدة الصابرين ص106)
(2) في الأصل (يروّح).(2/30)
قال مالك بن دينار: إن القلب إذا لم يكنْ فيه حزنٌ(1) خرِبَ كما يخرب البيت إذا لم يكنْ فيه ساكنٌ؛ وإن قلوب الأبرار تغلي بأعمال البِرِّ، وإن قلوب الفجار تغلي بأعمال الفجور، والله يرى همومَكم فانظروا ما همومكم؟ رحمكم الله. (روضة العقلاء ص27-28 وانظر الحلية 2/360 و صف3/286 والزهد الكبير ص137)
قال مالك: إن لكل شيء لقاحاً وإن الحزن لقاح العمل الصالح، إنه لا يصبر أحد على هذا الأمر إلا بحزن، فوالله ما اجتمعا في قلب عبد قط: حزن بالآخرة وفرح بالدنيا، إن أحدهما ليطرد صاحبه(2). (صف3/278)
قال مالك: بقدر ما تحزن للدنيا فكذلك يخرج هم الآخرة من قلبك، وبقدر ما تحزن للآخرة فكذلك يخرج هم الدنيا من قلبك. (ذم الدنيا 122 و137 والزهد الكبير ص134)
قال مالك: بقدر ما تحزن للدنيا كذلك يخرج هم الآخرة من قلبك وبقدر ما تحزن للآخرة فكذلك يخرج هم الدنيا من قلبك. (صف3/278-279)
قال مالك: لولا سفهاؤكم للبست لباساً لا يراني محزون إلا بكى. (2/375)
قال مالك: يا هؤلاء إنما المؤمن مثل الشاة المأبورة، التي قد أكلت إبرة، فهي تأكل ولا نفع عليها؛ لما قد خالطه من الحزن بين يديه. (2/377)
قال أبو حازم: من عرَفَ الدنيا لم يفرحْ فيها برخاءٍ ولم يحزنْ على بلوى. (3/239)
قال ابراهيم التيمي: ينبغيْ لمنْ لمْ يحزنْ أنْ يخافَ أنْ يكونَ منْ أهلِ النارِ لأنَّ أهلَ الجنةِ قالوا: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ)(3)؛ وينبغي لمن لم يُشْفِقْ أنْ يخافَ أنْ لا يكونَ منْ أهلِ الجنةِ لأنَّهم قالوا: (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ)(4). (4/215)
__________
(1) قال جعفر بن سليمان: يريد حزن الآخرة. (الزهد الكبير ص137)
(2) قال أبو جعفر الآدمي: قال سيار أبو الحكم: الفرح بالدنيا والحزن بالآخرة لا يجتمعان في قلب عبد، إذا سكن أحدهما القلب خرج الآخر. (صف3/13)
(3) فاطر (33).
(4) الطور (26).(2/31)
قال مولى لعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ لعمرَ حين رجع من جنازةِ سليمانَ: ما لي أراك مغتمّاً؟! قالَ: لمثْلِ(1) ما أنا فيه يُغْتمُّ له؛ ليس من أمةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم أحدٌ في شرقِ الأرضِ وغربِها إلا وأنا أريدُ أن أؤدي إليهِ حقَّه غيرَ كاتبٍ إليَّ فيهِ ولا طالبِه مني. (5/289)
قال الأوزاعي: سمعت بلال بن سعد يقول: واحزناه على أني لا أحزن. (صف 4/217)
قال حميد بن هلال: دخلت مع الحسن على العلاء بن زياد العدوي نعوده وقد سله الحزن وكانت له أخت - يقال لها: شادة، تندف تحته القطن غدوة وعشية فقال له الحسن: كيف أنت يا علاء؟ فقال: واحزناه على الحزن(2)؛ فقال الحسن: قوموا فإلى هذا والله انتهى استقلال الحزن. (صف3/253)
سمع الحسن رجلاً يقول: واحزناه على الحزن! فقال له الحسن: يا هذا فهلا على ما سلف من علمه فيك. (الهم والحزن ص33)
قال ذرٌّ لأبيهِ عمرَ بنِ ذرّ: ما بالُ المتكلمينَ يتكلمونَ فلا يبكي أحدٌ فإذا تكلمتَ يا أبتِ سمعتُ البكاءَ من ها هنا وها هنا؟! فقال: يا بنيَّ ليست النائحةُ المستأجرةُ كالنائحةِ الثكلى. (5/110-111)
قال منصور بن زاذان: الهم والحزن يزيدان في الحسنات، والأشر والبطر يزيدان في السيئات. (الهم والحزن ص39 وزوائد الزهد ص167)
قال أبو حازمٍ: يسيرُ الدنيا يشغلُ عن كثيرِ الآخرةِ، فإنك تجدُ الرجلَ يشغلُ نفسَهُ بهَمِّ غيرِهِ حتى لَهُوَ أشدُّ اهتماماً من صاحبِ الهمِّ بهمِّ نفسِه. (3/230)
الكذب(3)
__________
(1) ويتجه أيضاً أن تضبط هكذا (لَمِثْلُ).
(2) يريد أنه حزين بسبب قلة حزنه.
(3) عن الحسن بن أبان عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: إبرار الدنيا الكذب وقلة الحياء، من طلب الدنيا بغيرهما فقد أخطأ الطريق والمطلب؛ وإبرار الآخرة الحياء والصدق، فمن طلب الآخرة بغيرهما قد أخطأ الطريق والمطلب. (الشعب 4/233)(2/32)
قال الشعبي: من كذب فهو منافق، ثم قال: ما أدري أيهما أبعد غوراً، يعني في النار، الكذب أو الشح. (صفة المنافق ص51 وإحياء علوم الدين 3/376 والجواهر المجموعة ص62 والصمت ص257)
قال الحسن: الكذب جماع النفاق. (الصمت ص250)
قال مسروق: ليس شيء أعظم عند الله من الكذب. (الصمت ص260)
قال يونس بن عبيد: كل خلة يرجى تركها يوماً ما إلا صاحب الكذب. (الصمت ص254)
قال مالك بن دينار: الصدقُ والكذبُ يعترِكانِ في القلبِ حتى يُخرِجَ أحدُهما صاحبَه. (الصمت ص250 والحلية 2/360)
قال يزيد بن ميسرة: الكذب يسقي باب كل شر كما يسقي الماء أصول الشجر. (الصمت ص250)
قال وهب بن منبه: من عُرِفَ بالكذبِ لم يجزْ صدقُه، ومن عُرفَ بالصدق ائتُمِنَ على حديثِه، ومن أكثر الغيبةَ والبغضاءَ لم يوثَقْ منه بالنصيحةِ، ومنْ عُرِفَ بالفُجور والخديعةِ لم يوثق إليه في المحبة، ومن انتحلَ فوقَ قدره جُحِدَ قدرُه، ولا يحسن فيه ما يقبح في غيره. (4/63)
قال محمد بن كعب القرظي: إنما يكذب الكاذب من مَهَانة نفسه. (روضة العقلاء ص52)
قال الحسن: قال لقمان عليه السلام لابنه: إياك والكذب فإنه شهي كلحم العصفور، عما قليل يقلاه صاحبه. (الصمت ص257 والبداية والنهاية 9/271)
قال الأحنف: والله ما كذبت مذ علمت أن الكذب يشين أهله. (الكامل 2/211)
قال الأحنف: ما كذبت منذ أسلمت إلا مرة واحدة فإن عمر سألني عن ثوب بكم أخذته؟ فأسقطت ثلثي الثمن. (الصمت ص253)
كلم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الوليد في شيء فقال له: كذبت، فقال له عمر: ما كذبت منذ علمت أن الكذب يشين صاحبه. (الصمت ص253)
قال عمر بن عبد العزيز: ما كذبت كذبة منذ شددت علي إزاري. (الصمت ص240)
قال الأعمش: لقد أدركت قوماً لو لم يتركوا الكذب إلا حياء لتركوه. (الصمت ص258-259)
عن الأعمش عن ابراهيم النخعي قال: الكذب يفطر الصائم. (4/227)
قال إبراهيم: كانوا يقولون إن الكذب يفطر الصائم. (الصمت ص243)(2/33)
قال عون بن عبد الله: كساني أبي حلة فخرجت فيها فقال لي أصحابي: كساك هذه الأمير؟ فأحببت أن يروا أن الأمير كسانيها فقلت: جزى الله الأمير خيراً، كسا الله الأمير من كسوة الجنة، فذكرت ذلك لأبي فقال: يا بني لا تكذب ولا تشبه بالكذب. (الصمت ص256)
قال ابن سيرين: الكلام أوسع من أن يصرَّح فيه بالكذب. (أدب الدنيا والدين ص419)
قال القعنبي: حدثنا أبو مروان البزاز قال: جاءنا سالم يطلب ثوباً سباعياً فنشرت عليه ثوباً سباعياً فذرعه فإذا هو أقل من سباعي! فقال: أليس قلت: سباعي؟! قلت: كذلك نسميها، قال: كذلك يكون الكذب. (الصمت ص241)
قال مجاهد: إن الكلام ليكتب حتى إن الرجل ليسكِّت ابنه: أبتاع لك كذا وكذا، وأفعل كذا وكذا؛ فيكتب كذيبة. (الصمت ص83 وانظر الصمت ص287)
ما يرخص فيه من الكذب ونحوه
حدثنا ابن علية عن سوار بن عبد الله قال: نبئت أن ميمون بن مهران قال وعنده رجل من قراء أهل الشام: إن الكذب في بعض المواطن خير من الصدق، فقال الشامي: لا، الصدق في كل موطن خير، قال: أرأيت لو رأيت رجلاً يسعى وآخر يتبعه بالسيف فدخل داراً فانتهى إليك فقال: رأيت الرجل؟ ما كنت قائلاً؟ قال: كنت أقول: لا، قال: فهو ذاك. (الصمت ص246)
قال الأعمش: ذكرت لإبراهيم رحمه الله حديث أبي الضحى عن مسروق أنه رخص في الكذب في إصلاح بين الناس فقال: ما كانوا يرخصون في الكذب في جد ولا هزل. (الصمت ص255)
عن ابن عون عن محمد [بن سيرين] أنه ذكر عنده أنه يصلح الكذب في الحرب فأنكر ذلك وقال: ما أعلم الكذب إلا حراماً، قال ابن عون: فغزوت فخطبنا معاوية بن هشام فقال: اللهم انصرنا على عمورية وهو يريد غيرها فلما قدمت ذكرت ذلك لمحمد فقال: أما هذا فلا بأس به. (الصمت ص255)
بغضهم المدحَ وأهلَه(2/34)
صحب الأحنف بن قيس رجل فقال: ألا تميل فنحملك ونفعل، قال: لعلك من العراضين، قال: وما العراضون؟ قال: الذين يحبون أن يُحْمَدوا ولا يفعلوا، قال: يا أبا بحر ما عرضت عليك حتى [كذا]، قال: يا ابن أخي إذا عرض لك الحق فاقصد له والْهُ عما سوى ذلك. (الصمت ص247)
قال خالد بن معدان: من التمسَ المحامدَ في مخالفةِ الحقِّ ردَّ اللهُ تلكَ المحامدَ عليهِ ذمّاً، ومن اجترأَ على الملاوم في موافقِةِ الحقِّ ردَّ اللهُ تلكَ الملاومَ عليهِ حمداً. (5/211-212)
قال وهب بن منبه: من خصالِ المنافقِ أن يحبَّ الحمدَ ويكرهَ الذم. (4/41)
قال الربيع بن صبيح: كان الحسن إذا أثنى عليه أحدٌ في وجهه كره ذلك، وإذا دعا له سرَّه ذلك. (الطبقات 7/177)
شكى عبد الله بن أبي الهذيل يوماً ذنوبَه فقال له رجل: يا أبا المغيرة أوَلَستَ التقيَّ النقيَّ فقال: اللهمَّ إنَّ عبدَكَ هذا أرادَ أن يتقربَ إليَّ، وإني أشهدُكَ على مقتِه(1). (4/358)
قال عبد الله بن أبي الهذيل: أثنى رجل على رجل من المصلين في وجهه فقال: اللهم إن عبدك تقرب إلي بمقتك وأنا أشهدك على مقته. (الصمت ص272-273)
قال وهب بن منبه: إذا مدحك الرجل بما ليس فيك فلا تأمنه أن يذمك بما ليس فيك. (الصمت ص274-275)
قال الحسن: ذم الرجل لنفسه في العلانية مدح لها في السريرة. (العقد الفريد 10/163 والبصائر والذخائر 1/106)
قال خالد بن معدان: من مدح إماماً أو أحداً بما ليس فيه على رؤوس الأشهاد بعثه الله يوم القيامة يتعثر بلسانه. (الصمت ص273)
الكِبْر
قال محمد الباقر: ما دخل قلبَ امرئ شيءٌ من الكبْرِ إلا نقص من عقله مثلُ ما دخله من ذلك، قلَّ أو كثر. (3/180)
قال ميمون بن مهران: أول من مشتْ معه الرجالُ وهو راكبٌ الأشعثُ بنُ قيسٍ الكنديُّ؛ ولقد أدركتُ السلفَ وهم إذا نظروا إلى رجلٍ راكبٍ ورجلٍ ماشي يحضر معه قالوا: قاتله الله، جبار!! (4/86)
__________
(1) أي على بغضه.(2/35)
قيل لجبيرٍ بنِ نُفير: أيُّ الكبْرينِ أشرُّ؟ قال: كبْرُ العبادة(1). (5/133)
قال الحسن: تلقى أحدهم أبيضَ بَضّاً(2)، يملَخ(3) في الباطل ملخاً، ينفُض مِذْرَويه(4)، ويضرب أصدَرَيْهِ(5)، يقول: هأنذا فاعرفوني؛ قد عرفناك، فمقتك الله ومقتك الصالحون. (الكامل 1/98)
قال عباد بن راشد: خرجنا مع الحسن فنظر إلى بعض بناء المهالبة فقال: يا سبحان الله رفعوا الطين ووضعوا الدين! ركبوا البراذين واتخذوا البساتين وتشبهوا بالدهاقين(6)؛ فذرهم فسوف يعلمون. (الشعب 7/403)
قال الزهري: وهل يُنتفع من السَّيِّءِ الخلق بشيء؟. (روضة العقلاء ص65)
قال عونٌ بن عبد الله: كفى بكَ مِن الكبْرِ أنْ ترى لكَ فضلاً على منْ هوَ دونَكَ(7)، وكانوا يقولونَ: ذلُّوا عندَ الطاعةِ(8)، وعُزُّوا عندَ المعصيةِ(9). (4/247)
قال أبو حازم: من رأى أنه خير من غيره فهو مستكبر وذلك أن إبليس قال: (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ)(10) فكان ذلك استكباراً. (المداراة ص115)
قال عبدُ الرحمنِ بنُ زيدٍ بنِ أسلمَ: كان أبي يقولُ: أيْ بُنيَّ وكيف تعجبُكَ نفسُكَ وأنتَ لا تشاءُ أن ترى من عبادِ اللهِ مَن هوَ خيرٌ منكَ إلا رأيتَه، يا بنيَّ لا ترى(11) أنك خيرٌ من أحدٍ يقولُ: لا إلهَ إلا اللهُ، حتى تدخلَ الجنةَ ويدخلَ النارَ؛ فإذا دخلتَ الجنةَ ودخلَ النارَ تبيَّنَ لكَ أنكَ خيرٌ منْه. (3/222)
__________
(1) يعني أن تكبر المرء بما عنده من العبادة أسوأ وأقبح من تكبره بما معه من الدنيا.
(2) البضّ: الرقيق اللون الذي يؤثر فيه كل شيء.
(3) أي يمر مراً سريعاً.
(4) أي ناحيتيه؛ وهو يريد بهذه العبارة وصفه بالخيلاء.
(5) أي أنه فارغ.
(6) الدهقان بكسر الدال وضمها: التاجر أو رئيس القرية، فارسي معرب؛ والمراد كبار الأغنياء المترفين.
(7) قال عون بن عبد الله: بحسبك كبراً أن تأخذ بفضلك على غيرك. (4/247)
(8) أي لله.
(9) أي على الشيطان والنفس.
(10) سورة ص (76).
(11) كذا في الأصل، بإثبات الألف.(2/36)
قال بكر بن عبد الله المزني: كان الرجل من بني اسرائيل إذا بلغ المبلغ فمشى في الناس تظله غمامة، قال: فمر رجل قد أظلته غمامة على رجل فأعظمه ذلك لما رأى مما آتاه الله عز وجل، قال: فاحتقره صاحب الغمامة، أو قال كلمة نحوها، قال: فأمرت أن تحول من رأسه إلى رأس الذي عظم أمر الله تعالى. (2/226)
قال خالد بن أبي بكر: مر بالحسن شاب عليه بزة له حسنة فدعاه فقال: ابن آدم معجب بشبابه معجب بجماله كأن القبر قد وارى بدنك وكأنك قد لاقيت عملك، يا ويحك داو قلبك فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم. (التواضع والخمول ص217 والحلية 2/154)
قال أبو بكر الهذلي: بينما نحن مع الحسن إذ مر عليه ابن الأهتم يريد المقصورة وعليه جباب خز قد نضد بضعها فوق بعض على ساقه وانفرج عنها قباه وهو يمشي يتبختر إذ نظر إليه الحسن نظرة فقال: أف لك شامخ بأنفه ثاني عطفه مصعر خده ينظر في عطفيه أي حميق أنت تنظر في عطفيك في نعم غير مشكورة ولا مذكورة غير المأخوذ بأمر الله فيها ولا المؤدى حق الله منها، والله إنْ يمشي أحدهم طبيعته، أن يتخلج تخلج المجنون، في كل عضو من أعضائه لله نعمة وللشيطان به لعنة فسمع ابن الأهتم فرجع يعتذر، فقال: لا تعتذر إلي وتب إلى ربك أما سمعت قوله (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً)(1). (التواضع والخمول ص283 والورع ص82)
__________
(1) الإسراء (37).(2/37)
قال الخرائطي: حدثنا أبو يوسف يعقوب بن عيسى الزهري من ولد عبد الرحمن بن عوف قال: يروى عن أبي بكر الهذلي قال: كنا عند الحسن البصري إذ أقبل وكيع بن أبي أسود فقال: يا أبا سعيد ما تقول في دم البراغيث يصيب الثوب أيصلى فيه؟ فقال الحسن: يا عجباً ممن يلغُ في دماء المسلمين كأنه كلب ثم يسأل عن دم البراغيث فقام وكيع ينخلج في مشيته تخلج المجنون فقال الحسن: لله في كل عضو منك نعمة، اللهم لا تجعلنا ممن يتقوى بنعمتك على معصيتك. (فضيلة الشكر ص59)
قال الحسن: تلقى أحدهم يتحرك في مشيته يسحب عظامه عظماً عظماً، لا يمشي بطبيعته. (التواضع والخمول ص282)
قال الحسن: العجب لابن آدم يغسل يده بالخرء مرتين ثم يتكبر!! يعارض جبار السماوات والأرض!! (التواضع والخمول ص256؟)
قال الحسن: يا ابن آدم كيف تتكبر وأنت خرجت من سبيل البول مرتين؟!! (الزهد ص287)
كان زين العابدين يقول: عجبت للمتكبر الفخور الذي كان بالأمس نطفة ثم هو غداً جيفة، وعجبت كل العجب لمن شك في الله وهو يرى خلقه، وعجبت كل العجب لمن أنكر النشأة الأخرى وهو يرى النشأة الأولى، وعجبت كل العجب لمن عمل لدار الفناء وترك دار البقاء. (صف2/95)
لقي مالك بن دينار بلالاً بن أبي بردة في الطريق والناس يطوفون حوله! فقال له(1): ما تعرفني؟! قال: بلى، أعرفك، أولك نطفة وأوسطك جيفة وأسفلك دودة!! قال: فهموا أن يضربوه، فقال لهم: هذا مالك بن دينار! فتركه ومضى(2). (2/384)
__________
(1) بعد أن رأى قلة مبالاته به وعدم اكتراثه بشأنه.
(2) وهذه رواية أخرى لهذه القصة: مر المهلب بن أبي صفرة على مالك بن دينار وهو يتبختر في مشيته فقال له مالك: أما علمت أن هذه المشية تكره إلا بين الصفين فقال له المهلب: أما تعرفني؟! فقال له: أعرفك أحسن المعرفة؛ قال: وما تعرف مني؟ قال: أما أولك نطفة مذرة وأما آخرك فجيفة قذرة وأنت بينهما تحمل العذرة! قال[أي الراوي]: فقال المهلب: الآن عرفتني حق المعرفة. (2/384)(2/38)
قال ابن أبي الدنيا: حدثني أبو الحسن الشيباني حدثني شيخ لنا أن عمر بن عبد العزيز حج قبل أن يستخلف فنظر إليه طاووس وهو يختال في مشيته فغمز جنبه بأصبعه وقال: ليست هذه مشية من في بطنه خُرء! فقال عمر كالمعتذر: يا عم ضرب كل عضو مني على هذه المشية حتى تعلمتها. (التواضع والخمول ص217)
عن بكر بن عبد الله المزني أن رجلاً أخبره أنه صحب كعب الأحبار إحدى عشرة سنة فلما حضرته الوفاة قال: إني صحبتك إحدى عشر سنة أريد أن أسألك عن شيء وأنا أهابك قال: سل عما بدا لك، قال: أخبرني ما بال ابن آدم إذا قام من طوفه رد بصره فنظر إليه؟! قال: والذي نفس كعب بيده لقد سألتني عن شيء أنزله [الله] في التوراة على موسى: انظر إلى دنياك التي تجمع(1). (التواضع والخمول ص205)
العُجْب
قال مطرِّفٌ: لأَنْ أَبيتَ نائماً وأُصبحَ نادماَ(2) أَحَبُّ إليَّ مِن أنْ أَبيتَ قائماً وأُصبحُ معجَباً(3). (2/200)
قال الحارثُ بنُ نبهان: سمعتُ محمدَ بنَ واسعٍ يقولُ: واصاحباه! ذهبَ أصحابي، قلتُ: رحمكَ اللهُ أبا عبدِ اللهِ أليْسَ قد نشأَ شبابٌ يصومونَ النهارَ ويقومونَ الليلَ ويجاهدونَ في سبيلِ اللهِ؟! قالَ: بلى ولكن أَخْ – وتَفَلَ – أفسدَهم العُجْب. (2/352)
قال بلالٌ بن سعد: إذا رأيتَ الرجلَ لجوجاً ممارياً معجَباً برأيِه فقد تمتْ خسارتُه. (5/228)
قال أبو سِنان ضرارُ بنُ مرّةَ: قالَ إبليسُ: إذا استمكنتُ مِن ابنِ آدمَ ثلاثاً أصبتُ منهُ حاجَتي: إذا نسيَ ذنوبَه، وإذا استكثرَ عملَه، وإذا أُعْجِبَ برأيِه. (5/92)
قال ثابت البناني: سمعت الحسن يقول: لو أن قول ابن ادم كله حق وفعله صواب لجن. قيل لسعيد بن أيمن: ما يعني بقوله؟ قال: يعجب بنفسه. (الزهد ص263)
__________
(1) قال الفضيل بن عياض: (لَقلْعُ الجبال بالإبر أهون من قلع رئاسة قد ثبتت في القلوب). (ذكر أخبار أصبهان 1/314)
(2) أي على عدم قيام الليل.
(3) أي بذلك القيام.(2/39)
قال الحسن: لو كان كلام بني آدم كله صدقاً وعمله كله حسناً يوشك أن يخسر، قيل: وكيف يخسر؟ قال: يعجب بنفسه(1). (الشعب 5/454)
الحسد
قال يونس: عجبت من كلمات ثلاث: عجبت من كلمة مورق العجلي: ما قلت في الغضب شيئاً فندمت عليه في الرضا، وعجبت من كلمة محمد بن سيرين: ما حسدت أحداً على شيء من الدنيا، إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على شيء من الدنيا وهو يصير إلى الجنة؟! وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على شيء من الدنيا وهو صائر إلى النار؟! وعجبت من كلمة حسان بن أبي سنان: ما شيء أهون عندي من الورع، إذا رابني شيء تركته. (الزهد الكبير رقم 845 وانظر الحلية 3/23 وروضة العقلاء ص134)
قال رجل للحسن: يا أبا سعيد هل يحسد المؤمن؟ فقال: ما أنساك بني يعقوب – لا أبا لك – حيث حسدوا يوسف؟! قال: نعم؛ ولكن عم الحسد في صدرك فإنه لا يضرك ما لم يعْدُ لسانك أو تعمل به يدك. (التوبيخ والتنبيه ص102)
التجسس على المسلمين
قال الحسن: لا تسأل عن عمل أخيك الحسن والسيء، فإنه من التجسس. (روضة العقلاء ص125)
قال الحسن: أحبوا هوناً وأبغضوا هوناً، فقد أفرط أقوام في حب أقوام فهلكوا وأفرط اقوام في بغض أقوام فهلكوا؛ لا تفرط في حبك ولا تفرط في بغضك؛ من وجد دون أخيه ستراً فلا يكشفه؛ ولا تجسس أخاك؛ وقد نهيت عن أن تجسسه؛ ولا تحفر عنه ولا تنفر عنه. (رك ص233 والزهد ص270 والشعب 5/261)
قال مجاهد: لا تُحِدَّ النظر إلى أخيك ولا تسأله من أين جئت وأين تذهب؟ (صف2/209)
عن الأعمش عن مجمع أنه نزل عليه ضيف فما سأله من أين جئت وما جاء بك؟ حتى خرج من عنده. (صف 3/108)
التكلف
قال أبو حازم: عيشُنا عيشُ الملوكِ ودينُنا دينُ الملائكة!!(2) (3/233)
__________
(1) فما أخطر تلبيس ابليس على الإنسان، والله المستعان.
(2) ينتقد بهذا القول أدعياء الزهد والصلاح ممن يحرصون على الدنيا ويجمعونها ويعمرونها ويتوسعون في الاستمتاع بالطيبات والشهوات.(2/40)
قال بلال بن سعد: كانوا يشتدون بين الأغراض ويضحك بعضهم إلى بعض فإذا جاء الليل كانوا رهباناً. (المداراة ص67-68 وصف4/219)
قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: لقد رأيت مشيخة المدينة وإن لهم لغدائر وعليهم الممصر والمورد، في أيديهم مخاصر، وفي أيديهم آثار الحناء، في هيئة الفتيان، ودين أحدهم أبعد من الثريا إذا أريد على دينه(1). (صف2/152)
التشبه بالكفار وبأهل الباطل
قال حرب بن ميمون الأنصاري: بينما محمد بن سيرين يغسل النضر بن أنس، والحسنُ شاهدٌ، وأنا أعاطيهم فقال لي محمد: حي بنمط، فجئته بنمط أحمر، فقال محمد: يا أبا سعيد هذا زينة قارون! فقال له الحسن: نعم، فقال لي محمد: حي بغيره؛ قال: فجئته بنمط آخر أخضر فلفه فيه. (الطبقات الكبرى 7/191)
ذكر سلام بن فرقد السبخي عن ابراهيم النخعي أنه كان يكره أن يشرب في البلابل(2)، ويقول: هو من زي الأعاجم(3)
__________
(1) قال علي بن بكار البصري الزاهد: لأن ألقى الشيطان أحب إلي من أن ألقى فلاناً أخاف أن أتصنع له فأسقط من عين الله.
(2) البلابل: واحدها البُلْبُل، والبلبل من الإبريق قناته التي ينصب منها الماء.
(3) أحسن ما ألف في باب النهي عن التشبه بغير المسلمي (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) للإمام ابن تيمية رحمه الله؛ وقد قال في بيان سبب تأليفه:
(إني قد نَهيت: إما مبتدئاً أو مجيباً، عن التشبه بالكفار في أعيادهم، وأخبرت ببعض ما في ذلك: من الأثر القديم، والدلالة الشرعية، وبينت بعض حكمة الشرع في مجانبة الكفار، من الكتابيين والأميين، وما جاءت به الشريعة من مخالفة أهل الكتاب والأعاجم.
وإن كانت هذه قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة، كثيرة الشعب، وإصطلاحاً جامعاً من أصولها كثير الفروع، لكني نبهت على ذلك بما يسر الله تعالى، وكتبت جواباً في ذلك لم يحضرني الساعة، وحصل بسبب ذلك من الخير ما قدره الله سبحانه.
ثم بلغني بأَخَرَة أن من الناس من استغرب ذلك واستبعده، لمخالفة عادة قد نشأوا عليها، وتمسكوا في ذلك بعمومات، وإطلاقات اعتمدوا عليها، فاقتضاني بعض الأصحاب أن أعلق في ذلك ما يكون فيه إشارة إلى أصل هذه المسألة، لكثرة فائدتها، وعموم المنفعة بها، ولما قد عم كثيراً من الناس من الإبتلاء بذلك، حتى صاروا في نوع جاهلية، فكتبت ما حضرني الساعة، مع أنه لو استوفي ما في ذلك من الدلائل، وكلام العلماء، واستقريت الآثار في ذلك، لوجد فيه أكثر مما كتبته.
ولم أكن أظن أن من خاض في الفقه، ورأى إيماءات الشرع ومقاصده، وعلل الفقهاء ومسائلهم، يشك في ذلك، بل لم أكن أظن أن من وقر الإيمان في قلبه، وخلص إليه حقيقة الإسلام، وأنه دين الله، الذي لا يقبل من أحد سواه - إذا نبه على هذه النكتة - إلا كانت حياة قلبه، وصحة إيمانه، توجب استيقاظه بأسرع تنبيه، ولكن نعوذ بالله من رين القلوب، وهوى النفوس، اللذين يصدان عن معرفة الحق واتباعه).
ومما قاله في هذا الكتاب في أثناء تفصيله لبعض مسائله (ص219-223):
(الوجه السابع من الاعتبار: ما قررته في وجه أصل المشابهة، وذلك أن الله تعالى جبل بني آدم بل سائر المخلوقات، على التفاعل بين الشيئين المتشابهين، وكلما كانت المشابهة أكثر كان التفاعل في الأخلاق والصفات أتم، حتى يؤول الأمر إلى أن لا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالعين فقط.
ولما كان بين الإنسان و[الإنسان] مشاركة في الجنس الخاص، كان التفاعل فيه أشد؛ ثم بينه وبين سائر الحيوان مشاركة في الجنس المتوسط فلا بد من نوع تفاعل بقدره، ثم بينه وبين النبات مشاركة في الجنس البعيد مثلاً، فلا بد من نوع ما من المفاعلة.
ولأجل هذا الأصل وقع التأثر والتأثير في بني آدم، واكتساب بعضهم أخلاق بعض بالمعاشرة والمشاكلة.
وكذلك، الآدمي إذا عاشر نوعاً من الحيوان اكتسب بعض أخلاقه، ولهذا صار الخيلاء والفخر في أهل الإبل، وصارت السكينة في أهل الغنم، وصار الجمالون، والبغالون فيهم أخلاق مذمومة، من أخلاق الجمال والبغال، وكذلك الكلابون، وصار الحيوان الإنسي فيه بعض أخلاق الإنس من المعاشرة والمؤالفة وقلة النفرة.
فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة، توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي.
وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين، هم أقل كفراً من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى، هم أقل إيماناً من غيرهم ممن جرد الإسلام.
والمشاركة في الهدي الظاهر توجب أيضاً مناسبة وإئتلافاً، وإن بعد المكان والزمان؛ فهذا أيضاً أمر محسوس.
فمشابهتهم في أعيادهم – ولو بالقليل – هو سبب لنوع ما من إكتساب أخلاقهم التي هي ملعونة، وما كان مظنة لفساد خفي غير منضبط، علق الحكم به، وأدير التحريم عليه، فنقول: مشابهتهم في الظاهر سبب ومظنة لمشابهتهم في عين الأخلاق والأفعال المذمومة؛ بل في نفس الإعتقادات وتأثير ذلك لا يظهر ولا ينضبط، ونفس الفساد الحاصل من المشابهة قد لا يظهر ولا ينضبط، وقد يتعسر أو يتعذر زواله بعد حصوله، لو تفطن له، وكل ما كان سبباً إلى مثل هذا الفساد فإن الشارع يحرمه، كما دلت عليه الأصول المقررة.
الوجه الثامن من الاعتبار:
أن المشابهة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة، وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة، حتى أن الرجلين إذا كانا من بلد واحد، ثم اجتمعا في دار غربة ،كان بينهما من المودة والإئتلاف أمر عظيم، وإن كانا في مصرهما لم يكونا متعارفين، أو كانا متهاجرين؛ وذاك لأن الاشتراك في البلد نوع وصف اختصا به عن بلد الغربة، بل لو اجتمع رجلان في سفر، أو بلد غريب، وكانت بينهما مشابهة في العمامة أو الثياب، أو الشعر، أو المركوب ونحو ذلك، لكان بينهما من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما، وكذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضاً، ما لا يألفون غيرهم، حتى أن ذلك يكون مع المعاداة والمحاربة: إما على الملك، وإما على الدين؛ وتجد الملوك ونحوهم من الرؤساء، وإن تباعدت ديارهم وممالكهم بينهم مناسبة تورث مشابهة ورعاية من بعضهم لبعض.
وهذا كله موجب الطباع ومقتضاه، إلا أن يمنع من ذلك دين أو غرض خاص.
فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية، تورث المحبة والموالاة لهم، فكيف بالمشابهة في أمور دينية؟ فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد، والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ؛ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ؛ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ) [المائدة 51-53]؛ وقال تعالى فيما يذم به أهل الكتاب: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ؛ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ؛ تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ؛ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [المائدة 78-81].
فبين سبحانه وتعالى أن الإيمان بالله والنبي [صلى الله عليه وسلم] وما أنزل إليه مستلزم لعدم ولايتهم؛ فثبوت ولايتهم يوجب عدم الإيمان، لأن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم.
وقال سبحانه: (لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ) [المجادلة 22].
فأخبر سبحانه أنه لا يوجد مؤمن يواد كافراً، فمن واد الكفار فليس بمؤمن، والمشابهة الظاهرة مظنة الموادة، فتكون محرمة، كما تقدم تقرير مثل ذلك.
واعلمْ أن وجوه الفساد في مشابهتهم كثيرة، فلنقتصر على ما نبهنا عليه).
ثم قال رحمه الله:
(فصل: مشابهتهم فيما ليس من شرعنا قسمان:
أحدهما: مع العلم بأن هذا العمل هو من خصائص دينهم.
فهذا العمل الذي هو من خصائص دينهم: إما أن يفعل لمجرد موافقتهم، وهو قليل، وإما لشهوة تتعلق بذلك العمل، وإما لشبهة فيه تخيل أنه نافع في الدنيا أو في الآخرة؛ وكل هذا لا شك في تحريمه، لكن يبلغ التحريم في بعضه إلى أن يكون من الكبائر، وقد يصير كفراً بحسب الأدلة الشرعية.
وإما عمل لم يعلم الفاعل أنه من عملهم فهو نوعان:
أحدهما: ما كان في الأصل مأخوذاً عنهم، إما على الوجه الذي يفعلونه، وإما مع نوع تغيير في الزمان أو المكان أو الفعل ونحو ذلك، فهذا غالب ما يبتلى به العامة، في مثل ما يصنعونه في الخميس الحقير، والميلاد ونحوهما، فإنهم قد نشأوا على اعتياد ذلك، وتلقاه الأبناء عن الآباء، وأكثرهم لا يعلمون مبدأ ذلك، فهذا يعرَّف صاحبُه حكمَه، فإن لم ينته [الظاهر أن الصواب: فإن ينته]، وإلا صار من القسم الأول.
النوع الثاني: ما ليس في الأصل مأخوذاً عنهم، لكنهم يفعلونه أيضاً، فهذا ليس فيه محذور المشابهة، ولكن قد يفوت فيه منفعة المخالفة، فتتوقف كراهة ذلك وتحريمه على دليل شرعي وراء كونه من مشابهتهم، إذ ليس كوننا تشبهنا بهم بأولى من كونهم تشبهوا بنا، فأما استحباب تركه لمصلحة المخالفة إذا لم يكن في تركه ضرر، فظاهر لما تقدم من المخالفة، وهذا قد توجب الشريعة مخالفتهم فيه، وقد توجب عليهم مخالفتنا؛ كما في الزي ونحوه، وقد يقتصر على الاستحباب، كما في صبغ اللحية والصلاة في النعلين، والسجود، وقد تبلغ الكراهة، كما في تأخير المغرب والفطور، بخلاف مشابهتهم فيما كان مأخوذاً عنهم، فإن الأصل فيه التحريم كما قدمناه).(2/41)
. (تاريخ واسط ص195)
صفات المؤمنين
قال بلال بن سعد: إنما المؤمنون إخوةٌ فكيف بإيمانِ قومٍ متباغضين(1)؟!! (5/222)
قال قتادة في قول الله تعالى (إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)(2) قال: للرحمة والطاعة، فأما أهل طاعة الله فقلوبهم وأهواؤهم مجتمعة، وإن تفرقت ديارهم، وأهل معصية الله قلوبهم مختلفة، وإن اجتمعت ديارهم. (روضة العقلاء ص108)
قال مالك: مثل المؤمن مثل اللؤلؤة أينما كانت حسنها معها. (2/377)
قال الحسن: إن لله عز وجل عباداً كمن رأى أهل الجنة في الجنة مخلدين وكمن رأى أهل النار في النار مخلدين، قلوبهم محزونة وشرورهم مأمونة، حوائجهم خفيفة وأنفسهم عفيفة، صبروا أياماً قصاراً تعقب راحة طويلة؛ أما الليل فصافة(3) أقدامهم تسيل دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى ربهم: ربنا ربنا؛ وأما النهار فحلماء علماء بررة أتقياء كأنهم القداح، ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض، أو خولطوا، ولقد خالط القوم من ذكر الآخرة أمر عظيم. (2/151)
__________
(1) ما أعظمه من ضابط، وأخطره من ميزان! فرحم الله بلال بن سعد.
(2) هود (119)؛ وتمام هذه الجملة القرآنية: (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ).
(3) كتبت هذه الكلمة في الحلية هكذا (فمصافة) والتصحيح عن (الأولياء) لابن أبي الدنيا (93).(2/42)
قال الحسنُ: المؤمنُ منْ يعلمُ أنَّ ما قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ كما قالَ(1)، والمؤمنُ أحسنُ الناسِ عملاً وأشدُّ الناسِ خوفاً، لو أنفقَ جبلاً من مالٍ ما أمِنَ دونَ أنْ يُعايِنَ(2) لا يزدادُ صلاحاً وبراً وعبادةً إلا إزدادَ فرَقاً(3)، يقول: لا أنجو، والمنافقُ يقولُ: سوادُ الناسِ كثيرٌ وسيُغفرُ لي، ولا بأسَ عليَّ، فيُنْسئُ(4) العمل ويتمنى على اللهِ تعالى. (2/153)
قال الحسن: كانوا يقولون: أفضل اخلاق المؤمنين العفو. (الزهد ص287)
قال الحسن: إن من أخلاق المؤمن قوة في الدين وحزم في لين وإيمان في يقين وحرص على علم وشفقة في تفقه، وقصد في عبادة ورحمة للمجهود وإعطاء للسائل، لا يحيف على من يبغض ولا يأثم فيمن يحب، في الزلازل وقور، وفي الرخاء شكور، قانع بالذي له، ينطق ليفهم، ويسكت ليسلم، ويقر بالحق قبل أن يشهد عليه. (الجامع ص136)
قال الحسن: كان يقال: إياكم وفراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله. (جامع معمر 10/451)
قال الحسن: إن المؤمن رزق حلاوة ومهابة(5). (جلاء الأفهام ص187)
قال خالد بن شوذب: رأيت فرقد السبخي وعليه جبة صوف فاخذ الحسن بجبته ثم قال: يا ابن [أم] فرقد، مرتين أو ثلاثة، إن التقوى ليس في هذا الكساء؛ إنما التقوى ما وقر في القلب وصدقه العمل والفعل. (الزهد ص267 وانظر رك ص545 والمصنف 7/189 والبيان والتبيين 3/144 والفتاوى الكبرى 5/200 ومجموع الفتاوى 2/103)
__________
(1) أي هو حق لا ريب فيه.
(2) أي قبل أن يرى خلاصه ونجاته.
(3) أي خوفاً.
(4) أي يؤخره ويتركه، ويحتمل أن هذه الكلمة مصحفة عن (يُسيء).
(5) قال ابن القيم: يعني يحب ويهاب ويجل بما ألبسه الله سبحانه من ثوب الإيمان المقتضي لذلك.(2/43)
قال أبو الحسن ابن عبدالله بن أبي فروة: دخلت مع سيار أبي الحكم المسجد فنظر الى القناديل فقال: ما بال هذه القناديل بعضها أضوأ من بعض وزيتها واحد وماؤها واحد؟! قلنا لا، إلا أن تكون فتيلة أغلظ من فتيلة أو زيت أصفى من زيت؛ فقال: كذلك الإيمان بعضه أضوأ من بعض. (تاريخ واسط ص125)
قال الحسن: ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال مخافة الحرام. (جامع العلوم والحكم ص74)
قال الحسن: المؤمن حليم؛ لا يجهل وإن جهل عليه حلم(1)؛ لا يظلم وإن ظلم غفر؛ لا يقطع وإن قطع وصل؛ لا يبخل وإن بخل عليه صبر. (الحلم ص53)
قال محمد بن عبد العزيز: قال أبي: قال مالك بن دينار: المؤمن كريم في كل حالة لا يحب أن يؤذي جاره ولا يفتقر [لعلها يحتقر] أحد من أقربائه، قال: ثم يبكي مالك ويقول: وهو والله مع ذلك غني القلب لا يملك من الدنيا شيئاً إن أزلته عن دينه لم يزل وإن خدعته عن ماله انخدع لا يرى الدنيا من الآخرة عوضاً، ولا يرى البخل من الجود حظاً منكسر القلب ذو هموم قد تفرد بها مكتئب محزون ليس له في فرح الدنيا نصيب، إن أتاه منها شيء فرقه وإن زوي عنه كل شيء فيها لم يطلبه، قال: ثم يبكي ويقول: هذا والله الكرم هذا والله الكرم. (مكارم الأخلاق ص32)
قال الحسن: المسلم لا يأكل في كل بطنه ولا تزال وصيته تحت جنبه. (رك ص92)
قال الحسن في قوله عز وجل (وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ)(2) قال: إن المؤمن لا تراه إلا يلوم نفسه، يقول: ما أردت بكلمتي؟ يقول: ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ فلا تراه إلا يعاتبها؛ وإن الفاجر يمضي قدماً فلا يعاتب نفسه. (الزهد ص281 ومحاسبة النفس ص 24 والمدارج 2/510 وإغاثة اللهفان ص77 وتفسير ابن كثير 7/167)
صفات المنافقين والفساق
__________
(1) كانت (حليم).
(2) القيامة (2).(2/44)
قال الحسن: يعد من النفاق اختلاف القول والعمل واختلاف السر والعلانية والمدخل والمخرج؛ وأصل النفاق والذي بني عليه النفاق الكذب(1). (الصمت ص240 والمصنف 7/236 وصفة المنافق ص61 وجامع العلوم والحكم ص431 و ص433؛)
قال الحسن: إن المؤمن تلقاه الزمان بعد الزمان بأمر واحد ووجه واحد ونصيحة واحدة؛ وإنما يبدل المنافق، يشاكل كل قوم ويسعى مع كل ريح. (زهد هناد 2/579)
قال الحسن: والله ما صدَّق عبد بالنار إلا ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وإن المنافق لو كانت النار خلف هذا الحائط لم يصدق بها حتى يهجم عليها. (الزهد ص265 والتخويف من النار ص34)
كان الحسن يقول: إن القوم لما رأوا هذا النفاق يغول الإيمان لم يكن لهم همٌّ غير النفاق(2). (صفة المنافق ص71)
قال المعلى بن زياد: سمعت الحسن يحلف في هذا المسجد بالله الذي لا إله إلا هو: ما مضى مؤمن قط ولا بقي إلا هو من النفاق مشفق، ولا مضى منافق قط ولا بقي إلا هو من النفاق آمن؛ قال: وكان يقول: من لم يخف النفاق فهو منافق. (صفة المنافق ص73)(3)
قال الحسن: إن المؤمنين عجلوا الخوف في الدنيا فأمنهم الله يوم القيامة؛ وإن المنافقين أخروا الخوف في الدنيا فأخافهم الله يوم القيامة. (المصنف 7/189)
عن حماد بن زيد عن أيوب قال: سمعت الحسن يقول: والله ما أصبح ولا أمسى مؤمن إلا وهو يخاف النفاق على نفسه. (صفة المنافق ص73)
سأل أبان الحسن فقال: هل تخاف النفاق؟ قال: وما يؤمنني وقد خاف عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟! (صفة المنافق ص72)
__________
(1) وهذه رواية أخرى:
قال الحسن: الكذب جماع النفاق. (الصمت ص250)
(2) وهذه رواية أخرى:
قال الحسن: لما ذكر أن النفاق يغول الإيمان لم يكن شيء أخوف عندهم منه. (صفة المنافق ص72)
(3) وانظر (جامع العلوم والحكم) (ص434) و(الجواب الكافي) (ص26) و(تعظيم قدر الصلاة) (2/634)؛ وانظر رواية أخرى في صفة المنافق (ص73)؛ وانظر (شعب الإيمان) (1/506).(2/45)
قال محمد بن سيرين: لم يكن شيء أخوف على من قال هذا القول(1) من هذه الآية (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ)(2). (صفة المنافق ص73)
قال سلام بن أبي مطيع: سمعت أيوب وعنده رجل من المرجئة فجعل الرجل يقول: إنما هو الكفر والإيمان، قال: وأيوب ساكت، قال: فأقبل عليه أيوب فقال: أرأيت قوله (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ)(3) أمؤمنون هم أم كفار؟ قال: فسكت الرجل، قال: فقال أيوب: اذهب فاقرأ القرآن فكل آية في القرآن فيها ذكر النفاق فإني أخافها على نفسي. (صفة المنافق ص74)
قال طريف: قلت للحسن: يا أبا سعيد إن ناساً يزعمون أن لا نفاق، أو: لا يخافون النفاق - شك الراوي عن طريف- فقال: والله لأن أكون أعلم أني بريء من النفاق أحب إلي من طلاع الأرض ذهباً. (صفة المنافق ص72 وانظره ص67)
قيل للحسن: يا أبا سعيد اليوم نفاق؟ قال: لو خرجوا من أزقة البصرة لاستوحشتم فيها. (صفة المنافق ص82)
قال مالك بن دينار: أقسم لكم، لو نبت للمنافقين أذناب ما وجد المؤمنون أرضاً يمشون عليها. (2/376)
قال الحسن: لا تقوم الساعة حتى يسود كل قوم منافقوها. (صفة المنافق ص82)
قال الحسن في هذه الآية: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)(4) قال: هو المنافق لا يهوى شيئاً إلا ركبه(5)
__________
(1) يريد من يخاف على نفسه النفاق.
(2) البقرة (8).
(3) التوبة (106).
(4) قال تعالى في سورة الجاثية (23): (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)؛ وقال تعالى في سورة الفرقان (43): (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً).
(5) وهذه رواية أخرى:
قال الحسن: المنافق يعبد هواه، لا يهوى شيئاً إلا ركبه. (صفة المنافق ص61)(2/46)
. (صفة المنافق ص60 وذكر أخبار أصبهان 1/99 ومجموع الفتاوى 10/479 وجامع العلوم والحكم ص204)
عن همام بن يحيى عن قتادة: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه)(1) قال: إذا هوى شيئاً ركبه. (صفة المنافق ص60)
قال الحسن: إذا شئت لقيت الرجل أبيض حديد اللسان حديد النظر ميت القلب، والعمل أنت أبصر به من نفسه، ترى أبداناً ولا قلوب، وتسمع الصوت ولا أنيس، أخصب ألسنة وأجدب قلوباً، يأكل أحدهم من غير ماله ويتكئ على شماله(2) فإذا كهضته البطنة قال: يا جارية، أو يا غلام، ايتني بهاضم! وهل هضمت يا مسكين إلا دينك؟! وقال: من رق ثوبه رق دينه، ومن سمن جسده هزل دينه، ومن طاب طعامه أنتن كسبه(3). (البداية والنهاية 9/271 وانظر رك ص65 والحلية 2/158 وعيون الأخبار 2/356 والصمت ص281)
__________
(1) الجاثية (23).
(2) أصلحت هذه العبارة من موعظة أخرى للحسن.
(3) قال الحسن: يا ابن آدم أنت أسير الجوع صريع الشبع، إن قوماً لبسوا هذه المطارف العتاق، والعمائم الرقاق، ووسعوا دورهم وضيقوا قبورهم، وأسمنوا دوابهم، وأهزلوا دينهم، يتكئ أحدهم على شماله، ويأكل من غير ماله، فإذا أدركته الكِظّةُ قال: يا جارية هاتي هاضومك، ويلك! وهل تهضِمُ إلا دينك؟ (العقد الفريد 10/133)(2/47)
قال الحسن: يا ابن آدم إذا رأيت الناس في خير فنافسهم فيه، وإذا رأيتهم في هلكة فذرهم وما اختاروا لأنفسهم؛ قد رأينا أقواماً آثروا عاجلتهم على عاقبتهم فذلوا وهلكوا وافتضحوا؛ يا ابن آدم إنما الحكم حكمان فمن حكم بحكم الله فإمام عدل ومن حكم بغير حكم الله فحكم الجاهلية؛ إنما الناس ثلاثة مؤمن وكافر ومنافق، فأما المؤمن فعامل الله بطاعته، وأما الكافر فقد أذله الله كما قد رأيتم، وأما المنافق فههنا معنا في الحجر والطرق والأسواق، نعوذ بالله؛ والله ما عرفوا ربهم، اعتَبِروا إنكارهم ربهم بأعمالهم الخبيثة؛ وإن المؤمن لا يصبح إلا خائفاً وإن كان محسناً لا يصلحه إلا ذلك، ولا يمسي إلا خائفاً وإن كان محسناً، لأنه بين مخافتين: بين ذنب قد مضى لا يدري ماذا يصنع الله تعالى فيه وبين اجل قد بقي لا يدري ما يصيب فيه من الهلكات، إن المؤمنين شهود الله في الأرض، يعرضون أعمال بني آدم على كتاب الله، فما(1) وافق كتاب الله حمد[وا] الله عليه، وما خالف كتاب الله عرفوا أنه مخالف لكتاب الله، وعرفوا بالقرآن ضلالة من ضل من الخلق(2)
__________
(1) كانت (فمن).
(2) قال وهب بن جرير: حدثنا أبي أنه سمع الحسن يقول: إنما الناس بين ثلاثة نفر مؤمن ومنافق وكافر؛ فأما المؤمن فعاملٌ بطاعة الله عز وجل، وأما الكافر فقد أذله الله تعالى كما رأيتم، وأما المنافق فههنا في الحجر والبيوت والطرق نعوذ بالله، والله ما عرفوا ربهم؛ بل [ا]عرفوا إنكارهم لربهم بأعمالهم الخبيثة، ظهر الجفا وقل العلم وتركت السنة إنا لله وإنا إليه راجعون، حيارى سكارى ليسوا بيهود ولا نصارى ولا مجوس فيعذروا؛ وقال: إن المؤمن لم يأخذ دينه عن الناس ولكن أتاه من قبل الله عز وجل فأخذه، وإن المنافق أعطى الناس لسانه ومنع الله قلبه وعمله فحدثان أحدثا في الإسلام: رجل ذو رأي سوء زعم أن الجنة لمن رأى مثل رأيه فسل سيفه وسفك دماء المسلمين واستحل حرمتهم [كأنه يريد الخوارج] ومترف يعبد الدنيا لها يغضب وعليها يقاتل ولها يطلب؛ وقال: يا سبحان الله ما لقيت هذه الأمة من منافق قهرها واستأثر عليها ومارق مرق من الدين فخرج عليها؟! صنفان خبيثان قد غما كل مسلم، يا ابن آدم دينك دينك فإنما هو لحمك ودمك فإن تسلم بها فيا لها من راحة ويا لها من نعمة؛ وإن تكن الأخرى فنعوذ بالله فإنما هي نار لا تطفأ وحجر لا يبرد ونفس لا تموت. (صفة المنافق ص61-62)(2/48)
. (2/157-158)
قال الحسن: لا تلقى المؤمن إلا شاحباً ولا تلقى المنافق إلا وباصاً(1). (الزهد ص271 وصفة المنافق ص82 والحلية2/376)
قال الحسن: المنافق الذي إذا صلى راءى بصلاته، وإن فاتته لم يأس عليها، ويمنع زكاة ماله. (صفة المنافق ص66)
قال شميط بن عجلان: كان يقال: علامة المنافق قلة ذكر الله عز وجل. (3/129)
قال خالد بن معدان: إياكم والخطران، فإنه قد تنافق(2) يد الرجل من سائر جسده؛ قيل: وما الخطران؟ قال: ضرب الرجل بيده إذا مشى. (صف4/14 والتواضع والخمول ص219-220 وصفة المنافق ص81)
قال عبد الله بن أبي سليم: كان علي بن الحسين إذا مشى لا تجاوز يده فخذه ولا يخطر بيده. (صف2/92)
قال سفيان بن عيينة: ما رئي علي بن حسين إذا مشى يقول بيده هكذا، يخطر بها. (التواضع والخمول ص220)
قال مكحول: لا تعاهدوا السفيهَ ولا المنافقَ فما نقضوا من عهدِ اللهِ أكبرُ من عهدكم. (5/184-185)
قال الأحنف بن قيس: من ظلم نفسه كان لغيره أظلم؛ ومن هدم دينه كان لمجده أهدم. (أدب الدنيا والدين ص371)
قال مالك بن دينار: قرأت في الزبور: بكبرياء المنافق يحترق المسكين، وقرأت في الزبور: إني أنتقم للمنافق بالمنافق ثم أنتقم من المنافقين جميعاً وذلك قول الله عز وجل (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)(3)؛ وقال مالك: في بعض الكتب: يا معشر الظلمة لا تجالسوا أهل ذكري حتى تنزعوا عن الظلم فإني روأت؟؟ على نفسي أن أذكر من ذكرني فإذا ذكروني ذكرتهم برحمتي وإذا ذكرتموني ذكرتكم بلعنتي. (صفة المنافق ص60)
__________
(1) قال ابن منظور: الشاحب المتغير اللون لعارض من مرض أو سفر أو نحوهما---- وفي حديث الحسن (لا تلقى المؤمن إلا شاحباً)؛ لأن الشحوب من آثار الخوف وقلة المأكل والتنعم. (لسان العرب 1/485)
(2) تصحفت (تنافق يده) في (التواضع والخمول) إلى (نبا فؤاده).
(3) الأنعام (129).(2/49)
قال بلالٌ بن سعد: عبادَ الرحمنِ إنَّ العبدَ ليقولُ قولَ مؤمنٍ فلا يدعُه اللهُ وقولَه حتى ينظرَ في عملِه، فإن كانَ قولُه قولَ مؤمنٍ وعملُه عملَ مؤمنٍ لم يدعْهُ حتى ينظرَ في ورعِه، فإن كانَ قولُه قولَ مؤمنٍ وعملُه عملَ مؤمنٍ وورعُه ورعَ مؤمنٍ لم يدعْه حتى ينظرَ ماذا نوى؟ فإذا صلحتِ النيةُ فبالحريِّ أن يصلُحَ ما دونَها(1)؛ المؤمن يقولُ قولاً يُتْبِعُ قولَه عملَه، والمنافقُ يقولُ بما يُعْرَفُ ويعملُ بما يُنْكَر(2). (5/230)
اختلاف القول والفعل، وفضل الفعال على المقال
قال القاسم بن محمد بن أبي بكر: لقد أدركت الناس وما يعجبون للقول. (الصمت ص282-283 والجامع)
قال الحسن: كان الفتى إذا تنسك لم نعرفه بمنطقه وإنما نعرفه بعمله؛ وذلك العلم النافع(3). (الطبقات 7/177)
قال الحسن: فضل الفعال على المقال مكرمة، وفضل المقال على الفعال منقصة. (2/156)
قال الحسن: أرى رجالاً ولا أرى عقولاً!! أسمعُ أصواتاً ولا أرى أنيساً!! أخصَبُ(4) ألسنةً وأجدَبُ قلوباً. (2/158)
قال جرير بن حازم: دخلنا على الحسن يوماً فملأنا عليه سطحه، فنظر في وجوه القوم فقال: أرى عيناً ولا أرى أُنْساً!! معرفة ولا صدق!! قول ولا فعل!! صورة تلبس الثياب!! (رك ص64-65)
دخل الحسن المسجد ومعه فرقد السبخي فقعد إلى جنب حلقة يتكلمون فنصت لحديثهم ثم أقبل على فرقد فقال: يا فرقد والله ما هؤلاء إلا قوم ملوا العبادة ووجدوا الكلام أهون عليهم وقل ورعهم فتكلموا. (2/156-157)
قال الحسن: سمعت الحجاج يخطب وهو بواسط وهو يقول: اللهم أرني الهدى هدى فأتبعه وأرني الضلالة ضلالة فأجتنبها، ولا تُلبس عليَّ هداي فأضل ضلالاً بعيداً!!! (تأويل مختلف الحديث ص84)
__________
(1) في الأصل (دونه).
(2) ورويت الجملة الأخيرة منه أيضاً في (صفة المنافق) (ص62).
(3) أين طلبة العلم في هذا الزمان من مثل هذا المعنى؟
(4) أخصب خبر لمبتدأ محذوف تقديره (هم) أو (هؤلاء) أو (الناس)، ومراده أهل عصره.(2/50)
قال الحسن: اعتبروا الناس بأعمالهم ودعوا قولهم فإن الله لم يدع قولاً إلا جعل عليه دليلاً من عمل يصدقه أو يكذبه؛ فإذا سمعت قولاً حسناً فرويداً بصاحبه، فإن وافق قوله عملاً فنعم ونعمة عين، آخه وأحببه؛ وإن خالف قول عملاً فماذا يشبه عليك منه؟! أم ماذا يخفى عليك منه؟!(1) إياك وإياه لا يخدعنك كما خُدع؛ ابن آدم إن لك قولاً وعملاً، فعملك أحقُّ بك من قولك؛ وإن لك سريرة وعلانية فسريرتك أحق بك من علانيتك؛ ولذلك عاجلة وعاقبة فعاقبتك أحق من عاجلتك. (الصمت ص280 وانظر الزهد ص282 و رك ص26 والبداية والنهاية 9/271 والمدارج 1/436 والجامع)
قال الحسن: العمل الصالح يرفع الكلام الطيب إلى الله تعالى، فإذا كان كلام طيب وعمل سيء رد القول على العمل، وكان عملـ[ـه] أحق من قوله. (رك ص30 وزاد المسير 6/478)
قال الحسن: من قال قولاً حسناً وعمل عملاً حسناً فخذوا عنه؛ ومن قال قولاً حسناً وعمل عملاً سيئاً فلا تأخذوا عنه. (المصنف 7/236)
تعظيم حق الله
قال مالك بن دينار: وددت أن الله عز وجل أذن لي يوم القيامة إذا وقفت بين يديه أن أسجد سجدة فأعلم أنه قد رضي عني ثم يقول لي: يا مالك كن تراباً. (صف3/283)
قال أبو حازم: إني لأستحيي من ربي عز وجل أن أسأله شيئاً فأكون كالأجير السوء إذا عمل طلب الأجرة ولكني اعمل تعظيماً له. (3/242)
عن سلام بن أبى مطيع أو غيره قال: ما كان يونس بأكثرهم صلاة ولا صوماً ولكن لا والله ما حضر حق من حقوق الله عز وجل إلا وهو متهيِّءٌ له. (صف3/304)
قال سعيدٌ بن جبير: ما رأيتُ أرعى لحرمةِ هذا البيت ولا أحرصَ عليهِ من أهلِ البصرةِ، لقد رأيتُ جاريةً ذاتَ ليلةٍ تعلقت بأستارِ الكعبةِ فجعلت تدعو وتبكي وتتضرعُ حتى ماتت. (4/276)
__________
(1) قال عمران بن أبى الجعد النخعي: قال ابن مسعود: إن الناس كلهم قد أحسنوا القول؛ فمن وافق فعله قوله، فذلك الذي أصاب حظه؛ ومن خالف فعله قوله فإنما يوبخ نفسه. (ذكر أخبار أصبهان 2/275)(2/51)
تعظيم قدر الصلاة(1)
قال الحسن البصري: ابن آدم أي دينك يعز عليك إذا هانت عليك صلاتك؟! وإذا هانت عليك صلاتك فهي على الله أهون(2). (الزهد ص283)
قال الحسن: الصلاة خير موضوع، من شاء استقل، ومن شاء استكثر. (الزهد ص287)
قال الحسن: إذا قمت إلى الصلاة فقم قانتاً كما أمرك الله وإياك والسهو والالتفات أن ينظر الله إليك وتنظر إلى غيره، تسأل الله الجنة وتعوذ به من النار وقلبك ساه ولا تدري ما تقول بلسانك. (تعظيم قدر الصلاة 1/189 و193)
قال الحسن: الصلاة إذا لم تنه عن الفحشاء والمنكر لم تزد صاحبها الا بعداً. (الزهد ص264)
قعد الحسن ليلة حتى الصبح فقيل له، فقال: غلبتني نفسي عن الصلاة فقلت لها: فاقعدي! فلم يدعها تنام حتى الصبح(3). (التهجد ص411)
__________
(1) قال ابن القيم في (الفوائد) (ص200): (للعبد بين يدي الله موقفان: موقف بين يديه في الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه، فمن قام بحق الموقف الأول هون عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفِّه حقَّه شُدد عليه ذلك الموقف، قال تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) [الإنسان 26-27].
(2) وجاء في (الكبائر) (ص28): (كان الحسن البصري يقول يا ابن آدم أي شيء يعز عليك من دينك إذا هانت عليك صلاتك وأنت أول ما تسأل عنها يوم القيامة)؛ وانظر (التهجد) (ص483) و(الشعب) (3/153).
(3) روى ابن أبي الدنيا في (محاسبة النفس) (141) عن ابن المبارك أن الحسن قدم مكة فلم يضع جنبه ولم يطُفْ، فلما أصبح قيل له؟ قال: وجدت في نفسي فترة فكرهت أن أعوّدها الضجعة.(2/52)
قيل للحسن: ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجوهاً؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره نوراً. (التهجد ص341-342 والعقد الفريد 10/122 ومختصر منهاج القاصدين ص85)(1)
قال الحسن: نعم الشتاء للمؤمن، ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه. (التهجد ص432)
قال الحسن: سمعهم عامر بن عبد قيس وما يذكرونه من أمر الضيعة(2)، في الصلاة، قال: أتجدونه؟! قالوا: نعم، قال: والله لأَن تختلف الأسنة في جوفي أحب إلي من أن يكون هذا مني في صلاتي. (2/92)
قال طريف بن شهاب: ذكر للحسن قول عامر يعني ابن عبد الله بن قيس "لأن تختلف في الأسنة أحب إلي من أن أجد ما يذكرون" يعني حديث النفس في الصلاة، فقال الحسن: ما اصطنع الله ذلك عندنا(3). (الشعب 3/150)
عن عبد المنعم بن إدريس عن أبيه قال: صلى وهب بن منبه وطاووس اليماني الغداة بوضوء العتمة أربعين سنة. (صف2/288)
عن عبد المنعم بن إدريس عن أبيه قال: صلى سعيد بن المسيب الغداة بوضوء العتمة خمسين سنة. (صف2/80)
قال سعيد بن المسيب: ما فاتتني الصلاة في الجماعة منذ أربعين سنة(4). (2/162)
اشتكى سعيد بن المسيب عينيه فقيل له: يا أبا محمد لو خرجت إلى العقيق فنظرت إلى الخضرة فوجدت ريح البرية لنفع ذلك بصرك! فقال: فكيف أصنع بشهود العتمة والصبح؟! (2/162)
__________
(1) أول هذا الأثر في (مختصر منهاج القاصدين) هو: (وقال الحسن البصري رحمه الله: لم أجد من العبادة شيئاً أشد من الصلاة في جوف الليل؛ فقيل له: ما بال المتهجدين---) الأثر.
(2) الضيعة هي المُلك والمال.
(3) هذا من تواضع الحسن وسوء ظنه بنفسه، إذ لا شك أنه كان يحسن صلاته ويتقنها.
(4) وقال سعيد: ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد. (2/162)
وقال برد مولى سعيد: ما نودي للصلاة منذ أربعين سنة إلا وسعيد في المسجد. (2/163)
وانظر روايات أخرى في هذا الباب في ترجمة سعيد بن المسيب من (الحلية).(2/53)
رأى سعيد بن المسيب رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة فقال: لو خشع قلبه خشعت جوانحه؛ قال اسحاق(1): قيل لابن علية: جوارحه؟ فقال: لا. (تعظيم قدر الصلاة 1/194)
قال أبو إسحاق: حج مسروق فما بات إلا ساجداً(2). (التهجد ص171 والمصنف 7/148)
قال علقمة بن مرثد: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين منهم مسروق بن الأجدع فإن امرأته قالت: ما كان يوجد إلا وساقاه قد انتفختا من طول الصلاة فلما احتضر بكى فقيل له: ما هذا الجزع؟ قال: ما لي لا أجزع وإنما هي ساعة ولا أدرى أين يسلك بي بين يدي طريقان لا أدرى إلى الجنة أم إلى النار؟! (صف3/26)
قالت امرأة مسروق: كان تعني مسروق يصلي حتى ترم قدماه فربما جلست خلفه أبكي مما أراه يصنع بنفسه. (التهجد ص285 والسير 4/65 والمصنف 34879 و صف3/25)
قال إبراهيم بن محمد: كان لمسروقٍ سترٌ بينه وبين أهله فيقبل على صلاته أو عبادته ويخلي بينهم وبين دنياهم. (التهجد ص285 و صف3/25)
قال أبو الضحى: كان مسروق يقوم فيصلي كأنه راهب وكان يقول لأهله: هاتوا كل حاجة لكم فاذكروها لي قبل أن أقوم إلى الصلاة. (2/96)
كان الربيع بن خثيم إذا سجد كأنه ثوب مطروح فتجيء العصافير فتقع عليه. (2/114 و صف3/63)
قال بعض أصحاب الربيع بن خثيم: ربما علمنا شعره عند المساء وكان ذا وفرة ثم يصبح والعلامة كما هي فنعلم أن الربيع لم يضع جنبه ليلته على فراشه. (صف3/62)
كان الربيع بعد ما سقط شقه يهادى بين رجلين إلى مسجد قومه وكان أصحاب عبدالله يقولون له: يا أبا يزيد لقد رخص الله لك لو صليت في بيتك! فيقول: إنه كما تقولون ولكني سمعته ينادي: حي على الفلاح، فمن سمع منكم فليجبه ولو زحفاً ولو حبواً. (صف3/62)
__________
(1) هو ابن راهويه وهو أحد رواة هذا الأثر، رواه عن ابراهيم بن علية.
(2) عن أبي اسحاق قال: حج مسروق فلم ينم إلا ساجداً على وجهه حتى رجع. (صف3/25)(2/54)
قال عبد الرحمن بن عجلان: بت عند الربيع بن خثيم ذات ليلة فقام يصلي فمر بهذه الآية (أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ)(1) الآية فمكث ليلته حتى أصبح ما جاوز هذه الآية إلى غيرها، ببكاء شديد. (2/112 وانظر مصنف ابن أبي شيبة 7/145 وصف3/62)
قال سفيان: بلغنا أن أم الربيع بن خثيم كانت تنادي ابنها الربيع فتقول: يا بني يا ربيع ألا تنام؟ فيقول: يا أمه من جنَّ عليه الليل وهو يخاف البيات حق له أن لا ينام، قال: فلما بلغ ورأت ما يلقى من البكاء والسهر نادته فقالت: يا بني لعلك قتلتَ قتيلاً؟!! فقال: نعم يا والدة قد قتلت قتيلاً، قالت: ومن هذا القتيل يا بني حتى نتحمل على أهله فيعفون؟! والله لو يعلمون ما تلقى من البكاء والسهر بعدُ لقد رحموك! فيقول: يا والدة هي نفسي. (2/114)
قالت ابنة الربيع للربيع: يا أبت لِمَ لا تنام والناس ينامون؟ فقال: إن النار [؟؟] لا تدع أباك أن ينام(2). (2/114-115 و صف3/63)
قال أبو العاليةِ: أرحلُ إلى الرجلِ مسيرةَ أيامٍ فأول ما أتفقدُ من أمرِهِ صلاتُهُ، فإنْ وجدتُهُ يُقيمُها ويُتمُّها أقمتُ وسمعتُ منهُ، وإن وجدتُهُ يُضيِّعُها رجعتُ ولم أسمعْ منهُ وقلتُ: هو لغيرِ الصلاةِ أضْيَعُ. (2/220)
قال ابراهيم التيمي: إذا رأيتَ الرجلَ يتهاونُ في التكبيرةِ الأولى فاغسلْ يدَكَ منهُ. (4/215)
قال عون بن عبد الله(3): إذا سرَّكَ أنْ تنظرَ إلى الرجلِ أحسنَ ما يكونُ عليهِ حالاً فانظر إليهِ وهو قائمٌ يصلي(4). (4/252)
__________
(1) الجاثية (21).
(2) وفي رواية أخرى: قالت ابنة الربيع: يا ابتاه إني أرى الناس ينامون وأنت لا تنام؟! قال: يا بنيه إن أباك يخاف البيات. (صف3/64 والتهجد ص165)
(3) قال ابن حجر في التقريب: (ثقة عابد من الرابعة، مات قبل سنة عشرين ومئة).
(4) أي أن أحسن أحواله في الدين تعرف من حاله في صلاته.(2/55)
قال بكر بن عبد الله المزني: من مثلك يا ابن آدم؟! خلي بينك وبين المحراب، تدخل منه اذا شئت على ربك، وليس بينك وبينه حجاب ولا ترجمان، وإنما طيب المؤمنين هذا الماء المالح. (2/229 والشعب 3/168)
قالت معاذه العدوية زوج صلة بن أشيم: كان صلة بن أشيم يقوم من الليل حتى يفتر فما يجيء إلى فراشه إلا حبواً(1). (التهجد ص288 و صف3/216)
قال رجل من بني عدي: لما أهديت معاذة إلى صلة أدخله ابن أخيه الحمام ثم أدخله بيتاً مطيباً فقام يصلي فقامت فصلت فلم يزالا يصليان حتى برق الفجر، قال: فأتيته فقلت: أي عم أُهدِيَتْ إليك ابنة عمك الليلة فقمت تصلي وتركتها! فقال: إنك أدخلتني أمس بيتاً أذكرتني به النار، ثم أدخلتني بيتاً أذكرتني به الجنة، فما زالت فكرتي فيهما حتى أصبحت. (صف3/219)
قالت امرأة كانت تخدم معاذة العدوية: كانت تحيي الليل صلاة فإذا غلبها النوم قامت فجالت في الدار وهي تقول: يا نفس النوم أمامك، لو قد متِّ لطالت رقدتك في القبر. (التهجد ص181)
كانت معاذة العدوية إذا جاء الليل تقول: هذه ليلتي التي أموت فيها، فما تنام حتى تصبح؛ فإذا جاء النهار قالت: هذا يومي الذي أموت فيه، فما تنام حتى تمسي؛ وإذا جاء البرد لبست الثياب الرقاق حتى يمنعها البرد من النوم. (التهجد ص180)
قالت آسية بنت عمرو العدوية: كانت معاذة تصلي في كل يوم ستمئة ركعة وتقرأ جزءها من الليل تقوم منه؛ وكانت تقول: عجبت لعين تنام وقد عرفت طول الرقاد في ظلمات القبور. (التهجد ص229-230)
ذكر أن معاذة العدوية لم تتوسد فراشاً بعد أبي الصهباء حتى ماتت. (التهجد ؟)
__________
(1) لفظ رواية (الشعب) (3/160): ما كان صلة يجيء من مسجد بيته إلى فراشه إلا حبواً يقوم حتى يفتر في الصلاة.(2/56)
عن جرير العدوي عن أبيه قال: قلت للعلاء بن زياد: إذا صليت وحدي لم أعقل صلاتي! قال: أبشر فإن هذا عَلَمُ الخير؛ أما رأيت اللصوص إذا مروا بالبيت الخرب لم يلووا عليه، وإذا مروا بالبيت الذي رأوا فيه المتاع زاولوه حتى يصيبوا منه شيئاً. (2/245)
عن جرير العدوي عن أبيه عن العلاء بن زياد قال: إنه يسوءني قرب داري من المسجد يعني يحب ان يكون منزله بعيدا لكثرة الخطا. (الزهد ص255-256)
ذكر لمسلم بن يسار قلة التفاته في صلاته فقال: وما يدريكم أين قلبي؟! (2/289)
قال ابن عون: كان مسلم بن يسار إذا كان في غير صلاة كأنه في صلاة(1). (2/290)
قال حميد بن هلال: كان مسلم بن يسار إذا قام يصلي كأنه ثوب ملقى(2). (شعب الايمان 3/148)
قال عبد الله بن مسلم بن يسار عن أبيه: ما رأيته يصلي قط إلا ظننت أنه مريض. (2/289)
عن عبد الله بن مسلم بن يسار أن أباه كان إذا صلى كأنه وتد، لا يقول هكذا ولا هكذا. (شعب الايمان 3/148)
قال ابن عون: رأيت مسلم بن يسار يصلي كأنه وتد لا يميل(3) على قدم مرة ولا على قدم مرة، ولا يتحرك له ثوب(4). (2/291)
قال رجل من آل محمد بن سيرين: رأيت مسلم بن يسار رفع رأسه من السجود في المسجد الجامع فنظرت إلى موضع سجوده كأنه قد صب فيه الماء من كثرة دموعه. (صف3/239)
كان مسلم بن يسار قائماً يصلي فوقع حريق إلى جنبه فما شعر به حتى طفئت النار. (2/289)
__________
(1) فما ظنك به إذا كان في الصلاة؟! وزاد في (تهذيب التهذيب) (10/127): (وإذا كان في صلاة كأنه وتد لا يتحرك شيء منه).
(2) وكذلك قال غيلان بن جرير. (2/290)
(3) وفي رواية (يعتمد) بدل (يميل).
(4) الذي في (الشعب): عن ابن عون عن عبد الله بن مسلم بن يسار أن أباه كان إذا صلى كأنه وتد لا يقول هكذا ولا هكذا.(2/57)
قال ميمون بن حيان: ما رأيت مسلم بن يسار ملتفتاً في صلاته قط خفيفة ولا طويلة ولقد انهدمت ناحية من المسجد ففزع أهل السوق لهدمه وإنه لفي المسجد في الصلاة فما التفت. (2/289-290)
كان مسلم بن يسار يصلي ذات يوم فدخل رجل من أهل الشام ففزعوا واجتمع له أهل الدار فلما انصرفوا قالت له امرأته: دخل هذا الشامي ففزع أهل الدار فلم تنصرف إليهم! أو كما قالت، قال: ما شعرت. (2/289)
قال عون بن موسى: سقط حائط المسجد ومسلم بن يسار قائم يصلي فما علم به. (2/289)
كان مسلم بن يسار يقول لأهله: إذا كانت لكم حاجة فتكلموا وأنا أصلي. وفي رواية: كان مسلم بن يسار يقول لأهله: إذا دخل في صلاته في بيته: تحدثوا فلست أسمع حديثكم. (2/289 و6/130)(1)
قال مسلم بن يسار: إذا نمت ثم استيقظت ثم عدت نائماً فلا أرقد الله عينك. (التهجد ص196)
قال عبد الله بن مسلم: سئل مسلم بن يسار عن الصلاة في السفينة قاعداً فقال: إني لأكره - أو أبغض - أن يراني الله أن أصلي له قاعداً من غير مرض. (الطبقات 7/187)
قال معاوية بن قرة: دخلت على مسلم فقال: دخلتَ علي وأنا أدفن بعض جسدي، قال معاوية: وكان يطيل السجود، [قال الراوي]: أراه قال: فوقع الدم في ثنيتيه فسقطتا فدفنهما. (2/290)
قال ابن المبارك أخبرنا سفيان عن رجل عن مسلم بن يسار أنه سجد سجدة فوقعت ثنيتاه فدخل عليه أبو إياس فأخذ يعزيه ويهون عليه فذكر مسلم من تعظيم الله تعالى فقال مسلم: من رجا شيئا طلبه ومن خاف شيئا هرب منه ما أدري ما حسب رجاء امرئ عرض له بلاء لم يصبر عليه لما يرجو وما أدري ما حسب خوف امرئ عرضت له شهوة لم يتركها لما يخشى(2). (رك ص102-103 والحلية 2/290 و2/292 وحسن الظن ص98)
__________
(1) وفي رواية أخرى: كان مسلم بن يسار إذا دخل المنزل سكت أهل البيت فلا يسمع لهم كلام وإذا قام يصلي تكلموا وضحكوا. (2/290)
(2) وقال أيضاً: ما أدري ما حسب إيمان عبد لا يترك شيئا يكرهه الله عز وجل. (2/292)(2/58)
قال عبد الله بن مسلم بن يسار: رأيت مسلماً وهو ساجد وهو يقول في سجوده: متى ألقاك وأنت عني راض؟! ويذهب في الدعاء ثم يقول: متى ألقاك وأنت عني راض؟!. (الزهد ص248)
كان العلاء بن زياد يقول: لو كنت متمنياً لتمنيت فقه الحسن وورع ابن سيرين وصواب مطرف وصلاة مسلم بن يسار. (الورع ص69)
قال السري بن يحيى: كان سليمان التيمي في طريق مكة يتوضأ لصلاة العشاء ثم يصلي الليل كله في محمله حتى يصبح ثم يصلي الصبح بوضوئه ذلك(1). (الشعب 3/161)
قال معتمر بن سليمان: كان أبي يوقظ كل من في الدار إذا دخل شهر رمضان ويقول: قوموا فلعلكم لا تدركونه بعد عامكم هذا(2). (التهجد ص253)
قال عبد الملك بن قريب الأصمعي: بلغني أن سليمان التيمي قال لأهله: هلموا حتى نجزئ الليل فإن شئتم كفيتكم أوله وإن شئتم كفيتكم آخره. (3/29)
قال معمر مؤذن التيمي: صلى إلى جنبي سليمان التيمي بعد العشاء الآخرة وسمعته يقرأ (تبارك الذي بيده الملك)(3)؛ قال: فلما أتى على هذه الآية (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا)(4) جعل يردِّدُها حتى خفَّ أهلُ المسجد فانصرفوا؛ قال: فخرجتُ وتركتُه؛ قال: وغدوتُ لأذانِ الفجرِ فنظرتُ فإذا هو في مقامِه، قال: فتسمعتُ فإذا هو فيها لم يَجُزْها وهو يقول: (فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا). (3/29)
__________
(1) وقال يحيى بن سعيد القطان: خرج سليمان التيمي الى مكة فكان يصلي الصبح بوضوء عشاء الآخرة وكان يأخذ بقول الحسن أنه إذا غلب النوم على قلبه توضأ وكان يحيى يتعجب من صبر التيمي. (3/29)
قال حنبل: أنبأنا علي - يعني ابن المديني - قال سمعت يحيى - يعني ابن سعيد - وذكرْنا التيميَّ فقال: ما جلست إلى رجل أخوف لله منه. (صف 3/296-297)
(2) في الأصل (لا تدركوه بعد عامكم هذه).
(3) يعني يقرأ سورة (الملك).
(4) الملك (27).(2/59)
قال محمد بن عبد الله الأنصاري: كان التيمي عامة دهره يصلي العشاء والصبح بوضوء واحد، وليس وقت صلاة إلا وهو يصلي، وكان يسبح بعد العصر الى المغرب ويصوم الدهر وانصرف الناس يوم عيد من الجبان فأصابتهم السماء فدخلوا مسجداً فتعاطوا فيه فإذا رجل متقنع قائم يصلي فنظروا فإذا سليمان التيمي. (3/28-29)
قال أبو معبد - جار المعتمر- : زففنا عروساً إلى بني سليم وكان الناس إذ ذاك يزفون في جوف الليل، قال: وسليمان التيمي يصلي وهو يقرأ هذه الآية: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً)(1)( وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً) (وَتَرَى،،،،،)؛ قال: فذهبنا بالعروس إلى بني سليم ورجعنا وهو يقرأ هذه الآية: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً) (وَتَرَى،،،،،). (التهجد ص465-466)
قال سعيد بن عامر: كان سليمان التيمي يسبح في كل سجدة وركعة سبعين تسبيحة. (الشعب 3/164)
قال حماد بن سلمة: ما أتينا سليمان التيمي في ساعة يُطاعُ اللهُ عز وجلَّ فيها إلا وجدناه مطيعاً، إن كان في ساعة صلاة وجدناه مصلياً، وإن لم تكن ساعةَ صلاةٍ وجدناه إما متوضئاً أو عائداً مريضاً أو مشيعاً لجنازةٍ، أو قاعداً في المسجد؛ قال: فكنا نرى أنه لا يحسن يعصي الله عز وجل(2). (3/28)
قال يحيى بن المغيرة: زعم جرير أن سليمان التيمي لم تمرَّ ساعةٌ قط إلا تصدق بشيء، فإن لم يكن شيءٌ صلى ركعتين ثم قرأ (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً)(3). (3/28)
__________
(1) الجاثية (28).
(2) قال علي بن المديني: ذكرنا التيمي عند يحيى بن سعيد فقال: ما جلسنا عند رجل أخوف من الله تعالى منه. (3/28)
(3) المؤمنون (51).(2/60)
قال محمد بن سعد: سمعت يزيد بن هارون يقول: ليس سليمان بتيمي ولكنه مري ومنزله في التيم فنسب إليهم؛ وكان من العباد المجتهدين يصلي الغداة بوضوء العشاء الآخرة وكان هو وابنه المعتمر يدوران بالليل في المساجد فيصليان مرة في هذا المسجد ومرة في هذا، حتى يصبحا. (صف3/296)
قال معتمر بن سليمان: كان أبي إذا غلبه النعاس في الشتاء خرج إلى الدار(1). (التهجد ص466)
قال محمد بن عبد الأعلى: سمعت معتمر بن سليمان التيمي يقول: لولا أنك من أهلي ما حدثتك عن أبي بهذا؛ مكث أبي أربعين سنة يصوم يوماً ويفطر يوماً ويصلي الصبح بوضوء العشاء(2)؛ وربما أحدث الوضوء من غير نوم(3). (3/28)
قال سعيد بن عامر: كان سليمان التيمي يسبح في كل سجدة وركعة سبعين تسبيحة. (الشعب 3/164)
قال قتادة: كان يقال: قلَّ ما ساهر الليلَ منافقٌ. (مسند ابن الجعد 1053 والحلية 2/338)
قال مجاهد: (وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ)(4) قال: فمن القنوت الركود والخشوع وغض البصر وخفض الجناح من رهبة الله عز وجل؛ كان إذا قام أحدهم يصلى يهاب الرحمن أن يشد بصره إلى شيء أو يلتفت أو يقلب الحصى أو يعبث بشيء أو يحدث نفسه من شأن الدنيا إلا ناسياً ما دام في صلاته. (تعظيم قدر الصلاة 1/188)
__________
(1) قالت ابنة سليمان التيمي: لو لم يكن لأبي من العبادة إلا ما كان الليل كله يراعي النجوم يخرج فينظر إليها. (التهجد ص192)
(2) الشعب) (3/164).
(3) وقال المبارك أو غيره: أقام سليمان التيمي أربعين سنة إمام الجامع بالبصرة يصلي العشاء الآخرة والصبح بوضوء واحد. وقال حماد بن سلمة: كان سليمان التيمي طوى فراشه أربعين سنة ولم يضع جنبه بالأرض عشرين سنة وكانت له امرأتان. وقال الهيثم أبو علي المفلوج: صلى سليمان التيمي الغداة بوضوء العتمة أربعين سنة. (انظر الحلية 3/29 والتهجد ص191)
(4) البقرة 238.(2/61)
ذكر داود بن إبراهيم أن الأسد حبس الناس ليلة في طريق حج فدق الناس بعضهم بعضاً فلما كان في وجه السحر ذهب عنهم فنزل الناس يميناً وشمالاً فألقوا أنفسهم وقام طاووس يصلي فقال ابن طاووس: ألا تنام قد نصبت الليل؟! فقال طاووس: ومن ينام السحر؟!(1) (التهجد ص478 والشعب 3/166)
قال أبو سليمان الداراني: كان طاووس يفرش فراشه ثم يضطجع فيتقلى كما تتقلى الحبة على المقلى ثم يثب فيدرجه ويستقبل القبلة حتى الصباح ويقول: طيَّر ذكر جهنم نوم العابدين. (التهجد ص189 و صف2/289)
قال ميمون بن مهران: نظر رجلٌ من المهاجرينَ إلى رجلٍ يصلي فأخفَّ الصلاةَ فعاتبه، فقال: إني ذكرتُ ضيعةً(2) لي! فقال: أكبر الضيعةِ أضعتَه(3). (4/84)
قال ميمون بن مهران: شرف المؤمن الصلاة في سواد الليل واليأس مما في أيدي الناس. (الشعب 3/171)
كان إبراهيم التيمي(4) إذا سجد تجيء العصافيرُ تستقرُّ على ظهرِه كأنه جِذْمُ(5) حائطٍ. (4/212)
__________
(1) أتى طاووس رجلاً في السحر فقالوا: هو نائم، فقال: ما كنت أرى أن أحداً ينام في السحر. (صف2/285 ومختصر منهاج القاصدين ص82)
(2) في (مختار الصحاح) (ص162): (والضَّيْعَةُ العقار، والجمع ضِيَاعٌ وضِيَعٌ كبدرة وبدر، وتصغير الضيعة ضُيَيْعَةٌ، ولا تقل: ضويعة؛ قلت: قال الأزهري: الضَّيْعَةُ عند الحاضرة النخل والكرم والأرض؛ والعرب لا تعرف الضيعةَ إلا الحرفة والصناعة).
(3) يريد الصلاة.
(4) قال العوام بن حوشب: ما رأيت رجلاً قط خيراً من إبراهيم. (صف3/ 90)
(5) قال ابن قتيبة في (غريب الحديث) (1/497): (والجِذْمُ: الأصل، وكذلك جِذْمُ الحائط أصلُه).(2/62)
قال عبد الله بن مسلم: كان سعيد بن جبير إذا قام في الصلاة كأنه وتد(1). (الشعب 3/148 و صف 3/77)
قال سعيد بن جبير: التمطي في الصلاة من الشيطان؛ وقال أيضاً: خمس تنقص من الصلاة الالتفات والاحتكاك وتفقيعك أصابعك في الصلاة والوسوسة وتقليب الحصى. (تعظيم قدر الصلاة 1/193)
قال يحيى بن عبد الرحمن: سمعت سعيد بن جبير يرد هذه الآية: (وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ)(2) حتى يصبح. (صف3/79)
قال القاسم بن أبي أيوب: سمعت سعيد بن جبير يردد هذه الآية في الصلاة بضعاً وعشرين مرة (وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ)(3). (4/273 و صف3/77)
قال سعيد بن عبيد: كان سعيد بن جبير إذا أتى على هذه الآية (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ)(4) رجَّع فيها ورددها مرتين أو ثلاثاً. (4/273)
__________
(1) بدأ أبو نعيم ترجمته في (الحلية) (4/272) بقوله (ومنهم الفقيه البكاء والعالم الدعاء السعيد الشهيد السديد الحميد أبو عبدالله جبير بن سعيد وقيل ان التصوف التحقق في التوكل والتشوق في التنقل؛ ثم روى جملة طيبة من أخباره ومنها عن عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن عمرو بن ميمون عن أبيه قال: لقد مات سعيد بن جبير وما على الأرض أحد إلا وهو محتاج الى علمه).
(2) يس (59).
(3) البقرة (281)؛ وتمام الآية (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)؛ وقيل: هي آخر آية نزلت من كتاب الله.
(4) قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) [غافر 69-71].(2/63)
قال ورقاء بن إياس: سمعت سعيد بن جبير يردد آية حتى أصبح: (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ)(1). (التهجد ص509)
قال ابن شهاب: كان سعيد بن جبير يؤمنا يرجّع صوته بالقرآن. (4/273)
قيل لورقاء بن إياس: كان سعيد بن جبير يصنع كما يصنع هؤلاء الائمة اليوم يطربون أو يرددون؟ قال: معاذ الله إلا أنه كان إذا مر على مثل هذه الآية في (حم المؤمن)(2) (إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ) مدها شيئاً. (4/273)
قال القاسم بن أبي أيوب الأعرج: كان سعيد بن جبير يبكي بالليل حتى عمش. (4/272)
قال عطاء بن السائب: كان سعيد بن جبير ربما أبكانا. (4/273)
عن عبد الملك بن أبي سليمان عن سعيد بن جبير أنه كان يختم القرآن في كل ليلتين. (4/273)
قال هلال بن يساف: دخل سعيد بن جبير الكعبة فقرأ القرآن في ركعة. (4/273)
عن عبيد بن السائب عن أبيه قال: ما رأيت أحداً أحسن اعتدالاً في صلاته من رجاء بن حيوة. (صف4/214)
كتبَ عمرُ إلى عماله: اجتنبوا الاشتغالَ عندَ حضرةِ الصلاةِ، فمن أضاعها فهو لما سواها من شعائرِ الاسلامِ أشدُّ تضييعاً. (5/316)
قال محمد بن أبي سارة: رأيت سالم بن عبد الله [بن عمر] قدم علينا حاجاً فصلى العشاء ثم قام إلى ناحية مما يلي باب بني سهم في الصلاة فلم يزل يميل يميناً وشمالاً حتى طلع الفجر ثم جلس فاحتبى بثوبه. (صف2/91)
قال بهز بن حكيم: صلى بنا زرارة بن أوفى [في] مسجد بني قشير فقرأ (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ---)(3) فخرَّ ميتاً(4) فحمل إلى داره. (2/258-259)
قال ابن جريج: كان المسجد فراش عطاء بن أبي رباح عشرين سنة. (صف2/212)
__________
(1) غافر (70-71).
(2) يعني سورة غافر.
(3) المدثر (8).
(4) في (مختصر منهاج القاصدين) (ص45): (وما ذاك إلا لأنه صوّر تلك الحال فأثّرت عنده التلف).(2/64)
قال ابن جريج: قلت لعطاء: أقبض بكفي اليمنى على عضدي اليسرى وكفي اليسرى على عضدي اليمنى؟ فكرهه(1) وقال: إنما الصلاة خشوع، قال الله: (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ)(2)؛ فقد عرفتم الركوع والسجود والتكبير، ولا يعرف كثير من الناس الخشوع(3). (تعظيم قدر الصلاة 1/190)
قال الأوزاعي: ما رأيت أحداً أخشع لله من عطاء(4)، ولا أطول حزناً من يحيى إبن أبي كثير. (صف2/213)
قال سلمة بن شبيب: سمعت عبد الرزاق يقول: أخذ أهل مكة الصلاة من ابن جريج، وأخذها ابن جريج عن عطاء(5)، وأخذها عطاء من ابن الزبير، وأخذها ابن الزبير من أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأخذها ابو بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذها النبي صلى الله عليه وسلم من جبريل عليه السلام؛ وقال عبد الرزاق: ما رأيت أحسن صلاة من ابن جريج كان يصلي ونحن خارجون، فيُرى كأنه اسطوانة(6) ولا يلتفت يميناً ولا شمالاً. (شعب الايمان 3/147-148)
__________
(1) أي السؤال.
(2) المؤمنون (2).
(3) الأصل في منهجي في هذا الكتاب أن لا يتكرر أثر مرتين، وإن كان أكثر آثار هذا الكتاب يصلح للدخول في أكثر من باب من أبوابه، ولذا لم يتكرر عندي شيء من الآثار إلا ما وقع من ذلك سهواً أو لضرورة، وذلك نادر؛ وأما هذا الأثر فقد أوردته عمداً في ثلاثة مواضع من هذا الكتاب، رجاء أن يحفظه القارئ، وذاك لأهميته وخطورته؛ فأطلْ تدبره والتفكر فيه واحرصْ على تفهم دلالته.
(4) قال إبن أبي ليلى: حج عطاء سبعين حجة وعاش مئة سنة. (صف2/214)
(5) قال ابن عيينة: قلت لابن جريج: ما رأيت مصلياً مثلك! قال: لو رأيتَ عطاء! (صف2/213)
(6) قال ابن جريج: كان عطاء بعدما كبر وضعف يقوم إلى الصلاة فيقرأ مئتي آية من البقرة وهو قائم، ما يزول منه شيء ولا يتحرك. (الشعب 3/148و صف2/213)(2/65)
قال عمرو بن قيس الملائي: كان شقيق بن سلمة يدخل المسجد فيصلي ثم ينشج كما تنشج المرأة(1).(الرقة والبكاء ص120 و صف 3/29)
دخل سليم بن الأسود أبو الشعثاء على أبي وائل يعوده فقال: إن في الموت لراحة فقال أبو وائل: إن لي صاحباً خيراً لي منك: خمس صلوات في اليوم!. (مصنف ابن أبي شيبة 7/152)
قال ثابت البناني: ما رأيت أحداً أصبر على طول القيام والسهر من يزيد بن أبان؛ يعني الرقاشي. (التهجد ص208)
قال مهدي بن ميمون: رأيت حسان بن أبي سنان – قال الراوي: أحسبه قال في مرضه – فقيل له: كيف تجدك؟ قال: بخيرٍ إن نجوت من النار! فقيل له: فما تشتهي؟ قال: ليلة بعيدة ما بين الطرفين أُحيي ما بين طرفيها. (3/117)
كان زين العابدين علي بن الحسين إذا فرغ من وضوئه للصلاة وصار بين وضوئه وصلاته أخذته رعدة ونفضة، فقيل له في ذلك، فقال: ويحكم! أتدرون إلى من أقوم؟! ومن أريد أن أناجي؟! (2/133 وانظر الرقة والبكاء ص127)
قال مصعب بن عبد الله: سمع عامر بن عبد الله [بن الزبير] المؤذن وهو يجود بنفسه ومنزله قريب من المسجد فقال: خذوا بيدي! فقيل له: إنك عليل! فقال: أسمع داعي الله فلا أجيبه؟! فأخذوا بيده فدخل في صلاة المغرب فركع مع الإمام ركعة ثم مات. (صف2/132)
قال إبراهيم بن عرعرة: سمعت يحيى القطان إذا ذكر الأعمش قال: كان من النساك، وكان محافظاً على الصلاة في الجماعة، وعلى الصف الأول؛ قال يحيى: وهو علامة الإسلام. (صف3/118)
قال وكيع: كان الأعمشُ قريباً من سبعينَ سنة لم تفتْه التكبيرةُ الأولى!! واختلفت(2) إليهِ قريباً من سنتين(3) فما رأيتُه يقضي ركعة(4). (5/49)
__________
(1) قال عاصم بن أبي النجود: ما رأيت أبا وائل يلتفت في صلاة ولا في غيرها قط. (صف3/28)
(2) في الأصل: (واختلف).
(3) في الأصل (ستين)، ويظهر أنه تحريف.
(4) أي بعد الجماعة.(2/66)
كان صفوان بن سُلَيم(1) أعطى الله عهداً لا أضع جنبي على فراش حتى ألحق بربي؛ قال [راويه:] فبلغني أن صفوان عاش بعد ذلك أربعين سنة لم يضع جنبه، فلما نزل به الموت قيل له: رحمك الله ألا تضطجع؟ قال: ما وفيت لله بالعهد إذاً، قال: فأسند، فما زال كذلك حتى خرجت نفسه؛ قال: ويقول أهل المدينة أنه ثقبت جبهته من كثرة السجود(2). (التهجد ص217-218 و صف2/154)
قال مالك بن أنس: كان صفوان بن سليم يصلي في قميص لئلا ينام. (3/159)
قال مالك: كان صفوان يصلي في الشتاء في السطح وفي الصيف في بطن البيت، يتيقظ بالحر والبرد حتى يصبح(3) ثم يقول: هذا الجهد من صفوان وأنت أعلم؛ وإنه لترم رجلاه حتى تعود مثل السفط من قيام الليل ويظهر فيها عروق خضر. (3/159)
قال عبد العزيز بن أبي حازم: عادلني صفوان بن سليم إلى مكة فما وضع جنبه في المحمل حتى رجع. (3/158-159)
__________
(1) هو صفوان بن سليم المدني أبو عبد الله الأزهري مولاهم، ثقة مفتٍ عابد، قال ابن حجر: (من الرابعة، مات سنة (132) وله (72) سنة).
(2) ورد في (الحلية) (3/159) رواية هذا لفظها: (آلى [أي أقسم] صفوان بن سليم أن لا يضع جنبه إلى الأرض حتى يلقى الله عز وجل فلما حضره الموت وهو منتصب قالت له ابنته: يا أبت أنت في هذه الحالة لو ألقيت نفسك، قال: يا بنية إذن ما وفيت له بالقول).
وذكر أبو عبد الرحمن العمري أن صفوان بن سليم لم يكن يتوسد بالليل وساداً ولا كان يضع جنبه على فراش بالليل إنما كان يصلي فإذا غلبته عيناه احتبى قاعداً. (التهجد ص182)
(3) قال سليمان بن سالم: كان صفوان بن سليم في الصيف يصلي في البيت وإذا كان في الشتاء صلى في السطح لئلا ينام. (3/159)(2/67)
قال عبد العزيز بن أبي حازم: دخلت أنا وأبي نسأل عنه، يعني صفوان بن سليم، وهو في مصلاه فما زال به أبي حتى رده إلى فراشه، فأخبرتني مولاته أن ساعة خرجتم مات(1). (3/159)
قال أبو علقمة المديني: كان صفوان بن سليم لا يكاد يخرج من مسجد النبي [صلى الله عليه وسلم]، فإذا أراد أن يخرج بكى وقال: أخشى أن لا أعود إليه. (صف2/153)
قال بشر بن الحارث: كان كهمس يصلي حتى يغشى عليه. (التهجد ص469 وانظر صف3/315)
قال بكر بن عبد الله المزني: مَنْ أَرادَ أن يَنْظُر إلى أَعْبَدِ النّاس، ما رَأَينَا ولا أَدرَكْنا الّذي هو أَعْبَد منه، فلينظُر إلى ثابتٍ، إنّه ليظَلّ في اليوم المعْمَعَانِي البَعِيد ما بَيْن الطّرَفَين يُراوِح ما بَيْن جَبْهَتِه وقَدمَيْه(2). (غريب الحديث للخطابي 3/115)
__________
(1) ذكر لأحمد بن حنبل صفوان بن سليم وقلة حديثه وأشياء خولف فيها فقال: هذا رجل إنما كان يستشفى بحديثه ويستنزل القطر بذكره. انتهى. وتوفي صفوان بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين ومئة.
(2) قال الخطابي: (المَعْمَعَانِيّ: الشّدِيدُ الحَرّ، مأخوذٌ من مَعْمَعَةِ النّار، وهي لَهِيبها؛ ومنه مَعْمَعَة الحَرْب---. والمُراوحة بين القَدَمين: أن يُطِيل القِيامَ فيَعْتَمِدَ على إحدى رِجْلَيه مَرّة وعلى الثّانِية اُخْرى).
ودونك لفظ هذا الخبر من (صفة الصفوة) (3/259): (مَن سرَّه أن ينظر إلى أعبد رجل أدركناه في زمانه فلينظر إلى ثابت البناني، فما أدركنا الذي هو أعبد منه، تراه في يوم معمعاني بعيد ما بين الطرفين يظل صائماً ويراوح ما بين جبينه وقدمه).(2/68)
قال هشام بن حسان: ما رأيت أحداً قط أصبر على طول القيام والسهر من ثابت صحبناه مرة إلى مكة فكنا إن نزلنا ليلاً فهو قائم يصلي حتى يصبح وإلا فمتى شئت أن تراه أو وتحس به مستيقظاً ونحن نسير إما باكياً(1) وإما تالياً. (التهجد وصف3/262)
كان ثابت البناني يقوم الليل ويصوم النهار وكان يقول: ما شيء أجده في قلبي ألذ عندي من قيام الليل(2). (التهجد ص233 والصفوة 3/262)
قال جعفر: سمعت ثابتاً يقول: الصلاة خدمة الله في الأرض، فلو علم الله شيئاً في الأرض أفضل من الصلاة ما قال: (فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ)(3). (الشعب 3/155)
قال حماد بن سلمة: سمعت ثابتاً يقول: اللهم إن كنت أعطيت أحداً الصلاة في قبره فأعطنيها(4). (التهجد ص233-234)
قال ثابت: كان رجل من العباد يقول: إذا أنا نمت ثم استيقظت ثم أردت أن أعود إلى النوم فلا أنام الله عيني إذاً، وكانوا يرونه يعني نفسه. (التهجد ص445 وانظر صف 3/261-262)
قال ابن شوذب: ربما مشينا مع ثابت فإذا عدنا مريضاً بدأ بالمسجد الذي في بيت المريض فركع فيه، ثم يأتي المريض. (2/321)
قال حميد: كنا نأتي أنس بن مالك ومعنا ثابت فكلما مر بمسجد صلى فيه(5) فكنا نأتي أنساً فيقول: أين ثابت؟ أين ثابت؟ إن ثابتاً دريبة(6) أحبها. (2/321)
__________
(1) قيل إن أنساً قال لثابت: ما أشبه عينيك بعيني رسول الله، قال: فما زال يبكي حتى عمشت عيناه. (صف3/262)
(2) قال سهل بن أسلم: كان ثابت البناني يصلي في كل ليلة ثلاثمئة ركعة فإذا أصبح ضمرت قدماه فيأخذهما بيده فيعصرهما ثم يقول: مضى العابدون وقُطِعَ بي! والهفاه! (التهجد و صف3/261)
(3) آل عمران (39).
(4) وقال جعفر بن سليمان: سمعت ثابتاً يقول: اللهم إن كنت أذنت لأحد ان يصلي في قبره فأذن لي. (الشعب 3/155)
(5) قال ابن شوذب: ربما مشيت مع ثابت البناني فلا يمر بمسجد إلا دخل فصلى فيه. (2/321)
(6) في بعض الكتب (دويبة).(2/69)
قال ثابت: كان داود نبي الله صلى الله عليه وسلم قد جزأ ساعات الليل والنهار على اهله فلم يكن تأتي ساعة من ساعات الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي فعمهم الله تعالى في هذه الآية (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)(1). (الشعب 3/155)
قال الحجاج بن يزيد: كان طلق بن حبيب يقول: إني لأحب أن أقوم حتى يشتكي ظهري، فيقوم فيبتدئ بالقرآن حتى يبلغ الحجر ثم يركع. (التهجد ص245 و صف3/258)
قال طلق بن حبيب: والله ما أحب الذين لا يصلون بالليل. (التهجد ص410-411)
قال حسان بن عطية: من أطال قيام الليل يهون عليه طول القيام يوم القيامة. (صف4/222)
حج عمرو بن الأسود فلما انتهى إلى المدينة نظر إليه ابن عمر وهو يصلي فسأل عنه فقيل: شامي يقال له: عمرو بن الأسود؛ فقال: ما رأيت أحداً أشبه صلاة ولا هدياً ولا خشوعاً ولا لبسة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الرجل(2). (السير4/79)
كان عمرو بن الأسود يشتري الحلة بمئتين ويصبغها بدينار ويجمرها النهار كله ويقوم فيها الليل كله. (التهجد ص371-372)
قال عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: ما كان أبي يعدل بعراك بن مالك أحداً؛ وقال رجاء بن أبي سلمة قال عمر بن عبد العزيز: ما أعلم أحداً من الناس أكثر صلاة من عراك بن مالك وذلك أنه يركع في كل عشر ويسجد(3). (تهذيب الكمال 19/547 وانظر الشعب 3/158)
__________
(1) سبأ (13).
(2) وقال أحمد في (مسنده): حدثنا أبو اليمان حدثنا أبو بكر بن أبي مريم عن ضمرة بن حبيب وحكيم بن عمير قالا: قال عمر بن الخطاب: من سره أن ينظر إلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلينظر إلى هدي عمرو بن الأسود.
(3) وفي رواية: كان يقرأ في كل ركعة عشر آيات.(2/70)
قال أرطاة: كان ضمرة [بن حبيب الزُّبيدي(1)] إذا قام إلى الصلاة قلت: هذا أزهد الناس في الدنيا فإذا عمل للدنيا قلت: هذا أرغب الناس في الدنيا. (6/103)
قال سليمان التيمي: إني لأحسب أبا عثمان [النهدي] لا يصيب دنيا(2) كان ليله قائماً ونهاره صائماً وإن كان ليصلي حتى يغشى عليه. (التهجد ص469)
قال عمران بن خالد الخزاعي: كان هارون بن رئاب الأسيدي(3) يقوم من الليل للتهجد وربما ردد [هذه] الآية حتى يصبح: (فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(4) ؛ قال: ويبكي، فهو كذلك حتى يصبح، أو قال: يذهب ليل طويل؛ وكان إذا قام للتهجد قام مسروراً. (التهجد 51)
قال عاصم بن أبي النجود: أدركت أقواماً كانوا يتخذون هذا الليل جملاً، منهم زر وأبو وائل. (صف3/30)
قال عمرو بن قيس: ما رفعت رأسي بليلٍ قط إلا رأيت موسى بن أبي عائشة قائماً يصلي. (الزهد الكبير ص209)
__________
(1) حمصي ثقة طبقته في تقريب التهذيب هي الرابعة.
(2) وفي (صف3/200): (ذنباً) مكان (دنيا).
(3) قال المزي في (تهذيب الكمال) (30/83): (قال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه وإسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: ثقة؛ وقال أبو عبيد الآجري: سمعت أبا داود يقول: هارون بن رئاب أبو بكر، يقال انه أجل أهل البصرة؛ قال ابن عيينة: كان عنده أربعة أحاديث؛ وقال النسائي: ثقة؛ وذكره بن حبان في كتاب الثقات وقال: لم يسمع من أنس شيئاً كان من العباد ممن يخفي الزهد، وقال في موضع آخر: كان عابداً متقشفاً وقال أبو محمد علي بن أحمد بن حزم: اليمان وهارون وعلي بنو رئاب: هارون من أهل السنة واليمان من أئمة الخوارج وعلي من أئمة الروافض وكانوا متعادين كلهم).
(4) الأنعام (27)، وأولها (وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا---)(2/71)
قال جرير بن عبد الحميد: رأيت موسى بن أبي عائشة وإذا رأيته ذكرت الله لرؤيته، وكان بين عينيه أثر السجود(1). (صف 3/119)
قالت أم عمر بن المنكدر لعمر: إني لأشتهي أن أراك نائماً! فقال: يا أمه والله إن الليل ليرد علي فيهولني فينقضي عني وما قضيت منه أربي. (التهجد ص186-187 و صف2/145)
قال سفيان حدثني جار لهم قال: لما كان شكوى طلحة كنا عنده فجاءه زبيد فقال: قم فصل فإنك ما علمت تحب الصلاة، فقام يصلي. (5/19)
قال محمد بن طلحة: كان أبي يأمر نساءه وخدمه وبناته بقيام الليل ويقول: صلوا ولو ركعتين في جوف الليل، فإن الصلاة في جوف الليل تحط الأوزار، وهي أشرف أعمال الصالحين. (التهجد ص253 ومختصر منهاج القاصدين ص88)
قال محمد بن سوقة: لو رأيت طلحة(2) وزبيداً لعلمت أن وجههما قد أخلقهما سهر الليل وطول القيام كانا والله ممن لا يتوسد القرآن(3). (التهجد ص178 و صف 3/100)
بلغ منصورَ بن المعتمر [أن] عبد الله بن مسعود [قال]: من يقم الحول يصب ليلة القدر، قال: فقام سنة يصوم النهار ويقوم الليل حتى بلي فصار مثل الجرادة. (التهجد ص214؟)
قال سفيان بن عيينة: كانوا يقولون في ذلك الزمان: إن أطول أهل الكوفة تهجداً طلحة(4) وزبيد وعبد الجبار بن وائل؛ قال الحميدي: فقلت: فمنصور؟ قال: نعم، إنما كان الليل عنده مطية من المطايا متى شئت أصبته قد ارتحله(5). (التهجد ص178 وانظر ص214 منه)
__________
(1) كان موسى بن أبي عائشة يدعى المتهجد من شدة تغير لونه. (صف 3/119)
(2) ابن مصرف.
(3) يريد أنهما ليسا من حفاظ القرآن الذين ينامون بحفظهم عن القيام به في الليل. وقد تصحفت جملة (لا يتوسد القرآن) في بعض الكتب إلى (لا يتوسد الفراش).
(4) ابن مصرف.
(5) قال أبو الأحوص: إن منصور بن المعتمر كان إذا جاء الليل اتزر وارتدى إن كان صيفا وإن كان شتاء التحف فوق ثيابه ثم قام إلى محرابه كأنه خشبة منصوبة حتى يصبح. (3/114 والتهجد ص212-213)(2/72)
سألوا أم منصور بن المعتمر عن عمله قالت: كان ثلث الليل يقرأ وثلثه يبكي وثلثه يدعو. (التهجد ص216)
كان منصور يصلي في سطحِه فلما ماتَ قالَ غلامٌ لأمِّه: يا أمه الجذعُ الذي كان في سطحِ آل فلانٍ ليس أراه! قالت: يا بنيَّ ليس ذاك جذعاً! ذاك منصورٌ، [و]قد مات(1). (5/40)
قال ابن عمر النحوي: كان عمرو بن عتبة بن فرقد يخرج فيركب فرسه في جنح الليل فيأتي المقابر فيقول: يا أهل القبور طويت الصحف ورفعت الأقلام لا يستعتبون من سيئة ولا يستزيدون في حسنة ثم يبكي ثم ينزل عن فرسه فيصف بين قدميه فيصلي حتى يصبح فإذا طلع الفجر ركب فرسه حتى يأتي مسجد حيه فيصلي مع القوم كأنه لم يكن في شيء مما كان فيه. (التهجد ص198 والشعب 3/156 و صف3/70)
قال هشام صاحب الدستوائي: لما مات عمرو بن عتبة بن فرقد دخل بعض أصحابه على أخته فقال: خبرينا عنه قالت: قام ذات ليلة فاستفتح سورة الـ(حم) فأتى على هذه الآية: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ)(2) قالت: فما جاوزها حتى أصبح(3). (التهجد ص394 و صف3/72)
__________
(1) وفي رواية أخرى: قالت ابنة لجار منصور بن المعتمر لأبيها يا أبت أين الخشبة التي كانت في سطح منصور قائمة؟ قال: يا بنية ذاك منصور كان يقوم بالليل. (5/40)
(2) قال تعالى: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ) [غافر 18].
(3) قالت امرأة من آل عمرو بن عتبة: كان عمرو بن عتبة لا يتطوع في المسجد قالت: فصلى العشاء ثم جاء فقام يصلي حتى بلغ: (وأنذرهم يوم الآزفة) قالت: فبكى ثم سقط فمكث كما شاء الله؛ ثم أفاق فقرأ: (وأنذرهم يوم الآزفة) قالت: فبكى ثم سقط؛ فما زال كذلك حتى أصبح ما صلى ولا ركع. (التهجد ص471-472)(2/73)
ضعُف أبو اسحاق عمرو بن عبدِ الله السبيعي قبل موتِهِ بسنتين فما كان يقدرُ أن يقومَ حتى يُقامَ، فكان إذا استتمَّ قائماً قرأ وهو قائمٌ ألف آية. (4/339)
قالَ عونُ بنُ عبدِ الله لأبي اسحاق السبيعي(1): ما بقي منك؟ قال: أصلي فأقرأ البقرة في ركعة! قال: ذهب خيرك وبقي شرك. (4/339)
قال أبو بكر بن عياش: سمعت أبا إسحاق السبيعى يقول: ذهبت الصلاة مني وضعفت ورق عظمي(2) إني اليوم أقوم في الصلاة فما أقرأ إلا البقرة وآل عمران. (التهجد ص195 و صف 3/104-105)
قال سفيان بن عيينة: كان أبو إسحاق يقوم ليله(3)، الصيف كله، فأما الشتاء فأوله وآخره وبين ذلك هجعة(4). (التهجد ص195 و صف3/105)
قال أبو اسحاق: إذا استيقظت بالليل لم أُقِلْ(5) عيني(6). (4/340)
قال أبو بكر بن عياش: رأيتُ حبيبَ بنَ أبي ثابتٍ ساجداً فلو رأيتَهُ قلتَ: ميت - يعني من طول السجود. (5/61)
قالَ ابنُ شُبْرُمة: صحبتُ كرزاً(7) في سفرٍ وكانَ إذا مَرَّ ببقعةٍ نظيفةٍ نزلَ فصلى(8). (5/79)
__________
(1) أي عندما كبر وتقدم به السن أو عندما ضعف.
(2) عُمِّرَ أبو اسحاق فقد توفى وهو ابن ثمان أو تسع وتسعين سنة.
(3) لعلها (ليل) وتكون مضافة إلى الصيف.
(4) قال أبو الأحوص: كان أبو إسحاق يقول: يا معشر الشباب اغتنموا، قل ما تمر بي ليلة إلا وأنا أقرأ فيها ألف آية. (التهجد ص445)
(5) من الإقالة.
(6) يعني أنه متى انتبه من الليل قام إلى صلاته ولو قصرت مدة نومه أو تكرر استيقاظه في تلك الليلة.
(7) قال ابن حجر في (التقريب): (كرز التيمي، أو التميمي، ثقة من الثالثة).
(8) قال ابن شبرمة: صحبنا كرزاً الحارثي فكنا إذا نزلنا إلى الأرض فإنما هو قائل ببصره هكذا ينظر، فإذا رأى بقعة تعجبه ذهب فصلى فيها حتى يرتحل. (صفة الصفوة)
وفي رواية أخرى عن ابن شبرمة قال: صحبت كرزاً فكان إذا نزل يلتفت قبل أن يضرب خباءه، فإذا رأى موضعاً طيباً صلى فيه. (شعب الايمان 3/167)(2/74)
كان ابن محيريز يختم القرآن في سبع، وكان يفرش له فراشه فيوجد على حاله إذا أصبح. (التهجد ص412 وسير أعلام النبلاء 4/495)
قال مولى لابن محيريز: إن ابن محيريز كان إذا قام إلى الصلاة من الليل دعا بالغالية فتضمخ بها حتى تردع ثيابه. (التهجد ص374)
قال عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: كنا نغازي مع عطاء الخراساني فكان يحيى الليلَ صلاةً، فإذ[ا] ذهبَ من الليلِ ثلُثُه أو نِصْفُه نادانا وهو في فسطاطِه يُسمِعُنا: يا عبدَ الرحمنِ بنَ يزيد بنِ جابرٍ، ويا يزيد بن يزيد، ويا هشام بن الغاز، ويا فلان ويا فلان قوموا وتوضؤا وصلوا، فإنَّ قيامَ هذا الليلِ وصيامَ هذا النهارِ أيسرُ من شرابِ الصديدِ ومقطعاتِ الحديدِ، الوحا الوحا، النجا النجا(1)، ثم يقبلُ على صلاته. (5/193)
قال محمد بن إسحاق الثقفي: رأيت في كتاب أبي بكر بن حسان أن أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث كان يقال له: راهب قريش، لكثرة صلاته(2). (صف2/92 وانظر الحلية 2/187)
قال إبراهيم: أصبح همام بن الحارث مرجلاً فقال بعض القوم: إن جمة همام لتخبركم أنه لم يتوسدها الليلة. (الشعب 3/158 والمصنف 7/151)
روى الأعمش عن شمر بن عطية قال: أخذ بيدي أبو عبد الرحمن(3) فقال: كيف قوتك للصلاة؟ قال فذكرت من الضعف ما شاء الله أن أذكر فقال أبو عبد الرحمن: وأنا مثلك أصلي العشاء ثم أقوم فأنا حين أصلي الفجر أبسط مني أول ما بدأت(4). (التهجد ص431-432)
__________
(1) النجا معناه السرعة وكذلك الوحا.
(2) وقال الزبير بن بكار: (كان أبو بكر بن عبد الرحمن يقال له: راهب المدينة).
(3) هو السلمي.
(4) قارن هذه الرواية بهذه: (عن شمر قال: أخذ بيدي أبو عبد الرحمن السلمى فقال كيف قوتك على الصلاة؟ فذكرت ما شاء الله أن أذكره فقال أبو عبد الرحمن كنت مثلك أصلى العشاء ثم أقوم اصلى فأنا حين اصلى الفجر انشط مني أول ما بدأت به). (صف3/58)(2/75)
قال محمد بن إسحاق: قدم علينا عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد حاجاً فاعتلت إحدى قدميه فقام يصلي حتى اصبح على قدم واحدة! قال: وصلى الفجر بوضوء العشاء(1)، قال: وقدم علينا ليث بن أبي سليم فصنع مثلها. (صف3/95 والتهجد ص199 والشعب 3/159)
سجد عبد الله بن غالب ومضى رجل إلى الجسر يشتري علفاً فاشترى حاجته من الجسر ورجع وهو ساجد. (2/257)
لقي الحسن عبد الله بن غالب، فقال له الحسن: لو رفقت! فقال: كلا لا تطعه واسجد واقترب، قال: ثم خر فسجد. (الزهد ص248)
ذكر عون بن أبي شداد أن عبد الله بن غالب كان يصلي الضحى مئة ركعة ثم ينصرف فيقول: لهذا خلقنا وبهذا أُمرنا، يوشك اولياء الله أن يُكْفَوا ويُحْمَدُوا. (الشعب 3/169 ومحاسبة النفس 100)
قال هشيم: مكث منصور بن زاذان يصلي الفجر بوضوء العشاء الآخرة عشرين سنة(2). (التهجد ص455-456)
قال الضحاك: أدركت أقواماً يستحيون من الله في سواد الليل أن يناموا، من طول الضجعة. (الزهد الكبير ص167 ومختصر منهاج القاصدين ص87)
قال عبد الله بن إدريس: ما رأيت الليل على أحد من الناس أخف منه على أبي حيان التيمي صحبناه مرة إلى مكة فكان إذا أظلم الليل فكأنه هذه الزنابير إذا هيجت من عشها. (التهجد ص216 و صف3/119)
قال عبد السلام بن حرب: ما رأيت أصبر على السهر من خلف بن حوشب، سافرت معه إلى مكة فما رأيته نائماً بليل حتى رجعنا إلى الكوفة. (التهجد ص174 و ص206 و صف)
قال زبيد: رأيت زاذان(3) يصلي كأنه جذع قد حفر له. (صف3/59)
__________
(1) عن الأعمش عن عمارة قال: ما كان [الاسود] إلا راهباً من الرهبان. (المصنف 7/151 و صف3/24)
(2) قال أبو عوانة: لو قيل لمنصور بن زاذان: إنك تموت غداً أو بعد غد ما كان عنده مزيد. (التهجد ص240)
(3) هو أبو عمر الكندي مولاهم البزاز، ويكنى أبا عبد الله أيضاً، (ت 82).(2/76)
قال وكيع: حدثنا الأعمش قال: كان يحيى بن وثاب إذا كان في الصلاة كأنه يخاطب رجلاً. (زهد وكيع 1/329: رقم 158)(1)
قال الأعمش: حدثنا عمارة قال: خرجنا معنا أهل لشريح بن هانئ إلى مكة فخرج معنا يشيعنا؛ قال: فكان فيما قال لنا: أجدوا السير فإن ركبانكم لا تغني عنكم من الله شيئاً؛ وما فقد الرجل من الدنيا شيئاً أهون عليه من نعسة تركها؛ قال عمارة: فما ذكرتها من قوله إلا انتفعت بها. (المصنف 7/153 والتهجد ص257)
قالت امرأة أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم: ما اضطجع أبو بكر على فراشه منذ أربعين سنة بالليل. (صف2/132)
قال هلال بن حِقّ: كان حجير بن الربيع يصلي حتى ما يأتي فراشه إلا زحفاً، وما يعدونه من أعبدهم. (صف 3/201؟)
قال عبد العزيز بن أبي رواد: كان المغيرة بن حكيم إذا أراد أن يقوم للتهجد لبس من أحسن ثيابه وتناول من طيب أهله؛ وكان من المتهجدين. (التهجد ص371)
قال أبو وائل: دخلت على الأسود بن هلال فقلت: ليتني وإياك قد مضينا قال بئس ما تقول أليس أسجد كل يوم وليلة أربعا وثلاثين سجدة(2). (4/104)
قال علي بن أبي جملة والاوزاعي وأحمد بن محمد بن كريب: كان علي بن العباس يسجد كل يوم ألف سجدة(3). (3/207 و 6/91 والشعب 3/156 و صف2/107)
تعظيمهم الصوم، واجتهادهم فيه
قال الشعبي: غشي على مسروق في يوم صائف وهو صائم فقالت له ابنته: أفطر! قال: ما أردت بي؟ قالت: الرفق، قال: يا بنية إنما أطلب الرفق لنفسي في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة. (صف3/26)
قال يزيد بن حازم: كان سعيد بن المسيب يسرد الصوم. (صف2/80)
عن هنيدة امرأة ابراهيم النخعي أن ابراهيم كان يصوم يوماً ويفطر يوماً. (4/224)
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة عن وكيع عن الأعمش عن يحيى أنه كان إذا صلى كأنه يخاطب رجلاً، من إقباله على صلاته.
(2) وانظر روايتين أخريين لهذا الخبر بعده في الأصل.
(3) أي خمسمئة ركعة.(2/77)
قال شميط بن عجلان: يا ابن آدم إنما الدنيا غداء وعشاء، فإن أخرت غداءك إلى عشائك أمسى اسمك(1) في ديوان الصائمين. (3/128)
قال ميمون بن مهران: أهونُ الصومِ تركُ الطعامِ والشراب. (4/90)
قال يزيد بن هارون: مات خالد [بن معدان] وهو صائم. (صف4/216)
قال هشام بن عروة: كان أبي ………………لا يفطر ولقد مات يوم مات وهو صائم. (صف2/87)
قال محمد بن واسع: كان خليد العصري يصوم الدهر. (صف3/231)
قال بديل العقيلي: الصيام معقل العابدين. (صف3/266)
قال أبو الغصن ثابت بن قيس: رأيت عراك بن مالك يصوم الدهر. (تهذيب الكمال 19/547)
قال سليمان بن موسى: إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب ودع عنك أذى الخادم وليكن عليك سكينة ووقار ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء. (رك ص100)
أحوالهم في الحج، وتعظيمهم له(2)
__________
(1) كانت (ديوانك).
(2) قال ابن الجوزي في كتاب الحج وأسراره وفضائله وآدابه ونحو ذلك من (منهاج القاصدين) كما في (مختصره):
(واعلم أن في كل واحد من أفعال الحج تذكرة للمتذكر، وعبرة للمعتبر .
فمن ذلك : أن يتذكر بتحصيل الزاد زاد الآخرة من الأعمال، وليحذر أن تكون أعماله فاسدة من الرياء والسمعة، فلا تصحبه ولا تنفعه، كالطعام الرطب الذي يفسد في أول منازل السفر، فيبقى صاحبه وقت الحاجة متحيراً.
فإذا فارق وطنه ودخل البادية وشهد تلك العقبات، فليتذكر بذلك خروجه من الدنيا بالموت إلى ميقات القيامة وما بينهما من الأهوال .
ومن ذلك : أن يتذكر وقت إحرامه وتجرده من ثيابه، إذا لبس المحرم [ملابس] الإحرام لبس كفنه، وأنه سيلقى ربه على زي مخالف لزي أهل الدنيا.
وإذا لبى فليستحضر بتلبيته إجابة الله تعالى إذ قال : (وأذن في الناس بالحج) [الحج 27 ] ، وليرج القبول، وليخش عدم الإجابة.
وكذلك إذا وصل إلي الحرم ينبغي أن يكون الرجاء غالباً، لأن الكرم عميم، وحق الزائر مرعي، وذمام المستجير لا يضيع .
ومن ذلك : إذا رأى البيت الحرام استحضر عظمته في قلبه، وشكر الله تعالى على تبليغه رتبة الوافدين إليه، وليستشعر عظمة الطواف به، فإنه صلاة، ويعتقد عند استلام الحجر أنه مبايع لله على طاعته، ويضم إلى ذلك عزيمته على الوفاء بالبيعة.
وليتذكر بالتعلق بأستار الكعبة والالتصاق بالملتزم لجأ المذنب إلى سيده وقرب المحب .
وأنشد بعضهم في ذلك :
ستور بيتك نيل الأمن منك وقد علقتها مستجيراً أيها الباري
وما أظنك لما أن علقت بها خوفاً من النار تنجيني من النار
وها أنا جار بيت أنت قلت لنا حجوا إليه وقد أوصيت بالجار
ومن ذلك : إذا سعى بين الصفا والمروة، ينبغي أن يمثلها بكفتي الميزان، وتردده بينهما في عرصات القيامة، أو تردد العبد إلى باب دار الملك، إظهاراً لخلوص خدمته، ورجاء الملاحظة بعين رحمته، وطمعاً في قضاء حاجته .
وأما الوقوف بعرفة : فاذكر بما ترى فيه من ازدحام الخلق، وارتفاع أصواتهم واختلاف لغاتهم موقف القيامة، واجتماع الأمم في ذلك الموطن، واستشفاعهم .
فإذا رميت الجمار ، فاقصد بذلك الانقياد للأمر، وإظهار الرق والعبودية، ومجرد الامتثال من غير حظ النفس .
وأما المدينة : فإذا لاحت لك فتذكر أنها البلدة التي اختارها الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وشرع إليها هجرته، وجعل فيها بيته، ثم مثل في نفسك مواضع أقدام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند تردده فيها، وتصور خشوعه وسكينته---).
وقال ابن الجوزي في (التبصرة 2/212 توفيقية): (وينبغي لمن أراد الحج أن يفهم معنى الحج؛ فإنه يشار به إلى التجرد لله عز وجل، ومفارقة المحبوبات؛ وليتذكر بأهوال الطريق الأهوال بعد الموت وفي القيامة؛ وبالإحرام الكفن، وبالتلبية إجابة الداعي؛ وليحضر قلبه لتعظيم البيت؛ وليتذكر بالالتجاء إليه التجاء المذنب؛ وبالطواف الطواف حول دار السيد ليرضى؛ وبالسعي بين الصفا والمروة التردد إلى فناء الدار؛ وبرمي الجمار رمي العدو---).(2/78)
سئل الحسن البصري: ما الحج المبرور؟ فقال: أن تعود زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة. (التبصرة لابن الجوزي - التوفيقية - 2/213)
وقف مطرف بن عبد الله بن الشخير وبكر بن عبد الله المزني بعرفة فقال مطرف: اللهم لا تردَّهم اليوم من أجلي! وقال بكر: ما أشرفه من مقام وأرجاه لأهله لولا أني فيهم(1)
__________
(1) في (روضة العقلاء) عن عبد الله بن بكر بن عبد الله المزني قال: قال أبي: يا بني لو لم أحضر الموسم لرجوت أن يغفر لهم.
وهذه باقة عطرة من أخبار الواقفين بعرفة وغيرهم من حجاج الكعبة المعظمة والمعتمرين والطائفين:
قال المعلى بن عرفان: سمعت أبا وائل يقول: سمعت أبا هريرة يقول: ركاب كثير وحاج قليل. (شعب الإيمان 3/500)
عن عبد الله بن المبارك قال: جئت على سفيان عشية عرفة وهو جاث على ركبتيه وعيناه تهملان فبكيت فالتفت إلي فقال: ما شأنك؟! فقلت: من أسوأ هذا الجمع حالاً؟ قال: الذي يظن أن [الله] لا يغفر لهم. (حسن الظن بالله ص92)
نظر الفضيل بن عياض إلى تسبيح الناس وبكائهم يوم عرفة فقال : أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل يسألونه دانقاً، أكان يردهم ؟ فقيل : لا؛ فقال : والله المغفرة عند الله عز وجل أهون من إجابة رجل لهم بدانق . (مختصر منهاج القاصدين ص514)
قال الأصمعي: دعا أعرابي بمكة فقال: اللهم لا تمنعني خير ما عندك بسوء ما عندي؛ وإن كنتَ لم تقبل تعبي ونصبي، فلا تحرمني أجر المصاب على مصيبته. (شعب الإيمان 3/500)
قال إسحاق بن إبراهيم الطبري: وقفت مع الفضيل بن عياض بعرفات، فلم أسمع من دعائه شيئاً إلا أنه واضع يده على خده، واضع رأسه يبكي بكاء خفياً، فلم يزل كذلك حتى أفاض الإمام فرفع رأسه الى السماء؛ وقال: واسوأتاه والله منك وإن عفوت؛ ثلاث مرات. (شعب الإيمان 3/500 والتبصرة لابن الجوزي 2/142)
قال ابن عيينة: سمعت أعرابياً بعرفة يقول: عجت الأصوات بلغات مختلفات يسألونك الحاجات، وحاجتي إليك أن تذكرني عند البلى إذا نسيني أهل الدنيا. (شعب الإيمان 3/500)
قال الأصمعي: رأيت أعرابياً متعلقاً بأستار الكعبة وهو يقول: اللهم إن كان خلق وجهي عندك لكثرة معاصيّ لك فهبني لمن رضيتَ من خلقك. (شعب الإيمان 3/501)
قال أحمد بن سلمة: رأيت أعرابياً يطوف بالكعبة حتى إذا جاوز البيت رفع طرفه إلى السماء فقال: إليك مددت يَدِيهْ؛ وفيما عندك عظمت رغبتيه؛ فاقبل توبتيه؛ فعرضت على أبي عبد الله الزوزني فقال: لغة جيدة؛ (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ) [الحاقة 28-29]. (شعب الإيمان 3/501)
قال سفيان الثوري: سمعت سواد بعرفة يقول: يا حسن الصحبة أسألك سترك [في الأصل: بسترك] الذي لا تهتكه الرياح ولا تخرقه الرماح. (شعب الإيمان 3/501)
قال الحسن: رأيت بدوية دخلت الطواف فقالت: يا حَسَنَ الصحبة، جئتك من بعدٍ؛ أقبلت أسألك سترك الذي لا تخرقه الرماح، ولا تزيله الرياح. (التدوين في أخبار قزوين 3/419 وصفة الصفوة 2/529)
عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: دخل قوم حجاج ومعهم امرأة تقول: أين بيت ربي؟ فيقولون: الساعة ترينه؛ فلما رأوه قالوا: هذا بيت ربك أما ترينه؟ فخرجت تشتد وتقول: بيت ربي!! بيت ربي!! حتى وضعت جبهتها على البيت؛ فوالله ما رفعت إلا ميتة. (صفة الصفوة 2/529)
قال أبو عبد الله بن طاهر: رأيت في الطواف شيخاً أعجمياً والناس يتضرعون ويدعون، وهو ساكت؛ فقلت له: ألا تدعو؟ فمد يده ورفع بها شيبته، وقال: يا خداه شيخ؛ ولم يزد على ذلك. (صفة الصفوة 2/528)
قال إبراهيم بن مسلم المخزومي: وقفت امرأة متعبدة في جوف الليل فتعلقت بأستار الكعبة؛ ثم بكت وقالت: يا كريم الصحبة، ويا حسن المعونة، أتيتك من شقة بعيدة، متعرضةً لمعروفك الذي وسع خلقك، فأنلني من معروفك معروفاً تغنيني به عن معروف من سواك؛ يا أهل التقوى ويا أهل المغفرة. (صفة الصفوة 2/529)
عن سعيد الأزرق الباهلي أنه قال: دخلت الطواف ليلاً، فبينا أنا أطوف وإذا بامرأة في الحجر ملتزمة للبيت، قد علا نشيجها، فدنوت منها وهي تقول: يا من لا تراه العيون ولا تخالطه الأوهام والظنون، ولا تغيره الحوادث ولا يصفه الواصفون، يا عالماً بمثاقيل الجبال ومكاييل البحار وعدد قطر الأمطار، وورق الأشجار، وعدد ما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار، لا تواري منه سماء سماء، ولا أرض أرضاً، ولا جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره، أسألك أن تجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوم ألقاك، وخير ساعاتي مفارقة الأحياء من دار الفناء إلى دار البقاء التي تكرم فيها من أحببت من أوليائك، وتهين فيها من أبغضت من أعدائك؛ أسألك إلهي عافية جامعة لخير الدنيا والآخرة منّاً منك عليَّ، وتطولاً، يا ذا الجلال والإكرام. (صفة الصفوة 2/529)
قال ذو النون المصري: (خرجت حاجاً إلى بيت الله الحرام فبينا أنا في الطواف إذ أنا بشخص متعلق بأستار الكعبة يبكي ويقول في بكائه: كتمت بلائي من غيرك، وبحت بسري إليك، واشتغلت بك عمن سواك، عجبت لمن عرفك كيف يسلو عنك؟ ولمن ذاق حبك كيف يصبر عنك؟ ثم أقبل على نفسه فقال [يناجي نفسه]: أمهلك فما ارعويت! وستر عليك فما استحييت! وسلبك حلاوة المناجاة فما باليت---). (صفة الصفوة 2/529)(2/79)
. (صف3/248 وانظر محاسبة النفس ص72 و73 و صف 3/223 وروضة العقلاء ص60 والزهد ص244)(1)
قال عطاء الخراساني: إن استطعت أن تخلو عشية عرفة بنفسك فافعل. (الباعث لأبي شامة ص30 والحوادث والبدع ص116)
قال عبد الكريم بن أبي المخارق: قال لنا طاووس: إذا كنتُ في الطواف فلا تسألوني عن شيء، فإنما الطواف صلاة. (الطبقات 5/539)
تعظيم القرآن(2)
__________
(1) عن رجل من بني نهشل قال: قال مطرف بن عبد الله وهو بعرفة: اللهم لا ترد الجميع من أجلي. (صف3/223).
(2) أكتب تعليقاً على هذا العنوان العظيم كلمة في تعظيم أمر القرآن وفي بيان عظم تقصير أكثر المسلمين في هذا العصر في حق هذا الكتاب الكريم فأقول مبتدئاً بمسألة لا تشديد فيها:
(القرآن كِتَابُ من؟ وكلام من؟ وحكم من؟
كل مسلم يقدر أن يجيب على هذا السؤال؟ أليس كذلك؟ ولكن هل يعقل الناس حقيقة هذا السؤال وحقيقة جوابه كما ينبغي لهم؟ هل يفقهون معنى ذلك؟ ألا ليتهم يفقهون!
إن القرآن كتاب اللَّهِ رب العالمين، وما أدراك ما كلام الله؟
نعم، القرآن كلام الله وحكمه المشتمل على نهيه وأمره، فهل قدر الناس هذا الكتاب حق قدره؟ بل هل قدروه كما يطلب منهم ويليق به وبهم؟ اللهم عفواً وغفراً.
القرآن حبل الله الممدود، وعهده المعهود، وظله العميم، وصراطه المستقيم، وحجته الكبرى، ومحجته الوضحى، هو الواضح سبيله، الراشد دليله، الذي من استضاء بمصابيحه أبصر ونجا، ومن أعرض عنها زل وهوى، إنه قرآن عجب، فضائله لا تعد ولا تحسب ولا تستقصى في ألف من الكتب، حجة الله وعهده، ووعيده ووعده، به يعلم الله الجاهل، ويعمل لله العاقل، وينتبه الساهي، ويتذكر اللاهي؛ بشير الثواب، ونذير العقاب، وشفاء الصدور، وجلاء الأمور، من فضائله أنه يقرأ دائباً، ويكتب ويمل فلا يمل؛ ما أهون الدنيا على من جعل القرآن إمامه، وتصور الموت أمامه، طوبى لمن جعل القرآن مصباح قلبه، ومفتاح لبه؛ كتاب وليس كمثله كتاب، فِيهِ خَبَرُ مَا قَبْلنا وَنَبَأُ مَا بَعْدَنا وَحُكْمُ مَا بَيْننا، هُوَ الْفَصْلُ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، لا تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ، وَلا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ رَدٍّ، وَلا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، مَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ دَعَا إلَيْهِ هُدِيَ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ؛ هو كلام الله المبين، وحصنه الأمين، وحجته على العالمين، ورحمته للمؤمنين، ونوره الهادي بإذنه إلى المسلك السليم والصراط القويم، وهو معجزة نبيه الكريم محمد عليه أكمل الصلاة والتسليم، معجزة خالدة إلى يوم الدين، جعله الله شفاء للصدور من أمراض الشهوات والشبهات، وبياناً للبصائر من العمه، وهدى للسائر من الضلالات، وموعظة من الجهالات، ونوراً من الظلمات في الدنيا وعلى الصراط وعند الممات، وفرقاناً بين الحق والباطل والمباحات والمحرمات؛ فصل الله فيه سنة المتقين السعداء لتُسْلَك وبين فيه سبيل المجرمين الأشقياء لتترك؛ وهو كتاب كريم حكيم مَجيد مبارك، لا يهجره إلا خاسر ولا يعرض عنه إلا هالك؛ فيا سبحان الله ما أعظم فضل القرآن على الناس، وما أعظم حق القرآن على الناس، وما أشد تقصير الناس في حق القرآن؛ كم من وضيع بين الناس والقرآن رفعه، وخائف والقرآن منعه، وصائل ظالم والقرآن دفعه، وجبار طاغية والقرآن قمعه، ومتفرق والقرآن جمعه، وجبان قلبٍ والقرآن شجّعه، ووحيد والقرآن آنسه وشفعه، وسقيم والقرآن نفعه؛ ومعرض والقرآن أسمعه، ومنحرف والقرآن أرجعه؛ فسبحانك ما أعظم كتابك وما أجل وأعلى شأنه وأعظمه وأرفعه؛ إنه أسبغ رحمة وأكبر نعمة وأعظم منة تفضل الله بها على الناس، بل كل نعمة وسعادة تنال هذه الأمة في الدنيا والآخرة فسببها الاهتداء به ومتابعته، وكل شقاء وغم وضيق يقع عليها في الدنيا والآخرة فسببه هجره وإضاعته وترك التحاكم إليه وقلة الاعتماد عليه.
ولما كان القرآن الكريم هو كلام الله تبارك وتعالى الذي أنزله على أفضل رسله وخاتمهم واقتضت حكمته أن يكون هذا الكتاب آخر عهد الناس بالوحي، وأراد سبحانه أن يكون المعجزة الخالدة المحفوظة إلى يوم الدين فتحدى به الإنس والجن أجمعين وأنزله إلى أفضل أمة عقلاً وأفصحها قولاً وأصفاها نفساً وأرهفها حساً؛ لذلك كله كان في القرآن من الخصائص العظيمة الحكيمة ما يغلب الحاصر ويأبى على المستقصي ولا يسع الواقف على بعض ذلك إلا السجود لمنزل هذا الكتاب المجيد.
ولما كان حالنا مع القرآن ما ذكرناه، بل كما تعلمه وتراه، فإنه لا بد، لذلك، من أن يقوم العلماء بتعيين الداء ووصف الدواء، لا بد من تذكير العالم وإنذار الظالم وتعليم الجاهل وتنبيه الغافل وتبشير الراشد وتحذير المعاند؛ لا بد من تعظيم القرآن العظيم؛ والله المستعان؛ ولقد قال ابن القيم في (الفوائد) (ص82):
هجر القرآن أنواع أحدها:
هجر سماعه والإيمان به والاصغاء إليه.
والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه وإن قرأه وآمن به.
والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين وأن أدلته لفظية لا تُحَصِّل العلم.
والرابع: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم به منه.
والخامس: هجر الاستشفاء والتداوي به في [لعلها من] جميع أمراض القلب وأدوائها فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به.
وكل هذا داخل في قوله (وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا)، وإن كان بعض الهجر أهون من بعض.
وكذلك الحرج الذي فى الصدور منه فإنه:
تارة يكون حرجاً من إنزاله وكونه حقاً من عند الله.
وتارة يكون من جهة التكلم به أو كونه مخلوقاً من بعض مخلوقاته ألْهَمَ غيرَه أن تكلم به.
وتارة يكون من جهة كفايته وعدمها وأنه لا يكفي العباد بل هم محتاجون معه إلى المعقولات والأقيسة أو الأراء أو السياسات.
وتارة يكون من جهة دلالته وهل [في الأصل: (وما) بدل (وهل)] أريد به حقائقه المفهومة منه عند الخطاب أو أريد به تأويلها وإخراجها عن حقائقها إلى تأويلات مستكرهة مشتركة.
وتارة يكون من جهة كون تلك الحقائق وإن كانت مرادة فهي ثابتة في نفس الأمر أو أوهم أنها مرادة لضرب من المصلحة؟!
فكل هؤلاء في صدورهم حرج من القرآن وهم يعلمون ذلك من نفوسهم ويجدونه في صدورهم؛ ولا تجد مبتدعاً في دينه قط إلا وفي قلبه حرج من الآيات التي تخالف بدعته؛ كما أنك لا تجد ظالماً فاجراً إلا وفى صدره حرج من الآيات التي تحول بينه وبين إرادته. فتدبر هذا لمعنى ثم ارض لنفسك بما تشاء. انتهى.
وبيَّن ابن القيم أيضاً معنى التلاوة فقال في (مفتاح دار السعادة) (1/41-42) في أثناء كلامه على بعض مسائل القلوب:
(والقلب السليم الذي ينجو من عذاب الله؛ هو القلب الذي قد سلم من هذا وهذا؛ فهو القلب الذي قد سلم لربه، وسلم لأمره، ولم تبق فيه منازعة لأمره ولا معارضة لخبره؛ فهو سليم مما سوى الله وأمره، لا يريد إلا الله ولا يفعل إلا ما أمره الله؛ فالله وحده غايته؛ وأمره وشرعه وسيلته وطريقته؛ لا تعترضه شبهة تحول بينه وبين تصديق خبره؛ لكن لا تمر عليه إلا وهي مجتازة تعلم أنه لا قرار لها فيه؛ ولا شهوة تحول بينه وبين متابعة رضاه.
ومتى كان القلب كذلك فهو سليم من الشرك وسليم من البدع وسليم من الغي وسليم من الباطل؛ وكل الأقوال التي قيلت في تفسيره فذلك يتضمنها؛ وحقيقته أنه القلب الذي قد سلم لعبودية ربه حياء وخوفاً وطمعاً ورجاء، ففنى بحبه عن حب ما سواه، وبخوفه عن خوف ما سواه، وبرجائه عن رجاء ما سواه، وسلم لأمره ولرسوله تصديقاً وطاعة كما تقدم؛ واستسلم لقضائه وقدره فلم يتهمه ولم ينازعه ولم يتسخط لأقداره؛ فأسلم لربه انقياداً وخضوعاً وذلاً وعبودية، وسلم جميع أحواله وأقواله وأعماله وأذواقه ومواجيده ظاهراً وباطناً من مشكاة رسوله [صلى الله عليه وسلم] وعرض ما جاء من سواها عليها، فما وافقها قبله وما خالفها رده، وما لم يتبين له فيه موافقة ولا مخالفة وقف أمره وأرجأه إلى أن يتبين له؛ وسالم أولياءه وحزبه المفلحين الذابين عن دينه وسنة نبيه القائمين بها؛ وعادى أعداءه المخالفين لكتابه وسنة نبيه الخارجين عنهما الداعين إلى خلافهما--- وهذه المتابعة هي التلاوة التي أثنى الله على أهلها في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ [وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ]) وفي قوله (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [البقرة 121]؛ والمعنى يتبعون كتاب الله حق اتباعه؛ وقال تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ) [العنكبوت 45]؛ وقال: (إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ) [النمل 91-92].
فحقيقة التلاوة في هذه المواضع هي التلاوة المطلقة التامة؛ وهي تلاوة اللفظ والمعنى؛ فتلاوة اللفظ جزء مسمى التلاوة المطلقة.
وحقيقة اللفظ إنما هي الاتباع، يقال: اتل أثر فلان، وتلوت أثره وقفوته وقصصته بمعنى تبعت خلفه؛ ومنه قوله تعالى (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا) [الشمس 1-2]، أي تبعها في الطلوع بعد غيبتها، ويقال: جاء القوم يتلو بعضهم بعضاً، أي يتبع.
وسمي تالي الكلام تالياً لأنه يتبع بعض الحروف بعضاً لا يخرجها جملة واحدة، بل يتبع بعضها بعضاً مرتبة كلما انقضى حرف أو كلمة اتبعه بحرف آخر وكلمة أخرى؛ وهذه التلاوة وسيلة وطريقة والمقصود التلاوة الحقيقية، وهي تلاوة المعنى واتباعه، تصديقاً بخبره، وائتماراً بأمره، وانتهاء بنهيه، وائتماماً به، حيثما قادك انقدت معه.
فتلاوة القرآن تتناول تلاوة لفظه ومعناه؛ وتلاوة المعنى أشرف من مجرد تلاوة اللفظ؛ وأهلها هم أهل القرآن الذين لهم الثناء في الدنيا والآخرة؛ فإنهم أهل تلاوة ومتابعة حقاً).(2/80)
قال مسروق: ما نسأل أصحاب محمد [صلى الله عليه وسلم] عن شيء إلا علمه في القرآن إلا أن علمنا يقصر عنه. (العلم ص15)
قال هشام بن مسلم القرشي: كنت مع ابن محيريز بمرج الديباج فرأيت منه خلوة فسألته عن مسألة؛ فقال لي: ما تصنع بالمسائل؟ قلت: لولا المسائل لذهب العلم؛ قال: لا تقل: ذهب العلم؛ إنه لا يذهب العلم ما قرئ القرآن؛ ولكن لو قلت: يذهب الفقه. (سنن الدارمي 1/63)
قال قتادة: لم يجالس هذا القرآنَ أحدٌ إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، قضاء الله الذي قضى: (شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً)(1). (أخلاق حملة القرآن ص101-102 و رك ص272 وسنن الدارمي 2/438 وفضائل القرآن لأبي عبيد وفضائل القرآن للفريابي وجمال القراء للسخاوي 1/119)
عن ليث عن مجاهد (شفاء للناس)، قال: الشفاء في القرآن. (المصنف 30021)
قال عطاء: إنما القرآن عِبر، إنما القرآن عِبر. (أخلاق حملة القرآن ص40)
قال ابن عون: ثلاث أحب لنفسي ولإخواني: هذه السنة أن يتعلموها ويسألوا عنها(2)؛ والقرآن أن يتفقهوه ويسألوا عنه؛ ويدَعوا الناس إلا من خير(3). (صحيح البخاري تعليقاً 13/248ـ فتح الباري، والزهد الكبير ص96)
قال الحسنُ: واللهِ لا يؤمنُ عبدٌ بهذا القرآنِ إلا حزِنَ وذبلَ وإلا نصبَ وإلا ذابَ و إلا تعِبَ. (2/133)
قال حوشب: سمعت الحسن يحلف بالله يقول: والله يا ابن ادم لئن قرأت القران ثم آمنت به ليطولَنَّ في الدنيا حزنُك، وليشتدَّنَّ في الدنيا خوفك، وليكثرَنَّ في الدنيا بكاؤك. (الزهد ص259 والسير 4/574)
__________
(1) الإسراء (82).
(2) قال ابن مهدي: ما كان بالعراق أحداً أعلم بالسنة من ابن عون. (صف 3/309)
(3) لفظ (الزهد الكبير): (ثلاث أحبهن لنفسي ولأصحابي، فذكر قراءة القرآن، والسنة، والثالثة: أقبل رجل على نفسه ولهى من الناس إلا من خير).(2/81)
قال أبو حازم: كنتَ ترى حامل القرآن في خمسين رجلاً فتعرفه، قد مصعه القرآن، وأدركت القراء الذين هم القراء؛ فأما اليوم فليسوا بقرّاء ولكنهم---(1). (3/246)
قال أبو عمران الجوني: والله لقد صرف إلينا ربنا عز وجل في هذا القرآن ما لو صرفه إلى الجبال لهتها(2) وحناها. (3/311)
عن إسماعيل بن محمد بن جحادة عن أبيه قال: قلت: لأم(3) ولد الحسن البصري ما رأيت منه؟ قال: رأيته فتح المصحف فرأيت عينيه تسيلان وشفتيه لا يتحركان. (2/411)
قال عبد الله بن رباح: كان صفوان [بن محرز] (4) إذا قرأ هذه الآية (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُون)(5) بكى حتى أقول: اندق قصيص زوره. (2/214)
قال محمد بن واسع: القرآن بستان العارفين فأينما حلوا منه حلوا في نزهة. (2/347)
كان مالك بن دينار يقول: من لم يأنس بحديث الله عن حديث المخلوقين فقد قلَّ علمُهُ، وعَمِيَ قلبُه، وضيَّع عمرَه. (روضة العقلاء ص85)
قال مالك بن دينار: يا حملة القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟! فإن القرآن ربيع المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض؛ وقد ينزل الغيث من السماء إلى الأرض فيصيب الحش فيكون فيه الحبة فلا يمنعها نتن موضعها أن تهتز وتخضر وتَحْسُن! فيا حملة القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟! أين أصحاب سورة؟! أين أصحاب سورتين؟! ماذا عملتم فيهما؟! (صف3/273-274)
قال مالك بن دينار: إن الصديقين إذا قرىء عليهم القرآن طربت قلوبهم إلى الآخرة. (صف3/286)
__________
(1) كان هنا كلمة شديدة فحذفتها.
(2) كذا في الأصل ويحتمل أنها مصحفة عن (لهدها).
(3) في الأصل (ثم)؛ ولعل ما أثبته يكون هو الصحيح.
(4) صفوان بن مُحْرِز بن زياد المازني أو الباهلي، ثقة عابد من الرابعة، (ت 74)، كذا في (التقريب).
(5) الشعراء (227).(2/82)
قالت أم محمد بن كعب القرظي لابنها: يا بني لولا أني أعرفك صغيراً طيباً وكبيراً طيباً لظننت أنك أحدثتَ ذنباً موبقاً لما أراك تصنع بنفسك في الليل والنهار! قال: يا أماه وما يؤمنني أن يكون الله قد اطلع علي وأنا في بعض ذنوبي فمقتني فقال: اذهب لا أغفر لك؟! مع أن عجائب القرآن تورد علي أموراً حتى أنه لينقضي الليلُ ولم أفرغْ من حاجتي. (3/214)
قال محمد بن كعب: لأن أقرأَ في ليلة حتى أصبح (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا)(1) و(القارعة) لا أزيد عليهما، وأتردد فيهما وأتفكر: أحب الي من أن أهدر القرآن هدراً(2)، أو قال: أنثره نثراً. (3/214-215 و رك ص97)
قال خلف بن حوشب: قال إبراهيم: ما ذكرت هذه الآية إلا ذكرت برد الشراب: (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ)(3). (4/228)
قال الحسن: قراء القرآن ثلاثة: فرجل اتخذه بضاعة ينقله من مصر إلى مصر يطلب به ما عند الناس؛ وقوم قرأوا القرآن فحفظوا حروفه وضيعوا حدوده، استدرجوا به الولاة واستطالوا به على أهل بلادهم، فتجد كثر هذا الضرب في حملة القرآن لا أكثرهم الله؛ ورجل قرأ القرآن فبكى بما يعلم من دواء القرآن، فوضعه على داء قلبه فسهر لله، وهملت عيناه، تسربلوا الحزن وارتدوا بالخشوع وكدوا في محاريبهم، وحنوا في برانيسهم؛ فبهم يسقي الله الغيث وينزل النصر ويرفع البلاء؛ والله لهذا الضرب في حملة القرآن أقل من الكبريت الأحمر. (الهم والحزن ص92 والشعب 2/531 وفضائل القرآن لأبي عبيد وأخلاق حملة القرآن للآجري ص87-88 وجمال القراء لعلم الدين السخاوي 1/106 و رك 274 وقيام الليل لمحمد بن نصر)
__________
(1) يعني سورة الزلزلة.
(2) وقع في أكثر من كتاب (أهذّ القرآن هذاً).
(3) سبأ (54).(2/83)
قال الحسن: إنه تعلم هذا القرآن عبيد وصبيان لم يأتوه من قبل وجهه ولا يدرون ما تأويله؛ قال الله تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ)(1) ما تدبُّر آياتِه؟!: إتباعه بعمله، وإن أولى الناس بهذا القرآن من اتبعه وإن لم يكن يقرؤه، يقول أحدهم: يا فلان تعال أقارئك، متى كانت القراء تفعل هذا؟!! ما هم بالقراء ولا الحلماء ولا الحكماء، لا أكثر الله في الناس أمثالهم. (اقتضاء العلم العمل ص70-71)(2)
قال ميمون بن مهران: إنَّ هذا القرآنَ قد خَلُق(3) في صدرِ كثيرٍ من الناس، والتَمَسُوا ما سواه من الأحاديث! وإنَّ فيمن يبتغي هذا العلمَ من يتخذُه بضاعةً يلتمسُ بها الدنيا، ومنهم من يريدُ أن يُشارَ إليه، ومنهم من يريدُ أنْ يماريَ به؛ وخيرُهم من يتعلمُه ويطيعُ اللهَ عز وجل به. (4/84)
قال ميمون بن مهران: لو أنَّ أهلَ القرآنِ صلحوا(4) لصلح الناس. (4/83)
__________
(1) سورة ص (29).
(2) وهذه رواية (شعب الإيمان) (2/541): (قال الحسن: إن هذا القرآن قرأه عبيد وصبيان لم يأخذوه من أوله ولا علم لهم بتأويله؛ إن أحق الناس بهذا القرآن من رؤي في عمله، قال الله عز وجل: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) وإنما تدبُّرُ آياته اتباعه بعمله؛ يقول أحدهم لصاحبه: تعال أقارئك والله ما كانت القراء تفعل هذا؛ والله ما هم بالقراء ولا الورعة لا أكثر الله في الناس أمثالهم، لا أكثر الله في الناس أمثالهم).
(3) في (مختار الصحاح) (ص78): (وثوب خلق: أي بالٍ، يستوي فيه المذكر والمؤنث لأنه في الأصل مصدر الأخْلَقِ وهو الأملس، والجمع خُلْقَانٌ، وخَلُقَ الثوبُ: بليَ، وبابه سهل، وأخْلَقَ أيضاً مثله).
(4) في الأصل (أصلحوا).(2/84)
قال يونس بن عبيد: كان طاعون قِبَلَ بلادِ ميمون فكتبتُ إليه أسأله(1) عن أهله، فكتب إلي: بلغني كتابُكَ تسألني عن أهلي، وإنَّه مات من أهلي وخاصتي سبعة عشرَ إنساناً؛ وإني أكرهُ البلاءَ إذا أقبل، فإذا أدبرَ لم يسرَّني أنه لم يكن؛ أمّا أنتَ فعليكَ بكتاب الله؛ وإنَّ الناسَ قد لهوا عنه، يعني نسوه، واختاروا عليه الأحاديثَ أحاديثَ الرجال! وإياك والمراء في الدين. (4/90)
عن عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن زيد عن أيوب قال: قال رجل لمطرف : أفضل من القرآن تريدون؟! قال: لا، ولكن نريد من هو أعلم بالقرآن منا. (العلم لأبي خيثمة ص25)
قال إياس بن معاوية: مثل من يقرأ القرآن ومن يعلم تفسيره أو لا يعلم مثل قوم جاءهم كتاب من صاحب لهم ليلاً وليس عندهم مصباح فتداخلهم لمجيء الكتاب روعة لا يدرون ما فيه فإذا جاءهم المصباح عرفوا ما فيه. (زاد المسير 1/4)
قال الضحاك: ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيه إلا بذنب يحدثه وذلك بأن الله تعالى يقول: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ)(2)، ونسيان القرآن من أعظم المصائب. (رك ص28)
ذكرَ عمرُ بن عبد العزيز ما مضى من العدلِ والجورِ وعنده هشامُ بنُ عبدِ الملِك فقال هشام: إنا والله لا نعيبُ آباءنا ولا نضعُ شرفَنا في قومِنا! فقال عمر: وأيُّ عيبٍ أعيبُ مما عابه القرآن؟! (5/273)
قال خالد بن دينار: سمعت أبا العالية قال: كنا نعد من أعظم الذنوب أن يتعلم الرجل القرآن ثم ينام عنه حتى ينساه. (صف3/ 212)
قال أبو بكر بن أبي داود: ليس أحد بعد الصحابة أعلم بالقرآن من أبي العالية ثم سعيد بن جبير. (طبقات المفسرين للداودي 1/173)
__________
(1) كان قبل هذه الكلمة (أن) فحذفتها.
(2) الشورى (30).(2/85)
قال محمد بن خالد الضبي: لم نكن ندري كيف يقرأ خيثمة [بن عبد الرحمن] القرآن حتى مرض فثقل فجاءته امرأة فجلست بين يديه فبكت فقال لها: ما يبكيك؟! الموت لا بد منه؛ فقالت له المرأة: الرجال بعدك علي حرام، فقال لها خيثمة: ما كل هذا أردت منك إنما كنت أخاف رجلاً واحداً وهو أخي محمد بن عبد الرحمن وهو رجل فاسق يتناول الشراب فكرهت أن يشرب في بيتي الشراب بعد إذ القرآن يتلى فيه كل ثلاث. (صف 3/94)
قال سعيد بن جبير: ما أتت علي ليلتان إلا وأنا أختم فيهـ[ـمـ]ـا القرآن. (التهجد ص243 وانظر صف3/ 77)
قال أبو صالح العقيلي: كان يزيد [بن عبد الله بن الشخير] (1) يقرأ في المصحف حتى يغشى عليه. (صف3/232)
قال عمر بن محمد بن المنكدر: كنت أمسك على أبي المصحف قال: فمرت مولاة له فكلمها فضحك إليها، ثم أقبل يقول: إنا لله إنا لله، حتى ظننت أنه قد حدث شيء، فقلت: ما لك؟ فقال: أما كان لي في القرآن شغل حتى مرت هذه فكلمتُها؟ (صف2/142)
قال شعبة: كان ثابت البناني يقرأ القرآن في يوم وليلة ويصوم الدهر. (2/321)
قال ثابت البناني: ما تركت في مسجد الجامع سارية إلا وقد ختمت القرآن عندها وبكيت عندها. (2/321)
عن قطبة عن الأعمش قال: بتنا ليلة سبع وعشرين من رمضان في مسجد الاياميين عند طلحة وزبيد، فأما زبيد فختم القرآن بليل ثم رجع الى أهله، وأما طلحة فكرر فيه حتى ختم مع الصبح، أو قال: مع الفجر. (5/18)
قال رجل لابراهيم النخعي: إني أختم القرآن كل ثلاث، فقال: ليتك تختمه كل ثلاثين وتدري أيَّ شيءٍ تقرأ. (العقد الفريد 6/59)
__________
(1) هو أخو مطرف، وكان يقول: إنَّ صاحبَ النار الذي لا تمنعه مخافة الله من شيء خفي له.(2/86)
قال شعبة: كان سعد بن إبراهيم يصوم الدهر(1) ويختم كل ثلاث؛ أو قال: كل يوم وليلة(2). (التهجد ص465 و ص396 و صف2/146)
قال ابن سعد بن إبراهيم: كان أبي يحتبي فما يحل حبوته حتى يقرأ القرآن. (صف2/146)
قال إبراهيم بن عمر: كان جزء المغيرة بن حكيم في يومه وليلته القرآن كله يقرأ في صلاة الصبح من (البقرة) إلى (هود) ويقرأ قبل الزوال إلى أن يصلي العصر من هود إلى الحج ثم يختم. (صف2/296)
قال ابراهيم بن عمر: سافر المغيرة بن حكيم إلى مكة أكثر من خمسين سفراً، حافياً محرماً صائماً، لا يترك صلاة السحر في سفره، إذا كان السحر نزل فصلى ويمضي أصحابه فإذا صلى الصبح لحق متى ما لحق. (صف2/296)
ذكر سلام بن أبي مطيع عن قتادة أنه كان يختم القرآن في كل سبع ليال مرة، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة مرة. (صف3 / 259)
قال ابراهيم: كان علقمة يختم القرآن في كل خمس. (صف3 / 27)
عن معضد قال: لولا ثلاث: ظمأ الهواجر وطول ليل الشتاء ولذاذة التهجد بكتاب الله عز وجل ما باليت أن أكون يعسوباً(3). (فضائل القرآن لأبي عبيد ص128 والحلية 4/159 و صف3/43)
قال محمد بن كعب القرظي: من قرأ القرآن متع بعقله وإن بلغ مئتي سنة. (صف2/133)
قال إبراهيم النخعي: كان أصحابنا يكرهون تفسير القرآن ويهابونه. (4/222)
قال إبراهيم النخعي: كانو يكرهون أن يصغروا المصحف، قال: وكان يقال: عظموا كتاب الله. (4/230)
__________
(1) عن عبيد الله بن سعد الزهري عن عمه عن أبيه قال: سرد أبي سعد بن إبراهيم الصوم أربعين سنة. (صف 2/146)
(2) قال ابن سعد بن إبراهيم: كان أبي إذا كانت ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين وخمس وعشرين وسبع وعشرين وتسع وعشرين لم يفطر حتى يختم القرآن؛ وكان يفطر فيما بين المغرب والعشاء الآخرة؛ وكان كثيراً إذا أفطر يرسلني إلى مساكين فيأكلون معه. (صف2/147)
(3) اليعسوب ذكر النحل؛ وهذا الأثر رواه عن معضد بلال بن سعد وغيره.(2/87)
قال الحسن: أدب القرآن هو الخلق العظيم. (أمراض القلوب ص22)
قال ابن المبارك: أخبرنا فضيل بن مرزوق عن عطية العوفي في قول الله تعالى ([وَ]إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(1) قال: على أدب القرآن. (رك ص237)
روى قتادة عن الحسن أنه قال: ما أنزل الله آية إلا أحب أن أعلم فيم أنزلت وماذا عنى بها. (زاد المسير 1/4)
قال الحسن: نزل القرآن ليتدبر ويعمل به، فاتَّخَذوا تلاوته عملاً. (المدارج 1/451 ومفتاح دار السعادة 1/187)
قال ميمون بن مهران: من تبعَ القرآنَ قادهُ القرآنُ حتى يحلَّ بهِ في الجنةِ، ومن تركَ القرآنَ لمْ يدعْهُ القرآنُ، يتبعهُ حتى يقذفَهُ في النار. (4/84)
قال مجاهد: إن القرآن يقول: إني معك ما اتبعتني فإذا لم تعمل بي اتبعتك. (صف2/209)
عن مجاهد في قول الله عز وجل (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ)(2) قال: يعملون به حق عمله(3). (أخلاق حملة القرآن ص40-41 و70-71 رك ص273 وجامع البيان 1/520)
كان الحسن يقول: اتهموا رأيكم وأهواءكم على دين الله وانتصحوا كتاب الله على أنفسكم ودينكم. (الزهد ص271)
قال الحسن: قال عثمان(4): لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا وإني لأكره أن يأتي علي يوم لا أنظر في المصحف؛ وما مات عثمان حتى خرق مصحفه من كثرة ما يديم النظر فيه. (البداية والنهاية 7/215)
قال الحسن: كان رجل يكثر غشيان باب عمر، قال: فقال له عمر: اذهب فتعلم كتاب الله تعالى، قال: فذهب الرجل ففقده عمر ثم لقيه فكأنه عاتبه فقال: وجدت في كتاب الله ما أغناني عن باب عمر. (المصنف 7/236)
__________
(1) القلم (4).
(2) البقرة (121).
(3) عن سفيان الثوري عن منصور عن أبي رزين في قوله تعالى (يتلونه حق تلاوته) قال: يتبعونه حق اتباعه، يعملون به حق عمله. (اقتضاء العلم العمل ص76)
(4) رضي الله تعالى عنه.(2/88)
قال الحسن: من أحب أن يعلم ما هو فليعرض نفسه على القرآن(1). (رك ص13 وأخلاق حملة القرآن ص40)
قال الحسن: اقرأ القران ما نهاك فإذا لم ينهك فلستَ تقرؤه، رب حامل فقه غير فقيه، ومن لم ينفعه علمه ضره جهله. (الزهد ص285)
قال رجل للحسن: يا أبا سعيد إني إذا قرأت كتاب الله عز وجل وتدبرت ونظرت في عملي كدت أن آيس وينقطع رجائي؛ فقال له الحسن: إن القرآن كلام الله عز وجل وأعمال بني آدم إلى الضعف والتقصير فاعمل وأبشر(2). (السنة لعبد الله 1/137 والحلية 9/217)
ذكر الحسن أن قوماً أتوا عمر فقالوا: نرى أشياء من كتاب الله لا يعمل بها فقال لرجل منهم: أقرأت القرآن كله؟ قال: نعم، قال: فهل أحصيته في نفسك؟ قال: اللهم لا، قال: فهل أحصيته في بصرك؟ فهل أحصيته في لفظك؟ هل أحصيته في أثرك؟ ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم ثم قال: ثكلت عمر أمه أتكلفونه أن يقيم على الناس كتاب الله؟! قد علم ربنا أنه سيكون لنا سيئات، قال: وتلا (إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً)(3)
__________
(1) عن ابن مسعود قال: لا يسأل عبد عن نفسه إلا القرآن، فإن كان يحب القرآن فإنه يحب الله ورسوله. (رك ص388 وفضائل القرآن لأبي عبيد وقيام الليل لمحمد بن نصر).
وعن إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله [بن مسعود] قال: من أحب القرآن فليبشر. (سنن الدارمي 2/525)
(2) وهذه رواية أخرى، من كتاب (السنة) لعبد الله بن أحمد (1/151): أتى رجل الحسن فقال له يا أبا سعيد إني إذا قرأت كتاب الله عز وجل فذكرت شروطه وعهوده ومواثيقه قطع رجائي فقال له الحسن ابن أخي إن القرآن كلام الله عز وجل إلى القوة والمتانة وإن أعمال ابن آدم إلى الضعف والتقصير ولكن سدد وقارب وأبشر.
(3) النساء (31).
وهذه آثار أخر في باب الكلام عن القرآن غير ما تقدم:
عن أبي إسحاق قال: قال عمر بن الخطاب: لا يغرركم من قرأ القرآن إنما هو كلام نتكلم به ولكن انظروا من يعمل به. (اقتضاء العلم العمل ص71)
عن عبد الصمد بن يزيد قال: سمعت الفضيل يقول: إنما نزل القرآن ليعمل به فاتخذ الناس قراءته عملاً، قال: قيل: كيف العمل به؟ قال: أي ليحلوا حلاله ويحرموا حرامه ويأتمروا بأوامره وينتهوا عن نواهيه ويقفوا عند عجائبه. (اقتضاء العلم العمل ص76)
عن أحمد بن أبي الحواري قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: والله لا تبلغوا ذروة هذا الأمر حتى لا يكون شيء أحب إليكم من الله عز وجل؛ ومن أحب القرآن فقد أحب الله عز وجل. (الشعب 1/365)
عن الفضل بن عياض قال: كفى بالله محباً وبالقرآن مونساً وبالموت واعظاً وكفى بخشية الله علماً و[بـ]الاغترار بالله جهلاً. (الشعب 1/377)
قال الفضيل: ينبغي لحامل القرآن أن لا تكون له حاجة إلى أحد من الناس، إلى الخليفة فمن دونُ، وينبغي أن تكون حوائج الخلق إليه. (أخلاق حملة القرآن ص85)
قال خلف بن تميم: مات أبي وعليه دين، فأتيت حمزة الزيات [ت 156 أو 158هـ] فسألته أن يكلم صاحب الدين أن يضع عن أبي من دينه شيئاً، فقال لي حمزة رحمه الله: ويْحَك، إنه يقرأ علي القرآن، وأنا أكره أن أشرب من بيت من يقرأ علي القرآنَ الماءَ. (أخلاق حملة القرآن ص85)
قال الآجري: والقليل من الدرس للقرآن مع الفكر فيه وتدبره أحب إلي من قراءة الكثير من القرآن بغير تدبر ولا تفكر فيه، وظاهر القرآن يدل على ذلك والسنة وقول أئمة من المسلمين. (أخلاق حملة القرآن ص109)
وقال ابن القيم في (الفوائد) (ص71): وأنت إذا تدبرت القرآن وأجرته من التحريف وأن تقضي عليه بآراء المتكلمين وأفكار المتكلفين: أشهَدَك ملكاً قيوماً فوق سماواته على عرشه، يدبر أمر عباده، يأمر وينهى ويرسل الرسل وينزل الكتب، ويرضى ويغضب ويثيب ويعاقب، ويعطي ويمنع ويعز ويذل ويخفض ويرفع، يرى من فوق سبع [سماوات] ويسمع، ويعلم السر والعلانية، فعال لما يريد، موصوف بكل كمال، منزه عن كل عيب، لا تتحرك ذرة فما فوقها إلا بإذنه، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه، ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه؛ ليس لعباده من دونه ولي ولا شفيع.(2/89)
. (جامع العلوم والحكم ص178)
قال سعيد بن جبير: اقرأوا القرآن صفاء لله ولا تنطعوا فيه(1). (المصنف 30029)
قال ابن سيرين: البيت الذي يقرأ فيه القرآن تحضره الملائكة وتخرج منه الشياطين ويتسع بأهله ويكثر خيره والبيت الذي لا يقرأ فيه القرآن تحضره الشياطين وتخرج منه الملائكة ويضيق بأهله ويقل خيره(2). (المصنف 30023)
قال إبراهيم [النخعي]: كانوا يكرهون أن يتكلموا في القرآن. (الصمت ص293)
المعاصي وعقوباتها في الدنيا(3)
قال الحسن: إن عمران بن حصين ابتلي في جسده فقال: ما أراه إلا بذنب وما يعفو الله أكثر وتلا ([وَ]مَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)(4). (الشعب 7/153)
قال الحسن: إن الرجل كان يشاك الشوكة يقول: إني لأعلم أنك بذنب وما ظلمني ربي عز وجل. (الزهد ص282)
__________
(1) قال حذيفة: إن أقرأ الناس المنافق الذي لا يدع واواً ولا ألفاً يلفه كما تلف البقر ألسنتها لا يجاوز ترقوته. (المصنف 30030)
(2) عن ثابت قال: كان أبو هريرة يقول: البيت إذا تلي فيه كتاب الله اتسع بأهله وكثر خيره وحضرته الملائكة وخرجت منه الشياطين والبيت الذي لم يتل فيه كتاب الله ضاق بأهله وقل خيره وتنكبت عنه الملائكة وحضره الشياطين. (المصنف 30027)
وعن ابن مسعود قال: البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن كمثل البيت الخرب الذي لا عامر له. (المصنف 30022)
وعنه أيضاً قال: إن أصفر البيوت الذي أصفر من كتاب الله. (المصنف 30024)
وعن ليث عن ابن سابط قال: إن البيوت التي يقرأ فيها القرآن لتضيء لأهل السماء كما تضيء السماء لأهل الأرض قال وإن البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن ليضيق على أهله وتحضره الشياطين وتنفر منه الملائكة وإن أصفر البيوت لبيت صفر من كتاب الله. (المصنف 30025)
(3) أحسن من تكلم في هذا الموضوع كلاماً فيه هو العالم الجليل ابن القيم رحمه الله تعالى، في كتابه الفذ (الجواب الكافي).
(4) الشورى (30).(2/90)
قال بلال بن سعد: إن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا أهلها؛ وإذا أظهرت فلم تغير ضرت العامة. (صف 4/217)
قال زيد بن أسلم: بلغنا أن لقمان قال لابنه: يا بني إذا فعلت الخير فارج الخير، وإذا فعلت الشر فلا تشك أن يفعل بك الشر. (الزهد الكبير ص284)
قال عطاء الخراساني: إذا كان خمس كان خمس: إذا أكل الربا كان الخسف والزلزلة، وإذا جار الحكام قحط المطر، وإذا ظهر الزنا كثر الموت، وإذا منعت الزكاة هلكت الماشية، وإذا تعدى على أهل الذمة كانت الدولة. (التذكرة 2/166 والحلية)
قال ميمون بن مهران: إن العبدَ إذا أذنبَ ذنباً نكتَ في قلبه بذلك الذنب نكتة سوداء، فإنْ تابَ محيت من قلبِه، فترى قلبَ المؤمنِ مجليـ[ـاً] مثلَ المرآة، ما يأتيه الشيطان من ناحية إلا أبصرَه(1)؛ وأما الذي يتتايع(2) في الذنوب، فإنه كلما أذنبَ ذنباً نُكتَ في قلبه نكتة سوداء، فلا يزالُ يُنكَتُ في قلبِهِ حتى يسودَّ قلبُه ولا يبصرَ الشيطان من حيثُ يأتيه. (4/89)
قال الحسن: إن أفسق الفاسقين الذي يركب كل كبيرة ويسحب على؟؟ ثيابه ويقول: ليس علي بأس!!؛ سيعلم أن الله تعالى ربما عجل العقوبة في الدنيا وربما أخرها ليوم الحساب. (2/148)
__________
(1) أي أبصرَ الشيطانَ.
(2) في الأصل (يتتابع) وأظنها مصحفة عن (يتتايع)؛ جاء في (غريب الحديث) لأبي عبيد (1/13): (قال أبو عبيدة: التتايع: التهافت في الشر والمتايعة عليه؛ يقال للقوم: قد تتايعوا في الشر، إذا تهافتوا عليه وسارعوا إليه. قال أبو عبيد: ومنه قول الحسن بن علي رضي الله عنهما: إن علياً أراد أمراً فتتايعت عليه الأمور فلم يجد منزعاً، يعني في أمر الجمل).(2/91)
قالَ الحسنُ: أما واللهِ لئن تدقدقت(1) بهم الهماليجُ(2) ووطئتِ الرجالُ أعقابَهم إنَّ ذُلَّ المعاصي لفي قلوبِهم، ولقد أبى اللهُ أنْ يعصيَهُ عبدٌ إلا أذلَّه. (2/149)
كان الحسن يقول: يقال: من لقي الله لم يلقه بواحدة من اثنتين لقي الله تعالى في نفَسٍ(3)، وطوبى لمن لقي الله في نفَس: إذا لم يلقه بكبيرة قد أصابها أو ذنب قد أصر عليه. (رك ص474)
قال الحسن: إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل. (التهجد ص406)
قال شاب للحسن: أعياني قيام الليل فقال: قيدتك خطاياك. (صف3/234 والعقد الفريد 10/99)
قال الحسن: هانوا عليه فعصوه؛ ولو عزوا عليه لعصمهم. (روضة المحبين ص441 وجامع العلوم والحكم ص188)
قال الحسن: رب نظرة اوقعت في قلب صاحبها شهوة؛ وربَّ شهوة أورثت صاحبها حزناً طويلاً. (الزهد ص283)
قال الحسن في قوله تعالى ([وَ]مِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَد)(4): هو أول ذنب كان في السماء. (الشعب 5/273)
قال منصور بن أبي الأسود: سألتُ الأعمشَ عن قوله تعالى (وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)(5) ما سمعتهم يقولون فيه؟ قال: سمعتهم يقولون: إذا فسد الناس أُمِّرَ عليهم شرارهم. (5/50-51)
__________
(1) ورد في بعض الكتب (طقطقت) بدل (تدقدقت).
(2) جمع (هِملاج) وهو البِرذَون المهملِج، والبراذين نوع من الخيول، والهملجة نوع من السير.
(3) أي في فسحة ورجاء كبير.
(4) الفلق (5).
(5) الأنعام (129).(2/92)
قال عروة لبنيه: يا بَني لا يهدين أحدكم إلى ربه عز وجل ما يستحي أن يهديه إلى كريمه(1)، فإن الله عز وجل أكرم الكرماء وأحق من أُختير إليه(2)؛ وكان يقول: يا بني تعلموا فإنكم إن تكونوا صغراء قوم عسى أن تكونوا كبراءهم، واسوأتاه ماذا أقبح من شيخ جاهل؟! وكان يقول: إذا رأيتم خلة شر رائعة من رجُل فاحذروه وإن كان عند الناس رجلَ صدْقٍ، فإن لها عنده أخوات؛ وإذا رأيتم خلة خير رائعة من رجل فلا تقطعوا عنه إياسكم وإن كان عند الناس رجل سوء فإن لها عنده أخوات؛ وقالَ: الناس بأزمنتهم(3) أشبه منهم بآبائهم وأمهاتهم. (2/177)
قال عروة بن الزبير: إذا رأيت الرجل يعمل الحسنة فاعلم أن لها عنده أخوات؛ فإذا رأيته يعمل السيئة فاعلم أن لها عنده أخوات فإن الحسنة تدل على أخواتها وإن السيئة تدل على أخواتها. (2/177)
قال الربيعُ بن خثيم لأصحابِهِ: تدرونَ ما الداءُ والدواءُ والشفاءُ ؟ قالوا: لا، قالَ: الداءُ الذنوبُ، والدواءُ الإستغفارُ، والشفاءُ أنْ تتوبَ ثم لا تعودُ. (2/108)
قال الحسن: إذا دخلت الرشوة من الباب خرجت الأمانة من الكوة. (الزهد ص288)
كان الحسن إذا نظر إلى السحاب قال: فيه والله رزقكم ولكنكم تحرمونه بخطاياكم وأعمالكم. (العظمة 4/1257)
حضر الحسن أميراً قد أفرط في عقوبة بعض المذنبين فكلمه فلم يحفِل بكلامه، وخوفه فلم يتعظ بزجره، فقال: إنك إنما تضرب نفسك فإن شئت الآن فأقِلَّ، وإن شئت فأكثِرْ. (رسائل الجاحظ 1/264)
__________
(1) أي إلى من يريد إكرامه أو إلى من هو كريم عنده.
(2) الأحسن (له).
(3) أي بأهل زمانهم، والمراد أن تأثر الناس بغالب أهل زمانهم أكثر من تأثرهم بآبائهم على الأغلب.(2/93)
كان الحسن يقول [عند قوله تعالى] (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)(1): أفسدهم الله بذنوبهم في بَرِّ الأرض وبحرها، بأعمالهم الخبيثة(2)؛ (لعلهم يرجعون)(3) يرجع من بعدهم(4). (المصنف 7/188)
كتبَ عمرُ إلى بعضِ عمالِهِ: أما بعدُ، فاتقِ اللهَ فيمن وليتَ أمرَه، ولا تأمنْ مكرَه في تأخيرِه عقوبتَه، فإنه إنما يعجِّلُ بالعقوبةِ من يخافُ الفوتَ(5)؛ والسلام عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه. (5/304)
قال يحيى بن أبي كثير: لولا أن الساعة موعد هذه الأمة لخسف بطائفة وطائفة تنظر. (3/69)
قال ابراهيم النخعي: إني لأرى الشيء أكرهه في نفسي فما يمنعني أن أعيبه إلا كراهية أن أُبتلى بمثله. (4/231 والصمت ص169)
قال الحسن: كانوا يقولون: من رمى أخاه بذنب قد تاب إلى الله منه لم يمت حتى يبتليه الله به. (الصمت ص170)
سُئِلَ محمدُ بنُ كعبٍ القُرَظيُّ: ما علامةُ الخذلانِ؟ قالَ: أنْ يستقبحَ الرجلُ ما كانَ يستحسنُ ويستحسنَ ما كانَ قبيحاً(6). (3/214)
قال ميمون بن مهران: ما أتى قومٌ في ناديهم المنكرَ إلا عندَ هلاكهم. (4/92)
__________
(1) الروم (41)، وتمامها (لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
(2) رواه إلى هنا ابن جرير في (تفسيره) (21/49) عن قرة عن الحسن.
(3) انظر تخريج الآية السابقة.
(4) روى ابن جرير (21/50) عن أشعث عن الحسن (لعلهم يرجعون) قال: يتوبون؛ ثم روى عن قرة عن الحسن (لعلهم يرجعون) قال: يرجع من بعدهم.
(5) وأما الله عز وجل فليس يفوته أحد.
(6) أي عنده.(2/94)
قال سعيدُ بنُ المسيب: ما أكرمتِ العبادُ أنفسَها بمثلِ طاعةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ولا أهانتْ أنفسَها بمثلِ معصيةِ اللهِ، وكفى بالمؤمنِ نُصرةً من اللهِ أن يرى عدوَّه يعملُ بمعصيةِ الله(1). (2/164)
قال يحيى بن أبي كثير: كان يقال: ما أكرم العباد أنفسهم بمثل طاعة الله، ولا أهان العباد أنفسهم بمثل معصية الله عز وجل(2). (محاسبة النفس 98 ومكارم الأخلاق ص33)
قال زيد بن أسلم: خلتان من أخبرك أن الكرم إلا فيهما فكذبه: إكرامك نفسك بطاعة الله وإكرامك نفسك عن معاصي الله؟؟. (مكارم الأخلاق ص33)
قال أبو العالية: إني لأرجو أن لا يهلك عبدٌ بين نعمتين: نعمة يحمد عليها وذنب يستغفر منه(3). (2/219)
قال بكر بن عبد الله: من يأتي الخطيئة وهو يضحك دخل النار وهو يبكي. (2/229)
قال بكر بن عبد الله: أنتم تكثرون من الذنوب فاستكثروا من الاستغفار، فإن الرجل إذا وجد في صحيفته بين كل سطرين استغفار(4) سره مكان ذلك. (2/230)
قال هشام بن حسانٍ: كنت أمشي خلف العلاءِ بن زياد العدويِّ فكنت أتوقّى الطينَ، قالَ: فدفعَه أنسانٌ فوقعت رجلُه في الطينِ فخاضهُ، فلما وصلَ إلى البابِ وقفَ فقالَ: رأيتَ يا هشام! قلت: نعم، قالَ: كذلكَ المرءُ المسلمُ يتوقّى الذنوبَ فإذا وقع فيها خاضها. (2/244-245)
__________
(1) أي يكفيك أن ترى من ظلمك عاصياً لله بذلك الظلم أو بغيره من المعاصي وأنه مخذول بذلك ومحروم من عصمة الله له منه، وأنه متعرض لسخط الله عليه وانتقامه منه.
(2) هو أيضاً من كلام سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى.
(3) يعني نعمة الحمد والشكر ونعمة الاستغفار.
(4) يجوز رفعها ونصبها.(2/95)
قال عبدُ اللهِ بنُ السري: قال ابنُ سيرينَ: إني لأعرفُ الذنبَ الذي حُمِّلَ عليَّ به الدَّينُ ما هو، قلتُ لرجلٍ من أربعينَ سنةٍ: يا مُفْلس! [قال الراوي:](1) فحدثتُ(2) بهِ أبا سليمانَ الدارانيَّ فقالَ: قلَّتْ ذنوبُهم فعرَفوا من أينَ يُؤتَونَ وكثُرَتْ ذنوبي(3) وذنوبك فليس نَدري مِن أين نُؤتَى. (2/271)
قال سليمان التيمي: إن الرجل ليذنب الذنب فيصبح عليه مذلته. (ثقات ابن حبان 8/389 والحلية 3/31)
قال المعتمر بن سليمان التيمي: كان على أبي دين فكان يستغفر الله تعالى، فقيل له: سل الله يقضي عنك الدين! قال: إذا غفر لي قضى عني الدين(4). (3/31)
كان محمد بن المنكدر يحج وعليه دين فقيل له: أتحج وعليك دين؟ فقال: الحج أقضى للدين. (3/149)
قال قتادةُ: إنَّ الذنبَ الصغيرَ يجتمعُ إلى غيرِهِ مثلِهِ على صاحبِهِ حتى يُهلكًهُ ولعَمري إنّا لنعلمُ أنَّ أهيبَكم للصغيرِ من الذنبِ أورعُكُم عن الكبير. (2/336)
قال قتادة في قوله تعالى: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)(5): أضاع أكبر الضيعة، أضاع نفسه وعسى مع ذلك أن تجده حافظاً لمالِه مضيعاً لدينه. (محاسبة النفس ص25)
قال محمد بن واسع: إنه ليعرف فجور الفاجر في وجهه. (2/350)
__________
(1) زيادة مني.
(2) بالأصل: (فحدث).
(3) في الأصل (ذنوبهم) بدل (ذنوبي) ويظهر أنه تحريف.
(4) وهل الدَّين وضيق الرزق وغيرهما من متاعب الحياة ومصاعبها ومصائبها إلا من آثار الذنوب؟!
(5) الكهف (28).(2/96)
دخل مالك بن دينار دار الخراج يوماً ينظر فإذا هو برجل من هؤلاء الكبار قد وضع الكبل في رجليه فبينا هو ينظر إذ أتي بطعامه فوضع بين يديه فجعل مالك ينظره ويتعجب من أكله ومما هو فيه، فقال له الرجل: تعال كل يا أبا يحيى، قال: أخاف إن أكلت مثل هذا أن يوضع في رجلي مثل هذا، فتقدم إليه ابن عم الرجل فقال: يا أبا يحيى إن هذا ابن عم لي وهو ينفق علي وعلى عيالي فادع الله أن ينجيه، فقال مالك: أتدري ما مثل ابن عمك؟! مثل شاة أكلت عجينَ قومٍ فانتفخ بطنها فماتت وصاحب العجين يدعو الله على من أكل عجينه وصاحب الشاة يدعو الله على من قتل شاته، فلأيهم ترى الله أسرع إجابة؟! (2/374)
قال مالك بن دينار: إن للهِ تعالى عقوباتٍ فتعاهدوهنَّ من أنفسِكم في القلبِ والأبدانِ: ضنكاً في المعيشةِ، ووهناً في العبادةِ وسخطةً في ا لرزقِ. (2/364)
قال شميط بن عجلان: كان يقال: من رضي بالفسق فهو من أهله، ومن رضي أن يُعْصَى الله عز وجل لم يرفع له عمل. (3/130)
قال إبراهيم التيمي: أعظم الذنب عند الله عز وجل أن يحدث العبد بما ستر الله عليه. (صف3/91)
قال عمر بن عبد العزيز: يا معشر المستترين اعلموا أنَّ عندَ الله مسألةً فاضحةً: قال الله تعالى (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(1). (5/288)
__________
(1) الحجر (92-93).(2/97)
عَهِدَ عمرُ إلى بعضِ عُمّالِهِ: عليكَ بتقوى اللهِ في كلِّ حالٍ ينزلُ بك، فإنَّ تقوى اللهِ أفضلُ العُدَّةِ وأبلغُ المكيدةِ وأقوى القوةِ؛ ولا تكنْ في شيءٍ مِن عداوةِ عدوِّكَ أشدَّ احتراساً لنفسِكَ ومَن مَعكَ مِن معاصي اللهِ، فإنَّ الذنوبَ أخْوفُ عندي على الناسِ مِن مكيدةِ عدوِّهم؛ وإنما نُعادي عدوَّنا ونستنصرُ عليهم بمعصيتِهم، ولولا ذلك لم تكنْ لنا قوةٌ بهم، لأنَّ عَددَنا ليسَ كعددِهم، ولا قوتنا كقوتِهم، فإنْ لا نُنْصَرْ عليهم بمقتنا(1) لا نغلبهم بقوتِنا؛ ولا تكونُنَّ لعداوةِ أحدٍ مِن الناسِ أحذرَ منكم لذنوبِكم ولا أشدَّ تعاهداً منكم لذنوبِكم؛ واعلموا أنَّ عليكم ملائكةَ اللهِ حفظة عليكم، يعلمون ما تفعلون في مسيرِكم ومنازلِكم فاستحيوا منهم وأحسنوا صَحابَتَهم، ولا تؤذوهم بمعاصي الله وأنتم زعمتم في سبيلِ الله، ولا تقولوا: إنَّ عدوَّنا شرٌّ منا ولن يُنْصَروا علينا وإنْ أذنبْنا! فكم مِن قومٍ قد سُلِّط – أو سُخِطَ – عليهم بأشَرَّ منهم لذنوبِهم! وسلوا الله العونَ على أنفسِكم كما تسألونه العونَ على عدوِّكم، نسأل اللهَ ذلكَ لنا ولكم؛ وارفقْ بمَن معكَ في مسيرِهم، فلا تُجَشِّمْهم مسيراً يتعبهم ولا تقصِّرْ بهم عن منزلٍ يرفقُ بهم حتى يلقوا عدوَّهم والسفرُ لم يَنْقُصْ قوتَهم(2) ولا كراعَهم، فإنكم تسيرونَ إلى عدوٍّ مقيمٍ جامِّ الأنفسِ والكراعِ(3)
__________
(1) كذا في الأصل، ولعلها مصحفة عن (بثقتنا) أو (بصفتنا) أو (بيقيننا) أو عن غير ذلك.
(2) جاء في (مختار الصحاح) (ص281): (نَقَصَ الشيءُ، من باب نصر، ونُقْصَاناً أيضاً، ونَقَصَهُ غيرُه، يتعدى ويلزم، قلتُ: النَّقْصُ مصدر المُتعدي والنُّقْصَانُ مصدر اللازم، والمُتعدي يتعدى إلى مفعولينِ، تقول: نقصَه حقَّه، قال الله تعالى: (ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً) [التوبة 4]؛ وأما قولك: نقَصَ المالُ درهماً والبُرُّ مُدّاً؛ فدرهماً ومدّاً تمييز).
(3) جاء في (مختار الصحاح) (ص47): (والجَمَامُ بالفتح الراحةُ، يقالُ: جَمَّ الفرسُ يجِمّ ويجُمُّ جَماماً: إذا ذهب إعياؤه؛ وأُجِمَّ الفرسُ وجُمَّ أيضاً، على ما لم يسمَّ فاعلُه فيهما، أي تُرك ركوبه، ويقالُ: أجْمِمْ نفسك يوماً أو يومين).(2/98)
وإلا ترفقوا بأنفسِكم وكراعِكم في مسيرِكم يكن لعدوِّكم فضلٌ في القوةِ عليكم في إقامتِهم في جَمامِ الأنفسِ والكراعِ، والله المستعان؛ أقمْ بمن معكَ في كلِّ جُمُعَةٍ(1) يوماً وليلةً لتكونَ لهم راحة يُجِمّونَ بها أنفسَهم وكراعَهم ويرمونَ أسلحتَهم وأمتعتَهم، ونَحِّ منزلَك عن قُرى الصلحِ، ولا يدخلْها أحدٌ من أصحابِك لسوقِهم وحاجتِهم إلا من تثقُ بهِ وتأمنُه على نفسِه ودينِه، فلا يصيبوا فيها ظلماً ولا يتزودوا منها إثماً ولا يرزؤون أحداً مِن أهلها شيئاً إلا بحقٍّ، فإنَّ لهم حرمةً وذمةً ابتُليتم بالوفاءِ بها كما ابتُلوا بالصبرِ عليها، فلا تستنصروا على أهلِ الحربِ بظلمِ أهلِ الصلح، ولتكنْ عيونُك مِن العربِ ممن تطمئنُّ إلى نُصحِه مِن أهلِ الأرضِ، فإنَّ الكذوبَ لا ينفعُك خبرُه، وإنْ صدقَ في بعضِه، وإنَّ الغاشَّ عينٌ عليكَ وليسَ بعينٍ لك. (5/303)
قال الأوزاعي: سمعت بلال بن سعد يقول: لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر من عصيت. (صف4/218)
قال سعيد بن جبير في قوله [تعالى] (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء)(2): خوف السلطان وغلاء السعر(3). (الدر المنثور 3/268)
قال طاووس: ربَّ ناظر في النجوم ومتعلم حروف أبي جاد ليس له عند الله خلاق. (فضل علم السلف على علم الخلف ص20)(4)
التوفيق والخذلان، وهوان العبد على الله
كان الحسن البصري يقول: من علامة إعراض الله عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه، [خذلاناً من الله عز وجل](5). (الرسالة المغْنية ص62 وجامع العلوم والحكم ص116 ومنه الزيادة)
قال الحسن: لولا البلاء ما كان في أيام قلائل ما يهلك الرجل نفسه. (محاسبة النفس 120)
__________
(1) أي في كل أسبوع.
(2) الأنعام (42).
(3) إنما عوقبوا بخوف السلطان بسبب قلة الخوف من الله، وبغلاء الأسعار بسبب قلة الشكر لله.
(4) قال ابن رجب: خرجه حرب.
(5) قال بعضهم: فمن أراد أن يعرف منزلته عند الله فلينظر بمَ شغله الله.(2/99)
قال الحسن: إذا أراد الله بعبدٍ خيراً أعطاه من الدنيا عطية ثم يُمسك، فإذا أنفد عاد عليه، وإذا هان عليه عبدٌ بسطها له بسطاً. (ذم الدنيا 315)
كان مالك بن دينار يقولُ: إنَّ اللهَ تعالى إذا أحبَّ عبداً انتقصَهُ منْ دنياهُ، فكفَّ عليهِ ضيعَتَهُ ويقولُ: لا تبرَحْ من بين يدي؛ قالَ: فهو متفرغٌ لخدمةِ ربِّه تعالى، وإذا أبغضَ عبداً دفعَ في نحرِهِ شيئاً من الدنيا ويقولُ: أغربْ من يدي(1) فلا أراك بين يديَّ؛ فتراهُ معلقَ القلبِ بأرضِ كذا وبتجارةِ كذا. (2/370)
الطاعات وثمراتها في الدنيا(2)
قال الشعبيُّ: ما تركَ أحدٌ في الدنيا شيئاً للهِ إلا أعطاهُ اللهُ في الآخرةِ ما هو خيرٌ له. (4/312)
قال سيار أبو المنهال قال: رأيت أبا العالية يتوضأ فقلت: (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) فقال: ليس المتطهرون [؟؟] من الماء، ولكن المتطهرون من الذنوب. (3/222)
قال وهب بن منبه: مَن يتعبدْ يزددْ قوةً، ومنْ يكسلْ يزددْ فترةً. (4/58)
قال الأعمش: قال لي أبو وائل: نعم الرب ربنا، لو أطعناه ما عصانا. (الزهد الكبير ص281)
قال الحسن: إن الرجل ليعمل الحسنة فتكون نوراً في قلبه وقوة في بدنه؛ وإن الرجل ليعمل السيئة فتكون ظلمة في قلبه ووهناً في بدنه. (المصنف 7/187)
قال ابن عيينة: رأيت هارون بن رئاب وكأن النور على وجهه. (صف3/288)
__________
(1) كذا هذه العبارة.
(2) قال ابن القيم في (الفوائد) (ص118): (اذا استغنى الناس بالدنيا فاستغن أنت بالله واذا فرحوا بالدنيا فافرح أنت بالله واذا انسوا بأحبابهم فاجعل أنسك بالله واذا تعرفوا الى ملوكهم وكبرائهم وتقربوا اليهم لينالوا بهم العزة والرفعة فتعرف أنت الي الله وتودد اليه تنل بذلك غاية العز والرفعة).(2/100)
قال الحسن: من أحسن عبادة الله في شبيبته لقّاه اللهُ الحكمةَ عند كبر سنه وذلك قوله (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)(1). (مفتاح دار السعادة 1/167-168)
قال قتادة: من يتّقِ اللهَ يكنْ معهُ، ومن يكن الله معه فمعه الفئةُ التي لا تُغلبُ والحارسُ الذي لا ينامُ والهادي الذي لا يضِلُّ. (2/340)
قال قتادة: مكتوب في التوراة: يا ابن آدم اتق الله ثم نم حيث شئت، فإنك إن اتقيت الله كانت معك من الله صحبة وحافظ(2) من كل شيء؛ ثم قال: (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ)(3). (الزهد الكبير ص350)
قال أبو حازم: لَمَا يَلْقَى الذي لا يتقي اللهَ من تقيةِ الناسِ أشدُّ مما يلقى الذي يتقي اللهَ عز وجلَّ مِن تُقاتِهِ. (3/245)
قال أبو حازم: لا يُحسنُ عبدٌ فيما بينهُ وبينَ اللهِ تعالى إلا أحسنَ اللهُ فيما بينَه وبينَ العبادِ، ولا يُعَوِّرُ فيما بينَه وبينَ اللهِ تعالى إلا عوَّرَ اللهُ فيما بينه وبينَ العبادِ؛ ولَمُصانَعَةُ وجْهٍ واحدٍ أيسرُ مِنْ مصانعةِ الوجوهِ كلِّها، إنَّكَ إذا صانَعْتَ اللهَ(4) مالت الوجوهُ كلُّها إليكَ، وإذا أفسدتَ ما بينَكَ وبينَهُ شنئتْكَ(5) الوجوهُ كلُّها. (3/239)
قال زيد بن أسلم: يقالُ: من اتقى اللهَ أحبَّهُ الناسُ وإنْ كرِهوا. (3/222)
عن قتادة في قوله تعالى (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً)(6) قال: إي والله وداً في قلوب أهل الإيمان. (الزهد الكبير ص300)
كان هرم بن حيان يقول: ما أقبل عبد بقلبه إلى الله عز وجل إلا أقبل الله بقلوب أهل الإيمان إليه حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم. (الزهد الكبير ص299-300)
__________
(1) يوسف (22).
(2) في الأصل (وحافظاً).
(3) النحل (128).
(4) المراد أنك أطعته وأرضيته.
(5) أي أبغضتك.
(6) مريم (96)؛ وأول الآية (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سيجعل---).(2/101)
قال محمد بن واسع: إذا أقبَلَ العبدُ بقلبِهِ الى اللهِ أقبلَ اللهُ بقلوبِ المؤمنينَ إليه. (2/345)
قال مجاهد: إنَّ العبدَ إذا أقبلَ على اللهِ تعالى بقلبِهِ أقبلَ اللهُ عز وجلَّ بقلوبِ المؤمنينَ اليه. (3/280)
قال مالك بن دينار: قال لقمان لابنه: يا بني اتخذ طاعة الله تجارة تأتيك [كذا] الأرباح من غير بضاعة. (الزهد الكبير ص281)
قال عون بن عبد الله: كان الفقهاء يتواصونَ بينهم بثلاثٍ ويكتبُ بذلكَ بعضُهم إلى بعضٍ: منْ عملَ لآخرتِه كفاه الله دنياه(1)؛ ومن أصلحَ سريرتَه أصلحَ اللهُ علانيتَه؛ ومن أصلحَ ما بينَه وبينَ اللهِ أصلحَ اللهُ ما بينَه وبينَ الناس. (4/247 وانظر المصنف 35472)
قال عبيدُ اللهِ بنِ العيزارِ: خطبَنا عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ بالشامِ على منبرٍ مِن طينٍ، فحمدَ اللهَ وأثنى عليهِ، ثم تكلم بثلاثِ كلماتٍ فقالَ: أيها الناسُ أصلحوا سرائرَكم تصلحْ علانيتُكم؛ واعملوا لآخرتِكم تُكْفَوا دنياكم؛ واعلموا أنَّ رجلاً ليس بينه وبينَ آدمَ أبٌ حيٌّ لمُعْرَقٌ(2) لهُ في الموتِ والسلام عليكم. (5/265)
قرأ الحسن هذه الآية (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً)(3) فقال: ما أسمعه ذكر في ولدهما خيراً، حفظهما الله بحفظ أبيهما. (المصنف 7/199)
قال مجاهد: إن الله عز وجل ليُصلحُ - بصلاح العبد - ولده وولد ولده. (صف2/208)
قال محمد بن المنكدر: إن الله تعالى يحفظ المؤمن في ولده وولد ولده ويحفظه في دويرته وفي دويرات حوله فما يزالون في حفظ وعافية ما كان بين أظهرهم. (صف2/142)
__________
(1) قال تعالى: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) [الزمر 36]؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً).
(2) قال ابن الأثير في (النهاية في غريب الحديث) (3/220): (أي انَّ له فيه عِرْقاً، وأنَّه أصيلٌ في الموت)؛ وتصحفت هذه الكلمة في الأصل إلى (لمغرق).
(3) الكهف (82).(2/102)
أتى رجل الحسن فقال: إني أريد السِّنْد فأوصني، قال: حيث ما كنت فأعزَّ الله يعزك؛ قال: فحفظت وصيته فما كان بها أحدٌ أعز مني حتى رجعت. (2/152)
قال الحسن: يقول الله تبارك وتعالى: إذا علمت أن الغالب على عبدي التمسك بطاعتي مننت عليه بالاشتغال بي والانقطاع إلي. (الأولياء ص14)
بَعَثَ الحجاجُ بنُ يوسفَ إلى الحسنِ وقد همَّ بهِ، فلمّا دخلَ عليهِ فقامَ بينَ يديهِ، فقالَ: يا حجاجُ كمْ بينَكَ وبينَ آدمَ من أبٍ؟ قالَ: كثيرٌ، قالَ: فأينَ هم؟ قالَ: ماتوا، فنكَّسَ الحجّاجُ رأسَهُ، وخرَجَ الحسَنُ. (4/88)
قال الحسن: أفضل الناس ثواباً يوم القيامة المؤمن المعمر. (العمر والشيب ص59)
قال الحسن: من عمل بالعافية فيمن دونه رُزِقَ العافية ممن فوقه. (البصائر والذخائر 1/16)
قال الحسن: اعلم أنك لن تحب الله حتى تحب طاعته. (كلمة الإخلاص ص31)
قال الحسن: لا يزال العبد بخير ما لم يصب كبيرة تفسد عليه قلبه وعقله؛ وقال الحسن: الإيمان الإيمان، فإنه من كان مؤمناً فإنَّ له عند الله شفعاءَ مشفعين. (المصنف 7/236)
عن زيد بن أسلم – وكان من الخاشعين – أنه قال: ياابن آدم أمرك الله أن تكون كريماً وتدخل الجنة، ونهاك أن تكون لئيماً وتدخل النار. (المجالسة 1777 والجواهر المجموعة ص63)
حلاوة الايمان(1)
__________
(1) قال ابن القيم في (الوابل الصيب) (ص 68 وما بعدها) بعد أن ذكر عقوبة الإعراض عن ذكر الله في الدنيا والبرزخ والآخرة، وبيَّن طرفاً من حال المعرضين والغافلين:
(وهذا عكس أهل السعادة والفلاح، فإن حياتهم في الدنيا أطيب الحياة ولهم في البرزخ وفي الآخرة أفضل الثواب؛ قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) فهذا في الدنيا ثم قال: (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النحل 97]، فهذا في البرزخ والآخرة؛ وقال تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ) [النحل 41]؛ وقال تعالى: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) [هود 3]، فهذا في الآخرة؛ وقال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر 10]؛ فهذه أربعة مواضع ذكر الله تعالى فيها أنه يجزي المحسن بإحسانه جزاءين: جزاء في الدنيا وجزاء في الآخرة؛ فالإحسان له جزاء معجل ولا بد، والإساءة لها جزاء معجل ولا بد.
ولو لم يكن إلا ما يجازى به المحسن من انشراح صدره في انفساح قلبه وسروره ولذاته بمعاملة ربه عز وجل وطاعته وذكره ونعيم روحه بمحبته وذكره وفرحه بربه سبحانه وتعالى أعظم مما يفرح القريب من السلطان الكريم عليه بسلطانه، وما يجازى به المسيء من ضيق الصدر وقسوة القلب وتشتته وظلمته وحزازاته وغمه وهمه وحزنه وخوفه، وهذا أمر لا يكاد من له أدنى حس وحياة يرتاب فيه، بل الغموم والهموم والأحزان والضيق عقوبات عاجلة ونار دنيوية وجهنم حاضرة؛ والإقبال على الله تعالى والإنابة إليه والرضا به وعنه وامتلاء القلب من محبته واللهج بذكره والفرح والسرور بمعرفته: ثواب عاجل وجنة وعيش لا نسبة لعيش الملوك إليه البتة؛ وسمعت شيخ الاسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة؛ وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة وقتلي شهادة وإخراجي من بلدي سياحة؛ وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هده النعمة؛ أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير، [أ]و نحو هذا؛ وكان يقول في سجوده وهو محبوس: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، ما شاء الله؛ وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى، والمأسور من أسره هواه؛ ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: (فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ) [الحديد 13]؛ وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط مع كل ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدِّها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً وأشرحهم صدراً وأقواهم قلباً وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم على وجهه؛ وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض: أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحاً وقوةً ويقيناً وطمأنينة؛ فسبحان من أشهد عبادَه جنتَه قبل لقائه وفتح لهم أبوابها في دار العمل فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها؛ وكان بعض العارفين يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف؛ وقال آخر: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله تعالى ومعرفته وذكره، أو نحو هذا؛ وقال آخر: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً؛ وقال آخر: إنه لتمر بي أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيبز
فمحبة الله تعالى ومعرفته ودوام ذكره والسكون إليه والطمانينة إليه وإفراده بالحب والخوف والرجاء والتوكل والمعاملة بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته: هو [أي الأمر المتقدم ذكره من المحبة وما عطف عليها] جنة الدنيا والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وهو قرة عين المحبين وحياة العارفين، وإنما تقر عيون الناس بهـ[ـم] على حسب قرة أعينهم بالله عز وجل، فمن قرت عينه بالله قرت به كل عين ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات؛ وإنما يصدّق هذا من قلبه حياة؛ وأما ميت القلب فيوحشك حاله، ثم فاستأنس بغيبته ما أمكنك، فإنك لا يوحشك إلا حضوره عندك؛ فإذا ابتليت به فاعطه ظاهرك وترحَّل عنه بقلبك وفارقه بسرك ولا تشتغل به عما هو أولى بك؛ واعلم أن الحسرة كل الحسرة الاشتغال بمن لا يجر عليك الاشتغال به إلا فوت نصيبك وحظك من الله عز وجل وانقطاعك عنه وضياع وقتك وضعف عزيمتك وتفرق همك؛ فإذا بليت بهذا ولا بد لك منه فعامل الله تعالى فيه واحتسب عليه ما أمكنك وتقرب إلى الله تعالى بمَرضاته فيه واجعل اجتماعك به متجراً لك، لا تجعله خسارة؛ وكن معه كرجل سائر في طريقه عرض له رجل وقفه عن سيره، فاجتهدْ أن تأخده معك وتسير به فتحمله ولا يحملك، فإن أبى ولم يكن في سيره مطمع فلا تقف معه بل اركب الدرب ودعه ولا تلتفت إليه، فإنه قاطع الطريق، ولو كان من كان، فانج بقلبك وضُنَّ بيومك وليلتك لا تغرب عليك الشمس قبل وصول المنزلة فتؤخذ أو يطلع الفجر أنّى لك بلحاقهم؟!(2/103)
قال مالكُ بنُ دينار: خرج أهلُ الدنيا من الدنيا ولم يذوقوا أطيبَ شئٍ فيها! قالوا: وما هو يا أبا يحيى؟ قالَ: معرفةُ اللهِ تعالى. (2/358)
قال يحيى بن أبي كثير: والله ما رجل تخلى بأهله عروساً أقرَّ ما كانت نفسُه وأسرَّ ما كان: بأشد سروراً منهم بمناجاته إذا خلوا به(1). (التهجد ص342)
قال مالك بن دينار: إن في بعض الكتب: إن الله تعالى يقول: إن أهون ما أنا صانع بالعالم إذا أحب الدنيا أن أخرج حلاوة ذكري من قلبه. (2/360)
قال مالك: قال لي عبد الله الرازي: إن سرَّك أن تجد حلاوة العبادة وتبلغ ذروة سنامها، فاجعل بينك وبين شهوات الدنيا حائطاً من حديد(2). (ذم الدنيا 75)
قال صالح المري: كان الحسن يقول: تفقدوا الحلاوة في ثلاث: الصلاة والقرآن والدعاء فإن وجدتموها فاحظوا [كذا] واحمدوا الله على ذلك، وإن لم تجدوها فاعلموا أن أبواب الخير عليكم مغلقة. (الشعب 5/447 والمدارج 2/424)
قال مالك بن دينار: حزنك على الدنيا يخرج حزن الآخرة من قلبك وفرحك بالدنيا يخرج حلاوة الآخرة من قلبك(3). (الزهد الكبير ص136 وانظر الهم والحزن ص32)
قال سعيد بن جبير: لقيني مسروق فقال: يا سعيد ما بقي شيء يرغبُ فيه إلا أن نعفرَ وجوهَنا في التراب(4). (2/96)
قال مسروق: ما آسى على شيء من الدنيا إلا السجود في الصلاة. (التهجد ص174 والزهد ص349 والشعب 3/153 والمصنف 34867)
__________
(1) قال أبو سليمان الداراني: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم؛ ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا. (مختصر منهاج القاصدين ص86).
(2) في (الزهد الكبير) (ص174) عن مالك أنه قال: قال لي عبد الله الداري - وكان أحد معلمِيّ - : يا مالك إن سرك أن تبلغ ذروة هذا الأمر فاجعل بينك وبين الشهوات حائطا من حديد.
(3) قال ابراهيم بن أدهم: طلب الملوك الراحة فأخطأوا الطريق. (8/28)
(4) يعني الصلاة لله تعالى.(2/104)
قال الحسن في قوله عز وجل (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)(1) قال: ما يطيب لأحد الحياة إلا في الجنة(2). (الزهد ص282)
الدعاء
قال رجل لطاووس: أدعُ اللهَ لنا، قال: ما أجد في قلبي خشية فأدعو لك(3). (4/4).
قال عبد الله بن صالح المكي: دخل علي طاووس يعودُني، فقلتُ: يا أبا عبد الرحمن ادع الله لي، فقال: أدع لنفسك فإنه يجيب المضطر إذا دعاه. (4/10)
قالَ رجلٌ لعامرِ بنِ عبدِ اللهِ(4): استغفرْ لي، فقالَ: إنكَ لتسألُ منْ قدْ عجزَ عنْ نفسهِ، ولكنْ أطعِ اللَه ثم ادعُهُ يستجِبْ لك. (2/93)
قال عطاء: جاءني طاووس فقال لي: يا عطاء إياك أن ترفعَ حوائجَك إلى من أغلقَ دونَك بابَه وجعلَ دونك حجاباً؛ وعليك بطلبِ حوائجِك إلى من بابُه مفتوحٌ لك إلى يومِ القيامة، طلبَ منكَ أن تدعوه ووعدك الإجابة. (4/11)
قال ابن طاووس لأبيه: ما أفضل ما يقال على الميت؟ فقال: الاستغفار. (4/14)
قال ابن أبي رواد: رأيت طاووساً وأصحابه إذا صلوا العصر استقبلوا القبلة ولم يكلموا أحدا وابتهلوا في الدعاء. (صف2/287)
__________
(1) يعني قوله تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النحل 97].
(2) هذا القول من الحسن لا ينافي ما تقدم عن ابن القيم؛ فابن القيم أثبت طيب الحياة الدنيا للمؤمنين في الجملة، والحسن لم ينف ذلك، وإنما نفى الطيب المطلق للعيش في الدنيا، فهو لم ينف أن يكون المؤمنون أطيب عيشاً من سواهم في هذه الحياة الدنيا، وكيف يعقل من مثله أن ينفي حلاوة الإيمان وهو إن شاء الله من أهلها فيما نحسب، ولا نزكي على الله أحداً؛ هذا وجه الجمع بين القولين فليسا بمذهبين مختلفين، والله أعلم.
(3) وانظر (الحلية) (2/6).
(4) هو ابن عبد قيس التميمي.(2/105)
قال سليمان التيمي: قال لقمان لابنه: أي بني عود لسانك: اللهم اغفر لي فإن لله ساعات لا يرد فيهن سائلاً. (حسن الظن ص111)
قال مطرف بن عبد الله: إذا دخلتم على المريض، فإن استطعتم أن يدعو لكم، فإنه قد حرك. (2/208)
قال ابن أبي جميلة: ودع رجلٌ رجاءَ بن حيوة فقال: حفظك الله يا أبا المقدام؛ فقال: يا ابن أخي لا تسل عن حفظه، ولكن قلْ: يحفظ الايمان. (5/173)
كان رجل من الخوارج يغشى مجلس الحسن فيؤذيهم فقيل للحسن: يا أبا سعيد ألا تكلم الأمير حتى يصرفه عنا؟ فسكت عنهم فأقبل ذات يوم والحسن جالس مع أصحابه فلما رآه قال: اللهم قد علمت أذاه لنا فاكفناه بما شئت، فخر الرجل من قامته فما حمل إلى أهله إلا ميتا على سرير فكان الحسن إذا ذكره بكى وقال: البائس! ما كان أغره بالله(1). (كرامات الأولياء ص204)
قال الحسن: لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم عز وجل ---. (رك ص45 وزاد المسير 3/215)
قال الفضيل بن عياض: كان الربيع بن خثيم يقول في دعائه: أشكو إليك حاجة لا يحسن بثها إلا إليك. (صف3/67)
قال الربيعُ بن خثيم: ما أُحبُّ مناشدةَ العبدِ لربِّهِ عزَّ وجلَّ، يقولُ: رَبِّ قضيتَ على نفسِكَ الرحمةَ، قضيتَ على نفسِكَ كذا، يستبطِئ، وما رأيت أحداً يقولُ: أدَّيتُ الذي عليَّ فأَدِّ ما عليك(2). (2/114)
__________
(1) وهذه رواية أخرى:
كان رجل من الخوارج يغشي مجلس الحسن البصري فيؤذيهم فلما ازداد أذاه قال الحسن: اللهم قد عملت أذاه لنا فاكفناه بما شئت؛ فخر الرجل من قامته؛ فما حمل إلى أهله إلا ميتاً على سريره. (جامع العلوم والحكم ص368)
(2) أي أن الناس يطلبون من الله تبارك وتعالى ماكتب على نفسه من رحمة ولا يطالبون أنفسهم بما كتب الله عليهم من الطاعات.(2/106)
كان مطرف بن عبد الله يكره أن يقول: اللهم لا تنسني ذكرك ولا تؤمني مكرك ولكن يقول: اللهم لا تنسني ذكرك وأعوذ بك أن آمن مكرك حتى تكون أنت تؤمني. (الزهد ص241)
كان مطرف يقولُ: اللهمَّ ارضَ عنا، فإنْ لم ترضَ عنا فاعفُ عنا فإنَّ المَولَى(1) قد يعفو عن عبدِهِ وهو عنهُ غيرُ راضٍ. (2/207)
قال مطرف: نظرتُ في بدءِ هذا الأمرِ ممن هو؟ فإذا هو من اللهِ تعالى؛ قالَ: قلت: فعلى مَنْ تمامُهُ؟ فإذا هو على اللهِ تعالى، ونظرتُ ما مَلاكُهُ؟ فإذا ملاكُهُ الدعاءُ. (2/208)
كان مطرف يقول: اللهم إني أعوذ بك من شر السلطان ومن شر ما تجري به أقلامهم وأعوذ بك أن أقول بحق أطلب به غير طاعتك وأعوذ بك أن أتزين للناس بشيء يشينني عندك وأعوذ بك أن أستعين بشيء من معاصيك على ضر نزل بي وأعوذ بك من أن تجعلني عبرة لأحد من خلقك وأعوذ بك أن تجعل أحداً أسعد بما علمته مني؛ اللهم لا تخزني فإنك بي عالم؛ اللهم لا تعذبني فإنك علي قادر. (2/207)
قال سفيان بن عيينة: كان دعاء مطرف بن عبد الله: اللهم إني أستغفرك مما تبت إليك منه ثم عدت فيه، وأستغفرك مما جعلته لك على نفسي ثم لم أوفِّ به، وأستغفرك مما زعمت أني أردت به وجهك فخالط قلبي فيه ما قد علمت. (2/207)
قال حميد بن هلال: كان بين مطرف وبين رجل من قومه شيء فكذب على مطرف فقال له مطرف: إن كنت كاذباً فعجل الله حتفك فمات الرجل مكانه قال: فاستعدى أهله زياداً على مطرف فقال لهم زياد: هل ضربه؟ هل مسه بيده؟ فقالوا: لا، فقال: دعوة رجل صالح وافقت قدراً، فلم يجعل لهم شيئاً. (صف3/ 226)
__________
(1) أي السيد.(2/107)
قال ثابت: أخذ عبيد الله بن زياد ابنَ أخي صفوان بن محرز المازني فتحمل عليه بالناس(1) فلم يبق أحد إلا كلمه فيه، فلم ير لحاجته نجاحاً؛ فبات ليلَهُ(2) في مصلاه وهو يصلي فرقد في مصلاه فلما رقد أتاه آت في منامه فقال: يا صفوان قم فاطلب حاجتك من قبل وجهها، قال: أفعل، فقام وتوضأ فصلى ودعا، قال: فتنبه ابن زياد لحاجة صفوان في بعض الليل فقال: علي ابن أخي صفوان، قال: فجاء الحرس والشرط والنيران ففتحت أبواب السجن حتى استخرج ابن أخي صفوان فجيء به إلى ابن زياد، فقال له: أنت ابن أخي صفوان، قال: نعم، قال: فأرسله فما شعر صفوان حتى ضرب عليه الباب، فقال: من هذا؟ قال: أنا فلان، تنبه الأمير في بعض الليل فجاء الحرس والشرط وجيء بالنيران، وفتحت أبواب السجون فجيء بي فخلي عني بغير كفالة. (2/214-215 وصف3/228-229 والشعب 7/211)
قال ابن عون: قال رجل لصلة بن أشيم: ادع الله عز وجل لي، قال: رغبك الله عز وجل فيما يبقى وزهدك فيما يفنى ووهب لك اليقين الذي لا يسكن إلا إليه ولا يعول في الدين إلا عليه. (صف3/219 وانظر أدب الدنيا والدين)
قال عبد الله بن مسلم بن يسار: رأيت مسلماً وهو ساجد وهو يقول في سجوده: متى القاك وأنت عني راض؟! ويذهب في الدعاء ثم يقول: متى القاك وانت عني راض؟! (الزهد ص248 و صف 3/240)
قال ابراهيم التيمي: الدنيا مشغلة، اللهم لا تشغلني بها ولا تعطني منها شيئاً. (ذم الدنيا 262)
قال سليمان التيمي: اللهم إنك تعلم إني لا أريد من الدنيا شيئاً، فلا ترزقني منها شيئاً. (ذم الدنيا 482)
قال رجل لمحمد: إني لأحبك في الله تعالى؛ قال: أحبك الذي أحببتني له، اللهم إني أعوذ بك أن أُحَبَّ فيك وأنت لي ماقت أو مبغض. (2/349)
__________
(1) أي الذين يراهم يصلحون لذلك الأمر.
(2) في الأصل (ليلة) وما أثبته أقرب إلى مناسبة السياق.(2/108)
قال حماد بن زيد: كنا نجلس إلى محمد بن واسع فكان يقول: اللهم إنا نعوذ بك من كل رزق يباعدنا منك؛ طهِّرْنا من كل خبيث، ولا تسلط علينا الظلمة؛ ثم يسكت ساعة ثم يعيده. (2/353)
قال المغيرة بن حبيب أبو صالح ختن مالك بن دينار: قلت لنفسي: يموت مالك وأنا معه في الدار ولا أعلم ما عمله! قال: فصليت معه عشاء الآخرة ثم جئت فلبست قطيفة في أطول ما يكون من الليل؛ وجاء مالك فدخل فقرب رغيفه فأكل ثم قام إلى الصلاة فاستفتح ثم أخذ بلحيته فجعل يقول: يا رب إذا جمعت الأولين والآخرين فحرم شيبة مالك على النار؛ قال: فوالله ما زال كذلك حتى غلبتني عيني؛ قال: ثم انتبهت فإذا هو على تلك الحال يقدم رجلاً ويؤخر رجلاً ويقول: يا رب إذا جمعت الأولين والآخرين فحرم شيبة مالك على النار؛ قال: فما زال كذلك حتى طلع الفجر! قال: فقلت لنفسي: والله لئن خرج مالك فرآني لا تبلني عنده بالة أبداً؛ قال: فجئت إلى المنزل وتركته(1). (التهجد ص443؟ و صف3/282)
مر تاجر بعشارين فحبسوا عليه سفينته فجاء إلى مالك بن دينار فذكر ذلك له فقام مالك فمشى معه إلى العشارين، فلما رأوه قالوا: يا أبا يحيى ألا بعثت إلينا ما حاجتك؟! قال: حاجتي أن تخلوا سفينة هذا الرجل، قالوا: قد فعلنا؛ وكان عندهم كوز يجعلون فيه ما يأخذون من الناس من الدراهم فقالوا: ادع الله لنا يا أبا يحيى! قال: قولوا للكوز يدعو لكم!! كيف أدعو لكم وألف يدعون(2) عليكم؟! أترى يستجاب لواحد ولا يستجاب لألف؟!! (2/374)
دخل مالك على والي البصرةِ فقالَ لهُ الوالي: أُدْعُ لي! فقالَ: كمْ منْ مظلومٍ بالبابِ يدعو عليك. (2/384)
__________
(1) قال عبيد الله بن ثور العتكي: حدثنا بعض أصحابنا أن مالك بن دينار قام في الليل يصلي، فأخذ بلحيته، فقال: ارحم شيبتي من النار؛ فلم يزل في هذا، حتى طلع عمود الفجر. (التهجد ص485)
(2) في الأصل (يدعو) بلا نون.(2/109)
قال أبو حازم: لأنا من أن أُمْنَعَ الدعاءَ أخوفُ مني من أن أمنع الاجابة. (3/241)
قال وهبُ بن منبه: مثلُ الذي يدعو بغيرِ عملٍ مثلُ الذي يرمي بغيرِ وتَر. (4/53)
قال خيثمة: إذا طلبت شيئاً فوجدته فاسأل الله الجنة فلعله يكون يومك الذي يستجاب فيه. (صف3/94؟)
قال داود بن أبي هند: لما أخذ الحجاج سعيد بن جبير قال: ما أراني إلا مقتولاً، وسأخبركم: إني كنت أنا وصاحبان لي دعونا حين وجدنا حلاوة الدعاء ثم سألنا الشهادة فكلا صاحبي رزقها، وأنا أنتظرها؛ فكأنه رأى أن الإجابة عند حلاوة الدعاء. (صف3/80)
مر عمر بن عبد العزيز برجلٍ وفي يدِه حصاةٌ يلعبُ بها وهو يقول: اللهم زوجني من الحورِ العينِ، فمالَ إليهِ عمرُ فقالَ: بئس الخاطبُ أنتَ! ألا ألقيتَ الحصاةَ وأخلصتَ إلى الله الدعاء. (5/288)
قال عمر في بعض دعائه: اللهم إن لم أكن أهلاً أن أبْلغَ رحمتَكَ فإنَّ رحمتَك أهلٌ أن تَبْلغَني، رحمتُك وسِعتْ كلَّ شيءٍ، وأنا شيءٌ فلتسعْني رحمتُكَ، يا أرحم الراحمين. (5/299)
قال طلحة بن يحيى: كنت عند عمر بن عبد العزيز فجاءه رجل فقال: أبقاك الله ما كان البقاء خيراً لك، فقال عمر: فُرغ من ذاك ولكن قل: أحياك الله حياة طيبة وتوفاك مع الأبرار. (الاشراف على منازل الاشراف ص289)
قال مالك بن أنس: رأى عروة [بن الزبير] رجلاً يصلي فخفف فدعاه وقال: أما كانت لك إلى ربك سبحانه وتعالى حاجة؟! إني لأسأل الله تبارك وتعالى في صلاتي حتى أسأله الملح. (صف2/87)
كان زين العابدين علي بن الحسين بن علي يقول: اللهم إني أعوذ بك أن تحسن في لوامع العيون علانيتي وتقبح سريرتي؛ اللهم كما أسأتُ وأحسنتَ إليّ فإذا عدتُ فعد علي. (صف2/94)
كان عامر بن عبد الله بن الزبير يقف عند موضع الجنائز يدعو وعليه قطيفة، وربما سقطت عنه القطيفة ولم يشعر بها. (3/166)(2/110)
قال مالك بن أنس: ربما خرج عامر بن عبد الله بن الزبير منصرفاً من العتمة من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعرض له الدعاء قبل أن يصل إلى منزله فيرفع يديه فما يزال كذلك حتى ينادي بالصبح فيرجع الى المسجد يصلي الصبح بوضوء العتمة. (3/166)
قال جعفر بن سليمان: أنبأنا ثابت البناني عن رجل من العباد أنه قال يوماً لإخوانه: إني لأعلم متى يذكرني ربي عز وجل، قال: ففزعوا من ذلك فقالوا: تعلم حين يذكرك ربك؟! قال نعم، قالوا: متى؟ قال: إذا ذكرته ذكرني؛ قال: وإني لأعلم حين يستجيب لي ربي عز وجل، قال: فعجبوا من قوله، قالوا: تعلم حين يستجيب لك ربك؟! قال: نعم، قالوا: وكيف تعلم ذلك؟ قال: إذا وجل قلبي واقشعر جلدي وفاضت عيني وفتح لي في الدعاء فثم أعلم أن قد استجيب لي. (صف3/261)
قال جعفر بن سليمان: سمعت ثابتاً يقول في دعائه: يا باعث يا وارث لا تدعني فرداً وأنت خير الوارثين؛ قال: وكان ثابت يخرج إلينا وقد جلسنا في القبلة(1) فيقول: يا معشر الشباب حلتم بيني وبين ربي أن أسجد له؛ وكان قد حببت إليه الصلاة(2). (2/322 وانظر الشعب 3/155)
استعان رجل بثابت البناني على القاضي في حاجة، فجعل لا يمر بمجسد إلا نزل فصلى حتى انتهى إلى القاضي، وقد ختمت القماطر(3)؛ فكلمه في حاجة الرجل، فقضاها، فأقبل ثابت على الرجل فقال: لعله شق عليك ما رأيت؟ قال: نعم، قال: ما صليت صلاة إلا طلبت إلى الله تعالى في حاجتك. (2/321-322)
__________
(1) كأنهم ينتظرون أن يحدثهم.
(2) قال ثابت البناني: كابدت الصلاة عشرين سنة، وتنعمت بها عشرين سنة. (2/321)
(3) جمع قمطر، وفي (لسان العرب) (5/117): (والقِمَطْرُ والقِمْطَرَةُ: ما تُصان فيه الكتب؛ قال ابن السكيت: لا يقال بالتشديد؛ وينشد:
ليس بعِلْمٍ ما يَعي القِمَطْرُ ما العِلْمُ إِلا ما وَعاه الصَّدْرُ
والجمع قَماطِرُ).(2/111)
قال ثابت: كان أبو عثمان [النهدي] إذا دعا ودعونا يقول: والله لقد استجاب الله عز وجل، قال الله: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)(1). (صف3/200)
قال همام: انتهيت إلى معضد وهو ساجد نائم، قال: فانتبه وهو يقول: اللهم اشفني من النوم بيسير، ثم مضى في صلاته. (المصنف 7/153 و صف3/43)
قال الأوزاعي: خرج الناس إلى الإستسقاء فقام فيهم بلال بن سعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا معشر من حضر ألستم مقرين بالإساءة؟ قالوا: اللهم نعم، فقال: اللهم إنا نسمعك تقول: (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ)(2)، اللهم وقد أقررنا بالإساءة فاغفر لنا وارحمنا واسقنا؛ ورفع يديه ورفعوا أيديهم فسقوا. (تفسير ابن كثير 2/382)
ذكر منصور عن ابراهيم النخعي قال: إذا دعا أحدكم فليبدأ بنفسه فإنه لا يدري أي الدعاء يستجاب له. (4/228)
شكى أبو معشر ابنَه إلى طلحةَ بن مصرف فقالَ: استعنْ عليه بهذه الآيةِ: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي)(3). (5/19)
قال طلحة: يستحب من الدعاء أن يقول العبد: اللهم اجعل صمتي تفكراً، واجعل نظري عبَراً، واجعل منطقي ذكْراً. (5/15)
قال حريش بن سليم: كان طلحة بن مصرف يقول في دعائه: اللهم اغفر لي ريائي وسمعتي. (5/16)
قال عمران بن عمرو بن أخـ[ـي] زبيد الايامي: كان معاوية بن خديج يعني أبا زهير بن معاوية تزوج امرأة من آل خارجة زوجها أخوها وغضب أخ لها آخر فخرج الى الوالي قال: فكتب إلى يوسف بن عمر انظر شاهديه فاطلبهما واحبسهما، قال: وكان أحد الشاهدين زبيداً، قال: فتغيب وحضر الحج فقال: اللهم ارزقني حج بيتك من عامي هذا ثم لا تريني يوسف أبداً، قال: فرزقه الله الحج، ومات في انصرافه ودفن في النقرة. (5/30)
__________
(1) غافر (60).
(2) التوبة (91).
(3) الأحقاف (15).(2/112)
عن الأعمش قال: قال عمرو بن عتبة بن فرقد: سألت الله ثلاثاً فأعطاني اثنتين وأنا انتظر الثالثة سألته أن يزهدني في الدنيا فما أبالي ما أقبل وما أدبر(1) وسألته أن يقويني على الصلاة فرزقني منها وسألته الشهادة فأنا أرجوها. (صف3/69)
قال عمرُ بنُ ذر: لقيني الربيع بن أبي راشد في السدة في السوق فأخذَ بيدي فنحّاني وقال: يا أبا ذرّ من سألَ اللهَ رضاهُ فقد سألَه أمراً عظيماً. (5/76)
كان همامُ بنُ الحارث النخعي يدعو: اللهم اشفِني من النومِ باليسير، وارزقني سهراً في طاعتك، فكان لا ينامُ إلا هنيهةً(2) وهو قاعد. (4/178)
قال سلام بن سليم: كنت أقرأ على عمرو بن مرة فكنت أسمعه كثيراً يقول: اللهم اجعلني ممن يعقل عنك. (صف3/106)
سأل رجل الحسن فقال: يا أبا سعيد ما تقول في دعاء الوالد لولده؟ قال: نجاة، وقال بيده هكذا، كأنه يرفع شيئاً من الأرض؛ قال: فما دعاؤه عليه؟ قال: استئصال، وقال بيده، كأنه يخفض شيئاً. (البر والصلة ص28 و22 وانظر فيض القدير 3/525)
كان عونٌ بن عبد الله يقولُ: الحمدُ للهِ الذي إذا شئتُ أيَّ ساعةٍ من ليلٍ أو نهارٍ وضعتُ عندَه سري بغيرِ شفيع فيقضي لي حاجتي، ربي عزَّ وجل؛ والحمدُ للهِ الذي أدعوه فيجيبُني وإنْ كنتُ بطيئاً حين يدعوني. (4/254)
قال المثنى بن عبد الله: كتب اليَّ عم لي وكان جليساً للحسن: إنه يكفي من الدعاء مع الورع ما يكفي القدر من الملح. (الورع ص126)
__________
(1) عن حميد بن لاحق عمن ذكره قال: كان له، يعني عمرو بن عتبة، كل يوم رغيفان يتسحر بأحدهما ويفطر بالآخر. (صف3/69)
(2) جاء في (لسان العرب) (15/366): (وفي الحديث: أَنه أَقامَ هُنَيَّةً أَي قليلاً من الزمان، وهو تصغير هَنةٍ، ويقال: هُنَيْهةٌ أَيضاً). وهذه أيضاً عبارة ابنُ الأثير في (النهاية) (5/278).(2/113)
قال الحسن: أكثروا من الاستغفار في بيوتكم وعلى موائدكم وفي طرقكم وفي أسواقكم وفي مجالسكم وأينما كنتم فإنكم ما تدرون متى تنزل المغفرة. (جامع العلوم والحكم ص394)
قال الحسن: بلغني أن في كتاب الله: ابن آدم ثنتان جعلتهما لك ولم يكونا لك: وصية في مالك بالمعروف وقد صار الملك لغيرك؛ ودعوة المسلمين لك وأنت في منزل لا تستعتب في سيء ولا تزيد في حسن. (المصنف 7/188)
قال الحسن: من دعا لظالم ببقاء فقد أحب أن يعصى الله عز وجل. (الصمت ص144 و273 والصمت أيضاً ص144 والشعب 7/53 وتخريج الإحياء للعراقي 2/87)
قال غالب: قلت للحسن: إن من جلسائك من يقول: إذا كان يوم الجمعة فلا تقل: اللهم اغفر لنا فإن في المسجد الشرطي واللوطي، وذكر أشياء من هذا النحو فقال: أيها الرجل اجتهد في الدعاء وعم في النصيحة فإنما أنت شافع فإن أعطاك الله ما تريد فذاك وإلا رد عليك فضل نصيحتك. (6/186)
عن حميد أن الحسن كان يدعو: اللهم اجعلنا ممن نريد بقولنا وعملنا وجهك والدار الآخرة وأثبنا عليه أجراً عظيماً. (جزء أشيب ص65)
عن شيخ من أهل المدينة قال: كان علي بن حسين بمنى فظهر من دعائه أن قال: كم من نعمة أنعمتها علي قلَّ لك عندها شكري وكم من بلية ابتليتني بها قل لك عندها صبري، فيا من قل شكري عند نعمته فلم يحرمني ويا من قل صبري عند بلائه فلم يخذلني، ويا من رآني على الذنوب العظام فلم يفضحني ولم يهتك ستري ويا ذا المعروف الذي لا ينقضي ويا ذا النعمة التي لا تحول ولا تزول صل على محمد وعلى آل محمد واغفر لنا وارحمنا. (الشكر ص19)
كان لسعيد بن جبير ديك يقوم الى الصلاة إذا صاح فلم يصح ليلة من الليالي فأصبح سعيد ولم يصل، فشق ذلك عليه فقال له: ما له قطع الله صوته؟! فما سمع ذاك الديك يصيح بعدها فقالت له أمه: أي بني لا تدْعُ على شيء بعدها. (4/274)(2/114)
قال ثابت البناني: ما دعا اللهَ عز وجل المؤمنُ بدعوة إلا وكل بحاجته جبرئيل عليه السلام، فيقول: لا تعجل بإجابته فإني أحب أن أسمع صوت عبدي المؤمن؛ وإن الفاجر يدعو الله عز وجل فيوكل جبرئيل بحاجته فيقول: يا جبرائيل أعجل إجابة دعوته فإني أحب أن لا أسمع صوت عبدي الفاجر(1)
__________
(1) وتكميلاً لفوائد هذا الباب العظيم، أسوق هنا جملة من الأخبار التي ساقها صاحب (العقد الفريد) في أبواب الدعاء والاستغفار من كتابه هذا:
العُتبيّ عن أبيه قال : خرجتُ مع عُمَر بن ذرّ إلى مكة فكان إذا لَبَّى لم يُلَبِّ أحدٌ من حُسن صوته؛ فلما جاء الحَرَم قال : يا رب ما زِلْنا نَهْبط وَهْدةً ونَصْعد أكمة ونَعْلو نَشَزاً وَيَبْدُو لنا عَلَم حتى جِئْناك بها نَقِبَةً أخفافها دبرة ظُهورُها ذابلةً أسْنِمَتُهَا؛ وليس أعظمُ المَؤونة علينا إِتعابَ أبداننا ولكن أعظم المؤونة علينا أن تَرْجِعَنا خائبين من رحمتك يا خيرَ من نُزِل به.
وكان آخَرُ يدعو بعَرفات : يا رب لم أعْصِك إذ عصيتُك جَهْلاً مني بحقك ولا استخفافاً بعقوبتك، ولكن الثقة بعَفْوك والاغترار بِسَتْرِك المُرْخَى علي مع الشَقْوة الغالِبة والقَدَر السابق، فالآن مِن عذابك مَنِ يَسْتَنقذني؟ وبِحَبْل مَن أعْتَصِم إن قطعْت حَبْلك عَني؟ فيا أسفي على الوُقوف غداً بين يدَيْك إذا قِيل للمُخِفَين جُوزوا وللمُذْنِبين حُطّوا .
أبو الحسن قال : كان عروة بن الزُّبير يقول في مُناجاته بعد أن قُطِعت رِجْلُه ومات ابنه : كانوا أربعةً - يعنِي بنيه - فأخذتَ واحداً وأبقيتَ ثلاثة؛ وكُنَّ أربعاً - يعنِي يدَيْه ورِجليه - فأخذتَ واحدةَ وأبقيتَ ثلاثاً فلئن ابتليتَ لطالما عافيتَ ولئن عاقبت لطالما أنعمتَ .
وكان عبدُ الله بن ثعلبة البَصْريّ يقول : اللهم أنت من حِلْمك تُعْصىَ وكأنك لا تَرى وأنت من جًودك وفَضْلك تُعطِي وكأنك لا تُعْطِيِ وأيّ زمان لم يَعْصك فيه سُكان أرْضك فكُنتَ عليهم بالعفو عواداً وبالفَضْل جَواداًَ .
وكان من دُعاء علي بن الحُسين رضي اللهّ عنه : اللهم إني أعوذ بك أن تُحَسِّن في مَرأى العُيون عَلانِيَتي وتقَبِّح في خَفيات القُلوب سَرِيرتي اللهم وكما أسأتُ فأحسنتَ إليّ إذا عُدْتُ فعُدْ عليّ وارزقني مُواساة مَن قترَّت عليه ما وسَّعتَ عليَّ .
الشيبانيّ قال : أصاب الناسَ ببغداد ريحٌ مُظْلمة فانتهيتُ إلى رجل في المسجد وهو ساجد يقول في سُجوده : اللهم احفظ محمداً في أمته ولا تُشمِت بنا أعداءنا من الأمم؛ فإن كنتَ أخذتَ العوام بذنبي فهذه ناصِيتي بين يديك .
وكان الفضيل بن عِيَاض يقول : إلهي لو عَذَّبتَني بالنار لم يَخْرُج حُبُّك من قَلبي ولم أنسَ أياديكَ عندي في دار الدنيا.
وقال عبد الله بنُ مسعود : اللهم وَسِّع عليَّ في الدنيا وزَهِّدني فيها، ولا تُزْوِها عَني وتُرَغبني فيها .
مَرَّ أبو الدَّرداء برجل يقول في سُجوده : اللهم إني سائلٌ فقير فأغْنِني من سِعَة فَضْلك خائفٌ مُستجير فأجِرْني من عَذابك .
الأصمعي قال : كان عَطاءُ ابن أبي رَباح يقول في دُعائه : اللهم ارحم في الدُّنيا غُرْبتي، وعند الموت صَرْعتي، وفي القُبور وحْدَتي، ومَقامي غداً بين يديك .
العُتْبيّ قال : حدَّثني عبدُ الرحمن بن زياد قال : اشتكي أبي فكتب إلى أبي بكر بن عبد الله يسأله أن يدعوَ له؛ فكتب إليه : حُقَّ لمن عَمِل ذنباً لا عُذْر له فيه، وخاف مَوتاً لا بُدَ له منه، أن يكون مُشْفِقاً؛ سأدعو لك، ولستُ أرجو أن يُستجاب لي بقوةٍ في عَمل وبراءةٍ من ذنْب .
سُفيان الثَوريّ قال : دخلتُ على جَعفر بن محمد رضي اللهّ عنهما فقال لي : يا سُفيان إذا كثرت هُمومُك فأكْثِر من لا حَوْلَ ولا قُوّة إلا باللّه العليّ العَظيم؛ وإذا تَداركتْ عليك النِّعم فأكْثِر من الحَمْد لله؛ وإذا أبطأ عنك الرّزْق فأكثر من الاستغفار .
وقال عبد الله بن عبّاس : لا كَبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصْرار .
وقال عليّ بن أبي طالب رضي اللهّ عنه : عجباً ممن يَهْلك والنجاة معه ! قيل له : وما هي؟ قال : الاستغفارُ .
وكان آخرُ دُعاء أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه في خُطْبته : اللهم اجعلْ خيرَ زَماني آخرَه وخيرَ عَملي خواتِمَه وخيرَ أيامي يومَ لِقائك .
وكان آخرُ دُعاء عمرَ رضي الله عنه في خُطبته : اللهم لا تَدَعْني في غَمْرة ولا تَأخًذْني في غرة ولا تَجْعلني من الغافِلين .
وقال أعرابي يصف دَعْوة :
وساريةٍ لم تَسْرِ في الأرض تَبْتَغِي مَحَلاً ولم يَقْطَعْ بها البِيدَ قاطعُ
سَرَتْ حيث لم تَسْرِ الرِّكابُ ولم تُنَخْ لورْد ولم يَقْصرُ لها القَيْدَ مانع
تَظلُّ وَرَاء اللَيل والليلُ ساقِطٌ بأروَاقه فيه سميرٌ وهاجع
إذا سألَتْ لم يَرْدُدِ الله سُؤْلَها على أهْلِها والله راءٍ وسامع
وإني لأرجو اللهَ حتى كأنما أرى بجميل الظنّ ما اللهّ صانع
ومن قولنا في هذا المعنى :
بُنَيٌ لئن أعيا الطبيبَ ابنَ مُسلم ضَنَاك وأعْيا ذا البَيان المُسَجَّع
لأبْتَهِلَنْ تحتَ الظلام بِدَعْوَةٍ متى يَدْعها داع إلى الله يُسمع
يُقلقل ما بينَ الضلوعِ نَشيجُها لها شافِع من عَبْرَةٍ وتضرُّع
إلى فارجِ الكَرْب المُجيب لمن دعا فَزَعْتُ بكَرْبي إنه خير مَفْزع
فيا خيرَ مَدْعُوّ دعوتُك فاسْتَمع ومالِي شَفيع غير فضلك فاشْفَع
انتهى ما أردت نقله هنا من جواهر (العقد الفريد).(2/115)
. (صف3/261)
حلاوة الذكر وأخبار بعض الذاكرين
قال مالك بن دينار: ما تنعم المتنعمون بمثل ذكر الله عز وجل. (2/358)
قال مالك بن دينار: قرأت في التوراة: أيها الصديقون تنعموا بذكر الله في الدنيا فإنه لكم في الدنيا نعيم وفي الآخرة جزاء عظيم. (2/358)
قال مسلم بن يسار: ما تلذذ المتلذذون بمثل الخلوة بمناجاة الله عز وجل. (2/294)
قال ميمون بن سياه: إذا أراد الله بعبده خيراً حبب إليه ذكره. (3/107)
قال ابن أبي عدي: أقبل علينا داود بن أبي هند فقال: يا فتيان أخبركم لعل بعضكم أن ينتفع به، كنت وأنا غلام أختلف إلى السوق فإذا انقلبت إلى بيتي جعلت على نفسي أن أذكر الله تعالى إلى مكان كذا وكذا، فإذا بلغت ذاك المكان جعلت على نفسي أن أذكر الله تعالى إلى مكان كذا وكذا حتى آتي المنزل. (3/93)
قال حفص بن حميد: كان الرجل يأتي زياد بن حُدَيْر(1) فيقول له: إني أريد رستاق كذا وكذا فيقول له: اقطع طريقك بذكر الله. (صف3/38)
قال عون بن عبد الله: ذاكر الله في غفلة الناس كمثل الفئة المنهزمة يحميها الرجل، لولا ذلك الرجل هزمت الفئة، ولولا من يذكر الله في غفلة الناس هلك الناس. (صف3/100)
قال خصيف: رأيتُ سعيدَ بنَ جبير صلى رَكعتينِ خلفَ المقام قبل صلاةِ الصبح، قال: فأتيتُه فصليتُ إلى جنبِه وسألتُه عن آيةٍ من كتابِ اللهِ فلم يجبْني فلما صلى الصبحَ قالَ: إذا طلعَ الفجرُ فلا تتكلم إلا بذكرِ اللهِ حتى تصلي الصبح. (4/281)
قال سعيدٌ بن جبير: إنَّ الخشيةَ أنْ تخشى اللهَ تعالى حتى تحولَ خشْيتُكَ بينَكَ وبينَ معصيتِكَ، فتلكَ الخشيةُ؛ والذكرُ طاعةُ اللهِ فمنْ أطاعَ اللهَ فقدْ ذكرهُ ومنْ لمْ يطعْهُ فليسَ بذاكرٍ وإنْ أكثرَ التسبيحَ وقراءةَ القرآن. (4/276)
قال أبو فروة: كنا نجالس عبد الله بن أبي الهذيل فإن جاء إنسان فألقى حديثاً من حديث الناس قال: يا عبدَ الله ليس لهذا جلسنا. (4/358)
__________
(1) في (التقريب): (ثقة عابد من الثانية).(2/116)
كان الربيع بن أبي راشد وجماعة جلوساً عند حبيب بن ابي ثابت والربيع محتب فجاء رجل فتكلم بكلام من كلام الناس فحل الربيع حبوته وانتعل ثم قام فخرج فقال حبيب للرجل: ما صنعتَ؟! أفسدت علينا مجلسنا. (5/77)
قال الوليد بن سليمان الدمشقي: سمعت أبي يذكر قال: كان عبد الله بن أبي زكريا إذا خاض جلساؤه في غير ذكر الله كأنه ساه وإذا خاضوا في ذكر الله كان من أحسن الناس استماعاً. (صف4/217)
كان ابن أبي زكريا لا يُذكرُ في مجلسِه أحدٌ، يقولُ: إن ذكرتم اللهَ أعَنّاكم، وإنْ ذكرتم الناسَ تركناكم(1). (5/149)
قال الأوزاعي: كان عبدة [بن أبي لبابة] إذا كان في المسجد لم يذكر شيئاً من أمر الدنيا. (صف3/110)
قال الأوزاعي: كان حسان بن عطية يتنحى إذا صلى العصر في ناحية المسجد فيذكر الله عز وجل حتى تغيب الشمس. (صف4/222)
قال ميمون بن مهران: كانَ يقالُ: الذكرُ ذِكْرانِ، ذكرُ اللهِ باللسانِ، وأفضلُ منْ ذلكَ أن تذكُرَهُ عند المعصيةِ اذا أشرفتَ عليها. (4/87)
قال بلال بن سعد: الذكر ذكران: ذكر لله عز وجل باللسان حسن جميل، وذكر الله عند ما أحل و حرم أفضل. (صف4/ 218)
ذكر خلف بن حوشب أن جواباً التميمي كان يرتعد عند الذكر فقال له ابراهيم: إن كنت تملكه فما أبالي أن لا أعتد بك وإن كنت لا تملكه فقد خالفت من هو خير منك. (4/231)
الذكر وفضله
سمع مطرف رجلاً يقول: أستغفر الله وأتوب إليه، قال: فلعلك لا تفعل(2). (الزهد ص239)
قال الحسن: بينا رجل رأى في المنام أن منادياً ينادي من السماء: أيها الناس خذوا سلاح فزعكم! فعمد الناس فأخذوا السلاح، حتى أن الرجل ليجيء وما معه إلا عصا؛ فنادى من السماء: ليس هذا سلاح فزعكم! فقال رجل من أهل الأرض: وما سلاح فزعنا؟ قال: لا إله إلا الله وسبحان الله والله أكبر والحمد لله. (الشعب 1/437)
__________
(1) أي قمنا عنكم وفارقناكم.
(2) في هذا الأثر بيان حاجة الذكر اللساني إلى حضور القلب، وإلى الصدق في العمل.(2/117)
سئل الحسن عن رجل لا يتحاشى عن معصية إلا أن لسانه لا يفتر عن ذكر الله؟ قال: إن ذلك لعون حسن. (جامع العلوم والحكم ص168)
قال أبو عبيدةَ بنُ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ: لو أن رجلاً جلسَ على ظهرِ الطريقِ ومعه خرقةٌ فيها دنانير لا يمرُّ إنسانٌ إلا أعطاهُ ديناراً، وآخر الى جانبِهِ يكبّرُ اللهَ تعالى لكانَ صاحبُ التكبيرِ أعظمَ أجراً. (4/204)
قال عُبيدُ بنُ عُمير: تسبيحةٌ بحمدِ اللهِ في صحيفةِ مؤمنٍ يومَ القيامةِ خيرٌ مِن أن تسيرَ معهُ الجبالُ ذهباً. (3/272)
عن سفيان بن عيينة عن عاصم قال: كان عامة كلام ابن سيرين: سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده. (المصنف 35589)
قال مجاهد: إذا أراد أحدكم أن ينام فليستقبلِ القبلةَ ولينمْ على يمينه وليذكرِ الله وليكن آخر كلامه عند منامه: لا إله إلا الله، فإنها وفاء لا يدري لعلها تكون منيته ثم قرأ: (وهو الذي يتوفاكم بالليل). (صف2/210)
قال عبيد بن عمير: إنْ أعْظمكم هذا الليلُ أن تكابدوه وبخلتم بالمال أن تنفقوه وجبنتم عن العدو أن تقاتلوه فأكثروا من ذكر الله عز وجل. (صف2/207)
كثرة الذكر وقلته ومعناهما
قال الحسن في قول الله تعالى ([وَ]لاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً)(1): إنما قل لأنه لغير الله عز وجل(2). (الزهد ص271 والمصنف 7/199 والشعب 5/344)
__________
(1) النساء (142).
(2) وأما الذي يذكر الله لوجه الله فإنه لا يكاد ينقطع عن الذكر لعظم حلاوة الذكر وقوة طمأنينة القلب به، ولحرصه على الثواب؛ ثم إنه يسْهل عليه الذكرُ ويوفَّق له بإذن الله، والذكر يجر الذكر؛ فمن ثواب الحسنة الحسنة بعدها؛ وما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل.(2/118)
قال محمد بن فضيل عن أبيه: كان ماهان الحنفي يلقى الرجل فيقول: ما يستحيي أحدُكم أن تكون دابته التي يركبها وثوبه الذي يلبسه أكثر ذكراً لله منه؟! وكان لا يفتر من التسبيح؛ قال: فأخذه الحجاج فصلبه على باب مسجد بني حنيفة وكان يسبح ويعقد؛ قال: فطُعن وقد عقد تسعة وستين؛ قال: فرأيتها بعدَ كذا وكذا. (تهذيب الكمال 27/170)
قال سلام بن أبي مطيع: كان الربيع بن خثيم إذا أصبح قال: مرحباً بملائكة الله اكتبوا: بسم الله الرحمن الرحيم سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. (صف3/67)
كان خليد بن عبد الله العصري يأمر ببيته فيُقَمُّ ثم يأمر بوسادتين ثم يغلق بابه ثم يقعد على فراشه فيقول: مرحباً بملائكة ربي، أما والله لأشهدنكم اليوم خيراً، خدوا: باسم الله سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر عامة يومه، ولا يزال كذلك حتى تغلبه عينه أو يخرج إلى الصلاة. (2/232)
عن كعب بن شبيب العصري عن خليد العصري قال: إن لكل بيت زينة وزينة المساجد الرجال على ذكر الله عز وجل. (فضيلة الشكر ص42)
كان أبو مسلم الخولاني يُكثرُ أنْ يرفعَ صوتَهُ بالتكبيرِ حتى مع الصبيان، وكان يقولُ: أذكروا اللهَ حتى يرى الجاهلُ أنَّكم مجانين. (2/124)
قال سفيان بن حسين: كان الحسن كثيراً ما يردد هذين الحرفين: اللهم لك الحمد على حلمك بعد علمك؛ ولك الحمد على عفوك بعد قدرتك. (الزهد ص262)
فضل الصمت وقلة الكلام
قال وهب بن منبه: أجمعت الأطباء أن رأس الطب الحمية؛ وأجمعت الحكماء أن رأس الحكمة الصمت. (الصمت ص278)
قال قتادة: إن الرجل ليشبع من الكلام كما يشبع من الطعام والشراب. (مسند ابن الجعد 1037 والصمت ص279)
قال الأحنف: الصمت أمان من تحريف اللفظ وعصمة من زيغ المنطق، وسلامة من فضول القول، وهيبة لصاحبه. (روضة العقلاء ص43)(2/119)
قال زبيد اليامي: أسكتتني كلمةُ ابن مسعود عشرين سنة: مَن كان كلامه لا يوافق فعلَه فإنما يوبِّخ نفسه. (عيون الأخبار 2/179)
قال الحسن في بعض كلامه: والله ما كانوا بالهتاتين ولكنهم كانوا يجمعون الكلام ليعقل عنهم(1). (لسان العرب 2/103 وغريب الحديث لابن قتيبة 2/608)
عن إسرائيل عن الأعمش عن ابراهيم قال: كانوا يجلسون فيتذاكرون فأطولهم سكوتاً أفضلهم في أنفسهم. (4/224 والصمت ص278-279)
قال محارب: صحبنا القاسم بن عبد الرحمن فغلبنا بثلاث: كثرة الصلاة وطول الصمت وسخاء النفس. (الشعب 3/157 والصمت ص278)
قال عمر بن عبد العزيز: إذا رأيتم الرجل يطيل الصمت ويهرب من الناس فاقتربوا منه فإنه يلقن الحكمة. (الصمت ص288)
قال اسماعيل بن أمية: كان عطاء [بن أبي رباح] يطيل الصمت فإذا تكلم يخيل إلينا أنه يؤيد. (صف2/212)
قال صالحُ بنُ أبي الأخضَر: قلتُ لأيوبَ: أوصِني، فقالَ: أقِلَّ الكلام. (3/7 والصمت ص300)
قال ابن أبي زكريا: ما طلبتُ تعلُّمَ الكلامَ فتعلمتُ ما أردت، ثم طلبتُ تعلُّمَ الصمتَ فوجدتُهُ أشدَّ مِن تعلِّمِ العلم. (5/152)
قالَ الأوزاعيُّ: لم يكن بالشامِ رجلٌ يفضلُ على [عبد الله] بن أبي زكريا؛ قال: عالجتُ لساني عشرينَ سنةً قبلَ أن يستقيمَ لي. (5/149)
عن علي بن [أبي] حَمَلة قال: قال عبد الله بن أبي زكريا الدمشقي: عالجت الصمت عما لا يعنيني عشرين سنة قل أن أقدر منه على ما أريد، قال: وكان لا يدع يغتاب في مجلسه أحد، يقول: إن ذكرتم الله أعناكم وإن ذكرتم الناس تركناكم. (الصمت ص260 والزهد ص168 و الحلية 5/249 و صف4/216)
__________
(1) يقال: هتَّ في كلامه، وهتهت، إذا أسرع؛ ويقال: رجل مهت وهتات إذا كان مهذاراً كثير الكلام. انظر (لسان العرب) (2/103).(2/120)
عن عبيد بن الوليد بن أبي السائب حدثني أبي قال: كان عبد الله بن أبي زكريا إذا كان في مجلس فخاض جلساؤه في غير ذكر الله فكأنه ساه وإذا أخذوا في ذكر الله كان أشد القوم استماعاً إليه. (الصمت ص264)
عن مسلم بن زياد قال: كان عبد الله بن أبي زكريا لا يكاد أن يتكلم حتى يُسأل، وكان من أبش الناس وأكثرهم تبسماً(1). (الصمت ص264)
قال إسماعيل بن عياش: حدثني عبد الله بن دينار عن كلام الحكماء قال: الصمت على خمس: على علم وحلم وعي وجهل وعظيمة. (الصمت ص305)
فضل الكلم الطيب
قال محمد بن المنكدر: يمكنكم من الجنة إطعام الطعام وطيب الكلام. (الصمت ص175 والمداراة ص92-93)
قال يحيى بن أبي كثير: ما صلح منطق رجل إلا عُرف ذلك في سائر عمله. (روضة العقلاء ص47)
قال عطاء: قوله عز وجل (وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً)(2): للناس كلهم المشرك وغيره. (المداراة ص94-95 والصمت ص177-178 وص176)
عن أبي سنان قال: قلت لسعيد بن جبير رضي الله عنه المجوسي يوليني من نفسه ويسلم علي أفأرد عليه؟ فقال سعيد: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن نحو من ذلك فقال: لو قال لي فرعون خيراً لرددت عليه. (الصمت ص178)
قال هشام بن عروة: عطس نصراني طبيب عند أبي فقال له: رحمك الله فقيل له: إنه نصراني فقال: إن رحمة الله على العالمين. (الصمت ص179)
فضل حفظ اللسان والورع في الكلام
كان الربيع بن خثيم يقول: لا خير في الكلام إلا في تسع تهليل وتكبير وتسبيح وتحميد وسؤالك من الخير وتعوذك من الشر وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر وقراءتك للقرآن. (الصمت ص84)
عن محمد بن واسع عن مطرف بن الشخير قال: من صفا عمله صفا لسانه ومن خلط خلط له. (الصمت ص266)
قال مالك بن دينار: من صفا صُفِّيَ له، ومن خلط خُلط له. (2/381)
__________
(1) قال محمد بن عجلان: إنما الكلام أربعة: أن تذكر الله، وأن تقرأ القرآن، وتسأل عن علم فتخبر به، وتتكلم فيما يعنيك من أمر دنياك. (الصمت ص263)
(2) البقرة (83).(2/121)
قال الحسن: كانوا يقولون: لسان الحكيم وراء قلبه، فإذا أراد أن يقول رجع إلى قلبه، فإن كان له قال، وإن كان عليه أمسك؛ وإن الجاهل قلبه في طرف لسانه، لا يرجع إلى قلبه، ما جرى على لسانه تكلم به. (الزهد ص271 و رك ص131 والصمت ص220 والمصنف 7/187 و236 والشعب 4/266 والبيان والتبيين 1/172)
قال الصلت بن بسطام: حدثني رجل من تيم الله، وكان قد جالس الشعبي وإبراهيم قال: ما رأيت أحداً أملك للسانه من طلحة بن مصرف(1). (الصمت ص220 و صف3/97)
عن لقيط بن بكير المحاربي قال: قال الشعبي: قلت للهيثم بن الأسود النخعي: أي الثلاثة أشعر؟ منك ومن الأعور الشني وعبد الرحمن بن حسان بن ثابت؟ حيث تقول أنت:
وأعلم علماً ليس بالظن أنه** *إذا زال مال المرء فهو ذليل
وأن لسان المرء ما لم يكن له***حصاة، على عوراته لدليل
أم الأعور الشني حيث يقول:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده**فهل بعدُ إلا صورة اللحم والدم
وكأين ترى من ساكت لك معجِب****زيادته أو نقصه في التكلم
أو عبد الرحمن بن حسان حيث يقول:
ترى المرء مخلوقاً وللعين حظها****وليس بأحناء الأمور بخابر
وذاك كماء البحر لست مسيغه*****ويعجب منه ساجياً كل ناظر
فقال الهيثم: هيهات الأعور أشعرنا. (الصمت ص71-72)
قال علقمة بن مرثد: انتهى الزهد إلى ثمانية من التابعين منهم أبو مسلم الخولاني فإنه لم يكن يجالس أحداً يتكلم في شيء من أمر الدنيا إلا تحول عنه. (صف 4/209)
قال جعفر الخراز: سمعت محمد بن واسع يقول لمالك بن دينار: أبا يحيى حفظ اللسان على الناس أشد من حفظ الدنانير والدراهم. (الصمت ص69)
قال محمد بن واسع: قال مطرف: من صفا عمله صفا لسانه(2). (الصمت ص266)
__________
(1) قال حريش بن سليم: سألت زبيداً: من أعجب من أدركت إليك؟ قال: ما أدركت أحداً أعجب إلي من طلحة. (صف3 / 97)
(2) تتمته: (ومن خلط خلط له)، ولم أذكرها في المتن لأني أرى كأن فيها تصحيفاً.(2/122)
قدم أبو قلابة على عمر بن عبد العزيز فقال له: حدث يا أبا قلابة، قال: والله إني لأكره كثيراً من الحديث وكثيراً من السكوت. (2/287)
قال إبراهيم التيمي: المؤمن إذا أراد أن يتكلم نظر، فإن كان كلامه له تكلم، وإن كان عليه أمسك عنه؛ والفاجر إنما لسانه رسلاً رسلاً. (الصمت ص219 و ص85)
قال الشعبي: ما من خطيب يخطب إلا عرضت عليه خطبته يوم القيامة. (الصمت ص87)
قال مالك بن دينار: قرأت في بعض الكتب: ما من خطيب يخطب إلا عرضت خطبته على عمله، فإن كان صادقاً صُدِّق؛ وإن كان كذاباً قرضت شفتاه بمقراضين من نار كلما قرضتا نبتتا. (الصمت ص245)
قال محمد بن سوقة: أحدثكم بحديث لعلَّ اللهَ أنْ ينفعَكم بهِ، فإنَّ اللهَ قد نفعني به، دخلنا على عطاءٍ [بن أبي رباح] فقالَ لنا: إنَّ منْ كانَ قبلَكم كانوا يكرهون فضولَ الكلامِ، وكانوا يعدّونَ فضولَ الكلامِ ما عدا ثلاثاً: كتاب اللهِ أنْ يتلوه، أو أمر بمعروفٍ، أو نهي عن منكر، وأن ينطقَ بحاجتِهِ التي لا بدَّ لهُ منها؛ أتنكرونَ (إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ)(1) و(عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ، مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)(2)؛ أما يستحي أحدُكم لو نشرتْ عليه صحيفتُهُ في آخرِ نهارهِ وقد أملى فيها من أولِ نهارهِ، ليس فيها حاجةٌ من حاجاتِ دنياه ولا آخرتِهِ؟!(3) (5/3-4 والصمت ص81 والمصنف 35469)
قال عمرُ بن عبد العزيز: من لم يعلم أنَّ كلامَه مِن عملِه كثرتْ ذنوبُه(4). (5/290)
__________
(1) الانفطار (10-11)، وحذف واو العطف من أول الآية.
(2) ق (7-8).
(3) ووردت العبارة الأخيرة عند بعض رواة هذا الخبر هكذا: (---صحيفته التي أملى صدر نهاره، أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه).
(4) بكثرة كلامه المحرم أو الموقع له في المحرم من الأفعال والأحوال القلبية.(2/123)
قال يحيى القطان: ما ساد ابنُ عون الناس أن كان أتركَهم للدنيا، ولكن إنما ساد ابنُ عون الناس بحفظ لسانه. (3/37-38)
قال معاذ بن معاذ: حدثني غير واحد من أصحاب يونس بن عبيد قال: إني لأعرف رجلاً منذ عشرين سنة يتمنى أن يسلم له يوم من أيام ابن عون فلا يقدر عليه، وليس ذلك أن يسكت رجل يوماً لا يتكلم، ولكن يتكلم فيسلم كما يسلم ابن عون. (صف3/309)
قال خارجة بن مصعب: صحبت ابن عون ثنتي عشرة سنة فما رأيته تكلم بكلمة كتبها عليه الكرام الكاتبون. (الصمت ص310)
قال عبد الله بن المبارك: حدثنا ابن عون عن الحسن رضي الله عنه قال: كانوا يتكلمون عند معاوية رضي الله عنه والأحنف ساكت فقالوا: ما لك لا تتكلم يا أبا بحر؟! قال: أخشى الله إن كذبت وأخشاكم إن صدقت [فقال: جزاك الله عن الطاعة خيراً](1). (الصمت ص70 والطبقات 7/95 والبدع والنهي عنها ص90 و صف3/199)
المناهي اللفظية والتثبّت في الألفاظ والتحرّي فيها
عن مغيرة قال: كان إبراهيم رحمه الله يكره أن يقول الرجل: أعوذ بالله وبك ويرخص أن يقول أعوذ بالله ثم بك، ويكره أن يقول: لولا الله وفلان ويرخص أن يقول: لولا الله ثم فلان. (الصمت ص193-194)
قال أبو عمران الجوني: أدركت أربعة من أفضل من أدركت فكانوا يكرهون أن يقولوا: اللهم أعتقنا من النار، ويقولون: إنما يعتق منها من دخلها؛ وكانوا يقولون: نستجير بالله من النار، ونعوذ بالله من النار. (الصمت ص194)
قال إبراهيم: إذا قال الرجل للرجل: يا حمار ويا خنزير قيل له يوم القيامة: حماراً رأيتني خلقته؟ خنزيراً رأيتني خلقته. (الصمت ص194-195)
عن ليث عن مجاهد رحمه الله أنه كره أن تقول للميت: استأثر الله به. (الصمت ص196)
__________
(1) ورد هذا الخبر مطولاً في (الكامل) (1/48)، ومنه ألحقت هذه الزيادة المعلَّمة، والتي هي من قول معاوية.(2/124)
عن منصور عن إبراهيم رحمه الله أنه كان يكره أن يقال: على قراءة ابن مسعود، ولكن كما كان ابن مسعود يقرأ. (الصمت ص196)
قال أبو الحارث الكرماني: سمعت رجلاً قال لأبي رجاء: أقرأ عليك السلام وأسأل الله أن يجمع بيني وبينك في مستقر رحمته؛ قال: وهل يستطيع أحد ذلك؟! قال: فما مستقر رحمته؟ قال: الجنة؛ قال: لم تصب؛ قال: فما مستقر رحمته؟ قال رب العالمين. (الأدب المفرد 768)
عن مجاهد أنه كان يكره أن يقول: "اللهم أدخلني في مستقر رحمتك"، فإن مستقر رحمته هو نفسه. (الصمت 350 طبعة مؤسسة الكتب الثقافية)
عن مغيرة عن إبراهيم رحمه الله قال: كان يكره أن تقول لعمر الله، لا بحمد الله. (الصمت ص196)
قال عون بن عبد الله: لا تقولوا: أصبحنا وأصبح الملك لله؛ ولكن قولوا: أصبحنا والملك لله؛ ولا يقول الرجل إذا سئل عن الرجل: ليس لي به عهد حتى يقول: مذ لم أره(1). (الصمت ص296 وأوله في الصمت ص200)
قال عون بن عبد الله: لا يقولن أحدكم: نَعِم الله بك عيناً، فإن الله لا ينعم بشيء؛ ولكن ليقل: أنعم الله بك عيناً؛ فإنما أنعم أقر. (الصمت ص200)
قال مطرف: لا تقل: إن الله يقول، ولكن قل: إن الله قال. (الصمت ص200)
قال ابن عون: سمعت محمداً [بن سيرين] يقول في شيء راجعته فيه: إني لم أقل لك: ليس به بأس، إنما قلت لك: لا أعلم به بأساً(2). (صف3/243)
قال جواب التيمي: جاءت أخت الربيع بن خثيم عائدة إلى بني له فانكبت عليه فقالت: كيف أنت يا بني؟ فجلس ربيع فقال: ارضعتيه؟ قالت: لا، قال: ما عليك لو قلت: يا ابن أخي، فصدقتِ؟!(3). (الصمت ص254)
__________
(1) أي يذكر آخر وقت رآه فيه، فيقول: ليس لي به عهد منذ كذا من الوقت، ولا يطلق الكلام.
(2) انظر ورعه في الألفاظ ودقته في التعابير.
(3) عن محارب بن دثار أن امرأة قالت لشتير بن شكل: يا بني، قال: كذبتِ لم تلديني. (الصمت ص255)(2/125)
قال مطرف: إن الرجل يكذب مرتين: يقال له: ما هذا؟ فيقول: لا شيء لا شيء! أليس بشيء؟! (2/203 والصمت ص200)
قال مطرف: ليُعَظَّمْ جلالُ اللهِ أن تذكروه عند الحمار والكلب فيقول أحدكم لكلبه أو لشاته: أخزاك الله وفعل الله بك. (2/209 والصمت ص281 وفيه زيادة ذكر الحمار)
عن حماد بن زيد عن أيوب عن محمد [بن سيرين] أن رجلاً شهد عند شريح فقال: (أشهد بشهادة الله)؛ فقال له شريح: لا تشهد بشهادة الله، ولكن اشهد بشهادتك، فإن الله لا يشهد إلا على حق. (الصمت 351 مؤسسة الكتب الثقافية)
قال سفيان [بن عيينة]: اجتمعوا إلى القاسم بن محمد [بن أبي بكر] رحمه الله في صدقة قسمها، فأتوا وهو يصلي فجعلوا يتكلمون فقال ابنه: إنكم اجتمعتم إلى رجل والله ما نال منها درهماً ولا دانقاً قال: فأوجز القاسم ثم قال: قل يا بني: فيما علمته، قال سفيان: صدق ابنه ولكنه أراد تأديبه في المنطق وحفظه. (الصمت ص283 و صف2/89)(1)
عن أبي حيان عن أم الأسود قالت: كانت ابنة الربيع بن خثيم تأتيه فتقول: يا أبتاه ائذن لي ألعب فيقول: يا بنية قولي خيراً، قال: فتلقنها أمها قولي: أتحدث فيقول: إني لم أسمع الله رضي لأحد اللعب(2). (صف3/64)
قال يونس بن عبيد: إنك تكاد تعرف ورع الرجل في كلامه إذا تكلم. (3/20 والورع لأحمد ص70)
__________
(1) عن سماك الحنفي سمع ابن عباس رضي الله عنهما يكره أن يقول الرجل: إني كسلان. (الصمت 368 مؤسسة الكتب الثقافية).
(2) عن الربيع بن منذر قال: سمعت أبي يقول: كان عند الربيع بن خثيم رهط فجاءته ابنته فقالت: يا أبتاه أذهب ألعب؟ فقال: اذهبي فقولي خيراً، غير مرة؛ قال: فقال القوم: أصلحك الله وما عليك أن تقول لها؟ قال: وما علي أن لا يكتب هذا في صحيفتي. (صف3/64)
وعن أبي حيان التيمي عن أبيه قال: رأيت ابنة الربيع بن خثيم أتته فقالت: يا أبتاه أذهب ألعب؟ قال: يا بنيتي اذهبي قولي خيراً. (الصمت ص218)(2/126)
قال عاصم: قال رجل للربيع بن خثيم: ما يمنعك أن تمثل بيتاً من الشعر فإن أصحابك قد كانوا يفعلون ذلك؟ قال: إنه ليس أحد يتكلم بكلام إلا كتب ثم يعرض عليه يوم القيامة فإني والله أكره أن أقرأ في إمامي يوم القيامة بيت شعر. (الصمت ص308)
عن مسروق أنه سئل عن بيت من شعر فكرهه، فقيل له، فقال: إني أكره أن يوجد في صحيفتي شعر. (الصمت ص282)
عن هلال أبي الصيرفي قال: سألت طلحة بن مصرف عن شيء من الشعر، قال: اجعل مكان [الشعر] ذكراً، فإن ذكر الله خير من الشعر. (الصمت ص282)
قال بلال بن المنذر: قال رجل للربيع: قتل ابن فاطمة فاسترجع ثم تلا هذه الآية (قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(1)؛ قال: ما تقول؟ قال: ما أقول؟ إلى الله إيابهم وعليه حسابهم. (صف3/63)
سمع الربيع بن خثيم رجلاً يلاحي رجلاً فقال: مه! لا تلفظ إلا بخير ولا تقل لأخيك إلا ما تحب أن تسمعه من غيرك! فإن العبد مسؤول عن لفظه محصي عليه ذلك كله؛ أحصاه الله ونسوه. (الصمت ص101 و صف3/67)
قال بعض من صحب الربيع: ما أرى ربيعاً تكلم بكلام منذ عشرين عاماً إلا بكلمة تصعد(2). (2/109 والصمت ص217)
عن أبي حيان التيمي عن أبيه قال: ما سمعت الربيع بن خثيم يذكر شيئاً من أمر الدنيا قط. (الصمت ص217)
عن العوام بن حوشب قال: ما رأيت إبراهيم التيمي رافعاً رأسه إلى السماء في الصلاة ولا في غيرها ولا سمعته قط يخوض في شيء من أمر الدنيا. (الصمت ص218)
قال يحيى بن أبي كثير: أثنى رجل على رجل فقال له بعض السلف: وما علمك به؟ قال: رأيته يتحفظ في منطقه. (الصمت ص219)
__________
(1) الزمر (46).
(2) قال رجل من بني تيم الله قال جالست الربيع عشر سنين فما سمعته يسأل عن شئ من أمر الدنيا إلا مرتين، قال مرة: والدتك حية؟ وقال مرة: كم لكم مسجداً؟ (2/110)(2/127)
عن عبد العزيز [بن] الماجشون عن أبي عبيد قال: ما رأيت رجلاً قط أشد تحفظاً في منطقه من عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. (الصمت ص219)
قال أمية بن عبد الله بن عمرو بن عثمان: كنا عند عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فقال رجل لرجل: تحت إبطك، فقال عمر رضي الله عنه: وما على أحدكم أن يتكلم بأجمل ما يقدر عليه؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: لو قال: تحت يدك، كان أجمل. (الصمت ص220)
عن العلاء بن هارون قال: كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يتحفظ في منطقة لا يتكلم بشيء من الخنا فخرج به خراج في إبطه فقالوا: أي شيء عسى أن يقول الآن؟! قالوا: يا أبا حفص أين خرج منك هذا الخراج؟ قال: في باطن يدي. (الصمت ص268)
عن الأعمش قال: سمعت إبراهيم [النخعي] يقول: كانوا يكرهون أن يسموا العبد عبد الله يخافون أن يكون ذلك عتقاً، وكانوا يكرهون أن يظهروا صالح ما يسرون يقول الرجل: إني لأستحي أن أفعل كذا وكذا وأصنع كذا وكذا وكانوا يعطون الشيء ويكرهون أن يقولوا: أعطيك احتسب به الخير أو يقولون: حر لوجه الله، وكانوا يعطون ويسكتون ولا يقولون شيئاً. (4/230-231)
قال عبد العزيز بن الماجشون: قال أبو حازم لبعض أولئك الأمراء: والله لولا تبعة لساني لأشفيت منكم اليوم صدري. (الصمت ص220)
عن جسر أبي جعفر قال: سمعت ميمون بن سياه يقول: ما تكلمت بكلمة منذ عشرين سنة لم أتدبرها قبل أن أتكلم بها إلا ندمت عليها إلا ما كان من ذكر الله. (الصمت ص220)
قال سعد بن عامر: عرض على عمرو بن عبيد طيلسان فقال: ما ثوب بأجود منه فعيب به خمسين سنة كانوا يقولون: إن عمراً لا يحفظ لسانه. (الصمت ص224)
قال ربيعة بن عطاء: قلت عند القاسم بن محمد: قاتل الله محمد بن يوسف ما أجرأه على الله! قال: هو أذل وألأم من أن يجترىء على الله ولكنها الغرة، قل: ما أغره بالله. (الصمت ص296)
آفات اللسان(2/128)
قال هرم بن حيان: صاحب الكلام على إحدى المنزلتين إن قصر فيه حصر، وإن أغرق فيه أثم. (صف3/214)
قال نعيم كاتب عمر بن عبد العزيز: قال عمر بن عبد العزيز: إنه ليمنعني من كثير من الكلام مخافة المباهاة. (الصمت ص87)
قال الحسن: ابن آدم وكل بك ملكان كريمان ريقك مدادهما ولسانك قلمهما(1). (الصمت ص267)
عن إسماعيل بن ابي خالد عن طارق بن شهاب قال: بعث سليمان بن داود عليهما السلام بعض عفاريته وبعث نفراً ينظرون ما يقول ويخبرونه، قال: فأخبروه أنه مر على السوق فرفع رأسه إلى السماء ثم نظر إلى الناس وهز رأسه فسأله سليمان لم فعل ذلك قال عجبت من الملائكة على رؤوس الناس ما أسرع ما يكتبون ومن الذين أسفل منهم ما أسرع ما يُمْلُون. (الصمت ص84)
عن ليث عن مجاهد (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد)(2) قال: الملكان. (الصمت ص82)
قال أبو الاشهب: كانوا يقولون: ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه. (الزهد ص271 والصمت ص61)
عن أبي الأشهب عن الحسن قال: ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه. (الصمت ص61 و ص261-262)
عن محمد بن حوشب قال: سمعت أبا عمران الجوني يقول: إنما لسان أحدكم كلب، فإذا سلطه على نفسه أكله. (الصمت ص67)
قال عبيد الله بن محمد التيمي: قيل لأحنف بن قيس يوم قطري: تكلم، قال: أخاف ورطة لساني. (الصمت ص70)
قال الحسن: من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو؛ ومن لم يكن سكوته فكرة فهو سهو. (فيض القدير 2/314)
قال يحيى بن أبي كثير: خصلتان إذا رأيتهما في الرجل فاعلم أن ما وراءهما خير منهما: إذا كان حابساً للسانه، يحافظ على صلاته. (الصمت ص264)
__________
(1) قال الحسن: يا ابن آدم بسطت لك صحيفة ووكل بك ملكان كريمان يكتبان عملك فأكثر ما شئت أو أقل. (الصمت 84)
قال الحسن: قد علم كل مؤمن أنه موكل به ملكان يحفظان عليه قوله وعمله فهو يتعاهدهما لا يمنعه جد الليل جد النهار ولا جد النهار جد الليل. (الزهد ص271)
(2) ق (18).(2/129)
قال يونسُ بن عبيد: خصلتانِ إذا صلَحتا من العبدِ صلَحَ ما سواهما من أمرِهِ: صلاتُهُ ولسانُه. (3/20)
قال يونس بن عبيد: ما رأيت أحداً لسانه منه على بال إلا رأيت ذلك صلاحاً في سائر عمله. (الصمت ص288 و ص70 وصف3/307)
قال يونس بن عبيد: لا تجِدُ شيئاً منَ البِرِّ يتْبَعُهُ البِرُّ كُلُّهُ غيرَ اللسانِ، فانّكَ تجدُ الرجلَ يكثر الصيام ويفطر على الحرامِ، ويقومُ الليلَ ويشهَدُ الزورَ بالنهارِ، وذكرَ أشياءَ نحوَ هذا، ولكنْ لا تجدُهُ لا يتكلمُ إلا بحقٍّ فيخالفُ ذلكَ عملُهُ أبداً. (2/20)
قال يحيى بن أبي كثير: يصومُ الرجلُ عن الحلالِ الطيبِ ويفطرُ على الحرامِ الخبيثِ: لحمِ أخيهِ، يعني اغتيابه. (3/69)
قال شميط بن عجلان: يا ابن آدم إنك ما سكتَّ فأنتَ سالمٌ، فإذا تكلمتَ فخذ حِذْرك، إما لك وإما عليك. (الصمت ص279 والحلية 3/129)
قال ابن المبارك: قيل لابن عون: ألا تتكلم فتؤجر قال: أما يرضى المتكلم بالكفاف. (الصمت ص285)
قال أبو حازم: ينبغي للمؤمنِ أن يكونَ أشدَّ حفظاً للسانِهِ منهُ لموضِعِ قدميه. (3/230)
قال طاووس: ما من شيء يتكلم به ابن آدم إلا أحصي عليه حتى أنينه في مرضه. (4/4)
قال عبد الله [بن المبارك] رضي الله عنه: كان طاووس رضي الله عنه يعتذر من طول السكوت ويقول: إني جربت لساني فوجدته لئيماً راضعاً(1). (الصمت ص86)
قال الأوزاعي: سمعت يحيى بن أبي كثير يقول: يقال يوم القيامة للعبد: قم إلى فلان فخذ حقك منه، فيقول: يا رب ما أعرف لي عنده من حق فيقال: بلى إنه ذكرك يوم كذا بكذا ويوم كذا بكذا، قال الأوزاعي: أفناصح لنفسه من يقضي من حسناته غداً وهو ينظر إلى ذل خاشع يود لو كان بينه وبين أخلائه أمداً بعيداً.
__________
(1) العرب يكنون بكلمة (راضع) عن اللؤم، وأصلها أن بعض الناس كان للؤمه وشدة بخله يرضع العنز إذا جاع أو عطش ولا يحلبها في إناء ونحوه، لئلا يُسمع صوت الحلب، فيسأله أحد شيئاً من الحليب، أو يشاركه فيه.(2/130)
وأنشد:
عليك بأخلاق الكرام فإنها**تديم لك الذكر الجميل مع النعم
وأنشد:
تعلم فليس المرء يولد عالماً**وليس أخو علم كمن هو جاهل
وإن كبير القوم لا علم عنده**صغير إذا ضمت عليه المحافل
(الحلم ص75-76)
كلام المرء في ما لا يعنيه
قال مورق العجلي: لقد سألت الله حاجة كذا وكذا منذ عشرين سنة فما أعطيتها ولا أيست منها، فسأله بعض أهله ما هي؟ قال: أن لا أقول ما لا يعنيني. (2/235)
مر حسان بن أبي سنان بغرفة فقال: مذ كم بنيت هذه؟ ثم رجع الى نفسه فقال: وما عليكِ مذ كم بنيت؟! تسألين عما لا يَعْنيك؟! فعاقبَها بصوم سنة. (3/115)
قال الحسن: قال عمر: ثلاث من الشقاء أن يجد الرجل على أخيه فيما يأتي؛ أو يذكر من أخيه ما يعرف من نفسه؛ أو يؤذي جليسه بما لا يعنيه(1). (مفتاح دار السعادة 1/202)
قال شميط بن عجلان: من لزم ما يعنيه أوشك أن يترك ما لا يعنيه. (الصمت ص97)
عن شعبة عن سيار أبي الحكم قال: قيل للقمان الحكيم: ما حكمتك؟ قال: لا أسأل عما كفيت، ولا أتكلف ما لا يعنيني. (الصمت 96)
عن أبي شهاب عن عمرو بن قيس أن رجلاً مر بلقمان والناس عنده فقال: ألست عبد بني فلان؟! قال: بلى، قال: الذي كنت ترعى عند جبل كذا وكذا؟! قال: بلى، قال: فما الذي بلغ [بك] ما أرى؟! قال: صدق الحديث وطول السكوت عما لا يعنيني. (الصمت ص96)
__________
(1) هذا - كما هو واضح - من كلام عمر لا من كلام الحسن؛ ولكنني أوردته هنا لأن رواية الحسن له ووعظه الناس به يدل على إعجابه به وقوة معناه عنده؛ وقد ذكرت في متن هذا الكتاب بضعة آثار موقوفة على الصحابة وهي جارية على هذه الطريقة، فليعلم ذلك.
وعن سهل بن عبد الله قال: من ظن [يعني من لم يجتنب الظن المنهي عنه] حرم اليقين، ومن تكلم فيما لا يعنيه حرم الصدق، ومن شغل جوارحه بغير ما أمره الله به حرم الورع. (الشعب 4/269)(2/131)
عن المعلى بن زياد قال: قال مورق العجلي: أمر أنا أطلبه منذ عشر سنين لم أقدر عليه ولست بتارك طلبه؛ قالوا: ما هو يا أبا المعتمر؟ قال: الصمت عما لا يعنيني. (الصمت ص96-97)
كثرة الكلام
قال داود بن أبي هند: قال إياس بن معاوية: كل رجل لا يعرِفُ عيبَه فهو أحمق؛ قالوا: يا أبا واثلة ما عيبك؟ قال: كثرة الكلام. (3/124)
قيل لإياس بن معاوية: فيك أربع خصال: دمامة، وكثرة كلام، وإعجاب بنفسك، وتعجيلك بالقضاء! قال: أما الدمامة فالأمر فيها إلى غيري، وأما كثرة الكلام فبصواب أتكلم أم بخطأ؟ قالوا: بصواب، قال: فالإكثار من الصواب أمثل، وأما اعجابي بنفسي أفيعجبكم ما ترون مني؟ قالوا: نعم، قال: فإني أحق أن أعجب بنفسي، وأما قولكم إنك تعجل بالقضاء، فكم هذه؟ وأشار بيده خمسة، فقالوا: خمسة، فقال: عجلتم! ألا قلتم: واحد واثنين وثلاثة وأربعة وخمسة؟! قالوا: ما نعد شيئاً قد عرفناه، قال: فما أحبس شيئاً قد تبين لي فيه الحكم. (3/123)
قال مجاهد: كانوا يكتفون من الكلام باليسير. (صف2/209)
قال الحسن: من كثر ماله كثرت ذنوبه؛ ومن كثر كلامه كثر كذبه؛ ومن ساء خلقه عذب نفسه(1). (الصمت ص85)
قال ابن أبي زكريا: من كثُرَ كلامُه كثرَ سقطُه؛ ومن كثرَ سقطُه قلَّ ورعُه؛ ومن قلَّ ورعُه أماتَ اللهُ قلبَه. (5/149)
قالَ شفيُّ بنُ ماتعٍ الأصبحيّ: من كثرَ كلامُه كثرتْ خطيئتُه. (5/167)
__________
(1) أخرج ابن أبي الدنيا في (الصمت) (ص102) و(المداراة) (ص86-87) رواية من كلام عيسى بن مريم عليه السلام قال فيها: (من كثر كذبه ذهب جماله؛ ومن لاحى الرجال سقطت مروءته؛ ومن كثر همه سقم جسمه؛ ومن ساء خلقه عذب نفسه).(2/132)
قالَ مالك: لو أنَّ الملَكينِ اللذينِ ينسَخانِ أعمالَكم غَدَوَا(1) عليكم يتقاضونَكم أثمانَ الصحفِ التي ينسخونَ فيها أعمالَكم لأمسكتم عن كثيرٍ من فضولِ كلامِكم، فإذا كانت الصحفُ من عندِ ربِّكم أفلا تربِعونَ على أنفسِكم! (2/385 والصمت ص310)
عن جعفر بن سليمان قال سمعت مالك بن دينار رحمه الله يقول: لو كُلف الناس الصحف(2) لأقلوا الكلام(3). (الصمت ص66)
عن محمد بن مهزم عن محمد بن واسع قال: رأى خليد العصري رجلاً يلتفت عند الذكر فقال: وما عليك أن تكفأ فتنقى وتوقى. (الصمت ص308)
عن حماد بن زيد قال: بلغني أن محمد بن واسع كان في مجلس فتكلم رجل فأكثر الكلام فقال محمد: ما على أحدهم لو سكت فتنقى وتوقى. (الصمت ص61)
قال يزيد بن ميسرة: إن حكيماً من الحكماءِ كتبَ ثلاثَمِئَة وستينَ مصحفاً ، حِكَماً، فبعثها في الناسِ فأوحى الله تعالى إليه: إنكَ ملأتَ الأرضَ بَقاقاً(4)، وإنَّ اللهَ تعالى لم يقبلْ من بَقاقِك شيئاً(5)
__________
(1) في (الصمت): (عدوا)، وأراه أقرب، إذا كان من العد.
(2) يعني التي يكتب بها الملائكة كلامهم.
(3) عن أبي قدامة قال: سمعت مالك بن دينار رحمه الله يقول: لو كلف الناس الصحف لأقلوا من المنطق. ص284
(4) تصحفت في الحلية إلى (نفاقاً)، وكذلك تصحفت كلمة (بقاقك) الآتية؛ وفي (غريب الحديث) لأبي سليمان الخطابي (3/110) عقب ذكر هذا الأثر بإسناده : (أصل البقاق كثرة الكلام، قال أبو عبيدة: يقالُ: بقَّ عليهم وأبقَّ في الكلامِ إذا أكثر؛ وأبقَّ أكثرُهما). قلت: ما كان هذا الرجل صادقاً في كلامه وفعله فما تقبله الله منه.
(5) إن صحت هذه الحكاية فلا شك أنها في الأمم السابقة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ولا شك أن ذلك الإيحاء كان عن طريق نبي ذلك الزمان.
وقال صاحب (لسان العرب) (10/24): (قال صاحب (العين): بلغنا أَنَّ عالماً من علماء بني إسرائيل وضع للناسِ سبعينَ كتاباً من الأَحكام وصُنوفِ العلم، فأَوحى الله إِلى نبي من أَنبيائهم أَن قلْ لفلانٍ: إِنك قد ملأْت الأَرض بَقاقاً، وأَن الله لم يَقبل من بَقاقِك شيئاً؛ قال الأَزهري: البَقاق كثرة الكلام).(2/133)
. (5/237)
عن أبي الأحوص عن محمد بن النضر الحارثي قال: كان يقال: كثرة الكلام تذهب بالوقار. (الصمت ص67)
عن حماد عن إبراهيم [النخعي] قال: يهلك الناس في خلتين: فضول المال وفضول الكلام. (الصمت ص90 و ص294 والبيان والتبيين 1/192)
عن يزيد بن إبراهيم عن محمد بن سيرين قال: كان رجل من الأنصار يمر بمجلس لهم فيقول: توضأوا فإن بعض ما تقولون شرٌّ من الحدَث(1). (الصمت ص91)
الغيبة
عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: (وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ)(2) قال: الهمزة الطعان في الناس؛ واللمزة الذي يأكل لحوم الناس. (الصمت ص127)
عن جويبر عن الضحاك في قوله (وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ)(3) قال: اللمز الغيبة. (الصمت ص128)
عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة رضي الله عنه قال: ذكر لنا أن عذاب القبر ثلاثة أثلاث: ثلث من الغيبة، وثلث من البول، وثلث من النميمة(4). (الصمت ص129)
__________
(1) كأنه يعني أنه شر من خروج ريح من الإنسان بمسمع من غيره، وهذا تنفير شديد من الغيبة ونحوها من محرم القول.
(2) الهمزة (1).
(3) الحجرات (11).
(4) قال ابن رجب في (أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور) ص67: (وقد ذكر بعضهم السر في تخصيص البول والغيبة والنميمة بعذاب القبر، وهو أن القبر أول منازل الآخرة، وفيه أنموذج ما يقع يوم القيامة من العقاب والثواب؛ والمعاصي التي يعاقب عليها العبد يوم القيامة نوعان: حق الله وحق العباد؛ وأول ما يقضى فيه يوم القيامة من حقوق الله الصلاة، ومن حقوق العباد الدماء.
وأما البرزخ فقضي فيه في مقدمات هذين الحقين ووسائلهما؛ فمقدمة الصلاة الطهارة من الحدث والخبث، ومقدمة الدماء النميمة والوقيعة في الأعراض، وهما أيسر أنواع الأذى، فيبدأ في البرزخ بالمحاسبة والعقاب عليهما).
قلت: وأيضاً عدم التنزه من البول ضد طهارة البدن، والغيبة والنميمة ضد طهارة اللسان، ثم الله أعلم بحكمة أمره ونهيه وثوابه وعقوبته.(2/134)
عن عتاب بن بشير عن خصاف وخصيف وعبد الكريم بن مالك قالوا: أدركنا السلف وهم لا يرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة ولكن في الكف عن أعراض الناس. (الصمت 129-130)
قال بكر بن عبد الله المزني: إذا رأيتم الرجل مولعاً بعيوب الناس ناسياً لعيبه فاعلموا أنه قد مُكِر به. (الصمت ص132 والمداراة ص115 و صف3/249)
قال عونٌ بن عبد الله: ما أحسَبُ أحداً تفرغَ لعيبِ الناسِ إلا منْ غفلةٍ غفلَها عنْ نفسِهِ(1). (4/249 والصمت ص132و310 والمداراة ص114-115)
قال محمد بن سيرين: كنا نُحدَّث أن أكثر الناس خطايا أفرغهم لذكر خطايا الناس. (الصمت ص104)
قال عمرو بن قيس الملائي: إذا شُغِلتَ بنفسكَ ذهلْتَ عن الناسِ، وإذا شغلتَ بالناسِ ذهلتَ عن ذاتِ نفسِكَ. (5/102)
قيل للربيع بن خثيم: ألا تذكرُ الناسَ؟ قال: ما أنا عن نفسي براض فاتفرغ من ذمها إلى ذم الناس، إن الناس خافوا الله تعالى في ذنوب الناس وأمنوا على ذنوبهم. (2/107)
قال مطرف بن عبد الله: لو حمدت نفسي لقليتُ الناس(2). (2/210)
قال محمد بن سيرين: إذا قلت لأخيك من خلفه ما فيه مما يكره فهي الغيبة، وإذا قلت ما ليس فيه فهو البهتان، وظلم لأخيك أن تذكره بأقبح ما تعلم منه وتنسى أحسنه. (الصمت ص313)
عن المسعودي عن عون بن عبد الله قال: إذا قلت ما في الرجل وأنت تعلم أنه يكره ذلك فقد اغتبته؛ وإذا قلت ما ليس فيه فقد بهته. (الصمت 136)
قال هشام بن حسان: الغيبة أن يقول الرجل ما هو فيه مما يكره. (الصمت ص138)
كان الحسن يقول: إياكم والغيبة والذي نفسي بيده لهي أسرع في الحسنات من النار في الحطب. (الصمت ص174)
قال الحسن: والله الغيبة أسرع في دين المؤمن من الأكلة في جسده. (الصمت ص129)
__________
(1) عن مجاهد عن ابن عباس قال: إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوب نفسك. (المداراة ص114)
(2) يقول: لو كنت راضياً عن نفسي لكرهت الناس لما أرى من كثرة شرهم وباطلهم وقلة خيرهم وحقهم وضعف دينهم.(2/135)
قال رجل للحسن: بلغني أنك تغتابني فقال: لم يبلغ قدرك عندي أن أحكمك في حسناتي. (تفسير القرطبي 16/336)
قال الحسن: [كانوا] يخشون(1) أن يكون قولنا "حميد الطويل" غيبة. (الصمت ص137 وزهد هناد 2/567)
عن شعبة قال: سمعت معاوية بن قرة قال: لو قلت للأقطع: فلان الأقطع كانت غيبة؛ قال(2): فذكرت ذلك لأبي إسحاق فقال: صدق. (الصمت ص312)
قال جرير بن حازم: سمعت محمد بن سيرين يحدث رجلاً فقال: ما رأيت الرجل الأسود؟ ثم قال: أستغفر الله، ما أراني إلا قد اغتبت الرجل. (صف3/242 والصمت ص137)
قال طوق بن وهب: دخلت على محمد بن سيرين وقد اشتكيت فقال: كأني أراك شاكياً قلت: أجل قال: اذهب إلى فلان الطبيب فاستوصفه، ثم قال: اذهب إلى فلان فإنه أطبُّ منه(3) ثم قال: أستغفر الله، أراني قد اغتبته(4). (صف3/ 242)
قال ابن عون: كانوا إذا ذكروا عند محمد [يعني ابن سيرين] رجلاً بسيئة ذكره محمد بأحسن ما يعلم. (صف3/242)
قال مالك بن دينار: مر عيسى عليه السلام والحواريون على جيفة كلب، فقال الحواريون: ما أنتنَ ريحَ هذا! فقال عيسى عليه السلام: ما أشدَّ بياضَ أسنانِه! يعِظُهم وينهاهم عن الغيبة. (الصمت ص172 والحلية 2/382)
قال ابن عون: كان محمد بن سيرين إذا حدث كأنه يتقي شيئاً، كأنه يحذر شيئاً. (2/276)
كان ميمون بن سياه لا يغتاب، ولا يدع أحداً يغتاب عنده، ينهاه، فإن انتهى وإلا قام عنه. (3/107 والصمت ص151-152)
__________
(1) يريد سلفه من العلماء.
(2) أي شعبة.
(3) أي أعلم منه بالطب.
(4) يعني الأول.(2/136)
قال كهمس بن عبد الله: سمعت ميمون بن سياه، وكان أكبر من الحسن، يقول: تذاكروا عندي رجلاً من هؤلاء السلاطين فوقعوا فيه، ولم أذكر منه خيراً ولا شراً؛ فانقلبت إلى بيتي فرقدت فرأيت فيما يرى النائم كأن بين يدي جيفة زنجي ميت منتفخ منتن وكأن قائماً على رأسي يقول لي: كل! قلت: يا عبد الله ولمَ آكل؟! قال: بما اغتيب عندك فلان، قال: قلت: ما ذكرت منه خيراً ولا شراً! فقال: ولكنك استمعت ورضيت. (صف3/232)
سمع علي بن حسين رجلاً يغتاب رجلاً فقال: إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس. (الصمت ص173)
قال الحارث العكلي: كنت آخذاً بيد إبراهيم [النخعي] فذكرت رجلاً فتنقصته فلما دنونا من باب المسجد انتزع يده من يدي وقال: اذهب فتوضأ، قد كان يعدون هذا هجراً. (4/227)
عن منصور عن إبراهيم قال: الوضوء من الحدث وأذى المسلم. (الصمت ص91)
قال العلاء بن عبد الكريم: قال طلحة اليامي: لولا أني على وضوء لحدثتكم عن كرسي المختار. (5/15)
عن هشام عن ابن سيرين عن عَبِيدةَ السلماني قال: اتقوا المفطرَين الغيبةَ والكذب. (الصمت ص125-126)
عن ليث عن مجاهد قال: المسلم يسلم له صومه يتقي الغيبة والكذب. (الصمت ص126)
عن الربيع بن صبيح أن رجلين كانا قاعدين عند باب من أبواب المسجد الحرام فمر بهما رجل كان مخنثاً فترك ذاك، فقالا: لقد بقي فيه منه شيء؛ فأقيمت الصلاة فدخلا فصليا مع الناس فحاك في أنفسهما مما قالا فأتيا عطاء رضي الله عنه فسألاه فأمرهما أن يعيدا الوضوء والصلاة وكانا صائمين فأمرهما أن يقضيا صيام ذلك اليوم. (الصمت ص126)
قال الحسن بن عمرو: قال لي طلحة بن مصرف: لولا أني على وضوء لأخبرتك بما تقول الرافضة. (5/15)
قال الأحنف بن قيس: ما ذكرت أحداً بسوء بعد أن يقوم من عندي. (الصمت ص132 و صف3/199)(2/137)
عن الأصمعي عن أبيه قال: كان الأحنف بن قيس إذا ذكر عنده رجل قال: دعوه يأكل رزقه ويأتي عليه أجله(1)؛ وقال عن غير أبيه: إن الأحنف قال: دعوه يأكل رزقه ويكفي قرنه. (الصمت ص133)
قال مجاهد: إن لبني آدم جلساء من الملائكة فإذا ذكر الرجل أخاه المسلم بخير قالت الملائكة: ولك بمثله وإذا ذكره بسوء قالت الملائكة: ابن آدم المستور عورته أربع على نفسك واحمد الله الذي ستر عورتك. (الصمت ص276 و صف2/209)
قال منصور بن زاذان: إن الرجل من إخواني يلقاني فأفرح إن لم يسؤني في صديقي ويبلغني الغيبة ممن اغتابني، وإني لفي جهد من جليسي حتى يفارقني مخافة أن يأثم ويؤثمني(2). (الصمت ص174)
كفارة الغيبة
قال مجاهد: كفارة أكلك لحم أخيك أن تثني عليه وتدعو له بخير. (الصمت ص171-172)
قال أبو حازم: من اغتاب أخاه فليستغفر له فإن ذلك كفارة لذلك(3). (الصمت ص172)
__________
(1) أي فليس بآكل من رزقكم شيئاً ولا بناقص من أجلكم شيئاً.
(2) قال عمرو بن سواد السرحي: سمعت ابن وهب يقول: جعلت على نفسي أن أصوم يوماً إن اغتبت أحداً فهان علي الصوم؛ فجعلتُ على نفسي درهماً صدقة فأمسكتْ. (ثقات ابن حبان 8/346)
(3) لا أدري أيصح هذان الأثران عن مجاهد وأبي حازم أم لا؟ وعلى فرض صحتهما عنهما فإن مرادهما التكفير المقدور على سببه، من جهة العبد، ويبقى الأمر موقوفاً على مشيئة الله تعالى؛ وهو ليس تكفيراً على الحقيقة، وإنما هو دعاء واستغفار لمن اغتابه رجاء أن يدعو له الملائكة ويستغفرون له كما استغفر هو لأخيه ودعا له، ورجاء أن يتجاوز الله تعالى عن حقه المترتب على تلك المعصية، أعني الغيبة، ورجاء أن يزيد بذلك في حسناته ما لعله يفي بتلك الغيبة يوم يأخذ ذلك الإنسان المظلوم، من حسناته، أي يوم القيامة، ورجاء أن يوفي الله عنه يوم القيامة؛ وحقوق العباد لا تضيع، فما أخطر الأمر، الله المستعان.(2/138)
عن زيد بن أبي أنيسة عن عطاء بن أبي رباح أنه سئل عن التوبة من الفرية قال: تمشي إلى صاحبك فتقول: كذبتُ بما قلتُ لك وظلمتُ وأسأتُ، فإن أخذتَ فبحقك، وإن شئتَ عفوتَ. (الصمت ص172)
قيل لمحمد بن سيرين: يا أبا بكر إن رجلاً قد اغتابك فتحلُّه؟ قال: ما كنتُ لأحلَّ شيئاً حرمه الله(1). (2/263)
النميمة
عن منصور عن مجاهد: (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ)(2) قال: كانت تمشي بالنميمة. (الصمت ص158)
عن بزيغ قال: سمعت الضحاك يقول(3): كانت خيانتهما النميمة. (الصمت ص160)
قال عثمان بن الأسود: قلت لعطاء بن أبي رباح: الرجل يمر بالقوم فيقذفه بعضهم أيخبره؟ قال: لا، المجالس بالأمانة. (صف2/214)
قال يحيى بن أبي كثير: يفسد النمام في ساعة ما لا يفسد الساحر في شهر. (3/70 وروضة العقلاء ص179)
قال معاوية [رضي الله عنه] للأحنف في شيء بلغه عنه، فأنكر ذلك الأحنف؛ فقال له معاوية: بلَّغني عنك الثقة! فقال له الأحنفُ: يا أمير المؤمنين، إن الثقة لا يبلِّغ. (الكامل 2/314)
قال الحسن: من نقل إليك حديثاً فاعلم أنه ينقل إلى غيرك حديثك. (الكبائر ص161)
السب واللعن والبذاءة والفحش
قال عون بن عبد الله: ألا إن الفحش والبذاء من النفاق، وهن مما يزدن في الدنيا وينقصن في الآخرة؛ وما ينقصن في الآخرة أكثر مما يزدن في الدنيا. (الصمت ص186)
__________
(1) قال السري بن يحيى، أو غيره، لابن سيرين: إني قد اغتبتك فاجعلني في حل؛ قال: إني أكره أن أُحِلَّ ما حرم الله تعالى. (2/263)
(2) المسد (4).
(3) أي في قوله تعالى (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) [التحريم 10].(2/139)
عن عبد الله بن مسلم أن أباه قال: لا ينبغي للصديق أن يكون لعاناً لو لعنت شيئاً ما تركته في بيتي؛ وكان لا يسب أحداً، وكان أشد ما يقول إذا غضب: فرق بيني وبينك؛ قال: فإذا قال ذلك علموا أنه لم يبق بعد ذلك شيء. (الطبقات 7/187)
سمع ابنُ سيرين رجلاً يسبُّ الحجّاجَ، فأقبلَ عليهِ فقالَ: مَهْ(1) أيها الرجلُ، فإنك لو قدْ وافيتَ الآخرةَ كان أصغرُ ذنبٍ عملتَهُ قط أعظمَ عليكَ من أعظمِ ذنبٍ عمِلَه الحجاجُ، واعلمْ أنَّ الله تعالى حكَمٌ عدْلٌ، إنْ أَخَذَ من الحجاجِ لِمن ظلمَه فسوفَ يأخُذُ للحجاج ممن ظلَمَهُ، فلا تشغلن نفسَكَ بسبِّ أحدٍ. (2/271 والمصنف 30585)
قال رباح بن عبيدة: كنتُ قاعداً عند عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ فذكرَ الحجاجَ فشتمتُه ووقعتُ فيه فقالَ عمرُ: مهلاً يا رباح! إنه بلغني أنَّ الرجلَ ليُظلمُ بالمظلمةِ فلا يزالُ المظلومُ يشتمُ الظالمَ وينتقصُه حتى يستوفي حقَّه، فيكون للظالمِ عليه الفضلُ. (5/277)
دخل رجل على عمر بن عبد العزيز فجعل يشكو إليه رجلاً ظلمه ويقع فيه فقال له عمر: إنك إن تلقي الله ومظلمتك كما هي خير لك من أن تلقاه وقد انتقصتها. (الصمت ص267)
قال مكي بن إبراهيم: كنا عند ابن عون فذكروا بلال بن أبي بردة فجعلوا يلعنونه ويقعون فيه وابن عون ساكت فقالوا له: يا أبا عون أما تذكره لما ارتكب منك؟! فقال ابن عون: إنما هما كلمتان تخرجان من صحيفتي يوم القيامة لا إله إلا الله ولعن الله فلأن يخرج من صحيفتي (لا إله إلا الله) أحب إلي من أن يخرج (لعنه الله). (الصمت ص309)
قال الأحنف بن قيس: ألا أدلكم على المحمدة بلا مَرْزِئَةٍ؟ الخلُق السَّجِيحُ(2)، والكف عن القبيح؛ ألا أخبركم بأدوإِ الداء؟ الخلق الدنيء واللسان البذيء. (الكامل 1/47 والصمت ص190 مقتصراً على الشطر الثاني منه)
قال سعيد بن أبي سعيد: يقال: من استلذ من الرفث سال فوه قيحاً ودماً يوم القيامة. (الصمت ص184)
__________
(1) أي انكففْ.
(2) السهل.(2/140)
قال أبو الجوزاء: ما لعنت شيئاً قط ولا أكلت ملعوناً قط. (الصمت ص294)
عن إبراهيم في الرجل يقول: اللهم العن فلاناً والعن ليلته ويومه، قال: تقول: [اللهم العن] أعصانا لله. (الصمت ص203-204)
عن حصين قال: سمعت مجاهداً يقول: قل ما ذكر الشيطان قوم إلا حضرهم، فإذا سمع أحداً يلعنه قال: لقد لعنتَ ملعَّناً ولا شيء أقطع لظهره من لا إله إلا الله. (الصمت ص205)
عن مجاهد: (وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ)(1) قال: لا يطعن بعضكم على بعض. (الصمت ص301)
آداب الحديث واستماعِه
قال مطرِّف: لا تطعم طعامك من لا يشتهيه(2). (البيان والتبيين 1/104)
قال أبو قلابة: لا تحدث الحديث من لا يعرفه، فإنَّ من لا يعرفه يضره ولا ينفعه. (2/286)
قال عطاء الخراساني: لا ينبغي للعالِمِ أن يعدو صوتُه مجلسَه. (5/199)
قال معاذ بن سعد الأعور: كنتُ جالساً عند عطاء بن أبي رباح فحدث [رجل](3) بحديث، فعرض رجل من القوم في حديثه، فغضب وقال: ما هذه الأخلاق؟ وما هذه الطبائع؟ إني لأسمع الحديث من الرجلِ وأنا أعلمُ به فأُريه أنه لا أُحسِنُ منه شيئاً. (3/311 وروضة العقلاء ص72)
قال العوام بن حوشب: ما رأيت إبراهم التيمي رافعاً رأسه(4) في الصلاة ولا في غيرها ولا سمعته يخوض في شيء من أمر الدنيا قط. (صف ؟؟)
قال الأوزاعي: كان الحسن رحمه الله إذا قص القاص لم يتكلم فقيل له في ذلك فقال: إجلالاً لله. (الصمت ص307)
صفات المَجالس
قال الحسن: يأتي على الناس زمان يكون حديثُهم في مساجدهم أمرَ دنياهم؛ ليس لله فيه حاجة؛ فلا تجالسوهم. (المصنف 7/198 وورع أحمد ص59)
__________
(1) الحجرات (11).
(2) قال الجااحظ: يعني لا تقبل بحديثك على من لا يُقبل عليه بوجهه.
(3) وردت في الروضة دون الحلية.
(4) وفي رواية أخرى عنه: (بصره) بدل (رأسه).(2/141)
دخل أبو مسلم الخولاني ذات يوم المسجد فنظر إلى نفر قد اجتمعوا، فرجا أن يكونوا على ذكرِ خيرٍ، فجلس إليهم فإذا بعضهم يقول: قدم غلامي فأصاب كذا وكذا(1)، وقال آخر: جهزت غلامي(2)؛ فنظر إليهم فقال: سبحان الله: أتدرون ما مَثَلي ومثلُكم؟ كرجل أصابه مطرٌ غزيرٌ وابلٌ فالتفت فإذا هو بمصراعين عظيمين، فقال: لو دخلت هذا البيت حتى يذهب عني هذا المطر، فدخل فإذا البيت لا سقف له، جلست إليكم وأنا أرجو أن تكونوا على ذكرٍ وخيرٍ، فإذا أنتم أصحاب الدنيا(3). (2/123 والورع لأحمد ص59-60)
قال الزهري: إذا طال المجلس كان للشيطان فيه نصيب(4). (3/366)
قال الأحنف بن قيس: من جالس عدوه حفظ عليه عيوبه. (روضة العقلاء ص98)
قيل للأحنف بن قيس: أي المجالس أطيب؟ فقال: ما سافر فيه البصر واتَّدَعَ(5) فيه البدن. (الكامل 1/175)
__________
(1) أي من الربح.
(2) أي للتجارة البعيدة.
(3) عن سعيد بن عبد العزيز أن أبا الدرداء رأى رجلاً يقول لصاحبه في المسجد: اشتريت وسق حطب بكذا وكذا، فقال أبو الدرداء: إن المساجد لا تعمر بهذا. (الورع لأحمد ص59)
(4) فبطول المجلس يحصل غالباً الملل والغفلة والدخول في أحاديث كثيرة مختلفة وتكرر محاولات الشيطان لاهتبال بعض غفلة أولئك الجالسين فيوقعهم في بعض ما يريد.
(5) افتعل من التوديع.(2/142)
دخل الأحنف بن قيس على معاوية بن أبى سفيان فأشار له إلى الوساد فقال له: اجلس فجلس على الارض! فقال معاوية: ما منعك يا أحنف من الجلوس على الوساد؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن فيما أوصى به قيس بن عاصم المنقري ولده أن قال: لا تَغْشَ السلطان حتى يملك ولا تقطعه حتى ينساك ولا تجلس له على فراش ولا وساد، واجعل بينك وبينه مجلس رجل أو رجلين فإنه عسى أن يأتي من هو أولى بذلك المجلس منك فتقام له فيكون قيامك زيادة له ونقصاً عليك؛ حسبي بهذا المجلس يا أمير المؤمنين، لعله أن يأتي من هو أولى بذلك المجلس مني؛ فقال معاوية: لقد أوتيت تميم الحكمة مع رقة حواشي الكلام وأنشأ يقول:
يا أيها السائل عما مضى
وعلم هذا الزمن العائب
إن كنت تبغي العلم أو أهله
أو شاهداً يخبر عن غائب
فاعتبر الارض بسكانها
واعتبر الصاحب بالصاحب
(البيان والتبيين 1/43)
قال شبيلٌ بنُ عوف: ما جلستُ في مجلسٍ قط إلا انتظار جنازة أو لحاجة. (4/160)
عن حبيب بن أبي ثابت قال: من السنة إذا حدث الرجل القوم أن يقبل عليهم جميعاً ولا يخص أحداً دون أحد. (العلم لأبي خيثمة ص34)
استماع الباطل
قال مكحول: من مات وعنده مغنية لم يُصَلَّ عليه. (الأمر ص89)
عن شيخ من قريش قال: قال مولى لعمرو بن عتبة: رآني عمرو بن عتبة وأنا مع رجل وهو يقع في آخر فقال لي: ويلك! - ولم يقلها لي قبلها ولا بعدها - نزه سمعك عن استماع الخنا كما تنزه لسانك عن القول به فإن المستمع شريك القائل، وإنما نظر إلى شر ما في وعائه فأفرغها في وعائك، ولو ردت كلمة سفيه في فيه لسعد بها رادها كما شقي بها قائلها. (صف3/70 والصمت ص151)
المزاح والنوادر والضحك
قال مجاهد: لا تمار أخاك ولا تفاكهه، يعني المزاح. (الصمت ص107)
عن الأعمش عن ابراهيم [التيمي] قال: لا يمازحك إلا من يحبك. (روضة العقلاء ص80)(2/143)
اجتمع بنو مروان فقالوا: لو دخلْنا على أميرِ المؤمنينَ [عمرَ] فعطفناهُ علينا وأذكرناه أرحامَنا، فدخلوا فتكلم رجلٌ منهُم فمزحَ، فنظرَ إليهِ عمرُ، فوصلَ له رجلٌ كلامَه بالمزاح! فقالَ عمرُ: لهذا اجتمعتم؟! لأخسِّ الحديثِ ولما يورث الضغائن؟! إذا اجتمعتم فأفيضوا في كتابِ اللهِ تعالى، فإن تعديتُم ذلكَ ففي السنةِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليهِ وسلم، فإن تعديتُم ذلكَ فعليكم بمعاني الحديث. (5/272-273)
عن عبد العزيز بن أبي رواد أن قوماً صحبوا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فقال: عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له؛ وإياكم والمزاح فإنها تجر إلى القبيح وتورث الضغينة؛ وتجالسوا بالقرآن وتحدثوا به؛ فإن ثقل عليكم فحديث من حديث الرجال حسن؛ سيروا باسم الله. (الصمت ص287)
قال عمر بن عبد العزبز: اتقوا المزاح فإنه حمقة تورث ضغينة. (أدب الدنيا والدين ص489)
قال ربيعة: إياكم والمزاح فإنه يُفسد المودة ويُغلُّ الصدور. (روضة العقلاء ص77)
قال بكار بن محمد: ما رأيت ابن عون يمازح أحداً ولا يماري أحداً وكان مشغولاً بنفسه وكان إذا صلى الغداة مكث مستقبل القبلة في مجلسه يذكر الله عز وجل فإذا طلعت الشمس صلى ثم أقبل على أصحابه وما رأيته شاتماً أحداً قط عبداً ولا أمةً ولا دجاجة ولا شاةً ولا رأيت أحداً أملك للسانه منه وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً حتى مات؛ وكان إذا توضأ لا يعينه أحد وكان طيب الريح لين الكسوة وكان إذا خلا في منزله إنما هو صامت لا يزيد على الحمد لله ربنا، وما رأيته دخل حماماً قط، وكان إن وصل إنساناً بشىء وصله سراً، وإن صنع شيئاً صنعه سراً يكره أن يطلع عليه أحد وكان له سبع يقرؤه كل ليلة فإذا لم يقرأه بالليل أتمه بالنهار؛ وكان لا يحفي شاربه وكان يأخذه أخذاً وسطاً. (صف3/308)(2/144)
قال محمد بن المنكدر: قالت لي أمي: لا تمازح الصبيان فتهون عليهم(1). (الصمت ص209 والشعب 4/317)
عن إبراهيم عن شريح أنه قضى على رجل باعترافه فقال: يا أبا أمية قضيتَ عليَّ بغير بينة! فقال: أخبرني ابن اخت خالك. (صف3/39)
عن سفيان عن يونس قال: كان محمد بن سيرين صاحب ضحك ومزاح. (المداراة ص67)
عن أم عباد امرأة هشام بن حسان قالت: كنا نكون مع محمد بن سيرين في الدار فكنا نسمع بكاءه من الليل وربما مزح من النهار. (المداراة ص67)
قال الأعمش: اشتكت شاة عندي، فكان خيثمة يعودها بالغداة والعشيّ، ويسألني: أستوفيت علفها؟ وكيف صبر الصبيان مذْ فقدوا اللبن؟! وكان لي لِبْدٌ(2) وشاذَكُونة(3) أجلس عليها؛ فإذا خرج قال: خذ ما تحت اللبد، حتى وصل إلي في علة الشاة أكثر من ثلاثمئة دينار من يده؛ حتى تمنيت أن الشاة لم تبرأ. (المستجاد من فعلات الأجواد للدارقطني 72 والجواهر المجموعة ص95)
قال الحسن: ضحك المؤمن غفلة من قلبه. (الطبقات 7/170 والحلية 2/152 والسير 4/585)
قال الحسن: كثرة الضحك مما يميت القلب. (الطبقات 7/170)
قال يونس: ما رأيت أحداً أطول حزناً من الحسن، فكان يقول: نضحك ولعل الله قد اطلع على أعمالنا فقال: لا أقبل منكم شيئاً. (3/19)
قال الأوزاعي: سمعت بلال بن سعد يقول: رب مسرور مغبون، يأكل ويشرب ويضحك وقد حق له في كتاب الله عز وجل أنه من وقود النار. (صف4/218)
__________
(1) زاد أبو نعيم في (الحلية) (3/153): (ويستخفون بحقك)؛ ورواه ابن حبان في (روضة العقلاء) (ص80) عن محمد بن المنكدر قال: (قالت لي أمي وأنا غلام: لا تمازح الغلمان فتهون عليهم أو يجترئوا عليك).
(2) ضرب من البسط.
(3) ثياب غلاظ مضرَّبة، تعمل باليمن.(2/145)
قال الحسن في يوم فطر وقد رأى الناس وهيئاتهم: إن الله تبارك وتعالى جعل رمضان مضماراً لخلقه، يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق أقوام ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا، فالعجب من الضاحك اللاعب في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون، ويخسر فيه المبطلون، أما والله أنْ لو كُشف الغطاءُ لشُغِل محسنٌ بإحسانه ومسيءٌ بإساءته، عن ترجيل(1) شعرٍ وتجديد ثوب(2). (البيان والتبيين 1/137)
قرأ الحسن هذه الآية: (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ)(3) قال: والله إن كان أكيس القوم في هذا الأمر لمن بكى(4)؛ فأبكوا هذه القلوب وأبكوا هذه الأعمال فإن الرجل لتبكي عيناه وإنه لقاسي القلب. (الزهد ص41)
__________
(1) ترجيل الشعر: تسريحه وتنظيفه؛ وفي الكامل واللسان (مادة رطل): ترطيل بدل ترجيل؛ والترطيل: تليين الشعر بالدهن وما أشبهه.
(2) وهذه رواية أخرى لهذا الأثر البليغ:
مر الحسن بقوم يضحكون في شهر رمضان فقال: يا قوم إن الله جعل رمضان مضماراً لخلقه، يتسابقون فيه إلى رحمته، فسبق أقوام ففازوا، وتخلف أقوام فخابوا، فالعجب من الضاحك اللاهي في اليوم الذي فاز فيه السابقون، وخاب فيه المتخلفون، أما والله لو كشف الغطاء لشغل محسناً إحسانُه ومسيئاً إساءتُه. (العقد الفريد 10/126)
وقال ابن أبي الدنيا في (الشكر) (ص14): حدثني محمد بن عبد المجيد التميمي ثنا سفيان قال: (رأى وهيب قوماً يضحكون يوم الفطر فقال: إن كان هؤلاء تقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين؛ وإن كان هؤلاء لم يتقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الخائفين).
(3) النجم (59-60).
(4) قال الحسن كما في (المصنف) (7/189): (إن أقواماً بكت أعينهم ولم تبك قلوبهم، فمن بكت عيناه فليبك قلبه)؛ وقد تقدم أثر المصنف هذا في غير هذا الموضع.(2/146)
قال ضمرة بن حبيب الزُّبيدي: موطنان لا ينبغي لأحد أن يضحك فيهما: معاينة القرد واطلاعك إلى القبر(1). (6/104)
قال زين العابدين: من ضحك ضحكة مَجَّ مجة من العلم. (3/134)
كان محمد بن علي بن الحسين إذا ضحك قال: اللهم لا تمقتني. (3/185)
رأى مالك بن دينار إنساناً يضحك فقال: ما أحب أن قلبي فرغ لمثل هذا وأن لي ما حوت البصرة من الأموال والعقد. (صف3/279)
قال الحسن: قال غزوان بن زيد الرقاشي: لله علي أن لا يراني الله ضاحكاً حتى أعلم أي الدارين داري؛ قال الحسن: فعزم غزوان أن يفعل، فوالله ما رئي ضاحكاً حتى لحق بالله عز وجل. (صف3/251)
قال الحارث الغنوي: آلى(2) ربعي بن حراش أن لا يضحك حتي يعلم في الجنة هو أو في النار. (صف3/36)
ضحك طلحةُ بن مصرف يوماً فوثبَ على نفسِهِ فقالَ: فيمَ الضحكُ؟! إنما يضحكُ مَنْ قطعَ الأهوالَ وجازَ السراط(3)؛ ثم قالَ: آليتُ(4) أن لا أفترَ ضاحكاً حتى أعلمَ بما تقعُ الواقعةُ! فما رؤيَ ضاحكاً حتى صارَ إلى الله عزَّ وجلّ. (4/15)
__________
(1) أخرج ابن عساكر في (تاريخ دمشق) (21/445) عن الشعبي عن سلمان قال: (أضحكني ثلاث وأبكاني ثلاث: فأما الذي أبكاني: فراق محمد وحزبه، وهول المطلع عند غمرات الموت، وموقفي بين يدي الله عز وجل، يوم تكون السريرة علانية، فلا أدري إلى النار أصير أم إلى الجنة؛ والذي أضحكني: مؤمل الدنيا والموت يطلبه، وغافل ليس بمغفول عنه، وضاحك ملء فيه فلا يدري أرضي الله عنه أم أسخطه).
وأخرج (47/194) عن قتادة قال: بلغنا أن أبا الدرداء نظر إلى رجل يضحك في جنازة فقال: أما كان في ما رأيت من هول الموت ما يشغلك عن الضحك؟!
(2) أي أقسم.
(3) كذا في الأصل.
(4) أي أقسمت.(2/147)
قال الأحنف: كثرة الضحك تذهب الهيبة وكثرة المَزْح تذهب المروءة ومن لزم شيئاً عرف به(1). (الكامل 1/47)
كان الأحنف بن قيس يقول: من كثر كلامه وضحكه ومزاحه قلت هيبته؛ ومن أكثر من شيء عرف به. (الصمت ص209)
عن هشيم عن منصور قال: كان محمد بن سيرين يضحك حتى تدمع عيناه. (المداراة ص66)
عن مهدي بن ميمون قال: كان محمد بن سيرين ينشد الشعر ويضحك حتى يميل فإذا جاء الحديث من السنة كلح. (المداراة ص67)
تعظيم قدْر الصدقة
قال الحسن: من أيقن بالخَلَفِ جادَ بالعطية. (روضة العقلاء ص242 والبيان والتبيين 3/143)
سمع ابن سيرين رجلاً يقول لرجل: فعلتُ إليك وفعلت؛ فقال ابن سيرين: اسكت فلا خير في المعروف إذا أحصي. (أدب الدنيا والدين ص327)
قال الحسن: أيها المتصدق على المسكينِ ترحمُه، ارحم من ظلمتَ. (الإشراف على منازل الأشراف ص145 والزهد ص282 وجامع العلوم والحكم ص102)
ذكر الحسن أن رجلاً قال لعثمان بن أبي العاص: يا أهل الاموال تنفقون وتتصدقون وتحجون وإنكم لتغلبونا(2) بها؛ فقال: والله لدرهم يأخذه أحدكم من جهد فيضعه في حق خير من عشرة آلاف يأخذها أحدنا فيضاً من فيض. (الزهد ص204)
قال الحسن: لا أعلمن ما ضن(3) أحدكم بماله حتى إذا كان عند موته ذعذعه(4) ها هنا وها هنا. (تصحيح التصحيف ص182 وغريب الحديث لأبي عبيد 4/98)
قال ميمون بن مهران: لأَن أتصدقَ بدرهمٍ في حياتي أحب إلي من أن يُتَصدقَ عني بعد موتي بمئة درهم. (4/87)
قال وهب بن منبه: تصدَّقْ صدقةَ من يرى أنَّ ما قدَّمَ بين يديهِ مالُهُ وأنَّ ما خلَّفَ مالُ غيرِهِ. (4/58)
__________
(1) رأى سفيان الثوري الغاضريَّ وهو يُضحك الناس، فقال: يا شيخ أوَما علمتَ أن لله يوماً يخسر فيه المبطلون؟! فوجم الغاضري، وما زال ذاك يُعرف فيه حتى لقي الله عز وجل. (زهر الآداب 1/203)
(2) في الأصل (لتغبطونا)، والسياق – فيما أرى – يقتضي ما أثبتُّه.
(3) أي بخل.
(4) أي فرقه.(2/148)
قال سعيد الحارثي: ضرب الربيع بن خثيم الفالج فطال وجعه فاشتهى لحم دجاج فكف نفسه أربعين يوماً ثم قال لامرأته: اشتهيت لحم دجاج منذ أربعين يوما فكففت نفسي رجاء أن تكف فأبت له امرأته سبحان الله وأي شيء هذا حتى تكف نفسك عنه قد أحله لك فأرسلت امرأته إلى السوق فاشترت له دجاجة بدرهم ودانقين فذبحتها وشوتها واختبزت له خبزاً له أصباغ ثم جاءت بالخوان حتى وضعته بين يديه فلما ذهب ليأكل قام سائل على الباب فقال: تصدقوا علي بارك الله فيكم فكف عن الأكل وقال لامرأته خذي هذا فلفيه وادفعيه إلىالسائل فقالت امرأته: سبحان الله، فقال: افعلي ما آمرك، قالت: فأنا اصنع ما هو خير له وأحب إليه من هذا؟ قال: وما هو؟ قالت: نعطيه ثمن هذا وتأكل أنت شهوتك، قال: قد أحسنتِ، ائتيني بثمنه، قال: فجاءت بثمن الدجاجة والخبز والأصباغ فقال: ضعيه على هذا وادفعيه جميعاً إلى السائل. (صف3/64-65)
قال الربيع بن خثيم لأهله: اصنعوا لنا خبيصاً فصنعوا له فدعا رجلاً به خَبَل(1)، فجعل يلقمة ولعابه يسيل! فلما ذهب قال أهله: تكلَّفْنا وصنعنا، ما يدري هذا ما أكل!! فقال الربيع: لكن الله يدري. (2/107)
كان الربيع بن خثيم يقول لأهله إذا جاء سائل: أطعموه سكراً فإن الربيع يحب السكر(2). (2/115)
كان الربيع بن خثيم لا يعطى السائلَ أقلَّ من رغيفٍ ويقول: إني لأستحي من ربي عز وجل أن أرى غداً في ميزاني نصف رغيف. (2/116)
قال مالك بن دينار: لأَن أتصدقَ بتمرةٍ حلال أحب إلي من أن أتصدق بمئة ألف حرام. (2/371)
قال مجاهد: كان بالمدينة أهل بيت ذوو حاجة عندهم رأس شاة فأصابوا شيئاً فقالوا: لو بعثنا هذا الرأس إلى من هو أحوج إليه منا! قال: فبعثوا به فلم يزل يدور بالمدينة حتى رجع إلى أصحابه الذين خرج من عندهم. (صف2/210)
__________
(1) يعني أنه مجنون، والخبل بتسكين الباء: الفساد، وبفتحها: الجن.
(2) يتأول قوله تعالى (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون).(2/149)
قال وهب بن منبه: اتخذوا اليدَ عندَ المساكينِ فإنَّ لهم يومَ القيامةِ دولةً. (4/71)
قال ميمون بن مهران: لو أن كلَّ إنسانٍ منا تعاهد كسبَه ولم يكسبْ إلا طيباً ثم أخرجَ ما عليه، ما احتاجَ إلى الاغنياء ولا احتاج الفقراء. (4/87)
قال الأعمش: ورث خيثمة بن عبد الرحمن مئتي ألف درهم فأنفقها على القراء والفقهاء. (صف3/92)
قال سفيانُ الثوريُّ: إنَّ محمد بنَ سوقةَ لممَّن يُدفعُ بهِ عنْ أهلِ البلادِ، كان له عشرون ومئة ألف فتصدق بها(1). (5/5)
قال عمرو بن قيس: من احتكر طعاماً عشرين ليلة ثم تصدق به لم يكن كفارة له. (5/103)
قال علقمة بن قيس: لأن يقترض رجل مني ثلاثاً أحب إلي من أن أعطيه مرة؛ ولأن أُخْدِمَ جاريةً(2) أحب إلي من أن أعتقها. (البر والصلة ص100)
كان عروة بن الزبير إذا كان أيام الرطب يثلم حائطه ثم يأذن للناس فيه فيدخلون ويأكلون ويحملون، وكان ينزل حوله ناس من أهل البدو فيدخلون ويأكلون ويحملون، وكان إذا دخله ردد هذه الآية: (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ)(3) حتى يخرج من الحائط. (2/180)
كان لأبي وائل شقيق بن سلمة خصٌّ من قصب، فكان يكون فيه هو وفرسه، فإذا غزا نقضَه وتصدقَ به، فإذا رجعَ أنشأَ بناه. (4/103)
قال عاصم: كان عطاء أبي وائل ألفين فإذا خرج أمسك ما يكفي أهله سنة وتصدق بما سوى ذلك(4). (صف3/29)
__________
(1) وهذه رواية أخرى مثل هذه:
ورث محمد بن سوقة عن أبيه مئة ألف درهم فقيل له: لا يجتمع مئة ألف من حلال، فتصدق به كله حتى كان يأخذ الزكاة من ابن أبي ليلى. (5/5)
(2) أي يضعها في خدمة بعض الناس كبعض العجائز وبعض المقعدات من النساء اللاتي تشتد حاجتهن إلى خدمة غيرهن لهن.
(3) الكهف (39).
(4) قال سعيد بن صالح: كان أبو وائل يؤم جنائزنا وهو ابن مئة وخمسين سنة. (صف3/30)(2/150)
قال أبو الشعثاء جابر بن زيد: لأن أتصدق بدرهم على يتيم أو مسكين أحب إلي من حجة بعد حجة الإسلام. (صف3/237)
قال ابن شوذب: كان حسان بن أبي سنان رجلاً من تجار البصرة له شريك بالبصرة وهو مقيم بالأهواز يجهز على شريكه بالبصرة، ثم يجتمعان رأس كل سنة فيقتسمان الربح، فكان يأخذ قوته من ربحه ويتصدق بما بقي، وكان صاحبه يبني دوراً ويتخذ أرضين، فقدم حسان البصرة قدمةً ففرق ما أراد أن يفرق، فذكر له أهل بيت لم تكن حاجتهم ظهرت، فقال: أما كنتم تخبرونا؟ فاستقرض لهم ثلاث مئة درهم وبعث بها إليهم. (3/116)
جاءت امرأة عليها ثوب قد نفض من الصبغ فسألت حسان بن أبي سنان فقال لشريكه هكذا، وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى، قال: فذهب شريكه يزن درهمين، قال: زن لها مئتين! فقالوا: يا أبا عبد الله كنتَ تُرضي(1) بذا كذا وكذا من سائل! فقال: إني ذهبت في شيء لم تذهبوا فيه، إني رأيت بها بقية من الشباب وخشيت أن تحملها الحاجة على بعض ما يكره. (3/116)
قال ابن المنهال الطائي: إن علي بن الحسين كان إذا ناول الصدقة السائل قبله ثم ناوله. (3/127)
كان زين العابدين إذا أتاه السائل رحب به وقال: مرحباً بمن يحمل زادي إلى الآخرة(2). (صف2/95)
قال سفيان: أراد علي بن الحسين الخروج في حج أو عمرة فاتخذت له سكينة بنت الحسين سفرة أنفقت عليها ألف درهم أو نحو ذلك وأرسلت بها إليه فلما كان بظهر الحرة أمر بها فقسمت على المساكين. (صف2/96)
__________
(1) في الأصل (كانت ترضى) ولها وجه، ولكن ما أثبتُّه أقرب وأوضح.
(2) قال ابراهيم بن أدهم: السائل بريد الآخرة يجيء إلى باب أحدكم ويقول: هل توجهون إلى أهاليكم بشيء؟. (ثقات ابن حبان 8/4)(2/151)
عن أبي مودود قال: كان عامر بن عبد الله بن الزبير يتحين العُبّاد وهم سجود: أبا حازم وصفوان بن سليم وسليمان بن شحم وأشباههم؛ فيأتيهم بالصرة فيها الدنانير والدراهم فيضعها عند نعالهم بحيث يُحسون بها ولا يشعرون بمكانه فيقال له: ما يمنعك أن ترسل بها إليهم؟ فيقول أكره أن يتمعر وجه أحدهم إذا نظر إلى رسولي وإذا لقيني(1). (صف2/131)
عن عياش بن المغيرة قال: كان عامر بن عبد الله بن الزبير إذا شهد جنازة وقف على القبر فقال: ألا أراك ضيقاً! ألا أراك دقعاً! ألا أراك مظلماً! إن سلمتُ لأتأهبنَّ لكَ أهبتك؛ فأول شيء تراه عيناه من ماله يتقرب به إلى ربه، وإن كان رقيقه ليتعرضون له عند انصرافه من الجنائز ليعتقهم. (صف2/131)
قال أبو مروان مولى بني تميم: انصرفت مع صفوان بن سليم من العيد إلى منزله فجاء بخبز يابس فجاء سائل فوقف على الباب وسأل، فقام صفوان إلى كوة في البيت فأخذ منها شيئاً فاعطاه فاتبعت ذلك السائل لأنظر ما أعطاه فإذا هو يقول: أعطاه الله أفضل ما أعطى أحداً من خلقه، فقلت: ما أعطاك؟ قال: أعطاني ديناراً. (صف2/154)
قال سفيان: جاء رجل من أهل الشام فقال: دلوني على صفوان بن سليم فإني رأيته دخل الجنة، فقلت: بأي شيء؟ قال: بقميص كساه إنساناً؛ قال بعض إخوان صفوان: سألت صفوان عن قصة القميص، قال: خرجت من المسجد في ليلة باردة فإذا رجل عريان فنزعت قميصي فكسوته. (صف2/154)
__________
(1) قال معن: سمعت أن عامر بن عبد الله ربما أخرج البدرة فيها عشرة آلاف درهم فيقسمها فما يصلي العتمة ومعه منها درهم. (صف2/130-131)(2/152)
قالَ الأوزاعيُّ: هلكَ ابنٌ لبلالِ بنِ سعدٍ(1) بالقسطنطينية فجاءَ رجُلٌ يدَّعي عليهِ بضعةً وعشرينَ ديناراً، فقال له بلالٌ: ألكَ بينةٌ؟ قال: لا، قال: فلكَ كتابٌ؟ قال: لا، قالَ: فتحلفُ؟ قال: نعم، قالَ: فدخلَ منزلَه فأعطاه الدنانيرَ وقالَ: إن كنتَ صادقاً فقد أديتُ عن ابني، وإن كنتَ كاذباً فهي عليك صدقة. (5/222)
قال قتادة: من منع زكاة ماله سلط الله عليه البناء. (مسند ابن الجعد 1052)
فتنة المال(2) واللباس والطعام
قالَ الحسنُ: بئْسَ الرفيقانِ الدرهمُ والدينارُ، لا ينفعانِكَ حتى يفارقانك(3). (2/155)
قال الحسنُ: والله لقد عبدتْ بنو إسرائيلَ الأصنامَ - بعد عبادتهم للرحمن تعالى - بحبِّهم الدنيا. (2/156)
__________
(1) قال الأوزاعي: سمعت بلال بن سعد ولم أسمع واعظاً أبلغَ منه؛ وقال عبد الله بن المبارك: كان محل بلال بن سعد بالشام ومصر كمحل الحسن بن أبي الحسن بالبصرة. (5/222)
(2) قال يحيى بن معاذ الرازي: مصيبتان للعبد في ماله عند موته لا تسمع الخلائق بمثلهما، قيل: ما هما؟ قال: يؤخذ منه كله، ويسأل عنه كله. (مختصر منهاج القاصدين ص253)
قلت: وللمال فتن عديدة، أخطرها: التطلع إلى اكتسابه وانشغال القلب بذلك، وإضاعة الأوقات والطاقات في تحصيله وتنميته وتجميعه، وعدم الرضا بالقليل منه، وحسد أهله، والحرص على تكثيره وكنزه ومنعه من مستحقيه وارتكاب المحرمات في جمعه ومنعه وإنفاقه والتكبر والتباهي به وظلم الناس به والاغترار بسعته قال تعالى (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعّمه فيقول ربي أكرمن----).
(3) كذا الأصل بإثبات النون؛ ومعنى هذه الحكمة أن المال لا ينتفع به مالكه إلا عند بذله وتركه لغيره أي بالبيع ونحوه، وذلك بخلاف الدين والعلم والعقل والأخ الناصح فإن نفع هؤلاء في حال وجودهم مع المرء حاصل وهو أيضاً دائم وثابت في أغلب الأحوال.(2/153)
قال هشامٌ(1): سمعت الحسنَ يحلفُ باللهِ: ما أعزَّ أحدٌ الدرهمَ إلا أذلَّهُ الله. (2/152)
قال حميد الطويل: خطب رجل إلى الحسن وكنت أنا السفير بينهما، قال: فكأن قد رضيه، فذهبت يوماً أثني عليه بين يديه فقلت: يا أبا سعيد وأزيدك أن له خمسين ألف درهم! قال: له خمسون ألفاً؟! ما اجتمعت من حلال! قلت: يا أبا سعيد إنه كما علمتُ ورع مسلم؛ قال: إن كان جمعها من حلال فقد ضن بها عن حق؛ لا والله لا جرى بيننا وبينه صهر أبداً. (2/151)
قال الحسن لاصحابه: يا ابن آدم إلى متى: يا أهلاه غدوني يا أهلاه عشوني؟! يوشك والله يُغْدَى بك، يوشك والله يراح بك؛ أما هو إلا أكلاً وبلعاً، وسرطاً سرطاً؟ أحمق! إنما تجمع مالك لامرأة تذهب به إلى زوجها، أو رجل يذهب به إلى زوجته؛ فإن استطعت أن [لا] تكون أخسر الثلاثة نصيباً فافعل. (الزهد ص274)
قال الحسن: [يقول] ابن ادم: مالي مالي! هل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو أعطيت فأمضيت؟! (الزهد ص274)
مر الحسن بقصر أوس(2) فقال: لمن هذا القصر؟! قالوا: هذا قصر أوس، قال: علي(3)! ود أوس أن له بدل هذا القصر في الآخرة رغيف. (الشعب 7/403)
__________
(1) هو ابن حسان.
(2) قال ياقوت الحموي في (معجم البلدان) (4/356): (قصر أوس بالبصرة أيضاً، ينسب إلى أوس بن ثعلبة بن زفر بن وديعة بن مالك بن تيم الله بن ثعلبة بن عكابة وكان سيد قومه وكان قد ولي خراسان في الأيام الأموية؛ وإياه عنَى ابن أبي عيينة بقوله:
بغرس كأبكار الجواري وتربة كأن ثراها ماء ورد على مسك
فيا حسن ذاك القصر قصراً ونزهة ويا فيح سهل غير وعر ولا ضنك
كأن قصور القوم ينظرن حوله إلى ملك موف على قبة الملك
يُدِلُّ عليها مستطيلاً بحسنه ويضحك منها وهي مطرقة تبكي)
(3) أي عالي؛ وهو يقولها استنكاراً واستهزاءً.(2/154)
قال ابن سيرين: المسلمُ: المسلمُ عندَ الدرهمِ والدينار(1). (2/267)
قال الحسن: عيرت اليهود عيسى عليه السلام بالفقر! فقالَ: من الغنى أُتيتم. (العقد الفريد 10/150)
نظر مالك إلى شاب ملازم للمسجد فجلس اليه فقال له: هل لك أن أكلمَ لك بعضَ العشارين يُجْرُونَ عليك شيئاً وتكون معهم؟(2) قال: افعل ما شئت يا أبا يحيى!! فأخذ كفاً من تراب فجعله على رأسه. (2/382)
قال فطر بن حماد بن واقد: حدثنا أبي قال: حدثنا مالك بن دينار قال: كان فتى يتقرأ(3) وكان يأتيني فابتلي فولي الجسر، فبينما هو يصلي إذ مرت سفينة فيها بط، فنادى بعض أعوانه: افرادكن، أي قرّب، ليأخذ العاملُ بطةً، فأشار بيده: سبحان الله سبحان الله!! أي بطتين؛ قال(4): فكان أبي إذا حدث بهذا الحديث بكى وأضحك الجلساء. (2/382-383)
قال مالك بن دينار: يقولُ بعضُ أهلِ العلمِ: نظرتُ في أصلِ كلِّ إثمٍ فلم أجدْه إلا حبّ المالِ، فمن ألقى عنه حبَّ المالِ فقد استراح. (2/360 و381)
قال يونس بن عبيد: ما سارق يسرق الناس بأسوأ عندي من رجل أتى مسلماً فاشترى منه متاعاً إلى أجل مسمى، فحل الأجل فانطلق في الأرض فضرب يميناً وشمالاً يطلب فيه من فضل الله، والله لا يصيب منه درهماً إلا كان حراماً. (3/17)
قال يونس: إنما هما درهمانِ: درهمٌ أمسكتَ عنهُ حتى طابَ لكَ فأخذْتَهُ، ودرهمٌ وجَبَ للهِ تعالى عليكَ فيهِ حقٌّ فأدَّيتَه. (3/17)
__________
(1) أي عند التعامل بالأموال وعند الابتلاء بها يتبين حال المسلم في دينه.
(2) مالك يريد بهذا اختبار دينه وفهمه.
(3) أي يتعبد ويطلب بعض العلم؛ جاء في (لسان العرب) (1/130): (وتَقَرَّأ: تَفَقَّه، وتقرَّأَ: تنَسَّكَ. ويقال: قَرَأْتُ أي صِرْتُ قارِئاً ناسِكاً. وتَقَرَّأْتُ تَقَرُّؤاً، في هذا المعنى. وقال بعضهم: قَرَأْتُ: تَفَقَّهْتُ).
(4) أي فطر.(2/155)
قال حماد بن سلمة: سمعت يونس بن عبيد يقول: ما أهم رجلاً كسبُه إلا أهمه أين يضعه(1). (صف3/307)
قال الحسن: إن المؤمن أخذ عن الله أدباً حسناً؛ إذا وسع عليه أوسع، وإذا أمسك عليه أمسك. (الزهد ص268)(2)
عن جعفر قال: سمعت شميطاً [بن عجلان] يقول في كلامه: أبناء دنيا يرضعونها لا ينفطمون عن رضاعها، [و]قال: سمعت شميطاً يقول: إن الدينار والدرهم أزمة المنافقين، بها يقادون إلى السوءات. (الورع لأحمد ص70 وانظر الحلية 3/127)
قال وهب بن منبه: أعون الأخلاق على الدين الزهادة في الدنيا وأسرعها ردءاً اتباع الهوى، ومن اتباع الهوى حب المال والشرف، ومن حب المال والشرف تنتهك المحارم، ومن انتهاك المحارم يغضب الله عز وجل، وغضب الله ليس [له] دواء. (4/41)
قال ميمون بن مهران: في المال ثلاثُ خصالٍ: إن نجا رجلٌ من خصلةٍ كان قَمِناً أن لا ينجوَ من اثنتينِ، وإن نجا من اثنتينِ كان قمناً أن لا ينجوَ من الثالثةِ، ينبغي للمالِ أن يكونَ أصلُهً من طيبٍ؛ فأيُّكم الذي يسلمُ كسبُه فلم يدخلْهُ الا طيباً؟ فإن سلِمَ من هذه فينبغي له أن يؤدي الحقوقَ التي في مالِهِ؛ فإنْ سَلِمَ من هذه فينبغي لهُ أن يكونَ في نفقتِهِ ليسَ بمسرِفٍ ولا مقْتِرٍ. (4/89-90)
قال خيثمة بن عبد الرحمن: كان يقال: إن الشيطانَ يقولُ: ما غلبني عليه ابنُ آدمَ فلن يغلبَني على ثلاثٍ: أن يأخذَ مالاً مِن غيرِ حقِّه، وأن يمنعَه مِن حقه، وأن يضعَه في غيرِ حقِّه. (3/117)
__________
(1) أي من حاسب نفسه على وسيلة كسب المال حاسبها على كيفية إنفاقه.
(2) وانظر (الشعب) (5/260) و(تأويل مختلف الحديث) (ص144) و(جامع العلوم والحكم) (ص427).(2/156)
قال عون بن عبد الله: يدخل فقراءُ المهاجرينَ الجنةَ قبلَ أغنيائِهم بسبعينَ خريفاً(1)؛ مثَلُه كمثَلِ سفينتينِ في هذا البحرِ مرت واحدةٌ وليسَ فيها شيءٌ فقالَ صاحبُ البحرِ: خلُّوا سبيلَها، ومرت الأخرى موقرةً فحُبستْ لينظر ما فيها. (4/254)
قال وهب بن منبه: دخول الجملِ في سَمِّ الخياط أيسرُ من دخول الأغنياءِ الجنة. (4/57)
قال مالك بن دينار: قدمت من سفر لي فلما صرت بالجسر قام العشار فقال: لا يخرجن من السفينة ولا يقوم أحد من مكانه فأخذت ثوبي فوضعته على عنقي ثم وثبت فإذا أنا على الأرض فقال لي: ما أخرجك؟ قلت: ليس معي شيء، قال: اذهب، فقلت في نفسي: هكذا أمر الآخرة. (صف3/276)
قال سعيد بن جبير: من إضاعةِ المالِ أنْ يرزقكَ اللهُ حلالاً فتنفقَهُ في معصيةِ اللهِ. (4/281)
قال خالد بن معدان: العينُ مالٌ والنفسُ مالٌ؛ وخيرُ مالِ المرءِ ما انتُفعَ بِه وابتذلَه؛ وشرُّ أموالِك(2) ما لا تراه ولا يراكَ وحسابُه عليكَ ونفعُه لغيرك. (5/211)
قال ابن سيرين: كان أبو الشعثاء مسلماً عند الدينار والدرهم. (صف3/237)
قال محمد بن المنكدر: نعم العون على تقوى الله الغنى. (روضة العقلاء ص225 و صف2 / 143)
قال أبو اسحاق السبيعي: كانوا يرون السعة عوناً على الدين. (مختصر منهاج القاصدين ص253)
قال مجاهد: من لم يستح من الحلال خفت مؤونته وأراح نفسه وقل كبره. (الورع لأحمد ص49 والحلية 3/284)
قال سويد بن غفلة: إن الملائكة تمشي أمام الجنازة وتقول: ما قدم؟ ويقول الناس: ما ترك؟ (صف3/22)
قال الحسن في قوله عز وجل: (وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى)(3) قال: بخل بما لم يبق واستغنى بغير غنى. (الزهد ص286)
__________
(1) كذا قال؛ والمعروف من حديث النبي صلى الله عليه وسلم قوله يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائها بخمسمئة عام.
(2) في الأصل (أموالكم).
(3) الليل (8).(2/157)
قال علي بن زيد: رآني سعيد بن المسيب، وعلَيَّ جبةُ خزّ، فقال: إنك لجيد الجبة، قلت: وما تغني عني وقد أفسدها عليَّ سالم؟! فقال سعيد: أصلح قلبك والبس ما شئت(1). (2/173)
عن عاصم عن بكر بن عبد الله المزني قال: البسوا ثياب الملوك وأميتوا قلوبكم بالخشية. (التواضع والخمول ص176 وذكر أخبار أصبهان 2/94)
دعي الحسن وفرقد السبخي إلى وليمة فقرب إليهما ألوان الطعام فاعتزل فرقد ولم يأكل فقال الحسن: ما لك ما لك يا فريقد؟! أترى أن لك فضلاً على إخوانك بكُسَيِّكَ(2) هذا؟! لقد بلغني أن عامة أهل النار أصحاب الاكسية. (2/156)
كان مالك بن دينار يكثر أن يقول: لو كان طيلسان بكر، فقال الحسن: إنك قد أكثرت في طيلسان بكر! فلأنا عليك في عبايتك أخوف مني على بكر في طيلسانه. (الزهد ص264)
__________
(1) عن قتادة عن سعيد بن المسيب قال: أصلحْ قلبك والبس ما شئت. (التواضع والخمول ص192)
وهذان أثران آخران في هذا المعنى أو ما يقاربه:
عن معن بن عيسى قال: سمعت بعض أهل العلم يقول: قال عيسى عليه السلام: يا بني إسرائيل ما لكم تأتوني وعليكم ثياب الرهبان وقلوبكم قلوب الذئاب الضواري البسوا ثياب الملوك وألينوا قلوبكم بالخشية. (التواضع والخمول ص173)
وعن حماد بن زيد عن هشام قال: قيل لهند بنت المهلب: ألا تدعين لبس الحرير؟! قالت: لا أدعه حتى يكون أشر عملي. (التواضع والخمول ص177)
(2) مصغر كساء.(2/158)
ذُكر عند الحسن الذين يلبسون(1) الصوف فقال: ما لهم تفاقدوا(2)! - ثلاثاً – أكَنّوا الكبْرَ في قلوبهم، وأظهروا التواضع في لباسهم، والله لأحدهم أشد عُجباً بكسائه، من صاحب المطرف بمطرفه. (عيون الأخبار 2/372 والطبقات 7/169 وانظر التواضع والخمول ص90 وتفسير ابن كثير 3/449 وفيض القدير 5/2 والبيان والتبيين 3/153)
عن سعيد بن مسروق أن ربيع بن خثيم كان يلبس قميصاً سنبلانياً، قال سعيد: أراه ثمن ثلاثة دراهم أو أربعة دراهم؛ قال: فإذا مد كمه يبلغ ظفره وإذا أرسله بلغ ساعده وإذا رأى بياض القميص قال: أي عُبيد تواضع لربك ثم يقول أي لحيمة وأي دميمة كيف تصنعان إذا سيرت الجبال ودكت الأرض دكاً وجاء ربك والملك صفاً صفاً؟! (صف 3/65-66)
قال مسلم بن يسار: إذا لبست ثوباً فظننت أنك في ذلك الثوب أفضل مما في غيره فبئس الثوب هو لك. (2/294)
عن عمر بن ذر قال: ما رأيت مثل عطاء [بن أبي رباح] قط، وما رأيت على عطاء قميصاً قط، ولا رأيت عليه ثوباً يساوي خمسة دراهم. (صف2/212)
قال يحيى بن جابر الطائي: قال عمرو بن الأسود: لا ألبس مشهوراً أبداً، ولا أملأ جوفي من طعام بالنهار أبداً حتى ألقاه. (صف4/201)
عن الحسن بن أبي يزيد العجلي عن طاووس قال: إني لأغسل ثوبيَّ هذين فأنكر نفسي ما داما نقيين(3)
__________
(1) في الأصل (يذكرون).
(2) وردت هذه اللفظة في بعض الكتب بالراء (تفاقروا)، ومعناها استنكار الحسن تكلف هؤلاء إظهار الفقر؛ وأما بالدال فمعناها دعاؤه عليهم بالموت.
(3) عن فضيل بن عياض قال: رئي على سلمان جبة من صوف فقيل له: لو لبست ألين من هذا، قال: إنما أنا عبد ألبس كما يلبس العبد، فإذا عُتقتُ لبست ثياباً لا تبلى حواشيها. (التواضع والخمول ص171)
وعن عبد الله بن شوذب قال: رئي سلمان وعليه كساء معلم الرأس ساقط الأذنين فقيل له: شوهت بنفسك، قال إن الخير خير الآخرة. (التواضع والخمول ص188)
وقال ابن ابي الدنيا: حدثنا اسحاق بن ابراهيم أخبرنا جعفر بن سليمان حدثنا ثابت أحسبه عن أبي عثمان قال: مر سلمان بدهاقين من دهاقين المدائن، وهم يومئذ أسحم، فلما رأوه وكان مشمر الثياب وكمه إلى نصف ذراعيه قالوا [أي بالفارسية]: (كن امذكرامد)؛ قال: فظن سلمان أنهم ذكروه، فقال لبعض من معه: ما قالوا؟ قال: لا شيء، قال: عزمت عليك لما أخبرتني بما قالوا؛ قال: شبهوك بلعبة لهم تدعى المرح، فقال سلمان: إنما الخير خير الآخرة. (التواضع والخمول ص171-172)
وعن سفيان [بن عيينة] قال: سمعت ابن شبرمة يقول: إن أبغض ثيابي إلي ما خدمته. (التواضع والخمول ص177-178)
وعن إبراهيم بن هراسة قال: سمعت سفيان الثوري يقول: أنفع ثيابك لك أهونها عليك. (التواضع والخمول ص178)(2/159)
. (التواضع والخمول ص170)
دعا بعض الأمراء شميطاً بن عجلان إلى طعام فاعتلَّ عليه ولم يأته فقيل له في ذلك فقال: فقْدُ أكلةٍ أيسر علي من بذل ديني لهم، ما ينبغي أن تكون بطن المؤمن أعز عليه من دينه. (3/127)
قال الحسن: قيل لسمرة: إن ابنك قد بشم الليلة! فقال: لو مات ما صليت عليه. (الورع لأحمد ص124 والجعديات للبغوي 3186)
قال الحسن: يا ابن آدم كل في ثلث بطنك واشرب في ثلثه ودع ثلث بطنك تتنفس وتتفكر. (جامع العلوم والحكم ص426)
اجتمع الحسن وفرقد السبخي في وليمة على مائدة ومعهم رجل أكول فأمسك القوم أيديهم وجعل الرجل يأكل، فقال له فرقد: يا فلان سرطاً سرطاً ولا عمل؟! فغضب الحسن فأقبل عليه فقال: ما لك فعل الله بك وفعل؟! ألا تدع الرجل يأكل! قد بلغني أنك تقول: وددت أن الرماد كان لنا قوتاً، جعله الله لك قوتاً. (الزهد ص264-265)
قال الحسن لفرقد يوماً: يا فريقد تحب الخبيص؟ قال: لا والله لا ما احبه ولا احب من يحبه فقال الحسن: أمجنون هو؟ أمجنون هو؟. (الزهد ص327-328)
قال الحسن بن عبد الرحمن: قال الحسن أو غيره: كانت بلية أبيكم آدم عليه السلام أكلة، وهي بليتكم إلى يوم القيامة؛ قال: وكان يقال: من ملك بطنه ملك الأعمال الصالحة كلها؛ وكان يقال: لا تسكن الحكمة معدة ملأى. (جامع العلوم والحكم ص426-427)
قال عقبة الراسـ[ـبـ]ـي: دخلت على الحسن فوافيته يتغدى خبزاً ولحماً فقال: هلم إلى طعام الأحرار، فقلت: أكلت، لا أستطيع أن آكل؛ فقال: سبحان الله ويأكل المسلم حتى لا يستطيع أن يأكل؟! (الزهد ص268)
قال الحسن: قال لقمان لابنه: يا بني لا تأكل شبعاً فوق شبع، فإنك أن تنبذه إلى الكلب خير لك؛ ويا بني لا تكونن أعجز من هذا الديك الذي يصوت بالأسحار وأنت نائم على فراشك. (جامع معمر 10/414)(2/160)
دخل مالك بن دينار على رجل محبوس قد أخذ بخراج خرج عليه وقيد، فقال: يا أبا يحيى أما ترى ما أنا فيه من هذه القيود؟ فرفع مالك رأسه فإذا سلة قال: لمن هذه السلة؟ قال: لي، قال: فمرْ بها فلتنزل فأنزلت فوضعت بين يديه فإذا دجاج وأخبصة، فقال: هذه وضعت القيود في رجلك، لا هم؛ وقام عنه. (صف3 / 278)
أطاف الناس بإياس بن معاوية(1) فسألوه عن هذه الآية (إنه لا يحب المسرفين)(2)؟ قال: الإسراف ما قصرت فيه عن حق الله عز وجل. (3/124)
قال محمد بن واسع: من قلَّ طعمُه فهِم وأفهم وصفا ورق؛ وإن كثرة الطعام لتثقل صاحبه عن كثير مما يريد. (2/351)
__________
(1) إياس بن معاوية بن قرة المزنى، يكنى أبا واثلة، كان قاضياً على البصرة، غزير العقل والدين. (صف3/263)
وذكر صالح بن سليمان عن عتبة بن عمر بن عبد الرحمن بن الحارث قال: ما رأيت عقول الناس إلا قريباً بعضها من بعض إلا ما كان من عقل الحجاج بن يوسف!!! وإياس بن معاوية فإن عقولهما كانت ترجح على عقول الناس كثيراً. (البيان والتبيين 1/68)
(2) وردت هذه الجملة القرآنية في سورتين، في الأنعام قوله تعالى (كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ {141})، وفي الأعراف قوله تعالى (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ {31}).(2/161)
قال مالك بن دينار: يا هؤلاء جهالكم كثير، لولا ذلك للبست المسوح(1)! ويا هؤلاء إنه ليس في الجوافة شيء شرٌ من رأسها، ولأن آكلَ رأسَ جوافة(2) أحب إلي من أن آكل حراماً، ويا هؤلاء إنما بطن أحدكم كلب فألق إلى هذا الكلب بكسرة برأس جوافة يسكن عنك ولا تجعلوا بطونكم جرباً للشيطان يوعي فيها ابليس ما شاء. (2/369)
قال وهب بن منبه: ليس من بني آدمَ أحدٌ أحبَّ إلى شيطانِه من النؤوم الأكول. (4/58)
قدم سليمان بن عبد الملك المدينة فدخل عليه القاسم وسالم بن عبد الله؛ قال: وإذا سالم أحسنهما كِدنْةً(3)؛ قال: يا ابن عمر ما طعامك؟ قال: الخبز والزيت؛ قال: وتشتهيه؟! قال: أدعه حتى أشتهيه؛ قال: ثم دعا لهما بغالية، وجاءت جارية وضيئة الوجه مديدة القامة فذهبت تغليهما، فقال: تنحي عنا، ثم تناولا المدهن فلعقا منه ثم ادهنا ثم قالا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى بالدهن الطيب لعق منه ثم ادهن. (2/193)
قال سالم بن عبد الله: إياكم وإدامة اللحم فإنَّ له ضراوة كضراوة الشراب. (2/194)
ذكر الحلال عند بكر بن عبد الله المزني فقال بكر: إن الحلال لو وُضع على جرح لبَرِئَ. (الورع ص117)
قال أبو وائل شقيق بن سلمة: إنَّ أهلَ بيتٍ يضعون على مائدتِهم رغيفاً حلالاً لأهلُ بيتٍ غرباء. (4/103)
قال طلحة بن مصرف: إذا أكلنا بالدَّين ابتدأنا(4) بالخل؛ وإذا لم نأكل بالدين أكلنا بالادام. (5/20)
__________
(1) جاء في (لسان العرب) (2/596): (والمِسْحُ: الكساء من الشَّعَر، والجمع القليل أَمْساح---والكثير مُسُوح).
(2) جاء في (النهاية في غريب الحديث) (1/317): (وفي حديث مالك بن دينار: أكَلْتُ رَغيفاً ورَأسَ جُوَافَة فعَلَى الدَّنْيا العَفَاءُ؛ الجُوَاف بالضَّم والتَّخْفِيف: ضَرْبٌ من السَّمَك، وليْسَ من جَيّده).
(3) الكدنة: اللحم.
(4) لعلها (ائتدمنا).(2/162)
قال القاسم بن مخَيْمِرَة الهمداني: ما اجتمع على مائدتي لونان من طعام واحد(1) ولا أغلقت بابي ولي خلفه هم(2). (6/80)
قال القاسم بن مخيمرة: قال لقمان لابنه وهو يعظه: يا بني إياك والشبع، فإنه مخونة بالليل ومذلة بالنهار(3). (6/82)
قال بكير بن عتيق: سقيتُ سعيدَ بنَ جبيرٍ شربةً من عسلٍ في قدحٍ فشربها ثم قال: واللهِ لأُسْأَلَنَّ عن هذا، فقلتُ له: لِمه؟! فقال: شربتُه وأنا أستلذُّه. (4/281)
عن يونس عن الحسن عن عُتَيّ عن أبي بن كعب قال: إن مطعم بن آدم ضُرب للدنيا مثلاً وإن قزَّحه وملَّحه فقد علم إلى ما يصير!. (التواضع والخمول ص203-204)
كان عروة إذا أتي بطعامه لم يزل مخمَّراً حتى يقول هؤلاء الكلمات: الحمد لله الذي هدانا وأطعمنا وسقانا ونعمنا؛ الله أكبر، اللهم ألفتنا نعمك ونحن بكل شر فأصبحنا وأمسينا منها بكل خير؛ أسألك تمامها وشكرها؛ لا خير إلا خيرك ولا إله غيرك؛ إله الصالحين ورب العالمين؛ الحمد لله لا إله إلا أنت ما شاء الله لا قوة إلا بالله اللهم بارك لنا فيما رزقتنا وقنا عذاب النار. (الشكر ص58)
السوق والاكتساب والبيع والشراء
قال مالك بن دينار: السوق مَكْثَرَةٌ للمال مَذْهَبَةٌ للدين. (2/385)
كان عمرو بن قيس إذا نظرَ إلى أهلِ السوقِ بكى وقالَ: ما أغفلَ هؤلاءِ عمّا أُعِدَّ لَهُم!! (5/102)
كان الحسن في السوق فرأى لغط أهل الأسواق فقال: أما يقيل هؤلاء؟! ما أظن ليل هؤلاء إلا ليل سوء. (الزهد ص270)
قال الحسن: لا تدنقوا فيدنق(4) عليكم. (مختار الصحاح ص89)
__________
(1) قال أبو جابر: رأيت القاسم يجيب إذا دعى إلى الولائم ولا يأكل إلا من لون واحد. (6/80)
(2) عن الأوزاعي يحدث عن القاسم بن مخيمرة قال: إني لأغلق بابي فما يجاوزه همي. (6/80)
(3) أو قال: ومذمة بالنهار.
(4) الدانق بفتح النون وكسرها سدس الدرهم؛ والمدنق المستقصي.(2/163)
مرّ الحسن بقوم يقولون: نقصان دانق وزيادة دانق! فقال: ما هذا؟! ألا لا دينَ إلا بمروءة. (الزهد للحسن البصري 91 والمروءة لابن المرزبان 19 والجواهر المجموعة للسخاوي ص84).
روى الخرائطي عن الحسن أنه كان إذا اشترى شيئاً وكان في ثمنه كسْرٌ جبره لصاحبه. (البداية والنهاية 9/268)
قال عبد الأعلى السمسار: قال الحسن: يا عبد الأعلى أما يبيع أحدكم الثوب لأخيه فينقص درهمين أو ثلاثة؟ قلت: لا والله ولا دانق واحد؛ فقال الحسن: إنْ هذه الأخلاق فما بقى من المروءة إذاً(1)؟! قال: وكان الحسن يقول: لا دين إلا بمروءة؛ وباع بغلة له فقال له المشتري: أما تحط لي شيئاً يا أبا سعيد؟ قال: لك خمسون درهماً، أزيدك؟ قال: لا، رضيت؛ قال: بارك الله لك. (البداية والنهاية 9/268)
ذكر مبارك أن الحسن قلع ضرسه فأعطاه درهماً، قالوا له: إنه بنصف درهم؛ فقال: أعطوه درهماً فإن المسلم لا يقاسم المسلم درهماً. (الزهد ص264)
قال الزبير الحنظلي: قلت للحسن: صليت يا أبا سعيد؟ قال: لا، قلت: إن أهل السوق قد صلوا؛ قال: إن أهل السوق لا خير فيهم؛ بلغني أن أحدهم يمنع أخاه الدرهم. (الزهد ص288 وانظر الشعب 7/442)
قال ابراهيم النخعي: كانوا يكرهون أخلاق التجار ونظرهم في مَداقِّ الأمور، وكانوا يحبون أن يقال: فيه غفلة السادة. (المنتقى من مكارم الأخلاق للسلفي 309 والجواهر المجموعة ص62)
قال الفضيل بن غزوان: قيل لطلحة بن مصرف: لو ابتعت طعاماً فربحت فيه؟ قال: إني أكره أن يعلم الله من قلبي غلاء على المسلمين. (5/15)
__________
(1) قال عبد الأعلى وكان سمساراً: قال لي الحسن: أيولي أحدكم أخاه الثوب فيه رخص درهمين أو ثلاثة قال قلت: لا والله ولا دانق، قال: فقال الحسن: أفٍّ أفٍّ فماذا بقي من المروءة إذاً؟. (الشعب 7/441).
وقال سفيان: ذكروا عند الحسن زيادة دانق أو نقصان دانق فقال الحسن: لا دين إلا بالمروءة. (الشعب 7/441)(2/164)
قال الحسن: كفى غشاً للمسلمين أن يتمنى غلاء سعرهم. (الشعب 7/526)
قال أيوب السختياني: قال لي أبو قلابة: يا أيوب احفظ عني ثلاث خصال: إياك وأبواب السلطان وإياك ومجالسة أصحاب الأهواء، والزم سوقك فإن الغنى من العافية. (الجامع 1/164 وانظر صف3/238)
عن أبي بكر بن عياش قال: رأيت مجمعاً التيمي كأني أنظر إليه في سوق الغنم قالوا له: كيف شاتك هذه؟ قال: ما أرضاها؛ قال أبو بكر: ومن كان أورع من مجمع؟! (5/89)
قال مسعر: جاء مجمع بشاة إلى السوق يبيعها فقال: يخيل إلي أن في لبنها ملوحة. (صف 3/108)
قال سكن الحرشي: جاءني يونس بن عبيد بشاة فقال: بعها وابرأ من أنها تقلب العلف وتنزع الوتد؛ ولا تبرأ بعد ما تبيع؛ بل قل لمن تبيع. (صف3/307)
قال زياد بن الربيع عن أبيه: رأيت محمد بن واسع يمر ويعرض حماراً له على البيع فقال له رجل: أترضاه لي؟ قال: لو رضيته لم أبعه. (2/349)
خرج ابنُ محيريزٍ إلى بزازٍ يشتري منه ثوباً والبزازُ لا يعرفه، وعنده رجلٌ يعرفُه، فقالَ: بكم هذا الثوب؟ قال الرجلُ: بكذا وكذا، فقال الرجلُ الذي يعرفُه: أحسنْ إلى ابنِ محيريزٍ؛ فقال ابنُ محيريز: إنما جئتُ أشتري بمالي ولم أجئ أشتري بديني! فقام ولم يشتر. (5/138)
قال المروزي: سألت أبا عبد الله [أحمد بن حنبل] عن الرجل يكسب بالأجر فيجلس في المسجد؟ قال: أما الخياط وأشباهه فما يعجبني، إنما بني المسجد ليذكر اسم الله فيه؛ وكره البيع والشراء فيه. قال: رأى عطاء بن يسار رجلاً يبيع في المسجد فدعاه فقال: هذه سوق الآخرة فإن أردت البيع فاخرج إلى سوق الدنيا. (الورع لأحمد ص59)
قال مالك بن دينار: دخل عيسى بن مريم مسجد بيت المقدس وهم يتبايعون فيه فجعل ثوبه مخراقاً(1) وسعى عليهم ضرباً وقالَ: يا بني الحيات والأفاعي اتخذتم مساجد الله أسواقاً. (2/382)
__________
(1) جاء في (مختار الصحاح) (ص73): (والمِخْرَاقُ: المنديل يُلفُّ ليُضربَ به، عربيٌّ صحيحٌ).(2/165)
قال رسته: سمعت زهيراً يقول: كان يونس بن عبيد خزازا فجاء رجل يطلب ثوبا فقال لغلامه: انشر الرزمة، فنشر الغلام الرزمة وضرب بيده عليها وقال: صلى الله على محمد؛ فقال: ارفعه، وأبى أن يبيعه، مخافة أن يكون مدحه. (صف3/301-302)
قال مؤمل بن اسماعيل: جاء رجل من أهل الشام إلى سوق الخزازين فقال: مطرف بأربعمئة؟ فقال يونس بن عبيد: عندنا بمئتين، فنادى مناد بالصلاة فانطلق يونس إلى بني قشير ليصلي بهم، فجاء وقد باع ابن أخيه المطرف من الشامي بأربعمئة! فقال يونس: ما هذه الدراهم؟! قال: ذلك المطرف بعناه من هذا الرجل؛ قال يونس: يا عبد الله المطرف الذى عرضت عليك بمئتي درهم فإن شئت فخذه وخذ مئتين، وإن شئت فدعه؛ قال: من أنت؟! قال: رجل من المسلمين؛ قال: بل أسألك باالله من أنت وما اسمك؟ قال: يونس بن عبيد، قال: فوالله إنا لنكون في نحر العدو فإذا اشتد الأمرعلينا قلنا: اللهم رب يونس فرج عنا، أو شبيه هذا؛ فقال يونس: سبحان الله سبحان الله. (صف3/302)
قال بشر بن المفضل: جاءت امرأة بمطرف خز إلى يونس بن عبيد فألقته إليه تعرضه عليه في السوق فنظر إليه فقال لها: بكم؟ قالت: بستين درهماً؛ قال: فألقاه إلى جار له فقال له: كيف تراه؟ بعشرين ومئة؟ قال: أرى ذلك ثمنه أو نحواً من ثمنه، قال: فقال لها: اذهبي فاستأمري أهلك في بيعه بخمس وعشرين ومئة، قالت: قد أمروني أن أبيعه بستين، قال: ارجعي إليهم فاستأمريهم. (صف3/302-303)(2/166)
قال أمية بن بسطام: جاءت يونس بن عبيد امرأة بجبة خز فقالت له اشترها فقال بكم تبيعينها قالت: بخمس مئة، قال: هي خير من ذلك، قالت: بستمئة، قال: هي خير من ذلك، فلم يزل يقول: هي [خير] من ذلك، حتى بلغت ألفاً، وقد بذلتها بخمس مئة. قال أمية: وكان يونس بن عبيد يشتري الابريسم من البصرة فيبعث به إلى وكيله بالسوس فكان وكيله يبعث إليه بالخز فإن كتب وكيله إليه أن المتاع عندهم زائد لم يشتر منهم أبداً حتى يخبرهم أن وكيله كتب إليه أن المتاع عندهم زائد. (صف3/305)
قال أمية: كان يونس بن عبيد إذا طلب المتاع أرسل إلى وكيله بالسوس أن أَعْلِمْ من تشتري منه أن المتاع يُطلَب، أو كلاماً ذا معناه. (صف3/305)
قال النضر بن شميل وسعيد بن عامر: غلا الحرير، وقال أحدهما: الخز، في موضع كان إذا غلا هناك [غلا] بالبصرة، وكان يونس بن عبيد خزازاً، فعلم بذلك فاشترى من رجل متاعاً بثلاثين ألفاً فلما كان بعد ذلك قال لصاحبه: هل كنت قد علمت أن المتاع قد غلا بأرض كذا وكذا؟ قال: لا، ولو علمت لم أبع، قال: هلم هلم إليَّ مالي، وخذ مالك؛ ورد عليه الثلاثين ألفاً. (صف 3/306)
عن ليث عن طاوس أنه كان يكره السابري(1) الرقيق والتجارة فيه. (طبقات ابن سعد 5/538)
حقوق المسلمين
عن أبي حيان التيمي قال: أخبرنا أبي قال: كان شريح [القاضي] إذا مات لأهله سِنَّوْرٌ(2) أمَر بها فألقيت في جوف داره ولم يكن لها مثعبٌ شارع إلا في جوف داره، اتقاءً لأذى المسلمين. (صف3/41)
قال الحسن: عاش الناس برهة من دهرهم وإن الرجل ليعظم عيبة(3) أخيه ودرهمه وسوطه أن يجده ملقى في الطريق حتى يردها عليه، فبينما هم كذلك إذ طعن الشيطان طعنة فنفرت القلوب فصارت وحشاً فإذا هو يستحل دمه وماله، وهو بالأمس يحرم عيبته وديناره ودرهمه. (رك ص356)
عيادة المريض
__________
(1) هو نوع من الثياب الرقيقة وتسمى ثياب سابور.
(2) قِطّ.
(3) العيبة: الزنبيل من أدم وما تجعل فيه الثياب كالحقيبة.(2/167)
قال إياس: انطلق الحسن فانطلقنا معه إلى أبي نضرة نعوده فدخل عليه فقال له أبو نضرة: أدن يا أبا سعيد فدنا منه فوضع يده على عنقه وقبل خده فقال الحسن: يا أبا نضرة إنه والله لولا هول المطلع لسر رجالاً من اخوانك أن يكونوا قد فارقوا ما ههنا؛ قال: يا أبا سعيد اقرأ سورة وادع بدعوات؛ فقرأ قل هو الله أحد والمعوذتين وحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد صلى الله عليه وسلم؛ [و]قال: اللهم مس أخانا الضر وأنت أرحم الراحمين؛ قال: وبكى ودخل أهل البيت رحمة لأخيهم، قال: فما رأيت الحسن بكى بكاء أشد منه؛ قال: فقال: يا أبا سعيد كن أنت الذي تصلي علي. (رك ص416)
قال عبد العزيز أبو مرحوم: دخلنا مع الحسن على مريض نعوده فلما جلس عنده قال: كيف تجدك؟ قال: أجدني أشتهي الطعام فلا أقدر أسوغه، وأشتهي الشراب فلا أقدر على أن أتجرعه، قال: فبكى الحسن وقال: على الأسقام والأمراض أُسِّستْ هذه الدار، فهبْكَ تصح من الأسقام وتبرأ من الأمراض، هل تقدر على أن تنجو من الموت؟! قال: فارتجَّ البيت بالبكاء. (ذم الدنيا 206)
عاد الحسن عليلاً فوجده قد شفي من علته فقال: أيها الرجل إن الله قد ذكَّرك فاذكره، وقد أقالك فاشكره، ثم قال الحسن: إنما المرض ضربة سوط من ملك كريم؛ فإما أن يكون العليل بعد المرض فرساً جواداً، وإما أن يكون حماراً عثوراً معقوراً. (البداية والنهاية 9/268-269)
قال سلام بن مسكين: دخلنا على الحسن وهو مريض فلحظ إلينا لحظة فقال: لو أن ابن آدم أخذ من صحته ليوم سقمه. (الطبقات 7/174)
قال أيوب: مرض أبو قلابة بالشام فأتاه عمر بن عبد العزيز يعوده فقال: يا أبا قلابة تشدَّدْ ولا يَشْمَتْ بنا المنافقون. (صف3/239)
سَتْرُ المسلم(2/168)
عن هشام بن حسان عن خالد الربعي قال: نبئت أن عيسى عليه السلام قال لأصحابه: أرأيتم لو مررتم على رجل نائم وقد كشفت الريح ثوبه قالوا: كنا نرده عليه، قال: بل تكشفون ما بقي، قالوا: سبحان الله نرده عليه! قال: بل تكشفون ما بقي، مثلٌ أضربه للقوم يسمعون عن الرجل بالسيئة فيزيدون عليها ويذكرون أكثر منها. (الصمت ص285)
قال الحسن: إن الله تعالى رفع درجة اللسان فليس في الأعضاء شيء ينطق بذكره غيره. (رسائل الجاحظ 1/379)
قال الحسن: اللسان أمير البدن فإذا جنى على الأعضاء بشيء جنت وإن عف عفت. (الصمت ص69 وجامع العلوم والحكم ص275)
قال سعيد بن المسيب: إنه ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه؛ من كان فضله أكثر من نقصه وُهب نقصه لفضله. (صف2/81)
قال شُبيل بن عوف: كان يقال: من سمع بفاحشة فأفشاها فهو كالذي أبداها. (الصمت ص157)
حقوق الجار
قال الحسن: كان الرجل في الجاهلية يقول: والله لا يؤذَى كلب جاري. (مكارم الأخلاق ص104)
جاءت امرأة إلى الحسن تشكو الحاجة وقالت: إني جارتك! قال: كم بيني وبينك؟ قالت: سبع دور أو [قالت]: عشر؛ فنظر تحت الفراش فإذا سبعة دراهم أو ستة فأعطاها إياها وقال: كدنا نهلك. (البر والصلة ص128-129 ومكارم الأخلاق ص104)
كان الحسن يكره أن يبني الرجل بيتاً يشرف على جاره يستره من الريح. (البر والصلة ص125)
قال الحسن: يقول أحدهم: أحج، أحج!! قد حججتَ! صلْ رحماً، نفس عن مغموم، أحسن إلى جار. (الزهد ص261)(2/169)
قال غالب القطان: قلت للحسن: جار لي نصراني يمرض أفأعوده؟ قال: نعم؛ قلت: فكيف أقول؟ قال: تأتي الباب فتقول: من ها هنا؟ كيف مريضكم؟ كيف ترونه؟ فإذا قمت قلت: الشفاء والعافية بيد الله عز وجل(1). (الدعاء ص347)
سئل الحسن عن الجار فقال: أربعين داراً أمامه وأربعين خلفه وأربعين عن يمينه وأربعين عن يساره. (الأدب المفرد ص51)
عن جارة لطلحة قالت: أرسل إلي طلحة بن مصرف إني أريد أن أوتد في حائطك وتداً فأرسلت إليه: نعم وافتح فيه كوة. (5/14)
عن جارة لطلحة قالت: دخلت خادمنا منزل طلحة بن مصرف نقتبس ناراً وطلحة يصلي فقالت لها امرأته: مكانك يا فلانة حتى نشوي لأبي محمد(2)هذا القديد على قصبتك يفطر عليها، قال: فلما قضى الصلاة قال: ما صنعت؟! لا أذوقها حتى ترسلي الى سيدتها تستأذنيها حَبْسَكِ إياها وشواءك على قصبتها. (5/14-15)
قال زيد: سكن رجل المقابر فعوتب في ذلك فقال: جيران صدق ولي فيهم عبرة. (الزهد الكبير ص103)
قال أبو حمزة التمار: قلت للحسن: لنا جار يطفف ويشرب، وذكر النساء، ومات! قال: اذهب إليه فجهزه واغسله وصل عليه فإنه آخر حق المسلم على المسلم. (البر والصلة ص122)
اصطناع المعروف وقضاء حوائج المسلمين
بعث الحسن البصري قوماً من أصحابه في قضاء حاجة لرجل، وقال لهم: مروا بثابت البناني فخذوه معكم؛ فأتوا ثابتاً فقال: أنا معتكف، فرجعوا إلى الحسن فأخبروه فقال: قولوا: يا أعمش أما تعلم أن مشيك في حاجة أخيك المسلم خير لك من حجة بعد حجة؟! فرجعوا إلى ثابت فترك اعتكافه وذهب معهم(3)
__________
(1) قال غالب القطان: قلت للحسن: إن لنا جيراناً نصارى ينيلون معروفهم ويعودون مرضانا ويتبعون جنائزنا؛ قال: كافئهم، إذا أتيت الباب فقل: من ههنا؟ أدخل؟ فإذا دخلت فقل: كيف مريضكم؟ كيف تجدونه؟ فإذا أردت أن تقوم فقل: الشفاء والعافية بيد الله عز وجل. (الشعب 6/547)
(2) تعني زوجها طلحة.
(3) وهذه آثار أخرى في هذا الباب أسوقها هنا لزيادة الإفادة:
قال الحسن: لأن أقضي لأخ حاجة أحب إلى من أن أعتكف شهرين. (قضاء الحوائج ص48 وروضة العقلاء ص247)
جاء رجل إلى الحسين بن علي فسأله أن يذهب معه في حاجة فقال إني معتكف فأتى الحسن فأخبره، فقال الحسن: لو مشى معك في حاجتك أحب إلي من اعتكاف شهر. (قضاء الحوائج ص63)
استعان رجل بالحسن في حاجة فخرج معه وقال إني استعنت بابن سيرين وفرقد فقالا: حتى نشهد الجنازة ثم نخرج معك قال: أما إنهما لو مشيا معك لكان خيراً. (الطبقات 7/169)(2/170)
. (جامع العلوم والحكم ص341 وقضاء الحوائج ص89)
قال الحسن: لأن أقضي لمسلم حاجة أحب إلي من أن أصلي ألف ركعة. (قضاء الحوائج ص48)
قال نوح بن حبيب حدثنا وكيع عن سفيان عن زبيد [اليامي]، قالوا له: من ذكرت يا أبا سفيان(1)؟ قال: ذكرت زبيداً، أتدرون من كان زبيد؟كان رجلا من أَيَام(2) وكانت له شاة داجن في البيت لها بعر كثير فقال: ما أحب أن لي بكل بعرة منها درهماً، وكان زبيد إذا كانت ليلة مطيرة أضاءَ بشعلةٍ من نارٍ فطافَ على عجائزِ الحيِّ فقال: أوكَفَ عليكم البيت؟ أتريدون ناراً؟ فإذا أصبحَ طافَ على عجائزِ الحيِّ ويقولُ: ألكمْ في السوقِ حاجة؟ أتريدون شيئاً؟. (5/31)
كان سعيد بن جبير يطوف على عجائز الحي: أَلَكُنَّ حاجةٌ أشتريها؟ لَكُنَّ ؟ كأنه راهب. (مكارم الأخلاق للخرائطي 109 والجواهر المجموعة ص184)
قال الأحنف: ما شاتمت رجلاً مذ كنت رجلاً؛ ولا زَحَمَتْ ركبتاي ركبتيه؛ وإذا لم أصل مُجْتديَّ(3)حتى يَنْتِحَ(4)جبينُه عرقاً كما ينتح الحميتُ(5)فوالله ما وصلته. (الكامل 1/246)
قال الأعمش: كنتُ مع مجمعٍ التيميِّ فاشترى تمراً بدرهَم فجاءَ سائلٌ يسألُ التمارَ فقالَ مجمّعٌ: اعطِهِ بنصفٍ واعطني بنصف. (5/90)
قال وهب بن منبه: اعمل خيراً ودعه على الله عز وجل. (مكارم الأخلاق للخرائطي 97)
قال محمد بن واسع: ما رددت أحداً عن حاجة أقدر على قضائها ولو كان فيها ذهاب مالي. (اصطناع المعروف 125 وقضاء الحوائج 67 والجواهر المجموعة 390)
قال شريح: من سأل حاجة فقد عرَض نفسه على الرق، فإن قضاها المسؤول استعبده بها؛ وإن رده عنها رجع حراً وهما ذليلان: هذا بِذلِّ البخل، وهذا بذل الرد. (عيون الأخبار 3/139)
__________
(1) أي أن تلامذة وكيع سألوه عن هذا الراوي زبيد.
(2) فهو يقال له: زبيد الأيامي أو اليامي.
(3) يريد الذي يأتيه يطلب فضله.
(4) أي يرشح.
(5) أي الزِّقّ.(2/171)
أتى محمدٌ بن واسع رجلاً في حاجة لرجل فقال له: أتيتك في حاجة رفعتها الى الله قبلك، فإن يأذن الله في قضائها قضيتَها وكنتَ محموداً، وإن لم يأذن الله في قضائها لم تقضِها وكنت معذوراً(1). (2/345)
__________
(1) قال ابن قتيبة: دخل محمد بن واسع على قتيبة بن مسلم، فقال له: أتيتك في حاجة رفعتها إلى الله قبلك، فإن تقْضِها حمِدْنا الله وشكرناك؛ وإن لم تقضها حمدنا الله وعذرناك؛ فأمر له بحاجته. وقال له أيضاً في حاجة أخرى: إني أتيتك في حاجة، فإن شئتَ قضيتَها وكنا جميعاً كريمين؛ وإن شئتَ منعتها وكنا جميعاً لئيمين. (عيون الأخبار 3/127 وانظر الجواهر المجموعة ص187)
وأنا أستغرب هذه الرواية الأخيرة التي فيها وصف ابن واسع لنفسه وللأمير باللؤم، وأدب ابن واسع أعلى وأرفع، ثم هي تناقض ظاهر الرواية الأولى.
وفي (العقد الفريد) (1/90) بعد هذه الرواية المستنكرة تفسير لها هذا نصه: (أراد إنْ قضيتَها كنت أنت كريماً بقضائها وكنتُ أنا كريماً بسؤالك إياها، لأني وضعت الطلبة في موضعها؛ فإن لم تقضها كنتَ أنت لئيماً بمنعك وكنت أنا لئيماً بسوء اختياري لك).
وهذا المعنى الأخير عناه أبو تمام بهذا البيت:
عياش إنك لَلَّئيمُ وإنني مذ صرتَ موضع حاجتي لَلَئيمُ(2/172)
قال رجل للأحنف: أتيتُك في حاجة لا تَنْكيك ولا تَرزَؤك؛ قال: إذاً لا تُقضى، أمثلي يُؤتى في حاجة لا تنكي ولا تَرزَأ؟!(1) (عيون الأخبار 3/136)
قال رجل لعلي بن عبد الله بن العباس: إني أتيتك في حاجة صغيرة؛ فقال له علي بن عبد الله: هاتها، إن الرجل لا يصغر عن كبير أخيه، ولا يكبر عن صغيره. (عيون الأخبار 3/136)
الزهد والورع(2)
__________
(1) هذه الرواية إن صحت عن الأحنف فينبيغ حينئذ أن تحمل على أحسن محاملها وأوجهها، فهو إن شاء الله بعيد عن التكبر وعن كل خلق ذميم؛ فلعله أراد تأديب السائل أو تعليمه أو تعليم غيره من الحاضرين، أن المرء ينبغي أن يكون مرتفعاً في قضاء حوائج إخوانه والمسلمين إلى مستوى قدرته ورجولته. وفي نحو هذا المعنى ما ذكره ابن قتيبة في (عيون الأخبار) (3/136) قال: قال رجل للعباس بن محمد: إني أتيتك في حاجة صغيرة؛ قال: اطلبْ لها رجلاً صغيراً. قال ابن قتيبة: وهذا خلاف قول عبد الله بن عباس؛ وذكره كما يأتي في المتن.
(2) قال ابن القيم في (الفوائد):
(لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين:
نظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصها وخستها وألم المزاحمة عليها والحرص عليها وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد، وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب من الحسرة والأسف؛ فطالبها لا ينفك من همٍّ قبل حصولها، وهمٍّ حال الظفر بها، وغم وحزن بعد فواتها؛ فهذا أحد النظرين.
النظر الثاني: النظر في الآخرة واقبالها ومجيئها ولا بد ودوامها وبقائها وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات والتفاوت الذي بينه وبين ما هنا فهي كما قال الله سبحانه (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى 17]، فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة.
فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقل إيثاره، وزهد فيما يقتضي الزهد فيه، فكل أحد مطبوع على أن لا يترك النفع العاجل واللذة الحاضرة إلى النفع الآجل واللذة الغائبة المنتظرة، إلا إذا تبين له فضل الآجل على العاجل، وقويت رغبته في الأعلى الأفضل.
فإذا آثر الفاني الناقص كان ذلك إما لعدم تبين الفضل له، وإما لعدم رغبته في الأفضل؛ وكل واحد من الأمرين يدل على ضعف الإيمان وضعف العقل والبصيرة، فإن الراغب في الدنيا الحريص عليه المؤثر لها إما أن يصدق بأن ما هناك أشرف وأفضل وأبقى، وإما أن لا يصدق بذلك، [فإن كان لا يصدق بذلك] كان عادماً للإيمان رأساً؛ وإن صدق بذلك ولم يؤثره كان فاسد العقل سيء الاختيار لنفسه.
وهذا تقسيم حاضر ضروري لا ينفك العبد من أحد القسمين منه؛ فإيثار الدنيا على الآخرة إما من فساد في الإيمان، وإما من فساد في العقل؛ وما أكثر ما يكون منهما [جميعاً].
ولهذا نبذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء ظهره هو وأصحابه، وصرفوا عنها قلوبهم واطرحوها، ولم يألفوها، وهجروها ولم يميلوا إليها، وعدوها سجناً لا جنة، فزهدوا فيها حقيقة الزهد، ولو أرادوها لنالوا منها كل محبوب، ولوصلوا منها إلى كل مرغوب، فقد عرضت عليه مفاتيح كنوزها فردها، وفاضت على أصحابه فآثروا بها، ولم يبيعوا حظهم من الآخرة بها، وعلموا أنها معبر وممر لا دار مقام ومستقر، وأنها دار عبور لا دار سرور، وأنها سحابة صيف تنقشع عن قليل وخيال طيف ما استتم الزيارة حتى أذن بالرحيل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما لي وللدنيا: إنما أنا كراكب قال فى ظل شجرة ثم راح وتركها) [هذا الحديث رواه الترمذي من حديث ابن مسعود وقال: حديث حسن صحيح، وفي أوله قصة وهي: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه، قلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاءً، فقال: ما لي وللدنيا---وذكر بقية الحديث]؛ وقال: ما الدنيا في الآخرة الا كما يدخل أحدكم أصبعه فى اليم فلينظر بما ترجع، وقال خالقها سبحانه: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [يونس 24-25]؛ فأخبر عن خسة الدنيا وزهد فيها وأخبر عن دار السلام ودعا اليها. وقال تعالى (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً؛ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) [الكهف 45-46])؛ وقال تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد 20]؛ وقال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) [آل عمران 14-15]؛ وقال تعالى: (وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ) [الرعد 26]؛ وقد توعد سبحانه أعظم الوعيد لمن رضي بالحياة الدنيا وأطمأن بها وغفل عن آياته ولم يرْجُ لقاءَه فقال: (إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [يونس 7-8]؛ وعير سبحانه من رضي بالدنيا من المؤمنين فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ) [التوبة 38]؛ وعلى قدر رغبة العبد فى الدنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب الآخرة.
ويكفى في بالزهد فى الدنيا قوله تعالى (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) [الشعراء 205-207]، وقوله (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ) [يونس 45] وقوله (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ) [الأحقاف 35]، وقوله تعالى (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا) [النازعات 42-46] ، وقوله (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ) [الروم 55]، وقوله (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [المؤمنون 112-113]، وقوله (يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) [طه 102-14]؛ والله المستعان وعليه التكلان). هذا كله كلام ابن القيم.(2/173)
قال أشعث: كنا إذا دخلنا على الحسن خرجنا ولا نعد الدنيا شيئاً. (2/158)
مر محمد بن واسع بقوم فقيل: هؤلاء زهاد، فقال: وما قدر الدنيا حتى يُحمَد من زهد فيها؟! (أدب الدنيا والدين ص196)
قال يحيى بن سعيد القطان: مكث سليمان التيمي في قبة لبود ثلاثين سنة أو نحواً من ثلاثين سنة. (صف3/ 298)
قال سلام بن أبي مطيع: دخلنا على مالك بن دينار ليلاً وهو في بيت بغير سراج وفي يده رغيف يكدمه(1) فقلنا له: أبا يحيى ألا سراج الا شيء تضع عليه خبزك؟! فقال: دعوني فوالله إني لنادم على ما مضى. (صف3/276)
قال رجلٌ لمحمدِ بنِ واسع أوصني! قالَ: أُوصيكَ أن تكونَ ملِكاً في الدنيا والآخرةِ، قالَ: كيفَ لي بذلكَ؟! قالَ: ازهدْ في الدنيا. (2/350-351)
قال مالك بن دينار: يقولون: مالك زاهد، مالك زاهد، أي زهد عند مالك ولمالك جبة وكساء؟! وإنما الزاهد عمر بن عبد العزيز: أتته الدنيا فاغرة فاها فتركها. (ذم الدنيا 457 والزهد الكبير ص72)
قال جعفر بن سليمان: قلت لمالك بن دينار حين ماتت أم يحيى: يا أبا يحيى لو تزوجت؟ قال: لو استطعت لطلقت نفسي(2). (الزهد الكبير ص107 وانظر الحلية 2/365)
قال مالك: من دخل بيتي فأخذ منه شيئاً فهو له حلال، أما أنا فلا أحتاج إلى قفل ولا إلى مفتاح، وكان يأخذ الحصاة من المسجد ويقول: لوددت أن هذه أجزأتني في الدنيا ما عشت لا أزيد على مصها من الطعام ولا الشراب. وكان يقول: لو صلح لي أن آكل الرماد لأكلته، ولو صلح لي أن أعمد إلى بوري(3) فأقطعه بقطعتين فأتزر بقطعة وأرتدي بقطعة لفعلت. (صف3/274)
قال حزم القطيعي: دخلنا على مالك بن دينار في مرضه الذى مات فيه وهو يكيد بنفسه فرفع رأسه إلى السماء فقال: اللهم إنك تعلم أني لم أكن أحب البقاء في الدنيا لبطن ولا لفرج. (صف3/288)
__________
(1) الكدْمُ: العضّ بأدنى الفم.
(2) تقدم مختصراً.
(3) أي حصير.(2/174)
كان رجل من الأغنياء بالبصرة وكانت له ابنة نفيسة فائقة الجمال، فقال لها أبوها: قد خطبك بنو هاشم والعرب والموالي فأبيتِ! أراكِ تريدين مالك بن دينار وأصحابه! فقالت: هو والله غايتي! فقال الأب لأخ له: إئتِ مالك بن دينار فأخبره بمكان ابنتي وهواها له؛ فأتاه فقال له: فلان يقرئك السلام ويقول لك: إنك تعلم أني أكثر أهل هذه المدينة مالاً وأفشاهم ضيعة، ولي ابنة نفيسة وقد هويتك فشأنك وهي؛ فقال مالك للرجل: عجباً لك يا فلان، أو ما تعلم أني قد طلقت الدنيا ثلاثاً. (2/365)
وقع حريق في بيت مالك فأخذ المصحف وأخذ القطيفة فأخرجهما فقيل له: يا أبا يحيى البيت! فقال: ما فيه إلا السندانة ما أبالي أن يحترق. (صف3/279 والحلية 2/368)
وقع حريق بالبصرة فأخذ مالك بطرف كسائه يجره وقال: هلك أصحاب الأثقال. (2/369)
قال مالك: بلغنا أنه لما بعث عيسى بن مريم عليه السلام أكب الدنيا على وجهها ثم رفعها الناس بعده، حتى بُعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم فأكبها على وجهها؛ ثم رفعناها بعده بما لقينا منها بعده. (2/381)(2/175)
عن سلام بن أبي حمزة قال: سمعت أيوب يقول: الزهد في الدنيا ثلاثة أشياء، أحَبُّها إلى الله وأعلاها عند الله وأعظمها ثواباً عند الله تعالى: الزهد في عبادة مَن عبد دون الله من كل ملك وصنم وحجر ووثن، ثم الزهد فيما حرم الله تعالى من الأخذ والعطاء، ثم يقبل علينا فيقول: زهدكم هذا يا معشر القراء فهو والله أخسه عند الله: الزهد في حلال الله عز وجل(1). (3/7)
كان أيوبُ يقولُ: لِيَتقِ اللهَ عزَّ وجلَّ رجلٌ وإن زهدَ، فلا يجعلَنَّ زهدَهُ عذاباً على الناسِ، فَلأنْ يُخفي الرجلُ زهدَهُ خيرٌ منْ أنْ يُعلنَهُ. (3/6)
قال الهيثم بن معاوية: حدثني شيخ لي قال: اجتمع عباد من أهل الكوفة فقالوا: تحدروا بنا إلى البصرة فننظر إلى عبادتهم فقال بعضهم لبعض: اغدوا بنا إلى فرقد السبخي فدخلوا عليه فحدثهم ساعة ثم قالوا: يا أبا يعقوب الغداء قال: إنما طولت حديثي لتجوعوا فتأكلوا ما عندي، أنزلوا تلك القفة؛ فأخرجوا منها كسر خبز شعير أسود فقالوا له: ملح يا أبا يعقوب! فقال: قد طرحنا في العجين ملحاً مرة لم تعنّوني أن أطلب لكم؟!. (صف3/270-272)
قال عبيد الله بن شميط: كان أبي وغيلان الطفاوي يقولان: صم عن الدنيا واجعل غاية إفطارك في الدنيا الموت(2). (3/127)
__________
(1) هذا كلام عظيم، فإن الزهد في المباحات ليس مطلوباً لذاته ولكنه مطلوب ليكون عوناً على الطاعات والقربات وسبباً في التوسل إلى الدرجات الرفيعات، ثم إن التوسع في المباحات له أثر سيء على حال المؤمن، وأما من امتنع عن المباحات وهو قادر عليها وعذب نفسه بذلك الامتناع ولم يحصل له به زيادة صلاح في القلب والعمل فلا شك أن ذلك الصنيع من مثل ذلك الرجل ليس من التعبد في شيء، والله غني عن تعذيب الناسِ أنفسَهم؛ والله تعالى أعلم.
(2) نقل المناوي في (فيض القدير) (3/439): عن [داوود] الطائي قال: صم عن الدنيا، واجعل فطرك الآخرة، وفر من الناس فرارك من الأسد.(2/176)
سُئلَ الزهريُّ عن الزهدِ فقالَ: مَن لم يمنعْه الحلالُ شكرَهُ ولم يغلِبِ الحرامُ صبرَهُ(1). (3/371)
قالَ مَسلَمةُ بنُ عبدِ الملك: دخلتُ على عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ أعودُه في مرضِه، فإذا عليهِ قميصٌ وسخٌ! فقلتُ لفاطمةَ بنتِ عبدِ الملك: يا فاطمةُ اغسلي قميصَ أميرِ المؤمنين! قالت: نفعلُ إن شاءَ الله؛ ثم عدتُ فإذا القميصُ على حالِه! فقلتُ: يا فاطمةُ ألم آمُرُكم أن تغسلوا قميصَ أميرِ المؤمنينَ فإنَّ الناسَ يعودونه؟! قالت: واللهِ ما لهُ قميصٌ غيرُه(2). (5/258)
__________
(1) شرحه أبو عبيد فقد جاء في كتابه (غريب الحديث) (4/475-476): ما نصه (وقال أبو عبيد في حديث الزهري أنه سئل عن الزهد في الدنيا فقال: هو أن لا يَغْلِب الحلالُ شُكْرَه ولا الحرامُ صَبره .
قال أبو عبيد : مذهبه عندي أنّه أراد إذا أُنعمَتْ عيه نعمةٌ من الحلال كان عنده من الشكر لله ما يقوم بتلك النعمة ، حتى لا يعجز شكرُه عنها, وإذا عرضَتْ له فتنة من الحرام كان عنده من الصبر ما يمنع نفسَه منها فلا يركَبُها; فهذا عند الزهري من الزهد في الدنيا : الشكر على النعمة في الحلال والصبر على ترك الحرام).
(2) وجاء في رواية أخرى عن مسلمة قال: (دخلت على عمر بن عبد العزيز في اليوم الذي مات فيه وفاطمة بنت عبد الملك جالسة عند رأسه فلما رأتني تحولت وجلست عند رجليه وجلست أنا عند رأسه فإذا عليه قميص وسخ مخرق الجيب فقلت لها لو أبدلتم هذا القميص فسكتت ثم أعدت القول عليها مراراً حتى غلظتُ، فقالت: والله ما له قميص غيره). (5/258)(2/177)
ذكر محمد بن معبد أن عمرَ بنَ عبدِ العزيز أرسل بأسارى من أسارى الروم ففادى بهم أسارى من أسارى المسلمين؛ قالَ: فكنتُ إذا دخلتُ على ملِك الرومِ فدخلتْ عليهِ عظماءُ الرومِ خرجتُ؛ قالَ: فدخلتُ يوماً فإذا هو جالسٌ في الأرضِ مكتئباً حزيناً فقلتُ: ما شأنُ الملكِ؟! قالَ: وما تدري ما حدث؟ قلتُ: وما حدثَ؟! قالَ: مات الرجلُ الصالحُ! قلتُ: مَن؟ قالَ: عمرُ بنُ عبدِ العزيز. قالَ: ثم قالَ ملك الروم: لأحسَبُ أنه لو كان أحدٌ يُحيي الموتى بعدَ عيسى بنِ مريمَ عليه السلام لأحياهم عمرُ بنُ عبدِ العزيز؛ ثم قالَ: لستُ أعجبُ من الراهبِ أغلَقَ بابَه ورفضَ الدنيا وترهَّبَ وتعبَّدَ؛ ولكن أتعجبُ ممن كانت الدنيا تحتَ قدميه فرفضها ثم ترهَّب! (5/290-291)
كانَ عمرُ كثيراً ما يتمثلُ بهذهِ الأبياتِ(1):
يُرى مستكيناً وهو للَّهْوِ ماقتٌ
به عن حديث القوم ما هو شاغلُه
وأزعجه علمٌ عن الجهلِ كلِّه
وما عالمٌ شيئاً كمن هو جاهلُه
عبوسٌ عنِ الجُهّالِ حينَ يراهمُ
فليس له منهم خدين يهازله
تذكَّرَ ما يبقى من العيشِ آجلاً
فأشغلهُ عن عاجلِ العيشِ آجلُه
وبهذين البيتين:
فما تزوَّدَ مما كان يجمعُهُ
إلا حنوطاً غداةَ البينِ معْ خِرق
وغيْر نفحةِ أعوادٍ تُشَبُّ له
وقلَّ ذلكَ مِن زادٍ لمنطلق
وبهذين البيتين:
نهارُكَ يا مغرورُ سهوٌ وغفلةٌ
وليلُكَ نومٌ والردى لكَ لازمُ
وتَشْغلُ(2)فيما سوف تكرَهُ غِبَّهُ
كذلك في الدنيا تعيشُ البهائمُ
ثم يتلو بآيتين(3): (أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ، ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ، مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ)(4). (5/319)
__________
(1) جمعت في هذه الفقرة جملة من الأخبار سقتها على نسق واحد، لأن بابها واحد، فصارت كأنها خبر واحد؛ وقصدت بذلك الاختصار.
(2) وفي رواية: (وتنصب) بدل (وتشغل).
(3) بل بثلاث آيات.
(4) الشعراء (205-207).(2/178)
قال أيوب: رأيت على القاسم رداء قد صبغ بشيء من زعفران ويدع مئة ألف لم يتلجلج في نفسه شيء منها. (صف 2/88)
سأل رجل ربيعة فقال: يا أبا عثمان ما رأس الزهادة؟ قال: جمْعُ الأشياءِ مِن حِلِّها ووضعُها في حقِّها. (3/259)
قال عمران بن مسلم القصير: ألا صابر كريم لأيام قلائل! حرامٌ على قلوبكم أن تجد طعم الإيمان حتى تزهدوا في الدنيا(1). (ذم الدنيا 375 والحلية 6/177)
قال سفيان الثوري: قال زبيد: ألف بعرة أحب الي من ألف دينار. (5/31)
قال عبد الله بن ربيعة: كنت جالساً مع عتبة بن فرقد ومعضد العجلي وعمرو بن عتبة فقال عتبة بن فرقد: يا عبد الله بن ربيعة ألا تعينني على ابن اخيك يعينني على ما أنا فيه من عملي؟ قال: فقلت: يا عمرو أطع أباك، قال: فنظر عمرو إلى معضد العجلي فقال له معضد: لا تطعهم واسجد واقترب؛ قال عمرو: يا أباه إنما أنا رجل أعمل في فكاك رقبتي، فبكى عتبة ثم قال: يا بني إني أحبك حبين: حباً لله وحب الوالد ولده؛ فقال عمرو: يا أبه إنك قد كنت أتيتني بمال بلغ سبعين ألفاً، فإن كنت سائلي عنه فهو هذا فخذه أو فدعني فأمضيه، قال: يا بني فأمضه، فأمضاه حتى ما بقي منه درهم. (صف3/69)
عن إسماعيل بن أبي خالد عن شبيل بن عوف قال: ما اغبَرَّت رجلاي في طلب دنيا قط. (صف3/42)
بعث عبدُ الملكِ بنُ مروان إلى ابنِ محيريزٍ بجاريةٍ فتركَ ابنُ محيريزٍ منزلَه، فلم يكنْ يدخله! فقيل له: يا أميرَ المؤمنينَ نفيتَ(2) ابنَ محيريزٍ عن منزلِه! قالَ: ولِمَ؟ قالَ: من أجلِ الجاريةِ التي بعثتَ بها إليه! قالَ: فبعثَ عبدُ الملكِ فأخذها. (5/140)
__________
(1) كان عمران القصير يقول لجلسائه: ألا حر كريم يصبر أياماً قلائل؟! (صف3/312)
(2) في (صفة الصفوة): (تغيب) بدل (نفيت).(2/179)
قال سليمان بن حرب: ومن كان أزهد من الأسود بن شيبان؟! حج على ناقة له فشرب من لبنها وركب ظهرها حتى رجع لم يأكل في خروجه غير لبنها؛ قال: وكان في دار ليست له، وكان فيها بيت غير مسطح، في دار قوراء. (الزهد الكبير ص344)
عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال: مثل الإسلام كمثل شجرة فأصلها الشهادة وساقها كذا، شيئاً سماه، وثمرها الورع ولا خير في شجرة لا ثمر لها ولا خير في إنسان لا ورع له. (جامع معمر 11/161 والسنة لعبد الله بن أحمد 1/316 والزهد الكبير ص311)
قال ميمون بن مهران: لا يسلم للرجل الحلال حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال(1). (4/84)
قال بلال بن كعب: كان طاووس إذا خرج من اليمن يعني إلى مكة لم يشرب إلا من تلك المياه القديمة الجاهلية. (صف2/288)
قال يوسف بن أسباط: مر طاووس بنهر قد كري فأرادت بغلته أن تشرب فأبى أن يدعها، يعني كراه السلطان. (صف2/288)
عن ابن طاووس قال: قلت لأبي: أريد أن أتزوج فلانة، قال: إذهب فانظر إليها، قال: فذهبت فلبست من صالح ثيابي وغسلت رأسي وادهنت، فلما رآني في تلك الهيئة قال: أقعد لا تذهب. (صف2/288)
قال يحيى بن أبي كثير: يقولُ الناسُ: فلانٌ الناسكُ(2) فلانٌ الناسكُ، [و]إنما الناسكُ الوَرِعُ. (الورع ص53 والحلية 3/68)
قال مالك بن أنس: كان سعيد بن المسيب يماري غلاماً له في ثلثي درهم وأتاه ابن عمه بأربعة آلاف درهم فأبى أن يأخذها. (2/166)
__________
(1) كأنه يريد أنه يترك كثيراً من الحلال الذي دخله شيء من الشبهات أو الذي يقربه من الحرام، وهذا يشبه قول الصحابة رضي الله عنهم كنا نترك عشرين درهماً من الحلال مخافة الوقوع في درهم واحد من الحرام؛ وقال أحمد في (الورع) (ص71): سمعت سفيان بن عيينة يقول: لا يصيب العبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال، وحتى يدع الإثم وما تشابه منه. وهو أيضاً في (الحلية) (7/288).
(2) أي يصفونه بكثرة العبادة وحسنها.(2/180)
قال معاوية بن قرة: كنا عند الحسن فتذاكرنا أي العمل أفضل؟ فكلهم اتفقوا علي قيام الليل، فقلت أنا: ترك المحارم، قال: فانتبه لها الحسن فقال: تم الأمر تم الأمر. (2/299)
كان الحسن يقول: مطعمان طيبان: رجل يعمل بيده، وآخر يحمل على ظهره. (الزهد ص273)
قال الحسن: ما عبد العابدون بشيء أفضل من ترك ما نهاهم الله عنه. (الورع ص42 وجامع العلوم والحكم ص96)
قال الحسن: لو علمت موضع درهم من حلال لركبت إليه حتى آخذه واشتريت به دقيقاً فعجنته ثم خبزته ثم دققته فأنعمتُ دقَّه فإذا دخلت على مريض سقيته حتى يشفى. (الزهد الكبير ص338)
قال عبيد الله بن سلام الباهلي: سمعت يونس بن عبيد يقول: لو أصبت درهماً حلالاً من تجارة لاشتريت به براً ثم صيرتُه سويقاً ثم سقيته المرضى. (صف 3/306)
كان الحسن وابن سيرين يكرهان أن يشتريا من العمال شيئاً. (الورع لأحمد ص22)
قال ابن عون: كان محمد [بن سيرين] يكره أن يشتري بهذه الدنانير المحدثة والدراهم التي عليها اسم الله. (الورع لأحمد ص70)
قال محمد بن سيرين: كان مما يقال للرجل إذا أراد ان يسافر في التجارة: اتق الله واطلب ما قدر لك من الحلال، فإنك إن طلبته من غير ذلك لم تصب أكثر مما قدر لك. (الورع لأحمد ص70)
قال يونس بن عبيد: ما أهم رجلاً كسبُه حتى أهمه أين يضع درهمه. (الورع لأحمد ص70)
قال الحسن: إن هذه المكاسب قد فسدت فخذوا منها القوت أي شبه المضطر. (الورع ص118)
قال الحسن: ما في الأرض شيء أحبه للناس من قيام الليل، فقال أبو إياس: فأين الورع؟! قال: به به ذلك ملاك الأمر. (الورع ص50)
سأل الحسن غلاماً فقال له: ما ملاك الدين؟ قال: الورع؛ قال: فما آفته؟ قال: الطمع، فعجب الحسن منه؛ وقال الحسن: مثقال ذرة من الورع خير من ألف مثقال من الصوم والصلاة. (المدارج 2/22)
كان منصور بن المعتمر في الديوان فقال له إنسان: ناولني الطين أختم به، قال: أرني كتابك حتى أنظر أي شيء فيه. (5/42)(2/181)
قال بشر بن الحارث: خرج يوماً كهمس ومعه دينار فسقط منه وطلبه فوجده فتركه وقال: لعل هذا الدينار غير ذاك الدينار، وأكل ذات يوم سمكاً فأخذ من حائط جاره طيناً فغسل به يده فقال: أنا اليوم منذ أربعين سنه أبكي على ذاك الطين لمَ أخذته بغير علمه؟! (صف 3/314)
القناعة والتعفف والرضا بالرزق
قال أبو حازم: ثلاثٌ مَن كُنَّ فيه كملَ عقله: من عرف نفسه وحفظ لسانه وقنع بما رزقه الله عز وجل. (مختصر منهاج القاصدين ص256-257)
قال عمرو بن دينار: ما رأيت أحداً أشدَّ تنزهاً مما في أيدي الناس من طاووس. (صف2/287)
قال عبدُ اللهِ بن عبيد بنِ عميرٍ: لا ينبغي لمنْ أَخذَ بالتقوى ورُزقَ بالورع أَنْ يَذِلَّ لصاحبِ الدنيا. (3/356)
قال ابراهيم النخعي: إن الأغنياء لا يعطونك بقدر ما يغنونك، إنما يعطونك بقدر ما يفضحونك. (العزلة للخطابي ص63)
قال الحسن: وأيمُ الله ما من عبد قسم له رزق يوم بيوم فلم يعلم أنه قد خير له إلا عاجز أو غبي الرأي(1). (2/157)
قال الحسن: من رضي من الله بالرزق اليسير رضى الله منه بالعمل القليل. (الرضا عن الله بقضائه ص67)
قال الربيع بن صبيح: كان الحسن يقول: ارض عن الله يرض الله عنك، وأعط الله الحق من نفسك، أما سمعت ما قال تبارك وتعالى: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)(2). (الرضا عن الله بقضائه ص109)
قال الحسن: لا تزال كريماً على الناس، أو لا يزال الناس يكرمونك، ما لم تعاطَ ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك وكرهوا حديثك وأبغضوك. (3/20)
__________
(1) قال الحسن: قال أبو الصهباء [يعني صلة بن أشيم]: طلبت المال من وجهه فأعياني إلا رزق يوم بيوم، فعرفت أنه قد خِيْرَ لي؛ قال الحسن: وأيم الله ما رزق رجلٌ يوماً بيوم فلم يعلم أنه خير له إلا غبي الرأي أو عاجز. (2/241)
(2) البينة (8).(2/182)
عن أيوب قال: قال لي أبو قلابة: يا أيوب الزم سوقك، فإنك لا تزال كريماً على إخوانك ما لم تحتج إليهم(1). (روضة العقلاء ص226)
قال الحسن: قال أبو الصهباء صلة بن أشيم: طلبت الدنيا [من] مظان حلالها فجعلت لا أصيب منها إلا قوتاً، أما أنا فلا أعيل فيه، وأما هو فلا يجاوزني؛ لما رأيت ذلك قلت: أيْ نفسي جُعل رزقك كفافاً فارتعي بغير تعب ولا نكد. (محاسبة النفس 133)
قال أبو حازم: وجدت الدنيا شيئين: فشيئاً هو لي وشيئاً لغيري، فأما ما كان لغيري فلو طلبتُه بحيلة السماوات والأرضِ لم أصلْ إليه فيمنع رزق غيري مني كما يمنع رزقي من غيري(2). (3/237)
قال أبو حازم: إن كانَ يُغنيكَ(3) ما يَكفيكَ(4) فأدنى عيشِكَ يكفيك، وإن كان لا يُغنيكَ ما يكفيك فليس في الدنيا شيءٌ يُغنيك. (3/238)
قال سفيان بن عيينة: قال عمر بن عبد العزيز لطاووس: ارفع حاجتك إلى أمير المؤمنين يعني سليمان بن عبد الملك، فقال طاووس: ما لي إليه من حاجة! قال: فكأنه قد عجب من ذلك؛ قال سفيان: وحلف لنا ابراهيم بن ميسرة وهو مستقبل الكعبة: وربِّ هذه البنية ما رأيتُ أحداً الشريف والوضيع عنده بمنزلة إلا طاووساً. (4/16)
قال أشعب: قال لي سالم بن عبد الله [بن عمر]: لا تسأل أحداً غير الله. (2/194)
قال علي بن الحسين بن علي: من قنع بما قسم الله له فهو من أغنى الناس. (3/135)
حكى أبو بكر بن محمد بن المنكدر عن أبيه قال: القناعة مال لا ينفد. (روضة العقلاء ص150)
__________
(1) لهذا الأثر رواية أخرى أوردتها في فصل الأهواء والبدع.
(2) ولهذا الخبر رواية أخرى وهي أن أبا حازم كان يقول: (نظرت في الرزق فوجدتُه شيئين: شيء هو لي له أجل ينتهي إليه، فلن أعجله ولو طلبته بقوة السماوات والأرض؛ وشيء لغيري فلم يصبني فيما مضى فأطلبه فيما بقي؛ فشيئي يُمنع من غيري كما شيء غيري يمنع مني؛ ففي أي هذين أفني عمري؟!).
(3) أي يُقنعك.
(4) أي ما هو ضروري لمعيشتك.(2/183)
قال سفيان بن عيينة: بلغني أن زبيداً الايامي قال: الغنى أكثر من الربح؛ وأين يقع الربح من الغنى؛ قال: يعني غنى النفس(1). (5/32)
عن عمران بن مسلم قال: كان سويد بن غفلة إذا قيل له: أُعطي فلان وولي فلان قال: حسبي كسرتي وملحي. (صف3/21)
كتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز
لما استُخْلِفَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ كَتَبَ إليه الحسنُ كتاباً بدأ فيهِ بنفسهِ: أما بعدُ فإن الدنيا دارٌ مُخيفةٌ، إنما أُهبطَ آدمُ من الجنةِ إليها عقوبةً؛ واعلم أنَّ صرْعتَها ليست كالصرعةِ، من أكرمها يُهَنْ، ولها في كل حين قتيلٌ، فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوي جُرحَهُ: يصبرُ على شدةِ الدواءِ خيفةَ طولِ البلاءِ، والسلام. (2/148 وانظر ذم الدنيا 248)
كتبَ الحسنُ إلى عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ: أما بعدُ، فكأنَّكَ بآخِرِ مَن كُتِبَ عليهِ الموتُ قيلَ: قد ماتَ! فأجابهُ عمرُ: أما بعدُ، فكأنك بالدنيا ولم تكن وكأنك بالآخرة ولم تزلْ. (5/305)
كتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعدُ، يا أميرَ المؤمنينَ، فإنَّ طولَ البقاءِ إلى فناءٍ ما هو، فخذْ مِن فنائِك الذي لا يبقى لبقائِك الذي لا يفنى، والسلام؛ فلما قرأَ عمرُ الكتابَ بكى وقالَ: نصحَ أبو سعيدٍ وأوجزَ. (5/317)
كتب عمر إلى الحسن: أعِنّي بأصحابك، فأجابه الحسن: من كان من أصحابي يريد الدنيا فلا حاجةَ لك فيه، ومن كان منهم يريد الآخرةَ فلا حاجةَ له قِبَلَكَ، ولكن عليك بذوي الأحساب فإنهم إن لم يتقوا استحيوا، وإن لم يستحيوا تكرموا(2). (البصائر والذخائر 1/319 وقارن بما في البصائر والذخائر 1/76 وعيون الأخبار 1/17)
كتب الحسن إلى عمر: لا تستعن بغير الله فيكلك الله إليه. (جامع العلوم والحكم ص193)
__________
(1) يريد أنه أفضل من المال والأرباح.
(2) كتب عمر بن عبد العزيز الى الحسن: انصحني فكتب اليه ان الذي يصحبك لا ينصحك والذي ينصحك لا يصحبك. (عجائب الآثار 1/22)(2/184)
كتب عمر إلى الحسن: أن عظني وأوجز! فكتب إليه الحسن: أما بعد فإن الدنيا مشغلة للقلب والبدن وإن الزهد راحة للقلب والبدن وإن الله سائلنا عن الذي نعمنا في حلاله فكيف بما نعمنا في حرامه. (الزهد الكبير ص68 وانظر جامع العلوم والحكم ص297)
كتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن أن عظني وأوجز، فكتب إليه الحسن: أما بعد فإن رأس ما هو مصلحك ومصلح به على يديك الزهد في الدنيا وإنما الزهد باليقين، واليقين بالتفكر، والتفكر بالاعتبار، فإذا أنت فكرت في الدنيا لم تجدها أهلاً أن تبيع بها نفسك، ووجدت نفسك أهلاً أن تكرمها بهوان الدنيا، فإنما الدنيا دار بلاء ومنزل غفلة(1). (ذم الدنيا 341 والزهد الكبير ص150 والزهد وصفة الزاهدين ص19)
__________
(1) وقع في بعض الكتب (قلعة) بدل (غفلة).(2/185)
كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة إنما أنزل إليها آدم عليه السلام عقوبة فاحذرها يا أمير المؤمنين فإن الزاد منها تركها والغنى فيها فقرها لها في كل حين قتيل تذل من أعزها وتفقر من جمعها هي كالسم يأكله من لا يعرفه وهو حتفه فكن فيها كالمداوي جراحه يحتمي قليلا مخافة ما يكره طويلا ويصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء فاحذر هذه الدار الغرارة الخداعة الخيالة التي قد تزينت بخدعها وفتنت بغرورها وختلت بآمالها وتشوفت لخطابها فأصبحت كالعروس المجلوة فالعيون إليها ناظرة والقلوب عليها والهة والنفوس لها عاشقة وهي لأزواجها كلهم قاتلة [فلا الباقى بالماضى معتبر ولا الآخر بالاول مزدجر والعارف بالله حين أخبره عنها مذكر] فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى ونسى المعاد فشغل بها لبه حتى زلت عنها قدمه فعظمت عليها ندامته وكبرت حسرته واجتمعت عليه سكرات الموت وألمه وحسرات الفوت وعاشق لم ينل منها بغيته فعاش بغصته وذهب بكمده ولم يدرك منها ما طلب ولم تسترح نفسه من التعب فخرج بغير زاد وقدم على غير مهاد، [فاحذرها يا أمير المؤمنين[ فكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه، و[قد] وصل الرخاء منها بالبلاء وجعل البقاء فيها إلى فناء سرورها مشوب بالحزن، [ما يرجع منها ما ولى فأدبر ولا يدرى ما هو آت فينتظر] أمانيها كاذبة وآمالها باطلة وصفوها كدر وعيشها نكد فلو كان ربنا لم يخبر عنها خبرا ولم يضرب لها مثلا لكانت قد أيقظت النائم ونبهت الغافل فكيف وقد جاء من الله فيها واعظ وعنها زاجر فما لها عند الله قدر ولا وزن ولا نظر إليها منذ خلقها ولقد عرضت على نبينا بمفاتيحها وخزائنها لا ينقصها عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها كره أن يحب ما أبغض خالقه أو يرفع ما وضع مليكه فزواها عن الصالحين اختياراً، وبسطها لأعدائه اغتراراً،(2/186)
فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أُكْرِم بها، ونسي ما صنع الله عز وجل برسوله حين شد الحجر على بطنه. (إغاثة اللهفان ص37-38 وعدة الصابرين ص192-193 ومنه زدت مابين الحاصرتين، وقارن بما في ذم الدنيا 293 والحلية 2/134-142)
كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: إن فيما أمرك الله به شغلاً عما نهاك عنه، والسلام. (العقد الفريد10/27)
كتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن: اجمع لي أمر الدنيا وصف لي أمر الآخرة؛ فكتب إليه: إنما الدنيا حلم والآخرة يقظة، والموت متوسط ونحن في أضغاث أحلام؛ من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر، ومن نظر في العواقب نجا، ومن أطاع هواه ضل، ومن حلُمَ غنِم، ومن خاف سلم، ومن اعتبر أبصر ومن أبصر فهم، ومن فهم علم، ومن علم عمل، فإذا زللت فارجع، وإذا ندمت فأقلع، وإذا جهلت فاسأل، وإذا غضبت فأمسك، واعلمْ أن أفضل الأعمال ما أُكرهت النفوس عليه(1). (العقد الفريد 10/27-28)
السلطان وأعوانه
قال الحسن: إنما حبل الله هذا السلطان، ناصر لعباد الله ودينه، فكيف من ركب ظلماً على عباد الله واتخذ عباد الله خولاً يحكمون في دمائهم وأموالهم ما شاؤا؟! والله إن يمتنع أحد(2)؛ والله ما لقيت أمة بعد نبيها من الفتن والذل ما لقيت هذه بعد نبيها. (المصنف 7/529)
قيل للحسن: كيف لقِيتَ الولاة يا أبا سعيد؟ قال: لقيتهم يبنون بكل ريعٍ آيةً يعبثون، ويتخذون مصانع لعلهم يخلدون، وإذا بطشوا بطشوا جبارين. (البصائر والذخائر 1/66)
__________
(1) وردت هذه الفقرة من كلام عمر بن عبد العزيز فانظرها في ترجمته.
(2) يعني لا يسلم منهم أحد أرادوه بشر، أي إلا أن يسلمه الله.(2/187)
عن أبي نضرة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث هرم بن حيان على الخيل فغضب [على] رجل فأمر به فوجئت عنقه! ثم أقبل على أصحابه فقال: لا جزاكم الله خيراً! ما نصحتموني حين قلت، ولا كففتموني عن غضبي! والله لا ألي لكم عملاً؛ ثم كتب إلى عمر: يا أمير المؤمنين لا طاقة لي بالرعية فابعث إلى عملك. (صف3/215)
قال القاسم بن مخيمرة: دخلت على عمر بن عبد العزيز وفي صدري حديث يتجلجل فيه أريد أن أقذفه إليه فقلت: بلغنا أنه من ولي على الناس سلطاناً فاحتجب عن حاجتهم وفاقتهم احتجب الله عن حاجته يوم يلقاه؛ فقال: ما تقول؟! فأطرق طويلاً ثم عرفتها فيه، فإنه برز للناس. (6/82)
دخل أبو مسلم الخولاني على معاوية بن أبي سفيان وقال: السلام عليك أيها الأجير! فقال الناس: الأمير يا أبا مسلم! ثم قال: السلام عليك أيها الأجير! فقال الناس: الأمير! فقال معاوية: دعوا أبا مسلم هو أعلم بما يقول، قال أبو مسلم: إنما مَثَلُك مثلُ رجل استأجر أجيراً فولاه ماشيته وجعل له الأجر على أن يحسن الرعية ويُوَفِّر جزازها وألبانها، فإن هو أحسن رعيتها ووفر جزازها حتى تلحق الصغيرة وتسمن العجفاء أعطاه أجره وزاد مِن قِبَله زيادة، وإن هو لم يحسن رعيتها وأضاعها حتى تهلك العجفاء وتعجف السمينة ولم يوفِّرْ جزازها وألبانها غضب عليه صاحب الأجر فعاقبه ولم يعطه الأجر؛ فقال معاوية: ما شاء الله كان. (2/125)
قال مالك بن دينار: قرأت في بعض الكتب: يجاء براعي السوء يوم القيامة فيقال: يا راعي شربت اللبن وأكلت اللحم ولم تؤْوِ الضالة ولم تجبر الكسير؟؟ ولم ترعها حق رعايتها! اليوم أنتقم لهم منك. (2/375)
كان عمرُ بن عبد العزيز يقولُ: وأيمُ اللهِ لو أني أعلمُ أنه يسوغُ لي فيما بيني وبينَ اللهِ أن أخليكم وأمرَكم هذا وألحقَ بأهلي لفعلتُ! ولكني أخافُ أن لا يسوغَ ذلك لي فيما بيني وبين الله. (5/313-314)(2/188)
قال محمد بن سيرين: كان الأحنف في سرية فسمع صوتاً في جوف الليل فانطلق وهو يقول:
إنَّ على كل رئيس حقاً أن يخضب(1) القناة أو تندقا(2)
(الطبقات الكبرى7 / 95)
سأل معاوية الاحنف بن قيس وقال له: كيف الزمان؟ فقال: أنت الزمان، إن صلحت صلح الزمان وإن فسدت فسد الزمان. (عجائب الآثار 1/22)
قال القاسم بن مخيمرة الهمداني: إنما زمانكم سلطانكم، فإذا صلح سلطانكم صلح زمانكم، وإذا فسد سلطانكم فسد زمانكم. (السنن الواردة في الفتن 3/653 والشعب 6/42)
قال عبد الله بن موسى: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي(3): ما طاقة المسلم بجور السلطان مع نزغ الشيطان؟! إن من عون المسلم على دينه أن يتقى بحقه. (5/306)
قال محمد بن المنكدر: كان يقال: إذا أراد الله بقوم خيراً أمَّر عليهم خيارَهم، وجعلَ أرزاقَهم بأيدي سُمَحائهم؛ وإذا أراد اللهُ بقومٍ شرّاً أمَّرَ عليهم شرارَهم، وجعلَ أرزاقَهم بأيدي بُخَلائهم. (الإحياء 3/375 والجواهر المجموعة ص54)
__________
(1) كانت (تخضب).
(2) لا بد للأمير أو القائد من مواصفات عالية مناسبة؛ ذكر الذهبي في (السير) (13/37-38) عن أحمد بن إسحاق السرماري، وهو أحد فرسان الإسلام الذين يضرب المثل بشجاعتهم؛ قال: (ينبغي لقائد الغزاة أن يكون فيه عشر خصال: أن يكون في قلب الأسد، لا يجبن؛ وفي كبر النمر، لا يتواضع؛ وفي شجاعه الدب، يقتل بجوارحه كلها؛ وفي حملة الخنزير، لا يولي دبره؛ وفي غارة الذئب، إذا أيس من وجه أغار من وجه؛ وفي حمل السلاح كالنملة، تحمل أكثر من وزنها؛ وفي الثبات كالصخرة؛ وفي الصبر كالحمار؛ وفي الوقاحة كالكلب، لو دخل صيده النار لدخل خلفه؛ وفي التماس الفرصة كالديك).
(3) وهو عامله على البصرة.(2/189)
قال مالك بن دينار: قرأت في الحكمة: إن الله تبارك وتعالى يقول: أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة؛ ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة؛ فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك، ولكن توبوا إليَّ أعطفهم عليكم. (العقوبات 30 والحلية 2/378 والجواب الكافي ص53)
قال مالك بن دينار: سمعت الحجاج يقول: اعلموا أنكم كلما أحدثتم ذنباً أحدث الله عز وجل من سلطانكم عقوبة. (العقوبات 50)
كان الحسن البصري إذا ذكر الحجاج قال: يتلو كتاب الله على لَخْمٍ وجُذام ويعظ عظة الأزارقة ويبطش بطش الجبارين؛ وكان يقول: اتقوا الله فإن عند الله حجاجين كثيراً. (البيان والتبيين 3/164)
قيل للحسن: إنك تقول: الآخِر شرٌّ من الأول، وهذا عمر بن عبد العزيز بعد الحجاج!! فقال الحسن: لا بد للناس من تنفيسات. (البداية والنهاية 9/135)
قال ابن قتيبة: قال الحسن: (لا بد للناس من وَزَعة)؛ يريد سلطاناً يزعهم عن التظالم والباطل وسفك الدماء وأخذ الأموال بغير حق(1). (تأويل مختلف الحديث ص154)
الخروج على السلطان
قال الحسن: لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل سلطانهم صبروا ما لبثوا أن يفرج عنهم ولكنهم يجزعون إلى السيف فيوكلون إليه؛ فوالله ما جاءوا بيوم خير قط. (الطبقات 7/164-165)
كان الحسن إذا قيل له: ألا تخرج فتغير؟! يقول: إن الله إنما يغير بالتوبة، ولا يغير بالسيف. (الطبقات 7/172)
__________
(1) قال كعب: إن أعظم الناس خطيئة يوم القيامة المثلِّثُ؛ فسألوه: ما المثلث؟ قال: الذي يسعى بأخيه إلى السلطان، يُهلك نفسَه ويهلك أخاه ويهلك إمامَه. (الحلية 6/22)(2/190)
قال ابن عون: استبطأ الناس أيام ابن الأشعث فقالوا له: أخرج هذا الشيخ، يعني الحسن(1)، قال ابن عون: فنظرت إليه بين الجسرين وعليه عمامة سوداء قال: فغفلوا عنه فألقى نفسه في بعض تلك الأنهار حتى نجا منهم، وكاد يهلك يومئذ. (الطبقات 7/163 والسير 4/583)
قال أبو التياح: شهدت الحسن وسعيد بن أبي الحسن حين أقبل ابن الأشعث، فكان الحسن ينهى عن الخروج على الحجاج ويأمر بالكف، وكان سعيد بن أبي الحسن يحضض؛ ثم قال سعيد فيما يقول: ما ظنك بأهل الشام إذا لقيناهم غداً فقلنا: والله ما خلعنا أمير المؤمنين ولا نريد خلعه ولكنا نقمنا عليه استعماله الحجاج فاعزلوه(2) عنا؛ فلما فرغ سعيد من كلامه تكلم الحسن فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس إنه والله ما سلط الله الحجاج عليكم إلا عقوبة، فلا تعارضوا عقوبة الله بالسيف، ولكن عليكم السكينة والتضرع(3)؛ وأما ما ذكرت من ظني بأهل الشام فإن ظني بهم أن لو جاءوا فألقمهم الحجاج دنياه لم يحملهم على أمر إلا ركبوه؛ هذا ظني بهم. (الطبقات 7/163)
__________
(1) قال أيوب: قيل لابن الأشعث: إنْ سَرَّك أن يُقْتَلوا حولَك كما قُتلوا حول جمل عائشة فأخْرِج الحسن؛ فأرسل إليه فأكرهه. (الطبقات 7/163)
(2) في الأصل (فاعزله).
(3) كان الحسن يقول: إنما هو نقمة فلا تقابل نقمة الله بالسيف وعليكم بالصبر والسكينة والتضرع. (البداية والنهاية 9/135)(2/191)
قال سليمان بن علي الربعي: لما كانت الفتنة فتنة ابن الأشعث، إذ قاتل الحجاج بن يوسف، انطلق عقبة بن عبد الغافر وأبو الجوزاء وعبد الله بن غالب في نفر من نظرائهم فدخلوا على الحسن فقالوا: يا أبا سعيد ما تقول في قتال هذا الطاغية الذي سفك الدم الحرام وأخذ المال الحرام وترك الصلاة وفعل وفعل؟! قال: وذكروا من فعل الحجاج؛ قال: فقال الحسن: أرى أن لا تقاتلوه فإنها إن تكن عقوبة من الله فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم وإن يكن بلاء فاصبروا حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين؛ قال: فخرجوا من عنده وهم يقولون: نطيع هذا العلج؟! قال: وهم قوم عرب؛ قال: وخرجوا مع ابن الأشعث، قال: فقتلوا جميعاً؛ قال سليمان: فأخبرني مرة بن ذباب أبو المعذل قال: أتيت على عقبة بن عبد الغافر وهو صريع في الخندق فقال: يا أبا المعذل لا دنيا ولا آخرة. (الطبقات 7/163-164)
سأل رجل الحسن وأناس من أهل الشام يسمعون فقال: يا أبا سعيد ما تقول في الفتن، مثل يزيد بن المهلب وابن الأشعث؟ فقال: لا تكن مع هؤلاء ولا مع هؤلاء؛ فقال رجل من أهل الشام: ولا مع أمير المؤمنين يا أبا سعيد؟! فغضب ثم قال(1) بيده فخطر بها، ثم قال(2): ولا مع أمير المؤمنين يا أبا سعيد؟!! نعم ولا مع أمير المؤمنين. (الطبقات 7/163)
قال سليمان بن حرب: حدثنا حماد بن زيد قال: ذكر أيوب القراء الذين خرجوا مع ابن الأشعث فقال: لا أعلم أحدا منهم قتل إلا قد رغب له عن مصرعه، ولا نجا فلم يقتل إلا قد ندم على ما كان منه. (الطبقات 7/187)
قال فرقد السبخي: إنَّ ملوكَ بني اسرائيلَ كانوا يقتلون قرّاءَهم على الدينِ وإنَّ ملوكَكُم إنما يقتلونَكم على الدنيا فدعُوهم والدنيا. (3/46)
__________
(1) أي الحسن.
(2) أي الحسن وقد ردد السؤال غضباً على السائل وتعجباً من تنطعه وتعصبه ومحاولته استزلال الحسن.(2/192)
كان قيس بن أبي حازم إذا صلى بأصحابه أقبل عليهم بوجهه ثم يقول: (اتقوا هذا السلطان، فإنه قد أصبح صعباً خبوطاً)؛ قال البخاري: وذلك في زمن الحجاج. (التاريخ الكبير 8/400)
قال أبو نعيم في (حلية الأولياء): حدثنا أبو بكر بن مالك حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن ابن طاووس قال: كنت لا أزال أقول لأبي: إنه ينبغي أن نخرج على هذا السلطان وأن نفعل به؛ قال: فخرجنا حجاجا فنزلنا في بعض القرى، وفيها عامل لمحمد بن يوسف، أو أيوب بن يحيى، يقال له: ابن نجيح؛ وكان من أخبث عمالهم؛ فشهدنا صلاة الصبح في المسجد؛ فاذا ابن نجيح قد أُخبر بطاووس؛ فجاء، فقعد بين يديه؛ فلم يجبه؛ فكلمه، فأعرض عنه؛ ثم عدل إلى الشق الأيسر، فأعرض عنه؛ فلما رأيت ما به قمت إليه فمددت بيده، وجعلت أسأله، رجاء له: إن أبا عبد الرحمن لم يعرفك؛ قال: بل لمعرفته بي فعل بي ما رأيت؛ قال: فمضى وهو ساكت لا يقول لي شيئاً؛ فلما دخلت المنزل التفت إلي فقال لي: يا لكع بينما أنت زعمت أن تخرج عليهم بسيفك لم تستطع أن تحبس عنهم لسانك(1). (4/16)
الدخول على السلطان
__________
(1) وقع في هذا الأثر بعض التصحيفات فأصلحتها اجتهاداً مستعيناً بما يقتضيه السياق.(2/193)
خرَج الحسن من عند عمر بن هبيرة(1) فإذا هو بالقراء(2) على الباب فقال: ما يجلسكم هاهنا؟!! تريدونَ الدخولَ على هؤلاءِ الخبثاء؟!! أما والله ما مجالستُهم بمجالسةِ الأبرار، تفرقوا فرَّقَ اللهُ بين أرواحِكم وأجسادِكم؛ قد لقحتم(3) نعالَكم وشمَّرتم ثيابَكم وجزَزْتُم شعورَكم، فضحتم القراءَ فضحكمُ اللهُ؛ أما واللهِ لو زهدتم فيما عندهم لرغبوا فيما عندَكم، لكنكم رغِبتم فيما عندهم فزهدوا فيما عندكم، أبعد الله من أبعد(4)
__________
(1) كان والياً على العراق في ذلك الوقت، وقد أرسل إلى الحسن والشعبي فوعظه الحسن موعظة بليغة قوية.
(2) أي أهل العلم والمراد في السياق بعضهم.
(3) كذا الأصل، والصواب (فلطحتم) كما في (لسان العرب) (2/549-550) فقد ورد هناك: (رأس مفلطح وفلطاح: عريض؛ ومثله فرطاح بالراء؛ وكل شيء عرضته فقد فلطحته وفرطحته ---- المفلطح الذي فيه عرض واتساع؛ وذكر ابن بري في ترجمة فرطح قال: هذا الحرف، أعني قوله مفلطح، الصحيح فيه عند المحققين من أهل اللغة أنه مفلطح باللام، وفي الخبر أن الحسن البصري مر على باب ابن هبيرة وعليه القراء فسلم ثم قال: ما لي أراكم جلوساً قد أحفيتم شواربكم وحلقتم رؤوسكم وقصرتم أكمامكم وفلطحتم نعالكم؟! أما والله لو زهدتم فيما عند الملوك لرغبوا فيما عندكم ولكنكم رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيما عندكم، فضحتم القراء فضحكم الله!).
(4) وقال أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي النحوي البغدادي في كتابه (الأمالي) (ص3): (أخبرنا ابن دريدٍ قال: أخبرني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمّه قال: مرّ الحسن البصريّ رحمه الله بباب عمر بن هبيرة، وعليه القرّاء، فسلمّ ثم قال: ما لكم جلوساً قد أحفيتم شواربكم، وحلقتم رؤوسكم، وقصرتم أكمامكم، وفلطحتم نعالكم؟ أما والله لو زهدتم فيما عند الملوك لرغبوا فيما عندكم ولكنّكم رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيما عندكم فضحتم القرّاء فضحكم الله؛ قال عبد الرحمن [يعني ابن أخي الأصمعي]: قلت لعمي: ما المفلطح؟ قال: هو الشيء يعرض أعلاه ويدقّ أسفله، ومنه قيل: رأسٌ مفلطحٌ، والعامة تقول مفرطحٌ.
وقال السيوطي في (ما رواه الأساطين): (قال نعيم بن الهيصم في (جزئه) المشهور: أخبرنا خلف بن تميم عن أبي همام الكلاعي، عن الحسن أنه مر ببعض القراء على بعض أبواب السلاطين، فقال: أقرحتم جباهكم، وفرطحتم [كذا] نعالكم، وجئتم بالعلم تحملونه على رقابكم إلى أبوابهم؟! أما إنكم، لو جلستم في بيوتكم لكان خيراً لكم، تفرقوا فرق الله بين أعضائكم.(2/194)
. (2/151)
أخرج ابن النجار عن الحسن أنه قال: إن سرَّكم أن تسلموا ويسلم لكم دينكم، فكفوا أيديكم عن دماء المسلمين، وكفوا بطونكم عن أموالهم، وكفوا ألسنتكم عن أعراضهم، ولا تجالسوا أهل البدع، ولا تأتوا الملوك فيلبسوا عليكم دينكم. (ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين)
قال محمد بن واسع: لَقَضْمُ القصبِ وسفُّ الترابِ خير من الدنو من السلطان(1). (2/352)
قال المروزي: قلت لأبي عبد الله [أحمد بن حنبل]: أيش حجتك في ترك الخروج الى الصلاة، ونحن بالعسكر؟ فقال: حجتي الحسن وابراهيم التيمي، تخَوَّفا أن يفتنهم الحجاج، وأنا أخاف أن يفتنني هذا بدنياه، يعني الخليفة. (ورع أحمد ص79)
قال معاذ بن معاذ: حدثنا ابن عون قال: ذكر إبراهيم [النخعي] أنه أرسل اليه زمان المختار بن أبي عبيد فطلى وجهه بطلاء وشرب دواء ولم يأتهم فتركوه. (4/220)
قسم أمير من أمراء البصرة على قراء أهل البصرة فبعث إلى مالك بن دينار، فقبل، وأبى محمد بن واسع، فقال: يا مالك قبلت جوائز السلطان؟! فقال: يا أبا بكر سل جلسائي! فقالوا: يا أبا بكر اشترى بها رقاباً فأعتقهم؛ فقال له محمد: أنشدك الله أقلبك الساعة له على ما كان عليه قبل أن يجزيك(2)؟ قال: اللهم لا، قال: ترى أي شيء دخل عليك؟! فقال مالك لجلسائه: إنما مالك حمار، إنما يعبد الله مثل محمد بن واسع. (2/354)
كان أيوب السختياني صديقاً ليزيد بن الوليد؛ فلما ولي الخلافة قال: اللهم أنسِهِ ذكري. (3/6)
قال محمد الباقر: اذا رأيتم القارئَ يحبُّ الأغنياءَ فهو صاحبُ الدنيا واذا رأيتموه يلزمُ السلطانَ من غيرِ ضرورةٍ فهو لص. (3/184)
__________
(1) قال حذيفة رضي الله عنه: إياكم ومواقف الفتن، قيل: وما هي؟ قال: أبواب الأمراء، يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب ويقول ما ليس فيه. (مختصر منهاج القاصدين ص37 و121).
(2) لعلها (يجيزك).(2/195)
قال سعيد بن المسيب: إذا رأيتم العالم يغشى الأمراء فاحذروا منه فإنه لص. (مختصر منهاج القاصدين ص37).
عن ميمون بن مهران أن عبد الملك بن مروان قدم المدينة فاستيقظ من قائلته، فقال لحاجبه: أنظر هل ترى في المسجد أحداً من حُدّاثي؟ فلم يرَ فيه إلا سعيد بن المسيب، فأشار إليه بأصبعه، فلم يتحرك سعيد؛ ثم أتاه الحاجب فقال: ألم تر أني أشير إليك؟ قال: وما حاجتك؟ فقال: استيقظ أمير المؤمنين فقال: أنظر هل ترى في المسجد أحداً من حداثي؟ فقال سعيد: لستُ من حُدّاثه؛ فخرج الحاجب فقال: ما وجدت في المسجد إلا شيخاً أشرت إليه فلم يقم، قلت له: إن أميرالمؤمنين استيقظ وقال لي: انظر هل ترى أحداً من حداثي؛ قال: إني لست من حداث أمير المؤمنين؛ قال عبد الملك بن مروان: ذلك سعيد بن المسيب؛ دعه. (2/170)
قال أبو حازم سلمة بن دينار: إنما السلطان سوقٌ فما نفق عنده أُتِيَ(1) به(2). (3/240)
قدم هشام بن عبد الملك المدينة --- فدخل أبو حازم فقال: ما يمنعك أبا حازم أن تأتينا؟ فقال: وما أصنع بإتيانك يا أمير المؤمنين؟ إن أدنيتني فتنتني، وإن أقصيتني أخزيتني، وليس عندي ما أخافك عليه، ولا عندك ما أرجوك له(3). (العقد الفريد 10/127)
__________
(1) هذا الفعل يحتمل أن يكون (أُتي) أو (أَتَى)؛ فإذا كان (أتى) فمعناه أن السلطان يفعل في الغالب ما يرضي الأكثر والأقوى من رعيته وحاشيته؛ وإذا كان (أتي) فمعنى الأثر حينئذ أن الناس أي أكثرهم يفعلون ويقولون ما يرتضيه سلطانهم.
(2) وفي رواية: إنما الامام سوق من الأسواق، إن جاءه الحق نفق؛ وإن جاءه الباطل نفق.
(3) وفي (مختصر منهاج القاصدين) (ص121) ما لفظه: (قال بعض الأمراء لبعض الزهاد: ألا تأتينا؟ فقال: أخاف إن أدنيتني فتنتني، وإن أقصيتني حرمتني، وليس في يدك ما أريده، ولا في يدي ما أخافك عليه؛ وإنما أتاك من أتاك ليستغني بك عمن سواك، وقد استغنيتُ عنك بمن أغناك عني).(2/196)
قال حسين بن زياد: بعث بعض القضاة إلى سيار [أبي الحكم] بواسط، فأتاه فقال له: لٍمَ لا تجيء إلينا، فقد يجيء إلينا من هو دونك؟! فقال له: إن أنت أدنيتني فتنتني، وإن باعدتني غممتني، وليس عندك ما أرجوه، ولا عندي ما أخافك عليه، ثم قام. (تاريخ واسط ص86)
قال عبد الرزاق: قدِمَ طاووسُ مكةَ فقدم أميرٌ فقيل له: إن من فضله ومن ومن، فلو أتيته! قال: ما لي إليه حاجة! قالوا: إنا نخاف عليك! قال: فما هو إذاً كما تقولون. (4/3)
كان طاووس يصلي في غداة باردة مغيمة فمر به محمد بن يوسف أخو الحجاج بن يوسف وأيوب وهو ساجد في موكبه فأمر بساج وطيلسان مرتفع فطُرح عليه، فلم يرفعْ رأسَه حتى فرغ من حاجته، فلما سلَّم نظر فإذا الساج عليه، فانتفض ولم ينظرْ إليه، ومضى إلى منزله. (4/4)
قال أبو إسحاق الضعناني: دخل طاووس ووهب بن منبه على محمد بن يوسف أخي الحجاج وكان عاملاً علينا في غداة باردة فقعد طاووس على الكرسي فقال محمد: يا غلام هلم ذلك الطيلسان فألقه على أبي عبد الرحمن فألقوه عليه فلم يزل يحرك كتفيه حتى ألقى عنه الطيلسان وغضب محمد بن يوسف؛ فقال له وهب: والله إن كنت لغنياً أن تغضبه علينا لو أخذت الطيلسان فبعته وأعطيت ثمنه المساكين! فقال: نعم لولا أن يقال من بعدي: أخذه طاووس فلا يُصنعُ فيه ما أصنع لفعلت. (صف 2/286)(2/197)
عن النعمان بن الزبير أن محمد بن يوسف وأيوب بن يحيى بعثا إلى طاووس بخمسمئة دينار، وقالوا للرسول: إن أخذها منك فإن الأمير سيكسوك ويحسن إليك؛ فخرج بها حتى قدم على طاووس، فقال: يا أبا عبد الرحمن نفقة بعث بها إليك الأمير؛ قال: ما لي بها من حاجة؛ قال: فأراده على قبضها فأبى؛ فغفل طاووس فرمى بها في كوة في البيت ثم ذهب فقال لهم: قد أخذها؛ فلبثوا حيناً، ثم بلغهم عن طاووس شيء يكرهونه، فقال: ابعثوا إليه فليبعث إلينا بمالنا؛ فجاءه الرسول فقال: المال الذي بعث به إليك الأمير؟ قال: ما قبضت منه شيئاً؛ فرجع الرسول، فأخبرهم، فعرفوا أنه صادق؛ فقيل للرجل الذي ذهب بها، فبعثوه إليه، فقال: المال الذي جئتك به يا أبا عبد الرحمن؟ فقال: هل قبضت منك شيئاً؟ قال: لا، قال: فهل تدري أين وضعته؟ قال: نعم، في تلك الكوة، قال: فأبصرْه حيث وضعتَه، قال: فمد يده فإذا هو بالصرة قد بنت عليها العنكبوت؛ فأخذها، فذهب بها إليهم. (صف2/286-287)
قال ابن عيينة: قال عمر بن عبد العزيز لطاووس: ارفع حاجتك إلى أمير المؤمنين، يعني سليمان بن عبد الملك؛ فقال طاووس: ما لي إليه من حاجة؛ قال: فكأنه قد عجب من ذلك؛ قال سفيان: وحلف لنا إبراهيم بن ميسرة، وهو مستقبل الكعبة: ورب هذه البنية ما رأيت أحداً الشريف والوضيع عنده بمنزلة إلا طاووساً(1). (4/16)
قال الصلت بن راشد: كنتُ جالساً عند طاووس فسأله سلم بن قتيبة عن شيء فانتهره! قال: قلتُ: هذا سلم بن قتيبة صاحب خراسان! قال: ذلك أهونُ له علي. (4/12)
جاء ابنٌ لسليمانَ بنِ عبدِ الملكِ فجلسَ الى جنبِ طاووسَ فلم يلتفتْ إليهِ فقيلَ لهُ: جلسَ إليكَ ابنُ أميرِ المؤمنينَ فلمْ تلتفتْ إليهِ؟! قالَ: أردتُ أن يعلمَ أن للهِ عباداً يزهدون فيما في يديهِ. (4/16)
__________
(1) تقدم هذا الأثر في باب (القناعة والتعفف والرضا بالرزق) أيضاً.(2/198)
قال ابنُ جابرٍ: أقبلَ يزيدُ بنُ عبدِ الملِكِ بنِ مروانَ إلى مكحولٍ وأصحابِه، فلما رأيناه هممنا بالتوسعةِ له فقال مكحول: مكانَكم، دعوه يجلس حيث أدركَ يتعلم التواضع. (5/184)
قال عيسى بن يونس: ما رأينا في زمانِنا مثلَ الأعمش، ولا الطبقة الذين كانوا قبلَنا، ما رأينا الأغنياءَ والسلاطينَ في مجلسٍ قطّ أحقرَ منهم في مجلسِ الأعمشِ، وهو(1) محتاجٌ إلى درهم!! (5/47-48)
قال رجاء بن أبي سلمة: قدم يزيد بن عبد الملك بيت المقدس، فسأل رجاء بن حيوة أن يصحبه، فأبى، واستعفاه، فقال له عقبة بن وساج: إن الله ينفع بمكانك؛ فقال: إن أولئك الذين تريد قد ذهبوا؛ فقال له عقبة: إن هؤلاء القوم قل ما باعدهم رجل بعد مقاربة إلا ركبوه؛ قال: إني أرجو أن يكفنيهم الذي أدعهم له(2). (5/170 والتاريخ الكبير للبخاري 3/312)
قال محمد بن الزبير: سألني عمر بن عبد العزيز عن الحسن: عن جسمه وعن مطعمه وملبسه، فقال: بلغني أنه يلبس عمامة حرقانية، قلت: أجل، قال: أما إنها كانت من لباس القوم، فقال: رأيته يأتي عدياً(3)؟ قال: قلت: نعم، فسألني عن مجلسه منه، قال: فرأيته يطعم عنده؟ قلت: نعم، أتي يوماً بطبق فتناول فرسكة فعض منها ثم ردها. (الطبقات 7/170)
__________
(1) أي مع ذلك.
(2) في الأصل: (أن يكفيهم الذي أدعوهم له).
وأورد هذا الأثر ابن الجوزي في (صفة الصفوة) (4/214) ولكن بلفظ آخر ، فإما أن يكون رواه بمعناه، أو أنه نقل رواية غير الحلية؛ وهذا لفظه: (وكان يصحب الخلفاء، ويأمرهم بالمعروف؛ فلما مات عمر بن عبد العزيز انقطع عن صحبتهم؛ فسأله يزيد بن عبد الملك أن يصحبه، فأبى، واستعفاه؛ فقيل له: نخاف عليك من هؤلاء! فقال: يكفينـ[ـيـ]ـهم الذي تركتهم له. (صف).
(3) يعني عدي بن أرطأة، وهو عامل عمر بن عبد العزيز على البصرة.(2/199)
قيل لعلقمة بن قيس النخعي: ألا تدخل على السلطان فتنتفع؟! قال: إني لا أصيب من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من ديني مثله. (صف3/27)(1)
قال وهب بن منبه لعطاء الخراساني: كان العلماءُ قبْلَنا قد استغنوا بعلمِهم عن دنيا غيرهم فكانوا لا يلتفتونَ إلى دنيا غيرِهم وكانَ أهلُ الدنيا يبذلونَ لهم دنياهُم رغبةً في علمِهم، فأصبحَ أهلُ العلمِ اليومَ فينا يبذلونَ لأهلِ الدنيا علمَهم رغبةً في دنياهم، وأصبحَ أهلُ الدنيا قد زهدوا في علمِهم لِمَا رأَوا من سوءِ موضعِه عندهم؛ فإياكَ وأبوابَ السلاطينِ، فإنَّ عندَ أبوابِهم فتناً كمَبارِكِ الإبلِ، لا تصيبُ مِن دنياهُم شيئاً إلا وأصابوا من دينِكَ مثلَه(2)، ثمَّ قالَ: يا عطاءُ إن كان يغنيكَ ما يكفيكَ فكلُّ عيشِكَ يكفيكَ، وإن كانَ لا يُغنيكَ ما يكفيكَ فليسَ شئٌ يكفيكَ، إنما بطنُكَ بحرٌ منَ البحورِ ووادٍ منَ الأوديةِ، لا يسعُهُ إلا التراب. (4/29-30 ورواه الآجري دون الفقرة الأخيرة في أخلاق العلماء 76)
كان الحسن يقول: إن العلماءَ كانوا قد استغنوا بعلمِهم من أهل الدنيا؛ وكانوا يقضون بعلمهم على أهل الدنيا، ما لا يقضي أهل الدنيا بدنياهم فيها؛ وكانَ أهلُ الدنيا يبذلونَ دنياهُم لأهل العلم رغبةً في علمِهم، فأصبحَ أهلُ العلمِ اليومَ يبذلونَ علمهم لأهلِ الدنيا رغبةً في دنياهم، فرغب أهلُ الدنيا بدنياهم عنهم وزهدوا في علمِهم لِمَا رأَوا من سوءِ موضعِه عندهم. (البيان والتبيين 3/136)
كان الحسن يقول: لا أذهب إلى من يُواري عني غناه ويُبْدي لي فقرَه، ويُغلق دوني بابَه ويمنعني ما عنده، وأدَع مَن يفتح لي بابَه، ويُبدي لي غناه ويدعوني إلى ما عنده. (البيان والتبيين 3/136)
__________
(1) وانظر (مختصر منهاج القاصدين) (ص37).
(2) ذكر هذه الفقرة المتعلقة بأبواب السلاطين السيوطي في (ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين) وعزاها للبيهقي.(2/200)
كتب بعض بني أمية إلى أبي حازم: ارفع إلي حاجتك، قال: هيهات، رفعتُ حاجتي إلى من لا يختزن الحوائج، فما أعطاني منها قنعت وما أمسك عني منها رضيت(1). (3/237)
قال سفيان بن عيينة: دخل هشام بن عبد الملك الكعبة، فإذا هو بسالم بن عبد الله، فقال له: يا سالم سلني حاجة؛ فقال له: إني لأستحيي من الله أن أسأل في بيت الله غير الله، فلما خرج خرج في أثره، فقال له: الآن قد خرجت فسلني حاجة! فقال له سالم: [من] حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ فقال: بل من حوائج الدنيا؛ فقال له سالم: ما سألت من يملكها فكيف أسأل من لا يملكها؟! (صف2/91)
ذكر مالك بن أنس فضلَ ربيعةَ بن أبي عبد الرحمن فقال: لما قدم ربيعة على أمير المؤمنين أبي العباس أمر له بجائزة، فأبى أن يقبلها، فأمر له بخمسة آلاف درهم يشتري بها جارية؛ فأبى أن يقبلها. (3/259)
قال المعلى بن عرفان: سمعت أبا وائل [شقيق بن سلمة] وجاءه رجل فقال: ابنُك استُعمِلَ على السوقِ، فقال: والله لو جئتَني بموتِه كانَ أحبَّ إليَّ! إن كنتُ لأكرهُ أن يدخلَ بيتي مَنْ عملَ عمَلَهم(2). (4/103)
قال الأعمش: شر الأمراء أبعدهم من العلماء، وشر العلماء أقربهم من الأمراء. (الجامع 1/185)
قيل للأعمش: يا أبا محمد قد أحييت العلم بكثرة من يأخذه عنك! فقال: لا تعجبوا فإن ثلثاً منهم يموتون قبل أن يدركوا، وثلثاً يلزمون السلطان، فهم شر من الموتى، ومن الثلث الثالث قليل من يفلح(3)
__________
(1) وأخرجه ابن أبي الدنيا والخرائطي وابن عساكر؛ كذا في (ما رواه الأساطين).
(2) كان أبو وائل يقول لجاريته: يا بركة اذا جاء يحيى يعني ابنه بشيء فلا تقبليه؛ وإذا جاءك أصحابي بشيء فخذيه؛ وكان يحيى ابنه قاضياً على الكناسة.
(3) وروى أبو نعيم في (الحلية) (8/165) عن أبي صالح الأنطاكي قال: سمعت ابن المبارك يقول: من بخل بالعلم ابتلي بثلاث، إما يموت فيذهب علمه؛ وإما يَنسى، وإما يصحب [السلطان] فيذهب علمه.
وأخرجه أيضاً البيهقي في (المدخل إلى السنن الكبرى) (ص350)، وذكره المزي في (تهذيب الكمال) (16/22) والذهبي في السير (8/398).
قلت: وروي عن سفيان ما فيه شبه من هذا؛ فقد قال السيوطي في (تدريب الراوي) (2/90): (قال سفيان الثوري: من بخل بالعلم ابتلي بإحدى ثلاث: أن ينساه، أو يموت ولا ينتفع به، أو تذهب كتبه).(2/201)
. (الجامع 1/185)
قال سعيد بن كثير بن يحيى: قدم سليمان بن عبد الملك المدينة وعمر بن عبد العزيز عامله عليها، قال: فصلى بالناس الظهر ثم فتح باب المقصورة، واستند إلى المحراب، واستقبل الناس بوجهه؛ فنظر إلى صفوان بن سليم عن غير معرفة فقال: يا عمر من هذا الرجل؟ ما رأيت سمتاً أحسن منه! قال: يا أمير المؤمنين هذا صفوان بن سليم، قال: يا غلام كيس فيه خمس مئة دينار، فأتى بكيس فيه خمس مئة دينار، فقال لخادمه: ترى هذا الرجل القائم يصلي؟ فوصفه للغلام حتى أثبته، فخرج الغلام بالكيس حتى جلس إلى صفوان، فلما نظر إليه صفوان ركع وسجد ثم سلم وأقبل عليه فقال: ما حاجتك؟ قال: أمرني أمير المؤمنين وهو ذا ينظر إليك وإلي أن أدفع هذا الكيس وفيه خمسمئة دينار إليك وهو يقول: استعن بهذا على زمانك وعلى عيالك، فقال صفوان للغلام: ليس أنا بالذي أرسلت إليه، فقال له الغلام: ألست صفوان بن سليم؟ قال: بلى، أنا صفوان بن سليم، قال: فإليك أرسلت، قال: إذهب فاستثبت فإذا أثبت فهلمَّ، فقال الغلام: فأمسك الكيس معك وأَذهبُ، قال: لا، إذا أمسكت كنت قد أخذت، ولكن اذهب فاستثبتْ فأنا هاهنا جالس، فولى الغلام فأخذ صفوان نعليه وخرج فلم يرَ بها حتى خرج سليمان من المدينة. (صف2/155)
قال محمد بن أبي جميلةَ: أرادني عبدُ اللهِ بنُ عبدِ الملِكِ على صحبتِه فشاورتُ [عبد الله] بنَ أبي زكريا، فقالَ: أنتَ حرٌّ فلا تجعلْ نفسَكَ مملوكاً. (5/152)
قال قبيصة: قيل للأحنف بن قيس: ألا تأتي الأمراء؟ قال: فأخرج جرة مكسورة فكبها فإذا كِسَرٌ فقال: من كان يجزئه مثل هذا ما يصنع بإتيانهم(1)؟! (صف3/200)
__________
(1) قال محمد بن سعد: (كان الأحنف صديقاً لمصعب بن الزبير، فوفد عليه الكوفة، ومصعب واليها يومئذ، فتوفي الأحنف عنده، فرئي مصعب في جنازته، يمشي بغير رداء). (صف3 / 200 وانظر الإشراف على منازل الأشراف ص304)(2/202)
قال الأحنف بن قيس: ثلاثٌ فيَّ ما أقولهن إلا ليعتبر معتبرٌ: ما دخلت بين اثنين حتى يُدخلاني بينهما، ولا أتيت باب أحد من هؤلاء ما لم أدْعَ إليه، - يعني السلطان – ولا حللت حبْوتي إلى ما يقوم إليه الناس. (الكامل 1/47)
قال الأحنف: سهرت ليلتي أفكر في كلمة أُرضي بها سلطاني ولا أُسخط بها ربي فما وجدتها. (أدب الدنيا والدين ص272)
قال غيلان: كان مُطَرِّف يلبس البرانس، ويلبس المطارف، ويركب الخيل، ويغشى السلطان؛ غير أنك كنت إذا أفضيتَ إليه أفضيت إلى قرة عين. (صف 3/222)
عن فرات بن سليمان عن ميمون بن مهران قال: ثلاث لا تبلونَّ نفسَك بهن: لا تدخل على السلطان وإن قلتَ: آمره بطاعة الله؛ ولا تدخل على امرأة وإن قلتَ أعلمها كتاب الله؛ ولا تصغين بسمعك لذي هوى فإنك لا تدري ما يعلق بقلبك منه. (4/85)
قال زائدة: قلت لمنصور [بن المعتمر]: إذا كنتُ صائماً أنال من السلطان شيئاً؟ فقال: لا؛ فقلت: اذا كنت صائماً أنال من أصحاب الأهواء شيئاً؟ قال: نعم. (5/41-42)
قال عمر بن عبد المجيد: اعتم شهر بن حوشب، وهو يريد سلطاناً يأتيه؛ ثم نقض عمامته وجعل يقول: السلطان بعد الشيب؟! السلطان بعد الشيب؟!(1)
__________
(1) روى البخاري في (التاريخ الكبير) (1/443) في ترجمة (إياس بن نذير)، عن ابن مسعود قال: يدخل الرجل على السلطان ومعه دينه، فيخرج وما معه شي.
وروى فيه أيضاً (4/70) عن سلمة بن قيس قال: لقيت أبا ذر فقال: يا أبا سلمة ثلاثاً احفظْها: لا تجمعن بين الضرائر؛ ولا تغش ذا السلطان فإنك لم تغش من دنياهم إلا أصابوا من دينك أفضل منه؛ ولا تعمل على الصدقة.
وروى أبو نعيم في (الحلية) (6/251) من طريق محمد بن إسماعيل [البخاري] حدثنا أبو يحيى محمد بن عبد الرحيم حدثنا موسى بن إسماعيل قال: سمعت حماد بن سلمة يقول لرجل: إن دعاك الأمير أن تقرأ عليه (قل هو الله أحد)، فلا تأته.
وروى أبو نعيم أيضاً (6/251) من طريق البخاري أيضاً قال: سمعت آدم بن إياس يقول: شهدت حماد بن سلمة، ودعوه، يعني السلطان؛ فقال: أحمل لحية حمراء لهؤلاء؟! لا والله لا فعلت.
وروى أيضاً (7/47-48) عن سلمة بن شبيب حدثنا مبارك أبو حماد قال: سمعت سفيان الثوري يقول لعلي بن الحسن السليمي:
(إياك وما يفسد عليك عملك وقلبك، فإنما يفسد عليك قلبك مجالسة أهل الدنيا، وأهل الحرص، وإخوان الشياطين الذين ينفقون أموالهم في غير طاعة الله.
وإياك وما يفسد عليك دينك، فإنما يفسد عليك دينك مجالسة ذوي الألسن المكثرين للكلام.
وإياك وما يفسد عليك معيشتك، فإنما يفسد عليك معيشتك أهل الحرص وأهل الشهوات.
وإياك ومجالسة أهل الجفاء، ولا تصحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي ولا تصحب الفاجر، ولا تجالسه، ولا تجالس من يجالسه، ولا تؤاكله، ولا تؤاكل من يؤاكله، ولا تحب من يحبه، ولا تفش إليه سرك، ولا تبسم في وجهه، ولا توسع له في مجلسك، فإن فعلتَ شيئاً من ذلك فقد قطَّعتَ عرى الإسلام.
وإياك وأبواب السلطان، وأبواب من يأتي أبوابهم، وأبواب من يهوى هواهم، فإن فتنهم مثل فتن الدجال، فإن جاءك منهم أحد فانظر إليه بوجه مكفهر ولا تبال منهم شيئاً، فيرون أنهم على الحق، فتكون من أعوانهم، فإنهم لا يخالطون أحداً إلا دنسوه.
وكن مثل الأترجة طيبة الريح طيبة الطعم.
لا تنازع أهل الدنيا في دنياهم تكن محبباً إلى الناس.
وإياك والمعصية فتستحق سخط الله، واعلم أنه لم يكن أحد أكرم على الله من آدم عليه السلام، جبل الله تربته بيده، ونفخ فيه من روحه، وأكرمه بسجود ملائكته، وأسكنه جنته، فأخرجه منها بذنب واحد.
واعلم يا أخي أن الله تعالى لا يدخل أحداً الجنة بالمعاصي، وأن داود عليه السلام خليفة الله في الأرض، نزل ما نزل به بخطيئة واحدة، ولو أنا عملنا مثلها لقلنا ليست بخطيئة.
فاتق الله يا أخي واجتنب المعاصي وأهلها، فإن أهل المعاصي استوجبوا من الله النقمة، وكن مبذولاً بمالك ونفسك لإخوانك، ولا تغشهم في السرور والعلانية.
وأبغِضِ الجهالَ ومجالستَهم، والفجارَ وصحْبتَهم، فإنه لا ينجو من جاورهم إلا من عصم الله.
وإذا كنت مع الناس فعليك بكثرة التبسم والبشاشة، وإذا خلوت بنفسك فعليك بكثرة البكاء والهم والحزن، فقد بلغنا، والله أعلم، أن أكثر ما يجد المؤمن يوم القيامة في كتابه من الحسنات الهم والحزن.
وإياك وخشوع النفاق وأنْ تُظْهرَ على وجهك خشوعاً ليس في قلبك).
وروى الخطيب في (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع) (1/362-363) عن مقاتل بن صالح الخراساني صاحب الحميدي قال: (دخلت على حماد بن سلمة، فإذا ليس في البيت إلا حصير، وهو جالس عليه، ومصحف يقرأ فيه، وجراب فيه علمه [يعني أوراقه]، ومطهرة يتوضأ فيها، فبينا أنا عنده جالس، إذ دَقَّ عليه داقٌّ البابَ، فقال: يا صبية اخرجي فانظري من هذا؟ قالت: هذا رسول محمد بن سليمان؛ قال: قولي له يدخل وحده؛ [فدخل]، وناوله كتابه، فقال: اقرأه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن سليمان، إلى حماد بن سلمة؛ أما بعد، فصبحك الله بما صبح به أولياءه وأهل طاعته؛ وقعت مسألة فأتنا نسألك عنها.
قال: يا صبية هَلُمّي الدواةَ، ثم قال لي: اقلب الكتاب واكتب؛ أما بعد، وأنتَ فصبحك الله بما صبَّحَ به أولياءه وأهل طاعته؛ إنا أدركنا العلماء وهم لا يأتون أحداً؛ فإن وقعت مسألة فأتنا فسلنا عما بدا لك؛ وإن أتيتني فلا تأتني إلا وحدك؛ ولا تأتني بخيلك ورجلك، فلا أنصحك ولا أنصح نفسي؛ والسلام.
فبينا أنا عنده جالس إذ دقَّ داقٌّ البابَ، فقال: يا صبية اخرجي فانظري من هذا؟ قالت: هذا محمد بن سليمان؛ قال: قولي له يدخل وحده، فدخل، فسلم، ثم جلس بين يديه----[ثم ذكر المحاورة بينهما إلى أن قال]: فقال [يعني الأمير]: فحاجة إليك؟ قال: هات ما لم تكن رزية في دين؛ قال: أربعين ألف درهم تأخذها تستعين بها على ما أنت عليه؛ قال: ارددها على من ظلمته بها؛ قال: والله ما أعطيك إلا ما ورثته؛ قال: لا حاجة لي فيها، ازوها عني زوى الله عنك أوزارَك؛ قال: فغير هذا؟ قال: هات ما لم يكن رزية في دين؛ قال: تأخذها فتقسمها؛ قال: فلعلي إن عدلت في قسمها أن يقول بعض من لم يُرزَق منها: إنه لم يعدل في قسمها، فياثم؛ ازوها عني زوى الله عنك أوزارك).
ونقل هذه القصة ابن الجوزي في (صفة الصفوة) (3/361-362).
وأخرج أبو نعيم في (حلية الأولياء) (8/156) عن وهيب بن الورد قال: بلغنا أن العلماء ثلاثة؛ فعالم [يتعلمه للسلاطين؛ وعالم] يتعلمه ليتغنى به عند التجار، وعالم يتعلمه لنفسه، لا يريد به إلا أنه يخاف أن يعمل بغير علم فيكون ما يفسد أكثر مما يصلح. انتهى؛ وما بين الحاصرتين من كتاب (ما رواه الأساطين) للسيوطي، وفيه أيضاً (لينفذ) بدلاً من (ليتغنى).
وروى البيهقي في (الشعب) (2/300) عن الحسن بن عمرو قال: سمعت بشراً [بن الحارث] يقول: ما أقبح أن يُطْلَبَ العالمُ فيقال: هو بباب الأمير.
وروى البيهقي في (الشعب) (2/300) كذلك عن أبي بكر الأثرم حدثنا عبد الصمد بن زيد قال: (سمعت الفضيل بن عياض يقول: آفة القراء العجب، واحذر أبواب الملوك فإنها تزيل النعم؛ فقيل له: يا أبا علي كيف تزيل النعم؟ قال: الرجل يكون عليه من الله نعمة ليست له إلى خلق حاجة؛ فإذا دخل إلى هؤلاء الملوك فرأى ما بسط الله لهم في الدور والخدم استصغر ما هو فيه ومن ثَمَّ تزول النعم)؛ ووقع في مطبوعة (الشعب): (ومن ثم تزيل) فجعلتها (تزول) تبعاً لما في (ما رواه الأساطين) نقلاً من (الشعب).
وفيما يلي جملة من آثار هذا الباب مما ذكره السيوطي في (ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين):
أخرج أبو الحسن بن فهر في كتاب (فضائل مالك)، عن عبد الله بن رافع وغيره قال: قدم هارون الرشيد المدينة، فوجه البرمكي إلى مالك، وقال له: احمل إليّ الكتاب الذي صنفته حتى أسمعه منك؛ فقال للبرمكي: أقرئه السلام، وقل له: إنَّ العلم يزار ولا يزور؛ فرجع البرمكي إلى هارون الرشيد، فقال له: يا أمير المؤمنين! يبلغ أهل العراق أنك وجهت إلى مالك في أمر فخالفك! اعزمْ عليه حتى يأتيك؛ فأرسل إليه فقال: قل له: يا أمير المؤمنين لا تكن أول من وضع العلم فيضعك الله.
روى غنجار في (تاريخه) عن ابن منير: أن سلطان بخارى، بعث إلى محمد بن إسماعيل البخاري يقول: احمل إليّ كتاب (الجامع) و(التاريخ) لأسمع منك؛ فقال البخاري لرسوله: قل له: أنا لا أذل العلم، ولا آتي أبواب السلاطين؛ فإن كانت لك حاجة إلى شيء منه، فلتحضرني في مسجدي أو في داري.
قال الخطيب البغدادي في كتاب (رواه مالك): كتب إليّ القاضي أبو القاسم الحسن بن محمد بن الأنباري، من مصر، أنبأنا محمد بن أحمد بن المسور، نبأنا المقدام بن داود الرعيني، نبأنا علي ابن معبد، نبأنا إسحاق بن يحيى، عن مالك بن أنس رحمه الله، قال: أدركت بضعة عشر رجلاً من التابعين يقولون: لا تأتوهم، ولا تأمروهم، يعني السلطان.
روى ابن باكويه الشيرازي في (أخبار الصوفية) عن عبيد الله بن محمد القرشي، قال: كنا مع سفيان الثوري بمكة، فجاءه كتاب من عياله من الكوفة: بلغت بنا الحاجة أنا نقلي النوى فنأكله فبكى سفيان؛ فقال له بعض أصحابه: يا أبا عبد الله لو مررت إلى السلطان، صرت إلى ما تريد! فقال سفيان: والله لا أسأل الدنيا من يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها.
روى ابن باكويه عن أحمد بن أبي الحواري قال: قلت لأبي سليمان: تخالف العلماء؟ فغضب وقال: أرأيت عالماً يأتي باب السلطان فيأخذ دراهمهم؟!
روى ابن باكويه عن سفيان الثوري قال: إن فجار القراء اتخذوا سلّماً إلى الدنيا فقالوا: ندخل على الأمراء نفرج عن مكروب ونكلم في محبوس.
أخرج ابن باكويه، عن الفضيل بن عياض، قال: لو أن أهل العلم أكرموا على أنفسهم وشحوا على دينهم، وأعزوا العلم وصانوه، وأنزلوه حيث أنزله الله، لخضعت لهم رقاب الجبابرة وانقاد لهم الناس، واشتغلوا بما يعنيهم، وعزَّ الإسلامُ وأهله، لكنهم استذلوا أنفسهم ولم يبالوا بما نقص من دينهم، إذا سلمت لهم دنياهم؛ وبذلوا علمهم لأبناء الدنيا ليصيبوا ما في أيديهم، فذلوا وهانوا على الناس.
أخرج أبو علي الآمدي في (تعليقه) عن عمار بن سيف، أنه سمع سفيان الثوري يقول: النظر إلى السلطان خطيئة.
قال الآمدي: حدثني أبو العباس، قال: سمعت: قدم طاهر بن عبد الله بن طاهر من خراسان في حياة أبيه يريد الحج: فنزل في دار إسحاق بن إبراهيم، فوجه إسحاق إلى العلماء، فأحضرهم ليراهم طاهر، ويقرأ عليهم؛ فحضر أصحاب الحديث والفقه، وأحضَرَ ابنَ الأعرابي، وأبا نصر صاحب الأصمعي؛ ووجه إلى أبي عبيد القاسم بن سلام في الحضور، فأبى أن يحضر، وقال: العلم يُقصد؛ فغضب إسحاق من قوله ورسالته، وكان عبد الله بن طاهر جرى له في الشهر ألفي درهم، فلم يوجه إليه إسحاق، وقطع [أي إسحاق] الرزق عنه [أي عن أبي عبيد]؛ وكتب إلى عبد الله بالخبر، فكتب إليه: قد صدق أبو عبيد في قوله، وقد أضعفتُ الرزق له من أجل فعله؛ فأعطه؛ فأتاه ورد عليه بعد ذلك ما يستحقه.
أخرج ابن النجار في (تاريخه) عن مفلح بن الأسود، قال: قال المأمون ليحيى بن أكثم: إني أشتهي أن أرى بشر بن الحارث. قال: إذا اشتهيت يا أمير المؤمنين، فإلى الليلة، ولا يكون معنا بشر؛ فركبا، فدق يحيى الباب، فقال: بشر: من هذا؟ قال: من تجب عليك طاعته؛ قال: وأي شيء تريد؟ قال: أحب لقاك؛ فقال بشر: طائعاً أو مكرهاً؟ قال: ففهم المأمون، فقال ليحيى: اركب؛ فمر على رجل يقيم الصلاة صلاة العشاء الآخرة، فدخلا يصليان، فإذا الإمام حسن القراءة، فلما أصبح المأمون وجه إليه، فجاء به فجعل يناظره في الفقه، وجعل الرجل يخالفه، ويقول: القول في هذه المسألة خلاف هذا فغضب المأمون؛ فلما كثر خلافه قال: عهدي بك، كأنك تذهب إلى أصحابك فتقول: خطَّأْتُ أميرَ المؤمنين؛ فقال: والله يا أمير المؤمنين إني لأستحي من أصحابي أن يعلموا أني جئتك! فقال المأمون: الحمد لله الذي جعل في رعيتي من يستحي أن يجيئني، ثم سجد لله شكراً؛ والرجل إبراهيم بن إسحاق الحربي.
أخرج ابن النجار في (تاريخه) عن سفيان الثوري قال: ما زال العلم عزيزاً، حتى حمل إلى أبواب الملوك، فأخذوا عليه أجراً، فنزع الله الحلاوة من قلوبهم، ومنعهم العلم به.
تنبيه: قال السيوطي في (ما رواه الأساطين في عدم المجيء إلى السلاطين) عقب روايته لجملة من الأحاديث والآثار الناهية عن مخالطة السلاطين والأمراء:
(ذهب جمهور العلماء من السلف، وصلحاء الخلف إلى أن هذه الأحاديث والآثار جارية على إطلاقها، سواء دعوه إلى المجيء إليهم، أم لا، وسواء دعوه لمصلحة دينية أم لغيرها.
قال سفيان الثوري: إن دعوك لتقرأ عليهم: قل هو الله أحد، فلا تأتهم؛ رواه البيهقي---)؛ ثم راح السيوطي يذكر آثاراً أخرى كثيرة في هذا الباب أعني باب عدم مجيء العلماء إلى السلاطين ومنها بعض الآثار المتقدمة.(2/203)
. (6/59)
الفتن وتغير أحوال الناس(1)
__________
(1) مما لعله يناسب هذا الباب هاتان الرسالتان الخطيرتان من إمامين زاهدين:
الأولى: رسالة إمام الزهد والتفسير والحديث والفقه والولاء والبراء سفيان الثوري رحمه الله، إلى العابد الزاهد الحكيم العالم الورع الناصح عباد بن عباد.
والثانية: رسالة عباد هذا إلى إخوانه يعظهم وينصحهم؛ وفيما يلي نص الرسالتين:
الرسالة الأولى: رسالة الثوري إلى عباد بن عباد:
قال ابن أبي حاتم في (تقدمة الجرح والتعديل) (1/86-89):
(حدثنا إسماعيل بن إسرائيل السلال حدثننا الفريابي قال: كتب سفيان بن سعيد إلى عباد بن عباد فقال:
من سفيان بن سعيد إلى عباد بن عباد:
سلام عليك.
فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو؛ أما بعد، فإنّي أوصيك بتقوى الله؛ فإن اتقيتَ الله عزَّ وجلَّ كفاك الناس؛ وإن اتقيتَ الناسَ لم يُغْنوا عنك من الله شيئاً.
سألت أن أكتب إليك كتاباً أصف لك فيه خِلالاً تَصْحَبُ بها أهلَ زمانِك، وتؤدّي إليهم ما يحقُّ لهم عليك، وتسألُ الله عز وجل الذي لك.
وقد سألتَ عن أمر جسيمٍ الناظرونَ فيه اليومَ، المقيمون به: قليل؛ بل لا أعلم مكان أحد؛ وكيف يستطاع ذلك وقد كدر هذا الزمان؟!
إنه ليشتبه الحق والباطل، ولا ينجو من شرِّه إلا من دعا بدعاء الغريق؛ فهل تعلم مكان أحد هكذا؟
وكان يقال: يوشك أن يأتي على الناس زمان لا تقرُّ فيه عين حكيم.
فعليك بتقوى الله عز وجل؛ والزم العزلة، واشتغل بنفسك، واستأنس بكتاب الله عزَّ وجلَّ، واحذر الأمراء، وعليك بالفقراء والمساكين، والدنو منهم.
فإن استطعتَ أن تأمرَ بخير في رفق، فإنْ قُبل منك حمدتَ الله عزَّ وجلَّ؛ وإن رُدَّ عليك أقبلتَ على نفسك، فإنَّ لك فيها شغلاً.
واحذر المنزلة وحبَّها، فإنَّ الزهدَ فيها أشدُّ من الزهد في الدنيا.
وبلغني أنَّ أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يتعوذون أنْ يدركوا هذا الزمان، وكان لهم من العلم ما ليس لنا؛ فكيف بنا حين أدركنا على قلة علم وبصر وقلة صبر وقلة أعوان على الخير مع كدر من الزمان وفساد من الناس؟!
وعليك بالأمر الأول، والتمسك به؛ وعليك بالخمول، فإنَّ هذا زمان خمول؛ وعليك بالعزلة وقلة مخالطة الناس، فإنَّ عمرَ بنَ الخطاب رضي الله عنه قال: (إياكم والطمع، فإن الطمعَ فقر، واليأس غنى؛ وفي العزلة راحة من خلاط السوء)؛ وكان سعيد بن المسيب يقول: العزلة عبادة.
وكان الناس إذا التقوا انتفع بعضهم ببعض؛ فأما اليوم فقد ذهب ذلك، والنجاة في تركهم فيما نرى.
وإياك والأمراء والدنو منهم وأن تخالطهم في شيء من الأشياء؛ وإياك أن تُخدَع فيقال لك: تشفع تشفع وتدرأ عن مظلوم أو ترد مظلمة [في الأصل: فترد عن مظلوم أو مظلمة؛ والتصحيح من حلية الأولياء]؛ فإن تلك خدعة إبليس، وإنما اتخذها فجار القراء سلماً؛ وكان يقال: اتقوا فتنة العابد الجاهل، وفتنة العالم الفاجر، فإنَّ فتنتهما فتنة لكل مفتون.
وما كفيت المسألة والفتيا فاغتنم ذلك؛ ولا تنافسهم؛ وإياك أن تكون ممن يحبُّ أنْ يُعمَلَ بقوله ويُنشَرَ قوله أو يُسمَع منه، [فاذا تُرك ذاك منه عُرف فيه]؛ [زيادة من كتاب الحلية].
وإياك وحب الرياسة، فإن من الناس من تكون الرياسة أحب إليه من الذهب والفضة؛ وهو باب غامض لا يبصره إلا البصير من العلماء السماسرة.
واحذر الرئاء، فإن الرئاء أخفى من دبيب النمل؛ وقال حذيفة: (سيأتي على الناس زمان يعرض على الرجل الخير والشر فلا يدرى أيما يركب)؟ وقد ذُكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (لا تزال يد الله عز وجل على هذه الأمة، وفي كنفه، وفي جواره وجناحه، ما لم يَمِلْ قرّاؤهم إلى أمرائهم، وما لم يبرَّ خيارُهم أشرارَهم، وما لم يعظم أبرارُهم فجّارَهم فإذا فعلوا ذلك رفعها عنهم وقذف في قلوبهم الرعب، وأنزل بهم الفاقة، وسلط عليهم جبابرتهم فساموهم سوء العذاب)؛ وقال: (إذا كان ذلك لا يأتيهم أمر يضجون منه إلا أردفه بآخر يشغلهم عن ذلك).
فليكن الموت من شأنك ومن بالك؛ وأقِلَّ الأملَ، وأكثرْ ذكر الموت، فإنك إنْ أكثرت ذكر الموت هان عليك أمر دنياك؛ وقال عمر: (أكثروا ذكر الموت، فإنكم إن ذكرتموه في كثير قلله؛ وإن ذكرتموه في قليل كثره؛ واعلموا أنه قد حان للرجل يشتهي الموت).
أعاذنا الله وإياك من المهالك، وسلك بنا وبك سبيل الطاعة).
ورواه باختصار أبو نعيم في (حلية الأولياء) (6/376-377).
الرسالة الثانية: رسالة عباد بن عباد:
قال الدارمي في (سننه) (1/166-169): (باب في رسالة عباد بن عباد الخواص الشامي:
[649]: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ سُلَيْمَانَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَنْطَاكِيُّ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبَّادٍ الْخَوَّاصِ الشَّامِيِّ أَبِي عُتْبَةَ قَالَ:
أَمَّا بَعْدُ، اعْقِلُوا، وَالْعَقْلُ نِعْمَةٌ، فَرُبَّ ذِي عَقْلٍ قَدْ شُغِلَ قَلْبُهُ بِالتَّعَمُّقِ عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ، عَنِ الانْتِفَاعِ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، حَتَّى صَارَ عَنْ ذَلِكَ سَاهِياً.
وَمِنْ فَضْلِ عَقْلِ الْمَرْءِ تَرْكُ النَّظَرِ فِيمَا لا نَظَرَ فِيهِ، حَتَّى لا يَكُونَ فَضْلُ عَقْلِهِ وَبَالاً عَلَيْهِ فِي تَرْكِ مُنَافَسَةِ مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، أَوْ رَجُل شُغِلَ قَلْبُهُ بِبِدْعَةٍ قَلَّدَ فِيهَا دِينَهُ رِجَالاً دُونَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوِ اكْتَفَى بِرَأْيِهِ فِيمَا لا يَرَى الْهُدَى إِلا فِيهَا وَلا يَرَى الضَّلالَةَ إِلا بِتَرْكِهَا، يَزْعُمُ أَنَّهُ أَخَذَهَا مِنَ الْقُرْآنِ وَهُوَ يَدْعُو إِلَى فِرَاقِ الْقُرْآنِ، أَفَمَا كَانَ لِلْقُرْآنِ حَمَلَةٌ قَبْلَهُ وَقَبْلَ أَصْحَابِهِ يَعْمَلُونَ بِمُحْكَمِهِ وَيُؤْمِنُونَ بِمُتَشَابِهِهِ، وَكَانُوا مِنْهُ عَلَى مَنَارٍ كَوَضَحِ الطَّرِيقِ؟! فَكَانَ الْقُرْآنُ إِمَامَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِمَاماً لأَصْحَابِهِ؛ وَكَانَ أَصْحَابُهُ أَئِمَّةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ؛ رِجَالٌ مَعْرُوفُونَ مَنْسُوبُونَ فِي الْبُلْدَانِ، مُتَّفِقُونَ فِي الرَّدِّ عَلَى أَصْحَابِ الأَهْوَاءِ، مَعَ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الاخْتِلافِ.
وَتَسَكَّعَ أَصْحَابُ الأَهْوَاءِ بِرَأْيِهِمْ فِي سُبُلٍ مُخْتَلِفَةٍ جَائِرَةٍ عَنِ الْقَصْدِ مُفَارِقَةٍ لِلصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، فَتَوَّهَتْ بِهِمْ أَدِلّاؤُهُمْ فِي مَهَامِهَ مُضِلَّةٍ، فَأَمْعَنُوا فِيهَا مُتَعَسِّفِينَ فِي تِيهِهِمْ، كُلَّمَا أَحْدَثَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ بِدْعَةً فِي ضَلالَتِهِمُ انْتَقَلُوا مِنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، لأَنَّهُمْ لَمْ يَطْلُبُوا أَثَرَ السَّالِفِينَ، وَلَمْ يَقْتَدُوا بِالْمُهَاجِرِينَ.
وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لِزِيَادٍ: (هَلْ تَدْرِي مَا يَهْدِمُ الْإِسْلامَ؟ زَلَّةُ عَالِمٍ وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ).
اتَّقُوا اللَّهَ وَمَا حَدَثَ فِي قُرَّائِكُمْ وَأَهْلِ مَسَاجِدِكُمْ مِنَ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْمَشْيِ بَيْنَ النَّاسِ بِوَجْهَيْنِ وَلِسَانَيْن؛، وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ مَنْ كَانَ ذَا وَجْهَيْنِ فِي الدُّنْيَا كَانَ ذَا وَجْهَيْنِ فِي النَّارِ.
يَلْقَاكَ صَاحِبُ الْغِيبَةِ فَيَغْتَابُ عِنْدَكَ مَنْ يَرَى أَنَّكَ تُحِبُّ غِيبَتَهُ، وَيُخَالِفُكَ إِلَى صَاحِبِكَ فَيَأْتِيهِ عَنْكَ بِمِثْلِهِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ أَصَابَ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا حَاجَتَهُ، وَخَفِيَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا مَا أتى بِهِ عِنْدَ صَاحِبِهِ؛ حُضُورُهُ عِنْدَ مَنْ حَضَرَهُ حُضُورُ الإِخْوَان،ِ وَغَيْبَتُهُ عَلَى مَنْ غَابَ عَنْهُ غَيْبَةُ الأَعْدَاءِ؛ مَنْ حَضَرَ مِنْهُمْ كَانَتْ لَهُ الأَثَرَةُ، وَمَنْ غَابَ مِنْهُمْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حُرْمَةٌ، يَفْتِنُ مَنْ حَضَرَهُ بِالتَّزْكِيَةِ، وَيَغْتَابُ مَنْ غَابَ عَنْهُ بِالْغِيبَةِ، فَيَا لَعِبَادَ اللَّهِ أَمَا فِي الْقَوْمِ مِنْ رَشِيدٍ وَلا مُصْلِحٍ يَقْمَعُ هَذَا عَنْ مَكِيدَتِهِ وَيَرُدُّهُ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ؟
بَلْ عَرَفَ هَوَاهُمْ فِيمَا مَشَى بِهِ إِلَيْهِمْ، فَاسْتَمْكَنَ مِنْهُمْ، وَأَمْكَنُوهُ مِنْ حَاجَتِهِ، فَأَكَلَ بِدِينِهِ مَعَ أَدْيَانِهِمْ؛ فَاللَّهَ اللَّهَ ذُبُّوا عَنْ حُرَمِ أَغْيَابِكُمْ وَكُفُّوا أَلْسِنَتَكُمْ عَنْهُمْ إِلا مِنْ خَيْرٍ، وَنَاصِحُوا اللَّهَ فِي أُمَّتِكُمْ إِذْ كُنْتُمْ حَمَلَةَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَإِنَّ الْكِتَابَ لا يَنْطِقُ حَتَّى يُنْطَقَ بِهِ، وَإِنَّ السُّنَّةَ لا تَعْمَلُ حَتَّى يُعْمَلَ بِهَا.
فَمَتَى يَتَعَلَّمُ الْجَاهِلُ إِذَا سَكَتَ الْعَالِمُ فَلَمْ يُنْكِرْ مَا ظَهَرَ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِمَا تُرِكَ؟ (وقد أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران 187].
اتَّقُوا اللَّهَ فَإِنَّكُمْ فِي زَمَانٍ رَقَّ فِيهِ الْوَرَعُ، وَقَلَّ فِيهِ الْخُشُوعُ، وَحَمَلَ الْعِلْمَ مُفْسِدُوهُ، فَأَحَبُّوا أَنْ يُعْرَفُوا بِحَمْلِهِ، وَكَرِهُوا أَنْ يُعْرَفُوا بِإِضَاعَتِهِ، فَنَطَقُوا فِيهِ بِالْهَوَى لِما أَدْخَلُوا فِيهِ مِنَ الْخَطَإِ، وَحَرَّفُوا الْكَلِمَ عَمَّا تَرَكُوا مِنَ الْحَقِّ إِلَى مَا عَمِلُوا بِهِ مِنْ بَاطِلٍ، فَذُنُوبُهُمْ ذُنُوبٌ لا يُسْتَغْفَرُ مِنْهَا، وَتَقْصِيرُهُمْ تَقْصِيرٌ لا يُعْتَرَفُ بِهِ، كَيْفَ يَهْتَدِي الْمُسْتَدِلُّ الْمُسْتَرْشِدُ إِذَا كَانَ الدَّلِيلُ حَائِرًا؟ أَحَبُّوا الدُّنْيَا وَكَرِهُوا مَنْزِلَةَ أَهْلِهَا فَشَارَكُوهُمْ فِي الْعَيْشِ وَزَايَلُوهُمْ بِالْقَوْلِ، وَدَافَعُوا بِالْقَوْلِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَنْ يُنْسَبُوا إِلَى عَمَلِهِمْ، فَلَمْ يَتَبَرَّءُوا مِمَّا انْتَفَوْا مِنْهُ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِيمَا نَسَبُوا إِلَيْهِ أَنْفُسَهُمْ، لأَنَّ الْعَامِلَ بِالْحَقِّ مُتَكَلِّمٌ وَإِنْ سَكَتَ؛ وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ إِنِّي لَسْتُ كُلَّ كَلامِ الْحَكِيمِ أَتَقَبَّلُ، وَلَكِنِّي أَنْظُرُ إِلَى هَمِّهِ وَهَوَاهُ، فَإِنْ كَانَ هَمُّهُ وَهَوَاهُ لِي جَعَلْتُ صَمْتَهُ حَمْداً وَوَقَاراً لِي، وَإِنْ لَمْ يَتَكَلَّمْ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً) [الجمعة 5] كُتُبًا؛ وقال: (خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ) [البقرة 63]؛ قَالَ: الْعَمَلُ بِمَا فِيهِ.
وَلا تَكْتَفُوا مِنَ السُّنَّةِ بِانْتِحَالِهَا بِالْقَوْلِ دُونَ الْعَمَلِ بِهَا، فَإِنَّ انْتِحَالَ السُّنَّةِ دُونَ الْعَمَلِ بِهَا كَذِبٌ بِالْقَوْلِ مَعَ إِضَاعَةِ الْعَمَلِ، وَلا تَعِيبُوا بِالْبِدَعِ تَزَيُّنًا بِعَيْبِهَا، فَإِنَّ فَسَادَ أَهْلِ الْبِدَعِ لَيْسَ بِزَائِدٍ فِي صَلَاحِكُمْ، وَلا تَعِيبُوهَا بَغْيًا عَلَى أَهْلِهَا، فَإِنَّ الْبَغْيَ مِنْ فَسَادِ أَنْفُسِكُمْ؛ وَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلطَّبِيبِ أَنْ يُدَاوِيَ الْمَرْضَى بِمَا يُبَرِّئُهُمْ وَيُمْرِضُهُ، فَإِنَّهُ إِذَا مَرِضَ اشْتَغَلَ بِمَرَضِهِ عَنْ مُدَاوَاتِهِمْ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَمِسَ لِنَفْسِهِ الصِّحَّةَ لِيَقْوَى بِهِ عَلَى عِلاجِ الْمَرْضَى.
فَلْيَكُنْ أَمْرُكُمْ فِيمَا تُنْكِرُونَ عَلَى إِخْوَانِكُمْ نَظَراً مِنْكُمْ لِأَنْفُسِكُمْ، وَنَصِيحَةً مِنْكُمْ لِرَبِّكُمْ، وَشَفَقَةً مِنْكُمْ عَلَى إِخْوَانِكُمْ، وَأَنْ تَكُونُوا مَعَ ذَلِكَ بِعُيُوبِ أَنْفُسِكُمْ أَعْنَى مِنْكُمْ بِعُيُوبِ غَيْرِكُمْ، وَأَنْ يَسْتَطْعِمَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً النَّصِيحَةَ، وَأَنْ يَحْظَى عِنْدَكُمْ مَنْ بَذَلَهَا لَكُمْ وَقَبِلَهَا مِنْكُمْ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّه عَنْه: (رَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَهْدَى إِلَيَّ عُيُوبِي).
تُحِبُّونَ أَنْ تَقُولُوا فَيُحْتَمَلَ لَكُمْ، وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ مِثْلُ الَّذِي قُلْتُمْ غَضِبْتُمْ.
تَجِدُونَ عَلَى النَّاسِ فِيمَا تُنْكِرُونَ مِنْ أُمُورِهِمْ، وَتَأْتُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فَلا تُحِبُّونَ أَنْ يُوجَدَ [في بعض النسخ: يؤحذ] عَلَيْكُم.
اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ وَرَأْيَ أَهْلِ زَمَانِكُمْ؛ وَتَثَبَّتُوا قَبْلَ أَنْ تَكَلَّمُوا؛ وَتَعَلَّمُوا قَبْلَ أَنْ تَعْمَلُوا، فَإِنَّهُ يَأْتِي زَمَانٌ يَشْتَبِهُ فِيهِ الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ، وَيَكُونُ الْمَعْرُوفُ فِيهِ مُنْكَراً، وَالْمُنْكَرُ فِيهِ مَعْرُوفاً؛ فَكَمْ مِنْ مُتَقَرِّبٍ إِلَى اللَّهِ بِمَا يُبَاعِدُهُ، وَمُتَحَبِّبٍ إِلَيْهِ بِمَا يُغْضِبُهُ عَلَيْه،ِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) الآيَةَ [فاطر 8].
فَعَلَيْكُمْ بِالْوُقُوفِ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ حَتَّى يَبْرُزَ لَكُمْ وَاضِحُ الْحَقِّ بِالْبَيِّنَةِ، فَإِنَّ الدَّاخِلَ فِيمَا لا يَعْلَمُ بِغَيْرِ عِلْمٍ آثِمٌ، وَمَنْ نَظَرَ لِلَّهِ نَظَرَ اللَّهُ لَهُ.
عَلَيْكُمْ بِالْقُرْآنِ فَأْتَمُّوا بِهِ وَأُمُّوا بِهِ، وَعَلَيْكُمْ بِطَلَبِ أَثَرِ الْمَاضِينَ فِيهِ.
وَلَوْ أَنَّ الأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ لَمْ يَتَّقُوا زَوَالَ مَرَاتِبِهِمْ وَفَسَادَ مَنْزِلَتِهِمْ بِإِقَامَةِ الْكِتَابِ وَتِبْيَانِهِ مَا حَرَّفُوهُ وَلا كَتَمُوهُ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا خَالَفُوا الْكِتَابَ بِأَعْمَالِهِمُ الْتَمَسُوا أَنْ يَخْدَعُوا قَوْمَهُمْ عَمَّا صَنَعُوا، مَخَافَةَ أَنْ تَفْسُدَ مَنَازِلُهُمْ وَأَنْ يَتَبَيَّنَ لِلنَّاسِ فَسَادُهُمْ، فَحَرَّفُوا الْكِتَابَ بِالتَّفْسِيرِ، وَمَا لَمْ يَسْتَطِيعُوا تَحْرِيفَهُ كَتَمُوهُ، فَسَكَتُوا عَنْ صَنِيعِ أَنْفُسِهِمْ إِبْقَاءً عَلَى مَنَازِلِهِمْ، وَسَكَتُوا عَمَّا صَنَعَ قَوْمُهُمْ مُصَانَعَةً لَهُمْ، وقد (أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران 187]؛ بَلْ مَالَئُوا عَلَيْهِ وَرَقَّقُوا لَهُمْ فِيهِ).
وقد (أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران 187].
وروى هذه الرسالة مختصرةً أبو نعيم في (الحلية) (8/282).
فائدة: قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) (6/83): (عباد بن عباد أبو عتبة الخواص، من أهل فارس، سكن الشام، وهو الأرسوفي، من العباد، روى عن يحيى بن أبى عمرو السيباني ويونس بن عبيد؛ روى عنه ضمرة ورواد بن الجراح وأبو مسهر، سمعت أبي يقول ذلك؛ أنا يعقوب بن إسحاق فيما كتب إلي قال: أنا عثمان بن سعيد قال: قلت ليحيى بن معين: عباد بن عباد؟ فقال: عباد الخواص الذي كان ينزل الرملة ثقة)؛ انتهى؛ واشتهر عباد هذا بأبي عبيدة، وإنما هو أبو عتبة.(2/204)