المُهَذَّبُ
في حَقِّ المسْلِمِ علَى المسْلِمِ
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
(( حقوق الطبع لكل مسلم ))
(( الطبعة الأولى ))
1430 هـ - 2009 م
ماليزيا
(( بهانج - دار المعمور ))(/)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، القائل " لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ " (1)
وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإن المسلم يؤمن بما لأخيه المسلم من حقوق تجب له عليه،فليتزم بها ويؤديها لأخيه المسلم،وهو يعتقدُ أنها عبادة لله تعالى،وقربة يتقرب بها إليه سبحانه وتعالى،إذ هذه الحقوق أوجبها الله تعالى على المسلم ليقوم بها نحو أخيه المسلم،ففعلها إذاً طاعةٌ لله،وقربة له بلا ريب، قال أبو عبد الرحمن السلمي :
" وَمِنْ آدَابِ الْعِشْرَةِ مَعَ السُّوقِيِّ وَالتُّجَّارِ:أَنْ لَا تُخْلِفَ وَعَدَكَ مَعَهُمْ،وَتَعْذِرَهُمْ فِي إِخْلَافِهِمْ مَوَاعِيدَهُمْ،وَتَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُمُ الْخُرُوجُ مِنْ حَقِّكَ إِلَّا فِي الْوَقْتِ الَّذِي قَضَى اللَّهُ تَيْسِيرَهُ عَلَيْهِ،وَتَعْلَمَ فِي وَقْتِ جُلُوسِكَ عَلَى الْحَانُوتِ أَنَّكَ مَا تَرَكْتَ مِنَ الدُّنْيَا وَطَلَبِهَا إِلَّا وَقَدْ عَلِمْتَهُ.وَتَعْذِرَ إِخْوَانَكَ فِي الْقُعُودِ عَلَى الْحَانُوتِ،وَتَقُولَ:لَعَلَّهُ مَدْيُونٌ يَسْعَى فِي قَضَاءِ دَيْنِهِ،أَوْ يَجْتَهِدُ فِي طَلَبِ الْقُوتِ لِعِيَالِهِ،أَوْ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ ضَعِيفَيْنِ،فَتَرَى فِي قُعُودِكَ عَلَى الْحَانُوتِ عَيْبَكَ،وَتَرَى فِيهِ عُذْرَ أَخِيكَ.وَمَنْ جَاءَكَ يَشْتَرِي مِنْكَ شَيْئًا فَاعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكَ،وَلَا تَشْتَرِيَنَّ بَيْعَكَ مَعَهُ بِيَمِينٍ،وَلَا بِكَذِبٍ،وَلَا بِخِيَانَةٍ،وَلَا بِهَذِهِ الصُّرُوفِ الْمُحَرَّمَةِ لِتُحَرِّمَ عَلَى نَفْسِكَ رِزْقًا سَاقَهُ إِلَيْكَ حَلَالًا.وَإِذَا رَبِحْتَ فَاحْمَدِ اللَّهَ،وَإِذَا رَبِحَ أَخُوكَ وَبَاعَ شَيْئًا تَفْرَحُ بِذَلِكَ كَفَرَحِكَ بِبَيْعِكَ وَرِبْحِكَ،فَإِنَّهُ:رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ:" لَا يَجِدُ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"وَإِذَا أَخَذْتَ الْمِيزَانَ بِيَدِكَ فَاذْكُرْ مِيزَانَ الْعَدْلِ وَالْقِسْطِ الَّذِي عَلَيْكَ،وَاحْذَرِ التَّطْفِيفَ؛فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ وَأَنْظِرْ مِنْ غُرَمَائِكَ مَنْ كَانَ مُعْسِرًا،فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ:وَإِنْ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (13) وصحيح مسلم- المكنز - (179 ) عن أنس(1/1)
كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَتَعْلَمُ أَنَّ الْمُعْسِرَ فِي أَمَانِ اللَّهِ وَمُهْلَتِهِ،وَأَقَلُّ مَا يَسْتَقِيلُكَ فِي بُيُوعِكَ.فَإِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" مِنْ أَقَالَ نَادِمًا بَيْعَةً أَقَالَهُ اللَّهَ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"فَإِذَا وزِنَتْ لِأَخِيكَ فَأَرْجِحْ،فَإِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِوَزَّانٍ:يَزِنُ لِصَاحِبِ حَقٍّ:" زِنْ وَأَرْجِحْ"فَإِنْ وزِنْتَ لِنَفْسِكَ فانْقُصْ،لِتَكُونَ قَدْ تَيَقَّنْتَ فِيهِ وَجْدَ حَلَالٍ،وَاحْذَرِ الْمَطْلَ مَعَ الْمَيْسَرَةِ؛لِأَنْ لَا تَدْخُلَ فِي جُمْلَةِ الظَّالِمِينَ.فَإِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ"وَلَا تَمْدَحْ سِلْعَتَكَ وَتَذِمَّ سِلْعَةَ أَخِيكَ؛فَإِنَّ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ النِّفَاقِ،وَالْزَمْ فِي سُوقِكَ وَتِجَارَتِكَ الْبِرَّ وَالصِّدْقَ؛فَإِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" التُّجَّارُ فُجَّارٌ إِلَّا مَنْ بَرَّ وَصَدَقَ"وَشِبْ بُيُوعَكَ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّدَقَةِ؛فَإِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَفَ فِي السُّوقِ فَقَالَ:" يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ،إِنَّ هَذِهِ الْبُيُوعَ يُخَالِطُهَا الْكَذِبُ وَالْحَلِفُ،فَشُوبُوهَا بِشَيْءٍ مِنَ الصَّدَقَةِ" (1) وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ خُرُوجُكَ إِلَى مَتْجَرِكَ عَلَى نِيَّةٍ " (2)
وهذه الحقوق التي أمر الإسلام بها إما إيجابية وإما سلبية،وقد كتب فيها كثيرا،وممن كتب في حق المسلم على المسلم الإمام الغزالي في الإحياء،فأجاد وأفاد لولا الأحاديث والآثار المنكرة التي أوردها .
وكتب في ذلك بحثاً موجزا الشيخ أبي بكر الجزائري حفظه الله في كتابه القيم منهاج المسلم . وقد أوصلها إلى اثنين وعشرين حقًّا (3) .
ويوجد مفردات منها على النت هنا وهناك،ولكني لم أجد كتاباً يجمعها ، ويشفي الغليل - بحدود اطلاعي-
ومن ثم فقد قمت بجمعها من القرآن والسنة وترتيبها،وفيها شيء من التداخل،وهي على الشكل التالي :
الحق الأول= يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه
الحق الثاني=لا يؤذي أحداً من المسلمين بفعل ولا قول
الحق الثالث=يتواضع لكل مسلم
__________
(1) - هذه الأحاديث التي استدل بها السلمي رحمه الله جلها صحيحة وحسنة
(2) - آدَابُ الصُّحْبَةِ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ (67 )
(3) - انظر منهاج المسلم ص 83- 89(1/2)
الحق الرابع=لا ينم له ولا عليه ولا يغتابه
الحق الخامس=لا يزيد في الهجر لمن يعرفه على ثلاثة أيام
الحق السادس=يحسن إلى كل من قدر عليه منهم ما استطاع
الحق السابع=لا يدخل على أحد منهم إلا بإذنه
الحق الثامن=يخالق الناس بخلق حسن ويعاملهم بحسب طريقته
الحق التاسع=يوقر المشايخ ويرحم الصبيان
الحق العاشر=يكون مع كافة الخلق مستبشراً طلق الوجه رفيقا
الحق الحادي عشر=لا يعد مسلماً بوعد إلا ويفي به
الحق الثاني عشر=ينصف الناس من نفسه ولا يأتي إليهم إلا بما يحب أن يؤتى إليه
الحق الثالث عشر=ينزل الناس منازلهم
الحق الرابع عشر=يصلح ذات البين بين المسلمين
الحق الخامس عشر=يستر عورات المسلمين كلهم
الحق السادس عشر=يتقي مواضع التهم ...
السابع عشر=يشفع لكل من له حاجة من المسلمين إلى من له عنده منزلة ...
الحق الثامن عشر=يبدأ كل مسلم منهم بالسلام قبل الكلام ويصافحه عند السلام
الحق التاسع عشر=الأخذ بالركاب في توقير العلماء
الحق العشرون=القيام له على سبيل الإكرام
الحق الحادي والعشرون=المحافظة على نفس أخيه وعرضه وماله ...
الحق الثاني والعشرون=تشميته إذا عطس
الحق الثالث والعشرين=إذا بلي بذي شر فينبغي أن يتحمله ويتقيه ...
الحق الثالث والعشرون=يجتنب مخالطة الأغنياء ويختلط بالمساكين ويحسن إلى الأيتام
الحق الخامس والعشرون=النصيحة لكل مسلم والجهد في إدخال السرور على قلبه
الحقُّ السادس والعشرون=يجيب دعوته
الحقُّ السابع والعشرون=تبرُّ قسمه(1/3)
الحقُّ الثامن والعشرون=إذا استنصرك فانصره
الحقُّ التاسع والعشرون=الدعاء له بالخير حيًّا وميتا حاضراً وغائباً ...
الحقُّ الثلاثون=قضاء حاجة أهله إذا غاب
الحق الواحد والثلاثون=عدم التجسس عليه
الحق الثاني والثلاثون=لا يخطب على خطبة أخيه,ولا يبع على بيعته ...
الحق الثالث والثلاثون=أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ...
الحق الرابع والثلاثون=لا تظلمه بقول أو فعل
الحق الخامس والثلاثون=لا تخذلُه ولا تُسْلِمه
الحق السادس والثلاثون=يعود مرضاهم
الحق السابع والثلاثون=يشيع جنائزهم
الحق الثامن والثلاثون=يزور قبورهم
الحق التاسع والثلاثون=لا يحسده ولا يغدر به ولا يغشه
الحق الأربعون=يؤثره على نفسه
الحق الواحد والأربعون=إكرام الضيف
الحق الثاني والأربعون=لا يرد سائلاً
هذا وقد ذكرت الآيات القرآنية المتعلقة بكل حق مع شرحها بشكل مختصر في الأغلب ، وذكرت كثيرا من الأحاديث المتعلقة بكل حق مع تخريجها والحكم المناسب عليها وشرح غريبها،وقمت بتفصيل كثير من الأحكام الشرعية المتعلقة بهذه الحقوق سواء أكانت إيجابية أم سلبية،وبينت كثيراً من منافع الحقوق الإيجابية ومضار السلبية .
ولم أتعرض للحقوق الخاصة،فقد ذكرتها في كتابي (( المهذب في الآداب الإسلامية )).
والباب مفتوح لمن أراد الزيادة .
أرجو الله تعالى أن ينفع به كاتبه وقارئه وناشره والدال عليه في الدارين آمين .(1/4)
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات
جمعه وأعده
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 24 شعبان 1430 هـ الموافق ل 16/8/2009 م
- - - - - - - - - - - - - -(1/5)
الحق الأول
يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ بِاللَّهِ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ. (1)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:لاَ يَبْلُغُ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ. (2)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،أَنَّ نَبِيَّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ،لاَ يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ." (3)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُؤْمِنُ رَجُلٌ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ. (4)
معناه:أَنَّهُ لاَ يتمُّ إيمانُ أحدٍ الإيمانَ التامَّ الكامل،حتَّى يَضُمَّ إلى إسلامه سلامةَ النَّاسِ منه،وإرادةَ الخيرِ لهم،والنُّصْحَ لجميعهم فيما يحاوله معهم. (5)
وعن إِسْمَاعِيلَ،قَالَ:سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ:كُنْتُ جَالِسًا وَرَجُلٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :لا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبُّ لأَخِيهِ الْمُسْلِمِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ".
قَالَ أَنَسٌ:فَخَرَجْتُ أَنَا وَالرَّجُلُ إِلَى السُّوقِ،فَإِذَا سِلْعَةٌ تُبَاعُ فَسَاوَمْتُهُ،فَقَالَ:بِثَلاثِينَ،فَنَظَرَ الرَّجُلُ،فَقَالَ:قَدْ أَخَذْتُهَا بِأَرْبَعِينَ،فَقَالَ صَاحِبُهَا:مَا يَحْمِلُكَ عَلَى هَذَا وَأَنَا أُعْطِيكَهَا بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا،ثُمَّ نَظَرَ أَيْضًا،فَقَالَ:قَدْ أَخَذْتُهَا بِخَمْسِينَ،فَقَالَ صَاحِبُهَا:مَا يَحْمِلُكَ عَلَى هَذَا وَأَنَا
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 532)(13146) 13178- صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (13) وصحيح مسلم- المكنز - (180) وصحيح ابن حبان - (1 / 470) (234)
(3) - صحيح ابن حبان - (1 / 471) (235) صحيح
(4) - مسند الشاميين 360 - (4 / 38)(2670) صحيح لغيره
(5) - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - (1 / 140)(1/6)
أُعْطِيكَهَا بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا،قَالَ:إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:لا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"وَأَنَا أَرَى أَنَّهُ صَالِحٌ بِخَمْسِينَ. (1)
وعَنْ قَتَادَةَ،أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ،وَلَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ " (2)
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ». (3)
وعَنْ أَبِي مُوسَى،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا.وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ (4) .
وعَنْ بَشِيرِ بن سَعْدٍ،صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَنْزِلَةُ الْمُؤْمِنِ مِنَ الْمُؤْمِنِ،مَنْزِلَةُ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ،مَتَى مَا اشْتَكَى الْجَسَدُ اشْتَكَى لَهُ الرَّأْسُ،وَمَتَى مَا اشْتَكَى الرَّأْسُ اشْتَكَى سَائِرُ الْجَسَدِ." (5)
إنَّ الموصوفَ بالإيمانِ الكامل:مَنْ كان في معاملته للناس ناصحًا لهم،مريدًا لهم ما يريده لنفسه،وكارهًا لهم ما يكرهه لنفسه،،ويتضمَّنُ أن يفضِّلهم على نفسه؛لأنَّ كلَّ أحد يُحِبُّ أن يكونَ أفضَلَ من غيره،فإذا أحَبَّ لغيره ما يحبُّ لنفسه،فقد أَحَبَّ أن يكونَ غيره أفضَلَ منه؛وإلى هذا المعنى أشار الفُضَيْلُ بنُ عِيَاض ـ رحمه الله ـ لمَّا قال لسفيانَ بنِ عُيَيْنة:إنْ كنتَ تريدُ أن يكون الناسُ مثلَكَ،فما أدَّيْتَ للهِ الكريمِ النصيحة،فكيف وأنتَ تُوَدُّ أنَّهم دونك؟!. (6)
__________
(1) - مسند البزار ( المطبوع باسم البحر الزخار -(14 / 81)(7548) وكشف الأستار - (1 / 52) (68) صحيح
(2) - مُعْجَمُ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ (1014) صحيح
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (6751 )
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (481) وصحيح مسلم- المكنز - (6750 ) وصحيح ابن حبان - (1 / 467)(231)
(5) - المعجم الكبير للطبراني - (2 / 28) (1208) ضعيف
(6) - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - (1 / 143) وشرح ابن بطال - (1 / 41)(1/7)
ففي هذه الحديث نفيُ كمال الإيمان الواجب عن المسلم حتى يحبَّ لأخيه المسلم ما يُحبُّ لنفسه،وذلك في أمور الدنيا والآخرة،ويدخل في ذلك أن يُعاملَ الناسَ بمثل ما يحبُّ أن يُعاملوه به،فقد جاء في صحيح مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتُدْرِكْهُ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ،وَيَأْتِي إِلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ"" (1)
وقال الله عزَّ وجلَّ: { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) [المطففين:1 - 6] }
المَعْنَى المَقْصُودَ بِالمًطَفِّفِينَ فَقَالَ:هُمُ الذِينَ إِذَا كَانَ المَالُ لِلنَّاسِ،وَأَرَادُوا أَنْ يَكِيلُوا مِنْهُ لأَنْفُسِهِمْ زَادُوا فِي المِكْيَالِ وَالمِيزَانِ،وَاسْتَوْفُوا أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِمْ .وَإِذَا كَانَ المَالُ لَهُمْ وَأَرَادُوا أَنْ يَكِيلُوا مِنْهُ لِلنَّاسِ أَوْ يَزِنُوا لَهُمْ،أَنْقَصُوا مِنْهُ،وَأَعْطَوْهُمْ أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِمْ.أَيَظُنُّ هَؤُلاَءِ أَنَّهُمْ لَنْ يُبْعَثُوا يَوْمَ القِيَامَةِ لِيُحَاسَبُوا أَمَامَ اللهِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ؟ فَهَذِهِ الأفْعَالُ المُنْكَرَةُ لاَ تَصْدُرُ عَمَّنْ يَعْتَقِدُ بِوُجُودِ اللهِ،وَأَنَّ اللهَ سَيَجْمَعُ النَّاسَ يَوْمَ القِيَامَةِ لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ.أَيْ أَلاَ يَعْتَقِدُ هَؤُلاَءِ أَنَّهُمْ سَيُبْعَثُونَ فِي يَوْمٍ عَظِيمِ الهَوْلِ - هُوَ يَوْمُ القِيَامَةِ - لِيُحَاسِبُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ؟..وَفِي هَذَا اليَوْمِ يَخْرُجُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ،وَيَقُومُونَ بَيْنَ يَدِي رَبِّهِمْ حُفَاةً عُرَاةً لِلْعَرْضِ وَالحِسَابِ،وَهُوَ يَوْمٌ شَدِيدُ الهَوْلِ عَلَى الكَافِرِينَ لِمَا يَرَوْنَهُ وَيَنْتَظِرُونَهُ مِنْ عَذَابٍ . (2)
وقال الحافظ ابن رجب:"وحديث أنس يدلُّ على أنَّ المؤمنَ يَسرُّه ما يسرُّ أخاه المؤمن،ويريد لأخيه المؤمن ما يريده لنفسه من الخير،وهذا كلُّه إنَّما يأتي من كمال سلامة الصدر من الغلِّ والغِشِّ والحسد،فإنَّ الحسدَ يقتضي أن يكره الحاسدُ أن يفوقَه أحدٌ في خير،أو يساويه فيه؛ لأنَّه يُحبُّ أن يَمتاز على الناس بفضائله،وينفرد بها عنهم،والإيمان يقتضي خلافَ ذلك،وهو أن يشركه المؤمنون كلُّهم فيما أعطاه الله من الخير،من غير أن ينقص عليه منه شيء،...وفي الجملة فينبغي للمؤمن أن يُحبَّ للمؤمنين ما يُحبُّ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (4882 ) مطولا
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5727)(1/8)
لنفسه،ويكره لهم ما يكره لنفسه،فإن رأى في أخيه المسلم نقصاً في دينه اجتهد في إصلاحه". (1)
ويُستفاد من الحديث،أن يحبَّ المسلمُ لأخيه المسلم ما يحبُّ لنفسه،ويكره له ما يكره لها.والترغيب في ذلك؛ لنفي كمال الإيمان الواجب عنه حتى يكون كذلك.وأنَّ المؤمنين يتفاوتون في الإيمان.والتعبير ب"أخيه"فيه استعطاف للمسلم لأنْ يحصل منه لأخيه ذلك. (2)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - جامع العلوم والحكم (1/306)
(2) - فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين - (1 / 59)
الحديث الثالث عشر(1/9)
الحق الثاني
لا يؤذي أحداً من المسلمين بفعل ولا قول
عنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الزُّبَيْرِ يَقُولُ سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ». (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ،وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ » (2)
وعَنْ أَبِي الْخَيْرِ،أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو،يَقُولُ:إِنَّ رَجُلاً،قَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ ؟ قَالَ:مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ. (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ،وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. (4)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ:قُلْتُ:يَا رَسُولَ اللهِ،أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ:إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ،قَالَ:قُلْتُ:فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ:أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا،وَأَغْلاَهَا ثَمَنًا،قَالَ:فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ،قَالَ:تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ،قُلْتُ:فَإِنْ ضَعُفْتُ عَنْ ذَلِكَ،قَالَ:فَدَعِ الشَّرَّ،فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ." (5)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ،قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَهُ فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ:إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللهِ فَقَالَ:أَيُّ الْعَتَاقَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ:أَنْفَسُهَا قَالَ:أَفَرَأَيْتَ إِنْ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (171 )
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (10 )
(3) - صحيح ابن حبان - (2 / 125) (400) صحيح
(4) - صحيح ابن حبان - (1 / 406)(180) صحيح
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (2518) وصحيح مسلم- المكنز - (260 ) وصحيح ابن حبان - (10 / 456)(4596)(1/10)
لَمْ أَجِدْ ؟ قَالَ:فَتُعِينُ الصَّانِعَ،أَوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ قَالَ:أَفَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ أَسْتَطِعْ ؟ قَالَ:فَدَعِ النَّاسَ مِنْ شَرِّكَ،فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَّدَّقُ بِهَا عَنْ نَفْسِكَ." (1)
وعَنْ أبِي مُوسَى،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ.فَقالوا: يَانَبِيَّ الله،فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ؟ قال:يَعْمَلُ بِيَدِهِ،فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وًيتَصَدَّقُ.قالوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ؟ قال:يعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوفَ.قالوا: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ؟ قال:فَلْيَعْمَل بِالْمَعْرُوفِ،وَلْيُمْسِكْ عَنِ الشَّرِّ ،فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ." (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَجُلاً،أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ:الإِِيمَانُ بِاللَّهِ،وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ قَالَ:فَإِنْ لَمْ أَسْتَطِعْ ذَلِكَ ؟ قَالَ:تُعِينُ ضَائِعًا،أَوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ قَالَ:فَإِنْ لَمْ أَسْتَطِعْ ذَلِكَ ؟ قَالَ:احْبِسْ نَفْسَكَ عَنِ الشَّرِّ،فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ." (3)
وعَنْ جَابِرٍ،أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :يَقُولُ:" أَفْضَلُ الْمُسْلِمِينَ إِسْلَامًا مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ" (4)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" إِنَّ أَفْضَلَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ " (5)
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عَمْرٍو،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُسْلِمُ؟"قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ،قَالَ:"مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ"،قَالُوا: فَمَنِ الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ:"مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ"،قَالُوا: فَمَنِ الْمُهَاجِرُ؟ قَالَ:"مَنْ هَجَرَ السَّوْءَ فَاجْتَنَبَهُ". (6) د
وعَنْ عَمْرِو بْنِ عَنْبَسَةَ،قَالَ:" قَالَ رَجُلٌ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،مَا الْإِسْلَامُ ؟ قَالَ:أَنْ يُسْلِمَ قَلْبُكَ لِلَّهِ،وَيَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِكَ وَيَدِكَ " (7)
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 190)(21449) 21780- صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (1445 ) وصحيح مسلم- المكنز - (2380)
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 796) (10878) 10891- صحيح
(4) - مُعْجَمُ ابْنِ الْمُقْرِئِ (723 ) صحيح
(5) - مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ (365 ) صحيح لغيره
(6) - المعجم الأوسط للطبراني - (237و3316 ) حسن
(7) - مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ (366 ) صحيح(1/11)
وعَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ،عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ:"أَسْلِمْ تَسْلَمْ ".قَالَ: وَمَا الْإِسْلَامُ ؟ قَالَ:"يُسْلِمُ قَلْبُكَ لِلَّهِ،وَيَسْلُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِكَ وَيَدِكَ ".قَالَ: فَأَيُّ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ:"الْإِيمَانُ ".قَالَ: فَمَا الْإِيمَانُ ؟ قَالَ:"تُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ،وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ،وَبِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ ".قَالَ: فَأَيُّ الْإِيمَانِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ:"الْهِجْرَةُ ".قَالَ: وَمَا الْهِجْرَةُ ؟ قَالَ:"أَنْ تَهْجُرَ السُّوءَ ".قَالَ: فَأَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ:"الْجِهَادُ ".قَالَ: وَمَا الْجِهَادُ ؟ قَالَ:"أَنْ تُجَاهِدَ"أَوْ قَالَ:"تُقَاتِلَ الْكُفَّارَ إِذَا لَقِيتَهُمْ ".وَفِي رِوَايَةِ قَالَ:"تُقَاتِلَ الْعَدُوَّ إِذَا لَقِيتَهُمْ،وَلَا تَغُلَّ وَلَا تَجْبُنْ".،وَفِي رِوَايَةِ:"ثُمَّ لَا تَغُلَّ وَلَا تَجْبُنْ"وَزَادَ،ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"ثُمَّ عَمَلَانِ هُمَا مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ إِلَّا مَنْ عَمِلَ عَمَلًا بِمِثْلِهِمَا - وَقَالَ بِإِصْبَعَيْهِ هَكَذَا السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى - حَجَّةٌ مَبْرُورَةٌ أَوْ عُمْرَةٌ مَبْرُورَةٌ " (1)
قَالَ الْحَلِيمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: فَأَبَانَ هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ الْإِسْلَامَ الَّذِي أَخْبَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ هُوَ الدِّينُ عِنْدَهُ بِقَوْلِهِ: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ } [آل عمران: 19]،وَقَوْلِهِ { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [آل عمران: 85]،وَقَوْلِهِ { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ،وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي،وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } [المائدة: 3] يَنْتَظِمُ الِاعْتِقَادَ وَالْأَعْمَالَ الظَّاهِرَةَ لِأَنَّ قَوْلَهُ:"الْإِسْلَامُ أَنْ يُسْلِمَ قَلْبُكَ لِلَّهِ"إِشَارَةٌ إِلَى تَصْحِيحِ الِاعْتِقَادِ،وَقَوْلَهُ:"أَنْ يَسْلَمَ المؤمنون مِنْ لِسَانِكَ وَيَدِكَ"إِشَارَةٌ إِلَى تَصْحِيحِ الْمُعَامَلَاتِ الظَّاهِرَةِ،ثُمَّ صَرَّحَ بِذَلِكَ،فَأَخْبَرَ أَنَّ الْإِيمَانَ أَفْضَلُ الْإِسْلَامِ،وَفَسِّرْهُ بِأَنَّهُ الْإِيمَانُ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْبَعْثِ،أَرَادَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِالْغَيْبِ أَفْضَلُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَا يُشَاهَدُ وَيُرَى،وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } [البقرة: 3] مَدْحًا لَهُمْ وَثَنَاءً عَلَيْهِمْ،ثُمَّ أَبَانَ أَنَّ الِاعْتِقَادَ وَعَامَّةَ الْأَعْمَالِ إِيمَانُ،فَقَالَ:"أَفْضَلُ الْإِيمَانِ الْهِجْرَةُ "،ثُمَّ فَرْعُ الْهِجْرَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الطَّاعَاتِ كُلَّهَا إِيمَانٌ كَمَا هِيَ إِسْلَامٌ،وَأَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْإِذْعَانُ لِلَّهِ
__________
(1) - شعب الإيمان - (1 / 120) (22 ) فيه جهالة(1/12)
عَزَّ وَجَلَّ سَوَاءٌ وَقَعَ بِأَمْرٍ بَاطِنٍ،أَوْ بِأَمْرٍ ظَاهِرٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرَانِ مِمَّا رَضِيَ اللهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ أَنْ يَتَقَرَّبُوا بِهِ إِلَيْهِ " (1)
وعن يزيد بن شجرة قال:كَانَ يَزِيدُ بْنُ شَجَرَةَ رَجُلًا مِنْ رَهَاءَ،وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى الْجُيُوشِ،فَخَطَبَنَا يَوْمًا فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ،ثُمَّ قَالَ:" أَيُّهَا النَّاسُ،اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ مَا أَحْسَنَ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ،لَوْ تَرَوْنَ مَا أَرَى مِنْ بَيْنِ أَحْمَرَ وَأَصْفَرَ،وَمِنْ كُلِّ لَوْنٍ،وَفِي الرِّجَالِ مَا فِيهَا أَنَّهُ إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ،وَأَبْوَابُ الْجَنَّةَ،وَأَبْوَابُ النَّارِ،وَإِذَا التَقَى الصَّفَّانِ،فُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ،وَأَبْوَابُ الْجَنَّةَ،وَأَبْوَابُ النَّارِ،وَزُيِّنَ الْعِينُ،فَيَطَّلِعْنَ،فَإِذَا أَقْبَلَ أَحَدُكُمْ بِوَجْهِهِ إِلَى الْقِتَالِ قُلْنَ:اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ،اللَّهُمَّ انْصُرْهُ،وَإِذَا أَدْبَرَ احْتَجَبْنَ عَنْهُ وَقُلْنَ:اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ،وَانْتَهِكُوا وُجُوهَ الْقَوْمِ،فِدَاكُمْ أَبِي وَأُمِّي؛فَإِنَّ أَوَّلَ قَطْرَةٍ تَقْطُرُ مِنْ دَمِ أَحَدِكُمْ يَحُطُّ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا الْغُصْنُ مِنْ وَرَقِ الشَّجَرَةِ،وَتَبْتَدِرُهُ اثْنَتَانِ مِنْ حُورِ الْعِينِ،وَيَمْسَحَانِ التُّرَابَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولَانِ:فِدَانَا لَكَ،وَيَقُولُ:أَنَا لَكُمَا،فَيُكْسَى مِائَةَ لَوْ وُضِعَتْ بَيْنَ أُصْبُعَيَّ هَاتَيْنِ لَوَسَعَتَاهُمَا،لَيْسَتْ مِنْ نَسْجِ بَنِي آدَمَ،وَلَكِنَّهُمَا مِنْ ثِيَابِ الْجَنَّةِ؛إِنَّكُمْ مَكْتُوبُونَ عِنْدَ اللَّهِ بِأَسْمَائِكُمْ،وَسِمَاتِكُمْ،وَنَجْوَاكُمْ،وَخِلَالِكُمْ،وَمَحَاسِنِكُمْ،فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قِيلَ:يَا فُلَانُ،هَذَا نُورُكَ،يَا فُلَانُ،لَا نُورَ لَكَ،وَإِنَّ لِجَهَنَّمَ جِبَابًا مِنْ سَاحِلٍ كَسَاحِلِ الْبَحْرِ فِيهِ هَوَامٌّ،حَيَّاتٌ كَالْبَخَاتِيِّ،وَعَقَارِبُ كَالْبِغَالِ الدَّلِّ أَوْ كَالدَّلِّ الْبِغَالِ،فَإِذَا سَأَلَ أَهْلُ النَّارِ التَّخْفِيفَ قِيلَ:اخْرُجُوا إِلَى السَّاحِلِ،فَتَأْخُذُهُمْ تِلْكَ بِشِفَاهِهِمْ وَجُنُوبِهِمْ،وَمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ فَتَكْشِطُهَا،فَيَرْجِعُونَ فَيُنَادَوْنَ إِلَى مُعْظَمِ النَّارِ،وَيُسَلَّطُ عَلَيْهِمُ الْجَرَبُ،حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَحُكُّ جِلْدَهُ،حَتَّى يَبْدُو الْعَظْمُ،فَيُقَالُ:يَا فُلَانُ،هَلْ يُؤْذِيكَ هَذَا ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ،فَيُقَالُ لَهُ:بِمَا كُنْتَ تُؤْذِي الْمُؤْمِنِينَ " (2) ...
__________
(1) - المصدر السابق
(2) - البعث والنشور للبيهقي(548 ) صحيح مرسل
الهوام : جمع هامَّة وهي كل ذات سم يقتل ، وأيضا هي ما يدب من الحيوان وإن لم يقتل كالحشرات(1/13)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:"لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ تُؤْذِي النَّاسَ " (1)
وعَنْ أَبِي بَرْزَةَ،قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ،عَلِّمْنِي شَيْئًا أَنْتَفِعُ بِهِ.قَالَ:"اعْزِلِ الْأَذَى عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ " (2)
وعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ،قَالَ:قُلْتُ:يَا رَسُولَ اللهِ،دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ،أَوْ أَنْتَفِعُ بِهِ ؟ قَالَ:اعْزِلِ الأَذَى عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ. (3)
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ:مَنْ زَحْزَحَ عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا يُؤْذِيهِمْ،كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهِ حَسَنَةً،وَمَنْ كُتِبَ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةٌ،أَدْخَلَهُ اللَّهُ بِهَا الْجَنَّةَ. (4)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:مَا فَرِحْنَا بشَيْء بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَرَحَنَا بِحَدِيثٍ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" إِنَّ الْمُؤْمِنَ يُؤْجَرُ فِي هِدَايَتِهِ:السَّبِيلَ،وَفِي تَعْبِيرِهِ:بِلِسَانِهِ عَنِ الْأَعْجَمِيِّ،وَفِي إِمَاطَةِ الْأَذَىِ عَنِ الطَّرِيقِ،حَتَّى إِنَّهُ لَيُؤْجَرُ فِي السِّلْعَةِ تَكُونُ فِي ثَوْبِهِ،فَيَلْتَمِسُهَا بِيَدِهِ،فَتُخْطِئُهَا فَيَخْفُقُ لَهَا فُؤَادُهُ،فَيُرَدَّ عَلَيْهِ،وَيُكْتَبُ لَهُ أَجْرُهَا " (5)
وعَنْ حَمْزَةَ بْنِ عُبَيْدٍ وَبَكْرٍ الثَّقَفِيُّ قَالا قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :لاَ يَصْلُحُ بِالْمُسْلِمِ أَنْ يَسِيرَ إِلَى أَخِيهِ بِبَصَرِهِ يُؤْذِيهِ أَوْ بِنَظْرَةٍ تُؤْذِيهِ " (6)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى لَيْلَى قَالَ حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهُ فَفَزِعَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا ». (7)
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6837 )
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6839)
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 667)(19791) 20030- صحيح
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 880)(27479) 28027- حسن لغيره
(5) - الْمُعْجَمُ الْأَوْسَطُ لِلطَّبَرَانِيِّ(3665 ) حسن
(6) - بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث - (2 / 774) (775) ضعيف
(7) - سنن أبي داود - المكنز - (5006 ) صحيح(1/14)
وعَنْ أَبِي لَيْلَى الْأَنْصَارِيِّ،قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ فَأَخَذَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ كِنَانَةَ رَجُلٍ،فَغَيَّبُوهَا لِيَمْزَحُوا مَعَهُ،فَطَلَبَهَا الرَّجُلُ،فَفَقَدَهَا،فَرَاعَهُ ذَلِكَ،فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ مِنْهُ،فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ: مَا أَضْحَكَكُمْ ؟ قَالُوا: لَا،وَاللهِ إلَّا أَنَّا أَخَذْنَا كِنَانَةَ فُلَانٍ لِنَمْزَحَ مَعَهُ فَرَاعَهُ ذَلِكَ،فَذَلِكَ الَّذِي أَضْحَكَنَا فَقَالَ:"لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا "
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ ذَكَرَ مَا فَعَلَهُ الرَّجُلُ الْمَذْكُورُ فِيهِ مِنْ أَخْذِ كِنَانَةِ صَاحِبِهِ لِيَرْتَاعَ بِفَقْدِهَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ مُبَاحٌ لَهُ،فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ:"لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا"فَكَانَ قَوْلُهُ ذَلِكَ لَهُ بَعْدَ فِعْلِهِ مَا فَعَلَهُ،مِمَّا هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ فَعَلَهُ نُعَيْمَانُ بِسُوَيْبِطٍ،وَمَا كَانَ فَعَلَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ حُذَافَةَ فِي حَدِيثِ عَلْقَمَةَ الْمُدْلِجِيِّ بِأَصْحَابِهِ لِيَضْحَكُوا مِنْ ذَلِكَ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيثِ أَبِي لَيْلَى لِفَاعِلِ مَا ذَكَرَ فِعْلَهُ إيَّاهُ فِيهِ:"لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا"فَكَانَ ذَلِكَ تَحْرِيمًا مِنْهُ لِمِثْلِ ذَلِكَ،وَنَسْخًا لِمَا كَانَ قَدْ تَقَدَّمَهُ،مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ،مِمَّا تَعَلَّقَ بِهِ مَنْ تَعَلَّقَ مِمَّنْ يَذْهَبُ إلَى إبَاحَةِ مِثْلِهِ،إنْ كَانَ مُبَاحًا حِينَئِذٍ،وَاللهَ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ " (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو،عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،أَنَّهُ قَالَ:قَلِيلُ الْفِقْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرِ الْعِبَادَةِ،وَكَفَى بِالْمَرْءِ فِقْهًا إِذَا عَبَدَ اللَّهَ،وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلا إِذَا عَجِبَ بِرَأْيهِ،إِنَّمَا النَّاسُ رَجُلانِ:مُؤْمِنٌ وَجَاهِلٌ،فَلا تُؤْذِ الْمُؤْمِنَ وَلا تُجَاوِرِ الْجَاهِلَ. (2)
وقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ:"النَّاسُ رَجُلَانِ: مُؤْمِنٌ وَجَاهِلٌ،أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلَا تُؤْذِهِ،وَأَمَّا الْجَاهِلُ فَلَا تُحَاوِرْهُ" (3)
ولا يسبه بغير حقٍّ حيًّا كان أو ميتاً،فعَنْ عَبْدِ اللهِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ،وَقِتَالُهُ كُفْرٌ. (4)
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (4 / 309) (1625 ) صحيح
(2) - الفوائد لتمام 414 - (2 / 310)(1503) ضعيف
(3) - شعب الإيمان - (11 / 40) (8125) حسن مقطوع
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (48 ) وصحيح مسلم- المكنز - (230) و صحيح ابن حبان - (13 / 266) (5939)(1/15)
وليس يريد بقوله:وقتاله كفرٌ - الكفر الذى هو الجحد لله ولرسله، وإنما يريد كفر حق المسلم على المسلم، لأن الله قد جعل المؤمنين إخوةً، وأمر بالإصلاح بينهم ونصرتهم، ونهاهم برسوله، - صلى الله عليه وسلم - ، عن التقاطع، وقال:المؤمن للمؤمن كالبنيان يَشُدُّ بعضه بعضًا -،فنهى عن مقاتلة بعضهم بعضًا، وأخبر أن من فعل ذلك، فقد كفر حق أخيه المسلم. (1)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ،أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:لاَ يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلاً بِالْفِسْقِ،وَلاَ يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ إِلاَّ ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ. (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ:الْمُسْتَبَّانِ مَا،قَالاَ عَلَى الْبَادِئِ،حَتَّى يَعْتَدِيَ الْمَظْلُومُ. (3)
وعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - :إِثْمُ الْمُسْتَبَّيْنِ مَا،قَالاَ عَلَى الْبَادِئِ،حَتَّى يَعْتَدِيَ الْمَظْلُومُ،أَوْ إِلاَّ أَنْ يَعْتَدِيَ الْمَظْلُومُ. (4)
وعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ،أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،أَرَأَيْتَ الرَّجُلَ يَشْتُمُنِي وَهُوَ أَنْقَصُ مِنِّي نَسَبًا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :الْمُسْتَبَّانِ شَيْطَانَانِ،يَتَهَاتَرَانِ وَيَتَكَاذَبَانِ. (5)
وعَنْ مُجَاهِدٍ،قَالَ:قَالَتْ عَائِشَةَ:مَا فَعَلَ يَزِيدُ بْنُ قَيْسٍ عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ ؟ قَالُوا:قَدْ مَاتَ. قَالَتْ:فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ،فَقَالُوا لَهَا:مَا لَكَ لَعَنْتِيهِ،ثُمَّ قُلْتِ:أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ؟ قَالَتْ:إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:لاَ تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ،فَإِنَّهُمْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا. (6)
وعَنْ زِيَادِ بْنِ عِلاَقَةَ،أَنَّهُ سَمِعَ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ،يَقُولُ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :لاَ تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ فَتُؤْذُوا الأَحْيَاءَ. (7)
__________
(1) - شرح ابن بطال - (1 / 99)
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 230)(21571) 21904- صحيح
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 759)(10703) 10714- صحيح
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 9)(17486) 17625- صحيح
(5) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 10)(17489) 17628- صحيح
(6) - صحيح البخارى- المكنز - (1393 ) وصحيح ابن حبان - (7 / 291) (3021)
(7) - صحيح ابن حبان - (7 / 292) (3022) صحيح(1/16)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ يَشْتِمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالَ « نَعَمْ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ ». (1)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، قَالَ:إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ،قَالَ:وَكَيْفَ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ:يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ،وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ. (2)
فسَبُّ الْمُسْلِمِ مَعْصِيَةٌ،وَصَرَّحَ كَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ . قَال النَّوَوِيُّ:يَحْرُمُ سَبُّ الْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ يُجَوِّزُ ذَلِكَ . للحديث المار، وَإِذَا سَبَّ الْمُسْلِمَ فَفِيهِ التَّعْزِيرُ،وَحَكَى بَعْضُهُمُ الاِتِّفَاقَ عَلَيْهِ .قَال الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ:وَالتَّعْرِيضُ كَالسَّبِّ، (3)
قلت:وأشد من ذلك الطعن في الصحابة رضي الله عنهم،قال تعالى:{مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (29) سورة الفتح
وعن أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ التُّسْتَرِيَّ , قال:سَمِعْتُ أَبَا زُرْعَةَ , يَقُولُ:" إِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ يَنْتَقِصُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَاعْلَمْ أَنَّهُ زِنْدِيقٌ , وَذَلِكَ أَنَّ الرَّسُولَ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَنَا حَقٌّ , وَالْقُرْآنَ حَقٌّ , وَإِنَّمَا أَدَّى إِلَيْنَا هَذَا الْقُرْآنَ وَالسُّنَنَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ,
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (273 )
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (273 )
(3) - فتح القدير 4 / 213 ، تبصرة ابن فرحون 2 / 310 ، أسهل المدارك 3 / 192 ، فتح العلي المالك 2 / 347 ، إعانة الطالبين 4 / 283 - 284 ، المغني لابن قدامة 8 / 11 ، 220 ، شرح منتهى الإرادات 3 / 547 ، 361 ، 385 ، التحفة مع حاشيتي الشرواني وابن قاسم 9 / 177 ، الطحطاوي على الدر 2 / 415 ،الموسوعة الفقهية الكويتية - (24 / 141)(1/17)
وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنْ يُجَرِّحُوا شُهُودَنَا لِيُبْطِلُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ , وَالْجَرْحُ بِهِمْ أَوْلَى وَهُمْ زَنَادِقَةٌ " (1)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :لاَ تَسُبُّوا أَصْحَابِي،فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا،مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ،وَلاَ نَصِيفَهُ. (2)
لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي أَنَّهُ يَحْرُمُ سَبُّ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِلحديث السابق .
فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّهُ فَاسِقٌ،وَمِنْهُمْ مَنْ يُكَفِّرُهُ،فَإِنْ وَقَعَ السَّبُّ مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهِ مَذْهَبَانِ :
الأَْوَّل:وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا،قَال بِهِ الْحَنَفِيَّةُ،وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ إِنْ شَتَمَهُمْ بِمَا يَشْتُمُ بِهِ النَّاسُ،وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،وَهُوَ قَوْل الْحَنَابِلَةِ إِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِلًّا،نَقَل عَبْدُ اللَّهِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سُئِل فِيمَنْ شَتَمَ صَحَابِيًّا الْقَتْل ؟ فَقَال:أَجَبْنَ عَنْهُ،وَيُضْرَبُ . مَا أَرَاهُ عَلَى الإِْسْلاَمِ .
الثَّانِي:وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ لِلْحَنَفِيَّةِ،نَقَلَهُ الْبَزَّازِيُّ عَنِ الْخُلاَصَةِ:إِنْ كَانَ السَّبُّ لِلشَّيْخَيْنِ يَكْفُرُ،قَال ابْنُ عَابِدِينَ:إِنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْمُتُونِ،وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ إِنْ قَال فِيهِمْ:كَانُوا عَلَى ضَلاَلٍ وَكُفْرٍ،وَقَصَرَ سَحْنُونٌ الْكُفْرَ عَلَى مَنْ سَبَّ الأَْرْبَعَةَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيًّا،وَهُوَ مُقَابِل الْمُعْتَمَدِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،ضَعَّفَهُ الْقَاضِي وَهُوَ قَوْلٌ لِلْحَنَابِلَةِ إِنْ كَانَ مُسْتَحِلًّا،وَقِيل:وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِل . (3)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - الْكِفَايَةُ فِي عِلْمِ الرِّوَايَةِ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ (104 )
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (3673 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6651 ) وصحيح ابن حبان - (16 / 239) (7253)
(3) - ابن عابدين 4 / 237 ، تبصرة الحكام لابن فرحون 2 / 286 ، معالم السنين 4 / 308 ، الجمل على المنهج 5 / 122 ، القليوبي 4 / 175 ، إعانة الطالبين 4 / 292 ، نهاية المحتاج 7 / 416 ، الإنصاف 10 / 324 ، شرح منتهى الإرادات 3 / 260 ، الفتاوى البزازية 6 / 319 . الموسوعة الفقهية الكويتية - (24 / 140)(1/18)
الحق الثالث
يتواضع لكل مسلم
قال تعالى:{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (18) سورة لقمان
وَلاَ تُعْرِضْ بِوجَهِكَ عَنِ النَّاسِ كِبْراً واسْتِعْلاءً،ولكِنْ أَقبِلْ عَليهِمْ بِوَجْهِكَ كُلِّهِ إذا كَلَّمْتَهُم،مُسْتَبْشِراً مُتَهَلِّلاً مِنْ غير كِبْرٍ وَلاَ عُتُوٍّ،وَلا تَمْشِ في الأَرْضٍِ مُتَبَخْتِراً،مُعْجَباً بِنَفْسِكَ كالجَبَّارِينَ الطُّغَاةِ المُتَكَبِّرِينَ ( مَرَحاً )،بَلِ امْشِ هَوْناً مِشْيَةَ المُتَواضِعِينَ للهِ،فَيُحِبَّكَ اللهُ،ويُحِبَّكَ خَلْقُهُ،واللهُ تَعَالَى لا يُحِبُّ المُعْجَبَ بِنَفْسِهِ ( المُخْتَالَ ) الفَخُورَ عَلى غَيْرِهِ . (1)
وقال تعالى:{.. وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (23) سورة الحديد
وقال تعالى:{لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} (88) سورة الحجر
يُوجِّه الله له الأمر بأنْ يُوجّه طاقة الحنان والمودَّة التي في قلبه إلى مَنْ يستحقها،وهم المؤمنون برسالته - صلى الله عليه وسلم - ؛ وعليه أنْ يخفضَ جناحه للمؤمنين.
فكُلُّ حركة من الإنسان هي نزوع يتحرَّك من بعد وُجدْان،والوُجْدان يُولِّد طاقة داخلية تُهيئ للنزوع وتدفع إليه،فإن حزن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعدم إيمان صناديد قريش برسالته؛ فهذا الحُزْن إنما يخصم ويأخذ من طاقته؛ فيأتيه الأمر من الحق سبحانه أن يُوفِّر طاقته،وأنْ يُوجِّهها لمَنْ آمن به؛ وأن يخفِضَ جناحه لهم.
وخَفْض الجناح هو التواضُع؛ ذلك أن الجناحَ هو الجانب،فحين يأتيك إنسانٌ تريد أنْ تتكبَّر عليه؛ فهو يقول"فلان لَوَى عنِّي جانبه ".
وهكذا يأمر الحق سبحانه رسوله أن يتواضع مع المؤمنين؛ وأنْ يتوجه إليهم لا باستقامة قالبه،بل أن ينزل هذا القالب قليلاً وكلمة: { وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ... } [الحجر: 88]
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 3368)(1/19)
مأخوذة من خَفْض جناح الطائر،فالطائر يرفع جناحه عند الطيران،ولكن ما أنْ يلمسَ هذا الطائر فَرْخَه الصغير حتى يَخفِض جناحه له ليضمه إليه.
إذن: فالطاقة التي كنتَ تُوجِّهها يا رسول الله إلى مَنْ لا يستحق؛ عليك أنْ تُوجِّهها لِمَنْ يستحقها،فيكفيك أن تُبلِّغ الناس جميعاً برسالتك؛ ومَنْ يؤمن منهم هو مَنْ يستحق طاقةَ حنانِك ورحمتك.
وخَفْض الجناح لِمَنْ آمن برسالتك لا يورثه كِبْراً عليك؛ بل يزيده أدباً معك.
وقد جاء في الأثر:"إذا عَزَّ أخوك فَهُنْه"أي: أنك إذا رأيتَ أخاك في وضع يعِزّ عليك،فَهُنْ له أنت.
ومن قبل الإسلام قال الشاعر العربي:
صَفَحْنَا عَنْ بَنِي ذُهْلٍ وقُلْنا القَوْمُ إخْوانُع
َسَى الأيامُ أنْ يَرْجِعْـ ـنَ قَوْماً كَالذِي كَانُوا
فَلمَّا صَرَّح الشَّر فَأَمْسَى وَهْوَ عُرْيَانُ
مَشَيْنَا مِشْيَةَ الليْثِ غَدا والليْثُ غَضْبَان
بِضَرْبٍ فِيهِ تَوْهِينٌ وتَخْضِيعٌ وإقرانُ
وَطَعْنٍ كَفَمِ الزِّقِّ غَدَا والزِّق مَلآنُ
وَفِي الشَّرِّ نَجَاة حِيـ ـينَ لاَ يُنجِيكَ إحسَانُ
وَبعضُ الحلمِ عِنْدَ الجَهـ ـلِ لِلْذلةِ إذْعَانُ
ونجد القرآن حينما يطبع خلق المؤمن بالله وبالمنهج؛ لا يطبعه بطابع واحد يتعامل به مع كل الناس،بل يجعل طَبْعه الخُلقي مطابقاً لموقف الناس منه،فيقول:{ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ }[المائدة: 54].
ويقول أيضاً في وصف المؤمنين:{ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ }[الفتح: 29].
وهكذا لم يطبع المؤمن على الشدة والعزة،بل جعله يتفاعل مع المواقف؛ فالموقف الذي يحتاج إلى الشدة فهو يشتد فيه؛ والموقف الذي يحتاج إلى لِينٍ فهو يلين فيه.
والحكمة الشاعرة تقول:(1/20)
وَوَضْعُ النَّدى في مَوضْعِ السَّيف بالعلي مضر كَوَضْعِ السَّيْفِ فِي مَوْضعِ النَّدَى (1)
وعَنْ عِيَاضَ بْنِ حَمَّارٍ،أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ،وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ " (2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ ». (3)
ثم إن تفاخر عليه غيره فليحتمل،قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (199) سورة الأعراف
اقْبَلْ -أيها النبي أنت وأمتك- الفضل من أخلاق الناس وأعمالهم،ولا تطلب منهم ما يشق عليهم حتى لا ينفروا،وأْمر بكل قول حسن وفِعْلٍ جميل،وأعرض عن منازعة السفهاء ومساواة الجهلة الأغبياء. (4)
وعن يَحْيَى بْنِ عُقَيْلٍ،قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى،يَقُولُ:"كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ الذِّكْرَ،وَيَقِلُّ اللَّغْوَ،وَيُطِيلُ الصَّلَاةَ،وَيُقَصِّرُ الْخُطْبَةَ،وَلَا يَأْنَفُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَ الْأَرْمَلَةِ،وَالْمِسْكِينِ فَيَقْضِيَ حَاجَتَهُ " (5)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:إِنْ كَانَتِ الأَمَةُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَنْطَلِقُ بِهِ فِي حَاجَتِهَا. (6)
والمَقصُود مِنَ الأَخذ بِاليَدِ لازِمُهُ وهُو الرِّفق والانقِياد.وقَد اشتَمَلَ عَلَى أَنواع مِنَ المُبالَغَة فِي التَّواضُع لِذِكرِهِ المَرأَة دُون الرَّجُل،والأَمَة دُون الحُرَّة،وحَيثُ عَمَّمَ بِلَفظِ الإِماء أَيّ أَمَة كانَت.
__________
(1) - تفسير الشعراوي - ( / 1874)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (7389) ومسند البزار ( المطبوع باسم البحر الزخار - (8 / 424)(3495)
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (6757 )
(4) - التفسير الميسر - (3 / 160)
(5) - شعب الإيمان - (10 / 438) (7761 ) حسن
يأنف : يستكبر ويستنكف ويكره - المسكين : الذي لا يملك شيئا أو يملك ما لا يكفيه
(6) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 249)(11941) 11963- صحيح(1/21)
وِقَولِهِ:"حَيثُ شاءَت" أَي مِنَ الأَمكِنَة.والتَّعبِير بِالأَخذِ بِاليَدِ إِشارَة إِلَى غايَة التَّصَرُّف حَتَّى لَو كانَت حاجَتها خارِج المَدِينَة والتَمَسَت مِنهُ مُساعَدَتها فِي تِلكَ الحاجَة عَلَى ذَلِكَ،وهَذا دالّ عَلَى مَزِيد تَواضُعه وبَراءَته مِن جَمِيع أَنواع الكِبر - صلى الله عليه وسلم - .
وقَد ورَدَ فِي ذَمّ الكِبر أَحادِيث،مِن أَصَحّها ما أَخرَجَهُ مُسلِم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ». قَالَ رَجُلٌ إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَالَ « إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ ». (1) والغَمط:هُو الازدِراء والاحتِقار
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ:لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ حَبَّةٌ مِنْ كِبْرٍ فَقَالَ رَجُلٌ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،إِنَّهُ لَيُعْجِبُنِي أَنْ يَكُونَ ثَوْبِي جَدِيدًا،وَرَأْسِي دَهِينًا،وَشِرَاكُ نَعْلِي جَدِيدًا،قَالَ:وَذَكَرَ أَشْيَاءَ حَتَّى ذَكَرَ عَلاقَةَ سَوْطِهِ،فَقَالَ:ذَاكَ جَمَالٌ،وَاللَّهُ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ،وَلَكِنَّ الْكِبْرَ مَنْ بَطِرَ الْحَقَّ وَازْدَرَى النَّاسَ" (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَنْظَلَةَ،أَنَّ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ سَلامٍ،مَرَّ فِي السُّوقِ وَعَلَى رَأْسِهِ حُزْمَةُ حَطَبٍ،فَقَالَ:أَدْفَعُ بِهِ الْكِبْرَ،إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،يَقُولُ:لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ " (3)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى،أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ،يَقُولُ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" مَا عَلَى الْأَرْضِ رَجُلٌ يَمُوتُ وَفِي قَلْبِهِ مِنَ الْكِبْرِ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ إِلَّا جَعَلَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ "،فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيُّ بَكَى،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :" يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ،لِمَ تَبْكِي ؟"قَالَ:مِنْ كَلِمَتِكَ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :" أَبْشِرْ فَإِنَّكَ فِي الْجَنَّةِ"قَالَ:فَبَعَثَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْثًا،فَغَزَا فِيهِمْ شَهِيدًا،فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ،فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ:يَا نَبِيَّ اللَّهِ،إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَتَجَمَّلَ بِحِمَالَةِ سَيْفِي وَبِغَسْلِ ثِيَابِي مِنَ الدَّرَنِ وَبِحُسْنِ الشِّرَاكِ وَالنَّعْلَيْنِ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :" لَيْسَ ذَاكَ أَعْنِي،إِنَّمَا الْكِبْرُ مَنْ سَفِهَ عَنِ الْحَقِّ وَغَمَصَ النَّاسَ "،فَقَالَ:يَا نَبِيَّ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (275 ) البطر : التكبر على الحق فلا يقبله -الغمط : الاحتقار والاستهانة
(2) - المستدرك للحاكم (69) صحيح
(3) - المستدرك للحاكم (5757) حسن(1/22)
اللَّهِ،وَمَا السَّفَهُ عَنِ الْحَقِّ وَغَمْصُ النَّاسِ ؟ قَالَ:" السَّفَهُ عَنِ الْحَقِّ أَنْ يَكُونَ لَكَ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ،فَيُنْكِرُ ذَلِكَ،وَيَزْعُمُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَيَأْمُرُهُ رَجُلٌ بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،فَيَقُولُ:اتَّقِ اللَّهَ يَعْنِي،فَيَقُولُ:لَئِنْ لَمْ أَتَّقِ اللَّهَ حَتَّى تَأْمُرَنِي لَقَدْ هَلَكْتُ،فَذَلِكَ الَّذِي سَفِهَ عَنِ الْحَقِّ،وَسَأَلَهُ عَنْ غَمْصِ النَّاسِ،فَقَالَ:هُوَ الَّذِي يَجِيءُ شَامِخًا بِأَنْفِهِ،فَإِذَا رَأَى ضُعَفَاءَ النَّاسِ وَفُقَرَاءَهُمْ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِمْ،وَلَمْ يَجْلِسْ إِلَيْهِمْ مَحْقَرَةً لَهُمْ،فَذَلِكَ الَّذِي يَغْمِصُ النَّاسَ "،فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :" مَنْ رَفَعَ ثَوْبَهُ،وَخَصَفَ،وَرَكِبَ الْحِمَارَ،وَعَادَ الْمَمْلُوكَ إِذَا مَرِضَ،وَحَلَبَ الشَّاةَ،فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الْعَظَمَةِ" (1)
وعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"مَنْ مَاتَ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ثَلَاثٍ: مِنَ الْكِبْرِ وَالْغُلُولِ وَالدَّيْنِ،دَخَلَ الْجَنَّةَ " (2)
وعَنْ أَبي سَعِيدٍ ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ دَرَجَةً رَفَعَهُ اللَّهُ دَرَجَةً،حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي عِلِّيِّينَ،وَمَنْ تَكَبَّرَ عَلَى اللهِ دَرَجَةً،وَضَعَهُ اللَّهُ دَرَجَةً،حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَسْفَلِ السَّافِلِينَ. (3)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ دَرَجَةً يَرْفَعْهُ اللَّهُ دَرَجَةً،حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ،وَمَنْ يَتَكَبَّرْ عَلَى اللهِ دَرَجَةً يَضَعْهُ اللَّهُ دَرَجَةً حَتَّى يَجْعَلَهُ فِي أَسْفَلِ السَّافِلِينَ،وَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ يَعْمَلُ فِي صَخْرَةٍ صَمَّاءَ لَيْسَ عَلَيْهِ بَابٌ وَلاَ كُوَّةٌ،لَخَرَجَ مَا غَيَّبَهُ لِلنَّاسِ كَائِنًا مَا كَانَ. (4)
__________
(1) - مُسْنَدُ عَبْدِ بْنِ حُمَيدٍ (675 ) فيه جهالة وسكت عليه في فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار المعرفة - (10 / 490)
(2) - شعب الإيمان - (7 / 375) (5151 ) صحيح
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 191)(11724) 11747- حسن
(4) - صحيح ابن حبان - (12 / 491) (5678) حسن
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ دَرَجَةً يُرِيدُ بِهِ مَنْ تَوَاضَعَ لِلْمَخْلُوقِينَ فِي اللهِ ، فَأَضْمَرَ الْخَلْقَ فِيهِ ، وَقَوْلُهُ : وَمَنْ يَتَكَبَّرُ أَرَادَ بِهِ عَلَى خَلْقِ اللهِ فَأَضْمَرَ الْخَلْقَ فِيهِ إِذِ الْمُتَكَبِّرُ عَلَى اللهِ كَافِرٌ بِهِ.(1/23)
وعن مَعْبَدَ بْنِ خَالِدٍ،أَنَّهُ سَمِعَ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ الْخُزَاعِيَّ،قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ،كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ،لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ،وَأَهْلُ النَّارِ كُلُّ مُسْتَكْبِرٍ جَوَّاظٍ. (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" إِيَّاكُمْ وَالْكِبَرَ ; فَإِنَّ الْكِبَرَ يَكُونُ فِي الرَّجُلِ،وَإِنَّ عَلَيْهِ الْعَبَاءَةَ ".رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (2)
وحَكَى ابن بَطّال عَن الطَّبَرِيِّ أَنَّ المُراد بِالكِبرِ فِي هَذِهِ الأَحادِيث الكُفر،بِدَلِيلِ قَوله فِي الأَحادِيث"عَلَى الله"ثُمَّ قالَ:ولا يُنكِر أَن يَكُون مِنَ الكِبر ما هُو استِكبار عَلَى غَير الله تَعالَى ولَكِنَّهُ غَير خارِج عَن مَعنَى ما قُلناهُ؛لأَنَّ مُعتَقِد الكِبر عَلَى رَبّه يَكُون لِخَلقِ الله أَشَدّ استِحقارًا انتَهَى.
والأَمر بِالتَّواضُعِ نَهي عَن الكِبر فَإِنَّهُ ضِدّه،وهُو أَعَمُّ مِنَ الكُفر وغَيره واختُلِفَ فِي تَأوِيل ذَلِكَ فِي حَقّ المُسلِم فَقِيلَ:لا يَدخُل الجَنَّة مَعَ أَوَّل الدّاخِلِينَ،وقِيلَ لا يَدخُلها بِدُونِ مُجازاة،وقِيلَ جَزاؤُهُ أَن لا يَدخُلها ولَكِن قَد يُعفَى عَنهُ،وقِيلَ ورَدَ مَورِد الزَّجر والتَّغلِيظ،وظاهِره غَير مُراد.وقِيلَ مَعناهُ لا يَدخُل الجَنَّة حال دُخُولها وفِي قَلبه كِبر،حَكاهُ الخَطّابِيُّ،واستَضعَفَهُ النَّووِيّ فَأَجادَ لأَنَّ الحَدِيث سِيقَ لِذَمِّ الكِبر وصاحِبه لا لِلإِخبارِ عَن صِفَة دُخُول أَهل الجَنَّة الجَنَّة
قالَ الطِّيبِيُّ:المَقام يَقتَضِي حَمل الكِبر عَلَى مَن يَرتَكِب الباطِل؛لأَنَّ تَحرِير الجَواب إِن كانَ استِعمال الزِّينَة لإِظهارِ نِعمَة الله فَهُو جائِز أَو مُستَحَبّ،وإِن كانَ لِلبَطَرِ المُؤَدِّي إِلَى تَسفِيه الحَقّ وتَحقِير النّاس والصَّدّ عَن سَبِيل الله فَهُو المَذمُوم . (3)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (12 / 492) (5679) صحيح
(2) - المعجم الأوسط للطبراني - (554 ) حسن
(3) - فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار المعرفة - (10 / 490)(1/24)
الحق الرابع
لا ينم له ولا عليه ولا يغتابه
عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ،قَالَ:كَانَ رَجُلٌ يَنْقُلُ الْحَدِيثَ إِلَى السُّلْطَانِ،فَكُنَّا جُلُوسًا مَعَ حُذَيْفَةَ،فَمَرَّ ذَلِكَ الرَّجُلُ،قِيلَ:هُوَ هَذَا،فَقَالَ حُذَيْفَةُ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ. (1)
وعَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ:كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ فَمَرَّ بِنَا رَجُلٌ فَقِيلَ لِحُذَيْفَةَ:إِنَّ هَذَا رَجُلٌ يُبَلِّغُ الأُمَرَاءَ الْحَدِيثَ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :« لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ ». قَالَ سُفْيَانُ:وَالْقَتَّاتُ النَّمَّامُ . (2)
والنمََّّام:هو الذي يرفعُ الأحاديثَ ويُفْشِيها على وجه المفسدة،وإلقاءِ الشرور؛قال ابنُ الأعرابي:"القتّات:هو الذي ينقُلُ عنك ما تحدِّثُهُ وتستكتمُهُ،والقَسَّاسُ:هو الذي يتسمَّعُ عليك ما تحدِّثُ به غيرَهُ،ثُمَّ ينقُلُهُ عنك".وفيه:دليلٌ على أنَّ النميمةَ من الكبائر،وإنما كانت كذلك؛لما يترتَّبُ عليها من المفاسدِ والشرورِ " (3)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ مَرَّ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِحَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ أَوْ مَكَّةَ،فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِى قُبُورِهِمَا،فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - "يُعَذَّبَانِ،وَمَا يُعَذَّبَانِ فِى كَبِيرٍ »،ثُمَّ قَالَ « بَلَى،كَانَ أَحَدُهُمَا لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ،وَكَانَ الآخَرُ يَمْشِى بِالنَّمِيمَةِ ».ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ فَكَسَرَهَا كِسْرَتَيْنِ،فَوَضَعَ عَلَى كُلِّ قَبْرٍ مِنْهُمَا كِسْرَةً.فَقِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا قَالَ « لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ تَيْبَسَا أَوْ إِلَى أَنْ يَيْبَسَا » . (4)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6056 ) وصحيح مسلم- المكنز - (304 ) وصحيح ابن حبان - (13 / 78) (5765)
قتات : القتات: النمام ،وهو الذي ينقل الحديث بين الناس ليوقع بينهم.
(2) - مسند الحميدي - المكنز - (470) صحيح
(3) - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - (2 / 119)
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (216 )(1/25)
وقد نهى الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم - بقوله:{ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) } [القلم:10 - 11]
وَلاَ تُطِعِ المِكْثَارَ مِنَ الحَلْفِ بِاللهِ،الذِي يُكْثِرُ مِنَ الحَلْفِ فِي الحَقِّ وَفِي البَاطِلِ،وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مَهِينٌ وَمَحْتَقَرُ الرّأْيِ .كَثِيرُ الهَمْزِ وَالاغْتِيَابِ وَالطَّعْنِ فِي النَّاسِ،كَثِيرُ السَّعْيِ فِي النَّمِيمَةِ،وَنَقْلِ الأَحَادِيثِ المُؤْذِيَةِ،التِي تَقْطَعُ الأَوَاصِرَ،وَتُسِيءُ إِلَى العَلاَئِقِ بَيْنَ النَّاسِ . (1)
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ عَهْدِ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى يَوْمِنَا هَذَا عَلَى أَنَّ النَّمِيمَةَ مُحَرَّمَةٌ وَلَمْ يَقُل أَحَدٌ بِحِلِّهَا أَوْ جَوَازِهَا .
وَعَدَّهَا الْفُقَهَاءُ مِنَ الْكَبَائِرِ مُطْلَقًا وَإِنْ لَمْ يُقْصَدِ الإِْفْسَادُ بَيْنَ النَّاسِ (2)
ويَجِبُ عَلَى النَّمَّامِ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالنَّدَمِ وَالتَّأَسُّفِ عَلَى فِعْلِهِ لِيَخْرُجَ بِذَلِكَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . (3)
ويَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النَّمِيمَةَ أُمُورٌ (4) :
الأُْولَى:أَنْ لاَ يُصَدِّقَهُ،لأَِنَّ النَّمَّامَ فَاسِقٌ وَهُوَ مَرْدُودُ الشَّهَادَةِ قَال اللَّهُ تَعَالَى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } (سورة الحجرات / 6).
الثَّانِي:أَنْ يَنْهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَيَنْصَحَ لَهُ وَيُقَبِّحَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ،قَال اللَّهُ تَعَالَى:{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (17) سورة لقمان،وَيَذْكُرَ لَهُ قَوْل الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - :" أَلَا أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ ؟ هِيَ النَّمِيمَةُ الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ " (5) ،وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ دَخَل عَلَيْهِ رَجُلٌ فَذَكَرَ لَهُ عَنْ رَجُلٍ شَيْئًا فَقَال لَهُ عُمَرُ:إِنْ شِئْتَ نَظَرْنَا فِي أَمْرِكَ،فَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَأَنْتَ مِنْ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5159)
(2) - ابن عابدين 1 / 378 وكشاف القناع 6 / 420 والقليوبي وعميرة 4 / 369 وحاشية الشرقاوي 1 / 47 ومغني المحتاج 4 / 437، الموسوعة الفقهية الكويتية - (41 / 373)
(3) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (41 / 374)
(4) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (41 / 374)
(5) - صحيح مسلم- المكنز - (6802)(1/26)
أَهْل هَذِهِ الآْيَةِ:{{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (6) سورة الحجرات.وَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَأَنْتَ مِنْ أَهْل الآْيَةِ:{هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ} (11) سورة القلم.وَإِنْ شِئْتَ عَفْوَنَا عَنْكَ،فَقَال الرَّجُل:الْعَفْوَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لاَ أَعُودُ إِلَيْهِ أَبَدًا . (1)
وقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله:"قَبُولُ السِّعَايَةِ أَضَرُّ مِنَ السِّعَايَةِ؛لِأَنَّ السِّعَايَةَ دَلَالَةٌ،وَالْقَبُولُ إِجَازَةٌ،وَلَيْسَ مَنْ دَلَّ عَلَى شَيْءٍ كَمَنْ قَبِلَ وَأَجَازَ.وَالسَّاعِي مَمْقُوتٌ إِذَا كَانَ صَادِقًا لِهَتْكِهِ الْعَوْرَةَ،وَإِضَاعَتِهِ الْحُرْمَةَ.وَمُعَاقَبٌ إِنْ كَانَ كَاذِبًا؛لِمُبَارَزَتِهِ اللَّهَ بِقَوْلِ الْبُهْتَانِ،وَشَهَادَةَ الزُّورِ" (2)
وَقَال مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ:نَحْنُ نَرَى أَنَّ قَبُول السِّعَايَةِ شَرٌّ مِنَ السِّعَايَةِ،لأَِنَّ السِّعَايَةَ دَلاَلَةٌ وَالْقَبُول إِجَازَةٌ وَلَيْسَ مَنْ دَل عَلَى شَيْءٍ فَأَخْبَرَ بِهِ كَمَنْ قَبِلَهُ وَأَجَازَهُ،فَاتَّقُوا السَّاعِيَ فَلَوْ كَانَ صَادِقًا فِي قَوْلِهِ لَكَانَ لَئِيمًا فِي صِدْقِهِ حَيْثُ لَمْ يَحْفَظِ الْحُرْمَةَ وَلَمْ يَسْتُرِ الْعَوْرَةَ . (3)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ:لاَ يُبَلِّغْنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي شَيْئًا؛فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ وَأَنَا سَلِيمُ الصَّدْرِ،قَالَ:وَأَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَالٌ،فَقَسَمَهُ.قَالَ:فَمَرَرْتُ بِرَجُلَيْنِ،وَأَحَدُهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ:وَاللَّهِ مَا أَرَادَ مُحَمَّدٌ بِقِسْمَتِهِ وَجْهَ اللهِ،وَلاَ الدَّارَ الآخِرَةَ،فَتَثَبَّتُّ،حَتَّى سَمِعْتُ مَا،قَالاَ،ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقُلْتُ:يَا رَسُولَ اللهِ،إِنَّكَ قُلْتَ لَنَا:لاَ يُبَلِّغْنِي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِي شَيْئًا،وَإِنِّي مَرَرْتُ بِفُلاَنٍ وَفُلاَنٍ،وَهُمَا يَقُولاَنِ كَذَا وَكَذَا،قَالَ:فَاحْمَرَّ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَشَقَّ عَلَيْهِ،ثُمَّ قَالَ:دَعْنَا مِنْكَ،فَقَدْ أُوذِيَ مُوسَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ،ثُمَّ صَبَرَ." (4)
__________
(1) - لم أجدها مسندة ، وهي في الأذكار للنووي - (1 / 348) ونضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - (3 / 907) وإحياء علوم الدين - (2 / 349) وآفات على الطريق كامل - (1 / 327)
(2) - حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ (13691 )
(3) - إحياء علوم الدين - (2 / 350) والموسوعة الفقهية الكويتية - (41 / 375)
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 57)(3759) حسن لغيره(1/27)
وَقَال رَجُلٌ لِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ:إِنَّ الأَْسْوَارِيَّ مَا يَزَال يَذْكُرُكَ فِي قَصَصِهِ بِشَرٍّ،فَقَال لَهُ عَمْرٌو:يَا هَذَا مَا رَعَيْتَ حَقَّ مُجَالَسَةِ الرَّجُل حَيْثُ نَقَلْتَ إِلَيْنَا حَدِيثَهُ،وَلاَ أَدَّيْتَ حَقِّي حِينَ أَعْلَمْتَنِي عَنْ أَخِي مَا أَكْرَهُ،وَلَكِنْ أَعْلِمْهُ أَنَّ الْمَوْتَ يَعُمُّنَا وَالْقَبْرَ يَضُمُّنَا وَالْقِيَامَةَ تَجْمَعُنَا وَاللَّهَ تَعَالَى يَحْكُمُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ . (1)
الثَّالِثُ:أَنْ يَبْغَضَهُ فِي اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ بَغِيضٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَجِبُ بُغْضُ مَنْ يُبْغِضُهُ اللَّهُ تَعَالَى .
الرَّابِعُ:أَنْ لاَ تَظُنَّ بِالْمَنْقُول عَنْهُ السُّوءَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات .
الْخَامِسُ:أَنْ لاَ يَحْمِلَكَ مَا حُكِيَ لَكَ عَلَى التَّجَسُّسِ وَالْبَحْثِ لِتَتَحَقَّقَ اتِّبَاعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات
السَّادِسُ:أَنْ لاَ تَرْضَى لِنَفْسِكَ مَا نَهَيْتَ النَّمَّامَ عَنْهُ وَلاَ تَحْكِي نَمِيمَتَهُ فَتَقُول:فُلاَنٌ حَكَى لِي كَذَا وَكَذَا فَتَكُونَ نَمَّامًا وَمُغْتَابًا،وَتَكُونَ قَدْ أَتَيْتَ مَا عَنْهُ نَهَيْتَ (2) .
وَقَدْ تَجِبُ النَّمِيمَةُ كَمَا إِذَا سَمِعَ إِنْسَانٌ شَخْصًا يَتَحَدَّثُ بِإِرَادَةِ إِيذَاءِ إِنْسَانٍ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا،فَيَجِبُ عَلَى مَنْ سَمِعَ أَنْ يُحَذِّرَ الْمَقْصُودَ بِالإِْيذَاءِ،فَإِنْ أَمْكَنَ تَحْذِيرُهُ بِغَيْرِ ذِكْرِ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ فَيَقْتَصِرُ عَلَى التَّحْذِيرِ،وَإِلاَّ ذَكَرَهُ بِاسْمِهِ .. (3)
وقال الشيخ ناصر الأحمد :
__________
(1) - إحياء علوم الدين - (2 / 350) ونضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - (11 / 5670)
(2) - فيض القدير في شرح الجامع الصغير 3 / 133 وإحياء علوم الدين 3 / 152 - 153 ، والأذكار النووية ص 539 وما بعدها
(3) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (5 / 294) وسبل السلام 4 / 198 - 199 ، والإحياء 3 / 156 .(1/28)
" أيها النمامون،يا أعداء المحبة،يا هواة الفرقة والخلاف،انظروا لأنفسكم فعسى أن يكون قد اقترب أجلكم.
هل أشبعتم غيظكم وملأتم قلوبكم الحاقدة فرحًا وغبطة بالنميمة والأذى؟! ماذا جنيتم أيها البلهاء؟! أتظنون أنفسكم قد أحسنتم صنعا؟! فلا والله ما أحسنتم،كم فرقتم بين القلوب،وكم بألسنتكم الجائعة للشر قتلتم الأبرياء،كم حملتم من الأوزار والآثام والخطايا.
اعملوا ما شئتم فستجزون على كل ذلك،لا تحسبوه خيرًا لكم بل هو شر لكم،بئس السعاده هذه أن تفسدوا على المسلمين معيشتهم،ونِعم الشقاء الذي تعدونه شقاء أن يكفّ المرء لسانه عن إيقاع العداوة والبغضاء بين الناس،ويحكم يا ساقطي الهمة،ما أشدّ جبنكم،إنكم تقاتلون بالنميمة من وراء جدر محصنة،تتسللون لواذا،لا تقوون على المواجهة،بالخفاء تدبرون مؤامراتكم،عذاب الناس حياة قلوبكم وذهاب غمومكم،لبئس ما أنتم عليه من حال،ولبئس ما سيكون لكم من مآل." (1)
تنح عن النميمة واجتنبها ... ... ... ... فإن النمّ يحبط كل أجر
يثير أخو النميمة كل شر ... ... ... ... ويكشف للخلائق كل سر
ويقتل نفسه وسواه ظلماً ... ... ... ... وليس النم من أفعال حر
ولا يغتابه :
قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ ؟ قَالُوا:اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ،قَالَ:أَنْ تَذْكُرَ أَخَاكَ بِمَا فِيهِ،قَالَ:أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا ذَكَرْتُ ؟ قَالَ:إِنْ كَانَ فِيهِ مَا ذَكَرْتَ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ،وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا ذَكَرْتَ فَقَدْ بَهَتَّهُ. (2)
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - (1 / 3274) آفات اللسان (6)-ناصر بن محمد الأحمد
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6758 ) وصحيح ابن حبان - (13 / 71)(5758)(1/29)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :يُبْصِرُ أَحَدُكُمُ الْقَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ،وَيَنْسَى الْجِذْعَ فِي عَيْنِهِ. (1)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،قَالَ:صَعِدَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - هَذَا الْمِنْبَرَ،فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ وَقَالَ:يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ قَلْبَهُ،لاَ تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ،وَلاَ تُعَيِّرُوهُمْ،وَلاَ تَطْلُبُوا عَثَرَاتِهِمْ،فَإِنَّهُ مَنْ يَطْلُبْ عَوْرَةَ الْمُسْلِمِ يَطْلُبِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ،وَمَنْ يَطْلُبِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ،وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْبَيْتِ فَقَالَ:مَا أَعْظَمَكَ،وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكَ،وَلَلْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ حُرْمَةً مِنْكَ. (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَجُلاً قَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،إِنَّ فُلاَنَةً ذَكَرَ مِنْ كَثْرَةِ صَلاَتِهَا،غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي بِلِسَانِهَا قَالَ:فِي النَّارِ،قَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،إِنَّ فُلاَنَةً ذَكَرَ مِنْ قِلَّةِ صَلاَتِهَا وَصِيَامِهَا،وَأَنَّهَا تَصَدَّقَتْ بِأَثْوَارِ أَقِطٍ،غَيْرَ أَنَّهَا لاَ تُؤْذِي جِيرَانَهَا،قَالَ:هِيَ فِي الْجَنَّةِ. (3)
تعريف الغيبة (4) :
الْغِيبَةُ - بِكَسْرِ الْغَيْنِ - فِي اللُّغَةِ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنَ اغْتَابَهُ اغْتِيَابًا:إِذَا ذَكَرَهُ بِمَا يَكْرَهُ مِنَ الْعُيُوبِ وَهُوَ حَقٌّ،فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلاً فَهُوَ الْغِيبَةُ فِي بَهْتٍ . (5)
وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ . (6)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
الْغِيبَةُ حَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ . وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ وَالْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ .
قَال الْقُرْطُبِيُّ (7) :لاَ خِلاَفَ أَنَّ الْغِيبَةَ مِنَ الْكَبَائِرِ،وَأَنَّ مَنِ اغْتَابَ أَحَدًا عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَل،وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (13 / 74) (5761) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (13 / 75) (5763) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (13 / 76) (5764) صحيح
(4) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (31 / 330)
(5) - المصباح المنير .
(6) - التعريفات للجرجاني ص143 ط الحلبي .
(7) - أحكام القرآن للقرطبي 16 / 336 ، 337 ، والزواجر 2 / 7 .(1/30)
الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات،
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لَمَّا عُرِجَ بِى مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ فَقُلْتُ مَنْ هَؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ قَالَ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِى أَعْرَاضِهِمْ ». (1)
وعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِِيمَانُ قَلْبَهُ لاَ تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ،وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ. (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ اسْتِطَالَةَ الْمَرْءِ فِي عِرْضِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ،وَمِنَ الْكَبَائِرِ السَّبَّتَانِ بِالسَّبَّةِ." (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ ؟ قَالُوا:اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ،قَالَ:أَنْ تَذْكُرَ أَخَاكَ بِمَا فِيهِ،قَالَ:أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا ذَكَرْتُ ؟ قَالَ:إِنْ كَانَ فِيهِ مَا ذَكَرْتَ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ،وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا ذَكَرْتَ فَقَدْ بَهَتَّهُ. (4) (5)
قَال الْقَرَافِيُّ:حُرِّمَتْ أَيِ الْغِيبَةُ لِمَا فِيهَا مِنْ مَفْسَدَةِ إِفْسَادِ الأَْعْرَاضِ . (6)
وَنَصَّ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى أَنَّ الْغِيبَةَ إِنْ كَانَتْ فِي أَهْل الْعِلْمِ وَحَمَلَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ فَهِيَ كَبِيرَةٌ . وَإِلاَّ فَصَغِيرَةٌ . (7)
مَا تَكُونُ بِهِ الْغِيبَةُ :
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (4880 ) صحيح - يخمش : يخدش
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 660)(19776) 20014- صحيح لغيره
(3) - سنن أبي داود - المكنز - (4879) وفتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار المعرفة - (10 / 411) حسن
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (6758 ) وصحيح ابن حبان - (13 / 71) (5758)
(5) - الفروق للقرافي 4 / 205 ، 209 .
(6) - مغني المحتاج 4 / 427 .
(7) - موسوعة خطب المنبر - (1 / 3274) آفات اللسان (6)-ناصر بن محمد الأحمد(1/31)
الْغِيبَةُ تَكُونُ بِالْقَوْل وَتَكُونُ بِغَيْرِهِ،قَال الْغَزَالِيُّ:الذِّكْرُ بِاللِّسَانِ إِنَّمَا حَرُمَ لأَِنَّ فِيهِ تَفْهِيمَ الْغَيْرِ نُقْصَانَ أَخِيك وَتَعْرِيفَهُ بِمَا يَكْرَهُهُ،فَالتَّعْرِيضُ بِهِ كَالتَّصْرِيحِ،وَالْفِعْل فِيهِ كَالْقَوْل،وَالإِْشَارَةُ وَالإِْيمَاءُ وَالْغَمْزُ وَالْهَمْزُ وَالْكِتَابَةُ وَالْحَرَكَةُ وَكُل مَا يُفْهِمُ الْمَقْصُودَ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْغِيبَةِ،وَهُوَ حَرَامٌ، (1) فعَنْ أَبِي حُذَيْفَةَ،أَنَّ عَائِشَةَ،حَكَتْ امْرَأَةً عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَتْ قِصَرَهَا،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :قَدْ اغْتَبْتِيهَا. (2)
الأَْسْبَابُ الْبَاعِثَةُ عَلَى الْغِيبَةِ :
ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الإِْحْيَاءِ أَنَّ الأَْسْبَابَ الْبَاعِثَةَ عَلَى الْغِيبَةِ أَحَدَ عَشَرَ سَبَبًا،ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ ثَمَانِيَةً مِنْ تِلْكَ الأَْسْبَابِ تَطَّرِدُ فِي حَقِّ الْعَامَّةِ،وَثَلاَثَةً تَخْتَصُّ بِأَهْل الدِّينِ وَالْخَاصَّةِ .
أَمَّا الثَّمَانِيَةُ الَّتِي تَطَّرِدُ فِي حَقِّ الْعَامَّةِ فَهِيَ:
الأَْوَّل:أَنْ يَشْفِيَ الْغَيْظَ .
الثَّانِي:مُوَافَقَةُ الأَْقْرَانِ وَمُجَامَلَةُ الرُّفَقَاءِ وَمُسَاعَدَتُهُمْ عَلَى الْكَلاَمِ .
الثَّالِثُ:أَنْ يَسْتَشْعِرَ مِنْ إِنْسَانٍ أَنَّهُ يُقَبِّحُ عِنْدَ مُحْتَشِمٍ . أَوْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِشَهَادَةٍ،فَيُبَادِرُهُ قَبْل أَنْ يُقَبِّحَ هُوَ وَيَطْعَنَ فِيهِ لِيُسْقِطَ أَثَرَ شَهَادَتِهِ .
الرَّابِعُ:أَنْ يُنْسَبَ إِلَى شَيْءٍ،فَيُرِيدَ أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْهُ،فَيَذْكُرَ الشَّخْصَ الَّذِي فَعَلَهُ .
الْخَامِسُ:إِرَادَةُ التَّصَنُّعِ وَالْمُبَاهَاةِ،وَهُوَ أَنْ يَرْفَعَ نَفْسَهُ بِتَنْقِيصِ غَيْرِهِ .
السَّادِسُ:الْحَسَدُ . وَهُوَ أَنَّهُ رُبَّمَا يَحْسُدُ مَنْ يُثْنِي النَّاسُ عَلَيْهِ وَيُحِبُّونَهُ وَيُكْرِمُونَهُ،فَيُرِيدُ زَوَال تِلْكَ النِّعْمَةِ عَنْهُ . فَلاَ يَجِدُ سَبِيلاً إِلَيْهِ إِلاَّ بِالْقَدْحِ فِيهِ .
السَّابِعُ:اللَّعِبُ وَالْهَزْل وَالْمُطَايَبَةُ وَتَزْجِيَةُ الْوَقْتِ بِالضَّحِكِ،فَيَذْكُرُ عُيُوبَ غَيْرِهِ بِمَا يُضْحِكُ النَّاسَ عَلَى سَبِيل الْمُحَاكَاةِ .
الثَّامِنُ:السُّخْرِيَةُ وَالاِسْتِهْزَاءُ اسْتِحْقَارًا لِلْغَيْرِ،فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَجْرِي فِي الْحُضُورِ وَيَجْرِي أَيْضًا فِي الْغِيبَةِ .
وَأَمَّا الأَْسْبَابُ الثَّلاَثَةُ الَّتِي هِيَ فِي الْخَاصَّةِ،فَهِيَ أَغَمْضُهَا وَأَدَقُّهَا . وَهِيَ :
__________
(1) - إحياء علوم الدين 3 / 142 - 143 .
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 246)(25049) 25563- صحيح(1/32)
الأَْوَّل:أَنْ تَنْبَعِثَ مِنَ الدِّينِ دَاعِيَةُ التَّعَجُّبِ فِي إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ وَالْخَطَأِ فِي الدِّينِ،فَيَقُول:مَا أَعْجَبُ مَا رَأَيْت مِنْ فُلاَنٍ،فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِهِ صَادِقًا،وَيَكُونُ تَعَجُّبُهُ مِنَ الْمُنْكَرِ . وَلَكِنْ كَانَ حَقُّهُ أَنْ يَتَعَجَّبَ وَلاَ يَذْكُرَ اسْمَهُ،فَيُسَهِّل الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ ذِكْرَ اسْمِهِ فِي إِظْهَارِ تَعَجُّبِهِ،فَصَارَ بِهِ مُغْتَابًا وَآثِمًا مِنْ حَيْثُ لاَ يَدْرِي .
الثَّانِي:الرَّحْمَةُ،وَهُوَ أَنْ يَغْتَمَّ بِسَبَبِ مَا يُبْتَلَى بِهِ غَيْرُهُ،فَيَقُول:مِسْكِينٌ فُلاَنٌ قَدْ غَمَّنِي أَمْرُهُ،فَيَصِيرُ بِذَلِكَ مُغْتَابًا،فَيَكُونُ غَمُّهُ وَرَحْمَتُهُ خَيْرًا وَكَذَا تَعَجُّبُهُ،وَلَكِنْ سَاقَهُ الشَّيْطَانُ إِلَى شَرٍّ مِنْ حَيْثُ لاَ يَدْرِي،وَهُوَ ذِكْرُ اسْمِهِ لِيُبْطِل بِهِ ثَوَابَ اغْتِمَامِهِ وَتَرَحُّمِهِ .
الثَّالِثُ:الْغَضَبُ لِلَّهِ تَعَالَى،فَإِنَّهُ قَدْ يَغْضَبُ عَلَى مُنْكَرٍ قَارَفَهُ إِنْسَانٌ إِذَا رَآهُ أَوْ سَمِعَهُ،فَيُظْهِرُ غَضَبَهُ وَيَذْكُرُ اسْمَهُ،وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُظْهِرَ غَضَبَهُ عَلَيْهِ بِالأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ،وَلاَ يُظْهِرُهُ عَلَى غَيْرِهِ،أَوْ يَسْتُرَ اسْمَهُ وَلاَ يَذْكُرَهُ بِالسُّوءِ .
فَهَذِهِ الثَّلاَثَةُ مِمَّا يَغْمُضُ دَرْكُهَا عَلَى الْعُلَمَاءِ فَضْلاً عَنِ الْعَوَّامِ . فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ التَّعَجُّبَ وَالرَّحْمَةَ وَالْغَضَبَ إِذَا كَانَ لِلَّهِ تَعَالَى كَانَ عُذْرًا فِي ذِكْرِ الاِسْمِ وَهُوَ خَطَأٌ . بَل الْمُرَخَّصُ فِي الْغَيْبَةِ حَاجَاتٌ مَخْصُوصَةٌ لاَ تُرَخِّصُ الْغِيبَةَ فِي سِوَاهَا، (1) فعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ:أَنَّ رَجُلاً مَرَّ عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ،فَرَدُّوا عَلَيْهِ السَّلاَمَ،فَلَمَّا جَاوَزَهُمْ قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ:وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْغِضُ هَذَا فِي اللهِ،فَقَالَ أَهْلُ الْمَجْلِسِ:بِئْسَ وَاللَّهِ مَا قُلْتَ،أَمَا وَاللَّهِ لَنُنَبِّئَنَّهُ،قُمْ يَا فُلاَنُ،رَجُلاً مِنْهُمْ،فَأَخْبِرْهُ،قَالَ:فَأَدْرَكَهُ رَسُولُهُمْ،فَأَخْبَرَهُ بِمَا قَالَ،فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،مَرَرْتُ بِمَجْلِسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِيهِمْ فُلاَنٌ،فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمْ فَرَدُّوا السَّلاَمَ،فَلَمَّا جَاوَزْتُهُمْ أَدْرَكَنِي رَجُلٌ مِنْهُمْ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ فُلاَنًا قَالَ:وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْغِضُ هَذَا الرَّجُلَ فِي اللهِ،فَادْعُهُ فَسَلْهُ عَلاَمَ يُبْغِضُنِي ؟ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَهُ عَمَّا أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ،فَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ وَقَالَ:قَدْ قُلْتُ لَهُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :فَلِمَ تُبْغِضُهُ ؟ قَالَ:أَنَا جَارُهُ وَأَنَا بِهِ خَابِرٌ،وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ يُصَلِّي صَلاَةً قَطُّ إِلاَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ الَّتِي يُصَلِّيهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ،قَالَ الرَّجُلُ:سَلْهُ يَا رَسُولَ اللهِ:هَلْ رَآنِي قَطُّ
__________
(1) - إحياء علوم الدين 3 / 143 - 145 ط الحلبي ، ومختصر منهاج القاصدين 171 / 172 نشر مكتبة دار البيان .(1/33)
أَخَّرْتُهَا عَنْ وَقْتِهَا،أَوْ أَسَأْتُ الْوُضُوءَ لَهَا،أَوْ أَسَأْتُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فِيهَا ؟ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ،فَقَالَ:لاَ،ثُمَّ قَالَ:وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ يَصُومُ قَطُّ إِلاَّ هَذَا الشَّهْرَ الَّذِي يَصُومُهُ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ ؟ قَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ رَآنِي قَطُّ أَفْطَرْتُ فِيهِ،أَوِ انْتَقَصْتُ مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا ؟ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:لاَ،ثُمَّ قَالَ:وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ يُعْطِي سَائِلاً قَطُّ،وَلاَ رَأَيْتُهُ يُنْفِقُ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا فِي شَيْءٍ مِنْ سَبِيلِ اللهِ بِخَيْرٍ،إِلاَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ الَّتِي يُؤَدِّيهَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ،قَالَ:فَسَلْهُ يَا رَسُولَ اللهِ هَلْ كَتَمْتُ مِنَ الزَّكَاةِ شَيْئًا قَطُّ،أَوْ مَاكَسْتُ فِيهَا طَالِبَهَا ؟ قَالَ:فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ:لاَ،فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :قُمْ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ خَيْرٌ مِنْكَ. (1)
أُمُورٌ تُبَاحُ فِيهَا الْغِيبَةُ :
الأَْصْل فِي الْغِيبَةِ التَّحْرِيمُ لِلأَْدِلَّةِ الثَّابِتَةِ فِي ذَلِكَ،وَمَعَ هَذَا فَقَدْ ذَكَرَ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ أُمُورًا سِتَّةً تُبَاحُ فِيهَا الْغِيبَةُ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَصْلَحَةِ ؛ وَلأَِنَّ الْمُجَوِّزَ فِي ذَلِكَ غَرَضٌ شَرْعِيٌّ لاَ يُمْكِنُ الْوُصُول إِلَيْهِ إِلاَّ بِهَا وَتِلْكَ الأُْمُورُ هِيَ :
الأَْوَّل:التَّظَلُّمُ . يَجُوزُ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَتَظَلَّمَ إِلَى السُّلْطَانِ وَالْقَاضِي وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ لَهُ وِلاَيَةٌ أَوْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إِنْصَافِهِ مِنْ ظَالِمِهِ،فَيَذْكُرُ أَنَّ فُلاَنًا ظَلَمَنِي وَفَعَل بِي كَذَا وَأَخَذَ لِي كَذَا وَنَحْوُ ذَلِكَ . (2)
الثَّانِي:الاِسْتِعَانَةُ عَلَى تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ وَرَدِّ الْعَاصِي إِلَى الصَّوَابِ . وَبَيَانُهُ أَنْ يَقُول لِمَنْ يَرْجُو قُدْرَتَهُ عَلَى إِزَالَةِ الْمُنْكَرِ:فُلاَنٌ يَعْمَل كَذَا فَازْجُرْهُ عَنْهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ،وَيَكُونُ مَقْصُودُهُ إِزَالَةَ الْمُنْكَرِ،فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ كَانَ حَرَامًا . (3)
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 856)(23803) 24213- حسن وصحح إسناده العراقي في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين ( 3 / 145 - بهامش الإحياء )
(2) - الأذكار للنووي 303 ط الكتاب العربي ، والجامع لأحكام القرآن 16 / 339 ط الكتب المصرية ، وفتح الباري 10 / 472 ط الرياض ، ومختصر منهاج القاصدين 173 نشر دار البيان .
(3) - شرح صحيح مسلم للنووي 16 / 142 ط المصرية ، والأذكار للنووي 303 ط الكتاب العربي ، ورفع الريبة للشوكاني ص13 ط السلفية ، والجامع لأحكام القرآن 16 / 339 ط الكتب المصرية ، وفتح الباري 10 / 472 ط الرياض ، ومختصر منهاج القاصدين 173 نشر دار البيان .(1/34)
الثَّالِثُ:الاِسْتِفْتَاءُ:وَبَيَانُهُ أَنْ يَقُول لِلْمُفْتِي:ظَلَمَنِي أَبِي أَوْ أَخِي أَوْ فُلاَنٌ بِكَذَا . فَهَل لَهُ ذَلِكَ أَمْ لاَ ؟ وَمَا طَرِيقِي فِي الْخَلاَصِ مِنْهُ وَتَحْصِيل حَقِّي وَدَفْعِ الظُّلْمِ عَنِّي ؟ وَنَحْوُ ذَلِكَ،فَهَذَا جَائِزٌ لِلْحَاجَةِ،وَلَكِنَّ الأَْحْوَطَ أَنْ يَقُول:مَا تَقُول فِي رَجُلٍ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ كَذَا،أَوْ فِي زَوْجٍ أَوْ زَوْجَةٍ تَفْعَل كَذَا وَنَحْوُ ذَلِكَ،فَإِنَّهُ يَحْصُل لَهُ الْغَرَضُ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ وَمَعَ ذَلِكَ فَالتَّعْيِينُ جَائِزٌ، (1) لِحَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ:جَاءَتْ هِنْدُ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَتْ:إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ،فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ أَنْ أُصِيبَ مِنْ مَالِهِ فَأُنْفِقَ عَلَيَّ وَعَلَى وَلَدِي ؟ فَقَالَ لَهَا نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تَأْخُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ فَتُنْفِقِيهِ عَلَيْكِ وَعَلَى وَلَدِكِ،بِالْمَعْرُوفِ.. (2) ، وَلَمْ يَنْهَهَا رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -
الرَّابِعُ:تَحْذِيرُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الشَّرِّ،وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ خَمْسَةٍ كَمَا ذَكَرَ النَّوَوِيُّ .
أَوَّلاً:جَرْحُ الْمَجْرُوحِينَ مِنَ الرُّوَاةِ وَالشُّهُودِ،وَذَلِكَ جَائِزٌ بِالإِْجْمَاعِ،بَل وَاجِبٌ صَوْنًا لِلشَّرِيعَةِ .
ثَانِيًا . الإِْخْبَارُ بِغِيبَةٍ عِنْدَ الْمُشَاوَرَةِ فِي مُصَاهَرَةٍ وَنَحْوِهَا .
ثَالِثًا:إِذَا رَأَيْت مَنْ يَشْتَرِي شَيْئًا مَعِيبًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ،تَذْكُرُ لِلْمُشْتَرِي إِذَا لَمْ يُعْلِمْهُ نَصِيحَةً لَهُ،لاَ لِقَصْدِ الإِْيذَاءِ وَالإِْفْسَادِ .
رَابِعًا:إِذَا رَأَيْت مُتَفَقِّهًا يَتَرَدَّدُ إِلَى فَاسِقٍ أَوْ مُبْتَدِعٍ يَأْخُذُ عَنْهُ عِلْمًا . وَخِفْت عَلَيْهِ ضَرَرَهُ،فَعَلَيْك نَصِيحَتُهُ بِبَيَانِ حَالِهِ قَاصِدًا النَّصِيحَةَ .
خَامِسًا:أَنْ يَكُونَ لَهُ وِلاَيَةٌ لاَ يَقُومُ لَهَا عَلَى وَجْهِهَا لِعَدَمِ أَهْلِيَّتِهِ أَوْ لِفِسْقِهِ،فَيَذْكُرُهُ لِمَنْ لَهُ عَلَيْهِ وِلاَيَةٌ لِيَسْتَبْدِل بِهِ غَيْرَهُ أَوْ يَعْرِفَ . فَلاَ يَغْتَرَّ بِهِ وَيُلْزِمُهُ الاِسْتِقَامَةَ . (3)
__________
(1) - الأذكار للنووي 303 ط الكتب المصرية ، رفع الريبة 13 ط السلفية ، فتح الباري 10 / 472 ط الرياض ، شرح صحيح مسلم 16 / 142 ط المصرية .
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (2211 ) وصحيح مسلم- المكنز - (4574 ) وصحيح ابن حبان - (10 / 71)(4258)
(3) - رفع الريبة ص13 ، 14 ط السلفية ، والأذكار للنووي 303 ط الكتاب العربي ، وشرح مسلم للنووي 16 / 142 ، 143 ط المصرية .(1/35)
الْخَامِسُ:أَنْ يَكُونَ مُجَاهِرًا بِفِسْقِهِ أَوْ بِدْعَتِهِ . فَيَجُوزُ ذِكْرُهُ بِمَا يُجَاهِرُ بِهِ،وَيَحْرُمُ ذِكْرُهُ بِغَيْرِهِ مِنَ الْعُيُوبِ،إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لِجَوَازِهِ سَبَبٌ آخَرُ . (1)
السَّادِسُ:التَّعْرِيفُ . . فَإِذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِلَقَبٍ كَالأَْعْمَشِ وَالأَْعْرَجِ وَالأَْزْرَقِ وَالْقَصِيرِ وَالأَْعْمَى وَالأَْقْطَعِ وَنَحْوِهَا جَازَ تَعْرِيفُهُ بِهِ،وَيَحْرُمُ ذِكْرُهُ بِهِ تَنَقُّصًا،وَلَوْ أَمْكَنَ التَّعْرِيفُ بِغَيْرِهِ كَانَ أَوْلَى . (2)
كَيْفِيَّةُ مَنْعِ الْغِيبَةِ :
ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ مَسَاوِئَ الأَْخْلاَقِ كُلَّهَا إِنَّمَا تُعَالَجُ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَل،وَإِنَّ عِلاَجَ كُل عِلَّةٍ بِمُضَادَّةٍ سَبَبِهَا . ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ عِلاَجَ كَفِّ اللِّسَانِ عَنِ الْغِيبَةِ يَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ:أَحَدُهُمَا عَلَى الْجُمْلَةِ وَالآْخَرُ عَلَى التَّفْصِيل .
أَمَّا عِلاَجُهُ عَلَى الْجُمْلَةِ:فَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ تَعَرُّضَهُ لِسُخْطِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِغَيْبَتِهِ،وَذَلِكَ لِلأَْخْبَارِ الْوَارِدَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ،وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّهَا مُحْبِطَةٌ لِحَسَنَاتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،فَإِنَّهَا تَنْقُل حَسَنَاتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنِ اغْتَابَهُ بَدَلاً عَمَّا اسْتَبَاحَهُ مِنْ عِرْضِهِ،فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ نُقِل إِلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِ خَصْمِهِ،وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مُتَعَرِّضٌ لِمَقْتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَل،وَمُشَبَّهٌ عِنْدَهُ بِآكِل الْمَيْتَةِ،وَإِنَّمَا أَقَل الدَّرَجَاتِ أَنْ تُنْقِصَ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِهِ،وَذَلِكَ بَعْدَ الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُطَالَبَةِ وَالسُّؤَال وَالْجَوَابِ وَالْحِسَابِ،، فَمَهْمَا آمَنَ الْعَبْدُ بِمَا وَرَدَ مِنَ الأَْخْبَارِ فِي الْغِيبَةِ لَمْ يُطْلِقْ لِسَانَهُ بِهَا خَوْفًا مِنْ ذَلِكَ . وَيَنْفَعُهُ أَيْضًا أَنْ يَتَدَبَّرَ فِي نَفْسِهِ،فَإِنْ وَجَدَ فِيهَا عَيْبًا اشْتَغَل بِعَيْبِ نَفْسِهِ،فطُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ،وَأَنْفَقَ مِنْ مَالٍ اكْتَسَبَهُ مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، وَمَهْمَا وَجَدَ الْعَبْدُ عَيْبًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحْيِيَ مِنْ أَنْ يَتْرُكَ ذَمَّ نَفْسِهِ وَيَذُمَّ غَيْرَهُ،بَل يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَقَّقَ أَنَّ عَجْزَ غَيْرِهِ عَنْ نَفْسِهِ فِي التَّنَزُّهِ عَنْ ذَلِكَ الْعَيْبِ كَعَجْزِهِ،وَهَذَا إِنْ كَانَ ذَلِكَ عَيْبًا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ وَاخْتِيَارِهِ . وَإِنْ كَانَ أَمْرًا خُلُقِيًّا فَالذَّمُّ لَهُ ذَمٌّ لِلْخَالِقِ،فَإِنَّ مَنْ ذَمَّ
__________
(1) - الأذكار للنووي 303 ط الكتب المصرية ، وشرح صحيح مسلم للنووي 16 / 143 ط المصرية ، وفتح الباري 10 / 472 ط الرياض ، ورفع الريبة 14 ط السلفية ، والآداب الشرعية لابن مفلح 1 / 276 ط الرياض .
(2) - شرح صحيح مسلم للنووي 16 / 143 ط المصرية ، والأذكار للنووي ص304 ط الكتاب العربي ، ورفع الريبة ص 14ط السلفية ، وفتح الباري 10 / 472 ط الرياض .(1/36)
صَنْعَةً فَقَدْ ذَمَّ صَانِعَهَا،قَال رَجُلٌ لِحَكِيمٍ:يَا قَبِيحَ الْوَجْهِ،قَال:مَا كَانَ خَلْقُ وَجْهِي إِلَيَّ فَأُحَسِّنَهُ،وَإِذَا لَمْ يَجِدِ الْعَبْدُ عَيْبًا فِي نَفْسِهِ فَلْيَشْكُرِ اللَّهَ تَعَالَى وَلاَ يُلَوِّثَنَّ نَفْسَهُ بِأَعْظَمِ الْعُيُوبِ،فَإِنَّ ثَلْبَ النَّاسِ وَأَكْل لَحْمِ الْمَيْتَةِ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ،بَل لَوْ أَنْصَفَ لَعَلِمَ أَنَّ ظَنَّهُ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ كُل عَيْبٍ جَهْلٌ بِنَفْسِهِ . وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْعُيُوبِ .
وَيَنْفَعُهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ تَأَلُّمَ غَيْرِهِ بِغِيبَتِهِ كَتَأَلُّمِهِ بِغِيبَةِ غَيْرِهِ لَهُ،فَإِذَا كَانَ لاَ يَرْضَى لِنَفْسِهِ أَنْ يُغْتَابَ،فَيَنْبَغِي أَنْ لاَ يَرْضَى لِغَيْرِهِ مَا لاَ يَرْضَاهُ لِنَفْسِهِ .
وَأَمَّا عِلاَجُهُ عَلَى التَّفْصِيل:فَهُوَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى السَّبَبِ الْبَاعِثِ لَهُ عَلَى الْغِيبَةِ فَيَقْطَعُهُ،فَإِنَّ عِلاَجَ كُل عِلَّةٍ إِنَّمَا يَكُونُ بِقَطْعِ سَبَبِهَا . (1)
كَفَّارَةُ الْغِيبَةِ :
ذَكَرَ النَّوَوِيُّ وَالْغَزَالِيُّ أَنَّ كُل مَنِ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً لَزِمَهُ الْمُبَادَرَةُ إِلَى التَّوْبَةِ مِنْهَا،وَالتَّوْبَةُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى يُشْتَرَطُ فِيهَا ثَلاَثَةُ أَشْيَاءَ:أَنْ يُقْلِعَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فِي الْحَال . وَإِنْ يَنْدَمَ عَلَى فِعْلِهَا،وَأَنْ يَعْزِمَ أَنْ لاَ يَعُودَ إِلَيْهَا،وَالتَّوْبَةُ مِنْ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ يُشْتَرَطُ فِيهَا هَذِهِ الثَّلاَثَةُ ،وَرَابِعٌ:وَهُوَ رَدُّ الظُّلاَمَةِ إِلَى صَاحِبِهَا،أَوْ طَلَبُ عَفْوِهِ عَنْهَا وَالإِْبْرَاءُ مِنْهَا،فَيَجِبُ عَلَى الْمُغْتَابِ التَّوْبَةُ بِهَذِهِ الأُْمُورِ الأَْرْبَعَةِ،لأَِنَّ الْغِيبَةَ حَقُّ آدَمِيِّ،وَلاَ بُدَّ مِنَ اسْتِحْلاَلِهِ مَنِ اغْتَابَهُ .
وَقَدْ ذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ وَجْهَيْنِ فِي كَوْنِهِ هَل يَكْفِيهِ أَنْ يَقُول:قَدِ اغْتَبْتُك فَاجْعَلْنِي فِي حِلٍّ،أَوْ لاَ بُدَّ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ مَا اغْتَابَ بِهِ ؟
أَحَدُهُمَا:يُشْتَرَطُ بَيَانُهُ فَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ غَيْرِ بَيَانِهِ لَمْ يَصِحَّ،كَمَا لَوْ أَبْرَأهُ عَنْ مَالٍ مَجْهُولٍ .
وَالثَّانِي:لاَ يُشْتَرَطُ لأَِنَّ هَذَا مِمَّا يُتَسَامَحُ فِيهِ،فَلاَ يُشْتَرَطُ عِلْمُهُ بِخِلاَفِ الْمَال . وَالأَْوَّل أَظْهَرُ،لأَِنَّ الإِْنْسَانَ قَدْ يَسْمَحُ بِالْعَفْوِ عَنْ غِيبَةٍ دُونَ غِيبَةٍ،فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْغِيبَةِ مَيِّتًا أَوْ غَائِبًا فَقَدْ تَعَذَّرَ تَحْصِيل الْبَرَاءَةِ مِنْهَا،لَكِنْ قَال الْعُلَمَاءُ:يَنْبَغِي أَنْ يُكْثِرَ الاِسْتِغْفَارَ لَهُ وَالدُّعَاءَ وَيُكْثِرَ مِنَ الْحَسَنَاتِ،وَهُوَ قَوْل الْحَسَنِ فِي الاِقْتِصَارِ عَلَى الاِسْتِغْفَارِ دُونَ الاِسْتِحْلاَل .
__________
(1) - إحياء علوم الدين 3 / 145 - 147 ، ومختصر منهاج القاصدين 171 - 172 .(1/37)
وَالدَّلِيل عَلَى ذَلِكَ مَا رَوي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " كَفَّارَةُ مَنِ اغْتَبْتَ أَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُ " (1)
وعَنْ أَبِي حَازِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:" مَنِ اغْتَابَ أَخَاهُ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَهُ،فَإِنَّ ذَلِكَ كَفَّارَةٌ لِذَلِكَ " (2)
وعَنْ مُجَاهِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:" كَفَّارَةُ أَكْلِكَ لَحْمَ أَخِيكَ أَنْ تُثْنِيَ عَلَيْهِ،وَتَدْعُوَ لَهُ بِخَيْرٍ " (3)
وَصَحَّحَ الْغَزَالِيُّ قَوْل عَطَاءٍ فِي جَوَابِ مَنْ سَأَلَهُ عَنِ التَّوْبَةِ مِنَ الْغِيبَةِ،وَهُوَ:أَنْ تَمْشِيَ إِلَى صَاحِبِك،فَتَقُول لَهُ:كَذَبْت فِيمَا قُلْت وَظَلَمْتُك وَأَسَأْت،فَإِنْ شِئْت أَخَذْت بِحَقِّك،وَإِنْ شِئْت عَفَوْت .
وَأَمَّا قَوْل الْقَائِل:الْعِرْضُ لاَ عِوَضَ لَهُ،فَلاَ يَجِبُ الاِسْتِحْلاَل مِنْهُ بِخِلاَفِ الْمَال،فَكَلاَمٌ ضَعِيفٌ،إِذْ قَدْ وَجَبَ فِي الْعِرْضِ حَدُّ الْقَذْفِ وَتَثْبُتُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ،بَل فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَحَدٍ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَىْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ،قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ،إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ،وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ » (4) .
فَإِذَنْ لاَ بُدَّ مِنَ الاِسْتِحْلاَل إِنْ قَدَرَ عَلَيْهِ،فَإِنْ كَانَ غَائِبًا أَوْ مَيِّتًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْثِرَ الاِسْتِغْفَارَ وَالدُّعَاءَ وَيُكْثِرَ مِنَ الْحَسَنَاتِ . (5)
وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي الأَْذْكَارِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِصَاحِبِ الْغِيبَةِ أَنْ يُبْرِئَ الْمُغْتَابَ مِنْهَا،وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ،لأَِنَّهُ تَبَرُّعٌ وَإِسْقَاطُ حَقٍّ،فَكَانَ إِلَى خِيرَتِهِ . وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ اسْتِحْبَابًا مُؤَكَّدًا
__________
(1) - الصَّمْتُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (290 ) ضعيف
(2) - الصَّمْتُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (293 ) ضعيف
(3) - الصَّمْتُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (291 ) حسن
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (2449)
(5) - الأذكار للنووي 308 ط دار الكتاب العربي ، إحياء علوم الدين 3 / 150 ط الحلبي ، ومختصر منهاج القاصدين ص173 ، 174 نشر دار البيان .(1/38)
لِيُخَلِّصَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ مِنْ وَبَال هَذِهِ الْمَعْصِيَةِ،وَيَفُوزَ هُوَ بِعَظِيمِ ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْعَفْوِ وَمَحَبَّةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى،وَقَال:إِنَّ الصَّوَابَ هُوَ الْحَثُّ عَلَى الإِْبْرَاءِ مِنَ الْغِيبَةِ . (1)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - الأذكار للنووي ص 308 ، 309 ط دار الكتاب العربي ..(1/39)
الحق الخامس
لا يزيد في الهجر لمن يعرفه على ثلاثة أيام
عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ،يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا،وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ. (1)
الهِجْرة في الأصْل:الاسْم من الهَجْرِ،ضِدّ الوَصْلِ. ثُم غَلَب على الخُرُوج من أرض إلى أرض.والهَجْر:الترك والإعراض والغفلة. والهُجْر:الفحش من الكلام.
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:يَطْلُعُ اللَّهُ إِلَى خَلْقِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلاَّ لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ. (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ،فَيَغْفِرُ اللَّهُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُسْلِمِ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا،إِلاَّ رَجُلاً كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ،فَيُقَالُ:أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا. (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:تُعْرَضُ أَعْمَالُ النَّاسِ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ مَرَّتَيْنِ:يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ،فَيُغْفَرُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ إِلاَّ عَبْدًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ،فَيُقَالُ:اتْرُكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَفِيئَا " (4)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا عَثْرَتَهُ،أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (5)
__________
(1) - وصحيح البخارى- المكنز - (6237 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6697 ) وصحيح ابن حبان - (12 / 484)(5669)
(2) - صحيح ابن حبان - (12 / 481)(5665) صحيح لغيره
(3) - صحيح ابن حبان - (12 / 482)(5666) صحيح
(4) - صحيح ابن حبان - (12 / 483) (5667) صحيح
(5) - صحيح ابن حبان - (11 / 405) (5030) صحيح -العثرة : الزلة والسقطة(1/40)
وعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ،أَنَّهَا قَالَتْ:"مَا خُيِّرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلَّا أَخَذَ بِأَيْسَرِهِمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْمًا،فَإِنْ كَانَ إِثْمًا كَانَ أَبَعْدَ النَّاسِ مِنْهُ،وَمَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِنَفْسِهِ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللهِ فَيَنْتَقِمُ اللهُ بِهَا"رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - :مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ،وَلاَ عَفَا رَجُلٌ عَنْ مَظْلَمَةٍ إِلاَّ زَادَهُ اللَّهُ بِهَا عِزًّا،وَلاَ تَوَاضَعَ عَبْدٌ للهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللهُ. (2)
وعَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ:حَدَّثَنِي قَاصُّ أَهْلِ فِلَسْطِينَ،قَالَ:سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ،يَقُولُ:إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:ثَلاثٌ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ،إِنْ كُنْتُ لَحَالِفًا عَلَيْهِنَّ لاَ يَنْقُصُ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ فَتَصَدَّقُوا،وَلاَ يَعْفُو عَبْدٌ عَنْ مَظْلَمَةٍ يَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا عِزًّا وقَالَ أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ:إِلاَّ زَادَهُ اللَّهُ بِهَا عِزًّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ،وَلاَ يَفْتَحُ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلاَّ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ. (3)
وعَنْ عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ وَهُوَ ابْنُ أَخِي عَائِشَةَ لِأُمِّهَا،أَنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ فِي بَيْعٍ أَوْ عَطَاءٍ أَعْطَتْهُ:وَاللَّهِ لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ أَوْ لَأَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا،قَالَتْ عَائِشَةُ حِينَ بَلَغَهَا ذَلِكَ:إِنَّ لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرًا أَنْ لاَ أُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَدًا،فَاسْتَشْفَعَ ابْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ طَالَتْ هِجْرَتُهَا لَهُ إِلَيْهَا،فَقَالَتْ عَائِشَةُ:وَاللَّهِ لاَ أُشَفِّعُ فِيهِ أَحَدًا وَلاَ أَحْنَثُ فِي نَذْرِي الَّذِي نَذَرْتُ أَبَدًا،فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ كَلَّمَ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ،وَهُمَا مِنْ بَنِي زُهْرَةَ،فَقَالَ لَهُمَا:نَشَدْتُكُمَا بِاللَّهِ إِلاَّ أَدْخَلْتُمَانِي عَلَى عَائِشَةَ،فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْذِرَ فِي قَطِيعَتِي،فَأَقْبَلَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ بِعَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَقَدِ اشْتَمَلاَ عَلَيْهِ بِبُرْدَيْهِمَا حَتَّى اسْتَأْذَنَا عَلَى عَائِشَةَ ،فَقَالاَ:السَّلاَمُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،إِيهٍ نَدْخُلُ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ:ادْخُلاَ،فَقَالاَ:كُلُّنَا ؟ قَالَتْ:نَعَمِ ادْخُلُوا كُلُّكُمْ،وَلاَ تَعْلَمُ عَائِشَةُ أَنَّ مَعَهُمَا ابْنَ الزُّبَيْرِ،فَلَمَّا دَخَلُوا اقْتَحَمَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحِجَابَ وَدَخَلَ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3560) وصحيح مسلم- المكنز - (6190 ) وشعب الإيمان - (10 / 409) (7711 )
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 23)(7206) 7205- صحيح
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 515)(1674) حسن لغيره(1/41)
عَلَى عَائِشَةَ فَاعْتَنَقَهَا وَطَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَيَبْكِي،وَطَفِقَ الْمِسْوَرُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ يُنَاشِدَانِ عَائِشَةَ،وَيَقُولاَنِ لَهَا:إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ نَهَى عَمَّا عَمِلْتِيهِ،وَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ،فَلَمَّا أَكْثَرَا عَلَى عَائِشَةَ التَّذْكِرَةَ،طَفِقَتْ تُذَكِّرُهُمْ وَتَبْكِي،وَتَقُولُ:إِنِّي نَذَرْتُ وَالنَّذْرُ شَدِيدٌ،فَلَمْ يَزَالاَ بِهَا حَتَّى كَلَّمَتِ ابْنَ الزُّبَيْرِ،ثُمَّ أَعْتَقَتْ عَنْ نَذْرِهَا ذَلِكَ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً،ثُمَّ كَانَتْ بَعْدَمَا أَعْتَقَتْ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً تَبْكِي حَتَّى تَبُلَّ دُمُوعُهَا خِمَارَهَا." (1)
لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمُسْلِمِ هَجْرُ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا،حَيْثُ وَرَدَ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَْنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .. فَهَذَا الْحَدِيثُ نَصَّ فِي مَنْعِ مَا زَادَ عَلَى الثَّلاَثِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ (2) ،وَقَدْ عَدَّ ابْنُ تَيْمِيَّةَ وَابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ هَجْرَ الْمُسْلِمِ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ مِنَ الْكَبَائِرِ،لِمَا فِيهِ مِنَ التَّقَاطُعِ وَالإِْيذَاءِ وَالْفَسَادِ،وَثُبُوتِ الْوَعِيدِ عَلَيْهِ فِي الآْخِرَةِ (3) ،لِحَدِيثِ فَضَالَةَ بن عُبَيْدٍ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:"مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاثٍ فَهُوَ فِي النَّارِ،إِلا أَنْ يَتَدَارَكَهُ اللَّهُ بِكَرَمِته" (4)
أَمَّا هِجْرَةُ الْمُسْلِمِ لأَِخِيهِ مُدَّةَ ثَلاَثٍ،فَجَمَاهِيرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى إِبَاحَتِهَا اعْتِبَارًا لِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ،دَلِيل الْخِطَابِ فِي الْحَدِيثِ.قَالُوا:وَإِنَّمَا عُفِيَ عَنْهَا فِي الثَّلاَثِ؛لأَِنَّ الآْدَمِيَّ مَجْبُولٌ عَلَى الْغَضَبِ وَنَحْوِهِ،فَعُفِيَ عَنِ الْهِجْرَةِ فِي الثَّلاَثَةِ لِيَذْهَبَ ذَلِكَ الْعَارِضُ . (5)
قَال الْخَطَّابِيُّ:فَرَخَّصَ لَهُ فِي مُدَّةِ ثَلاَثٍ لِقِلَّتِهَا،وَجُعِل مَا وَرَاءَهَا تَحْتَ الْحَظْرِ . (6)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6073 و 6074 و 6075 ) وصحيح ابن حبان - (12 / 478)(5662)
(2) - مِرْقَاة الْمَفَاتِيح لِلْمَلاَ عَلِي الْقَارِّيّ 4 / 716 ، وَالْجَامِع مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ لاِبْن رُشْد ( ص 267 ط دَارَ الْفَرْقَانِ ) ، وَالنَّوَوِيّ عَلَى مُسْلِمِ 16 / 117 ، وَعُمْدَة الْقَارِّيّ 18 / 179 ، وَفَتْح الْبَارِي 10 / 495 ، وَالْمُنْتَقَى لِلْبَاجِي 7 / 215 ، وَكِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ لِرِسَالَةِ ابْن أَبِي زَيْد الْقَيْرَوَانِيّ 2 / 394 .
(3) - الزَّوَاجِر عَنِ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ 2 / 42 ، 44 ، وَالآْدَاب الشَّرْعِيَّة لاِبْن مُفْلِح 1 / 242 .
(4) - المعجم الكبير للطبراني - (13 / 252) (15210 ) صحيح
(5) - النَّوَوِيّ عَلَى مُسْلِمِ 16 / 117 ، وَانْظُرْ عُمْدَة الْقَارِّيّ 18 / 184 ، وَالْمُنْتَقَى لِلْبَاجِي 7 / 215 ، وَالأُْبِّيّ عَلَى مُسْلِم 7 / 16 ، وَكِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ لِرِسَالَةِ ابْن أَبِي زَيْد الْقَيْرَوَانِيّ وَحَاشِيَة الْعَدَوِيّ عَلَيْهِ 2 / 395 .
(6) - مَعَالِم السُّنَنِ ( 7 / 231 - بِهَامِشٍ مُخْتَصِرٍ سُنَن أَبِي دَاوُد لِلْمُنْذِرِي .(1/42)
وَقَدْ بَيَّنَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ وَجْهَ تَحْدِيدِ التَّرْخِيصِ بِثَلاَثٍ فَقَال (1) : الثَّلاَثُ آخِرُ حَدِّ الْيَسِيرِ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ،فَاسْتَخَفَّ فِي الْمُهَاجَرَةِ لِجَرْيِ الْعَادَةِ فِي الطِّبَاعِ بِهَا عِنْدَ وُقُوعِ مَا يُثِيرُهَا.وَالأَْصْل فِي تَحْدِيدِهَا فِي الْهَجْرِ وَغَيْرِهِ قَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل:{...فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} (65) سورة هود
وَأَمَّا مَنْ لاَ يَعْتَدُّ بِمَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ مِنَ الْفُقَهَاءِ فَقَال:إِنَّ الْحَدِيثَ لاَ يَقْتَضِي إِبَاحَةَ الْهِجْرَةِ فِي الثَّلاَثِ. (2)
جَاءَ فِي مِرْقَاةِ الْمَفَاتِيحِ:قَال أَكْمَل الدِّينِ مِنْ أَئِمَّتِنَا- أَيِ الْحَنَفِيَّةِ-:فِي الْحَدِيثِ دَلاَلَةٌ عَلَى حُرْمَةِ هِجْرَانِ الأَْخِ الْمُسْلِمِ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ،وَأَمَّا جَوَازُ هِجْرَانِهِ فِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فَمَفْهُومٌ مِنْهُ لاَ مَنْطُوقٌ،فَمَنْ قَال بِحُجِّيَّةِ الْمَفْهُومِ كَالشَّافِعِيَّةِ جَازَ لَهُ أَنْ يَقُول بِإِبَاحَتِهِ،وَمَنْ لاَ فَلاَ (3) .
وَقَدْ حَمَل الْفُقَهَاءُ الْهَجْرَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ عَلَى مَا كَانَ لِحَظِّ الإِْنْسَانِ،بِأَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فِي عَتَبٍ وَمَوْجِدَةٍ أَوْ لِنَبْوَةٍ تَكُونُ مِنْهُ أَوْ تَقْصِيرٍ فِي حُقُوقِ الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ،دُونَ مَا كَانَ فِي جَانِبِ الدِّينِ،فَإِنَّ هِجْرَةَ أَهْل الأَْهْوَاءِ وَالْبِدَعِ دَائِمَةٌ عَلَى مَرِّ الأَْوْقَاتِ مَا لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُمُ التَّوْبَةُ وَالرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ،فَإِنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا خَافَ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ النِّفَاقَ حِينَ تَخَلَّفُوا عَنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَ بِهِجْرَانِهِمْ،وَأَمَرَهُمْ بِالْقُعُودِ فِي بُيُوتِهِمْ نَحْوَ خَمْسِينَ يَوْمًا، (4) إِلَى أَنْ أَنْزَل اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَوْبَتَهُ وَتَوْبَةَ أَصْحَابِهِ،فَعَرَفَ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَرَاءَتَهُمْ مِنَ النِّفَاقِ. (5)
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ قَرِيبًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ خَذَفَ - قَالَ - فَنَهَاهُ وَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ الْخَذْفِ وَقَالَ « إِنَّهَا لاَ تَصِيدُ صَيْدًا وَلاَ تَنْكَأُ عَدُوًّا وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ
__________
(1) - الْجَامِع مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ لاِبْن رُشْد ص 268 .
(2) - النَّوَوِيّ عَلَى مُسْلِمِ 16 / 117 ، وَالآْدَاب الشَّرْعِيَّة لاِبْن مُفْلِح 1 / 242 .
(3) - مِرْقَاة الْمَفَاتِيح 4 / 716 ، وَانْظُرِ الْمُنْتَقَى لِلْبَاجِي 7 / 215 .
(4) - أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ ( فَتْح الْبَارِي 8 / 114 - 115 ط السَّلَفِيَّة ) ، وَمُسْلِم ( 4 / 2124 ط الْحَلَبِيّ ) .
(5) - الأُْبِّيّ عَلَى مُسْلِم 7 / 16 ، وَالآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 252 ، وَغِذَاء الأَْلْبَاب للسفاريني 1 / 256 ، وَمِرْقَاة الْمَفَاتِيح 4 / 716 ، وَمَجْمُوع فَتَاوَى ابْن تَيْمِيَّةَ 28 / 207 ، وَمَعَالِم السُّنَنِ لِلْخَطَابِيِّ 7 / 231 ، وَحَاشِيَة الْعَدَوِيّ عَلَى كِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ 2 / 395 .(1/43)
السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ ». قَالَ فَعَادَ. فَقَالَ أُحَدِّثُكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْهُ ثُمَّ تَخْذِفُ لاَ أُكَلِّمُكَ أَبَدًا.. (1)
قَال النَّوَوِيُّ فِي تَعْلِيقِهِ عَلَى أَثَرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ:فِيهِ هِجْرَانُ أَهْل الْبِدَعِ وَالْفُسُوقِ وَمُنَابِذِي السُّنَّةِ مَعَ الْعِلْمِ،وَأَنَّهُ يَجُوزُ هِجْرَانُهُ دَائِمًا،وَالنَّهْيُ عَنِ الْهِجْرَانِ فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ إِنَّمَا هُوَ فِيمَنْ هَجَرَ لِحَظِّ نَفْسِهِ وَمَعَايِشِ الدُّنْيَا،وَأَمَّا أَهْل الْبِدَعِ فَهِجْرَانُهُمْ دَائِمًا . (2)
قَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ:وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ الْهِجْرَانُ فَوْقَ ثَلاَثٍ،إِلاَّ لِمَنْ خَافَ مِنْ مُكَالَمَتِهِ مَا يُفْسِدُ عَلَيْهِ دِينَهُ أَوْ يَدْخُل مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ دُنْيَاهُ مَضَرَّةٌ،فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ جَازَ،وَرُبَّ هَجْرٍ جَمِيلٍ خَيْرٌ مِنْ مُخَالَطَةٍ مُؤْذِيَةٍ . (3)
وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ هِجْرَانَ الْوَالِدِ لِلْوَلَدِ وَالزَّوْجِ لِلزَّوْجَةِ وَالأُْسْتَاذِ لِتِلْمِيذِهِ وَمَنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُمْ لاَ يَضِيقُ بِالْمَنْعِ فَوْقَ ثَلاَثٍ حَمْلاً لِلْحَدِيثِ عَلَى الْمُتَآخِيَيْنِ أَوِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ،أَوْ حَمْلاً لِلْهِجْرَةِ الْمُحَرَّمَةِ عَلَى الَّتِي تَكُونُ مَعَ الْعَدَاوَةِ وَالشَّحْنَاءِ،وَأَنَّ غَيْرَهَا مُبَاحٌ أَوْ خِلاَفُ الأَْوْلَى،وَهَذَا فِي غَيْرِ الأَْبَوَيْنِ،أَمَّا الأَْبَوَانِ فَلاَ يَجُوزُ لِلْوَلَدِ هَجْرُهُمَا وَلَوْ لِطَرْفَةِ عَيْنٍ (4) .
جَزَاءُ الْهَجْرِ الْمُحَرَّمِ
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلاَثٍ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ » (5) .
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (5165 )
الْخَذْف هُوَ رَمْيُك حَصَاة أَوْ نَوَاة تَأْخُذُهَا بَيْنَ سَبَّابَتَيْك وَتَرْمِي بِهَا ، أَوْ تَتَّخِذُ مِخْذَفَة مِنْ خَشَبٍ ثُمَّ تَرْمِي بِهَا الْحَصَاةَ ( النِّهَايَة لاِبْنِ الأَْثِيرِ 2 / 16 ) . تنكأ : تقتل
(2) - صَحِيح مُسْلِم بِشَرْح النَّوَوِيّ ( ط الْمَطْبَعَة الْمِصْرِيَّة ) 13 / 106 .
(3) - فَتْح الْبَارِي 10 / 496 .
(4) - مِرْقَاة الْمَفَاتِيح 4 / 716 ، وَمَعَالِم السُّنَنِ لِلْخَطَابِيِّ 7 / 231 ، وَانْظُرْ فَتْح الْبَارِي 10 / 496 ، وَحَاشِيَة الْعَدَوِيّ الْمَالِكِيّ عَلَى كِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ 2 / 395 وَحَاشِيَة الْجُمَل 4 / 290 .
(5) - سنن أبي داود - المكنز - (4916 ) صحيح(1/44)
قَال ابْنُ عَلاَّنٍ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ:فَمَنْ هَجَرَ فَوْقَ ثَلاَثٍ فَمَاتَ مُصِرًّا عَلَى الْهَجْرِ وَالْقَطِيعَةِ دَخَل النَّارَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعْذِيبَهُ مَعَ عُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ،أَوْ دَخَل النَّارَ خَالِدًا مُؤَبَّدًا إِنِ اسْتَحَل ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ بِحُرْمَتِهِ وَالإِْجْمَاعِ عَلَيْهَا (1) .
وعَنْ أَبِى خِرَاشٍ السُّلَمِىِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « مَنْ هَجَرَ أَخَاهُ سَنَةً فَهُوَ كَسَفْكِ دَمِهِ ». (2)
قَال ابْنُ عَلاَّنٍ:فَهُوَ مِنْ حَيْثُ الإِْثْمُ كَسَفْكِ دَمِهِ إِي إِرَاقَتِهِ عُدْوَانًا (3) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ:إِنَّهُ إِذَا اعْتَزَل كَلاَمَهُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ،وَلَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ.قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ (4) ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ قَال:إِذَا اعْتَزَل كَلاَمَهُ لَمْ تُقْبَل شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ،وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُؤْذٍ لَهُ (5)
وَعِلَّةُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّهَادَةَ يُتَوَقَّى فِيهَا وَيُحْتَاطُ،وَتَرْكُ الْمُكَالَمَةِ يُشْعِرُ بِأَنَّ فِي بَاطِنِهِ عَلَيْهِ شَيْئًا،فَمِنْ أَجْل ذَلِكَ لَمْ تُقْبَل شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ (6) .
هجر الأقارب :
وإذا كان المهجور من ذوي الرّحم فإنّه كبيرة حتّى وإن لم تبلغ المدّة ثلاثة أيّام؛ لأنّ الهجر هنا أضيف إليه قطيعة الرّحم،وقد عدّ الإمام الذّهبيّ هجر الأقارب مطلقا من الكبائر " (7)
الْهَجْرُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَمَّا يُوجِبُ الْهَجْرَ :
قَال الْعُلَمَاءُ:لاَ يَجُوزُ الْهَجْرُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَمَّا يُوجِبُ الْهَجْرَ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - :أَنَّهُ كَانَ لاَ يَأْخُذُ بِالْقَرَفِ وَلاَ يَقْبَل قَوْل أَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ (8) ،قَال الْمُنَاوِيُّ:وُقُوفًا مَعَ الْعَدْل لأَِنَّ
__________
(1) - دَلِيل الْفَالِحِينَ 4 / 445 - 446 .
(2) - سنن أبي داود - المكنز - (4917 ) صحيح
(3) - دَلِيل الْفَالِحِينَ 4 / 445 - 446 .
(4) - فَتْح الْبَارِي 10 / 496 ، وَالأُْبِّيّ عَلَى صَحِيحِ مُسْلِمٍ 7 / 16 .
(5) - الْمُنْتَقَى 7 / 215 .
(6) - انْظُرْ فَتْح الْبَارِي 15 / 496 .
(7) - نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - (11 / 5682) والكبائر (47).
(8) - أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْم فِي الْحِلْيَةِ ( 6 / 310 ط السَّعَادَة ) مِنْ حَدِيثِ أَنَس بْن مَالِك ، وَقَال : " غَرِيب " ، وَضَعَّفَهُ السُّيُوطِيُّ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ( 5 / 18 - بِشَرْحِهِ الْفَيْض - ط الْمَكْتَبَة التِّجَارِيَّة ) ، وَالْقِرْف - بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُون الرَّاءِ - التُّهْمَة .(1/45)
مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَوْقُوفٌ عَلَى ثُبُوتِهِ عِنْدَهُ بِطَرِيقِهِ الْمُعْتَبَرِ،وَقَال ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ:قَال مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:" إِذَا كَانَ لَكَ أَخٌ فِي اللَّهِ تَعَالَى فَلاَ تُمَارِهِ وَلاَ تَسْمَعْ فِيهِ مِنْ أَحَدٍ،فَرُبَّمَا قَال لَكَ مَا لَيْسَ فِيهِ فَحَال بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ " (1) .
هل يزولُ الْهَجْرُ بِالسَّلاَمِ ؟ :
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي كَوْنِ الْهَجْرِ يَزُول بِالسَّلاَمِ عَلَى قَوْلَيْنِ :
أَحَدُهُمَا:لِجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ وَالشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَرِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ،وَهُوَ أَنَّ السَّلاَمَ يَقْطَعُ الْهِجْرَةَ وَيَرْفَعُ إِثْمَهَا وَيُزِيلُهُ (2) .
وَدَلِيلُهُمْ قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ الأَْنْصَارِيِّ:وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ صَاحِبَهُ بِالسَّلاَمِ،وَقَالُوا:فَلَوْلاَ أَنَّ السَّلاَمَ يَقْطَعُ الْهِجْرَةَ لَمَا كَانَ أَفْضَلُهَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ (3) .
وَالثَّانِي:لأَِحْمَدَ وَابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ،وَهُوَ أَنَّ تَرْكَ الْكَلاَمِ إِنْ كَانَ يُؤْذِيهِ لَمْ تَنْقَطِعِ الْهِجْرَةُ بِالسَّلاَمِ (4) .
قَال أَبُو يَعْلَى:ظَاهِرُ كَلاَمِ أَحْمَدَ أَنَّهُ لاَ يَخْرُجُ عَنِ الْهِجْرَةِ بِمُجَرَّدِ السَّلاَمِ،بَل حَتَّى يَعُودَ إِلَى حَالِهِ مَعَ الْمَهْجُورِ قَبْل الْهِجْرَةِ،ثُمَّ قَال:وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلْهُ أَحْمَدُ خَارِجًا عَنِ الْهِجْرَةِ بِمُجَرَّدِ السَّلاَمِ حَتَّى يَعُودَ إِلَى عَادَتِهِ مَعَهُ فِي الاِجْتِمَاعِ وَالْمُؤَانَسَةِ؛لأَِنَّ الْهِجْرَةَ لاَ تَزُول إِلاَّ بِعَوْدَتِهِ إِلَى عَادَتِهِ مَعَهُ (5) .
__________
(1) - فَيْض الْقَدِير شَرْح الْجَامِع الصَّغِير 5 / 181 ، وَالآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 240 وَمَا بَعْدَهَا .
(2) - عُمْدَة الْقَارِّيّ 18 / 179 ، وَمِرْقَاة الْمَفَاتِيح 4 / 717 ، وَالنَّوَوِيّ عَلَى مُسْلِمِ 16 / 117 ، وَالْمُنْتَقَى 7 / 215 ، وَالأُْبِّيّ عَلَى مُسْلِم 7 / 16 ، وَفَتْح الْبَارِي 10 / 496 ، وَغِذَاء الأَْلْبَاب للسفاريني 1 / 274 ، وَالآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 244
(3) - النَّوَوِيّ عَلَى مُسْلِمِ 16 / 117 ، وَالْمُنْتَقَى 7 / 215 .
(4) - الأُْبِّيّ عَلَى مُسْلِم 7 / 16 ، وَفَتْح الْبَارِي 10 / 496 ، وَالنَّوَوِيِّ عَلَى مُسْلِمِ 16 / 117 ، وَعُمْدَة الْقَارِئ 18 / 179 .
(5) - الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 254 ، وَغِذَاء الأَْلْبَاب للسفاريني 1 / 274 .(1/46)
وَقَال ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمُزَنِيَّةِ فِي الَّذِي يُسَلِّمُ عَلَى أَخِيهِ وَلاَ يُكَلِّمُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ،بَل يَجْتَنِبُ كَلاَمَهُ:إِذَا كَانَ - أَيِ اجْتِنَابُ مُكَالَمَتِهِ - غَيْرَ مُؤْذٍ لَهُ،فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الشَّحْنَاءِ،وَإِنْ كَانَ مُؤْذِيًا لَهُ،فَلاَ يَبْرَأُ مِنْهَا (1) .
وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْل:أَنَّهُ إِذَا كَانَ لاَ يُؤْذِيهِ تَرْكُ مُكَالَمَتِهِ،فَإِنَّهُ يَبْرَأُ مِنَ الْهِجْرَةِ؛لأَِنَّهُ أَتَى مِنَ الْمُوَاصَلَةِ بِمَا لاَ أَذًى فِيهِ،وَإِنْ كَانَ يُؤْذِيهِ،فَلاَ يَبْرَأُ مِنَ الْمُهَاجَرَةِ؛لأَِنَّ الأَْذَى أَشَدُّ مِنَ الْمُهَاجَرَةِ (2) .
فَضْل الْبَدْءِ بِالسَّلاَمِ بَعْدَ الْهَجْرِ:
تَجْدُرُ الإِْشَارَةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا ابْتَدَأَ أَحَدُ الْمُتَهَاجِرَيْنِ صَاحِبَهُ بِالسَّلاَمِ فَلَمْ يَرُدَّ الآْخَرُ،فَإِنَّ إِثْمَ الْهَجْرِ يَسْقُطُ عَنْ مُلْقِي السَّلاَمِ،وَيَبُوءُ الْمُمْتَنِعُ عَنْ رَدِّهِ بِالإِْثْمِ،وَيَصِيرُ بِذَلِكَ فَاسِقًا،وَيَحِل هِجْرَانُهُ (3) ،يَشْهَدُ لِذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - :لاَ يَحِل لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَهْجُرَ مُؤْمِنًا فَوْقَ ثَلاَثٍ،فَإِنْ مَرَّتْ بِهِ ثَلاَثٌ،فَلْيَلْقَهُ،فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ،فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ فَقَدِ اشْتَرَكَا فِي الأَْجْرِ،وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ فَقَدْ بَاءَ بِالإِْثْمِ" . (4)
وَقَال بَعْضُ الْفُقَهَاءِ:يَجِبُ هَجْرُهُ لِعَدَمِ رَدِّ السَّلاَمِ؛لأَِنَّهُ فَاسِقٌ،وَلاَ خَيْرَ فِيهِ أَصْلاً وَذَلِكَ تَأْدِيبًا (5)
هَذَا،وَقَدْ نَبَّهَ الْمُصْطَفَى عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ الأَْنْصَارِيِّ الآْنِفِ الذِّكْرِ إِلَى أَنَّ خَيْرَ الْمُتَهَاجِرَيْنِ مَنْ يَبْدَأُ صَاحِبَهُ بِالسَّلاَمِ،أَيْ أَفْضَلَهُمَا وَأَكْثَرَهُمَا ثَوَابًا.قَال الْبَاجِيُّ:لأَِنَّهُ الَّذِي بَدَأَ بِالْمُوَاصَلَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا،وَتَرَكَ الْمُهَاجَرَةَ الْمَنْهِيَّ عَنْهَا،مَعَ أَنَّ الاِبْتِدَاءَ بِهَا أَشَدُّ مِنَ الْمُسَاعَدَةِ عَلَيْهَا (6)
__________
(1) - الْمُنْتَقَى لِلْبَاجِي 7 / 215 .
(2) - الْمُنْتَقَى 7 / 215 .
(3) - مِرْقَاة الْمَفَاتِيح 4 / 717 .
(4) - سنن أبي داود - المكنز - (4914) حسن لغيره ، وَصَحَّحَ إِسْنَاده ابْن حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي ( 10 / 495ط السَّلَفِيَّة ) .
(5) - مِرْقَاة الْمَفَاتِيح 4 / 717 .
(6) - الْمُنْتَقَى شَرْح الْمُوَطَّأ 7 / 215 .(1/47)
وَقِيل:لِدَلاَلَةِ فِعْلِهِ عَلَى أَنَّهُ أَقْرَبُ لِلتَّوَاضُعِ وَأَنْسَبُ إِلَى الصَّفَاءِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ،وَلإِِشْعَارِهِ بِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِالتَّقْصِيرِ،وَلإِِيمَائِهِ إِلَى حِفْظِ الْعَهْدِ وَالْحِرْصِ عَلَى الْمَوَدَّةِ الْقَدِيمَةِ (1) .
ثَالِثًا:هَجْرُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ :
أَمَّا هَجْرُ الْمُسْلِمِ لِغَيْرِ الْمُسْلِمِ،فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَوْقَ ثَلاَثٍ؛لأَِنَّ الْمُرَادَ بِالأُْخُوَّةِ فِي الْحَدِيثِ أُخُوَّةُ الإِْسْلاَمِ،فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ جَازَ هَجْرُهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ (2) .
قَال الطِّيبِيُّ:وَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ إِشْعَارٌ بِالْعِلِّيَّةِ،وَالْمُرَادُ بِهِ أُخُوَّةُ الإِْسْلاَمِ،وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إِذَا خَالَفَ هَذِهِ الشَّرِيطَةَ وَقَطَعَ هَذِهِ الرَّابِطَةَ جَازَ هَجْرُهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ (3) .
رَابِعًا:تَأْدِيبُ الزَّوْجَةِ لِنُشُوزِهَا بِالْهَجْرِ :
لِلزَّوْجِ تَأْدِيبُ زَوْجَتِهِ إِذَا نَشَزَتْ بِأُمُورٍ مِنْهَا هَجْرُهَا فِي الْمَضْجَعِ،لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (34) سورة النساء. (4)
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ هَجْرَ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ النَّاشِزَةِ يَنْقَضِي جَوَازُهُ بِانْقِضَاءِ نُشُوزِهَا وَرُجُوعِهَا عَنْهُ وَعَوْدَتِهَا إِلَى طَاعَةِ الزَّوْجِ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا طَاعَتَهُ فِيهِ؛لأَِنَّهَا بِذَلِكَ تَكُونُ قَدْ أَقْلَعَتْ عَمَّا اسْتَحَقَّتْ بِهِ الْهَجْرَ وَاعْتُبِرَتْ بِهِ نَاشِزًا (5)
مَا يَنْقَضِي بِهِ جَوَازُ هَجْرِ الزَّوْجَةِ: وَذَلِكَ لِقَوْل اللَّهِ عَزَّ وَجَل فِي آيَةِ النُّشُوزِ:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي
__________
(1) - مِرْقَاة الْمَفَاتِيح 4 / 717 .
(2) - الأُْبِّيّ عَلَى مُسْلِم 7 / 16 ، وَفَتْح الْبَارِي 10 / 496 .
(3) - مِرْقَاة الْمَفَاتِيح 4 / 716 .
(4) - انظر َالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحِ ( نُشُوز ف 15 ) من الموسوعة الفقهية .
(5) - بَدَائِع الصَّنَائِع 2 / 334 ، وَتَفْسِير الْقُرْطُبِيّ 5 / 174 ، وَالأُْمّ لِلشَّافِعِيِّ ( 5 / 112 و 194 دَار الْمَعْرِفَة - بَيْرُوت ) ، وَكَشَّاف الْقِنَاع 5 / 209 ، وَمَنَار السَّبِيل فِي شَرْحِ الدَّلِيل ( دَار الْحِكْمَةِ ) 2 / 227 .(1/48)
الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (34) سورة النساء.
خَامِسًا:هَجْرُ الْمُجَاهِرِينَ بِالْمَعَاصِي زَجْرًا وَتَأْدِيبًا :
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى مَشْرُوعِيَّةِ هَجْرِ الْمُجَاهِرِينَ بِالْمَعَاصِي وَالْمُنْكَرَاتِ أَوِ الْبِدَعِ وَالأَْهْوَاءِ،لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى،عَلَى سَبِيل الزَّجْرِ وَالتَّأْدِيبِ (1)
قَال الْبَغَوِيُّ:فَأَمَّا هِجْرَانُ أَهْل الْعِصْيَانِ وَالرَّيْبِ فِي الدِّينِ،فَشُرِعَ إِلَى أَنْ تَزُول الرِّيبَةُ عَنْ حَالِهِمْ وَتَظْهَرَ تَوْبَتُهُمْ (2)
وَقَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ:إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ مُقِيمٌ عَلَى مَعْصِيَةٍ،وَهُوَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ،لَمْ يَأْثَمْ إِنْ جَفَاهُ حَتَّى يَرْجِعَ،وَإِلاَّ كَيْفَ يَتَبَيَّنُ لِلرَّجُل مَا هُوَ عَلَيْهِ،إِذَا لَمْ يَرَ مُنْكِرًا،وَلاَ جَفْوَةً مِنْ صَدِيقٍ (3) .
وَقَال ابْنُ رُشْدٍ:لأَِنَّ الْحُبَّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضَ فِي اللَّهِ وَاجِبٌ،وَلأَِنَّ فِي تَرْكِ مُؤَاخَاةِ الْبِدْعِيِّ حِفْظًا لِدِينِهِ،إِذْ قَدْ يَسْمَعُ مِنْ شُبَهِهِ مَا يَعْلَقُ بِنَفْسِهِ،وَفِي تَرْكِ مُؤَاخَاةِ الْفَاسِقِ رَدْعٌ لَهُ عَنْ فُسُوقِهِ (4) .
وَقَال ابْنُ عَقِيلٍ:الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ آثَرُوا فِرَاقَ نُفُوسِهِمْ لأَِجْل مُخَالَفَتِهَا لِلْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى،فَهَذَا يَقُول:زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي.وَنَحْنُ لاَ نَسْخُوا أَنْ نُقَاطِعَ أَحَدًا فِيهِ لِمَكَانِ الْمُخَالَفَةِ ! (5)
وَهِجْرَانُ الْمُجَاهِرِينَ بِالْمَعَاصِي عَلَى مَرْتَبَتَيْنِ:الْهِجْرَانِ بِالْقَلْبِ،وَالْهِجْرَانِ بِاللِّسَانِ.فَهِجْرَانُ الْكَافِرِ بِالْقَلْبِ،وَبِتَرْكِ التَّوَدُّدِ وَالتَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُرِ،لاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَ حَرْبِيًّا .
__________
(1) - الأُْبِّيّ عَلَى مُسْلِم 7 / 16 ، وَعُمْدَة الْقَارِّيّ 18 / 186 ، وَالآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 244 ، الْفَتَاوَى الْكُبْرَى لاِبْن تَيْمِيَّةَ ( ط الرَّيَّان بِمِصْرَ ) 3 / 435 .
(2) - شَرْح السُّنَّة لِلْبَغْوَيْ 13 / 101 .
(3) - الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 229 ، وَغِذَاء الأَْلْبَاب للسفاريني 1 / 256 .
(4) - الْمُقْدِمَات الْمُمَهِّدَات لاِبْن رُشْد ( ط دَار الْغَرْبِ الإِْسْلاَمِيّ ) 3 / 446 .
(5) - الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 235(1/49)
وَإِنَّمَا لَمْ يَشْرَعْ هِجْرَانُهُ بِالْكَلاَمِ لِعَدَمِ ارْتِدَاعِهِ بِذَلِكَ عَنْ كُفْرِهِ،بِخِلاَفِ الْعَاصِي الْمُسْلِمِ،فَإِنَّهُ يَنْزَجِرُ بِذَلِكَ غَالِبًا.وَيَشْتَرِكُ كُلٌّ مِنَ الْكَافِرِ وَالْعَاصِي فِي مَشْرُوعِيَّةِ مُكَالَمَتِهِ بِالدُّعَاءِ إِلَى الطَّاعَةِ وَالأَْمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ (1) .
وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي الْحُكْمِ التَّكْلِيفِيِّ لِذَلِكَ وَمَا يُشْتَرَطُ لَهُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا:يُسَنُّ هَجْرُ مَنْ جَهَرَ بِالْمَعَاصِي الْفِعْلِيَّةِ أَوِ الْقَوْلِيَّةِ أَوِ الاِعْتِقَادِيَّةِ.قَالَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ (2) .
وَالثَّانِي:يَجِبُ هَجْرُهُ مُطْلَقًا،فَلاَ يُكَلَّمُ وَلاَ يُسَلَّمُ عَلَيْهِ،وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نُقِل عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ،وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ عَقِيلٍ فِي مُعْتَقَدِهِ،وَقَال:لِيَكُونَ ذَلِكَ كَسْرًا لَهُ وَاسْتِصْلاَحًا .
وَالثَّالِثُ:يَجِبُ هَجْرُهُ مُطْلَقًا إِلاَّ مِنَ السَّلاَمِ بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ .
وَالرَّابِعُ:يَجِبُ هَجْرُهُ إِنِ ارْتَدَعَ بِذَلِكَ،وَإِلاَّ كَانَ مُسْتَحَبًّا (3) .
وَالْخَامِسُ:يَجِبُ هَجْرُ مَنْ كَفَرَ أَوْ فَسَقَ بِبِدْعَةٍ أَوْ دَعَا إِلَى بِدْعَةٍ مُضِلَّةٍ أَوْ مُفَسِّقَةٍ عَلَى مَنْ عَجَزَ عَنِ الرَّدِّ عَلَيْهِ أَوْ خَافَ الاِغْتِرَارَ بِهِ وَالتَّأَذِّيَ دُونَ غَيْرِهِ.أَمَّا مَنْ قَدَرَ عَلَى الرَّدِّ أَوْ كَانَ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إِلَى مُخَالَطَتِهِمْ لِنَفْعِ الْمُسْلِمِينَ وَقَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْهَجْرُ؛لأَِنَّ مَنْ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ وَيُنَاظِرُهُمْ يَحْتَاجُ إِلَى مُشَافَهَتِهِمْ وَمُخَالَطَتِهِمْ لأَِجْل ذَلِكَ.وَكَذَا مَنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُ دُونَ غَيْرِهِ.وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ (4) .
وَالسَّادِسُ:أَنَّ هِجْرَانَ ذِي الْبِدْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ أَوِ الْمُتَجَاهِرِ بِالْكَبَائِرِ وَاجِبٌ بِشَرْطَيْنِ :
أَحَدُهُمَا:أَنْ لاَ يَقْدِرَ عَلَى عُقُوبَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ - كَالْحَدِّ وَبَقِيَّةِ أَنْوَاعِ التَّعْزِيرِ فِي كُل شَيْءٍ بِمَا يَلِيقُ بِهِ - إِذَا كَانَ لاَ يَتْرُكُهَا إِلاَّ بِالْعُقُوبَةِ،بِحَيْثُ إِذَا قَدَرَ عَلَى عُقُوبَتِهِ بِالْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ لَزِمَهُ.وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلاَّ لِمَنْ بُسِطَتْ يَدُهُ فِي الأَْرْضِ،هَذَا إِذَا لَمْ يَخَفْ مِنْهُ،أَمَّا إِذَا خَافَ مِنْهُ
__________
(1) - فَتْح الْبَارِي 10 / 497 .
(2) - الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 229
(3) - الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 229 ، 237 ، وَغِذَاء الأَْلْبَاب للسفاريني 1 / 259 ، 268 .
(4) - الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 237 ، وَغِذَاء الأَْلْبَاب 1 / 269 .(1/50)
إِذَا تَرَكَ مُخَالَطَتَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُدَارِيَهُ.وَالْمُدَارَاةُ هِيَ أَنْ يُظْهِرَ خِلاَفَ مَا يُضْمِرُ لاِكْتِفَاءِ الشَّرِّ وَحِفْظِ الْوَقْتِ،بِخِلاَفِ الْمُدَاهَنَةِ الَّتِي مَعَهَا إِظْهَارُ ذَلِكَ لِطَلَبِ الْحَظِّ وَالنَّصِيبِ مِنَ الدُّنْيَا .
وَالثَّانِي:أَنْ لاَ يَقْدِرَ عَلَى مَوْعِظَتِهِ،لِشِدَّةِ تَجَبُّرِهِ،أَوْ يَقْدِرَ عَلَيْهَا لَكِنَّهُ لاَ يَقْبَلُهَا؛لِعَدَمِ عَقْلٍ وَنَحْوِهِ .
أَمَّا لَوْ كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ زَجْرِهِ عَنْ مُخَالَطَةِ الْكَبَائِرِ بِعُقُوبَتِهِ بِيَدِهِ - إِنْ كَانَ حَاكِمًا أَوْ فِي وِلاَيَتِهِ أَوْ بِرَفْعِهِ لِلْحَاكِمِ - أَوْ بِمُجَرَّدِ وَعْظِهِ ،لَوَجَبَ عَلَيْهِ زَجْرُهُ وَإِبْعَادُهُ عَنْ فِعْل الْكَبَائِرِ،وَلاَ يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ بِهَجْرِهِ.وَهُوَ قَوْل الْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَالسَّابِعُ:أَنَّ هِجْرَانَ أَهْل الْبِدَعِ كَافِرِهِمْ وَفَاسِقِهِمْ وَالْمُتَظَاهِرِينَ بِالْمَعَاصِي وَتَرْكِ السَّلاَمِ عَلَيْهِمْ فَرْضُ كِفَايَةٍ،وَمَكْرُوهٌ لِسَائِرِ النَّاسِ.وَهُوَ قَوْل ابْنِ تَمِيمٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ (2) .
وَالثَّامِنُ:أَنَّ الرَّجُل إِذَا أَظْهَرَ الْمُنْكَرَاتِ وَجَبَ الإِْنْكَارُ عَلَيْهِ عَلاَنِيَةً،وَلَمْ يَبْقَ لَهُ غِيبَةٌ،وَوَجَبَ أَنْ يُعَاقَبَ عَلاَنِيَةً بِمَا يَرْدَعُهُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ هَجْرٍ وَغَيْرِهِ،فَلاَ يُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَلاَ يُرَدُّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِذَا كَانَ الْفَاعِل لِذَلِكَ مُتَمَكِّنًا مِنْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ،فَإِنْ أَظْهَرَ التَّوْبَةَ أَظْهَرَ لَهُ الْخَيْرَ.وَهُوَ قَوْل تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ (3)
وَقَال:الْهَجْرُ الشَّرْعِيُّ نَوْعَانِ :
أَحَدُهُمَا:بِمَعْنَى التَّرْكِ لِلْمُنْكَرَاتِ.وَالثَّانِي:بِمَعْنَى الْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا.وَهُوَ الْهَجْرُ عَلَى وَجْهِ التَّأْدِيبِ،وَهُوَ هَجْرُ مَنْ يُظْهِرُ الْمُنْكَرَاتِ،يُهْجَرُ حَتَّى يَتُوبَ مِنْهَا،كَمَا هَجَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَالْمُسْلِمُونَ الثَّلاَثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى أَنْزَل اللَّهُ تَوْبَتَهُمْ،حِينَ ظَهَرَ مِنْهُمْ تَرْكُ الْجِهَادِ الْمُتَعَيَّنِ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِ عُذْرٍ،وَلَمْ يَهْجُرْ مَنْ أَظْهَرَ الْخَيْرَ وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا،فَهُنَا الْهَجْرُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّعْزِيرِ (4) .
__________
(1) - كِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ وَحَاشِيَة الْعَدَوِيّ عَلَيْهِ 2 / 395 ، 396 .
(2) - الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 229 ، 237 ، وَغِذَاء الأَْلْبَاب 1 / 259 ، 269 .
(3) - الْفَتَاوَى الْكُبْرَى لاِبْن تَيْمِيَّةَ ( ط دَار الرَّيَّان بِالْقَاهِرَةِ ) 3 / 435 ، وَمَجْمُوع فَتَاوَى ابْن تَيْمِيَّةَ 28 / 217 ، 218 .
(4) - مَجْمُوع فَتَاوَى ابْن تَيْمِيَّةَ 28 / 203 .(1/51)
وَهَذَا الْهَجْرُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الْهَاجِرِينَ فِي قُوَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ وَقِلَّتِهِمْ وَكَثْرَتِهِمْ،فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ زَجْرُ الْمَهْجُورِ وَتَأْدِيبُهُ وَرُجُوعُ الْعَامَّةِ عَنْ مِثْل حَالِهِ،فَإِنْ كَانَتِ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ رَاجِحَةً بِحَيْثُ يُفْضِي هَجْرُهُ إِلَى ضَعْفِ الشَّرِّ وَخُفْيَتِهِ كَانَ مَشْرُوعًا،وَإِنْ كَانَ لاَ الْمَهْجُورُ وَلاَ غَيْرُهُ يَرْتَدِعُ بِذَلِكَ،بَل يَزِيدُ الشَّرُّ،وَالْهَاجِرُ ضَعِيفٌ بِحَيْثُ تَكُونُ مَفْسَدَةُ ذَلِكَ رَاجِحَةً عَلَى مَصْلَحَتِهِ لَمْ يُشْرَعِ الْهَجْرُ،بَل يَكُونُ التَّأْلِيفُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْفَعَ مِنَ الْهَجْرِ،وَالْهَجْرُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْفَعَ مِنَ التَّأْلِيفِ .
وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَأَلَّفُ قَوْمًا وَيَهْجُرُ آخَرِينَ،كَمَا أَنَّ الثَّلاَثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا كَانُوا خَيْرًا مِنْ أَكْثَرِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ لَمَّا كَانَ أُولَئِكَ كَانُوا سَادَةً مُطَاعِينَ فِي عَشَائِرِهِمْ،فَكَانَ الْمَصْلَحَةُ الدِّينِيَّةُ فِي تَأْلِيفِ قُلُوبِهِمْ.وَهَؤُلاَءِ كَانُوا مُؤْمِنِينَ،وَالْمُؤْمِنُونَ سِوَاهُمْ كَثِيرٌ،فَكَانَ فِي هَجْرِهِمْ عِزُّ الدِّينِ وَتَطْهِيرُهُمْ مِنْ ذُنُوبِهِمْ،وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي الْعَدْوِ الْقِتَال تَارَةً،وَالْمُهَادَنَةُ تَارَةً،وَأَخْذُ الْجِزْيَةِ تَارَةً.كُل ذَلِكَ بِحَسَبِ الأَْحْوَال وَالْمَصَالِحِ (1) .
هَجْرُ الْمُسْتَتِرِ بِالْمَعْصِيَةِ :
أَمَّا الْمُسْتَتِرُونَ مِنْ أَهْل الْفِسْقِ وَالْمَعْصِيَةِ وَغَيْرُ الْمُجَاهِرِينَ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَهْل الأَْهْوَاءِ وَالْبِدَعِ،فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَجْرِهِمْ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا:يَجِبُ هَجْرُهُمْ؛لِيَكُفُّوا عَنْهَا.قَال ابْنُ حَجَرٍ مُعَلِّقًا عَلَى تَرْجَمَةِ الْبُخَارِيِّ - بَابُ مَا يَجُوزُ مِنَ الْهِجْرَانِ لِمَنْ عَصَى - فَتَبَيَّنَ هُنَا السَّبَبُ الْمُسَوِّغُ لِلْهَجْرِ،هُوَ لِمَنْ صَدَرَتْ مِنْهُ مَعْصِيَةٌ،فَيَسُوغُ لِمَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهَا مِنْهُ هَجْرُهُ عَلَيْهَا لِيَكُفَّ عَنْهَا (2) .
وَقَال أَبُو الْحُسَيْنِ الْفَرَّاءُ الْحَنْبَلِيُّ:لاَ تَخْتَلِفُ الرِّوَايَةُ - أَيْ عَنْ أَحْمَدَ - فِي وُجُوبِ هَجْرِ أَهْل الْبِدَعِ وَفُسَّاقِ الْمِلَّةِ،وَظَاهِرُ إِطْلاَقِهِ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ الْمُجَاهِرِ وَغَيْرِهِ فِي الْمُبْتَدِعِ الْفَاسِقِ.قَال:وَلاَ فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ ذِي رَحِمٍ وَالأَْجْنَبِيِّ إِذَا كَانَ الْحَقُّ لِلَّهِ تَعَالَى.فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْحَقُّ لآِدَمِيٍّ كَالْقَذْفِ وَالسَّبِّ وَالْغِيبَةِ أَخَذَ مَالَهُ غَصْبًا وَنَحْوَ ذَلِكَ نَظَرَ:فَإِنْ كَانَ
__________
(1) - مَجْمُوع فَتَاوَى ابْن تَيْمِيَّةَ 28 / 204 - 206 ، وانظرها 28 / 216 أَيْضًا .
(2) - فَتْح الْبَارِي 10 / 497(1/52)
الْهَاجِرُ وَالْفَاعِل لِذَلِكَ مِنْ أَقَارِبِهِ وَأَرْحَامِهِ لَمْ تَجُزْ هِجْرَتُهُ .وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَهَل تَجُوزُ هِجْرَتُهُ أَمْ لاَ ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ (1) .
وَالْقَوْل الثَّانِي:لاَ يَهْجُرُونَ.حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى عَنْ ظَاهِرِ كَلاَمٍ لِلإِْمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (2) .
وَالثَّالِثُ:أَنَّ فَاعِل الْمُنْكَرِ إِنْ كَانَ مُسْتَتِرًا بِذَلِكَ وَلَيْسَ مُعْلِنًا لَهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ سِرًّا وَسَتَرَ عَلَيْهِ لحديث سَالِمٍ،عَنْ أَبِيهِ:أَنَّ رَسُولَ اللهِ،قَالَ:الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ،مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ،وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً،فَرَّجَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ،وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا،سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (3)
إِلاَّ أَنْ يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ،وَالْمُتَعَدِّي لاَ بُدَّ مِنْ كَفِّ عُدْوَانِهِ.وَإِذَا نَهَاهُ الْمَرْءُ سِرًّا فَلَمْ يَنْتَهِ،فَعَل مَا يُنْكَفُ بِهِ مِنْ هَجْرٍ وَغَيْرِهِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَنْفَعَ فِي الدِّينِ.وَهُوَ قَوْل تَقِيِّ الدِّينِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ (4) .
هَجْرُ مَكَانِ الْمَعْصِيَةِ :
قَال الْعُلَمَاءُ:مُجَالَسَةُ أَهْل الْمُنْكَرِ لاَ تَحِل،وَقَال ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادُ:مَنْ خَاضَ فِي آيَاتِ اللَّهِ تُرِكَتْ مُجَالَسَتُهُ وَهُجِرَ،مُؤْمِنًا كَانَ أَوْ كَافِرًا،وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (68) سورة الأنعام. وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (140) سورة النساء .
__________
(1) - الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 238 ، وغذاء الأَْلْبَاب 9 / 259 )
(2) - الآْدَاب الشَّرْعِيَّة 1 / 233 ، وغذاء الأَْلْبَاب 1 / 260
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (2442) وصحيح مسلم- المكنز - (6743 ) و صحيح ابن حبان - (2 / 291)(533)
(4) - الْفَتَاوَى الْكُبْرَى لاِبْن تَيْمِيَّةَ ( ط الرَّيَّان ) 3 / 434 ، ومجموع فَتَاوَى ابْن تَيْمِيَّةَ 28 / 217(1/53)
قَال الْقُرْطُبِيُّ:فَدَل بِهَذَا عَلَى وُجُوبِ اجْتِنَابِ أَصْحَابِ الْمَعَاصِي إِذَا ظَهَرَ مِنْهُمْ مُنْكَرٌ؛لأَِنَّ مَنْ لَمْ يَجْتَنِبْهُمْ فَقَدْ رَضِيَ فِعْلَهُمْ،وَالرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ .
وَقَال الْجَصَّاصُ:وَفِي هَذِهِ الآْيَةِ دَلاَلَةٌ عَلَى وُجُوبِ إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ عَلَى فَاعِلِهِ،وَأَنَّ مِنْ إِنْكَارِهِ إِظْهَارُ الْكَرَاهِيَةِ إِذَا لَمْ يُمْكِنْهُ إِزَالَتُهُ وَتَرْكُ مُجَالَسَةِ فَاعِلِهِ وَالْقِيَامُ عَنْهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ وَيَصِيرَ إِلَى حَالٍ غَيْرِهَا (1)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - تَفْسِير الْقُرْطُبِيّ 5 / 417 - 418 ، 7 / 13 ، وأحكام الْقُرْآن لِلْجَصَّاصِ 2 / 353 ، وَأَحْكَام الْقُرْآنِ لاِبْنِ الْعَرَبِيِّ 2 / 260 ، ودليل الْفَالِحِينَ 1 / 98 ط الْحَلَبِيّ ، وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (7 / 101)(1/54)
الحق السادس
يحسن إلى كل من قدر عليه منهم ما استطاع
فلا يميز بين الأهل وغير الأهل. فعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ،عَنْ أَبِيهِ ،عَنْ جَدِّهِ،أَنِّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:(( اصْنَعِ الْمَعْرُوفَ إِلَى مِنْ هُوَ أَهْلُهُ،وَإلَى مِنْ لَيْسَ أَهْلَهُ،فَإِنْ كَانَ أَهْلَهَ فَهُوَ أَهْلُهُ،وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلَهَ،فَأَنْتَ أَهْلُهُ )) (1) .
وعَنْ عَلِيٍّ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"رَأْسُ الْعَقْلِ بَعْدَ الدِّينِ التَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ،واصْطِنَاعُ الْخَيْرِ إِلَى كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ " (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ الْمُطَّلِبِ كَثِيرًا مَا يَقُولُ:"مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَحْسَنْتُ إِلَيْهِ إِلَّا أَضَاءَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ،وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا سَأَلْتُ إِلَيْهِ إِلَّا أَظْلَمَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ،فَعَلَيْكَ بِالْإِحْسَانِ،وَاصْطِنَاعِ الْمَعْرُوفِ،فَإِنَّ ذَلِكَ يَقِي مَصَارِعَ السَّوْءِ " (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَأْخُذُ بِيَدِهِ فَيَنْزِعُ يَدَهُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ يُرْسِلَهُ،وَلَمْ يَكُنْ يُرَى رُكْبَتُهُ خَارِجَةَ رُكْبَةِ جَلِيسِهِ،وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُكَلِّمُهُ،إلا أَقْبَلَ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ،ثُمَّ لَمْ يَصْرِفْهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ كَلامِهِ" (4)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَأْخُذُ بِيَدِهِ فَيَنْزِعُ يَدَهُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى يَكُونَ الرَّجُلُ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُهُ،وَلَمْ يَكُنْ تَرَى رُكْبَتَيْهِ أَوْ رُكْبَتَهُ خَارِجًا عَنْ رُكْبَةِ جَلِيسِهِ،وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يُصَافِحْهُ إِلا أَقْبَلَ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ،ثُمَّ لَمْ يُصْرِفْهُ عَنْهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ كَلامِهِ. (5)
وعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:خَدَمْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَشْرَ سِنِينَ،فَمَا قَالَ لِي لشَيْءٍ صَنَعْتُهُ:لِمَ صَنَعْتَهُ ؟ وَلَا قَالَ لشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ:أَلَا صَنَعْتَهُ ؟ وَلَا رَأَيْتُ رُكْبَتَهُ قُدَّامَ رُكْبَةِ جَلِيسِهِ قَطُّ،وَلَا
__________
(1) - أحاديث نافع بن أبي نعيم وغيره - (1 / 45)(14) وآداب الصحبة لأبي عبد الرحمن السلمي - (91) فيه ضعف
(2) - شعب الإيمان - (10 / 407)(7705 ) وسنده واهٍ ضعيف جدا
(3) - شعب الإيمان - (13 / 325)(10417 ) ضعيف
(4) - المعجم الأوسط للطبراني - (8931 ) وكشف الأستار - (3 / 158)(2473) حسن
(5) - كشف الأستار - (3 / 158)(2473) حسن(1/55)
عَابَ طَعَامًا قَطُّ،وَلَا صَافَحَهُ أَحَدٌ قَطُّ فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى يَكُونَ الْمُصَافِحُ هُوَ الَّذِي يَنْزِعُ يَدَهُ،وَلَا أَصْغَى إِلَيْهِ أَحَدٌ بِرَأْسِهِ فَنَحَّى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأْسَهُ،حَتَّى يَكُونَ الْمُصْغِي هُوَ الَّذِي يُنَحِّي رَأْسَهُ،وَلَقَدْ شَمِمْتُ رِيحَ طِيبِ النِّسَاءِ وَالرِّجَالِ فَمَا شَمِمْتُ رِيحًا قَطُّ وَلَا رَائِحَةً أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَلَا عَرَقِهِ"وَبَلَغَ مِنْ حُسْنِ مُعَامَلَتِهِ خَلْقَ اللَّهِ أَنْ أَسْلَمَ لَهُ الشَّيْطَانُ" (1)
قال القرني:"إياك والهمَّ فإنه سُمٌّ،والعجز فإنه موتٌ،والكَسَلَ فإنه خيبةٌ،واضطرابَ الرأيِ فإنه سوءٌ تدبيرٍ.جارُ السوءِ شرٌّ من غربةِ الإنسانِ،واصطناعُ المعروفِ أرفع من القصورِ الشاهقةِ،والثناءُ الحَسَنُ هو المجدُ ." (2)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - بَحْرُ الْفَوَائِدِ الْمُسَمَّى بِمَعَانِي الْأَخْيَارِ لِلْكَلَابَاذِيِّ (10 ) حسن لغيره
(2) - لا تحزن للقرني - (1 / 127)(1/56)
الحق السابع
لا يدخل على أحد منهم إلا بإذنه
أي لا يدخل على أحد منهم إلا بإذنه بل يستأذن ثلاثاً فإن لم يؤذن له انصرف.
قال تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) }[النور:27-28]
يُؤَدِّبُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ فَيَأْمُرُهُم بِأَلاَّ يَدْخُلُوا بُيوتاً غَيْرَ بُيُوتِهِمْ حَتَّى يَسْتَأْذِنُوا قَبْلَ الدُّخُولِ ( يَسْتَأنِسُوا )،وَيُسَلِّمُوا بَعْدَ الاسْتِئْذَانِ،وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَأَذِنُوا ثَلاثَ مَرَّاتٍ،فَإِذَا أُذِنَ لَهُمْ دَخُلُوا وَإِلاَّ انْصَرَفُوا،فَالاسْتِئْذَانُ خَيْرٌ لِلمُسْتَأذِنِ وَلأَهْلِ البَيْتِ،فالبيْتُ سَكَنٌ يَفِيُْ إِلَيْهِ النَّاسُ فَتَسْكُنُ أَرْوَاحُهُمْ،وَيَطْمَئِنُّونَ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ وَحُرَمَاتِهِم،وَيُلْقُونَ عَنْهُمْ أَعْبَاءَ الحِرْصِ والحَذَرِ المُرْهِقَةِ للنُّفُوسِ والأَعْصَابِ،والبُيُوتُ لاَ تَكُونُ كَذَلِكَ إِلاَّ تَكُونُ حَرَمَاً آمِناً لاَ يَسْتَبِيحُهُ أَحَدٌ إِلاَّ بِعِلمِ أَهْلِهِ وإِذْنِهِمْ فِي الوَقتِ الذي يُرِيدُونَ هُمْ .
فَإِذَا لَمْ يَجِدُوا فِي هَذَهِ البُيُوتِ أَحَداً يَأْذَنُ لَهُمْ بِالدُّخُولِ إِلَيْهَا،كَانَ عَلَيْهِمْ أَلاَّ يَدْخُلُوهَا،وَإِذَا كَانَ أَهْلُ البَيْتِ فِيهِ،وَلَمْ يَأْذَنُوا بالدُّخُولِ،كَانَ عَلَى الزَّائِرِ الانْصِرَافُ،وَلَيْسَ لَهُ الدُّخُولُ،وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَغَضبَ،أو يَسْتَشْعِرَ مِنْ أَهْلِ البَيْتِ الإِسَاءَةَ إِلَيْهِ،أو النُّفْرَةَ مِنْهُ،فَلِلنَّاسِ،أسْرَارُهم وَأَعْذَارُهُم وَيَجِبُ أَنْ يُتْرَكَ لَهُمْ وَحْدَهُمْ حَقُّ تَقْدِيرِ ظُرُوفِهِمْ.وَاللهُ هُوَ المُطَّلِعُ عَلَى خَفَايَا القُلُوبِ،وهُوَ العَلِيمُ بالدَّوافِعِ . (1)
وعن بُسْرَ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ،سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ،يَقُولُ:كُنَّا فِي مَجْلِسِ عِنْدَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ،فَأَتَى أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ بِعَصًا حَتَّى وَقَفَ،فَقَالَ:أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ،هَلْ سَمِعَ أَحَدٌ مِنْكُمْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:الاِسْتِئْذَانُ ثَلاَثٌ،فَإِنْ أُذِنَ لَكَ،وَإِلاَّ فَارْجِعْ ؟ قَالَ أُبَيٌّ:وَمَا ذَاكَ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2700)(1/57)
؟ قَالَ:اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَمْسِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ،فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي،فَرَجَعْتُ،ثُمَّ جِئْتُهُ،فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ،فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي جِئْتُهُ أَمْسِ،فَسَلَّمْتُ ثَلاَثًا،ثُمَّ انْصَرَفْتُ،فَقَالَ:قَدْ سَمِعْنَاكَ وَنَحْنُ حِينَئِذٍ عَلَى شُغْلٍ،فَلَوِ اسْتَأْذَنْتَ حَتَّى يُؤْذَنَ لَكَ ؟ قَالَ:اسْتَأْذَنْتُ كَمَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:فَوَاللَّهِ لَأُوجِعَنَّ ظَهْرَكَ أَوْ لَتَأْتِيَنِّي بِمَنْ يَشْهَدُ لَكَ عَلَى هَذَا،قَالَ:فَقَالَ أُبَيٌّ:وَاللَّهِ لاَ يَقُومُ مَعَكَ إِلاَّ أَحْدَثُنَا سِنًّا،قُمْ يَا أَبَا سَعِيدٍ،فَقُمْتُ حَتَّى أَتَيْتُ عُمَرَ فَقُلْتُ:قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ هَذَا." (1)
وعَنِ الْحَسَنِ،قَالَ:الاِسْتِئْذَانُ ثَلاَثٌ،فَإِنْ أُذِنَ لَكَ وَإِلاَّ فَارْجِعْ. (2)
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِى حُجَرِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ فَقَالَ « لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهِ فِى عَيْنِكَ،إِنَّمَا جُعِلَ الاِسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ » (3) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - "لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ،فَخَذَفْتَهُ بِعَصَاةٍ،فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ،لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ » (4) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَنِ اطَّلَعَ عَلَى قَوْمٍ فِي بَيْتِهِمْ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ،فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقؤُوا عَيْنَهُ. (5)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنِ اطَّلَعَ فِى بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَفَقَئُوا عَيْنَهُ فَلاَ دِيَةَ لَهُ وَلاَ قِصَاصَ ». (6)
وصح عنه: التسليمُ قبل الاستئذان فعلاً وتعليماً،فعَنْ رِبْعِيٍّ،قَالَ:حدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَامِرٍ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي بَيْتٍ فَقَالَ:أَلِجُ ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِخَادِمِهِ:اخْرُجْ إلَى هَذَا
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (5753 ) وصحيح ابن حبان - (13 / 127)(5810)
(2) - مصنف ابن أبي شيبة - (13 / 267) (26492) صحيح
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (6241 ) -المدرى : مشط له أسنان يسيرة
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (6902 ) -خذف : رمى بالحصى
(5) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 106)(7616) 7605- صحيح
(6) - سنن النسائي- المكنز - (4877 ) صحيح(1/58)
فَعَلِّمْهُ الاسْتِئْذَانَ وَقُلْ لَهُ:قُلَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَدْخُلُ ؟ فَسَمِعَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ:السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَدْخُلُ ؟ فَأَذِنَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَدَخَلَ. (1)
وعن كَلَدَةَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ بَعَثَهُ بِلَبَنٍ وَلِبَإٍ وَضَغَابِيسَ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَالنَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِأَعْلَى الْوَادِى قَالَ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَلَمْ أُسَلِّمْ وَلَمْ أَسْتَأْذِنْ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « ارْجِعْ فَقُلِ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ ». وَذَلِكَ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ صَفْوَانُ. (2)
وعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِى مَشْرُبَةٍ لَهُ فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَيَدْخُلُ عُمَرُ. " (3)
وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ،فَقَالَ:" السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ "،وَ وفي رواية: السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ،أَيَدْخُلُ عُمَرُ ؟" (4)
وكان من هَدْيه - صلى الله عليه وسلم - إذا استأذَنَ ثلاثاً ولم يُؤذن له،انصرف،وهو ردٌ على مَن يقول: إن ظنَّ أنهم لم يسمعوا،زاد على الثلاث،وردٌ على مَن قال: يُعيدُهُ بلفظٍ آخر،والقولان مخالفان للسُّنَّة. وعَنْ جُنْدُبٍ،قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،يَقُولُ:إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلاثًا وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ." (5)
وكان من هَدْيه أن المستأذِنَ إذا قِيلَ له: مَنْ أنْتَ؟ يقول: فلانُ بنُ فلان،أو يذكر كُنيته،أو لَقبه،ولا يقول: أنا،كما قال جِبْرِيلُ للملائكة فى ليلة المعراج لما استفتح بابَ السماء فسألوه: مَنْ؟ فقال: جِبريلُ،واستمر ذلك في كل سماء." فَانْطَلَقْتُ مَعَ جِبْرِيلَ حَتَّى أَتَيْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا،قِيلَ:مَنْ هَذَا ؟ قَالَ:جِبْرِيلُ،قِيلَ:مَنْ مَعَكَ ؟ قِيلَ:مُحَمَّدٌ،قِيلَ:وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ:نَعَمْ،قِيلَ:مَرْحَبًا بِهِ،وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ،فَأَتَيْتُ عَلَى آدَمَ،فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ،فَقَالَ:مَرْحَبًا بِكَ
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (5179 ) ومصنف ابن أبي شيبة - (13 / 171) (26185) صحيح
(2) - سنن الترمذى- المكنز - (2928 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ
الضغابيس : صغار القثاء واحدها ضغبوس -اللبأ : أول ما يحلب من اللبن عند الولادة
(3) - سنن أبي داود - المكنز - (5203 ) صحيح -المشربة : الغرفة العالية
(4) - الْجَامِعُ لِأَخْلَاقِ الرَّاوِي وَآدَابِ السَّامِعِ لِلْخَطِيِبِ الْبَغْدَادِيِّ ( 234 ) صحيح
(5) - المعجم الكبير للطبراني - (2 / 230) (1666) حسن(1/59)
مِنِ ابْنٍ وَنَبِيٍّ،فَأَتَيْنَا السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ،قِيلَ:مَنْ هَذَا ؟ قَالَ:جِبْرِيلُ،قِيلَ:مَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ:مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - ،قِيلَ:أُرْسِلَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ:نَعَمْ،قِيلَ:مَرْحَبًا بِهِ،وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ.." (1)
وعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛قَالَ:أَخْبَرَنِي أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ :أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ مَرَّ عَلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ،فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ:« يَا جِبْرِيلُ ! مَنْ هَذَا الَّذِي مَعَكَ ؟ فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ:هَذَا مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - :مُرْ أُمَّتَكَ؛فيلكثروا مِنْ غِرَاسِ الْجَنَّةِ؛فَإِنَّ تُرْبَتَهَا طَيِّبَةٌ،وَأَرْضَهَا وَاسِعَةٌ.فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :وَمَا غِرَاسُ الْجَنَّةِ ؟ فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ:لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ » (2)
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ أَخْبَرَنِى أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِىُّ أَنَّهُ تَوَضَّأَ فِى بَيْتِهِ ثُمَّ خَرَجَ،فَقُلْتُ لأَلْزَمَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَلأَكُونَنَّ مَعَهُ يَوْمِى هَذَا.قَالَ فَجَاءَ الْمَسْجِدَ،فَسَأَلَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا خَرَجَ وَوَجَّهَ هَا هُنَا،فَخَرَجْتُ عَلَى إِثْرِهِ أَسْأَلُ عَنْهُ،حَتَّى دَخَلَ بِئْرَ أَرِيسٍ،فَجَلَسْتُ عِنْدَ الْبَابِ،وَبَابُهَا مِنْ جَرِيدٍ حَتَّى قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَاجَتَهُ،فَتَوَضَّأَ فَقُمْتُ إِلَيْهِ،فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى بِئْرِ أَرِيسٍ،وَتَوَسَّطَ قُفَّهَا،وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ وَدَلاَّهُمَا فِى الْبِئْرِ،فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ انْصَرَفْتُ،فَجَلَسْتُ عِنْدَ الْبَابِ،فَقُلْتُ لأَكُونَنَّ بَوَّابَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْيَوْمَ،فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَدَفَعَ الْبَابَ.فَقُلْتُ مَنْ هَذَا فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ.فَقُلْتُ عَلَى رِسْلِكَ .
ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ.فَقَالَ « ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ ».فَأَقْبَلْتُ حَتَّى قُلْتُ لأَبِى بَكْرٍ ادْخُلْ،وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُبَشِّرُكَ بِالْجَنَّةِ.فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَهُ فِى الْقُفِّ،وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِى الْبِئْرِ،كَمَا صَنَعَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - ،وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ،ثُمَّ رَجَعْتُ فَجَلَسْتُ وَقَدْ تَرَكْتُ أَخِى يَتَوَضَّأُ وَيَلْحَقُنِى،فَقُلْتُ إِنْ يُرِدِ اللَّهُ بِفُلاَنٍ خَيْرًا - يُرِيدُ أَخَاهُ - يَأْتِ بِهِ.فَإِذَا إِنْسَانٌ يُحَرِّكُ الْبَابَ.فَقُلْتُ مَنْ هَذَا فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ.فَقُلْتُ عَلَى رِسْلِكَ.ثُمَّ جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ،فَقُلْتُ هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَسْتَأْذِنُ.فَقَالَ « ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ ».فَجِئْتُ فَقُلْتُ
__________
(1) - انظر تفصيله في المسند الجامع - (15 / 57) (11321)
(2) - المجالسة وجواهر العلم - (1 / 330) (36 و1769) صحيح لغيره(1/60)
ادْخُلْ وَبَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْجَنَّةِ.فَدَخَلَ،فَجَلَسَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى الْقُفِّ عَنْ يَسَارِهِ،وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِى الْبِئْرِ،ثُمَّ رَجَعْتُ فَجَلَسْتُ،فَقُلْتُ إِنْ يُرِدِ اللَّهُ بِفُلاَنٍ خَيْرًا يَأْتِ بِهِ.فَجَاءَ إِنْسَانٌ يُحَرِّكُ الْبَابَ،فَقُلْتُ مَنْ هَذَا فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ.فَقُلْتُ عَلَى رِسْلِكَ.فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ.فَقَالَ « ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُهُ » فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ ادْخُلْ وَبَشَّرَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْجَنَّةِ عَلَى بَلْوَى تُصِيبُكَ.فَدَخَلَ فَوَجَدَ الْقُفَّ قَدْ مُلِئَ،فَجَلَسَ وُجَاهَهُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ . (1)
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ،قَالَ:سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ،يَقُولُ:أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَدَقَقْتُ الْبَابَ،فَقَالَ:مَنْ ذَا ؟ فَقُلْتُ:أَنَا،فَقَالَ:أَنَا أَنَا مَرَّتَيْنِ كَأَنَّهُ كَرِهَهُ. (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:رَسُولُ الرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ إِذْنُهُ. (3)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِذَا دُعِىَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَجَاءَ مَعَ الرَّسُولِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ إِذْنٌ ». (4)
وعن مُجَاهِدَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَقُولُ آللَّهِ الَّذِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنْ كُنْتُ لأَعْتَمِدُ بِكَبِدِى عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْجُوعِ،وَإِنْ كُنْتُ لأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِى مِنَ الْجُوعِ،وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمُ الَّذِى يَخْرُجُونَ مِنْهُ،فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ،فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ،مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ لِيُشْبِعَنِى،فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ،ثُمَّ مَرَّ بِى عُمَرُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ،مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ لِيُشْبِعَنِى،فَمَرَّ فَلَمْ يَفْعَلْ،ثُمَّ مَرَّ بِى أَبُو الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِى وَعَرَفَ،مَا فِى نَفْسِى وَمَا فِى وَجْهِى ثُمَّ قَالَ « أَبَا هِرٍّ ».قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ « الْحَقْ ».وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ،فَدَخَلَ فَاسْتَأْذَنَ،فَأَذِنَ لِى،فَدَخَلَ فَوَجَدَ لَبَنًا فِى قَدَحٍ فَقَالَ « مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ ».قَالُوا أَهْدَاهُ لَكَ فُلاَنٌ أَوْ فُلاَنَةُ.قَالَ « أَبَا هِرٍّ ».قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ « الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِى ».قَالَ وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الإِسْلاَمِ،لاَ يَأْوُونَ إِلَى أَهْلٍ وَلاَ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3674 )
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (6250 ) وصحيح ابن حبان - (13 / 125) (5808)
(3) - صحيح ابن حبان - (13 / 128) (5811) صحيح
(4) - سنن أبي داود - المكنز - (5192 ) صحيح لغيره(1/61)
مَالٍ،وَلاَ عَلَى أَحَدٍ،إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ،وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا،وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ،وَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا،فَسَاءَنِى ذَلِكَ فَقُلْتُ وَمَا هَذَا اللَّبَنُ فِى أَهْلِ الصُّفَّةِ كُنْتُ أَحَقُّ أَنَا أَنْ أُصِيبَ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بِهَا،فَإِذَا جَاءَ أَمَرَنِى فَكُنْتُ أَنَا أُعْطِيهِمْ،وَمَا عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِى مِنْ هَذَا اللَّبَنِ،وَلَمْ يَكُنْ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - بُدٌّ،فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا،فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ،وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ مِنَ الْبَيْتِ قَالَ « يَا أَبَا هِرٍّ ».قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ .
قَالَ « خُذْ فَأَعْطِهِمْ ».قَالَ فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى،ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ،فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى،ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يَرْوَى،ثُمَّ يَرُدُّ عَلَىَّ الْقَدَحَ،حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ رَوِىَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ،فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدِهِ فَنَظَرَ إِلَىَّ فَتَبَسَّمَ فَقَالَ « أَبَا هِرٍّ ».قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ « بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ ».قُلْتُ صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ « اقْعُدْ فَاشْرَبْ ».فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ.فَقَالَ « اشْرَبْ ».فَشَرِبْتُ،فَمَا زَالَ يَقُولُ « اشْرَبْ ».حَتَّى قُلْتُ لاَ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ،مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا.قَالَ « فَأَرِنِى ».فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى،وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ ."
وقد قالت طائفةٌ: بأن الحديثين على حالين،فإن جاء الداعى على الفور مِن غير تراخ،لم يحتج إلى استئذان،وإن تراخى مجيئه عن الدعوة،وطال الوقتُ،احتاجَ إلى استئذان.
وقال آخرون: إن كان عند الداعى مَن قد أذِنَ له قبل مجئ المدعو،لم يحتج إلى استئذان آخر،وإن لم يكن عنده مَن قد أذِنَ له،لم يدخل حتى يستأذن.
وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ،إذا دخل إلى مَكَان يُحب الانفراد فيه،أمَرَ مَن يُمْسِكُ البابَ،فلم يَدخلْ عليه أحد إلا بإذن. (1)
إِذَا اسْتَأْذَنَ عَلَى إِنْسَانٍ،فَتَحَقَّقَ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعِ الاِسْتِئْذَانَ،فَلَهُ أَنْ يُكَرِّرَ الاِسْتِئْذَانَ حَتَّى يَسْمَعَهُ .
__________
(1) - زاد المعاد في هدي خير العباد - (2 / 433)(1/62)
أَمَّا إِذَا اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ،فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ السُّنَّةَ أَلاَّ يُكَرِّرَ الاِسْتِئْذَانَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِ مَرَّاتٍ .وَقَال مَالِكٌ:لَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثَّلاَثِ،حَتَّى يَتَحَقَّقَ سَمَاعَهُ (1) .
وَحَكَى النَّوَوِيُّ قَوْلاً ثَالِثًا،وَهُوَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ بِلَفْظِ السَّلاَمِ الْمَشْرُوعِ لَمْ يُعِدْهُ،وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهِ أَعَادَهُ (2) .
وَقَدْ فَصَّل الْحَنَفِيَّةُ دُونَ غَيْرِهِمْ فِي مُدَّةِ الاِنْتِظَارِ بَيْنَ كُل اسْتِئْذَانَيْنِ فَقَالُوا:يَمْكُثُ بَعْدَ كُل مَرَّةٍ مِقْدَارَ مَا يَفْرُغُ الآْكِل،وَالْمُتَوَضِّئُ،وَالْمُصَلِّي بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ (3) .
حَتَّى إِذَا كَانَ أَحَدٌ عَلَى عَمَلٍ مِنْ هَذِهِ الأَْعْمَال فَرَغَ مِنْهُ،وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَمَلٍ مِنْهَا كَانَتْ عِنْدَهُ فُرْصَةٌ يَأْخُذُ فِيهَا حَذَرَهُ،وَيُصْلِحُ شَأْنَهُ قَبْل أَنْ يَدْخُل الدَّاخِل .
وَرَوَى الْجَصَّاصُ بِسَنَدِهِ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَوْلَهُ:الاِسْتِئْذَانُ ثَلاَثٌ،فَالأُْولَى يَسْتَنْصِتُونَ،وَالثَّانِيَةُ يَسْتَصْلِحُونَ،وَالثَّالِثَةُ يَأْذَنُونَ أَوْ يَرُدُّونَ (4) .
وَإِذَا كَانَ الاِسْتِئْذَانُ بِاللَّفْظِ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الصَّوْتُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ الْمُسْتَأْذَنُ عَلَيْهِ،دُونَ صِيَاحٍ.وَإِنْ كَانَ بِدَقِّ الْبَابِ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الدَّقُّ خَفِيفًا بِحَيْثُ يَسْمَعُ أَيْضًا بِلاَ عُنْفٍ (5) .
فعَنْ أَنَسٍ:"أَنَّ أَبْوَابَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَتْ تُقْرَعُ بِالْأَظَافِرِ " (6) ،وَلاَ يَقِفُ الْمُسْتَأْذِنُ قُبَالَةَ الْبَابِ إِنْ كَانَ الْبَابُ مَفْتُوحًا،وَلَكِنَّهُ يَنْحَرِفُ ذَاتَ الْيَمِينِ أَوْ ذَاتَ الشِّمَال (7) .
__________
(1) - عمدة القاري على صحيح البخاري 22 / 241، والشرح الصغير 4 / 762، وشرح الكافي 2 / 1134، وتفسير القرطبي 12 / 214، وحاشية ابن عابدين 5 / 265
(2) - شرح النووي لصحيح مسلم 14 / 131 ، طبع المطبعة المصرية .
(3) - حاشية ابن عابدين 5 / 265
(4) - أحكام الجصاص 3 / 382، وبدائع الصنائع 5 / 124 - 125
(5) - تفسير القرطبي 12 / 217
(6) - شعب الإيمان - (11 / 219) (8436 ) ضعيف
(7) - أحكام القرآن للجصاص 3 / 383، وتفسير القرطبي 12 / 216(1/63)
فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ هَدْيِ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرَسُول اللَّهِ قُدْوَةٌ.فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ لَمْ يَسْتَقْبِلِ الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الأَيْمَنِ أَوِ الأَيْسَرِ وَيَقُولُ « السَّلاَمُ عَلَيْكُمُ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ». وَذَلِكَ أَنَّ الدُّورَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ سُتُورٌ. (1)
وَهُوَ أَيْضًا مِنْ تَوْجِيهَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ،كما في حديث هُذَيْل بْنِ شُرَحْبِيل،أَمَّا إِنْ كَانَ الْبَابُ مَرْدُودًا فَلَهُ أَنْ يَقِفَ حَيْثُ شَاءَ وَيَسْتَأْذِنَ،وَإِنْ شَاءَ دَقَّ الْبَابَ (2) .
وَلاَ يَحِل لِلْمُسْتَأْذِنِ النَّظَرُ فِي دَاخِل الْبَيْتِ لأَِنَّ لِلْبُيُوتِ حُرْمَتَهَا،وَحَدِيثُ رَسُول اللَّهِ السَّابِقُ إِنَّمَا الاِسْتِئْذَانُ مِنَ النَّظَرِ يَدُل عَلَى ذَلِكَ " (3)
فَإِنْ نَظَرَ الْمُسْتَأْذِنُ إِلَى دَاخِل الْبَيْتِ فَجَنَى صَاحِبُ الْبَيْتِ عَلَى عَيْنِهِ فَهَل يَضْمَنُ ؟ فِي ذَلِكَ خِلاَفٌ وَتَفْصِيلٌ تَجِدُهُ فِي مُصْطَلَحِ ( جِنَايَة ) .
وَإِذَا اسْتَأْذَنَ فَقَال لَهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ:مَنْ بِالْبَابِ ؟ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَهُ فَيَقُول:فُلاَنٌ،أَوْ يَقُول:أَيَدْخُل فُلاَنٌ ؟ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ،وَلاَ يَقُول"أَنَا"لأَِنَّهُ لَمْ يَحْصُل بِقَوْلِهِ:" أَنَا"فَائِدَةٌ وَلاَ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ،بَل الإِْيهَامُ بَاقٍ (4) . لِحَدِيثِ جَابِرٍ الْمُتَقَدِّمِ .
وَمَنِ اسْتَأْذَنَ فَأُذِنَ لَهُ دَخَل،وَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَنْصَرِفْ،وَلاَ يُلِحُّ بِالاِسْتِئْذَانِ وَلاَ يَتَكَلَّمُ بِقَبِيحِ الْكَلاَمِ،وَلاَ يَقْعُدُ عَلَى الْبَابِ لِيَنْتَظِرَ،لأَِنَّ لِلنَّاسِ حَاجَاتٍ وَأَشْغَالاً فِي الْمَنَازِل،فَلَوْ قَعَدَ عَلَى الْبَابِ وَانْتَظَرَ،لَضَاقَ ذَرْعُهُمْ وَشَغَل قَلْبَهُمْ،وَلَعَلَّهُ لاَ تَلْتَئِمُ حَاجَاتُهُمْ،فَكَانَ الرُّجُوعُ خَيْرًا لَهُ،وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل:{فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (28) سورة النور (5)
- - - - - - - - - - - -
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (5188 ) صحيح
(2) - تفسير القرطبي 12 / 216
(3) - شرح النووي لصحيح مسلم 14 / 138
(4) - شرح النووي لصحيح مسلم 14 / 135، وحاشية ابن عابدين 5 / 265، والشرح الصغير 4 / 762، وتفسير القرطبي 12 / 217
(5) - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (3 / 150) فما بعد(1/64)
الحق الثامن
يخالق الناس بخلق حسن ويعاملهم بحسب طريقته
عَنْ أَبِي ذَرٍّ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ:: اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ،وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا،وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ. (1)
وعَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،أَوْصِنِي.قَالَ:اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ،أَوْ أَيْنَمَا كُنْتَ.قَالَ:زِدْنِي قَالَ:أَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا.قَالَ:زِدْنِي.قَالَ:خَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ. (2)
وقوله - صلى الله عليه وسلم - :(( وخالقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسن )) هذا من خصال التقوى،ولا تَتِمُّ التقوى إلا به،وإنَّما أفرده بالذكر للحاجة إلى بيانه،فإنَّ كثيراً من النَّاس يظنُّ أنَّ التقوى هي القيامُ بحقِّ اللهِ دونَ حقوق عباده،فنصَّ له على الأمر بإحسان العشرة للناس،فإنَّه كان قد بعثه إلى اليمن معلماً لهم ومفقهاً وقاضياً،ومَنْ كان كذلك،فإنَّه يحتاج إلى مخالقَةِ النَّاسِ بخلق حسن ما لا يحتاج إليه غيرُه ممن لا حاجةَ للنَّاس به ولا يُخالطهم،وكثيراً ما يغلب على من يعتني بالقيامِ بحقوق الله،والانعكاف على محبته وخشيته وطاعته إهمالُ حقوق العباد بالكُلِّيَّة أو التقصير فيها،والجمعُ بَيْنَ القيام بحقوق الله وحقوق عباده عزيزٌ جداً لا يَقوى عليه إلاَّ الكُمَّلُ مِنَ الأنبياءِ والصديقين .
وقال الحارث المحاسبي:ثلاثةُ أشياء عزيزة أو معدومة:حسنُ الوجه مع الصِّيانة،وحسن الخلق مع الدِّيانة،وحُسنُ الإخاء مع الأمانة (3)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَوْفٍ الْجُرَشِيِّ،قَالَ:" جَلَسَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَالِيًا فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:يَا دَاوُدُ،مَا لِي أَرَاكَ خَالِيًا ؟ قَالَ:هَجَرْتُ النَّاسَ فِيكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.قَالَ:يَا
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 165)(21354) 21681- صحيح لغيره
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 361)(22059) 22409- صحيح لغيره
(3) - أخرجه : أبو نعيم في " الحلية " 10/75 .(1/65)
دَاوُدُ،أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا يَسْتَثْنِي وُجُوهَ النَّاسِ إِليْكَ وَتَبْلُغُ فِيهِ رِضَايَ ؟ خَالِقِ النَّاسَ بِأَخْلَاقِهِمْ،وَاحْتَجِزِ الْإِيمَانَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ" (1) ..
وقد عدَّ الله في كتابه مخالقة الناس بخلق حسن من خصال التقوى،بل بدأ بذلك في قوله:{ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) [آل عمران:133 - 134] } .
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ:" جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فَقَالَ:يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ،عَلِّمْنِي شَيْئًا تَعْلَمُهُ وَأَجْهَلُهُ،وَيَنْفَعُنِي وَلَا يَضُرُّكَ،قَالَ:مَا هُوَ ؟ قَالَ:كَيْفَ يَكُونُ الْعَبْدُ تَقِيًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَقًّا ؟ قَالَ:بِيَسِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ؛تُحِبُّ اللَّهَ حَقًّا مِنْ قَلْبِكَ،وَتَعْمَلُ لَهُ بِكُدُودِكَ وَقُوَّتِكَ مَا اسْتَطَعْتَ،وَتَرْحَمُ بَنِي جِنْسِكَ بِرَحْمَتِكَ نَفْسَكَ،قَالَ:يَا مُعَلِّمَ الْخَيْرِ،وَمَنْ بَنُو جِنْسِي ؟ قَالَ:" وَلَدُ آدَمَ كُلُّهُمْ،وَمَا لَا تُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْكَ،فَلَا تَأْتِهِ إِلَى غَيْرِكَ؛فَأَنْتَ تَقِيٌّ لِلَّهِ حَقًّا" (2) .
وقد جعل النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حسن الخلق من أحسن خصال الإيمانِ ،فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا. (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا وَخِيَارُكُمْ خِيَارُكُمْ لِنِسَائِهِمْ. (4)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحَاسِنُهُمْ أَخْلَاقًا،وَإِنَّ الْمَرْءَ لِيَكُونُ مُؤْمِنًا وَإِنَّ فِي خُلُقِهِ شَيْئًا فَيُنْقِصُ ذَلِكَ مِنْ إِيمَانِهِ" (5)
__________
(1) - مُدَارَاةُ النَّاسِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (43)
(2) - الزهْدُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (338 )
(3) - صحيح ابن حبان - (2 / 227) (479) صحيح
(4) - صحيح ابن حبان - (9 / 484) (4176) صحيح
(5) - تعظيم قدر الصلاة لمحمد بن نصر المروزي - (396 ) حسن(1/66)
وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ،قَالَ:قَالُوا:يَا رَسُولَ اللهِ،مَا أَفْضَلُ مَا أُعْطِيَ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ ؟ قَالَ:حُسْنُ الْخُلُقِ. (1)
وأخبر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ صاحبَ الخلق الحسن يَبلُغُ بِخلقِه درجةَ الصَّائم القائم لئلا يشتغِلَ المريدُ للتقوى عن حسن الخلق بالصَّوم والصلاة،ويَظُنُّ أنَّ ذلك يقطعه عن فضلهما ،فعَنْ عَائِشَةَ،قَالَتْ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،يَقُولُ:إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَاتِ قَائِمِ اللَّيْلِ صَائِمِ النَّهَارِ." (2)
وأخبر أنَّ حسن الخُلق أثقلُ ما يُوضَعُ في الميزان،وإنَّ صاحبَه أحبُّ الناسِ إلى الله وأقربهم من النبيين مجلساً ،فعَنْ أَبِى الدَّرْدَاءِ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « مَا مِنْ شَىْءٍ يُوضَعُ فِى الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلاَةِ » (3) .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ فِي مَجْلِسٍ:أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَحَبِّكُمْ إِلَيَّ،وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ يَقُولُهَا،قُلْنَا:بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ:أَحْسَنُكُمْ أَخْلاَقًا. (4)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:إِنَّ أَكْثَرَ مَا يُدْخِلُ مِنَ النَّاسِ النَّارَ الأَجْوَفَانِ،قَالُوا:يَا رَسُولَ اللهِ،وَمَا الأَجْوَفَانِ ؟ قَالَ:الْفَرْجُ وَالْفَمُ،قَالَ:أَتَدْرُونَ أَكْثَرَ مَا يُدْخِلُ الْجَنَّةَ ؟ تَقْوَى اللهِ،وَحُسْنُ الْخُلُقِ." (5)
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"أَنَا زَعِيمُ بِبَيْتٍ بِرَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ،وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا،وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ،وَإِنْ كَانَ مَازِحًا،وَبِبَيْتٍ فِي أَعَلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حُسُنَ خُلُقُهُ " (6)
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (2 / 226)(478) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 143)(24595) 25102- حسن
(3) - سنن الترمذى- المكنز - (2134 ) والإتحاف 7/320 وصحيح الجامع ( 5726) صحيح لغيره
(4) - صحيح ابن حبان - (2 / 235)(485) صحيح
(5) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 561)(9696) 9694- حسن
(6) - شعب الإيمان - (10 / 376)(7653 ) حسن
ربض الجنة : ما حَوْلها خارجا عنها، تَشْبيها بالأبْنِيَة التي تكون حول المُدُن وتحت القِلاَع.(1/67)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:"أَوْحَى اللَّهُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ: يَا خَلِيلِي،حَسِّنْ خُلُقَكَ،وَلَوْ مَعَ الْكَافِرِ تَدْخُلُ مَدْخَلَ الأَبْرَارِ،فَإِنَّ كَلِمَتِي سَبَقَتْ لِمَنْ حَسُنَ خُلُقُهُ أَنْ أُظِلَّهُ تَحْتَ عَرْشِي،وَأَنْ أَسْقِيَهُ مِنْ حَظِيرَةِ قُدْسِي،وَأَنْ أُدْنِيَهُ مِنْ جِوَارِي". (1)
وقد رُوِيَ عَن السَّلف تفسيرُ حُسنِ الخُلق،فعن الحسن قال:حُسنُ الخلق:الكرمُ والبذلة والاحتمالُ (2) .
وعَنْ هِلَالِ بْنِ أَيُّوبَ،قَالَ:" سُئِلَ الشَّعْبِيُّ عَنْ حُسْنِ الْخُلُقِ،قَالَ:الْبَذْلَةُ وَالْعَطِيَّةُ وَالْبِشْرُ الْحَسَنُ"قَالَ هِلَالٌ:الشَّعْبِيُّ كَذَلِكَ " (3)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ المُبَارَكِ،أَنَّهُ وَصَفَ حُسْنَ الخُلُقِ فَقَالَ:""هُوَ بَسْطُ الوَجْهِ،وَبَذْلُ المَعْرُوفِ،وَكَفُّ الأَذَى"" (4)
وعَنِ ابْنِ الْمُبَارَكٍ رَضِيَ اللَّهُ،عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ حُسْنِ الْخُلُقِ،مَا هُوَ ؟ فَقَالَ:كَفُّ الْأَذَى،وَبَذْلُ الْمَعْرُوفِ،وَبَسْطُ الْوَجْهِ وَأَنْ لَا تَغْضَبَ"قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ:وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ الْمُبَارَكِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ:حُسْنُ الْخُلُقِ:كَظْمُ الْغَيْظِ لِلَّهِ تَعَالَى،وَإِظْهَارُ الطَّلَاقَةِ وَالْبِشْرِ إِلَّا لِلْمُبْتَدِعِ وَالْفَاجِرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ فَاجِرًا إِذَا انْبَسَطَتْ إِلَيْهِ أَقْلَعَ وَاسْتَحْيَى،وَالْعَفْوُ عَنِ الزَّالِّينَ إِلَّا تَأْدِيبًا أَوْ إِقَامَةَ حَدٍّ،وَكُفُّ الْأَذَى عَنْ كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُعَاهِدٍ إِلَّا تَغْيِيرًا عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ أَخْذًا بِمَظْلَمَةٍ لِمَظْلُومٍ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ " (5)
وقال زهير بن أبي سلمة يمدح هرم بن سنان (6) :
تراهُ،إذا ما جئتهُ،متهللاً كأنكَ تعطيهِ الذي،أنتَ سائلهْ
وذي نَسَبٍ نَاءٍ بَعيدٍ وَصَلْتَهُ بمالٍ وما يَدري بأنّكَ واصِلُهْ
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (19 / 466)(1115 ) فيه ضعف
(2) - الكرم والجود للبرجلاني - (64 ) وسنده واهٍ
(3) - الْإِخْوَانُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (169 )
(4) - سُنَنُ التِّرْمِذِيِّ ـ الْجَامِعُ الصَّحِيحُ >> (2012 ) صحيح
(5) - تَعْظِيمُ قَدْرِ الصَّلَاةِ لِمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ(767 )
(6) - تراجم شعراء موقع أدب - (21 / 154)(1/68)
حُذَيْفة ُ يَنْمِيهِ وبَدْرٌ كِلاهُمَا إلى باذخٍ،يعلو على من يطاولُهْ
وسئل سلامُ بن أبي مطيع عن حسن الخلق،فأنشد (1) :
تَرَاهُ إِذَا مَا جِئْته مُتَهَلِّلًا كَأَنَّك تُعْطِيهِ الَّذِي أَنْتَ سَائِلُهُ
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي كَفِّهِ غَيْرُ رُوحِهِ لَجَادَ بِهَا فَلْيَتَّقِ اللَّهَ سَائِلُهُ
هُوَ الْبَحْرُ مِنْ أَيِّ النَّوَاحِي أَتَيْته فَلُجَّتُهُ الْمَعْرُوفُ وَالْجُودُ سَاحِلُهُ
قَالَ ابْنُ مَنْصُورٍ:سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حُسْنِ الْخُلُقِ/ قَالَ: أَنْ لَا تَغْضَبَ وَلَا تَحْتَدَّ،قِيلَ لَهُ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ،فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ،قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: هُوَ بَسْطُ الْوَجْهِ وَأَنْ لَا تَغْضَبَ وَنَحْوُ ذَلِكَ،ذَكَرَهُ الْخَلَّالُ.وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي مَنَاقِبِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَّهُ سَأَلَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ حُسْنِ الْخُلُقِ فَقَالَ :هُوَ أَنْ يَحْتَمِلَ مِنَ النَّاسِ مَا يَكُونُ إلَيْهِ . (2)
وعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ،عَنْ أَبِيهِ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ:أَفْضَلُ الْفَضَائِلِ أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ،وَتُعْطِيَ مَنْ مَنَعَكَ،وَتَصْفَحَ عَمَّنْ شَتَمَكَ. " (3)
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ،قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبَادَرْتُ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ - أَوْ فَبَادَرَنِي فَأَخَذَ بِيَدِي - فَقَالَ لِي:"يَا عُقْبَةُ،أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَفْضَلِ أَخْلَاقِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ؟ تَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ،وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ،وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ،أَلَا وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمُرِهِ،وَيُوَسَّعَ لَهُ رِزْقُهُ فَلْيَصِلْ ذَا رَحِمٍ مِنْهُ" (4)
وعَنْ عَلِيٍّ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَكْرَمِ أَخْلَاقِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ،أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ،وَتَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ،وَتُعْطِيَ مَنْ جَهْدَكَ".وعَنِ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ قَالَ:قَالَ
__________
(1) - لطائف المعارف - (1 / 141)
(2) - الآداب الشرعية - (2 / 299)
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 373)(15618) 15703- حسن لغيره
(4) - شعب الإيمان - (10 / 337)(7587 ) والصحيحة (891) حسن لغيره(1/69)
رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى خَيْرِ أَخْلَاقِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ:أَنْ تَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ،وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ،وَتَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَكَ". (1)
وعن بِشْرٍ أبي نَصْرٍ،أَنْ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ،دَخَلَ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَعِنْدَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ،فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ نَهَضَ،فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا أَكْمَلَ مُرُوءَةَ هَذَا الْفَتَى فَقَالَ عَمْرٌو:"يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهُ أَخَذَ بِأَخْلَاقٍ أَرْبَعَةٍ،وَتَرَكَ أَخْلَاقًا ثَلَاثَةً،إِنَّهُ أَخَذَ بِأَحْسَنِ الْبِشْرِ إِذَا لَقِيَ،وَبِأَحْسَنِ الْحَدِيثِ إِذَا حَدَّثَ،وَبِأَحْسَنِ الِاسْتِمَاعِ إِذَا حَدَّثَ،وَبِأَيْسَرِ الْمُؤْنَةِ إِذَا خُولِفَ،وَتَرَكَ مِزَاحَ مَنْ لَا يَثِقُ بِعَقْلِهِ وَلَا دِينِهِ،وَتَرَكَ مُخَالَفَةَ لِئَامِ النَّاسِ،وَتَرَكَ مِنَ الْكَلَامِ كُلَّ مَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ " (2)
وعن يُوسُفَ بْنِ الْحُسَيْنِ،قال: سَمِعْتُ ذَا النُّونِ،يَقُولُ:"خَمْسَةٌ مِنْ أَعْلَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: وَجْهٌ حَسَنٌ،وَقَلْبٌ رَحِيمٌ،وَلِسَانٌ لَطِيفٌ،وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ،وَأَظُنُّهُ قَالَ: وَخُلُقٌ حَسَنٌ،وَعَلَامَةُ أَهْلِ النَّارِ خَمْسَةٌ: سُوءُ الْخُلُقِ،وَقَلَبٌ قَاسٍ،وارْتِكَابُ الْمَعَاصِي،وَلِسَانٌ غَلِيظٌ،وَوَجْهٌ حَامِضٌ " (3)
وعن أَحْمَدَ بْنِ شَيْبَانَ الرَّمْلِيِّ،قال: اجْتَمَعَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ،وَسُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ،وَفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ،وعَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُبَارَكِ،فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَلَيْسَ مَعْنَى حَدِيثِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - :"إِنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ لِيُبَلِّغُ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ "،فَاتَّفَقُوا عَلَى ثَلَاثٍ: بَسْطِ الْوَجْهِ،وَكَفِّ الْأَذَى،وَبَذْلِ الْمَعْرُوفِ " (4)
وقال إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي حُسْنِ الْخُلُقِ،قَالَ:"حُسْنُ الْخُلُقِ بَسْطُ الْوَجْهِ،وَتَجَنُّبُ الْغَضَبِ " (5)
__________
(1) - الْآدَابِ لِلْبَيْهَقِيِّ (131 ) حسن لغيره
انظر جامع العلوم والحكم محقق - (20 / 77) وتحفة الأحوذي - (5 / 253) وغذاء الألباب في شرح منظومة الآداب - (2 / 67)
(2) - شعب الإيمان - (10 / 407) (7706 ) حسن
(3) - شعب الإيمان - (10 / 408) (7707 )
(4) - شعب الإيمان - (10 / 408) (7708 )
(5) - شعب الإيمان - (10 / 408) (7709 )(1/70)
وعن الْأَصْمَعِيِّ،قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ الْمُبَارَكِ،يَقُولُ:"إِنَّهُ لَيُعْجِبُنِي مِنَ الْقُرَّاءِ كُلُّ طَلْقٍ مِضْحَاكٍ،فَأَمَّا مَنْ تَلْقَاهُ بِالْبَشْرِ،وَيَلْقَاكَ بِالْعُبُوسِ كَأَنْهُ يَمُنُّ عَلَيْكَ بِعَمَلِهِ،فَلَا أَكْثَرَ اللهُ فِي الْقُرَّآءِ مِثْلَهُ " (1)
والخلاصة فإنَّه مطلوب من الإنسان أن يُعامل الناسَ جميعاً معاملة حسنة،فيُعاملهم بمثل ما يحبُّ أن يُعاملوه به؛لحديث أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ » (2) .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ فَلْتُدْرِكْهُ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ،وَيَأْتِي إِلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ" (3)
فقد وصف الله نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بقوله :{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) سورة القلم
وعَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ،قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ،فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ،أَخْبِرِينِي بِخُلُقِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَتْ:"كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ،أَمَا تَقْرَأُ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم: 4] ؟"قُلْتُ: فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَبَتَّلَ،قَالَتْ:"فَلَا تَفْعَلْ،أَمَا تَقْرَأُ: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب: 21] ؟ قَدْ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَوُلِدَ لَهُ" (4) ،أي: أنَّه يقوم بتطبيق ما فيه،وجاء في السنة أحاديث كثيرة تدلُّ على فضل حسن الخُلُق،وتحثُّ على التخلُّق بالأخلاق الحسنة،وتحذِّر من الأخلاق السيِّئة (5) .
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - شعب الإيمان - (10 / 408) (7710 )
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (13)
(3) - شعب الإيمان - (13 / 457) (10614 ) وصحيح مسلم- المكنز - (4882) مطولاً
(4) - شرح مشكل الآثار - (11 / 265) (4435 ) صحيح
(5) - انظر : فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين - (1 / 68)(1/71)
الحق التاسع
يوقر المشايخ ويرحم الصبيان
فإِنَّمَا ذَكَرْتُهَا فِي بَابٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْمَعْنَى مُعَامَلَةُ كُلِّ أَحَدٍ بِحَسْبِ سِنِّهِ وَقَدْرِ قُوَّتِهِ وَبِمَا يَلِيقُ بِمَنْزِلَتِهِ،فَالَّذِي يَقْتَضِيهِ حَالُ الصَّغِيرُ أَنْ يُرْحَمَ وَالَّذِي تَقْتَضِيهُ حَالُ الْكَبِيرِ أَنْ يُوَقَّرَ،فعَنِ الزُّهْرِيِّ،أَنَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ،قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،يَقُولُ:"جَعَلَ اللهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ،فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَأَنْزَلَ عَلَى الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا،فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ،حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ"لَفْظُهُمَا سَوَاءٌ غَيْرَ أَنَّ الْفَرَّاءَ،قَالَ:"تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا"رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (1)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:"مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا فَلَيْسَ مِنَّا " (2)
وعن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو،قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا " (3)
عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ،عَنْ أَبِيهِ،عَنْ جَدِّهِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا،وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا. (4)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:"مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا،فَلَيْسَ مِنَّا " (5)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ:"لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا وَيَعْرِفْ حَقَّ صَغِيرَنَا وَيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ " (6)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6000 ) وشعب الإيمان - (13 / 351) (10470 )
(2) - شعب الإيمان - (13 / 352) (10471 ) صحيح
(3) - مسند الحميدي - المكنز - (614) صحيح
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 688)(6937) صحيح
(5) - شعب الإيمان - (13 / 354) (10473 ) صحيح
(6) - شعب الإيمان - (13 / 355)(10474 ) حسن لغيره(1/72)
وعَنْ أَنَسٍ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"يَا أَنَسُ،وَقِّرِ الْكَبِيرَ وَارْحَمِ الصَّغِيرَ تُرَافِقُنِي فِي الْجَنَّةِ " (1)
وعَنْ أَنَسٍ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُعَظِّمْ كَبِيرَنَا " (2)
وعَنْ جَابِرٍ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا وَيَعْرِفْ حَقَّ صَغِيرِنَا وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ " (3)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،يَقُولُ:"إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ وَرِعَايَةَ الْقُرْآنِ مَنِ اسْتَرْعَاهُ اللهُ إِيَّاهُ،وَطَاعَةَ الْإِمَامِ يَعْنِي الْمُقْسِطِ " (4)
وعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ،وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ،وَلَا الْجَافِي عَنْهُ،وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ " (5)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،قَالَ:"إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ إِجْلَالِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِكْرَامَ الْإِمَامِ الْمُقْسِطِ وَذِي الشَّيْبَةِ فِي الْإِسْلَامِ،وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَلَا الْجَافِي عَنْهُ " (6)
وقَالَ ذُو النُّونِ:"ثَلَاثَةٌ مِنْ أَعْلَامِ الْوَقَارِ: تَعْظِيمُ الْكَبِيرِ،وَالتَّرَحُّمُ عَلَى الصَّغِيرِ،وَالتَّحَلُّمُ عَلَى الْوَضِيعِ " (7)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"لَا يُوَسَّعُ الْمَجْلِسُ إِلَّا لِثَلَاثَةٍ: لِذِي سِنٍّ لِسِنِّهِ،وَذِي عِلْمٍ لِعِلْمِهِ،وَذِي سُلْطَانٍ لِسُلْطَانِهِ " (8)
__________
(1) - شعب الإيمان - (13 / 355) (10475 ) حسن
(2) - شعب الإيمان - (13 / 356) (10476) صحيح لغيره
(3) - شعب الإيمان - (13 / 357) (10478 ) صحيح لغيره
(4) - شعب الإيمان - (13 / 358)(10479 ) حسن لغيره
(5) - شعب الإيمان - (4 / 224)(2431 ) حسن
(6) - شعب الإيمان - (4 / 225)(2432 ) حسن
(7) - شعب الإيمان - (13 / 360)(10483 )
(8) - شعب الإيمان - (13 / 360)(10484 ) فيه جهالة(1/73)
ومن تمام توقير المشايخ أن لا يتكلم بين أيديهم إلا بالإذن،فعَنْ جَابِرٍ،قَالَ: قَدِمَ وَفْدُ جُهَيْنَةَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَامَ غُلَامٌ يَتَكَلَّمُ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :"مَهْ،فَأَيْنَ الْكِبَرُ " (1)
وعَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِى حَثْمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ هُوَ وَرِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ،فَأُخْبِرَ مُحَيِّصَةُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قُتِلَ وَطُرِحَ فِى فَقِيرٍ أَوْ عَيْنٍ،فَأَتَى يَهُودَ فَقَالَ أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ.قَالُوا مَا قَتَلْنَاهُ وَاللَّهِ.ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ،وَأَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ - وَهْوَ أَكْبَرُ مِنْهُ - وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ،فَذَهَبَ لِيَتَكَلَّمَ وَهْوَ الَّذِى كَانَ بِخَيْبَرَ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لِمُحَيِّصَةَ « كَبِّرْ كَبِّرْ ».يُرِيدُ السِّنَّ،فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ،وَإِمَّا أَنْ يُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ ».فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْهِمْ بِهِ،فَكُتِبَ مَا قَتَلْنَاهُ.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ « أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ ».قَالُوا لاَ.قَالَ « أَفَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ ».قَالُوا لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ.فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ عِنْدِهِ مِائَةَ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتِ الدَّارَ.قَالَ سَهْلٌ فَرَكَضَتْنِى مِنْهَا نَاقَةٌ (2)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلَّا قَيَّضَ اللهُ لَهُ عِنْدَ سِنِّهِ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ" (3)
وهذه بشارة بدوام الحياة فليتنبه لها فلا يوفق لتوقير المشايخ إلا من قضى الله له بطول العمر.
وَعَنْ أُمِّ الضِّرَابِ قَالَتْ:تُوُفِّيَ أَبِي وَتَرَكَنِي وَأَخًا لِي،وَلَمْ يَدَعْ لَنَا مَالًا،فَقَدِمَ عَمِّي مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَخْرَجَنَا إِلَى عَائِشَةَ،فَأَدْخَلَتْنِي مَعَهَا فِي الْخِدْرِ لِأَنِّي كُنْتُ جَارِيَةً،وَلَمْ يَدْخُلِ الْغُلَامُ،فَشَكَا عَمِّي إِلَيْهَا الْحَاجَةَ،فَأَمَرَتْ لَنَا بِقَرِيصَتَيْنِ وَغِرَارَتَيْنِ وَمَقْعَدَيْنِ،ثُمَّ قَالَتْ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:" لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ الْوَلَدُ غَيْظًا،وَالْمَطَرُ قَيْظًا،وَتَفِيضَ
__________
(1) - شعب الإيمان - (13 / 363) (10486 ) حسن لغيره
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (7192 ) وصحيح مسلم- المكنز - (4441)
وداه : أعطى ديته -" كَبِّرْ كَبِّرْ " أَيْ يَتَكَلَّمُ الْأَكَابِرُ مِنْكُمْ فِي السِّنِّ
(3) - شعب الإيمان - (13 / 362)(10485 ) ضعيف(1/74)
اللِّئَامُ فَيْضًا،وَيَغِيضَ الْكِرَامُ غَيْضًا،وَيَجْتَرِئَ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ وَاللَّئِيمَ عَلَى الْكَرِيمِ ".رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (1)
والتلطف بالصبيان من عادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،فعَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:خَرَجْتُ مَعَ الصِّبْيَانِ نَتَلَقَّى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ مَقْدَمَهُ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ (2) .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ:"أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ خَلْفَهُ،وَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا،لَا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ،وَكَانَ أَحَبَّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِحَاجَتِهِ هَدَفٌ أَوْ حَائِشُ نَخْلٍ،فَدَخَلَ حَائِطَ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ،فَإِذَا جَمَلٌ،فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ،فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَمَسَحَ سَرْوَ رَأْسِهِ وَذِفْرَاهُ،فَشَكَا،فَقَالَ:"مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ ؟"فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: هُوَ لِي يَا رَسُولَ اللهِ.فَقَالَ:"أَوَلَا تَتَّقِي اللهَ فِي الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللهُ تَعَالَى،شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ فِي الْعَمَلِ " (3)
وعن عَبْدِ اللهِ بْنِ بُرَيْدَةَ،حَدَّثَنِي أَبِي،قَالَ:بَيْنَمَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ،إِذْ أَقْبَلَ الْحَسَنُ،وَالْحُسَيْنُ وَعَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَقُومَانِ وَيَعْثُرَانِ،فَنَزَلَ إِلَيْهِمَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَأَخَذَهُمَا وَقَالَ:{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن]. (4)
وعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ،قَالَ:دَخَلْتُ عَلَى عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعَلَى ظَهْرِهِ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا،وَهُوَ يَقُولُ:" نِعْمَ الْجَمَلُ جَمَلُكُمَا،وَنِعْمَ الْعِدْلانِ أَنْتُمَا ". (5)
__________
(1) - المعجم الأوسط للطبراني - (6614) فيه جهالة
(2) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (9 / 175)(19059) صحيح
(3) - شرح مشكل الآثار - (15 / 63) (5842 ) صحيح
(4) - صحيح ابن حبان - (13 / 402) (6038) صحيح
(5) - المعجم الكبير للطبراني - (3 / 87) (2595) حسن لغيره(1/75)
وعَنْ عَائِشَةَ،قَالَتْ:عَثَرَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ بِعَتَبَةِ الْبَابِ،فَشُجَّ وَجْهُهُ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِعَائِشَةَ:أَمِيطِي عَنْهُ الأَذَى،فَقَذَّرَتْهُ،قَالَتْ:فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمُجُّهَا،وَيَقُولُ:لَوْ كَانَ أُسَامَةُ جَارِيَةً لَحَلَّيْتُهُ وَكَسَوْتُهُ حَتَّى أُنَفِّقَهُ. (1)
وعَنْ عَائِشَةَ،قَالَتْ: عَثَرَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ بِعَتَبَةِ الْبَابِ،فَانْشَجَّ فِي وَجْهِهِ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :"أَمِيطِي عَنْهُ الْأَذَى"فَكَأَنِّي تَقَذَّرْتُهُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَمَسُّهُ وَيَمْسَحُهُ وَيَقُولُ:"لَوْ كَانَ أُسَامَةُ جَارِيَةً لَحَلَّيْتُهُ وَكَسَوْتُهُ حَتَّى أُنَفِّقُهَا " (2)
وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَبْيٌ،فَإِذَا امْرَأَةٌ قَدْ تَحْلُبُ ثَدْيَهَا تَسْعَى إِذَا وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْزَقَتْهُ بِبَطْنِهَا فَأَرْضَعَتْهُ،فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ ؟"فَقُلْنَا: لَا وَاللهِ،وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ.فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"اللهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ بِوَلَدِهَا " (3)
وعَنِ الزُّهْرِيِّ،قَالَ:حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ،أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ،أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ،زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَتْ:جَاءَتْ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُنِي،فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ،فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا،فَأَخَذَتْهَا،فَشَقَّتْهَا بِاثْنَيْنِ بَيْنَ ابْنَتَيْهَا،وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا شَيْئًا،ثُمَّ قَامَتْ،فَخَرَجَتْ هِيَ وَابْنَتَاهَا،فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَحَدَّثْتُهُ حَدِيثَهَا،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَنِ ابْتُلِيَ مِنَ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ،فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ،كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ. (4)
وعَنْ عَائِشَةَ،أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا،فَأَطْعَمْتُهَا ثَلَاثَ تَمَرَاتٍ،فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَ بَيْنَهُمَا،فَأَعْجَبَتْنِي فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ:"إِنَّ اللهَ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الْجَنَّةَ أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ"رَوَاهُ مُسْلِمٌ (5)
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (15 / 532) (7056) صحيح
(2) - شعب الإيمان - (13 / 380)(10505 ) صحيح
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (7154 ) وشعب الإيمان - (13 / 380)(10506 )
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 137)(24572) 25079- صحيح
(5) - صحيح مسلم- المكنز - (6863) و شعب الإيمان - (13 / 381)(10508 )(1/76)
وعَنْ أَنَسٍ،قَالَ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَشْبَهَ بِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ،وَكَانَ رَجُلٌ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَجَاءَهُ وَلَدٌ لَهُ فَأَخَذَهُ وَأَجْلَسَهُ فِي حِجْرِهِ وَجَاءَتِ ابْنَةٌ لَهُ فَأَخَذَهَا فَأَجْلَسَهَا،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :"فَهَلَّا عَدَلْتَ بَيْنَهُمَا " (1)
وعن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَوْفٍ الْقَارِئَ،قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ بِشْرِ بْنِ غَزِيَّةَ،يَقُولُ: اسْتُشْهِدَ أَبِي مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ،فَمَرَّ بِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا أَبْكِي فَقَالَ لِي:"أَسْكُتْ أَمَا تَرْضَى أَنْ أَكُونَ أَنَا أَبُوكَ وَعَائِشَةُ أُمُّكَ ؟"قُلْتُ: بَلَى،بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللهِ" (2)
وعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلاَثَةٌ:ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُوَفَّقٌ،وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ بِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ،وَرَجُلٌ فَقِيرٌ عَفِيفٌ مُتَصَدِّقٌ. (3)
وعن جَرِيرَ بْنِ عَبْدِ اللهِ،قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،يَقُولُ:"مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ لَا يَرْحَمُهُ اللهُ " (4)
وعن جَرِيرَ بْنِ عَبْدِ اللهِ،قال: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقُلْتُ: أُبَايِعُكَ عَلَى الْإِسْلَامِ.فَقَبَضَ يَدَهُ وَقَالَ:"وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ"وَقَالَ:"إِنَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمُ النَّاسَ لَا يَرْحَمُهُ اللهُ " (5)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:"الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ " (6)
وعَنْ أَنَسٍ،قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَيْثُ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ،قَالَ: فَقَالَ لَنَا:"اتَّقُوا اللهَ فِي الصَّلَاةِ،اتَّقُوا اللهَ فِي الصَّلَاةِ ثَلَاثًا،اتَّقُوا اللهَ فِيمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ،اتَّقُوا اللهَ فِي الضَّعِيفَيْنِ الْمَرْأَةِ الْأَرْمَلَةِ وَالصَّبِيِّ الْيَتِيمِ،اتَّقُوا اللهَ فِي الصَّلَاةِ"فَجَعَلَ يُرَدِّدُهَا وَهُوَ يَقُولُ:"الصَّلَاةَ"وَهُوَ يُغَرْغِرُ حَتَّى فَاضَتْ نَفْسُهُ " (7)
__________
(1) - شعب الإيمان - (13 / 383) (10510 ) حسن
(2) - شعب الإيمان - (13 / 397)(10533) حسن
(3) - صحيح ابن حبان - (16 / 490) (7453) صحيح
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (6172 ) وشعب الإيمان - (13 / 399)(10535 )
(5) - شعب الإيمان - (13 / 401)(10536 ) صحيح
(6) - شعب الإيمان - (13 / 401)(10537 ) صحيح
(7) - شعب الإيمان - (13 / 404)(10542 ) صحيح لغيره(1/77)
وعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ جَاءَ أَعْرَابِىٌّ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ.فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - "أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ » . (1)
وعَنِ الزُّهْرِىِّ حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِىُّ جَالِسًا.فَقَالَ الأَقْرَعُ إِنَّ لِى عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا.فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ « مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ » . (2)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ،أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا قَتَادَةَ،يَقُولُ:بَيْنَمَا نَحْنُ عَلَى بَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جُلُوسٌ،إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَحْمِلُ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ وَأُمُّهَا زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَهِيَ صَبِيَّةٌ،فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهِيَ عَلَى عَاتِقِهِ،يَضَعُهَا إِذَا رَكَعَ،وَيُعِيدُهَا عَلَى عَاتِقِهِ إِذَا قَامَ،حَتَّى قَضَى صَلاَتَهُ،يَفْعَلُ ذَلِكَ بِهَا. (3)
وعَنْ أَنَسٍ،قَالَ:كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَزُورُ الأَنْصَارَ،فَيُسَلِّمُ عَلَى صِبْيَانِهمْ،وَيَمْسَحُ بِرُؤُوسِهِمْ،وَيَدْعُو لَهُمْ. (4)
وعن أَنَس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بصبيان يلعبون فسلم عليهم . (5)
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا،وَكَانَ لِى أَخٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عُمَيْرٍ - قَالَ أَحْسِبُهُ فَطِيمٌ - وَكَانَ إِذَا جَاءَ قَالَ « يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ ».نُغَرٌ كَانَ يَلْعَبُ بِهِ،فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلاَةَ وَهُوَ فِى بَيْتِنَا،فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِى تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ،ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّى بِنَا (6) .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (5998 )
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (5997 )
(3) - صحيح ابن حبان - (3 / 394) (1110) صحيح
(4) - السنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة - (6 / 245)(10088) صحيح
(5) - السنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة - (6 / 245)(10089) صحيح
(6) - صحيح البخارى- المكنز - (6203 ) -النغير : تصغير نغر وهو طائر يشبه العصفور أحمر المنقار(1/78)
وعَنْ عَائِشَةَ،قَالَتْ:كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُؤْتَى بِالصِّبْيَانِ فَيُحَنِّكُهُمْ،فَأُتِيَ بِصَبِيٍّ،فَبَالَ عَلَيْهِ،فَأَتْبَعَهُ الْمَاءَ،وَلَمْ يَغْسِلْهُ. (1)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (4 / 208)(1372) صحيح(1/79)
الحق العاشر
يكون مع كافة الخلق مستبشراً طلق الوجه رفيقا
ً عن مُحَمَّدَ بْنِ مُعَيْقِيبٍ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"تَدْرُونَ عَلَى مَنْ تُحَرَّمُ النَّارُ ؟"قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ،قَالَ:"عَلَى الْهَيِّنِ اللَّيِّنِ السَّهْلِ الْقَرِيبِ " (1)
وعَنْ مُوَرِّقٍ الْعِجْلِيِّ،أَنْ نَبِيَّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:"إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ السَّهْلَ الطَّلِيقَ"" (2)
وعَنِ الْمِقْدَامِ بن شُرَيْحٍ،عَنْ أَبِيهِ،عَنْ جَدِّهِ،قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،دُلَّنِي عَلَى عَمِلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ،قَالَ:إِنَّ مِنْ مُوجِبَاتِ الْمَغْفِرَةِ بَذْلُ السَّلامِ،وَحُسْنُ الْكَلامِ. (3)
وعَنْ حُمَيْدٍ،قَالَ:كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَقُولُ:" بُنَيَّ،إِنَّ الْبِرَّ شَيْءِ هَيِّنِ،وَجْهٌ طَلِيقٌ وَكَلَامٌ لَيِّنٌ" (4)
وعَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرَ النَّارَ فَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا،ثُمَّ ذَكَرَ النَّارَ فَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ فَتَعَوَّذَ مِنْهَا،ثُمَّ قَالَ « اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ،فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ » . (5)
وعَنْ عَلِىٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ فِى الْجَنَّةِ لَغُرَفًا يُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا وَبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا ». فَقَامَ إِلَيْهِ أَعْرَابِىٌّ فَقَالَ لِمَنْ هِىَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « هِىَ لِمَنْ أَطَابَ الْكَلاَمَ وَأَطْعَمَ الطَّعَامَ وَأَدَامَ الصِّيَامَ وَصَلَّى لِلَّهِ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ » (6) .
__________
(1) - معرفة الصحابة لأبي نعيم - (5 / 2590)(6241 ) وشعب الإيمان - (10 / 444)(7772 ) والصحيحة (938) صحيح لغيره
(2) - شعب الإيمان - (10 / 403)(7697 ) صحيح مرسل
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (16 / 52)(17920 ) حسن
(4) - مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ (137 ) حسن
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (6563 ) وصحيح مسلم- المكنز - (2396 )
(6) - سنن الترمذى- المكنز - (2718) حسن لغيره(1/80)
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ،وَصِدْقِ الْحَدِيثِ،وَوَفَاءٍ بِالْعَهْدِ،وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ،وَتَرْكِ الْخِيَانَةِ،وَحِفْظِ الْجَارِ،وَرَحْمَةِ الْيَتِيمِ،وَلِينِ الْكَلَامِ،وَبَذْلِ السَّلَامِ،وَخَفْضِ الْجَنَاحِ " (1) ...
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِى إِلَيْكَ حَاجَةً.فَقَالَ لَهَا « يَا أُمَّ فُلاَنٍ اجْلِسِى فِى أَىِّ نَوَاحِى السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّى أَجْلِسَ إِلَيْكِ ». قَالَ فَجَلَسَتْ فَجَلَسَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْهَا حَتَّى قَضَتْ حَاجَتَهَا (2) .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،أَنَّ امْرَأَةً لَقِيَتِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ،فَقَالَتْ:يَا رَسُولَ اللهِ،إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً قَالَ:يَا أُمَّ فُلاَنٍ،اجْلِسِي فِي أَيِّ نَوَاحِي السِّكَكِ شِئْتِ،أَجْلِسْ إِلَيْكِ قَالَ:فَقَعَدَتْ،فَقَعَدَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى قَضَتْ حَاجَتَهَا. (3)
وعن عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ مَعْقِلٍ،قَالَ:سَمِعْتُ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ،يَقُولُ:" إِنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ صَامَ سَبْعِينَ سَبْتًا،يُفْطِرُ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ،وَهُوَ يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُرِيَهُ كَيْفَ يُغْوِي الشَّيَاطِينُ النَّاسَ ؟ فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَمْ يُجَبْ قَالَ:لَوِ اطَّلَعْتُ عَلَى خَطِيئَتِي وَذَنْبِي،وَمَا بَيْنِي وَبَيْنَ رَبِّي لَكَانَ خَيْرًا لِي مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي طَلَبْتُهُ،فَأَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا،فَقَالَ لَهُ:إِنَّ اللَّهَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ،وَهُوَ يَقُولُ لَكَ:إِنَّ كَلَامَكَ هَذَا الَّذِي تَكَلَّمْتَ بِهِ أَعْجَبُ إِلَيَّ مِمَّا مَضَى مِنْ عِبَادَتِكَ،وَقَدْ فَتَحَ اللَّهُ بَصَرَكَ فَانْظُرْ فَإِذَا جُنُودُ إِبْلِيسَ قَدْ أَحَاطَتْ بِالْأَرْضِ،وَإِذَا لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا وَهُوَ حَوْلَهُ الشَّيَاطِينُ مِثْلُ الذِّبَّانِ،فَقَالَ:أَيْ رَبِّ،مَنْ يَنْجُو مِنْ هَذَا ؟ قَالَ:الْوَادِعُ اللَّيِّنُ" (4)
- - - - - - - - - - - -
__________
(1) - مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ (143 ) حسن لغيره
(2) - سنن أبي داود - المكنز - (4820 ) صحيح
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 307)(12197) 12221- صحيح
(4) - مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ (147 ) صحيح إلي وهب(1/81)
الحق الحادي عشر
لا يعد مسلماً بوعد إلا ويفي به
عَنِ الْحَسَنِ،أَنَّ امْرَأَةً،سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا،فَلَمْ تَجِدْهُ عِنْدَهُ،فَقَالَتْ:عِدْنِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" إِنَّ الْعِدَةَ عَطِيَّةٌ " (1)
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ،قَالَ:إِذَا وَعَدَ أَحَدُكُمْ حَبِيبَهُ فَلْيُنْجِزْ لَهُ،فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:" الْعِدَّةُ عَطِيَّةٌ" (2)
وعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،قَالَ:دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ،فَسَأَلَنِي،وَهُوَ يَظُنُّ أَنِّي لأُمِّ كُلْثُومٍ ابْنَةِ عُقْبَةَ،فَقُلْتُ:إِنَّمَا أَنَا لِلْكَلْبِيَّةِ،قَالَ:فَقَالَ عَبْدُ اللهِ:دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْتِي،فَقَالَ:أَلَمْ أُخْبَرْ أَنَّكَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ؟ فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ،قُلْتُ:إِنِّي أَقْوَى عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ،قَالَ:فَاقْرَأْهُ فِي نِصْفِ كُلِّ شَهْرٍ،قَالَ:قُلْتُ:إِنِّي أَقْوَى عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ،قَالَ:فَاقْرَأْهُ فِي كُلِّ سَبْعٍ،لاَ تَزِيدَنَّ،وَبَلَغَنِي أَنَّكَ تَصُومُ الدَّهْرَ ؟ قَالَ:قُلْتُ:إِنِّي لأَصُومُهُ يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ:فَصُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ،قَالَ:قُلْتُ:إِنِّي أَقْوَى عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ،قَالَ:فَصُمْ مِنْ كُلِّ جُمُعَةٍ يَوْمَيْنِ،قَالَ:قُلْتُ:إِنِّي أَقْوَى عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ،قَالَ:فَصُمْ صِيَامَ دَاوُدَ،صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا،فَإِنَّهُ أَعْدَلُ الصِّيَامِ عِنْدَ اللهِ،وَكَانَ لاَ يُخْلِفُ إِذَا وَعَدَ،وَلاَ يَفِرُّ إِذَا لاَقَى " (3)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى،قَالَ:كَانَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ:" لَا تَعِدَنَّ أَخَاكَ شَيْئًا لَا تُنْجِزُهُ لَهُ،فَإِنَّ ذَلِكَ يُورِثُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةً " (4)
__________
(1) - مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ (194 ) حسن
(2) - أَمْثَالُ الْحَدِيثِ لِأَبِي الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيِّ (219 ) حسن
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 674)(6876) صحيح
(4) - مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ (196 ) صحيح(1/82)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الْحَمْسَاءِ،قَالَ:" بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ،فَبَقِيتُ لَهُ عَلَى بَقِيَّةٍ،فَوَعَدْتُهُ أَنْ آتِيَهُ بِهَا فِي مَكَانِهِ ذَلِكَ قَالَ:فَنَسِيتُ يَوْمِي وَالْغَدَ،فَأَتَيْتُهُ مِنَ الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَهُوَ فِي مَكَانِهِ ذَلِكَ،فَقَالَ لِي:يَا فَتَى،لَقَدْ شَقَقْتَ عَلَيَّ،أَنَا هَهُنَا مُنْذُ ثَلَاثٍ أَنْتَظِرُكَ " (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى الْحَمْسَاءِ قَالَ بَايَعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - بِبَيْعٍ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ وَبَقِيَتْ لَهُ بَقِيَّةٌ فَوَعَدْتُهُ أَنْ آتِيَهُ بِهَا فِى مَكَانِهِ فَنَسِيتُ ثُمَّ ذَكَرْتُ بَعْدَ ثَلاَثٍ فَجِئْتُ فَإِذَا هُوَ فِى مَكَانِهِ فَقَالَ « يَا فَتَى لَقَدْ شَقَقْتَ عَلَىَّ أَنَا هَا هُنَا مُنْذُ ثَلاَثٍ أَنْتَظِرُكَ ». (2)
وعن عمرو بن الحارث أن سهل بن عقيل،حدثه أن إسماعيل عليه السلام وعد رجلا مكانا أن يأتيه،فجاء ونسي الرجل،فظلّ به إسماعيل،وبات حتى جاء الرجل من الغد،فقال: ما برحت من هاهنا؟ قال: لا قال: إني نسيت،قال: لم أكن لأبرح حتى تأتي،فبذلك كان صادقا. (3)
وعن جَابِر - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ لِى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - "لَوْ جَاءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا ثَلاَثًا ».فَلَمْ يَقْدَمْ حَتَّى تُوُفِّىَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ مُنَادِيًا فَنَادَى مَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - عِدَةٌ أَوْ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا.فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ إِنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَعَدَنِى.فَحَثَى لِى ثَلاَثًا . (4)
فصدق الوعد من الصفات الحميدة كما أنّ خلفه من الصفات الذميمة, قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) [الصف:2،3]}
يُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَن يَعِدُ وَعْداً،أَوْ يَقُولُ قَوْلاً لاَ يَفِي بِهِ،فَيَقُولُ تَعَالَى:لأَيِّ شَيءٍ تَقُولُونَ لَوَدِدْنَا أَنْ نَفْعَلَ كََذَا وَكَذَا مِنْ أَفْعَالِ الخَيْرِ،حَتَّى إِذَا طُلِبَ مِنْكُمْ فِعْلُ ذَلِكَ كَرِهْتُمْ ذَلِكَ وَلَمْ تَفْعَلُوهُ؟
__________
(1) - مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ (181 ) حسن
(2) - سنن أبي داود - المكنز - (4998 ) حسن
(3) - تفسير الطبري - مؤسسة الرسالة - (18 / 211)
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (2598 )(1/83)
وَأَكَّدَ اللهُ تَعَالَى إِنْكَارَهُ هَذَا عَلَى هَؤُلاَءِ القَائِلِينَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ،فَقَالَ لَهُمْ:إِنَّهُ يَكْرَهُ كُرْهاً شَدِيداً أَنْ تَقُولُوا شَيئاً لاَ تَفْعَلُونَهُ لأَنَّ الوََفَاءَ بِالعَهْدِ وَالوَعْدِ يُنَمِّي الثِّقَةَ بَينَ أَفْرَادِ الجِمَاعَةِ،كَمَا أَنَّ فُشُوَّ الخُلْفِ بِالوَعْدِ يُضْعِفُهَا.
ولهذا استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من علماء السلف إلى أنه يجب الوفاء بالوعد مطلقا،سواء ترتب عليه غُرم للموعود أم لا. واحتجوا أيضا من السنة بما ثبت في الصحيحين (1) عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ،وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ،وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ». (2)
ولما كانت هذه صفات المنافقين كان التلبس بضدها من صفات المؤمنين،ولهذا أثنى الله على عبده ورسوله إسماعيل بصدق الوعد،قال تعالى :{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا} (54) سورة مريم،وكذلك كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صادق الوعد أيضا لا يعد أحدا شيئا إلاّ وفّى له به. وقد أثنى على أبي العاص بن الربيع زوج ابنته زينب ،فعَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ،أَنَّهُمْ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ،مِنْ عِنْدِ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ،مَقْتَلَ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ،رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ،لَقِيَهُ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ،فَقَالَ لَهُ:هَلْ لَكَ إِلَيَّ مِنْ حَاجَةٍ تَأْمُرُنِي بِهَا ؟ فَقُلْتُ لَهُ:لاَ،فَقَالَ لَهُ:فَهَلْ أَنْتَ مُعْطِيَّ سَيْفَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَغْلِبَكَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ،وَايْمُ اللهِ،لَئِنْ أَعْطَيْتَنِيهِ لاَ يُخْلَصُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا حَتَّى تُبْلَغَ نَفْسِي ؛إِنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ خَطَبَ ابْنَةَ أَبِي جَهْلٍ عَلَى فَاطِمَةَ،عَلَيْهَا السَّلاَمُ،فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ النَّاسَ فِي ذَلِكَ،عَلَى مِنْبَرِهِ هَذَا،وَأَنَا يَوْمَئِذٍ مُحْتَلِمٌ،فَقَالَ: إِنَّ فَاطِمَةَ مِنِّي،وَأَنَا أَتَخَوَّفُ أَنْ تُفْتَنَ فِي دِينِهَا،ثُمَّ ذَكَرَ صِهْرًا لَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ،فَأَثْنَى عَلَيْهِ فِي مُصَاهَرَتِهِ إِيَّاهُ،قَالَ:حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي،وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي،وَإِنِّي لَسْتُ أُحَرِّمُ حَلاَلاً،وَلاَ أُحِلُّ حَرَامًا،وَلَكِنْ وَاللهِ،لاَ تَجْتَمِعُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَبِنْتُ عَدُوِّ اللهِ أَبَدًا " (3)
__________
(1) - تفسير ابن كثير - دار طيبة - (8 / 105)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (33 ) وصحيح مسلم- المكنز - (220 )
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (3110 )(1/84)
وعن عبد الله قال:لا يصلح الكذب في جد ولا هزل،ولا أن يعد أحدكم ولده شيئا ثم لا ينجز له " (1)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرٍ،أَنَّهُ قَالَ:أَتَانَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَيْتِنَا وَأَنَا صَبِيٌّ،قَالَ:فَذَهَبْتُ أَخْرُجُ لأَلْعَبَ،فَقَالَتْ أُمِّي:يَا عَبْدَ اللهِ تَعَالَ أُعْطِكَ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيَهُ ؟ قَالَتْ:أُعْطِيهِ تَمْرًا،قَالَ:فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تَفْعَلِي كُتِبَتْ عَلَيْكِ كَذْبَةٌ. (2)
وعن علي بن أبي طالب قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :: (( العِدَةُ دَينٌ،ويلٌ لمن وعد ثم أخلف )) قالها ثلاثاً (3)
وعَنْ جَابِرٍ،عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ،وَعَامِرٍ،فِي الرَّجُلِ يُخْرِجُ الدَّرَاهِمَ لِيَتَصَدَّقَ بِهَا،ثُمَّ يَبْدُو لَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا قَالَا:" إِنْ شِئْتَ أَمْضِهَا،وَإِنْ شِئْتَ فَأَمْسِكْهَا"قَالَ أَبُو أَحْمَدَ:إِذَا كَتَبَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ الصَّدَقَةَ،أَوْ قَالَ لَهُ:لَكَ عَلَيَّ أَوْ عِنْدِي كَذَا وَكَذَا،فَعَلَيْهِ أَنْ يُنْجِزَ لَهُ مَا وَعْدَهُ،لِحَدِيثِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،أَنَّهُ قَالَ:" الْعِدَةُ عَطِيَّةٌ "،وَحَدِيثِهِ"الْوَأْيُ مِثْلُ الدَّيْنِ أَوْ أَفْضَلُ "،غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ لَهُ بِذَلِكَ،لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَتِ الْعِدَةُ عَطِيَّةً،فَإِنَّ تَمَامَهَا إِنَّمَا يَكُونُ بِالْقَبْضِ،فَإِنْ خَرَجَ بِدِرْهَمٍ أَوْ رَغِيفٍ إِلَى مِسْكِينٍ،فَوَجَدَ الْمِسْكِينَ قَدْ سَبَقَهُ،عَزَلَهُ حَتَّى يُعْطِيَهُ مِسْكِينًا آخَرَ،وَلَا يَأْكُلُهُ،وَإِنْ خَرَجَ بِمَالٍ لَيَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ،وَذَلِكَ الرَّجُلُ لَمْ يَسْأَلْهُ شَيْئًا،لَمْ يَقْبَلْهُ مِنْهُ،فَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ مِنْ مَالِهِ،فَإِنْ كَانَ قَالَ:هَذَا صَدَقَةٌ،أَوْ صَدَقَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ،فَعَلَيْهِ أَنْ يُمْضِيَهَا،فَإِنْ كَانَ أَخْرَجَهُ لَيَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى غَيْرِ قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ،وَلَمْ يَكُنْ قَالَ:إِنَّهُ صَدَقَةٌ،فَإِنْ شَاءَ أَمْضَاهُ،وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ " (4)
وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ:إذَا أَحْسَنْت الْقَوْلَ فَأَحْسِنْ الْفِعْلَ؛لِيَجْتَمِعَ لَك ثَمَرَةُ اللِّسَانِ وَثَمَرَةُ الْإِحْسَانِ،وَلَا تَقُلْ مَا لَا تَفْعَلُ فَإِنَّك لَا تَخْلُو فِي ذَلِكَ مِنْ ذَنْبٍ تَكْسِبُهُ،أَوْ عَجْزٍ تَلْتَزِمُهُ .
__________
(1) - الأدب المفرد للبخاري - (399 ) صحيح -أنْجَز : يقال أنجز وَعْدَه، إذا أحْضَرَه وأتمه
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 394)(15702) 15793- صحيح لغيره
(3) - الطبراني في " الأوسط " ( 3513 ) و( 3514 ) وأخبار أصبهان - (1527 ) فيه جهالة
(4) - الأموال لابن زنجويه - (1909 )(1/85)
وَمِنْهُمْ مَنْ ذَهَبَ إلَى أَنَّ تَعْجِيلَ الْبَذْلِ فِعْلًا مِنْ غَيْرِ وَعْدٍ أَوْلَى،وَتَقْدِيمَهُ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ وَلَا انْتِظَارٍ أَحْرَى،وَإِنَّمَا يُقَدِّمُ الْوَعْدَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ:إمَّا مَعُوزٌ يَنْتَظِرُ وَجْدَهُ،وَإِمَّا شَحِيحٌ يُرَوِّضُ نَفْسَهُ تَوْطِئَةً .
وَلَيْسَ لِلْوَعْدِ فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ وَجْهٌ يَصِحُّ وَلَا رَأْيٌ يَتَّضِحُ،مَعَ مَا يُغَيِّرُهُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَتَتَقَلَّبُ بِهِ الْحَالُ مِنْ يَسَارٍ وَإِعْسَارٍ ." (1)
الأحكام الفقهية للوعد (2)
الْوَعْدُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِشَيْءٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ أَوْ بِشَيْءٍ وَاجِبٍ أَوْ بِشَيْءٍ مُبَاحٍ أَوْ مَنْدُوبٍ .
أَمَّا الْوَعْدُ بِشَيْءٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فَلاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ لَهُ إِنْجَازُ وَعْدِهِ،بَل يَجِبُ عَلَيْهِ إِخْلاَفُهُ شَرْعًا (3) .
قَال الْعُلَمَاءُ:مَنْ وَعَدَ بِمَا لاَ يَحِل أَوْ عَاهَدَ عَلَى مَعْصِيَةٍ،فَلاَ يَحِل لَهُ الْوَفَاءُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ،كَمَنْ وَعَدَ بِزِنًا أَوْ بِخَمْرٍ أَوْ بِمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ.فَصَحَّ أَنَّ لَيْسَ كُل مَنْ وَعَدَ فَأَخْلَفَ أَوْ عَاهَدَ فَغَدَرَ مَذْمُومًا وَلاَ مَلُومًا وَلاَ عَاصِيًا،بَل قَدْ يَكُونُ مُطِيعًا مُؤَدِّيَ فَرْضٍ (4) .
وَأَمَّا مَنْ وَعَدَ بِشَيْءٍ وَاجِبٍ شَرْعًا،كَأَدَاءِ حَقٍّ ثَابِتٍ أَوْ فِعْل أَمْرٍ لاَزِمٍ،فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إِنْجَازُ ذَلِكَ الْوَعْدِ (5) .
وَأَمَّا مَنْ وَعَدَ بِفِعْل شَيْءٍ مُبَاحٍ أَوْ مَنْدُوبٍ إِلَيْهِ،فَيَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يُنْجِزَ وَعْدَهُ،حَيْثُ إِنَّ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ مِنْ مَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ وَخِصَال الإِْيمَانِ،وَقَدْ أَثْنَى الْمَوْلَى جَل وَعَلاَ عَلَى مَنْ صَدَقَ وَعْدَهُ فَامْتَدَحَ إِسْمَاعِيل عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِقَوْلِهِ:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا} (54) سورة مريم،وَكَفَى بِهِ مَدْحًا،وَبِمَا خَالَفَهُ ذَمًّا .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْوَفَاءِ بِذَلِكَ عَلَى سَبْعَةِ أَقْوَالٍ :
__________
(1) - أدب الدنيا والدين - (1 / 240)
(2) - انظر :الموسوعة الفقهية الكويتية - (44 / 73)
(3) - الأذكار للنووي مع شرحه الفتوحات الربانية 6 / 258 ، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 442 .
(4) - المحلى 8 / 29 ، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 442 .
(5) - المحلى 8 / 29 ، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 442 ، والفتوحات الربانية 6 / 258 .(1/86)
أَحَدُهَا:أَنَّ إِنْجَازَ الْوَعْدِ وَاجِبٌ (1) .
وَإِلَى هَذَا الْمَذْهَبِ ذَهَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْقَاضِي ابْنُ الأَْشْوَعِ الْكُوفِيُّ الْهَمْدَانِيُّ وَابْنُ شُبْرُمَةَ،وَهُوَ وَجْهٌ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ اخْتَارَهُ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ تَيْمِيَةَ،وَهُوَ قَوْلٌ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ (2) .
وَحُجَّتُهُمْ عَلَى هَذَا الرَّأْيِ قَوْلُهُ تَعَالَى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) [الصف:2،3]}.
وَكَذَلِكَ مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال:آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ:إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ،وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ،وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ (3) .
الْقَوْل الثَّانِي:أَنَّ إِنْجَازَ الْوَعْدِ وَاجِبٌ إِلاَّ لِعُذْرٍ،وَهُوَ رَأْيُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ،فَإِنَّهُ قَال:وَالصَّحِيحُ عِنْدِي أَنَّ الْوَعْدَ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ عَلَى كُل حَالٍ إِلاَّ لِعُذْرٍ (4) .
وَقَال أَيْضًا:وَإِذَا وَعَدَ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَفِيَ،فَلاَ يَضُرُّهُ إِنْ قَطَعَ بِهِ عَنِ الْوَفَاءِ قَاطِعٌ كَانَ مِنْ غَيْرِ كَسْبٍ مِنْهُ،أَوْ مِنْ جِهَةِ فِعْلٍ اقْتَضَى أَلاَّ يَفِيَ لِلْمُوعَدِ بِوَعْدِهِ (5) ،وَعَلَيْهِ يَدُل حَدِيثُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا وَعَدَ الرَّجُلُ وَيَنْوِى أَنْ يَفِىَ بِهِ فَلَمْ يَفِ بِهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ ».. (6)
__________
(1) - انظر أحكام القرآن لابن العربي 4 / 1800 ، والأذكار مع شرحه الفتوحات الربانية 6 / 260 .
(2) - الأذكار مع الفتوحات الربانية 6 / 260 ، والمبدع شرح المقنع 9 / 345 ، وفتح الباري 5 / 290 ، والمحلى 8 / 28 ، والاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية للبعلي ص331 ، وحاشية ابن الشاط على الفروق للقرافي 4 / 24 - 43 ، الفرق 214 .
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (33 )
(4) - أحكام القرآن لابن العربي 4 / 1800 .
(5) - عارضة الأحوذي لابن العربي 10 / 100 .
(6) - سنن الترمذى- المكنز - (2844 ) ضعيف فيه جهالة(1/87)
الْقَوْل الثَّالِثُ:يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ دِيَانَةً لاَ قَضَاءً،وَهُوَ رَأْيُ تَقِيِّ الدِّينِ السُّبْكِيِّ الشَّافِعِيِّ،قَال:وَلاَ أَقُول يَبْقَى دَيْنًا حَتَّى يُقْضَى مِنْ تَرِكَتِهِ،وَإِنَّمَا أَقُول:يَجِبُ الْوَفَاءُ تَحْقِيقًا لِلصِّدْقِ وَعَدَمِ الإِْخْلاَفِ (1) .
الْقَوْل الرَّابِعُ:أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ مُسْتَحَبٌّ،فَلَوْ تَرَكَهُ فَاتَهُ الْفَضْل وَارْتَكَبَ الْمَكْرُوهَ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ شَدِيدَةً،وَلَكِنْ لاَ يَأْثَمُ.وَهُوَ رَأْيُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَغَيْرِهِمْ (2) .
قَال النَّوَوِيُّ:الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ مُسْتَحَبٌّ اسْتِحْبَابًا مُتَأَكَّدًا،وَيُكْرَهُ إِخْلاَفُهُ كَرَاهَةً شَدِيدَةً،وَدَلاَئِلُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مَعْلُومَةٌ وَلاِتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْمَوْعُودَ لاَ يُضَارِبُ بِمَا وُعِدَ بِهِ مَعَ الْغُرَمَاءِ (3) .
وَقَال بُرْهَانُ الدِّينِ ابْنُ مُفْلِحٍ:لاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ،نَصَّ عَلَيْهِ الإِْمَامُ أَحْمَدُ،وَقَالَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ لأَِنَّهُ فِي مَعْنَى الْهِبَةِ قَبْل الْقَبْضِ (4) .
وَنَصَّ أَبُو بَكْرٍ الْجَصَّاصُ عَلَى أَنَّ الْوَعْدَ بِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَل وَهُوَ مُبَاحٌ،فَإِنَّ الأَْوْلَى الْوَفَاءُ بِهِ مَعَ الإِْمْكَانِ (5) .
الْقَوْل الْخَامِسُ:أَنَّ إِنْجَازَ الْوَعْدِ الْمُجَرَّدِ غَيْرُ وَاجِبٍ،أَمَّا الْوَعْدُ الْمُعَلَّقُ عَلَى شَرْطٍ،فَإِنَّهُ يَكُونُ لاَزِمًا،وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ،حَيْثُ نَقَل ابْنُ نُجَيْمٍ عَنِ الْقُنْيَةِ:لاَ يَلْزَمُ الْوَعْدُ إِلاَّ إِذَا كَانَ مُعَلَّقًا (6)
وَفِي الْفَتَاوَى الْبَزَّازِيَّةِ:أَنَّ الْمَوَاعِيدَ بِاكْتِسَاءِ صُوَرِ التَّعْلِيقِ تَكُونُ لاَزِمَةً (7) .
__________
(1) - الفتوحات الربانية لابن علان 6 / 258 ، 259 ، وفتح الباري 5 / 290 .
(2) - الأذكار مع شرحه الفتوحات الربانية 6 / 258 ، وإتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين 7 / 207 ، وكشاف القناع 6 / 279 ، وشرح منتهى الإرادات 3 / 456 .
(3) - روضة الطالبين 5 / 390 ، وفتح الباري 5 / 290 ، وتحرير الكلام في مسائل الالتزام ص154 ، والفتوحات الربانية 6 / 260 .
(4) - المبدع 9 / 345 .
(5) - أحكام القرآن للجصاص 3 / 442 ( ط . استانبول ) .
(6) - الأشباه والنظائر لابن نجيم كتاب الحظر والإباحة ص344 .
(7) - الفتاوى البزازية ( بهامش الفتاوى الهندية ) 6 / 3 .(1/88)
وَنَصَّتِ الْمَادَّةُ ( 84 ) مِنْ مَجَلَّةِ الأَْحْكَامِ الْعَدْلِيَّةِ:الْمَوَاعِيدُ بِصُوَرِ التَّعَالِيقِ تَكُونُ لاَزِمَةً.مِثَال ذَلِكَ:لَوْ قَال شَخْصٌ لآِخَرَ:ادْفَعْ دَيْنِي مِنْ مَالِكَ،فَوَعَدَهُ الرَّجُل بِذَلِكَ،ثُمَّ امْتَنَعَ عَنِ الأَْدَاءِ،فَإِنَّهُ لاَ يُلْزَمُ الْوَاعِدُ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ،أَمَّا قَوْل رَجُلٍ لآِخَرَ:بِعْ هَذَا الشَّيْءَ لِفُلاَنٍ،وَإِنْ لَمْ يُعْطِكَ ثَمَنَهُ فَأَنَا أُعْطِيهِ لَكَ،فَلَمْ يُعْطِ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ ،لَزِمَ الْمُوَاعِدَ أَدَاءُ الثَّمَنِ الْمَذْكُورِ بِنَاءً عَلَى وَعْدِهِ (1) .
وَأَسَاسُ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:أَنَّ الإِْنْسَانَ إِذَا أَنْبَأَ غَيْرَهُ بِأَنَّهُ سَيَفْعَل أَمْرًا فِي الْمُسْتَقْبَل مَرْغُوبًا لَهُ،فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ الأَْمْرُ غَيْرَ وَاجِبٍ عَلَيْهِ،فَإِنَّهُ لاَ يَلْزَمُهُ بِمُجَرَّدِ الْوَعْدِ؛لأَِنَّ الْوَعْدَ لاَ يُغَيِّرُ الأُْمُورَ الاِخْتِيَارِيَّةَ إِلَى الْوُجُوبِ وَاللُّزُومِ.أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْمَوَاعِيدُ مُفْرَغَةً فِي قَالَبِ التَّعْلِيقِ،فَإِنَّهَا تَلْزَمُ لِقُوَّةِ الاِرْتِبَاطِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ،مِنْ حَيْثُ إِنَّ حُصُول مَضْمُونِ الْجَزَاءِ مَوْقُوفٌ عَلَى حُصُول شَرْطِهِ،وَذَلِكَ يُكْسِبُ الْوَعْدَ قُوَّةً،كَقُوَّةِ الاِرْتِبَاطِ بَيْنَ الْعِلِّيَّةِ وَالْمَعْلُولِيَّةِ،فَيَكُونُ لاَزِمًا (2) .
عَلَى أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ إِنَّمَا اعْتَبَرُوا الْوُعُودَ بِصُوَرِ التَّعَالِيقِ لاَزِمَةً إِذَا كَانَ الْوَعْدُ مِمَّا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ شَرْعًا حَسَبَ قَوَاعِدِ مَذْهَبِهِمْ،حَيْثُ إِنَّهُمْ أَجَازُوا تَعْلِيقَ الإِْطْلاَقَاتِ وَالْوَلاَيَاتِ بِالشَّرْطِ الْمُلاَئِمِ دُونَ غَيْرِهِ،وَأَجَازُوا تَعْلِيقَ الإِْسْقَاطَاتِ الْمَحْضَةِ بِالْمُلاَئِمِ وَغَيْرِهِ مِنَ الشُّرُوطِ،أَمَّا التَّمْلِيكَاتُ وَكَذَا التَّقْيِيدَاتُ،فَإِنَّهُ لاَ يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ عِنْدَهُمْ (3) .
وَالنَّافُونَ لِوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ مِنَ الْعُلَمَاءِ حَمَلُوا الْمَحْظُورَ الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَمَقَتَ فَاعِلَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) [الصف:2 - 4] } عَلَى مَنْ وَعَدَ وَفِي ضَمِيرِهِ أَلاَّ يَفِيَ بِمَا وَعَدَ بِهِ،أَوْ عَلَى الإِْنْسَانِ الَّذِي يَقُول عَنْ نَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا لاَ يَفْعَلُهُ (4) .
__________
(1) - شرح المجلة لعلي حيدر 1 / 77 .
(2) - شرح المجلة للأتاسي 1 / 238 ، 239 ، وحاشية الحموي على الأشباه والنظائر 2 / 110 ، وانظر الفتاوى البزازية 6 / 3 ، وشرح المجلة لعلي حيدر 1 / 77 .
(3) - شرح المجلة للأتاسي 1 / 233 ، 234 ، 239 ، وانظر رد المحتار لابن عابدين ( 4 / 22 ط بولاق ) .
(4) - أحكام القرآن للجصاص 3 / 442 .(1/89)
وَأَمَّا حَدِيثُ آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ:إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ،وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ،وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ فَقَالُوا بِأَنَّ ذَمَّ الإِْخْلاَفِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ حَيْثُ تَضَمُّنُهُ الْكَذِبَ الْمَذْمُومَ إِنْ عَزَمَ عَلَى الإِْخْلاَفِ حَال الْوَعْدِ،لاَ إِنْ طَرَأَ لَهُ (1) .
قَال الإِْمَامُ الْغَزَالِيُّ:وَهَذَا يَنْزِل عَلَى مَنْ وَعَدَ وَهُوَ عَلَى عَزْمِ الْخُلْفِ أَوْ تَرْكِ الْوَفَاءِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ،فَأَمَّا مَنْ عَزَمَ عَلَى الْوَفَاءِ فَعَنَّ لَهُ عُذْرٌ مَنَعَهُ مِنَ الْوَفَاءِ،لَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا،وَإِنْ جَرَى عَلَيْهِ مَا هُوَ صُورَةُ النِّفَاقِ (2) .
قَال الْحَنَفِيَّةُ:الْخُلْفُ فِي الْوَعْدِ حَرَامٌ إِذَا وَعَدَ وَفِي نِيَّتِهِ أَنْ لاَ يَفِيَ بِمَا وَعَدَ،أَمَّا إِذَا وَعَدَ وَفِي نِيَّتِهِ أَنْ يَفِيَ بِمَا وَعَدَ فَلَمْ يَفِ،فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ (3) .
الْقَوْل السَّادِسُ:إِنَّ الْوَعْدَ إِذَا كَانَ مُرْتَبِطًا بِسَبَبٍ وَدَخَل الْمَوْعُودُ فِي السَّبَبِ،فَإِنَّهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ كَمَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِالْعَقْدِ،أَمَّا إِذَا لَمْ يُبَاشِرِ الْمَوْعُودُ السَّبَبَ فَلاَ شَيْءَ عَلَى الْوَاعِدِ،وَذَلِكَ كَمَا إِذَا وَعَدَهُ أَنْ يُسْلِفَهُ ثَمَنَ دَارٍ يُرِيدُ شِرَاءَهَا فَاشْتَرَاهَا الْمَوْعُودُ حَقِيقَةً،أَوْ أَنْ يُقْرِضَهُ مَبْلَغَ الْمَهْرِ فِي الزَّوَاجِ،فَتَزَوَّجَ اعْتِمَادًا عَلَى هَذَا الْوَعْدِ...فَفِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ وَأَمْثَالِهِمَا يُلْزَمُ الْوَاعِدُ قَضَاءً بِإِنْجَازِ وَعْدِهِ.أَمَّا إِذَا لَمْ يُبَاشِرِ الْمَوْعُودُ السَّبَبَ،فَلاَ يُلْزَمُ الْوَاعِدُ بِشَيْءٍ .
وَهَذَا هُوَ الْقَوْل الْمَشْهُورُ وَالرَّاجِحُ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ (4) ،وَعَزَاهُ الْقَرَافِيُّ إِلَى مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَسُحْنُونٍ (5) .
الْقَوْل السَّابِعُ:أَمَّا إِذَا كَانَ الْوَعْدُ مُرْتَبِطًا بِسَبَبٍ فَإِنَّهُ يَجِبَ الْوَفَاءُ بِهِ قَضَاءً،سَوَاءٌ دَخَل
__________
(1) - مرقاة المفاتيح للملا علي القاري 1 / 106 ، وحاشية الحموي على الأشباه والنظائر 2 / 110 .
(2) - إحياء علوم الدين 3 / 115 ، وانظر الفتوحات الربانية لابن علان 6 / 259 .
(3) - حاشة الحموي على الأشباه 2 / 110 .
(4) - تحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب ص155 ، البيان والتحصيل لابن رشد 8 / 18 ، والمنتقى شرح الموطأ للباجي 3 / 227 .
(5) - الفروق للقرافي 4 / 25 ، وانظر مجالس العرفان لجعيط 2 / 34 وقارن بما نقل ابن عبد البر عن مالك وابن القاسم وسحنون في كتابه التمهيد 3 / 208 ، 209 .(1/90)
الْمَوْعُودُ فِي السَّبَبِ أَوْ لَمْ يَدْخُل فِيهِ،وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُرْتَبِطًا بِسَبَبٍ فَلاَ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ،وَعَلَى ذَلِكَ:فَلَوْ قَال شَخْصٌ لآِخَرَ:أَعِدُكَ بِأَنْ أُعِيرَكَ بَقَرِي وَمِحْرَاثِي لِحِرَاثَةِ أَرْضِكَ،أَوْ أُرِيدُ أَنْ أُقْرِضَكَ كَذَا لِتَتَزَوَّجَ.أَوْ قَال الطَّالِبُ لِغَيْرِهِ:أُرِيدُ أَنْ أُسَافِرَ أَوْ أَنْ أَقْضِيَ دَيْنِي أَوْ أَنْ أَتَزَوَّجَ،فَأَقْرِضْنِي مَبْلَغَ كَذَا.فَوَعَدَهُ بِذَلِكَ،ثُمَّ بَدَا لَهُ فَرَجَعَ عَنْ وَعْدِهِ قَبْل أَنْ يُبَاشِرَ الْمَوْعُودُ السَّبَبَ الَّذِي ذَكَرَ مِنْ سَفَرٍ أَوْ زَوَاجٍ أَوْ وَفَاءِ دَيْنٍ أَوْ حِرَاثَةِ أَرْضٍ...فَإِنَّ الْوَاعِدَ يَكُونُ مُلْزَمًا بِالْوَفَاءِ،وَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالتَّنْفِيذِ جَبْرًا إِنِ امْتَنَعَ.. أَمَّا إِذَا كَانَتِ الْعِدَةُ غَيْرَ مُرْتَبِطَةٍ بِسَبَبٍ،كَمَا إِذَا قُلْتَ لآِخَرَ:أَسْلِفْنِي كَذَا،وَلَمْ تَذْكُرْ سَبَبًا،أَوْ أَعِرْنِي دَابَّتَكَ أَوْ بَقَرَتَكَ،وَلَمْ تَذْكُرْ سَفَرًا وَلاَ حَاجَةً،فَقَال:نَعَمْ.أَوْ قَال الْوَاعِدُ مِنْ نَفْسِهِ:أَنَا أُسْلِفُكَ كَذَا أَوْ أَهَبُ لَكَ كَذَا،وَلَمْ يَذْكُرْ سَبَبًا،ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ،فَلاَ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ،وَهُوَ قُوْلٌ فِي مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ (1) .
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْل أَصْبَغَ الَّذِي حَكَاهُ الْبَاجِيُّ بِقَوْلِهِ:وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ عِدَةً لاَ تُدْخِل مَنْ وَعَدَ بِهَا فِي شَيْءٍ،فَلاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ مُفَسَّرَةً أَوْ مُبْهَمَةً .
- فَإِنْ كَانَتْ مُفَسَّرَةً:مِثْل أَنْ يَقُول الرَّجُل لِلرَّجُل:أَعِرْنِي دَابَّتَكَ إِلَى مَوْضِعِ كَذَا.فَيَقُول:أَنَا أُعِيرُكَ غَدًا،أَوْ يَقُول:عَلَيَّ دَيْنٌ فَأَسْلِفْنِي مِائَةَ دِينَارٍ أَقْضِهِ،فَيَقُول:أَنَا أُسْلِفُكَ .
فَهَذَا قَال أَصْبَغُ فِي الْعُتْبِيَّةِ:يُحْكَمُ بِإِنْجَازِ مَا وَعَدَ بِهِ،كَالَّذِي يُدْخِل الإِْنْسَانَ فِي عَقْدٍ،وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عَلَى خِلاَفِ هَذَا؛لأَِنَّهُ لَمْ يُدْخِلْهُ بِوَعْدِهِ فِي شَيْءٍ يَضْطَرُّهُ إِلَى مَا وَعَدَ .
وَأَمَّا إِنْ كَانَتْ مُبْهَمَةً:مِثْل أَنْ يَقُول لَهُ:أَسْلِفْنِي مِائَةَ دِينَارٍ،وَلاَ يَذْكُرُ حَاجَتَهُ إِلَيْهَا،أَوْ يَقُول:أَعِرْنِي دَابَّتَكَ أَرْكَبْهَا،وَلاَ يَذْكُرُ لَهُ مَوْضِعًا وَلاَ حَاجَةً.فَهَذَا قَال أَصْبَغُ:لاَ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِهَا .
فَإِذَا قُلْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الأُْولَى:إِنَّهُ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْعِدَةِ إِذَا كَانَ الأَْمْرُ أَدْخَلَهُ فِيهِ،مِثْل أَنْ يَقُول لَهُ:انْكِحْ وَأَنَا أُسْلِفُكَ مَا تُصْدِقُهَا.فَإِنْ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ الْوَعْدِ قَبْل أَنْ يَنْكِحَ مَنْ وُعِدَ،فَهَل
__________
(1) - الفروق للقرافي 4 / 25 ، وانظر تحرير الكلام في مسائل الالتزام ص154 ، والبيان والتحصيل 8 / 18 ، والأذكار مع الفتوحات الربانية 6 / 261 ، وأحكام القرآن لابن العربي 4 / 1800 .(1/91)
يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ أَمْ لاَ ؟ قَال أَصْبَغُ فِي الْعُتْبِيَّةِ:يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَيُحْكَمُ بِهِ عَلَيْهِ،أَلْزَمَهُ ذَلِكَ بِالْوَعْدِ (1) .
الاِسْتِثْنَاءُ فِي الْوَعْدِ (2) :
نَصَّ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْوَاعِدِ أَنْ يَسْتَنْثِيَ فِي وَعْدِهِ بِقَوْل:إِنْ شَاءَ اللَّهُ،وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{ وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) [الكهف:23،24]}،وَلأَِنَّ الْوَاعِدَ لاَ يَدْرِي هَل يَقَعُ مِنْهُ الْوَفَاءُ أَمْ لاَ،فَإِذَا اسْتَثْنَى وَعَلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ الإِْلَهِيَّةِ خَرَجَ عَنْ صُورَةِ الْكَذِبِ فِي حَال التَّعَذُّرِ .
غَيْرَ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي حُكْمِ الاِسْتِثْنَاءِ فِي الْوَعْدِ :
- فَقَال الْغَزَالِيُّ:هُوَ الأَْوْلَى (3) .
- وَقَال الْجَصَّاصُ:إِنْ لَمْ يَقْرِنْهُ بِالاِسْتِثْنَاءِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ (4) .
- وَقَال الْحَنَابِلَةُ:يَحْرُمُ الْوَعْدُ بِغَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ (5) .
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - المنتقى للباجي 3 / 227 ، وقارن بما نقله القرافي عن أصبغ في الفروق 4 / 25 ، وما حكاه جعيط في مجالس العرفان عن أصبغ 2 / 34 .
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (44 / 78)
(3) - إحياء علوم الدين 3 / 115 .
(4) - أحكام القرآن للجصاص 3 / 442 .
(5) - كشاف القناع 6 / 279 ، وشرح منتهى الإرادات 3 / 456 ، والمبدع 9 / 345 .(1/92)
الحق الثاني عشر
ينصف الناس من نفسه ولا يأتي إليهم إلا بما يحب أن يؤتى إليه
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،يَقُولُ:"لَا يَسْتَكْمِلُ الْعَبْدَ الْإِيمَانَ حَتَّى يَحْسُنَ خُلُقُهُ،وَلَا يَشْفِي غَيْظَهُ،وَأَنْ يَوَدَّ لِلنَّاسِ مَا يَوَدُّ لِنَفْسِهِ،لَقَدْ دَخَلَ الْجَنَّةَ رِجَالٌ بِغَيْرِ أَعْمَالٍ "،قِيلَ: بِمَ دَخَلُوهَا يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ:"بِالنَّصِيحَةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ،وَسَمَاحَةِ الصَّدْرِ" (1)
وعَنْ عَمَّارٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :ثَلاثٌ مِنَ الإِيمَانِ:الإِنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَارِ،وَبَذْلُ السَّلامِ لِلْعَالَمِ،وَالإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِهِ." (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ،وَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ،وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،وَيَأْتِي إِلَى النَّاسِ مَا يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ". (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:"يَا أَبَا هُرَيْرَةَ،ارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ تَكُنْ غَنِيًّا،وَكُنْ وَرِعًا تَكُنْ عَبْدًا لِلَّهِ،وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا،وَأَحْسِنْ مُجَاوِرَةَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِمًا،وَإِيَّاكَ وَكَثْرَةَ الضَّحِكِ،فَإِنَّهُ يُمِيتُ الْقَلْبَ،وَالْقَهْقَهَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ،وَالتَّبَسُّمُ مِنَ اللَّهِ"، (4)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"يَا أَبَا هُرَيْرَةَ كُنْ وَرِعًا:تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ،وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ،وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ،تَكُنْ مُؤْمِنًا،وَأَحْسِنْ إِلَى مُجَاوِرَةِ مَنْ جَاوَرَكَ،تَكُنْ مُسْلِمًا،وَأَقِلَّ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ " (5)
__________
(1) - شعب الإيمان - (10 / 423) (7732 ) حسن
(2) - مسند البزار كاملا - (1 / 241) (1396) حسن
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (20 / 156) (1551) حسن لغيره
(4) - المعجم الكبير للطبراني - (19 / 90) (203 ) حسن لغيره
(5) - شعب الإيمان - (7 / 500)(5366 ) وسنن ابن ماجه- المكنز - (4357 ) صحيح لغيره(1/93)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ:"أَرْبَعُ خِصَالٍ:وَاحِدَةٌ لِي وَوَاحِدَةٌ لَكَ وَوَاحِدَةٌ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ وَوَاحِدَةٌ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ عِبَادِي؛فَأَمَّا الَّتِي لِي فَاعْبُدْنِي وَلَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا،وَأَمَّا الَّتِي لَكَ فَمَا عَمِلْتَ مِنْ خَيْرٍ يُجْزِئُكَ،وَأَمَّا الَّتِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ فَمِنْكَ الدُّعَاءُ وَعَلَيَّ الْإِجَابَةُ،وَأَمَّا الَّتِي بَيْنَكَ وَبَيْنَ عِبَادِي،فَارْضَ لَهُمْ مَا تَرْضَى لِنَفْسِكَ " (1)
وعَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ،قَالَ:سَأَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:أَيْ رَبِّ،أَيُّ عِبَادِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ:أَكْثَرُهُمْ لِي ذِكْرًا قَالَ:يَا رَبِّ فَأَيُّ عِبَادِكَ أَغْنَى ؟ قَالَ:أَقْنَعُهُمْ بِمَا أَعْطَيْتُهُ قَالَ:يَا رَبِّ،فَأَيُّ عِبَادِكَ أَعْدَلُ ؟ قَالَ:مَنْ دَانَ مِنْ نَفْسِهِ " (2)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - شعب الإيمان - (13 / 497) (10671 ) ضعيف
(2) - الْقَنَاعَةُ لِابْنِ السُّنِّيِّ (14 )(1/94)
الحق الثالث عشر
ينزل الناس منازلهم
عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أَبِى شَبِيبٍ أَنَّ عَائِشَةَ عَلَيْهَا السَّلاَمُ مَرَّ بِهَا سَائِلٌ فَأَعْطَتْهُ كِسْرَةً وَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَهَيْئَةٌ فَأَقْعَدَتْهُ فَأَكَلَ فَقِيلَ لَهَا فِى ذَلِكَ فَقَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ » (1) .
ومعنى هذا الحديث:الحَضُّ على مراعاةِ مقادير الناس،ومراتبهم،ومناصبهم،فيعامل كلُّ واحد منهم بما يليقُ بحاله،وبما يلائمُ منصبه في الدينِ والعلمِ والشَّرَفِ والمرتبة؛فإنَّ الله تعالى قد رتَّبَ عبيده وخَلْقَه،وأعطى كلَّ ذي حَقٍّ حَقَّه،وقد قال ؟:خيارُهُم في الجاهليَّةِ خيارُهُمْ في الإسلام إذا فقُهُوا. (2)
وابن علان:" هو حض على مراعاة مقادير الناس ومراتبهم ومناصبهم وتفضيل بعضهم عل بعض في المجالس وفي القيام والمخاطبة والمكاتبة وغير ذلك من الحقوق كما تقدم عن المصنف. قال الإمام مسلم: فلا يقصر بالرجل العالي القدر عن درجته،ولا يرفع متضع القدر فوق منزلته،ويعطى كل ذي حق حقه من قوله تعالى: {وفوق كل ذي علم عليم} (يوسف:76) وهذا في بعض الأحكام أو أكثرها،وقد سوّى الشرع بينهم في القصاص والحدود وأشباهها مما هو معروف اهـ. قال العلماء: في الحديث أن العالم إذا فعل شيئاً
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (4844 ) حسن لغيره
قَالَ أَبُو دَاوُد مَيْمُون بن أبي شبيبَ لَمْ يُدْرِكْ عَائِشَةَ 0وقال الشيخ ابن الصلاح وفيما قاله أبو داود نظر فإنه كوفي متقدم قد أدرك المغيرة ابن شعبة ومات المغيرة قبل عائشة وعند مسلم التعاصر مع إمكان التلاقي كاف في ثبوت الإدراك فلو ورد عن ميمون أنه قال لم ألق عائشة استقام لأبي داود الجزم بعدم إدراكه وهيهات ذلك انتهى قال النووي وحديث عائشة هذا قد رواه البزار في مسنده وقال هذا الحديث لا يعلم عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه وقد روى عن عائشة من غير هذا الوجه موقوفا انتهى عون المعبود 13/132
(2) - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - (1 / 45)(1/95)
يخفى أمره وسئل عن ذلك يستدل بالحديث النبوي إذ هو من أقوى الحجج الشرعية وهو أبلغ من ذكر الحكم بلا دليل " (1)
وعَنْ جَرِيرٍ،" أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ بَعْضَ بُيُوتِهِ،فَامْتَلَأَ الْبَيْتُ،وَدَخَلَ جَرِيرٌ فَقَعَدَ خَارِجَ الْبَيْتِ،فَأَبْصَرَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَلَفَّهُ وَرَمَى بِهِ إِلَيْهِ،وَقَالَ:اجْلِسْ عَلَى هَذَا،فَأَخَذَهُ جَرِيرٌ،وَوَضَعَهُ عَلَى وَجْهِهِ،وَقَبَّلَهُ" (2)
ومُعَاذِ بن جَبَلٍ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ" (3)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،قَالَ: دَخَلَ عُيَيْنَةُ بن بَدْرٍ وَحِصْنٌ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَعِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَهُمْ جُلُوسٌ جَمِيعًا عَلَى الأَرْضِ،فَدَعَا لِعُيَيْنَةَ بنمْرُقَةٍ،فَأَجْلَسَهُ عَلَيْهَا،وَقَالَ:"إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ". (4)
وعن عَبْدِ اللهِ بْنِ ضَمْرَةَ،أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ ذَاتَ يَوْمٍ قَاعِدٌ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَكْثَرُهُمُ الْيَمَنُ إِذْ قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"سَيَطْلُعُ عَلَيْكُمْ مِنْ هَذِهِ الثَّنِيَّةِ خَيْرُ ذِي يَمَنٍ "،فَبَكَى الْقَوْمُ،كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ،فَإِذَا هُمْ بِجَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيِّ قَدْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ مِنَ الثَّنِيَّةَ،فَجَاءَ حَتَّى سَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَى أَصْحَابِهِ،فَرَدُّوا عَلَيْهِ بِأَجْمَعِهِمِ السَّلَامَ،ثُمَّ بَسَطَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَرْضَ رِدَائِهِ،وَقَالَ لَهُ:"عَلَى ذَا يَا جَرِيرُ فَاقْعُدْ"فَقَعَدَ مَعَهُمْ مَلِيًّا،ثُمَّ قَامَ وَانْصَرَفَ فَقَالَ جَمَاعَةُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَقَدْ رَأَيْنَا مِنْكَ الْيَوْمَ مَنْظَرًا لِجَرِيرٍ مَا رَأَيْنَاهُ مِنْكَ لِأَحَدٍ قَالَ:"نَعَمْ،هَذَا كَرِيمُ قَوْمِهِ وَإِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ " (5)
وعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي بَيْتٍ مَدْحُوسٍ مِنَ النَّاسِ،فَقَامَ بِالْبَابِ،فَنَظَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَمِينًا وَشِمَالًا فَلَمْ يَرَ مَوْضِعًا،فَأَخَذَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) - دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين - (4 / 27)
(2) - أَخْلَاقُ النَّبِيِّ لِأَبِي الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيِّ (7 ) حسن
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (15 / 15)(16628 ) صحيح لغيره
(4) - المعجم الكبير للطبراني - (12 / 103)(13861) فيه جهالة
(5) - كشف الأستار - (3 / 274)(2739) ومعرفة الصحابة لأبي نعيم - (3 / 1688)(4228 ) فيه جهالة(1/96)
رِدَاءَهُ،فَلَفَّهُ ثُمَّ رَمَى بِهِ إِلَيْهِ،فَقَالَ:" اجْلِسْ عَلَيْهِ ".فَأَخَذَهُ جَرِيرٌ،فَضَمَّهُ ثُمَّ قَبَّلَهُ،ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ:أَكْرَمَكَ اللَّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَمَا أَكْرَمْتَنِي.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ". (1)
وعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ،قَالَ: لَمَّا بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:"لِأَيِّ شَيْءٍ جِئْتَ يَا جَرِيرُ ؟"قَالَ: جِئْتُ لَأُسْلِمَ عَلَى يَدِكَ.قَالَ: فَأَلْقَى لِي كِسَاءَهُ،ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ،فَقَالَ:"إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ" (2)
وعن طَارِقَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ:كُنَّا عِنْدَ الشَّعْبِيِّ فَجَاءَ ابْنٌ لِجَرِيرٍ أَوْ لِيَزِيدَ بْنِ جَرِيرٍ قَالَ:فَقَالَ الشَّعْبِيُّ:يَا جَارِيَةُ،الْوِسَادَةَ الْوِسَادَةَ،قَالَ:فَلَمَّا قَامَ فَخَرَجَ،قَالَ لَهُ:يَا أَبَا عَمْرٍو،حَوْلَكَ مَشْيَخَةُ قَوْمِكَ،جَاءَكَ هَذَا الْغُلاَمُ فَدَعَوْتَ لَهُ بِالْوِسَادَةِ،فَقَالَ:إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:إِذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ." (3)
وعَنْ طَارِقٍ،قَالَ:كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ الشَّعْبِيِّ،فَجَاءَ جَرِيرُ بْنُ يَزِيدَ،فَدَعَا لَهُ الشَّعْبِيُّ بِوِسَادَةٍ فَقُلْنَا لَهُ:يَا أَبَا عَمْرٍو نَحْنُ عِنْدَكَ أَشْيَاخٌ،دَعَوْت لِهَذَا الْغُلاَمِ بِوِسَادَةٍ ؟ فَقَالَ:إنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:إذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ." (4)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،قَالَ:دَخَلَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَعِنْدَهُ أَصْحَابُهُ،وَضَنَّ كُلُّ رَجُلٍ بِمَجْلِسِهِ،فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رِدَاءَهُ،فَأَلْقَاهُ إِلَيْهِ،فَتَلَقَّاهُ بِنَحْرِهِ وَوَجْهِهِ،فَقَبَّلَهُ وَوَضَعَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ،وَقَالَ:أَكْرَمَكَ اللَّهُ كَمَا أَكْرَمْتَنِي،ثُمَّ وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ،فَإِذَا أَتَاهُ كَرِيمُ قَوْمٍ،فَلْيُكْرِمْهُ " (5)
__________
(1) - المعجم الأوسط للطبراني - (5419) فيه ضعف
(2) - شعب الإيمان - (13 / 364) (10487 ) صحيح لغيره
(3) - مسند الشاشي 335 - (1 / 297)(608) صحيح مرسل
(4) - مصنف ابن أبي شيبة - (8 / 398)(26097) صحيح مرسل
(5) - المستدرك للحاكم (7791) فيه جهالة(1/97)
وكذلك كل من له عليه حق قديم فليكرمه. فعن عُمَارَةَ بْنِ ثَوْبَانَ،أَنَّ أَبَا الطُّفَيْلِ أَخْبَرَهُ،قَالَ:كُنْتُ غُلامًا أَحْمِلُ عُضْوَ الْبَعِيرِ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :يَقْسِمُ لَحْمًا بِالْجِعْرَانَةِ،فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ،فَقُلْتُ:مَنْ هَذِهِ ؟ قَالُوا:أُمُّهُ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ " (1)
وعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ،قَالَ:لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ وَهَاجَرَ إِلَيْهَا جَعَلَ يَبْعَثُ السَّرَايَا،فَلَا يَزَالُ إِبِلُ قَوْمٍ قَدْ أَغَارَتْ عَلَيْهَا خَيلُهُ،فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ قُلْتُ:وَاللَّهِ لَوْ خَلَّفْتُ أَجْمَالًا مِنْ إِبِلِي،فَكَانَتْ تَكُونُ قَرِيبًا،فَوَاللَّهِ مَا شَعُرْتُ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ رَاعِي الْإِبِلِ قَدْ جَاءَ يَعْدُو بِعَصَاهُ،قُلْتُ:وَيْلَكَ مَا لَكَ ؟ قَالَ:أُغِيرَ وَاللَّهِ عَلَى النُّعُومِ،قُلْتُ:مَنْ أَغَارَ عَلَيْهَا ؟ قَالَ:خَيلُ مُحَمَّدٍ،قُلْتُ لِنَفْسِي:هَذَا الَّذِي كُنْتُ أَحْذَرُ،فَوَثَبْتُ أُرحِّلُ أَجْمَالِي أَنْجُو بِأَهْلِي،وَكُنْتُ نَصْرَانِيًّا وَلِيَ عَمَّةٌ فَدَخَلْتُ،فَقُلْتُ:مَا تُرَى يُصْنَعُ بِهَا ؟ وحَمَلْتُ امْرَأَتِي،وَجَاءَتْنِي عَمَّتِي فَقَالَتْ:يَا عَدِيُّ،أَمَّا تتَّقي اللَّهَ أنْ تَنْجُوَ بِامْرَأَتِكَ وَتَدَعَ عَمَّتَكَ،فَقُلْتُ:مَا عَسَى أَنْ يَصْنَعُوا بِهَا ؟ امْرَأَةٌ قَدْ خُلِّيَ مِنْ سِنِّهَا،فَمَضَيْتُ وَلَمْ أَلْتَفِتْ إِلَيْهَا حَتَّى وَرَدْتُ الشَّامَ،فَانْتَهَيْتُ إِلَى قَيْصَرَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بِحِمْصَ،فَقُلْتُ:إِنِي رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ وَأَنَا عَلَى دِينِكَ،وَإِنَّ هَذَا الرَّجُلَ لَيَتَنَاوَلُنَا،فَكَانَ الْمَفَرُّ إِلَيْكَ،قَالَ:اذْهَبْ فَانْزِلْ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا حَتَّى نَرَى مِنْ رَأْيِكَ،فَذَهَبْتُ فَنَزَلْتُ الْمَكَانَ الَّذِي قَالَ لِي،فَكُنْتُ بِهِ حِينًا،فبَيْنَا أَنَا ذَاتَ يَوْمٍ إِذَا أَنَا بِظَعِينَةٍ مُتَوَجِّهَةٍ إِلَيْنَا حَتَّى انْتَهَتْ إِلَى بُيُوتِنَا،فَإِذَا هِيَ عَمَّتِي،فَقَالَتْ لِي:يَا عَدِيُّ أَمَا اتَّقَيْتَ اللَّهَ أنْ تَنْجُوَ بِامْرَأَتِكَ وَتَرَكْتَ عَمَّتَكَ.قُلْتُ:قَدْ كَانَ ذَلِكَ فَأَخْبِرِينَا مَا كَانَ بَعْدَنَا.قَالَتْ:إِنَّكُمْ لَمَّا انْطَلَقْتُمْ أَتَتْنَا الْخَيْلُ فَسَبَوْنَا وَذُهِبَ بِي فِي السَّبْيِ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ،وَكُنَّا فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ فَمَرَّ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ الْقَائِلَةِ وَخَلْفَهُ رَجُلٌ يَتْبَعُهُ وَهُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ،فَأَوْمَأَ إِلَيَّ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَنْ كَلِّمِيهِ،فَهَتَفْتُ بِهِ فَقُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَ الْوَلَدُ وَغَابَ الْوَافِدُ،فَمُنَّ عَلَيَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" وَمَنْ وَافِدُكِ ؟"قُلْتُ:عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ.قَالَ:" الَّذِي فَرَّ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ".ثُمَّ مَضَى وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيَّ حَتَّى كَانَ الْغَدُ فَمَرَّ بِي نَحْوَ تِلْكَ السَّاعَةِ وَخَلْفَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ،فَأَوْمَأَ إِلَيَّ أَنْ كَلِّمِيهِ،فَهَتَفْتُ بِهِ فَقُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَ الْوَلَدُ،وَغَابَ
__________
(1) - المستدرك للحاكم (6595) والبر والصلة - ( 80 ) حسن لغيره
البعير : ما صلح للركوب والحمل من الإبل ، وذلك إذا استكمل أربع سنوات ، ويقال للجمل والناقة(1/98)
الْوَافِدُ،فَمُنَّ عَلَيَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ.قَالَ:" وَمَنْ وَافِدُكِ ؟"قُلْتُ:عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ الطَّائِيُّ.قَالَ:" الَّذِي فَرَّ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ"وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيَّ،فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّالِثُ نَحْوًا مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ مَرَّ وَخَلْفَهُ ذَاكَ يَعْنِي عَلِيًّا،فَأَوْمَأَ أَنْ كَلِّمِيهِ،فَأَوْمَأْتُ إِلَيْهِ بِيَدِي أَنْ قَدْ كَلَّمْتُهُ مَرَّتَيْنِ،فَأَوْمَأَ:كَلِّمِيهِ أَيْضًا،فَهَتَفْتُ بِهِ فَقُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَ الْوَلَدُ،وَغَابَ الْوَافِدُ،فَمُنَّ عَلَيَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ.قَالَ:" وَمَنْ وَافِدُكِ"قُلْتُ:عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ.قَالَ:" الَّذِي فَرَّ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ"ثُمَّ قَالَ:" اذْهَبِي فَأَنْتِ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،فَإِذَا وَجَدْتِ أَحَدًا يَأْتِي أَهْلَكِ فَأَخْبِرِينِي نَحْمِلْكِ إِلَى أَهْلِكِ"قَالَتْ:فَانْطَلَقْتُ فَإِذَا أَنَا بِرُفْقَةٍ مِنْ تَنُوخَ يَحْمِلُونَ الزَّيْتَ،فَبَاعُوا زَيْتَهُمْ وَهُمْ يَرْجِعُونَ،فَحَمَلَنِي عَلَى هَذَا الْجَمَلِ وَزَوَّدَنِي.قَالَ عَدِيٌّ:ثُمَّ قَالَتْ لِي عَمَّتِي:أَنْتَ رَجُلٌ أَحْمَقُ،أَنْتَ قَدْ غَلَبَكَ عَلَى شَرَفِكَ مِنْ قَوْمِكَ مَنْ لَيْسَ مِثْلَكَ،ائْتِ هَذَا الرَّجُلَ فَخُذْ بِنَصِيبِكَ،فَقُلْتُ:وَإِنَّهُ لَقَدْ نَصَحَتْ لِي عَمَّتِي،فَوَاللَّهِ لَوْ أَتَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ فَإِنْ رَأَيْتُ مَا يَسُرُّنِي أَخَذْتُ،وَإِنْ رَأَيْتُ غَيْرَ ذَلِكَ رَجَعْتُ،وَكُنْتُ أَضِنُّ بِدِينِي،فَأَتَيْتُ حَتَّى وَصَلْتُ الْمَدِينَةَ فِي غَيْرِ جِوَارٍ،فَانْتَهَيْتُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا أَنَا فِيهِ بِحَلْقَةٍ عَظِيمَةٍ،وَلَمْ أَكُنْ قَطُّ فِي قَوْمٍ إِلَّا عُرِفْتُ،فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى الْحَلْقَةِ سَلَّمْتُ،فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ، - صلى الله عليه وسلم - :" مَنْ أَنْتَ ؟"قُلْتُ:أَنَا عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ الطَّائيُّ،وَكَانَ أَعْجَبُ شَيْءٍ إِلَيْهِ أنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ أَشْرَافُ الْعَرَبِ وَرُءُوسُهُمْ،فَوَثَبَ مِنَ الْحَلْقَةِ فَأَخَذَ بِيَدِي فَوَجَّهَ بِي إِلَى مَنْزِلِهِ،فَبَيْنَا هُوَ يَمْشِي مَعِي إِذْ نَادَتْهُ امْرَأَةٌ وَغُلَامٌ مَعَهَا:يَا رَسُولَ اللَّهِ،إِنَّ لَنَا إِلَيْكَ حَاجَةً،فَخَلَوْا بِهِ قَائِمًا مَعَهُمَا حَتَّى أَوَيْتُ لَهُ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ،قُلْتُ فِي نَفْسِي:أَشْهَدُ أَنَّكَ بَرِيءٌ مِنْ دِينِي وَدِينِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ،وَأَنَّكَ لَوْ كُنْتَ مَلِكًا لَمْ يَقُمْ مَعَهُ صَبِيٌّ وَامْرَأَةٌ طُولَ مَا رَأَى،فَقَذَفَ اللَّهُ فِي قَلْبِي لَهُ حُبًّا،حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مَنْزِلِهِ،فَأَلْقَى إِلَيَّ وِسَادَةً حَشْوُهَا لِيفٌ،فَقَعَدْتُ عَلَيْهَا،وَقَعَدَ هُوَ عَلَى الْأَرْضِ،فَقُلْتُ فِي نَفْسِي:وَهَذَا،ثُمَّ قَالَ لِي:" مَا أَفْرَدَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَنَّكَ سَمِعْتَهُمْ يَقُولُونَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ؟ وَهَلْ مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ ؟ وَمَا أَفْرَدَكَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَّا أَنَّكَ سَمِعْتَهُمْ يَقُولُونَ اللَّهُ أَكْبَرُ ؟ فَهَلْ تَعْلَمُ شَيْئًا هُوَ أَكْبَرُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ؟:" فَلَمْ يَزَلْ حَتَّى أَسْلَمْتُ وَأَذْهَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَا كَانَ فِي قَلْبِي مِنْ حُبِّ النَّصْرَانِيَّةِ،فَسَأَلْتُ فَقُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا(1/99)
بِأَرْضِ صَيْدٍ وَإِنَّ أَحَدَنَا يَرْمِي الصَّيْدَ بِسَهْمِهِ لَمْ يَقْتَصَّ أَثَرَهُ لِيَوْمٍ أَوْ لِيَوْمَيْنِ،ثُمَّ يَجِدُهُ مَيِّتًا فِيهِ سَهْمُهُ،فَيَأْكُلُهُ ؟ قَالَ:" نَعَمْ إِنْ شَاءَ" (1)
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ:سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - {:إذَا جَاءَكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ } قَالَ:نَعَمْ هَكَذَا يُرْوَى قُلْت:يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الرَّجُلُ السُّوءُ وَالرَّجُلُ الصَّالِحُ فِي هَذَا وَاحِدٌ؟ قَالَ:لَا،قُلْت:فَإِنْ كَانَ رَجُلَ سُوءٍ يُكْرِمُهُ،قَالَ:لَا،وَرَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَقَدْ حَضَرَ غُلَامٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَمَعَهُ إبْرَاهِيمُ سِيلَانَ فَرَأَيْته قَدَّمَ الْغُلَامَ،وَرَأَيْت رَجُلًا مِنْ وَلَدِ الزُّبَيْرِ فِي الْمَسْجِدِ فَرَأَيْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَدْ قَدَّمَهُ فِي الْخُرُوجِ مِنَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ حَدِيثَ السِّنِّ فَجَعَلَ الْفَتَى يَمْتَنِعُ،وَجَعَلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَأْتِي حَتَّى قَدَّمَهُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ:رَأَيْت أَبِي إذَا جَاءَ الشَّيْخُ وَالْحَدَثُ مِنْ قُرَيْشٍ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَشْرَافِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ حَتَّى يُخْرِجَهُمْ فَيَكُونُوا هُمْ يَتَقَدَّمُونَهُ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ بَعْدِهِمْ .
وَقَالَ الْمَرُّوذِيُّ:رَأَيْته جَاءَ إلَيْهِ مَوْلَى ابْنِ الْمُبَارَكِ فَأَلْقَى لَهُ مِخَدَّةً وَأَكْرَمَهُ وَكَانَ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِ مَنْ يُكْرَمُ عَلَيْهِ يَأْخُذُ الْمِخَدَّةَ مِنْ تَحْتِهِ فَيُلْقِيهَا لَهُ .
قَالَ الْمَرُّوذِيُّ:وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ إعْظَامًا لِإِخْوَانِهِ وَمَنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْهُ،لَقَدْ جَاءَهُ أَبُو هَمَّامٍ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ فَأَخَذَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بِالرِّكَابِ وَرَأَيْته فَعَلَ هَذَا بِمَنْ هُوَ أَسَنُّ مِنَ الشُّيُوخِ . (2)
وقال الشيخ أحمد الرفاعي رحمه الله:" أشرف النوع الإنساني الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأشرف الأنبياء نبينا محمد وأشرف الخلق بعده آله وأصحابه وأشرف الخلق بعدهم التابعون أصحاب خير القرون
هذا على وجه الإجمال،وأما على وجه الإفراد فالنص النص،وإياكم والأخذ بالرأي،فما هلك من هلك إلا بالرأي (3) ،هذا الدِّين لا يحكم فيه بالرأي أبدا ،حكِّموا آراءكم في المباحات فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول .
__________
(1) - الْأَحَادِيثُ الطِّوَالُ(1 ) صحيح
(2) - الآداب الشرعية - (2 / 13)
(3) - المقصود بالرأي هنا الذي لا يقول على دليل معتبر ، بل على الهوى(1/100)
اذكروا أولياء الله تعالى بخير ،إياكم وتفضيل بعضهم على بعض ،رفع الله تعالى بعضهم على بعض درجات ،لكن لا يعرفها غيره ،ومن ارتضى من رسول ،أيدوا هذه العصابة بترك الدعوى ،شيدوا أركان هذه الطريقة المحمدية بإحياء السُّنَّة وإماتة البِدعة " (1) ...
دبر الله تعال لعبيده الأحوال غنى وفقرا وعزا وذلا ورفعة وضعة ليبلوهم في الدنيا أيهم يشكر على العطاء،وأيهم يصبر على المنع ،وأيهم يقنع بما أوتي وأيهم يسخط،ثم ينقلهم الى الآخرة فذلك يوم الجزاء ،فالعاقل يعاشر أهل دنياه على ما دبر الله لهم ،فالغني قد عوده الله النعمة وهي منه كرامة ابتلاء لا كرامة ثواب،قال الله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)} سورة الفجر
أي لست أكرم بالدنيا ولا أهين بمنعها ،فإذا لم تنزله المنزلة التي أنزل الله تعالى استهنت به وجفوته من غير جرم استحق به ذلك الجفاء،وتركه موافقة الله تعالى في تدبيره وأفسدت عليه دينه،وهو قوله عليه السلام أنزلوا الناس منازلهم ،أي المنازل التي أنزلهم الله من دنياهم،أما الآخرة فقد غيَّب شأنها عن العباد،فإذا سويت بين الغني والفقير في مجلس أو مأدبة أو هدية كان ما أفسدت أكثر مما أصلحت،فإن الغني يجد عليك إذا أزريت بحقه ،فإن الله تعالى لم يعوده ذاك،والفقير يعظم ذلك القليل في عينه ويقنع بذلك،لأن تلك عادته ،وكذلك معاملة الملوك والولاة على هذا السبيل ،فإذا عاملت الملوك بمعاملة الرعية فقد استخففت بحق السلطان وهو ظل الله تعالى في أرضه،به تسكن النفوس وتجتمع الأمور،فالناظر إلى ظل الله عليهم في الشغل عن الالتفات الى سيرهم وأعمالهم،وإنما نفر قوم من السلف عنهم وجانبوهم؛لأنه لم تمت شهوات نفوسهم،ولم يكن لقلوبهم مطالعة ظل الله تعالى عليهم فخافوا أن يخالطوهم أن يجدوا حلاوة برهم فتخلط قلوبهم بقلوبهم فجانبوهم وأعرضوا عنهم،فإنهم لو نظروا إليهم بما ألبسوا من ظله لشغلوا عن جميع ما هم فيه ولم يضرهم اختلاطهم وبهذه القوة كان أصحاب رسول الله { - صلى الله عليه وسلم - } والتابعون من
__________
(1) - البرهان المؤيد - (1 / 26)(1/101)
بعدهم بإحسان يلقون الأمراء الذين قد ظهر جورهم ويقبلون جوائزهم ويظهرون العطف عليهم والنصيحة لهم.
فأما عبد دقت الدنيا في عينه ورحم أهل البلاء فهو يرى الغني مبتلى بغناه قد تراكمت عليه أثقال النعمة وغرق في حسابها وعليه وبالها غدا فيرحمه في ذلك كالغريق الذي يذهب به السيل فإذا لقيه أكرمه وبره على ما عوده الله تعالى إبقاء على دينه لئلا يفسد،فإنه قد تعزز بدنياه وتكبر وتاه ويعظم ذلك في نفسه،فإذا حقرته فقد أهلكته لأن عزه دنياه فإذا أسقطت عزه فقد سلبته دنياه وهذه محاربه لا عشرة،فعليك أن تبره وتكرمه مداريا له على دينه ورفقا به وترحمه بقلبك وقد صغر في عينيك ما خوله الله تعالى من الدنيا وهذا فعل الأنيباء والأولياء وبذلك أوصى رسول الله { - صلى الله عليه وسلم - } فقال إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه.
أراد من عوده قومه الإكرام من غير أن ينسبه إلى دين أو صلاح فإذا
أنت مأجور بإكرام من عوده قومه الإكرام ،فكيف من عوده الله تعالى وأكرمه ونعمه كرامة الابتلاء،فإذا رأى ذا نعمة عظمَّه في الظاهر تعظيم بر ولطف ليبقى من دينه ودين نفسه وليكون تدبير الله تعالى الذي وضعه له في العز والتعظيم بمكانه وهو في الباطن قلبه منه بعيد وهكذا أهل الفساد من الموحدين يلطف بهم ويرفق بهم في الظاهر إبقاء على أحوالهم في امر دينهم والرفق محبوب مبارك،فعَنْ عَائِشَةَ (1) : أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهَا:إِنَّهُ مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ،فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ،وَصِلَةُ الرَّحِمِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ وَحُسْنُ الْجِوَارِ يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ،وَيَزِيدَانِ فِي الأَعْمَارِ." (2)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 296)(25259) 25773- صحيح
(2) - نوادر الأصول فى أحاديث الرسول ـ للترمذى - (1 / 209)(1/102)
الحق الرابع عشر
يصلح ذات البين بين المسلمين
قال تعالى :{ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) } [الحجرات:9 - 10]
وإذَا اقْتَتَلَتْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمنينَ فَأصِلِحُوا - يا أيُّها المُؤْمِنُونَ - بَينَهما بالعَدْلِ،وذَلِكَ بالدَّعْوةِ إِلى حُكْمِ اللهِ،وَالرِّضَا بِمَا فيهِ،فإذا أبَتْ إِحْدَى هَاتِينِ الطَّائِفَتَينِ الإِجَابَةَ إلى حُكْمِ اللهِ،وَتَجَاوَزَتْ حُدُودَ العَدْلِ،وأَجَابتِ الاخْرى،فَقَاتِلُوا التي تَعْتَدِي وَتأبى الإِجَابَةَ إلى حُكْمُ اللهِ،حَتَّى تَرْجِعَ إليهِ وَتَخْضَعَ لَهُ،فَإِنْ رَجَعَت الطَّائِفَةُ البَاغِيةُ إلى الرِّضا بِحُكْم اللهِ،فَأصْلِحُوا بَينَهما بالعَدْلِ،وَاعْدِلُوا في حُكْمِكُم فإنَّ اللهَ يُحبُّ العَادِلينَ،وَيَجزِيِهْم أحْسَنَ الجَزَاءِ.المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ في الدِّينِ ،فأصْلِحُوا بَينَ الأخَوينِ المُتَقَاتِلَينِ،أو الطَّائِفَتَين المُتَقَاتِلَتَين كَما تُصْلِحُونَ بين الأخَوينِ منَ النَّسَبِ،وَاتْقُوا اللهَ في جَميعِ أمُورِكُم لَعَل اللهَ يَرْحَمُكُم وَيَصْفَحُ عَمَا سَلَفَ مِنْكُم مِنْ ذُنُوبٍ وَهَفَواتٍ . (1)
هذه قاعدة تشريعية عملية لصيانة المجتمع المؤمن من الخصام والتفكك،تحت النزوات والاندفاعات.
والقرآن قد واجه - أو هو يفترض - إمكان وقوع القتال بين طائفتين من المؤمنين. ويستبقي لكلتا الطائفتين وصف الإيمان مع اقتتالهما،ومع احتمال أن إحداهما قد تكون باغية على الأخرى،بل مع احتمال أن تكون كلتاهما باغية في جانب من الجوانب.
وهو يكلف الذين آمنوا - من غير الطائفتين المتقاتلتين طبعا - أن يقوموا بالإصلاح بين المتقاتلين. فإن بغت إحداهما فلم تقبل الرجوع إلى الحق - ومثله أن تبغيا معا برفض
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4500)(1/103)
الصلح أو رفض قبول حكم اللّه في المسائل المتنازع عليها - فعلى المؤمنين أن يقاتلوا البغاة إذن،وأن يظلوا يقاتلونهم حتى يرجعوا إلى أمر اللّه. وأمر اللّه هو وضع الخصومة بين المؤمنين،وقبول حكم اللّه فيما اختلفوا فيه،وأدى إلى الخصام والقتال. فإذا تم قبول البغاة لحكم اللّه،قام المؤمنون بالإصلاح القائم على العدل الدقيق طاعة للّه وطلبا لرضاه .. «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» ..
ويعقب على هذه الدعوة وهذا الحكم باستجاشة قلوب الذين آمنوا واستحياء الرابطة الوثيقة بينهم،والتي جمعتهم بعد تفرق،وألفت بينهم بعد خصام وتذكيرهم بتقوى اللّه،والتلويح لهم برحمته التي تنال بتقواه:
«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ،فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ،وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» ..
ومما يترتب على هذه الأخوة أن يكون الحب والسلام والتعاون والوحدة هي الأصل في الجماعة المسلمة،وأن يكون الخلاف أو القتال هو الاستثناء الذي يجب أن يرد إلى الأصل فور وقوعه وأن يستباح في سبيل تقريره قتال المؤمنين الآخرين للبغاة من إخوانهم ليردوهم إلى الصف،وليزيلوا هذا الخروج على الأصل والقاعدة.وهو إجراء صارم وحازم كذلك.
ومن مقتضيات هذه القاعدة كذلك ألا يجهز على جريح في معارك التحكيم هذه،وألا يقتل أسير،وألا يتعقب مدبر ترك المعركة،وألقى السلاح،ولا تؤخذ أموال البغاة غنيمة. لأن الغرض من قتالهم ليس هو القضاء عليهم،وإنما هو ردهم إلى الصف،وضمهم إلى لواء الأخوة الإسلامية.
والأصل في نظام الأمة المسلمة أن يكون للمسلمين في أنحاء الأرض إمامة واحدة،وأنه إذا بويع لإمام،وجب قتل الثاني،واعتباره ومن معه فئة باغية يقاتلها المؤمنون مع الإمام. وعلى هذا الأصل قام الإمام علي - رضي اللّه عنه - بقتال البغاة في وقعة الجمل وفي وقعة صفين وقام معه بقتالهم أجلاء الصحابة رضوان اللّه عليهم.
وقد تخلف بعضهم عن المعركة منهم سعد ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وابن عمر - رضي اللّه عنهم - إما لأنهم لم يتبينوا وجه الحق في الموقف في حينه فاعتبروها فتنة. وإما لأنهم كما يقول الإمام الجصاص:«ربما رأوا الإمام مكتفيا بمن معه مستغنيا عنهم بأصحابه(1/104)
فاستجازوا القعود عنه لذلك» .. والاحتمال الأول أرجح،تدل عليه بعض أقوالهم المروية. كما يدل عليه ما روي عن ابن عمر - رضي اللّه عنه - في ندمه فيما بعد على أنه لم يقاتل مع الإمام.
ومع قيام هذا الأصل فإن النص القرآني يمكن إعماله في جميع الحالات - بما في ذلك الحالات الاستثنائية التي يقوم فيها إمامان أو أكثر في أقطار متفرقة متباعدة من بلاد المسلمين،وهي حالة ضرورة واستثناء من القاعدة - فواجب المسلمين أن يحاربوا البغاة مع الإمام الواحد،إذا خرج هؤلاء البغاة عليه. أو إذا بغت طائفة على طائفة في إمامته دون خروج عليه. وواجب المسلمين كذلك أن يقاتلوا البغاة إذا تمثلوا في إحدى الإمامات المتعددة في حالات التعدد الاستثنائية،بتجمعهم ضد الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر اللّه. وهكذا يعمل النص القرآني في جميع الظروف والأحوال.
وواضح أن هذا النظام،نظام التحكيم وقتال الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر اللّه،نظام له السبق من حيث الزمن على كل محاولات البشرية في هذا الطريق. وله الكمال والبراءة من العيب والنقص الواضحين في كل محاولات البشرية البائسة القاصرة التي حاولتها في كل تجاربها الكسيحة! وله بعد هذا وذاك صفة النظافة والأمانة والعدل المطلق،لأن الاحتكام فيه إلى أمر اللّه الذي لا يشوبه غرض ولا هوى،ولا يتعلق به نقص أو قصور .. ولكن البشرية البائسة تطلع وتعرج،وتكبو وتتعثر. وأمامها الطريق الواضح الممهد المستقيم! (1)
وقال تعالى:{لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (114) سورة النساء
لا نفع في كثير من كلام الناس سرّاً فيما بينهم،إلا إذا كان حديثًا داعيًا إلى بذل المعروف من الصدقة،أو الكلمة الطيبة،أو التوفيق بين الناس،ومن يفعل تلك الأمور طلبًا لرضا الله تعالى راجيًا ثوابه،فسوف نؤتيه ثوابًا جزيلا واسعًا. (2)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3343)
(2) - التفسير الميسر - (2 / 112)(1/105)
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:أَلاَ أُخْبِرُكُمْ،بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ،وَالْقِيَامِ ؟ قَالُوا:بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ:إِصْلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ،وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ (1) .
وعن الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ:أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ:الْحَسَدُ،وَالْبَغْضَاءُ،وَالْبَغْضَاءُ:هِيَ الْحَالِقَةُ،لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ،وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ،وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ،أَوْ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ،لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا،وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا،أَفَلا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَلِكَ لَكُمْ،أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ." (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ إِصْلاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ. (3)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،قَالَ:بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ،إِذْ رَأَيْنَاهُ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ ثَنَايَاهُ،فَقَالَ لَهُ عُمَرُ:مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ؟ قَالَ:رَجُلانِ مِنْ أُمَّتِي جَثَيَا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعِزَّةِ،فَقَالَ أَحَدُهُمَا:يَا رَبِّ،خُذْ لِي مَظْلِمَتِي مِنْ أَخِي،فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلطَّالِبِ:فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِأَخِيكِ،وَلَمْ يَبْقَ مِنْ حَسَنَاتِهِ شَيْءٌ ؟ قَالَ:يَا رَبِّ،فَلْيَحْمِلْ مِنْ أَوْزَارِي،قَالَ:وَفَاضَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْبُكَاءِ،ثُمَّ قَالَ:إِنَّ ذَاكَ الْيَوْمَ عَظِيمٌ،يَحْتَاجُ النَّاسُ أَنْ يُحْمَلَ عَنْهُمْ مِنْ أَوْزَارِهِمْ،فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلطَّالِبِ:ارْفَعْ بَصَرَكَ،فَانْظُرْ فِي الْجِنَّانِ،فَرَفَعَ رَأْسَهُ،فَقَالَ:يَا رَبِّ،أَرَى مَدَائِنَ مِنْ ذَهَبٍ وَقُصُورًا مِنْ ذَهَبً مُكَلَّلَةً بِالُّلؤْلُؤِ،لأَيِّ نَبِيٍّ هَذَا،أَوْ لأَيِّ صِدِّيقٍ هَذَا،أَوْ لأَيِّ شَهِيدٍ هَذَا ؟ قَالَ:هَذَا لِمَنْ أَعْطَى الثَّمَنَ،قَالَ:يَا رَبِّ،وَمَنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ ؟ قَالَ:أَنْتَ تَمْلِكُهُ،قَالَ:بِمَاذَا ؟ قَالَ:بِعَفْوِكَ عَنْ أَخِيكَ،قَالَ:يَا رَبِّ،فَإِنِّي قَدْ عَفَوْتُ عَنْهُ،قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:فَخُذْ بِيَدِ أَخِيكَ،فَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ ذَلِكَ:اتَّقُوا اللَّهَ،وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ،فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُصْلِحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ " (4)
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (11 / 489) (5092) صحيح
الحالقة : الخصلة التي من شَأْنها أَنْ تحلق، أَراد : أَنها خصلة سوء تذهب الدين كما تذهب الموسى الشَّعر.
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 455)(1430) حسن لغيره
(3) - كشف الأستار - (2 / 440)(2059) حسن لغيره - ذات البين : الأحوال بين الناس
(4) - المستدرك للحاكم(8718) ضعيف(1/106)
وعَنْ أُمِّ كُلْثُومِ ابْنَةِ عُقْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:"لَيْسَ بِكَذَّابٍ مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ قَالَ خَيْرًا أَوْ نَمَّى خَيْرًا " (1)
وعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:لاَ يَصْلُحُ الْكَذِبُ إِلاَّ فِي ثَلاَثٍ:كَذِبُ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ لِتَرْضَى عَنْهُ،أَوْ كَذِبٌ فِي الْحَرْبِ،فَإِنَّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ،أَوْ كَذِبٌ فِي إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ. (2)
وعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الْكِلَابِيِّ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"مَا لِي أَرَاكُمْ تَتَهَافَتُونَ فِي الْكَذِبِ،تَهَافُتَ الْفَرَاشِ فِي النَّارِ كُلُّ الْكَذِبِ مَكْتُوبٌ كَذِبًا لَا مَحَالَةَ،إِلَّا أَنْ يَكْذِبَ الرَّجُلُ فِي الْحَرْبِ،فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ،أَوْ يَكْذِبَ بَيْنَ الرِّجْلَيْنِ لِيُصلِحَ بَيْنَهُمَا،أَوْ يَكْذِبَ عَلَى امْرَأَتِهِ لِيُرْضِيَهَا " (3)
وعَنْ أَبِي مُوسَى،قَالَ:سَمِعْتُ الحَسَنَ،يَقُولُ:اسْتَقْبَلَ وَاللَّهِ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ مُعَاوِيَةَ بِكَتَائِبَ أَمْثَالِ الجِبَالِ،فَقَالَ عَمْرُو بْنُ العَاصِ:إِنِّي لَأَرَى كَتَائِبَ لاَ تُوَلِّي حَتَّى تَقْتُلَ أَقْرَانَهَا،فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ وَكَانَ وَاللَّهِ خَيْرَ الرَّجُلَيْنِ:أَيْ عَمْرُو إِنْ قَتَلَ هَؤُلاَءِ هَؤُلاَءِ،وَهَؤُلاَءِ هَؤُلاَءِ مَنْ لِي بِأُمُورِ النَّاسِ مَنْ لِي بِنِسَائِهِمْ مَنْ لِي بِضَيْعَتِهِمْ،فَبَعَثَ إِلَيْهِ رَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ:عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ،وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ،فَقَالَ:اذْهَبَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ،فَاعْرِضَا عَلَيْهِ،وَقُولاَ لَهُ:وَاطْلُبَا إِلَيْهِ،فَأَتَيَاهُ،فَدَخَلاَ عَلَيْهِ فَتَكَلَّمَا،وَقَالاَ لَهُ:فَطَلَبَا إِلَيْهِ،فَقَالَ لَهُمَا الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ:إِنَّا بَنُو عَبْدِ المُطَّلِبِ،قَدْ أَصَبْنَا مِنْ هَذَا المَالِ،وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ قَدْ عَاثَتْ فِي دِمَائِهَا،قَالاَ:فَإِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا،وَيَطْلُبُ إِلَيْكَ وَيَسْأَلُكَ قَالَ:فَمَنْ لِي بِهَذَا،قَالاَ:نَحْنُ لَكَ بِهِ،فَمَا سَأَلَهُمَا شَيْئًا إِلَّا قَالاَ:نَحْنُ لَكَ بِهِ،فَصَالَحَهُ،فَقَالَ الحَسَنُ:وَلَقَدْ سَمِعْتُ أَبَا بَكْرَةَ يَقُولُ:رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى المِنْبَرِ وَالحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (7 / 361)(2920 ) صحيح - نمى : نقل الحديث بين الناس وبلغه بنية الإصلاح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 913)(27597) 28149- صحيح لغيره
(3) - شعب الإيمان - (6 / 448) (4460 ) حسن لغيره(1/107)
جَنْبِهِ،وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً،وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ:" إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ" (1)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ،عَنْ أَبِيهِ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِنَّ الدِّينَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْحِجَازِ،كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا،وَلَيَعْقِلَنَّ الدِّينَ مِنَ الْحِجَازِ مَعْقِلَ الأُرْوِيَّةِ مِنْ رَأْسِ الْجَبَلِ،إِنَّ الدِّينَ بَدَأَ غَرِيبًا وَيَرْجِعُ غَرِيبًا،فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ،الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي." (2)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ،عَنْ أَبِيهِ،عَنْ جَدِّهِ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَتَبَ كِتَابًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ:أَنْ يَعْقِلُوا مَعَاقِلَهُمْ،وَأَنْ يَفْدُوا عَانِيَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ،وَالإِِصْلاحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ." (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ،فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُسْلِمٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا،إِلاَّ رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ،فَيُقَالُ:أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا." (4)
وعن إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ،حَدَّثَنِي أَبِي،قَالَ:قَدِمْنَا الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً،وَعَلَيْهَا خَمْسُونَ شَاةً لَا تُرْوِيهَا،قَالَ:فَقَعَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى جَبَا الرَّكِيَّةِ،فَإِمَّا دَعَا،وَإِمَّا بَصَقَ فِيهَا،قَالَ:فَجَاشَتْ،فَسَقَيْنَا وَاسْتَقَيْنَا،قَالَ:ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - دَعَانَا لِلْبَيْعَةِ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ،قَالَ:فَبَايَعْتُهُ أَوَّلَ النَّاسِ،ثُمَّ بَايَعَ،وَبَايَعَ،حَتَّى إِذَا كَانَ فِي وَسَطٍ مِنَ النَّاسِ،قَالَ:" بَايِعْ يَا سَلَمَةُ"قَالَ:قُلْتُ:قَدْ بَايَعْتُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي أَوَّلِ النَّاسِ،قَالَ:" وَأَيْضًا
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2704)
(2) - سنن الترمذى- المكنز - (2839) حسن لغيره
- يأرز إلى الحجاز: أي يجتمع وينضم كما تأرز الحية إلى جحرها.-الأروية: هي أنثى الوعول، برؤوس الجبال وجمعها: أروى.
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 704)(2443) وقال الشيخ أحمد شاكر في تحقيق المسند (11/ 125، ح 6904): إسناده صحيح. وأشار إلى رواية ابن عباس أيضا (ح 2443). قلت : هو حسن
عانيهم: العاني الذليل والأسير.
(4) - صحيح ابن حبان - (12 / 484)(5668) وصحيح مسلم- المكنز - (6709 )
شحناء: عداوة وبغضاء - انظروا: أي أخروهما.(1/108)
"،قَالَ:وَرَآنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَزِلًا - يَعْنِي لَيْسَ مَعَهُ سِلَاحٌ -،قَالَ:فَأَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَجَفَةً - أَوْ دَرَقَةً -،ثُمَّ بَايَعَ،حَتَّى إِذَا كَانَ فِي آخِرِ النَّاسِ،قَالَ:" أَلَا تُبَايِعُنِي يَا سَلَمَةُ ؟"قَالَ:قُلْتُ:قَدْ بَايَعْتُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي أَوَّلِ النَّاسِ،وَفِي أَوْسَطِ النَّاسِ،قَالَ:" وَأَيْضًا "،قَالَ:فَبَايَعْتُهُ الثَّالِثَةَ،ثُمَّ قَالَ لِي:" يَا سَلَمَةُ،أَيْنَ حَجَفَتُكَ - أَوْ دَرَقَتُكَ - الَّتِي أَعْطَيْتُكَ ؟ "،قَالَ:قُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،لَقِيَنِي عَمِّي عَامِرٌ عَزِلًا،فَأَعْطَيْتُهُ إِيَّاهَا،قَالَ:فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَقَالَ:" إِنَّكَ كَالَّذِي قَالَ الْأَوَّلُ:اللَّهُمَّ أَبْغِنِي حَبِيبًا هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي "،ثُمَّ إِنَّ الْمُشْرِكِينَ رَاسَلُونَا الصُّلْحَ حَتَّى مَشَى بَعْضُنَا فِي بَعْضٍ،وَ اصْطَلَحْنَا،قَالَ:وَكُنْتُ تَبِيعًا لِطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَسْقِي فَرَسَهُ،وَأَحُسُّهُ،وَأَخْدِمُهُ،وَآكُلُ مِنْ طَعَامِهِ،وَتَرَكْتُ أَهْلِي وَمَالِي مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:فَلَمَّا اصْطَلَحْنَا نَحْنُ وَأَهْلُ مَكَّةَ،وَاخْتَلَطَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ،أَتَيْتُ شَجَرَةً فَكَسَحْتُ شَوْكَهَا فَاضْطَجَعْتُ فِي أَصْلِهَا،قَالَ:فَأَتَانِي أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ،فَجَعَلُوا يَقَعُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَأَبْغَضْتُهُمْ،فَتَحَوَّلْتُ إِلَى شَجَرَةٍ أُخْرَى،وَعَلَّقُوا سِلَاحَهُمْ وَاضْطَجَعُوا،فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ نَادَى مُنَادٍ مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي،يَا لَلْمُهَاجِرِينَ،قُتِلَ ابْنُ زُنَيْمٍ،قَالَ:فَاخْتَرَطْتُ سَيْفِي،ثُمَّ شَدَدْتُ عَلَى أُولَئِكَ الْأَرْبَعَةِ وَهُمْ رُقُودٌ،فَأَخَذْتُ سِلَاحَهُمْ،فَجَعَلْتُهُ ضِغْثًا فِي يَدِي،قَالَ:ثُمَّ قُلْتُ،وَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ،لَا يَرْفَعُ أَحَدٌ مِنْكُمْ رَأْسَهُ إِلَّا ضَرَبْتُ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاهُ،قَالَ:ثُمَّ جِئْتُ بِهِمْ أَسُوقُهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:وَجَاءَ عَمِّي عَامِرٌ بِرَجُلٍ مِنَ الْعَبَلَاتِ،يُقَالُ لَهُ:مِكْرَزٌ يَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى فَرَسٍ،مُجَفَّفٍ فِي سَبْعِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ،فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ:" دَعُوهُمْ،يَكُنْ لَهُمْ بَدْءُ الْفُجُورِ،وَثِنَاهُ "،فَعَفَا عَنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَأَنْزَلَ اللَّهُ:وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ الْآيَةَ كُلَّهَا،قَالَ:ثُمَّ خَرَجْنَا رَاجِعِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ،فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَنِي لَحْيَانَ جَبَلٌ،وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ،فَاسْتَغْفَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِمَنْ رَقِيَ هَذَا الْجَبَلَ اللَّيْلَةَ كَأَنَّهُ طَلِيعَةٌ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابِهِ،قَالَ سَلَمَةُ:فَرَقِيتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا،ثُمَّ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ،فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِظَهْرِهِ مَعَ رَبَاحٍ غُلَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَأَنَا مَعَهُ،وَخَرَجْتُ مَعَهُ بِفَرَسِ طَلْحَةَ أُنَدِّيهِ مَعَ الظَّهْرِ،فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْفَزَارِيُّ قَدْ أَغَارَ عَلَى ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَاسْتَاقَهُ(1/109)
أَجْمَعَ،وَقَتَلَ رَاعِيَهُ،قَالَ:فَقُلْتُ:يَا رَبَاحُ،خُذْ هَذَا الْفَرَسَ فَأَبْلِغْهُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ،وَأَخْبِرْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَغَارُوا عَلَى سَرْحِهِ،قَالَ:ثُمَّ قُمْتُ عَلَى أَكَمَةٍ،فَاسْتَقْبَلْتُ الْمَدِينَةَ،فَنَادَيْتُ ثَلَاثًا:يَا صَبَاحَاهْ،ثُمَّ خَرَجْتُ فِي آثَارِ الْقَوْمِ أَرْمِيهِمْ بِالنَّبْلِ وَأَرْتَجِزُ،أَقُولُ :
أَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ
،فَأَلْحَقُ رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَصُكُّ سَهْمًا فِي رَحْلِهِ،حَتَّى خَلَصَ نَصْلُ ال سَّهْمِ إِلَى كَتِفِهِ،قَالَ:قُلْتُ :
خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ
قَالَ:فَوَاللَّهِ،مَا زِلْتُ أَرْمِيهِمْ وَأَعْقِرُ بِهِمْ،فَإِذَا رَجَعَ إِلَيَّ فَارِسٌ أَتَيْتُ شَجَرَةً،فَجَلَسْتُ فِي أَصْلِهَا،ثُمَّ رَمَيْتُهُ فَعَقَرْتُ بِهِ،حَتَّى إِذَا تَضَايَقَ الْجَبَلُ،فَدَخَلُوا فِي تَضَايُقِهِ،عَلَوْتُ الْجَبَلَ فَجَعَلْتُ أُرَدِّيهِمْ بِالْحِجَارَةِ،قَالَ:فَمَا زِلْتُ كَذَلِكَ أَتْبَعُهُمْ حَتَّى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ بَعِيرٍ مِنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَّا خَلَّفْتُهُ وَرَاءَ ظَهْرِي،وَخَلَّوْا بَيْنِي وَبَيْنَهُ،ثُمَّ اتَّبَعْتُهُمْ أَرْمِيهِمْ حَتَّى أَلْقَوْا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ بُرْدَةً،وَثَلَاثِينَ رُمْحًا،يَسْتَخِفُّونَ وَلَا يَطْرَحُونَ شَيْئًا إِلَّا جَعَلْتُ عَلَيْهِ آرَامًا مِنَ الْحِجَارَةِ يَعْرِفُهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ،حَتَّى أَتَوْا مُتَضَايِقًا مِنْ ثَنِيَّةٍ،فَإِذَا هُمْ قَدْ أَتَاهُمْ فُلَانُ بْنُ بَدْرٍ الْفَزَارِيُّ،فَجَلَسُوا يَتَضَحَّوْنَ - يَعْنِي يَتَغَدَّوْنَ - وَجَلَسْتُ عَلَى رَأْسِ قَرْنٍ،قَالَ الْفَزَارِيُّ:مَا هَذَا الَّذِي أَرَى ؟ قَالُوا:لَقِينَا مِنْ هَذَا الْبَرْحَ،وَاللَّهِ،مَا فَارَقَنَا مُنْذُ غَلَسٍ يَرْمِينَا حَتَّى انْتَزَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي أَيْدِينَا،قَالَ:فَلْيَقُمْ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْكُمْ أَرْبَعَةٌ،قَالَ:فَصَعِدَ إِلَيَّ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ فِي الْجَبَلِ،قَالَ:فَلَمَّا أَمْكَنُونِي مِنَ الْكَلَامِ،قَالَ:قُلْتُ:هَلْ تَعْرِفُونِي ؟ قَالُوا:لَا،وَمَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ:قُلْتُ:أَنَا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ،وَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ،لَا أَطْلُبُ رَجُلًا مِنْكُمْ إِلَّا أَدْرَكْتُهُ،وَلَا يَطْلُبُنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ فَيُدْرِكَنِي،قَالَ أَحَدُهُمْ:أَنَا أَظُنُّ،قَالَ:فَرَجَعُوا،فَمَا بَرِحْتُ مَكَانِي حَتَّى رَأَيْتُ فَوَارِسَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَخَلَّلُونَ الشَّجَرَ،قَالَ:فَإِذَا أَوَّلُهُمُ الْأَخْرَمُ الْأَسَدِيُّ،عَلَى إِثْرِهِ أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ،وَعَلَى إِثْرِهِ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيُّ،قَالَ:فَأَخَذْتُ بِعِنَانِ الْأَخْرَمِ،قَالَ:فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ،قُلْتُ:يَا أَخْرَمُ،احْذَرْهُمْ لَا يَقْتَطِعُوكَ حَتَّى يَلْحَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ،قَالَ:يَا سَلَمَةُ،إِنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ،وَتَعْلَمُ أَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ،وَالنَّارَ حَقٌّ،فَلَا تَحُلْ بَيْنِي وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ،قَالَ:فَخَلَّيْتُهُ،فَالْتَقَى هُوَ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ،قَالَ:فَعَقَرَ بِعَبْدِ(1/110)
الرَّحْمَنِ فَرَسَهُ،وَطَعَنَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَتَلَهُ،وَتَحَوَّلَ عَلَى فَرَسِهِ،وَلَحِقَ أَبُو قَتَادَةَ فَارِسُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ،فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ،فَوَالَّذِي كَرَّمَ وَجْهَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ،لَتَبِعْتُهُمْ أَعْدُو عَلَى رِجْلَيَّ حَتَّى مَا أَرَى وَرَائِي مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ،وَلَا غُبَارِهِمْ شَيْئًا حَتَّى يَعْدِلُوا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى شِعْبٍ فِيهِ مَاءٌ يُقَالُ لَهُ:ذَو قَرَدٍ لِيَشْرَبُوا مِنْهُ وَهُمْ عِطَاشٌ،قَالَ:فَنَظَرُوا إِلَيَّ أَعْدُو وَرَاءَهُمْ،فَخَلَّيْتُهُمْ عَنْهُ - يَعْنِي أَجْلَيْتُهُمْ عَنْهُ - فَمَا ذَاقُوا مِنْهُ قَطْرَةً،قَالَ:وَيَخْرُجُونَ فَيَشْتَدُّونَ فِي ثَنِيَّةٍ،قَالَ:فَأَعْدُو فَأَلْحَقُ رَجُلًا مِنْهُمْ فَأَصُكُّهُ بِسَهْمٍ فِي نُغْضِ كَتِفِهِ،قَالَ:قُلْتُ:خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ قَالَ:يَا ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ،أَكْوَعُهُ بُكْرَةَ ؟ قَالَ:قُلْتُ:نَعَمْ يَا عَدُوَّ نَفْسِهِ،أَكْوَعُكَ بُكْرَةَ،قَالَ:وَأَرْدَوْا فَرَسَيْنِ عَلَى ثَنِيَّةٍ،قَالَ:فَجِئْتُ بِهِمَا أَسُوقُهُمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:وَلَحِقَنِي عَامِرٌ بِسَطِيحَةٍ فِيهَا مَذْقَةٌ مِنْ لَبَنٍ،وَسَطِيحَةٍ فِيهَا مَاءٌ،فَتَوَضَّأْتُ وَشَرِبْتُ،ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي حَلَّأْتُهُمْ عَنْهُ،فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَخَذَ تِلْكَ الْإِبِلَ وَكُلَّ شَيْءٍ اسْتَنْقَذْتُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ،وَكُلَّ رُمْحٍ وَبُرْدَةٍ،وَإِذَا بِلَالٌ نَحَرَ نَاقَةً مِنَ الْإِبِلِ الَّذِي اسْتَنْقَذْتُ مِنَ الْقَوْمِ،وَإِذَا هُوَ يَشْوِي لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ كَبِدِهَا وَسَنَامِهَا،قَالَ:قُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،خَلِّنِي فَأَنْتَخِبُ مِنَ الْقَوْمِ مِائَةَ رَجُلٍ فَأَتَّبِعُ الْقَوْمَ،فَلَا يَبْقَى مِنْهُمْ مُخْبِرٌ إِلَّا قَتَلْتُهُ،قَالَ:فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ فِي ضَوْءِ النَّارِ،فَقَالَ:" يَا سَلَمَةُ،أَتُرَاكَ كُنْتَ فَاعِلًا ؟"قُلْتُ:نَعَمْ،وَالَّذِي أَكْرَمَكَ،فَقَالَ:" إِنَّهُمُ الْآنَ لَيُقْرَوْنَ فِي أَرْضِ غَطَفَانَ "،قَالَ:فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ غَطَفَانَ،فَقَالَ:نَحَرَ لَهُمْ فُلَانٌ جَزُورًا فَلَمَّا كَشَفُوا جِلْدَهَا رَأَوْا غُبَارًا،فَقَالُوا:أَتَاكُمُ الْقَوْمُ،فَخَرَجُوا هَارِبِينَ،فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" كَانَ خَيْرَ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ،وَخَيْرَ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ "،قَالَ:ثُمَّ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَهْمَيْنِ سَهْمَ الْفَارِسِ،وَسَهْمَ الرَّاجِلِ،فَجَمَعَهُمَا لِي جَمِيعًا،ثُمَّ أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَرَاءَهُ عَلَى الْعَضْبَاءِ رَاجِعِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ،قَالَ:فَبَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ،قَالَ:وَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لَا يُسْبَقُ شَدًّا،قَالَ:فَجَعَلَ يَقُولُ:" أَلَا مُسَابِقٌ إِلَى الْمَدِينَةِ ؟ هَلْ مِنْ مُسَابِقٍ ؟"فَجَعَلَ يُعِيدُ ذَلِكَ قَالَ:فَلَمَّا سَمِعْتُ كَلَامَهُ،قُلْتُ:أَمَا تُكْرِمُ كَرِيمًا،وَلَا تَهَابُ شَرِيفًا،قَالَ:لَا،إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:قُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،بِأَبِي وَأُمِّي،ذَرْنِي فَلِأُسَابِقَ الرَّجُلَ،قَالَ:" إِنْ شِئْتَ "،قَالَ:قُلْتُ:اذْهَبْ إِلَيْكَ وَثَنَيْتُ رِجْلَيَّ،فَطَفَرْتُ فَعَدَوْتُ،قَالَ:فَرَبَطْتُ عَلَيْهِ شَرَفًا - أَوْ(1/111)
شَرَفَيْنِ - أَسْتَبْقِي نَفَسِي،ثُمَّ عَدَوْتُ فِي إِثْرِهِ،فَرَبَطْتُ عَلَيْهِ شَرَفًا - أَوْ شَرَفَيْنِ -،ثُمَّ إِنِّي رَفَعْتُ حَتَّى أَلْحَقَهُ،قَالَ:فَأَصُكُّهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ،قَالَ:قُلْتُ:قَدْ سُبِقْتَ وَاللَّهِ،قَالَ:أَنَا أَظُنُّ،قَالَ:فَسَبَقْتُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ،قَالَ:فَوَاللَّهِ،مَا لَبِثْنَا إِلَّا ثَلَاثَ لَيَالٍ حَتَّى خَرَجْنَا إِلَى خَيْبَرَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:فَجَعَلَ عَمِّي عَامِرٌ يَرْتَجِزُ بِالْقَوْمِ تَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا،وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا،وَنَحْنُ عَنْ فَضْلِكَ مَا اسْتَغْنَيْنَا،فَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا،وَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" مَنْ هَذَا ؟"قَالَ:أَنَا عَامِرٌ،قَالَ:" غَفَرَ لَكَ رَبُّكَ "،قَالَ:وَمَا اسْتَغْفَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِإِنْسَانٍ يَخُصُّهُ إِلَّا اسْتُشْهِدَ،قَالَ:فَنَادَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهُوَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ:يَا نَبِيَّ اللَّهِ،لَوْلَا مَا مَتَّعْتَنَا بِعَامِرٍ،قَالَ:فَلَمَّا قَدِمْنَا خَيْبَرَ،قَالَ:خَرَجَ مَلِكُهُمْ مَرْحَبٌ يَخْطِرُ بِسَيْفِهِ،وَيَقُولُ :
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ
إِذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ
،قَالَ:وَبَرَزَ لَهُ عَمِّي عَامِرٌ،فَقَالَ :
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي عَامِرُ شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُغَامِرُ
،قَالَ:فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ،فَوَقَعَ سَيْفُ مَرْحَبٍ فِي تُرْسِ عَامِرٍ،وَذَهَبَ عَامِرٌ يَسْفُلُ لَهُ،فَرَجَعَ سَيْفُهُ عَلَى نَفْسِهِ،فَقَطَعَ أَكْحَلَهُ،فَكَانَتْ فِيهَا نَفْسُهُ،قَالَ سَلَمَةُ:فَخَرَجْتُ،فَإِذَا نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،يَقُولُونَ:بَطَلَ عَمَلُ عَامِرٍ،قَتَلَ نَفْسَهُ،قَالَ:فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا أَبْكِي،فَقُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،بَطَلَ عَمَلُ عَامِرٍ ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" مَنْ قَالَ ذَلِكَ ؟"قَالَ:قُلْتُ:نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِكَ،قَالَ:" كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ،بَلْ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ "،ثُمَّ أَرْسَلَنِي إِلَى عَلِيٍّ وَهُوَ أَرْمَدُ،فَقَالَ:" لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ"- أَوْ"يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ"-،قَالَ:فَأَتَيْتُ عَلِيًّا،فَجِئْتُ بِهِ أَقُودُهُ وَهُوَ أَرْمَدُ،حَتَّى أَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَبَسَقَ فِي عَيْنَيْهِ فَبَرَأَ وَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ،وَخَرَجَ مَرْحَبٌ،فَقَالَ :
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ
إِذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ
،فَقَالَ عَلِيٌّ :(1/112)
أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ كَلَيْثِ غَابَاتٍ كَرِيهِ الْمَنْظَرَهْ
أُوفِيهِمُ بِالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ
قَالَ:فَضَرَبَ رَأْسَ مَرْحَبٍ فَقَتَلَهُ،ثُمَّ كَانَ الْفَتْحُ عَلَى يَدَيْهِ " (1)
وعن أنسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،قَالَ:قِيلَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - :لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ،" فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَرَكِبَ حِمَارًا،فَانْطَلَقَ المُسْلِمُونَ يَمْشُونَ مَعَهُ وَهِيَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ "،فَلَمَّا أَتَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ:إِلَيْكَ عَنِّي،وَاللَّهِ لَقَدْ آذَانِي نَتْنُ حِمَارِكَ،فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ مِنْهُمْ:وَاللَّهِ لَحِمَارُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ،فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ،فَشَتَمَهُ،فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ،فَكَانَ بَيْنَهُمَا ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَالأَيْدِي وَالنِّعَالِ،فَبَلَغَنَا أَنَّهَا أُنْزِلَتْ :{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (9) سورة الحجرات (2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "كُلُّ سُلاَمَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ،يَعْدِلُ بَيْنَ الاِثْنَيْنِ صَدَقَةٌ،وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (4779 )
الآرام : الأعلام واحدها الإرم -الأكمة : التل -بسق : بصق -بسق : بصق -الترس : ما كان يتوقى به فى الحرب -ثناه : أوله وآخره -الجبا : ما حول البئر -المجفف : عليه تجفاف وهو ثوب يلبسه الفرس ليقيه الأذى -جاش : تدفق وفاض -الحجفة : الترس من جلد بلا خشب وهو نوع من السلاح -الحيدرة : الأسد -أحس : أحك ظهره بالمحسة لأزيل عنه الغبار ونحوه -حلأ : صد ومنع -اخترط : سَلَّ السيف من غِمْده
الدرقة : الترس من جلود ليس فيه خشب ولا عصب -ربطت : تأخرت عنه -الركية : البئر -السطيحة : إناء مصنوع من الجلد -السندرة : مكيال واسع وقيل غير ذلك والمعنى أقتلهم قتلا واسعا ذريعا -الشد : العدو
الشَّرف : الشوط -يتضحى : يأكل فى وقت الضحى -الضغث : الحزمة-طفر : وثب مرتفعا -الغلس : ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح
القرن : الجبل الصغير -الأكحل : عرق فى اليد يفصد -المذقة : القليل من اللبن الممزوج بماء -أندى : أورده الماء فيشرب قليلا ثم يعود إلى المرعى ساعة ثم يشرب أخرى -النغض : العظم الرقيق الذى على طرف الكتف وقيل أعلى الكتف
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (2691 )(1/113)
دَابَّتِهِ،فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا،أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ،وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ،وَكُلُّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلاَةِ صَدَقَةٌ،وَيُمِيطُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ » . (1)
وعَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ،قَالَ: هَذَا مَا ثنا أَبُو هُرَيْرَةَ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا،فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ،فَقَالَ لِلْبَائِعِ:وَفِي رِوَايَةِ فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي،أَنَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الْأَرْضَ وَلَمْ أَبْتَعِ مِنْكَ الذَّهَبَ،وَقَالَ الَّذِي شَرَى الْأَرْضَ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الْأَرْضَ وَمَا فِيهَا،فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ ؟ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلَامٌ،وَقَالَ الْآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ،قَالَ: فَأَنْكِحُوا الْغُلَامَ الْجَارِيَةَ،وَأَنْفِقُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ مِنْهُ وَتَصَدَّقُوا" (2) .
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رضى الله عنه - قَالَ بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ بَنِى عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَىْءٌ،فَخَرَجَ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فِى أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ،فَحُبِسَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَحَانَتِ الصَّلاَةُ،فَجَاءَ بِلاَلٌ إِلَى أَبِى بَكْرٍ - رضى الله عنهما - فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ،إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ حُبِسَ وَقَدْ حَانَتِ الصَّلاَةُ،فَهَلْ لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ قَالَ نَعَمْ إِنْ شِئْتَ.فَأَقَامَ بِلاَلٌ الصَّلاَةَ،وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ - رضى الله عنه - فَكَبَّرَ لِلنَّاسِ،وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْشِى فِى الصُّفُوفِ يَشُقُّهَا شَقًّا،حَتَّى قَامَ فِى الصَّفِّ،فَأَخَذَ النَّاسُ فِى التَّصْفِيحِ.قَالَ سَهْلٌ التَّصْفِيحُ هُوَ التَّصْفِيقُ.قَالَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ - رضى الله عنه - لاَ يَلْتَفِتُ فِى صَلاَتِهِ،فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ الْتَفَتَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَشَارَ إِلَيْهِ،يَأْمُرُهُ أَنْ يُصَلِّىَ،فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ - رضى الله عنه - يَدَهُ،فَحَمِدَ اللَّهَ،ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى وَرَاءَهُ حَتَّى قَامَ فِى الصَّفِّ،وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى لِلنَّاسِ،فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ « يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا لَكُمْ حِينَ نَابَكُمْ شَىْءٌ فِى الصَّلاَةِ أَخَذْتُمْ بِالتَّصْفِيحِ إِنَّمَا التَّصْفِيحُ لِلنِّسَاءِ،مَنْ نَابَهُ شَىْءٌ فِى صَلاَتِهِ فَلْيَقُلْ سُبْحَانَ اللَّهِ ».ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَبِى بَكْرٍ - رضى الله عنه - فَقَالَ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2989 ) وصحيح مسلم- المكنز - (2382) - يعدل بين الناس: يصلح بينهم.
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (3472 ) وصحيح مسلم- المكنز - (4594 ) و شعب الإيمان - (7 / 222)(4907 )(1/114)
« يَا أَبَا بَكْرٍ،مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّىَ لِلنَّاسِ حِينَ أَشَرْتُ إِلَيْكَ ».قَالَ أَبُو بَكْرٍ مَا كَانَ يَنْبَغِى لاِبْنِ أَبِى قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّىَ بَيْنَ يَدَىْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . (1)
وعَنْ كَعْبٍ ؛أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ،فِي الْمَسْجِدِ،فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا،حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَهْوَ فِي بَيْتِهِ،فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا،حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ،فَنَادَى:يَا كَعْبُ،قَالَ:لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ:ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا،وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ أَيِ الشَّطْرَ،قَالَ:لَقَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ:قُمْ فَاقْضِهِ. (2)
وعَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ،تَقُولُ: سَمِعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَوْتَ خُصُومٍ بِالْبَابِ عَالِيَةً،فَإِذَا أَحَدُهُمَا مُسْتَوْضِعُ الْآخَرَ وَيَسْتَرْفِقُهُ فِي شَيْءٍ،وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ لَا أَجْعَلُ،فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِمَا،فَقَالَ:"أَيْنَ الْمُتَأَلِّي عَلَى اللهِ لَا يَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ ؟ "،قَالَ: فَقَالَ: أَنَا،يَا رَسُولَ اللهِ،لَهُ أَيْ ذَلِكَ أَحَبَّ " (3)
وعَنْ جَابِرٍ،قَالَ:تُوُفِّيَ أَبِي وَعَلَيْهِ دَيْنٌ،فَعَرَضْتُ عَلَى غُرَمَائِهِ أَنْ يَأْخُذُوا التَّمْرَ بِمَا عَلَيْهِ،فَأَبَوْا،وَلَمْ يَرَوْ أَنَّ فِيهِ وَفَاءً،فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ،فَقَالَ:إِذَا جَدَدْتَهُ فَوَضَعْتُهُ فِي الْمِرْبَدِ،فَآذِنِّي،فَلَمَّا جَدَدْتَهُ،وَوَضَعْتُهُ فِي الْمِرْبَدِ ،فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَجَاءَ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ،وَعُمَرُ فَجَلَسَ عَلَيْهِ،فَدَعَا بِالْبَرَكَةِ،ثُمَّ قَالَ:ادْعُ غُرَمَاءَكَ،فَأَوْفِهِمْ. قَالَ:فَمَا تَرَكْتُ أَحَدًا لَهُ عَلَى أَبِي دَيْنٌ إِلاَّ قَضَيْتُهُ،وَفَضَلَ ثَلاَثَةَ عَشَرَ وَسْقًا سَبْعَةٌ عَجْوَةٌ،وَسِتَّةٌ لَوْنٌ،فَوَافَيْتُ مَعَ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (1218 )
التصفيح: قال النووي: التصفيح أن تضرب المرأة كفها الأيمن ظهر كفها الأيسر، وقد يحدث من الرجال كما هنا.
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (457 ) وصحيح مسلم- المكنز - (4067)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (2705 ) وصحيح مسلم- المكنز - (4066) وشعب الإيمان - (13 / 526) (10727 )
قال المهلب: فى هذين الحديثين الحض على الرفق بالغريم والإحسان إليه والوضع عنه. قال المهلب: وفى حديث عائشة النهى عن التألى على الله؛ لأن فيه معنى الاستبداد بنفسه، والقدرة على إرادته، فكأنه لما حتم بألا يفعل شابه ما يدعيه القدرية من إثبات القدرة لأنفسها، فوبخه النبى - صلى الله عليه وسلم - بقوله، ففهم ذلك ورجع عن تأليه ويمينه، وقال: « له أى ذلك أحب » من الوضع عنه أو الرفق به متبرئًا من الفعل إلى الله، ورد الحول والقوة إليه، ويمينه إن كانت بعد نزول الكفارة ففيها الكفارة.وفى حديث كعب أصل قول الناس فى حضهم على الصلح: خير الصلح الشطر؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمره بوضع النصف عن غريمه فوضعه عنه.شرح ابن بطال - (15 / 107)(1/115)
رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَغْرِبَ،فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ،فَضَحِكَ - صلى الله عليه وسلم - ،وَقَالَ:ائْتِ أَبَا بَكْرٍ،وَعُمَرَ،فَأَخْبِرْهُمَا ذَلِكَ،فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ،وَعُمَرَ،فَأَخْبَرْتُهُمَا،فَقَالاَ:إِذْ صَنَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا صَنَعَ قَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ سَيَكُونُ ذَلِكَ. (1)
وعَنْ جَابِرٍ،قَالَ:تُوُفِّيَ أَبِي وَعَلَيْهِ دَيْنٌ،فَعَرَضْتُ عَلَى غُرَمَائِهِ،أَنْ يَأْخُذُوا التَّمْرَ بِمَا عَلَيْهِ فَأَبَوْا،وَلَمْ يُعْرَفُوا أَنَّ فِيهِ وَفَاءً،فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ،فَقَالَ:إِذَا جَدَدْتَهُ وَوَضَعْتَهُ فَآذِنْ لِي،فَلَمَّا جَدَدْتُ وَوَضَعْتُهُ فِي الْمَسْجِدِ آذَنْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَجَاءَ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ،وَعُمَرُ،فَجَلَسَ فَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ،وَقَالَ:ادْعُ غُرَمَاءَكَ وَأَوْفِهِمْ،فَمَا تَرَكْتُ أَحَدًا لَهُ عَلَى أَبِي دَيْنٌ إِلاَّ قَضَيْتُهُ،وَفَضَلَ لِي ثَلاَثَةَ عَشَرَ وَسْقًا عَجْوَةً،قَالَ:فَوَافَيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - صَلاَةَ الْمَغْرِبِ،فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ،فَضَحِكَ - صلى الله عليه وسلم - ،وَقَالَ:ائْتِ أَبَا بَكْرٍ،وَعُمَرَ،فَأَخْبِرْهُمَا،فَقَالاَ:قَدْ عَلِمْنَا إِذْ صَنَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا صَنَعَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ. (2)
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رضى الله عنه أَنَّ أَهْلَ قُبَاءٍ اقْتَتَلُوا حَتَّى تَرَامَوْا بِالْحِجَارَةِ،فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِذَلِكَ فَقَالَ « اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ » (3) .
يقول ابن القيّم- رحمه اللّه-: «فالصّلح الجائز بين المسلمين هو الّذي يعتمد فيه رضا اللّه سبحانه ورضا الخصمين،فهذا أعدل الصّلح وأحقّه،وهو يعتمد العلم والعدل،فيكون المصلح عالما بالوقائع،عارفا بالواجب،قاصدا للعدل،فدرجة هذا أفضل من درجة الصّائم القائم» (4)
وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ،قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ،فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدٌ: أَيْنَ كُنْتَ ؟ قَالَ:"كَانَ بَيْنَ قَوْمِي شَيْءٌ فَأَصْلَحْتُ بَيْنَهُمْ،قَالَ: أَصْبَحْتَ لَكَ مِثْلُ أَجْرِ الْمُجَاهِدِينَ فِي
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2709) وصحيح ابن حبان - (14 / 473) (6536)
(2) - صحيح ابن حبان - (16 / 88) (7139) صحيح
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (2693 )
(4) - أعلام الموقعين (1/ 109- 110)(1/116)
سَبِيلِ اللَّهِ"،ثُمَّ قَرَأَ: "لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ " (1)
قال العلماء: لا تخلو الفئتان من المسلمين في اقتتالهما،إمّا أن يقتتلا على سبيل البغي منهما جميعا أو لا،فإن كان الأوّل؛ فالواجب في ذلك أن يمشى بينهما بما يصلح ذات البين،ويثمر المكافّة والموادعة. فإن لم يتحاجزا ولم يصطلحا وأقامتا على البغى صير إلى مقاتلتهما،وأمّا إن كان الثّاني وهو أن تكون إحداهما باغية على الأخرى،فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكفّ وتتوب؛ فإن فعلت أصلح بينها وبين المبغيّ عليها بالقسط والعدل،فإن التحم القتال بينهما لشبهة دخلت عليهما وكلتاهما عند أنفسهما محقّة،فالواجب إزالة الشّبهة بالحجّة النّيّرة والبراهين القاطعة على مراشد الحقّ. فإن ركبتا متن اللّجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا به من اتّباع الحقّ بعد وضوحه لهما فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين " (2)
وعن عَبْدِ الصَّمَدِ قَالَ:سَمِعْتُ الْفُضَيْلَ،يَقُولُ:" إِذَا أَتَاكَ رَجُلٌ يَشْكُو إِلَيْكَ رَجُلًا،فَقُلْ:يَا أَخِي اعْفُ عَنْهُ فَإِنَّ الْعَفْوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى فَإِنْ قَالَ:لَا يَحْتَمِلُ قَلْبِي الْعَفْوَ وَلَكِنْ أَنْتَصِرُ كَمَا أَمَرَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قُلْ:فَإِنْ كُنْتَ تُحْسِنُ تَنْتَصِرُ مِثْلًا بِمِثْلِ وَإِلَّا فَارْجِعْ إِلَى بَابِ الْعَفْوِ،فَإِنَّ بَابَ الْعَفْوِ أَوْسَعُ فَإِنَّهُ مَنْ عَفَا وَأَصْلِحْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ،وَصَاحِبُ الْعَفْوِ يَنَامُ اللَّيْلَ عَلَى فِرَاشِهِ،وَصَاحِبُ الِانْتِصَارِ يُقَلِّبُ الْأُمُورَ " (3) ...
من فوائد (الإصلاح)
(1) الإصلاح بين المؤمنين إذا تنازعوا واجب لا بدّ منه لتستقيم حياة المجتمع ويتّجه نحو العمل المثمر.
(2) بالإصلاح تحلّ المودّة محلّ القطيعة،والمحبّة محلّ الكراهية،ولذا يستباح الكذب في سبيل تحقيقه.
__________
(1) - تفسير ابن أبي حاتم - (4 / 354)(5995)
(2) - الجامع لأحكام القرآن الكريم (16/ 208).
(3) - حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ (11778 ) وانظر : نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - (2 / 375-378)(1/117)
(3) الإصلاح بين النّاس يغرس في نفوسهم فضيلة العفو.
(4) الإصلاح منبعه النّفوس السّامية ولذا كان النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يخرج بنفسه ويسعى للإصلاح بين النّاس.
(5) اكتساب الحسنات والثّواب الجزيل من جرّاء الإصلاح بين النّاس.
(6) إصلاح ذات البين أفضل من نافلة الصّيام والصّلاة والصّدقة.
(7) يثمر المغفرة للمتخاصمين عند المصالحة.
(8) عدم الإصلاح يؤدّي إلى استشراء الفساد وقسوة القلوب،وضياع القيم الإنسانيّة الرّفيعة.
(9) الإصلاح بين النّاس عهد أخذ على المسلمين. (1)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - (2 / 378)(1/118)
الحق الخامس عشر
يستر عورات المسلمين كلهم
عَنْ سَالِمٍ،عَنْ أَبِيهِ:أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ،مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ،وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً،فَرَّجَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ،وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا،سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :مَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الآخِرَةِ،وَمَنْ نَفَّسَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً،نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً فِي الآخِرَةِ،وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْمُسْلِمِ مَا كَانَ فِي عَوْنِ أَخِيهِ " (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا،نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ،وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا،سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ،وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ،يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ،وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ،وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا،سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ،وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ،إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ،وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ،وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ،وَذَكَرَهُمُ اللهُ،عَزَّ وَجَلَّ،فِيمَنْ عِنْدَهُ،وَمَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ،لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ." (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"لَا يَسْتُرُ عَبْدٌ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا إِلَّا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " (4)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2442 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6743 ) وصحيح ابن حبان - (2 / 291)(533)
(2) - مصنف عبد الرزاق(18934) صحيح
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (7028 )
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (6760 )(1/119)
وعَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ مُخَلَّدٍ قَالَ:قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :" مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا،سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ،وَمَنْ فَكَّ عَنْ مَكْرُوبٍ،فَكَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَرْبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ،كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي حَاجَتِهِ" (1)
وقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:وَرَكِبَ أَبُو أَيُّوبَ،إِلَى عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ،إِلَى مِصْرَ،فَقَالَ:إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ أَمْرٍ لَمْ يَبْقَ مِمَّنْ حَضَرَهُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلاَّ أَنَا وَأَنْتَ،كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ فِي سَتْرِ الْمُؤْمِنِ ؟ فَقَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:مَنْ سَتَرَ مُؤْمِنًا فِي الدُّنْيَا عَلَى عَوْرَةٍ سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَا حَلَّ رَحْلَهُ يُحَدِّثُ هَذَا الْحَدِيثَ." (2)
وخَرَجَ أَبُو أَيُّوبَ إِلَى عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ وَهُوَ بِمِصْرَ يَسْأَلُهُ عَنْ حَدِيثٍ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غَيْرَهُ وَغَيْرَ عُقْبَةَ فَلَمَّا قَدِمَ أَتَى مَنْزِلَ مَسْلَمَةَ بْنِ مَخْلَدٍ الْأَنْصَارِيِّ وَهُوَ أَمِيرُ مِصْرَ فَأُخْبِرَ بِهِ فَعَجَّلَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَعَانَقَهُ،ثُمَّ قَالَ:مَا جَاءَ بِكَ يَا أَبَا أَيُّوبَ ؟ فَقَالَ:حَدِيثٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - غَيْرِي وَغَيْرَ عُقْبَةَ فَابْعَثْ مَنْ يَدُلُّنِي عَلَى مَنْزِلِهِ قَالَ فَبَعَثَ مَعَهُ مَنْ يَدُلُّهُ عَلَى مَنْزِلِ عُقْبَةَ فَأُخْبِرَ عُقْبَةُ بِهِ فَعَجَّلَ فَخَرَجَ إِلَيْهِ فَعَانَقَهُ وَقَالَ مَا جَاءَ بِكَ يَا أَبَا أَيُّوبَ ؟ فَقَالَ حَدِيثٌ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ سَمِعَهُ غَيْرِي وَغَيْرَكَ فِي سَتْرِ الْمُؤْمِنِ قَالَ عُقْبَةُ نَعَمْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:" مَنْ سَتَرَ مُؤْمِنًا فِي الدُّنْيَا عَلَى خِزْيِهِ سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"فَقَالَ لَهُ أَبُو أَيُّوبَ:صَدَقْتَ،ثُمَّ انْصَرَفَ أَبُو أَيُّوبَ إِلَى رَاحِلَتِهِ فَرَكِبَهَا رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَا أَدْرَكَتْهُ جَائِزَةُ مَسْلَمَةَ بْنِ مَخْلَدٍ إِلَّا بَعَرِيشِ مِصْرَ" (3)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:" لَا يَرَى امْرُؤٌ مِنْ أَخِيهِ عَوْرَةً،فَيَسْتُرُهَا عَلَيْهِ؛إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ" (4)
__________
(1) - مُعْجَمُ ابْنِ الْمُقْرِئِ(1308 ) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 923)(17454) 17593- فيه انقطاع
(3) - مُسْنَدُ الْحُمَيْدِيِّ (379 ) فيه جهالة
(4) - مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ (390 ) صحيح لغيره(1/120)
وعَنْ يَزِيدَ بْنِ نُعَيْمٍ،عَنْ أَبِيهِ:أَنَّ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:أَقِمْ عَلَيَّ كِتَابَ اللهِ.فَأَعْرَضَ عَنْهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ،ثُمَّ أَمَرَ بِرَجْمِهِ،فَلَمَّا مَسَّتْهُ الْحِجَارَةُ،قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ:وَقَالَ مَرَّةً:فَلَمَّا عَضَّتْهُ جَزَعَ،فَخَرَجَ يَشْتَدُّ،وَخَرَجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُنَيْسٍ،أَوْ أَنَسُ مِنِ نَادِيهِ،فَرَمَاهُ بِوَظِيفِ حِمَارٍ،فَصَرَعَهُ،فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَحَدَّثَهُ بِأَمْرِهِ،فَقَالَ:هَلاَّ تَرَكْتُمُوهُ،لَعَلَّهُ أَنْ يَتُوبَ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:يَا هَزَّالُ،لَوْ سَتَرْتَهُ بِثَوْبِكَ،كَانَ خَيْرًا لَكَ. " (1)
وعَنْ زُييْدِ بْنِ الصَّلْتِ،قَالَ:سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ،يَقُولُ:لَوْ أَخَذْتُ شَارِبًا لأَحْبَبْتُ أَنْ يَسْتُرَهُ اللَّهُ،وَلَوْ أَخَذْتُ سَارِقًا لأَحْبَبْتُ أَنْ يَسْتُرَهُ اللَّهُ. (2)
وعَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ،" أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ،رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانَ يَعُسُّ بِالْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ،فَرَأَى رَجُلًا وَامْرَأَةً عَلَى فَاحِشَةٍ،فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ لِلنَّاسِ:أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ إِمَامًا رَأَى رَجُلًا وَامْرَأَةً عَلَى فَاحِشَةٍ،فَأَقَامَ عَلَيْهِمَا الْحَدَّ مَا كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ؟ قَالُوا:إِنَّمَا أَنْتَ إِمَامٌ فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:لَيْسَ ذَلِكَ لَكَ،إِذَنْ يُقَامُ عَلَيْكَ الْحَدُّ،إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يَأْمَنْ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ثُمَّ تَرَكَهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَتْرُكَهُمْ،ثُمَّ سَأَلَهُمْ،فَقَالَ الْقَوْمُ مِثْلَ مَقَالَتِهِمُ الْأُولَى،وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلَ مَقَالَتِهِ" (3)
وهذا يشير إلى أن عمر رضي الله عنه كان متردداً في أن الوالي هل له أن يقضي بعلمه في حدود الله؟ فلذلك راجعهم في معرض التقدير لا في معرض الإخبار خيفة من أن لا يكون له ذلك فيكون قاذفاًَ بإخباره،ومال رأي علي إلى أنه ليس له ذلك. وهذا من أعظم الأدلة على طلب الشرع لستر الفواحش فإن أفحشها الزنى،وقد نيط بأربعة من العدول. يشاهدون ذلك منه في ذلك منها كالمردود في المكحلة. وهذا قط لا يتفق. وإن علمه القاضي تحقيقاً لم يكن له أن يكشف عنه. فانظر إلى الحكمة في حسم باب الفاحشة بإيجاب الرجم الذي هو أعظم العقوبات. ثم انظر إلى كثيف ستر الله كيف أسبله على
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 316)(21892) 22237- صحيح لغيره
(2) - مصنف ابن أبي شيبة - (9 / 467)(28664) صحيح
(3) - مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ (397 ) حسن(1/121)
العصاة من خلقه بتضييق الطريق في كشفه؟ فنرجو أن لا نحرم هذا الكرم يوم تبلى السرائر.
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ،أَنَّهُ حَرَسَ لَيْلَةً مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَبَيْنَا هُمْ يَمْشُونَ شَبَّ لَهُمْ سِرَاجٌ فِي بَيْتٍ،فَانْطَلَقُوا يَؤُمُّونَهُ،حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْهُ إِذَا بَابٌ مُجَافٍ عَلَى قَوْمٍ لَهُمْ فِيهِ أَصْوَاتٌ مُرْتَفِعَةٌ وَلَغَطٌ،فَقَالَ عُمَرُ وَأَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ:" أَتَدْرِي بَيْتُ مَنْ هَذَا ؟"قَالَ:قُلْتُ:لَا،قَالَ:" هُوَ رَبِيعَةَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَهُمُ الْآنَ شُرَّبٌ،فَمَا تَرَى ؟"قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ:أَرَى قَدْ أَتَيْنَا مَا نَهَانَا اللَّهُ عَنْهُ،نَهَانَا اللَّهُ فَقَالَ:وَلَا تَجَسَّسُوا فَقَدْ تَجَسَّسْنَا"فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ عُمَرُ وَتَرَكَهُمْ " (1)
وعَنْ أَبِي قِلَابَةَ،أَنَّ عُمَرَ،حُدِّثَ أَنَّ أَبَا مِحْجَنٍ الثَّقَفِيَّ يَشْرَبُ الْخَمْرَ فِي بَيْتِهِ،هُوَ وَأَصْحَابٌ لَهُ،فَانْطَلَقَ عُمَرُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ،فَإِذَا لَيْسَ عِنْدَهُ إِلَّا رَجُلٌ،فَقَالَ أَبُو مِحْجَنٍ:" يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،إِنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ لَكَ،قَدْ نَهَى اللَّهُ عَنِ التَّجَسُّسِ "،فَقَالَ عُمَرُ:مَا يَقُولُ هَذَا ؟ فَقَالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ،وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَرْقَمِ:" صَدَقَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،هَذَا مِنَ التَّجَسُّسِ "،قَالَ:" فَخَرَجَ عُمَرُ وَتَرَكَهُ" (2)
وهذا يدل على وجوب الستر وترك التتبع،فعَنْ مُعَاوِيَةَ،قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:"إِنَّكَ إِنِ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ،أَوْ كِدْتَ أَنْ تُفْسِدَهُمْ "،قَالَ: يَقُولُ أَبُو الدَّرْدَاءِ:"كَلِمَةٌ سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَفَعَهُ اللهُ بِهَا " (3)
وعَنْ أَبِي بَرْزَةَ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ،وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ،لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ،وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ،فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ يَتَّبِعِ اللهُ عَوْرَتَهُ،وَمَنْ يَتَّبِعِ اللهُ عَوْرَتَهُ يُفْضَحْ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ" (4)
__________
(1) - مُصَنَّفُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الصَّنْعَانِيِّ (18274 ) صحيح
(2) - مُصَنَّفُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الصَّنْعَانِيِّ (18275 ) صحيح مرسل
(3) - سنن أبي داود - المكنز - (4890 ) صحيح
(4) - شعب الإيمان - (9 / 74) (6278 ) صحيح(1/122)
وعَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ:لَوْ وَجَدْتُ رَجُلاً عَلَى حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ لَمْ أَحُدَّهُ أَنَا وَلَمْ أَدْعُ لَهُ أَحَدًا حَتَّى يَكُونَ مَعِى غَيْرِى. (1)
وعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ:جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَرَدَّهُ ثُمَّ قَالَ:" اسْتَنْكِهُوهُ"فَاسْتَنْكَهُوهُ ثُمَّ رُجِمَ.رَوَاهُ الْبَزَّارُ (2)
وعن أبي مَاجِدٍ ،قال:كُنْتُ قَاعِدًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ"إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ،فَقَالَ:هَذَا نَشْوَانُ فَقَالِ عَبْدُ اللَّهِ:تَرْتِرُوهُ وَاسْتَنْكِهُوهُ،فَوَجَدُوهُ نَشْوَانَ،فَحَبَسَهُ حَتَّى ذَهَبَ سُكْرُهُ،ثُمَّ دَعَا بِسَوْطٍ،فَكَسَرَ ثَمَرَهُ،ثُمَّ قَالَ:اجْلِدْ،وَارْفَعْ يَدَكَ،وَأَعْطِ كُلَّ عُضْوٍ حَقَّهُ قَالَ:فَجَلَدَهُ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ أَوْ قُرْطَقٌ،فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ:مَا أَنْتَ مِنْهُ ؟ قَالَ:عَمُّهُ،أَوِ ابْنُ أَخِي فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ:مَا أَدَّبْتَ،فَأَحْسَنْتَ الْأَدَبَ،وَلَا سَتَرْتَ الْخِزْيَةَ،إِنَّهُ يَنْبَغِي لِإِمَامٍ إِذَا انْتَهَى إِلَيْهِ حَدٌّ أَنْ يُقِيمَهُ،إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَفُوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ ثُمَّ قَرَأَ:وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ،ثُمَّ قَالَ:إِنِّي لَأَذْكُرُ أَوَّلَ رَجُلٍ قَطَعَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ،أُتِيَ بِسَارِقٍ،فَأَمَرَ بِقَطْعِهِ،فَكَأَنَّمَا أَسِفَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالُوا:يَا رَسُولَ اللَّهِ،كَأَنَّكَ كَرِهْتَ قَطْعَهُ قَالَ:وَمَا يَمْنَعُنِي ؟ لَا تَكُونُوا عَوْنًا لِلشَّيْطَانِ عَلَى أَخِيكُمْ،إِنَّهُ يَنْبَغِي لِلسُّلْطَانِ إِذَا انْتَهَى إِلَيْهِ حَدٌّ أَنْ يُقِيمَهُ،إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَفُوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ " (3)
وعَنْ ثَوْرٍ الْكِنْدِيِّ،أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ،رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،" كَانَ يَعُسُّ بِالْمَدِينَةِ مِنَ اللَّيْلِ،فَسَمِعَ صَوْتَ رَجُلٍ فِي بَيْتٍ يَتَغَنَّى،فَتَسَوَّرَ عَلَيْهِ،فَوَجَدَ عِنْدَهُ امْرَأَةً،وَعِنْدَهُ خَمْرًا،فَقَالَ:يَا عَدُوَّ اللَّهِ،أَظَنَنْتَ أَنَّ اللَّهَ يَسْتُرُكَ وَأَنْتَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ ؟ فَقَالَ:وَأَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ،إِنْ أَكُنْ عَصَيْتُ اللَّهَ وَاحِدَةً،فَقَدْ عَصَيْتَ اللَّهَ فِي ثَلَاثٍ،قَالَ تَعَالَى:وَلَا تَجَسَّسُوا،وَقَدْ تَجَسَّسْتَ،وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (10 / 144)(21009) صحيح مرسل
(2) - مسند البزار ( المطبوع باسم البحر الزخار - (10 / 329)(4458) صحيح
(3) - مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ (415 ) فيه لين
نشوان : سكران - القَبَاء : ثوب يلبس فوق الثياب والجمع أقبية(1/123)
ظُهُورِهَا،وَقَدْ تَسَوَّرْتَ عَلَيَّ،وَدَخَلْتَ عَلَيَّ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ بِغَيْرِ إِذْنٍ،وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا،فَقَدْ دَخَلْتَ بِغَيْرِ سَلَامٍ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ خَيْرٍ إِنْ عَفَوْتُ عَنْكَ ؟ قَالَ:نَعَمْ،وَاللَّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،لَئِنْ عَفَوْتَ عَنِّي لَا أَعُودُ لِمِثْلِهَا أَبَدًا،قَالَ:فَعَفَا عَنْهُ،وَخَرَجَ وَتَرَكَهُ" (1)
وعَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ الْمَازِنِيِّ،قَالَ:بَيْنَمَا أَنَا آخِذٌ بِيَدِ ابْنِ عُمَرَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ،فَقَالَ:كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ فِي النَّجْوَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ فَقَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،يَقُولُ:إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ،فَيَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ،فَيَقُولُ:أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا وَكَذَا ؟ فَيَقُولُ:نَعَمْ يَا رَبِّ،فَيَقُولُ:أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا وَكَذَا ؟ فَيَقُولُ:نَعَمْ يَا رَبِّ،حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَظَنَّ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدِ اسْتَوْجَبَ،قَالَ:قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ مِنَ النَّاسِ،وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ،وَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ،وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ،فَيَقُولُ الأَشْهَادُ:{هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود]. (2)
وعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « كُلُّ أُمَّتِى مُعَافًى إِلاَّ الْمُجَاهِرِينَ،وَإِنَّ مِنَ الْمَجَانَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً،ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ،فَيَقُولَ يَا فُلاَنُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا،وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ » . (3)
سَتْرُ عُيُوبِ الْمُؤْمِنِ :
أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ أَوْ ذَنْبٍ أَوْ فُجُورٍ لِمُؤْمِنٍ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ أَوْ نَحْوِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُعْرَفْ بِالشَّرِّ وَالأَْذَى وَلَمْ يُشْتَهَرْ بِالْفَسَادِ،وَلَمْ يَكُنْ دَاعِيًا إِلَيْهِ،كَأَنْ يَشْرَبَ مُسْكِرًا أَوْ يَزْنِيَ أَوْ يَفْجُرَ مُتَخَوِّفًا مُتَخَفِّيًا غَيْرَ مُتَهَتِّكٍ وَلاَ مُجَاهِرٍ يُنْدَبُ لَهُ أَنْ يَسْتُرَهُ،وَلاَ يَكْشِفَهُ لِلْعَامَّةِ أَوِ الْخَاصَّةِ،وَلاَ لِلْحَاكِمِ أَوْ غَيْرِ الْحَاكِمِ،لِلأَْحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي
__________
(1) - مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ (419 ) حسن
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (2441) وصحيح ابن حبان - (16 / 355)(7356)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (6069 )(1/124)
الْحَثِّ عَلَى سَتْرِ عَوْرَةِ الْمُسْلِمِ وَالْحَذَرِ مِنْ تَتَبُّعِ زَلاَّتِهِ،للأحادبث الآنفة الذكر،وَلأَِنَّ كَشْفَ هَذِهِ الْعَوْرَاتِ،وَالْعُيُوبِ وَالتَّحَدُّثَ بِمَا وَقَعَ مِنْهُ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى غِيبَةٍ مُحَرَّمَةٍ وَإِشَاعَةٍ لِلْفَاحِشَةِ .
قَال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ:اجْتَهِدْ أَنْ تَسْتُرَ الْعُصَاةَ،فَإِنَّ ظُهُورَ مَعَاصِيهِمْ عَيْبٌ فِي أَهْل الإِْسْلاَمِ،وَأَوْلَى الأُْمُورِ سَتْرُ الْعُيُوبِ.قَال الْفُضَيْل بْنُ عِيَاضٍ:الْمُؤْمِنُ يَسْتُرُ وَيَنْصَحُ،وَالْفَاجِرُ يَهْتِكُ وَيُعَيِّرُ .
أَمَّا مَنْ عُرِفَ بِالأَْذَى وَالْفَسَادِ وَالْمُجَاهَرَةِ بِالْفِسْقِ وَعَدَمِ الْمُبَالاَةِ بِمَا يَرْتَكِبُ،وَلاَ يَكْتَرِثُ لِمَا يُقَال عَنْهُ فَيُنْدَبُ كَشْفُ حَالِهِ لِلنَّاسِ وَإِشَاعَةُ أَمْرِهِ بَيْنَهُمْ حَتَّى يَتَوَقَّوْهُ وَيَحْذَرُوا شَرَّهُ،بَل تُرْفَعُ قِصَّتُهُ إِلَى وَلِيِّ الأَْمْرِ إِنْ لَمْ يَخَفْ مَفْسَدَةً أَكْبَرَ؛لأَِنَّ السَّتْرَ عَلَى هَذَا يُطْمِعُهُ فِي الإِْيذَاءِ وَالْفَسَادِ وَانْتِهَاكِ الْحُرُمَاتِ وَجَسَارَةِ غَيْرِهِ عَلَى مِثْل فِعْلِهِ.فَإِنِ اشْتَدَّ فِسْقُهُ وَلَمْ يَرْتَدِعْ مِنَ النَّاسِ فَيَجِبُ أَنْ لاَ يَسْتُرَ عَلَيْهِ بَل يَرْفَعَ إِلَى وَلِيِّ الأَْمْرِ حَتَّى يُؤَدِّبَهُ وَيُقِيمَ عَلَيْهِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى فَسَادِهِ شَرْعًا مِنْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ مَا لَمْ يَخْشَ مَفْسَدَةً أَكْبَرَ.وَهَذَا كُلُّهُ فِي سَتْرِ مَعْصِيَةٍ وَقَعَتْ فِي الْمَاضِي وَانْقَضَتْ.أَمَّا الْمَعْصِيَةُ الَّتِي رَآهُ عَلَيْهَا وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِهَا فَتَجِبُ الْمُبَادَرَةُ بِإِنْكَارِهَا وَمَنْعِهِ مِنْهَا عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ،فَلاَ يَحِل تَأْخِيرُهُ وَلاَ السُّكُوتُ عَنْهَا،فَإِنْ عَجَزَ لَزِمَهُ رَفْعُهَا إِلَى وَلِيِّ الأَْمْرِ إِذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى ذَلِكَ مَفْسَدَةٌ أَكْبَرُ،لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ،فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِْيمَانِ. (1)
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْل الْعُلَمَاءِ:إِنَّهُ لاَ يَنْبَغِي لأَِحَدٍ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ يَتَتَبَّعَ عَوْرَاتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات.
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (186 )(1/125)
وَلِمَا وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ النَّهْيِ عَنِ التَّجَسُّسِ النهي عن التجسس وَالتَّحَسُّسِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ .
إِلاَّ أَنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا مِنْ ذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِجَرْحِ الرُّوَاةِ،وَالشُّهُودِ،وَالأُْمَنَاءِ عَلَى الصَّدَقَاتِ،وَالأَْوْقَافِ،وَالأَْيْتَامِ،وَنَحْوِهِمْ،فَيَجِبُ جُرْحُهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ،وَلاَ يَحِل السَّتْرُ عَلَيْهِمْ إِذَا رَأَى مِنْهُمْ مَا يَقْدَحُ فِي أَهْلِيَّتِهِمْ،وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ،بَل هُوَ مِنَ النَّصِيحَةِ الْوَاجِبَةِ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ .
كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ رَفَعَ مَنْ يُنْدَبُ السَّتْرُ عَلَيْهِ إِلَى السُّلْطَانِ فَلاَ إِثْمَ فِي ذَلِكَ،وَلَكِنَّ السَّتْرَ عَلَيْهِ أَوْلَى (1) .
سَتْرُ الْمُؤْمِنِ عَلَى نَفْسِهِ :
يُنْدَبُ لِلْمُسْلِمِ إِذَا وَقَعَتْ مِنْهُ هَفْوَةٌ أَوْ زَلَّةٌ أَنْ يَسْتُرَ عَلَى نَفْسِهِ وَيَتُوبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَل وَأَنْ لاَ يَرْفَعَ أَمْرَهُ إِلَى السُّلْطَانِ،وَلاَ يَكْشِفَهُ لأَِحَدٍ كَائِنًا مَا كَانَ؛لأَِنَّ هَذَا مِنْ إِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ الَّتِي تَوَعَّدَ عَلَى فَاعِلِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (19) سورة النور،وَلأَِنَّهُ هَتْكٌ لِسَتْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى،وَمُجَاهَرَةٌ بِالْمَعْصِيَةِ (2) .
سَتْرُ السُّلْطَانِ عَلَى الْعَاصِي :
يُنْدَبُ لِوَلِيِّ الأَْمْرِ إِذَا رَفَعَ الْعَاصِي أَمْرَهُ إِلَيْهِ مِمَّا فِيهِ حَدٌّ أَوْ تَعْزِيرٌ فِي شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مُعْلِنًا تَوْبَتَهُ أَنْ يَتَجَاهَلَهُ وَأَنْ لاَ يَسْتَفْسِرَهُ،بَل يَأْمُرَهُ بِالسِّتْرِ عَلَى نَفْسِهِ،وَيَأْمُرَ غَيْرَهُ بِالسِّتْرِ عَلَيْهِ،وَيُحَاوِل أَنْ يَصْرِفَهُ عَنِ الإِْقْرَارِ،وَلاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالصَّلاَحِ وَالاِسْتِقَامَةِ أَوْ كَانَ مَسْتُورَ الْحَال .لِمَا رَوَاهُ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَال:يَا رَسُول اللَّهِ:أَصَبْتُ حَدًّا،فَأَقِمْهُ عَلَيَّ قَال:وَحَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَصَلَّى مَعَ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا
__________
(1) - حاشية ابن عابدين 3 / 143 ، الآداب الشرعية 1 / 263 ، دليل الفالحين شرح رياض الصالحين 2 / 15 ، روضة الطالبين 8 / 328 ، القوانين الفقهية ص 433 .
(2) - دليل الفالحين 2 / 29 ، الآداب الشرعية 1 / 267 ، الأذكار للإمام النووي ص 567 ، جواهر الإكليل 2 / 289 ، مغني المحتاج 4 / 150 .(1/126)
قَضَى الصَّلاَةَ قَال:يَا رَسُول اللَّهِ إِنِّي أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْ فِي كِتَابَ اللَّهِ قَال:هَل حَضَرْتَ الصَّلاَةَ مَعَنَا ؟ قَال:نَعَمْ:قَال:قَدْ غُفِرَ لَكَ. (1)
سِتْرُ الْمَظْلُومِ عَنِ الظَّالِمِ :
قَال الْعُلَمَاءُ:إِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتُرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ إِذَا سَأَلَهُ عَنْهُ إِنْسَانٌ ظَالِمٌ يُرِيدُ قَتْلَهُ أَوْ أَخْذَ مَالِهِ ظُلْمًا،وَكَذَا لَوْ كَانَ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ وَدِيعَةٌ وَسَأَل عَنْهَا ظَالِمٌ يُرِيدُ أَخْذَهَا يَجِبُ عَلَيْهِ سِتْرُهَا وَإِخْفَاؤُهَا،وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ بِإِخْفَاءِ ذَلِكَ،وَلَوِ اسْتَحْلَفَهُ عَلَيْهَا لَزِمَهُ أَنْ يَحْلِفَ،وَلَكِنَّ الأَْحْوَطَ فِي هَذَا كُلِّهِ أَنْ يُوَرِّيَ،وَلَوْ تَرَكَ التَّوْرِيَةَ وَأَطْلَقَ عِبَارَةَ الْكَذِبِ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ فِي هَذِهِ الْحَال (2) ،وَاسْتَدَلُّوا بِجَوَازِ الْكَذِبِ فِي هَذِهِ الْحَال بِحَدِيثِ أُمِّ كُلْثُومٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُول:لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُول خَيْرًا . (3)
سِتْرُ الأَْسْرَارِ :
يُنْدَبُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَسْتُرَ أَسْرَارَ إِخْوَانِهِ الَّتِي عَلِمَ بِهَا،وَأَنْ لاَ يُفْشِيَهَا لأَِحَدٍ كَائِنًا مَا كَانَ،حَتَّى وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ مِنْهُ ذَلِكَ لأَِنَّ إِفْشَاءَ السِّرِّ يُعْتَبَرُ خِيَانَةً لِلأَْمَانَةِ،وَيُسْتَدَل لِهَذَا بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا :
قَوْله تَعَالَى:{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} (34) سورة الإسراء
وَقَوْل أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:لَعَلَّكَ وَجَدْتَ عَلَيَّ حِينَ عَرَضْتَ عَلَيَّ حَفْصَةَ فَلَمْ أُرْجِعْ إِلَيْكَ شَيْئًا،قَال عُمَرُ:فَقُلْتُ:نَعَمْ،قَال"فَإِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرْجِعَ إِلَيْكَ فِيمَا عَرَضْتَ عَلَيَّ إِلاَّ أَنِّي كُنْتُ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ ذَكَرَهَا،فَلَمْ أَكُنْ لأُِفْشِيَ سِرَّ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَوْ تَرَكَهَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَقَبِلْتُهَا" (4)
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (7182 )
(2) - القوانين الفقهية ص 434 ، دليل الفالحين 4 / 382 ، الأذكار للإمام النووي ص 580 .
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (2692 )
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (4005 )(1/127)
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال:أَتَى عَلَيَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ،فَسَلَّمَ عَلَيْنَا،فَبَعَثَنِي فِي حَاجَةٍ فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّي فَلَمَّا جِئْتُ قَالَتْ:مَا حَبَسَكَ ؟ قُلْتُ:بَعَثَنِي رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِحَاجَةٍ.قَالَتْ:مَا حَاجَتُهُ ؟ قُلْتُ:إِنَّهَا سِرٌّ.قَالَتْ:لاَ تُحَدِّثَنَّ بِسِرِّ رَسُول اللَّهِ أَحَدًا . (1)
وَقَوْل السَّيِّدَةِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لأُِمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عِنْدَمَا سَأَلَتْهَا مَا قَال لَكِ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" مَا كُنْتُ لأُِفْشِيَ عَلَى رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سِرَّهُ . (2)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِىَ أَمَانَةٌ ». (3)
وَيَدْخُل فِي هَذَا الْبَابِ حِفْظُ الأَْسْرَارِ الزَّوْجِيَّةِ،حَيْثُ يَجِبُ عَلَى كُل وَاحِدٍ مِنَ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يَسْتُرَ سِرَّ الآْخِرِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ تَفَاصِيل مَا يَقَعُ حَال الْجِمَاعِ وَقَبْلَهُ مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأَْسْرَارِ الْبَيْتِيَّةِ (4) .
فعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِى إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِى إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا ». (5)
وعَنْ رَجُلٍ،مِنَ الطُّفَاوَةِ،قَالَ:نَزَلْتُ عَلَى أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:وَلَمْ أُدْرِكْ مِنْ صَحَابَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلاً أَشَدَّ تَشْمِيرًا،وَلاَ أَقْوَمَ عَلَى ضَيْفٍ مِنْهُ،فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُ،وَهُوَ عَلَى سَرِيرٍ لَهُ،وَأَسْفَلَ مِنْهُ جَارِيَةٌ لَهُ سَوْدَاءُ،وَمَعَهُ كِيسٌ فِيهِ حَصًى وَنَوًى،يَقُولُ:سُبْحَانَ اللهِ سُبْحَانَ اللهِ،حَتَّى إِذَا أَنْفَدَ مَا فِي الْكِيسِ أَلْقَاهُ إِلَيْهَا،فَجَمَعَتْهُ فَجَعَلَتْهُ فِي الْكِيسِ،ثُمَّ دَفَعَتْهُ إِلَيْهِ فَقَالَ لِي:أَلاَ أُحَدِّثُكَ عَنِّي،وَعَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ قُلْتُ:بَلَى،قَالَ:فَإِنِّي بَيْنَمَا أَنَا أُوعَكُ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ إِذْ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَسْجِدَ فَقَالَ:مَنْ أَحَسَّ الْفَتَى الدَّوْسِيَّ،مَنْ أَحَسَّ الْفَتَى الدَّوْسِيَّ ؟
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6533)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (6286)
(3) - سنن الترمذى- المكنز - (2086 ) حسن
(4) - كشاف القناع 5 / 194 ، دليل الفالحين 3 / 149 .
(5) - صحيح مسلم- المكنز - (3615 )(1/128)
فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ:هُوَ ذَاكَ يُوعَكُ فِي جَانِبِ الْمَسْجِدِ حَيْثُ تَرَى يَا رَسُولَ اللهِ،فَجَاءَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيَّ وَقَالَ لِي:مَعْرُوفًا،فَقُمْتُ فَانْطَلَقَ حَتَّى قَامَ فِي مَقَامِهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ،وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ صَفَّانِ مِنْ رِجَالٍ،وَصَفٌّ مِنْ نِسَاءٍ،أَوْ صَفَّانِ مِنْ نِسَاءٍ،وَصَفٌّ مِنْ رِجَالٍ،فَأَقْبَلَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ:إِنْ نَسَّانِي الشَّيْطَانُ شَيْئًا مِنْ صَلاَتِي فَلْيُسَبِّحِ الْقَوْمُ،وَلْيُصَفِّقِ النِّسَاءُ،فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَمْ يَنْسَ مِنْ صَلاَتِهِ شَيْئًا،فَلَمَّا سَلَّمَ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ،فَقَالَ:مَجَالِسَكُمْ،هَلْ فِيكُمْ رَجُلٌ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ أَغْلَقَ بَابَهُ وَأَرْخَى سِتْرَهُ،ثُمَّ يَخْرُجُ فَيُحَدِّثُ فَيَقُولُ:فَعَلْتُ بِأَهْلِي كَذَا،وَفَعَلْتُ بِأَهْلِي كَذَا ؟ فَسَكَتُوا فَأَقْبَلَ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ:هَلْ مِنْكُنَّ مَنْ تُحَدِّثُ ؟ فَجَثَتْ فَتَاةٌ كَعَابٌ عَلَى إِحْدَى رُكْبَتَيْهَا،وَتَطَاوَلَتْ لِيَرَاهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَيَسْمَعَ كَلاَمَهَا،فَقَالَتْ:إِي وَاللَّهِ إِنَّهُمْ لَيُحَدِّثُونَ،وَإِنَّهُنَّ لَيُحَدِّثْنَ،قَالَ:هَلْ تَدْرُونَ مَا مَثَلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ؟ إِنَّ مَثَلَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مَثَلُ شَيْطَانٍ وَشَيْطَانَةٍ لَقِيَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بِالسِّكَّةِ،قَضَى حَاجَتَهُ مِنْهَا وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ،ثُمَّ قَالَ:أَلاَ لاَ يُفْضِيَنَّ رَجُلٌ إِلَى رَجُلٍ،وَلاَ امْرَأَةٌ إِلَى امْرَأَةٍ إِلاَّ إِلَى وَلَدٍ،أَوْ وَالِدٍ قَالَ:وَذَكَرَ ثَالِثَةً فَنَسِيتُهَا أَلاَ إِنَّ طِيبَ الرَّجُلِ مَا وُجِدَ رِيحُهُ،وَلَمْ يَظْهَرْ لَوْنُهُ،أَلاَ إِنَّ طِيبَ النِّسَاءِ مَا ظَهَرَ لَوْنُهُ وَلَمْ يُوجَدْ رِيحُهُ." (1)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 821)(10977) 10990- حسن لغيره ، وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (24 / 169)(1/129)
الحق السادس عشر
يتقي مواضع التهم
صيانة لقلوب الناس عن سوء الظن ولألسنتهم عن الغيبة،فإنهم إذا عصوا الله بذكره وكان هو السبب فيه كان شريكاً،قال الله تعالى:{وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} (108) سورة الأنعام .
يَنْهَى اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - وَالمُؤْمِنِينَ عَنْ سَبِّ الآلِهَةِ التِي يَعْبُدُهَا المُشْرِكُونَ،لِكَيْلاَ يَقُومَ هَؤُلاَءِ بِسَبِّ اللهِ،الذِي يَعْبُدُهُ المُؤْمِنُونَ،عَدْواً وَتَجَاوُزاً مِنْهُمْ لِلْحَدِّ فِي السِّبَابِ وَالمُشَاتَمَةِ،لِيَغِيظُوا المُؤْمِنِينَ،وَهُمْ جَاهِلُونَ بِاللهِ،وَبِمَا يَسْتَحِقُهُ تَعَالَى مِنَ التَّقْدِيسِ وَالإِجْلاَلِ وَالاحْتِرَامِ .
وَكَمَا زُيِّنَ لِهَؤُلاَءِ الكُفَّارِ حُبَّ أَصْنَامِهِمْ،وَالمُحَامَاةِ عَنْهَا،وَالانْتِصَارِ لَهَا،كَذَلِكَ،زُيِّنَ لِكُلِّ أُمْةٍ مِنَ الأُمَمِ الضَّالَّةِ الخَالِيَةِ عَمَلُهُمُ الذِي كَانُوا فِيهِ،وَللهِ الحِكْمَةُ التَّامَّةُ،وَالحُجَّةُ البَالِغَةُ فِيمَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ،ثُمَّ يَرْجِعُونَ إلَيهِ تَعَالَى فَيُنَبِئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ،فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيا،وَيَجْزِيهِمْ عَلَيْهِ الجَزَاءَ الأَوْفَى إِنْ خَيْراً فَخَيراً،وَإِنْ شَرّاً فَشَرّاً . (1)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :مِنَ الْكَبَائِرِ أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ،قِيلَ:وَكَيْفَ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ:يَتَعَرَّضُ لِلنَّاسِ فَيَسُبُّ وَالِدَيْهِ. (2)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:"إِنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ "،قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَكَيْفَ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ:"يَسُبُّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ،فَيَسُبُّ أَبَاهُ،فَيَسُبُّ أَبَاهُ،وَيَسُبُّ أُمَّهُ،فَيَسُبُّ أُمَّهُ " (3)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 898)
(2) - صحيح ابن حبان - (2 / 143)(411) صحيح
(3) - شرح مشكل الآثار - (13 / 340)(5314 ) صحيح(1/130)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ يَشْتِمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالَ « نَعَمْ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ ». (1)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"إِنَّ أَكْبَرَ الذَّنْبِ أَنْ يَسُبَّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ "،قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ،وَكَيْفَ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ:"يَسُبُّ الرَّجُلَ،فَيَسُبُّ أَبَاهُ،وَيَسُبُّ أُمَّهُ،فَيَسُبُّ أُمَّهُ " (2)
وعَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ،قَالَتْ:كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُعْتَكِفًا،فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلاً فَحَدَّثْتُهُ،ثُمَّ جِئْتُ لَأَنْقَلِبَ،فَقَامَ مَعِي يَقْلِبُنِي وَكَانَ مَنْزِلُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ،وَرَأَنَا رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ،فَلَمَّا رَأَيَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَنَّعَا رُؤُوسَهُمَا،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :عَلَى رِسْلِكُمَا،إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ،فَقَالاَ:سُبْحَانَ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ:إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ،وَإِنِّي خِفْتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبُكُمَا شَيْئًا،أَوْ قَالَ:شَرًّا. (3)
حُيي:بضم الحاء. هو ابن أخطب اليهودي زعيم بني النضير قتل مع بني قريظة صبراً.
ليقلبني: بفتح الياء وسكون القاف،ليردني ويرجعني إلى منزلي.
في بيت أسامة: نسب البيت إلى أسامة بن زيد،فإنه صار له بعد ذلك.
على رسلكما: بكسر الراء: أي على هينتكما،أي تمهلا ولا تسرعا.
فقالا: سبحان الله،تسبيحٌ وردَ مورد التعجب.
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - معتكفاً في العشر الأواخر من رمضان.
وكان ينقطع في معتكفه عن الناس إلا قليلاً للمصلحة.
ولذا فإن زوجه صفية رضي الله عنها زارته في إحدى الليالي فحدثته ساعة،ثم قامت إلى بيتها.
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (273 )
(2) - شرح مشكل الآثار - (13 / 339)(5312 ) صحيح
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (3281) وصحيح مسلم- المكنز - (5808 )
صحيح ابن حبان - (8 / 428) (3671)(1/131)
فلِمَا جبله الله عليه من كرم الأخلاق واللطف العظيم،وجبر القلوب،قام معها ليشيعها ويؤنسها من وحشة الليل.
وفي أثناء سيره معها،مرَّ رجلان من الأنصار،فاستحييا أن يسايرا النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه أهله،فأسرعا في مشيهما.
فقال لهما: تمهلا ولا تسرعا،فإن التي معي زوجي صفية.
فتعجبا وكبر عليهما ذلك وقالا: سبحان الله! كيف تظن يا رسول الله أننا نظن شيئاً؟!
فأخبرهما أنه لم يظن بهما ذلك،وإنما أخبرهما أن الشيطان حريص على إغواء بني آدم،وله قدرة عليهم عظيمة فإنه يجري منهم مجرى الدم من لطف مداخله،وخَفِيِّ مسالكه. أعاذنا الله منه،بحمايته آمين.
ما يؤخذ من الحديث:
1- مشروعية الاعتكاف،لاسيما في العشر الأواخر من رمضان.
2- أن المحادثة اليسيرة لا تنافي الاعتكاف،خصوصاً لمصلحة،كمؤانسة الأهل مثلاً.
3- وفيه حسن خلقه ولطفه - صلى الله عليه وسلم - ،إذ آنسها،ثم قام ليشيعها إلى بيتها.
فكذا ينبغي أن يتحلَّى المسلمون بمثل هذه الأخلاق النبوية الكريمة.
4- وفيه أنه ينبغي أن يريل الإنسان ما يلحقه من تهمة،لئلا يظن به شيء هو بريء منه،أي ينبغي التحرز مما يسبب التهمة.
5- أن الشيطان له قدرة وتمكن قَوِيٌّ من إغواء بني آدم،فهو يجري منهم مجرى الدم.
قال "ابن دقيق العيد": وهذا متأكد في حق العلماء،ومن يقتدى بهم.
6- وفيه شفقة النبي - صلى الله عليه وسلم - على أمته:
فإنه يعلم من ظاهر الحال أن الرجلين لم يظنا شيئا،وإنما علم كيد الشيطان الشديد،فخاف عليهما أن يوسوس لهما بشيء يكون سبب هلاكهما
7- قال بعض العلماء: ومنه ينبغي للحاكم أن يبيِّن للمحكوم عليه وجه الحكم،إذا كان خافياً عليه،نفياً للتهمة.
8- جواز خلوة المعتكف بزوجه ومحادثتها،إذا لم يُثِرْ ذلك شهوته المنافية للاعتكاف.(1/132)
9- قال ابن دقيق العيد: وفي الحديث دليل على هجوم خواطر الشيطان على النفس. وما كان من ذلك غير مقدور على دفعه لا يؤاخذ به لقوله تعالى {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}. قال الصنعاني: الوساوس تطرق القلب،فإن استرسل العبد معها قادته إلى الشك،وإن قطعها بالذكر والاستعاذة ذهبت عنه. (1)
وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،قَالَ:مَنْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتُّهْمَةِ فَلَا يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِهِ الظَّنَّ،وَمَنْ كَتَمَ سِرَّهُ كَانَتِ الْخِيَرَةُ فِي يَدِهِ،وَضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ حَتَّى يَأْتِيَكَ مِنْهُ مَا يَغْلِبُكَ،وَمَا كَافَأْتَ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيكَ مِثْلَ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ،وَعَلَيْكَ بِصَالِحِ الْإِخْوَانِ،أَكْثِرِ اكْتِسَابَهُمْ فَإِنَّهُمْ زَيْنٌ فِي الرَّخَاءِ،وَعِدَّةٌ عِنْدَ الْبَلَاءِ،وَلَا تَسَلْ عَمَّا لَمْ يَكُنْ حَتَّى يَكُونَ،فَإِنَّ فِي مَا كَانَ شُغْلًا عَنْ مَا لَمْ يَكُنْ،وَلَا يَكُنْ كَلَامُكَ بَدْلَةً إِلَّا عِنْدَ مَنْ يَشْتَهِيهِ وَيَتَّخِذُهُ غَنِيمَةً،وَلَا تَسْتَعِنْ عَلَى حَاجَتِكَ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ نَجَاحَهَا،وَلَا تَسْتَشِرْ إِلَّا الَّذِينَ يَخَافُونَ اللَّهَ،وَلَا تَصْحَبِ الْفَاجِرَ فَتَعَلَّمَ مِنْ فُجُورِهِ،وَتَخَشَّعْ عِنْدَ الْقُبُورِ." (2)
أنواع الظنِّ (3) :
الظَّنُّ عَلَى أَضْرُبٍ:مَحْظُورٌ،وَمَأْمُورٌ بِهِ،وَمَنْدُوبٌ إِلَيْهِ،وَمُبَاحٌ .
فَأَمَّا الْمَحْظُورُ.فَمِنْهُ سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى،لأَِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَرْضٌ وَوَاجِبٌ مَأْمُورٌ بِهِ،وَسُوءُ الظَّنِّ بِهِ تَعَالَى مَحْظُورٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ،فَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال:سَمِعْتُ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَبْل مَوْتِهِ بِثَلاَثٍ يَقُول:لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَل (4)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:حُسْنُ الظَّنِّ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ. (5)
__________
(1) - تيسير العلام شرح عمدة الحكام- للبسام - (1 / 330)
(2) - الزُّهْدُ أَبِي دَاوُدَ (83 ) حسن
(3) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (29 / 179)
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (7412 )
(5) - صحيح ابن حبان - (2 / 399)(631) حسن(1/133)
وَمِنَ الظَّنِّ الْمَحْظُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ سُوءُ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ ظَاهِرُهُمُ الْعَدَالَةُ،كما في حديث صفية الآنف الذكر .
ثُمَّ إِنَّ كُل ظَنٍّ فِيمَا لَهُ سَبِيلٌ إِلَى مَعْرِفَتِهِ مِمَّا تُعُبِّدَ بِعِلْمِهِ فَهُوَ مَحْظُورٌ؛لأَِنَّهُ لَمَّا كَانَ مُتَعَبَّدًا بِعِلْمِهِ،وَنُصِبَ لَهُ الدَّلِيل عَلَيْهِ،فَلَمْ يَتْبَعِ الدَّلِيل وَحَصَل عَلَى الظَّنِّ كَانَ تَارِكًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ .
وَأَمَّا مَا لَمْ يَنْصِبْ لَهُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ يُوصِلُهُ إِلَى الْعِلْمِ بِهِ،وَقَدْ تُعُبِّدَ بِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ فِيهِ،فَالاِقْتِصَارُ عَلَى غَالِبِ الظَّنِّ وَإِجْرَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ وَاجِبٌ،وَذَلِكَ نَحْوُ مَا تُعُبِّدْنَا بِهِ مِنْ قَبُول شَهَادَةِ الْعُدُول،وَتَحَرِّي الْقِبْلَةِ،وَتَقْوِيمِ الْمُسْتَهْلَكَاتِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَمْ يَرِدْ بِمَقَادِيرِهَا تَوْقِيفٌ،فَهَذِهِ وَمَا كَانَ مِنْ نَظَائِرِهَا قَدْ تُعُبِّدْنَا فِيهَا بِتَنْفِيذِ أَحْكَامِ غَالِبِ الظَّنِّ .
وَأَمَّا الظَّنُّ الْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ فَهُوَ:حُسْنُ الظَّنِّ بِالأَْخِ الْمُسْلِمِ،وَهُوَ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ مُثَابٌ عَلَيْهِ،وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الضَّرْبُ مِنَ الظَّنِّ مَنْدُوبًا وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا كَمَا كَانَ سُوءُ الظَّنِّ مَحْظُورًا لِوُجُودِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُمَا،وَهِيَ احْتِمَالٌ أَنْ لاَ يَظُنَّ بِهِ شَيْئًا فَكَانَ مَنْدُوبًا .
وَأَمَّا الظَّنُّ الْمُبَاحُ،فَمِنْهُ:ظَنُّ الشَّاكِّ فِي الصَّلاَةِ،فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّحَرِّي وَالْعَمَل عَلَى مَا يَغْلِبُ فِي ظَنِّهِ،فَإِنْ عَمِل بِمَا غَلَبَ عَلَيْهِ ظَنُّهُ كَانَ مُبَاحًا،وَإِنْ عَدَل عَنْهُ إِلَى الْبِنَاءِ عَلَى الْيَقِينِ كَانَ جَائِزًا (1) ،وَذَكَرَ الرَّمْلِيُّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ:أَنَّ الظَّنَّ يَنْقَسِمُ فِي الشَّرْعِ إِلَى وَاجِبٍ وَمَنْدُوبٍ وَحَرَامٍ وَمُبَاحٍ،فَالْوَاجِبُ حُسْنُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى،وَالْحَرَامُ سُوءُ الظَّنِّ بِهِ تَعَالَى،وَبِكُلٍّ مَنْ ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ،وَالْمُبَاحُ الظَّنُّ بِمَنِ اشْتَهَرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِمُخَالَطَةِ الرِّيَبِ وَالْمُجَاهَرَةِ بِالْخَبَائِثِ فَلاَ يَحْرُمُ ظَنُّ السُّوءِ بِهِ؛لأَِنَّهُ قَدْ دَل عَلَى نَفْسِهِ،كَمَا أَنَّ مَنْ سَتَرَ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَظُنَّ النَّاسُ بِهِ إِلاَّ خَيْرًا،وَمَنْ دَخَل مَدْخَل السُّوءِ اتُّهِمَ،وَمَنْ هَتَكَ نَفْسَهُ ظَنَنَّا بِهِ السُّوءَ،مِنَ الظَّنِّ الْجَائِزِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ مَا يَظُنُّ الشَّاهِدَانِ فِي التَّقْوِيمِ وَأُرُوشِ الْجِنَايَاتِ،وَمَا يَحْصُل بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الأَْحْكَامِ بِالإِْجْمَاعِ (2) .
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - أحكام القرآن للجصاص 3 / 499 - 500 .
(2) - نهاية المحتاج للرملي 2 / 429 ط . المكتبة الإسلامية ، حاشية الرملي على أسنى المطالب 1 / 296 ط . المكتبة الإسلامية ، حاشية القليوبي 1 / 321 ط . الحلبي .(1/134)
السابع عشر
يشفع لكل من له حاجة من المسلمين إلى من له عنده منزلة
قال تعالى:{مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا} (85) سورة النساء
مَنْ سَعَى فِي أَمْرٍ،فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ خَيْرٌ،كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ هَذَا الخَيْرِ،وَمَنْ أَيَّدَكَ وَنَاصَرَكَ فِي القِتَالِ،وَجَعَلَ نَفْسَهُ شَفِيعاً وَسَنداً لَكَ،كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ نَتَائِجِ الظَّفَرِ فِي الدُّنْيَا،وَالثَّوَابَ فِي الآخِرَةِ.وَمَنْ سَعَى فِي أَمْرٍ فَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ سُوءٌ وَإِثْمٌ وَمَضَرَّةٌ،كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ ذَلِكَ،وَمَنِ انْضَمَّ إلى أَعْدَائِكَ فَقَاتَلَ مَعَهُمْ،أَوْ خَذَلَ المُسْلِمِينَ فِي قِتَالِهِمْ،كَانَ لَهْ نَصِيبٌ مِنْ سُوءِ العَاقِبَةِ،بِمَا يَنَالُهُ مِنَ الخِذْلاَنِ فِي الدُّنْيَا،وَالعِقَابِ فِي الآخِرَةِ،وَهَذِهِ هِيَ الشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ لأَنَّهَا إِعَانَةٌ عَلَى السُوءِ.وَاللهُ حَفِيظٌ وَشَاهِدٌ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ،وَقَادِرٌ عَلَى فِعْلِ كُلِّ شَيْءٍ يُرِيدُهُ . (1)
وعَنْ أَبِي مُوسَى،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" إِنِّي أُوتَى،وَأَسْأَلُ،وَتُطْلَبُ إِلَيَّ الْحَاجَةُ وَأَنْتُمْ عِنْدِي،فَاشْفَعُوا؛فَلْتُؤْجَرُوا،وَيَقْضِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى يَدَيْ نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَحَبَّ" (2)
وعَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « اشْفَعُوا إِلَىَّ لِتُؤْجَرُوا وَلْيَقْضِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ ». (3)
الشفاعة فى الصدقة وسائر أفعال البر،مرغب فيها،مندوب إليها،ألا ترى قوله - صلى الله عليه وسلم - : « اشفعوا تؤجروا »،فندب أمته إلى السعى فى حوائج الناس،وشرط الأجر على ذلك،ودَلَّ قوله - صلى الله عليه وسلم - : « ويقضى الله على لسان نبيه ما شاء » أن الساعى مأجور على كل
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 578)
(2) - مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ (628 ) حسن
(3) - سنن أبي داود - المكنز - (5133 ) صحيح(1/135)
حال،وإن خاب سعيه ولم تنجح طلبته،وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : « الله فى عون العبد ما كان العبد فى عون أخيه » (1)
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" اشْفَعُوا إِلَيَّ تُؤْجَرُوا،إِنِّي أُرِيدُ الْأَمْرَ،فَأُؤَخِّرُهُ؛كَي تَشْفَعُوا إِلَيَّ،فَتُؤْجَرُوا " (2)
وعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" مَا مِنْ صَدَقَةٍ أَفْضَلَ مِنْ صَدَقَةِ اللِّسَانِ قِيلَ:وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ:الشَّفَاعَةُ تُحْقَنُ بِهَا الدَّمُ،وَتُجَرُّ بِهَا الْمَنْفَعَةُ إِلَى آخَرَ،وَيُدْفَعُ بِهَا الْمَكْرُوهُ عَنْ آخَرَ" (3)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مُغِيثًا كَانَ عَبْدًا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْفَعْ لِى إِلَيْهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَا بَرِيرَةُ اتَّقِى اللَّهَ فَإِنَّهُ زَوْجُكِ وَأَبُو وَلَدِكِ ». فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَأْمُرُنِى بِذَلِكَ قَالَ « لاَ إِنَّمَا أَنَا شَافِعٌ ». فَكَانَ دُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى خَدِّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِلْعَبَّاسِ « أَلاَ تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ وَبُغْضِهَا إِيَّاهُ ». (4)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا،يُقَالُ لَهُ:مُغِيثٌ،كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِلْعَبَّاسِ:يَا عَبَّاسُ،أَلاَ تَعْجَبُ مِنْ شِدَّةِ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ،وَمِنْ شِدَّةِ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا،فَقَالَ لَهَا - صلى الله عليه وسلم - :لَوْ رَاجَعْتِيهِ فَإِنَّهُ أَبُو وَلَدِكِ،قَالَتْ:يَا رَسُولَ اللهِ،أَتَأْمُرُنِي بِهِ ؟ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - :إِنَّمَا أَنَا شَافِعٌ،قَالَتْ:فَلاَ حَاجَةَ لِي فِيهِ. (5)
قال الطبرى: فيه من الفقه جواز استشفاع العالم والخليفة فى الحوائج والرغبة إلى أهلها فى الإسعاف لسائلها،وأن ذلك من مكارم الأخلاق،وقد قال النبى - صلى الله عليه وسلم - : « اشفعوا تؤجروا،ويقضى الله على لسان رسوله ما شاء »،وهذا يدل أن الساعى فى ذلك مأجور،وإن لم تنقض الحاجة.
__________
(1) - شرح ابن بطال - (5 / 482)
(2) - مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ(629 ) حسن
(3) - مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ(631 ) ضعيف جدا
(4) - سنن أبي داود - المكنز - (2233 ) صحيح
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (5283) وصحيح ابن حبان - (10 / 96)(4273)(1/136)
وفيه من الفقه: أنه لا حرج على إمام المسلمين وحاكمهم إذا اختصم إليه خصمان فى حق وثبت الحق على أحدهما،إذا سأله الذى ثبت الحق عليه أن يسأل من ثبت ذلك له تأخير حقه أو وضعه عنه،وأن يشفع له فى ذلك إليه،وذلك أن النبى - صلى الله عليه وسلم - شفع إلى بريرة وكلمها بعدما خيرها وأعلمها ما لها من الخيار،فقال: « لو راجعتيه » .
وفيه من الفقه: أن من سئل من الأمور ما هو غير واجب عليه فعله،فله رد سائله وترك قضاء حاجته،وإن كان الشفيع سلطانًا أو عالمًا أو شريفًا؛ لأن النبى،عليه السلام،لم ينكر على بريرة ردها إياه فيما شفع فيه،وليس أحد من الخلق أعلى رتبة من النبى،عليه السلام،فغيره من الخلق أحرى ألا يكون منكرًا رده فيما شفع فيه.
وفيه من الفقه: أن بغض الرجل للرجل المسلم على وجه كراهة قربه والدنو منه على غير وجه العداوة له،ولكن اختيار التبعد منه لسوء خلقه وخبث عشرته وثقل ظله،أو لغير ذلك مما يكره الناس بعضهم من بعض جائز،كالذى ذكر من بغضه امرأة ثابت بن قيس بن شماس له،مع مكانه من الدين والفضل لغير بأس،لكن لدمامة خلقه وقبحه حتى افتدت منه،وفرق بينهما النبى - صلى الله عليه وسلم - ،ولم ير أنها أتت مأثمًا ولا ركبت معصية بذلك بل عذرها وجعل لها مخرجًا من المقام معه وسبيلاً إلى فراقه والبعد منه،ولم يذمها على بغضها له على قبحه وشدة سواده،وإن كان ذلك جبلة وفطرة خلق عليها،فالذى يبغض على ما فى القدرة تركه من قبيح الأحوال ومذموم العشرة أولى بالعذر وأبعد من الذم. (1)
الشَّفَاعَةُ قِسْمَانِ:شَفَاعَةٌ حَسَنَةٌ،وَشَفَاعَةٌ سَيِّئَةٌ .
الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ :
أ - الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ:وَهِيَ:أَنْ يَشْفَعَ الشَّفِيعُ لإِِزَالَةِ ضَرَرٍ أَوْ رَفْعِ مَظْلَمَةٍ عَنْ مَظْلُومٍ،أَوْ جَرِّ مَنْفَعَةٍ إِلَى مُسْتَحِقٍّ لَيْسَ فِي جَرِّهَا ضَرَرٌ وَلاَ ضِرَارٌ،فَهَذِهِ مَرْغُوبٌ فِيهَا مَأْمُورٌ بِهَا،قَال اللَّهُ تَعَالَى:{ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2) سورة المائدة .
__________
(1) - شرح ابن بطال - (13 / 434)(1/137)
وَلِلشَّفِيعِ نَصِيبٌ فِي أَجْرِهَا وَثَوَابِهَا قَال اللَّهُ تَعَالَى (1) : {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا} (85) سورة النساء ،وَيَنْدَرِجُ فِيهَا دُعَاءُ الْمُسْلِمِ لأَِخِيهِ الْمُسْلِمِ عَنْ ظَهْرِ الْغَيْبِ .
ب -الشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ :
الشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ هِيَ:أَنْ يَشْفَعَ فِي إِسْقَاطِ حَدٍّ بَعْدَ بُلُوغِهِ السُّلْطَانَ أَوْ هَضْمِ حَقٍّ أَوْ إِعْطَائِهِ لِغَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ،وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لأَِنَّهُ تَعَاوُنٌ عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ.قَال تَعَالَى:{ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2) سورة المائدة،وَلِلشَّفِيعِ فِي هَذَا كِفْلٌ مِنَ الإِْثْمِ.قَال تَعَالَى:{مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا} (85) سورة النساء.وَالضَّابِطُ الْعَامُّ:أَنَّ الشَّفَاعَةَ الْحَسَنَةَ هِيَ:مَا كَانَتْ فِيمَا اسْتَحْسَنَهُ الشَّرْعُ،وَالسَّيِّئَةَ فِيمَا كَرِهَهُ وَحَرَّمَهُ (5) .
وَالشَّفَاعَةُ تَكُونُ فِي الآْخِرَةِ وَفِي الدُّنْيَا :
أَوَّلاً - الشَّفَاعَةُ فِي الآْخِرَةِ :
أَجْمَعَ أَهْل السُّنَّةِ،وَالْجَمَاعَةِ عَلَى وُقُوعِ الشَّفَاعَةِ فِي الآْخِرَةِ وَوُجُوبِ الإِْيمَانِ بِهَا.لِصَرِيحِ قَوْله تَعَالَى:{يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} (109) سورة طه،وَقَال عَزَّ مِنْ قَائِلٍ:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } (28) سورة الأنبياء،وَقَدْ جَاءَتِ الأَْحَادِيثُ الَّتِي بَلَغَتْ بِمَجْمُوعِهَا حَدَّ التَّوَاتُرِ بِصِحَّةِ الشَّفَاعَةِ فِي الآْخِرَةِ لِمُذْنِبِي الْمُسْلِمِينَ،فَيَشْفَعُ لَهُ مَنْ يَأْذَنُ لَهُ الرَّحْمَنُ مِنَ الأَْنْبِيَاءِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَصَالِحِي الْمُؤْمِنِينَ (2) .
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّ نَاسًا فِى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « نَعَمْ ». قَالَ « هَلْ تُضَارُّونَ فِى رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ مَعَهَا سَحَابٌ وَهَلْ تُضَارُّونَ فِى رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ
__________
(1) - تفسير فخر الرازي في تفسير آية ( من يشفع شفاعة حسنة ) الفتوحات الإلهية
(2) - شرح النووي لصحيح مسلم 3 / 35 .(1/138)
فِيهَا سَحَابٌ ». قَالُوا لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ « مَا تُضَارُّونَ فِى رُؤْيَةِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاَّ كَمَا تُضَارُّونَ فِى رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ لِيَتَّبِعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ. فَلاَ يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ مِنَ الأَصْنَامِ وَالأَنْصَابِ إِلاَّ يَتَسَاقَطُونَ فِى النَّارِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَغُبَّرِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَيُدْعَى الْيَهُودُ فَيُقَالُ لَهُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ قَالُوا كُنَّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ. فَيُقَالُ كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلاَ وَلَدٍ فَمَاذَا تَبْغُونَ قَالُوا عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا. فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ أَلاَ تَرِدُونَ فَيُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَتَسَاقَطُونَ فِى النَّارِ. ثُمَّ يُدْعَى النَّصَارَى فَيُقَالُ لَهُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ قَالُوا كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ. فَيُقَالُ لَهُمْ كَذَبْتُمْ. مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلاَ وَلَدٍ. فَيُقَالُ لَهُمْ مَاذَا تَبْغُونَ فَيَقُولُونَ عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا. - قَالَ - فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ أَلاَ تَرِدُونَ فَيُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَتَسَاقَطُونَ فِى النَّارِ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلاَّ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِى أَدْنَى صُورَةٍ مِنَ الَّتِى رَأَوْهُ فِيهَا.
قَالَ فَمَا تَنْتَظِرُونَ تَتْبَعُ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ. قَالُوا يَا رَبَّنَا فَارَقْنَا النَّاسَ فِى الدُّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ. فَيَقُولُ أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ لاَ نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا - حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ. فَيَقُولُ هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا فَيَقُولُونَ نَعَمْ. فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ فَلاَ يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلاَّ أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالسُّجُودِ وَلاَ يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتِّقَاءً وَرِيَاءً إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ. ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ وَقَدْ تَحَوَّلَ فِى صُورَتِهِ الَّتِى رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ أَنْتَ رَبُّنَا. ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ وَيَقُولُونَ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ ». قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْجِسْرُ قَالَ « دَحْضٌ مَزِلَّةٌ. فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلاَلِيبُ وَحَسَكٌ تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ وَمَكْدُوسٌ فِى نَارِ جَهَنَّمَ. حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ فَوَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ فِى اسْتِقْصَاءِ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(1/139)
لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ فِى النَّارِ يَقُولُونَ رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ. فَيُقَالُ لَهُمْ أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ. فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثيرًا قَدْ أَخَذَتِ النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا مَا بَقِىَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ. فَيَقُولُ ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ. فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا. ثُمَّ يَقُولُ ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ. فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا أَحَدًا. ثُمَّ يَقُولُ ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ. فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْرًا ». وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىُّ يَقُولُ إِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِى بِهَذَا الْحَدِيثِ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا)"فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَفَعَتِ الْمَلاَئِكَةُ وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَمًا فَيُلْقِيهِمْ فِى نَهْرٍ فِى أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ نَهْرُ الْحَيَاةِ فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحِبَّةُ فِى حَمِيلِ السَّيْلِ أَلاَ تَرَوْنَهَا تَكُونُ إِلَى الْحَجَرِ أَوْ إِلَى الشَّجَرِ مَا يَكُونُ إِلَى الشَّمْسِ أُصَيْفِرُ وَأُخَيْضِرُ وَمَا يَكُونُ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ يَكُونُ أَبْيَضَ ». فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّكَ كُنْتَ تَرْعَى بِالْبَادِيَةِ قَالَ « فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ فِى رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِمُ يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ هَؤُلاَءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ أَدْخَلَهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلاَ خَيْرٍ قَدَّمُوهُ ثُمَّ يَقُولُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَمَا رَأَيْتُمُوهُ فَهُوَ لَكُمْ.
فَيَقُولُونَ رَبَّنَا أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ. فَيَقُولُ لَكُمْ عِنْدِى أَفْضَلُ مِنْ هَذَا فَيَقُولُونَ يَا رَبَّنَا أَىُّ شَىْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا. فَيَقُولُ رِضَاىَ فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا ». (1)
قَال الْعُلَمَاءُ:الشَّفَاعَةُ فِي الآْخِرَةِ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ :
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (472 )
الحبة : بذور العشب البرية -الحسك : جمع حسكة وهى الشوكة الصلبة -تضارون : لا تتخالفون ولا تتجادلون فى صحة النظر -المكدوس : المدفوع من ورائه(1/140)
أَوَّلُهَا:مُخْتَصَّةٌ بِنَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - وَهِيَ:الإِْرَاحَةُ مِنْ هَوْل الْمَوْقِفِ،وَتَعْجِيل الْحِسَابِ،وَهِيَ:الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى .
ثَانِيهَا:فِي إِدْخَال قَوْمٍ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ،وَهَذِهِ أَيْضًا خَاصَّةٌ بِنَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - .
ثَالِثُهَا:الشَّفَاعَةُ لِقَوْمٍ اسْتَوْجَبُوا النَّارَ فَيَشْفَعُ فِيهِمْ نَبِيُّنَا،وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
رَابِعُهَا:فِيمَنْ دَخَل النَّارَ مِنَ الْمُذْنِبِينَ:فَقَدْ جَاءَتِ الأَْحَادِيثُ بِإِخْرَاجِهِمْ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَةِ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - وَالْمَلاَئِكَةِ وَإِخْوَانِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ .
خَامِسُهَا.فِي زِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ فِي الْجَنَّةِ لأَِهْلِهَا (1) .
وَيَجُوزُ لِلإِْنْسَانِ أَنْ يَسْأَل اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَهُ شَفَاعَةَ الْحَبِيبِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - .
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ:قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ:" قَدْ عُرِفَ بِالنَّقْل الْمُسْتَفِيضِ سُؤَال السَّلَفِ الصَّالِحِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -:شَفَاعَةَ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - وَرَغْبَتُهُمْ فِيهَا،وَعَلَى هَذَا لاَ يُلْتَفَتُ إِلَى مَنْ قَال:إِنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَسْأَل الإِْنْسَانُ اللَّهَ تَعَالَى:أَنْ يَرْزُقَهُ شَفَاعَةَ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - لِكَوْنِهَا لاَ تَكُونُ إِلاَّ لِلْمُذْنِبِينَ؛لأَِنَّ الشَّفَاعَةَ قَدْ تَكُونُ لِتَخْفِيفِ الْحِسَابِ،وَزِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ.ثُمَّ كُل عَاقِلٍ:مُعْتَرِفٌ بِالتَّقْصِيرِ مُحْتَاجٌ إِلَى الْعَفْوِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِعَمَلِهِ مُشْفِقٌ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ.وَيَلْزَمُ هَذَا الْقَائِل أَلاَ يَدْعُوَ بِالْمَغْفِرَةِ،وَالرَّحْمَةِ لأَِنَّهَا لأَِصْحَابِ الذُّنُوبِ (2)". (2)
ثَانِيًا - الشَّفَاعَةُ فِي الدُّنْيَا :
أ - الشَّفَاعَةُ فِي الْحَدِّ :
لاَ خِلاَفَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي تَحْرِيمِ الشَّفَاعَةِ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ إِلَى الْحَاكِمِ فعَنْ عَائِشَةَ،أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّتْهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ،فَقَالُوا:مَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالُوا:وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ،حُبُّ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ،ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ،فَقَالَ:إِنَّمَا هَلَكَ
__________
(1) - روضة الطالبين 7 / 113 ، أسنى المطالب 3 / 104 ، الشرقاوي على شرح التحرير 2 / 320 ، شرح صحيح مسلم للنووي 3 / 35 .
(2) - شرح صحيح مسلم للنووي 3 / 36 .(1/141)
الَّذِينَ قَبْلَكُمْ،أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ،وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ،وَايْمُ اللهِ،لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا. (1)
وعَنْ يَحْيَى بْنِ رَاشِدٍ قَالَ:خَرَجْنَا حُجَّاجًا عَشَرَةً مِنْ أَهْلِ الشَّامِ حَتَّى أَتَيْنَا مَكَّةَ،فَذَكَرَ الْحَدِيثَ قَالَ:فَأَتَيْنَاهُ فَخَرَجَ إِلَيْنَا،يَعْنِي ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ،فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ أَمْرَهُ،وَمَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ،فَلَيْسَ بِالدِّينَارِ وَلاَ بِالدِّرْهَمِ،وَلَكِنَّهَا الْحَسَنَاتُ وَالسَّيِّئَاتُ،وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُهُ،لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللهِ حَتَّى يَنْزِعَ،وَمَنْ قَالَ:فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الْخَبَالِ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ. (2)
وَلأَِنَّ الْحَدَّ إِذَا بَلَغَ الْحَاكِمَ وَثَبَتَ عِنْدَهُ وَجَبَ إِقَامَتُهُ وَالسَّعْيُ لِتَرْكِ وَاجِبٍ أَمْرٌ بِالْمُنْكَرِ،وَاسْتَظْهَرَ بَعْضُ.الْحَنَفِيَّةِ جَوَازَ الشَّفَاعَةِ عِنْدَ الرَّافِعِ لَهُ بَعْدَ وُصُولِهَا إِلَى الْحَاكِمِ وَقَبْل الثُّبُوتِ عِنْدَهُ .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ:وَكَذَلِكَ لاَ تَجُوزُ الشَّفَاعَةُ إِذَا بَلَغَ الْحَدُّ الشُّرَطَ وَالْحَرَسَ لأَِنَّ الشُّرَطَ وَالْحَرَسَ بِمَنْزِلَةِ الْحَاكِمِ (3) .أَمَّا قَبْل بُلُوغِهِ إِلَى مَنْ ذُكِرَ فَتَجُوزُ الشَّفَاعَةُ فِيهِ نفعَنِ الْفُرَافِصَةِ الْحَنَفِيِّ،قَالَ:مَرُّوا عَلَى الزُّبَيْرِ بِسَارِقٍ فَتَشَفَّعَ لَهُ،فَقَالُوا:أَتَشْفَعُ لِسَارِقٍ ؟ فَقَالَ:نَعَمْ،مَا لَمْ يُؤْتَ بِهِ إِلَى الإِمَامِ،فَإِذَا أُتِيَ بِهِ إِلَى الإِمَامِ،فَلاَ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ إِنْ عَفَا عَنْهُ. (4) ،قَال الْمَالِكِيَّةُ:إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمَشْفُوعُ فِيهِ مِنَ الأَْشْرَارِ الَّذِينَ مَرَدُوا عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي الَّتِي تُوجِبُ الْحَدَّ،فَلاَ يَجُوزُ الشَّفَاعَةُ فِيه (5) .
ب - الشَّفَاعَةُ فِي التَّعَازِيرِ:
أَمَّا التَّعَازِيرُ:فَيَجُوزُ فِيهَا الشَّفَاعَةُ بَلَغَتِ الْحَاكِمَ أَمْ لاَ،بَل يُسْتَحَبُّ .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3475 ) وصحيح مسلم- المكنز - (4505) وصحيح ابن حبان - (10 / 248) (4402)
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 387)(5385) صحيح
(3) - المدونة 6 / 271 .
(4) - مصنف ابن أبي شيبة - (9 / 464)(28657) صحيح
(5) - المصادر السابقة والقوانين الفقهية 349 ، 354 ، ومواهب الجليل 6 / 320 ، والشرح الصغير 4 / 489 .(1/142)
قَال الْمَالِكِيَّةُ:إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَشْفُوعُ لَهُ صَاحِبَ شَرٍّ (1) .
ج - الشَّفَاعَةُ إِلَى وُلاَةِ الأُْمُورِ :
الشَّفَاعَةُ إِلَى وُلاَةِ الأُْمُورِ إِنْ كَانَتْ فِي حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ فَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ (1) .
لِقَوْلِهِ تَعَالَى.{مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا} (85) سورة النساء.وَلِمَا فِي الصَّحِيحَ عَنْ أَبِي مُوسَى،قَالَ:كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،إِذَا أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ،أَقْبَلَ عَلَى جُلَسَائِهِ فَقَالَ:" اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا،وَلْيَقْضِ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا أَحَبَّ " (2)
أَخْذُ الْهَدِيَّةِ عَلَى الشَّفَاعَةِ :
إِنْ أَهْدَى الْمَشْفُوعُ لَهُ هَدِيَّةً لِمَنْ يَشْفَعُ لَهُ عِنْدَ السُّلْطَانِ،وَنَحْوِهِ مِنْ أَرْبَابِ الْوِلاَيَةِ فَإِنْ كَانَتِ الشَّفَاعَةُ لِطَلَبِ مَحْظُورٍ،أَوْ إِسْقَاطِ حَقٍّ أَوْ مَعُونَةٍ عَلَى ظُلْمٍ،أَوْ تَقْدِيمِهِ فِي وِلاَيَةٍ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ أَوْلَى بِهَا مِنْهُ،فَقَبُولُهَا حَرَامٌ بِالاِتِّفَاقِ،وَإِنْ كَانَتْ:لِرَفْعِ مَظْلَمَةٍ عَنِ الْمَشْفُوعِ لَهُ أَوْ إِيصَال حَقٍّ لَهُ أَوْ تَوْلِيَتِهِ وِلاَيَةً يَسْتَحِقُّهَا،فَإِنْ شَرَطَ الْهَدِيَّةَ عَلَى الْمَشْفُوعِ لَهُ فَقَبُولُهَا حَرَامٌ أَيْضًا.وَإِنْ قَال الْمَشْفُوعُ لَهُ:هَذِهِ الْهَدِيَّةُ جَزَاءُ شَفَاعَتِكَ فَقَبُولُهَا حَرَامٌ كَذَلِكَ.أَمَّا إِنْ لَمْ يَشْرِطِ الشَّافِعُ وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُهْدِي أَنَّهَا جَزَاءٌ فَإِنْ كَانَ يُهْدَى لَهُ قَبْل الشَّفَاعَةِ فَقَال الشَّافِعِيَّةُ:لاَ يُكْرَهُ لَهُ الْقَبُول،وَإِلاَّ كُرِهَ إِلاَّ أَنْ يُكَافِئَهُ عَلَيْهَا فَإِنْ كَافَأَهُ عَلَيْهَا لَمْ يُكْرَهْ (3) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ:لاَ يَجُوزُ لِلشَّافِعِ أَخْذُ هَدِيَّةٍ بِحَالٍ مِنَ الأَْحْوَال،لأَِنَّهَا كَالأُْجْرَةِ،وَالشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ مِنَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ فَيَحْرُمُ أَخْذُ شَيْءٍ فِي مُقَابِلِهَا.أَمَّا الْبَاذِل فَلَهُ أَنْ يَبْذُل فِي ذَلِكَ مَا يَتَوَصَّل بِهِ إِلَى حَقِّهِ.وَهُوَ الْمَنْقُول عَنِ السَّلَفِ وَالأَْئِمَّةِ (4) .
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - المصادر السابقة ، زرقاني 8 / 92 .
(2) - صَحِيحُ مُسْلِمٍ (صحيح مسلم- المكنز - (6858)
(3) - حاشية الرملي على روضة الطالب 4 / 300 .
(4) - مطالب أولي النهى 6 / 481 ، كشاف القناع 6 / 317 . وانظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (26 / 131)(1/143)
الحق الثامن عشر
يبدأ كل مسلم منهم بالسلام قبل الكلام ويصافحه عند السلام
فيقول:السلام عليكم ورحمة الله،ويصافحه،ويردُّ المسلم عليه قائلاً"وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،وذلك لقوله تعالى:{وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} (86) سورة النساء
وَإِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ،فَرُدُّوا السَّلاَمَ عَلَيْهِ بِأَفْضَلَ مِنْهُ،أَوْ رُدُّوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ ( فََإِذَا قَالَ لَكُمْ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ فَرُدُّوا عَلَيهِ قَائِلِينَ:وَعَلَيْكُمُ السَّلاَمَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ ).فَالزِّيَادَةُ مَنْدُوبَةٌ،وَالمُمَاثَلَةُ مَفْرُوضَةٌ . (1)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ بَدَأَ بِالسُّؤَالِ قَبْلَ السَّلامِ فَلا تُجِيبُوهُ " (2)
وعن عَمْرَو بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ صَفْوَانَ،أَنَّ كَلَدَةَ بْنَ الْحَنْبَلِ،أَخْبَرَهُ،أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ بَعَثَهُ فِي الْفَتْحِ بِلَبَنٍ وَجَدَايَةٍ وَضَغَابِيسَ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْوَادِي قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَلَمْ أُسَلِّمْ،وَلَمْ أَسْتَأْذِنْ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :"ارْجِعْ فَقُلِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ،أَأَدْخُلُ بَعْدَمَا أَسْلِمْ ؟" (3)
وعَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِى عَامِرٍ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَأَلِجُ؟ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لِخَادِمِة: "اخْرُجِى إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لاَ يُحْسِنُ الاسْتِئْذَانَ،فَقُولِى لَهُ: فَلْيَقُلِ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ. قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ ذَلِكَ فَقُلْتُ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟ قَالَ: فَأَذِنَ أَوْ قَالَ فَدَخَلْتُ. فَقُلْتُ: بِمَا أَتَيْتَنَا؟ قَالَ: "لَمْ آتِكُمْ إِلاَّ بِخَيْرٍ أَتَيْتُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ،وَأَنْ تَدَعُوا اللاتَ وَالْعُزَّى،وَأَنْ تُصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ،وَأَنْ تَصُومُوا مِنَ السَّنَةِ شَهْرًا،وَأَنْ تَحُجُّوا الْبَيْتَ،وَأَنْ تَأْخُذُوا مِنْ مَالِ أَغْنِيَائِكُمْ فَتَرُدُّوهَا عَلَى فُقَرَائِكُمْ،قَالَ: فَهَلْ بَقِىَ مِنَ الْعِلْمِ شَىْءٌ لا يَعْلَمُهُ إِلاَّ اللَّهُ؟ قَالَ: قَدْ عَلِمَ اللَّهُ خَيْرًا كثيرًا وَإِنَّ مِنَ الْعِلْمِ مَا
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 579)
(2) - المعجم الأوسط للطبراني - (436 ) والمعجم الكبير للطبراني - (11 / 157)(207) والصحيحة ( 816 ) وصحيح الجامع ( 3699 ) حسن
(3) - شعب الإيمان - (11 / 214) (8428 ) صحيح(1/144)
لايَعْلَمُهُ إلاَّ الله عز وجل الخمس {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِى الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ بِأَىِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. (1)
وعن ثَابِت مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِى وَالْمَاشِى عَلَى الْقَاعِدِ وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ ». (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،فِي قَوْلِهِ: { إِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ }،[ص:228] يَقُولُ:"إِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتَكُمْ فَسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا،تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَهُوَ السَّلَامُ لِأَنَّهُ اسْمُ اللهِ،وَهُوَ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ " (3)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :"يَا أَنَسُ،أَسْبِغِ الْوُضُوءَ يُزَدْ فِي عُمُرِكَ،وَصَلِّ الضُّحَى فَإِنَّهَا صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ قَبْلَكَ،وَسَلِّمْ عَلَى مَنْ لَقِيتَ مِنْ أُمَّتِي تَكْثُرْ حَسَنَاتُكَ،وَارْحَمِ الصَّغِيرَ تُرَافِقْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ " (4)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو،أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ ؟ قَالَ:تُطْعِمُ الطَّعَامَ،وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ،وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ. (5)
وعَنِ الْبَرَاءِ،قَالَ:لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصَافَحَنِي فَقُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ هَذَا مِنْ زِيِّ الْعَجَمِ،قَالَ:" نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُصَافَحَةِ مِنْهُمْ مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ الْتَقَيَا فَتَصَافَحَا إِلَّا تَسَاقَطَتْ ذُنُوبُهُمَا بَيْنَهُمَا" (6)
وعَنْ أَبِي دَاوُدَ،قَالَ:دَخَلْتُ عَلَى الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ فَقَالَ:سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:" مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَلْقَى أَخَاهُ فَيُصَافِحُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ إِلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا" (7)
__________
(1) - غاية المقصد فى زوائد المسند 1 - (1 / 21) (34 ) صحيح
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (5772 )
(3) - شعب الإيمان - (11 / 228) (8449 ) حسن
(4) - شعب الإيمان - (11 / 191) (8387 ) حسن لغيره
(5) - صحيح مسلم- المكنز - (169 ) وصحيح ابن حبان - (2 / 258)(505)
(6) - الْإِخْوَانُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (108 ) حسن
(7) - الْإِخْوَانُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا(109 ) حسن لغيره(1/145)
وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ،قَالَ:قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :" إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ وَتَصَافَحَا وَحَمِدَا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَاهُ غُفِرَ لَهُمَا" (1)
وعَنْ رَجُلٍ،مِنْ عَنْزةَ،أَنَّهُ قَالَ لأَبِي ذَرٍّ حِينَ سُيِّرَ مِنَ الشَّامِ،قَالَ:إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - .قَالَ:إِذَنْ أُخْبِرَكَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ سِرًّا.فَقُلْتُ:إِنَّهُ لَيْسَ بِسِرٍّ،هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَافِحُكُمْ إِذَا لَقِيتُمُوهُ ؟ فَقَالَ:مَا لَقِيتُهُ قَطُّ إِلاَّ صَافَحَنِي،وَبَعَثَ إِلَيَّ يَوْمًا وَلَسْتُ فِي الْبَيْتِ،فَلَمَّا جِئْتُ أُخْبِرْتُ بِرَسُولِهِ فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ عَلَى سَرِيرٍ لَهُ،فَالْتَزَمَنِي،فَكَانَتْ أَجْوَدَ وَأَجْوَدَ." (2)
وعَنْ مُعَاذٍ،قَالَ:إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ فَضَحِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي وَجْهِ صَاحِبِهِ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ تَحَاتَّتْ ذُنُوبُهُمَا كَمَا يَتَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ " (3)
وعن مُجَاهِدُ بْنُ جَبْرٍ،قَالَ:" إِذَا تَوَاخَا الْمُتَحَابَّانِ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَمَشَى أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَضَحِكَ إِلَيْهِ تَحَاتَّتْ خَطَايَاهُمَا كَمَا يَتَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ "،قُلْتُ:إِنَّ هَذَا لَيَسِيرٌ قَالَ:" لَا تَقُلْ ذَلِكَ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لِنَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَوْ أَنْفَقَتْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمُ الْآيَةَ" (4)
وعَنِ الشَّعْبِيِّ،قَالَ:" كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا الْتَقَوْا تَصَافَحُوا" (5)
فالسلام أدل أسباب التآلف ومفتاح استجلاب المودة،وفي إنشائه تكمن ألفة المسلمين بعضهم لبعض،وإظهار شعارهم المميز لهم من غيرهم من أهل الملل،مع ما فيه من رياضة النفس ولزوم التواضع وإعظام حرمات المسلمين .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلاَ النَّصَارَى بِالسَّلاَمِ فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِى طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ ». (6)
__________
(1) - الْإِخْوَانُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (110 ) ومسند الروياني - (418) حسن
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 199)(21476) 21808-فيه مبهم
(3) - الْإِخْوَانُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (112 ) ضعيف
(4) - الْإِخْوَانُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (113 ) صحيح مرسل
(5) - الْإِخْوَانُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (116 ) صحيح
(6) - وصحيح مسلم- المكنز - (5789 )(1/146)
وعَنْ عَائِشَةَ،قَالَتْ:دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالُوا:السَّامُ عَلَيْكُمْ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :عَلَيْكُمْ،قَالَتْ عَائِشَةُ:فَفَهِمْتُهَا،فَقُلْتُ:عَلَيْكُمُ السَّامُ واللَّعْنَةُ،قَالَتْ:فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَهْلا يَا عَائِشَةُ،إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ،قَالَتْ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :فَقَدْ قُلْتُ:عَلَيْكُمْ " (1)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بِغَيْرِنَا لاَ تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَلاَ بِالنَّصَارَى فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْيَهُودِ الإِشَارَةُ بِالأَصَابِعِ وَتَسْلِيمَ النَّصَارَى الإِشَارَةُ بِالأَكُفِّ ». (2)
ولا بأس بقبلة يد المعظم في الدين تبركاً به وتوقيراً له. فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَبَّلْنَا يَدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - . (3)
وعن هُوَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ مَرْثَدَ الْعَبْدِيَّ يَقُولُ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَ أَشَجُّ عَبْدُ الْقَيْسِ يَمْشِي حَتَّى أَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَبَّلَهَا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" فِيكَ خَصْلَتَانِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:التُّؤَدَةُ وَالْأَنَاةُ"قَالَ مَرْثَدٌ وَوَفَدْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَبَدَرْتُهُ فَقَبَّلْتُ يَدَهُ" (4)
وعن هُودَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ،عَنْ جَدِّهِ مَزْيَدَةَ،قَالَ:" كُنْتُ فِي الْوَفْدِ الَّذِينَ وَفَدُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَبَّلْتُ يَدَهُ" (5)
وعن طَلْحَةَ،قَالَ:عُدْتُ خَيْثَمَةَ وَكَانَ أَعْجَبَ أَهْلِ الْكُوفَةِ إِلَيَّ إِبْرَاهِيمَ وَخَيْثَمَةَ،فَقَامُوا وَقُمْتُ،فَقَالَ:وَأَنْتَ أَيْضًا فَأَخَذَ يَدِي فَقَبَّلَهَا فَقَبَّلْتُ يَدَهُ فَقَالَ مَالِكٌ:وَفَعَلَهُ بِي طَلْحَةُ وَفَعَلْتُهُ بِهِ " (6)
__________
(1) - مصنف عبد الرزاق (9840) صحيح
(2) - سنن الترمذى- المكنز - (2911 ) حسن
(3) - سنن ابن ماجه- المكنز - (11 / 255)(3835 ) حسن
(4) - مُعْجَمُ الصِّحَابِةِ لِابْنِ قَانِعٍ(1615 ) حسن
(5) - طَبَقَاتُ الْمُحَدِّثِينَ بِأَصْبَهَانَ لِأَبِي الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيِّ (773 ) حسن
(6) - الطَّبَقَاتُ الْكُبْرَى لِابْنِ سَعْدٍ ( 7879 ) صحيح(1/147)
وعَنْ طَلْحَةَ،قَالَ:دَخَلْتُ عَلَى خَيْثَمَةَ أَعُودُهُ فِي نَفَرٍ أَوْ قَوْمٍ فَلَمَّا قَامُوا ذَهَبْتُ أَقُومُ فَقَالَ:وَأَنْتَ،فَأَخَذَ بِيَدِي فَقَبَّلَهَا فَقَبَّلْتُ يَدَهُ،قَالَ مَالِكٌ:وَدَخَلْتُ عَلَى طَلْحَةَ أَعُودُهُ فَفَعَلَ بِي وَفَعَلْتُ بِهِ " (1)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ،عَنْ أَبِيهِ قَالَ:" لَمَّا نَزَلَتْ تَوْبَتِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَبَّلْتُ يَدَهُ وَرُكْبَتَيْهِ" (2)
وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ:" قُمْنَا إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَبَّلْنَا يَدَهُ" (3)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،أَنَّهُ قَبَّلَ يَدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - " (4)
وعَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ أَنْ يَهُودِيًّا قَالَ لِصَاحِبِهِ:اذْهَبْ بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:فَقَبَّلَا يَدَهُ وَرِجْلَهُ وَقَالَا:نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " (5)
وقال الحافظ في الفتح:"وقَد جَمَعَ الحافِظ أَبُو بَكر بن المُقرِي جُزءًا فِي تَقبِيل اليَد سَمِعناهُ ،أَورَدَ فِيهِ أَحادِيث كَثِيرَة وآثارًا،فَمِن جَيِّدها حَدِيث الزّارِع العَبدِيّ وكانَ فِي وفد عَبد القَيس قالَ:"فَجَعَلنا نَتَبادَر مِن رَواحِلنا فَنُقَبِّل يَد النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ورِجله"أَخرَجَهُ أَبُو داوُدَ،ومِن حَدِيث مَزِيدَة العَصَرِيّ مِثله،ومِن حَدِيث أُسامَة بن شَرِيك قالَ:"قُمنا إِلَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَبَّلنا يَده"وسَنَده قَوِيّ ومِن حَدِيث جابِر"أَنَّ عُمَر قامَ إِلَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَبَّلَ يَده"ومِن حَدِيث بُرَيدَةَ فِي قِصَّة الأَعرابِيّ والشَّجَرَة فَقالَ:"يا رَسُول الله ائذَن لِي أَن أُقَبِّل رَأَسَك ورِجلَيك فَأَذِنَ لَهُ".
وأَخرَجَ البُخارِيّ فِي "الأَدَب المُفرَد" مِن رِوايَة عَبد الرَّحمَن بن رَزِين قالَ:"أَخرَجَ لَنا سَلَمَة بن الأَكوع كَفًّا لَهُ ضَخمَة كَأَنَّها كَفّ بَعِير فَقُمنا إِلَيها فَقَبَّلناها"وعَن ثابِت أَنَّهُ قَبَّلَ يَد أَنَس،وأَخرَجَ أَيضًا أَنَّ عَلِيًّا قَبَّلَ يَد العَبّاس ورِجله.وأَخرَجَهُ ابن المُقرِي.
__________
(1) - الطَّبَقَاتُ الْكُبْرَى لِابْنِ سَعْدٍ (7950 ) صحيح
(2) - الرُّخْصَةُ فِي تَقْبِيلِ الْيَدِ لِمُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُقْرِئِ (1 ) وفتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار المعرفة - (8 / 122) حسن لغيره
(3) - الرُّخْصَةُ فِي تَقْبِيلِ الْيَدِ لِمُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُقْرِئِ (2 ) حسن
(4) - الرُّخْصَةُ فِي تَقْبِيلِ الْيَدِ لِمُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُقْرِئِ ( 3 ) حسن
(5) - الرُّخْصَةُ فِي تَقْبِيلِ الْيَدِ لِمُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُقْرِئِ (4 ) حسن(1/148)
وأَخرَجَ مِن طَرِيق أَبِي مالِك الأَشجَعِي قالَ:قُلت لابنِ أَبِي أَوفَى ناوِلنِي يَدك الَّتِي بايَعت بِها رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَناولَنِيها فَقَبَّلتها.قالَ النَّووِيّ:تَقبِيل يَد الرَّجُل لِزُهدِهِ وصَلاحه أَو عِلمه أَو شَرَفه أَو صِيانَته أَو نَحو ذَلِكَ مِنَ الأُمُور الدِّينِيَّة لا يُكرَه بَل يُستَحَبّ،فَإِن كانَ لِغِناهُ أَو شَوكَته أَو جاهه عِند أَهل الدُّنيا فَمَكرُوه شَدِيد الكَراهَة وقالَ أَبُو سَعِيد المُتَولِّي:لا يَجُوز ." (1)
وقَد ورَدَ فِي المُعانَقَة أَيضًا حَدِيث أَبِي ذَرّ أَخرَجَهُ أَحمَد وأَبُو داوُد عَنْ رَجُلٍ،مِنْ عَنْزةَ،أَنَّهُ قَالَ لأَبِي ذَرٍّ حِينَ سُيِّرَ مِنَ الشَّامِ،قَالَ:إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ حَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - .قَالَ:إِذَنْ أُخْبِرَكَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ سِرًّا.فَقُلْتُ:إِنَّهُ لَيْسَ بِسِرٍّ،هَلْ كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَافِحُكُمْ إِذَا لَقِيتُمُوهُ ؟ فَقَالَ:مَا لَقِيتُهُ قَطُّ إِلاَّ صَافَحَنِي،وَبَعَثَ إِلَيَّ يَوْمًا وَلَسْتُ فِي الْبَيْتِ،فَلَمَّا جِئْتُ أُخْبِرْتُ بِرَسُولِهِ فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ عَلَى سَرِيرٍ لَهُ،فَالْتَزَمَنِي،فَكَانَتْ أَجْوَدَ وَأَجْوَدَ." ورِجاله ثِقات،إِلاَّ هَذا الرَّجُل المُبهَم. (2)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،عَنْ نَبِيِّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ الْتَقَيَا،فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا بِيَدِ صَاحِبِهِ،إِلاَّ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يَحْضُرَ دُعَاءَهُمَا،وَلاَ يُفَرِّقَ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا حَتَّى يَغْفِرَ لَهُمَا." (3)
وعَنْ أَبِي دَاوُدَ،قَالَ:لَقِيتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَأَخَذَ بِيَدِي فَقَالَ:تَدْرِي لِمَ أَخَذْتُ بِيَدِكَ قُلْتُ:لاَ،وَلَكِنِّي أَظُنُّهُ لَخَيْرٍ فَقَالَ:أَخَذَ بِيَدِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:إِنَّ الْمُتَحَابَيْنَ فِي اللَّهِ إِذَا لَقِيَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا بِيَدِ صَاحِبِهِ لَمْ يَتَتَارَكَا حَتَّى يُغْفَرَ لَهُمَا " (4)
__________
(1) - فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار المعرفة - (11 / 57)
(2) - سنن أبي داود - المكنز - (5216) ومسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 199)(21476) 21808- حسن لغيره
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 368)(12451) 12478- صحيح لغيره
(4) - مسند الشاميين 360 - (1 / 358)(617) ضعيف(1/149)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ الْتَقَيَا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا بَيَدِ صَاحِبِهِ إِلا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُجِيبَ دُعَاءَهُمَا وَلا يَرُدَّ أَيْدِيَهُمَا حَتَّى يَغْفِرَ لَهُمَا " (1)
وَعَنْ أَنَسٍ قال:كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا تَلَاقَوْا تَصَافَحُوا،وَإِذَا قَدِمُوا مِنْ سَفَرٍ تَعَانَقُوا.رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (2)
وعَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَانُوا،إِذَا الْتَقَوْا،تَصَافَحُوا،وَإِذَا قَدِمُوا مِنْ سَفَرٍ،تَعَانَقُوا " (3)
وعَنْ جُنْدُبٍ،قَالَ:كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :إِذَا لَقِيَ أَصْحَابَهُ لَمْ يُصَافِحْهُمْ حَتَّى يُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ." (4)
قالَ ابن بَطّال:اختَلَفَ النّاس فِي المُعانَقَة،فَكَرِهَها مالِك،وأَجازَها ابن عُيَينَةَ .
وعَن الشَّعبِيّ"أَنَّ جَعفَرًا لَمّا قَدِمَ تَلَقّاهُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَبَّلَ جَعفَرًا بَين عَينَيهِ". (5)
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَدِمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى بَيْتِى فَأَتَاهُ فَقَرَعَ الْبَابَ فَقَامَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عُرْيَانًا يَجُرُّ ثَوْبَهُ (6) وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ عُرْيَانًا قَبْلَهُ وَلاَ بَعْدَهُ فَاعْتَنَقَهُ وَقَبَّلَهُ. (7)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - مسند أبي يعلى الموصلي(4139) حسن لغيره
(2) - المعجم الأوسط للطبراني - (97 ) حسن
(3) - شرح معاني الآثار - (4 / 281)(6906 ) حسن
(4) - المعجم الكبير للطبراني - (2 / 241) (1700) حسن لغيره
(5) - فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار المعرفة - (11 / 59) حسن مرسل
(6) - قَالَ فِي الْمَفَاتِيحِ : تُرِيدُ أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ سَاتِرًا مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ وَلَكِنْ سَقَطَ رِدَاءَهُ عَنْ عَاتِقِهِ فَكَانَ مَا فَوْقَ سُرَّتِهِ عُرْيَانًا " .تحفة الأحوذي - (7 / 37)
(7) - سنن الترمذى- المكنز - (2951 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ(1/150)
الحق التاسع عشر
الأخذ بالركاب في توقير العلماء
عَنْ أَبِى سَلَمَةَ:أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخَذَ بِرِكَابِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَقَالَ لَهُ:تَنَحَّ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:إِنَّا هَكَذَا نَفْعَلُ بِكُبَرَائِنَا وَعُلَمَائِنَا. (1)
وعَنِ الشَّعْبِيِّ،قَالَ:أَمْسَكَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِرِكَابِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فَقَالَ:أَتَمْسِكُ لِي وَأَنْتَ ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟،قَالَ:إِنَّا هَكَذَا نَصْنَعُ بِالْعُلَمَاءِ" (2)
وعن سَلَّامَ بْنِ أَبِي مُطِيعٍ،حَدَّثَنِي أَصْحَابِي،أَنَّ أَيُّوبَ،أَخَذَ لِي بِالرِّكَابِ فَقُلْتُ لَهُ:فِي ذَلِكَ ؟ فَقَالَ:زَعَمَ مُجَاهِدٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَخَذَ لَهُ بِالرِّكَابِ " (3)
وعن عَمْرو بْنِ خَالِدٍ الْحَرَّانِيِّ،قَالَ:قُلْتُ للَّيْثِ:يَا أَبَا الْحَارِثِ بَلَغَنِي أَنَّكَ أَخَذْتَ بِرِكَابِ الزُّهْرِيِّ فَقَالَ:لِلْعِلْمِ،فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ فَلَا،وَاللَّهِ مَا أَخَذْتُ بِرِكَابِ وَالِدِي الَّذِي وَلَدَنِي " (4)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،قَالَ:لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قُلْتُ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ:هَلُمَّ فَلْنَسْأَلْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّهُمُ الْيَوْمَ كَثِيرٌ،فَقَالَ:وَاعَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ أَتَرَى النَّاسَ يَفْتَقِرُونَ إِلَيْكَ وَفِي النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ فِيهِمْ ؟ قَالَ:فَتَرَكَ ذَلِكَ وَأَقْبَلْتُ أَسْأَلُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِنْ كَانَ يَبْلُغُنِي الْحَدِيثُ عَنِ الرَّجُلِ فَآتِي بَابَهُ وَهُوَ قَائِلٌ فَأَتَوَسَّدُ رِدَائِي عَلَى بَابِهِ تَسْفِي الرِّيحُ عَلَيَّ مِنَ التُّرَابِ فَيَخْرُجُ فَيَرَانِي فَيَقُولُ:يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا جَاءَ بِكَ ؟ هَلَّا أَرْسَلْتَ إِلَيَّ فَآتِيَكَ،فَأَقُولَ:لَا أَنَا أَحَقُّ أَنْ آتِيَكَ،قَالَ:فَأَسْأَلَهُ عَنِ الْحَدِيثِ فَعَاشَ هَذَا الرَّجُلُ الْأَنْصَارِيُّ حَتَّى رَآنِي وَقَدِ اجْتَمَعَ النَّاسُ حَوْلِي يَسْأَلُونَنِي فَيَقُولُ:هَذَا الْفَتَى كَانَ أَعْقَلُ مِنِّي " (5)
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (6 / 211)(12558) صحيح
(2) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ (550 ) صحيح
(3) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ (551 ) فيه جهالة
(4) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ (552 ) صحيح
(5) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ (553 ) صحيح(1/151)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،قَالَ:وَجَدْتُ عَامَّةَ عِلْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَنْصَارِ فَإِنْ كُنْتُ لَآتِي بَابَ أَحَدِهِمْ فَأَقْيلُ بَابَهُ وَلَوْ شِئْتُ أَنْ يُؤْذَنَ لِي عَلَيْهِ لَآذَنَ لِي بِقَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَلَكِنِّي كُنْتُ أَبْتَغِي بِذَلِكَ طِيبَ نَفْسِهِ " (1)
وعن مَعْمَرَ،قَالَ:وَسَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ،يَقُولُ:إِنِّي كُنْتُ لَآتِي بَابَ عُرْوَةَ فَأَجْلَسُ ثُمَّ أَنْصَرِفُ وَلَا أَدْخُلُ وَلَوْ شِئْتَ أَنْ أَدْخُلَ لَدَخَلْتُ إِعْظَامًا لَهُ " (2)
وعَنْ مُغِيرَةَ،قَالَ:كُنَّا نَهَابُ إِبْرَاهِيمَ كَمَا يُهَابُ الْأَمِيرُ " (3)
وعن مُحَمَّدَ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ حَبِيبٍ الْعَبْدِيِّ،قَالَ:سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ:كُنَّا نَأْتِي مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ نَجْلِسُ فِي دِهْلِيزَ لَهُ وَعَلَيْهِ مِصْرَاعَانِ فَتَجِيءُ هَاشِمٌ فَتَجْلِسُ،وَتَجِيءُ قُرَيْشٌ فَتَجْلِسُ عَلَى مَنَازِلْهَا،ثُمَّ نَجِيءُ نَحْنُ فَنَجْلِسُ وَتَخْرُجُ جَارِيَةٌ لَهُ بِالْمَرَاوِحِ فَيَأْخُذُ النَّاسُ يَتَرَوَّحُونَ فَيَقُولُ الشَّيْخُ بِالْمِصْرَاعِ فَيفْتَحُهُ فَيَخْرُجُ فَيَنْظُرُ إِلَى قُرَيْشٍ كَأَنَّمَا عَلَى رُءُوسِهَا الطَّيْرُ إِذَا نَظَرُوا إِلَيْهِ إِجْلَالًا،قَالَ:وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ الشَّاعِرُ :
يَأْبَى الْجَوَابَ فَمَا يُرَاجَعُ هَيْبَةً وَالسَّائِلُونَ نَوَاكِسُ الْأَذْقَانِ
أَدَبُ الْوَقَارِ وَعَزُّ سُلْطَانِ التُّقَى فَهُوَ الْأَمِيرُ وَلَيْسَ ذَا سُلْطَانٍ (4)
وعن أبي عَاصِمٍ ،قال:سَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ،وَقَدْ حَضَرَ مَجْلِسَهُ شَابٌّ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ،وَهُوَ يتَرَأَّسُ،وَيَتَكَلَّمُ،وَيَتَكَبَّرُ بِالْعِلْمِ عَلَى مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ،قَالَ:فَغَضِبَ سُفْيَانُ وَقَالَ:لَمْ يَكُنِ السَّلَفُ هَكَذَا كَانَ أَحَدُهُمْ لَا يَدَّعِي الْإِمَامَةَ،وَلَا يَجْلِسُ فِي الصَّدْرِ حَتَّى يُطْلَبَ هَذَا الْعِلْمَ ثَلَاثِينَ سَنَةً،وَأَنْتَ تَتَكَبَّرُ عَلَى مَنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْكَ،قُمْ عَنِّي وَلَا أَرَاكَ تَدْنُو مِنْ مَجْلِسِي " (5)
قَالَ:وَسَمِعْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ،يَقُولُ:" إِذَا رَأَيْتُ الشَّابَّ يَتَكَلَّمُ عِنْدَ الْمَشَايَخِ وَإِنْ كَانَ قَدْ بَلَغَ مِنَ الْعِلْمِ مُبْلَغًا فَآيِسْ مِنْ خَيْرِهِ فَإِنَّهُ قَلِيلُ الْحَيَاءِ " (6)
__________
(1) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ (554 ) حسن
(2) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ (555) صحيح
(3) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ (557 ) صحيح
(4) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ( 558 )
(5) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ (559 )
(6) - الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ (560 )(1/152)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ:كُنَّا إِذَا قَعَدْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ نَرْفَعْ رُءُوسَنَا إِلَيْهِ إِعْظَامًا لَهُ " (1)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - المستدرك للحاكم (415) صحيح(1/153)
الحق العشرون
القيام له على سبيل الإكرام
وردت أحاديث تنهى عن ذلك :
عَنْ أَنَسٍ قَالَ:مَا كَانَ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ. (1)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:مَا كَانَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ شَخْصًا مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،كَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لاَ يَقُومُ لَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ،لِمَا يَعْلَمُونَ مِنْ كَرَاهِيَتِهِ لِذَلِكَ. (2)
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ:أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،يَتَوَكَّأُ عَلَى عُودٍ مِنْ سَلَمٍ،فَلَمَّا رَأَيْنَاهُ قُمْنَا،فَقَالَ:" إِذَا رَأَيْتُمُونِي فَلَا تَقُومُوا كَمَا يَصْنَعُ الْأَعَاجِمُ،تُعَظِّمُ عُظَمَاءَهَا ".قَالَ:فَأَحْبَبْنَا أَنْ يَدْعُوَ لَنَا،فَقَالَ:" اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا،وَارْحَمْنَا،وَعَافِنَا،وَارْضَ عَنَّا،وَتَقَبَّلْ مِنَّا،وَأَدْخِلْنَا الْجَنَّةَ،وَنَجِّنَا مِنَ النَّارِ،وَأَصْلِحْ لَنَا سَيِّئَاتِنَا ".قَالَ:وَأَحْبَبْنَا أَنْ يَزِيدَ،فَقَالَ:" أَوَ بَقِيَ شَيْءٌ ؟" (3)
وعَنْ أَبِي مِجْلَزٍ،قَالَ:خَرَجَ مُعَاوِيَةُ،فَقَامُوا لَهُ،فَقَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا،فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ. (4)
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ،قَالَ:دَخَلَ عَلَيْنَا أَبُو بَكَرَةَ فِي شَهَادَةٍ،فَقَامَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ مَجْلِسِهِ،فَقَالَ أَبُو بَكَرَةَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :لاَ يُقِمِ الرَّجُلَ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ،ثُمَّ يَقْعُدُ فِيهِ،أَوْ قَالَ:إِذَا أَقَامَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ فَلاَ يَجْلِسْ فِيهِ،وَلاَ يَمْسَحِ الرَّجُلُ يَدَهُ بِثَوْبِ مَنْ لاَ يَمْلِكُ. (5)
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 341)(12345) 12370- صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 346)(12370) 12397- صحيح
(3) - مَسَاوِئُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ (788 ) ضعيف
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 775)(16918) 17042- صحيح
مَثُل : قام منتصبًا - فليتبوأ مقعده من النار : فليتخذ لنفسه منزلا فيها ، وهو أمر بمعنى الخبر أو بمعنى التهديد أو بمعنى التهكم أو دعاء على فاعل ذلك أي بوَّأهُ اللَّه ذلك
(5) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 844)(20486) 20760- حسن لغيره(1/154)
وقد ورد الجواز:
فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ - هُوَ ابْنُ مُعَاذٍ - بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ،فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ،فَلَمَّا دَنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ ».فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُ « إِنَّ هَؤُلاَءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ ».قَالَ فَإِنِّى أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ،وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ.قَالَ « لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ » (1) .
وعَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رضى الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشْبَهَ سَمْتًا وَهَدْيًا وَدَلاًّ - بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ فَاطِمَةَ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهَا كَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَامَ إِلَيْهَا فَأَخَذَ بِيَدِهَا وَقَبَّلَهَا وَأَجْلَسَهَا فِى مَجْلِسِهِ وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا قَامَتْ إِلَيْهِ فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ فَقَبَّلَتْهُ وَأَجْلَسَتْهُ فِى مَجْلِسِهَا. (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ: كُنَّا نَقْعُدُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْغَدَوَاتِ فَإِذَا قَامَ إِلَى بَيْتِهِ لَمْ نَزَلْ قِيَامًا حَتَّى يَدْخُلَ بَيْتَهُ " (3)
قال الطحاوي:فَقَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ تَقْبَلُونَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ،وَأَنْتُمْ تَرْوُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا يُخَالِفُهَا،عَبْدُ اللهِ بْنُ بُرَيْدَةَ،قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ،يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْتَجِمَّ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ"
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ عِنْدَنَا غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْأَحَادِيثِ الْأُوَلِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا فِي هَذَا الْبَابِ ; لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الْأُوَلَ الَّتِي رَوَيْنَاهَا فِي هَذَا الْبَابِ فِيهَا إطْلَاقُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قِيَامَ الرِّجَالِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ بِاخْتِيَارِ الْقَائِمِينَ لِذَلِكَ لَا بِذِكْرِ مَحَبَّةِ الَّذِينَ قَامُوا لَهُمْ إِيَّاهُ مِنْهُمْ،وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ الْمَحَبَّةُ مِنَ الَّذِي يُقَامُ لَهُ لِذَلِكَ مِمَّنْ يَقُومُهُ لَهُ،فَتَصْحِيحُ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ أَنْ تَكُونَ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3043 )
(2) - سنن أبي داود - المكنز - (5219) صحيح
(3) - شرح مشكل الآثار - (3 / 154)(1124) حسن(1/155)
الْأَحَادِيثُ الْأُوَلُ عَلَى مَا لَا مَحَبَّةَ فِيهِ لِمَنْ يُقَامُ لَهُ،وَهَذَا الْحَدِيثُ عَلَى الْمَحَبَّةِ لِمَنْ يُقَامُ لَهُ بِذَلِكَ الْقِيَامِ،فَبَانَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ جِنْسٍ مِنْ هَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ مُحْتَمِلٌ لِمَا حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ مِمَّا ذَكَرْنَا،فَلَمْ يَبِنْ بِحَمْدِ اللهِ وَنِعْمَتِهِ تَضَادٌّ لِجِنْسٍ مِنْ هَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ لِلْجِنْسِ الْآخَرِ مِنْهُمَا،وعَنْ أَنَسٍ،قَالَ:"لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لَهُ لِمَا يَعْلَمُوا مِنْ كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ"قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَكَانَ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَدْ دَلَّ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّمَا كَانُوا يَتْرُكُونَ الْقِيَامَ لَهُ - صلى الله عليه وسلم - لِعِلْمِهِمْ بِكَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ مِنْهُمْ وَفِي ذَلِكَ مَا قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْلَا كَرَاهَتُهُ لِذَلِكَ مِنْهُمْ لَقَامُوا لَهُ وَقَدْ تَكُونُ كَرَاهَتُهُ لِذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّوَاضُعِ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - لِذَلِكَ ; لَا لِأَنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ لَهُ،وَكَيْفَ يُظَنُّ أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ وَقَدْ أَمَرَهُمْ بِالْقِيَامِ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَقَامَ بِمَحْضَرِهِ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ إِلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عِنْدَ نُزُولِ تَوْبَتِهِ مُهَنِّئًا لَهُ بِذَلِكَ فَلَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ
وعَنْ أَبِي مِجْلَزٍ،قَالَ: دَخَلَ مُعَاوِيَةُ بَيْتًا فِيهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَامِرٍ فَقَامَ ابْنُ عَامِرٍ وَثَبَتَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَكَانَ أَوْزَنَهُمَا،فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: اجْلِسْ يَا ابْنَ عَامِرٍ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:"مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ"فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّ الْمَكْرُوهَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ هُوَ الْمَحَبَّةُ مِنْ بَعْضِ الرِّجَالِ لِذَلِكَ مِنْ بَعْضٍ،وَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْمَحَبَّةُ مِنَ الْقِيَامِ إِلَيْهِمْ،وَقَدْ تَكُونُ بِلَا قِيَامٍ إِلَيْهِمْ،فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هِيَ لِلْمَحَبَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا لِلْقِيَامِ الَّذِي لَا مَحَبَّةَ مَعَهُ " (1)
الْقِيَامُ لِلْقَادِمِ وَالْوَالِدِ وَالْحَاكِمِ وَالْعَالِمِ وَأَشْرَافِ الْقَوْمِ (2) :
وَرَدَ النَّهْيُ عَنِ الْقِيَامِ لِلْقَادِمِ إِذَا كَانَ بِقَصْدِ الْمُبَاهَاةِ وَالسُّمْعَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ ،وَثَبَتَ جَوَازُ الْقِيَامِ لِلْقَادِمِ إِذَا كَانَ بِقَصْدِ إِكْرَامِ أَهْل الْفَضْل،قَال النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ صَحِيحِ مُسْلِمٍ (3) مُعَلِّقًا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ ( حديث سعد): فِيهِ إِكْرَامُ أَهْل الْفَضْل،وَتَلَقِّيهِمْ بِالْقِيَامِ
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (3 / 154)(1125 )
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (34 / 114)
(3) - شرح مسلم 12 / 93 .(1/156)
لَهُمْ،إِذَا أَقْبَلُوا،وَاحْتَجَّ بِهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ لاِسْتِحْبَابِ الْقِيَامِ،قَال الْقَاضِي عِيَاضٌ:وَلَيْسَ هَذَا مِنَ الْقِيَامِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ،وَإِنَّمَا ذَلِكَ فِيمَنْ يَقُومُونَ عَلَيْهِ،وَهُوَ جَالِسٌ،وَيَمْثُلُونَ قِيَامًا طِوَال جُلُوسِهِ،وَأَضَافَ النَّوَوِيُّ:قُلْتُ:الْقِيَامُ لِلْقَادِمِ مِنْ أَهْل الْفَضْل مُسْتَحَبٌّ،وَقَدْ جَاءَ فِيهِ أَحَادِيثُ،وَلَمْ يَصِحَّ فِي النَّهْيِ عَنْهُ شَيْءٌ صَرِيحٌ .
وَيُسْتَحَبُّ الْقِيَامُ لأَِهْل الْفَضْل كَالْوَالِدِ وَالْحَاكِمِ؛لأَِنَّ احْتِرَامَ هَؤُلاَءِ مَطْلُوبٌ شَرْعًا وَأَدَبًا .
وَقَال الشَّيْخُ وَجِيهُ الدِّينِ أَبُو الْمَعَالِي فِي شَرْحِ الْهِدَايَةِ:وَإِكْرَامُ الْعُلَمَاءِ وَأَشْرَافِ الْقَوْمِ بِالْقِيَامِ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ (1) .
وَنَقَل ابْنُ الْحَاجِّ عَنِ ابْنِ رُشْدٍ - فِي الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيل - أَنَّ الْقِيَامَ يَكُونُ عَلَى أَوْجُهٍ :
الأَْوَّل:يَكُونُ الْقِيَامُ مَحْظُورًا،وَهُوَ أَنْ يَقُومَ إِكْبَارًا وَتَعْظِيمًا لِمَنْ يُحِبُّ أَنْ يُقَامَ إِلَيْهِ تَكَبُّرًا وَتَجَبُّرًا .
الثَّانِي:يَكُونُ مَكْرُوهًا،وَهُوَ قِيَامُهُ إِكْبَارًا وَتَعْظِيمًا وَإِجْلاَلاً لِمَنْ لاَ يُحِبُّ أَنْ يُقَامَ إِلَيْهِ،وَلاَ يَتَكَبَّرُ عَلَى الْقَائِمِينَ إِلَيْهِ .
الثَّالِثِ:يَكُونُ جَائِزًا،وَهُوَ أَنْ يَقُومَ تَجِلَّةً وَإِكْبَارًا لِمَنْ لاَ يُرِيدُ ذَلِكَ،وَلاَ يُشْبِهُ حَالُهُ حَال الْجَبَابِرَةِ،وَيُؤْمَنُ أَنْ تَتَغَيَّرَ نَفْسُ الْمَقُومِ إِلَيْهِ .
الرَّابِعِ:يَكُونُ حَسَنًا،وَهُوَ أَنْ يَقُومَ لِمَنْ أَتَى مِنْ سَفَرٍ فَرَحًا بِقُدُومِهِ،أَوْ لِلْقَادِمِ عَلَيْهِ سُرُورًا بِهِ لِتَهْنِئَتِهِ بِنِعْمَةٍ،أَوْ يَكُونَ قَادِمًا لِيُعَزِّيَهُ بِمُصَابٍ،وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ (2) .
وَقَال ابْنُ الْقَيِّمِ:وَقَدْ قَال الْعُلَمَاءُ:يُسْتَحَبُّ الْقِيَامُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالإِْمَامِ الْعَادِل وَفُضَلاَءِ النَّاسِ،وَقَدْ صَارَ هَذَا كَالشِّعَارِ بَيْنَ الأَْفَاضِل.فَإِذَا تَرَكَهُ الإِْنْسَانُ فِي حَقِّ مَنْ يَصْلُحُ أَنْ يَفْعَل فِي حَقِّهِ لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَنْسُبَهُ إِلَى الإِْهَانَةِ وَالتَّقْصِيرِ فِي حَقِّهِ،فَيُوجِبُ ذَلِكَ حِقْدًا،وَاسْتِحْبَابُ هَذَا فِي حَقِّ الْقَائِمِ لاَ يَمْنَعُ الَّذِي يُقَامَ لَهُ أَنْ يَكْرَهَ ذَلِكَ،وَيَرَى أَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ (3) .
__________
(1) - الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 260 .
(2) - المدخل لابن الحاج 1 / 139 طبع . الإسكندرية سنة 1291هـ .
(3) - مختصر منهاج القاصدين ص249 .(1/157)
وَقَال الْقَلْيُوبِيُّ:وَيُسَنُّ الْقِيَامُ لِنَحْوِ عَالِمٍ وَمُصَالِحٍ وَصَدِيقٍ وَشَرِيفٍ لاَ لأَِجْل غِنًى ،وَبَحَثَ بَعْضُهُمْ وُجُوبَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الأَْزْمِنَةِ؛لأَِنَّ تَرْكَهُ صَارَ قَطِيعَةً (1) .
وَقَدْ وَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا دَخَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهِ قَامَ إِلَيْهَا فَقَبَّلَهَا وَأَجْلَسَهَا فِي مَجْلِسِهِ،وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَل عَلَيْهَا قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا فَقَبَّلَتْهُ وَأَجْلَسَتْهُ فِي مَجْلِسِهَا (2) .
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ هِلَالٍ،عَنْ أَبِيهِ:أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا خَرَجَ قُمْنَا لَهُ حَتَّى يَدْخُلَ بَيْتَهُ.رَوَاهُ الْبَزَّارُ. (3)
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ،قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُتَوَكِّئًا عَلَى عَصًا،فَقُمْتُ إِلَيْهِ،فَقَالَ:"لَا تَقُومُوا كَمَا تَقُومُ الْأَعَاجِمُ يُعَظِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا " (4) وغيرها مما قدر مرَّ
والخلاصة أن القيام ينقسم إلى ثلاث مراتب:قيام على رأس الرجل وهو جالس وهو فعل الجبابرة،وقيام له عند رؤيته أو عند قيامه من المجلس تعظيما له وهذا متنازع فيه ،... وقيام إليه عند قدومه لمقابلته بالمصافحة أو المعانقة،أو التهنئة مع المصافحة،أو إجلاسه في مجلس القائم وهذا لا بأس به،بل هو من وسائل الدعوة النافعة (5)
قال الإمام ابن القيم رحمه الله:" ففرق بين القيام للشخص المنهي عنه،والقيام عليه المشبه لفعل فارس والروم،والقيام إليه عند قدومه الذي هو سنة العرب،وأحاديث الجواز تدل عليه فقط " (6) .
ولكن إذا كان من عادة الناس إكرام القادم بالقيام،ولو تُرِكَ لاعتقد أن ذلك لترك حقه،أو قصد خفضه،ولم يعلم العادة الموافقة للسنة فالأصلح أن يقام له؛لأن ذلك أصلح لذات
__________
(1) - القليوبي 3 / 213 .
(2) - مر تخريجه
(3) - مسند البزار ( المطبوع باسم البحر الزخار - (15 / 103)(8391) حسن
(4) - شعب الإيمان - (11 / 276) (8538) فيه ضعف
(5) - انظر : تهذيب الإمام ابن قيم الجوزية مع معالم السنن للخطابي 8 / 84 .
(6) - المرجع السابق ، 8 / 93 .(1/158)
البين وإزالة التباغض والشحناء،وذلك من باب دفع أعظم المفسدتين بالتزام أدناهما كما يجب فعل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما (1)
،ولكن ينبغي للداعية أن يقرن القيام بالمقابلة والمصافحة على حسب الاستطاعة،ويعلم الناس السنة بالحكمة والموعظة الحسنة،والله المستعان . (2)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - انظر . مجموع فتاوى ابن تيمية ، 1 / 375 - 376 ، وفتح الباري لابن حجر ، 11 / 54 .
(2) - فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري - (3 / 152)(1/159)
الحق الحادي والعشرون
المحافظة على نفس أخيه وعرضه وماله
يصون عرض أخيه المسلم ونفسه وماله عن ظلم غيره مهما قدر ويرد عنه ويناضل دونه وينصره،فإن ذلك يجب عليه بمقتضى أخوة الإسلام.
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ،وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَاجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ،وَالْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. (2)
وعَنْ أَبِي الْخَيْرِ،أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو،يَقُولُ:إِنَّ رَجُلاً،قَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،أَيُّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ ؟ قَالَ:مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ. (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:"لَا تَحَاسَدُوا،وَلَا تَبَاغَضُوا،وَلَا تَنَاجَشُوا،وَلَا تَدَابَرُوا،وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ،وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا،الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ،وَلَا يَخْذُلُهُ،وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى ههُنَا يُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ،كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ"رَوَاهُ مُسْلِمٌ (4)
وعن أبي سَعِيدٍ،مَوْلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ،قال: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ،يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ لَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَظْلِمُهُ لَا تَحَاسَدُوا،وَلَا تَدَابَرُوا،وَلَا تَقَاطَعُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا،كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ مَالُهُ وَعِرْضُهُ وَدَمُهُ،لَا يَخْطُبِ امْرَؤٌ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (10) وصحيح ابن حبان - (1 / 467) (230)
(2) - صحيح ابن حبان - (1 / 406)(180) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (2 / 125)(400) صحيح
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (6706 ) وشعب الإيمان - (9 / 42)(6233 )(1/160)
عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ،وَلَا يَبِعْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ،وَإِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ،التَّقْوَى ههُنَا،وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ " (1)
وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ،: ذَكَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:وَقَفَ عَلَى بَعِيرِهِ،وَأَمْسَكَ إِنْسَانٌ بِخِطَامِهِ،أَوْ قَالَ:بِزِمَامِهِ،فَقَالَ:أَيُّ يَوْمٍ هَذَا ؟ فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ،فَقَالَ:أَلَيْسَ بِيَوْمِ النَّحْرِ ؟ قُلْنَا:بَلَى،قَالَ:فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا ؟ فَسَكَتْنَا،حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ،فَقَالَ:أَلَيْسَ بِذِي الْحِجَّةِ ؟ قُلْنَا:بَلَى،قَالَ:فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا ؟ فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ،فَقَالَ:أَلَيْسَ الْبَلَدَ الْحَرَامَ ؟ قُلْنَا:بَلَى،قَالَ:فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ،وَأَمْوَالَكُمْ،وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ،كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا،فِي شَهْرِكُمْ هَذَا،فِي بَلَدِكُمْ هَذَا،أَلاَ لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ الْغَائِبَ،فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى يُبَلِّغُ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ. (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ:يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا ؟ قَالُوا:هَذَا يَوْمٌ حَرَامٌ،قَالَ:أَيُّ بَلَدٍ هَذَا قَالُوا:بَلَدٌ حَرَامٌ،قَالَ:فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا ؟ قَالُوا:شَهْرٌ حَرَامٌ،قَالَ:إِنَّ أَمْوَالَكُمْ،وَدِمَاءَكُمْ،وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا ثُمَّ أَعَادَهَا مِرَارًا،ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ،فَقَالَ:اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ مِرَارًا،قَالَ:يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ:وَاللَّهِ إِنَّهَا لَوَصِيَّةٌ إِلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ،ثُمَّ قَالَ:أَلاَ فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ،لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ. (3)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ:أَلاَ إِنَّ أَحْرَمَ الأَيَّامِ يَوْمُكُمْ هَذَا،وَإِنَّ أَحْرَمَ الشُّهُورِ شَهْرُكُمْ هَذَا،وَإِنَّ أَحْرَمَ الْبِلاَدِ بَلَدُكُمْ هَذَا،أَلاَ وَإِنَّ أَمْوَالَكُمْ
__________
(1) - شعب الإيمان - (13 / 474)(10637) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (67) وصحيح مسلم- المكنز - (4478) وصحيح ابن حبان - (13 / 312)(5973)
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 613) (2036) صحيح(1/161)
وَدِمَاءَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا،فِي بَلَدِكُمْ هَذَا،فِي شَهْرِكُمْ هَذَا،أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ ؟ قَالُوا:نَعَمْ.قَالَ:اللَّهُمَّ اشْهَدْ. (1)
وعَنْ جَابِرٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَجَّتِهِ:أَيُّ يَوْمٍ أَعْظَمُ حُرْمَةً ؟ قَالُوا:يَوْمُنَا هَذَا،قَالَ:فَأَيُّ شَهْرٍ أَعْظَمُ حُرْمَةً ؟ قَالُوا:شَهْرُنَا هَذَا،قَالَ:فَأَيُّ بَلَدٍ أَعْظَمُ حُرْمَةً ؟ قَالُوا:بَلَدُنَا هَذَا،قَالَ:فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ،وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ،كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا،فِي شَهْرِكُمْ هَذَا،فِي بَلَدِكُمْ هَذَا. (2)
وعَنْ أَبِي غَادِيَةَ الْجُهَنِيِّ،قَالَ:خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْعَقَبَةِ فَقَالَ:يَا أَيُّهَا النَّاسُ،إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إِلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا،أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ ؟ قَالُوا:نَعَمْ.قَالَ:اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ؟. (3)
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَرُدَّ عَنْهُ نَارَ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (4)
وعَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ،قَالَ:" كُنْتُ عِنْدَ أُمِّ الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،فَشَتَمَ رَجُلٌ رَجُلًا وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُ،فَنَصَرْتُهُ،فَشَتَمَنِي،وَأُمُّ الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَاعِدَةٌ،فَلَمْ تَغَيَّرْ قَالَ:فَغَضِبْتُ،فَجَلَسْتُ،فَقَالَتْ:مَا لِشَهْرٍ لَا يُجِيبَنِي ؟ قُلْتُ:أَيَّتُهَا،وَقَدْ شَتَمَ فُلَانٌ فُلَانًا،فَنَصَرْتُهُ،فَشَتَمَنِي،فَلَمْ تَقُلْ شَيْئًا فَقَالَتْ:مَا مَنَعَنِي إِلَّا أَنِّي قَدْ فَرِحْتُ لَهُ بِمَا قُسِمَ لَهُ،إِنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَرُدُّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ،إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَرُدَّ عَنْهُ نَارَ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (5)
وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" مَنْ ذُكِرَ عِنْدَهُ أَخُوهُ بِظَهْرِ الْغَيْبِ،وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَنْصُرَهُ،فَنَصَرَهُ،نَصَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ" (6)
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 202)(11762) 11784- صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 63)(14365) 14418- صحيح
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 712)(16699) 16819- صحيح والحديث متواتر
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 895)(27536) 28086- حسن لغيره
(5) - مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ (838 ) حسن لغيره
(6) - مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ (840 ) صحيح(1/162)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" مَنْ حَمَى عِرْضَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فِي الدُّنْيَا،بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مَلَكًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِيهِ مِنَ النَّارِ" (1)
وعَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ،رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:" مَنْ ذَبَّ عَنْ لَحْمِ أَخِيهِ بِالْغِيبَةِ،كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُعِيذَهُ مِنَ النَّارِ" (2)
وعن إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَشِيرٍ مَوْلَى ابْنِ فَضَالَةَ،قال: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ،وَأَبَا طَلْحَةَ بْنَ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيَّيْنِ،يَقُولُانِ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"مَا مِنِ امْرِئٍ يَخْذُلُ مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ يُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ،وَيُنْتَقَصُ فِيهِ عِرْضُهُ إِلَّا خَذَلَهُ اللهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ،وَمَا مِنِ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَتُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ إِلَّا نَصَرَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ " (3)
- - - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ (841 ) حسن لغيره
(2) - مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ (842 ) حسن
(3) - شعب الإيمان - (10 / 100)(7226 ) فيه جهالة(1/163)
الحق الثاني والعشرون
تشميته إذا عطس
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ،وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ،فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ،فَلْيَرُدَّ مَا اسْتَطَاعَ،وَلاَ يَقُلْ:هَاوْ،فَإِنَّهُ إِذَا،قَالَ:هَاوْ،ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ،فَإِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ،فقَالَ:الْحَمْدُ لِلَّهِ فَحَقٌّ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ أَنْ يَقُولَ:يَرْحَمُكَ اللَّهُ. (1)
وعَنْ عَلِيٍّ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ:الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ،وَلْيَقُلْ مَنْ حَوْلَهُ:يَرْحَمُكَ اللَّهُ،وَلْيَقُلْ هُوَ:يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ. (2)
وعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّلَمِيِّ،أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ،كَانَ يَقُولُ:"إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ،وَلْيَقُلْ مَنْ يَرُدُّ عَلَيْهِ: يَرْحَمُكُمُ اللهُ،وَلْيَقُلْ: يَغْفِرُ اللهُ لِي وَلَكُمْ" (3)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ،قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُنَا يَقُولُ:"إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ،فَإِذَا قَالَ: ذَلِكَ فَلْيَقُلْ مَنْ عِنْدَهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ،فَإِذَا قَالُوا لَهُ ذَلِكَ: فَلْيَقُلْ: يَغْفِرُ اللهُ لِي وَلَكُمْ " (4)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ:"أَنَّهُ كَانَ إِذَا عَطَسَ فَقِيلَ لَهُ يَرْحَمُكَ اللهُ قَالَ: يَرْحَمُنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ وَغَفَرَ لَنَا وَلَكُمْ " (5)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ:"أَنَّهُ كَانَ إِذَا شُمِّتَ عَلَيْهِ فِي الْعُطَاسِ،قَالَ: يَرْحَمُنَا اللهُ وَإِيَّاكَ أَوْ قَالَ: وَإِيَّاكُمْ " (6)
وعَنْ هِلاَلِ بْنِ يَسَافٍ،قَالَ:كُنَّا مَعَ سَالِمِ بْنِ عُبَيْدٍ فِي غَزَاةٍ،فَعَطَسَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ،فقَالَ:السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ،فقَالَ سَالِمٌ:السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمِّكَ،فَوَجَدَ الرَّجُلُ فِي
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (2 / 359) (598) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 346)(972) صحيح لغيره
(3) - شعب الإيمان - (11 / 500)(8903 ) صحيح
(4) - شعب الإيمان - (11 / 500) (8904 ) حسن لغيره
(5) - شعب الإيمان - (11 / 502) (8907 ) صحيح
(6) - شعب الإيمان - (11 / 502) (8906 ) صحيح(1/164)
نَفْسِهِ،فقَالَ لَهُ سَالِمٌ:كَأَنَّكَ وَجَدْتَ فِي نَفْسِكَ ؟ فقَالَ:مَا كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ تَذْكُرَ أُمِّي بِخَيْرٍ وَلاَ بِشَرٍّ،فقَالَ سَالِمٌ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فِي سَفَرٍ فَعَطَسَ رَجُلٌ،فقَالَ:السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ،فقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :عَلَيْكَ وَعَلَى أُمِّكَ،إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ:الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ،أَوْ،قَالَ:الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ،وَلْيَقُلْ لَهُ:يَرْحَمُكَ اللَّهُ،وَلْيَقُلْ هُوَ:يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ. (1)
وعن أَنَسَ بْنِ مَالِكٍ،قَالَ:عَطَسَ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَشَمَّتَ أَوْ فَسَمَّتَّ أَحَدَهُمَا،وَتَرَكَ الآخَرَ،قَالَ:إِنَّ هَذَا حَمِدَ اللَّهَ،وَإِنَّ هَذَا لَمْ يَحْمَدْهُ. (2)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،قَالَ:عَطَسَ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا أَوْ قَالَ:فَسَمَّتَ أَحَدَهُمَا وَلَمْ يُشَمِّتِ الآخَرَ،فَقِيلَ لَهُ:رَجُلاَنِ عَطَسَا،فَشَمَّتَّ أَحَدَهُمَا وَتَرَكْتَ الآخَرَ ؟ قَالَ:إِنَّ هَذَا حَمِدَ اللَّهَ،وَإِنَّ هَذَا لَمْ يَحْمَدْهُ. (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:جَلَسَ رَجُلاَنِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَحَدُهُمَا أَشْرَفُ مِنَ الآخَرِ،فَعَطَسَ الشَّرِيفُ،فَلَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ،وَعَطَسَ الآخَرُ فَحَمِدَ اللَّهَ،فَشَمَّتَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ،فقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،عَطَسْتُ فَلَمْ تُشَمِّتْنِي،وَعَطَسَ هَذَا فَشَمَّتَّهُ ؟ فقَالَ - صلى الله عليه وسلم - :إِنَّ هَذَا ذَكَرَ اللَّهَ،فَذَكَرْتُهُ،وَأَنْتَ نَسِيتَ فَنَسِيتُكَ. (4)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"أَنَّهُ كَانَ إِذَا عَطَسَ غَضَّ صَوْتَهُ وَاسْتَتَرَ بِثَوْبِهِ أَوْ يَدِهِ " (5)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« الْعُطَاسُ مِنَ اللَّهِ،وَالتَّثَاؤُبُ مِنَ الشَّيْطَانِ،فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فِيهِ،وَإِذَا قَالَ:هَاهْ هَاهْ،فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ يَضْحَكُ فِى جَوْفِهِ ». (6)
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (2 / 361) (599) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (2 / 363)(600) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (2 / 364) (601) صحيح
(4) - صحيح ابن حبان - (2 / 365) (602) صحيح
(5) - شعب الإيمان - (11 / 504) (8911 ) حسن
(6) - مسند الحميدي - المكنز - (1214) صحيح(1/165)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :الْعُطَاسُ مِنَ اللهِ،وَالتَّثَاؤُبُ مِنَ الشَّيْطَانِ،فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فِيهِ،وَإِذَا قَالَ آهْ آهْ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَضْحَكُ مِنْ جَوْفِهِ،وَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ،وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ،فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ آهْ آهْ إِذَا تَثَاءَبَ،فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَضْحَكُ فِي جَوْفِهِ. (1)
وعن إِيَاسَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ،قَالَ:حَدَّثَنِي أَبِي،قَالَ:كُنْتُ قَاعِدًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَطَسَ رَجُلٌ،فقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :يَرْحَمُكَ اللَّهُ ثُمَّ عَطَسَ أُخْرَى،فقَالَ - صلى الله عليه وسلم - :الرَّجُلُ مَزْكُومٌ." (2)
وعَنْ أَبِى طَلْحَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يُشَمَّتُ الْعَاطِسُ ثَلاَثًا فَإِنْ زَادَ فَإِنْ شِئْتَ فَشَمِّتْهُ وَإِنْ شِئْتَ فَلاَ » (3)
وعن إِيَاسَ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ حَدَّثَنِى أَبِى قَالَ:عَطَسَ رَجُلٌ عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ :« يَرْحَمُكَ اللَّهُ ». ثُمَّ عَطَسَ أُخْرَى فَقَالَ :« الرَّجُلُ مَزْكُومٌ ». (4) .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو،أَنَّ رَجُلاً عَطَسَ عِنْدَهُ فَشَمَّتَهُ،ثُمَّ عَطَسَ فَشَمَّتَهُ،ثُمَّ عَادَ فِي الثَّالِثَةِ فَقَالَ:إنَّك مَضْنُوكٌ. (5)
وعَنْ عَلِيٍّ،قَالَ:شَمِّتِ الْعَاطِسَ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ ثَلاَثًا،فَإِنْ زَادَ،فَهُوَ رِيحٌ. (6)
وعَنِ الشَّعْبِيِّ،قَالَ:قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ:إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَشَمِّتُوهُ،فَإِنْ زَادَ فَلاَ تُشَمِّتُوهُ،فَإِنَّمَا هُوَ دَاءٌ يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِهِ. (7)
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ،أَنَّ رَجُلاً عَطَسَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَشَمَّتَهُ،ثُمَّ عَطَسَ فَشَمَّتَهُ،ثُمَّ عَطَسَ فَشَمَّتَهُ،ثُمَّ عَطَسَ الرَّابِعَةَ فَقَالَ لَهُ:النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :إنَّك مَضْنُوكٌ فَامْتَخِط. (8)
__________
(1) - سنن الترمذى- المكنز - (2970) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (2 / 366) (603) صحيح
(3) - سنن الترمذى- المكنز - (2968) فيه جهالة
(4) - سنن الدارمى- المكنز - (2717) صحيح
(5) - مصنف ابن أبي شيبة - (8 / 497)(26501) صحيح
(6) - مصنف ابن أبي شيبة - (8 / 497)(26502) ضعيف
(7) - مصنف ابن أبي شيبة - (8 / 498)(26505) صحيح
(8) - مصنف ابن أبي شيبة - (8 / 498)(26506) صحيح مرسل(1/166)
قالَ النَّووِيّ فِي "الأَذكار"إِذا تَكَرَّرَ العُطاس مُتَتابِعًا فالسُّنَّة أَن يُشَمِّتهُ لِكُلِّ مَرَّة إِلَى أَن يَبلُغ ثَلاث مَرّات. (1)
ويجوز تشميت الكافر إذا عطس وحمد الله،بأن يقول له:يهديكم الله ويصلح بالكم ،فعَنْ أَبِي مُوسَى،قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ يَتَعَاطَسُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَجَاءَ أَنْ يَقُولَ: يَرْحَمُكُمُ اللهُ،وَكَانَ يَقُولُ:"يَهْدِيكُمُ اللهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ " (2)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار المعرفة - (10 / 604)
(2) - شعب الإيمان - (11 / 503) (8908 ) صحيح(1/167)
الحق الثالث والعشرين
إذا بلي بذي شر فينبغي أن يتحمله ويتقيه
لك أن تتخذ معه أسلوب المداراة،والمداراة طريقة نبوية يلجأ إليها العقلاء،فتعامله كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعامل جفاة الأعراب أو المنافقين المؤذين،فكان - صلى الله عليه وسلم - يتألفهم بالهدية ويهش في وجه بعضهم اتقاء شره،فعَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ حَدَّثَهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ.أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ فَقَالَ « ائْذَنُوا لَهُ فَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ ».أَوْ « بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ ».فَلَمَّا دَخَلَ أَلاَنَ لَهُ الْكَلاَمَ.فَقُلْتُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْتَ مَا قُلْتَ،ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ فِى الْقَوْلِ.فَقَالَ « أَىْ عَائِشَةُ،إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ تَرَكَهُ - أَوْ وَدَعَهُ - النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِهِ ». (1)
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ،قَالَ:"إِنَّا لَنَكْشِرُ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ،وَنَضْحَكُ إِلَيْهِمْ،وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ " (2)
وقال تعالى:{ لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) } آل عمران
نهى الله،تبارك وتعالى،عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين،وأن يتخذوهم أولياء يُسِرُّون إليهم بالمودة من دون المؤمنين،ثم توعد على ذلك فقال: { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ } أي: من يرتكب نهى الله في هذا فقد برئ من الله كما قال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا } [النساء :144 ] وقال [تعالى] { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ] } [ المائدة:51 ].
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6131 )
(2) - شعب الإيمان - (10 / 430) (7749 ) حسن موقوف(1/168)
[وقال تعالى] { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } إلى أن قال: { وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } [ الممتحنة:1 ] وقال تعالى -بعد ذكر موالاة المؤمنين للمؤمنين من المهاجرين والأنصار والأعراب-: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } [ الأنفال:73 ].
وقوله: { إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } أي: إلا من خاف في بعض البلدان أوالأوقات من شرهم،فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته،كما حكاه البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: "إنَّا لَنَكْشرُ فِي وُجُوهِ أقْوَامٍ وَقُلُوبُنَا تَلْعَنُهُمْ".
وقال الثوري: قال ابن عباس،رضي الله عنهما: ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان،وكذا رواه العوفي عن ابن عباس: إنما التقية باللسان،وكذا قال أبو العالية،وأبو الشعثاء والضحاك،والربيع بن أنس. ويؤيد ما قالوه قول الله تعالى: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ[ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] } [ النحل:106 ] (1)
وعَنْ جَابِرٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ،وَكُلُّ مَا أَنْفَقَهُ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ،وَمَا أَنْفَقَهُ عَلَى أَهْلِهِ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ،وَمَا وَقَى بِهِ عِرْضَهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ " (2)
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ،قَالَ:لَيْسَ بِحَكِيمٍ مَنْ لَمْ يُعَاشِرْ بِالْمَعْرُوفِ،مَنْ لَمْ يَجِدْ بُدًّا يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا. (3)
وعَنْ جَابِرٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :مُدَارَاةُ النَّاسِ صَدَقَةٌ. (4)
__________
(1) - تفسير ابن كثير - دار طيبة - (2 / 30)
(2) - مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ (75 ) حسن
(3) - مصنف ابن أبي شيبة - (14 / 57) (36854) صحيح
(4) - صحيح ابن حبان - (2 / 217)(471) حسن لغيره
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْمُدَارَاةُ الَّتِي تَكُونُ صَدَقَةً لِلْمُدَارِي هِيَ تَخَلُّقُ الإِنْسَانِ الأَشْيَاءَ الْمُسْتَحْسَنَةَ ، مَعَ مَنْ يُدْفَعُ إِلَى عِشْرَتِهِ ، مَا لَمْ يَشُبْهَا بِمَعْصِيَةِ اللهِ وَالْمُدَاهَنَةُ : هِيَ اسْتِعْمَالُ الْمَرْءِ الْخِصَالَ الَّتِي تُسْتَحْسَنُ مِنْهُ فِي الْعِشْرَةِ وَقَدْ يَشُوبُهَا مَا يَكْرَهُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ.صحيح ابن حبان - (2 / 218)(1/169)
والخلاصة أن المداري يبذل الدنيا ليصون دينه وعرضه،والمداهن يبذل دينه ليحصل لعاعة من الدنيا،فالمداراة خلق المؤمن والمداهنة خلق المنافق. وقد قال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم {فصلت: 34}. وقال ابن عباس في معنى قوله: وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ {القصص:54}. أي الفحش والأذى بالسلام والمداراة .
فزره في بيته وأعطه هدية،وألن له في الكلام مداراة واتقاء لشره،فإن لم ينكف عن غيه فلك أن تقاطعه ولا تزد عند لقائه عن رد السلام إن ألقاه عليك (1)
وقال ابن بطال:" المدارة من أخلاق المؤمنين وهى خفض الجناح للناس،ولين الكلمة وترك الإغلاظ لهم فى القول وذلك من أقوى أسباب الألفة وسل السخيمة.
وقد روى عن النبى عليه السلام أنه قال: « مداراة الناس صدقة » .
وقال بعض العلماء: وقد ظن من لم ينعم النظر أن المدارة هي المداهنة،وذلك غلط،لأن المدارة مندوب اليها والمداهنة محرمة،والفرق بينهما بين،وذلك أن المادهنة اشتق اسمها من الدهان الذى يظهر على ظواهر الأشياء ويستر بواطنها،وفسرها العلماء فقالوا: المداهنة هي أن يلقى الفاسق المظهر فيؤالفه ويؤاكله،ويشاربه،ويثنى على أفعاله المنكرة ويريه الرضا بها ولاينكرها عليه ولو بقلبه وهو أضعف الإيمان،فهذه المداهنة التي برأ الله عز وجل منها نبيه عليه السلام بقوله: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (9) سورة القلم.
والمدارة هي الرفق بالجاهل الذى يستتر بالمعاصي ولا يجاهر بالكبائر،والمعاطفة في رد أهل الباطل إلى مراد الله بلين ولطف حتى يرجعوا عما هم عليه.
فإن قال قائل: فأين أنت في قولك هذا من عَائِشَةَ،أَنَّ رَجُلاً اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَلَمَّا سَمِعَ صَوْتَهُ،قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِعَائِشَةَ:بِئْسَ الرَّجُلُ،أَوْ بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ انْبَسَطَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَلَمَّا خَرَجَ،كَلَّمَتْهُ عَائِشَةُ فَقَالَتْ:يَا رَسُولَ اللهِ،قُلْتَ بِئْسَ
__________
(1) - إحياء علوم الدين - (2 / 51) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (9 / 186) رقم الفتوى 60224 أذية الجار دليل على ضعف الإيمان(1/170)
الرَّجُلُ،أَوْ بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ فَلَمَّا دَخَلَ انْبَسَطْتَ إِلَيْهِ،فَقَالَ:يَا عَائِشَةُ شَرُّ النَّاسِ مَنْ يَتَّقِي النَّاسُ فُحْشَهُ.. (1)
قيل له: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مأمورًا بأن لا يحكم على أحد إلا بما ظهر منه للناس لا بما يعلمه دون غيره،وكان المنافقون لا يظهرون له إلا التصديق والطاعة،فكان الواجب عليه أن لا يعاملهم إلا بمثل ما أظهروا له،إذ لو حكم بعلمه في شىء من الأشياء لكانت سنَّة كل حاكم أن يحكم بما أطلع عليه فيكون شاهدًا وحاكمًا،والأمة مجمعة أنه لا يجوز ذلك،فعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ،أَنَّ رَجُلًا،سَارَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ نَدْرِ مَا سَارَّهُ بِهِ حَتَّى جَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَإِذَا هُوَ يَسْتَأْمِرُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ؟"قَالَ:بَلَى،وَلَا شَهَادَةَ لَهُ،قَالَ:" أَلَيْسَ يُصَلِّي ؟"قَالَ:بَلَى،وَلَا صَلَاةَ لَهُ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :"أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي اللَّهُ عَنْ قَتْلِهِمْ" . (2)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (12 / 508)(5696)صحيح
(2) - مُسْنَدُ الشَّافِعِيِّ (1399 ) صحيح(1/171)
الحق الرابع والعشرون
يجتنب مخالطة الأغنياء ويختلط بالمساكين ويحسن إلى الأيتام
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"اللهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا،وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا،وَاحْشُرْنِي فِي زَمْرَةِ الْمَسَاكِينِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".فَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: لِمَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ:"لِأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا يَا عَائِشَةُ،لَا تَرُدِّي الْمَسَاكِينَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ،يَا عَائِشَةُ،أَحِبِّي الْمَسَاكِينَ وَقَرِّبِيهِمْ،فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يُقَرِّبُكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " (1)
وعَنْ خَيْثَمَةَ،قَالَ: "مَا تَقْرَؤونَ فِي الْقُرْآنِ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا" فَإِنَّهُ فِي التَّوْرَاةِ: يَا أَيُّهَا الْمَسَاكِينُ". (2)
وعَنْ خَيْثَمَةَ؛قَالَ:مَا مِنْ شيء تقرؤون فِي الْقُرْآنِ:{ يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا }؛إِلا وَهُوَ في التوراة:يا أيها الْمَسَاكِينُ . (3)
وعن عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ،وَمَرَّ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ رُسْتُمٍ فِي مَوْكِبِهِ،فَقَالَ لِابْنِ أَبِي مَرْيَمَ: إِنِّي لَيَسُرُّنِي مُجَالَسَتُكَ وَحَدِيثُكَ.فَلَمَّا مَضَى قَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:"لَا تَغْبِطَنَّ فَاجِرًا بِنِعْمَةٍ،إِنَّ لَهُ عِنْدَ اللهِ قَاتلًا لَا يَمُوتُ ".فَبَلَغَ ذَلِكَ وَهْبَ بْنَ مُنَبِّهٍ،فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أَبَا دَاوُدَ الْأَعْوَرَ: مَا قَاتلًا لَا يَمُوتُ ؟ قَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ:"النَّارُ " (4)
" فَالْمِسْكِينُ الْمَحْمُودُ هُوَ الْمُتَوَاضِعُ الْخَاشِعُ لِلَّهِ؛لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمَسْكَنَةِ عَدَمَ الْمَالِ،بَلْ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ فَقِيرًا مِنَ الْمَالِ وَهُوَ جَبَّارٌ،فعَنْ عِصْمَةَ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" ثَلَاثَةٌ
__________
(1) - شعب الإيمان - (3 / 51)(1380 ) صحيح لغيره
والمسكين : الخاشع المتواضع لله تعالى ولخلقه وليس من المتكبرين ولا الجبارين
(2) - تفسير ابن أبي حاتم - (1 / 283) (1035) صحيح مقطوع
(3) - المجالسة وجواهر العلم - (6 / 137)(2463 ) صحيح مقطوع
(4) - شعب الإيمان - (6 / 300) (4222 ) حسن لغيره(1/172)
لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ غَدًا:شَيْخٌ زَانٍ،وَرَجُلٌ اتَّخَذَ الْأَيْمَانَ بِضَاعَةً فِي كُلِّ حَقٍّ وَبَاطِلٍ،وَفَقِيرٌ مُخْتَالٌ مَزْهُوٌّ ".رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ (1)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ،قَالَ:" ثَلَاثَةٌ يَسْتَاءُ بِهِمُ اللَّهُ:شَيْخٌ زَانٍ،وَفَقِيرٌ مُخْتَالٌ،وَذُو سُلْطَانٍ كَذَّابٌ - أَوْ غَنِيُّ ظَلُومٌ" (2)
وعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ،قَالَ:" ثَلَاثَةٌ لَا يُحِبُّهُمُ اللَّهُ:شَيْخٌ زَانٍ،وَغَنِيُّ ظَلُومٌ،وَفَقِيرٌ مُخْتَالٌ" (3)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ. (4)
وعَنْ عَائِشَةَ،رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا،قَالَتْ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :يَا عَائِشَةُ،لَوْ شِئْتِ لَسَارَتْ مِعِي جِبَالُ الذَّهَبِ،جَاءَنِي مَلَكٌ إِنَّ حُجْزَتَهُ لَتُسَاوِي الْكَعْبَةَ،فَقَالَ:إِنَّ رَبَّكَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ،وَيَقُولُ:إِنْ شِئْتَ نَبِيًّا عَبْدًا ؟ وَإِنْ شِئْتَ نَبِيًّا مَلِكًا ؟ فَنَظَرْتُ إِلَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ،فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنْ ضَعْ نَفْسَكَ،فَقُلْتُ:نَبِيًّا عَبْدًا.قَالَتْ:وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَأْكُلُ مُتَّكِئًا،يَقُولُ:آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ،وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ " (5)
وعَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ:سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ:" كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ أَمَرَ بِهِ فَأُلْقِيَ عَلَى الْأَرْضِ،وَقَالَ:" إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ،آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ،وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ" ... (6)
فَالْمَسْكَنَةُ خُلُقٌ فِي النَّفْسِ وَهُوَ التَّوَاضُعُ وَالْخُشُوعُ وَاللِّينُ ضِدُّ الْكِبْرِ.كَمَا قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} (32) سورة مريم ،وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ :
مَسَاكِينُ أَهْلِ الْحُبِّ حَتَّى قُبُورُهُمْ * * * عَلَيْهَا تُرَابُ الذُّلِّ بَيْنَ الْمَقَابِرِ
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (12 / 129)(13928) حسن لغيره
(2) - جَامِعُ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ (898 ) صحيح لغيره
(3) - جَامِعُ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ (897 ) صحيح مرسل
(4) - كشف الأستار - (3 / 157) (2469) صحيح لغيره
(5) - أَخْلَاقُ النَّبِيِّ لِأَبِي الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيِّ (574 ) حسن لغيره
(6) - الزُهْدُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (21 ) صحيح مرسل(1/173)
أَيْ أَذِلَّاءُ فَالْحُبُّ يُعْطِي الذُّلَّ ،وَعِبَادَةُ اللَّهِ تَجْمَعُ كَمَالَ الْحُبِّ لَهُ وَكَمَالَ الذُّلِّ لَهُ،فَمَنْ كَانَ مُحِبًّا شَيْئًا وَلَمْ يَكُنْ ذَلِيلًا لَهُ لَمْ يَكُنْ عَابِدًا وَمَنْ كَانَ ذَلِيلًا لَهُ وَهُوَ مُبْغِضٌ لَمْ يَكُنْ عَابِدًا.
وَالْحُبُّ دَرَجَاتٌ:أَعْلَاهُ التتيم وَهُوَ التَّعَبُّدُ وَتَيَّمَ اللَّهَ عَبَدَ اللَّهَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا } الْآيَاتِ.وَشَوَاهِدُ هَذَا الْأَصْلُ كَثِيرَةٌ (1) .
وأما اليتيم فقد وردت أحاديث كثيرة تحض على العناية به :
عَنْ سَهْلٍ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : « أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِى الْجَنَّةِ هَكَذَا ».وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى،وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئاً . (2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« كَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِى الْجَنَّةِ ».وَأَشَارَ مَالِكٌ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى ." (3)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« كَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ أَنَا وَهُوَ كَهَاتَيْنِ فِى الْجَنَّةِ إِذَا اتَّقَى اللَّهَ ».وَأَشَارَ مَالِكٌ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى " (4) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :أَنَا أَوَّلُ مَنْ يُفْتَحُ لَهُ بَابُ الْجَنَّةِ،إِلا أَنَّهُ تَأْتِي امْرَأَةٌ تُبَادِرُنِي،فَأَقُولُ لَهَا:مَا لَكِ ؟ وَمَنْ أَنْتِ ؟ فَتَقُولُ:أَنَا امْرَأَةٌ قَعَدْتُ عَلَى أَيْتَامٍ لِي" (5) .
وعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَنَا وَامْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ كَهَاتَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». وَأَوْمَأَ يَزِيدُ بِالْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ :« امْرَأَةٌ آمَتْ مِنْ زَوْجِهَا ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ حَبَسَتْ نَفْسَهَا عَلَى يَتَامَاهَا حَتَّى بَانُوا أَوْ مَاتُوا » (6) .
السفعاء:المرأة الشاحبة التى فى وجهها سواد وتغير
__________
(1) - انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية - (18 / 326)
(2) - رواه البخاري (5304و6005)
(3) - رواه مسلم (2983)
(4) - رواه أحمد في مسنده (9116) ( صحيح )
(5) - مسند أبي يعلى الموصلي(6651) حسن
(6) - سنن أبى داود(5151 ) حسن لغيره(1/174)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" مَنْ كَفَلَ يَتِيمًا لَهُ ذُو قَرَابَةٍ أَوْ لَا قَرَابَةَ لَهُ فَأَنَا وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ - وَضَمَّ إِصْبَعَيْهِ - وَمَنْ سَعَى عَلَى ثَلَاثِ بَنَاتٍ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ،وَكَانَ لَهُ كَأَجْرِ مُجَاهِدٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَائِمًا قَائِمًا". (1)
وعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « مَنْ ضَمَّ يَتِيماً بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ حَتَّى يَسْتَغْنِىَ عَنْهُ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ أَلْبَتَّةَ وَمَنْ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِماً كَانَ فَكَاكُهُ مِنَ النَّارِ يُجْزَى بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْواً مِنْهُ مِنَ النَّارِ » (2) .
وعَنْ أُمِّ سَعْدٍ بنتِ عَمْرٍو الْجُمَحِيَّةِ،قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،يَقُولُ:مَنْ كَفَلَ يَتِيمًا لَهُ،أَوْ لِغَيْرِهِ مِنَ النَّاسِ،كُنْتُ أَنَا،وَهُوَ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَيْنِ" . (3)
قَوْله:( أَنَا وَكَافِل الْيَتِيم ) أَيْ الْقَيِّم بِأَمْرِهِ وَمَصَالِحه،وَمَعْنَى قَوْله لَهُ بِأَنْ يَكُون جَدًّا أَوْ عَمًّا أَوْ أَخًا أَوْ نَحْو ذَلِكَ مِنَ الْأَقَارِب،أَوْ يَكُون أَبُو الْمَوْلُود قَدْ مَاتَ فَتَقُوم أُمّه مَقَامه أَوْ مَاتَتْ أُمّه فَقَامَ أَبُوهُ فِي التَّرْبِيَة مَقَامهَا .قَالَ اِبْن بَطَّال:حَقٌّ عَلَى مَنْ سَمِعَ هَذَا الْحَدِيث أَنْ يَعْمَل بِهِ لِيَكُونَ رَفِيق النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْجَنَّة،وَلَا مَنْزِلَة فِي الْآخِرَة أَفْضَل مِنْ ذَلِكَ.
قَالَ شَيْخنَا فِي"شَرْح التِّرْمِذِيّ"لَعَلَّ الْحِكْمَة فِي كَوْن كَافِل الْيَتِيم يُشْبِه فِي دُخُول الْجَنَّة أَوْ شُبِّهَتْ مَنْزِلَته فِي الْجَنَّة بِالْقُرْبِ مِنَ النَّبِيّ أَوْ مَنْزِلَة النَّبِيّ لِكَوْنِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - شَأْنه أَنْ يُبْعَث إِلَى قَوْم لَا يَعْقِلُونَ أَمْر دِينهمْ فَيَكُون كَافِلًا لَهُمْ وَمُعَلِّمًا وَمُرْشِدًا،وَكَذَلِكَ كَافِل الْيَتِيم يَقُوم بِكَفَالَةِ مَنْ لَا يَعْقِل أَمْر دِينه بَلْ وَلَا دُنْيَاهُ،وَيُرْشِدهُ وَيُعَلِّمهُ وَيُحْسِن أَدَبه،فَظَهَرَتْ مُنَاسَبَة ذَلِكَ اهـ مُلَخَّصًا . (4)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - رَوَاهُ الْبَزَّارُ مجمع الزوائد( 13493 ) حسن لغيره
(2) - مسند أحمد (19541) صحيح لغيره
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (ج 18 / ص 273)(20765 ) حسن
(4) - فتح الباري لابن حجر - (ج 17 / ص 142)(1/175)
الحق الخامس والعشرون
النصيحة لكل مسلم والجهد في إدخال السرور على قلبه
النصيحة دعامة من دعامات الإسلام. قال تعالى: { وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) } سورة العصر
فالْمُسْلِمُ بِحَاجَةٍ إِلَى نُصْحِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ،قَال الْغَزَالِيُّ:لأَِنَّهُ يَرَى مِنْهُ مَا لاَ يَرَى مِنْ نَفْسِهِ،فَيَسْتَفِيدُ مِنْ أَخِيهِ مَعْرِفَةَ عُيُوبِ نَفْسِهِ،وَلَوِ انْفَرَدَ لَمْ يَسْتَفِدْ،كَمَا يَسْتَفِيدُ بِالْمِرْآةِ الْوُقُوفَ عَلَى عُيُوبِ صُورَتِهِ الظَّاهِرَةِ،فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:"الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ،وَالْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ مِنْ حَيْثُ لَقِيَهُ يَكُفُّ عَنْهُ ضَيْعَتَهُ،وَيَحُوطُهُ مِنْ وَرَائِهِ " (1)
وعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:أَلاَ إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ،أَلاَ إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ،أَلاَ إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ،قَالُوا:لِمَنْ يَا رَسُولَ ؟ قَالَ:لِلَّهِ،وَلِكِتَابِهِ،وَلِرَسُولِهِ،وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ،وَعَامَّتِهِمْ." (2)
وعَنْ جَرِيرٍ،قَالَ:بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى السَّمْعِ،وَالطَّاعَةِ،وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ،فَكَانَ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا أَوْ بَاعَهُ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ:اعْلَمْ أَنَّ مَا أَخَذْنَا مِنْكَ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمَّا أَعْطَيْنَاكَهُ فَاخْتَرْ. (3)
وعَنْ زِيَادِ بْنِ عِلاَقَةَ،قَالَ:سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ،يَقُولُ يَوْمَ مَاتَ المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ،قَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ،وَقَالَ:عَلَيْكُمْ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ،وَالوَقَارِ،وَالسَّكِينَةِ،حَتَّى يَأْتِيَكُمْ أَمِيرٌ،فَإِنَّمَا يَأْتِيكُمُ الآنَ.ثُمَّ قَالَ:اسْتَعْفُوا لِأَمِيرِكُمْ،فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ العَفْوَ،ثُمَّ قَالَ:أَمَّا
__________
(1) - شعب الإيمان - (10 / 107)(7239 ) صحيح
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (205) وصحيح ابن حبان - (10 / 436) (4575)
(3) - صحيح البخارى- المكنز -(57) وصحيح مسلم-المكنز - 208) وصحيح ابن حبان - (10 / 412) (4546)(1/176)
بَعْدُ،فَإِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قُلْتُ:أُبَايِعُكَ عَلَى الإِسْلاَمِ فَشَرَطَ عَلَيَّ:" وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ"فَبَايَعْتُهُ عَلَى هَذَا،وَرَبِّ هَذَا المَسْجِدِ إِنِّي لَنَاصِحٌ لَكُمْ،ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَنَزَلَ " (1)
قال الطحاوي بعد ذكر الأحاديث:" فَقَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ تَقْبَلُونَ هَذَا وَتُصَحِّحُونَهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَفِيهِ الدِّينُ النَّصِيحَةُ،وَكَيْفَ يَكُونُ الدِّينُ النَّصِيحَةَ،وَقَدْ وَجَدْتُمُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: فِي كِتَابِهِ { إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ } [آل عمران: 19] فَكَانَ جَوَابَنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ أَنَّ الَّذِي رَوَيْنَاهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - غَيْرُ مُخَالِفٍ لِمَا تَلَاهُ عَلَيْنَا مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إذْ كَانَتِ النَّصِيحَةُ مِنَ الْإِسْلَامِ،وَقَدْ بَايَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهَا مَنْ بَايَعَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ،فعَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ،قَالَ: سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ،يَقُولُ"بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ"قَالَ جَرِيرٌ: وَإِنِّي لَكُمْ لَنَاصِحٌ.
فَكَانَ فِيمَا ذَكَرْنَا مَا قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ النَّصِيحَةَ مِنَ الْإِسْلَامِ فَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ: أَفَهِيَ كُلُّ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ الدِّينُ عَلَى مَا فِي هَذِهِ الْآثَارِ الَّتِي رَوَيْتُمُوهَا فِي هَذَا الْبَابِ ؟
فَكَانَ جَوَابَنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ أَنَّهَا لَيْسَتْ كُلَّ الدِّينِ وَلَكِنَّهَا بِمَكَانٍ مِنَ الدِّينِ جَلِيلٍ،وَكُلُّ مَا جَلَّ مِنْ جِنْسٍ مِنَ الْأَجْنَاسِ جَازَ أَنْ يُطْلَقَ لَهُ الِاسْمُ الَّذِي يُسَمَّى بِهِ ذَلِكَ الْجِنْسُ فَيُذْكَرُ بِهِ كَمَا يُذْكَرُ بِهِ ذَلِكَ الْجِنْسُ،مِنْ ذَلِكَ أَنَّكَ تَقُولُ: النَّاسُ الْعَرَبُ وَفِيهِمْ غَيْرُ الْعَرَبِ لِجَلَالَةِ الْعَرَبِ فِي النَّاسِ؛وَلِأَنَّهُمْ يَبِينُونَ بِالْخَاصِّيَّةِ الَّتِي فِيهِمْ عَنْ سَائِرِ النَّاسِ فَجَازَ بِذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: هُمُ النَّاسُ،وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمُ: الْمَالُ النَّخْلُ لِجَلَالَةِ النَّخْلِ فِي الْأَمْوَالِ،وَإِنْ كَانَ فِي الْأَمْوَالِ سِوَى النَّخْلِ فَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - " الدِّينُ النَّصِيحَةُ"هُوَ لِجَلَالَةِ مَوْضِعِ النَّصِيحَةِ مِنَ الدِّينِ،وَإِنْ كَانَ فِي الدِّينِ سِوَاهَا فَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ فَمَا مَعْنَى مَا فِي تِلْكَ الْآثَارِ مِنْ قَوْلِهِ وَلِكِتَابِهِ ؟ فَكَانَ جَوَابَنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا عَلَى تَعْلِيمِ كِتَابِهِ وَعَلَى النُّصْحِ لِمَنْ يُعَلِّمُونَهُ إيَّاهُ فِي تَعْلِيمِهِمْ مَا يَحْتَاجُونَ إلَى عِلْمِهِ مِنْ مُحْكَمِهِ وَمِنْ مُتَشَابِهِهِ وَمَا يَعْمَلُونَ بِهِ مِنْهُ وَمَا يَقِفُونَ عِنْدَهُ مِنْهُ ; لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا كَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ،فعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ،قَالَ:"كُنَّا نَتَعَلَّمُ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (58)(1/177)
مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَشْرَ آيَاتٍ فَمَا نَعْلَمُ الْعَشْرَ الَّتِي بَعْدَهُنَّ حَتَّى نَتَعَلَّمَ مَا أُنْزِلَ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ مِنَ الْعَمَلِ "
وعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ،قَالَ: أَخْبَرَنَا أَصْحَابُنَا الَّذِينَ،كَانُوا يُعَلِّمُونَا،قَالُوا:"كُنَّا نَعْلَمُ عَشْرَ آيَاتٍ فَمَا نَتَجَاوَزُهُنَّ حَتَّى نَعْلَمَ مَا فِيهِنَّ مِنْ عَمَلٍ "
وعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ،قَالَ: كَانَ أَصْحَابُنَا يُقْرِئُونَا وَيُعَلِّمُونَا وَيُخْبِرُونَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - " كَانَ يُقْرِئُ أَحَدَهُمْ عَشْرَ آيَاتٍ فَمَا يَجُوزُهَا حَتَّى يَتَعَلَّمَ الْعَمَلَ فِيهَا"قَالَ: وَقَالُوا: عَلِمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا"
وعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَوْفٍ،قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ،يَقُولُ:"لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرٍ وَأَحَدُنَا يُؤْتَى الْإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ وَتَنْزِلُ السُّورَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فَيَتَعَلَّمُ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا وَآمِرَهَا وَزَاجِرَهَا وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهَا كَمَا تَتَعَلَّمُونَ أَنْتُمُ الْيَوْمَ الْقُرْآنَ ثُمَّ لَقَدْ رَأَيْتُ الْيَوْمَ رِجَالًا يُؤْتَى أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ قَبْلَ الْإِيمَانِ فَيَقْرَأُ مَا بَيْنَ فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ،وَلَا يَدْرِي مَا آمِرُهُ،وَلَا زَاجِرُهُ،وَلَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهُ وَيَنْتَثِرُهُ نَثْرَ الدَّقَلِ"فَكَانَ فِيمَا رَوَيْنَا كَيْفِيَّةُ تَعْلِيمِ النَّاسِ كَانَ الْقُرْآنَ وَكَيْفِيَّةُ أَخْذِهِمْ كَانَ إيَّاهُ وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَى مَنْ كَانَ يُعَلِّمُهُ وَعَلَى مَنْ كَانَ يَتَعَلَّمُهُ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ عَلَى سَامِعِي هَذِهِ الْآثَارِ فَأَعْلَمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ سَأَلَهُ عَنِ النَّصِيحَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي هَذِهِ الْآثَارِ لِمَنْ هِيَ وَفِي ذَلِكَ النَّصِيحَةُ لِكِتَابِ اللهِ وَالنَّصِيحَةُ لَهُ هِيَ النَّصِيحَةُ لِمَنْ يَأْخُذُهُ تَعْلِيمًا مِمَّنْ يَأْخُذُهُ مِنْهُ،وَفِيمَا ذَكَرْنَا بَيَانُ وَجْهِ هَذَا الْمَعْنَى وَاللهَ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ " (1)
قَالَ أَبُو عُثْمَانَ:"فَانْصَحْ لِلسُّلْطَانِ وَأَكْثِرْ لَهُ مِنَ الدُّعَاءِ بِالصَّلَاحِ وَالرَّشَادِ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالْحُكْمِ،فَإِنَّهُمْ إِذَا صَلُحُوا صَلُحَ الْعِبَادُ بِصَلَاحِهِمْ،وَإِيَّاكَ أَنْ تَدْعُوَ عَلَيْهِمْ بِاللَّعْنَةِ فَيَزْدَادُوا شَرًّا وَيَزْدَادَ الْبَلَاءُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ،وَلَكِنِ ادْعُ لَهُمْ بِالتَّوْبَةِ فَيَتْرُكُوا الشَّرَّ فَيَرْتَفِعَ الْبَلَاءُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ،وَإِيَّاكَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ أَوْ تَتَصَنَّعَ لِإِتْيَانِهِمْ أَوْ تُحِبَّ أَنْ يَأْتُوكَ،واهْرَبْ مِنْهُمْ مَا اسْتَطَعْتَ،مَا دَامُوا مُقِيمِينَ عَلَى الشَّرِّ،فَإِنْ تَابُوا وَتَرَكُوا الشَّرَّ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالْحُكْمِ
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (4 / 73) (1439 -1453 )(1/178)
وَأَخَذُوا الدُّنْيَا مِنْ وَجْهِهَا فَهُنَاكَ فَاحْذَرِ الْعِزَّ بِهِمْ،لِتَكُونَ بَعِيدًا مِنْهُمْ قَرِيبًا بِالرَّحْمَةِ لَهُمْ وَالنَّصِيحَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ،وَأَمَّا نَصِيحَةُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ نَصِيحَتَهُمْ عَلَى أَخْلَاقِهِمْ مَا لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ مَعْصِيَةٌ،وَانْظُرْ إِلَى تَدْبِيرِ اللهِ فِيهِمْ بِقَلِيلٍ،فَإِنَّ اللهَ قَسَمَ بَيْنَهُمْ أَخْلَاقَهُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَهُمْ أَرْزَاقَهُمْ،وَلَوْ شَاءَ لَجَمَعَهُمْ عَلَى قَلْبٍ وَاحِدٍ،فَلَا يُغْفَلْ عَنِ النَّظَرِ إِلَى تَدْبِيرِ اللهِ فِيهِمْ،فَإِذَا رَأَيْتَ مَعْصِيَةَ اللهِ احْمَدِ اللهَ إِذْ صَرَفَهَا عَنْكَ فِي وَقْتِكَ،وَتَلَطَّفْ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي رِفْقٍ وَصَبْرٍ وَسَكِينَةٍ،فَإِنْ قُبِلَ مِنْكَ فَاحْمَدِ اللهَ،وَإِنْ رُدَّ عَلَيْكَ فَاسْتَغْفَرِ اللهَ لِتَقْصِيرٍ مِنْكَ كَانَ فِي أَمْرِكَ وَنَهْيِكَ،وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ،إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ " (1)
وقَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَبِي ذَرٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ:النُّصْحُ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدِي هُوَ:فِعْلُ الشَّيْءِ الَّذِي بِهِ الصَّلَاحُ وَالْمُلَاءَمَةُ،مَأْخُوذٌ مِنَ النَّصَاحَةِ،وَهِيَ السُّلُوكُ الَّتِي يُخَاطُ بِهَا،وَتَصْغِيرُهَا نُصَيْحَةٌ،يَقُولُ الْعَرَبُ:هَذَا قَمِيصٌ مَنْصُوحٌ أَيْ:مَخِيطٌ،وَنَصَحْتُهُ أَنْصَحُهُ نُصْحًا إِذَا خِطْتُهُ،وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتِ النُّصْحُ فِي الْأَشْيَاءِ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأَشْيَاءِ:فَالنُّصْحُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ:وَصْفُهُ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ،وَتَنْزِيهُهُ عَمَّا هُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهُ عَقْدًا وَقَوْلًا،وَالْقِيَامُ بِتَعْظِيمِهِ،وَالْخُضُوعُ لَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا،وَالرَّغْبَةُ فِي مَحَابِّهِ،وَالْبُعْدُ مِنْ مَسَاخِطِهِ،وَمُوَالَاةُ مَنْ أَطَاعَهُ،وَمُعَادَاةُ مَنْ عَصَاهُ،وَالْجِهَادُ فِي رَدِّ الْعَاصِينَ إِلَى طَاعَتِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا.وَإِرَادَةُ النَّصِيحَةِ لِكِتَابِهِ:إِقَامَتُهُ فِي التِّلَاوَةِ،وَتَحْسِينُهُ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ،وَتَفَهُّمُ مَا فِيهِ وَاسْتِعْمَالُهُ،وَالذَّبُّ عَنْهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْمُحَرِّفِينَ،وَطَعْنِ الطَّاعِنِينَ.وَالنَّصِيحَةُ لِلرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - : مُؤَازَرَتُهُ وَنُصْرَتُهُ،وَالْحِمَايَةُ مِنْ ذَوِيهِ حَيًّا وَمَيِّتًا،وَإِحْيَاءُ سُنَّتِهِ بِالطَّلَبِ،وَإِحْيَاءُ طَرِيقَتِهِ فِي بَثِّ الدَّعْوَةِ،وَتَأْلِيفِ الْكَلِمَةِ،وَالتَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِهِ الظَّاهِرَةِ.وَالنَّصِيحَةُ لِلْأَئِمَّةِ:مُعَاوَنَتُهُمْ عَلَى مَا تَكَلَّفُوا الْقِيَامَ بِهِ،وَفِي بَعْضُ النُّسَخِ"عَلَى مَا تَكَلَّفُوا الْقِيَامَ بِهِ"فِي تَنْبِيهِهِمْ عِنْدَ الْغَفْلَةِ،وَتَقْوِيمِهِمْ عِنْدَ الْهَفْوَةِ،وَسَدِّ خَلَّتِهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ،وَنُصْرَتِهِمْ فِي جَمِيعِ الْكَلِمَةِ عَلَيْهِمْ،وَرَدِّ الْقُلُوبِ النَّاضِرَةِ إِلَيْهِمْ.وَالنَّصِيحَةُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ:الشَّفَقَةُ عَلَيْهِمْ،وَتَوْقِيرُ كَبِيرِهِمْ،وَرَحْمَةُ صَغِيرِهِمْ،وَتَفْرِيجُ كُرَبِهِمْ،وَالسَّعْيُ فِيمَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَيْهِمْ فِي الْآجِلِ،وَدَعْوَتُهُمْ إِلَى مَا
__________
(1) - شعب الإيمان - (9 / 498)(1/179)
يُسْعِدُهُمْ،وَتَوَقِّي مَا يَشْغَلُ خَوَاطِرَهُمْ،وَفَتَحَ بَابَ الْوَسْوَاسِ عَلَيْهِمِ،وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ حَقًّا وَحَسَنًا،وَمِنَ النَّصِيحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ رَفْعُ مُؤْنَةِ بَدَنِهِ وَنَفْسِهِ وَحَوَائِجِهِ عَنْهُمْ،وَاللَّهُ أَعْلَمُ" (1)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ بِاللَّهِ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ. (2)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:لاَ يَبْلُغُ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ لِلنَّاسِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ. (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:مَنْ سَتَرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ،وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ،وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ." (4)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،أَنَّهُ كَانَ مُعْتَكِفًا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ،ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا فُلَانُ أَرَاكَ كَئِيبًا حَزِينًا،قَالَ: نَعَمْ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِفُلَانٍ عَلَيَّ حَقٌّ،لَا وَحُرْمَةِ صَاحِبِ هَذَا الْقَبْرِ مَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ،قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَفَلَا أُكَلِّمُهُ فِيكَ،قَالَ: إِنْ أَحْبَبْتَ،قَالَ: فَانْتَقلَ ابْنُ عَبَّاسٍ ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ،فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: أَنَسِيتُ مَا كُنْتَ فِيهِ قَالَ: لَا وَلَكِنِّي سَمِعْتُ صَاحِبَ هَذَا الْقَبْرِ - صلى الله عليه وسلم - وَالْعَهْدُ بِهِ قَرِيبٌ فَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ،وَهُوَ يَقُولُ:"مَنْ مَشَى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ وَبَلَغَ فِيهَا كَانَ خَيْرًا مِنِ اعْتِكَافِ عَشْرِ سِنِينَ،وَمَنِ اعْتَكَفَ يَوْمًا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ تَعَالَى جَعَلَ اللهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ ثَلَاثَ خَنَادِقَ أَبَعْدَ مَا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ " (5)
__________
(1) - بَحْرُ الْفَوَائِدِ الْمُسَمَّى بِمَعَانِي الْأَخْيَارِ لِلْكَلَابَاذِيِّ (67 )
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (13 ) وصحيح مسلم- المكنز - (179 ) وصحيح ابن حبان - (1 / 470) (234)
(3) - صحيح ابن حبان - (1 / 471) (235) صحيح
(4) - صحيح ابن حبان - (2 / 292)(534) وصحيح مسلم- المكنز - (7028 ) مطولا
(5) - شعب الإيمان - (5 / 436) (3679 ) و المعجم الأوسط للطبراني - (7537 ) حسن(1/180)
وعَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا ».قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا،فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا قَالَ « تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ » (1)
وعَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا ».فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا،أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ قَالَ « تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ،فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ » . (2)
وعَنْ عَاصِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الْعُمَرِيُّ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ:سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ،يَقُولُ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا،قِيلَ:يَا رَسُولَ اللهِ،هَذَا نَصَرُهُ مَظْلُومًا،فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا ؟ قَالَ:تُمْسِكُهُ مِنَ الظُّلْمِ،فَذَاكَ نَصْرُكَ إِيَّاهُ. (3)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا،أَوْ مَظْلُومًا،فَقَالُوا:يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا،فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا ؟ قَالَ:تَكُفُّهُ عَنِ الظُّلْمِ. (4)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا،أَوْ مَظْلُومًا،قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ،هَذَا يَنْصُرُهُ مَظْلُومًا،فَكَيْفَ يَنْصُرُهُ ظَالِمًا،قَالَ:يَكُفُّهُ عَنِ الظُّلْمِ. (5)
وعَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ،يَرْفَعْهُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:"مِنْ أَفْضَلِ الْعَمَلِ إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ: يَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا،يَقْضِي لَهُ حَاجَةً،يُنَفِّسُ عَنْهُ كُرْبَةً"قَالَ سُفْيَانُ: وَقِيلَ لِابْنِ الْمُنْكَدِرِ: مَا بَقِيَ مِمَّا يُسْتَلَذُّ ؟ قَالَ:"الْإِفْضَالُ عَلَى الْإِخْوَانِ " (6)
وعن سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ؛قَالَ :قِيلَ لِمُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ:أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ:إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ.وَقِيلَ لَهُ:أَيُّ الدُّنْيَا أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ:الْإِفْضَالُ عَلَى الْإِخْوَانِ.وَكَانَ إِذَا
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2444 )
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (6952 )
(3) - صحيح ابن حبان - (11 / 570) (5166) صحيح
(4) - صحيح ابن حبان - (11 / 571) (5167) صحيح
(5) - صحيح ابن حبان - (11 / 572) (5168) صحيح
(6) - شعب الإيمان - (10 / 130) (7274 ) صحيح مرسل(1/181)
حَجَّ أَخْرَجَ نِسَاءَهُ وَصِبْيَانَهُ إِلَى الْحَجِّ،فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ،فَقَالَ:أَعْرِضُهُمْ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.وَكَانَ يَحُجُّ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ،فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ،فَقَالَ:هُوَ أَقْضَى لِلدَّيْنِ ." (1)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" إِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ الْفَرَائِضِ،إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُسْلِمِ ".رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (2)
وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" إِنَّ مِنْ مُوجِبَاتِ الْمَغْفِرَةِ إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى أَخِيكَ الْمُسْلِمِ". (3)
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" مَنْ مَشَى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ خَيْرًا لَهُ مِنَ اعْتِكَافِهِ عَشْرَ سِنِينَ،وَمَنِ اعْتَكَفَ يَوْمًا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ،جَعَلَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ ثَلَاثَ خَنَادِقَ كُلُّ خَنْدَقٍ أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ الْخَافِقَيْنِ ".رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (4)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" مَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً،جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُعْبَتَيْنِ مِنْ نُورٍ عَلَى الصِّرَاطِ يَسْتَضِيءُ بِضَوْئِهِمَا عَالَمٌ لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا رَبُّ الْعِزَّةِ ".رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (5)
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" مَنْ أَدْخَلَ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سُرُورًا،لَمْ يَرْضَ اللَّهُ لَهُ ثَوَابًا دُونَ الْجَنَّةِ ".رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ. (6)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَنْ لَقِيَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ بِمَا يُحِبُّ لِيَسُرَّهُ بِذَلِكَ سَرَّهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ (7)
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ،عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" لَا يَزَالُ اللَّهُ فِي حَاجَةِ الْعَبْدِ مَا دَامَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ ".رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ (8)
__________
(1) - المجالسة وجواهر العلم - (4 / 30) (1180 ) صحيح
(2) - المعجم الأوسط للطبراني - (8140 ) حسن لغيره
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (3 / 141) (2665) حسن لغيره
(4) - المعجم الأوسط للطبراني - (7537 ) حسن
(5) - المعجم الأوسط للطبراني - (4662) ضعيف
(6) - المعجم الصغير للطبراني - (2 / 132)(910) ضعيف
(7) - المعجم الصغير للطبراني - (2 / 288)(1178) وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ .
(8) - المعجم الكبير للطبراني - (5 / 25)(4667) صحيح لغيره(1/182)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" مَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فِي الدُّنْيَا فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ،وَمَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ مُسْلِمٍ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،وَاللَّهُ فِي حَاجَةِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ ".رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ . (1)
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ،عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" إِنَّ صَدَقَةَ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ،وَإِنَّ صَنَائِعَ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ،وَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمْرِ وَتَنْفِي الْفَقْرَ،وَأَكْثِرْ مِنْ قَوْلِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ،فَإِنَّهُ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ وَإِنَّ فِيهَا شِفَاءً مِنْ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ دَاءً أَدْنَاهَا الْهَمُّ،".رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (2)
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ،وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ،وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ". (3)
وعَنْ سَمُرَةَ بن جُنْدُبٍ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ اللِّسَانُ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،وَمَا صَدَقَةُ اللِّسَانِ؟ قَالَ:"الشَّفَاعَةُ يُفَكُّ بِهَا الأَسِيرُ،وَيُحْقَنُ بِهَا الدَّمُ،وَتَجُرُّ بِهَا الْمَعْرُوفَ وَالإِحْسَانَ إِلَى أَخِيكَ،وَتَدْفَعُ عَنْهُ الْكَرِيهَةَ". (4)
وعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ،عَنْ أَبِيهِ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:مَنْ حَمَى مُؤْمِنًا مِنْ مُنَافِقٍ يَعِيبُهُ بَعَثَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَلَكًا يَحْمِي لَحْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ،وَمَنْ بَغَى مُؤْمِنًا بِشَيْءٍ يُرِيدُ بِهِ شَيْنَهُ حَبَسَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ. (5)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - المعجم الأوسط للطبراني - (184) والمعجم الكبير للطبراني - (19 / 109)(245 ) حسن
(2) - المعجم الأوسط للطبراني - (956 ) حسن لغيره
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (7 / 299) (7939) صحيح لغيره
(4) - المعجم الكبير للطبراني - (6 / 373)(6820 ) ضعيف واهٍ
(5) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 379)(15649) 15734- حسن(1/183)
الحقُّ السادس والعشرون
يجيب دعوته
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،يَقُولُ:حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ:رَدُّ السَّلاَمِ،وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ،وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ،وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ،وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ. (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ،قَالُوا:مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ:إِذَا لَقِيَهُ سَلَّمَ عَلَيْهِ،وَإِذَا دَعَاهُ أَجَابَهُ،وَإِذَا اسْتَنْصَحَ نَصَحَهُ،وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ يُشَمِّتُهُ،وَإِذَا مَرِضَ عَادَهُ،وَإِذَا مَاتَ صَحِبَهُ. " (2)
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ،أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:"مَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ". (3)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَنْ سَأَلَ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ،وَمَنِ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ،وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ. (4)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَنِ اسْتَعَاذَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ،وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ،وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ،وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ،فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا اللَّهَ لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ. (5)
وعَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا دُعِىَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ فَإِنْ شَاءَ طَعِمَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ».. (6)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« إِذَا دُعِىَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ ». يَعْنِى الدُّعَاءَ. (7)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (1240) وصحيح مسلم- المكنز - (5777 ) وصحيح ابن حبان - (1 / 476) (241)
(2) - صحيح ابن حبان - (1 / 477) (242) صحيح
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (7 / 264) (7829 ) صحيح لغيره
(4) - صحيح ابن حبان - (8 / 168) (3375) صحيح
(5) - صحيح ابن حبان - (8 / 199)(3408) صحيح
(6) - صحيح مسلم- المكنز - (3591 )
(7) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (7 / 263)(14924) وصحيح مسلم- المكنز - (3593)(1/184)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ،فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَأْكُلْ،وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ." (1)
وعَنْ عِيَاضٍ أَبِي أَشْرَسَ السُّلَمِيِّ،قَالَ: رَأَيْتُ يَعْلَى بن مُرَّةَ دَعْوَتُهُ إِلَى مَأْدُبَةٍ فَقَعَدَ صَائِمًا،فَجَعَلَ النَّاسُ يَأْكُلُونَ وَلا يَطْعُمُ،فَقُلْتُ لَهُ: وَاللَّهِ لَوْ عَلِمْنَا أَنَّكَ صَائِمٌ مَا عَتَبْنَاكَ،قَالَ: لا تَقُولُوا ذَلِكَ،فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،يَقُولُ:أَجِبْ أَخَاكَ فَإِنَّكَ مِنْهُ عَلَى اثْنَتَيْنِ إِمَّا خَيْرٌ فَأَحَقُّ مَا شَهِدْتَهُ،وَإِمَّا غَيْرُهُ فَتَنْهَاهُ عَنْهُ وَتَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ. (2)
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّهُ قَالَ:صَنَعْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - طَعَامًا فَأَتَانِى هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَلَمَّا وُضِعَ الطَّعَامُ قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ:إِنِّى صَائِمٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« دَعَاكُمْ أَخُوكُمْ وَتَكَلَّفَ لَكُمْ ». ثُمَّ قَالَ لَهُ :« أَفْطِرْ وَصُمْ مَكَانَهُ يَوْمًا إِنْ شِئْتَ ». (3)
وعَنْ أَبِي إِسْحَاقَ،قَالَ:دَخَلْتُ عَلَى قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ فَدَعَا لِي بِشَرَابٍ،فَقَالَ:اشْرَبْ،فَقُلْتُ:لاَ أُرِيدُ،قَالَ:صَائِمٌ أَنْتَ ؟ قُلْتُ:نَعَمْ،قَالَ:فَإِنِّي سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ يَقُولُ:إذَا عُرِضَ عَلَى أَحَدِكُمْ طَعَامٌ،أَوْ شَرَابٌ وَهُوَ صَائِمٌ،فَلْيَقُلْ:إنِّي صَائِمٌ. (4)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَلْيُجِبْ،فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ،وَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ. (5)
وعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ:إِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَ الْعَوَالِي يَدْعُو رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَطْرَ اللَّيْلِ عَلَى خُبْزِ الشَّعِيرِ فَيُجِيبُهُ . (6)
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (9 / 86)(10411 ) صحيح
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (16 / 138)(18150) ضعيف
(3) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (4 / 279)(8622) حسن
(4) - مصنف ابن أبي شيبة - (6 / 248)(9532) صحيح
(5) - صحيح ابن حبان - (12 / 120)(5306) صحيح
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ يُرِيدُ بِهِ : فَلْيَدْعُ ؛ لأَنَّ الصَّلاَةَ دُعَاءٌ ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلاَ لِصَفِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة] أَرَادَ بِهِ ، وَادْعُ لَهُمْ.
(6) - المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية - (15 / 587)(3825 ) صحيح مرسل(1/185)
وعَنْ أَنَسٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :لَوْ دُعِيتُ إِلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ،وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ لَقَبِلْتُ. (1)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،قَالَ:"كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُ الْمَرِيضَ،وَيَشْهَدُ الْجَنَازَةَ،وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ،وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ رِدْفًا،وَكَانَ يَوْمَ خَيْبَرَ عَلَى حِمَارٍ،وَيَوْمَ قُرَيْظَةَ عَلَى حِمَارٍ مَخْطُومٍ بِحَبْلِ لِيفٍ تَحْتَهُ إِكَافٌ مِنْ لِيفٍ " (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ،يُدْعَى إِلَيْهَا الأَغْنِيَاءُ وَيُتْرَكُ الْمَسَاكِينُ،وَمَنْ لَمْ يُجِبِ الدَّعْوَةَ،فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ. (3)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ بِئْسَ الطَّعَامُ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ يُدْعَى إِلَيْهِ الأَغْنِيَاءُ وَيُتْرَكُ الْمَسَاكِينُ فَمَنْ لَمْ يَأْتِ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ. (4)
حُكْمُ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ (5) :
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ إِجَابَةَ الدَّعْوَةِ فِي الأَْصْل وَاجِبَةٌ إِنْ كَانَتْ إِلَى وَلِيمَةِ عُرْسٍ ( ر:وَلِيمَةٌ ) وَأَمَّا مَا عَدَاهَا فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الإِْجَابَةِ إِلَيْهَا .
فَقَال الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ:لَيْسَتِ الإِْجَابَةُ إِلَيْهَا وَاجِبَةً بَل هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ أَوْ مَانِعٌ عَلَى مَا يَأْتِي.وَسَوَاءٌ كَانَتْ لِسَبَبٍ كَبِنَاءٍ أَوْ وِلاَدَةٍ أَوْ خِتَانٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ،مَا لَمْ تَكُنْ مِنَ الدَّاعِي مَكْرُوهَةً كَدَعْوَةِ الْمَأْتَمِ،وَذَلِكَ لأَِنَّ فِي إِجَابَةِ الدَّاعِي تَطْيِيبُ نَفْسِهِ،وَجَبْرُ قَلْبِهِ. (6)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (5178) وصحيح ابن حبان - (12 / 103)(5292) -الكراع : مستدق الساق من الغنم والبقر العارى من اللحم
(2) - شعب الإيمان - (10 / 484)(7841 -7844 ) حسن لغيره -الإكاف : البرذعة
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (5177) وصحيح مسلم- المكنز - (3595 ) وصحيح ابن حبان - (12 / 117) (5304)
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (3594 )
(5) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (20 / 337)
(6) - المغني 7 / 11 ، 12 ، والفتاوى الهندية 5 / 343(1/186)
وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى مَا عِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ:أَنَّ الإِْجَابَةَ لِغَيْرِ الْعُرْسِ وَالْعَقِيقَةِ مُبَاحَةٌ وَقِيل هِيَ مَكْرُوهَةٌ،وَالْمَأْدُبَةُ إِذَا فُعِلَتْ لإِِينَاسِ الْجَارِ وَمَوَدَّتِهِ مَنْدُوبَةٌ . (1)
وَفِي قَوْلٍ لِلشَّافِعِيَّةِ:إِنَّ الإِْجَابَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمَدْعُوِّ فِي وَلِيمَةِ الْعُرْسِ وَغَيْرِهَا،أَخْذًا بِالْعُمُومَاتِ،وَمِنْهَا مَا روي عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُجِبْ عُرْسًا كَانَ أَوْ نَحْوَهُ ». (2)
وَقَوْلُهُ:حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ رَدُّ السَّلاَمِ،وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ،وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ،وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ،وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ (3) .فَجَعَل إِجَابَةَ الدَّعْوَةِ حَقًّا لِلْمُسْلِمِ،وَالْحَقُّ هُوَ الْوَاجِبُ،وَلَمْ يَخُصَّ عُرْسًا مِنْ غَيْرِهِ (4) .
إِجَابَةُ دَعْوَةِ الْفُقَرَاءِ وَالإِْجَابَةُ عَلَى الطَّعَامِ الْقَلِيل :
لاَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فَقْرُ الدَّاعِي،أَوْ خِفَّةُ شَأْنِهِ،أَوْ قِلَّةُ الطَّعَامِ مَانِعًا مِنْ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ،فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْكِبْرِ.وَالدَّعْوَةُ مَشْرُوعَةٌ لإِِحْيَاءِ الْمَوَدَّةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَمَزِيدِ التَّآلُفِ.وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَال:لَوْ دُعِيتَ إِلَى كُرَاعٍ لأََجَبْتُ وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ (5) . وَالْكُرَاعُ مِنَ الشَّاةِ وَنَحْوِهَا:مُسْتَدَقُّ السَّاقِ .
قَال ابْنُ حَجَرٍ:فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى حُسْنِ خُلُقِهِ - صلى الله عليه وسلم - وَتَوَاضُعِهِ وَجَبْرِهِ لِقُلُوبِ النَّاسِ،وَعَلَى قَبُول الْهَدِيَّةِ وَإِجَابَةِ مَنْ يَدْعُو الرَّجُل إِلَى مَنْزِلِهِ وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ الَّذِي يَدْعُو إِلَيْهِ شَيْءٌ قَلِيلٌ،ثُمَّ قَال:قَال الْمُهَلَّبُ:لاَ يَبْعَثُ عَلَى الدَّعْوَةِ إِلَى الطَّعَامِ إِلاَّ صِدْقُ الْمَوَدَّةِ وَسُرُورُ الدَّاعِي بِأَكْل الْمَدْعُوِّ مِنْ طَعَامِهِ،وَالتَّحَبُّبُ إِلَيْهِ بِالْمُؤَاكَلَةِ،وَتَوْكِيدِ الذِّمَامِ مَعَهُ بِهَا،فَلِذَلِكَ حَضَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الإِْحَابَةِ وَلَوْ نَزَرَ الطَّعَامُ الْمَدْعُوُّ إِلَيْهِ،وَفِي الْحَدِيثِ:الإِْجَابَةُ لِمَا قَل أَوْ كَثُرَ.ا هـ " (6) . وللأحاديث الآنفة الذكر
__________
(1) - حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 337
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (3586 )
(3) - مر تخريجه
(4) - المغني 7 / 11 ، وشرح المنهاج معه حاشية القليوبي 3 / 295
(5) - مر تخريجه
(6) - فتح الباري 9 / 246(1/187)
مُسْقِطَاتُ وُجُوبِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ (1) :
يَسْقُطُ وُجُوبُ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ بِأُمُورٍ مِنْهَا :
1 - أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي ظَالِمًا أَوْ فَاسِقًا،أَوْ مُبْتَدِعًا .
2 - أَنْ يَكُونَ مَال الدَّاعِي يَخْتَلِطُ فِيهِ الْحَلاَل بِالْحَرَامِ .
3 - إِذَا كَانَ الدَّاعِي امْرَأَةً وَلَمْ تُؤْمَنِ الْخَلْوَةُ .
4 - إِذَا كَانَ الدَّاعِي غَيْرَ مُسْلِمٍ،فَيَجُوزُ إِجَابَتُهُ إِذْا كَانَ يُرْجَى إِسْلاَمُهُ،أَوْ كَانَ جَارًا،أَوْ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّاعِي قَرَابَةٌ .
5 - أَنْ لاَ يَكُونَ الدَّاعِي قَدْ عَيَّنَ بِدَعْوَتِهِ مَنْ يُرِيدُ حُضُورَهُ،وَإِنَّمَا عَمَّمَ الدَّعْوَةَ .
6 - أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَةُ بِلَفْظٍ غَيْرِ صَرِيحٍ،كَقَوْلِهِ:إِنْ شِئْتَ فَاحْضُرْ .
7 - أَنْ يَخْتَصَّ بِالدَّعْوَةِ الأَْغْنِيَاءَ وَيَتْرُكَ الْفُقَرَاءَ .
8 - أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سَيَكُونُ فِي الْمَدْعُوِّينَ مَنْ يَتَأَذَّى بِهِ الْمَدْعُوُّ،لأَِمْرٍ دُنْيَوِيٍّ أَوْ دِينِيٍّ .
9 - أَنْ يَكُونَ فِي الدَّعْوَةِ مُنْكَرٌ يَعْلَمُ بِهِ الْمَدْعُوُّ قَبْل حُضُورِهِ .
10 - تَكَرُّرُ الدَّعْوَةِ لِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فَأَكْثَرَ .
11 - أَنْ يَكُونَ الدَّاعِي مَدِينًا لِلْمَدْعُوِّ .
12 - أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ دَاعِيَانِ فَأَكْثَرُ،وَلاَ يَتَأَتَّى إِجَابَةُ الدَّعَوَاتِ كُلِّهَا فَيُجِيبُ الأَْوَّل .
كَمَا تَسْقُطُ إِجَابَةُ الدَّاعِي لأَِعْذَارٍ خَاصَّةٍ بِالْمَدْعُوِّ،كَأَنْ يَكُونَ مَرِيضًا،أَوْ مَشْغُولاً بِحَقٍّ لِغَيْرِهِ،أَوْ أَنْ يَكُونَ فِي الْمَكَانِ كَثْرَةُ زِحَامٍ،أَوْ كَوْنُ الْمَدْعُوِّ قَاضِيًا وَالدَّاعِي خَصْمًا،أَوْ لاَ يُقِيمُ الدَّعْوَةَ لَوْلاَ الْقَاضِي - مَعَ تَفْصِيلٍ فِي الْمَذَاهِبِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَاضِي - يُنْظَرُ فِي ( أَدَبُ الْقَاضِي ) وَفِي ( وَلِيمَةٌ ) .
كَمَا تَسْقُطُ إِجَابَةُ الدَّعْوَةِ بِإِعْفَاءِ الدَّاعِي،كَسَائِرِ حُقُوقِ الآْدَمِيِّينَ. (2)
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (20 / 334)
(2) - ابن عابدين 5 / 221 - 222 ، الفتاوى الهندية 5 / 342 - 343 ، كشاف القناع 5 / 166 ، 167 - 168 ، والمغني 5 / 11 ، 7 / 3 - 9 / 79 - 80 ، وحاشية الدسوقي 2 / 337 ، 338 ، والآداب الشرعية 1 / 333 ، والقليوبي 3 / 295 - 296(1/188)
مِنَ الآدَابِ الَّتِي يُرَاعِيهَا الدَّاعِي فِي دَعْوَتِهِ (1) :
1 - أَنْ يُعَيِّنَ مَنْ يَدْعُوهُ .
2 - وَأَنْ يَخُصَّ بِدَعْوَتِهِ أَهْل الصَّلاَحِ وَالتَّقْوَى .
3 - وَأَنْ لاَ يُسْرِفَ فِيمَا يُقَدِّمُهُ وَلاَ يُقَتِّرَ .
4 - وَأَنْ لاَ يُلِحَّ بِالْفِطْرِ عَلَى مَنْ كَانَ صَائِمًا .
5 - وَأَنْ يَتَبَسَّطَ مَعَ الْمَدْعُوِّينَ فِي الْحَدِيثِ،وَيُشَارِكَهُمْ فِي الطَّعَامِ .
6 - وَأَنْ لاَ يَمْدَحَ طَعَامَهُ .
7 - وَأَنْ يُكْرِمَ أَفْضَل الْمَدْعُوِّينَ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّوْدِيعِ .
وَمِنَ الآْدَابِ الَّتِي يُرَاعِيهَا الْمَدْعُوُّ :
1 - أَنْ يَنْوِيَ بِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ تَكْرِيمَ الدَّاعِي .
2 - وَأَنْ لاَ يَدْخُل بَيْتَ الدَّاعِي إِلاَّ بِإِذْنِهِ .
3 - وَأَنْ لاَ يَتَصَدَّرَ الْمَجْلِسَ،وَإِذَا عَيَّنَ لَهُ صَاحِبُ الدَّعْوَةِ مَكَانًا مُعَيَّنًا فَلاَ يَتَعَدَّاهُ .
4 - وَأَنْ لاَ يَمْتَنِعَ مِنَ الطَّعَامِ إِلاَّ إِذَا كَانَ صَائِمًا صَوْمًا وَاجِبًا .
5 - وَأَنْ لاَ يُسَارِعَ إِلَى تَنَاوُل الطَّعَامِ .
6 - وَأَنْ يُرَاعِيَ الآْدَابَ الْعَامَّةَ فِي الأَْكْل .
7 - وَأَنْ يُؤْثِرَ عَلَى نَفْسِهِ الْمُحْتَاجَ مِنَ الْحَاضِرِينَ.فَيَتْرُكَ لَهُ مَا يُلاَئِمُهُ .
8 - أَنْ لاَ يُعَجِّل بِرَفْعِ يَدِهِ مِنَ الطَّعَامِ حَتَّى يَفْرُغَ الْقَوْمُ .
9 - أَنْ يَدْعُوَ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ بَعْدَ الْفَرَاغِ .
10 - وَأَنْ لاَ يُطِيل الْجُلُوسَ بَعْدَ الطَّعَامِ .
التَّطَفُّل عَلَى الدَّعَوَاتِ :
لاَ يَجُوزُ أَنْ يَدْخُل إِلَى الْوَلاَئِمِ وَغَيْرِهَا مِنَ الدَّعَوَاتِ مَنْ لَمْ يُدْعَ إِلَيْهَا،فَإِنَّ فِي هَذَا دَنَاءَةً وَمَذَلَّةً،وَلاَ يَلِيقُ ذَلِكَ بِالْمُؤْمِنِ،فعَنْ نَافِعٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (20 / 335)(1/189)
« مَنْ دُعِىَ فَلَمْ يُجِبْ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ دَخَلَ عَلَى غَيْرِ دَعْوَةٍ دَخَلَ سَارِقًا وَخَرَجَ مُغِيرًا » (1) . وَمَنْ يَفْعَل ذَلِكَ يُسَمَّى الطُّفَيْلِيَّ .
وَعَلَى هَذَا فَالتَّطَفُّل حَرَامٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ،مَا لَمْ يَكُنْ غَيْرُ الْمَدْعُوِّ تَابِعًا لِمَدْعُوٍّ ذِي قَدْرٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يَحْضُرُ وَحْدَهُ عَادَةً،فَلاَ يَحْرُمُ،لأَِنَّهُ مَدْعُوٌّ حُكْمًا بِدَعْوَةِ مَتْبُوعِهِ،وَكَرِهَ أَحْمَدُ أَنْ يَتَعَمَّدَ الرَّجُل الْقَوْمَ حِينَ وَضْعِ الطَّعَامِ فَيَفْجَأَهُمْ،وَإِنْ فَجَأَهُمْ بِلاَ تَعَمُّدِ أَكَل نَصًّا،وَأَطْلَقَ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَغَيْرِهِ الْكَرَاهَةَ إِلاَّ مَنْ عَادَتُهُ السَّمَاحَةُ . (2)
وَلَوْ أَنَّ أَحَدًا أَوْ جَمَاعَةً دُعُوا فَتَبِعَهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَدْعُوًّا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَنْهَوْهُ وَلاَ أَنْ يَأْذَنُوا لَهُ،وَيَلْزَمُهُمْ إِعْلاَمُ صَاحِبِ الطَّعَامِ،فعَنْ أَبِى مَسْعُودٍ الأَنْصَارِىِّ قَالَ كَانَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو شُعَيْبٍ وَكَانَ لَهُ غُلاَمٌ لَحَّامٌ فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَعَرَفَ فِى وَجْهِهِ الْجُوعَ فَقَالَ لِغُلاَمِهِ وَيْحَكَ اصْنَعْ لَنَا طَعَامًا لِخَمْسَةِ نَفَرٍ فَإِنِّى أُرِيدُ أَنْ أَدْعُوَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - خَامِسَ خَمْسَةٍ. قَالَ فَصَنَعَ ثُمَّ أَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَدَعَاهُ خَامِسَ خَمْسَةٍ وَاتَّبَعَهُمْ رَجُلٌ فَلَمَّا بَلَغَ الْبَابَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ هَذَا اتَّبَعَنَا فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ وَإِنْ شِئْتَ رَجَعَ ». قَالَ لاَ بَلْ آذَنُ لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. (3) .
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (3743 ) حسن لغيره
(2) - كشاف القناع 5 / 175 ، والمغني 5 / 17 ، والشرح الكبير للدردير 2 / 338 ، والآداب الشرعية 3 / 187
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (5429 )- اللحام : بائع اللحم(1/190)
الحقُّ السابع والعشرون
تبرُّ قسمه
وعَنِ الْبَرَاءِ - رضى الله عنه - قَالَ أَمَرَنَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِسَبْعٍ،وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ أَمَرَنَا بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ،وَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ،وَإِجَابَةِ الدَّاعِى،وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ،وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ،وَرَدِّ السَّلاَمِ،وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ.وَنَهَانَا عَنْ آنِيَةِ الْفِضَّةِ،وَخَاتَمِ الذَّهَبِ،وَالْحَرِيرِ،وَالدِّيبَاجِ،وَالْقَسِّىِّ،وَالإِسْتَبْرَقِ (1) .
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ،عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ:"أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِإِبْرَارِ الْقَسَمِ " (2)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ،قَالَ:أُمِرْنَا بِإِبْرَارِ الْقَسَمِ. (3)
الْحَلِفُ عَلَى الْغَيْرِ وَاسْتِحْبَابِ إِبْرَارِ الْقَسَمِ (4) :
قَدْ يَحْلِفُ الإِْنْسَانُ عَلَى فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ مَنْسُوبَيْنِ إِلَيْهِ،نَحْوُ:وَاللَّهِ لأََفْعَلَنَّ أَوْ لاَ أَفْعَل،وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ.وَقَدْ يَحْلِفُ عَلَى فِعْلٍ أَوْ تَرْكٍ مَنْسُوبَيْنِ إِلَى غَيْرِهِ،كَقَوْلِهِ:وَاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ أَوْ لاَ تَفْعَل،وَقَوْلُهُ:وَاللَّهِ لَيَفْعَلَنَّ فُلاَنٌ كَذَا أَوْ لاَ يَفْعَلُهُ .
وَأَحْكَامُ الْبِرِّ وَالْحِنْثِ السَّابِقُ ذِكْرُهَا إِنَّمَا هِيَ فِيمَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْل نَفْسِهِ أَوْ تَرْكِهَا .
وَأَمَّا مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْل غَيْرِهِ أَوْ تَرْكِهِ،مُخَاطَبًا كَانَ أَوْ غَائِبًا،فَإِنَّهُ يَتَّفِقُ حُكْمُ التَّحْنِيثِ وَالإِْبْرَارِ فِيهِ مَعَ حُكْمِ الْحِنْثِ وَالْبِرِّ السَّابِقَيْنِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَيَخْتَلِفُ فِي بَعْضِهَا .
أ - فَمَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ أَنْ يَفْعَل وَاجِبًا أَوْ يَتْرُكَ مَعْصِيَةً وَجَبَ إِبْرَارُهُ؛لأَِنَّ الإِْبْرَارَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِنَّمَا هُوَ قِيَامٌ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ أَوِ انْتِهَاءٌ عَمَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز -(1239 ) وصحيح مسلم- المكنز - (5510 )
القسى : ثياب من كتان مخلوط بالحرير منسوبة إلى قرية قس بمصر -المياثر : جمع الميثرة وهى من مراكب العجم تعمل من حرير أو ديباج
(2) - شرح معاني الآثار - (4 / 271) (6824 ) صحيح
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (9 / 31)(10250 ) صحيح لغيره
(4) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (7 / 293)(1/191)
ب - وَمَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ أَنْ يَفْعَل مَعْصِيَةً أَوْ يَتْرُكَ وَاجِبًا لَمْ يَجُزْ إِبْرَارُهُ،بَل يَجِبُ تَحْنِيثُهُ؛فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الصَّامِتِ،قَالَ:أَرَادَ زِيَادٌ أَنْ يَبْعَثَ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ عَلَى خُرَاسَانَ،فَأَبَى عَلَيْهِ،فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ:أَتَرَكْتَ خُرَاسَانَ أَنْ تَكُونَ عَلَيْهَا ؟ قَالَ:فَقَالَ إِنِّي وَاللَّهِ مَا يَسُرُّنِي أَنْ أُصَلِّيَ بِحَرِّهَا،وَتُصَلُّونَ بِبَرْدِهَا،إِنِّي أَخَافُ إِذَا كُنْتُ فِي نُحُورِ الْعَدُوِّ،أَنْ يَأْتِيَنِي كِتَابٌ مِنْ زِيَادٍ،فَإِنْ أَنَا مَضَيْتُ هَلَكْتُ،وَإِنْ رَجَعْتُ ضُرِبَتْ عُنُقِي،قَالَ:فَأَرَادَ الْحَكَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيَّ عَلَيْهَا،قَالَ:فَانْقَادَ لأَمْرِهِ،قَالَ:فَقَالَ عِمْرَانُ:أَلاَ أَحَدٌ يَدْعُو لِي الْحَكَمَ،قَالَ:فَانْطَلَقَ الرَّسُولُ،قَالَ:فَأَقْبَلَ الْحَكَمُ إِلَيْهِ،قَالَ:فَدَخَلَ عَلَيْهِ،قَالَ:فَقَالَ عِمْرَانُ لِلْحَكَمِ:أَسَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،يَقُولُ:لاَ طَاعَةَ لأَحَدٍ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ قَالَ:نَعَمْ،فَقَالَ عِمْرَانُ:لِلَّهِ الْحَمْدُ،أَوِ اللَّهُ أَكْبَرُ. (1)
ج - وَمَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ أَنْ يَفْعَل مَكْرُوهًا أَوْ يَتْرُكَ مَنْدُوبًا فَلاَ يَبَرُّهُ،بَل يُحَنِّثُهُ نَدْبًا؛لأَِنَّ طَاعَةَ اللَّهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى طَاعَةِ الْمَخْلُوقِ .
د - وَمَنْ حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ أَنْ يَفْعَل مَنْدُوبًا أَوْ مُبَاحًا،أَوْ يَتْرُكَ مَكْرُوهًا أَوْ مُبَاحًا فَهَذَا يُطْلَبُ إِبْرَارُهُ عَلَى سَبِيل الاِسْتِحْبَابِ،وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِحَدِيثِ الأَْمْرِ بِإِبْرَارِ الْقَسَمِ الَّذِي رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ...
وَظَاهِرُ الأَْمْرِ الْوُجُوبُ،لَكِنِ اقْتِرَانُهُ بِمَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ - كَإِفْشَاءِ السَّلاَمِ - قَرِينَةٌ صَارِفَةٌ عَنِ الْوُجُوبِ .
وَمِمَّا يَدُل عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَبَرَّ قَسَمَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،فعَنِ ابْنِ شِهَابٍ،أَنَّ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ اللهِ أَخْبَرَهُ،أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يُحَدِّثُ،أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ فِي الْمَنَامِ ظُلَّةً تَنْطِفُ السَّمْنَ وَالْعَسَلَ،وَإِذَا النَّاسُ يَتَكَفَّفُونَ مِنْهَا بِأَيْدِيهِمْ،فَالْمُسْتَكْثِرُ وَالْمُسْتَقِلُّ،وَأَرَى سَبَبًا وَاصِلاً مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ،فَأَرَاكَ أَخَذْتَ بِهِ فَعَلَوْتَ،ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ بَعْدِكَ فَعَلاَ،ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَعَلاَ،ثُمَّ أَخَذَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَانْقَطَعَ بِهِ،ثُمَّ وُصِلَ لَهُ فَعَلاَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ:يَا رَسُولَ اللهِ،بِأَبِي
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 889)(20654) 20930- صحيح(1/192)
أَنْتَ وَاللَّهِ لَتَدَعَنِّي فَلَأَعْبُرُهُ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :عَبِّرْ،قَالَ أَبُو بَكْرٍ:أَمَّا الظُّلَّةُ فَظُلَّةُ الإِسْلاَمِ،وَأَمَّا الَّذِي يَنْطِفُ مِنَ السَّمْنِ وَالْعَسَلِ،فَالْقُرْآنُ حَلاَوَتُهُ وَلِينُهُ،وَأَمَّا مَا يَتَكَفَّفُ النَّاسُ مِنْ ذَلِكَ،فَالْمُسْتَكْثِرُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْمُسْتَقِلُّ،وَأَمَّا السَّبَبُ الْوَاصِلُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ،فَالْحَقُّ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ،أَخَذْتَهُ فَيُعْلِيكَ اللَّهُ،ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ مِنْ بَعْدِكَ فَيَعْلُو بِهِ،ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَيَعْلُو بِهِ،ثُمَّ يَأْخُذُ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ فَيَنْقَطِعُ بِهِ،ثُمَّ يُوصَلُ لَهُ فَيَعْلُو،فَأَخْبِرْنِي يَا رَسُولَ اللهِ،بِأَبِي أَنْتَ،أَصَبْتُ أَمْ أَخْطَأْتُ ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :أَصَبْتَ بَعْضًا،وَأَخْطَأْتَ بَعْضًا،قَالَ:وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللهِ،لَتُخْبِرَنِّي بِالَّذِي أَخْطَأْتُ،قَالَ:لاَ تُقْسِمْ." (1)
فَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - "لاَ تُقْسِمْ"مَعْنَاهُ لاَ تُكَرِّرِ الْقَسَمَ الَّذِي أَتَيْتَ بِهِ؛لأَِنِّي لَنْ أُجِيبَكَ،وَلَعَل هَذَا الصَّنِيعَ مِنْ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِبَيَانِ الْجَوَازِ،فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لاَ يَفْعَل خِلاَفَ الْمُسْتَحْسَنِ إِلاَّ بِقَصْدِ بَيَانِ الْجَوَازِ،وَهُوَ يَدُل عَلَى أَنَّ الأَْمْرَ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ،بَل لِلاِسْتِحْبَابِ . (2)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (7046 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6066 ) و صحيح ابن حبان - (1 / 315) (111)
السبب : الحبل -الظلة : السحابة التى لها ظل -تنطف : تقطر
(2) - نهاية المحتاج 8 / 169 ، وتحفة المحتاج بحاشية الشرواني 8 / 214 ، والمغني بأعلى الشرح الكبير 11 / 247 ، ومطالب أولي النهى 6 / 367 - 368 .(1/193)
الحقُّ الثامن والعشرون
إذا استنصرك فانصره
قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (72) سورة الأنفال
إِنَّ المُهَاجِرِينَ الذِينَ تَرَكُوا دِيَارَهُمْ،وَجَاهَدُوا مَعَ الرَّسُولِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ،وَالأَنْصَارِ الذِينَ آوَوُا الرَّسُولَ وَنَصَرُوهُ،هَؤُلاَءِ جَمِيعاً بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ،وَكُلٌّ مِنْهُمْ أَحَقُّ بِالآخَرِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ.لِذَلِكَ آخَى الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ،كُلَّ اثْنَيْنِ أَخَوَانِ فِي اللهِ،فَكَانُوا يَتَوَارَثُونَ بِذَلِكَ إِرْثاً مُقَدَّماً عَلَى القَرَابَةِ،حَتَّى نَسَخَ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِآيَةِ المَوَارِيثِ
أمَّا الذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا،بَلْ أَقَامُوا فِي أَمَاكِنِهِمْ فَهَؤُلاَءِ لاَ يَثْبُتُ لَهُمْ شَيءٌ مِنْ وَلاَيَةِ المُسْلِمِينَ وَنُصْرَتِهِمْ،إِذْ لاَ سَبِيلَ إِلَى وَلاَيَتِهِمْ حَتَّى يُهَاجِرُوا،وَلَيْسَ لَهُمْ مِنَ المَغَانِمِ نَصِيبٌ وَلاَ فِي خُمْسِهَا إِلاَّ مَا حَضَرُوا فِيهِ القِتَالَ.وَإِذَا اسْتَنْصَرَ هَؤُلاَءِ،الذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا،إِخْوَانَهُمُ المِسْلِمِينَ فِي قِتَالٍ دِيني عَلَى عَدُوٍ لَهُمْ،فَعَلَيْهِمْ نَصْرَهُمْ،لأَنَّهُمْ إِخْوَانٌ فِي الدِّينِ.أَمَّا إِذَا كَانَ الاسْتِنْصَارُ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ المُسْلِمِينَ مِيثَاقٌ وَمُهَادَنَةٌ إلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ،فَيَجِبُ عَلَى المُسْلِمِينَ الاَّ يَخْفِرُوا ذِمَّتَهُمْ وَلاَ أَنْ يَنْقُضُوا أَيْمَانَهُم مَعَ الذِينَ عَاهَدُوهُمْ . (1)
لقد انخلع كل من قال:أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه في مكة من الولاء لأسرته،والولاء لعشيرته،والولاء لقبيلته،والولاء لقيادته الجاهلية الممثلة في قريش وأعطى ولاءه وزمامه لمحمد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وللتجمع الصغير الناشئ الذي قام بقيادته. في
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1233)(1/194)
حين وقف المجتمع الجاهلي يدفع عن وجوده الذاتي خطر هذا التجمع الجديد - الخارج عليه حتى قبل اللقاء في المعركة الحربية - ويحاول سحق هذا التجمع الوليد في نشأته.
عندئذ آخى رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بين أعضاء هذا التجمع الوليد .. أي أنه حول هؤلاء «الأفراد» الآتين من المجتمع الجاهلي أفرادا،إلى «مجتمع» متكافل،تقوم رابطة العقيدة فيه مقام رابطة الدم والنسب ويقوم الولاء لقيادته الجديدة مقام الولاء للقيادة الجاهلية،ويقوم الولاء فيه للمجتمع الجديد مقام كل ولاء سابق.
ثم لما فتح اللّه للمسلمين دار الهجرة في المدينة بعد أن وجد فيها مسلمون بايعوا القيادة الإسلامية على الولاء المطلق،والسمع والطاعة في المنشط والمكره،وحماية رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - مما يحمون منه أموالهم وأولادهم ونساءهم وقامت الدولة المسلمة في المدينة بقيادة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - عاد رسول اللّه فآخى بين المهاجرين والأنصار تلك المؤاخاة التي تقوم مقام رابطة الدم والنسب كذلك بكل مقتضياتها. بما في ذلك الإرث والديات والتعويضات التي تقوم بها رابطة الدم في الأسرة والعشيرة .. وكان حكم اللّه تعالى:«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» ..
أولياء في النصرة،وأولياء في الإرث،وأولياء في الديات والتعويضات وسائر ما يترتب على رابطة الدم والنسب من التزامات وعلاقات.
ثم وجد أفراد آخرون دخلوا في هذا الدين عقيدة ولكنهم لم يلتحقوا بالمجتمع المسلم فعلا .. لم يهاجروا إلى دار الإسلام التي تحكمها شريعة اللّه وتدبر أمرها القيادة المسلمة ولم ينضموا إلى المجتمع المسلم الذي أصبح يملك دارا يقيم فيها شريعة اللّه ويحقق فيها وجوده الكامل بعد ما تحقق له وجوده في مكة نسبيا،بالولاء للقيادة الجديدة والتجمع في تجمع عضوي حركي،مستقل ومنفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجه له بهذا الوجود المستقل المميز.(1/195)
وجد هؤلاء الأفراد سواء في مكة،أو في الأعراب حول المدينة. يعتنقون العقيدة،ولكنهم لا ينضمون للمجتمع الذي يقوم على هذه العقيدة ولا يدينون فعلا دينونة كاملة للقيادة القائمة عليه ..
وهؤلاء لم يعتبروا أعضاء في المجتمع المسلم ولم يجعل اللّه لهم ولاية - بكل أنواع الولاية - مع هذا المجتمع،لأنهم بالفعل ليسوا من المجتمع الإسلامي. وفي هؤلاء نزل هذا الحكم:«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا. وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ،إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ» ..
وهذا الحكم منطقي ومفهوم مع طبيعة هذا الدين - التي أسلفنا - ومع منهجه الحركي الواقعي. فهؤلاء الأفراد ليسوا أعضاء في المجتمع المسلم ومن ثم لا تكون بينهم وبينه ولاية .. ولكن هناك رابطة العقيدة وهذه لا ترتب - وحدها - على المجتمع المسلم تبعات تجاه هؤلاء الأفراد اللهم إلا أن يعتدى عليهم في دينهم فيفتنوا مثلا عن عقيدتهم. فإذا استنصروا المسلمين - في دار الإسلام - في مثل هذا،كان على المسلمين أن ينصروهم في هذه وحدها. على شرط ألا يخل هذا بعهد من عهود المسلمين مع معسكر آخر. ولو كان هذا المعسكر هو المعتدي على أولئك الأفراد في دينهم وعقيدتهم! ذلك أن الأصل هو مصلحة المجتمع المسلم وخطته الحركية وما يترتب عليها من تعاملات وعقود. فهذه لها الرعاية أولا،حتى تجاه الاعتداء على عقيدة أولئك الذين آمنوا،ولكنهم لم ينضموا للوجود الفعلي لهذا الدين المتمثل في التجمع الإسلامي ..
.. وهذا يعطينا مدى الأهمية التي يعلقها هذا الدين على التنظيم الحركي الذي يمثل وجوده الحقيقي ..
والتعقيب على هذا الحكم:«وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» ..
فكل عملكم تحت بصره - سبحانه - يرى مداخله ومخارجه،ومقدماته ونتائجه،وبواعثه وآثاره.
وكما أن المجتمع المسلم مجتمع عضوي حركي متناسق متكافل متعاون يتجمع في ولاء واحد،فكذلك المجتمع الجاهلي:«وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» ..(1/196)
إن الأمور بطبيعتها كذلك - كما أسلفنا. إن المجتمع الجاهلي لا يتحرك كأفراد إنما يتحرك ككائن عضوي،تندفع أعضاؤه،بطبيعة وجوده وتكوينه،للدفاع الذاتي عن وجوده وكيانه. فهم بعضهم أولياء بعض طبعا وحكما .. ومن ثم لا يملك الإسلام أن يواجههم إلا في صورة مجتمع آخر له ذات الخصائص،ولكن بدرجة أعمق وأمتن وأقوى. فأما إذا لم يواجههم بمجتمع ولاؤه بعضه لبعض،فستقع الفتنة لأفراده من المجتمع الجاهلي - لأنهم لا يملكون مواجهة المجتمع الجاهلي المتكافل أفرادا - وتقع الفتنة في الأرض عامة بغلبة الجاهلية على الإسلام بعد وجوده. ويقع الفساد في الأرض بطغيان الجاهلية على الإسلام وطغيان ألوهية العباد على ألوهية اللّه ووقوع الناس عبيدا للعباد مرة أخرى. وهو أفسد الفساد: «إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ» ..
ولا يكون بعد هذا النذير نذير،ولا بعد هذا التحذير تحذير .. والمسلمون الذين لا يقيمون وجودهم على أساس التجمع العضوي الحركي ذي الولاء الواحد والقيادة الواحدة،يتحملون أمام اللّه - فوق ما يتحملون في حياتهم ذاتها - تبعة تلك الفتنة في الأرض،وتبعة هذا الفساد الكبير. (1)
وعَنِ الْبَرَاءِ،قَالَ:أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ،وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى،وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ،وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ،وَنُصْرَةِ الْمَظْلُومِ،وَإِفْشَاءِ السَّلاَمِ،وَإِجَابَةِ الدَّاعِي. (2)
وعَنْ عَاصِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ الْعُمَرِيُّ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ:سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ،يَقُولُ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا،قِيلَ:يَا رَسُولَ اللهِ،هَذَا نَصَرُهُ مَظْلُومًا،فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا ؟ قَالَ:تُمْسِكُهُ مِنَ الظُّلْمِ،فَذَاكَ نَصْرُكَ إِيَّاهُ. (3)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا،أَوْ مَظْلُومًا،فَقَالُوا:يَا رَسُولَ اللهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا،فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا ؟ قَالَ:تَكُفُّهُ عَنِ الظُّلْمِ. (4)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1558)
(2) - صحيح ابن حبان - (7 / 312) (3040) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (11 / 570) (5166) صحيح
(4) - صحيح ابن حبان - (11 / 571) (5167) صحيح(1/197)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا،أَوْ مَظْلُومًا،قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ،هَذَا يَنْصُرُهُ مَظْلُومًا،فَكَيْفَ يَنْصُرُهُ ظَالِمًا،قَالَ:يَكُفُّهُ عَنِ الظُّلْمِ. (1)
وعَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا ».قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا،فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا قَالَ « تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ » (2) .
وعَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا ».فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا،أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ قَالَ « تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ،فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ » (3) .
قالَ ابن بَطّال:النَّصرُ عِندَ العَرَبِ الإِعانَة،وتَفسِيره لِنَصرِ الظّالِمِ بِمَنعِهِ مِنَ الظُّلمِ مِن تَسمِيَةِ الشَّيءِ بِما يَئُولُ إِلَيهِ،وهُو مِن وجِيز البَلاغَة.
وقالَ البَيهَقِيّ:مَعناهُ أَنَّ الظّالِمَ مَظلُومٌ فِي نَفسِهِ فَيَدخُلُ فِيهِ رَدع المَرءِ عَن ظُلمِهِ لِنَفسِهِ حِسًّا ومَعنًى،فَلَو رَأَى إِنسانًا يُرِيدُ أَن يَجُبَّ نَفسَهُ لِظَنِّهِ أَنَّ ذَلِكَ يُزِيلُ مَفسَدَةَ طَلَبِهِ الزِّنا مَثَلاً مَنَعَهُ مِن ذَلِكَ وكانَ ذَلِكَ نَصَرًا لَهُ،واتَّحَدَ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الظّالِم والمَظلُوم.
وقالَ ابن المُنِير:فِيهِ إِشارَة إِلَى أَنَّ التَّركَ كالفِعلِ فِي بابِ الضَّمانِ وتَحته فُرُوع كَثِيرَة. (4)
وهُو فَرض كِفايَة،وهُو عامٌّ فِي المَظلُومِينَ وكَذَلِكَ فِي النّاصِرِينَ بِناءً عَلَى أَنَّ فَرض الكِفايَة مُخاطَب بِهِ الجَمِيع وهُو الرّاجِحُ ويَتَعَيَّنُ أَحيانًا عَلَى مَن لَهُ القُدرَة عَلَيهِ وحدَهُ إِذا لَم يَتَرَتَّب عَلَى إِنكارِهِ مَفسَدَة أَشَدّ مِن مَفسَدَةِ المُنكَرِ،فَلَو عَلِمَ أَو غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لا يُفِيدُ سَقَطَ الوُجُوب وبَقِيَ أَصل الاستِحباب بِالشَّرطِ المَذكُورِ.
فَلَو تَساوت المَفسَدَتانِ تَخَيَّرَ،وشَرط النّاصِر أَن يَكُونَ عالِمًا بِكَون الفِعل ظُلمًا. ويَقَعُ النَّصرُ مَعَ وُقُوع الظُّلم وهُو حِينَئِذٍ حَقِيقَة.
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (11 / 572) (5168) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (2444 )
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (6952 )
(4) - فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار المعرفة - (5 / 98)(1/198)
وقَد يَقَعُ قَبلَ وُقُوعِهُ كَمَن أَنقَذَ إِنسانًا مِن يَدِ إِنسانٍ طالَبَهُ بِمال ظُلمًا وهَدَّدَهُ إِن لَم يَبذُلهُ وقَد يَقَعُ بَعدُ وهُو كَثِيرٌ (1)
--------------
الإِعَانَةُ (2) :
الإِْعَانَةُ لُغَةً:مِنَ الْعَوْنِ،وَهُوَ اسْمٌ بِمَعْنَى الْمُسَاعَدَةِ عَلَى الأَْمْرِ .
يُقَال:أَعَنْتُهُ إِعَانَةً،وَاسْتَعَنْتُهُ،وَاسْتَعَنْتُ بِهِ فَأَعَانَنِي.كَمَا يُقَال:رَجُلٌ مِعْوَانٌ،وَهُوَ الْحَسَنُ الْمَعُونَةِ،وَكَثِيرُ الْمَعُونَةِ لِلنَّاسِ (3) .
الإِْغَاثَةُ :
هِيَ الإِْعَانَةُ وَالنُّصْرَةُ فِي حَال شِدَّةٍ أَوْ ضِيقٍ (4) .أَمَّا الإِْعَانَةُ فَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ فِي شِدَّةٍ أَوْ ضِيقٍ .
الاِسْتِعَانَةُ :
هِيَ طَلَبُ الْعَوْنِ.يُقَال:اسْتَعَنْتُ بِفُلاَنٍ فَأَعَانَنِي وَعَاوَنَنِي (5) ،فعَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ صَلَاةَ الْغَدَاةِ فَقَنَتَ فِيهَا بَعْدَ الرُّكُوعِ وَقَالَ فِي قُنُوتِهِ:"اللهُمَّ إِنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَغْفِرُكَ،وَنُثْنِي عَلَيْكَ الْخَيْرَ كُلَّهُ وَنَشْكُرُكَ وَلَا نَكْفُرُكَ وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَفْجُرُكَ اللهُمَّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَلَكَ نُصَلِّي،وَنَسْجُدُ وَإِلَيْكَ نَسْعَى وَنَحْفِدُ نَرْجُو رَحْمَتَكَ وَنَخْشَى عَذَابَكَ إِنَّ عَذَابَكَ بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ " (6)
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ :
يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ لِلإِْعَانَةِ بِحَسَبِ أَحْوَالِهَا،فَقَدْ تَكُونُ وَاجِبَةً،وَقَدْ تَكُونُ مَنْدُوبَةً،وَقَدْ تَكُونُ مُبَاحَةً أَوْ مَكْرُوهَةً أَوْ مُحَرَّمَةً .
__________
(1) - فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار المعرفة - (5 / 99)
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (5 / 195)
(3) - لسان العرب والمصباح في مادة : ( عون ) .
(4) - المصباح المنير واللسان في مادة : ( غوث ) .
(5) - الجوهري ولسان العرب في مادة : ( عون ) .
(6) - شرح معاني الآثار - (1 / 250) (1475 ) صحيح لغيره موقوف(1/199)
الإِْعَانَةُ الْوَاجِبَةُ :
أ - إِعَانَةُ الْمُضْطَرِّ :
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى وُجُوبِ إِعَانَةِ الْمُضْطَرِّ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بِإِعْطَائِهِ مَا يَحْفَظُ عَلَيْهِ حَيَاتَهُ،وَكَذَلِكَ بِإِنْقَاذِهِ مِنْ كُل مَا يُعَرِّضُهُ لِلْهَلاَكِ مِنْ غَرَقٍ أَوْ حَرْقٍ،فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ وَجَبَتِ الإِْعَانَةُ عَلَيْهِ وُجُوبًا عَيْنِيًّا،وَإِنْ كَانَ ثَمَّ غَيْرُهُ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا كِفَائِيًّا عَلَى الْقَادِرِينَ،فَإِنْ قَامَ بِهِ أَحَدُهُمْ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ،وَإِلاَّ أَثِمُوا جَمِيعًا،لِمَا رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا وَرَدُوا مَاءً فَسَأَلُوا أَهْلَهُ أَنْ يَدُلُّوهُمْ عَلَى الْبِئْرِ فَأَبَوْا،فَسَأَلُوهُمْ أَنْ يُعْطُوهُمْ دَلْوًا،فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُمْ،فَقَالُوا لَهُمْ:إِنَّ أَعْنَاقَنَا وَأَعْنَاقَ مَطَايَانَا قَدْ كَادَتْ أَنْ تُقَطَّعَ،فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُمْ،فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،فَقَال لَهُمْ:فَهَلاَّ وَضَعْتُمْ فِيهِمُ السِّلاَحَ. (1) ،وَمِثْل ذَلِكَ إِعَانَةُ الأَْعْمَى إِذَا تَعَرَّضَ لِهَلاَكٍ،وَإِعَانَةُ الصَّغِيرِ لإِِنْقَاذِهِ مِنْ عَقْرَبٍ وَنَحْوِهِ (2) .
ب - الإِْعَانَةُ لإِِنْقَاذِ الْمَال:
تَجِبُ الإِْعَانَةُ لِتَخْلِيصِ مَال الْغَيْرِ مِنَ الضَّيَاعِ قَلِيلاً كَانَ الْمَال أَوْ كَثِيرًا،حَتَّى أَنَّهُ تُقْطَعُ الصَّلاَةُ لِذَلِكَ (3) . وَفِي بِنَاءِ الْمُصَلِّي عَلَى صَلاَتِهِ أَوِ اسْتِئْنَافِهَا خِلاَفٌ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُبْطِلاَتِ الصَّلاَةِ .
ج - الإِْعَانَةُ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ :
يَجِبُ إِعَانَةُ الْمُسْلِمِينَ بِدَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ أَوِ الْخَاصِّ عَنْهُمْ،لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى:{ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ } ( سورة المائدة / 2 ) .
__________
(1) - الأثر عن عمر رضي الله عنه " فهلا وضعتم فيهم السلاح " أورده أبو يوسف في الخراج ، ولم يذكر له إسنادا الخراج لأبي يوسف - (1 / 97)، وأورده السرخسي في المبسوط أيضا . . ( الرتاج بتحقيق الكبيسي 1 / 651 ط مطبعة الإرشاد ، والمبسوط 23 / 166 ، وانظر المغني 8 / 602 ط الرياض ، وحاشية الدسوقي 4 / 242 ، والجمل 5 / 7 ط إحياء التراث العربي ) .
(2) - حاشية الدسوقي 1 / 289 ط دار الفكر ، والحطاب 2 / 36 ط ليبيا ، وابن عابدين 1 / 440 ، 478 .
(3) - حاشية الدسوقي 1 / 289 ط دار الفكر ، والحطاب 2 / 36 ط ليبيا ، وابن عابدين 1 / 438 ، 440 ، والمغني 2 / 49 ط الرياض ، والمجموع 4 / 81 .(1/200)
وعَنْ سَالِمٍ،عَنْ أَبِيهِ:أَنَّ رَسُولَ اللهِ،قَالَ:الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ،مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ،وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً،فَرَّجَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ،وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا،سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.. (1)
وَكُلَّمَا كَانَ هُنَاكَ رَابِطَةُ قَرَابَةٍ أَوْ حِرْفَةٍ كَانَ التَّعَاوُنُ بَيْنَهُمْ أَوْجَبَ (2) . ( ر:عَاقِلَةٌ ) .
د - إِعَانَةُ الْبَهَائِمِ :
صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِوُجُوبِ إِعَانَةِ الْبَهَائِمِ بِالإِْنْفَاقِ عَلَيْهَا فِيمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ عَلَفٍ وَإِقَامَةٍ وَرِعَايَةٍ،فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِى هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ،فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ،لاَ هِىَ أَطْعَمَتْهَا وَلاَ سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا،وَلاَ هِىَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ » (3) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ،اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ،فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا،فَشَرِبَ،ثُمَّ خَرَجَ،فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ،يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ،فقَالَ الرَّجُلُ:لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبُ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلَ الَّذِي بَلَغَ بِي،فَنَزَلَ الْبِئْرَ،فَمَلَأَ خُفَّهُ مَاءً،ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى رَقِيَ،فَسَقَى الْكَلْبَ،فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ،فَغَفَرَ لَهُ فَقَالُوا:يَا رَسُولَ اللهِ،إِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ لَأَجْرًا ؟ فقَالَ - صلى الله عليه وسلم - :فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ. (4)
الإِْعَانَةُ الْمَنْدُوبَةُ :
وَتَكُونُ الإِْعَانَةُ مَنْدُوبَةً إِذَا كَانَتْ فِي خَيْرٍ لَمْ يَجِبْ .
الإِْعَانَةُ الْمَكْرُوهَةُ :
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2442 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6743 ) وصحيح ابن حبان - (2 / 291) (533)
(2) - ابن عابدين 5 / 414 ، والدسوقي 4 / 282 ، وإعانة الطالبين 2 / 189 .
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (3482) وصحيح مسلم- المكنز - (5989)
وانظر جواهر الإكليل 1 / 251 وقليوبي وعميرة 4 / 214 ، وإعانة الطالبين 2 / 189 .
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (6009 ) وصحيح مسلم- المكنز - (5996) وصحيح ابن حبان - (2 / 302) (544)(1/201)
الإِْعَانَةُ عَلَى فِعْل الْمَكْرُوهِ تَأْخُذُ حُكْمَهُ فَتَكُونُ مَكْرُوهَةً،مِثْل الإِْعَانَةِ عَلَى الإِْسْرَافِ فِي الْمَاءِ،أَوِ الاِسْتِنْجَاءِ بِمَاءِ زَمْزَمٍ،أَوْ عَلَى الإِْسْرَافِ فِي الْمُبَاحِ بِأَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فَوْقَ الْمُقَدَّرِ شَرْعًا.مِثْل إِعْطَاءِ السَّفِيهِ الْمَال الْكَثِيرَ،وَإِعْطَاءِ الصَّبِيِّ غَيْرِ الرَّاشِدِ مَا لاَ يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ فِيهِ (1) .
الإِْعَانَةُ عَلَى الْحَرَامِ :
تَأْخُذُ الإِْعَانَةُ عَلَى الْحَرَامِ حُكْمَهُ،مِثْل الإِْعَانَةِ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ،وَإِعَانَةِ الظَّالِمِ عَلَى ظُلْمِهِ،لِحَدِيثِ ابْنَ عَبَّاسٍ،قال:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:أَتَانِي جِبْرِيلُ،فَقَالَ:يَا مُحَمَّدُ،إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَعَنَ الْخَمْرَ،وَعَاصِرَهَا،وَمُعْتَصِرَهَا،وَشَارِبَهَا،وَحَامِلَهَا،وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ،وَبَائِعَهَا،وَمُبْتَاعَهَا،وَسَاقِيَهَا،وَمُسْتَقِيَهَا. " (2)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِظُلْمٍ،أَوْ يُعِينُ عَلَى ظُلْمٍ،لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللهِ حَتَّى يَنْزِعَ. (3)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ،عَنْ أَبِيهِ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:مَثَلُ الَّذِي يُعِينُ قَوْمَهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ كَمَثَلِ بَعِيرٍ تَرَدَّى فِي بِئْرٍ،فَهُوَ يُنْزَعُ مِنْهَا بِذَنَبِهِ. (4)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ يَلْقَاهُ،مَكْتُوبٌ عَلَى جَبْهَتِهِ:آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ " (5)
وَحَدِيثُ انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا،قَالُوا:يَا رَسُول اللَّهِ،هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا ؟ قَال:تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ . (6)
إِعَانَةُ الْكَافِرِ :
أ - الإِْعَانَةُ بِصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ :
__________
(1) - ابن عابدين 1 / 89 ط بولاق .
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 802)(2897) 2899- صحيح
(3) - سنن ابن ماجة- طبع مؤسسة الرسالة - (3 / 415) (2320) صحيح
(4) - صحيح ابن حبان - (13 / 271)(5942) صحيح
(5) - مسند أبي يعلى الموصلي(5900) ضعيف
(6) - صحيح ومر تخريجه(1/202)
يَجُوزُ دَفْعُ صَدَقَاتِ التَّطَوُّعِ لِلْكَافِرِ غَيْرِ الْحَرْبِيِّ (1) .انْظُرْ مُصْطَلَحَ ( صَدَقَةٌ ) .
ب - الإِْعَانَةُ بِالنَّفَقَةِ :
صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِوُجُوبِ النَّفَقَةِ - مَعَ اخْتِلاَفِ الَّذِي - لِلزَّوْجَةِ وَقَرَابَةِ الْوِلاَدِ أَعْلَى وَأَسْفَل،لإِِطْلاَقِ النُّصُوصِ،وَلأَِنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ جَزَاءُ الاِحْتِبَاسِ،وَذَلِكَ لاَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلاَفِ الدِّينِ
وَأَمَّا قَرَابَةُ الْوِلاَدِ فَلِمَكَانِ الْجُزْئِيَّةِ،إِذِ الْجُزْئِيَّةُ فِي مَعْنَى النَّفْسِ،وَنَفَقَةُ النَّفْسِ تَجِبُ مَعَ الْكُفْرِ فَكَذَا الْجُزْءُ،وَتَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ ( نَفَقَةٌ ) (2) .
ج - الإِْعَانَةُ فِي حَالَةِ الاِضْطِرَارِ :
يَجِبُ إِعَانَةُ الْمُضْطَرِّ بِبَذْل الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ مَعْصُومًا،مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُعَاهَدًا،فَإِنِ امْتَنَعَ مَنْ لَهُ فَضْل طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ مِنْ دَفْعِهِ لِلْمُضْطَرِّ إِلَيْهِ - وَلَوْ كَافِرًا - جَازَ لَهُ قِتَالُهُ بِالسِّلاَحِ أَوْ بِغَيْرِ السِّلاَحِ (3) .عَلَى خِلاَفٍ وَتَفْصِيلٍ فِي الْمَذَاهِبِ يُرْجَعُ إِلَيْهِ فِي مُصْطَلَحِ ( اضْطِرَارٌ ) .
آثَارُ الإِْعَانَةِ :
يَتَرَتَّبُ عَلَى الإِْعَانَةِ آثَارٌ مِنْهَا :
أ - الأَْجْرُ عَلَى الإِْعَانَةِ :
__________
(1) - ابن عابدين 2 / 67 ، ومغني المحتاج 3 / 121 .
(2) - الاختيار 4 / 11 ، وبلغة السالك 2 / 328 ، ومغني المحتاج 3 / 426 ، 446 ، 447 ، والمغني 7 / 601 وما بعدها .
(3) - ابن عابدين 5 / 283 ، والدسوقي 2 / 116 ، 117 ، وجواهر الإكليل 1 / 218 ، ومغني المحتاج 4 / 308 ، 309 ، ومطالب أولي النهى 6 / 319 .(1/203)
الأَْجْرُ عَلَى الإِْعَانَةِ إِمَّا أُخْرَوِيٌّ،وَهُوَ عَلَى الْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبِّ مِنْهَا،وَإِمَّا دُنْيَوِيٌّ.فَإِنَّ الإِْعَانَةَ مِنَ التَّبَرُّعَاتِ،وَالأَْصْل أَنَّهُ لاَ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهَا أَجْرٌ،سَوَاءٌ أَكَانَتْ بِرًّا لِلْوَالِدَيْنِ مِثْل إِعَانَةِ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ،أَمْ لِلنَّاسِ مِثْل إِعَانَةِ الْمُحْتَاجِ بِالْقَرْضِ وَالصَّدَقَةِ وَالْكَفَالَةِ (1) .
وَقَدْ يَأْخُذُ الْمُعِينُ أَجْرًا عَلَى بَعْضِ الأَْعْمَال الَّتِي يُؤَدِّي فِيهَا فِعْلاً مُعَيَّنًا مِثْل الْوَكَالَةِ،وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
وَلِتَفْصِيل ذَلِكَ يُرْجَعُ إِلَى تِلْكَ الأَْبْوَابِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَفِي مُصْطَلَحَاتِهَا (2) .
ب - الْعِقَابُ عَلَى الإِْعَانَةِ :
لَمْ يَذْكُرِ الْعُلَمَاءُ عُقُوبَاتٍ مُعَيَّنَةً لِلإِْعَانَةِ عَلَى الْمُحَرَّمِ،غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا بِالتَّعْزِيرِ عَلَى الذُّنُوبِ الَّتِي لَمْ تُشْرَعْ فِيهَا الْحُدُودُ (3) ،لأَِنَّ دَرْءَ الْمُفْسِدِينَ مُسْتَحَبٌّ فِي الْعُقُول (4) ،فَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ دَرْءُ الْفَسَادِ بِرَدْعِ الْمُفْسِدِينَ وَمَنْ يُعِينُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِتَعْزِيرِهِمْ بِمَا يَتَنَاسَبُ مَعَ تِلْكَ الإِْعَانَةِ الْمُحَرَّمَةِ .
أَمَّا عَنِ الإِْثْمِ الأُْخْرَوِيِّ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الإِْعَانَةِ فِي الْحَرَامِ،فَقَدْ وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ:فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ:يَا كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ،أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ،قَالُوا:يَا رَسُولَ اللهِ،وَمَا إِمَارَةُ السُّفَهَاءِ ؟ قَالَ:أُمَرَاءُ يَكُونُونَ بَعْدِي لاَ يَهْتَدُونَ بِهَدْيِي،وَلاَ يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي،فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكِذْبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَأُولَئِكَ لَيْسُوا مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُمْ،وَلاَ يَرِدُوا عَلَيَّ حَوْضِي،وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ بِكِذْبِهِمْ،وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ،وَسَيَرِدُونَ عَلَيَّ حَوْضِي،يَا كَعْبَ بْنَ
__________
(1) - الاختيار 1 / 118 ، 2 / 156 ، 166 ، 3 / 48 ط المعرفة ، والمغني 4 / 534 ، 5 / 591 ط الرياض ، وجواهر الإكليل 2 / 75 ، 125 ، 211 ط شقرون ، ونهاية المحتاج 4 / 439 ، 5 / 401 ، 6 / 149 ط مصطفى الحلبي .
(2) - الاختيار 2 / 50 ، 156 ، والمغني 5 / 79 ، 397 ، وجواهر الإكليل 2 / 125 ، 145 ، ونهاية المحتاج 5 / 14 ، 258 .
(3) - الأحكام السلطانية للماوردي ص 236 ط مصطفى الحلبي .
(4) - إعلام الموقعين 2 / 102 ط محيي الدين .(1/204)
عُجْرَةَ:الصَّوْمُ جُنَّةٌ،وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ،وَالصَّلاَةُ بُرْهَانٌ -،أَوْ قَالَ:قُرْبَانٌ - يَا كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ:النَّاسُ غَادِيَانِ فَمُبْتَاعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا،وَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُوبِقُهَا. (1)
وقد نَصَّ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُعِينَ عَلَى الْجَرِيمَةِ يَأْخُذُ حُكْمَ الأَْصِيل فِي بَعْضِ الأَْحْوَال،كَالرَّبِيئَةِ،وَمُقَدِّمِ السِّلاَحِ،وَالْمُمْسِكِ لِلْقَتْل،وَالرِّدْءِ وَنَحْوِهِمْ.وَيُرْجَعُ إِلَى ذَلِكَ فِي مَبَاحِثِ الْجِنَايَاتِ وَالْمِيرَاثِ وَغَيْرِهَا .
ج - الضَّمَانُ :
مَنْ تَرَكَ الإِْعَانَةَ الْوَاجِبَةَ قَدْ يَلْحَقُهُ الضَّمَانُ.قَال الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ:إِذَا تَرَكَ إِنْسَانٌ إِعَانَةَ مُضْطَرٍّ فَمَنَعَ عَنْهُ الطَّعَامَ حَتَّى مَاتَ،فَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ،وَإِنْ قَصَدَهُ فَعَمْدٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ .
وَصَرَّحَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ،بِجَوَازِ قِتَال الْمَانِعِينَ لِلطَّعَامِ وَالشَّرَابِ - غَيْرِ الْمَحُوزِ - عَنِ الْمُضْطَرِّينَ لَهُ وَالْمُشْرِفِينَ عَلَى الْهَلاَكِ،لِمَا رُوِيَ أَنَّ قَوْمًا وَرَدُوا مَاءً فَسَأَلُوا أَهْلَهُ أَنْ يَدُلُّوهُمْ عَلَى الْبِئْرِ فَأَبَوْا،فَسَأَلُوهُمْ أَنْ يُعْطُوهُمْ دَلْوًا فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُمْ،فَقَالُوا لَهُمْ:إِنَّ أَعْنَاقَنَا وَأَعْنَاقَ مَطَايَانَا قَدْ كَادَتْ أَنْ تُقَطَّعَ فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُمْ.فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.فَقَال لَهُمْ عُمَرُ:فَهَلاَّ وَضَعْتُمْ فِيهِمُ السِّلاَحَ (2) .
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ إِذَا مُنِعَ مِنَ الْمَاءِ،لَهُ أَنْ يُقَاتِل بِالسِّلاَحِ عَلَيْهِ.عَلَى أَنَّ الْحَنَفِيَّةَ لَمْ يُصَرِّحُوا بِضَمَانِ الْمُتَسَبِّبِ فِي هَلاَكِ الْعَطْشَانِ وَالْجَائِعِ،وَإِنْ كَانَتْ قَوَاعِدُهُمْ تَدُل عَلَى ذَلِكَ ( ر:صِيَالٌ ) .
وَمَنْ رَأَى خَطَرًا مُحْدِقًا بِإِنْسَانٍ،أَوْ عَلِمَ بِذَلِكَ وَكَانَ قَادِرًا عَلَى إِنْقَاذِهِ فَلَمْ يَفْعَل،فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو الْخَطَّابِ مِنَ الْحَنَابِلَةِ إِلَى أَنَّهُ يَضْمَنُ،خِلاَفًا لِلْجُمْهُورِ الَّذِينَ رَبَطُوا الضَّمَانَ بِالْمُبَاشَرَةِ أَوِ التَّسَبُّبِ .
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (10 / 372) (4514) صحيح
(2) - انظر الموسوعة الفقهية الكويتية - (4 / 31)(1/205)
كَمَا يَضْمَنُ،حَامِل الْحَطَبِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ إِذَا تَرَكَ تَنْبِيهَ الأَْعْمَى وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ حَتَّى تَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ ضَرَرٌ لَهُ أَوْ لِثِيَابِهِ (1) .
هَذَا وَقَدْ يَجِبُ الضَّمَانُ فِي بَعْضِ عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ مِثْل الْكَفَالَةِ بِأَمْرِ الْمَكْفُول،فَيَضْمَنُ عِنْدَ عَجْزِ الْمَكْفُول الْمَدِينِ .
وَفِي الْوَكَالَةِ عِنْدَ التَّفْرِيطِ أَوِ التَّعَدِّي (2) ،وَهِيَ مِنَ الإِْعَانَاتِ.ر:( كَفَالَةٌ،وَكَالَةٌ ) .
أنواع التحالف (3) :
أَوَّلاً:التَّحَالُفُ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمٍ :
لاَ يُعْرَفُ خِلاَفٌ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ التَّحَالُفَ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا كَانَ عَلَى أَنْ يَنْصُرَ كُلٌّ مِنَ الطَّرَفَيْنِ الآْخَرَ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ،وَعَلَى الْحَقِّ وَالْبَاطِل،أَوْ عَلَى أَنْ يَرِثَ كُلٌّ مِنْهُمَا الآْخَرَ دُونَ ذَوِي قَرَابَتِهِ،فَإِنَّ ذَلِكَ الْحِلْفَ يَكُونُ بَاطِلاً،وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ التَّنَاصُرُ عَلَى الْبَاطِل،وَلاَ عَلَى مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى،لِقَوْل اللَّهِ تَعَالَى:{ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوَانِ } ( سورة المائدة / 2 ) وَلِقَوْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - :انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا قَالُوا يَا رَسُول اللَّهِ،هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا،فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا،قَال:تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ (4)
قَال الْجَصَّاصُ:" كَانَ حِلْفُ الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ يُعَاقِدَهُ فَيَقُول:دَمِي دَمُكَ وَهَدْمِي هَدْمُكَ وَتَرِثُنِي وَأَرِثُكَ،وَكَانَ فِي هَذَا الْحِلْفِ أَشْيَاءُ قَدْ حَظَرَهَا الإِْسْلاَمُ،وَهُوَ أَنَّهُ يُشْرَطُ أَنْ يُحَامِيَ عَنْهُ وَيَبْذُل دَمَهُ دُونَهُ وَيَهْدِمَ مَا يَهْدِمُهُ فَيَنْصُرَهُ عَلَى الْحَقِّ وَالْبَاطِل،وَقَدْ أَبْطَلَتِ الشَّرِيعَةُ هَذَا الْحِلْفَ،وَأَوْجَبَتْ مَعُونَةَ الْمَظْلُومِ عَلَى الظَّالِمِ حَتَّى يَنْتَصِفَ مِنْهُ" (5) .
__________
(1) - الدسوقي 4 / 242 ط دار الفكر ، والجمل 5 / 7 ط إحياء التراث ، والمغني 9 / 421 ط مكتبة القاهرة ، وقليوبي وعميرة 4 / 212 ، والمبسوط 23 / 166 ط المعرفة .
(2) - الاختيار 2 / 156 ، 166 ، والحطاب 5 / 96 ، 181 ط دار الفكر ، وحواشي التحفة 5 / 257 ، 294 ط دار صادر ، والمغني 4 / 534 ، 535 ، 5 / 125 .
(3) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (18 / 86)
(4) - مر تخريجه
(5) - أحكام القرآن للجصاص 2 / 187 لبنان ، دار الكتاب العربي ، وانظر المغني 6 / 381 ط ثالثة .(1/206)
وَكَذَا وَرَدَ فِي الْمِيرَاثِ الآْيَاتُ الْكَرِيمَةُ الَّتِي حَدَّدَتْ نَصِيبَ كُل وَارِثٍ،وَقَدْ قَال تَعَالَى فِي آيَاتِ الْمَوَارِيثِ:{ يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيمًا} (11) سورة النساء،فَمَنْ جَعَل مِيرَاثَهُ لِمَنْ وَالاَهُ وَعَاقَدَهُ دُونَ مَنْ جَعَل اللَّهُ تَعَالَى لَهُمُ الْمِيرَاثَ،نَاقَضَ حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ،فَبَطَل عَقْدُهُ،وَحُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى نَافِذٌ .
أَمَّا التَّحَالُفُ عَلَى الْخَيْرِ وَالنُّصْرَةِ عَلَى الْحَقِّ وَعَلَى الْعَقْل وَالتَّوَارُثِ لِمَنْ لاَ وَارِثَ لَهُ.فعَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ،عَنْ أَبِيهِ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:لاَ حِلْفَ فِي الإِسْلاَمِ،وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ،فَإِنَّ الإِسْلاَمَ لَمْ يَزِدْهُ إِلاَّ شِدَّةً. (1)
وعَنْ شُعْبَةَ بْنِ التَّوْأَمِ قَالَ:سَأَلَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الْحِلْفِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« لاَ حِلْفَ فِى الإِسْلاَمِ،وَلَكِنْ تَمَسَّكُوا بِحِلْفِ الْجَاهِلِيَّةِ » (2) .
وَفِي رِوَايَةٍ لاَ حِلْفَ فِي الإِْسْلاَمِ وَحِلْفُ الْجَاهِلِيَّةِ مَشْدُودٌ (3)
وعن عمرو بن شعيب،عن أبيه،عن جده: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته يوم فتح مكة: فُوا بِحِلْفٍ فَإِنَّهُ لاَ يَزِيدُهُ الإِْسْلاَمُ إِلاَّ شِدَّةً وَلاَ تُحْدِثُوا حِلْفًا فِي الإِْسْلاَمِ". (4)
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ .
أ - فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ أَنْ يُحَالِفَ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا حَتَّى بَعْدَ وُرُودِ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى الْعَقْل وَالْمِيرَاثِ - وَلاَ يَرِثُ إِلاَّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَأْتِي بَيَانُهُ - وَعَلَى النُّصْرَةِ وَالنَّصِيحَةِ وَالرِّفَادَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّعَاوُنِ .
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6628 ) وصحيح ابن حبان - (10 / 215) (4372)
(2) - مسند الحميدي - المكنز - (1259) صحيح
(3) - فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار المعرفة - (4 / 473)
(4) - تفسير الطبري - مؤسسة الرسالة - (8 / 284) (9294 ) صحيح(1/207)
وَقَالُوا إِنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ:نَفْيُ الْحِلْفِ عَلَى الأُْمُورِ الَّتِي كَانُوا يَتَعَاقَدُونَ عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَحَظَرَهَا الإِْسْلاَمُ،وَهِيَ أَنْ يَنْصُرَهُ عَلَى الْحَقِّ وَالْبَاطِل وَيَرِثَهُ دُونَ ذَوِي رَحِمِهِ (1)
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ بِالأَْدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ،وبحديث إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ،عَنْ أَبِيهِ،عَنْ جَدِّهِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ،وَابْنُ أُخْتِهِمْ مِنْهُمْ،وَحَلِيفُهُمْ مِنْهُمْ. (2)
وَقَالُوا:إِنَّ ذَلِكَ مَذْهَبُ عُمَرَ،وَعَلِيٍّ،وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
ثُمَّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ قَدْ تَكُونُ الْمُوَالاَةُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ أَوْ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ،وَلَوْ وَالَى صَبِيٌّ عَاقِلٌ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ صَحَّ،أَوْ وَالَى الْعَبْدُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ آخَرَ يَصِحُّ كَذَلِكَ،وَيَكُونُ وَكِيلاً عَنْ سَيِّدِهِ بِعَقْدِ الْمُوَالاَةِ ،وَلِمَنْ وَالَى رَجُلاً أَنْ يَنْقُل وَلاَءَهُ إِلَى غَيْرِهِ إِنْ لَمْ يَعْقِل عَنْهُ أَوْ عَنْ وَلَدِهِ،وَلَوْ عَقَل عَنْهُ بَيْتُ الْمَال فَوَلاَؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ فَلاَ يَنْتَقِل عَنْ وَلاَئِهِمْ إِلَى وَلاَءٍ خَاصٍّ،وَلاَ بُدَّ فِي عَقْدِ الْمُوَالاَةِ أَنْ يُشْتَرَطَ الْعَقْل ( أَيْ تَحَمُّل الدِّيَةِ ) وَالإِْرْثُ (3) .
وَفِي شَرْحِ السِّرَاجِيَّةِ:بَل مُجَرَّدُ الْعَقْدِ كَافٍ بِأَنْ يَقُول:وَالَيْتُكَ،وَيَقُول الآْخَرُ:قَبِلْتُ،فَيَنْعَقِدَ الْعَقْدُ وَيَرِثَ الْقَابِل،وَهَذَا إِجْمَالٌ يُنْظَرُ تَفْصِيلُهُ فِي مُصْطَلَحِ:( وَلاَءٌ ) .
وَقَدْ أَوْرَدَ الطَّحَاوِيُّ فِي ( شُرُوطِهِ ) صِيغَةً لِعَقْدِ الْمُوَالاَةِ مُسْتَوْفِيَةً لِلشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ (4) .
ب - وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى الأَْخْذِ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ أَحْلاَفَ الْجَاهِلِيَّةِ يَسْتَمِرُّ التَّنَاصُرُ بِهَا حَتَّى بَعْدَ هَذَا الْحَدِيثِ،لَكِنْ لاَ يَكُونُ إِلاَّ تَنَاصُرًا عَلَى الْحَقِّ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْخَيْرِ،وَلاَ تَقْتَضِي مِيرَاثًا لِكَوْنِ التَّوَارُثِ بِهَا مَنْسُوخًا،لَكِنِ الأَْحْلاَفُ الَّتِي عُقِدَتْ فِي الإِْسْلاَمِ،أَوْ تُعْقَدُ مِنْ بَعْدِ وُرُودِ الْحَدِيثِ مَنْقُوضَةٌ،لِكَوْنِ هَذَا الْحَدِيثِ نَاسِخًا لإِِجَازَةِ
__________
(1) - أحكام القرآن للجصاص 2 / 187 والمبسوط 8 / 81 .
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 452)(18992) 19201- صحيح
(3) - حاشية ابن عابدين 5 / 78 - 79 وشرح السراجية بحاشية الفناري ص 54 .
(4) - الشروط الصغيرة للطحاوي 2 / 811 ، 812 ط وزارة الأوقاف العراقية .(1/208)
التَّحَالُفِ الَّتِي عُمِل بِهَا فِي أَوَّل الإِْسْلاَمِ فَقَدْ أُمِرُوا أَنْ لاَ يُنْشِئُوا بَعْدَ ذَلِكَ مُعَاقَدَةً كَمَا عَبَّرَ ابْنُ كَثِيرٍ (1) .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الإِْسْلاَمَ وَحَّدَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ،فَهُوَ بِمَعْنَى تَحَالُفٍ شَامِلٍ لِكُل الْمُسْلِمِينَ يَقْتَضِي التَّنَاصُرَ وَالتَّعَاوُنَ بَيْنَهُمْ عَلَى مَنْ قَصَدَ بَعْضَهُمْ بِظُلْمٍ،لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (10) سورة الحجرات،وَقَوْلِهُ:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (71) سورة التوبة
وعَنْ أَبِى مُوسَى عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ،يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا ».وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ . (2)
وعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ » (3) .
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَالِمًا أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ،لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ،وَمَنْ كَانَ فِى حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِى حَاجَتِهِ،وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ،وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » (4) .
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ،عَنْ أَبِيهِ،عَنْ جَدِّهِ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ؛أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ،وَهُوَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ،قَالَ:الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ،يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ،وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ. (5)
__________
(1) - فتاوى ابن تيمية 35 / 96 وفتح الباري 4 / 474 ، والنهاية في غريب الحديث - حلف . وتفسير ابن كثير 1 / 497 ، والمبسوط للسرخسي 8 / 81 .
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (481 )
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (13 )
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (2442 )
(5) - مصنف ابن أبي شيبة - (14 / 320) (28547) صحيح(1/209)
فَمَنْ كَانَ قَائِمًا بِوَاجِبِ الإِْيمَانِ كَانَ أَخًا لِكُل مُؤْمِنٍ،وَوَجَبَ عَلَى كُل مُؤْمِنٍ أَنْ يَقُومَ بِحُقُوقِهِ،وَإِنْ لَمْ يَجْرِ بَيْنَهُمَا عَقْدٌ خَاصٌّ،فَإِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ قَدْ عَقَدَا الأُْخُوَّةَ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } ولحديث أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ إِلَى الْمَقْبُرَةِ،فَقَالَ:السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ،وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ،وَدِدْتُ أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ إِخْوَانَنَا،قَالُوا:يَا رَسُولَ اللهِ،أَلَسْنَا إِخْوَانَكَ،قَالَ:بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي،وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ،وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ،قَالُوا:يَا رَسُولَ اللهِ،كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَكَ مِنْ أُمَّتِكَ ؟ قَالَ:أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ فِي خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ أَلاَ يَعْرِفُ خَيْلَهُ ؟ قَالُوا:بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ:فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ،وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ،فَلَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ،أُنَادِيهِمْ أَلاَ هَلُمَّ أَلاَ هَلُمَّ،فَيُقَالُ:إِنَّهُمْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ،فَأَقُولُ:فَسُحْقًا فَسُحْقًا فَسُحْقًا. (1)
وَمَنْ لَمْ يَكُنْ خَارِجًا عَنْ حُقُوقِ الإِْيمَانِ وَجَبَ أَنْ يُعَامَل بِمُوجَبِ ذَلِكَ،فَيُحْمَدُ عَلَى حَسَنَاتِهِ وَيُوَالَى عَلَيْهَا وَيُنْهَى عَنْ سَيِّئَاتِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَيْهَا.كَفُسَّاقِ أَهْل الْمِلَّةِ إِذْ هُمْ مُسْتَحِقُّونَ لِلثَّوَابِ وَالْعِقَابِ،وَلِلْمُوَالاَةِ وَالْمُعَادَاةِ (2) .
قَالُوا:وَأَمَّا اسْتِمْرَارُ الْعَمَل بِأَحْلاَفِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي التَّنَاصُرِ فَيُؤَيِّدُهُ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ ذِكْرُهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَال:لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِ حُمْرَ النَّعَمِ وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الإِْسْلاَمِ لأََجَبْتُ أَيْ لَنَصَرْتُ الْمُسْتَنْصِرَ بِهِ،وَفِي رِوَايَةٍ شَهِدْتُ حِلْفَ الْمُطَيَّبِينَ وَأَنَا غُلاَمٌ مَعَ عُمُومَتِي فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي حُمْرَ النَّعَمِ وَأَنِّي أَنْكُثُهُ (3) .
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْل فِي الْوَقْتِ الَّذِي هُوَ الْحَدُّ الْفَاصِل بَيْنَ مَا هُوَ مِنْ أَحْلاَفِ الْجَاهِلِيَّةِ،فَيَبْطُل مِنْهُ مَا يُخَالِفُ حُكْمَ الإِْسْلاَمِ،وَيَبْقَى مَا عَدَاهُ عَلَى حَالِهِ،فَيَسْتَمِرُّ حُكْمُهُ فِي الإِْسْلاَمِ،وَبَيْنَ مَا هُوَ مِنْ أَحْلاَفِ الإِْسْلاَمِ فَيُنْقَضُ.فَقَال ابْنُ عَبَّاسٍ:مَا كَانَ قَبْل نُزُول الآْيَةِ - يَعْنِي {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (607 ) وصحيح ابن حبان - (16 / 224) (7240)
(2) - توجيه هذا القول من فتاوى ابن تيمية 35 / 93 .
(3) - مر تخريجه(1/210)
بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} (6) سورة الأحزاب - فَهُوَ جَاهِلِيٌّ،وَمَا بَعْدَهَا إِسْلاَمِيٌّ،وَعَنْ عَلِيٍّ:مَا كَانَ قَبْل نُزُول {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} (1) سورة قريش،جَاهِلِيٌّ،وَمَا بَعْدَهَا إِسْلاَمِيٌّ،وَعَنْ عُثْمَانَ:مَا كَانَ قَبْل الْهِجْرَةِ فَهُوَ جَاهِلِيٌّ وَمَا بَعْدَهَا إِسْلاَمِيٌّ.وَعَنْ عُمَرَ:كُل حِلْفٍ كَانَ قَبْل الْحُدَيْبِيَةِ فَهُوَ مَشْدُودٌ وَكُل حِلْفٍ بَعْدَهَا مَنْقُوضٌ . (1) ،قَال ابْنُ حَجَرٍ:وَأَظُنُّ قَوْل عُمَرَ أَقْوَاهَا (2) .
أَيْ لِمَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - آخَى بَيْنَهُمْ فِي الْمَدِينَةِ وَذَلِكَ يَنْفِي الْقَوْلَيْنِ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ .
وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ أَنْ يُعْقَدَ حِلْفٌ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمٍ عَلَى التَّنَاصُرِ عَلَى الْحَقِّ وَالنَّصِيحَةِ وَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْخَيْرِ حَتَّى وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ وُرُودِ الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ،وَلاَ تَوَارُثَ بِهِ.قَال النَّوَوِيُّ:" الْمُؤَاخَاةُ فِي الإِْسْلاَمِ،وَالْمُحَالَفَةُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ،وَالتَّنَاصُرُ فِي الدِّينِ ،وَالتَّعَاوُنُ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَإِقَامَةِ الْحَقِّ،هَذَا بَاقٍ لَمْ يُنْسَخْ"قَال وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي هَذِهِ الأَْحَادِيثِ:وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإِْسْلاَمُ إِلاَّ شِدَّةً وَأَمَّا قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - :لاَ حِلْفَ فِي الإِْسْلاَمِ فَالْمُرَادُ بِهِ حِلْفُ التَّوَارُثِ وَالْحِلْفُ عَلَى مَا مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهُ (3) .
ثَانِيًا:التَّحَالُفُ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (4) :
يَرِدُ هُنَا الْخِلاَفُ الْمُتَقَدِّمُ فِي مُحَالَفَةِ الْفَرْدِ لِلْفَرْدِ،غَيْرَ أَنْ لاَ تَوَارُثَ هُنَا وَلاَ تَعَاقُل،وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالْحِلْفِ عِنْدَ مَنْ أَجَازَهُ مُجَرَّدُ التَّنَاصُرِ عَلَى الْحَقِّ وَدَفْعِ الظُّلْمِ .
وَيَسْتَدِل الْمُجِيزُونَ لِمِثْل هَذَا التَّحَالُفِ بِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ:حَالَفَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالأَْنْصَارِ فِي دَارِي مَرَّتَيْنِ .
وَقَالُوا:إِنَّ قَوْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - لاَ حِلْفَ فِي الإِْسْلاَمِ الْمُرَادُ بِهِ مَا كَانَ عَلَى طَرِيقَةِ أَهْل الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الإِْعَانَةِ بِالْحِلْفِ فِي الْحَقِّ وَالْبَاطِل .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (18 / 89)
(2) - فتح الباري : كتاب الكفالة ( ب 2 ) 4 / 474 .
(3) - شرح صحيح مسلم للنووي 16 / 82 القاهرة ، المطبعة المصرية .
(4) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (18 / 93)(1/211)
قَال ابْنُ الأَْثِيرِ:" أَصْل الْحِلْفِ الْمُعَاقَدَةُ وَالْمُعَاهَدَةُ عَلَى التَّسَاعُدِ وَالتَّعَاضُدِ وَالاِتِّفَاقِ،فَمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى الْفِتَنِ وَالْقِتَال وَالْغَارَاتِ،فَذَلِكَ الَّذِي وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ فِي الإِْسْلاَمِ،وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَلَى نَصْرِ الْمَظْلُومِ وَصِلَةِ الأَْرْحَامِ،كَحِلْفِ الْمُطَيَّبِينَ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ فَذَلِكَ الَّذِي قَال فِيهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإِْسْلاَمُ إِلاَّ شِدَّةً يُرِيدُ:مِنَ الْمُعَاقَدَةِ عَلَى الْخَيْرِ وَنُصْرَةِ الْحَقِّ.وَبِذَلِكَ يَجْتَمِعُ الْحَدِيثَانِ.وَهَذَا هُوَ الْحِلْفُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الإِْسْلاَمُ (1) .وَتَقَدَّمَ النَّقْل عَنِ النَّوَوِيِّ بِمِثْل ذَلِكَ،وَأَمَّا الَّذِينَ خَالَفُوا فِي جَوَازِ ذَلِكَ وَهُمُ الأَْكْثَرُونَ فَقَدِ احْتَجُّوا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ لاَ حِلْفَ فِي الإِْسْلاَمِ وَبِأَنَّ الإِْسْلاَمَ جَعَل الْمُسْلِمِينَ يَدًا وَاحِدَةً وَأَوْجَبَ عَلَى كُل مُسْلِمٍ نُصْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ،وَالْقِيَامَ عَلَى الْبَاغِي حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى الْحَقِّ،كَمَا تَقَدَّمَ تَوْجِيهُهُ عَنِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ .
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - النهاية لابن الأثير - حلف ، ولسان العرب - حلف .(1/212)
الحقُّ التاسع والعشرون
الدعاء له بالخير حيًّا وميتا حاضراً وغائباً
قال تعالى:{ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } (10) [الحشر:8 - 10]
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى حَالَةَ الفُقَرَاءِ المُسْتَحِقِّينَ لِمَالِ الفَيْءِ فَيَذْكُرُ أَنَّهُم الذِينَ اضْطَرَّهُم كُفَّارُ مَكَّةَ إِلَى الخُرُوجِ مِنْ دِيَارِهِمْ،وَتَرْكِ أَمْوَالِهِمْ،وَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ طَلَباً لِمَرْضَاةِ اللهِ تَعَالَى،وابْتِغَاءَ ثَوَابِهِ،وَنُصْرَةً للهِ وَرَسُولِهِ،وَهَؤُلاَءِ هُمُ الصَّادِقُونَ فِي إِيْمَانِهِمْ،الذِينَ وَفَّقُوا قَوْلَهُمْ مَعَ فِعْلِهِمْ،وَهَؤُلاَءِ هُمُ المُهَاجِرُونَ.ثُمَّ أَثْنَى اللهُ تَعَالَى عَلَى الأَنْصَارِ مُبِيِّناً فَضْلَهُمْ وَشَرَفَهُمْ وَكَرَمَهُمْ،حِينَ جَعَلَ اللهُ الفَيءَ لإِخْوَانِهِم المُهَاجِرِينَ دُونَهُمْ،فَقَالَ تَعَالَى:والذِينَ سَكَنُوا دَارَ الهِجْرَةِ قَبْلَ المُهَاجِرِينَ،وَآمَنُوا قَبْلَ كَثِيرٍ مِنَ المُهَاجِرِينَ،يُحِبُّونَ المُهَاجِرِينَ،وَيَتَمَنَّوْنَ لَهُمْ الخَيْرَ،كَمَا يَتَمَنَّوْنَهُ لأَنْفُسِهِمْ،وَقَدْ أَسْكَنُوا المُهَاجِرِينَ فِي دُورِهِمْ،وَأَشْرَكُوهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضِ نِسَائِهِ لِلْمُهَاجِرِينَ.وَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَنُفُوسُهُمْ طَيِّيَةٌ،وَأَعْيُنُهُمْ قَرِيرَةٌ بِمَا يَفْعَلُونَ،لاَ يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَسَداً لِلْمُهَاجِرِينَ.وَلاَ ضِيقاً بِهِمْ لِمَا فَضَّلَهُمُ اللهُ بِهِ مِنَ المَنْزِلَةِ والشَّرَفِ وَالتَّقْدِيمِ فِي الذِّكْرِ والرُّتْبَةِ،وَلِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ مَغْنَمِ بَنِي النَّضِيرِ دُونَهُمْ.مَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ،وَدَعَوْتُمْ لَهُمُ اللهَ ) .وَهُمْ يُقَدِّمُونَ أَهْلَ الحَاجَةِ مِنَ المُهَاجِرِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ،وَيَبْدَؤُونَ بِالنَّاسِ قَبْلَ أَنْفُسِهِمْ فِي حَالِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَى ذَلِكَ .وَهَؤُلاَءِ القِسْمُ الثَّالِثُ الذِينَ يَسْتَحِقُّ فُقَرَاءُهُمْ مِنْ مَالِ الفَيءِ،بَعْدَ المُهَاجِرِينَ والأَنْصَارِ،وُهُمُ المُتَّبِعُونَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ،وَيَقُولُونَ:رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا،وَاغْفِرْ لإِخْوَانِنَا فِي الدِّينِ الذِينَ سَبَقُونَا(1/213)
بِالإِيمَانِ،وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا حَسَداً لِلمُؤْمِنينَ جَمِيعاً،وَلاَ حِقْداً عَلَيْهِمْ،وَأًَنْتَ يَا رَبِّ الغَفُورُ الرَّحِيمُ . (1)
وهذه الصورة الثالثة النظيفة الرضية الواعية. وهي تبرز أهم ملامح التابعين. كما تبرز أخص خصائص الأمة المسلمة على الإطلاق في جميع الأوطان والأزمان.
هؤلاء الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار - ولم يكونوا قد جاءوا بعد عند نزول الآية في المدينة،إنما كانوا قد جاءوا في علم اللّه وفي الحقيقة القائمة في هذا العلم المطلق من حدود الزمان والمكان - سمة نفوسهم أنها تتوجه إلى ربها في طلب المغفرة،لا لذاتها ولكن كذلك لسلفها الذين سبقوا بالإيمان وفي طلب براءة القلب من الغل للذين آمنوا على وجه الإطلاق،ممن يربطهم معهم رباط الإيمان. مع الشعور برأفة اللّه،ورحمته،ودعائه بهذه الرحمة،وتلك الرأفة:«رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» ..
وتتجلى من وراء تلك النصوص طبيعة هذه الأمة المسلمة وصورتها الوضيئة في هذا الوجود. تتجلى الآصرة القوية الوثيقة التي تربط أول هذه الأمة بآخرها،وآخرها بأولها،في تضامن وتكافل وتواد وتعاطف. وشعور بوشيجة القربى العميقة التي تتخطى الزمان والمكان والجنس والنسب وتتفرد وحدها في القلوب،تحرك المشاعر خلال القرون الطويلة،فيذكر المؤمن أخاه المؤمن بعد القرون المتطاولة،كما يذكر أخاه الحي،أو أشد،في إعزاز وكرامة وحب. ويحسب السلف حساب الخلف. ويمضي الخلف على آثار السلف. صفا واحدا وكتيبة واحدة على مدار الزمان واختلاف الأوطان،تحت راية اللّه تغذ السير صعدا إلى الأفق الكريم،متطلعة إلى ربها الواحد الرؤوف الرحيم.
إنها صورة باهرة،تمثل حقيقة قائمة كما تمثل أرفع وأكرم مثال للبشرية يتصوره قلب كريم. صورة تبدو كرامتها ووضاءتها على أتمها حين تقرن مثلا إلى صورة الحقد الذميم والهدم اللئيم التي تمثلها وتبشر بها الشيوعية في إنجيل كارل ماركس. صورة الحقد الذي ينغل في الصدور،وينخر في الضمير،على الطبقات،وعلى أجيال البشرية السابقة،وعلى أممها
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5012)(1/214)
الحاضرة التي لا تعتنق الحقد الطبقي الذميم. وعلى الإيمان والمؤمنين من كل أمة وكل دين! صورتان لا التقاء بينهما في لمحة ولا سمة،ولا لمسة ولا ظل. صورة ترفع البشرية إلى أعلى مراقيها وصورة تهبط بها إلى أدنى دركاتها. صورة تمثل الأجيال من وراء الزمان والمكان والجنس والوطن والعشيرة والنسب متضامنة مترابطة متكافلة متوادة متعارفة صاعدة في طريقها إلى اللّه،بريئة الصدور من الغل،طاهرة القلوب من الحقد،وصورة تمثل البشرية أعداء متناحرين يلقي بعضهم بعضا بالحقد والدخل والدغل والغش والخداع والالتواء. حتى وهم في المعبد يقيمون الصلاة. فالصلاة ليست سوى أحبولة،والدين كله ليس إلا فخا ينصبه رأس المال للكادحين! «رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ،وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا. رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» ..هذه هي قافلة الإيمان. وهذا هو دعاء الإيمان. وإنها لقافلة كريمة. وإنه لدعاء كريم. (1)
وقال تعالى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} (19) سورة محمد
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالى رَسُولَهُ الكَريمَ - صلى الله عليه وسلم - بالثَّبَاتِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيهِ مِنَ الإِيمَانِ بأنَّهُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ،وَمن دَوامِ الاسْتِغفَارِ لِنَفسِهِ وَللْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ،واللهُ يَعْلَمُ تَصَرُّفَ العِبَادِ في نَهَارِهِمْ،وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهُمْ في لَيلِهِمْ،فَعَلَيهمْ أَنْ يَتَّقُوهُ وَيَسْتَغْفِرُوهُ (2)
وَقَال تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ - صلى الله عليه وسلم - :{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (41) سورة إبراهيم،وَقَال تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ نُوحٍ - صلى الله عليه وسلم - :{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} (28) سورة نوح.
فَضْل الدُّعَاءِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ :
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:"خَمْسُ دَعَوَاتٍ يُسْتَجَابُ لَهُنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ حِينَ يَسْتَنْصِرُ،وَدَعْوَةُ الْحَاجِّ حِينَ يَصْدُرُ،وَدَعْوَةُ الْمُجَاهِدِ حِينَ يَقْفِلُ،وَدَعْوَةُ الْمَرِيضِ حِينَ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3527)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4443)(1/215)
يَبْرَأَ،وَدَعْوَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ - ثُمَّ قَالَ: - وَأَسْرَعُ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ إِجَابَةً،دَعْوَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ"" (1)
وعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:دَعْوَةُ الأَخِ لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ لا تُرَدُّ،وَيَقُولُ الْمَلَكُ:وَلَكَ مِثْلُ ذَلِكَ (2)
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ إِلاَّ،قَالَ الْمَلَكُ:وَلَكَ بِمِثْلٍ،وَلَكَ بِمِثْلٍ (3)
وعَنْ صَفْوَانَ - وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَفْوَانَ - وَكَانَتْ تَحْتَهُ الدَّرْدَاءُ قَالَ قَدِمْتُ الشَّامَ فَأَتَيْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ فِى مَنْزِلِهِ فَلَمْ أَجِدْهُ وَوَجَدْتُ أُمَّ الدَّرْدَاءِ فَقَالَتْ أَتُرِيدُ الْحَجَّ الْعَامَ فَقُلْتُ نَعَمْ. قَالَتْ فَادْعُ اللَّهَ لَنَا بِخَيْرٍ فَإِنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَقُولُ « دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لأَخِيهِ بِخَيْرٍ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلٍ ». (4)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَا دَعْوَةٌ أَسْرَعَ إِجَابَةً مِنْ دَعْوَةِ غَائِبٍ لِغَائِبٍ » (5) .
وَفِي هَذَا فَضْل الدُّعَاء لِأَخِيهِ الْمُسْلِم بِظَهْرِ الْغَيْب،وَلَوْ دَعَا لِجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَصَلَتْ هَذِهِ الْفَضِيلَة،وَلَوْ دَعَا لِجُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ فَالظَّاهِر حُصُولهَا أَيْضًا،وَكَانَ بَعْض السَّلَف إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُو لِنَفْسِهِ يَدْعُو لِأَخِيهِ الْمُسْلِم بِتِلْكَ الدَّعْوَة؛لِأَنَّهَا تُسْتَجَاب،وَيَحْصُل لَهُ مِثْلهَا (6)
ويباح دُعَاءُ الْمَرْءِ لأَخِيهِ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ.فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،قَالَ:دَخَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ فَأَتَتْهُ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ،فَقَالَ:أَعِيدُوا سَمْنَكُمْ فِي سِقَائِهِ،وَتَمْرَكُمْ فِي وِعَائِهِ،فَإِنِّي
__________
(1) - شعب الإيمان - (2 / 376) (1087 ) ضعيف
(2) - الآحاد والمثاني - (5 / 508)(3356) صحيح لغيره
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (7103 ) وصحيح ابن حبان - (3 / 269)(989)
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (7105 )
(5) - سنن الترمذى- المكنز - (2108 ) حسن
(6) - شرح النووي على مسلم - (9 / 96)(1/216)
صَائِمٌ. فَصَلَّى صَلاَةً غَيْرَ مَكْتُوبَةٍ،وَصَلَّيْنَا مَعَهُ،فَدَعَا لِأُمِّ سُلَيْمٍ وَأَهْلِ بَيْتِهَا،فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ:يَا رَسُولَ اللهِ،إِنَّ لِي خُوَيْصَةً،قَالَ:مَا هِيَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ،قَالَتْ:خَادِمُكَ أَنَسٌ. فَدَعَا لِي بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَقَالَ:اللَّهُمَّ ارْزُقْهُ مَالاً وَوَلَدًا،وَبَارِكْ لَهُ،قَالَ:فَإِنِّي مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ وَلَدًا.قَالَ:وَأَخْبَرَتْنِي ابْنَتِي أُمَيْنَةُ أَنَّهَا دَفَنَتْ مِنْ صُلْبِي إِلَى مَقْدِمِ الْحَجَّاجِ الْبَصْرَةَ بِضْعًا وَعِشْرِينَ وَمِائَةً. (1)
مَا يَدْعُو الْمَرْءُ بِهِ عِنْدَ وُجُودِ الْجَدْبِ بِالْمُسْلِمِينَ. فعَنْ عَائِشَةَ،قَالَتْ:شَكَا النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَحْطَ الْمَطَرِ،فَأَمَرَ بِالْمِنْبَرِ،فَوُضِعَ لَهُ فِي الْمُصَلَّى،وَوَعَدَ النَّاسَ يَوْمًا يَخْرُجُونَ فِيهِ.،قَالَتْ عَائِشَةُ:فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ،فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ،ثُمَّ،قَالَ:إِنَّكُمْ شَكَوْتُمْ جَدْبَ جِنَانِكُمْ،وَاحْتِبَاسَ الْمَطَرِ عَنْ إِبَّانِ زَمَانِهِ عَنْكُمْ،وَقَدْ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أَنْ تَدَعُوهُ،وَوَعَدَكُمْ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَكُمْ،ثُمَّ،قَالَ:الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ،الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ،مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ،لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ تَفْعَلُ مَا تُرِيدُ. اللَّهُمَّ أَنْتَ اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْغَنِيُّ وَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ،أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ،وَاجْعَلْ مَا أَنْزَلْتَ لَنَا قُوَّةً وَبَلاَغًا إِلَى حِينٍ. ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى رَأَيْنَا بَيَاضَ إِبْطَيْهِ،ثُمَّ حَوَّلَ إِلَى النَّاسِ ظَهْرَهُ،وَقَلَبَ أَوْ حَوَّلَ رِدَاءَهُ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَيْهِ،ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ وَنَزَلَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ،فَأَنْشَأَ اللَّهُ سَحَابًا،فَرَعَدَتْ وَأَبْرَقَتْ وَأَمْطَرَتْ بِإِذْنِ اللهِ،فَلَمْ يَلْبَثْ فِي مَسْجِدِهِ حَتَّى سَالَتِ السُّيُولُ،فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَثَقَ الثِّيَابِ عَلَى النَّاسِ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ وَقَالَ:أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ،وَأَنِّي عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ. (2)
ذِكْرُ الأَمْرِ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ رَبَّهُ جَلَّ وَعَلاَ التَّآلُفَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ،وَإِصْلاَحَ ذَاتِ بَيْنِهِمْ.فعَنْ عَبْدِ اللهِ،قَالَ:كَانَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ فِي الصَّلاَةِ،كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ،وَيُعَلِّمُنَا مَا لَمْ يَكُنْ يُعَلِّمُنَا كَمَا يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ:اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا،وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا،وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلاَمِ،وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ،وَجَنِّبْنَا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهْرَ مِنْهَا وَمَا
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (3 / 270) (990) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (3 / 271) (991) صحيح(1/217)
بَطْنَ،اللَّهُمَّ احْفَظْنَا فِي أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَأَزْوَاجِنَا،وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمَتِكَ،مُثْنِينَ بِهَا عَلَيْكَ،قَابِلِينَ بِهَا،فَأَتْمِمْهَا عَلَيْنَا. (1)
طَلَبُ الدُّعَاءِ مِنْ أَهْل الْفَضْل (2) :
يُسْتَحَبُّ طَلَبُ الدُّعَاءِ مِنْ أَهْل الْفَضْل وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ أَفْضَل مِنَ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ (3) ،فَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَال:اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْعُمْرَةِ،فَأَذِنَ،وَقَال:لاَ تَنْسَنَا يَا أَخِي مِنْ دُعَائِكَ،فَقَال كَلِمَةً مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الدُّنْيَا . (4)
اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ (5) :
عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَقَالَ لِفَاعِلِهِ:جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا،فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ. (6)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ،قَالَ:سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،يَقُولُ:مَنْ أُولِيَ مَعْرُوفًا فَلَمْ يَجِدْ لَهُ خَيْرًا إِلاَّ الثَّنَاءَ،فَقَدْ شَكَرَهُ،وَمَنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ،وَمَنْ تَحَلَّى بِبَاطِلٍ فَهُوَ كَلاَبِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ. (7)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَنِ اسْتَعَاذَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ،وَمَنْ سَأَلَكُمْ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ،وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ،وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ،فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا اللَّهَ لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ. (8)
الدُّعَاءُ لِلذِّمِّيِّ إِذَا فَعَل مَعْرُوفًا :
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (3 / 277) (996) صحيح
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (20 / 266)
(3) - الأذكار ص 615
(4) - سنن أبي داود - المكنز - (1500) حسن لغيره
فيه عاصم بن عبيدلله العمري فيه ضعف ولكن الراوي عنه لهذا الحديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج و كفى بهما حجة
(5) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (20 / 267)
(6) - صحيح ابن حبان - (8 / 202) (3413) صحيح
(7) - صحيح ابن حبان - (8 / 204) (3415) صحيح
(8) - صحيح ابن حبان - (8 / 199) (3408) صحيح(1/218)
قَال النَّوَوِيُّ:اعْلَمْ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى لَهُ ( أَيِ الذِّمِّيِّ ) بِالْمَغْفِرَةِ وَمَا أَشْبَهَهَا مِمَّا لاَ يُقَال لِلْكُفَّارِ،لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى لَهُ بِالْهِدَايَةِ وَصِحَّةِ الْبَدَنِ وَالْعَافِيَةِ وَشِبْهِ ذَلِكَ (1) .
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:اسْتَسْقَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فَسَقَاهُ يَهُودِيٌّ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :" جَمَّلَكَ ".فَمَا رَأَى الشَّيْبَ حَتَّى مَاتَ " (2)
دُعَاءُ الإِْنْسَانِ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ أَوْ ظَلَمَ الْمُسْلِمِينَ (3) :
قَال اللَّهُ تَعَالَى:{ لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا } (148) سورة النساء،قَال الْقُرْطُبِيُّ:الَّذِي يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الآْيَةِ أَنَّ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَنْتَصِرَ مِنْ ظَالِمِهِ،وَلَكِنْ مَعَ اقْتِصَادٍ،إِنْ كَانَ الظَّالِمُ مُؤْمِنًا،كَمَا قَال الْحَسَنُ،وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَأَرْسِل لِسَانَكَ وَادْعُ بِمَا شِئْتَ مِنَ الْهَلَكَةِ وَبِكُل دُعَاءٍ،كَمَا فَعَل النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ،فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:لَمَّا رَفَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الرَّكْعَةِ الآخِرَةِ مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ،قَالَ:اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ،وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ،وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ،اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ،وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ. (4)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ،قَالَ:أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ،وَأَبُو سَلَمَةَ،أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ،يَقُولُ:كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ حِينَ يَفْرُغُ مِنْ صَلاَةِ الْفَجْرِ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَيُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ رَأْسَهُ:سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ،رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ،يَقُولُ وَهُوَ قَائِمٌ:اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ،وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ،وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ،وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ،اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ،وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ كَسِنِي يُوسُفَ،اللَّهُمَّ الْعَنْ لِحْيَانَ،وَرِعْلاً،وَذَكْوَانَ،وَعُصَيَّةً عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ثُمَّ بَلَغَنَا أَنَّهُ تَرَكَ ذَلِكَ لَمَّا نَزَلَتْ:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران]. (5)
__________
(1) - الأذكار ص 496
(2) - عَمَلُ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لِابْنِ السُّنِّيِّ (288 ) فيه ضعف
(3) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (20 / 267)
(4) - صحيح ابن حبان - (5 / 301) (1969) صحيح
(5) - صحيح ابن حبان - (5 / 306) (1972) صحيح(1/219)
وعَنِ الزُّهْرِيِّ،قَالَ:حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ،وَأَبُو سَلَمَةَ،أَنَّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ،يَقُولُ:كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،يَقُولُ حِينَ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ:رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ،اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ،وَسَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ،وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ،وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ،اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ،وَاجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ. (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَنَتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي صَلاَةِ الْعَتَمَةِ شَهْرًا،يَقُولُ فِي قُنُوتِهِ:اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ،اللَّهُمَّ نَجِّ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ،اللَّهُمَّ نَجِّ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ،اللَّهُمَّ نَجِّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ،اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ،اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ،فَلَمْ يَدَعْ لَهُمْ،فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - :أَمَا تَرَاهُمْ قَدْ قَدِمُوا ؟. (2)
وَإِنْ كَانَ مُجَاهِرًا بِالظُّلْمِ دَعَا عَلَيْهِ جَهْرًا،وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عِرْضٌ مُحْتَرَمٌ،وَلاَ بَدَنٌ مُحْتَرَمٌ،وَلاَ مَالٌ مُحْتَرَمٌ.فعَنْ عَائِشَةَ،قَالَتْ:سَرَقَهَا سَارِقٌ،فَدَعَتْ عَلَيْهِ فَقَالَ:لَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :لاَ تُسَبِّخِي عَنْهُ. لا تسبخى:أى لا تخففى عنه الإثم الذى استحقه بالسرقة أى الذى سرقها . (3)
قَال النَّوَوِيُّ:اعْلَمْ أَنْ هَذَا الْبَابَ وَاسِعٌ جِدًّا،وَقَدْ تَظَاهَرَ عَلَى جَوَازِهِ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ،وَأَفْعَال سَلَفِ الأُْمَّةِ وَخَلَفِهَا،وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مَعْلُومَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ عَنِ الأَْنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِمْ بِدُعَائِهِمْ عَلَى الْكُفَّارِ . (4)
وَعَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَال يَوْمَ الأَْحْزَابِ:مَلأََ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا كَمَا حَبَسُونَا وَشَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الْوُسْطَى (5) .
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (5 / 321) (1983) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (5 / 323) (1986) صحيح
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 44)(24183) 24687- حسن
(4) - الأذكار ص 479
(5) - أخرجه الجماعة المسند الجامع - (13 / 318) (10028)(1/220)
وعن إِيَاسَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَجُلاً أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِشِمَالِهِ فَقَالَ « كُلْ بِيَمِينِكَ ». قَالَ لاَ أَسْتَطِيعُ قَالَ « لاَ اسْتَطَعْتَ ». مَا مَنَعَهُ إِلاَّ الْكِبْرُ. قَالَ فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ. (1)
قَال النَّوَوِيُّ:وَفِي هَذَا الْحَدِيث:جَوَاز الدُّعَاء عَلَى مَنْ خَالَفَ الْحُكْم الشَّرْعِيّ بِلَا عُذْر،وَفِيهِ:الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر فِي كُلّ حَال حَتَّى فِي حَال الْأَكْل،وَاسْتِحْبَاب تَعْلِيم الْآكِل آدَاب الْأَكْل إِذَا خَالَفَهُ ". (2)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ:شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ فَعَزَلَهُ،وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا،فَشَكَوْا حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لاَ يُحْسِنُ يُصَلِّى،فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ:يَا أَبَا إِسْحَاقَ إِنَّ هَؤُلاَءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لاَ تُحْسِنُ تُصَلِّى. قَالَ:أَمَّا أَنَا وَاللَّهِ فَإِنِّى كُنْتُ أُصَلِّى بِهِمْ صَلاَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَخْرِمُ عَنْهَا أُصَلِّى صَلاَةَ الْعِشَاءِ،فَأَرْكُدُ فِى الأُولَيَيْنِ،وَأَحْذِفُ فِى الأُخْرَيَيْنِ.قَالَ:ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ. فَأَرْسَلَ مَعَهُ رَجُلاً أَوْ رِجَالاً إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ يَسْأَلُ عَنْهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ،فَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلاَّ سَأَلَ عَنْهُ وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِى عَبْسٍ،فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ قَالَ:أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا،فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لاَ يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ،وَلاَ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ،وَلاَ يَعْدِلُ فِى الْقَضِيَّةِ. قَالَ سَعْدٌ:أَمَا وَاللَّهِ لأَدْعُوَنَّ اللَّهَ بِثَلاَثٍ:اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا،قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً،فَأَطِلْ عُمْرَهُ وَأَطِلْ فَقْرَهُ وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ. وَكَانَ بَعْدُ إِذْ يُسْأَلُ يَقُولُ:شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ أَصَابَتْنِى دَعْوَةُ سَعْدٍ. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ:فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الْكِبَرِ،وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِى فِى الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ. رَوَاهُ الْبُخَارِىُّ فِى الصَّحِيحِ (3)
وعَنْ عُرْوَةَ بن الزبير،أَنَّ أَرْوَى بِنْتَ أُوَيْسٍ ادَّعَتْ عَلَى سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ أَرْضِهَا،فَخَاصَمَتْهُ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ،فَقَالَ سَعِيدٌ:أَنَا كُنْتُ آخُذُ مِنْ أَرْضِهَا شَيْئًا بَعْدَ الَّذِى سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:وَمَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (5387 )
(2) - شرح النووي على مسلم - (7 / 57)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (755 ) والسنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (2 / 65) (2584)(1/221)
اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ،ظُلْمًا،طُوِّقَهُ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ. فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ:لاَ أَسْأَلُكَ بَيِّنَةً بَعْدَ هَذَا،فَقَالَ:اللهمَّ إِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً فَعَمِّ بَصَرَهَا،وَاقْتُلْهَا فِى أَرْضِهَا. قَالَ:فَمَا مَاتَتْ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهَا،ثُمَّ بَيْنَا هِىَ تَمْشِى فِى أَرْضِهَا إِذْ وَقَعَتْ فِى حُفْرَةٍ فَمَاتَتْ. (1)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (4219)(1/222)
الحقُّ الثلاثون
قضاء حاجة أهله إذا غاب
عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ:مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللهِ فَقَدْ غَزَا وَمَنْ خَلْفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا. (1)
وعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللهِ،أَوْ خَلْفَهُ فِي أَهْلِهِ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ،غَيْرَ أَنَّهُ لاَ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ،وَمَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ لاَ يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِهِ شَيْءٌ. (2)
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا،أَوْ خَلَفَهُ فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ فَإِنَّهُ مَعَنَا. (3)
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُ مَثَلُ أَجْرِهِ وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ،وَأَنْفَقَ عَلَى أَهْلِهِ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ"".رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (4)
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ عَامَ بَنِي لَحْيَانَ:" لِيَخْرُجْ مِنْ كُلِّ اثْنَيْنِ مِنْكُمْ رَجُلٌ وَلْيُخْلِفِ الْغَازِي فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَلَهُ مَثَلُ نِصْفِ أَجْرِهِ ".رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (5)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ إِلَى بَنِي لِحْيَانَ:لِيَخْرُجْ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ رَجُلٌ،ثُمَّ قَالَ لِلْقَاعِدِ:أَيُّكُمْ خَلَفَ الْخَارِجَ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ بِخَيْرٍ كَانَ لَهُ مِثْلُ نِصْفِ أَجْرِ الْخَارِجِ. (6)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2843 ) وصحيح مسلم- المكنز - (5011 ) وصحيح ابن حبان - (10 / 489)(4631)
(2) - صحيح ابن حبان - (10 / 491) (4633) صحيح
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 356)(22038) 22388- حسن لغيره
(4) - المعجم الأوسط للطبراني - (8109 ) صحيح
(5) - المعجم الأوسط للطبراني - (3235 ) صحيح لغيره
(6) - صحيح مسلم- المكنز - (5016 ) وصحيح ابن حبان - (10 / 488)(4629)(1/223)
فَفِيهِ إِشارَةٌ إِلَى أَنَّ الغازِيَ إِذا جَهَّزَ نَفسَهُ أَو قامَ بِكِفايَة مَن يَخلُفُهُ بَعدَهُ كانَ لَهُ الأَجر مَرَّتَينِ.
وقالَ القُرطُبِيّ:لَفظَة"نِصف"يُشبِهُ أَن تَكُونَ مُقحَمَة أَي مَزِيدَة مِن بَعضِ الرُّواةِ وقَد احتَجَّ بِها مَن ذَهَبَ إِلَى أَنَّ المُرادَ بِالأَحادِيثِ الَّتِي ورَدَت بِمِثلِ ثَوابِ الفِعلِ حُصُولُ أَصلِ الأَجرِ لَهُ بِغَيرِ تَضعِيفٍ وأَنَّ التَّضعِيفَ يَختَصُّ بِمَن باشَرَ العَمَل قالَ القُرطُبِيّ:ولا حُجَّةَ لَهُ فِي هَذا الحَدِيثِ لِوجهَينِ :
أَحَدُهُما أَنَّهُ لا يَتَناولُ مَحَلّ النِّزاعِ لأَنَّ المَطلُوبَ إِنَّما هُو أَنَّ الدّالَّ عَلَى الخَيرِ مَثَلاً هَل لَهُ مِثلُ أَجرِ فاعِلِهِ مَعَ التَّضعِيف أَو بِغَيرِ تَضعِيف ؟ وحَدِيث البابِ إِنَّما يَقتَضِي المُشارَكَةَ والمُشاطَرَةَ فافتَرَقا.
ثانِيهما ما تَقَدَّمَ مِن احتِمالِ كَونٍ لَفَظَة"نِصف"زائِدَة.
قُلت:ولا حاجَةَ لِدَعوى زِيادَتِها بَعدَ ثُبُوتِها فِي الصَّحِيحِ؛والَّذِي يَظهَرُ فِي تَوجِيهِها أَنَّها أُطلِقَت بِالنِّسبَةِ إِلَى مَجمُوعِ الثَّوابِ الحاصِلِ لِلغازِي والخالِفِ لَهُ بِخَير فَإِنَّ الثَّوابَ إِذا انقَسَمَ بَينَهُما نِصفَينِ كانَ لِكُلٍّ مِنهُما مِثلُ ما لِلآخَرِ فَلا تَعارُضَ بَينَ الحَدِيثَينِ.
وأَمّا مَن وعَدَ بِمِثلِ ثَوابِ العَمَلِ وإِن لَم يَعمَلهُ إِذا كانَت لَهُ فِيهِ دَلالَة أَو مُشارَكَة أَو نِيَّة صالِحَة فَلَيسَ عَلَى إِطلاقِهِ فِي عَدَمِ التَّضعِيفِ لِكُلِّ أَحَدٍ.
وصَرف الخَبَر عَن ظاهِرِهِ يَحتاجُ إِلَى مُستَنَد وكَأَنَّ مُستَنَدَ القائِلِ أَنَّ العامِلَ يُباشِرُ المَشَقَّة بِنَفسِهِ بِخِلافِ الدّالِّ ونَحوِه لَكِنَّ مَن يُجَهِّزُ الغازِيَ بِمالِهِ مَثَلاً وكَذا مَن يَخلُفُهُ فِيمَن يَترُكُ بَعدَهُ يُباشِرُ شَيئًا مِن المَشَقَّةِ أَيضًا فَإِنَّ الغازِيَّ لا يَتَأَتَّى مِنهُ الغَزو إِلاَّ بَعدَ أَن يُكفَى ذَلِكَ العَمَلُ فَصارَ كَأَنَّهُ يُباشِرُ مَعَهُ الغَزو بِخِلافِ مَن اقتَصَرَ عَلَى النِّيَّةِ مَثَلاً والله أَعلَمُ. (1)
وهذا فيه بيان لأهمية إعانة الدعاة والمجاهدين،بإصلاح حال أهلهم،والقيام على ما يحتاجون إليه،والنيابة عنهم بالرعاية،والنفقة،وتفقد أحوالهم،وحمايتهم مما يضرهم،والدفاع
__________
(1) - فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار المعرفة - (6 / 50)(1/224)
عنهم،وإصلاح حال الأولاد،ومراقبة استقامتهم على طاعة اللّه،وإرشادهم وتوجيههم إلى ما ينفعهم في الدنيا والآخرة (1) .
قال الإِمام النووي رحمه الله:" وفي هذا الحديث الحث على الإِحسان إلى من فعل مصلحة للمسلمين أو قام بأمر من مهماتهم " (2) .
وفي هذه الأحاديث أيضاً الحث على أسلوب الترغيب في تجهيز الدعاة والمجاهدين والعناية بما يحتاجون إليه في دعوتهم وجهادهم،وفي القيام بمصالح أهلهم وحمايتهم من بعدهم؛ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - :« من جهز غازيا فقد غزا،ومن خلف غازيا في سبيل اللّه بخير فقد غزا ».وهذا يبين فضل من جهز داعيا إلى اللّه أو غازيا في سبيل اللّه كما يبين فضل من قام برعاية مصالح الدعاة والغزاة في أهلهم وأموالهم قال الإِمام النووي رحمه الله في شرحه لقوله - صلى الله عليه وسلم - :" فقد غزا"" أي حصل له أجر بسبب الغزو،وهذا الأجر يحصل بكل جهاد،وسواء قليله وكثيره،ولكل خالف له في أهله بخير:من قضاء حاجة لهم وإنفاقٍ عليهم،أو مساعدتهم في أمرهم،ويختلف قدر الثواب بقلة ذلك وكثرته" (3)
وهذا من فضل اللّه عز وجل على عباده أن جعل من جهز غازيا في سبيل اللّه عز وجل أو خلفه في أهله،كالغازي في المرتبة؛لأنه إذا جهزه بماله يجاهد،وإذا خلفه في أهله بخير فكأن المجاهد لم يخرج من بيته؛لقيام أموره فيه وإصلاح حال أهله،وحمايتهم،ونصرتهم (4) .
قال الإِمام القرطبي رحمه الله:" القائم على مال الغازي وعلى أهله نائب عن الغازي في عمل لا يتأتى للغازي غزوه إلا بأن يكفى ذلك العمل،فصار كأنه يباشر معه الغزو،فليس
__________
(1) - انظر : عارضة الأحوذي ، شرح سنن الترمذي ، لابن العربي 4 / 116 ، وشرح الطيبي على مشكاة المصابيح ، 8 / 2630 ، وفتح الباري لابن حجر ، 6 / 51 .
(2) - شرح صحيح مسلم ، 13 / 44 .
(3) - شرح صحيح مسلم ، 13 / 44 ، وانظر : إكمال إكمال المعلم شرح صحيح مسلم للأبي 6 / 629 .فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري - (1 / 447)
(4) - انظر : عارضة الأحوذي ، شرح سنن الترمذي ، لابن العربي ، 4 / 116 ، وبهجة النفوس ، لابن أبي جمرة ، 3 / 116 ، وشرح الطيبي على مشكاة المصابيح ، 8 / 2630 ، وفتح الباري لابن حجر ، 6 / 50 .(1/225)
مقتصرا على النية فقط،بل هو عامل في الغزو،ولما كان كذلك كان له مثل أجر الغازي كاملا..." (1)
وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن النفقة في سبيل اللّه عز وجل تضاعف إلى سبعمائة ضعف،وهذا يدخل فيه من جاهد بنفسه ومن لم يجاهد؛فعَنْ أَبِى مَسْعُودٍ الأَنْصَارِىِّ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ مَخْطُومَةٍ فَقَالَ هَذِهِ فِى سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَبْعُمِائَةِ نَاقِةٍ كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ ». (2)
وهذا كما قال تعالى:{ مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (261) سورة البقرة .
ومنها رعاية أسر الشهداء :
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا،وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى. (3)
وعَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ،أَنَّهُ بَلَغَهُ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:"أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ كَهَاتَيْنِ إِذَا اتَّقَى"وَأَشَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِأُصْبُعَيْهِ الْوُسْطَى وَالَّتِي تَلِي الْإِبْهَامَ (4)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ،قَالَ:لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ حِينَ قُتِلَ،قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :اصْنَعُوا لآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا،فَقَدْ أَتَاهُمْ أمْرٌ يَشْغَلُهُمْ،أَوْ أتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ. (5)
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ،قَالَ:بَعَثَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَيْشًا،اسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ فَإِنْ قُتِلَ زَيْدٌ،أَوِ اسْتُشْهِدَ،فَأَمِيرُكُمْ جَعْفَرٌ،فَإِنْ قُتِلَ،أَوِ اسْتُشْهِدَ،فَأَمِيرُكُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ
__________
(1) - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم ، 3 / 729 .
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (5005 )
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (5304) وصحيح ابن حبان - (2 / 207) (460)
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - هَكَذَا أَرَادَ بِهِ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ ، لاَ أَنَّ كَافِلَ الْيَتِيمِ تَكُونُ مَرْتَبَتُهُ مَعَ مَرْتَبَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فِي الْجَنَّةِ وَاحِدَةً.
(4) - شعب الإيمان - (13 / 386) (10515) صحيح لغيره
(5) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 546)(1751) صحيح(1/226)
فَلَقُوا الْعَدُوَّ،فَأَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ،ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ جَعْفَرٌ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ،ثُمَّ أَخَذَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ،ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ،وَأَتَى خَبَرُهُمِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَخَرَجَ إِلَى النَّاسِ،فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ،وَقَالَ:إِنَّ إِخْوَانَكُمْ لَقُوا الْعَدُوَّ،وَإِنَّ زَيْدًا أَخَذَ الرَّايَةَ،فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ،أَوِ اسْتُشْهِدَ،ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ بَعْدَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ،أَوِ اسْتُشْهِدَ،ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ،فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ،أَوِ اسْتُشْهِدَ،ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ،فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَأَمْهَلَ،ثُمَّ أَمْهَلَ آلَ جَعْفَرٍ،ثَلاثًا،أَنْ يَأْتِيَهُمْ،ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَالَ:لاَ تَبْكُوا عَلَى أَخِي بَعْدَ الْيَوْمِ ادْعُوا إلِي ابْنَيِ أخِي قَالَ:فَجِيءَ بِنَا كَأَنَّا أَفْرُخٌ،فَقَالَ:ادْعُوا إِلَيَّ الْحَلاقَ،فَجِيءَ بِالْحَلاقِ فَحَلَقَ رُؤُوسَنَا،ثُمَّ قَالَ:أَمَّا مُحَمَّدٌ فَشَبِيهُ عَمِّنَا أَبِي طَالِبٍ،وَأَمَّا عَبْدُ اللهِ فَشَبِيهُ خَلْقِي وَخُلُقِي ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَأَشَالَهَا،فَقَالَ:اللَّهُمَّ اخْلُفْ جَعْفَرًا فِي أَهْلِهِ،وَبَارِكْ لِعَبْدِ اللهِ فِي صَفْقَةِ يَمِينِهِ،قَالَهَا ثَلاثَ مِرَارٍ،قَالَ:فَجَاءَتِ أمُّنَا فَذَكَرَتْ لَهُ يُتْمَنَا،وَجَعَلَتْ تُفْرِحُ لَهُ،فَقَالَ:الْعَيْلَةَ تَخَافِينَ عَلَيْهِمْ وَأَنَا وَلِيُّهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ. (1)
وكذلك يحرم التعرض لنساء المجاهدين والمسافرين إلا بخير،فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،أَنَّ رَجُلاً أَتَى عُمَرَ،فَقَالَ:امْرَأَةٌ جَاءَتْ تُبَايِعُهُ،فَأَدْخَلْتُهَا الدَّوْلَجَ،فَأَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ الْجِمَاعِ،فَقَالَ:وَيْحَكَ لَعَلَّهَا مُغِيبٌ فِي سَبِيلِ اللهِ ؟ قَالَ:أَجَلْ،قَالَ:فَائْتِ أَبَا بَكْرٍ،فَاسْأَلْهُ،قَالَ:فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ:لَعَلَّهَا مُغِيبٌ فِي سَبِيلِ اللهِ ؟ قَالَ:فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِ عُمَرَ،ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ،قَالَ:فَلَعَلَّهَا مُغِيبٌ فِي سَبِيلِ اللهِ ؟ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ:{وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} إِلَى آخِرِ الآيَةِ،فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،أَلِي خَاصَّةً،أَمْ لِلنَّاسِ عَامَّةً ؟ فَضَرَبَ عُمَرُ صَدْرَهُ بِيَدِهِ،فَقَالَ:لاَ وَلاَ نَعْمَةَ عَيْنٍ،بَلْ لِلنَّاسِ عَامَّةً،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :صَدَقَ عُمَرُ. (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛أَنَّ امْرَأَةً مُغِيبًا أَتَتْ رَجُلاً تَشْتَرِي مِنْهُ شَيْئًا،فَقَالَ:ادْخُلِي الدَّوْلَجَ حَتَّى أُعْطِيَكِ،فَدَخَلَتْ،فَقَبَّلَهَا وَغَمَزَهَا،فَقَالَتْ:وَيْحَكَ إِنِّي مُغِيبٌ،فَتَرَكَهَا،وَنَدِمَ عَلَى مَا كَانَ
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 545) (1750) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 650)(2206) حسن(1/227)
مِنْهُ،فَأَتَى عُمَرَ،فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي صَنَعَ،فَقَالَ:وَيْحَكَ،فَلَعَلَّهَا مُغِيبٌ قَالَ:فَإِنَّهَا مُغِيبٌ،قَالَ:فَائْتِ أَبَا بَكْرٍ،فَاسْأَلْهُ فَأَتَى أَبَا بَكْرٍ،فَأَخْبَرَهُ،فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ:وَيْحَكَ لَعَلَّهَا مُغِيبٌ قَالَ:فَإِنَّهَا مُغِيبٌ قَالَ:فَائْتِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَأَخْبِرْهُ،فَأَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرَهُ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :لَعَلَّهَا مُغِيبٌ قَالَ:فَإِنَّهَا مُغِيبٌ،فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَنَزَلَ الْقُرْآنُ {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} إِلَى قَوْلِهِ:{لِلذَّاكِرِينَ}،قَالَ:فَقَالَ الرَّجُلُ:يَا رَسُولَ اللهِ،أَهِيَ فِيَّ خَاصَّةً،أَوْ فِي النَّاسِ عَامَّةً ؟ قَالَ:فَقَالَ عُمَرُ:لاَ وَلاَ نَعْمَةَ عَيْنٍ لَكَ،بَلْ هِيَ لِلنَّاسِ عَامَّةً،قَالَ:فَضَحِكَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ:صَدَقَ عُمَرُ." (1)
وعَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :حُرْمَةُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ كَأُمَّهَاتِهِمْ،وَمَا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الْقَاعِدِينَ يَخْلُفُ رَجُلاً مِنَ الْمُجَاهِدِينَ إِلاَّ نُصِبَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،فَيُقَالُ:يَا فُلاَنُ،هَذَا فُلاَنٌ فَخُذْ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا شِئْتَ،ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ:فَمَا ظَنُّكُمْ مَا أَرَى يَدَعُ مِنْ حَسَنَاتِهِ شَيْئًا. (2)
وعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :حُرْمَةُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ،وَمَا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الْقَاعِدِينَ يَخْلُفُ رَجُلاً مِنَ الْمُجَاهِدِينَ فِي أَهْلِهِ،فَيَخُونُهُ فِيهَا إِلاَّ وَقَفَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَأْخُذُ مِنْ عَمَلِهِ مَا شَاءَ،فَمَا ظَنُّكُمْ ؟. (3)
وعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« حُرْمَةُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ فِى الْحُرْمَةِ كَأُمَّهَاتِهِمْ،وَمَا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الْقَاعِدِينَ يَخْلُفُ رَجُلاً مِنَ الْمُجَاهِدِينَ فِى أَهْلِهِ إِلاَّ نُصِبَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ لَهُ:يَا فُلاَنُ هَذَا فَلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ خَانَكَ فَخُذْ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا شِئْتَ ». ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ :« فَمَا ظَنُّكُمْ؟ ». (4)
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 702)(2430) حسن
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (5017) وصحيح ابن حبان - (10 / 492) (4634)
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 626)(22977) 23365- صحيح
(4) - مسند الحميدي - المكنز - (949) صحيح -يُخبب : يخدع ويفسد(1/228)
قال القرطبي:" وقوله:(( حُرمةُ نساء المجاهدين كحرمة أمَّهاتهم ))؛يعني:أنه يجبُ على القاعدين مِن احترامهن،والكفّ عن أذاهن،والتعرض لهن مثل ما يجبُ عليهم في أمهاتهم .
وقوله:(( فما ظنكم ))؛يعني:أن المخونَ في أهله إذا مُكن مِن أخْذ حسنات الخائن لم يُبْقِ له منها شيئًا،ويكون مصيرُه إلى النار.وقد اقتُصِرَ على مفعول الظن .
وظَهَرَ مِن هذا الحديث:أن خيانةَ الغازي في أهله أعظمُ من كل خيانةٍ؛لأن لم ما عداها لا يخير في أخذ كل الحسنات؛وإنما يأخذُ بكلّ خيانةٍ قدرًا معلومًا من حسنات الخائن ." (1)
وقال النووي:" هَذَا فِي شَيْئَيْنِ:أَحَدهمَا:تَحْرِيم التَّعَرُّض لَهُنَّ بِرِيبَةٍ مِنْ نَظَر مُحَرَّم،وَخَلْوَة،وَحَدِيث مُحَرَّم،وَغَيْر ذَلِكَ.وَالثَّانِي:فِي بِرّهنَّ وَالْإِحْسَان إِلَيْهِنَّ،وَقَضَاء حَوَائِجهنَّ الَّتِي لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا مَفْسَدَة،وَلَا يُتَوَصَّل بِهَا إِلَى رِيبَة وَنَحْوهَا ." (2)
وعَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ،أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ يُحَدِّثُ،أَنَّهُ شَهِدَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأُتِيَ بِرَجُلٍ أَشْعُرَ،قَصِيرٍ،ذِي عَضَلاَتٍ،أَقَرَّ بِالزِّنَى فَرَدَّهُ مَرَّتَيْنِ،ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ،وَقَالَ:كُلَّمَا نَفَرْنَا غَازِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ يَتَخَلَّفُ أَحَدُكُمْ لَهُ نَبِيبٌ كَنَبِيبِ التَّيْسِ،يَمْنَحُ إِحْدَاهُنَّ الْكُثَيْبَةَ،أَمَا إِنِّي لَنْ أُوتِيَ بِأَحَدٍ مِنْهُمْ إِلاَّ جَعَلْتُهُ نَكَالاً،وَرُبَّمَا قَالَ سِمَاكٌ:إِلاَّ نَكَّلْتُهُ. (3)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،أَنَّ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ:إِنِّي أَصَبْتُ فَاحِشَةً،فَرَدَّهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِرَارًا،قَالَ:فَسَأَلَ قَوْمَهُ:أَبِهِ بَأْسٌ ؟ فَقِيلَ:مَا بِهِ بَأْسٌ غَيْرَ أَنَّهُ أَتَى أَمْرًا يَرَى أَنَّهُ لاَ يُخْرِجُهُ مِنْهُ إِلاَّ أَنْ يُقَامَ الْحَدُّ عَلَيْهِ ،قَالَ:فَأَمَرَنَا فَانْطَلَقْنَا بِهِ إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ،قَالَ:فَلَمْ نَحْفُرْ لَهُ وَلَمْ نُوثِقْهُ،فَرَمَيْنَاهُ بِخَزَفٍ وَعِظَامٍ وَجَنْدَلٍ،قَالَ:فَاشْتَكَى فَسَعَى،فَاشْتَدَدْنَا خَلْفَهُ،فَأَتَى الْحَرَّةَ فَانْتَصَبَ لَنَا،فَرَمَيْنَاهُ بِجَلاَمِيدِهَا حَتَّى سَكَنَ،فَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْعَشِيِّ خَطِيبًا،فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ،ثُمَّ قَالَ:أَمَا بَعْدُ،مَا بَالَ أَقْوَامٍ إِذَا غَزَوْنَا تَخَلَّفَ أَحَدُهُمْ فِي عِيَالِنَا لَهُ نَبِيبٌ
__________
(1) - المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - (12 / 44)
(2) - شرح النووي على مسلم - (6 / 374)
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (4520) وصحيح ابن حبان - (10 / 281) (4436)
الأخر : الأبعد -الأعضل : مكتنز اللحم -الكثبة : القليل من اللبن وغيره -النبيب : صوت التيس عند السفاد(1/229)
كَنَبِيبِ التَّيْسِ،أَمَا إِنَّ عَلَيَّ أَنْ لاَ أُوتِيَ بِأَحَدٍ فَعَلَ ذَلِكَ إِلاَّ نَكَّلْتُ بِهِ،قَالَ:وَلَمْ يَسُبَّهُ،وَلَمْ يَسْتَغْفِرْ لَهُ. (1)
تَفَاوُتُ إِثْمِ الزِّنَى (2) :
يَتَفَاوَتُ إِثْمُ الزِّنَى وَيَعْظُمُ جُرْمُهُ بِحَسَبِ مَوَارِدِهِ.فَالزِّنَى بِذَاتِ الْمَحْرَمِ أَوْ بِذَاتِ الزَّوْجِ أَعْظَمُ مِنَ الزِّنَى بِأَجْنَبِيَّةٍ أَوْ مَنْ لاَ زَوْجَ لَهَا،إِذْ فِيهِ انْتِهَاكُ حُرْمَةِ الزَّوْجِ،وَإِفْسَادُ فِرَاشِهِ،وَتَعْلِيقُ نَسَبٍ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ،وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ أَذَاهُ.فَهُوَ أَعْظَمُ إِثْمًا وَجُرْمًا مِنَ الزِّنَى بِغَيْرِ ذَاتِ الْبَعْل وَالأَْجْنَبِيَّةِ.فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا جَارًا انْضَمَّ لَهُ سُوءُ الْجِوَارِ.وَإِيذَاءُ الْجَارِ بِأَعْلَى أَنْوَاعِ الأَْذَى،وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْبَوَائِقِ،فَلَوْ كَانَ الْجَارُ أَخًا أَوْ قَرِيبًا مِنْ أَقَارِبِهِ انْضَمَّ لَهُ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ فَيَتَضَاعَفُ الإِْثْمُ.وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَال:لاَ يَدْخُل الْجَنَّةَ مَنْ لاَ يَأْمَنْ جَارُهُ بَوَائِقَهُ (3) .
وَلاَ بَائِقَةَ أَعْظَمُ مِنَ الزِّنَى بِامْرَأَةِ الْجَارِ.فَإِنْ كَانَ الْجَارُ غَائِبًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ كَالْعِبَادَةِ،وَطَلَبِ الْعِلْمِ،وَالْجِهَادِ،تَضَاعَفَ الإِْثْمُ حَتَّى إِنَّ الزَّانِيَ بِامْرَأَةِ الْغَازِي فِي سَبِيل اللَّهِ يُوقَفُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،فَيَأْخُذُ مِنْ عَمَلِهِ مَا شَاءَ.وللحديث الآنف الذكر: حُرْمَةُ نِسَاءِ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ،وَمَا مِنْ رَجُلٍ مِنَ الْقَاعِدِينَ يَخْلُفُ رَجُلاً مِنَ الْمُجَاهِدِينَ فِي أَهْلِهِ فَيَخُونُهُ فِيهِمْ،إِلاَّ وَقَفَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَأْخُذُ مِنْ عَمَلِهِ مَا شَاءَ فَمَا ظَنُّكُمْ ؟
أَيْ مَا ظَنُّكُمْ أَنْ يَتْرُكَ لَهُ مِنْ حَسَنَاتِهِ ؟ قَدْ حَكَمَ فِي أَنَّهُ يَأْخُذُ مَا شَاءَ عَلَى شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى حَسَنَةٍ وَاحِدَةٍ،فَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ رَحِمًا لَهُ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ قَطِيعَةُ رَحِمِهَا،فَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ يَكُونَ الزَّانِي مُحْصَنًا كَانَ الإِْثْمُ أَعْظَمَ،فَإِنْ كَانَ شَيْخًا كَانَ أَعْظَمَ إِثْمًا
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (4524) وصحيح ابن حبان - (10 / 285)(4438)
الجلاميد : جمع جلمود وهو الحجارة الكبار -المدَر : الطين اليابس جمع مدرة -النبيب : صوت التيس عند السفاد
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (24 / 20)
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (181 )(1/230)
وَعُقُوبَةً،فَإِنِ اقْتَرَنَ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ،أَوْ بَلَدٍ حَرَامٍ،أَوْ وَقْتٍ مُعَظَّمٍ عِنْدَ اللَّهِ كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ وَأَوْقَاتِ الإِْجَابَةِ تَضَاعَفَ الإِْثْمُ (1) .
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - مطالب أولي النهى 6 / 173 ، 174 المكتب الإسلامي بدمشق 1961 م .(1/231)
الحق الواحد والثلاثون
عدم التجسس عليه
قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات
يَنْهى اللهُ تَعَالى عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ عَن الظَّنِّ السَّيِّء بإخوانِهِمْ المُؤْمِنينَ،لأنَّ ظَنَّ المُؤْمِنِ السَّوْءَ إِثمٌ،لأنَّ اللهَ نَهَى عَنْ فِعْلِهِ،فَإذا فَعَلَهُ فَهُوَ آثمٌ .
ثُمَّ نَهَى اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ عَنْ أن يَتَجَسَّسَ بَعُضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ،كَمَا نَهَاهُمْ عَنْ أنْ يَتَتَبَّعَ بَعْضُهُم عَوْرَاتِ بَعْضٍ،وَعَنْ أنْ يَبْحَث الوَاحِدُ مِنْهُمْ عَنْ سَرَائِرِ أخِيهِ،وَهُوَ يَبْتَغِي بِذِلَكَ فَضْحَهُ،وَكَشْفَ عُيُوبِهِ .
ثُمَّ نَهَاهم عَنْ أنْ يَغْتَابَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً،وَعَنْ أنْ يَذْكُرَ أحَدُهُمْ أخَاهُ بما يَكْرَهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَخَلْقِهِ وَخُلُقِهِ وَأهلِهِ وَمَالِهِ وَزَوْجِهِ وَوَلدِهِ.. ( كَما عَرَّفَ رَسُولُ اللهِ الاغِتْيَابَ ) .
وَشَبَّه تَعَالى اغْتِيَابَ المُؤْمِنِ لأخيِهِ المؤمِنِ بأكْلِهِ لَحمَهُ بَعْدَ موتِهِ،وَقَالَ لِلمُؤمِنِينَ إنَّهم إذا كَانَ أَحَدُهُمْ يَكْرَهُ أكْلَ لَحْمِ أخِيهِ بَعْدَ مَوتِهِ،وَإذا كَانَتْ نَفْسُهُ تَعَافُ ذَلِكَ فَعَلَيهِمْ أنْ يَكْرَهُوا أنْ يَغْتَابُوهُ في حَيَاتِهِ .
وَلِلْغِيبَةِ ثَلاثَةُ وُجُوهٍ:
الغِيبَةُ - وَهِيَ أنْ يَقُولَ الإِنسَانُ في أخيهِ مَا هُوَ فيه مِمَّا يَكْرَهُهُ .
الإٍفْكُ - أنْ يَقُولَ فِيهِ مَا بَلَغَهُ عَنْهُ مِمَّا يَكْرَهُهُ .
البُهْتَانُ - أنْ يَقُولُ فيهِ مَا لَيسَ فيهِ ممّا يَكْرَهُهُ .(1/232)
ثُمَ حَثَّ اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ عَلى تَقْوى اللهِ،وَعَلَى تَرْكِ الغِيبَةِ،وَمُرَاقَبِتِهِ تَعَالى في السِّرِّ والعَلنِ،فإذا تَابُوا وانتَهَوا واستَغْفَروا رَبَّهم عَمّا فَرَطَ مِنْهُم،اسْتَجَابَ لَهُم رَبُّهُمْ،فَتَابَ عَلَيِهمْ،لأنَّه تَعَالى كَثيرُ التَّوْبِ عَلَى عِبَادِهِ،كَثِيرُ الرَّحمةِ بِهِمْ . (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ،وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ تَحَسَّسُوا،وَلاَ تَحَاسَدُوا،وَلاَ تَنَافَسُوا،وَلاَ تَبَاغَضُوا،وَلاَ تَدَابَرُوا،وَكُونُوا عِبَادًا لِلَّهِ إِخْوَانًا. (2)
وعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِِيمَانُ قَلْبَهُ لاَ تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ،وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ. (3)
وعَنْ أَبِي بَرْزَةَ الأَسْلَمِيِّ قَالَ:نَادَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَسْمَعَ الْعَوَاتِقَ،فَقَالَ:يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ،وَلَمْ يَدْخُلِ الإِِيمَانُ قَلْبَهُ لاَ تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ،وَلاَ تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛فَإِنَّهُ مَنْ يَتَّبِعْ عَوْرَةَ أَخِيهِ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ فِي بَيْتِهِ. (4)
وعَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :« إِنَّكَ إِنِ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ أَوْ عَثَرَاتِ النَّاسِ أَفْسَدْتَهُمْ أَوْ كِدْتَ أَنْ تُفْسِدَهُمْ ». قَالَ يَقُولُ أَبُو الدَّرْدَاءِ:كَلِمَةٌ سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَنَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا. (5)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4503)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (5143 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6701 ) وصحيح ابن حبان - (12 / 500) (5687)
إياكم والظن : أراد بالظن الشك الذي يعرض للإنسان في الشيء فيحققه ويعمل به ، وقيل : أراد : إياكم وسوء الظن وتحقيقه ، دون مباديء الظنون التي لا تملك ، وخواطر القلوب التي لا تدفع ، معناه : لا تبحثوا عن عيوب الناس ، ولا تتبعوا أخبارهم.
ولا تجسسوا : التجسس - بالجيم - : طلب الخبر لغيرك ، وبالحاء : طلبه لنفسك.
تنافسوا : المنافسة : المثابرة على طلب الشيء ، والمغالبة فيه.
تدابروا : التدابر : التقاطع والتهاجر ، وأصله : أن يولي أخاه ظهره.
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 660)(19776) 20014- صحيح لغيره
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 669)(19801) 20039- صحيح لغيره
(5) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (8 / 333) (18078) صحيح(1/233)
وعَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ وَكَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ وَعَمْرِو بْنِ الأَسْوَدِ وَالْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ وَأَبِى أُمَامَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« إِنَّ الأَمِيرَ إِذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ فِى النَّاسِ أَفْسَدَهُمْ ». (1)
التَجَسُّسً (2) :
التَّجَسُّسُ لُغَةً:تَتَبُّعُ الأَْخْبَارِ،يُقَال:جَسَّ الأَْخْبَارَ وَتَجَسَّسَهَا:إِذَا تَتَبَّعَهَا،وَمِنْهُ الْجَاسُوسُ،لأَِنَّهُ يَتَتَبَّعُ الأَْخْبَارَ وَيَفْحَصُ عَنْ بَوَاطِنِ الأُْمُورِ،ثُمَّ اُسْتُعِيرَ لِنَظَرِ الْعَيْنِ . (3) وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنِيِّ اللُّغَوِيِّ .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ :
أ - التَّحَسُّسُ :
التَّحَسُّسُ هُوَ:طَلَبُ الْخَبَرِ،يُقَال:رَجُلٌ حَسَّاسٌ لِلأَْخْبَارِ أَيْ:كَثِيرُ الْعِلْمِ بِهَا،وَأَصْل الإِْحْسَاسِ:الإِْبْصَارُ،وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى:{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} (98) سورة مريم،أَيْ:هَل تَرَى،ثُمَّ اُسْتُعْمِل فِي الْوِجْدَانِ وَالْعِلْمِ بِأَيِّ حَاسَّةٍ كَانَتْ ،وَقَدْ قُرِئَ قَوْله تَعَالَى:{ وَلاَ تَجَسَّسُوا } (سورة الحجرات / 12 ) بِالْحَاءِ"وَلاَ تَحَسَّسُوا"قَال الزَّمَخْشَرِيُّ:وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ،وَقِيل:إِنَّ التَّجَسُّسَ غَالِبًا يُطْلَقُ عَلَى الشَّرِّ،وَأَمَّا التَّحَسُّسُ فَيَكُونُ غَالِبًا فِي الْخَيْرِ (4) .
ب - التَّرَصُّدُ :
التَّرَصُّدُ:الْقُعُودُ عَلَى الطَّرِيقِ،وَمِنْهُ الرَّصَدِيُّ:الَّذِي يَقْعُدُ عَلَى الطَّرِيقِ يَنْظُرُ النَّاسَ لِيَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا. (5)
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (8 / 333) (18079) حسن
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (10 / 161)
(3) - المصباح المنير .
(4) - المصباح المنير ، وتفسير الزمخشري 3 / 5018 .
(5) - المصباح المنير .(1/234)
فَيَجْتَمِعُ التَّجَسُّسُ وَالتَّرَصُّدُ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَتَبُّعُ أَخْبَارِ النَّاسِ،غَيْرَ أَنَّ التَّجَسُّسَ يَكُونُ بِالتَّتَبُّعِ وَالسَّعْيِ لِتَحْصِيل الأَْخْبَارِ وَلَوْ بِالسَّمَاعِ أَوِ الاِنْتِقَال،أَمَّا التَّرَصُّدُ فَهُوَ الْقُعُودُ وَالاِنْتِظَارُ وَالتَّرَقُّبُ .
ج-التَّنَصُّتُ :
التَّنَصُّتُ هُوَ:التَّسَمُّعُ.يُقَال:أَنْصَتَ إِنْصَاتًا أَيِ:اسْتَمَعَ،وَنَصَتَ لَهُ أَيْ:سَكَتَ مُسْتَمِعًا،فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ التَّجَسُّسِ؛لأَِنَّ التَّنَصُّتَ يَكُونُ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً (1) .
حُكْمُ التَّجَسُّسِ التَّكْلِيفِيِّ :
التَّجَسُّسُ تَعْتَرِيهِ أَحْكَامٌ ثَلاَثَةٌ:الْحُرْمَةُ وَالْوُجُوبُ وَالإِْبَاحَةُ .
فَالتَّجَسُّسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الأَْصْل حَرَامٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ،لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{ وَلاَ تَجَسَّسُوا } لأَِنَّ فِيهِ تَتَبُّعَ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَمَعَايِبِهِمْ وَالاِسْتِكْشَافَ عَمَّا سَتَرُوهُ.وَقَدْ قَال - صلى الله عليه وسلم - :يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُل الإِْيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ لاَ تَتَبَّعُوا عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ،فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ.
قَال ابْنُ وَهْبٍ:وَالسَّتْرُ وَاجِبٌ إِلاَّ عَنِ الإِْمَامِ وَالْوَالِي وَأَحَدِ الشُّهُودِ الأَْرْبَعَةِ فِي الزِّنَى .
وَقَدْ يَكُونُ التَّجَسُّسُ وَاجِبًا،فَقَدْ نُقِل عَنِ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ قَال:اللُّصُوصُ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ أَرَى أَنْ يُطْلَبُوا فِي مَظَانِّهِمْ وَيُعَانَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُقْتَلُوا أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَْرْضِ بِالْهَرَبِ (2) .
وَطَلَبُهُمْ لاَ يَكُونُ إِلاَّ بِالتَّجَسُّسِ عَلَيْهِمْ وَتَتَبُّعِ أَخْبَارِهِمْ .
وَيُبَاحُ فِي الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ بَعْثُ الْجَوَاسِيسِ لِتُعْرَفَ أَخْبَارُ جَيْشِ الْكُفَّارِ مِنْ عَدَدٍ وَعَتَادٍ وَأَيْنَ يُقِيمُونَ وَمَا إِلَى ذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ يُبَاحُ التَّجَسُّسُ إِذَا رُفِعَ إِلَى الْحَاكِمِ أَنَّ فِي بَيْتِ فُلاَنٍ خَمْرًا،فَإِنْ شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ شُهُودٌ كَشَفَ عَنْ حَال صَاحِبِ الْبَيْت،فَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِمَا شُهِدَ عَلَيْهِ أُخِذَ،وَإِنْ كَانَ مَسْتُورًا فَلاَ يُكْشَفُ عَنْهُ.وَقَدْ سُئِل الإِْمَامُ مَالِكٌ عَنِ الشُّرْطِيِّ يَأْتِيهِ رَجُلٌ يَدْعُوهُ إِلَى نَاسٍ
__________
(1) - المصباح المنير .
(2) - تبصرة الحكام 2 / 171 .(1/235)
فِي بَيْتٍ اجْتَمَعُوا فِيهِ عَلَى شَرَابٍ،فَقَال:إِنْ كَانَ فِي بَيْتٍ لاَ يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْهُ فَلاَ يَتَتَبَّعُهُ،وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا بِذَلِكَ يَتَتَبَّعُهُ .
وَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَكْشِفَ عَلَى مُرْتَكِبِي الْمَعَاصِي؛لأَِنَّ قَاعِدَةَ وِلاَيَةِ الْحِسْبَةِ:الأَْمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ. (1)
التَّجَسُّسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرْبِ :
الْجَاسُوسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ،وَقَدْ أَجَابَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ سُؤَال هَارُونَ الرَّشِيدِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحُكْمِ فِيهِمْ،فَقَال:وَسَأَلْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْجَوَاسِيسِ يُوجَدُونَ وَهُمْ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ أَوْ أَهْل الْحَرْبِ أَوْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ،فَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْل الْحَرْبِ أَوْ مِنْ أَهْل الذِّمَّةِ مِمَّنْ يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ،وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْل الإِْسْلاَمِ مَعْرُوفِينَ فَأَوْجِعْهُمْ عُقُوبَةً،وَأَطِل حَبْسَهُمْ حَتَّى يُحْدِثُوا تَوْبَةً . (2)
وَقَال الإِْمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ:وَإِذَا وَجَدَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلاً - مِمَّنْ يَدَّعِي الإِْسْلاَمَ - عَيْنًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَكْتُبُ إِلَيْهِمْ بِعَوْرَاتِهِمْ فَأَقَرَّ بِذَلِكَ طَوْعًا فَإِنَّهُ لاَ يُقْتَل،وَلَكِنَّ الإِْمَامَ يُوجِعُهُ عُقُوبَةً.ثُمَّ قَال:إِنَّ مِثْلَهُ لاَ يَكُونُ مُسْلِمًا حَقِيقَةً،وَلَكِنْ لاَ يُقْتَل لأَِنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ مَا بِهِ حُكِمَ بِإِسْلاَمِهِ فَلاَ يَخْرُجُ عَنِ الإِْسْلاَمِ فِي الظَّاهِرِ مَا لَمْ يَتْرُكْ مَا بِهِ دَخَل فِي الإِْسْلاَمِ،وَلأَِنَّهُ إِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى مَا فَعَل الطَّمَعُ،لاَ خُبْثُ الاِعْتِقَادِ،وَهَذَا أَحْسَنُ الْوَجْهَيْنِ،وَبِهِ أُمِرْنَا.قَال اللَّهُ تَعَالَى:{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (18) سورة الزمر.
وَاسْتَدَل عَلَيْهِ بِحَدِيثِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ،فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ عَمِيَ،فَبَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،أَنْ تَعَالَ فَاخْطُطْ فِي دَارِي مَسْجِدًا أَتَّخِذُهُ مُصَلًّى،فَجَاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ قَوْمُهُ،وَبَقِيَ رَجُلٌ مِنْهُمْ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :أَيْنَ فُلاَنٌ ؟ فَغَمَزَهُ بَعْضُ الْقَوْمِ إِنَّهُ،وَإِنَّهُ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :أَلَيْسَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا ؟ قَالُوا:بَلَى يَا رَسُولَ
__________
(1) - المصدر السابق .
(2) - الخراج لأبي يوسف 205 - 206 .(1/236)
اللهِ،وَلَكِنَّهُ كَذَا،وَكَذَا،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ،فَقَالَ:اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ،فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ. (1)
وعن عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ،وَهُوَ كَاتَبُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،قَالَ:سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ:بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَالزُّبَيْرَ،وَطَلْحَةَ،وَالْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ،فَقَالَ:انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ،فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ،فَخُذُوهُ مِنْهَا،فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا،حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ،فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ،فَقُلْنَا لَهَا:أَخْرِجِي الْكِتَابَ،فَقَالَتْ:مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ،فَقُلْنَا:آللَّهِ لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ،فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا،فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَإِذَا فِيهِ:مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ،يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :يَا حَاطِبُ مَا هَذَا ؟ قَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ لاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ،وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ،وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينِ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ،يَحْمُونَ قَرَابَتَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ،وَلَمْ يَكُنْ لِي قَرَابَةٌ أَحْمِي بِهَا أَهْلِي،فَأَحْبَبْتُ إِنْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي وَأَهْلِي،وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللهِ،مَا فَعَلْتُ ذَلِكَ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي،وَلاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :إِنَّ هَذَا قَدْ صَدَقَكُمْ،فَقَالَ عُمَرُ:يَا رَسُولَ اللهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ،فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - :إِنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا،وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ،فَقَالَ:اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ،وَأَنْزَلَ فِيهِ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} (1) سورة الممتحنة. (2)
فَلَوْ كَانَ بِهَذَا كَافِرًا مُسْتَوْجِبًا لِلْقَتْل مَا تَرَكَهُ الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - بَدْرِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَ بَدْرِيٍّ،وَكَذَلِكَ لَوْ لَزِمَهُ الْقَتْل بِهَذَا حَدًّا مَا تَرَكَهُ الرَّسُول - صلى الله عليه وسلم - وَفِيهِ نَزَل قَوْله تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3007 ) وصحيح ابن حبان - (11 / 123) (4798)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (4274) وصحيح مسلم- المكنز - (6557 ) وصحيح ابن حبان - (14 / 424) (6499)(1/237)
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} (1) سورة الممتحنة،فَقَدْ سَمَّاهُ مُؤْمِنًا،وَعَلَيْهِ دَلَّتْ قِصَّةُ أَبِي لُبَابَةَ حِينَ اسْتَشَارَهُ بَنُو قُرَيْظَةَ،فَأَمَرَّ أُصْبُعَهُ عَلَى حَلْقِهِ يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُمْ لَوْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَتَلَهُمْ،وَفِيهِ نَزَل قَوْله تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } (27) سورة الأنفال .
وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَل هَذَا ذِمِّيٌّ فَإِنَّهُ يُوجَعُ عُقُوبَةً وَيُسْتَوْدَعُ السِّجْنَ،وَلاَ يَكُونُ هَذَا نَقْضًا مِنْهُ لِلْعَهْدِ،لأَِنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ مُسْلِمٌ لَمْ يَكُنْ بِهِ نَاقِضًا أَمَانَهُ،فَإِذَا فَعَلَهُ ذِمِّيٌّ لاَ يَكُونُ نَاقِضًا أَمَانَهُ أَيْضًا.أَلاَ تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ فَقَتَل وَأَخَذَ الْمَال لَمْ يَكُنْ بِهِ نَاقِضًا لِلْعَهْدِ،وَإِنْ كَانَ قَطْعُ الطَّرِيقِ مُحَارَبَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بِالنَّصِّ فَهَذَا أَوْلَى.وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَهُ مُسْتَأْمَنٌ فَإِنَّهُ لاَ يَصِيرُ نَاقِضًا لأَِمَانِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ،إِلاَّ أَنَّهُ يُوجَعُ عُقُوبَةً فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لأَِنَّهُ ارْتَكَبَ مَا لاَ يَحِل لَهُ وَقَصَدَ بِفِعْلِهِ إِلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ .
فَإِنْ كَانَ حِينَ طَلَبَ الأَْمَانَ قَال لَهُ الْمُسْلِمُونَ:أَمَّنَّاكَ إِنْ لَمْ تَكُنْ عَيْنًا لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ،أَوْ أَمَّنَّاكَ عَلَى أَنَّكَ إِنْ أَخْبَرْتَ أَهْل الْحَرْبِ بِعَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلاَ أَمَانَ لَكَ - وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا - فَلاَ بَأْسَ بِقَتْلِهِ؛لأَِنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يَكُونُ مَعْدُومًا قَبْل وُجُودِ الشَّرْطِ،فَقَدْ عُلِّقَ أَمَانُهُ هَاهُنَا بِشَرْطِ أَلاَّ يَكُونَ عَيْنًا،فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ عَيْنٌ كَانَ حَرْبِيًّا لاَ أَمَانَ لَهُ فَلاَ بَأْسَ بِقَتْلِهِ .
وَإِنْ رَأَى الإِْمَامُ أَنْ يَصْلُبَهُ حَتَّى يَعْتَبِرَ بِهِ غَيْرُهُ فَلاَ بَأْسَ بِذَلِكَ،وَإِنْ رَأَى أَنْ يَجْعَلَهُ فَيْئًا فَلاَ بَأْسَ بِهِ أَيْضًا كَغَيْرِهِ مِنَ الأُْسَرَاءِ،إِلاَّ أَنَّ الأَْوْلَى أَنْ يَقْتُلَهُ هَاهُنَا لِيَعْتَبِرَ غَيْرُهُ.فَإِنْ كَانَ مَكَانَ الرَّجُل امْرَأَةٌ فَلاَ بَأْسَ بِقَتْلِهَا أَيْضًا،لأَِنَّهَا قَصَدَتْ إِلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ،وَلاَ بَأْسَ بِقَتْل الْحَرْبِيَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ،كَمَا إِذَا قَاتَلَتْ،إِلاَّ أَنَّهُ يُكْرَهُ صَلْبُهَا لأَِنَّهَا عَوْرَةٌ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ أَوْلَى .(1/238)
وَإِنْ وَجَدُوا غُلاَمًا لَمْ يَبْلُغْ،بِهَذِهِ الصِّفَةِ،فَإِنَّهُ يُجْعَل فَيْئًا وَلاَ يُقْتَل،لأَِنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ،فَلاَ يَكُونُ فِعْلُهُ خِيَانَةً يَسْتَوْجِبُ الْقَتْل بِهَا،بِخِلاَفِ الْمَرْأَةِ.وَهُوَ نَظِيرُ الصَّبِيِّ إِذَا قَاتَل فَأُخِذَ أَسِيرًا لَمْ يَجُزْ قَتْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ،بِخِلاَفِ الْمَرْأَةِ إِذَا قَاتَلَتْ فَأُخِذَتْ أَسِيرَةً فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهَا .
وَالشَّيْخُ الَّذِي لاَ قِتَال عِنْدَهُ وَلَكِنَّهُ صَحِيحُ الْعَقْل بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا.وَإِنْ جَحَدَ الْمُسْتَأْمَنُ أَنْ يَكُونَ فَعَل ذَلِكَ،وَقَال:الْكِتَابُ الَّذِي وَجَدُوهُ مَعَهُ إِنَّمَا وَجَدَهُ فِي الطَّرِيقِ وَأَخَذَهُ،فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْتُلُوهُ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ،لأَِنَّهُ آمِنٌ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ،فَمَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ مَا يَنْفِي أَمَانَهُ كَانَ حَرَامَ الْقَتْل.فَإِنْ هَدَّدُوهُ بِضَرْبٍ أَوْ قَيْدٍ أَوْ حَبْسٍ حَتَّى أَقَرَّ بِأَنَّهُ عَيْنٌ فَإِقْرَارُهُ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ،لأَِنَّهُ مُكْرَهٌ،وَإِقْرَارُ الْمُكْرَهِ بَاطِلٌ سَوَاءٌ أَكَانَ الإِْكْرَاهُ بِالْحَبْسِ أَمْ بِالْقَتْل،وَلاَ يَظْهَرُ كَوْنُهُ عَيْنًا إِلاَّ بِأَنْ يُقِرَّ بِهِ عَنْ طَوْعٍ،أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِذَلِكَ،وَيُقْبَل عَلَيْهِ بِذَلِكَ شَهَادَةُ أَهْل
الذِّمَّةِ وَأَهْل الْحَرْبِ،لأَِنَّهُ حَرْبِيٌّ فِينَا وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا،وَشَهَادَةُ أَهْل الْحَرْبِ حُجَّةٌ عَلَى الْحَرْبِيِّ .
وَإِنْ وَجَدَ الإِْمَامُ مَعَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ مُسْتَأْمَنٍ كِتَابًا فِيهِ خَطُّهُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ،إِلَى مَلِكِ أَهْل الْحَرْبِ يُخْبِرُ فِيهِ بِعَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ الإِْمَامَ يَحْبِسُهُ،وَلاَ يَضْرِبُهُ بِهَذَا الْقَدْرِ؛لأَِنَّ الْكِتَابَ مُحْتَمَلٌ فَلَعَلَّهُ مُفْتَعَلٌ،وَالْخَطُّ يُشْبِهُ الْخَطَّ ، (1)
فَلاَ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهُ بِمِثْل هَذَا الْمُحْتَمَل،وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ نَظَرًا لِلْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ أَمْرُهُ:فَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ خَلَّى سَبِيلَهُ،وَرَدَّ الْمُسْتَأْمَنَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ،وَلَمْ يَدَعْهُ لِيُقِيمَ بَعْدَ هَذَا فِي دَارِ الإِْسْلاَمِ يَوْمًا وَاحِدًا؛لأَِنَّ الرِّيبَةَ فِي أَمْرِهِ قَدْ تَمَكَّنَتْ وَتَطْهِيرُ دَارِ الإِْسْلاَمِ مِنْ مِثْلِهِ مِنْ بَابِ إِمَاطَةِ الأَْذَى فَهُوَ أَوْلَى (2) .
__________
(1) - هذا ما ذهب إليه الفقهاء والمتقدمون ، لأنه لم يكن لديهم وسائل تميز الخطوط . ومعرفة خواص كل خط فاحتاطوا . أما وقد كشف العلم في زماننا أن لخط كل شخص خاصية تميزه بها عن سائر الخطوط ، فإن الخط يمكن الآن الاعتماد عليه واعتباره قرينة ، يقضى بموجبها . وكذلك بصمة الأصبع ، ونحوها مما تثبت قطعية دلالته .
(2) - السير الكبير 5 / 2040 - 244 ط شركة الإعلانات .(1/239)
مَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:أَنَّ الْجَاسُوسَ الْمُسْتَأْمَنَ يُقْتَل،وَقَال سَحْنُونٌ فِي الْمُسْلِمِ يَكْتُبُ لأَِهْل الْحَرْبِ بِأَخْبَارِ الْمُسْلِمِينَ:يُقْتَل وَلاَ يُسْتَتَابُ وَلاَ دِيَةَ لِوَرَثَتِهِ كَالْمُحَارِبِ.وَقِيل:يُجْلَدُ نَكَالاً وَيُطَال حَبْسُهُ وَيُنْفَى مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِيهِ،وَقِيل:يُقْتَل إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ،وَقِيل:إِلاَّ أَنْ يُعْذَرَ بِجَهْلٍ.وَقِيل:يُقْتَل إِنْ كَانَ مُعْتَادًا لِذَلِكَ،وَإِنْ كَانَتْ فَلْتَةً ضُرِبَ وَنُكِّل (1) .
وَقَدْ جَاءَ فِي الْقُرْطُبِيِّ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} (1) سورة الممتحنة مَا يَأْتِي :
مَنْ كَثُرَ تَطَلُّعُهُ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ وَيُنَبِّهُ عَلَيْهِمْ وَيُعَرِّفُ عَدَدَهُمْ بِأَخْبَارِهِمْ لَمْ يَكُنْ كَافِرًا بِذَلِكَ،إِذَا كَانَ فِعْلُهُ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ وَاعْتِقَادُهُ عَلَى ذَلِكَ سَلِيمٌ،كَمَا فَعَل حَاطِبٌ حِينَ قَصَدَ بِذَلِكَ اتِّخَاذَ الْيَدِ وَلَمْ يَنْوِ الرِّدَّةَ عَنِ الدِّينِ.وَإِذَا قُلْنَا:لاَ يَكُونُ بِذَلِكَ كَافِرًا فَهَل يُقْتَل بِذَلِكَ حَدًّا أَمْ لاَ ؟ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ،فَقَال مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ:يَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ الإِْمَامُ.وَقَال عَبْدُ الْمَلِكِ:إِذَا كَانَتْ عَادَتُهُ ذَلِكَ قُتِل لأَِنَّهُ جَاسُوسٌ.وَقَدْ قَال مَالِكٌ:يُقْتَل الْجَاسُوسُ - وَهُوَ صَحِيحٌ - لإِِضْرَارِهِ بِالْمُسْلِمِينَ وَسَعْيِهِ بِالْفَسَادِ فِي الأَْرْضِ،وَلَعَل ابْنَ الْمَاجِشُونِ إِنَّمَا اتَّخَذَ التَّكْرَارَ فِي هَذَا لأَِنَّ حَاطِبًا أُخِذَ فِي أَوَّل فِعْلِهِ .
فَإِنْ كَانَ الْجَاسُوسُ كَافِرًا،فَقَال الأَْوْزَاعِيُّ:يَكُونُ نَقْضًا لِعَهْدِهِ،وَقَال أَصْبَغُ:الْجَاسُوسُ الْحَرْبِيُّ يُقْتَل،وَالْجَاسُوسُ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ يُعَاقَبَانِ إِلاَّ إِنْ تَظَاهَرَا عَلَى الإِْسْلاَمِ فَيُقْتَلاَنِ،وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بِعَيْنٍ لِلْمُشْرِكِينَ اسْمُهُ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُقْتَل،فَصَاحَ:يَا مَعْشَرَ الأَْنْصَارِ أُقْتَل وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ فَأَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَخَلَّى سَبِيلَهُ.ثُمَّ قَال:إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ أَكِلُهُ إِلَى إيمَانِهِ،مِنْهُمْ فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ .
__________
(1) - تبصرة الحكام 2 / 177 - 178 .(1/240)
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ:أَنَّ الْجَاسُوسَ الْمُسْلِمَ يُعَزَّرُ وَلاَ يَجُوزُ قَتْلُهُ.وَإِنْ كَانَ ذَا هَيْئَةٍ ( أَيْ مَاضٍ كَرِيمٍ فِي خِدْمَةِ الإِْسْلاَمِ ) عُفِيَ عَنْهُ لِحَدِيثِ حَاطِبٍ،وَعِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يُنْتَقَضُ عَهْدُ الذِّمِّيِّ بِالدَّلاَلَةِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ،وَلَوْ شُرِطَ عَلَيْهِمْ فِي عَهْدِ الأَْمَانِ ذَلِكَ فِي الأَْصَحِّ،وَفِي غَيْرِهِ يُنْتَقَضُ بِالشَّرْطِ . (1)
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ:أَنَّهُ يُنْتَقَضُ عَهْدُ أَهْل الذِّمَّةِ بِأَشْيَاءَ وَمِنْهَا:تَجَسَّسَ أَوْ آوَى جَاسُوسًا،لِمَا فِيهِ مِنَ الضَّرَرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. (2)
وَمِمَّا تَقَدَّمَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجَاسُوسَ الْحَرْبِيَّ مُبَاحُ الدَّمِ يُقْتَل عَلَى أَيِّ حَالٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ،أَمَّا الذِّمِّيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ فَقَال أَبُو يُوسُفَ وَبَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ:إِنَّهُ يُقْتَل .
وَلِلشَّافِعِيَّةِ أَقْوَالٌ أَصَحُّهَا أَنَّهُ لاَ يُنْتَقَضُ عَهْدُ الذِّمِّيِّ بِالدَّلاَلَةِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ،لأَِنَّهُ لاَ يُخِل بِمَقْصُودِ الْعَقْدِ.وَأَمَّا الْجَاسُوسُ الْمُسْلِمُ فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ وَلاَ يُقْتَل عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَبَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ،وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُقْتَل .
التَّجَسُّسُ عَلَى الْكُفَّارِ :
التَّجَسُّسُ عَلَى الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ لِمَعْرِفَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ وَمَا مَعَهُمْ مِنْ سِلاَحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ،فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ،قَالَ:قَالَ فَتًى مِنَّا مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ لِحُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ:يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ،رَأَيْتُمْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَصَحِبْتُمُوهُ ؟ قَالَ:نَعَمْ يَا ابْنَ أَخِي،قَالَ:فَكَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ ؟ قَالَ:وَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا نَجْهَدُ،قَالَ:وَاللَّهِ لَوْ أَدْرَكْنَاهُ مَا تَرَكْنَاهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ،وَلَجَعَلْنَاهُ عَلَى أَعْنَاقِنَا،قَالَ:فَقَالَ حُذَيْفَةُ:يَا ابْنَ أَخِي،وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْخَنْدَقِ،وَصَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ اللَّيْلِ هَوِيًّا،ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ:مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرَ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ يَشْرُطُ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ يَرْجِعُ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ،فَمَا قَامَ رَجُلٌ،ثُمَّ صَلَّى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - هَوِيًّا مِنَ اللَّيْلِ،ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا فَقَالَ:مَنْ رَجُلٌ يَقُومُ فَيَنْظُرَ لَنَا مَا فَعَلَ الْقَوْمُ،ثُمَّ يَرْجِعُ يَشْرِطُ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الرَّجْعَةَ،أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ رَفِيقِي فِي
__________
(1) - عمدة القاري 14 / 256 ط المنيرية ، وشرح المنهج بحاشية البجيرمي 4 / 281 ، القليوبي 4 / 226 ، والشرقاوي على التحرير 2 / 412 .
(2) - شرح منتهى الإرادات 2 / 138 - 139 .(1/241)
الْجَنَّةِ،فَمَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ مَعَ شِدَّةِ الْخَوْفِ،وَشِدَّةِ الْجُوعِ،وَشِدَّةِ الْبَرْدِ،فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ دَعَانِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَلَمْ يَكُنْ لِي بُدٌّ مِنَ الْقِيَامِ حِينَ دَعَانِي،فَقَالَ:يَا حُذَيْفَةُ،فَاذْهَبْ فَادْخُلْ فِي الْقَوْمِ فَانْظُرْ مَا يَفْعَلُونَ،وَلاَ تُحْدِثَنَّ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنَا،قَالَ:فَذَهَبْتُ فَدَخَلْتُ فِي الْقَوْمِ،وَالرِّيحُ وَجُنُودُ اللهِ تَفْعَلُ مَا تَفْعَلُ لاَ تَقِرُّ لَهُمْ قِدْرًا،وَلاَ نَارًا وَلاَ بِنَاءً،فَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فَقَالَ:يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ،لِيَنْظُرْ امْرُؤٌ مَنْ جَلِيسُهُ،فَقَالَ حُذَيْفَةُ:فَأَخَذْتُ بِيَدِ الرَّجُلِ الَّذِي إِلَى جَنْبِي،فَقُلْتُ:مَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ:أَنَا فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ،ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ:يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ،إِنَّكُمْ وَاللَّهِ مَا أَصْبَحْتُمْ بِدَارِ مُقَامٍ لَقَدْ هَلَكَ الْكُرَاعُ،وَأَخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَةَ،وَبَلَغَنَا عَنْهُمُ الَّذِي نَكْرَهُ،وَلَقِينَا مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ مَا تَرَوْنَ،وَاللَّهِ مَا تَطْمَئِنُّ لَنَا قِدْرٌ،وَلاَ تَقُومُ لَنَا نَارٌ،وَلاَ يَسْتَمْسِكُ لَنَا بِنَاءٌ،فَارْتَحِلُوا فَإِنِّي مُرْتَحِلٌ،ثُمَّ قَامَ إِلَى جَمَلِهِ وَهُوَ مَعْقُولٌ فَجَلَسَ عَلَيْهِ،ثُمَّ ضَرَبَهُ فَوَثَبَ عَلَى ثَلاَثٍ،فَمَا أَطْلَقَ عِقَالَهُ إِلاَّ وَهُوَ قَائِمٌ،وَلَوْلاَ عَهْدُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لاَ تُحْدِثْ شَيْئًا حَتَّى تَأْتِيَنِي،ثُمَّ شِئْتُ لَقَتَلْتُهُ بِسَهْمٍ،قَالَ حُذَيْفَةُ:ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي مِرْطٍ لِبَعْضِ نِسَائِهِ مُرَحَّلٍ،فَلَمَّا رَآنِي أَدْخَلَنِي إِلَى رَحْلِهِ،وَطَرَحَ عَلَيَّ طَرَفَ الْمِرْطِ،ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ وَإِنَّهُ لَفِيهِ،فَلَمَّا سَلَّمَ أَخْبَرْتُهُ الْخَبَرَ،وَسَمِعَتْ غَطَفَانُ بِمَا فَعَلَتْ قُرَيْشٌ،فَانْشَمَرُوا إِلَى بِلاَدِهِمْ. (1)
فَهَذَا دَلِيل جَوَازِ التَّجَسُّسِ عَلَى الْكُفَّارِ فِي الْحَرْبِ.
تَجَسُّسُ الْحَاكِمِ عَلَى رَعِيَّتِهِ :
سَبَقَ أَنَّ الأَْصْل تَحْرِيمُ التَّجَسُّسِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات
وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ فِي حَقِّ وَلِيِّ الأَْمْرِ لِوُرُودِ نُصُوصٍ خَاصَّةٍ تَنْهَى أَوْلِيَاءَ الأُْمُورِ عَنْ تَتَبُّعِ عَوْرَاتِ النَّاسِ،مِنْهَا مَا رَوَاهُ مُعَاوِيَةُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال لَهُ:إِنَّكَ إِنِ اتَّبَعْتَ عَوْرَاتِ النَّاسِ
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 717)(23334) 23723- صحيح لغيره(1/242)
أَفْسَدْتَهُمْ أَوْ كِدْتَ أَنْ تُفْسِدَهُمْ،فَقَال أَبُو الدَّرْدَاءِ:كَلِمَةٌ سَمِعَهَا مُعَاوِيَةُ مِنْ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا.وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّ الأَْمِيرَ إِذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ فِي النَّاسِ أَفْسَدَهُمْ (1) .
وَلَكِنَّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَلَى رَعِيَّتِهِ إِذَا كَانَ فِي تَرْكِ التَّجَسُّسِ انْتِهَاكُ حُرْمَةٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهَا،مِثْل أَنْ يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقُ بِصِدْقِهِ أَنَّ رَجُلاً خَلاَ بِرَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ،أَوِ امْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا،فَيَجُوزُ لَهُ فِي هَذِهِ الْحَال أَنْ يَتَجَسَّسَ وَيَقْدَمَ عَلَى الْكَشْفِ وَالْبَحْثِ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ مَا لاَ يُسْتَدْرَكُ مِنِ انْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ وَارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ،وَهَكَذَا لَوْ عَرَفَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ الْمُتَطَوِّعَةِ جَازَ لَهُمُ الإِْقْدَامُ عَلَى الْكَشْفِ وَالإِْنْكَارِ .
أَمَّا مَا كَانَ دُونَ ذَلِكَ فِي الرِّيبَةِ فَلاَ يَجُوزُ التَّجَسُّسُ عَلَيْهِ وَلاَ كَشْفُ الأَْسْتَارِ عَنْهُ.وَقَدْ حُكِيَ أَنَّ عُمَرَ دَخَل عَلَى قَوْمٍ يَتَعَاقَرُونَ عَلَى شَرَابٍ وَيُوقِدُونَ فِي أَخْصَاصٍ فَقَال:نَهَيْتُكُمْ عَنِ الْمُعَاقَرَةِ فَعَاقَرْتُمْ،وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ الإِْيقَادِ فِي الأَْخْصَاصِ فَأَوْقَدْتُمْ.فَقَالُوا:يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ نَهَى اللَّهُ عَنِ التَّجَسُّسِ فَتَجَسَّسْتَ،وَعَنِ الدُّخُول بِغَيْرِ إِذْنٍ فَدَخَلْتَ.فَقَال:هَاتَانِ بِهَاتَيْنِ وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَعْرِضْ لَهُمْ .
وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ الإِْمَامِ أَحْمَدَ فِيمَا سُتِرَ مِنَ الْمُنْكَرِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ هَل يُنْكَرُ ؟ فَرَوَى ابْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ اللَّهِ فِي الْمُنْكَرِ يَكُونُ مُغَطًّى،مِثْل طُنْبُورٍ وَمُسْكِرٍ وَأَمْثَالِهِ فَقَال:إِذَا كَانَ مُغَطًّى لاَ يُكْسَرُ.وَنُقِل عَنْهُ أَنَّهُ يُكْسَرُ .
فَإِنْ سَمِعَ أَصْوَاتَ الْمَلاَهِي الْمُنْكَرَةِ مِنْ دَارٍ تَظَاهَرَ أَهْلُهَا بِأَصْوَاتِهِمْ أَنْكَرَهُ خَارِجَ الدَّارِ،وَلَمْ يَهْجُمْ بِالدُّخُول عَلَيْهِمْ،وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْشِفَ عَمَّا سِوَاهُ مِنَ الْبَاطِنِ،وَقَدْ نُقِل عَنْ مُهَنَّا الأَْنْبَارِيِّ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ سَمِعَ صَوْتَ طَبْلٍ فِي جِوَارِهِ،فَقَامَ إِلَيْهِمْ مِنْ مَجْلِسِهِ،فَأَرْسَل إِلَيْهِمْ وَنَهَاهُمْ .
وَقَال فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْبٍ فِي الرَّجُل يَسْمَعُ الْمُنْكَرَ فِي دَارِ بَعْضِ جِيرَانِهِ قَال:يَأْمُرُهُ،فَإِنْ لَمْ يَقْبَل جَمَعَ عَلَيْهِ الْجِيرَانَ وَيُهَوِّل عَلَيْهِ.وَقَال الْجَصَّاصُ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى:{
__________
(1) - مر تخريجهما(1/243)
وَلاَ تَجَسَّسُوا } نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ سُوءِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ الَّذِي ظَاهِرُهُ الْعَدَالَةُ وَالسَّتْرُ،ثُمَّ قَال:نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ التَّجَسُّسِ،بَل أَمَرَ بِالسَّتْرِ عَلَى أَهْل الْمَعَاصِي مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُمْ إِصْرَارٌ.فعَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ:هَلْ لَكَ فِى فُلاَنٍ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْرًا؟ فَقَالَ:إِنَّ اللَّهَ قَدْ نَهَانَا أَنْ نَتَجَسَّسَ فَإِنْ يُظْهِرْ لَنَا نَأْخُذْهُ. (1)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ:أَنَّهُ حَرَسَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَيْلَةً بِالْمَدِينَةِ فَبَيْنَا هُمْ يَمْشُونَ شَبَّ لَهُمْ سِرَاجٌ فِى بَيْتٍ فَانْطَلَقُوا يَؤُمُّونَهُ حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْهُ إِذَا بَابٌ مُجَافٍ عَلَى قَوْمٍ لَهُمْ فِيهِ أَصْوَاتٌ مُرْتَفِعَةٌ وَلَغَطٌ فَقَالَ عُمَرُ رَضِىَ اللَّهِ عَنْهُ وَأَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ:أَتَدْرِى بَيْتُ مَنْ هَذَا؟ قُلْتُ:لاَ. قَالَ:هَذَا بَيْتُ رَبِيعَةَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَهُمُ الآنَ شُرَّبٌ فَما تَرَى. قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ:أَرَى قَدْ أَتَيْنَا مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ (وَلاَ تَجَسَّسُوا) فَقَدْ تَجَسَّسْنَا فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ عُمَرُ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ وَتَرَكَهُمْ. (2)
تَجَسُّسُ الْمُحْتَسِبِ :
الْمُحْتَسِبُ هُوَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ إِذَا ظَهَرَ تَرْكُهُ،وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ إِذَا ظَهَرَ فِعْلُهُ.قَال تَعَالَى:{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (104) سورة آل عمران،وَهَذَا وَإِنْ صَحَّ مِنْ كُل مُسْلِمٍ لَكِنَّ الْمُحْتَسِبَ مُتَعَيَّنٌ عَلَيْهِ بِحُكْمِ وِلاَيَتِهِ،لَكِنَّ غَيْرَهُ فُرِضَ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيل الْكِفَايَةِ .
وَمَا لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ فَلَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَنْهَا وَلاَ أَنْ يَهْتِكَ الأَْسْتَارَ حَذَرًا مِنَ الاِسْتِتَارِ بِهَا،فعَنِ ابْنِ عُمَرَ:أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ أَنْ رَجَمَ الأَسْلَمِىَّ قَالَ :« اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ الَّتِى نَهَى اللَّهُ عَنْهَا فَمَنْ أَلَمَّ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ » (3) .
فَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اسْتِتَارُ قَوْمٍ بِهَا لأَِمَارَاتٍ دَلَّتْ وَآثَارٍ ظَهَرَتْ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ :
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (8 / 334) (18081) صحيح
(2) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (8 / 333) (18080) صحيح
(3) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (8 / 330) (18056) حسن لغيره ، والأحكام السلطانية لأبي يعلى 279 - 281 ، والماوردي 252 ، وأحكام القرآن للجصاص 3 / 407 ، والقرطبي 16 / 331 .(1/244)
أَحَدُهُمَا:أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي انْتِهَاكِ حُرْمَةٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهَا مِثْل أَنْ يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقُ بِهِ أَنَّ رَجُلاً خَلاَ بِامْرَأَةٍ لِيَزْنِيَ بِهَا أَوْ رَجُلٍ لِيَقْتُلَهُ،فَيَجُوزُ لَهُ فِي مِثْل هَذِهِ الْحَال أَنْ يَتَجَسَّسَ وَيَقْدَمَ عَلَى الْكَشْفِ وَالْبَحْثِ حَذَرًا مِنْ فَوَاتِ مَا لاَ يُسْتَدْرَكُ مِنِ ارْتِكَابِ الْمَحَارِمِ وَفِعْل الْمَحْظُورَاتِ .
وَالضَّرْبُ الثَّانِي:مَا خَرَجَ عَنْ هَذَا الْحَدِّ وَقَصُرَ عَنْ حَدِّ هَذِهِ الرُّتْبَةِ،فَلاَ يَجُوزُ التَّجَسُّسُ عَلَيْهِ وَلاَ كَشْفُ الأَْسْتَارِ عَنْهُ (1) كَمَا تَقَدَّمَ . (2)
عِقَابُ التَّجَسُّسِ عَلَى الْبُيُوتِ :
. فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجْرَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَهُ مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ،فَقَالَ:لَوْ أَعْلَمُكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهِ عَيْنَكَ إِنَّمَا جُعِلَ الاِسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ." (3)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ،أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ،أَخْبَرَهُ أَنَّ رَجُلاً اطَّلَعَ مِنْ جُحْرٍ فِي بَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَمَعَ رَسُولِ اللهِ مِدْرًى يَحُكُّ بِهَا رَأْسَهُ،فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُنِي لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ،إِنَّمَا جُعِلَ الإِذْنُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ. متفق عليه (4) .
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَأْوِيلِهِ،فَقَال بَعْضُهُمْ:هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ،فَيَحِل لِمَنِ اطَّلَعَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنَ الْمُطَّلِعِ حَال الاِطِّلاَعِ،وَلاَ ضَمَانَ،وَهَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ.وَقَال الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَفِيَّةُ:لَيْسَ هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ،فَإِنْ فَقَأَ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ،وَالْخَبَرُ مَنْسُوخٌ،وَكَانَ قَبْل نُزُول قَوْله تَعَالَى:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} (126) سورة النحل،وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُونَ خَرَجَ عَلَى وَجْهِ الْوَعِيدِ لاَ عَلَى وَجْهِ الْحَتْمِ،وَالْخَبَرُ إِذَا كَانَ مُخَالِفًا لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لاَ يَجُوزُ الْعَمَل بِهِ .
__________
(1) - الأحكام السلطانية للماوردي في أحكام الحسبة 240 وما بعدها .
(2) - وما يجري الآن في الدول وما يطبق في التجسس على المفسدين ومن يظن فيهم الشر وهتك الأعراض واغتصاب الأموال ومخالفة الأنظمة الواجب اتباعها ، وما يحصل في الكشف عمن يظن فيهم الاتجار في المحظورات كالخمر والحشيش بقرائن ظاهرة والغش في المعاملات وتعقب المجرمين والمخر
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 577)(22802) 23188- صحيح
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (6241) وصحيح مسلم- المكنز - (5764 ) وصحيح ابن حبان - (13 / 348) (6001) - المدرى : مشط له أسنان يسيرة(1/245)
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَكَلَّمُ بِالْكَلاَمِ فِي الظَّاهِرِ،وَهُوَ يُرِيدُ شَيْئًا آخَرَ،كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ عَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ لَمَّا مَدَحَهُ قَال لِبِلاَلٍ:قُمْ فَاقْطَعْ لِسَانَهُ (1)
وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ شَيْئًا وَلَمْ يُرِدْ بِهِ الْقَطْعَ فِي الْحَقِيقَةِ .
وَهَذَا أَيْضًا يَحْتَمِل أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ فَقْءَ الْعَيْنِ وَالْمُرَادُ:أَنْ يَعْمَل بِهِ عَمَلاً حَتَّى لاَ يَنْظُرَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَيْتِ غَيْرِهِ .
وَفِي تَبْصِرَةِ الْحُكَّامِ:وَلَوْ نَظَرَ مِنْ كُوَّةٍ أَوْ مِنْ بَابٍ فَفَقَأَ عَيْنَهُ صَاحِبُ الدَّارِ ضَمِنَ،لأَِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى زَجْرِهِ وَدَفْعِهِ بِالأَْخَفِّ،وَلَوْ قَصَدَ زَجْرَهُ بِذَلِكَ فَأَصَابَ عَيْنَهُ وَلَمْ يَقْصِدْ فَقْأَهَا فَفِي ضَمَانِهِ خِلاَفٌ .
وَأَمَّا عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ:فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُ الْمُطَّلِعِ إِلاَّ بِفَقْءِ عَيْنِهِ فَفَقَأَهَا لاَ ضَمَانَ،وَإِنْ أَمْكَنَ بِدُونِ فَقْءِ عَيْنِهِ فَفَقَأَهَا فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ .
أَمَّا إِذَا تَجَسَّسَ وَانْصَرَفَ فَلَيْسَ لِلْمُطَلَّعِ عَلَيْهِ أَنْ يَفْقَأَ عَيْنَهُ اتِّفَاقًا.وَيُنْظَرُ لِلتَّفْصِيل:( دَفْعُ الصَّائِل ) (2) .
أَمَّا عُقُوبَةُ الْمُتَجَسِّسِ فَهِيَ التَّعْزِيرُ،إِذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ حَدٌّ مُعَيَّنٌ،وَالتَّعْزِيرُ يَخْتَلِفُ وَالْمَرْجِعُ فِي تَقْدِيرِهِ إِلَى الإِْمَامِ ( ر:تَعْزِيرٌ ) (3) .
من مضار (التجسس) (4)
(1) دليل ضعف الإيمان وفساد الخلق.
(2) دليل دناءة النّفس وخسّتها.
(3) يوغر الصّدور ويورث الفجور.
__________
(1) - أخرجه ابن إسحاق في سيرته كما في سيرة ابن هشام ( 2 / 493 - 494 - ط الحلبي ) .
(2) - تفسير القرطبي 12 / 212 - 213 ط دار الكتب ، وتبصرة الحكام 2 / 304 ، والمغني 8 / 325 ، 9 / 189 وما بعدها ، وابن عابدين 5 / 353 .
(3) - ابن عابدين 3 / 251 ، والزيلعي 3 / 207 ، 208 ، وتبصرة الحكام بهامش فتح العلي المالك 2 / 80 ، 308 ، وتحفة المحتاج 9 / 175 - 181 ، ومغني المحتاج 4 / 191 ، 192 ، 193 ، وحاشية القليوبي 4 / 205 - 259 ، والمغني 5 / 52 و8 / 325 ، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 295 ، 296 .
(4) - نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - (9 / 4132)(1/246)
(4) يورد صاحبه موارد الهلاك.
(5) يؤدّي إلى فساد الحياة وكشف العورات.
(6) يستحقّ صاحبه غضب اللّه ورسوله والمؤمنين.
- - - - - - - - - - - - -(1/247)
الحق الثاني والثلاثون
لا يخطب على خطبة أخيه,ولا يبع على بيعته
عَنِ ابْنِ عُمَرَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:لاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ. (1)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:لاَ يَبِعْ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ،إِلاَّ بِإِذْنِهِ. (2)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:لاَ يَبِعْ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ،وَلاَ يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ،إِلاَّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ. (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:لا يَبِعْ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ،وَلا يَخْطُبْ عَلَى خِطْبَتِهِ " (4)
السَّوْمُ،وَالشِّرَاءُ عَلَى شِرَاءِ أَخِيهِ (5) :
أَمَّا السَّوْمُ عَلَى السَّوْمِ فَمِنْ صُوَرِهِ :
مَا إِذَا تَسَاوَمَ رَجُلاَنِ،فَطَلَبَ الْبَائِعُ بِسِلْعَتِهِ ثَمَنًا،وَرَضِيَ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ الثَّمَنِ،فَجَاءَ مُشْتَرٍ آخَرَ،وَدَخَل عَلَى سَوْمِ الأَْوَّل،فَاشْتَرَاهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ بِذَلِكَ الثَّمَنِ نَفْسِهِ.لَكِنَّهُ رَجُلٌ وَجِيهٌ،فَبَاعَهُ مِنْهُ الْبَائِعُ لِوَجَاهَتِهِ .
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (11 / 339) (4965) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (11 / 339) (4966) صحيح
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هَذَا الْخَبَرُ مِنَ الضَّرْبِ الَّذِي ذَكَرْتُ فِي كِتَابِ فُصُولِ السُّنَنِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ فِي فِعْلٍ مَعْلُومٍ وَيَكُونُ مُرْتَكِبُ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَأْثُومًا بِفِعْلِهِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ عَالِمًا بِنَهْيِ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - عَنْهُ ، وَالْفِعْلُ جَائِزٌ عَلَى مَا فَعَلَهُ كَنَهْيِهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ أَوْ يَسْتَامَ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ ، فَإِنْ خَطَبَ امْرُؤٌ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ كَانَ مَأْثُومًا ، وَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ .." صحيح ابن حبان - (5 / 570)
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 268) (4722) صحيح
(4) - مصنف عبد الرزاق(14870) صحيح
(5) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (9 / 216)(1/248)
وَأَمَّا الشِّرَاءُ عَلَى الشِّرَاءِ فَمِنْ صُوَرِهِ:أَنْ يَأْمُرَ شَخْصٌ الْبَائِعَ بِفَسْخِ الْعَقْدِ لِيَشْتَرِيَهُ هُوَ بِأَكْثَرَ،أَوْ يَجِيءَ شَخْصٌ إِلَى الْبَائِعِ قَبْل لُزُومِ الْعَقْدِ،لِيَدْفَعَ فِي الْمَبِيعِ أَكْثَرَ مِنَ الثَّمَنِ الَّذِي اشْتُرِيَ بِهِ،لِيَفْسَخَ الْبَيْعَ وَيَعْقِدَ مَعَهُ . (1)
وَقَيَّدَ الْحَنَفِيَّةُ مَنْعَ هَذَا الشِّرَاءِ أَوِ السَّوْمِ بِمَا إِذَا اتَّفَقَ الْمُتَبَايِعَانِ عَلَى الثَّمَنِ أَوْ تَرَاضَيَا،أَوْ جَنَحَ الْبَائِعُ إِلَى الْبَيْعِ بِالثَّمَنِ الَّذِي سَمَّاهُ الْمُشْتَرِي،وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَجْنَحْ وَلَمْ يَرْضَهُ،فَلاَ بَأْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ بِأَزْيَدَ؛لأَِنَّ هَذَا بَيْعُ مَنْ يَزِيدُ،وَلاَ كَرَاهَةَ فِيهِ ، (2) كَمَا سَيَأْتِي .
وَقَيَّدَ الشَّافِعِيَّةُ الْمَنْعَ بِأَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ قَبْل اللُّزُومِ،أَيْ زَمَنَ الْخِيَارِ - كَمَا عَبَّرَ الْقَاضِي (3) - أَوْ يَكُونَ بَعْدَ اللُّزُومِ،وَقَدِ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ - كَمَا مَرَّ فِي الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ غَيْرِهِ -
أَمَّا الْحَنَابِلَةُ فَلِلسَّوْمِ عَلَى السَّوْمِ عِنْدَهُمْ صُوَرٌ :
الأُْولَى:أَنْ يُوجَدَ مِنَ الْبَائِعِ تَصْرِيحٌ بِالرِّضَا بِالْبَيْعِ،فَهَذَا يَحْرُمُ السَّوْمُ عَلَى غَيْرِ الْمُشْتَرِي
الثَّانِيَةُ:أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ مَا يَدُل عَلَى عَدَمِ الرِّضَا فَلاَ يَحْرُمُ السَّوْمُ .
الثَّالِثَةُ:أَنْ لاَ يُوجَدَ مَا يَدُل عَلَى الرِّضَا أَوْ عَدَمِهِ،فَلاَ يَجُوزُ السَّوْمُ لِغَيْرِهِ أَيْضًا .
الرَّابِعَةُ:أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ مَا يَدُل عَلَى الرِّضَا مِنْ غَيْرِ تَصْرِيحٍ.فَقَال الْقَاضِي:لاَ يَحْرُمُ السَّوْمُ.وَقَال ابْنُ قُدَامَةَ:يَحْرُمُ . (4)
كَمَا قَيَّدَهُ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا بِأَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ إِذْنٍ لَهُ مِنَ الْمُشْتَرِي،فَلَوْ وَقَعَ الإِْذْنُ مِنْ أَحَدِهِمَا لَمْ يَحْرُمْ؛لأَِنَّ الْحَقَّ لَهُمَا وَقَدْ أَسْقَطَاهُ،وَلِمَفْهُومِ الْخَبَرِ السَّابِقِ:حَتَّى يَبْتَاعَ أَوْ يَذَرَ (5)
وَقَرَّرُوا:أَنَّ الْمُعْتَبَرَ إِذْنُ الْمَالِكِ،لاَ الْوَلِيِّ وَالْوَصِيِّ وَالْوَكِيل،إِنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمَالِكِ،وَأَنَّ مَوْضِعَ الْجَوَازِ مَعَ الإِْذْنِ إِذَا دَلَّتِ الْحَال عَلَى الرِّضَا بَاطِنًا،فَإِنْ دَلَّتْ عَلَى عَدَمِهِ،وَأَنَّهُ إِنَّمَا أَذِنَ ضَجَرًا وَحَنَقًا فَلاَ،كَمَا قَالَهُ الأَْذْرَعِيُّ مِنْهُمْ . (6)
__________
(1) - بدائع الصنائع 5 / 232 ، وفتح القدير 6 / 107 ، وتحفة المحتاج وحاشية الشرواني عليها 4 / 314 ، وشرح المنهج بحاشية الجمل 3 / 91 ، والمغني 4 / 278 ، وكشاف القناع 3 / 183 و 184 .
(2) - الدر المختار 4 / 132 ، والهداية بشروحها 6 / 107 ، وتبيين الحقائق 4 / 67 ، وبدائع الصنائع 5 / 232 .
(3) - شرح المنهج بحاشية الجمل 3 / 91 .
(4) - المغني 4 / 236 ط الرياض .
(5) - وانظر حاشية الشرواني على تحفة المحتاج 4 / 315 .
(6) - حاشية الجمل على شرح المنهج 3 / 91 و 92 .(1/249)
حُكْمُهُ :
هَذَا الشِّرَاءُ أَوِ السَّوْمُ بِهَذِهِ الصُّوَرِ وَالْقُيُودِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ،غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ الْجَمِيعِ،لَكِنَّهُ صَحِيحٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ،بَاطِلٌ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ إِلاَّ فِي وَجْهٍ مُحْتَمِلٍ لِلصِّحَّةِ عِنْدَهُمْ كَالْجُمْهُورِ.وَالْحَنَفِيَّةُ يَعْنُونَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ،لاَ الْحُرْمَةَ .
أ - فَدَلِيل الشَّافِعِيَّةِ،وَالْوَجْهُ الْمُحْتَمَل عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ عَلَى الْحُرْمَةِ مَعَ صِحَّةِ الشِّرَاءِ.حَدِيثُ لاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ الْمُتَقَدِّمُ .
فَقَال الْمَحَلِّيُّ:وَفِي مَعْنَاهُ الشِّرَاءُ عَلَى الشِّرَاءِ .
وَأَشَارَ الْبُهُوتِيُّ إِلَى أَنَّ التَّحْرِيمَ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْبَيْعِ،وَلأَِنَّ الشِّرَاءَ يُسَمَّى بَيْعًا .وَلأَِنَّ فِيهِ إِيذَاءً،قَال الْمَحَلِّيُّ:الْمَعْنَى فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ:الإِْيذَاءُ لِلْعَالِمِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ .
وَلأَِنَّهُ إِذَا صَحَّ الْفَسْخُ الَّذِي حَصَل بِهِ الضَّرَرُ،فَالْبَيْعُ الْمُحَصِّل لِلْمَصْلَحَةِ أَوْلَى.وَلأَِنَّ النَّهْيَ لِحَقِّ آدَمِيٍّ،فَأَشْبَهَ بَيْعَ النَّجْشِ . (1)
ب - وَدَلِيل الْحَنَفِيَّةِ عَلَى الْكَرَاهَةِ مَعَ صِحَّةِ الشِّرَاءِ:حَدِيثُ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ التَّلَقِّى لِلرُّكْبَانِ وَأَنْ يَبِيعَ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَأَنْ تَسْأَلَ الْمَرْأَةُ طَلاَقَ أُخْتِهَا وَعَنِ النَّجْشِ وَالتَّصْرِيَةِ وَأَنْ يَسْتَامَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ. (2)
وَقَرَّرَ الْحَنَفِيَّةُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ نَصٌّ فِي النَّهْيِ عَنِ الاِسْتِيَامِ،فَلاَ حَاجَةَ - كَمَا أَوْضَحَ ابْنُ الْهُمَامِ - إِلَى جَعْل لَفْظِ الْبَيْعِ فِي حَدِيثِ:لاَ يَبِعْ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ جَامِعًا لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مَجَازًا،إِنَّمَا يُحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَرِدْ حَدِيثُ الاِسْتِيَامِ،وَلأَِنَّ فِي ذَلِكَ إِيحَاشًا وَإِضْرَارًا بِهِ فَيُكْرَهُ .
__________
(1) - شرح المحلي على المنهاج بحاشية القليوبي 2 / 184 ، وكشاف القناع 3 / 184 ، والمغني 4 / 279 .
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (3891 )
التصرية : جمع اللبن فى الضرع عند إرادة البيع فتبدو الشاة كثيرة اللبن
النجش : أن يمدح السلع ليروجها أو يزيد فى ثمنها ولا يريد شراءها ليضر غيره(1/250)
قَال الْكَاسَانِيُّ:وَالنَّهْيُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْبَيْعِ،وَهُوَ الإِْيذَاءُ،فَكَانَ نَفْسُ الْبَيْعِ مَشْرُوعًا،فَيَجُوزُ شِرَاؤُهُ،وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ . (1)
ج - وَدَلِيل الْحَنَابِلَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ وَالْبُطْلاَنِ،أَنَّ هَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ،وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ (2)
أما خطبة المرأة على المرأة فمنهي عنه :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :لاَ يَسْتَامُ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ،وَلاَ يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ،وَلاَ تَسْأَلُ الْمَرْأَةَ طَلاَقَ أُخْتِهَا لِتَكْتَفِئَ مَا فِي صَحْفَتِهَا. (3)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:لاَ يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ الأَوَّلُ،أَوْ يَأْذَنَ لَهُ فَيَخْطُبُ. (4)
وعَنْ سَمُرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،نَهَى أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ،أَوْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِهِ. (5)
الْخِطْبَةُ عَلَى الْخِطْبَةِ (6) :
ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ الْخِطْبَةَ عَلَى الْخِطْبَةِ حَرَامٌ إِذَا حَصَل الرُّكُونُ إِلَى الْخَاطِبِ الأَْوَّل،لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال:لاَ يَخْطُبِ الرَّجُل عَلَى خِطْبَةِ الرَّجُل حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ . (7)
وَلأَِنَّ فِيهَا إِيذَاءً وَجَفَاءً وَخِيَانَةً وَإِفْسَادًا عَلَى الْخَاطِبِ الأَْوَّل،وَإِيقَاعًا لِلْعَدَاوَةِ بَيْنَ النَّاسِ .
وَحَكَى النَّوَوِيُّ الإِْجْمَاعَ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ فِي الْحَدِيثِ لِلتَّحْرِيمِ (8) .
__________
(1) - فتح القدير 6 / 108 ، وتبيين الحقائق 4 / 67 ، وبدائع الصنائع 5 / 232 .
(2) - المغني 4 / 278 . وانظر فيه تفصيلا ووجوها وصورا أربعة . وانظر المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم - (12 / 135) والفقه الإسلامي وأدلته - (9 / 4)
(3) - صحيح البخارى- المكنز -(5144 ) وصحيح مسلم- المكنز - (3508 ) وصحيح ابن حبان - (9 / 353) (4046)
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (5142 ) وصحيح ابن حبان - (9 / 358) (4051)
(5) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 752)(20115) 20376- صحيح
(6) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (19 / 195)
(7) - مر تخريجه
(8) - نيل الأوطار 6 / 121 - 122 ، فتح القدير 5 / 239 ، جواهر الإكليل 1 / 275 ، روضة الطالبين 7 / 31 ، المغني 6 / 607 ، رد المحتار 2 / 262 .(1/251)
مَتَى تَحْرُمُ الْخِطْبَةُ عَلَى الْخِطْبَةِ ؟
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلتَّحْرِيمِ أَنْ يَكُونَ الْخَاطِبُ الأَْوَّل قَدْ أُجِيبَ وَلَمْ يَتْرُكْ وَلَمْ يَعْرِضْ وَلَمْ يَأْذَنْ لِلْخَاطِبِ الثَّانِي،وَعَلِمَ الْخَاطِبُ الثَّانِي بِخِطْبَةِ الأَْوَّل وَإِجَابَتِهِ .
وَزَادَ الشَّافِعِيَّةُ فِي شُرُوطِ التَّحْرِيمِ،أَنْ تَكُونَ إِجَابَةُ الْخَاطِبِ الأَْوَّل صَرَاحَةً،وَخُطْبَتُهُ جَائِزَةٌ أَيْ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ،وَأَنْ يَكُونَ الْخَاطِبُ الثَّانِي عَالِمًا بِحُرْمَةِ الْخِطْبَةِ عَلَى الْخِطْبَةِ .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ:إِنَّ إِجَابَةَ الْخَاطِبِ الأَْوَّل تَعْرِيضًا تَكْفِي لِتَحْرِيمِ الْخِطْبَةِ عَلَى خِطْبَتِهِ وَلاَ يُشْتَرَطُ التَّصْرِيحُ بِالإِْجَابَةِ.وَهَذَا ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ وَكَلاَمِ أَحْمَدَ .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ:يُشْتَرَطُ لِتَحْرِيمِ الْخِطْبَةِ عَلَى الْخِطْبَةِ رُكُونُ الْمَرْأَةِ الْمَخْطُوبَةِ أَوْ وَلِيِّهَا،وَوُقُوعُ الرِّضَا بِخِطْبَةِ الْخَاطِبِ الأَْوَّل غَيْرِ الْفَاسِقِ وَلَوْ لَمْ يُقَدَّرْ صَدَاقٌ عَلَى الْمَشْهُورِ،وَمُقَابِلُهُ لاِبْنِ نَافِعٍ:لاَ تَحْرُمُ خِطْبَةُ الرَّاكِنَةِ قَبْل تَقْدِيرِ الصَّدَاقِ (1) . وَسَيَأْتِي حُكْمُ خِطْبَةِ الْمُسْلِمِ عَلَى خِطْبَةِ الْفَاسِقِ،أَوْ خِطْبَةِ الْكَافِرِ لِلذِّمِّيَّةِ .
مَنْ تُعْتَبَرُ إِجَابَتُهُ أَوْ رَدُّهُ :
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ رَدُّ الْوَلِيِّ وَإِجَابَتُهُ إِنْ كَانَتْ مُجْبَرَةً،وَإِلاَّ فَرَدُّهَا وَإِجَابَتُهَا .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ:الْمُعْتَبَرُ رُكُونُ غَيْرِ الْمُجْبَرَةِ إِلَى الْخَاطِبِ الأَْوَّل،وَرُكُونُ الْمُجْبَرَةِ مُعَرِّضًا مُجْبِرُهَا بِالْخَاطِبِ وَلَوْ بِسُكُوتِهِ،وَعَلَيْهِ لاَ يُعْتَبَرُ رُكُونُ الْمُجْبَرَةِ مَعَ رَدِّ مُجْبِرِهَا،وَلاَ رَدُّهَا مَعَ رُكُونِهِ،وَلاَ يُعْتَبَرُ رُكُونُ أُمِّهَا أَوْ وَلِيِّهَا غَيْرِ الْمُجْبِرِ مَعَ رَدِّهَا لاَ مَعَ عَدَمِهِ فَيُعْتَبَرُ . (2)
خِطْبَةُ مَنْ لاَ تُعْلَمُ خِطْبَتُهَا أَوْ جَوَابُهَا :
الْمَرْأَةُ الَّتِي لاَ يُعْلَمُ أَهِيَ مَخْطُوبَةٌ أَمْ لاَ،أُجِيبَ خَاطِبُهَا أَمْ رُدَّ،يَجُوزُ لِمَنْ لاَ يَعْلَمُ ذَلِكَ أَنْ يَخْطُبَهَا لأَِنَّ الأَْصْل الإِْبَاحَةُ،وَالْخَاطِبُ مَعْذُورٌ بِالْجَهْل . (3)
__________
(1) - نهاية المحتاج 6 / 199 ، المغني 6 / 604 - 606 - 607 ، جواهر الإكليل 1 / 275
(2) - الزرقاني 3 / 164 ، روضة الطالبين 7 / 31 ، المغني 6 / 606
(3) - مواهب الجليل 3 / 411 ، روضة الطالبين 7 / 32 ، كشاف القناع 5 / 19(1/252)
الْخِطْبَةُ عَلَى خِطْبَةِ الْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ :
ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْخِطْبَةَ عَلَى خِطْبَةِ الْكَافِرِ الْمُحْتَرَمِ ( غَيْرِ الْحَرْبِيِّ أَوِ الْمُرْتَدِّ ) حَرَامٌ،وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ:أَنْ يَخْطُبَ ذِمِّيٌّ كِتَابِيَّةً وَيُجَابُ ثُمَّ يَخْطُبُهَا مُسْلِمٌ،لِمَا فِي الْخِطْبَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الإِْيذَاءِ لِلْخَاطِبِ الأَْوَّل،وَقَالُوا:إِنَّ ذِكْرَ لَفْظِ الأَْخِ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ:لاَ يَخْطُبُ الرَّجُل عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ.خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ فَلاَ مَفْهُومَ لَهُ؛وَلأَِنَّهُ أَسْرَعُ امْتِثَالاً .
وَلَيْسَ الْحَال فِي الْفَاسِقِ كَالْكَافِرِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لأَِنَّ الْفَاسِقَ لاَ يُقَرُّ شَرْعًا عَلَى فِسْقِهِ،فَتَجُوزَ الْخِطْبَةُ عَلَى خِطْبَتِهِ بِخِلاَفِ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ فِي حَالَةٍ يُقَرُّ عَلَيْهَا بِالْجِزْيَةِ .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ:لاَ تَحْرُمُ الْخِطْبَةُ عَلَى خِطْبَةِ كَافِرٍ لِمَفْهُومِ قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - :عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَلأَِنَّ النَّهْيَ خَاصٌّ،بِالْمُسْلِمِ وَإِلْحَاقُ غَيْرِهِ بِهِ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا كَانَ مِثْلَهُ،وَلَيْسَ الذِّمِّيُّ كَالْمُسْلِمِ،وَلاَ حُرْمَتُهُ كَحُرْمَتِهِ . (1)
الْعَقْدُ بَعْدَ الْخِطْبَةِ الْمُحَرَّمَةِ :
اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ عَقْدِ النِّكَاحِ عَلَى امْرَأَةٍ تَحْرُمُ خِطْبَتُهَا عَلَى الْعَاقِدِ كَالْخِطْبَةِ عَلَى الْخِطْبَةِ،وَكَالْخِطْبَةِ الْمُحَرَّمَةِ فِي الْعِدَّةِ تَصْرِيحًا أَوْ تَعْرِيضًا .
فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ عَلَى مَنْ تَحْرُمُ خِطْبَتُهَا - كَعَقْدِ الْخَاطِبِ الثَّانِي عَلَى الْمَخْطُوبَةِ،وَكَعَقْدِ الْخَاطِبِ فِي الْعِدَّةِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا - يَكُونُ صَحِيحًا مَعَ الْحُرْمَةِ؛لأَِنَّ الْخِطْبَةَ الْمُحَرَّمَةَ لاَ تُقَارِنُ الْعَقْدَ فَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ؛وَلأَِنَّهَا لَيْسَتْ شَرْطًا فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ فَلاَ يُفْسَخُ النِّكَاحُ بِوُقُوعِهَا غَيْرَ صَحِيحَةٍ. (2)
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى أَنَّ عَقْدَ الْخَاطِبِ الثَّانِي عَلَى الْمَخْطُوبَةِ يُفْسَخُ حَال خِطْبَةِ الأَْوَّل بِطَلاَقٍ،وُجُوبًا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْهُ الْخَاطِبُ الأَْوَّل،وَظَاهِرُهُ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمِ الثَّانِي بِخِطْبَةِ الأَْوَّل،مَا لَمْ يُبَيِّنِ الثَّانِي حَيْثُ اسْتَمَرَّ الرُّكُونُ أَوْ كَانَ الرُّجُوعُ لأَِجْل خِطْبَةِ
__________
(1) - الزرقاني 3 / 164 ، أسنى المطالب 3 / 115 ، مطالب أولي النهى 5 / 24
(2) - نيل الأوطار 6 / 122 ، كشاف القناع 5 / 18 - 19(1/253)
الثَّانِي،فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهَا لَمْ يُفْسَخْ،وَمَحَلُّهُ أَيْضًا إِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الثَّانِي حَاكِمٌ يَرَاهُ وَإِلاَّ لَمْ يُفْسَخْ. (1)
وَالْمَشْهُورُ عَنْ مَالِكٍ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ أَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ حِينَئِذٍ مُسْتَحَبٌّ لاَ وَاجِبٌ .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ:يُكْرَهُ لِمَنْ صَرَّحَ لاِمْرَأَةٍ فِي عِدَّتِهَا بِالْخِطْبَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا،فَإِنْ تَزَوَّجَهَا يُنْدَبُ لَهُ فِرَاقُهَا. (2)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - الزرقاني وحاشية البناني 3 / 164 - 165
(2) - جواهر الإكليل 1 / 276 ، والزرقاني 3 / 167(1/254)
الحق الثالث والثلاثون
أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر
قال تعالى:{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (110) سورة آل عمران
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ فِي الوُجُودِ،لأنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ إِيمَاناً صَادِقاً بِاللهِ،وَيَظْهَرُ أثَرُهُ فِي نُفُوسِهِمْ،فَيَنْزِعُهُمْ عَنِ الشَّرِّ،وَيَصْرِفُهُمْ إلَى الخَيْرِ،فَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ،وَيَنْهَونَ عَنِ المُنْكَرَاتِ وَمَا حَرَّمَ اللهُ مِنَ الظُّلْمِ وَالبَغْي .
وَلَوْ آمَنَ أهْلُ الكِتَابِ إِيمَاناً صَحِيحاً يَسْتَوْلي عَلَى النُّفُوسِ،وَيَمْلِكُ أَزِمَّةِ القُلُوبِ فَيَكُونُ مَصْدَرَ الفَضَائِلِ وَالأَخْلاَقِ الحَسَنَةِ،كَمَا تُؤْمِنُونَ أَنْتُمْ،أَيُّها المُسْلِمُونَ،لَكَانَ ذَلِكَ خَيْراً لَهُمْ مِمَّا يَدَّعُونَهُ مِنْ إِيمَانٍ لاَ يَزَعُ النُّفُوسَ عَنِ الشُّرُورِ،وَلا يُبْعِدُهَا عَنِ الرَّذَائِلِ.وَبَيْنَ أهْلِ الكِتَابِ جَمَاعَةٌ مُؤْمِنُونَ مُخْلِصُونَ فِي إيمَانِهِمْ،وَلَكِنّ أكْثَرَهُمْ فَاسِقُونَ عَنْ دِينِهِمْ،مُتَمَرِّدُونَ فِي الكُفْرِ . (1)
وقال تعالى:{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (104) سورة آل عمران
لِتَكُنْ مِنَ المُؤْمِنِينَ جَمَاعَةٌ مُتَخَصِّصَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ تَعْرِفُ أَسْرَارَ الأَحْكَامِ،وَحِكْمَةَ التَّشْرِيعِ وَفِقْهَهُ،تَتَولَّى القِيَامَ بِالدَّعْوَةِ إلى الدِّين،وَتَأمُرُ بِالمَعْروفِ،وَتُحَارِبُ المُنْكَرَ،وَتَنْهَى عَنْهُ،وَمِنْ وَاجِبِ كُلِّ مُسْلِمِ أنْ يُحَارِبَ المُنْكَرَ مَا اسْتَطَاعَ إلى ذَلِكَ،وَهَؤُلاءِ هُمُ الفَائِزُونَ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ . (2)
وقال تعالى:{ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 403)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 397)(1/255)
وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) [آل عمران:113 - 115] }
ليس أهل الكتاب متساوين: فمنهم جماعة مستقيمة على أمر الله مؤمنة برسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ،يقومون الليل مرتلين آيات القرآن الكريم،مقبلين على مناجاة الله في صلواتهم.يؤمنون بالله واليوم الآخر،ويأمرون بالخير كله،وينهون عن الشر كلِّه،ويبادرون إلى فعل الخيرات،وأولئك مِن عباد الله الصالحين.
وأيُّ عمل قلَّ أو كَثُر من أعمال الخير تعمله هذه الطائفة المؤمنة فلن يضيع عند الله،بل يُشكر لهم،ويجازون عليه. والله عليم بالمتقين الذين فعلوا الخيرات وابتعدوا عن المحرمات; ابتغاء رضوان الله،وطلبًا لثوابه. (1)
وقال تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (71) سورة التوبة
المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَيْنَهُمْ أُخُوَّةٌ،وَمَوَدَّةٌ،وَتَعَاوُنٌ،وَتَرَاحُمٌ،وَيَتَّصِفُونَ بِالصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ التِي يَأْمُرُهُمْ بِهَا دِينُهُمْ:فَيَتَنَاصَرُونَ وَيَتَعَاضَدُونَ وَيَفْعَلُونَ الخَيْرَ،وَيَأْمُرُونَ بِهِ،وَيَنْتَهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ،وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤَدُّونَهَا حَقَّ أَدَائِهَا،وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا،وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَمَرَ،وَيَتْرُكُونَ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ.وَالمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الطَّيِّبَةِ الْكَرِيمَةِ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ،وَاللهُ عَزِيزُ الجَانِبِ،يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ،وَهُوَ حَكِيمٌ فِي قِسْمَتِهِ الصِّفَاتِ بَيْنَ خَلْقِهِ،فَجَعَلَ المُؤْمِنِينَ يَخْتَصُّونَ بِالصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ،وَالمُنَافِقِينَ يَخْتَصُّونَ بِالصِّفِاتِ الذَمِيمَةِ المُنْكَرَةِ . (2)
وقال تعالى :{ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ
__________
(1) - التفسير الميسر - (1 / 412)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1307)(1/256)
الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) } [التوبة:111-112]
يُرَغِّبُ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ فِي الجِهَادِ،وَيُخْبِرُهُمْ بِأَنَّهُ سَيُعَوِّضُ المُؤْمِنِينَ بِالجَنَّةِ عَنْ بَذْلِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ،لِتَكُونَ كَلِمَةَ اللهِ هِيَ العُلْيَا،وِلإِحْقَاقِ الحَقِّ،وَإِقَامَةِ العَدْلِ فِي الأَرْضِ،فَهُمْ حِينَ يُجَاهِدُونَ يَقْتُلُونَ أَعْدَاءَهُمْ،وَيُقْتَلُونَ هُمْ،وَهُمْ فِي كِلاَ الحَالَيْنِ مُثَابُونَ عَلَى ذَلِكَ.وَقَدْ وَعَدَ اللهُ عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِهَذَا الجَزَاءِ الحَقِّ،وَجَعَلَهُ حَقّاً عَلَيهِ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآنِ .
ثُمَّ يَدْعُو اللهُ تَعَالَى مَنِ التَزَمَ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِعَهْدِهِ للهِ إِلَى الاسْتِبْشَارِ بِذَلِكَ الفَوْزِ العَظِيمِ،وَالنَّعِيمِ المُقِيمِ،لأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مَنْ هُوَ أَكْثَرُ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَفَاءً بِالْعَهْدِ،وَلاَ أَكْثََرَ مِنْهُ التِزَاماً بِالوَعْدِ الذِي يَقْطَعُهُ عَلَى نَفْسِهِ الكَرِيمَةِ،وَلَيْسَ هُنَاكَ رِبْحٌ أَكْبَرُ مِنَ الرّبِحِ الذِي يُحَقّقُهُ المُؤْمِنُونَ فِي هَذِهِ الصَّفْقَةِ .
وَهُنَا يُعَدِّدُ اللهُ تَعَالَى صِفَاتِ المُؤْمِنِينَ الذِينَ اشْتَرَى مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِالجَنَّةِ،وَهُمُ:التَّائِبُونَ مِنْ الذُّنُوبِ كُلِّها،التَّارِكُونَ لِلْفَوَاحِشِ،القَائِمُونَ بِعِبَادَةِ رَبِّهِمْ،وَالمُحَافِظُونَ عَلَيهَا،وَالحَامِدُ نَ للهِ عَلَى نِعَمِهِ وَأَفْضَالِهِ،السَّائِحُونَ فِي الأَرْضِ،لِلاعْتِبَارَِ وَ الاسْتِبْصَارِ بِمَا خَلَقَ اللهُ مِنَ العِبَرِ وَ الآيَاتِ،( وَقِيلَ أَيْضاً إِنَّ مَعْنَى السَّائِحِينَ هُنَا الصَّائِمُونَ ) وَالمُصَلُّونَ.وَهُمْ مَعْ ذَلِكَ كُلِّهِ يَسْعَوْنَ فِي نَفْعِ خَلْقِ اللهِ،وَإِرْشَادِهِمْ إِلَى طَاعَتِهِ،بِأَمْرِهِمْ بِالمَعْرُوفِ،وَنَهِيهِمْ عَنِ المُنْكَرِ،مَعَ العِلْمِ بِمَا يَنْبَغِي فِعْلُهُ،وَيَجِبُ تَرْكَهُ طَاعَةً للهِ ( أَيْ إِنَّهُمْ يَحْفَظُونَ حُدُودَ اللهِ ).وَيُبَشِّرُ اللهُ المُؤْمِنِينَ المُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الكَرِيمَةِ بِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ . (1)
وقال تعالى:{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (17) سورة لقمان
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1347)(1/257)
وقال تعالى:{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } (90) سورة النحل
وعَنْ عَائِشَةَ،قَالَتْ:دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ أَنْ قَدْ حَضَرَهُ شَيْءٌ،فَتَوَضَّأَ،وَمَا كَلَّمَ أَحَدًا،ثُمَّ خَرَجَ،فَلَصِقْتُ بِالْحُجْرَةِ أَسْمَعُ مَا يَقُولُ،فَقَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ،فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ،ثُمَّ قَالَ:يَا أَيُّهَا النَّاسُ،إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ لَكُمْ:مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ،وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ،قَبْلَ أَنْ تَدْعُونِي،فَلاَ أُجِيبُكُمْ،وَتَسْأَلُونِي فَلاَ أُعْطِيكُمْ،وَتَسْتَنْصِرُونِي فَلاَ أَنْصُرُكُمْ،فَمَا زَادَ عَلَيْهِنَّ حَتَّى نَزَلَ. (1)
وعَنْ عَائِشَةَ،قَالَتْ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،يَقُولُ:مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ،وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ،قَبْلَ أَنْ تَدْعُوا فَلاَ يُسْتَجَابَ لَكُمْ. (2)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ،عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،قَالَ:انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أُدُمٍ حَمْرَاءَ فِي نَحْوٍ مِنْ أَرْبَعِينَ رَجُلا،فَقَالَ:إِنَّهُ مَفْتُوحٌ لَكُمْ،وَأَنْتُمْ مَنْصُورُونَ،مُصِيبُونَ،فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ،فَلْيَتَّقِ اللَّهَ،وَلْيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ،وَلْيَنْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ،وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ،وَمَثَلُ الَّذِي يُعِينُ قَوْمَهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ،كَمَثَلِ الْبَعِيرِ يَتَرَدَّى،فَهُوَ يَمُدُّ بِذَنَبِهِ " (3)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ،قَالَ:انْتَهَيْتُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي قُبَّةٍ حَمْرَاءَ،قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ:مِنْ أَدَمٍ،فِي نَحْوٍ مِنْ أَرْبَعِينَ رَجُلاً،فَقَالَ:إِنَّكُمْ مَفْتُوحٌ عَلَيْكُمْ،مَنْصُورُونَ،وَمُصِيبُونَ،فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ،فَلْيَتَّقِ اللَّهَ،وَلْيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ،وَلْيَنْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ،وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ،مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا،فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ،وَمَثَلُ الَّذِي يُعِينُ قَوْمَهُ عَلَى غَيْرِ الْحَقِّ،كَمَثَلِ بَعِيرٍ رُدِّيَ فِي بِئْرٍ،فَهُوَ يَنْزِعُ مِنْهَا بِذَنَبِهِ. (4)
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (1 / 526) (290) صحيح
(2) - سنن ابن ماجة- طبع مؤسسة الرسالة - (5 / 139) (4004) صحيح
(3) - المستدرك للحاكم (7275) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأقره الذهبي
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 68)(3801) حسن(1/258)
وقال أَبُو أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيُّ:أَتَيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ،فَقُلْتُ:يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ كَيْفَ تَقُولُ فِي هَذِهِ الآيَةِ:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (105) سورة المائدة؟ قَالَ:أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا:سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فقَالَ:بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ،حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا،وَهَوًى مُتَّبَعًا،وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً،وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ،فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ،وَدَعْ أَمْرَ الْعَوَامِّ،فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا،الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ،لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلاً يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ،قَالَ وَزَادَنِي غَيْرُهُ يَا رَسُولَ اللهِ،أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ ؟ قَالَ:خَمْسِينَ مِنْكُمْ." (1)
وعَنْ أَبِي حَكِيمٍ،حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ حَارِثَةَ اللَّخْمِيُّ،أَخْبَرَنِي أَبُو أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيُّ،قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ،فَقُلْتُ: يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ،كَيْفَ تَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [المائدة: 105]،فَقَالَ: أَمَا وَاللهِ سَأَلْتُ عَنْهَا خَبِيرًا،سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ:"بَلِ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ،وَتَنَاهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ،حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا،وَهَوًى مُتَّبَعًا،وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً،وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ،فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ وَدَعْ أَمْرَ الْعَوَامِّ،فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ،الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ،لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ "،قَالَ: وَأَخْبَرَنِي غَيْرُهُ،قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ،أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ،قَالَ:"أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ " (2)
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالُوا لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالأُجُورِ يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّى وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ. قَالَ « أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ وَنَهْىٌ عَنْ مُنْكَرٍ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (2 / 109) (385) حسن
الشح : أشد البخل والحرص على متاع الدنيا -مطاعا : مرضيا عنه -الهوى : كل ما يريده الإنسان ويختاره ويرضاه ويشتهيه ويميل إليه - مؤثرة : مفضلة على الآخرة
(2) - شعب الإيمان - (12 / 201)(9278 ) حسن(1/259)
صَدَقَةٌ وَفِى بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ ». قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِى أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ قَالَ « أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِى حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِى الْحَلاَلِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ ». (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" إِنَّ أَوَّلَ مَا دَخَلَ النَّقْصُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ،كَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى الرَّجُلَ،فَيَقُولُ:يَا هَذَا،اتَّقِ اللَّهَ وَدَعْ مَا تَصْنَعُ،فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ،ثُمَّ يَلْقَاهُ مِنَ الْغَدِ،فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ وَشَرِيبَهُ وَقَعِيدَهُ،فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ ضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ "،ثُمَّ قَالَ:{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) [المائدة:78 - 81]،ثُمَّ قَالَ:" كَلَّا وَاللَّهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ،وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيِ الظَّالِمِ،وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا،وَلَتَقْصُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ قَصْرًا " (2)
لَعَنَ اللهُ الذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الزَّبُورِ وَالإِنْجِيلِ،فَقَدْ لَعَنَ دَاوُدُ،عَلَيْهِ السَّلاَمُ،مِنْ اعْتَدَى مِنْهُمْ فِي السَّبْتِ،أَوْ لَعَنَ العَاصِينَ المُعْتَدِينَ مِنْهُمْ عَامَّةً،وَكَذَلِكَ لَعَنَهُمْ عِيسَى بِنِ مَرْيَمَ،وَسَبَبُ ذَلِكَ اللَّعْنِ هُوَ تَمَادِيهِمْ فِي العِصْيَانِ،وَتَمَرُّدُهُمْ عَنْ طَاعَةِ اللهِ،وَتَمَادِيهِمْ فِي الظُّلْمِ وَالفَسَادِ ( بِمَا كَانُوا يَعْتَدُونَ ). فَقَدْ كَانُوا لاَ يَنْهَى أَحَدٌ مِنْهُمْ أَحَداً عَنِ مُنْكَرٍ يَقْتَرِفُهُ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (2376 )- الدثور : جمع دثر وهو المال العظيم
(2) - سُنَنُ أَبِي دَاوُدَ(3834 ) حسن - ولتأطرنه: أي لتردنه إلى الحق ولتعطفنه عليه.
وهو من رواية أبى عبيدة بن عبد الله بن مسعود ولم يسمع مِن أبيه ولكنه كَانَ أعلم بحديث أبيه مِن حنيف بن مالك ونظرائه كما قال الدارقطنى ، وأخذ أحاديث أبيه عن أمه زينب الثقفية خاصة ومسروق ، راجع التهذيب 5/75-76 وقال ابن المدينى فِى حديث يرويه أبى عبيدة عن أبيه : هو منقطع ، وهو حديث ثبت وقال يعقوب بن شيبة : إنما استجاز أصحابنا أن يدخلوا حديث أبى عبيدة عن أبيه فِى المسند - يعنى فِى الحديث المتصل - لمعرفة أبى عبيدة بحديث أبيه وصحتها ، وأنه لَمْ يأت فيها بحديث منكر 1هـ شرح العلل لابن رجب 1/298 وأنكر الألبانى فِى ضعيفته (1105) على الترمذى تحسينه لهذا الحديث ، وزعم أنه من تساهله الذى عُرف به ! ! والحق مع الترمذى كما ترى(1/260)
مَهْمَا بَلَغَ مِنَ القُبْحِ وَالضَّرَرِ.وَالنَّهِيُ عَنِ المُنْكَرِ هُوَ حِفَاظُ الدِّينِ،وَسِيَاجُ الفَضَائِلِ وَالآدَابِ،فَإذَا تَجَرّأ المُسْتَهْتِرُونَ عَلى إِظْهَارِ فِسْقِهِمْ وَفُجُورِهِمْ،وَرَآهُمُ الغَوْغَاءَ مِنَ النَّاسِ قَلَّدُوهُمْ فِيهِ،وَزَالَ قُبْحُهُ مِنْ نُفُوسِهِمْ،وَصَارَ عَادَةً لَهُمْ،وَزَالَ سُلْطَانُ الدِّينِ مِنْ قُلُوبِهِمْ،وَتُرِكَتْ أَحْكَامُهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ،وَفِي ذَلِكَ إِشَارَةٌ إلى فَشْوِ المُنْكَرَاتِ فِيهِمْ.وَيُقَبِّحُ اللهُ تَعَالَى سُوءَ فِعْلِهِمْ،وَيَذُمُّهُمْ عَلَى اقْتِرَافِ المُنْكَرَاتِ،وَإِصْرَارِهِمْ عَلَيْهَا وَسُكُوتِ الآخَرِينَ عَنْهَا،وَرِضَاهُمْ بِهَا . (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّه بْنِ فَرُّوخَ؛انَّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ تَقُولُ:إِنَّ رَسُولَ اللهِِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:إِنَّهُ خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِى ادَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلاثِمَائَةِ مَفْصِلٍ.فَمَنْ كَبَّرَ اللَّه،وَحَمِدَ اللَّه،وَهَلَّلَ اللَّهَ،وَسَبَّحَ اللَّهَ،وَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ،وَعَزَلَ حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ،اوْ شَوْكَةً اوْ عَظْمًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ،وَامَرَ بِمَعْرُوفٍ،اوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ،عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ وَالثَّلاثِمِائَةِ السُّلامَى فَإِنَّهُ يَمْشِى يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النَّارِ. (2)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:"إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ،وَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ فَاهْدُوا السَّبِيلَ،وَأَعِينُوا الْمَظْلُومَ،وَرُدُّوا السَّلَامَ،وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ،وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ"أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ (3)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ لَكَ،وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ،وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ،وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلاَلَةِ لَكَ صَدَقَةٌ،وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ الْبَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ،وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالْعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ،وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ. (4)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 748)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (2377 )
السلامى: بضم السين وتخفيف اللام- هو المفصل، وجمعه سلاميات. وفى القاموس: هي عظام صغار طول إصبع فى اليد والرجل.
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (2465 ) وشعب الإيمان - (11 / 359)(8665)
(4) - صحيح ابن حبان - (2 / 287) (529) صحيح(1/261)
وعَنْ مَالِكِ بن مَرْثَدٍ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ:قَالَ أَبُو ذَرٍّ قُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاذَا يُنَجِّي الْعَبْدَ مِنَ النَّارِ ؟ قَالَ:الإِيمَانُ بِاللَّهِ،قُلْتُ:يَا نَبِيَّ اللَّهِ،إِنَّ مَعَ الإِيمَانِ عَمِلٌ،قَالَ:يُرْضَخُ مِمَّا رَزَقَهُ اللَّهُ،قُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فَقِيرًا،لا يَجِدُ مَا يُرْضَخُ بِهِ ؟ قَالَ:يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ،وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ،قُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَيِيًّا لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ،وَلا يَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ ؟ قَالَ:يَصْنَعُ لأَخْرَقَ،قُلْتُ:أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ أَخْرَقَ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصْنَعَ شَيْئًا ؟ قَالَ:يُعِينُ مَغْلُوبًا،قُلْتُ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ ضَعِيفًا،لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُعِينَ مَظْلُومًا ؟ فَقَالَ:مَا تُرِيدُ أَنْ تَتْرُكَ فِي صَاحِبِكَ،مِنْ خَيْرٍ تُمْسِكُ الأَذَى،عَنِ النَّاسِ،فَقُلْتُ:يَا رَسُولَ اللَّهِ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ دَخَلَ الْجَنَّةَ ؟ قَالَ:مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَفْعَلُ خَصْلَةً مِنْ هَؤُلاءِ،إِلا أَخَذَتْ بِيَدِهِ حَتَّى تُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ. (1)
وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ:جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،عَلِّمْنِي عَمَلاً يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ،فَقَالَ:لَئِنْ كُنْتَ أَقْصَرْتَ الْخُطْبَةَ،لَقَدْ أَعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ،أَعْتِقِ النَّسَمَةَ،وَفُكَّ الرَّقَبَةَ.فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،أَوَلَيْسَتَا بِوَاحِدَةٍ ؟ قَالَ:لاَ،إِنَّ عِتْقَ النَّسَمَةِ أَنْ تَفَرَّدَ بِعِتْقِهَا،وَفَكَّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي عِتْقِهَا،وَالْمِنْحَةُ الْوَكُوفُ،وَالْفَيْءُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الظَّالِمِ،فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ،فَأَطْعِمِ الْجَائِعَ،وَاسْقِ الظَّمْآنَ،وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ،وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ،فَإِنْ لَمْ تُطِقْ ذَلِكَ،فَكُفَّ لِسَانَكَ إِلاَّ مِنَ الْخَيْرِ. (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ وَلَهُ بِطَانَتَانِ:بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ،وَبِطَانَةٌ لاَ تَأْلُوهُ خَبَالاً،فَمَنْ وُقِيَ شَرَّهَا فَقَدْ وُقِيَ. (3)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ،وَلاَ اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ،بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ،وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ،وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ. (4)
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (2 / 213) (1627) صحيح لغيره
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 351)(18647) 18850- صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (14 / 70) (6191) صحيح
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (7198 ) وصحيح ابن حبان - (6192)(1/262)
وعَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ،لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ،وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ،أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ،ثُمَّ لَتَدْعُنَّهُ فَلاَ يَسْتَجِيبُ لَكُمْ. (1)
وعَنْ عَامِرٍ،قَالَ:سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ،رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ: مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا،كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ،فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا،وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا،فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ،فَقَالُوا:لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا،وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا،فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا،وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا. (2)
وعَنِ الشَّعْبِيِّ ،عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ،قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،يَقُولُ:الْمُدَاهِنُ فِي حُدُودِ اللهِ،وَالرَّاكِبُ حُدُودَ اللهِ،وَالآمِرُ بِهَا،وَالنَّاهِي عَنْهَا،كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا فِي سَفِينَةٍ مِنْ سُفُنِ الْبَحْرِ،فَأَصَابَ أَحَدُهُمْ مُؤَخَّرَ السَّفِينَةِ وَأَبْعَدَهَا مِنَ الْمِرْفَقِ،وَكَانُوا سُفَهَاءَ،وَكَانُوا إِذَا أَتَوْا عَلَى رِجَالِ الْقَوْمِ آذَوْهُمْ،فَقَالُوا:نَحْنُ أَقْرَبُ أَهْلِ السَّفِينَةِ مِنَ الْمِرْفَقِ وَأَبْعَدُهُمْ مِنَ الْمَاءِ،فَتَعَالَوْا نَخْرِقْ دَفَّ السَّفِينَةِ ثُمَّ نَرُدَّهُ إِذَا اسْتَغْنَيْنَا عَنْهُ،فَقَالَ مَنْ نَاوَأَهُ مِنَ السُّفَهَاءِ:افْعَلْ. فَأَهْوَى إِلَى فَأْسٍ لِيَضْرِبَ بِهَا أَرْضَ السَّفِينَةِ،فَأَشْرَفَ عَلَيْهِ رَجُلٌ رُشَيْدٌ فَقَالَ:مَا تَصْنَعُ ؟ فَقَالَ:نَحْنُ أَقْرَبُكُمْ مِنَ الْمِرْفَقِ وَأَبْعَدُكُمْ مِنْهُ،أَخْرِقُ دَفَّ السَّفِينَةِ،فَإِذَا اسْتَغْنَيْنَا عَنْهُ سَدَدْنَاهُ،فَقَالَ:لاَ تَفْعَلْ،فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ تَهْلِكُ وَنَهْلِكُ. (3)
وعَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيِّ،أَنَّهُ نَادَى مُعَاوِيَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ابْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى مِنْبَرِ دِمَشْقَ فَقَالَ:يَا مُعَاوِيَةُ إِنَّمَا أَنْتَ قَبْرٌ مِنَ الْقُبُورِ إِنْ جِئْتَ بِشَيْءٍ كَانَ لَكَ شَيْءٌ وَإِنْ لَمْ تَجِئْ بِشَيْءٍ فَلَا شَيْءَ لَكَ يَا مُعَاوِيَةُ لَا تَحْسَبَنَّ الْخِلَافَةَ جَمْعَ الْمَالِ،وَتَفْرِقَتَهُ وَلَكِنَّ الْخِلَافَةَ الْعَمَلُ بِالْحَقِّ وَالْقَوْلُ بِالْمَعْدَلَةِ،وَأَخْذُ النَّاسِ فِي ذَاتِ اللَّهِ،يَا مُعَاوِيَةُ إِنَّا لَا نُبَالِي بِكَدَرِ الْأَنْهَارِ وَمَا صَفَتْ لَنَا رَأْسُ عَيْنِنَا وَإِنَّكَ رَأْسُ أَعْيُنِنَا،يَا مُعَاوِيَةُ إِنَّكَ إِنْ تَحِفْ عَلَى قَبِيلَةٍ مِنْ
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 708)(23301) 23690- صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (2493 ) وصحيح ابن حبان - (1 / 532) (297)
(3) - صحيح ابن حبان - (1 / 533) (298) صحيح(1/263)
قَبَائِلِ الْعَرَبِ يَذْهَبُ حَيْفُكَ بِعَدْلِكَ،فَلَمَّا قَضَى أَبُو مُسْلِمٍ مَقَالَتَهُ أَقْبَلَ عَلَيْهِ مُعَاوِيَةُ فَقَالَ:" يَرْحَمُكَ اللَّهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ" (1)
وقال الْأَصْمَعِيُّ: دَخَلَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرٍ وَحَوَالَيْهِ الْأَشْرَافُ مِنْ كُلِّ بَطْنٍ،وَذَلِكَ بِمَكَّةَ فِي وَقْتِ حَجِّهِ فِي خِلَافَتِهِ،فَلَمَّا بَصُرَ بِهِ قَامَ إِلَيْهِ،فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ،وَقَعَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ،وَقَالَ لَهُ:يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ! حَاجَتُكَ ؟ فَقَالَ:يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ! اتَّقِ اللهَ فِي حَرَمِ اللهِ وَحَرَمِ رَسُولِهِ؛فَتَعَاهَدَهُ بِالْعِمَارَةِ،وَاتَّقِ اللهَ فِي أَوْلَادِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؛فَإِنَّكَ بِهِمْ جَلَسْتَ هَذَا الْمَجْلِسَ،وَاتَّقِ اللهَ فِي أَهْلِ الثُّغُورِ؛فَإِنَّهُمْ حِصْنٌ لِلْمُسْلِمِينَ،وَتَفَقَّدْ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ؛فَإِنَّكَ وحدك المسؤول عَنْهُمْ،وَاتَّقِ اللهَ فِيمَنْ عَلَى بَابِكَ؛فَلَا تَغْفُلْ عَنْهُمْ وَلَا تُغْلِقْ دُونَهُمْ بَابَكَ.فَقَالَ لَهُ:أَفْعَلُ.ثُمَّ نَهَضَ وَقَامَ؛فَقَبَضَ عَلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ،فَقَالَ:يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ! إِنَّمَا سَأَلْتَ حَوَائِجَ غَيْرِكَ وَقَدْ قَضَيْنَاهَا؛فَمَا حَاجَتُكَ ؟ فَقَالَ:ما لي إِلَى مَخْلُوقٍ حَاجَةٌ.ثُمَّ خَرَجَ.فَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ:هَذَا وَأَبِيكَ الشَّرَفُ،هَذَا وَأَبِيكَ السُّؤْدُدُ ." (2)
المعروف لغة:
المعروف: كالعرف وهو ما تعرفه النّفس من الخير وتطمئنّ إليه،وقوله تعالى: وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً (لقمان/ 5) أي مصاحبا معروفا،قال الزّجّاج: المعروف هنا ما يستحسن من الأفعال.
وقوله- عزّ وجلّ-: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (المرسلات/ 1) قال بعض المفسّرين فيها: إنّها (الملائكة) أرسلت بالعرف والإحسان،وقيل: هو مستعار من عرف الفرس أي يتتابعون كعرف الفرس.
والعرف،والمعروف واحد ضدّ النّكر. وقد تكرّر ذكر المعروف في الحديث،وهو من الصّفات الغالبة أي أمر معروف بين النّاس إذا رأوه لا ينكرونه. والمعروف:
__________
(1) - الزُهْدُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (2351 ) فيه جهالة
(2) - المجالسة وجواهر العلم - (2 / 185)(305 ) فيه انقطاع(1/264)
النّصفة وحسن الصّحبة مع الأهل وغيرهم من النّاس،والمنكر ضدّ ذلك جميعه (1)
المنكر لغة:
النّكر والنّكراء: الدّهاء والفطنة. ورجل نكر ونكر ونكر ومنكر من قوم مناكير: داه فطن. وامرأة نكراء،ورجل منكر داه،والإنكار: الجحود. والنّكرة:
إنكارك الشّي ء،وهو نقيض المعرفة. قال ابن سيده:
والصّحيح أنّ الإنكار المصدر والنّكر الاسم. وفي التّنزيل العزيز: نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً (هود/ 70).
والإنكار: الاستفهام عمّا ينكره. والاستنكار: استفهامك أمرا تنكره.
والمنكر من الأمر: خلاف المعروف،وقد تكرّر في الحديث الإنكار والمنكر،وهو ضدّ المعروف،وكلّ ما قبّحه الشّرع وحرّمه وكرهه،فهو منكر،واستنكره فهو مستنكر،والجمع مناكير. والنّكير والإنكار: تغيير المنكر. (2) .
المعروف اصطلاحا:
اسم جامع لكلّ ما عرف من طاعة اللّه والتّقرّب إليه،والإحسان إلى النّاس،وكلّ ما ندب إليه الشّرع،ونهى عنه من المحسّنات والمقبّحات.
والمنكر اصطلاحا:
كلّ ما قبّحه الشّرع وحرّمه ونهى عنه (3)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اصطلاحا:
قال الجرجانيّ: الأمر بالمعروف: هو الإرشاد إلى المراشد المنجّية.
والنّهي عن المنكر: الزّجر عمّا لا يلائم في الشّريعة.
وقيل: الأمر بالمعروف الدّلالة على الخير.
والنّهي عن المنكر: المنع عن الشّرّ.
__________
(1) - الصحاح للجوهري (2/ 837). ولسان العرب لابن منظور (9/ 239، 241).
(2) - لسان العرب 5/ 232- 233.
(3) - المرجع السابق (233).(1/265)
وقيل: الأمر بالمعروف: أمر بما يوافق الكتاب والسّنّة.والنّهي عن المنكر: نهي عمّا تميل إليه النّفس والشّهوة.
وقيل: الأمر بالمعروف: الإشارة إلى ما يرضي اللّه تعالى من أقوال العبد وأفعاله.والنّهي عن المنكر: تقبيح ما تنفّر عنه الشّريعة والعفّة وهو ما لا يجوز في شرع اللّه تعالى (1) .
منزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
قال النّوويّ- رحمه اللّه-: اعلم أنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر قد ضيّع أكثره من أزمان متطاولة،ولم يبق منه في هذه الأزمان إلّا رسوم قليلة جدّا،وهو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه،وإذا كثر الخبث عمّ العقاب الصّالح والطّالح،وإذا لم يأخذوا على يد الظّالم أوشك أن يعمّهم اللّه تعالى بعقابه فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (النور/ 63). فينبغي لطالب الآخرة،والسّاعي في تحصيل رضا اللّه- عزّ وجلّ- أن يعتني بهذا الباب؛ فإنّ نفعه عظيم لا سيّما وقد ذهب معظمه،وعلى الآمر بالمعروف أن يخلص نيّته ولا يهابنّ من ينكر عليه لارتفاع مرتبته لأنّ اللّه تعالى قال: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ (الحج/ 40)،وقال تعالى: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (آل عمران/ 101)،وقال تعالى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا (العنكبوت/ 69)،وقال تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (العنكبوت/ 2- 3) واعلم أنّ الأجر على قدر النصب ولا يتركه أيضا لصداقته ومودّته ومداهنته وطلب الوجاهة عنده ودوام المنزلة لديه،فإنّ صداقته ومودّته توجب له حرمة وحقّا،ومن حقّه أن ينصحه ويهديه إلى مصالح آخرته،وينقذه من مضارّها،وصديق الإنسان،ومحبّه هو من سعى في عمارة آخرته وإن أدّى ذلك إلى نقص في دنياه،وعدوّه من يسعى في ذهاب أو نقص آخرته،وإن حصّل بسبب ذلك صورة نفع في دنياه. وإنّما كان إبليس عدوّا لنا لهذا،وكانت الأنبياء- صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين- أولياء للمؤمنين لسعيهم في مصالح آخرتهم وهدايتهم
__________
(1) - التعريفات (37).(1/266)
إليها،ونسأل اللّه الكريم توفيقنا وتوفيق أحبابنا وسائر المسلمين لمرضاته. وينبغي للآمر بالمعروف والنّاهي عن المنكر أن يرفق ليكون أقرب إلى تحصيل المطلوب،فقد قال الإمام الشّافعيّ- رحمه اللّه-: «من وعظ أخاه سرّا فقد نصحه وزانه،ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه» (1) ،ثمّ إنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر فرض كفاية إذا قام به بعض النّاس سقط الحرج عن الباقين،وإذا تركه الجميع أثم الكلّ ممّن تمكّن منه بلا عذر ولا خوف. ثمّ إنّه قد يتعيّن كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلّا هو أو لا يتمكّن من إزالته إلّا هو وكمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على منكر أو تقصير في المعروف. قال العلماء- رحمهم اللّه-: «لا يسقط عن المكلّف الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنّه،بل يجب عليه عليه الأمر والنّهي لا القبول،وكما قال اللّه عزّ وجلّ: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ (المائدة/ 99) ومثّل العلماء هذا بمن يرى إنسانا في الحمّام أو غيره مكشوف بعض العورة ونحو ذلك،قال العلماء: لا يشترط في الآمر والنّاهي أن يكون كامل الحال ممتثلا ما يأمر به مجتنبا ما ينهى عنه بل عليه الأمر،وإن كان مخلّا بما يأمر به،والنّاهي وإن كان متلبّسا بما ينهى عنه،فإنّه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه وينهاها،ويأمر غيره وينهاه،فإذا أخلّ بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالآخر. قال العلماء:
ولا يختصّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر بأصحاب الولايات؛ بل ذلك جائز لآحاد المسلمين.
قال إمام الحرمين: والدّليل عليه إجماع المسلمين،فإنّ غير الولاة في الصّدر الأوّل،والعصر الّذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر مع تقرير المسلمين إيّاهم وترك توبيخهم على التّشاغل بالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من غير ولاية. ثمّ إنّه إنّما يأمر وينهى من كان عالما بما يأمر به وينهى عنه،وذلك يختلف باختلاف الشّي ء،فإن كان من الواجبات الظّاهرة والمحرّمات المشهورة كالصّلاة والصّيام والزّنا والخمر ونحوها،فكلّ المسلمين علماء بها،وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال وممّا يتعلّق بالاجتهاد لم يكن
__________
(1) - صحيح مسلم بشرح النووي (2/ 24).(1/267)
للعوامّ مدخل فيه ولا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء،ثمّ العلماء إنّما ينكرون ما أجمع عليه،أمّا المختلف فيه فلا إنكار فيه (1) .
القطب الأعظم في الدين:
قال الإمام أبو حامد الغزاليّ- رحمه اللّه-: «إنّ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدّين،وهو المهمّ الّذي ابتعث اللّه له النّبيّين أجمعين،ولو طوي بساطه،وأهمل علمه وعمله لتعطّلت النّبوّة،واضمحلّت الدّيانة،وعمّت الفترة (2) ،وفشت الضّلالة،وشاعت الجهالة،واستشرى الفساد،واتّسع الخرق،وخربت البلاد،وهلك العباد،ولم يشعروا بالهلاك إلّا يوم التّناد،وقد كان الّذي خفنا،فإنّا للّه وإنّا إليه راجعون،إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه،وانمحق بالكلّيّة حقيقته ورسمه،فاستولت على القلوب مداهنة الخلق وانمحت عنها مراقبة الخالق،واسترسل النّاس في اتّباع الهوى والشّهوات استرسال البهائم،وعزّ (3) على بساط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في اللّه لومة لائم،فمن سعى في تلافي هذه الفترة،وسدّ هذه الثّلمة إمّا متكفّلا بعملها أو متقلّدا لتفنيدها مجدّدا لهذه السّنّة الدّاثرة ناهضا بأعبائها ومتشمّرا في إحيائها كان مستأثرا من بين الخلق بإحياء سنّة أفضى الزّمان إلى إماتتها،ومستبدّا بقربة تتضاءل درجات القرب دون ذروتها (4) .
من فوائد (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (5)
(1) دليل كمال الإيمان وحسن الإسلام.
(2) الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر صمام أمن الحياة وضمان سعادة الفرد والمجتمع.
(3) يثبّت معاني الخير والصّلاح في الأمّة.
__________
(1) - صحيح مسلم بشرح النووي (2/ 23).
(2) - الفترة: هي السكون بعد الحدّة، والهدوء بعد الشّدّة.
(3) - عزّ: قلّ.
(4) - إحياء علوم الدين للغزالي (2/ 306).
(5) - نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - (3 / 539)(1/268)
(4) يزيل عوامل الشّرّ والفساد من حياتها ويقضي عليها أوّلا فأوّلا حتّى تسلم الأمّة وتسعد.
(5) يهيّأ الجوّ الصّالح الّذي تنمو فيه الآداب والفضائل وتختفي فيه المنكرات والرّذائل ويتربّى في ظلّه الضّمير العفيف والوجدان اليقظ.
(6) يكوّن الرّأي العامّ المسلم الحرّ الّذي يحرس آداب الأمّة وفضائلها وأخلاقها وحقوقها ويجعل لها شخصيّة وسلطانا هو أقوى من القوّة وأنفذ من القانون.
(7) يبعث الإحساس بمعنى الأخوّة والتّكافل والتّعاون على البرّ والتّقوى واهتمام المسلمين بعضهم ببعض.
(8) هو سبب النّجاة في الدّنيا والآخرة.
(9) هو سرّ أفضليّة هذه الأمّة. لقوله تعالى كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ (آل عمران/ 110).
(10) هو سبب للنّصر والتّمكين في الدّنيا.
- - - - - - - - - - - - -(1/269)
الحق الرابع والثلاثون
لا يظلمه بقول أو فعل
حذر الله - عز وجل - من الظلم فقال:{ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) } [إبراهيم:42-47]
ولا تحسبن -أيها الرسول- أن الله غافل عما يعمله الظالمون: من التكذيب بك وبغيرك من الرسل،وإيذاء المؤمنين وغير ذلك من المعاصي،إنما يؤخِّرُ عقابهم ليوم شديد ترتفع فيه عيونهم ولا تَغْمَض; مِن هول ما تراه. وفي هذا تسلية لرسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - .يوم يقوم الظالمون من قبورهم مسرعين لإجابة الداعي رافعي رؤوسهم لا يبصرون شيئًا لهول الموقف،وقلوبهم خالية ليس فيها شيء; لكثرة الخوف والوجل من هول ما ترى.وأنذر -أيها الرسول- الناس الذين أرسلتُكَ إليهم عذاب الله يوم القيامة،وعند ذلك يقول الذين ظلموا أنفسهم بالكفر: ربنا أَمْهِلْنا إلى وقت قريب نؤمن بك ونصدق رسلك. فيقال لهم توبيخًا: ألم تقسموا في حياتكم أنه لا زوال لكم عن الحياة الدنيا إلى الآخرة،فلم تصدِّقوا بهذا البعث؟
وحللتم في مساكن الكافرين السابقين الذين ظلموا أنفسهم كقوم هود وصالح،وعلمتم -بما رأيتم وأُخبرتم- ما أنزلناه بهم من الهلاك،وضربنا لكم الأمثال في القرآن،فلم تعتبروا؟
وقد دبَّر المشركون الشرَّ للرسول - صلى الله عليه وسلم - بقتله،وعند الله مكرهم فهو محيط به،وقد عاد مكرهم عليهم،وما كان مكرهم لتزول منه الجبال ولا غيرها لضعفه ووَهَنه،ولم يضرُّوا الله(1/270)
شيئًا،وإنما ضرُّوا أنفسهم.فلا تحسبن -أيها الرسول- أن الله يخلف رسله ما وعدهم به من النصر وإهلاك مكذبيهم. إن الله عزيز لا يمتنع عليه شيء،منتقم من أعدائه أشد انتقام.والخطاب وإن كان خاصًّا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ،فهو موجَّه لعموم الأمة. (1)
وقال - عز وجل:{يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (52) سورة غافر،وقال - عز وجل:{وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (40) سورة الشورى،وقال سبحانه:{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (13) سورة لقمان
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ؛عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى،أَنَّهُ قَالَ:يَا عِبَادِي،إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي،وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا،فَلاَ تَظَالَمُوا يَا عِبَادِي،كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ،فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ،يَا عِبَادِي،كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطْعَمْتُهُ،فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ،يَا عِبَادِي،كُلُّكُمْ عَارٍ إِلاَّ مَنْ كَسَوْتُهُ،فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ،يَا عِبَادِي،إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ،وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا،فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ،يَا عِبَادِي،إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي،وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي،يَا عِبَادِي،لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ،وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ،كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ،مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا،يَا عِبَادِي،لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ،وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ،كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ،مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا،يَا عِبَادِي،لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ،وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ،قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي،فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ،مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي،إِلاَّ كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ،يَا عِبَادِي،إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ،ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا،فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا،فَلْيَحْمَدِ اللهَ،وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ،فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ. (2)
__________
(1) - التفسير الميسر - (4 / 294)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6737 )(1/271)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:"اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ يَسْفِكُوا دِمَاءَهُمْ،وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ " (1)
وعَنْ سَالِمٍ،عَنْ أَبِيهِ:أَنَّ رَسُولَ اللهِ،قَالَ:الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ،مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ،وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً،فَرَّجَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ،وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا،سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا ». وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ « بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ ». (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا:الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ،وَلاَ مَتَاعَ لَهُ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ،وَقَدْ شَتَمَ هَذَا،وَأَكَلَ مَالَ هَذَا،وَسَفَكَ دَمَ هَذَا،وَضَرَبَ هَذَا،فَيَقْعُدُ فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ،وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ،فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَ مَا عَلَيْهِ أَخَذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ،ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ. (4)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ ؟ قَالُوا:الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ،وَلاَ مَتَاعَ لَهُ،فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - :الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ،فَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا،وَأَكَلَ مَالَ هَذَا،وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6741 )
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (2442) وصحيح مسلم- المكنز - (6743 ) وصحيح ابن حبان - (2 / 291) (533)
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (6706 )
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (6744) وصحيح ابن حبان - (10 / 258) (4411)(1/272)
هَذَا،فَيَقْعُدُ،فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ،وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ،فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ،فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ. (1)
والظالم يؤدي ما عليه من حقوق الخلق حتى البهائم يقتص بعضها من بعض؛فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛أنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالََ :لَتُؤدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ،حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ. (2) .
والظلم للعباد يوجب النار وإن كان يسيرا،فعَنْ أَبِى أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ». فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « وَإِنْ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ ». (3) والله - عز وجل - وإن أمهل الظالم وذهبت الأيام والشهور،فإنه لا يغفل عنه ولا ينساه؛فعَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُمْلِى لِلظَّالِمِ فَإِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ ». ثُمَّ قَرَأَ ({وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (102) سورة هود (4)
وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بنصر المظلوم فعَنْ جَابِرٍ قَالَ اقْتَتَلَ غُلاَمَانِ غُلاَمٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَغُلاَمٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَنَادَى الْمُهَاجِرُ أَوِ الْمُهَاجِرُونَ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ. وَنَادَى الأَنْصَارِىُّ يَا لَلأَنْصَارِ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « مَا هَذَا دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ ». قَالُوا لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلاَّ أَنَّ غُلاَمَيْنِ اقْتَتَلاَ فَكَسَعَ أَحَدُهُمَا الآخَرَ قَالَ « فَلاَ بَأْسَ وَلْيَنْصُرِ الرَّجُلُ أَخَاهُ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا إِنْ كَانَ ظَالِمًا فَلْيَنْهَهُ فَإِنَّهُ لَهُ نَصْرٌ وَإِنْ كَانَ مَظْلُومًا فَلْيَنْصُرْهُ ». (5) .
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (16 / 359) (7359) صحيح
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6745 ) -الجلحاء : التى لا قرن لها -يقاد : يقتص
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (370 ) -الأراك : جمع أراكة وهى شجرة يستاك بقضبانها
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (6746 )
(5) - صحيح مسلم- المكنز - (6747 ) -كسع : ضرب دبره بيده(1/273)
وعَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا ».قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا نَنْصُرُهُ مَظْلُومًا،فَكَيْفَ نَنْصُرُهُ ظَالِمًا قَالَ « تَأْخُذُ فَوْقَ يَدَيْهِ » (1)
وينبغي لكل مسلم أن يتحلل من كانت له عنده مظلمة قبل أن يكون الوفاء من الحسنات؛فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لأَحَدٍ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَىْءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ،قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ،إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ،وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ » . (2) .
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ؛قَالَ:يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،فَيُنْظَرُ إِلَى حَسَنَاتِهِ قَدْ جُمِعَتْ لَهُ،فيظن أنها تنجيه،فيصبح صَائِحٌ بِالْخَلْقِ:مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ عِنْدَ فُلانٍ؛فَلْيَأْتِ.فَيَأْتِي أَبَوَاهُ وَامْرَأَتُهُ وَخَادِمُهُ وَوَلَدُهُ،وَمَنْ كَانَ لَهُ ظُلْمُ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنَ الْخَلْقِ جَمِيعًا،فَيَقُولُ:خُذُوا مِنْ حَسَنَاتِهِ بِقَدْرِ مَا ظَلَمَهُمْ،حَتَّى يَأْتِيَ ذَلِكَ عَلَى حَسَنَاتِهِ؛حَتَّى تَفْنَى،وَقَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ مَظَالِمُ كَثِيرَةٌ،فَيُقَالُ:يَا رَبُّ ! قَدْ ذَهَبَتْ حَسَنَاتُهُ وَبَقِيَتْ عَلَيْهِ مَظَالِمُ،فَيُقَالُ:خُذُوا مِنْ سَيِّئَاتِهِمْ فَاطْرَحُوهَا عَلَيْهِ بِقَدْرِ مَا ظَلَمَهُمْ،ثُمَّ يُذْهَبُ بِهِ إِلَى النَّارِ " (3)
وقد يكون الظلم للرعية أو الأهل والذرية فيستحق الظالم العقاب على ذلك،وعن الْحَسَنَ،قَالَ:عَادَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيَادٍ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ،فَقَالَ مَعْقِلٌ:إِنِّي مُحَدِّثُكَ بِحَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،لَوْ عَلِمْتَ أَنَّ لِي حَيَاةً مَا حَدَّثْتُكَ بِهِ،سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً،يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ (4) .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2444 )
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (2449 )
(3) - المجالسة وجواهر العلم - (7 / 42) (2892 ) صحيح مرسل
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (380 و4834) وصحيح ابن حبان - (10 / 346) (4495)(1/274)
وعَنِ الْحَسَنِ قَالَ:عَادَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ الْمُزَنِىَّ فِى مَرَضِهِ الَّذِى مَاتَ فِيهِ فَقَالَ مَعْقِلٌ:إِنِّى مُحَدِّثُكَ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ بِى حَيَاةً مَا حَدَّثْتُكَ إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :« مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ». (1)
وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَا مِنْ أَمِيرِ عَشَرَةٍ إِلاَّ جِيءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْلُولَةٌ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ حَتَّى يُطْلِقَهُ الْحَقُّ،أَوْ يُوبِقَهُ " (2)
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ،قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَلِي إِمْرَةَ عَشَرَةٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إِلاَّ أَتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْلُولَةٌ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ،فَكَّهُ بِرُّهُ أَوْ أُوثَقَهُ إِثْمُهُ،أَوَّلُهَا مَلاَمَةٌ،وَأَوْسَطُهَا نَدَامَةٌ،وَآخِرُهَا عَذَابٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " (3)
وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - من دعوة المظلوم،فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضى الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ إِنَّكَ سَتَأْتِى قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ،فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إِلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ،فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ،فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ،فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ،فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ،وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ،فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ." (4)
ومن صور استجابة دعوة المظلوم على من ظلمه،قصة سعد بن أبي وقاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،فعَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ:شَكَا أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ،رضى الله عنه،فَعَزَلَهُ،وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ عَمَّارًا،فَشَكَوْا حَتَّى ذَكَرُوا أَنَّهُ لاَ يُحْسِنُ يُصَلِّى،فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ،فَقَالَ:يَا أَبَا إِسْحَاقَ،إِنَّ هَؤُلاَءِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ لاَ تُحْسِنُ تُصَلِّى. قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ:أَمَّا أَنَا
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (9 / 41) (18359) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 570)(22781) 23162- صحيح لغيره
(3) - مسند الشاميين 360 - (2 / 423) (1617) حسن
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (1496 ) وصحيح مسلم- المكنز - (130)(1/275)
وَاللهِ،فَإِنِّى كُنْتُ أُصَلِّى بِهِمْ صَلاَةَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا أَخْرِمُ عَنْهَا،أُصَلِّى صَلاَةَ الْعِشَاءِ فَأَرْكُدُ فِى الأُولَيَيْنِ وَأُخِفُّ فِى الأُخْرَيَيْنِ. قَالَ:ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ،فَأَرْسَلَ مَعَهُ،رَجُلاً أَوْ رِجَالاً،إِلَى الْكُوفَةِ،فَسَأَلَ عَنْهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ،وَلَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إِلاَّ سَأَلَ عَنْهُ وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا،حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِى عَبْسٍ،فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ،يُقَالُ لَهُ:أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ،يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ. قَالَ:أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا،فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لاَ يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ،وَلاَ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ،وَلاَ يَعْدِلُ فِى الْقَضِيَّةِ،قَالَ سَعْدٌ:أَمَا وَاللهِ لأَدْعُوَنَّ بِثَلاَثٍ،اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا،قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً،فَأَطِلْ عُمْرَهُ،وَأَطِلْ فَقْرَهُ،وَعَرِّضْهُ بِالْفِتَنِ،وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ:شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ،أَصَابَتْني دَعْوَةُ سَعْدٍ،قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ:فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الْكِبَرِ،وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِى فِى الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ.. (1)
والأحاديث تؤكد أن دعوة المظلوم مستجابة حتى ولو كان فاجرا فاسقا،فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ،وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ. (2) .وقد ذكر الإِمام ابن عبد البر رحمه الله آثارا كثيرة عن السلف الصالح يحذرون فيها من الظلم ويبينون فيها استجابة دعوة المظلوم،ثم قال رحمه الله:ولقد أحسن القائل:"
نامت جفونك والمظلوم منتبه ... يدعو عليك وعين الله لم تنم (3)
والظلم في الحقيقة:وضع الأشياء في غير مواضعها (4) .
وهو على نوعين :
1- ظلم النفس،وهو ضربان:ظلم النفس بالشرك الذي لا يغفره الله إذا مات العبد عليه قبل التوبة منه،وظلمها بالمعاصي التي يكون صاحبها تحت المشيئة إن لم يتب منها،إن شاء
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (755 ) -أخرم : أنقص -أركد : أطيل فيهما
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 364)(8795) 8781- حسن لغيره
(3) - فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري - (3 / 210) وفيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (1 / 354)
(4) - انظر : جامع العلوم والحكم لابن رجب ، 2 / 35 .(1/276)
الله غفر له،وإن شاء عذبه بقدر معصيته ثم يخرجه من النار ويدخله الجنة،بعد التطهير من إثم المعصية .
2 - ظلم العبد لغيره من الخلق وهذا لا يترك الله منه شيئا بل يعطي المظلوم حقه من الظالم ما لم يستحله في الدنيا . (1)
والله - عز وجل - إذا عاقب الظالمين على ظلمهم لم يظلمهم؛ولهذا قال - عز وجل:{إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (44) سورة يونس،وقال - عز وجل:{إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} (40) سورة النساء،وقال سبحانه وتعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ} (46) سورة فصلت
وقال سبحانه:{وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} (112) سورة طه
فينبغي للمسلم أن يُحذِّر الناس من الظلم وعواقبه في الدنيا والآخرة . (2)
من مضار (الظلم) (3)
(1) يجلب غضب الرّبّ وسخطه ويتسلّط على الظّالم بشتّى أنواع العذاب.
(2) قبول دعاء المظلوم فيه.
(3) يخرّب الدّيار وبسببه تنهار الدّول.
(4) تحاشي الخلق عن الظّالم وبعدهم منه لخوفهم من بطشه.
(5) معصيته متعدّية للغير.
(6) دليل على ظلمة القلب وقسوته.
(7) عدم الأخذ على يد الظّالم يفسد الأمّة.
(8) يجلب كره الرّسول - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) - انظر : المرجع السابق ، 2 / 36 .
(2) - انظر فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري - (3 / 202)
(3) - نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - (10 / 4926)(1/277)
(9) صغار الظّالم عند اللّه وذلّته.
(10) الظّالم يحرم شفاعة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - .
- - - - - - - - - - - - - -(1/278)
الحق الخامس والثلاثون
لا تخذلُه ولا تُسْلِمه
التخاذل لغة (1) :
مصدر قولهم: تخاذل القوم أي خذل بعضهم بعضا،وهو مأخوذ من مادّة (خ ذ ل) الّتي تدلّ على ترك الشّي ء والقعود عنه،فالخذلان: ترك المعونة،يقال:
خذلت الوحشيّة (ولدها) فهي خذول أي قعدت وتركته،ومن الباب تخاذلت رجلاه: ضعفتا،ويقال:
رجل خذلة للّذي لا يزال يخذل،أي كثيرا ما يخذل،وقول اللّه تعالى: وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا (الفرقان/ 29) أي كثير الخذلان،قال الطّبريّ: أي مسلما (إيّاه) لما ينزل به من البلاء غير منقذه ولا منجّيه (2)
يقال: خذله خذلانا: إذا ترك عونه ونصرته،وخذّل عنه أصحابه تخذيلا أي حملهم على خذلانه،وتخاذل (القوم) خذل بعضهم بعضا،وقال ابن منظور: الخاذل ضدّ النّاصر (وجمعه خذّال)،يقال: خذله يخذله خذلا وخذلانا وخذلانا أي أسلمه وخيّبه وترك نصرته وعونه،والتّخذيل: حمل الرّجل على خذلان صاحبه،وتثبيطه عن نصرته،وخذلان اللّه للعبد ألّا يعصمه من الشّبه فيقع فيها،وقول اللّه تعالى: وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ (آل عمران/ 160) معناه كما قال القرطبيّ: يترك عونكم (3) ،والخاذل: المنهزم،وتخاذل القوم تدابروا،وقول اللّه تعالى: وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا (الفرقان/ 29) الخذل: التّرك من الإعانة،ومنه خذلان إبليس للمشركين لمّا ظهر لهم في صورة سراقة بن مالك،فلمّا رأى الملائكة تبرّأ منهم،وكلّ من صدّ عن سبيل اللّه وأطيع في معصية اللّه فهو شيطان للإنسان يخذله عند نزول العذاب والبلاء (4) ،والخذول من الخيل: الّتي إذا
__________
(1) - نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - (9 / 4139)
(2) - تفسير القرطبي (9/ 385).
(3) - المرجع السابق (4/ 163).
(4) - المرجع السابق (7/ 19).(1/279)
ضربها المخاض لم تبرح من مكانها،ورجل خذول الرّجل: تخذله رجله من ضعف أو عاهة أو سكر،وخذلت الظّبية غيرها إذا تخلّفت عن صواحبها فلم تلحق بهم (1) .
التخاذل اصطلاحا:
قال المناويّ: الخذلان: خلق قدرة المعصية في العبد،وخذّله تخذيلا: حمله على الفشل وترك القتال (2) .
وقال الرّاغب: الخذلان: ترك النّصرة ممّن يظنّ به أن ينصر (3) .
وقال ابن الأثير: الخذل: ترك الإغاثة والنّصرة (4) ،وإذا كان التّخاذل: هو أن يخذل بعض القوم بعضا. فإنّ التّخاذل اصطلاحا: «أن يترك الإنسان نصرة أخيه،ويترك أخوه نصرته إذا كان كلّ منهما يظنّ به نصرة صاحبه وإغاثته» (5) .
قال تعالى:{إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (160) سورة آل عمران
وقال تعالى:{ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً} (22) سورة الإسراء
وقال تعالى :{ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} (27) سورة الفرقان
وقال تعالى:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) }« الحشر: 11- 12 »
__________
(1) - المفردات للرّاغب (ص 144)، ومقاييس اللغة لابن فارس (2/ 167)، الصحاح (4/ 1683)، لسان العرب (2/ 1118)، وبصائر ذوي التمييز (2/ 531).
(2) - التوقيف (153).
(3) - المفردات (بتصرف يسير) (ص 144).
(4) - النهاية (2/ 16).
(5) - اقتبسنا هذا التعريف من جملة أقوال المفسرين واللغويين ولم نعثر عليه مصطلحا ضمن كتب المصطلحات التي تيسرت لنا.(1/280)
وَعَنْ جَابِرٍ وَأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَا:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" مَا مِنِ امْرِئٍ يَخْذُلُ مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ.وَمَا مِنِ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ " (1)
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ،عَنْ أَبِيهِ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ:مَنْ أُذِلَّ عِنْدَهُ مُؤْمِنٌ فَلَمْ يَنْصُرْهُ،وَهُوَ يقَدِرُ عَلَى أَنْ يَنْصُرَهُ أَذَلَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُؤُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (2)
وعَنِ الْمُسْتَوْرِدِ أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ أَكَلَ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ أَكْلَةً فَإِنَّ اللَّهَ يُطْعِمُهُ مِثْلَهَا مِنْ جَهَنَّمَ وَمَنْ كُسِىَ ثَوْبًا بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَكْسُوهُ مِثْلَهُ مِنْ جَهَنَّمَ وَمَنْ قَامَ بِرَجُلٍ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُومُ بِهِ مَقَامَ سُمْعَةٍ وَرِيَاءٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». (3)
وعَنْ سَالِمٍ،عَنْ أَبِيهِ:أَنَّ رَسُولَ اللهِ،قَالَ:الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ،مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ،وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً،فَرَّجَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ،وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا،سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (4)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا ». وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ « بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ ». (5)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْغَدِ يَوْمَ النَّحْرِ وَهُوَ بِمِنًى « نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِى كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ ».يَعْنِى ذَلِكَ
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (5 / 7) (4602) حسن
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 487)(15985) 16081- حسن
(3) - سنن أبي داود - المكنز - (4883) صحيح
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (2442 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6743) و صحيح ابن حبان - (2 / 291) (533)
(5) - صحيح مسلم- المكنز - (6706 )(1/281)
الْمُحَصَّبَ،وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَكِنَانَةَ تَحَالَفَتْ عَلَى بَنِى هَاشِمٍ وَبَنِى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ،أَوْ بَنِى الْمُطَّلِبِ أَنْ لاَ يُنَاكِحُوهُمْ،وَلاَ يُبَايِعُوهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا إِلَيْهِمُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - -
قال النووي:" وَأَمَّا ( لَا يَخْذُلهُ ) فَقَالَ الْعُلَمَاء:الْخَذْل تَرْك الْإِعَانَة وَالنَّصْر،وَمَعْنَاهُ إِذَا اِسْتَعَانَ بِهِ فِي دَفْع ظَالِم وَنَحْوه لَزِمَهُ إِعَانَته إِذَا أَمْكَنَهُ،وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْر شَرْعِيّ . (1)
قلت:
وأولى المسلمين بالنصرة والمساعدة المجاهدون في سبيل الله،وحتى بو خذلهم المسلمون فهم منصورون بإذن الله تعالى .
فعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ »رواه مسلم (2)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ أَنَّ عُمَيْرَ بْنَ هَانِئٍ حَدَّثَهُ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ » رواه مسلم (3)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ أَنَّ عُمَيْرَ بْنَ هَانِئٍ حَدَّثَهُ قَالَ سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِى سُفْيَانَ عَلَى هَذَا الْمِنْبَرِ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِى قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِىَ أَمْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ ». فَقَامَ مَالِكُ بْنُ يُخَامِرَ السَّكْسَكِىُّ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ سَمِعْتُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يَقُولُ َهُمْ أَهْلُ الشَّامِ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ وَرَفَعَ صَوْتَهُ هَذَا مَالِكٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ سَمِعَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يَقُولُ َهُمْ أَهْلُ الشَّامِ. رواه أحمد (4)
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (8 / 361)
(2) - -صحيح مسلم ( 5059 )
(3) -صحيح مسلم (5064 )
(4) -مسند أحمد(17395) صحيح ، وانظر التفاصيل في كتابي الخلاصة في أحاديث الطائفة المنصورة(1/282)
من مضار (التخاذل) (1)
(1) يبغض اللّه فاعله ويجعله عرضة لأليم عقابه.
(2) يفكّك عرى المجتمع ويهدم بنيانه.
(3) صفة ذميمة في النّفس ونقص في المروءة.
(4) من فعله كان سبّة في مجتمعه منبوذا في عشيرته.
(5) يدلّ حدوثه على تبلّد الوجدان وموت الضّمير.
(6) تحرم صاحبها من متعة نصرة الحقّ،ولذّة الأخذ بيد المظلوم.
(7) صفة ذميمة تدلّ على خسّة في الطّبع ولؤم في النّفس.
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - (9 / 4144)(1/283)
الحق السادس والثلاثون
يعود مرضاهم
فالمعرفة والإسلام كافيان في إثبات هذا الحق ونيل فضله. وأدب العائد خفة الجلسة وقلة السؤال وإظهار الرقة والدعاء بالعافية وغض البصر عن عورات الموضع. وعند الإستئذان لا يقابل الباب ويدق برفق ولا يقول: أنا إذا قيل له: من،ولا يقول: يا غلام،ولكن يحمد ويسبح،والمبادرة إلى زيارته في أول المرض،فعن الْأَعْمَشَ،قَالَ:"كُنَّا نَقْعُدُ فِي الْمَجْلِسِ،فَإِذَا فَقَدْنَا الرَّجُلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ سَأَلْنَا عَنْهُ،فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا عُدْنَاهُ" (1)
تكرار الزيارة كل يومين أو ثلاثة لمؤانسته وإدخال السرور على قلبه فلقد سميت زيارة المريض ( عيادة) من العودة للزيارة وتكرارها.
عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ فِى خُرْفَةِ الْجَنَّةِ ». قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا خُرْفَةُ الْجَنَّةِ قَالَ « جَنَاهَا ». رواه مسلم (2) .
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَنْصَارِيِّ،قَالَ:دَخَلَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ ثَوْبَانَ،فَقَالَ:يَا أَبَا حَفْصٍ،حَدِّثْنَا حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْسَ فِيهِ اخْتِلاَفٌ،قَالَ:حَدَّثَنِي كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَنْ عَادَ مَرِيضًا خَاضَ فِي الرَّحْمَةِ،فَإِذَا جَلَسَ عِنْدَهُ اسْتَنْقَعَ فِيهَا.وَقَدِ اسْتَنْقَعْتُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فِي الرَّحْمَةِ. (3)
وعن هِلاَلَ بْنِ أَبِي دَاوُدَ الْحَبَطِيِّ أَبي هِشَامٍ،قَالَ:أَتَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ،فَقُلْتُ:يَا أَبَا حَمْزَةَ إِنَّ الْمَكَانَ بَعِيدٌ وَنَحْنُ يُعْجِبُنَا أَنْ نَعُودَكَ،فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:أَيُّمَا رَجُلٍ يَعُودُ مَرِيضًا،فَإِنَّمَا يَخُوضُ فِي الرَّحْمَةِ،فَإِذَا قَعَدَ عِنْدَ الْمَرِيضِ غَمَرَتْهُ
__________
(1) - شعب الإيمان - (11 / 430) صحيح
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6719 ) -الخرفة : أى اجتناء ثمر الجنة
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 425)(15797) 15890- حسن لغيره(1/284)
الرَّحْمَةُ.قَالَ:فَقُلْتُ:يَا رَسُولَ اللهِ،هَذَا لِلصَّحِيحِ الَّذِي يَعُودُ الْمَرِيضَ،فَالْمَرِيضُ مَا لَهُ ؟ قَالَ:تُحَطُّ عَنْهُ ذُنُوبُهُ. (1)
وعن مِنَّةَ الزَّرْقَاءِ،قَالَتْ:قُلْتُ لأَنَسٍ:حَدِّثْنِي حَدِيثًا لَمْ يُدَاوِلْهُ الرِّجَالُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:عَائِدُ الْمَرِيضِ يَخُوضُ فِي الرَّحْمَةِ فَإِذَا جَلَسَ عِنْدَهُ غَمَرَتْهُ . (2)
وعَنْ كَعْبِ بن عُجْرَةَ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"مَنْ عَادَ مَرِيضًا خَاضَ فِي الرَّحْمَةِ،فَإِذَا جَلَسَ عِنْدَهُ اسْتَشْفَعَ فِيهَا"،قَالَ: يَقُولُ لأَصْحَابِهِ: اسْتَشْفَعْنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ )." (3) .
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَنْ عَادَ مَرِيضًا،لَمْ يَزَلْ يَخُوضُ فِي الرَّحْمَةِ حَتَّى يَجْلِسَ،فَإِذَا جَلَسَ اغْتَمَسَ فِيهَا. (4)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ،عَنْ أَبِيهِ،عَنْ جَدِّهِ،أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَقُولُ:"مَنْ عَادَ مَرِيضًا فَلَا يَزَالُ فِي الرَّحْمَةِ حَتَّى إِذَا قَعَدَ عِنْدَهُ اسْتَنْقَعَ فِيهَا ثُمَّ إِذَا قَامَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَا يَزَالُ يَخُوضُ فِيهَا حَتَّى يَرْجِعَ مِنْ حَيْثُ خَرَجَ هُوَ،وَمَنْ عَزَّى أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ بِمُصِيبَةٍ،كَسَاهُ اللهُ حُلَلَ الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " (5)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَنْ عَادَ مَرِيضًا خَاضَ فِي الرَّحْمَةِ،فَإِذَا جَلَسَ إِلَيْهِ غَمَرَتْهُ الرَّحْمَةُ،فَإِنْ عَادَ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ اسْتَغْفَرَ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُمْسِي،وَإِنْ عَادَ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ اسْتَغْفَرَ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ حَتَّى يُصْبِحَ،فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا للعائدِ فَمَا لِلْمَرِيضِ؟ قَالَ:أَضْعَافُ هَذَا." (6)
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 448)(12782) 12813- صحيح لغيره
(2) - اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة - (4 / 133)[3860/1] حسن لغيره
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (13 / 453)(15553) و(14 / 31)(15685) حسن
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 37)(14260) 14310- صحيح
(5) - شعب الإيمان - (11 / 463)(8840 ) حسن
(6) - المعجم الكبير للطبراني - (9 / 399)(11319 ) حسن لغيره(1/285)
وعَنْ زِرِّ بن حُبَيْشٍ،قَالَ: أَتَيْنَا صَفْوَانَ بن عَسَّالٍ،فَقَالَ: أَزَائِرِينَ؟ قُلْنَا: نَعَمْ،فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"مَنْ زَارَ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ خَاضَ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ،وَمَنْ عَادَ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ خَاضَ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَرْجِعَ". (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:إِذَا عَادَ الْمُسْلِمُ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ،أَوْ زَارَهُ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ،وَتَبَوَّأْتَ مَنْزِلاً فِي الْجَنَّةِ. (2)
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا خَرَجَ يَعُودُ أَخًا لَهُ مُؤْمِنًا خَاضَ فِي الرَّحْمَةِ إِلَى حِقْوَيْهِ،وَإِذَا جَلَسَ عِنْدَ الْمَرِيضِ فَاسْتَوَى جَالِسًا غَمَرَتْهُ الرَّحْمَةُ. (3)
وعَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:"إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ بَعَثَ اللهُ إِلَيْهِ مَلَكَيْنِ فَيَقُولُ: انْظُرَا مَا يَقُولُ لِعُوَّادِهِ.فَإِنْ هُوَ إِذْ جَاءُوهُ حَمِدَ اللهَ،وَأَثْنَى عَلَيْهِ،رَفَعَا ذَلِكَ إِلَى عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَعْلَمُ فَيَقُولُ: لِعَبْدِي عَلَيَّ إِنْ تَوَفَّيْتُهُ أَنْ أُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ،وَإِنْ أَنَا شَفَيْتُهُ أَنْ أُبْدِلَهُ لَحْمًا خَيْرًا مِنْ لَحْمِهِ،وَدَمًا خَيْرًا مِنْ دَمِهِ،وَأَنْ أُكَفِّرَ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ " (4)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا ابْتَلَى عَبْدًا بِالْبَلَاءِ بَعَثَ اللهُ إِلَيْهِ مَلَكَيْنِ فَقَالَ لَهُمَا: انْظُرَا إِلَى مَا يَقُولُ عَبْدِي لِعُوَّادِهِ حِينَ يَعُودُونَهُ.فَإِنْ كَانَ قَدْ قَالَ خَيْرًا،وَلَمْ يَشْكُ إِلَيْهِمْ الَّذِي بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ قَالَ اللهُ لِمَلَائِكَتِهِ: أَبْدِلُوا عَبْدِي بِلَحْمِهِ خَيْرًا مِنْ لَحْمِهِ،وَبِدَمٍ خَيْرٍ مِنْ دَمِهِ،وَأَخْبِرُوهُ إِنْ أَنَا قَبْضَتُهُ أَدْخَلْتُهُ الْجَنَّةَ،وَإِنْ أَنَا أَطْلَقْتُهُ مِنْ وَثَاقِهِ فَلْيَسْتَأْنِفِ الْعَمَلَ " (5)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِذَا ابْتُلِيتُ عَبْدِي الْمُؤْمِنَ،وَلَمْ يَشْتَكِ إِلَى عُوَّادِهِ أَطْلَقْتُهُ مِنْ أُسَارِي،ثُمَّ أَبْدَلْتُهُ لَحْمًا خَيْرًا مِنْ لَحْمِهِ،وَدَمًا خَيْرًا مِنْ دَمِهِ،ثُمَّ يُسْتَأْنَفُ الْعَمَلَ " (6)
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (7 / 69)(7256 ) حسن لغيره
(2) - صحيح ابن حبان - (7 / 228) (2961) صحيح
(3) - مسند الشاميين 360 - (3 / 264) (2221) حسن لغيره
(4) - شعب الإيمان - (12 / 330) (9471 ) صحيح لغيره
(5) - شعب الإيمان - (12 / 330)(9472 ) صحيح
(6) - شعب الإيمان - (12 / 331) (9473 ) صحيح(1/286)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :ثَلاثَةٌ مِنْ كُنُوزِ الْبِرِّ:إِخْفَاءُ الصَّدَقَةِ،وَكِتْمَانُ الشَّكْوَى،وَكِتْمَانُ الْمُصِيبَةِ،يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بِبَلاءٍ فَصَبَرَ،فَلَمْ يَشْكُنِي إِلَى عُوَّادِهِ،أَبْدَلْتُهُ لَحْمًا خَيْرًا مِنْ لَحْمِهِ،وَدَمًا خَيْرًا مِنْ دَمِهِ،إِنْ أَرْسَلْتُهُ أَرْسَلْتُهُ وَلا ذَنْبَ لَهُ،وَإِنْ تَوَفَّيْتُهُ فَإِلَى رَحْمَتِي. (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ. (2)
وعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ:مَرِضْتُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يعوذني فعودني يَوْمًا فَقَالَ:بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أُعِيذُكَ بِاللَّهِ الَأَحَدِ الصَّمَدِ،الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ،وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ،مِنْ شَرِّ مَا تَجِدُ،فَلَمَّا اسْتَقَلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَائِمًا قَالَ:يَا عُثْمَانُ تَعَوَّذْ بِهَا فَمَا تَعَوَّذْتُمْ بِمِثْلِهَا . (3)
وعَنْ عَائِشَةَ،قَالَتْ:أَتَى جِبْرِيلُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ:إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَدْعُوَ بِهَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ،فَإِنِّي مُعْطِيكَ إِحْدَاهُنَّ،قَالَ:اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ تَعْجِيلَ عَافِيَتِكَ،أَوْ صَبْرًا عَلَى بَلِيَّتِكَ،أَوْ خُرُوجًا مِنَ الدُّنْيَا إِلَى رَحْمَتِكَ. (4)
الدعاء للمريض عند قعوده عنده. عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُعَوِّذُ بَعْضَ أَهْلِهِ،يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَيَقُولُ « اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ أَذْهِبِ الْبَاسَ،اشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِى،لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ،شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا » رواه البخاري (5)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ فَقَالَ عِنْدَهُ سَبْعَ مِرَارٍ أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَكَ إِلاَّ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ ». رواه أبو داود (6) .
__________
(1) - الفوائد لتمام 414 - (1 / 424)(760) حسن لغيره
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (5645) وصحيح ابن حبان - (7 / 168)(2907)
(3) - المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية - (11 / 157)(2485 ) ضعيف
(4) - صحيح ابن حبان - (3 / 203)(922) حسن
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (5743 )
(6) - سنن أبي داود - المكنز - (3108 ) صحيح(1/287)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،قَالَ:كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا عَادَ الْمَرِيضَ جَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهِ،ثُمَّ قَالَ سَبْعَ مَرَّاتٍ:أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ،أَنْ يَشْفِيكَ فَإِنْ كَانَ فِي أَجَلِهِ تَأْخِيرٌ عُوفِيَ مِنْ وَجَعِهِ ذَلِكَ. (1)
وعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ،أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ عُثْمَانُ:وَبِي وَجَعٌ قَدْ كَادَ يُهْلِكُنِي،قَالَ:فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :امْسَحْ بِيَمِينِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ،وَقُلْ:أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ قَالَ:فَقُلْتُ ذَلِكَ،فَأَذْهَبَ اللَّهُ مَا كَانَ بِي فَلَمْ أَزَلْ آمُرُ بِهِ أَهْلِي وَغَيْرَهُمْ. (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْه عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَمْرٍ هُوَ حَقٌّ،مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ فِي أَوَّلِ مَضْجَعِهِ فِي مَرَضِهِ،نجاه الله تعالى مِنَ النَّارِ ؟"قَالَ:بَلَى،بِأَبِي وَأُمِّي،قَالَ - صلى الله عليه وسلم - :" اعْلَمْ أَنَّكَ إِذَا أَصْبَحْتَ لَمْ تُمْسِ،وَإِذَا أَمْسَيْتَ لَمْ تُصْبِحْ،وَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ مَضْجَعِكَ مِنْ مَرَضِكَ،نجاك الله تعالى به مِنَ النَّارِ،أَنْ تَقُولَ:لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ،يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ،سُبْحَانَ رَبِّ الْعِبَادِ وَالْبِلَادِ،الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ،اللَّهُ أَكْبَرُ،كِبْرِيَاءُ رَبِّنَا وَجَلَالُهُ وَقُدْرَتُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ،اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ أَمْرَضْتَنِي لِقَبْضِ رُوحِي فِي مَرَضِي هَذَا،فَاجْعَلْ رُوحِي فِي أَرْوَاحِ مَنْ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنْكَ الْحُسْنَى،فَإِنْ مُتَّ فِي مَرَضِكَ ذَلِكَ،فَإِلَى رضوان الله تعالى وَالْجَنَّةِ،وَإِنْ كُنْتَ قَدِ اقْتَرَفْتَ ذُنُوبًا،تاب الله عزَّ وجلّ عَلَيْكَ". (3)
تجنب تهويل المرض،وكثرة السؤال عنه،وذكر أحد توفي في مثل مرضه. فعن ابْنِ عَبَّاسٍ،أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ،خَرَجَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ،فَقَالَ النَّاسُ:يَا أَبَا حَسَنٍ،كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ فَقَالَ:أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللهِ بَارِئًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:فَأَخَذَ بِيَدِهِ عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ:أَلاَ تَرَى أَنْتَ ؟ وَاللَّهِ إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَيُتَوَفَّى فِي وَجَعِهِ هَذَا،إِنِّي أَعْرِفُ وُجُوهَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عِنْدَ الْمَوْتِ،فَاذْهَبْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (7 / 243)(2978) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (7 / 231) (2965) صحيح
(3) - المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية - (13 / 911)(3371 ) ضعيف(1/288)
- صلى الله عليه وسلم - ،فَلْنَسْأَلْهُ فِيمَنْ هَذَا الأَمْرُ ؟ فَإِنْ كَانَ فِينَا عَلِمْنَا ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِنَا كَلَّمْنَاهُ،فَأَوْصَى بِنَا،فَقَالَ عَلِيٌّ:وَاللَّهِ لَئِنْ سَأَلْنَاهَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَمَنَعَنَاهَا،لاَ يُعْطِينَاهَا النَّاسُ أَبَدًا،فَوَاللَّهِ لاَ أَسْأَلُهُ أَبَدًا." رواه البخاري (1) .
وجملة أدب المريض حسن الصبر وقلة الشكوى والضجر والفزع إلى الدعاء والتوكل بعد الدواء على خالق الدواء.
وتبشير المريض،وتطبيب نفسه بالشفاء،وبث روح الثقة في نفسه،ورفع حالته المعنوية،وإدخال السرور على قلبه وتذكيره بثواب الرضا عن الله والصبر على بلائه.
قال تعالى:{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (80) سورة الشعراء
وإذَا ألمَّ بِي مَرَضٌ فَرَبِّي هوَ الذي يَشْفِينِي مِنَ المَرضِ،ولا يقْدِرُ عَلى شِفَائي غيرُهُ،بما يُقَدِّرُهُ من الأَسْبَابِ المُوصِلَةِ إليهِ . (2)
عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَى الْمَرِيضِ فَنَفِّسُوا لَهُ فِى أَجَلِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَرُدُّ شَيْئًا وَيُطَيِّبُ نَفْسَهُ ». رواه الترمذي (3) .
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:مِنْ تَمَامِ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ أَنْ يَضَعَ أَحَدُكُمْ يَدَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ،أَوْ يَدِهِ،فَيَسْأَلُهُ كَيْفَ هُوَ ؟ وَتَمَامُ تَحِيَّاتِكُمْ بَيْنَكُمُ الْمُصَافَحَةُ." (4)
إظهار شفقته،وعرض خدمته،وعدم التكلم إلا بخير. فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا حَضَرْتُمُ الْمَرِيضَ أَوِ الْمَيِّتَ فَقُولُوا خَيْرًا فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ ». قَالَتْ فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ أَتَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سَلَمَةَ قَدْ مَاتَ قَالَ « قُولِى اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى وَلَهُ وَأَعْقِبْنِى مِنْهُ عُقْبَى حَسَنَةً ». قَالَتْ فَقُلْتُ فَأَعْقَبَنِى اللَّهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ لِى مِنْهُ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - . (5)
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 689)(2374) وصحيح البخارى- المكنز - (4447 و6266)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2894)
(3) - سنن الترمذى- المكنز - (2231 ) ضعيف
فنَفِّسُوا له : نفَّستُ عن المريض : إذا منيته طول الأجل ، وسألت الله أن يطيل له عمره.
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 414)(22236) 22591- ضعيف
(5) - صحيح مسلم- المكنز - (2168 ) -أعقب : بدل وعوض(1/289)
غض البصر عن عورات المريض أو ما يتعلق بحاجاته وأدويته الخاصة.
خفة الجلسة وتجنب القعود لفترة طويلة إلا إذت رغب المريض وأنس بذلك،حرصا على راحته.
طلب الدعاء من المريض،بعد الدعاء له،فإن المريض يكون في حالة قرب والتجاء إلى الله. فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،قَالَ:قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِذَا دَخَلْتَ عَلَى مَرِيضٍ،فَمُرْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَكَ؛فَإِنَّ دُعَاءَهُ كَدُعَاءِ الْمَلاَئِكَةِ (1) .
ترغيب المريض بأن يصبر على قضاء الله وأن لا يلج ويستبطئ الشفاء فيدعو على نفسه بالموت. فعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ،أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،أَنَّهُ قَالَ:لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ،فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ فَاعِلاً فَلْيَقُلْ:أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي،وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي. رواه البخاري ومسلم (2) .
__________
(1) - سنن ابن ماجة- طبع مؤسسة الرسالة - (2 / 435)(1441)
إسناد صحيح لكنه منقطع ميمون بن مهران لم يسمع من عمر . وله شاهد غير قوي الشعب (6214) وأعله ابن حجر في التهذيب بعلة خفية وهي أن كثير بن هشام رواه عن عيسى بن إبراهيم الهاشمي عن جعفر بن برقان.. وعيسى متروك وتابعه الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- في الضعيفة (1004)
أقول : ما قالاه مجرد احتمال لكن سند ابن ماجه ثنا جعفر بن مسافر ثني كثير بن هشام ثنا جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران عن عمر . وجعفر صدوق كما في الكاشف (811) وقد روى عنه أبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم وهو يرويه عن شيخه كثير بصيغة التحديث وكثير يرويه عن جعفر بصيغة التحديث ولم يوصف أحد منهم بالتدليس ، كما أن كثير بن هشام مجمع على ثقته وهو من أروى الناس عن جعفر بن برقان كما في التهذيب فلم لا تكون الرواية الثانية التي فيها عيسى بن إبراهيم وهم من راويها وغلط ! ولاسيما أن جعفر بن مسافر من شيوخ ابن ماجه المباشرين . ومن هنا فإن المنذري والبوصيري والنووي وغيرهم أعلوه فقط بالإنقطاع . كما أن الحافظ ابن حجر حسنه في الفتح وأعله بالإنقطاع وهذا هو الراجح لأن الفتح مؤلف بعد التهذيب بكثير وهو من الكتب التي رضى عنها .. الفيض (595) فالحديث حسن لغيره
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (5671) وصحيح مسلم- المكنز -(6990) صحيح ابن حبان - (3 / 248) (968)(1/290)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ،عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ،قَالَ:سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ،يَقُولُ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ،إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ خَيْرًا،وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ. (1)
توصية أهل المريض والذين يقومون بخدمته بحسن معاملته والصبر على ما يصدر منه من أقوال وأفعال.
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (7 / 267) (3000) صحيح(1/291)
الحق السابع والثلاثون
يشيع جنائزهم
الدعاء للميت عند العلم بموته. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"الْمَوْتُ فَزَعٌ،فَإِذَا بَلَغَ أَحَدَكُمْ وَفَاةُ أَخِيهِ فَلْيَقُلْ:إِنَّا لِلَّهِ،وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ،وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ،اللَّهُمَّ اكْتُبْهُ عِنْدَكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ،وَاجْعَلْ كِتَابَهُ فِي عِلِّيِّينَ،وَاخْلُفْهُ فِي أَهْلِهِ فِي الْغَابِرِينَ،وَلَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ،وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ"رواه ابن السني (1) .
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ،أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عَلَى الْمَيِّتِ،اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَحْيَائِنَا وَأَمْوَاتِنَا الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهِمْ وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَاجْعَلْ قُلُوبَهُمْ عَلَى قُلُوبِ خِيَارِهِمَ،اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِفُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ ذَنْبَهُ،وَأَلْحِقْهُ بِنَبِيِّهِ مُحَمَد - صلى الله عليه وسلم - , اللَّهُمَّ ارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمُهْتَدِينَ،وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ،وَاجْعَلْ كِتَابَهُ فِي عِلِّيِّينَ،وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ رَبَّ الْعَالَمِينَ،اللَّهُمَّ لاَ تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ،وَلاَ تُضِلَّنَا بَعْدَهُ. (2)
الصلاة على الميت واتباع الجنازة حتى يفرغ من دفنها. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهَا،ثُمَّ يَقْعُدُ حَتَّى يُوضَعَ فِي قَبْرِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ وَلَهُ قِيرَاطَانِ مِنَ الأَجْرِ وَهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ،وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ يُوضَعَ فِي الْقَبْرِ،فَلَهُ قِيرَاطٌ. رواه البخاري (3) .
الموعظة عند القبر أثناء الدفن والدعاء للميت بعد ردم التراب. فعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ:أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،كَانَ فِي جِنَازَةٍ فَأَخَذَ عُودًا،فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِ فِي الأَرْضِ،فقَالَ:مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ،فقَال رَجُلٌ:أَلاَ نَتَّكِلُ ؟ فقَالَ:اعْمَلُوا فَكُلٌّ
__________
(1) - عَمَلُ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لِابْنِ السُّنِّيِّ (560 ) والمعجم الكبير للطبراني - (10 / 206) (12299) حسن
عِلِّيُّون : اسم للسماء السابعة، وقيل : هو اسمٌ لدِيوَان الملائكة الحَفَظَة، تُرْفَع إليه أعمالُ الصالحين من العباد، وقيل : أراد أعْلَى الأمْكِنَة وأشْرَفَ المرَاتِب من اللّه في الدار الآخرة. - الغابرين : الباقين - الفِتْنة : الامْتِحانُ والاخْتِبار
(2) - مصنف ابن أبي شيبة - (3 / 293) (11480) حسن
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (47 ) وصحيح ابن حبان - (7 / 350) (3080)
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : وَهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ يُرِيدُ بِهِ أَحَدَهُمَا.(1/292)
مُيَسَّرٌ ثُمَّ قَرَأَ:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى،فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى،وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى،فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:]. رواه البخاري (1) .
وعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ « اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ ». رواه أبو داود (2) .
وعَنْ عُثْمَانَ،قَالَ:وَقَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى قَبْرِ رَجُلٍ وَهُوَ يُدْفَنُ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَالَ:اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ وَسَلُوا اللَّهَ لَهُ بالثَّبَاتِ؛فَإِنَّهُ يُسْأَلُ الآنَ. (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ أَحَدًا يَسْأَلُ مَنْ هَذِهِ الْجِنَازَةِ ؟ فَقَالَ:"هُوَ أَنْتَ عَبْدُ اللهِ دَعَاهُ فَأَجَابَهُ،أَوْ أَمَتُهُ دَعَاهَا فَأَجَابَتْهُ،اللهُ يَعْرِفُهُ وَأَهْلُهُ يَفْقِدُونَهُ وَالنَّاسُ يُنْكِرُونَهُ،اغْدُوا فَإِنَّا رَائِحُونَ أَوْ رَوِّحُوا فَإِنَّا غَادُونَ " (4)
جاء في الموسوعة الفقهية (5) : "قَال الطَّحْطَاوِيُّ:إِذَا فَرَغُوا مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ يُسْتَحَبُّ الْجُلُوسُ ( الْمُكْثُ ) عِنْدَ قَبْرِهِ بِقَدْرِ مَا يُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهُ،( فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَال:إِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا،ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْل قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ،وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُل رَبِّي ) (6) يَتْلُونَ الْقُرْآنَ وَيَدْعُونَ لِلْمَيِّتِ.وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ أَوَّل سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتَهَا. (7)
مساعدة أهل المتوفى بتقديم ما يمكن من الخدمات أثناء تجهيز الميت وخروجه ودفنه والمساعدة في إعداد الطعام لأهل الفقيد لأنهم في وضع لا يساعدهم على تحضير الطعام
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (4946 ) وصحيح ابن حبان - (2 / 45) (334)
(2) - سنن أبي داود - المكنز - (3223 ) صحيح
(3) - مسند البزار ( المطبوع باسم البحر الزخار - (2 / 91) (445) صحيح
(4) - شعب الإيمان - (11 / 462) (8839 ) حسن
(5) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 16 / ص 42)
(6) - أخرجه مسلم ( 336) .
(7) - انظر المعجم الكبير للطبراني - (ج 14 / ص 108)(15833 ) والقراءة على القبور(1) وهو حسن موقوف ، ورفعه الطبراني(1/293)
والانشغال به.فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « اصْنَعُوا لآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا فَإِنَّهُ قَدْ أَتَاهُمْ أَمْرٌ شَغَلَهُمْ ». رواه أبو داود (1)
المبادرة إلى التعزية مع إظهار الحزن والتأسف لمن يواسيهم ويعزيهم ومع الترحم على الميت وتعداد مآثره. فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ ». رواه الترمذي (2) .
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ وَكُفُّوا عَنْ مَسَاوِئِهِمْ." (3)
وعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - "لاَ تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا » (4) .
التلفظ بالمأثور من الكلام والانتباه إلى تجنب الزلل فيه والتجاوز إلى ألفاظ لا تليق بالمسلم ويمكن أَنْ يَقُولَ:أَعْظَمُ اللَّهُ أَجْرَك وَأَحْسَنَ عَزَاك،وَغَفَرَ لِمَيِّتِك (5) .
وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ أَهْل الْعِلْمِ:أَنْ يَقُول:إِنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ،وَخَلَفًا مِنْ كُلِّ فَائِتٍ،فَبِاللَّهِ فَثِقُوا،وَإِيَّاهُ فَارْجُوا،فَإِنَّمَا الْمَحْرُومُ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابُ،وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ " (6)
بذل النصيحة لأهل الميت بالصبر والسلوان،وتذكيرهم بثواب الله،وتقبل قضائه وقدره،وبأجر المحتسب الصابر ومنعهم من لطم الخدود،وشق الجيوب،والصراخ والنحيب،وذلك بالموعظة الحسنة.
قال تعالى:{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (3134 ) صحيح لغيره
(2) - سنن الترمذى- المكنز - (1094 ) حسن
(3) - صحيح ابن حبان - (7 / 290) (3020) صحيح
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (1393 ) -أفضوا : وصلوا
(5) - الفتاوى الكبري لابن تيمية - (3 / 430) و الفقه الإسلامي وأدلته - (2 / 684)
(6) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (12 / 289) و المستدرك للحاكم (4391و4392) فيه ضعف(1/294)
أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) } [البقرة:155 - 157].
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنينَ بِأَنَّهُ سَيَبْلُوهُمْ وَيَخْتَبِرُهُمْ بِقَليلٍ ( بِشَيءٍ ) مِنْ الخَوْفِ والجُوعِ،وَبِذَهَابِ بَعْضِ المَالِ،وَبِمَوتِ بَعْضِ الأَصْحَابِ وَالأَقَارِبِ وَالأَحْبَابِ،وَبِنَقْصِ غِلاَلِ المَزَارِعِ...فَمَنْ صَبَرَ عَلَى قَضَاءِ اللهِ وَحُكْمِهِ أَثَابَهُ،وَمَنْ قَنَطَ وَلَجَّ أَحَلَّ بِهِ عِقَابَهُ .
أّمَّا الصَّابِرُونَ الذِينَ خَصَّهُمُ اللهُ بِالبُشْرَى فَهُمُ الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ الخَيْرَ وَالشَّرَّ مِنَ اللهِ،وَإِذَا نَزَلَتْ بِهِمْ مُصِيبَةٌ صَبَرُوا،وَتَمَسَّكُوا بِقَولِهِمْ:إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِليهِ رَاجِعُونَ،أَيْ إِنَّهُم عَبيدُ اللهِ وَمُلْكُهُ،وَإِنَّهُمْ رَاجِعُونَ إِليهِ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ.يُثنِي اللهُ جَلَّ شَأْنُهُ عَلَى هَؤُلاءِ الصَّابِرِينَ،وَيُخْبِرُ بَأَنَّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ،وَأَنَّهُمْ يَجِدُونَ أَثَرَهَا فِي بَرْدِ قُلُوبِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ المُصِيبَةِ،وَأَنَّهُمْ هُمُ المُهْتَدُونَ إِلى طَريقِ الخَيْرِ،وَإِلى الحَقِّ والصَّوابِ،وَأَنَّهُمُ اسْتَسْلَمُوا لِقَضَاءِ اللهِ فَلَمْ يَسْتَحْوِذِ الجَزَعُ عَلَيهِمْ . (1)
فلا بد من تربية النفوس بالبلاء،ومن امتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد،وبالجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات .. لا بد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة،كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف. والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها لا يعز عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى. فالتكاليف هنا هي الثمن النفسي الذي الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعز في نفوس الآخرين. وكلما تألموا في سبيلها،وكلما بذلوا من أجلها .. كانت أعز عليهم وكانوا أضن بها. كذلك لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها بها وصبرهم على بلائها .. إنهم عندئذ سيقولون في أنفسهم:لو لم يكن ما عند هؤلاء من العقيدة خيرا مما يبتلون به وأكبر ما قبلوا هذا البلاء،ولا صبروا عليه .. وعندئذ ينقلب المعارضون للعقيدة باحثين عنها،مقدرين لها،مندفعين إليها .. وعندئذ يجيء نصر اللّه والفتح ويدخل الناس في دين اللّه أفواجا ..
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 162)(1/295)
ولا بد من البلاء كذلك ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى. فالشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد. والقيم والموازين والتصورات ما كانت لتصح وتدق وتستقيم إلا في جو المحنة التي تزيل الغبش عن العيون،والران عن القلوب.
وأهم من هذا كله،أو القاعدة لهذا كله .. الالتجاء إلى اللّه وحده حين تهتز الأسناد كلها،وتتوارى الأوهام وهي شتى،ويخلو القلب إلى اللّه وحده. لا يجد سندا إلا سنده. وفي هذه اللحظة فقط تنجلي الغشاوات،وتتفتح البصيرة،وينجلي الأفق على مد البصر .. لا شيء إلا اللّه .. لا قوة إلا قوته .. لا حول إلا حوله .. لا إرادة إلا إرادته .. لا ملجأ إلا إليه .. وعندئذ تلتقي الروح بالحقيقة الواحدة التي يقوم عليها تصور صحيح ..
والنص القرآني هنا يصل بالنفس إلى هذه النقطة على الأفق :«وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا:إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» ..
إنا للّه .. كلنا .. كل ما فينا .. كل كياننا وذاتيتنا .. للّه .. وإليه المرجع والمآب في كل أمر وفي كل مصير .. التسليم .. التسليم المطلق .. تسليم الالتجاء الأخير المنبثق من الالتقاء وجها لوجه بالحقيقة الوحيدة،وبالتصور الصحيح.
هؤلاء هم الصابرون .. الذين يبلغهم الرسول الكريم بالبشرى من المنعم الجليل ..
وهؤلاء هم الذين يعلن المنعم الجليل مكانهم عنده جزاء الصبر الجميل:«أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ،وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» ..صلوات من ربهم .. يرفعهم بها إلى المشاركة في نصيب نبيه الذي يصلي عليه هو وملائكته سبحانه .. وهو مقام كريم .. ورحمة .. وشهادة من اللّه بأنهم هم المهتدون ..وكل أمر من هذه هائل عظيم .. (1)
وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ،قَالَ:كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَجَاءَ رَسُولُ امْرَأَةٍ مِنْ بَنَاتِهِ،فقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،أَرْسَلَتْ إِلَيْكَ ابْنَتُكَ أَنْ تَأْتِيَهَا،فَإِنَّ صَبِيًّا لَهَا فِي الْمَوْتِ،فقَالَ:ائْتِهَا فَقُلْ لَهَا:إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ،وَلَهُ مَا أَعْطَى،وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى،فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ،قَالَ:فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 145)(1/296)
رَجَعَ،فقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،إِنَّهَا تُقْسِمُ عَلَيْكَ إِلاَّ جِئْتَهَا،فَقَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَقُمْنَا مَعَهُ رَهْطٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَدَخَلْنَا،فَرُفِعَ إِلَيْهِ الصَّبِيُّ،وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ فِي صَدْرِهِ،فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ،فقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ:مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ:رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ،وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ." متفق عليه (1) .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ،وَشَقَّ الْجُيُوبَ،وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ » (2) .
ترك الابتسام عند التعزية وتجنب الضحك أو اللغو بباطل الكلام أو قلة الاكتراث فكلها من علامات قسوة القلب،ومن لم يتعظ بالموت لم يتعظ بشيء. فعن أبي الدَّرْدَاءِ أنه كَانَ إِذَا رَأَى الْجَنَازَةَ قَالَ:اغْدِي فَإِنَّا رَائِحُونَ،وَرُوحِي فَإِنَّا غَادُونَ،مَوْعِظَةٌ بَلِيغَةٌ وَغَفْلَةٌ سَرِيعَةٌ،كَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظًا،يَذْهَبُ الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ،وَيَبْقَى الآخِرُ لاَ حُلْمَ لَهُ." (3)
التعزية خلال ثلاثة أيام،لا زيادة عليها،إلا لمسافر،فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى هَالِكٍ أَكْثَرِ مِنْ ثَلاَثٍ،إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ،فَإِنَّهَا تَحُدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. (4)
وعَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ،أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ بِهَذِهِ الأَحَادِيثِ الثَّلاَثِ،قَالَتْ زَيْنَبُ:دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ حِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ،فَدَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِطِيبِ فِيهِ صُفْرَةٌ خَلُوقٌ،أَوْ غَيْرُهُ،فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيَةً،ثُمَّ مَسَّتْ بِهِ بَطْنَهَا،ثُمَّ قَالَتْ:وَاللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (7377 ) وصحيح مسلم- المكنز - (2174) وصحيح ابن حبان - (2 / 208) (461)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (1294 )
(3) - الزهد أبي داود 275 - (1 / 222) (261) حسن موقوف
الغدو : السير والذهاب والتبكير أول النهار - الرواح : نقيض الصباح وهو اسم للوقت من زوال الشمس إلى الليل -الغدو : السير والذهاب والتبكير أول النهار والمراد أننا نلحق بنفس المصير في وقته المحتوم
(4) - صحيح ابن حبان - (10 / 137) (4301) صحيح(1/297)
أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ،إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. (1)
وعَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ،أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ بِهَذِهِ الأَحَادِيثِ الثَّلاَثِ،قَالَتْ زَيْنَبُ:دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ حِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ،فَدَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِطِيبِ فِيهِ صُفْرَةٌ خَلُوقٌ،أَوْ غَيْرُهُ،فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيَةً،ثُمَّ مَسَّتْ بِهِ بَطْنَهَا،ثُمَّ قَالَتْ:وَاللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ،إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.
وَقَالَتْ زَيْنَبُ:دَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشٍ فَدَعَتْ بِطِيبٍ،فَمَسَّتْ مِنْهُ،ثُمَّ قَالَتْ:وَاللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ:لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثَ لَيَالٍ،إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.
قَالَتْ زَيْنَبُ:وَسَمِعْتُ أُمِّي أُمَّ سَلَمَةَ تَقُولُ:جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَتْ:يَا رَسُولَ اللهِ،إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَاهَا فَنُكَحِّلُهَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ،مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا،كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ:لاَ،إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ،وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ. (2)
وعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ،إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ،فَإِنَّهَا تَحُدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا،لاَ تَكْتَحِلُ،وَلاَ تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا،إِلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ،وَلاَ تَمَسُّ طِيبًا إِلاَّ عِنْدَ أَدْنَى طُهْرِهَا إِذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ مَحِيضِهَا نُبْذَةَ قُسْطٍ وَأَظْفَارٍ. (3)
يستحب قراءة القرآن والدعاء للميت عند حضور الجنازة وعند التعزية.
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (1280 ) وصحيح مسلم- المكنز - (3802) وصحيح ابن حبان - (10 / 140) (4304)
(2) - صحيح ابن حبان - (10 / 140) (4304) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (10 / 142) (4305) صحيح(1/298)
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلْمَيِّتِ وَإِهْدَاءِ ثَوَابِهَا لَهُ،قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْبَدَائِعِ:وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَجْعُول لَهُ مَيِّتًا أَوْ حَيًّا،وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ عِنْدَ الْفِعْل لِلْغَيْرِ أَوْ يَفْعَلَهُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَجْعَل ثَوَابَهُ لِغَيْرِهِ .
وَقَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ:الْمَيِّتُ يَصِل إِلَيْهِ كُل شَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ،لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِيهِ؛وَلأَِنَّ النَّاسَ يَجْتَمِعُونَ فِي كُل مِصْرٍ وَيَقْرَءُونَ يُهْدُونَ لِمَوْتَاهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إِجْمَاعًا،قَالَهُ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَذَهَبَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى كَرَاهَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلْمَيِّتِ وَعَدَمِ وُصُول ثَوَابِهَا إِلَيْهِ،لَكِنِ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَجَعْل الثَّوَابِ لِلْمَيِّتِ وَيَحْصُل لَهُ الأَْجْرُ .
قَال الدُّسُوقِيُّ:فِي آخِرِ نَوَازِل ابْنِ رُشْدٍ فِي السُّؤَال عَنْ قَوْله تعالى: { وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } (سورة النجم / 39 )،قَال:وَإِنْ قَرَأَ الرَّجُل وَأَهْدَى ثَوَابَ قِرَاءَتِهِ لِلْمَيِّتِ جَازَ ذَلِكَ وَحَصَل لِلْمَيِّتِ أَجْرُهُ .
وَقَال ابْنُ هِلاَلٍ:الَّذِي أَفْتَى بِهِ ابْنُ رُشْدٍ وَذَهَبَ إِلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّتِنَا الأَْنْدَلُسِيِّينَ أَنَّ الْمَيِّتَ يَنْتَفِعُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَيَصِل إِلَيْهِ نَفْعُهُ وَيَحْصُل لَهُ أَجْرُهُ إِذَا وَهَبَ الْقَارِئُ ثَوَابَهُ لَهُ،وَبِهِ جَرَى عَمَل الْمُسْلِمِينَ شَرْقًا وَغَرْبًا،وَوَقَّفُوا عَلَى ذَلِكَ أَوْقَافًا،وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ الأَْمْرُ مُنْذُ أَزْمِنَةٍ سَالِفَةٍ (2)
وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لاَ يَصِل ثَوَابُ الْقِرَاءَةِ إِلَى الْمَيِّتِ .
وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى وُصُول ثَوَابِ الْقِرَاءَةِ لِلْمَيِّتِ .قَال سُلَيْمَانُ الْجَمَل:ثَوَابُ الْقِرَاءَةِ - لِلْقَارِئِ،وَيَحْصُل مِثْلُهُ أَيْضًا لِلْمَيِّتِ لَكِنْ إِنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ،أَوْ بِنِيَّتِهِ،أَوْ يَجْعَل ثَوَابَهَا لَهُ بَعْدَ فَرَاغِهَا عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي ذَلِكَ .وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ سَقَطَ ثَوَابُ الْقَارِئِ لِمُسْقِطٍ كَأَنْ غَلَبَ الْبَاعِثُ الدُّنْيَوِيُّ كَقِرَاءَتِهِ بِأُجْرَةٍ فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ مِثْلُهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَيِّتِ .
__________
(1) - حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 605 ، وكشاف القناع 2 / 147 ، الإنصاف 2 / 558 - 560 .
(2) - حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 423 .(1/299)
وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوِ اسْتُؤْجِرَ لِلْقِرَاءَةِ لِلْمَيِّتِ وَلَمْ يَنْوِهِ وَلاَ دَعَا لَهُ بَعْدَهَا وَلاَ قَرَأَ لَهُ عِنْدَ قَبْرِهِ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ وَاجِبِ الإِْجَارَةِ (1)
قال الشافعي (2) :
إني معزيك لا أني على ثقة من الخلود ولكن سنة الدين
فما المعزى بباق بعد ميته ولا المعزي ولو عاش إلى حين.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ هُوَ ابْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الأَنْصَارِىُّ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاَثٌ فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَيَبْقَى عَمَلُهُ ». (3)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ،قَالَ:سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاَثَةٌ،فَيَرْجِعُ اثْنَانِ وَيَبْقَى وَاحِدٌ:يَتْبَعُهُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ،فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ،وَيَبْقَى عَمَلُهُ. (4)
وعَنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:لاِبْنِ آدَمَ ثَلاَثَةٌ أَخِلاَّءُ:أَمَّا خَلِيلٌ،فَيَقُولُ:مَا أَنْفَقَتْ فَلَكَ،وَمَا أَمْسَكَتْ فَلَيْسَ لَكَ،فَهَذَا مَالُهُ،وَأَمَّا خَلِيلٌ فَيَقُولُ:أَنَا مَعَكَ فَإِذَا أَتَيْتَ بَابَ الْمَلِكِ تَرَكْتُكَ وَرَجَعْتُ،فَذَلِكَ أَهْلُهُ وَحَشَمُهُ،وَأَمَّا خَلِيلٌ،فَيَقُولُ:أَنَا مَعَكَ حَيْثُ دَخَلْتَ وَحَيْثُ خَرَجْتَ،فَهَذَا عَمَلُهُ،فَيَقُولُ:إِنْ كُنْتَ لَأَهْوَنَ الثَّلاَثَةِ عَلَيَّ. (5)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - نهاية المحتاج 6 / 93 ، وحاشية القليوبي وعميرة 3 / 175 - 176 ، وحاشية الجمل على شرح المنهج 4 / 67 ، 68 .الموسوعة الفقهية الكويتية - (33 / 60)
(2) - الأذكار للنووي - (1 / 151) والكبائر - (1 / 73) وكتاب تسلية أهل المصائب - (1 / 46)
(3) - سنن الترمذى- المكنز - (2553 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (6514 ) وصحيح مسلم- المكنز - (7613) وصحيح ابن حبان - (7 / 374)(3107)
(5) - صحيح ابن حبان - (7 / 375) (3108) صحيح(1/300)
الحق الثامن والثلاثون
يزور قبورهم
عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :إِنِّي نَهَيْتُكُمْ عَنْ ثَلاَثٍ،عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ،وَعَنْ لُحُومِ الأَضَاحِي أَنْ تُمْسِكُوهَا فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ،وَعَنِ الظُّرُوفِ إِلاَّ مَا كَانَ فِي سِقَاءٍ،وَقَدْ رُخِّصَ لِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فِي زِيَارَةِ قَبْرِ أُمِّهِ،وَإِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ أَنْ تُمْسِكُوا لُحُومَ الأَضَاحِي فَوْقَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ،لِيُوَسِّعَ ذُو السَّعَةِ مِنْكُمْ عَلَى مَنْ لَمْ يُضَحِّ،وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ الظُّرُوفِ إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ سِقَاءٍ،فَلاَ يُحِلُّ ظَرْفٌ شَيْئًا وَلاَ يُحَرِّمُهُ. (1)
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ يَوْمًا،فَخَرَجْنَا مَعَهُ،حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الْمَقَابِرِ،فَأَمَرَنَا فَجَلَسْنَا،ثُمَّ تَخَطَّى الْقُبُورَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَبْرٍ مِنْهَا فَجَلَسَ إِلَيْهِ،فَنَاجَاهُ طَوِيلاً،ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَاكِيًا،فَبَكَيْنَا لِبُكَاءِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا،فَتَلَقَّاهُ عُمَرُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَالَ:مَا الَّذِي أَبْكَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ،فَقَدْ أَبْكَيْتَنَا وَأَفْزَعْتَنَا ؟ فَأَخَذَ بِيَدِ عُمَرَ،ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا،فَقَالَ:أَفْزَعَكُمْ بُكَائِي ؟ قُلْنَا:نَعَمْ،فَقَالَ:إِنَّ الْقَبْرَ الَّذِي رَأَيْتُمُونِي أُنَاجِي قَبْرُ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ،وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي الاِسْتِغْفَارَ لَهَا،فَلَمْ يَأْذَنْ لِي،فَنَزَلَ عَلَيَّ:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة:]،فَأَخَذَنِي مَا يَأْخُذُ الْوَلَدُ لِلْوَالِدِ مِنَ الرِّقَةِ،فَذَلِكَ الَّذِي أَبْكَانِي. أَلاَ وَإِنِّي كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ،فَزُورُوهَا،فَإِنَّهَا تُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا وَتُرَغِّبُ فِي الآخِرَةِ. (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:زَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قَبْرَ أُمِّهِ،فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ،ثُمَّ قَالَ:اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي،فَاسْتَأْذَنَتْهُ أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا،فَلَمْ يَأْذَنْ لِي،فَزُورُوَا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْمَوْتَ. (3)
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (7 / 439) (3168) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (3 / 261) (981) صحيح
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (2304) وصحيح ابن حبان - (7 / 440) (3169)(1/301)
فيه دليل على جواز البكاء على الميت ولا حرج في ذلك بشرط ألا يكون فيه نواح أو ما شابه ذلك،وليس ذلك من سخط الله،ولا ينافي القدر،وهو عاطفة بشرية فطرية في النفس الإنسانية تحدث عندما يفقد الإنسان من يحب .
وسبب عدم الإذن بالاستغفار لها ،لأنها من أهل الفترة لقوله تعالى: {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (15) سورة الإسراء.
مَنِ اسْتَقَامَ عَلَى طَرِيقِ الحَقِّ وَاتَّبَعَهُ،وَاتَّبَعَ النُّورَ الذِي بُعِثَ بِهِ مُحَمَّدُ - صلى الله عليه وسلم - فِإِنَّهُ يَكُونُ قَدِ اهْتَدَى،وَتَكُونُ عَاقِبَةُ هُدَاهُ عَلَى نَفْسِهِ،وَمَنْ ضَلَّ عَنِ الحَقِّ،وَزَاغَ عَنْ سَبِيلِ الرَّشَادِ،فَإِنَّمَا يَجْنِي عَلَى نَفْسِهِ،وَيَعُودُ وَبَالُ سَعْيهِ عَلَيْهِ هُوَ،وَلاَ يَحْمِلُ أَحَدٌ ذَنْبَ أَحَدٍ،وَلاَ يَجْنِي جَانٍ إِلاَّ عَلَى نَفْسِهِ .وَيَقُولُ تَعَالَى:إِنَّهُ لاَ يُعَذِّبُ أَحَداً إِلاَّ بَعْدَ قِيَامِ الحُجَّةِ عَلَيْهِ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِ،يَدْعُونَهُ إِلَى الحَقِّ . (1)
وفي حاشية السندي على ابن ماجة:قَوْله ( فَبَكَى وَأَبْكَى إِلَخْ ) كَأَنَّهُ أَخَذَ التَّرْجَمَة مِنَ الْمَنْع عَنِ الِاسْتِغْفَار أَوْ مِنْ مُجَرَّد أَنَّهُ الظَّاهِر عَلَى مُقْتَضَى وَجُودهَا فِي وَقْت الْجَاهِلِيَّة لَا مِنْ قَوْله فَبَكَى وَأَبْكَى إِذْ لَا يَلْزَم مِنَ الْبُكَاء عِنْد الْحُضُور فِي ذُلّك الْمَحَلّ الْعَذَاب أَوْ الْكُفْر بَلْ يُمْكِن تَحَقُّقه مَعَ النَّجَاة وَالْإِسْلَام أَيْضًا لَكِنْ مَنْ يَقُول بِنَجَاةِ الْوَالِدَيْنِ لَهُمْ ثَلَاثَة مُسَالك فِي ذَلِكَ مَسْلَك أَنَّهُمَا مَا بَلَغَتْهُمَا الدَّعْوَة وَلَا عَذَاب عَلَى مَنْ لَمْ تَبْلُغهُ الدَّعْوَة لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} (15) سورة الإسراء ،فَلَعَلَّ مَنْ سَلَكَ هَذَا الْمَسْلَك يَقُول فِي تَأْوِيل الْحَدِيث: إِنَّ الِاسْتِغْفَار فَرْع تَصَوُّر الذَّنْب وَذَلِكَ فِي أَوَان التَّكْلِيف وَلَا يُعْقَل ذُلّك فِيمَنْ لَمْ تَبْلُغهُ الدَّعْوَة فَلَا حَاجَة إِلَى الِاسْتِغْفَار لَهُمْ فَيُمْكِن أَنَّهُ مَا شُرِعَ الِاسْتِغْفَار إِلَّا لِأَهْلِ الدَّعْوَة لَا لِغَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانُوا نَاجِينَ،وَأَمَّا مَنْ يَقُول بِأَنَّهُمَا أُحْيِيَا لَهُ - صلى الله عليه وسلم - فَآمَنَا بِهِ فَيَحْمِل هَذَا الْحَدِيث عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْل الْإِخْبَار،وَأَمَّا مَنْ يَقُول بِمَنْعِ الِاسْتِغْفَار لَهُمَا قَطْعًا فَلَا حَاجَة إِلَى التَّأْوِيل فَاتَّضَحَ وَجْه الْحَدِيث عَلَى جَمِيع الْمَسَالِك.
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2045)(1/302)
قلت:حديث إحيائهما لا يصح من وجه،فلا حجَّة فيه (1) .
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - "إِنِّى نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا فَإِنَّ فِيهَا عِبْرَةً وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ النَّبِيذِ فَاشْرَبُوا وَلاَ أُحِلُّ مُسْكِراً وَنَهَيْتُكُمْ عَنِ الأَضَاحِىِّ فَكُلُوا ». رواه أحمد (2)
عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُزَهِّدُ فِى الدُّنْيَا وَتُذَكِّرُ الآخِرَةَ » (3) .
وعَنْ هَانِئٍ،مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ: كَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ،فَقِيلَ لَهُ: تَذْكُرُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَلَا تَبْكِي وَتَبْكِي مِنْ هَذَا ؟ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:"إِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنْزِلِ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ،فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ،وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ ".قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :"مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلَّا الْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْهُ"" (4)
وعَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ:خَرَجْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى الْمَقْبَرَةِ،فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى الْقُبُورِ بَكَى،ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ:يَا أَبَا أَيُّوبَ،" هَذِهِ قُبُورُ آبَائِي بَنِي أُمَيَّةَ،كَأَنَّهُمْ لَمْ يُشَارِكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي لَذَّتِهِمْ وَعَيْشِهِمْ،أَمَا تَرَاهُمْ صَرْعَى قَدْ خَلَتْ بِهِمُ الْمَثُلَاتُ،وَاسْتَحْكَمَ فِيهِمُ الْبَلَاءُ،وَأَصَابَتِ الْهَوَامُّ فِي أَبْدَانِهِمْ مَقِيلًا ؟ ثُمَّ بَكَى حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ،ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ:انْطَلِقْ بِنَا،فَوَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَنْعَمَ مِمَّنْ صَارَ إِلَى هَذِهِ الْقُبُورِ،وَقَدْ أَمِنَ عَذَابَ اللهِ" (5)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ. (6)
وقال الترمذي: قَالَ وَفِى الْبَابِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ. قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَقَدْ رَأَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ هَذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يُرَخِّصَ النَّبِىُّ -
__________
(1) - انظر كتابي (( الإيمان باليوم الآخر وأهواله )) ففيه تفصيل حول أبوي المصطفى صلى الله عليه وسلم
(2) - 3/ 38 (11637) ونص 8/311 والمجمع 3/57 و58 (4299) وش (11808) وهو حديث صحيح.
(3) - سنن ابن ماجه- المكنز - (1638 ) صحيح
(4) - المستدرك للحاكم (1373) وشعب الإيمان - (13 / 135) (10069 ) حسن
(5) - حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ (7405 )
(6) - سنن الترمذى- المكنز - (1076) حسن(1/303)
- صلى الله عليه وسلم - فِى زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَلَمَّا رَخَّصَ دَخَلَ فِى رُخْصَتِهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّمَا كُرِهَ زِيَارَةُ الْقُبُورِ لِلنِّسَاءِ لِقِلَّةِ صَبْرِهِنَّ وَكَثْرَةِ جَزَعِهِنَّ. اهـ
وحمله بعضهم على تحريم زيارتهن للمقابر مطلقاً،وحمله آخرون على ما إذا ارتكبن محذورات كلطم ونواح وتكشف،وأجازوه إذا خلا من المحذورات لعموم النصوص التي تحث على زيارة القبور،لأنها تذكر الآخرة،والنساء بحاجة لذلك كالرجال تماماً .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :مَا مِنْ أَحَدٍ مَرَّ بِقَبْرِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا،فَسَلَّمَ عَلَيْهِ إِلاَّ عَرَفَهُ وَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ (1)
وقال ابن كثير رحمه في تفسيره :وقد استدلت أم المؤمنين عائشة،رضي الله عنها،بهذه الآية: { إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى }،على توهيم عبد الله بن عمر في روايته مخاطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - القتلى الذين ألقوا في قَلِيب بدر،بعد ثلاثة أيام،ومعاتبته إياهم وتقريعه لهم،حتى قال له عمر: يا رسول الله،ما تخاطب من قوم قد جَيَّفوا ؟ فقال: "والذي نفسي بيده،ما أنتم بأسمع لما أقول منهم،ولكن لا يجيبون". وتأولته عائشة على أنه قال: "إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق"
وقال قتادة:أحياهم الله له حتى سمعوا مقالته تقريعًا وتوبيخًا ونقمة.
والصحيح عند العلماء رواية ابن عمر،لما لها من الشواهد على صحتها من وجوه كثيرة،من أشهر ذلك ما رواه ابن عبد البر مصححًا [له]،عن ابن عباس مرفوعًا: "ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم،كان يعرفه في الدنيا،فيسلم عليه،إلا رد الله عليه روحه،حتى يرد عليه السلام" .
[وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له،إذا انصرفوا عنه،وقد شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته إذا سلموا على أهل القبور أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول المسلم: السلام عليكم دار قوم مؤمنين،وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل،ولولا هذا الخطاب لكانوا بمنزلة خطاب المعدوم والجماد،والسلف مجمعون على هذا،وقد تواترت الآثار عنهم بأن
__________
(1) - تفسير ابن كثير - دار طيبة - (6 / 325) والفيض (8062) ودليل الفالحين (3583) والاستذكار 1/184 وهو حديث حسن(1/304)
الميت يعرف بزيارة الحي له ويستبشر،فروى ابن أبي الدنيا في كتاب القبور عن عائشة،رضي الله عنها،قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده،إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم". ثم ذكر روايات عديدة قال عقبها:" وقد شرع السلام على الموتى،والسلام على مَنْ لم يشعر ولا يعلم بالمسلم محال،وقد علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته إذا رأوا القبور أن يقولوا: "سلام عليكم أهل الديار من المؤمنين،وإنا إن شاء الله بكم لاحقون،يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين،نسأل الله لنا ولكم العافية"،فهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويرد،وإن لم يسمع المسلم الرد،والله أعلم] (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:قَالَ أَبُو رَزِينٍ:يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ طَرِيقِي عَلَى الْمَوْتَى فَهَلْ مِنْ كَلَامٍ أَتَكَلَّمُ بِهِ إِذَا مَرَرْتُ عَلَيْهِمْ ؟ قَالَ:" قُلِ:السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْقُبُورِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ،أَنْتُمْ لَنَا سَلَفٌ وَنَحْنُ لَكُمْ تَبَعٌ،وَإِنَّا إِنَّ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ "،قَالَ:أَبُو رَزِينٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَسْمَعُونَ ؟ قَالَ:" يَسْمَعُونَ وَلَكِنْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُجِيبُوا "،قَالَ:" يَا أَبَا رَزِينُ أَلَا تَرْضَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْكَ بِعَدَدِهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ ".أخرجه العقيلي (2)
قَال ابْنُ الْقَيِّمِ:وَهَذَا خِطَابٌ لِمَنْ يَسْمَعُ وَيَعْقِل،وَلَوْلاَ ذَلِكَ لَكَانَ هَذَا الْخِطَابُ بِمَنْزِلَةِ خِطَابِ الْمَعْدُومِ وَالْجَمَادِ،وَالسَّلَفُ مُجْمِعُونَ عَلَى هَذَا،وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الآْثَارُ بِأَنَّ الْمَيِّتَ يَعْرِفُ زِيَارَةَ الْحَيِّ لَهُ وَيَسْتَبْشِرُ بِهِ (3) .
وَجَاءَ فِي فَتَاوَى الْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلاَمِ:وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَيِّتَ يَعْرِفُ الزَّائِرَ،لأَِنَّا أُمِرْنَا بِالسَّلاَمِ عَلَيْهِمْ،وَالشَّرْعُ لاَ يَأْمُرُ بِخِطَابِ مَنْ لاَ يَسْمَعُ (4) .
__________
(1) - تفسير ابن كثير - (ج 6 / ص 324)
(2) - الضُّعَفَاءُ الْكَبِيرِ لِلْعُقَيْلِيِّ (1719 ) وفيه جهالة ، وله شواهد بنحوه عن عائشة وابن عباس وأبي هريرة وبريدة انظرها في جامع الأصول 11/154 - 158
(3) - الروح ص 7 ، 8 .
(4) - فتاوى العز بن عبد السلام ص 44 . وانظر تفسير ابن كثير - دار طيبة - (6 / 325) والموسوعة الفقهية الكويتية - (39 / 257)(1/305)
وعَنْ عَائِشَةَ،قَالَتْ كُنْتُ أَدْخُلُ بَيْتِي الَّذِي دُفِنَ فِيهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَأَبِي فَأَضَعُ ثَوْبِي،وَأَقُولُ إِنَّمَا هُوَ زَوْجِي وَأَبِي،فَلَمَّا دُفِنَ عُمَرُ مَعَهُمْ فَوَاللَّهِ مَا دَخَلْتُهُ إِلاَّ وَأَنَا مَشْدُودَةٌ عَلَيَّ ثِيَابِي،حَيَاءً مِنْ عُمَرَ. (1)
وهذا يدل على ورعها وعمق إيمانها وحيائها من الله تعالى،هذه المرأة المصون هي التي أراد المنافقون أن يلطخوا سمعتها بإفكهم فنزل القرآن ببراءتها وعفتها،لذلك فمن وقع فيها أو اتهمها فإنما يتهم الله تعالى ويكذب النص القرآني القاطع - عافانا الله من ذلك، (2)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 389)(25660) 26179- صحيح
(2) - راجع كتاب عائشة أم المؤمنين للأستاذ عبد الحميد طهماز ط دار القلم(1/306)
الحق التاسع والثلاثون
لا يحسده ولا يغدر به ولا يغشه
أولا- النهي عن الحسد :
عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَقَاطَعُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا ». (1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ تَحَسَّسُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا » (2) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا ». وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ « بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ ». (3)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ ». أَوْ قَالَ « الْعُشْبَ » (4) .
وقال أَبُو سَعِيدٍ الْغِفَارِيُّ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،يَقُولُ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، يَقُولُ:سَيُصِيبُ أُمَّتِي دَاءُ الأُمَمِ،فَقَالُوا:يَا رَسُولَ اللَّهِ،وَمَا دَاءُ الأُمَمِ ؟ قَالَ:الأَشَرُ،وَالْبَطَرُ،وَالتَّكَاثُرُ،وَالتَّنَاجُشُ فِي الدُّنْيَا،وَالتَّبَاغُضُ،وَالتَّحَاسُدُ،حَتَّى يَكُونَ الْبَغْيُ " (5)
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6695 )
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6703 )
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (6706 )
(4) - سنن أبي داود - المكنز - (4905 ) وسنن ابن ماجة- طبع مؤسسة الرسالة - (5 / 295)(4210) حسن لغيره
(5) - المستدرك للحاكم (7311) حسن(1/307)
وعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ،أَنَّ يَعِيشَ بْنَ الْوَلِيدِ بْنِ هِشَامٍ،حَدَّثَهُ أَنَّ مَوْلًى لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمُ الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ،وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ وَلَكِنَّهَا تَحْلِقُ الدِّينَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَاكَ لَكُمْ:أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ. (1)
وعَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ:الْحَسَدُ،وَالْبَغْضَاءُ،وَالْبَغْضَاءُ هِيَ:الْحَالِقَةُ،حَالِقَةُ الدِّينِ لاَ حَالِقَةُ الشَّعَرِ،وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ،لاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا،أَفَلا أُنَبِّئُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ،أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ. (2)
الْحَسَدُ (3) :
الْحَسَدُ بِفَتْحِ السِّينِ أَكْثَرُ مِنْ سُكُونِهَا مَصْدَرُ حَسَدَ،وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَتَمَنَّى الْحَاسِدُ زَوَال نِعْمَةِ الْمَحْسُودِ (4) ، . وَأَمَّا مَعْنَى الْحَسَدِ فِي الاِصْطِلاَحِ فَلاَ يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (5) .
أَسْبَابُ الْحَسَدِ :
سَبَبُ الْحَسَدِ أَنَّ الطِّبَاعَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ التَّرَفُّعِ عَلَى الْجِنْسِ،فَإِِذَا رَأَى لِغَيْرِهِ مَا لَيْسَ لَهُ أَحَبَّ أَنْ يَزُول ذَلِكَ عَنْهُ إِلَيْهِ لِيَرْتَفِعَ عَلَيْهِ أَوْ مُطْلَقًا لِيُسَاوِيَهُ (6) .
وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الإِِْحْيَاءِ سَبْعَةَ أَسْبَابٍ لِلْحَسَدِ :
السَّبَبُ الأَْوَّل:الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ،وَهَذَا أَشَدُّ أَسْبَابِ الْحَسَدِ،فَإِِنَّ مَنْ آذَاهُ شَخْصٌ بِسَبَبٍ مِنَ الأَْسْبَابِ وَخَالَفَهُ فِي غَرَضٍ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ أَبْغَضَهُ قَلْبُهُ،وَغَضِبَ عَلَيْهِ،وَرَسَخَ فِي نَفْسِهِ
__________
(1) - مسند الطيالسي - (1 / 159)(190) حسن لغيره
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 450)(1412) وصحيح الجامع (3361) حسن لغيره
(3) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (17 / 269)
(4) - انظر الصحاح والقاموس واللسان والمصباح مادة : " حسد " .
(5) - التعريفات للجرجاني / 117 ط العربي ، تحفة المريد على جوهر التوحيد / 126 ط الأزهرية .
(6) - فتح الباري 1 / 166 ط الرياض .(1/308)
الْحِقْدُ . وَالْحِقْدُ يَقْتَضِي التَّشَفِّيَ وَالاِنْتِقَامَ فَإِِنْ عَجَزَ عَنْ أَنْ يَتَشَفَّى بِنَفْسِهِ أَحَبَّ أَنْ يَتَشَفَّى مِنْهُ الزَّمَانُ .
السَّبَبُ الثَّانِي:التَّعَزُّزُ،وَهُوَ أَنْ يَثْقُل عَلَيْهِ أَنْ يَتَرَفَّعَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ،فَإِِذَا أَصَابَ بَعْضُ أَمْثَالِهِ وِلاَيَةً أَوْ عِلْمًا أَوْ مَالاً خَافَ أَنْ يَتَكَبَّرَ عَلَيْهِ،وَهُوَ لاَ يُطِيقُ تَكَبُّرَهُ،وَلاَ تَسْمَحُ نَفْسُهُ بِاحْتِمَال صَلَفِهِ وَتَفَاخُرِهِ عَلَيْهِ،وَلَيْسَ مِنْ غَرَضِهِ أَنْ يَتَكَبَّرَ،بَل غَرَضُهُ أَنْ يَدْفَعَ كِبْرَهُ،فَإِِنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِمُسَاوَاتِهِ مَثَلاً،وَلَكِنْ لاَ يَرْضَى بِالتَّرَفُّعِ عَلَيْهِ .
السَّبَبُ الثَّالِثُ:الْكِبْرُ،وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي طَبْعِهِ أَنْ يَتَكَبَّرَ عَلَيْهِ وَيَسْتَصْغِرَهُ وَيَسْتَخْدِمَهُ وَيَتَوَقَّعَ مِنْهُ الاِنْقِيَادَ لَهُ وَالْمُتَابَعَةَ فِي أَغْرَاضِهِ،وَمِنَ التَّكَبُّرِ وَالتَّعَزُّزِ كَانَ حَسَدُ أَكْثَرِ الْكُفَّارِ لِرَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ قَالُوا:كَيْفَ يَتَقَدَّمُ عَلَيْنَا غُلاَمٌ يَتِيمٌ وَكَيْفَ نُطَأْطِئُ رُءُوسَنَا لَهُ فَقَالُوا:{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (31) سورة الزخرف.
السَّبَبُ الرَّابِعُ:التَّعَجُّبُ،كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الأُْمَمِ السَّالِفَةِ إِذْ قَالُوا:{قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} (15) سورة يس . وَقَالُوا:{ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} (47) سورة المؤمنون، {وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ } (34) سورة المؤمنون،فَتَعَجَّبُوا مِنْ أَنْ يَفُوزَ بِرُتْبَةِ الرِّسَالَةِ وَالْوَحْيِ وَالْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بَشَرٌ مِثْلُهُمْ،فَحَسَدُوهُمْ،وَأَحَبُّوا زَوَال النُّبُوَّةِ عَنْهُمْ جَزَعًا أَنْ يُفَضَّل عَلَيْهِمْ مَنْ هُوَ مِثْلُهُمْ فِي الْخِلْقَةِ،لاَ عَنْ قَصْدِ تَكَبُّرٍ،وَطَلَبِ رِئَاسَةٍ،وَتَقَدُّمِ عَدَاوَةٍ،أَوْ سَبَبٍ آخَرَ مِنْ سَائِرِ الأَْسْبَابِ .
السَّبَبُ الْخَامِسُ:الْخَوْفُ مِنْ فَوْتِ الْمَقَاصِدِ وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِمُتَزَاحِمَيْنِ عَلَى مَقْصُودٍ وَاحِدٍ،فَإِِنَّ كُل وَاحِدٍ يَحْسُدُ صَاحِبَهُ فِي كُل نِعْمَةٍ تَكُونُ عَوْنًا لَهُ فِي الاِنْفِرَادِ بِمَقْصُودِهِ،وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ تَحَاسُدُ الضَّرَائِرِ فِي التَّزَاحُمِ عَلَى مَقَاصِدِ الزَّوْجِيَّةِ،وَتَحَاسُدُ الإِِْخْوَةِ فِي التَّزَاحُمِ عَلَى نَيْل الْمَنْزِلَةِ فِي قَلْبِ الأَْبَوَيْنِ .
السَّبَبُ السَّادِسُ:حُبُّ الرِّئَاسَةِ وَطَلَبُ الْجَاهِ لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَصُّلٍ بِهِ إِِلَى مَقْصُودٍ،وَذَلِكَ كَالرَّجُل الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عَدِيمَ النَّظِيرِ فِي فَنٍّ مِنَ الْفُنُونِ إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ الثَّنَاءِ(1/309)
وَاسْتَفَزَّهُ الْفَرَحُ بِمَا يُمْدَحُ بِهِ،فَإِِنَّهُ لَوْ سَمِعَ بِنَظِيرٍ لَهُ فِي أَقْصَى الْعَالَمِ لَسَاءَهُ ذَلِكَ،وَأَحَبَّ مَوْتَهُ،أَوْ زَوَال النِّعْمَةِ عَنْهُ .
السَّبَبُ السَّابِعُ:خُبْثُ النَّفْسِ وَشُحُّهَا بِالْخَيْرِ لِعِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى،فَإِِنَّك تَجِدُ مَنْ لاَ يَشْتَغِل بِرِيَاسَةٍ وَتَكَبُّرٍ وَلاَ طَلَبِ مَالٍ،إِذَا وُصِفَ عِنْدَهُ حُسْنُ حَال عَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ يَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ،وَإِِذَا وُصِفَ لَهُ اضْطِرَابُ أُمُورِ النَّاسِ،وَإِِدْبَارُهُمْ،وَفَوَاتُ مَقَاصِدِهِمْ،وَتَنَغُّصُ عَيْشِهِمْ فَرِحَ بِهِ،فَهُوَ أَبَدًا يُحِبُّ الإِِْدْبَارَ لِغَيْرِهِ،وَيَبْخَل بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ كَأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ ذَلِكَ مِنْ مِلْكِهِ وَخَزَائِنِهِ (1) .
أَقْسَامُ الْحَسَدِ :
ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ الْحَسَدَ قِسْمَانِ :
أَحَدُهُمَا حَقِيقِيٌّ:وَهُوَ أَنْ يَتَمَنَّى زَوَال النِّعْمَةِ عَنْ صَاحِبِهَا .
وَالثَّانِي مَجَازِيٌّ:وَهُوَ أَنْ يَتَمَنَّى مِثْل النِّعْمَةِ الَّتِي عِنْدَ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ زَوَالِهَا عَنْ صَاحِبِهَا وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْغِبْطَةِ (2) .
مَرَاتِبُ الْحَسَدِ :
مَرَاتِبُ الْحَسَدِ أَرْبَعَةٌ :
الأُْولَى:أَنْ يُحِبَّ الْحَاسِدُ زَوَال النِّعْمَةِ عَنِ الْمَحْسُودِ،وَإِِنْ كَانَ ذَلِكَ لاَ يَنْتَقِل إِلَيْهِ،وَهَذَا غَايَةُ الْخُبْثِ .
الثَّانِيَةُ:أَنْ يُحِبَّ زَوَال النِّعْمَةِ عَنِ الْمَحْسُودِ إِلَيْهِ لِرَغْبَتِهِ فِي تِلْكَ النِّعْمَةِ،مِثْل رَغْبَتِهِ فِي دَارٍ حَسَنَةٍ،أَوِ امْرَأَةٍ جَمِيلَةٍ،أَوْ وِلاَيَةٍ نَافِذَةٍ،أَوْ سَعَةٍ نَالَهَا غَيْرُهُ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ تَكُونَ لَهُ وَمَطْلُوبُهُ تِلْكَ النِّعْمَةُ لاَ زَوَالُهَا عَنْهُ،وَمَكْرُوهُهُ فَقْدُ النِّعْمَةِ لاَ تَنَعُّمُ غَيْرِهِ بِهَا .
الثَّالِثَةُ:أَنْ لاَ يَشْتَهِيَ الْحَاسِدُ عَيْنَ النِّعْمَةِ لِنَفْسِهِ بَل يَشْتَهِي مِثْلَهَا،فَإِِنْ عَجَزَ عَنْ مِثْلِهَا أَحَبَّ زَوَالَهَا كَيْ لاَ يَظْهَرَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا .
الرَّابِعَةُ:الْغِبْطَةُ،وَهِيَ أَنْ يَشْتَهِيَ لِنَفْسِهِ مِثْل النِّعْمَةِ،فَإِِنْ لَمْ تَحْصُل فَلاَ يُحِبُّ زَوَالَهَا عَنْهُ .
__________
(1) - إحياء علوم الدين 3 / 188 - 190 ط الحلبي .
(2) - صحيح مسلم بشرح النووي 6 / 97 ط المصرية .(1/310)
وَهَذَا الأَْخِيرُ هُوَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ إِنْ كَانَ فِي شَأْنٍ دُنْيَوِيٍّ،وَالْمَنْدُوبُ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ فِي شَأْنٍ دِينِيٍّ،وَالثَّالِثَةُ فِيهَا مَذْمُومٌ وَغَيْرُ مَذْمُومٍ،وَالثَّانِيَةُ أَخَفُّ مِنَ الثَّالِثَةِ،وَالأُْولَى مَذْمُومَةٌ مَحْضَةٌ . وَتَسْمِيَةُ هَذِهِ الرُّتْبَةِ الأَْخِيرَةِ حَسَدًا فِيهِ تَجَوُّزٌ وَتَوَسُّعٌ،وَلَكِنَّهُ مَذْمُومٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (32) سورة النساء، فَتَمَنِّيهِ لِمِثْل ذَلِكَ غَيْرُ مَذْمُومٍ،وَأَمَّا تَمَنِّيهِ عَيْنَ ذَلِكَ فَهُوَ مَذْمُومٌ (1) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ :
الْحَسَدُ إِنْ كَانَ حَقِيقِيًّا،أَيْ بِمَعْنَى تَمَنِّي زَوَال النِّعْمَةِ عَنِ الْغَيْرِ فَهُوَ حَرَامٌ بِإِِجْمَاعِ الأُْمَّةِ،لأَِنَّهُ اعْتِرَاضٌ عَلَى الْحَقِّ،وَمُعَانَدَةٌ لَهُ،وَمُحَاوَلَةٌ لِنَقْضِ مَا فَعَلَهُ،وَإِِزَالَةُ فَضْل اللَّهِ عَمَّنْ أَهَّلَهُ لَهُ،وَالأَْصْل فِي تَحْرِيمِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْمَعْقُول .
أَمَّا الْكِتَابُ:فَقَوْلُهُ تَعَالَى:{وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (5) سورة الفلق، فَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالاِسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّ الْحَاسِدِ،وَشَرُّهُ كَثِيرٌ،فَمِنْهُ مَا هُوَ غَيْرُ مُكْتَسَبٍ وَهُوَ إِصَابَةُ الْعَيْنِ،وَمِنْهُ مَا هُوَ مُكْتَسَبٌ كَسَعْيِهِ فِي تَعْطِيل الْخَيْرِ عَنْهُ وَتَنْقِيصِهِ عِنْدَ النَّاسِ،وَرُبَّمَا دَعَا عَلَيْهِ أَوْ بَطَشَ بِهِ إِِلَى غَيْرِ ذَلِكَ .
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي الْحَاسِدِ الَّذِي وَرَدَ الأَْمْرُ بِالاِسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّهِ:فَقَال قَتَادَةَ:الْمُرَادُ شَرُّ عَيْنِهِ وَنَفْسِهِ . وَقَال آخَرُونَ:بَل أُمِرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِهَذِهِ الآْيَةِ أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنْ شَرِّ الْيَهُودِ الَّذِينَ حَسَدُوهُ،وَالأَْوْلَى بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ كَمَا قَال الطَّبَرِيُّ:إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُمِرَ بِأَنْ يَسْتَعِيذَ مِنْ شَرِّ كُل حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ . وَإِِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ،لأَِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَل لَمْ يَخْصُصْ مِنْ قَوْلِهِ:{ وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } حَاسِدًا دُونَ حَاسِدٍ بَل عَمَّ أَمْرُهُ إِيَّاهُ بِالاِسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّ كُل حَاسِدٍ فَذَلِكَ عَلَى عُمُومِهِ (2) .
وَالْحَاسِدُ كَمَا قَال الْقُرْطُبِيُّ عَدُوُّ نِعْمَةِ اللَّهِ .
__________
(1) - إحياء علوم الدين 3 / 188 ط الحلبي .
(2) - تفسير الطبري 30 / 228 ط الثانية - الأميرية وأحكام القرآن للجصاص 3 / 588 ط البهية .(1/311)
قَال بَعْضُ الْحُكَمَاءِ:بَارَزَ الْحَاسِدُ رَبَّهُ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ:أَحَدُهَا:أَنَّهُ أَبْغَضَ كُل نِعْمَةٍ ظَهَرَتْ عَلَى غَيْرِهِ . ثَانِيهَا:أَنَّهُ سَاخِطٌ لِقِسْمَةِ رَبِّهِ كَأَنَّهُ يَقُول:لِمَ قَسَمْتَ هَذِهِ الْقِسْمَةَ ؟
ثَالِثُهَا:أَنَّهُ ضَادَّ فِعْل اللَّهِ،أَيْ إِنَّ فَضْل اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ،وَهُوَ يَبْخَل بِفَضْل اللَّهِ .
وَرَابِعُهَا:أَنَّهُ خَذَل أَوْلِيَاءَ اللَّهِ،أَوْ يُرِيدُ خِذْلاَنَهُمْ وَزَوَال النِّعْمَةِ عَنْهُمْ .
وَخَامِسُهَا:أَنَّهُ أَعَانَ عَدُوَّهُ إِبْلِيسَ (1) .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ فَإِِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُل الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُل النَّارُ الْحَطَبَ أَوِ الْعُشْبَ. (2)
وَأَمَّا الْمَعْقُول فَإِِنَّ الْحَاسِدَ مَذْمُومٌ،فَقَدْ قِيل :
إِنَّ الْحَاسِدَ لاَ يَنَال فِي الْمَجَالِسِ إِلاَّ نَدَامَةً،وَلاَ يَنَال عِنْدَ الْمَلاَئِكَةِ إِلاَّ لَعْنَةً وَبَغْضَاءَ،وَلاَ يَنَال فِي الْخَلْوَةِ إِلاَّ جَزَعًا وَغَمًّا،وَلاَ يَنَال فِي الآْخِرَةِ إِلاَّ حُزْنًا وَاحْتِرَاقًا،وَلاَ يَنَال مِنَ اللَّهِ إِلاَّ بُعْدًا وَمَقْتًا (3) .
وَيُسْتَثْنَى مِنْ تَحْرِيمِ الْحَسَدِ مَا إِذَا كَانَتِ النِّعْمَةُ
أَمَّا إِذَا كَانَ الْحَسَدُ مَجَازِيًّا،أَيْ بِمَعْنَى الْغِبْطَةِ فَإِِنَّهُ مَحْمُودٌ فِي الطَّاعَةِ،وَمَذْمُومٌ فِي الْمَعْصِيَةِ،وَمُبَاحٌ فِي الْجَائِزَاتِ،فعن قَيْسَ بْنَ أَبِى حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِى اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِى الْحَقِّ،وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ،فَهْوَ يَقْضِى بِهَا وَيُعَلِّمُهَا » (4) .
وعَنْ سَالِمٍ،عَنْ أَبِيهِ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ:رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ،فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ،وَآنَاءَ النَّهَارِ،وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً،فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ آنَاءَ اللَّيْلِ،وَآنَاءَ النَّهَارِ. (5)
__________
(1) - صحيح مسلم بشرح النووي 6 / 97 ط المصرية ، فيض القدير للمناوي 3 / 125 ط التجارية ، تحفة المريد على جوهرة التوحيد / 126 ط الأزهرية .
(2) - مر تخريجه
(3) - تفسير القرطبي 20 / 260 ط المصرية ، تحفة المريد على جوهر التوحيد / 126 ط الأزهرية .
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (73 )
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (7529 ) وصحيح ابن حبان - (1 / 333) (125)(1/312)
أَيْ كَأَنَّهُ قَال:لاَ غِبْطَةَ أَعْظَمُ أَوْ أَفْضَل مِنَ الْغِبْطَةِ فِي هَذَيْنِ الأَْمْرَيْنِ (1) .
عِلاَجُ الْحَسَدِ :
ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الإِِْحْيَاءِ أَنَّ الْحَسَدَ مِنَ الأَْمْرَاضِ الْعَظِيمَةِ لِلْقُلُوبِ،وَلاَ تُدَاوَى أَمْرَاضُ الْقُلُوبِ إِلاَّ بِالْعِلْمِ وَالْعَمَل،وَالْعِلْمُ النَّافِعُ لِمَرَضِ الْحَسَدِ هُوَ أَنْ تَعْرِفَ تَحْقِيقًا أَنَّ الْحَسَدَ ضَرَرٌ عَلَى الْحَاسِدِ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ،وَأَنَّهُ لاَ ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمَحْسُودِ فِي الدُّنْيَا وَالدِّينِ .
أَمَّا كَوْنُهُ ضَرَرًا عَلَى الْحَاسِدِ فِي الدِّينِ،فَهُوَ أَنَّ الْحَاسِدَ بِالْحَسَدِ سَخِطَ قَضَاءَ اللَّهِ تَعَالَى،وَكَرِهَ نِعْمَتَهُ الَّتِي قَسَمَهَا بَيْنَ عِبَادِهِ،وَعَدْلَهُ الَّذِي أَقَامَهُ فِي مُلْكِهِ بِخَفِيِّ حِكْمَتِهِ،فَاسْتَنْكَرَ ذَلِكَ وَاسْتَبْشَعَهُ وَهَذِهِ جِنَايَةٌ عَلَى حَدَقَةِ التَّوْحِيدِ،وَقَذًى فِي عَيْنِ الإِِْيمَانِ،وَكَفَى بِهِمَا جِنَايَةً عَلَى الدِّينِ .
وَأَمَّا كَوْنُ الْحَسَدِ ضَرَرًا عَلَى الْحَاسِدِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ أَنَّهُ يَتَأَلَّمُ بِحَسَدِهِ فِي الدُّنْيَا،أَوْ يَتَعَذَّبُ بِهِ وَلاَ يَزَال فِي كَمَدٍ وَغَمٍّ،إِذْ أَعْدَاؤُهُ لاَ يُخَلِّيهِمُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ نِعَمٍ يُفِيضُهَا عَلَيْهِمْ،فَلاَ يَزَال يَتَعَذَّبُ بِكُل نِعْمَةٍ يَرَاهَا،وَيَتَأَلَّمُ بِكُل بَلِيَّةٍ تَنْصَرِفُ عَنْهُمْ فَيَبْقَى مَغْمُومًا مَحْرُومًا مُتَشَعِّبَ الْقَلْبِ ضَيِّقَ الصَّدْرِ قَدْ نَزَل بِهِ مَا يَشْتَهِيهِ الأَْعْدَاءُ لَهُ وَيَشْتَهِيهِ لأَِعْدَائِهِ،فَقَدْ كَانَ يُرِيدُ الْمِحْنَةَ لِعَدُوِّهِ فَتَنَجَّزَتْ فِي الْحَال مِحْنَتُهُ وَغَمُّهُ نَقْدًا،وَمَعَ هَذَا فَلاَ تَزُول النِّعْمَةُ عَنِ الْمَحْسُودِ بِحَسَدِهِ .
وَأَمَّا أَنَّهُ لاَ ضَرَرَ عَلَى الْمَحْسُودِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ فَوَاضِحٌ،لأَِنَّ النِّعْمَةَ لاَ تُزَال عَنْهُ بِالْحَسَدِ،بَل مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إِقْبَالٍ وَنِعْمَةٍ،فَلاَ بُدَّ أَنْ يَدُومَ إِِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَلاَ حِيلَةَ فِي دَفْعِهِ،بَل كُل شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ،وَلِكُل أَجَلٍ كِتَابٌ،وَمَهْمَا لَمْ تَزُل النِّعْمَةُ بِالْحَسَدِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَحْسُودِ ضَرَرٌ فِي الدُّنْيَا وَلاَ يَكُونُ عَلَيْهِ إِثْمٌ فِي الآْخِرَةِ،وَأَمَّا أَنَّ الْمَحْسُودَ يَنْتَفِعُ بِهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا فَوَاضِحٌ (2) .
الْقَدْرُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ مِنَ الْحَسَدِ وَعَكْسُهُ وَمَا فِيهِ خِلاَفٌ :
__________
(1) - فتح الباري 1 / 167 ط الرياض ، صحيح مسلم بشرح النووي 6 / 97 ط المصرية .
(2) - إحياء علوم الدين 3 / 193 - 195 طبعة الحلبي .(1/313)
ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ الْمَرْءَ لاَ يُمْكِنُهُ نَفْيُ الْحَسَدِ عَنْ قَلْبِهِ بِالْكُلِّيَّةِ،بَل يَبْقَى دَائِمًا فِي نِزَاعٍ مَعَ قَلْبِهِ،لأَِنَّهُ لاَ بُدَّ أَنْ يَبْقَى فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْحَسَدِ لأَِعْدَائِهِ،وَذَكَرَ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ لِلشَّخْصِ فِي أَعْدَائِهِ ثَلاَثَةَ أَحْوَالٍ :
أَحَدُهَا:أَنْ يُحِبَّ مَسَاءَتَهُمْ بِطَبْعِهِ،وَيَكْرَهَ حُبَّهُ لِذَلِكَ وَمَيْل قَلْبِهِ إِلَيْهِ بِعَقْلِهِ،وَيَمْقُتَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ،وَيَوَدَّ لَوْ كَانَتْ لَهُ حِيلَةٌ فِي إِزَالَةِ ذَلِكَ الْمَيْل مِنْهُ،وَهَذَا مَعْفُوٌّ عَنْهُ قَطْعًا،لأَِنَّهُ لاَ يَدْخُل تَحْتَ الاِخْتِيَارِ أَكْثَرُ مِنْهُ .
الثَّانِي:أَنْ يُحِبَّ ذَلِكَ وَيُظْهِرَ الْفَرَحَ بِمَسَاءَتِهِ إِمَّا بِلِسَانِهِ أَوْ بِجَوَارِحِهِ فَهَذَا . هُوَ الْحَسَدُ الْمَحْظُورُ قَطْعًا .
الثَّالِثُ:وَهُوَ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ أَنْ يَحْسُدَ بِالْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ مَقْتٍ لِنَفْسِهِ عَلَى حَسَدِهِ،وَمِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ مِنْهُ عَلَى قَلْبِهِ،وَلَكِنْ يَحْفَظُ جَوَارِحَهُ عَنْ طَاعَةِ الْحَسَدِ فِي مُقْتَضَاهُ،وَهَذَا فِي مَحَل الْخِلاَفِ،وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ يَخْلُو عَنْ إِثْمٍ بِقَدْرِ قُوَّةِ ذَلِكَ الْحُبِّ وَضَعْفِهِ (1) .
عِلاَجُ الْمَحْسُودِ مِمَّا لَحِقَ بِهِ مِنْ أَذًى بِسَبَبِ الْحَسَدِ :
الْمَقْصُودُ بِالْعِلاَجِ هُنَا الْعِلاَجُ النَّبَوِيُّ لِتِلْكَ الْعِلَّةِ وَهُوَ أَنْوَاعٌ :
أَحَدُهَا:الإِِْكْثَارُ مِنَ التَّعَوُّذِ،وَمِنْ ذَلِكَ قِرَاءَةُ الْمُعَوِّذَتَيْنِ،وَفَاتِحَةِ الْكِتَابِ،وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ،وَالتَّعَوُّذَاتِ النَّبَوِيَّةِ،نَحْوِ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ .
الثَّانِي:الرُّقَى:وَمِنْ أَمْثِلَتِهَا رُقْيَةُ جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - الَّتِي رَوَاهَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِى سَعِيدٍ أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ اشْتَكَيْتَ فَقَالَ « نَعَمْ ». قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ يُؤْذِيكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللَّهُ يَشْفِيكَ بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ. (2)
هَذَا وَمِمَّا يُدْفَعُ بِهِ ضَرَرُ الْحَاسِدِ عَنْ غَيْرِهِ دُعَاؤُهُ لِغَيْرِهِ بِالْبَرَكَةِ وَقَوْلَةُ:مَا شَاءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاَللَّهِ . فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ،قَالَ:مَرَّ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ بِسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ،وَهُوَ يَغْتَسِلُ فَقَالَ:لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ،وَلاَ جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ فَمَا لَبِثَ أَنْ لُبِطَ بِهِ،فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقِيلَ
__________
(1) - إحياء علوم الدين 3 / 196 ط الحلبي .
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (5829 )(1/314)
لَهُ:أَدْرِكْ سَهْلاً صَرِيعًا،قَالَ مَنْ تَتَّهِمُونَ بِهِ قَالُوا عَامِرَ بْنَ رَبِيعَةَ،قَالَ:عَلاَمَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ،إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مِنْ أَخِيهِ مَا يُعْجِبُهُ،فَلْيَدْعُ لَهُ بِالْبَرَكَةِ ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ،فَأَمَرَ عَامِرًا أَنْ يَتَوَضَّأَ،فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ،وَرُكْبَتَيْهِ وَدَاخِلَةَ إِزَارِهِ،وَأَمَرَهُ أَنْ يَصُبَّ عَلَيْهِ.
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ:خَرَجْتُ أَنَا وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ،نَلْتَمِسُ الْخَمْرَ،فَأَصَبْنَا غَدِيْرًا خَمْرًا،فَكَانَ أَحَدُنَا يَسْتَحِي أَنْ يَتَجَرَّدَ وَأَحَدٌ يَرَاهُ،فَاسْتَتَرَ حَتَّى إِذَا رَأَى أَنْ قَدْ فَعَلَ نَزَعَ جُبَّةَ صُوفٍ عَلَيْهِ،فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ فَأَعْجَبَنِي خَلْقُهُ فَأَصَبْتُهُ بِعَيْنٍ،فَأَخَذَتْهُ قَعْقَعَةٌ،فَدَعَوْتُهُ فَلَمْ يُجِبْنِي،فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ:" قُومُوا بِنَا " فَرَفَعَ عَنْ سَاقَيْهِ حَتَّى خَاضَ إِلَيْهِ الْمَاءَ،فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَضَحِ سَاقَيِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَضَرَبَ صَدْرَهُ وَقَالَ:" بِاسْمِ اللَّهِ،اللَّهُمَّ أَذْهِبْ حَرَّهَا وَبَرْدَهَا وَوَصَبَهَا،قُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ " فَقَامَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ أَخِيهِ شَيْئًا يُعْجِبُهُ فَلْيَدْعُ بِالْبَرَكَةِ،فَإِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ " (1)
قَالَ سُفْيَانُ:قَالَ مَعْمَرٌ،عَنِ الزُّهْرِيِّ:وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْفَأَ الإِنَاءَ مِنْ خَلْفِهِ. (2)
وعَنْ أَنَسٍ:أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:مَنْ رَأَى شَيْئًا فَأَعْجَبَهُ،فَقَالَ:مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلا بِاللَّهِ،لَمْ يَضُرَّهُ. (3)
وعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ الله عَنْهُ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - : مَا أَنْعَمَ الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً مِنْ أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ وَلَدٍ،فَيَقُولُ:مَا شَاءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِالله،فَيَرَى فِيهِ آفَةً دَونَ الْمَوْتِ وَكَأَنْ يَتَأَوَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ:وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ الله لا قُوَّةَ إِلا بِالله (4) .
وعن هِشَامَ بْنِ عُرْوَةَ , عَنْ أَبِيهِ , أَنَّهُ كَانَ إِذَا رَأَى مِنْ مَالِهِ شَيْئًا يُعْجِبُهُ , أَوْ دَخَلَ حَائِطًا مِنْ حِيطَانِهِ , قَالَ:مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ " (5)
__________
(1) - السُّنَنُ الْكُبْرَى لِلنَّسَائِي (9516 ) صحيح
(2) - سنن ابن ماجة- طبع مؤسسة الرسالة - (4 / 542) (3509) صحيح
(3) - كشف الأستار - (3 / 404)(3055) ضعيف
(4) - اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة -(5376) ضعيف
(5) - الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ لِلْبَيْهَقِيِّ( 364 ) صحيح -الحائط : البستان أو الحديقة وحوله جدار
وانظر : زاد المعاد 3 / 119 ط الحلبي ، وتبيين الحقائق مع حاشية الشلبي 6 / 16 - 17 ط بولاق ، وابن عابدين 5 / 232 - 233 .(1/315)
الآْثَارُ الْفِقْهِيَّةُ :
إِذَا أَدَّى الْحَسَدُ إِِلَى التَّلَفِ أَوِ الْقَتْل أَوِ اعْتَرَفَ الْحَاسِدُ بِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِالْعَيْنِ فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ خِلاَفٌ . فَقَال الْقُرْطُبِيُّ كَمَا ذَكَرَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ:لَوْ أَتْلَفَ الْعَائِنُ شَيْئًا ضَمِنَهُ،وَلَوْ قَتَل فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ أَوِ الدِّيَةُ،إِذَا تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ،بِحَيْثُ يَصِيرُ عَادَةً،وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَالسَّاحِرِ . وَتَذْكُرُ كُتُبُ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ الْعَائِنَ إِذَا أَصَابَ غَيْرَهُ بِالْعَيْنِ وَاعْتَرَفَ بِأَنَّهُ قَتَلَهُ بِالْعَيْنِ فَلاَ قِصَاصَ،وَإِِنْ كَانَتِ الْعَيْنُ حَقًّا،لأَِنَّهُ لاَ يُفْضِي إِِلَى الْقَتْل غَالِبًا،وَلاَ يُعَدُّ مُهْلِكًا،وَلاَ دِيَةَ فِيهِ وَلاَ كَفَّارَةَ،لأَِنَّ الْحُكْمَ إِنَّمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مُنْضَبِطٍ عَامٍّ دُونَ مَا يَخْتَصُّ بِبَعْضِ النَّاسِ فِي بَعْضِ الأَْحْوَال،فَمَا لاَ انْضِبَاطَ لَهُ كَيْفَ وَلَمْ يَقَعْ مِنْهُ فِعْلٌ أَصْلاً وَإِِنَّمَا غَايَتُهُ حَسَدٌ وَتَمَنٍّ لِزَوَال النِّعْمَةِ (1) .
فالحسد صفة شرار الخلق، فقد اتصف به إبليس، فحسد آدم لما رآه فاق الملائكة؛ حيث خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وأسكنه جنته، فما زال يسعى في إخراجه من الجنة حتى أخرج منها.
والحسد هو الذي حمل أحد ابني آدم على قتل أخيه ظلمًا، لما وهبه الله النعمة وتقبل القربان، وقد قص الله خبرهما في القرآن؛ تحذيرًا لنا من الحسد وبيانًا لعواقبه الوخيمة.
والحسد صفة اليهود كما ذكر الله في مواضع من كتابه، فقد حسدوا نبينا على ما آتاه الله من النبوة والمنزلة العظيمة، فكفروا به مع علمهم بصدقه وتيقنهم أنه نبي الله، وحسدوا هذه الأمة على ما منَّ الله به عليها من الهداية والإيمان، قال تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وله من الآثار السيئة ما لا يحصى، فمنها:
أن فيه اعتراضًا على الله في قضائه، واتهامًا له في قسمته بين عباده؛ لأن الحاسد يرى أن المحسود غير أهل لما آتاه الله، وأن غيره أولى منه.
__________
(1) - فتح الباري 10 / 205 ط الرياض ، أسنى المطالب 4 / 83 ط الميمنية ، روضة الطالبين 9 / 348 المكتب الإسلامي ، ومصطلح : ( عين ) .(1/316)
ومنها أن الحاسد منكر لحكمة الله في تدبيره، فهو سبحانه يعطي ويمنح لحكمة بالغة، والحاسد ينكر ذلك.
ومن آثار الحسد أنه يورث البغضاء بين الناس؛ لأن الحاسد يبغض المحسود، وهذا يتنافى مع واجب الأخوة بين المؤمنين، ..
ومن أضرار الحسد أنه يحمل الحاسد على محاولة إزالة النعمة عن المحسود بأي طريق ولو بقتله، كما قص الله تعالى عن ابني آدم في قوله: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ،وأخيرًا نفذ الجريمة، وباء بالإثم وخسارة الدنيا والآخرة، وصار عليه كفل من دم كل نفس تقتل ظلمًا؛ لأنه أول من سن القتل. وسبب ذلك كله والدافع إليه هو الحسد.
ومن أضرار الحسد أنه يمنع الحاسد من قبول الحق إذا جاء عن طريق المحسود، ويحمله على الاستمرار في الباطل الذي فيه هلاكه.
ومن أضراره أنه يحمل الحاسد على الوقوع في الغيبة والنميمة، فيغتاب المحسود ويسعى فيه بالنميمة، وهما خصلتان قبيحتان وكبيرتان من كبائر الذنوب.
ومن أضرار الحسد أنه يذهب بالحسنات والأعمال الصالحة، ...
ومن أضراره أن الحاسد لا يزال في همّ وقلق وغيظ لما يرى من تنزل فضل الله على عباده (1)
-------------
ثانيا- النهي عن الغدر :
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا،وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهَا كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا:إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ،وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ،وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ،وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ. (2)
__________
(1) - موسوعة خطب المنبر - الإصدار الثاني - (1 / 5344)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (34 ) وصحيح مسلم- المكنز - (219) و صحيح ابن حبان - (1 / 488) (254)(1/317)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :أَرْبَعُ خِلاَلٍ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا:مَنْ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ،وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ،وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ،وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ. وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ. (1)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ،قَالَ:قَالَ عَبْدُ اللهِ:اعْتَبِرُوا الْمُنَافِقَ بِثَلاَثٍ:إذَا حَدَّثَ كَذَبَ،وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ،وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ. (2)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ , قَالَ:قَالَ عَبْدُ اللَّهِ:اعْتَبِرُوا الْمُنَافِقَ بِثَلاَثٍ:إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ , وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ . ثُمَّ قَرَأَ :{ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) [التوبة:75 - 77]} . (3)
وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ , أَنَّهُ قَالَ:ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ:إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ , وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ , وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ . قَالَ:فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ , قَالَ حَسَنٌ:وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ , وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ. (4)
قال النووي:" هَذَا الْحَدِيث مِمَّا عَدَّهُ جَمَاعَة مِنَ الْعُلَمَاء مُشْكِلًا مِنْ حَيْثُ إِنَّ هَذِهِ الْخِصَال تُوجَد فِي الْمُسْلِم الْمُصَدِّق الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَكٌّ . وَقَدْ أَجْمَع الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مُصَدِّقًا بِقَلْبِهِ وَلِسَانه وَفَعَلَ هَذِهِ الْخِصَال لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِكُفْرٍ،وَلَا هُوَ مُنَافِق يُخَلَّد فِي النَّار ؛ فَإِنَّ إِخْوَة يُوسُف صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعُوا هَذِهِ الْخِصَال . وَكَذَا وُجِدَ لِبَعْضِ السَّلَف وَالْعُلَمَاء بَعْض هَذَا أَوْ كُلّه . وَهَذَا الْحَدِيث لَيْسَ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّه تَعَالَى إِشْكَال،وَلَكِنْ اِخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي مَعْنَاهُ . فَاَلَّذِي قَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ وَالْأَكْثَرُونَ وَهُوَ الصَّحِيح
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3178 ) وصحيح ابن حبان - (1 / 489) (255)
فجر : مال عن الحق وقال الباطل والكذب - الخصلة : خلق في الإنسان يكون فضيلة أو رزيلة
(2) - مصنف ابن أبي شيبة - (8 / 406) (26124) صحيح
(3) - السنة لأحمد بن محمد الخلال - (5 / 70) (1640) صحيح
(4) - السنة لأحمد بن محمد الخلال - (4 / 110)(1287) و(5 / 68)(1632) صحيح(1/318)
الْمُخْتَار:أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ هَذِهِ الْخِصَال خِصَال نِفَاق،وَصَاحِبهَا شَبِيه بِالْمُنَافِقِ فِي هَذِهِ الْخِصَال،وَمُتَخَلِّق بِأَخْلَاقِهِمْ . فَإِنَّ النِّفَاق هُوَ إِظْهَار مَا يُبْطِن خِلَافه،وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُود فِي صَاحِب هَذِهِ الْخِصَال،وَيَكُون نِفَاقه فِي حَقّ مَنْ حَدَّثَهُ،وَوَعَدَهُ،وَائْتَمَنَهُ،وَخَاصَمَهُ،وَعَاهَدَهُ مِنْ النَّاس،لَا أَنَّهُ مُنَافِق فِي الْإِسْلَام فَيُظْهِرُهُ وَهُوَ يُبْطِنُ الْكُفْر . وَلَمْ يُرِدْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا أَنَّهُ مُنَافِق نِفَاق الْكُفَّار الْمُخَلَّدِينَ فِي الدَّرْك الْأَسْفَل مِنْ النَّار .
وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:( كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ) مَعْنَاهُ شَدِيد الشَّبَه بِالْمُنَافِقِينَ بِسَبَبِ هَذِهِ الْخِصَال . قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء:وَهَذَا فِيمَنْ كَانَتْ هَذِهِ الْخِصَال غَالِبَة عَلَيْهِ . فَأَمَّا مَنْ يَنْدُر فَلَيْسَ دَاخِلًا فِيهِ . فَهَذَا هُوَ الْمُخْتَار فِي مَعْنَى الْحَدِيث . وَقَدْ نَقَلَ الْإِمَام أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ مَعْنَاهُ عَنِ الْعُلَمَاء مُطْلَقًا فَقَالَ:إِنَّمَا مَعْنَى هَذَا عِنْد أَهْل الْعِلْم نِفَاقُ الْعَمَل . وَقَالَ جَمَاعَة مِنَ الْعُلَمَاء:الْمُرَاد بِهِ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثُوا بِإِيمَانِهِمْ،وَكَذَبُوا،وَاُؤْتُمِنُوا عَلَى دِينهمْ فَخَانُوا،وَوَعَدُوا فِي أَمْر الدِّين وَنَصْره فَأَخْلَفُوا،وَفَجَرُوا فِي خُصُومَاتهمْ . وَهَذَا قَوْل سَعِيد بْن جُبَيْر،وَعَطَاء بْن أَبِي رَبَاح . وَرَجَعَ إِلَيْهِ الْحَسَن الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّه بَعْد أَنْ كَانَ عَلَى خِلَافه . وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ اِبْن عَبَّاس وَابْن عُمَر رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ،وَرَوَيَاهُ أَيْضًا عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رَحِمَهُ اللَّه:وَإِلَيْهِ مَال كَثِير مِنْ أَئِمَّتنَا . وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّه قَوْلًا آخَر أَنَّ مَعْنَاهُ التَّحْذِير لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَعْتَاد هَذِهِ الْخِصَال الَّتِي يُخَاف عَلَيْهِ أَنْ تُفْضِي بِهِ إِلَى حَقِيقَة النِّفَاق . وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ:رَحِمَهُ اللَّه أَيْضًا عَنْ بَعْضهمْ أَنَّ الْحَدِيث وَرَدَ فِي رَجُل بِعَيْنِهِ مُنَافِق وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُوَاجِههُمْ بِصَرِيحِ الْقَوْل،فَيَقُول:فُلَان مُنَافِق،وَإِنَّمَا كَانَ يُشِير إِشَارَة كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَال أَقْوَام يَفْعَلُونَ كَذَا ؟ وَاَللَّه أَعْلَم ." (1)
__________
(1) - شرح النووي على مسلم - (1 / 150)(1/319)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ فِي الْقِيَامَةِ،وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ أَخْصِمْهُ:رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ،وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ،وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُوفِهِ أَجْرَهُ. (1)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُنْصَبُ لِغَدْرَتِهِ » (2) .
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « الْغَادِرُ يُرْفَعُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ » (3) .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،يُقَالُ:هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنٍ. (4)
وعَنْ نَافِعٍ قَالَ:لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ حَشَمَهُ وَمَوَالِيهِ وَوَلَدَهُ وَقَالَ: إِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :« يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ». وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنِّى لاَ أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ تُبَايِعَ رَجُلاً عَلَى بَيْعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ تَنْصِبُ لَهُ الْقِتَالَ ،إِنِّى لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَ وَلاَ بَايَعَ فِى هَذَا الأَمْرِ إِلاَّ كَانَتِ الْفَيْصَلُ فِيمَا بَيْنِى وَبَيْنَهُ. (5)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ،مِنْ فِيهِ إِلَى فِي قَالَ:انْطَلَقْتُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَبَيْنَا أَنَا بِالشَّامِ إِذْ جِيءَ بِكِتَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى هِرَقْلَ،جَاءَ بِهِ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ،فَدَفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى،فَدَفَعَهُ عَظِيمُ بُصْرَى إِلَى هِرَقْلَ،فَقَالَ هِرَقْلُ:هَلْ هَا هُنَا أَحَدٌ مِنْ قَوْمِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ؟ قَالُوا:نَعَمْ،فَدُعِيتُ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ،فَدَخَلْنَا عَلَى هِرَقْلَ،فَأَجْلَسَنَا بَيْنَ يَدَيْهِ،فَقَالَ:أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2227 ) وصحيح ابن حبان - (16 / 334) (7339)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (3188 )
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (6177 )
(4) - صحيح ابن حبان - (16 / 336) (7341) صحيح
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (7111 ) والسنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (8 / 159) (17076)(1/320)
الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ ؟ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ:فَقُلْتُ:أَنَا،فَأَجْلَسُونِي بَيْنَ يَدَيْهِ،وَأَجْلَسُوا أَصْحَابِي خَلْفِي،ثُمَّ دَعَا تُرْجُمَانَهُ،فَقَالَ:قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلُ هَذَا الرَّجُلِ عَنْ هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ،فَإِنْ كَذَّبَنِي فَكَذِّبُوهُ.قَالَ أَبُو سُفْيَانَ:وَاللَّهِ،لَوْلاَ مَخَافَةُ أَنْ يُؤْثَرَ عَنِّي الْكَذِبَ لَكَذَبْتُهُ،ثُمَّ قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ:سَلْهُ كَيْفَ حَسَبُهُ فِيكُمْ ؟ قَالَ:قُلْتُ:هُوَ فِينَا ذُو حَسَبٍ. قَالَ:فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ ؟ قُلْتُ:لاَ. قَالَ:فَهَلْ أَنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ ؟ قُلْتُ:لاَ. قَالَ:مَنْ تَبِعَهُ أَشْرَافُ النَّاسِ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ ؟ قُلْتُ:بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. قَالَ:فَهَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ ؟ قَالَ:قُلْتُ:بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ:فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ سَخْطَةً لَهُ ؟ قَالَ:قُلْتُ:لاَ. قَالَ:فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ ؟ قَالَ:قُلْتُ:نَعَمْ. قَالَ:كَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ ؟ قَالَ:قُلْتُ:تَكُونُ الْحَرْبُ سِجَالاً بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ،يُصِيبُ مِنَّا،وَنُصِيبُ مِنْهُ. قَالَ:فَهَلْ يَغْدِرُ ؟ قَالَ:قُلْتُ:لاَ،وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ أَوْ قَالَ:هُدْنَةٍ،لاَ نَدْرِي مَا هُوَ صَانِعٌ فِيهَا،مَا أَمْكَنَنِي مِنْ كَلِمَةٍ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرَ هَذِهِ. قَالَ:فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ ؟ قَالَ:قُلْتُ:لاَ. ثُمَّ قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ:قُلْ لَهُ إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ حَسَبِهِ فِيكُمْ،فَزَعَمْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو حَسَبٍ،فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي أَحْسَابِ قَوْمِهَا. وَسَأَلْتُكَ:هَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مَلِكٌ،فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ،فَقُلْتُ:لَوْ كَانَ فِي آبَائِهِ مَلِكٌ،قُلْتُ:رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ. وَسَأَلْتُكَ عَنْ أَتْبَاعِهِ:أَضُعَفَاءُ النَّاسِ أَمْ أَشْرَافُهُمْ ؟ فَقُلْتَ:بَلْ،ضُعَفَاؤُهُمْ،وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ. وَسَأَلْتُكَ:هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ ؟ فَزَعَمْتَ:أَنْ لاَ،وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ،ثُمَّ يَذْهَبَ فَيَكْذِبَ عَلَى اللهِ،وَسَأَلْتُكَ:هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَهُ سَخْطَةً لَهُ ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ،وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ إِذَا خَالَطَهُ بَشَاشَةُ الْقُلُوبِ. وَسَأَلْتُكَ:هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ،وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ،وَسَأَلْتُكَ:هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ ؟ فَزَعَمْتَ أَنَّ الْحَرْبَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سِجَالٌ،تَنَالُونَ مِنْهُ،وَيَنَالُ مِنْكَ،وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى،ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ. وَسَأَلْتُكَ:هَلْ يَغْدِرُ ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ،وَكَذَلِكَ الأَنْبِيَاءُ لاَ تَغْدِرُ. وَسَأَلْتُكَ:هَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ،فَقُلْتُ:لَوْ كَانَ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ،قُلْتُ:رَجُلٌ يَأْتَمُّ بِقَوْلٍ قَبْلَ قَوْلِهِ. قَالَ:ثُمَّ مَا يَأْمُرُكُمْ ؟ قَالَ:قُلْتُ:يَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّلَةِ وَالْعَفَافِ. قَالَ:إِنْ يَكُنْ مَا تَقُولُ فِيهِ حَقًّا،فَإِنَّهُ نَبِيٌّ،وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ،وَلَمْ أَظُنَّ أَنَّهُ مِنْكُمْ،وَلَوْ أَنِّي(1/321)
أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَأَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ،وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمَيْهِ،وَلَيَبْلُغَنَّ مُلْكُهُ مَا تَحْتَ قَدَمَيَّ. قَالَ:ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَرَأَ فَإِذَا فِيهِ:بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ،سَلاَّمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى،أَمَّا بَعْدُ،فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ،أَسْلِمْ تَسْلَمْ،وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ،فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (64) سورة آل عمران، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ ارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ عِنْدَهُ،وَكَثُرَ اللَّغَطُ،فَأُمِرَ بِنَا،فَأُخْرِجْنَا،فَقُلْتُ لأَصْحَابِي حِينَ خَرَجْنَا:لَقَدْ جَلَّ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ،إِنَّهُ لَيَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ. قَالَ:فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا بِأَمْرِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الإِسْلاَمَ. (1)
وعَنْ بِشْرِ بْنِ حَرْبٍ،قَالَ:سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:إِنَّ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءً يُعْرَفُ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ،وَإِنَّ أَكْبَرَ الْغَدْرِ غَدْرُ أَمِيرِ عَامَّةٍ. (2)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ،قَالَ:خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - خُطْبَةً بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَى مُغَيْرِبَانِ الشَّمْسِ،حَفِظَهَا مِنَّا مَنْ حَفِظَهَا،وَنَسِيَهَا مَنْ نَسِيَ فَحَمِدَ اللَّهَ،قَالَ عَفَّانُ،وَقَالَ حَمَّادٌ:وَأَكْثَرُ حِفْظِي أَنَّهُ قَالَ:بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ،فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ،ثُمَّ قَالَ:أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ،وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا فَنَاظِرٌ كَيْفَ تَعْمَلُونَ،أَلاَ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا،وَاتَّقُوا النِّسَاءَ،أَلاَ إِنَّ بَنِي آدَمَ خُلِقُوا عَلَى طَبَقَاتٍ شَتَّى،مِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا وَيَحْيَا مُؤْمِنًا وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا،وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا وَيَحْيَا كَافِرًا وَيَمُوتُ كَافِرًا،وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ مُؤْمِنًا وَيَحْيَا مُؤْمِنًا وَيَمُوتُ كَافِرًا،وَمِنْهُمْ مَنْ يُولَدُ كَافِرًا وَيَحْيَا كَافِرًا وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا،أَلاَ إِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ تُوقَدُ فِي جَوْفِ ابْنِ آدَمَ،أَلاَ تَرَوْنَ إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ،فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَالأَرْضَ الأَرْضَ،أَلاَ إِنَّ خَيْرَ الرِّجَالِ مَنْ كَانَ بَطِيءَ الْغَضَبِ سَرِيعَ الرِّضَا،وَشَرَّ الرِّجَالِ مَنْ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (7 ) وصحيح مسلم- المكنز - (4707) وصحيح ابن حبان - (14 / 493) (6555)
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 514) (6093) صحيح(1/322)
كَانَ سَرِيعَ الْغَضَبِ بَطِيءَ الرِّضَا،فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ بَطِيءَ الْغَضَبِ بَطِيءَ الْفَيْءِ وَسَرِيعَ الْغَضَبِ سَرِيعَ الْفَيْءِ فَإِنَّهَا بِهَا،أَلاَ إِنَّ خَيْرَ التُّجَّارِ مَنْ كَانَ حَسَنَ الْقَضَاءِ حَسَنَ الطَّلَبِ،وَشَرَّ التُّجَّارِ مَنْ كَانَ سَيِّئَ الْقَضَاءِ سَيِّئَ الطَّلَبِ،فَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ حَسَنَ الْقَضَاءِ سَيِّئَ الطَّلَبِ،أَوْ كَانَ سَيِّئَ الْقَضَاءِ حَسَنَ الطَّلَبِ،فَإِنَّهَا بِهَا أَلاَ إِنَّ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ،أَلاَ وَأَكْبَرُ الْغَدْرِ غَدْرُ أَمِيرِ عَامَّةٍ،أَلاَ لاَ يَمْنَعَنَّ رَجُلاً مَهَابَةُ النَّاسِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْحَقِّ إِذَا عَلِمَهُ،أَلاَ إِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ،فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ مُغَيْرِبَانِ الشَّمْسِ قَالَ:أَلاَ إِنَّ مِثْلَ مَا بَقِيَ مِنَ الدُّنْيَا فِيمَا مَضَى مِنْهَا مِثْلُ مَا بَقِيَ مِنْ يَوْمِكُمْ هَذَا،فِيمَا مَضَى مِنْهُ." (1)
الغدر (2) :
الْغَدْرُ لُغَةً:نَقْضُ الْعَهْدِ وَتَرْكُ الْوَفَاءِ بِهِ،وَغَدَرَ بِهِ غَدْرًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ . وَلاَ يَخْرُجُ الْمَعْنَى الاِصْطِلاَحِيُّ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ (3) .
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ :
ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى تَحْرِيمِ الْغَدْرِ لأَِنَّهُ مِنْ عَلاَمَاتِ النِّفَاقِ وَمِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ،وَلاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْغَادِرُ مِنْ أَصْحَابِ الْوِلاَيَاتِ الْعَامَّةِ ؛ لأَِنَّ ضَرَرَ غَدْرِهِ يَتَعَدَّى إِلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ . وَقِيل:لأَِنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ إِلَى الْغَدْرِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْوَفَاءِ .
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى تَحْرِيمِ الْغَدْرِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا:قَوْله تَعَالَى:{وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} (34) سورة الإسراء،وَقَوْل النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - :أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا،وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 51)(11143) 11160- حسن
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (31 / 142)
(3) - لسان العرب ، غريب القرآن للأصفهاني ، ودليل الفالحين شرح رياض الصالحين 3 / 159 .(1/323)
خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا:إِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ،إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ . وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ،وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ . (1)
وَالْغَدْرُ مُحَرَّمٌ بِشَتَّى صُوَرِهِ،سَوَاءٌ كَانَ مَعَ فَرْدٍ أَمْ جَمَاعَةٍ،وَسَوَاءٌ أَكَانَ مَعَ مُسْلِمٍ أَمْ ذِمِّيٍّ أَمْ مُعَاهِدٍ .
وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَفَاءُ بِشُرُوطِ الْعَهْدِ مَعَ أَهْل الذِّمَّةِ وَالْمُعَاهِدِينَ،مَا لَمْ يَنْقُضُوا الْعَهْدَ ،فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ». (2)
وَلأَِنَّ أَبَا بَصِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَجَاءَ الْكُفَّارُ فِي طَلَبِهِ - حَسَبَ الْعَهْدِ - قَال لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَا أَبَا بَصِيرٍ إِنَّ هَؤُلاَءِ الْقَوْمَ قَدْ صَالَحُونَا عَلَى مَا قَدْ عَلِمْتَ وَإِنَّا لاَ نَغْدِرُ،فَالْحَقْ بِقَوْمِكَ . . . فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا (3) ،وعَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ،قَالَ:كَانَ مُعَاوِيَةُ يَسِيرُ بِأَرْضِ الرُّومِ،وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ أَمَدٌ،فَأَرَادَ أَنْ يَدْنُوَ مِنْهُمْ،فَإِذَا انْقَضَى الأَمَدُ غَزَاهُمْ،فَإِذَا شَيْخٌ عَلَى دَابَّةٍ يَقُولُ:اللَّهُ أَكْبَرُ،اللَّهُ أَكْبَرُ،وَفَاءٌ لاَ غَدْرٌ،إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ،فَلاَ يَحِلَّنَّ عُقْدَةً وَلاَ يَشُدَّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُهَا،أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ.فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَرَجَعَ،وَإِذَا الشَّيْخُ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ. (4)
وعَنْ أَبِي الْفَيْضِ الشَّامِيِّ،قَالَ:سَمِعْتُ سُلَيْمَ بْنَ عَامِرٍ،يَقُولُ:كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَبَيْنَ الرُّومِ عَهْدٌ فَكَانَ يَسِيرُ فِي بِلاَدِهِمْ حَتَّى إِذَا انْقَضَى الْعَهْدُ أَغَارَ عَلَيْهِمْ وَإِذَا رَجُلٌ عَلَى دَابَّةٍ،أَوْ عَلَى فَرَسٍ وَهُوَ يَقُولُ:اللَّهُ أَكْبَرُ وَفَاءٌ لاَ غَدْرٌ،مَرَّتَيْنِ،وَإِذَا هُوَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِيُّ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ:مَا تَقُولُ ؟ فَقَالَ عَمْرٌو:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:مَنْ كَانَ
__________
(1) - مر تخريجه وانظر : حاشية ابن عابدين 3 / 224 ، وجواهر الإكليل 1 / 257 ، ودليل الفالحين 4 / 435، 438 ، 3 / 156 ، والمغني لابن قدامة 8 / 465 .
(2) - سنن الدارقطنى- المكنز - (2929) صحيح
(3) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (9 / 227) (19304) صحيح
(4) - سنن أبي داود - المكنز - (2761) ومسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 803)(17015) 17140- صحيح(1/324)
بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلاَ يَحُلَّنَّ عُقْدَةً وَلاَ يَشُدَّهَا حَتَّى يَمْضِيَ أَمَدُهَا،أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ بِالنَّاسِ. (1)
وَلأَِنَّ الْمُسْلِمِينَ إِذَا غَدَرُوا وَعُلِمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ،وَلَمْ يَنْبِذُوا بِالْعَهْدِ عَلَى سَوَاءٍ لَمْ يَأْمَنْهُمْ أَحَدٌ عَلَى عَهْدٍ وَلاَ صُلْحٍ،وَيَكُونُ ذَلِكَ مُنَفِّرًا عَنِ الدُّخُول فِي الدِّينِ،وَمُوجِبًا لِذَمِّ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ . (2)
وَاتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا دَخَل كَافِرٌ حَرْبِيٌّ دَارَ الإِْسْلاَمِ بِأَمَانٍ فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَفَاءُ لَهُ وَالْكَفُّ عَنْهُ،حَتَّى تَنْتَهِيَ مُدَّةُ الأَْمَانِ وَيَبْلُغَ مَأْمَنَهُ،لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} (6) سورة التوبة، وعَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ:سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ:مَا عِنْدَنَا كِتَابٌ نَقْرَؤُهُ إِلاَّ كِتَابَ اللهِ،وَصَحِيفَةً فِي قِرَابِ سَيْفِي،فَقَرَأَهَا عَلَيْنَا،فَإِذَا فِيهَا شَيْءٌ مِنْ أَسْنَانِ الإِبِلِ وَالْجِرَاحَاتِ،وَإِذَا فِيهَا مَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذَنِ مَوَالِيهِ،فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ،وَمَلاَئِكَتِهِ،وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ،لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا،وَلاَ عَدْلاً،ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ،يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ،فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا،فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ،وَالْمَلاَئِكَةِ،وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ،وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفٌ،وَلاَ عَدْلٌ،وَالْمَدِينَةُ حَرَامٌ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا،فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا،أَوْ آوَى مُحْدِثًا،فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ،وَالْمَلاَئِكَةِ،وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ،لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ. (3)
كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ دَخَل مِنْ الْمُسْلِمِينَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ مِنْهُمْ أَنْ لاَ يَغْدِرَهُمْ وَلاَ يَخُونَهُمْ،لأَِنَّهُمْ إِنَّمَا أَعْطَوْهُ الأَْمَانَ مَشْرُوطًا بِتَرْكِهِ خِيَانَتَهُمْ،وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِي اللَّفْظِ فَهُوَ مَعْلُومٌ فِي الْمَعْنَى،فَإِنْ خَانَهُمْ أَوْ سَرَقَ مِنْهُمْ أَوِ اقْتَرَضَ مِنْهُمْ شَيْئًا
__________
(1) - مسند الطيالسي - (2 / 471) (1251) صحيح
(2) - البدائع 7 / 107 ، تفسير القرطبي 8 / 32 ، وأحكام القرآن لابن العربي 2 / 860 ، ومغني المحتاج 4 / 238 ، 262 ، والمغني لابن قدامة 8 / 463 - 465 .
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (7300 ) وصحيح ابن حبان - (9 / 30) (3716)(1/325)
وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَخَذَ إِلَى أَرْبَابِهِ ؛ لأَِنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهٍ حَرَامٍ،فَلَزِمَهُ رَدُّهُ كَمَا لَوْ أَخَذَ مَال مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ .
وَقَالُوا:لَوْ أَطْلَقَ الْكُفَّارُ الأَْسِيرَ الْمُسْلِمَ عَلَى أَنَّهُمْ فِي أَمَانِهِ،أَوْ عَلَى أَنَّهُ فِي أَمَانِهِمْ،حَرَامٌ عَلَيْهِ اغْتِيَالُهُمْ وَالتَّعَرُّضُ لأَِوْلاَدِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَفَاءً بِمَا الْتَزَمَهُ،وَكَذَا لَوِ اشْتَرَى مِنْهُمْ شَيْئًا لِيَبْعَثَ إِلَيْهِمْ ثَمَنَهُ،أَوِ الْتَزَمَ لَهُمْ قَبْل خُرُوجِهِ مَالاً فِدَاءً - وَهُوَ مُخْتَارٌ - فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ لِلأَْدِلَّةِ السَّابِقَةِ،وَلِيَعْتَمِدُوا الشَّرْطَ فِي إِطْلاَقِ أَسْرَانَا بَعْدَ ذَلِكَ .
إِلاَّ أَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَا لَوْ شَرَطُوا عَلَيْهِ:أَنْ لاَ يَخْرُجَ مِنْ دَارِهِمْ أَوْ لاَ يَهْرُبَ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ فَوَافَقَ عَلَى ذَلِكَ مُخْتَارًا،فَالْجُمْهُورُ يَرَى أَنَّهُ إِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إِظْهَارُ دِينِهِ وَإِقَامَةُ شَعَائِرِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ،بَل يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ وَالْهَرَبُ إِلَى دَارِ الإِْسْلاَمِ إِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ،لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا} (97) سورة النساء، وَلأَِنَّ فِي ذَلِكَ تَرْكَ إِقَامَةِ الدِّينِ وَالْتِزَامَ مَا لاَ يَجُوزُ .
أَمَّا إِنْ أَمْكَنَهُ إِقَامَةُ شَعَائِرِ دِينِهِ وَإِظْهَارُهُ فِي دِيَارِ الْكُفْرِ فَلاَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ،لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لاَ يُوَفِّيَهُ . لِئَلاَّ يُكْثِرَ سَوَادَ الْكُفَّارِ .
وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمِثْل هَذَا الشَّرْطِ،فَلاَ يَجُوزُ لَهُ الْهَرَبُ ؛ لأَِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْغَدْرِ وَهُوَ حَرَامٌ . ذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ:أَنَّ الأَْسِيرَ إِذَا أَطْلَقَهُ الْعَدُوُّ عَلَى أَنْ يَأْتِيَهُ بِفِدَائِهِ - مِنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ - فَلَهُ بَعْثُ الْمَال دُونَ رُجُوعِهِ،وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِدَاءً فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ،أَمَّا لَوْ عُوهِدَ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ بِالْمَال فَعَجَزَ عَنْهُ فَلْيَجْتَهِدْ فِيهِ أَبَدًا وَلاَ يَرْجِعْ .(1/326)
وَأَمَّا إِذَا وَافَقَ عَلَى مِثْل هَذَا الشَّرْطِ مُكْرَهًا فَلاَ يَجِبُ الْوَفَاءُ،سَوَاءٌ حَلَفَ أَوْ لَمْ يَحْلِفْ،حَتَّى لَوْ حَلَفَ بِالطَّلاَقِ لَمْ يَحْنَثْ بِتَرْكِهِ لِعَدَمِ انْعِقَادِ الْيَمِينِ،وَهَذَا بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ . (1)
الْجِهَادُ مَعَ الإِْمَامِ الْغَادِرِ :
اخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْمَالِكِيَّةِ فِي الْجِهَادِ مَعَ الْوَالِي أَوِ الإِْمَامِ الْغَادِرِ،وَذَلِكَ بَعْدَ مَا اتَّفَقُوا فِي فَرْضِ الْجِهَادِ مَعَ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا أَوْ جَائِرًا .
وَالأَْصَحُّ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ لاَ يُقَاتِل مَعَهُ ؛ لأَِنَّ الْقِتَال مَعَهُ إِعَانَةٌ لَهُ عَلَى غَدْرِهِ .
وَقِيل:إِنَّهُ يُقَاتِل مَعَهُ لأَِنَّ تَرْكَ الْجِهَادِ مَعَهُ خِذْلاَنٌ لِلإِْسْلاَمِ،وَنُصْرَةُ الدِّينِ وَاجِبَةٌ،ولحديث الْحَسَنِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى ثَلَاثَةٍ:الْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ إِلَى آخِرِ فِئَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَكُونُ هِيَ الَّتِي تُقَاتِلُ الدَّجَّالَ , لَا يَنْقُضُهُ جَوْرُ مَنْ جَارَ , وَالْكَفُّ عَنْ أَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَنْ تُكَفِّرُوهُمْ بِذَنْبٍ , وَالْمَقَادِيرُ خَيْرُهَا وَشَرُّهَا مِنَ اللَّهِ " (2)
وَلِقَوْل الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حِينَ أَدْرَكُوا مَا حَدَثَ مِنَ الظُّلْمِ:اُغْزُ مَعَهُمْ عَلَى حَظِّكَ مِنَ الآْخِرَةِ،وَلاَ تَفْعَل مَا يَفْعَلُونَ مِنْ فَسَادٍ وَخِيَانَةٍ وَغُلُولٍ (3)
قلت:والغدر من طبيعة المنافقين والكافرين،قال تعالى:{أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} (100) سورة البقرة
وقال تعالى:{ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) [التوبة:8 - 10] }
__________
(1) - مغني المحتاج 4 / 239 ، وجواهر الإكليل 1 / 254 ، والفواكه الدواني 1 / 467 ، والمغني 8 / 397 ، 457 .
(2) - السُّنَنُ الْوَارِدَةُ فِي الْفِتَنِ لِلدَّانِي (372 ) فيه ضعف
(3) - تفسير القرطبي 8 / 33 ، والفواكه الدواني 1 / 466 ، وجواهر الإكليل 1 / 251(1/327)
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى الأَسْبَابَ التِي تَدْعُو إلَى أَنْ لاَ يَكُونَ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ،ذَلِكَ لأنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِاللهِ وَكَذَّبُوا رَسُولَهُ،وَلأَنَّهُمْ إِذِ انْتَصَرُوا عَلَى المُسْلِمِينَ،وَظَهَرُوا عَلَيْهِمْ،اجْتَثُوهُمْ وَلَمْ يُبْقُوا عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ،وَلَمْ يَرْقُبُوا فِي المُسْلِمِينَ قَرَابَةً،وَلا عَهْداً،فِي نَقْضِ العَهْدِ وَالمِيثَاقِ،وَهَؤُلاَءِ يَخْدَعُونَ المُؤْمِنِينَ بِكَلاَمِهِمِ المَعْسُولِ،وَقُلُوبُهُمْ مُنْطَوِيَةٌ عَلَى كَرَاهَتِهِمْ،وَأَكْثَرُهُمْ خَارِجُونَ عَنِ الحَقِّ،نَاقِضُونَ لِلْعَهْدِ .اعْتاضُوا عَنِ اتِّبَاعِ آيَاتِ اللهِ بِمَا التَهَوا بِهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيا الخَسِيسَةِ،فَمَنَعُوا أَنْفُسَهُمْ عَنِ الإِيمَانِ بِاللهِ،وَعَنِ اتِّبَاعِ الحَقِّ،وَمَنَعُوا النَّاسَ مِنَ الدُّخُولِ فِي الإِسْلاَمِ فَبِئْسَ العَمَلِ عَمَلُهُمْ،وَسَاءَ مَا عَمِلُوا مِنِ اشْتِرَاءِ الكُفْرِ بِالإِيمَانِ،وَالضَّلاَلَةِ بِالهُدَى .وَيَجْعَلُهُمْ كُفْرُهُمْ لاَ يَرْعَوْنَ فِي مُؤْمِنٍ،يَقْدِرُونَ عَلَى الفَتْكِ بِهِ،قَرَابةً تَقْتَضِي الودَّ،وَلا ذِمَّةً تُوجِبُ الوَفَاءَ بِالعَهْدِ،وَلا رِبّاً يحُرَمِّ ُالخِيَانَةَ وَالغَدْرَ،وَهَؤُلاَءِ هُمُ المُتَجَاوِزُونَ الحُدُودَ فِي الظُّلْمِ . (1)
كيف يكون للمشركين عهد عند اللّه وعند رسوله وهم لا يعاهدونكم إلا في حال عجزهم عن التغلب عليكم. ولو ظهروا عليكم وغلبوكم لفعلوا بكم الأفاعيل في غير مراعاة لعهد قائم بينهم وبينكم،وفي غير ذمة يرعونها لكم أو في غير تحرج ولا تذمم من فعل يأتونه معكم! فهم لا يرعون عهدا،ولا يقفون كذلك عند حد في التنكيل بكم ولا حتى الحدود المتعارف عليها في البيئة والتي يذمون لو تجاوزوها. فهم لشدة ما يكنونه لكم من البغضاء يتجاوزون كل حد في التنكيل بكم،لو أنهم قدروا عليكم. مهما يكن بينكم وبينهم من عهود قائمة. فليس الذي يمنعهم من أي فعل شائن معكم أن تكون بينكم وبينهم عهود إنما يمنعهم أنهم لا يقدرون عليكم ولا يغلبونكم! .. وإذا كانوا اليوم - وأنتم أقوياء - يرضونكم بأفواههم بالقول اللين والتظاهر بالوفاء بالعهد. فإن قلوبهم تنغل عليكم بالحقد وتأبى أن تقيم على العهد فما بهم من وفاء لكم ولا ود! «وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ. اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ. إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ» ..وهذا هو السبب الأصيل لهذا الحقد الدفين عليكم،وإضمار عدم الوفاء
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1244)(1/328)
بعهودكم،والانطلاق في التنكيل بكم - لو قدروا - من كل تحرج ومن كل تذمم .. إنه الفسوق عن دين اللّه،والخروج عن هذاه. فلقد آثروا على آيات اللّه التي جاءتهم ثمنا قليلا من عرض هذه الحياة الدنيا يستمسكون به ويخافون فوته. وقد كانوا يخافون أن يضيع عليهم الإسلام شيئامن مصالحهم أو أن يكلفهم شيئا من أموالهم! فصدوا عن سبيل اللّه بسبب شرائهم هذا الثمن القليل بآيات اللّه. صدوا أنفسهم وصدوا غيرهم (فسيجيء أنهم أئمة الكفر) .. أما فعلهم هذا فهو الفعل السيئ الذي يقرر اللّه سوءه الأصيل:«إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ!» ..
ثم إنهم لا يضمرون هذا الحقد لأشخاصكم ولا يتبعون تلك الخطة المنكرة معكم بذواتكم .. إنهم يضطغنون الحقد لكل مؤمن ويتبعون هذا المنكر مع كل مسلم .. إنهم يوجهون حقدهم وانتقامهم لهذه الصفة التي أنتم عليها .. للإيمان ذاته .. كما هو المعهود في كل أعداء الصفوة الخالصة من أهل هذا الدين،على مدار التاريخ والقرون .. فكذلك قال السحرة لفرعون وهو يتوعدهم بأشد أنواع التعذيب والتنكيل والتقتيل:«وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا» .. وكذلك قال رسول اللّه - صلى اللّه عليه وسلم - لأهل الكتاب بتوجيه من ربه:«قل:يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا باللّه؟» وقال سبحانه عن أصحاب الأخدود الذين أحرقوا المؤمنين:«وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ». فالإيمان هو سبب النقمة،ومن ثم هم يضطغنون الحقد لكل مؤمن،ولا يراعون فيه عهدا ولا يتذممون من منكر:«لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً،وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ» ..
فصفة الاعتداء أصيلة فيهم .. تبدأ من نقطة كرههم للإيمان ذاته وصدودهم عنه وتنتهي بالوقوف في وجهه وتربصهم بالمؤمنين وعدم مراعاتهم لعهد معهم ولا صلة،إذا هم ظهروا عليهم وأمنوا بأسهم وقوتهم. وعندئذ يفعلون بهم الأفاعيل غير مراعين لعهد قائم،ولا متحرجين ولا متذممين من منكر يأتونه معهم .. وهم آمنون ..!
ثم يبين اللّه كيف يقابل المؤمنون هذه الحال الواقعة من المشركين:«فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ،وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ(1/329)
مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ» ..
إن المسلمين يواجهون أعداء يتربصون بهم ولا يقعد هؤلاء الأعداء عن الفتك بالمسلمين بلا شفقة ولا رحمة إلا عجزهم عن ذلك. لا يقعدهم عهد معقود،ولا ذمة مرعية،ولا تحرج من مذمة،ولا إبقاء على صلة .. ووراء هذا التقرير تاريخ طويل،يشهد كله بأن هذا هو الخط الأصيل الذي لا ينحرف إلا لطارئ زائل،ثم يعود فيأخذ طريقه المرسوم! هذا التاريخ الطويل من الواقع العملي بالإضافة إلى طبيعة المعركة المحتومة بين منهج اللّه الذي يخرج الناس من العبودية للعباد ويردهم إلى عبادة اللّه وحده،وبين مناهج الجاهلية التي تعبد الناس للعبيد .. يواجهه المنهج الحركي الإسلامي بتوجيه من اللّه سبحانه،بهذا الحسم الصريح:«فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» ..
«وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ» ..فإما دخول فيما دخل فيه المسلمون،وتوبة عما مضى من الشرك والاعتداء. وعندئذ يصفح الإسلام والمسلمون عن كل ما لقوا من هؤلاء المشركين المعتدين وتقوم الوشيجة على أساس العقيدة ويصبح المسلمون الجدد إخوانا للمسلمين القدامى ويسقط ذلك الماضي كله بمساءاته من الواقع ومن القلوب! (1)
وعَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ كَتَبُوا إِلَى ابْنِ أُبَىٍّ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ مَعَهُ الأَوْثَانَ مِنَ الأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَئِذٍ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ إِنَّكُمْ آوَيْتُمْ صَاحِبَنَا وَإِنَّا نُقْسِمُ بِاللَّهِ لَتُقَاتِلُنَّهُ أَوْ لَتُخْرِجُنَّهُ أَوْ لَنَسِيرَنَّ إِلَيْكُمْ بِأَجْمَعِنَا حَتَّى نَقْتُلَ مُقَاتِلَتَكُمْ وَنَسْتَبِيحَ نِسَاءَكُمْ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ اجْتَمَعُوا لِقِتَالِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- لَقِيَهُمْ فَقَالَ « لَقَدْ بَلَغَ وَعِيدُ قُرَيْشٍ مِنْكُمُ الْمَبَالِغَ مَا
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1605)(1/330)
كَانَتْ تَكِيدُكُمْ بِأَكْثَرَ مِمَّا تُرِيدُونَ أَنْ تَكِيدُوا بِهِ أَنْفُسَكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا أَبْنَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ ». فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ مِنَ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- تَفَرَّقُوا فَبَلَغَ ذَلِكَ كُفَّارَ قُرَيْشٍ فَكَتَبَتْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ إِلَى الْيَهُودِ إِنَّكُمْ أَهْلُ الْحَلْقَةِ وَالْحُصُونِ وَإِنَّكُمْ لَتُقَاتِلُنَّ صَاحِبَنَا أَوْ لَنَفْعَلَنَّ كَذَا وَكَذَا وَلاَ يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَدَمِ نِسَائِكُمْ شَىْءٌ - وَهِىَ الْخَلاَخِيلُ - فَلَمَّا بَلَغَ كِتَابُهُمُ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- أَجْمَعَتْ بَنُو النَّضِيرِ بِالْغَدْرِ فَأَرْسَلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- اخْرُجْ إِلَيْنَا فِى ثَلاَثِينَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِكَ وَلْيَخْرُجْ مِنَّا ثَلاَثُونَ حَبْرًا حَتَّى نَلْتَقِىَ بِمَكَانِ الْمَنْصَفِ فَيَسْمَعُوا مِنْكَ. فَإِنْ صَدَّقُوكَ وَآمَنُوا بِكَ آمَنَّا بِكَ فَقَصَّ خَبَرَهُمْ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ غَدَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالْكَتَائِبِ فَحَصَرَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ « إِنَّكُمْ وَاللَّهِ لاَ تَأْمَنُونَ عِنْدِى إِلاَّ بِعَهْدٍ تُعَاهِدُونِى عَلَيْهِ ». فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُ عَهْدًا فَقَاتَلَهُمْ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ ثُمَّ غَدَا الْغَدُ عَلَى بَنِى قُرَيْظَةَ بِالْكَتَائِبِ وَتَرَكَ بَنِى النَّضِيرِ وَدَعَاهُمْ إِلَى أَنْ يُعَاهِدُوهُ فَعَاهَدُوهُ فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ وَغَدَا عَلَى بَنِى النَّضِيرِ بِالْكَتَائِبِ فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى الْجَلاَءِ فَجَلَتْ بَنُو النَّضِيرِ وَاحْتَمَلُوا مَا أَقَلَّتِ الإِبِلُ مِنْ أَمْتِعَتِهِمْ وَأَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ وَخَشَبِهَا فَكَانَ نَخْلُ بَنِى النَّضِيرِ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَاصَّةً أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا وَخَصَّهُ بِهَا فَقَالَ (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ) يَقُولُ بِغَيْرِ قِتَالٍ فَأَعْطَى النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- أَكْثَرَهَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَقَسَمَهَا بَيْنَهُمْ وَقَسَمَ مِنْهَا لِرَجُلَيْنِ مِنَ الأَنْصَارِ وَكَانَا ذَوِى حَاجَةٍ لَمْ يَقْسِمْ لأَحَدٍ مِنَ الأَنْصَارِ غَيْرَهُمَا وَبَقِىَ مِنْهَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الَّتِى فِى أَيْدِى بَنِى فَاطِمَةَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا. (1)
وعَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَتَاهُ رِعْلٌ وَذَكْوَانُ وَعُصَيَّةُ وَبَنُو لِحْيَانَ،فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قَدْ أَسْلَمُوا،وَاسْتَمَدُّوهُ عَلَى قَوْمِهِمْ،فَأَمَدَّهُمُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِسَبْعِينَ مِنَ الأَنْصَارِ قَالَ أَنَسٌ كُنَّا نُسَمِّيهِمُ الْقُرَّاءَ،يَحْطِبُونَ بِالنَّهَارِ وَيُصَلُّونَ بِاللَّيْلِ،فَانْطَلَقُوا بِهِمْ حَتَّى بَلَغُوا بِئْرَ مَعُونَةَ غَدَرُوا بِهِمْ وَقَتَلُوهُمْ،فَقَنَتَ شَهْرًا يَدْعُو عَلَى
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (3006 ) صحيح(1/331)
رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِى لِحْيَانَ . قَالَ قَتَادَةُ وَحَدَّثَنَا أَنَسٌ أَنَّهُمْ قَرَءُوا بِهِمْ قُرْآنًا أَلاَ بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا بِأَنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِىَ عَنَّا وَأَرْضَانَا . ثُمَّ رُفِعَ ذَلِكَ بَعْدُ . (1)
وانظروا إلى آداب الجهاد في الإسلام، فعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ:كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ بِتَقْوَى اللهِ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا،ثُمَّ قَالَ:اغْزُوا بِسْمِ اللهِ،فِي سَبِيلِ اللهِ،قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ،وَلاَ تَغُلُّوا،وَلاَ تَغْدِرُوا،وَلاَ تُمَثِّلُوا،وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا،وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ،فَادْعُهُمْ إِلَى إِحْدَى ثَلاَثِ خِصَالٍ أَوْ خِلاَلٍ،فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ إِلَيْهَا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمُ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ،فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ إِلَى ذَلِكَ،فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ ،ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ،مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ،فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا،فَأَعْلِمْهُمْ،أَنَّهُمْ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ يَكُونُونَ،كَأَعْرَابِ،الْمُهَاجِرِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُهَاجِرِينَ،فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ إِلَى ذَلِكَ،فَاقْبَلْ مِنْهُمْ،فَإِنْ هُمْ أَبَوْا،فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ عَلَيْهِمْ،ثُمَّ قَاتِلْهُمْ،وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ،فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ،وَذِمَّةَ رَسُولِهِ،فَلاَ تَجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ،وَلاَ ذِمَّةَ رَسُولِهِ،وَاجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ،وَذِمَّةَ آبَائِكَ،وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ،فَإِنَّكُمْ إِنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ،وَذِمَمَ آبَائِكُمْ،أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللهِ،وَذِمَّةَ رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ،فَأَرَادُوكَ،أَنْ تُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ،فَلاَ تُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ،فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْرُونَ،أَتُصِيبُونَ حُكْمَ اللهِ فِيهِمْ أَمْ لاَ " (2)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3064 )
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (4619) وصحيح ابن حبان - (11 / 42)(4739)
سرية: وهي قطعة من الجيش تخرج منه تغير وتعود إليه. قال إبراهيم الحربي: هي الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها. قالوا: سميت سرية لأنها تسري في الليل ويخفى ذهابها. وهي فعيلة بمعنى فاعلة. يقال: سرى وأسرى، إذا ذهب ليلا.
في خاصته: أي في حق نفس ذلك الأمير خصوصا.
ولا تغلوا: من الغلول. ومعناه الخيانة في الغنم. أي لا تخونوا في الغنيمة.
ولا تغدروا: أي ولا تنقضوا العهد.
ولا تمثلوا: أي لا تشوهوا القتلى بقطع الأنوف والآذان.
وليدا: أي صبيا، لأنه لا يقاتل.
ثم ادعهم إلى الإسلام: هكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم: ثم ادعهم. قال القاضي عياض رحمه اللّه: صواب الرواية: ادعهم، بإسقاط ثم. وقد جاء بإسقاطها على الصواب في كتاب أبي عبيد وفي سنن أبي داود وغيرهما لأنه تفسير للخصال الثلاث، وليست غيرها. وقال المازريّ: ليست ثم، هنا زائدة. بل دخلت لاستفتاح الكلام والأخذ.
ذمة اللّه: الذمة، هنا، العهد.
أن تخفروا: يقال: أخفرت الرجل إذا نقضت عهده. وخفرته أمنته وحميته.(1/332)
من مضار (الغدر) (1)
(1) الغادر يحمل لواء غدره يوم القيامة خزيا وعارا بين الخلائق.
(2) وهو صفة ذميمة لا يتحلّى بها إلّا فاقد الإيمان من كافر مشرك ويهوديّ ونصرانيّ ومجوسيّ ومن حمل صفتهم.
(3) يكفي الغادر سخطا وغضبا أن يكون اللّه خصمه يوم القيامة.
(4) الغادر ممقوت من اللّه والملائكة والنّاس أجمعين.
(5) يحذره النّاس فلا يطمئنّون إلى مخالطته ولا جيرته ولا معاملته.
(6) الغدر دليل على خسّة النّفس وحقارتها.
(7) يعامله اللّه بعكس مقصوده فلا يتمّ له أمرا.
--------------
ثالثا- النهي عن الغش :
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ. أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً فَقَالَ « مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ ». قَالَ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ « أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَىْ يَرَاهُ النَّاسُ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّى ». (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ،فَأَدْخَلَ أَصَابِعَهُ فِيهَا،فَإِذَا فِيهِ بَلَلٌ،فَقَالَ:مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ ؟ قَالَ:أَصَابَتْهُ سَمَاءٌ يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ:فَهَلاَّ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ،حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ،مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا. (3)
__________
(1) - نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - (11 / 5046)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (295 )
السماء : المطر -الصبرة : الكومة المجموعة بلا كيل ولا وزن
(3) - صحيح ابن حبان - (11 / 270) (4905) صحيح(1/333)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِصُبَرٍ مِنْ طَعَامٍ يُبَاعُ فِي السُّوقِ فَكَانَ فِي أَسْفَلِهِ بَلَلٌ , فَقَالَ: " مَا هَذَا ؟ " فَقَالُوا: أَصَابَهُ الْمَاءُ، فَقَالَ: " أَفَلَا أَظْهَرْتُمُوهُ لِلنَّاسِ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي " (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِرَجُلٍ يَبِيعُ طَعَامًا فَأَعْجَبَهُ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ، فَإِذَا هُوَ بِطَعَامٍ مَبْلُولٍ , فَقَالَ: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّنَا " (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا " (3)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا وَمَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا ». (4)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا،وَالْمَكْرُ،وَالْخِدَاعُ فِي النَّارِ. (5)
وعَنْ قَيْسِ بن أَبِي غَرَزَةَ، قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِرَجُلٍ يَبِيعُ طَعَامًا، فَقَالَ:"يَا صَاحِبَ هَذَا الطَّعَامِ أَسْفَلُ هَذَا مِثْلُ أَعْلاهُ؟", فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"مَنْ غَشَّ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ" (6)
وعن الْحَسَنَ،قَالَ:عَادَ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ زِيَادٍ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ،فَقَالَ مَعْقِلٌ:إِنِّي مُحَدِّثُكَ بِحَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ، لَوْ عَلِمْتَ أَنَّ لِي حَيَاةً مَا حَدَّثْتُكَ بِهِ،سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً،يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ. (7)
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (3 / 366)(1330 ) صحيح
(2) - شرح مشكل الآثار - (3 / 366) (1329 ) صحيح
(3) - شرح مشكل الآثار - (3 / 367) (1331 ) صحيح
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (294)
(5) - صحيح ابن حبان - (2 / 326) (567) صحيح
(6) - المعجم الكبير للطبراني - (13 / 307) (15309 ) صحيح
(7) - صحيح البخارى- المكنز - (7151 ) وصحيح مسلم- المكنز - (380 ) وصحيح ابن حبان - (10 / 346) (4495)(1/334)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:إِنَّ رَجُلاً حَمَلَ مَعَهُ خَمْرًا فِي سَفِينَةٍ يَبِيعُهُ،وَمَعَهُ قِرْدٌ،قَالَ:فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا بَاعَ الْخَمْرَ،شَابَهُ بِالْمَاءِ ثُمَّ بَاعَهُ،قَالَ:فَأَخَذَ الْقِرْدُ الْكِيسَ،فَصَعِدَ بِهِ فَوْقَ الدَّقَلِ،قَالَ:فَجَعَلَ يَطْرَحُ دِينَارًا فِي الْبَحْرِ وَدِينَارًا فِي السَّفِينَةِ،حَتَّى قَسَمَهُ. (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ رَجُلًا كَانَ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ حَمَلَ خَمْرًا، ثُمَّ جَعَلَ فِي كُلِّ زِقٍّ نِصْفًا مَاءً، ثُمَّ بَاعَهُ، فَلَمَّا جَمَعَ الثَّمَنَ جَاءَ ثَعْلَبٌ، فَأَخَذَ الْكَيْسَ وَصَعِدَ الدَّقَلَ،فَجَعَلَ يَأْخُذُ دِينَارًا فَيَرْمِي بِهِ فِي السَّفِينَةِ، وَيَأْخُذُ دِينَارًا فَيَرْمِي بِهِ فِي الْمَاءِ حَتَّى فَرَغَ مَا فِي الْكَيْسِ " (2)
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَكَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الَّتِي نَفَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ كَانَتْ مِنْهُ أَوْ كَانَتْ فِيهِ عَنْهُ أَشْيَاءَ مَذْمُومَةً، فَكَانَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدِ اخْتَارَ لَهُ - صلى الله عليه وسلم - الْأُمُورَ الْمَحْمُودَةَ، وَنَفَى عَنْهُ الْأُمُورَ الْمَذْمُومَةَ , فَكَانَ مَنْ عَمِلَ الْأُمُورَ الْمَحْمُودَةَ مِنْهُ , وَمَنْ عَمِلَ الْأُمُورَ الْمَذْمُومَةَ لَيْسَ مِنْهُ، كَمَا حَكَى عَزَّ وَجَلَّ عَنْ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ مِنْ قَوْلِهِ فِي ذُرِّيَّتِهِ: { فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [إبراهيم: 36]، وَكَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ مُخْبِرًا لِعِبَادِهِ فِي قِصَّةِ نَبِيِّهِ دَاوُدَ - صلى الله عليه وسلم - : { إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي } [البقرة: 249] فِي أَمْثَالٍ لِهَذَا مَوْجُودَةٍ فِي الْكِتَابِ، مَعْنَاهَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا , فَدَلَّ أَنَّ كُلَّ عَامِلٍ عَمَلًا عَلَى شَرِيعَةِ نَبِيِّهِ الَّذِي عَلَيْهِ أَتْبَاعُهُ فَإِنَّهُ مِنْهُ , وَأَنَّ كُلَّ عَامِلٍ عَمَلًا تَمْنَعُ مِنْهُ شَرِيعَةُ نَبِيِّهِ الَّذِي عَلَيْهِ أَتْبَاعُهُ لَيْسَ مِنْهُ ; لِخُرُوجِهِ عَنْ مَا دَعَاهُ إِلَيْهِ , وَعَنْ مَا هُوَ عَلَيْهِ إِلَى ضِدِّ ذَلِكَ , وَاللهَ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ (3)
الغشُّ (4) :
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 202)(8055) 8041- صحيح
(2) - شعب الإيمان - (7 / 231)(4926 ) صحيح
(3) - شرح مشكل الآثار - (3 / 379)
(4) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (31 / 218)(1/335)
الْغِشُّ بِالْكَسْرِ فِي اللُّغَةِ نَقِيضُ النُّصْحِ،يُقَال:غَشَّ صَاحِبَهُ:إِذَا زَيَّنَ لَهُ غَيْرَ الْمَصْلَحَةِ،وَأَظْهَرَ لَهُ غَيْرَ مَا أَضْمَرَ،وَلَبَنٌ مَغْشُوشٌ:أَيْ مَخْلُوطٌ بِالْمَاءِ (1) . وَلاَ يَخْرُجُ اسْتِعْمَال الْفُقَهَاءِ عَنِ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ .
حكمُ الغشِّ :
اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْغِشَّ حَرَامٌ سَوَاءٌ أَكَانَ بِالْقَوْل أَمْ بِالْفِعْل،وَسَوَاءٌ أَكَانَ بِكِتْمَانِ الْعَيْبِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوِ الثَّمَنِ أَمْ بِالْكَذِبِ وَالْخَدِيعَةِ،وَسَوَاءٌ أَكَانَ فِي الْمُعَامَلاَتِ أَمْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْمَشُورَةِ وَالنَّصِيحَةِ (2) .
وَقَدْ وَرَدَ فِي تَحْرِيمِ الْغِشِّ أحاديث كثيرة مرت آنفاً.
وَقَدْ ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ وَأَمْثَالَهُ غَيْرُ مَحْمُولٍ عَلَى الظَّاهِرِ،فَالْغِشُّ لاَ يُخْرِجُ الْغَاشَّ عَنِ الإِْسْلاَمِ،قَال الْخَطَّابِيُّ:مَعْنَاهُ لَيْسَ عَلَى سِيرَتِنَا وَمَذْهَبِنَا (3) .
وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ رُشْدٍ الْجَدُّ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ،حَدِيثٌ قَال:مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا أَيْ:لَيْسَ عَلَى مِثْل هُدَانَا وَطَرِيقَتِنَا،إِلاَّ أَنَّ الْغِشَّ لاَ يُخْرِجُ الْغَاشَّ مِنَ الإِْيمَانِ،فَهُوَ مَعْدُودٌ فِي جُمْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ،إِلاَّ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى هُدَاهُمْ وَسَبِيلِهِمْ ؛ لِمُخَالَفَتِهِ إِيَّاهُمْ فِي الْتِزَامِ مَا يَلْزَمُهُ فِي شَرِيعَةِ الإِْسْلاَمِ لأَِخِيهِ الْمُسْلِمِ . . فَلاَ يَحِل لاِمْرِئٍ مُسْلِمٍ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً مِنَ السِّلَعِ أَوْ دَارًا أَوْ عَقَارًا أَوْ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ شَيْئًا مِنَ الأَْشْيَاءِ - وَهُوَ يَعْلَمُ فِيهِ عَيْبًا قَل أَوْ كَثُرَ - حَتَّى يُبَيِّنَ ذَلِكَ لِمُبْتَاعِهِ،وَيَقِفَهُ عَلَيْهِ وَقْفًا يَكُونُ عِلْمُهُ بِهِ كَعِلْمِهِ،فَإِنْ لَمْ يَفْعَل ذَلِكَ وَكَتَمَهُ الْعَيْبَ وَغَشَّهُ بِذَلِكَ لَمْ يَزَل فِي مَقْتِ اللَّهِ وَلَعْنَةِ مَلاَئِكَةِ اللَّهِ (4) .
__________
(1) - لسان العرب والمصباح المنير .
(2) - الزواجر عن اقتراف الكبائر 1 / 192 .
(3) - تحفة الأحوذي 4 / 544 .
(4) - المقدمات الممهدات 2 / 569 .(1/336)
ثُمَّ قَال:وَقَدْ يُحْتَمَل أَنْ يُحْمَل قَوْلُهُ:مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا عَلَى ظَاهِرِهِ فِيمَنْ غَشَّ الْمُسْلِمِينَ مُسْتَحِلًّا لِذَلِكَ ؛ لأَِنَّ مَنِ اسْتَحَل التَّدْلِيسَ بِالْعُيُوبِ وَالْغِشَّ فِي الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا،فَهُوَ كَافِرٌ حَلاَل الدَّمِ يُسْتَتَابُ،فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِل (1) .
وَلاَ تَخْتَلِفُ كَلِمَةُ الْفُقَهَاءِ فِي أَنَّ النُّصْحَ فِي الْمُعَامَلَةِ وَاجِبٌ (2) .
وَقَدْ بَيَّنَ الْغَزَالِيُّ ضَابِطَ النُّصْحِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْمُعَامَلَةِ فِي أَرْبَعَةِ أُمُورٍ:أَنْ لاَ يُثْنِيَ عَلَى السِّلْعَةِ بِمَا لَيْسَ فِيهَا،وَأَنْ لاَ يَكْتُمَ مِنْ عُيُوبِهَا وَخَفَايَا صِفَاتِهَا شَيْئًا أَصْلاً،وَأَنْ لاَ يَكْتُمَ فِي وَزْنِهَا وَمِقْدَارِهَا شَيْئًا،وَأَنْ لاَ يَكْتُمَ مِنْ سِعْرِهَا مَا لَوْ عَرَفَهُ الْمُعَامِل لاَمْتَنَعَ عَنْهُ،ثُمَّ قَال:فَإِنْ أَخْفَاهُ كَانَ ظَالِمًا غَاشًّا،وَالْغِشُّ حَرَامٌ،وَكَانَ تَارِكًا لِلنُّصْحِ فِي الْمُعَامَلَةِ،وَالنُّصْحُ وَاجِبٌ (3) .
وَقَدْ رَجَّحَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ الْقَوْل بِأَنَّ الْغِشَّ كَبِيرَةٌ،وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ يَفْسُقُ فَاعِلُهُ وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ،وَقَدْ عَلَّل ابْنُ عَابِدِينَ هَذَا التَّرْجِيحَ بِقَوْلِهِ:لأَِنَّ الْغِشَّ مِنْ أَكْل أَمْوَال النَّاسِ بِالْبَاطِل (4) .
الْغِشُّ فِي الْمُعَامَلاَتِ :
يَحْصُل الْغِشُّ كَثِيرًا فِي الْمُعَامَلاَتِ الْمَالِيَّةِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِالْمُعَاوَضَاتِ،وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ صُوَرًا لِلْغِشِّ الْوَاقِعِ فِي زَمَانِهِمْ بَيْنَ التُّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ (5) .
وَلِلْغِشِّ صُوَرٌ مُخْتَلِفَةٌ كَالْغِشِّ بِالتَّدْلِيسِ وَالْخِيَانَةِ وَالْكَذِبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ،كَمَا أَنَّ لِلْغِشِّ آثَارًا مُتَنَوِّعَةً كَالْغَبْنِ وَالْغَرَرِ وَنَحْوِهَا .
أَوَّلاً - الْغِشُّ بِالتَّدْلِيسِ وَالتَّصْرِيَةِ :
__________
(1) - المرجع السابق
(2) - رد المحتار وبهامشه الدر المختار 4 / 98 ، والمقدمات الممهدات 2 / 569 والزواجر 1 / 193 .
(3) - إحياء علوم الدين 4 / 779 .
(4) - رد المحتار 4 / 98 .
(5) - الزواجر عن اقتراف الكبائر 1 / 193 ، 194 .(1/337)
يَقَعُ الْغِشُّ فِي الْمُعَامَلاَتِ كَثِيرًا بِصُورَةِ التَّدْلِيسِ الْقَوْلِيِّ،كَالْكَذِبِ فِي سِعْرِ الْمَبِيعِ،أَوِ الْفِعْلِيِّ كَكِتْمَانِ عُيُوبِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ،أَوْ بِصُورَةِ التَّصْرِيَةِ كَأَنْ يَتْرُكَ الْبَائِعُ حَلْبَ النَّاقَةِ أَوْ غَيْرِهَا مُدَّةً قَبْل بَيْعِهَا لِيُوهِمَ الْمُشْتَرِيَ كَثْرَةَ اللَّبَنِ،وَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ يُخْدَعُ الْمُشْتَرِي،فَيُبْرِمُ الْعَقْدَ وَهُوَ غَيْرُ رَاضٍ بِذَلِكَ إِذَا عَلِمَ الْحَقِيقَةَ .
وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ التَّدْلِيسَ عَيْبٌ،فَإِذَا اخْتَلَفَ الثَّمَنُ لأَِجْلِهِ فِي الْمُعَامَلاَتِ يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ،بِشَرْطِ أَنْ لاَ يَعْلَمَ الْمُدَلَّسُ عَلَيْهِ الْعَيْبَ قَبْل الْعَقْدِ أَوْ عِنْدَهُ،وَأَنْ لاَ يَكُونَ الْعَيْبُ ظَاهِرًا (1)
وَفِي الْغِشِّ بِصُورَةِ التَّصْرِيَةِ:ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ وَأَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ إِلَى أَنَّ تَصْرِيَةَ الْحَيَوَانِ عَيْبٌ يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:لاَ تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالْغَنَمَ،فَمَنِ ابْتَاعَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ،بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا إِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا،وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ.. (2)
وَلاَ يَعْتَبِرُ أَبُو حَنِيفَةَ التَّصْرِيَةَ عَيْبًا مُثْبِتًا لِلْخِيَارِ بِدَلِيل أَنَّهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُصَرَّاةً فَوَجَدَهَا أَقَل لَبَنًا مِنْ أَمْثَالِهَا لَمْ يَمْلِكْ رَدَّهَا،وَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِأَرْشِهَا (3) .
ثَانِيًا - الْغِشُّ الْمُسَبِّبُ لِلْغَبْنِ:
الْغِشُّ يُؤَثِّرُ كَثِيرًا فِي الْمُعَاوَضَاتِ الْمَالِيَّةِ بِصُورَةِ الْغَبْنِ،فَيَحْصُل النَّقْصُ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ أَوْ بَدَل الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ .
وَقَدْ ذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إِلَى أَنَّ الْغَبْنَ الْيَسِيرَ - وَهُوَ مَا يُحْتَمَل غَالِبًا،أَوْ يَدْخُل تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ - لاَ يَثْبُتُ خِيَارًا لِلْمَغْبُونِ (4) . أَمَّا الْغَبْنُ الْفَاحِشُ فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَثَرِهِ عَلَى الْعَقْدِ وَثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمَغْبُونِ (5) .
__________
(1) - رد المحتار 4 / 71 ، وحاشية الدسوقي مع الشرح الكبير 3 / 328 ، وروضة الطالبين 3 / 469 ، والمغني لابن قدامة 4 / 157 .
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (3890 ) وصحيح ابن حبان - (11 / 343) (4970)
تصر : تجمع اللبن فى ضرعها عند إرادة البيع فتبدو أنها كثيرة اللبن
(3) - رد المحتار 4 / 96 ، الزرقاني 5 / 134 ، وأسنى المطالب 2 / 161 ، والمغني لابن قدامة 4 / 149 .
(4) - تبيين الحقائق 4 / 272 ، وانظر في ضابط الغبن اليسير والفاحش البدائع 6 / 30 ، ومواهب الجليل 4 / 472 ، ومغني المحتاج 2 / 224 ، والمغني لابن قدامة 3 / 584 .
(5) - الدر المختار بهامش رد المحتار 4 / 159 ، ومواهب الجليل 4 / 470 ، وروضة الطالبين 3 / 470 ، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 3 / 140 .(1/338)
التَّعَامُل بِالنَّقْدِ الْمَغْشُوشِ :
أَجَازَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِنْفَاقَ الْمَغْشُوشِ مِنَ النُّقُودِ إِذَا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ وَظَهَرَ غِشُّهُ،وَلَهُمْ فِي الْمَسْأَلَةِ التَّفْصِيل التَّالِي :
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ الشِّرَاءَ بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ جَائِزٌ،وَذَلِكَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْغِشُّ فِيهَا غَالِبًا وَالْفِضَّةُ مَغْلُوبَةً،سَوَاءٌ أَكَانَ بِالْوَزْنِ أَوِ الْعَدَدِ حَسَبَ تَعَامُل النَّاسِ لَهَا كَالْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ .
وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتِ الْفِضَّةُ فِيهَا غَالِبَةً أَوْ مُتَسَاوِيَةً مَعَ الْغِشِّ،إِلاَّ أَنَّهَا هُنَا إِذَا قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا جَازَ التَّعَامُل بِهَا وَزْنًا لاَ عَدَدًا ؛ لأَِنَّ الْفِضَّةَ وَزْنِيَّةٌ فِي الأَْصْل وَالْغَالِبُ لَهُ حُكْمُ الْكُل،أَمَّا فِي صُوَرِ التَّسَاوِي فَالْحُكْمُ بِالْفَسَادِ عِنْدَ تَعَارُضِ جِهَتَيِ الْجَوَازِ وَالْفَسَادُ أَحْوَطُ،كَمَا عَلَّلَهُ الْكَاسَانِيُّ (1) .
أَمَّا عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فَقَدْ نَقَل الْحَطَّابُ عَنْ الْعُتْبِيَّةِ أَنَّ الْعَامَّةَ إِذَا اصْطَلَحَتْ عَلَى سِكَّةٍ وَإِنْ كَانَتْ مَغْشُوشَةً فَلاَ تُقْطَعُ ( أَيْ لاَ تُمْنَعُ مِنَ التَّدَاوُل ) لأَِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى إِتْلاَفِ رُءُوسِ أَمْوَال النَّاسِ،ثُمَّ ذَكَرَ الْفَتْوَى عَلَى قَطْعِ الدَّرَاهِمِ الزَّائِفَةِ الَّتِي يُزَادُ فِي غِشِّهَا حَتَّى صَارَتْ نُحَاسًا . وَكَذَا الذَّهَبُ الْمُحَلاَّةُ لِعَدَمِ ضَبْطِهَا فِي الْغِشِّ (2) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ:يُكْرَهُ لِلإِْمَامِ ضَرْبُ الْمَغْشُوشِ لِخَبَرِ:مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا ،وَلِئَلاَّ يَغُشَّ بِهَا بَعْضُ النَّاسِ بَعْضًا . فَإِنْ عَلِمَ مِعْيَارَهَا صَحَّتِ الْمُعَامَلَةُ بِهَا مُعَيَّنَةً وَفِي الذِّمَّةِ اتِّفَاقًا،وَإِنْ كَانَ مَجْهُولاً فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ:أَصَحُّهَا الصِّحَّةُ مُطْلَقًا كَبَيْعِ الْغَالِيَةِ وَالْمَعْجُونَاتِ،وَلأَِنَّ الْمَقْصُودَ رَوَاجُهَا وَهِيَ رَائِجَةٌ،وَلِحَاجَةِ الْمُعَامَلَةِ بِهَا ،
__________
(1) - بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع 5 / 197 ، 198 .
(2) - مواهب الجليل 4 / 342 .(1/339)
وَالثَّانِي:لاَ يَصِحُّ مُطْلَقًا كَاللَّبَنِ الْمَخْلُوطِ بِالْمَاءِ،وَالثَّالِثُ:وَإِنْ كَانَ الْغِشُّ مَغْلُوبًا صَحَّ التَّعَامُل بِهَا،وَإِنْ كَانَ غَالِبًا لَمْ يَصِحَّ،وَالرَّابِعُ:يَصِحُّ التَّعَامُل بِهَا فِي الْعَيْنِ دُونَ الذِّمَّةِ (1) .
وَلِلْحَنَابِلَةِ فِي الْمَغْشُوشِ مِنَ النُّقُودِ رِوَايَتَانِ:أَظْهَرُهُمَا الْجَوَازُ،قَال ابْنُ قُدَامَةَ:نَقَل صَالِحٌ عَنْ أَحْمَدَ فِي دِرْهَمٍ يُقَال لَهَا الْمُسَيِّبِيَّةُ عَامَّتُهَا نُحَاسٌ إِلاَّ شَيْئًا فِيهَا فِضَّةٌ،فَقَال:إِذَا كَانَ شَيْئًا اصْطَلَحُوا عَلَيْهِ - مِثْل الْفُلُوسِ - وَاصْطَلَحُوا عَلَيْهَا فَأَرْجُو أَنْ لاَ يَكُونَ بِهَا بَأْسٌ .
وَالثَّانِيَةُ:التَّحْرِيمُ:نَقَل حَنْبَلٌ فِي دَرَاهِمَ مَخْلُوطَةٍ يُشْتَرَى بِهَا وَيُبَاعُ فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَبْتَاعَ بِهَا أَحَدٌ،كُل مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْغِشِّ فَالشِّرَاءُ بِهِ وَالْبَيْعُ حَرَامٌ .
قَال ابْنُ قُدَامَةَ:وَالأَْوْلَى أَنْ يُحْمَل كَلاَمُ أَحْمَدَ فِي الْجَوَازِ عَلَى الْخُصُوصِ فِيمَا ظَهَرَ غِشُّهُ وَاصْطُلِحَ عَلَيْهِ،فَإِنَّ الْمُعَامَلَةَ بِهِ جَائِزَةٌ،إِذْ لَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنَ اشْتِمَالِهِ عَلَى جِنْسَيْنِ لاَ غَرَرَ فِيهِمَا،فَلاَ يُمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِمَا كَمَا لَوْ كَانَا مُتَمَيِّزَيْنِ (2) .
صَرْفُ الْمَغْشُوشِ بِجِنْسِهِ أَوْ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ :
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ مَا غَلَبَ ذَهَبُهُ أَوْ فِضَّتُهُ حُكْمُهُ حُكْمُ النُّقُودِ الْخَالِصَةِ . فَلاَ يَجُوزُ صَرْفُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ،وَلاَ بِالْخَالِصَةِ إِلاَّ مُتَسَاوِيًا وَزْنًا مَعَ التَّقَابُضِ .
وَمَا غَلَبَ غِشُّهُ عَلَى الذَّهَبِ أَوِ الْفِضَّةِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْعُرُوضِ،يَصِحُّ بَيْعُهُ بِالْخَالِصِ إِنْ كَانَ الْخَالِصُ أَكْثَرَ مِمَّا فِي الْمَغْشُوشِ،وَكَذَلِكَ حُكْمُ مُتَسَاوِي الْغِشِّ وَالْفِضَّةِ،فَيُصْرَفُ فِضَّةُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِلَى غِشِّ الآْخَرِ وَبِالْعَكْسِ (3) .
وَيَجُوزُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ بَيْعُ نَقْدٍ مَغْشُوشٍ بِمِثْلِهِ وَلَوْ لَمْ يَتَسَاوَ غِشُّهُمَا،وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلاَمِهِمْ جَوَازُ بَيْعِ الْمَغْشُوشِ بِصِنْفِهِ الْخَالِصِ أَيْضًا إِذَا كَانَ يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ (4) .
أَمَّا الشَّافِعِيَّةُ فَالْغِشُّ الْمُخَالِطُ فِي الْمَوْزُونِ مَمْنُوعٌ عِنْدَهُمْ مُطْلَقًا،قَلِيلاً كَانَ أَمْ كَثِيرًا،فَلاَ تُبَاعُ فِضَّةٌ خَالِصَةٌ بِمَغْشُوشَةٍ،وَلاَ فِضَّةٌ مَغْشُوشَةٌ بِفِضَّةٍ مَغْشُوشَةٍ،وَمِثْلُهُ الذَّهَبُ (5) .
__________
(1) - مغني المحتاج 1 / 390 .
(2) - المغني 4 / 57 ، 58 ط الرياض .
(3) - رد المحتار 4 / 240 ، 241 ، وبدائع الصنائع 5 / 220 .
(4) - جواهر الإكليل 2 / 16 .
(5) - تكملة المجموع للسبكي 10 / 398 ، 409 ، والمهذب 1 / 281 .(1/340)
وَأَجَازَ الْحَنَابِلَةُ بَيْعَ الأَْثْمَانِ الْمَغْشُوشَةِ بِالْمَغْشُوشَةِ إِذَا كَانَ الْغِشُّ فِيهِمَا مُتَسَاوِيًا وَمَعْلُومَ الْمِقْدَارِ . وَلاَ يَجُوزُ عِنْدَهُمْ إِذَا كَانَ الْغِشُّ فِي الثَّمَنِ أَوِ الْمُثَمَّنِ مُتَفَاوِتًا أَوْ غَيْرَ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ،كَمَا لاَ يَجُوزُ بَيْعُ الأَْثْمَانِ الْمَغْشُوشَةِ بِأَثْمَانٍ خَالِصَةٍ مِنْ جِنْسِهَا (1) .
الْغِشُّ فِي الْمِكْيَال وَالْمِيزَانِ :
لَقَدْ عَظَّمَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْرَ الْكَيْل وَالْوَزْنِ،وَأَمَرَ بِالْوَفَاءِ فِيهِمَا،وَنَهَى عَنِ الْغِشِّ بِالْبَخْسِ وَالتَّطْفِيفِ فِيهِمَا،وَذَلِكَ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ،مِنْهَا قَوْله تَعَالَى:( أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) [الشعراء:181 - 183])،وَتَوَعَّدَ الْمُطَفِّفِينَ بِالْوَيْل وَهَدَّدَهُمْ بِعَذَابٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي قَوْله تَعَالَى:( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) [المطففين:1 - 6]) .
وَذَكَرَهُ الذَّهَبِيُّ فِي الْكَبَائِرِ وَقَال:وَذَلِكَ ضَرْبٌ مِنَ السَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَأَكْل الْمَال بِالْبَاطِل (2) .
وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ فِي وَظَائِفِ الْمُحْتَسِبِ أَنَّ مِمَّا هُوَ عُمْدَةٌ نَظَرُهُ الْمَنْعُ مِنَ التَّطْفِيفِ وَالْبَخْسِ فِي الْمَكَايِيل وَالْمَوَازِينِ وَالصَّنَجَاتِ،وَأَنْ يَطْبَعَ عَلَيْهَا طَابَعُهُ،وَلَهُ الأَْدَبُ عَلَيْهِ وَالْمُعَاقَبَةُ فِيهِ،فَإِنْ زَوَّرَ قَوْمٌ عَلَى طَابَعِهِ كَانَ الزُّورُ فِيهِ كَالْمُبَهْرَجِ عَلَى طَابَعِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ،فَإِنْ قُرِنَ التَّزْوِيرُ بِغِشٍّ كَانَ الإِْنْكَارُ عَلَيْهِ وَالتَّأْدِيبُ مُسْتَحَقًّا مِنْ وَجْهَيْنِ:أَحَدُهُمَا فِي حَقِّ السَّلْطَنَةِ مِنْ جِهَةِ التَّزْوِيرِ،وَالثَّانِي مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فِي الْغِشِّ،وَهُوَ أَغْلَظُ الْمُنْكَرَيْنِ،وَإِنْ سَلِمَ التَّزْوِيرُ مِنْ غِشٍّ تَفَرَّدَ بِالإِْنْكَارِ لِحَقِّ السَّلْطَنَةِ خَاصَّةً (3) .
__________
(1) - كشاف القناع 3 / 261 ، 262 ، والمغني 4 / 48 وما بعدها .
(2) - الكبائر للذهبي ص162 .
(3) - الأحكام السلطانية للماوردي ص221 - 224 ، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 299 ، ومعالم القرية في أحكام الحسبة ص86 ، والحسبة في الإسلام لابن تيميه ص13(1/341)
الْغِشُّ فِي الْمُرَابَحَةِ :
ذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ عِنْدَهُمْ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ شَيْئًا مُرَابَحَةً فَقَال:هُوَ عَلَيَّ بِمِائَةٍ بِعْتُكَ بِهَا وَبِرِبْحِ عَشَرَةٍ،ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ رَأْسَ مَالِهِ تِسْعُونَ،فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ،وَلِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا زَادَ عَلَى رَأْسِ الْمَال وَهُوَ عَشَرَةٌ وَحَظُّهَا مِنَ الرِّبْحِ - وَهُوَ دِرْهَمٌ - فَيَبْقَى عَلَى الْمُشْتَرِي بِتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ (1) .
وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ مِنَ الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهُ إِذَا اشْتَرَاهُ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ وَبَاعَهُ بِرِبْحِ خَمْسَةٍ،ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الْبَائِعَ اشْتَرَاهُ بِثَمَانِيَةٍ فَإِنَّهُ يَحُطُّ قَدْرَ الْخِيَانَةِ مِنَ الأَْصْل وَهُوَ الْخُمُسُ - أَيْ دِرْهَمَانِ وَمَا قَابَلَهُ مِنَ الرِّبْحِ - وَهُوَ دِرْهَمٌ،فَيَأْخُذُ الثَّوْبَ بِاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا (2) .
وَقَدْ عَلَّل الشَّافِعِيَّةُ حَطَّ الزِّيَادَةِ وَرِبْحَهَا بِقَوْلِهِمْ:لأَِنَّهُ تَمْلِيكٌ بِاعْتِمَادِ الثَّمَنِ الأَْوَّل فَتُحَطُّ الزِّيَادَةُ عَنْهُ .
وَالْقَوْل الثَّانِي عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ:لاَ يَحُطُّ شَيْءٌ ؛ لأَِنَّهُ قَدْ سَمَّى عِوَضًا وَعَقَدَ بِهِ .
وَبِنَاءً عَلَى الْحَطِّ فَهَل لِلْمُشْتَرِي خِيَارٌ ؟ الأَْظْهَرُ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لاَ خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَلاَ لِلْبَائِعِ،سَوَاءٌ أَكَانَ الْمَبِيعُ بَاقِيًا أَمْ تَالِفًا،أَمَّا الْمُشْتَرِي فَلأَِنَّهُ إِذَا رَضِيَ بِالأَْكْثَرِ فَبِالأَْقَل مِنْ بَابِ أَوْلَى،وَأَمَّا الْبَائِعُ فَلِتَدْلِيسِهِ (3) .
وَهَذَا ظَاهِرُ كَلاَمِ الْخِرَقِيِّ،كَمَا قَال ابْنُ قُدَامَةَ (4) .
وَالْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَخْذِ الْمَبِيعِ بِرَأْسِ مَالِهِ وَحِصَّتِهِ مِنَ الرِّبْحِ . وَبَيْنَ تَرْكِهِ،لأَِنَّهُ لاَ يَأْمَنُ الْخِيَانَةَ فِي هَذَا الثَّمَنِ أَيْضًا (5) .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ:إِنْ كَذَبَ الْبَائِعُ فِي إِخْبَارِهِ،كَأَنْ يُخْبِرَهُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِخَمْسِينَ وَقَدْ كَانَ اشْتَرَاهُ بِأَرْبَعِينَ - سَوَاءٌ أَكَانَ عَمْدًا أَمْ خَطَأً - لَزِمَ الْبَيْعُ الْمُشْتَرِيَ إِنْ حَطَّ الْبَائِعُ الزَّائِدَ
__________
(1) - المغني لابن قدامة مع الشرح الكبير 4 / 260 ، ومغني المحتاج 2 / 79 .
(2) - حاشية رد المحتار 4 / 155 ، 156 .
(3) - مغني المحتاج 2 / 79 .
(4) - المغني مع الشرح الكبير 4 / 260 .
(5) - المغني مع الشرح الكبير 4 / 260 .(1/342)
الْمَكْذُوبَ . وَإِلاَّ خُيِّرَ بَيْنَ التَّمَاسُكِ وَالرَّدِّ،وَإِذَا غَشَّ بِأَنِ اشْتَرَاهُ بِثَمَانِيَةٍ مَثَلاً وَيُرَقِّمُ عَلَيْهَا عَشْرَةً،ثُمَّ يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً فَالْمُشْتَرِي مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَتَمَاسَكَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ الَّذِي نَقَدَهُ - وَهُوَ الثَّمَانِيَةُ وَرِبْحُهَا - أَوْ يَرُدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ وَيَرْجِعَ بِثَمَنِهِ (1) .
وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ:إِنْ ظَهَرَتْ خِيَانَةُ الْبَائِعِ فِي مُرَابَحَةٍ أَخَذَهُ الْمُشْتَرِي بِكُل ثَمَنِهِ أَوْ رَدَّهُ لِفَوَاتِ الرِّضَا (2) .
الْغِشُّ فِي التَّوْلِيَةِ :
إِذَا ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ فِي التَّوْلِيَةِ فِي صِفَةِ الثَّمَنِ بِأَنِ اشْتَرَى شَيْئًا نَسِيئَةً،ثُمَّ بَاعَهُ تَوْلِيَةً عَلَى الثَّمَنِ الأَْوَّل،وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ نَسِيئَةً،فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارَ فِي رَدِّ الْمَبِيعِ وَأَخْذِهِ إِنْ كَانَ قَائِمًا،وَإِذَا هَلَكَ أَوْ اسْتُهْلِكَ فَلاَ خِيَارَ لَهُ وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ حَالاً مَعَ تَفْصِيلٍ فِي ذَلِكَ .
وَعِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِي الْمَذْهَبِ يَأْخُذُ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِالثَّمَنِ مُؤَجَّلاً بِالأَْجَل الَّذِي اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ إِلَيْهِ،وَلاَ خِيَارَ لَهُ .
وَإِنْ ظَهَرَتِ الْخِيَانَةُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ،فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ فِي الأَْظْهَرِ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ يَحُطُّ قَدْرَ الْخِيَانَةِ،وَيَلْزَمُ الْعَقْدُ بِالثَّمَنِ الْبَاقِي دُونَ خِيَارٍ .
وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ:إِنْ حَطَّ الْبَائِعُ الزَّائِدَ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ،وَإِلاَّ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ السِّلْعَةَ أَوْ يَأْخُذَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ (3) .
الْغِشُّ فِي الْوَضِيعَةِ :
حُكْمُ الْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ فِي الْوَضِيعَةِ يُشْبِهُ حُكْمَ الْغِشِّ فِي الْمُرَابَحَةِ ؛ لأَِنَّهَا فِي الْحَقِيقَةِ رِبْحُ الْمُشْتَرِي (4) .
__________
(1) - الشرح الكبير بهامش الدسوقي 4 / 168 ، 169 .
(2) - رد المحتار 4 / 155 .
(3) - بدائع الصنائع 5 / 225 ، 226 ، والبناية 6 / 494 ، والخرشي 5 / 179 وحاشية الدسوقي 3 / 165 ، ومغني المحتاج 2 / 79 ، وروضة الطالبين 3 / 525 ، وكشاف القناع 3 / 231 .
(4) - رد المحتار 4 / 152 ، ومغني المحتاج 2 / 76 ، وكشاف القناع 3 / 230 .(1/343)
غِشُّ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ فِي النِّكَاحِ :
إِذَا غَشَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ الآْخَرَ بِكِتْمَانِ عَيْبٍ فِيهِ يُنَافِي الاِسْتِمْتَاعَ أَوْ كَمَال الاِسْتِمْتَاعِ،يَثْبُتُ لِلْمُتَضَرِّرِ مِنْهُمَا خِيَارُ الْفَسْخِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي الْجُمْلَةِ (1) .
غِشُّ وُلاَةِ الأُْمُورِ لِرَعِيَّتِهِمْ :
الْمُرَادُ بِأُولِي الأَْمْرِ الأُْمَرَاءُ وَالْحُكَّامُ وَكُل مَنْ تَقَلَّدَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ،وَقَدْ حَمَلَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَا يَعُمُّ الأُْمَرَاءَ وَالْعُلَمَاءَ (2) .
وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ غِشِّهِمْ لِلرَّعِيَّةِ أَحَادِيثُ،مِنْهَا،مَا رَوَاهُ مَعْقِل بْنُ يَسَارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَال:قَال رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :لاَ يَسْتَرْعِي اللَّهُ عَبْدًا رَعِيَّةً يَمُوتُ حِينَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهَا إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، وَفِي رِوَايَةٍ:مَا مِنْ وَالٍ يَلِي رَعِيَّةً مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهُمْ إِلاَّ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ . (3)
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الرَّاعِيَ وَالْوَالِيَ الْغَاشَّ مَحْرُومٌ مِنَ الْجَنَّةِ أَبَدًا،لَكِنَّ النَّوَوِيَّ قَال فِي مَعْنَى:" حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ " فِيهِ تَأْوِيلاَنِ :
أَحَدُهُمَا:أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِل،وَالثَّانِي:حَرَّمَ عَلَيْهِ دُخُولَهَا مَعَ الْفَائِزِينَ السَّابِقِينَ،وَمَعْنَى التَّحْرِيمِ هُنَا الْمَنْعُ (4) .
وَقَال ابْنُ حَجَرٍ:الأَْوْلَى أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَحِل،وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الزَّجْرُ وَالتَّغْلِيظُ،وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لاَ يَدْخُل الْجَنَّةَ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ ؛ لأَِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا وَلاَّهُ عَلَى عِبَادِهِ لِيُدِيمَ لَهُمُ النَّصِيحَةَ - لاَ لِيَغُشَّهُمْ - حَتَّى يَمُوتَ عَلَى ذَلِكَ،فَلَمَّا قَلَبَ الْقَضِيَّةَ اسْتَحَقَّ أَنْ يُعَاقَبَ (5) .
__________
(1) - رد المحتار 2 / 593 ، والزرقاني 3 / 235 ، وحاشية القليوبي 3 / 261 ، والمغني لابن قدامة 6 / 650 .
(2) - تفسير الطبري 8 / 495 ، وتفسير روح المعاني 5 / 65 في تفسير قوله تعالى : ( وأولي الأمر منكم ) .
(3) - مر تخريجهما وكلاهما صحيح
(4) - صحيح مسلم بشرح النووي 2 / 165 ، 166 .
(5) - فتح الباري 13 / 128 ، 129 .(1/344)
وَنَقَل النَّوَوِيُّ عَنِ الْقَاضِي عِيَاضٍ قَوْلَهُ:مَعْنَاهُ بَيِّنٌ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ غَشِّ الْمُسْلِمِينَ لِمَنْ قَلَّدَهُ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِمْ وَاسْتَرْعَاهُ عَلَيْهِمْ وَنَصَّهُ لِمَصْلَحَتِهِمْ فِي دِينِهِمْ أَوْ دُنْيَاهُمْ،فَإِذَا خَانَ فِيمَا اؤْتُمِنَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْصَحْ فِيمَا قَلَّدَهُ:إِمَّا بِتَضْيِيعِهِ تَعْرِيفَهُمْ مَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ دِينِهِمْ وَأَخْذِهِمْ بِهِ،وَإِمَّا بِالْقِيَامِ بِمَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ مِنْ حِفْظِ شَرَائِعِهِمْ ،وَالذَّبِّ عَنْهَا لِكُل مُتَصَدٍّ لإِِدْخَالِهِ دَاخِلَةً فِيهَا أَوْ تَحْرِيفٍ لِمَعَانِيهَا أَوْ إِهْمَال حُدُودِهِمْ أَوْ تَضْيِيعِ حُقُوقِهِمْ أَوْ تَرْكِ حِمَايَةِ حَوْزَتِهِمْ وَمُجَاهَدَةِ عَدُوِّهِمْ أَوْ تَرْكِ سِيرَةِ الْعَدْل فِيهِمْ فَقَدْ غَشَّهُمْ (1) .
وَقَدْ عَدَّ الذَّهَبِيُّ غِشَّ الْوُلاَةِ مِنَ الْكَبَائِرِ (2) ، وَمِنَ الْمُقَرَّرِ أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ فَاسِقٌ،وَالْفِسْقُ مُنَافٍ لِلْعَدَالَةِ .
وَيَخْتَلِفُ أَثَرُ فِسْقِ الْوُلاَةِ حَسَبَ نَوْعِيَّةِ الْوِلاَيَةِ وَمَدَى سُلْطَتِهِمْ عَلَى الرَّعِيَّةِ .
فَفِي الإِْمَامَةِ الْكُبْرَى اشْتَرَطَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ الْعَدَالَةَ،فَلاَ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْفَاسِقِ،لَكِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي دَوَامِ الإِْمَامَةِ،فَلاَ يَنْعَزِل السُّلْطَانُ بِالظُّلْمِ وَالْفِسْقِ وَتَعْطِيل الْحُقُوقِ،وَلاَ يَجِبُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ،وَيَجِبُ وَعْظُهُ وَدَعْوَتُهُ إِلَى الصَّلاَحِ،بَل إِنَّ بَعْضَهُمْ قَالُوا بِحُرْمَةِ الْخُرُوجِ عَلَى الإِْمَامِ الْجَائِرِ تَحَرُّزًا عَنِ الْفِتْنَةِ،وَتَقْدِيمًا لأَِخَفِّ الْمَفْسَدَتَيْنِ،إِلاَّ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ إِمَامٌ عَدْلٌ فَيَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ وَإِعَانَةُ ذَلِكَ الْقَائِمِ (3) .
وَتَخْتَلِفُ هَذِهِ الأَْحْكَامُ فِي سَائِرِ الْوِلاَيَاتِ كَالْقَضَاءِ وَالإِْمَارَةِ وَنَحْوِهِمَا حَسَبَ اخْتِلاَفِ طَبِيعَتِهَا .
الْغِشُّ فِي الْمَشُورَةِ وَالنَّصِيحَةِ :
يَنْبَغِي عَلَى الْمُسْتَشَارِ أَنْ يُشِيرَ إِلَى مَا فِيهِ رُشْدُ الْمُسْتَشِيرِ وَخَيْرُهُ،فَإِنْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ صَوَابٍ فَقَدْ غَشَّهُ فِي مَشُورَتِهِ،وَخَانَهُ بِكِتْمَانِ مَصْلَحَتِهِ،فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ
__________
(1) - صحيح مسلم بشرح النووي 2 / 165 ، 166 .
(2) - كتاب الكبائر ص 67 .
(3) - حاشية رد المحتار 1 / 368 ، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير 4 / 299 ، والأحكام السلطانية للماوردي ص ( 17 ) والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص4 .(1/345)
- صلى الله عليه وسلم - :مَنْ تَقَوَّلَ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ،فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ،وَمَنِ اسْتَشَارَهُ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ،فَأَشَارَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رُشْدٍ،فَقَدْ خَانَهُ،وَمَنْ أَفْتَى بِفُتْيَا غَيْرِ ثَبْتٍ،فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ. . (1)
وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:الْمُسْتَشَارُ مُؤْتَمَنٌ. (2)
أَيِ الَّذِي طُلِبَ مِنْهُ الْمَشُورَةُ وَالرَّأْيُ فِيمَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ أَمِينٌ فِيمَا يُسْأَل مِنَ الأُْمُورِ ،فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ يَخُونَ الْمُسْتَشِيرَ بِكِتْمَانِ مَصْلَحَتِهِ (3) .
التَّعْزِيرُ عَلَى الْغِشِّ :
الْغَاشُّ يُؤَدَّبُ بِالتَّعْزِيرِ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ زَاجِرًا وَمُؤَدِّبًا لَهُ،فَالْمُقَرَّرُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ عُقُوبَةَ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي لاَ حَدَّ فِيهَا وَلاَ كَفَّارَةَ التَّعْزِيرُ،وَلاَ يَمْنَعُ التَّعْزِيرُ عَنِ الْحُكْمِ بِالرَّدِّ وَفَسْخِ الْعَقْدِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْغِشِّ إِذَا تَحَقَّقَتْ شُرُوطُ الرَّدِّ .
وَنَقَل الْحَطَّابُ عَنِ ابْنِ رُشْدٍ قَوْلَهُ:مِمَّا لاَ اخْتِلاَفَ فِيهِ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى مَنْ غَشَّ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ أَوْ غَرَّهُ أَوْ دَلَّسَ لَهُ بِعَيْبٍ أَنْ يُؤَدَّبَ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ ؛ لأَِنَّهُمَا حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ (4) .
من مضار (الغش) (5)
(1) الغشّ طريق موصل إلى النّار.
(2) دليل على دناءة النّفس وخبثها.
(3) البعد عن اللّه والبعد عن النّاس.
(4) حرمان إجابة الدّعاء.
(5) حرمان البركة من المال والعمر.
(6) دليل على نقص الإيمان.
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 244)(8266) 8249- صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 448)(22360) 22717- صحيح
(3) - فيض القدير 6 / 268 ، وعون المعبود 14 / 36 ، وفتح الباري 13 / 340 .
(4) - مواهب الجليل 4 / 449 .
(5) - نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - (11 / 5075)
(7) يورث سخط النّاس ومقتهم.
- - - - - - - - - - - - -(1/346)
الحق الأربعون
يؤثره على نفسه
قال تعالى:{وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (9) سورة الحشر
والذين استوطنوا "المدينة"، وآمنوا من قبل هجرة المهاجرين -وهم الأنصار- يحبون المهاجرين، ويواسونهم بأموالهم، ولا يجدون في أنفسهم حسدًا لهم مما أُعْطوا من مال الفيء وغيره، ويُقَدِّمون المهاجرين وذوي الحاجة على أنفسهم، ولو كان بهم حاجة وفقر، ومن سَلِم من البخل ومَنْعِ الفضل من المال فأولئك هم الفائزون الذين فازوا بمطلوبهم. (1)
وهذه كذلك صورة وضيئة صادقة تبرز أهم الملامح المميزة للأنصار. هذه المجموعة التي تفردت بصفات،وبلغت إلى آفاق،لولا أنها وقعت بالفعل،لحسبها الناس أحلاما طائرة ورؤى مجنحة ومثلا عليا قد صاغها خيال محلق ..
«وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ» .. أي دار الهجرة. يثرب مدينة الرسول - صلى اللّه عليه وسلم - وقد تبوأها الأنصار قبل المهاجرين. كما تبوأوا فيها الإيمان. وكأنه منزل لهم ودار. وهو تعبير ذو ظلال.
وهو أقرب ما يصور موقف الأنصار من الإيمان. لقد كان دارهم ونزلهم ووطنهم الذي تعيش فيه قلوبهم،وتسكن إليه أرواحهم،ويثوبون إليه ويطمئنون له،كما يثوب المرء ويطمئن إلى الدار.
__________
(1) - التفسير الميسر - (10 / 84)(1/347)
«يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا» .. ولم يعرف تاريخ البشرية كله حادثا جماعيا كحادث استقبال الأنصار للمهاجرين. بهذا الحب الكريم. وبهذا البذل السخي. وبهذه المشاركة الرضية. وبهذا التسابق إلى الإيواء واحتمال الأعباء. حتى ليروى أنه لم ينزل مهاجر في دار أنصاري إلا بقرعة.
لأن عدد الراغبين في الإيواء المتزاحمين عليه أكثر من عدد المهاجرين! «وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا» .. مما يناله المهاجرون من مقام مفضل في بعض المواضع،ومن مال يختصون به كهذا الفي ء،فلا يجدون في أنفسهم شيئا من هذا. ولا يقول:حسدا ولا ضيقا. إنما يقول:«شيئا». مما يلقي ظلال النظافة الكاملة لصدورهم والبراءة المطلقة لقلوبهم،فلا تجد شيئا أصلا.
«وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ» .. والإيثار على النفس مع الحاجة قمة عليا. وقد بلغ إليها الأنصار بما لم تشهد البشرية له نظيرا. وكانوا كذلك في كل مرة وفي كل حالة بصورة خارقة لمألوف البشر قديما وحديثا.« وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» .. فهذا الشح. شح النفس. هو المعوق عن كل خير. لأن الخير بذل في صورة من الصور. بذل في المال. وبذل في العاطفة. وبذل في الجهد. وبذل في الحياة عند الاقتضاء. وما يمكن أن يصنع الخير شحيح يهم دائما أن يأخذ ولا يهم مرة أن يعطي. ومن يوق شح نفسه،فقد وقي هذا المعوّق عن الخير،فانطلق إليه معطيا باذلا كريما. وهذا هو الفلاح في حقيقة معناه. (1)
وهذا العمل قد بلغ بأصحابه أعلى درجات الإِيمان الكامل ،فأما الإِيثار فهو أعظم من ذلك في قوة حقيقة الإِيمان ؛ لأن الإِيثار:هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية ورغبة في الحظوظ الدينية،وذلك ينشأ عن قوة اليقين،وتوكيد المحبة والصبر على المشقة،يقال:آثرته بكذا:أي خصصته به وفضلْته بالمال أو بالمنازل،أو بالنفس،لا عن غنىً بل مع الحاجة لذلك (2)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3526)
(2) - انظر : الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ، 18 / 28 .(1/348)
وقد وصل أصحاب النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - إلى الدرجات العلى من الإِيثار،فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ،فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،أَصَابَنِي الْجَهْدُ (1) ، فَأَرْسَلَ إِلَى نِسَائِهِ،فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمْ شَيْئًا،فَقَالَ:أَلاَ رَجُلٌ يُضَيِّفُهُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ؟ فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ،فَقَالَ:أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ،فَذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ،فَقَالَ لاِمْرَأَتِهِ:ضَيْفُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لاَ تَدَّخِرِي عَنْهُ شَيْئًا،فَقَالَتْ:وَاللَّهِ مَا عِنْدِي إِلاَّ قُوتُ الصِّبْيَةِ،قَالَ:فَإِذَا أَرَادَ الصِّبْيَةُ الْعَشَاءَ فَنَوِّمِيهِمْ،وَتَعَالِي،فَأَطْفِئِي السَّرَّاجَ،وَنَطْوِي بُطُونَنَا اللَّيْلَةَ،فَفَعَلَتْ،ثُمَّ غَدَا الرَّجُلُ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - :لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ،أَوْ ضَحِكَ اللَّهُ مِنْ فُلاَنٍ وَفُلاَنَةَ،فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر]. (2)
ومما يدل على الإِيثار قصة مؤاخاة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - بين عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن الربيع رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، فعَنْ أَنَسٍ،قَالَ:آخَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالأَنْصَارِ،فَآخَى بَيْنَ سَعْدِ بن الرَّبِيعِ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ،فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ:إِنَّ لِي مَالا،فَهِيَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَطْرَانِ،وَلِي امْرَأَتَانِ،فَانْظُرْ:أَيُّهُمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ،فَأَنَا أُطَلِّقُهَا،فَإِذَا حَلَّتْ فَتَزَوَّجْهَا،فَقَالَ:بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ،دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ،فَلَمْ يَرْجِعْ حَتَّى رَجَعَ بِتَمْرٍ،وَأَقِطٍ،ثُمَّ أَفْضَلَهُ،وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهِ أَثَرَ صُفْرَةٍ،فَقَالَ:مَهْيَمْ ؟،فَقُلْتُ:تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ،قَالَ:مَا سُقْتَ إِلَيْهَا ؟،قَالَ:وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ،قَالَ:أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ . (3)
وعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ،أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ،يَقُولُ:كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالاً،وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءُ،وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ،وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدْخُلُهَا،وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ،قَالَ أَنَسٌ:فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}،قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا
__________
(1) - الجهد : هو المشقة والحاجة ، وسوء العيش والجوع ، شرح النووي على صحيح مسلم ، 14 / 254 .
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (3798 ) وصحيح مسلم- المكنز - (5481) وصحيح ابن حبان - (16 / 254) (7264)
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (5 / 264) (5265) صحيح(1/349)
تُحِبُّونَ}،وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءُ،وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا،وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ،فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ شِئْتَ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :بَخٍ ذَاكَ مَالٌ رَابِحٌ،بَخٍ ذَاكَ مَالٌ رَابِحٌ،وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهَا،وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ،قَالَ أَبُو طَلْحَةَ:أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ،فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ. (1)
ومما يؤكد حرص السلف الصالح على الإِيثار قصة الرأس الذي عُرض على سبعة أبيات يقول صاحب كل بيت منهم:أعطه جاري وعياله ؛ فهو أحق بذلك مني،حتى رُجِعَ بالرأس إلى البيت الأول . (2)
ومما يدل على الإِيثار العظيم في القُرَبِ وغيرها قصة عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مع عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا،فعَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ،قَالَ:رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ،رَضِيَ اللهُ عَنْهُ،قَبْلَ أَنْ يُصَابَ بِأَيَّامٍ بِالْمَدِينَةِ،وَقَفَ عَلَى حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ،وَعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ،قَالَ:كَيْفَ فَعَلْتُمَا،أَتَخَافَانِ أَنْ تَكُونَا قَدْ حَمَّلْتُمَا الأَرْضَ مَا لاَ تُطِيقُ،قَالاَ:حَمَّلْنَاهَا أَمْرًا هِيَ لَهُ مُطِيقَةٌ،مَا فِيهَا كَبِيرُ فَضْلٍ،قَالَ:انْظُرَا أَنْ تَكُونَا حَمَّلْتُمَا الأَرْضَ مَا لاَ تُطِيقُ،قَالَ:قَالاَ:لاَ،فَقَالَ عُمَرُ:لَئِنْ سَلَّمَنِي اللهُ،لأَدَعَنَّ أَرَامِلَ أَهْلِ الْعِرَاقِ لاَ يَحْتَجْنَ إِلَى رَجُلٍ بَعْدِي أَبَدًا،قَالَ:فَمَا أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ رَابِعَةٌ،حَتَّى أُصِيبَ،قَالَ:إِنِّي لَقَائِمٌ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلاَّ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ،غَدَاةَ أُصِيبَ،وَكَانَ إِذَا مَرَّ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ،قَالَ:اسْتَوا،حَتَّى إِذَا لَمْ يَرَ فِيهِنَّ خَلَلاً تَقَدَّمَ فَكَبَّرَ،وَرُبَّمَا قَرَأَ سُورَةَ يُوسُفَ،أَوِ النَّحْلَ،أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ،فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى،حَتَّى يَجْتَمِعَ النَّاسُ،فَمَا هُوَ إِلاَّ أَنْ كَبَّرَ،فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:قَتَلَنِي،أَوْ أَكَلَنِي الْكَلْبُ،حِينَ طَعَنَهُ،فَطَارَ الْعِلْجُ بِسِكِّينٍ ذَاتِ طَرَفَيْنِ،لاَ يَمُرُّ عَلَى أَحَدٍ يَمِينًا وَلا شِمَالاً،إِلاَّ طَعَنَهُ،حَتَّى طَعَنَ ثَلاَثَةَ عَشَرَ رَجُلاً،مَاتَ مِنْهُمْ سَبْعَةٌ،فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ طَرَحَ عَلَيْهِ بُرْنُسًا،فَلَمَّا ظَنَّ الْعِلْجُ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ نَحَرَ نَفْسَهُ،وَتَنَاوَلَ عُمَرُ يَدَ عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ فَقَدَّمَهُ،فَمَنْ يَلِي عُمَرَ،فَقَدْ رَأَى الَّذِي أَرَى ،وَأَمَّا نَوَاحِي الْمَسْجِدِ،فَإِنَّهُمْ لاَ يَدْرُونَ غَيْرَ أَنَّهُمْ قَدْ فَقَدُوا صَوْتَ عُمَرَ،وَهُمْ يَقُولُونَ:سُبْحَانَ اللهِ،سُبْحَانَ اللهِ،فَصَلَّى بِهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَانِ صَلاَةً
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (1461) وصحيح ابن حبان - (16 / 149) (7182)
(2) - انظر : الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ، 18 / 28 . وفقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري - (3 / 258)(1/350)
خَفِيفَةً،فَلَمَّا انْصَرَفُوا،قَالَ:يَا ابْنَ عَبَّاسٍ،انْظُرْ مَنْ قَتَلَنِي،فَجَالَ سَاعَةً ثُمَّ جَاءَ،فَقَالَ:غُلاَمُ الْمُغِيرَةِ،قَالَ:الصَّنَعُ ؟ قَالَ:نَعَمْ،قَالَ:قَاتَلَهُ اللهُ،لَقَدْ أَمَرْتُ بِهِ مَعْرُوفًا،الْحَمْدُ ِللهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ مِيتَتِي بِيَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي الإِسْلاَمَ،قَدْ كُنْتَ أَنْتَ وَأَبُوكَ تُحِبَّانِ أَنْ تَكْثُرَ الْعُلُوجُ بِالْمَدِينَةِ،وَكَانَ الْعَبَّاسُ أَكْثَرَهُمْ رَقِيقًا،فَقَالَ:إِنْ شِئْتَ فَعَلْتُ،أَيْ إِنْ شِئْتَ قَتَلْنَا،قَالَ:كَذَبْتَ،بَعْدَ مَا تَكَلَّمُوا بِلِسَانِكُمْ،وَصَلَّوْا قِبْلَتَكُمْ،وَحَجُّوا حَجَّكُمْ،فَاحْتُمِلَ إِلَى بَيْتِهِ،فَانْطَلَقْنَا مَعَهُ،وَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ تُصِبْهُمْ مُصِيبَةٌ قَبْلَ يَوْمَئِذٍ،فَقَائِلٌ يَقُولُ:لاَ بَأْسَ،وَقَائِلٌ يَقُولُ:أَخَافُ عَلَيْهِ،فَأُتِيَ بِنَبِيذٍ فَشَرِبَهُ،فَخَرَجَ مِنْ جَوْفِهِ،ثُمَّ أُتِيَ بِلَبَنٍ فَشَرِبَهُ،فَخَرَجَ مِنْ جُرْحِهِ،فَعَلِمُوا أَنَّهُ مَيِّتٌ،فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ،وَجَاءَ النَّاسُ،فَجَعَلُوا يُثْنُونَ عَلَيْهِ،وَجَاءَ رَجُلٌ شَابٌّ،فَقَالَ:أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،بِبُشْرَى اللهِ لَكَ مِنْ صُحْبَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم،وَقَِدَمٍ فِي الإِسْلاَمِ مَا قَدْ عَلِمْتَ،ثُمَّ وَلِيتَ فَعَدَلْتَ،ثُمَّ شَهَادَةٌ،قَالَ:وَدِدْتُ أَنَّ ذَلِكَ كَفَافٌ،لاَ عَلَيَّ وَلاَ لِي،فَلَمَّا أَدْبَرَ إِذَا إِزَارُهُ يَمَسُّ الأَرْضَ،قَالَ :رُدُّوا عَلَيَّ الْغُلاَمَ،قَالَ:يَا ابْنَ أَخِي،ارْفَعْ ثَوْبَكَ،فَإِنَّهُ أَبْقَى لِثَوْبِكَ،وَأَتْقَى لِرَبِّكَ،يَا عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ،انْظُرْ مَا عَلَيَّ مِنَ الدَّيْنِ،فَحَسَبُوهُ فَوَجَدُوهُ سِتَّةً وَثَمَانِينَ أَلْفًا،أَوْ نَحْوَهُ،قَالَ:إِنْ وَفَى لَهُ مَالُ آلِ عُمَرَ،فَأَدِّهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ،وَإِلاَّ فَسَلْ فِي بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ،فَإِنْ لَمْ تَفِ أَمْوَالُهُمْ،فَسَلْ فِي قُرَيْشٍ،وَلاَ تَعْدُهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ،فَأَدِّ عَنِّي هَذَا الْمَالَ،انْطَلِقْ إِلَى عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ،فَقُلْ:يَقْرَأُ عَلَيْكَ عُمَرُ السَّلاَمَ،وَلاَ تَقُلْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ،فَإِنِّي لَسْتُ الْيَوْمَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَمِيرًا،وَقُلْ:يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ،فَسَلَّمَ وَاسْتَأْذَنَ،ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهَا،فَوَجَدَهَا قَاعِدَةً تَبْكِي،فَقَالَ:يَقْرَأُ عَلَيْكِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ السَّلاَمَ،وَيَسْتَأْذِنُ أَنْ يُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَيْهِ،فَقَالَتْ:كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِي،وَلأُوثِرَنَّ بِهِ الْيَوْمَ عَلَى نَفْسِي،فَلَمَّا أَقْبَلَ قِيلَ:هَذَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ قَدْ جَاءَ،قَالَ:ارْفَعُونِي،فَأَسْنَدَهُ رَجُلٌ إِلَيْهِ،فَقَالَ:مَا لَدَيْكَ ؟ قَالَ:الَّذِي تُحِبُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،أَذِنَتْ،قَالَ:الْحَمْدُ ِللهِ،مَا كَانَ مِنْ شَيْءٍ أَهَمُّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ،فَإِذَا أَنَا قَضَيْتُ فَاحْمِلُونِي،ثُمَّ سَلِّمْ،فَقُلْ:يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ،فَإِنْ أَذِنَتْ لِي فَأَدْخِلُونِي،وَإِنْ رَدَّتْنِي رُدُّونِي إِلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ،وَجَاءَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ حَفْصَةُ ،وَالنِّسَاءُ تَسِيرُ مَعَهَا،فَلَمَّا رَأَيْنَاهَا قُمْنَا،فَوَلَجَتْ عَلَيْهِ،فَبَكَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً،وَاسْتَأْذَنَ الرِّجَالُ،فَوَلَجَتْ دَاخِلاً لَهُمْ،فَسَمِعْنَا بُكَاءَهَا(1/351)
مِنَ الدَّاخِلِ،فَقَالُوا:أَوْصِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،اسْتَخْلِفْ،قَال:مَا أَجِدُ أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الأَمْرِ مِنْ هَؤُلاَءِ النَّفَرِ،أَوِ الرَّهْطِ الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ،فَسَمَّى عَلِيًّا،وَعُثْمَانَ،وَالزُّبَيْرَ،وَطَلْحَةَ،وَسَعْدًا،وَعَبْدَ الرَّحْمَانِ،وَقَالَ:يَشْهَدُكُمْ عَبْدُ اللهِ ابْنُ عُمَرَ،وَلَيْسَ لَهُ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ،كَهَيْئَةِ التَّعْزِيَةِ لَهُ،فَإِنْ أَصَابَتِ الإِمْرَةُ سَعْدًا،فَهُوَ ذَاكَ،وَإِلاَّ فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ أَيُّكُمْ مَا أُمِّرَ،فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ عَنْ عَجْزٍ وَلاَ خِيَانَةٍ،وَقَالَ:أُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي بِالْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ،أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ،وَيَحْفَظَ لَهُمْ حُرْمَتَهُمْ،وَأُوصِيهِ بِالأَنْصَارِ خَيْرًا:"الَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) أَنْ يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ،وَأَنْ يُعْفَى عَنْ مُسِيئِهِمْ،وَأُوصِيهِ بِأَهْلِ الأَمْصَارِ خَيْرًا،فَإِنَّهُمْ رِدْءُ الإِسْلامِ،وَجُبَاةُ الْمَالِ،وَغَيْظُ الْعَدُوِّ،وَأَنْ لاَ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ إِلاَّ فَضْلُهُمْ،عَنْ رِضَاهُمْ،وَأُوصِيهِ بِالأَعْرَابِ خَيْرًا،فَإِنَّهُمْ أَصْلُ الْعَرَبِ،وَمَادَّةُ الإِسْلاَمِ،أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ حَوَاشِي أَمْوَالِهِمْ،وَيُرَدَّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ،وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللهِ،وَذِمَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم،أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ،وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ،وَلاَ يُكَلَّفُوا إِلاَّ طَاقَتَهُمْ،فَلَمَّا قُبِضَ خَرَجْنَا بِهِ،فَانْطَلَقْنَا نَمْشِي،فَسَلَّمَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ،قَالَ:يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ،قَالَتْ:أَدْخِلُوهُ،فَأُدْخِلَ،فَوُضِعَ هُنَالِكَ مَعَ صَاحِبَيْهِ،فَلَمَّا فُرِغَ مِنْ دَفْنِهِ،اجْتَمَعَ هَؤُلاَءِ الرَّهْطُ،فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَانِ:اجْعَلُوا أَمْرَكُمْ إِلَى ثَلاَثَةٍ مِنْكُمْ،فَقَالَ الزُّبَيْرُ:قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عَلِيٍّ،فَقَالَ طَلْحَةُ:قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عُثْمَانَ،وَقَالَ سَعْدٌ:قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ عَوْفٍ،فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَانِ:أَيُّكُمَا تَبَرَّأَ مِنْ هَذَا الأَمْرِ،فَنَجْعَلُهُ إِلَيْهِ،وَاللهُ عَلَيْهِ وَالإِسْلامُ،لَيَنْظُرَنَّ أَفْضَلَهُمْ فِي نَفْسِهِ،فَأُسْكِتَ الشَّيْخَانِ،فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَانِ:أَفَتَجْعَلُونَهُ إِلَيَّ،وَاللهُ عَلَيَّ أَنْ لاَ آلُوْ عَنْ أَفْضَلِكُمْ،قَالاَ:نَعَمْ،فَأَخَذَ بِيَدِ أَحَدِهِمَا،فَقَالَ:لَكَ قَرَابَةٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم،وَالْقَِدَمُ فِي الإِسْلاَمِ مَا قَدْ عَلِمْتَ،فَاللهُ عَلَيْكَ،لَئِنْ أَمَّرْتُكَ لَتَعْدِلَنَّ،وَلَئِنْ أَمَّرْتُ عُثْمَانَ لَتَسْمَعَنَّ وَلَتُطِيعَنَّ،ثُمَّ خَلاَ بِالآخَرِ،فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ،فَلَمَّا أَخَذَ الْمِيثَاقَ،قَالَ:ارْفَعْ يَدَكَ يَا عُثْمَانُ،فَبَايَعَهُ،فَبَايَعَ لَهُ عَلِيٌّ،ولَجَ أَهْلُ الدَّارِ فَبَايَعُوهُ ." (1)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3700 ) والمسند الجامع - (14 / 61) (10629)(1/352)
وهذا يؤكد جواز الإِيثار بالقرب،قال الإمام ابن القيم رحمه الله:" ومنها: كمالُ محبة الصِّدِّيق له، وقصدُه التقربَ إليه، والتحبب بكل ما يمكنه، ولهذا ناشد المغيرة أن يدعه هو يُبشِّر النبى - صلى الله عليه وسلم - بقدوم وفد الطائف، ليكون هو الذى بشَّره وفرَّحه بذلك، وهذا يدل على أنه يجوز للرجل أن يسأل أخاه أن يؤثِرَهُ بقُرْبَةٍ من القُرْبِ، وأنه يجوز للرجل أن يُؤثر بها أخاه، وقول مَن قال من الفقهاء: لا يجوز الإيثار بالقُرَبِ، لا يصح. وقد آثرتْ عائشةُ عمرَ بن الخطاب بدفنه فى بيتها جوار النبى - صلى الله عليه وسلم - ، وسألها عمرُ ذلك، فلم تكره له السؤال، ولا لها البذلَ، وعلى هذا، فإذا سأل الرجل غيره أن يؤثره بمقامه فى الصف الأول، لم يُكره له السؤال، ولا لذلك البذل، ونظائره. ومَن تأمل سيرةَ الصحابة، وجدهم غيرَ كارهين لذلك، ولا ممتنعين منه، وهل هذا إلا كرمٌ وسخاء، وإيثارٌ على النفس بما هوأعظمُ محبوباتها تفريحاً لأخيه المسلم، وتعظيماً لقدره، وإجابة له إلى ما سأله، وترغيباً له فى الخير، وقد يكون ثواب كل واحد من هذه الخصال راجحاً على ثواب تلك القُرْبة، فيكون المؤثر بها ممن تاجر، فبذل قُرْبةً، وأخذ أضعافها، وعلى هذا فلا يمتنع أن يُؤثر صاحب الماءِ بمائه أن يتوضأ به ويتيمم هو إذا كان لا بُد مِن تيمم أحدهما، فآثر أخاه، وحاز فضيلة الإيثار، وفضيلة الطُّهر بالتراب، ولا يمنع هذا كتاب ولا سُنَّة، ولا مكارم أخلاق، وعلى هذا فإذا اشتد العطش بجماعة،وعاينوا التلف ومع بعضهم ماء، فآثر على نفسه، واستسلم للموت، كان ذلك جائزاً، ولم يقل: إنه قاتل لنفسه، ولا أنه فعل مُحَرَّماً، بل هذا غاية الجود والسخاء كما قال تعالى: {وَيُؤثِرُونَ عَلَى أنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}[الحشر: 9]، وقد جرى هذا بعينه لجماعة من الصحابة فى فتوح الشام، وعُدَّ ذلك من مناقبهم وفضائلهم، وهل إهداء القُرَب المجمَع عليها والمتنازَع فيها إلى الميتِ إلا إيثارٌ بثوابها، وهو عَيْن الإيثار بالقُرَب، فأى فرق بين أن يُؤثره بفعلها ليحرز ثوابَها، وبين أن يعمل، ثم يؤثره بثوابها. وبالله التوفيق (1)
__________
(1) - زاد المعاد في هدي خير العباد - (3 / 505) وانظر فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (8 / 8032) -رقم الفتوى 59691 جواز الإيثار بالقرب(1/353)
الإِْيثَارُ بِالْقُرَبِ (1) :
قَال ابْنُ عَابِدِينَ:فِي حَاشِيَةِ الأَْشْبَاهِ لِلْحَمَوِيِّ عَنِ الْمُضْمِرَاتِ عَنِ النِّصَابِ:وَإِنْ سَبَقَ أَحَدٌ إِلَى الصَّفِّ الأَْوَّل فَدَخَل رَجُلٌ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا أَوْ أَهْل عِلْمٍ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَخَّرَ وَيُقَدِّمَهُ تَعْظِيمًا لَهُ . ا هـ
فَهَذَا يُفِيدُ جَوَازَ الإِْيثَارِ بِالْقُرَبِ بِلاَ كَرَاهَةٍ،وَنَقَل الْعَلاَّمَةُ الْبِيرِيُّ فُرُوعًا تَدُل عَلَى عَدَمِ الْكَرَاهَةِ،وَيَدُل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ }،وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِىِّ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أُتِىَ بِشَرَابٍ،فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ،فَقَالَ لِلْغُلاَمِ « أَتَأْذَنُ لِى أَنْ أُعْطِىَ هَؤُلاَءِ » . فَقَالَ الْغُلاَمُ لاَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ أُوثِرُ بِنَصِيبِى مِنْكَ أَحَدًا . قَالَ فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى يَدِهِ (2) .،وَلاَ رَيْبَ أَنَّ مُقْتَضَى طَلَبِ الإِْذْنِ مَشْرُوعِيَّةُ ذَلِكَ بِلاَ كَرَاهَةٍ وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ أَفْضَل مِنْهُ . أ هـ .
أَقُول:وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُ الْمَسْأَلَةِ بِمَا إِذَا عَارَضَ تِلْكَ الْقُرْبَةَ مَا هُوَ أَفْضَل مِنْهَا،كَاحْتِرَامِ أَهْل الْعِلْمِ وَالأَْشْيَاخِ كَمَا أَفَادَهُ الْفَرْعُ السَّابِقُ وَالْحَدِيثُ . . .،وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَل عَلَيْهِ مَا فِي النَّهْرِ مِنْ قَوْلِهِ:وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّةَ ذَكَرُوا أَنَّ الإِْيثَارَ بِالْقُرَبِ مَكْرُوهٌ كَمَا لَوْ كَانَ فِي الصَّفِّ الأَْوَّل فَلَمَّا أُقِيمَتْ آثَرَ بِهِ،وَقَوَاعِدُنَا لاَ تَأْبَاهُ (3) .
وَقَال السُّيُوطِيُّ:الإِْيثَارُ فِي الْقُرَبِ مَكْرُوهٌ،وَفِي غَيْرِهَا مَحْبُوبٌ،قَال تَعَالَى:{ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } ( سورة الحشر / 9 ) .
قَال الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ:لاَ إِيثَارَ فِي الْقُرُبَاتِ،فَلاَ إِيثَارَ بِمَاءِ الطَّهَارَةِ،وَلاَ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَلاَ بِالصَّفِّ الأَْوَّل ؛ لأَِنَّ الْغَرَضَ بِالْعِبَادَاتِ التَّعْظِيمُ وَالإِْجْلاَل،فَمَنْ آثَرَ بِهِ فَقَدْ تَرَكَ إِجْلاَل الإِْلَهِ وَتَعْظِيمَهُ .
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (33 / 103)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (2451 ) -تله : دفعه إليه
(3) - حاشية ابن عابدين 1 / 382 - 383 .(1/354)
وَقَال الإِْمَامُ:لَوْ دَخَل الْوَقْتُ - وَمَعَهُ مَاءٌ يَتَوَضَّأُ بِهِ - فَوَهَبَهُ لِغَيْرِهِ لِيَتَوَضَّأَ بِهِ لَمْ يَجُزْ،لاَ أَعْرِفُ فِيهِ خِلاَفًا ؛ لأَِنَّ الإِْيثَارَ إِنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالنُّفُوسِ،لاَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُرَبِ وَالْعِبَادَاتِ .
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ:لاَ يُقَامُ أَحَدٌ مِنْ مَجْلِسِهِ لِيُجْلَسَ فِي مَوْضِعِهِ . فَإِنْ قَامَ بِاخْتِيَارِهِ لَمْ يُكْرَهْ،فَإِنِ انْتَقَل إِلَى أَبْعَدَ مِنَ الإِْمَامِ كُرِهَ،قَال أَصْحَابُنَا:لأَِنَّهُ آثَرَ بِالْقُرْبَةِ .
وَقَال الْقَرَافِيُّ:مَنْ دَخَل عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلاَةِ،وَمَعَهُ مَا يَكْفِيهِ لِطَهَارَتِهِ،وَهُنَاكَ مَنْ يَحْتَاجُهُ لِلطَّهَارَةِ،لَمْ يَجُزْ لَهُ الإِْيثَارُ،وَلَوْ أَرَادَ الْمُضْطَرُّ إِيثَارَ غَيْرِهِ بِالطَّعَامِ لاِسْتِبْقَاءِ مُهْجَتِهِ،كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ خَافَ فَوَاتَ مُهْجَتِهِ .
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْحَقَّ فِي الطَّهَارَةِ لِلَّهِ فَلاَ يَسُوغُ فِيهِ الإِْيثَارُ،وَالْحَقُّ فِي حَال الْمَخْمَصَةِ لِنَفْسِهِ،وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُهْجَتَيْنِ عَلَى شَرَفِ التَّلَفِ إِلاَّ وَاحِدَةً تُسْتَدْرَكُ بِذَلِكَ الطَّعَامِ،فَحَسُنَ إِيثَارُ غَيْرِهِ عَلَى نَفْسِهِ .
وَقَال الْخَطِيبُ فِي الْجَامِعِ:كَرِهَ قَوْمٌ إِيثَارَ الطَّالِبِ غَيْرَهُ بِنَوْبَتِهِ فِي الْقِرَاءَةِ ؛ لأَِنَّ قِرَاءَةَ الْعِلْمِ وَالْمُسَارَعَةَ إِلَيْهِ قُرْبَةٌ وَالإِْيثَارَ بِالْقُرَبِ مَكْرُوهٌ (1) .
الإيثار لغة واصطلاحاً:
الإيثار مصدر قولهم آثره عليه يؤثره إيثارا بمعنى فضّله وقدّمه وهو مأخوذ من مادّة (أ ث ر) الّتي تدلّ على تقديم الشّيء (2)
ومن ذلك قولهم: الأثير وهو الكريم عليك الّذي تؤثره بفضلك وصلتك، وجمع الأثير أثراء، والمآثر ما يروى من مكارم الإنسان، ويستعار الأثر للفضل والإيثار للتّفضّل، وفي التّنزيل: لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا (يوسف/ 91). وآثر أن يفعل كذا: فضّل وقدّم، قال الأصمعيّ: آثرتك إيثارا أي فضّلتك وضدّه الأثرة من قولهم استأثر بالشّي ء انفرد به أو اختصّ به نفسه، وفي الحديث: قال صلّى اللّه عليه وسلّم للأنصار: «إنّكم ستلقون بعدي
__________
(1) - الأشباه للسيوطي ص 129 - 130 .
(2) - لهذه المادة معنيان آخران هما: رسم الشي ءالباقي، وذكر الشي ء انظر هذين المعنيين وأمثلتهما في مقاييس اللغة لابن فارس (1/ 53).(1/355)
أثرة فاصبروا». والاستئثار: الانفراد بالشّي ء. والمأثرة بفتح الثّاء وضمّها: المكرمة وآثرت فلانا على نفسي من الإيثار وهو الاختيار والتّفضّل (1) .
واصطلاحا:
قال القرطبيّ: الإيثار هو تقديم الغير على النّفس في حظوظها الدّنيويّة رغبة في الحظوظ الدّينيّة، وذلك ينشأ عن قوّة اليقين وتوكيد المحبّة، والصّبر على المشقّة (2) .
درجات الإيثار:
قال ابن القيّم- رحمه اللّه-: الإيثار على درجات:
الأولى: أن تؤثر الخلق على نفسك فيما لا يخرم عليك دينا، ولا يقطع عليك طريقا، ولا يفسد عليك وقتا. يعني أن تقدّمهم على نفسك في مصالحهم، مثل أن تطعمهم وتجوع، وتكسوهم وتعرى، وتسقيهم وتظمأ، بحيث لا يؤدّي ذلك إلى ارتكاب إتلاف لا يجوز في الدّين. وكلّ سبب يعود عليك بصلاح قلبك ووقتك وحالك مع اللّه فلا تؤثر به أحدا، فإن آثرت به فإنّما تؤثر الشّيطان على اللّه وأنت لا تعلم.
الثّانية: إيثار رضا اللّه على رضا غيره وإن عظمت فيه المحن وثقلت فيه المؤن وضعف عنه الطّول والبدن وإيثار رضا اللّه- عزّ وجلّ- على غيره: هو أن يريد ويفعل ما فيه مرضاته، ولو أغضب الخلق وهي درجة الأنبياء. وأعلاها للرّسل عليهم صلوات اللّه وسلامه. وأعلاها لأولي العزم منهم وأعلاها لنبيّنا صلّى اللّه عليه وسلّم وعليهم؛ فإنّه قاوم العالم كلّه، وتجرّد للدّعوة إلى اللّه، واحتمل عداوة البعيد والقريب في اللّه تعالى، وآثر رضا اللّه على رضا الخلق من كلّ وجه، ولم يأخذه في إيثار رضاه لومة لائم بل كان همّه وعزمه وسعيه كلّه مقصورا على إيثار مرضاة اللّه وتبليغ رسالاته، وإعلاء كلماته، وجهاد أعدائه؛ حتّى ظهر دين اللّه على كلّ دين وقامت حجّته على العالمين وتمّت نعمته على المؤمنين، فبلّغ الرّسالة، وأدّى الأمانة ونصح الأمّة، وجاهد في اللّه حقّ جهاده وعبد اللّه حتّى أتاه اليقين من ربّه فلم ينل أحد من درجة هذا الإيثار ما نال- صلوات اللّه وسلامه عليه.
__________
(1) - النهاية لابن الأثير (221)، والصحاح للجوهري (5752) ولسان العرب (1/ 26).
(2) - تفسير القرطبي (الجامع لأحكام القرآن) (18/ 18).(1/356)
هذا وقد جرت سنّة اللّه- الّتي لا تبديل لها- أنّ من آثر مرضاة الخلق على مرضاته: أن يسخط عليه من آثر رضاه، ويخذله من جهته، ويجعل محنته على يديه، فيعود حامده ذامّا، ومن آثر مرضاته ساخطا (1) فلا على مقصوده منهم حصل، ولا إلى ثواب مرضاة ربّه وصل. وهذا أعجز الخلق وأحمقهم.
قال الشّافعيّ- رحمه اللّه-: رضا النّاس غاية لا تدرك فعليك بما فيه صلاح نفسك فالزمه.
ومعلوم أن لا صلاح للنّفس إلّا بإيثار رضا ربّها ومولاها على غيره، ولقد أحسن من قال:
فليتك تحلو والحياة مريرة ... وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الّذي بيني وبينك عامر ... وبيني وبين العالمين خراب
إذا صحّ منك الودّ فالكلّ هيّن ... وكلّ الّذي فوق التّراب تراب
الثّالثة: أن تنسب إيثارك إلى اللّه دون نفسك، وأنّه هو الّذي تفرّد بالإيثار لا أنت، فكأنّك سلّمت الإيثار إليه، فإذا آثرت غيرك بشي ء؛ فإنّ الّذي آثره هو الحقّ لا أنت فهو المؤثر على الحقيقة، إذ هو المعطي حقيقة (2) .
الأسباب التي تعين على الإيثار:
(1) تعظيم الحقوق: فإن عظمت الحقوق عنده، قام بواجبها ورعاها حقّ رعايتها واستعظم إضاعتها، وعلم أنّه إن لم يبلغ درجة الإيثار لم يؤدّها كما ينبغي فيجعل إيثاره احتياطا لأدائها.
(2) مقت الشّحّ: فإنّه إذا مقته وأبغضه التزم الإيثار؛ فإنّه يرى أنّه لا خلاص له من هذا المقت البغيض إلّا بالإيثار.
(3) الرّغبة في مكارم الأخلاق: وبحسب رغبته فيها يكون إيثاره؛ لأنّ الإيثار أفضل درجات مكارم الأخلاق (3) .
الفرق بين الإيثار والسخاء والجود:
__________
(1) - ومن آثر: معطوف على «حامده» والمعنى يعود الذي آثره من الخلق ساخطا عليه.
(2) - أي الحقوق.
(3) - مدارج السالكين لابن القيم (3/ 303)- 304) بتصرف.(1/357)
السّخاء أعلى مراتب العطاء والبذل، وهذه المراتب هي:
الأولى: ألّا يقضه (1) البذل ولا يصعب عليه العطاء وهذه مرتبة السّخاء.
الثّانية: أن يعطي الأكثر- ويبقي له شيئا أو يبقي- مثل ما أعطى، وهذا هو الجود.
الثّالثة: أن يؤثر غيره بالشّي ء مع حاجته إليه وهذه مرتبة الإيثار (2) .
الإيثار والأثرة:
الأثرة عكس الإيثار؛ لأنّ الأثرة تعني استئثار المرء عن أخيه بما هو محتاج إليه، قال ابن القيّم: وهي المرتبة الّتي قال فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتّى تلقوني على الحوض (3) .
من فوائد (الإيثار) (4)
(1) دليل كمال الإيمان وحسن الإسلام.
(2) طريق موصّل إلى محبّة اللّه ورضوانه.
(3) حصول الألفة والمحبّة بين النّاس.
(4) دليل سخاء النّفس وارتقائها.
(5) مظهر من مظاهر حسن الظّنّ باللّه.
(6) علامة على حسن الخاتمة.
(7) الإيثار دليل علوّ الهمّة والبعد عن صفة الأثرة الذّميمة.
(8) الإيثار يجلب البركة وينمّي الخير.
(9) الإيثار من علامات الرّحمة الّتي توجب لصاحبها الجنّة ويعتق بها من النّار.
(10) الإيثار طريق موصّل إلى الفلاح لأنّه يقي الإنسان من داء الشّحّ.
__________
(1) - من قولهم (أقض مضجعه) أي آلمه وآذاه.
(2) - مدارج السالكين (2/ 304).
(3) - المرجع السابق (2/ 309) بتصرف.
(4) - نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - (3 / 640)
- - - - - - - - - - -(1/358)
الحق الواحد والأربعون
إكرام الضيف
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :الضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ،فَمَا وَرَاءَهَا فَهُوَ صَدَقَةٌ. (1)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،أَنَّ أَبَا طَلْحَةَ،رَأَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - طَاوِيًا،فَأَتَى أُمَّ سُلَيْمٍ،فَقَالَ:هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ ؟ فَقَالَتْ:مَا عِنْدَنَا إِلاَّ نَحْوُ مُدٍّ مِنْ دَقِيقِ شَعِيرٍ،قَالَ:فَاعْجِنِيهِ وَأَصْلِحِيهِ،عَسَى أَنْ نَدْعُوَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَيَأْكُلَ عِنْدَنَا،قَالَ:فَعَجَنَتْهُ وَخَبَزَتْهُ،فَجَاءَ قُرْصًا،فَقَالَ:ادْعُ لِيَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَهُ نَاسٌ،قَالَ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ:أَحْسِبُهُ بَضْعَةً وَثَمَانِينَ،فَقُلْتُ:يَا رَسُولَ اللهِ:أَبُو طَلْحَةَ يَدْعُوكَ،فَقَالَ لأَصْحَابِهِ:أَجِيبُوا أَبَا طَلْحَةَ فَجِئْتُ مُسْرِعًا حَتَّى أَخْبَرْتُهُ أَنَّهُ قَدْ جَاءَ وَأَصْحَابُهُ،قَالَ بَكْرٌ:فَقَفَدَنِي قَفْدًا،وَقَالَ ثَابِتٌ:قَالَ أَبُو طَلْحَةَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَعْلَمُ بِمَا فِي بَيْتِي مِنِّي،وَقَالاَ جَمِيعًا عَنْ أَنَسٍ:فَاسْتَقْبَلَهُ أَبُو طَلْحَةَ،فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ إِلاَّ قُرْصٌ،رَأَيْتُكَ طَاوِيًا،فَأَمَرْتُ أُمَّ سُلَيْمٍ،فَجَعَلَتْ ذَلِكَ قُرْصًا،قَالَ:فَدَعَا بِالْقُرْصِ،وَدَعَا بِجَفْنَةٍ فَوَضَعَهُ فِيهَا،وَقَالَ:هَلْ مِنْ سَمْنٍ ؟ قَالَ:أَبُو طَلْحَةَ:وَكَانَ فِي الْعُكَّةِ شَيْءٌ،فَجَاءَ بِهَا،فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو طَلْحَةَ يَعْصِرَانِهَا حَتَّى خَرَجَ شَيْءٌ،فَمَسَحَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِهِ سَبَّابَتَهُ،ثُمَّ مَسَحَ الْقُرْصَ فَانْتَفَخَ،وَقَالَ:بِسْمِ اللهِ فَانْتَفَخَ الْقُرْصُ،فَلَمْ يَزَلْ يَصْنَعُ ذَلِكَ وَالْقُرْصُ يَنْتَفِخُ حَتَّى رَأَيْتُ الْقُرْصَ فِي الْجَفْنَةِ يَتَمَيَّعُ،فَقَالَ:ادْعُ عَشْرَةً مِنْ أَصْحَابِي فَدَعَوْتُ لَهُ عَشْرَةً،قَالَ:فَوَضَعَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ فِي وَسَطِ الْقُرْصِ،وَقَالَ:كُلُوا بِسْمِ اللهِ فَأَكَلُوا حَوَالَيِ الْقُرْصِ حَتَّى شَبِعُوا،ثُمَّ قَالَ:ادْعُ لِي عَشْرَةً فَلَمْ يَزَلْ يَدْعُو عَشْرَةً عَشْرَةً،يَأْكُلُونَ مِنْ ذَلِكَ الْقُرْصِ حَتَّى أَكَلَ مِنْهُ بَضْعَةٌ وَثَمَانُونَ مِنْ حَوَالَيِ الْقُرْصِ حَتَّى شَبِعُوا،وَإِنَّ وَسَطَ الْقُرْصِ حَيْثُ وَضَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ كَمَا هُوَ. (2)
وعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ،وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتَ،وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (12 / 92) (5284) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (12 / 93) (5285) صحيح(1/360)
وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ،جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ،وَالضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ،فَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ،وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ. (1)
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ،أَنَّهُمْ قَالُوا:يَا رَسُولَ اللهِ نَنْزِلُ بِقَوْمٍ لاَ يُضَيِّفُونَا،فَكَيْفَ تَرَى فِي ذَلِكَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا،وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُ. (2)
وقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رضى الله عنهما -: دَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ يَعْنِى « إِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا،وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا » . فَقُلْتُ وَمَا صَوْمُ دَاوُدَ قَالَ « نِصْفُ الدَّهْرِ » . (3)
وقال الطحاوي:"بَابُ بَيَانِ مُشْكِلِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي الضِّيَافَةِ مِنْ إِيجَابِهِ إِيَّاهَا وَمِمَّا سِوَى ذَلِكَ
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: جِئْتُ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي قَدْ كَادَتْ تَذْهَبُ أَسْمَاعُنَا وَأَبْصَارُنَا مِنَ الْجُوعِ فَجَعَلْنَا نَتَعَرَّضُ لِلنَّاسِ فَلَمْ يُضِفْنَا أَحَدٌ , فَأَتَيْنَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - , فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ , بِنَا جُوعٌ شَدِيدٌ فَتَعَرَّضْنَا لِلنَّاسِ فَلَمْ يُضِفْنَا أَحَدٌ , فَأَتَيْنَاكَ فَذَهَبَ بِنَا إِلَى مَنْزِلِهِ وَعِنْدَهُ أَرْبَعَةُ أَعْنُزٍ , فَقَالَ: " يَا مِقْدَادُ احْلُبْهُنَّ وَجَزِّئِ اللَّبَنَ لِكُلِّ اثْنَيْنِ جُزْءًا "
وعَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي , ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَهُ فَكَانَ هَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الضِّيَافَةَ لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاجِبَةً لَأَنْكَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا , فَقَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ تَقْبَلُونَ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - , وَأَنْتُمْ تَرْوُونَ عَنْهُ،فعَنِ الْمِقْدَامِ أَبِي كَرِيمَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَيْلَةُ الضَّيْفِ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ , فَإِنْ أَصْبَحَ بِفِنَائِهِ فَإِنَّهُ دَيْنٌ إِنْ شَاءَ اقْتَضَاهُ , وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ "
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (12 / 97) (5287) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (12 / 99) (5288) وصحيح البخارى- المكنز - (2461)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (1974 ) -الزور : الزائر(1/361)
فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إِثْبَاتُهُ وُجُوبَ الضِّيَافَةِ وَجَعْلُهُ إِيَّاهَا دَيْنًا عَلَى مَنْ نَزَلَ بِهِ قَالَ: وَأَنْتُمْ تَرْوُونَ عَنْهُ أَيْضًا فِي تَوْكِيدِ وُجُوبِهَا مَا يَزِيدُ عَلَى مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ،عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ , إِنَّكَ تَبْعَثُنَا فَنَمُرُّ بِقَوْمٍ قَالَ: " إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِي لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا , وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِي يَنْبَغِي "
وعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " أَيُّمَا رَجُلٍ أَضَافَ قَوْمًا فَلَمْ يُقْرُوهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ "
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَيُّمَا ضَيْفٍ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَأَصْبَحَ الضَّيْفُ مَحْرُومًا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ قِرَاهُ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ "
وَهَذَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى إِيجَابِهَا , وَأَنَّهَا تَكُونُ لِأَهْلِهَا دَيْنًا عَلَى مَنْ حَلُّوا بِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ سِوَاهَا . فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ أَنَّ كُلَّ ضَيْفٍ مِنْ هَذَيْنِ الضَّيْفَيْنِ قَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ الضَّيْفِ الْآخَرِ مِنْهُمَا , وَيَكُونَ مَا فِي حَدِيثِ الْمِقْدَادِ عَلَى ضَيْفٍ قَدْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَعَوَّضَ مِنَ الضِّيَافَةِ غَيْرَهَا بِابْتِيَاعِ مَا يُغْنِيهِ عَنْهَا بِمَا مَعَهُ مِمَّا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَصْرِفَهُ فِي ثَمَنِهِ أَوْ يَسْأَلَ إِنْ كَانَ لَا شَيْءَ مَعَهُ حَتَّى يَصِلَ بِمَسْأَلَتِهِ إِلَى ذَلِكَ , وَإِنْ كَانَ الْأَحْسَنُ بِمَنْ نَزَلَ بِهِ أَنْ يَكْفِيَهُ ذَلِكَ , وَأَنْ يَمْتَثِلَ فِي أَمْرِهِ مَا قَدْ أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ إِكْرَامِهِ عَلَى مَا قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا قَبْلَ هَذَا الْبَابِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى وَيَكُونُ مَا فِي حَدِيثَيْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَالْمِقْدَامِ عَلَى الْمَارِّينَ بِقَوْمٍ فِي بَادِيَةٍ لَا يَجِدُونَ مِنْ ضِيَافَتِهِمْ إِيَّاهُمْ بَدَلًا وَلَا يَجِدُونَ مَا يَبْتَاعُونَهُ مِمَّا يُغْنِيهِمْ عَنْ ذَلِكَ , فَيَكُونُ الْحَدِيثَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ وَجْهٌ غَيْرُ وَجْهِ الْحَدِيثِ الْآخَرِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " لَا يَحْتَلِبَنَّ أَحَدُكُمْ مَاشِيَةَ أَخِيهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ , أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تُؤْتَى مَشْرَبَتُهُ فَتُكْسَرَ خِزَانَتُهُ فَيُحْمَلَ طَعَامُهُ , فَإِنَّمَا تَخْزُنُ لَهُمْ ضُرُوعُ مَوَاشِيهِمْ أَطْعِمَتَهُمْ فَلَا يَحْتَلِبَنَّ أَحَدُكُمْ مَاشِيَةَ امْرِئٍ إِلَّا بِإِذْنِهِ " وعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ أَنْ يَأْخُذَ عَصَا أَخِيهِ بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ قَالَ: وَذَلِكَ لِشِدَّةِ مَا حَرَّمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِ "(1/362)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ يَثْرِبِيٍّ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - , فَقَالَ: " لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْءٌ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ " قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ , إِنْ لَقِيتُ غَنَمَ ابْنِ عَمِّي آخُذُ مِنْهَا شَيْئًا ؟ فَقَالَ: " إِنْ لَقِيتَهَا تَحْمِلُ شَفْرَةً , وَأَزْنَادًا بِخَبْتِ الْجَمِيشِ فَلَا تَهِجْهَا "
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَفِيمَا رَوَيْنَا إِثْبَاتُ تَحْرِيمِ مَالِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ، فَقَالَ قَائِلٌ: فَقَدْ رَوَيْتُمْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَا يُخَالِفُ هَذَا،فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَحْسَبُهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ عَلَى حَائِطٍ فَلْيُنَادِ صَاحِبَهُ ثَلَاثَ مِرَارٍ فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلَّا فَلْيَأْكُلْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُفْسِدَ وَإِذَا أَتَى عَلَى غَنَمٍ فَلْيُنَادِ رَاعِيَهَا ثَلَاثَ مِرَارٍ فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلَّا فَلْيَشْرَبْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُفْسِدَ "
فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ أَنَّ هَذَا قَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى الضَّرُورَةِ إِلَى ذَلِكَ بَلْ قَدْ وَجَدْنَاهُ كَذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُصْمَةَ قَالَ:سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ يَقُولُ: " إِذَا أَرْمَلَ الْقَوْمُ , فَصَبَّحُوا الْإِبِلَ فَلْيُنَادُوا الرَّاعِيَ ثَلَاثًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا الرَّاعِيَ وَوَجَدُوا الْإِبِلَ فَلْيَنْضَحُوا لَبَنَ الرَّاوِيَةِ إِنْ كَانَ فِي الْإِبِلِ رَاوِيَةٌ , وَلَا حَقَّ لَهُمْ فِي نَفْسِهَا , فَإِنْ جَاءَ الرَّاعِي فَلْيُمْسِكْهُ رَجُلَانِ وَلَا يُقَاتِلُوهُ وَلْيَشْرَبُوا , فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ دَرَاهِمُ فَهُوَ عَلَيْهِمْ حَرَامٌ إِلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهَا " قَالَ: فَهَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ عَلَيْنَا مَشْكُوكٌ فِيهِ هَلْ هُوَ مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ مَوْقُوفٌ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ ؟ وَقَدْ وَجَدْنَا حَدِيثَ ابْنِ عُصْمَةَ هَذَا مَرْفُوعًا فِي رِوَايَةِ شَرِيكٍ إِيَّاهُ،فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُصْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَفَعَهُ قَالَ: " لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَحِلَّ صِرَارَ نَاقَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهَا , فَإِنَّهُ خَاتَمُهُمْ عَلَيْهَا "
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُصْمَةَ الَّذِي سُمِّيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَبُوهُ مَكَانَ عُصْمَةَ، عُصْمًا مَرْفُوعٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - , وَأَنَّهُ عَلَى الْإِرْمَالِ لَا عَلَى الْوُجُودِ، وَقَدْ وَجَدْنَا عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي ذَهَبْنَا إِلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ،فعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، مَوْلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي سَفَرٍ فَآوَانَا اللَّيْلُ إِلَى قَرْيَةِ دِهْقَانَ , وَإِذَا الْإِبِلُ عَلَيْهَا أَحْمَالُهَا , فَقَالَ لِي سَعْدٌ: " إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مُسْلِمًا حَقًّا فَلَا تَأْكُلْ مِنْهَا شَيْئًا فَبِتْنَا جَائِعَيْنِ " فَكَانَ هَذَا(1/363)
الْقَوْلُ مِنْ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ امْتِثَالَهُ مِنْ حَقَائِقِ أُمُورِ الْإِسْلَامِ الَّتِي يَجِبُ عَلَى أَهْلِهِ التَّمَسُّكُ بِهَا وَتَرْكُ خِلَافِهَا هُوَ مَا يَفْعَلُهُ , وَأَمَرَ بِهِ مَوْلَاهُ مِمَّا ذَكَرْنَا , وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي قَرْيَةٍ لَا فِي بَادِيَةٍ , فَكَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ مِنْهُ عَلَى أَحْكَامِ الْقُرَى وَلَيْسَ عَلَى أَحْكَامِ مَا سِوَاهَا مِنَ الْبَوَادِي , وَاللهَ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ " (1)
تعريف الضيافة (2) :
تُعْتَبَرُ الضِّيَافَةُ مِنْ مَكَارِمِ الأَْخْلاَقِ،وَسُنَّةِ الْخَلِيل عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالأَْنْبِيَاءِ بَعْدَهُ،وَقَدْ رَغَّبَ فِيهَا الإِْسْلاَمُ،وَعَدَّهَا مِنْ أَمَارَاتِ صِدْقِ الإِْيمَانِ (3) .
فَقَدْ وَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أحاديث كثيرة مر بعضها قبل قليل، وَهِيَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ،وَقَدْ ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الضِّيَافَةَ سُنَّةٌ،وَمُدَّتُهَا ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ،وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ .
وَالرِّوَايَةُ الأُْخْرَى عَنْ أَحْمَدَ - وَهِيَ الْمَذْهَبُ - أَنَّهَا وَاجِبَةٌ،وَمُدَّتُهَا يَوْمٌ لَيْلَةٌ،وَالْكَمَال ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ . وَبِهَذَا يَقُول اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ .
وَيَرَى الْمَالِكِيَّةُ وُجُوبَ الضِّيَافَةِ فِي حَالَةِ الْمُجْتَازِ الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ مَا يُبَلِّغُهُ وَيَخَافُ الْهَلاَكَ .
وَالضِّيَافَةُ عَلَى أَهْل الْقُرَى وَالْحَضَرِ،إِلاَّ مَا جَاءَ عَنِ الإِْمَامِ مَالِكٍ وَالإِْمَامِ أَحْمَدَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَهْل الْحَضَرِ ضِيَافَةٌ،وَقَال سَحْنُونٌ:الضِّيَافَةُ عَلَى أَهْل الْقُرَى،وَأَمَّا أَهْل الْحَضَرِ فَإِنَّ الْمُسَافِرَ إِذَا قَدِمَ الْحَضَرَ وَجَدَ نُزُلاً - وَهُوَ الْفُنْدُقُ - فَيَتَأَكَّدُ النَّدْبُ إِلَيْهَا وَلاَ يَتَعَيَّنُ عَلَى أَهْل الْحَضَرِ تَعَيُّنَهَا عَلَى أَهْل الْقُرَى لَمَعَانٍ :
أَحَدُهَا :
أَنَّ ذَلِكَ يَتَكَرَّرُ عَلَى أَهْل الْحَضَرِ،فَلَوِ الْتَزَمَ أَهْل الْحَضَرِ الضِّيَافَةَ لَمَا خَلَوْا مِنْهَا،وَأَهْل الْقُرَى يَنْدُرُ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَلاَ تَلْحَقُهُمْ مَشَقَّةٌ .
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (7 / 245)(2810 -2827 )
(2) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (28 / 316)
(3) - إحياء علوم الدين 2 / 12 ، ابن عابدين 5 / 196 .(1/364)
ثَانِيهَا :
أَنَّ الْمُسَافِرَ يَجِدُ فِي الْحَضَرِ الْمَسْكَنَ وَالطَّعَامَ،فَلاَ تَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ لِعَدَمِ الضِّيَافَةِ،وَحُكْمُ الْقُرَى الْكِبَارِ الَّتِي تُوجَدُ فِيهَا الْفَنَادِقُ وَالْمَطَاعِمُ لِلشِّرَاءِ وَيَكْثُرُ تَرْدَادُ
النَّاسِ عَلَيْهَا حُكْمُ الْحَضَرِ،وَهَذَا فِيمَنْ لاَ يَعْرِفُهُ الإِْنْسَانُ،وَأَمَّا مَنْ يَعْرِفُهُ مَعْرِفَةَ مَوَدَّةٍ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ أَوْ صِلَةٌ وَمُكَارَمَةٌ،فَحُكْمُهُ فِي الْحَضَرِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ (1) .
آدَابُ الْمُضِيفِ :
يُسْتَحَبُّ لِلْمُضِيفِ إِينَاسُ الضَّيْفِ بِالْحَدِيثِ الطَّيِّبِ وَالْقَصَصِ الَّتِي تَلِيقُ بِالْحَال،لأَِنَّ مِنْ تَمَامِ الإِْكْرَامِ طَلاَقَةَ الْوَجْهِ وَطِيبَ الْحَدِيثِ عِنْدَ الْخُرُوجِ وَالدُّخُول لِيَحْصُل لَهُ الاِنْبِسَاطُ،وَلاَ يَتَكَلَّفُ مَا لاَ يُطِيقُ ،فَعَنْ شَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ:دَخَلْتُ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي إِلَى سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ،فَقَالَ سَلْمَانُ:لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنِ التَّكَلُّفِ لَتَكَلَّفْتُ لَكُمْ،ثُمَّ جَاءَ بِخُبْزٍ وَمِلْحٍ،فَقَالَ صَاحِبِي:لَوْ كَانَ فِي مِلْحِنَا صَعْتَرٌ،فَبَعَثَ سَلْمَانُ بِمَطْهَرَتِهِ فَرَهَنَهَا،ثُمَّ جَاءَ بِصَعْتَرٍ،فَلَمَّا أَكَلْنَا قَالَ صَاحِبِي:الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَنَّعَنَا بِمَا رَزَقَنَا . فَقَالَ سَلْمَانُ:لَوْ قَنَعْتَ بِمَا رَزَقَكَ لَمْ تَكُنْ مَطْهَرَتِي مَرْهُونَةً (2)
وعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَسْعُودٍ، سَمِعَ سَلْمَانَ، " أَمَرَنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ لَا نَتَكَلَّفَ لِلضَّيْفِ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا، وَأَنْ نُقَدِّمَ مَا حَضَرَ " (3)
وعَنْ أَبِي وَائِلٍ،قَالَ:أَتَيْتُ سَلْمَانَ فَقَرَّبَ إِلَيَّ خُبْزًا وَمِلْحًا،وَقَالَ:لَوْلاَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى أَنْ نَتَكَلَّفَ لِلضَّيْفِ مَا لَيْسَ عِنْدَنَا لَتَكَلَّفْتُ لَكَ. (4)
__________
(1) - عمدة القاري 22 / 111 ، 173 ، 13 / 8 ، وفتح الباري 5 / 108 ، وفتاوى قاضيخان بهامش الهندية 3 / 401 ، والمنتقى للباجي 7 / 242 ، 243 ، نهاية المحتاج 6 / 376 ، الإنافة في الصدقة والضيافة لابن حجر الهيثمي ص 87 ، المغني 8 / 603 ( ط . الرياض ) ، أحكام أهل الذمة لابن القيم 2 / 783 وما بعدها .
(2) - اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة - (5 / 191)[5178]
والمستدرك للحاكم (7146) وجزء أبي الطاهر - (153 )ومجمع الزوائد - ( 13628 ) حسن
(3) - شعب الإيمان - (12 / 129) (9156 ) حسن
(4) - مسند البزار ( المطبوع باسم البحر الزخار - (6 / 482) (2515) حسن(1/365)
وَأَنْ يَقُول لِلضَّيْفِ أَحْيَانًا:" كُل " مِنْ غَيْرِ إِلْحَاحٍ،وَأَلاَّ يُكْثِرَ السُّكُوتَ عِنْدَ الضَّيْفِ،وَأَنْ لاَ يَغِيبَ عَنْهُ،وَلاَ يَنْهَرَ خَادِمَهُ بِحَضْرَتِهِ،وَأَنْ يَخْدُمَهُ بِنَفْسِهِ،وَأَلاَّ يُجْلِسَهُ مَعَ مَنْ يَتَأَذَّى بِجُلُوسِهِ أَوْ لاَ يَلِيقُ لَهُ الْجُلُوسُ مَعَهُ،وَأَنْ يَأْذَنَ لَهُ بِالْخُرُوجِ إِذَا اسْتَأْذَنَهُ وَأَنْ يَخْرُجَ مَعَهُ إِلَى بَابِ الدَّارِ تَتْمِيمًا لإِِكْرَامِهِ وَأَنْ يَأْخُذَ بِرِكَابِ ضَيْفِهِ إِذَا أَرَادَ الرُّكُوبَ .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ - أَوْ لَيْلَةٍ - فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقَالَ: " مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةِ ؟ " . قَالَا: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا قُومُوا " فَقَامُوا مَعَهُ فَأَتَى رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ فَلَمَّا رَأَتْهُ الْمَرْأَةُ قَالَتْ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَيْنَ فُلَانٌ ؟ " قَالَتْ: ذَهَبَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا الْمَاءَ، إِذْ جَاءَ الْأَنْصَارِيُّ، فَنَظَرَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَصَاحِبَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ مَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَكْرَمَ أَضْيَافًا مِنِّي، قَالَ: فَانْطَلَقَ فَجَاءَهُمْ بِعِذْقٍ فِيهِ بُسْرٌ وَتَمْرٌ وَرُطَبٌ، فَقَالَ: كُلُوا مِنْ هَذَا وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ،فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ " فَذَبَحَ لَهُمْ فَأَكَلُوا مِنَ الشَّاةِ، وَمَنْ ذَلِكَ الْعِذْقِ وَشَرِبُوا، فَلَمَّا أَنْ شَبِعُوا وَرَوَوْا . قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لن تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ " . رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ (1)
آدَابُ الضَّيْفِ :
مِنْ آدَابِ الضَّيْفِ أَنْ يَجْلِسَ حَيْثُ يُجْلَسُ،وَأَنْ يَرْضَى بِمَا يُقَدَّمُ إِلَيْهِ،وَأَلاَّ يَقُومَ إِلاَّ بِإِذْنِ الْمُضِيفِ،وَأَنْ يَدْعُوَ لِلْمُضِيفِ بِدُعَاءِ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ،قَالَ:أَفْطَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ سَعْدٍ،فَقَالَ:أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ،وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ،وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الأَبْرَارُ.. (2)
مَقَامُ الضَّيْفِ عِنْدَ الْمُضِيفِ :
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز -(5434 ) وشعب الإيمان - (6 / 329)(4282 )
البسر : جمع البسرة وهى ثمر النخل قبل أن يرطب -العذق : غصن النخلة فيه التمر كالعنقود من العنب
(2) - صحيح ابن حبان - (12 / 107) (5296) صحيح(1/366)
مَنْ نَزَل ضَيْفًا فَلاَ يَزِيدُ مُقَامَهُ عِنْدَ الْمُضِيفِ عَلَى ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ،لِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - :الضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ،فَمَا زَادَ فَصَدَقَةٌ (1) ، لِئَلاَّ يَتَبَرَّمَ بِهِ وَيَضْطَرَّ لإِِخْرَاجِهِ،إِلاَّ إِنْ أَلَحَّ عَلَيْهِ رَبُّ الْمَنْزِل بِالْمُقَامِ عِنْدَهُ عَنْ خُلُوصِ قَلْبٍ فَلَهُ الْمُقَامُ .
أَكْل طَعَامِ الضِّيَافَةِ :
يَأْكُل الْمُضِيفُ مِمَّا قُدِّمَ لَهُ بِلاَ لَفْظٍ اكْتِفَاءً بِالْقَرِينَةِ،إِلاَّ إِذَا كَانَ الْمُضِيفُ يَنْتَظِرُ غَيْرَهُ مِنَ الضُّيُوفِ،فَلاَ يَجُوزُ حِينَئِذٍ الأَْكْل إِلاَّ بِإِذْنِ الْمُضِيفِ،وَلاَ يَأْكُل مِنَ الطَّعَامِ إِلاَّ بِالْمِقْدَارِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْعُرْفُ،مَا لَمْ يَعْلَمْ رِضَا الْمُضِيفِ،وَلاَ يَتَصَرَّفُ بِهِ إِلاَّ بِأَكْلٍ،لأَِنَّهُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِيهِ،فَلاَ يُطْعِمُ سَائِلاً،وَلاَ هِرَّةً،وَلَهُ أَخْذُ مَا يَعْلَمُ رِضَاهُ،لأَِنَّ الْمَدَارَ عَلَى طِيبِ نَفْسِ الْمَالِكِ،فَإِذَا دَلَّتِ الْقَرِينَةُ عَلَى ذَلِكَ حَل .
وَتَخْتَلِفُ قَرَائِنُ الرِّضَى فِي ذَلِكَ بِاخْتِلاَفِ الأَْمْوَال،وَمَقَادِيرِهَا (2) .
وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ:أَنَّ الضَّيْفَ لاَ يَضْمَنُ مَا قُدِّمَ لَهُ مِنْ طَعَامٍ إِنْ تَلِفَ بِلاَ تَعَدٍّ مِنْهُ،كَمَا لاَ يَضْمَنُ إِنَاءَهُ وَحَصِيرًا يَجْلِسُ عَلَيْهِ وَنَحْوَهُ،سَوَاءٌ قَبْل الأَْكْل،أَوْ بَعْدَهُ،وَلاَ يَلْزَمُهُ دَفْعُ هِرَّةٍ عَنْهُ،وَيَضْمَنُ إِنَاءً حَمَلَهُ بِغَيْرِ إِذْنٍ (3) .
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح مر تخريجه
(2) - الفتاوى الهندية 5 / 344 ، إحياء علوم الدين 2 / 12 وما بعده ، حاشية البجيرمي 3 / 393 ، نهاية المحتاج 6 / 376 ، القليوبي 3 / 298 ، كشاف القناع 5 / 180 ، مواهب الجليل 4 / 5 .
(3) - حاشية البجيرمي على الخطيب 3 / 393 - 394 .(1/367)
الحق الثاني والأربعون
لا يرد سائلاً
قال تعالى:{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) [الإنسان:8 - 11] }
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ،مَعَ شَهْوَتِهِمْ لَهُ،وَرَغْبَتِهِمْ فِيهِ،لِلْفَقِير العَاجِزِ عَن الكَسْبِ ( المِسْكِينِ )،وَاليَتِيمِ الذِي مَاتَ أَبُوهْ،وَهُوَ دُونَ سِنِّ البُلُوغِ وَالأَسِيرِ العَاني الذِي لاَ يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ قُوتاً . وَإِنَّهُمْ إِنَّمَا يُطْعِمُونَ الفُقَرَاءَ وَالمَسَاكِينَ والأَيْتَامَ وَالأَسْرَى،لأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ ثَوَابَ اللهِ وَرِضْوَانَهُ وَحْدَهُ،لاَ يَطْمَعُونَ فِي جَزَاءٍ مِنْ أَحَدٍ غَيْرِهِ عَلَى إِنْفَاقِهِمْ،وَلاَ فِي شُكْرٍ مِنَ المُنْفَقِ عَلَيْهِ .وَإِنَّنَا إِنَّمَا نَفْعَلُ ذَلِكَ رَجَاءَ أَنْ يَرْحَمَنَا رَبُّنَا فِي يَوْمِ القِيَامَةِ،وَهُوَ يَوْمٌ طَوِيلٌ عَصِيبٌ،تَعْبِسُ فِيهِ الوُجُوهُ وَتَكْلَحُ مِنْ شِدَّةِ أَهْوَالِهِ.فَآمَنَهُمْ اللهُ شَرَّ مَا خَافُوهُ،وَأَعْطَاهُمْ أَمناً تَكُونُ لَهُ وُجُوهُهُمْ نَضِرَةً،وَسُرُوراً تُسَرُّ بِهِ قُلُوبُهُمْ،وَالقَلْبُ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ الوَجْهُ . (1)
وإن الله تعالى قد رغب في الصدقة، ووعد عليها بالخير الكثير، والثواب الجزيل، فقال:{ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)} [المعارج:24،25]
وَالذِينَ يَجْعَلُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَصِيباً مُعَيَّناً يُنْفِقُونَهُ تَقَرُّباً مِنَ اللهِ،وَطَلَباً لِمْرَضَاتِهِ . يُنْفِقُونَهُ عَلَى ذَوِي الحَاجَاتِ والبَائِسِينَ الذِينَ يَسْأَلُونَهُمُ العَوْنَ . (2)
وذم بالمقابل البخل وأهله، فقال: { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (180) سورة آل عمران.
وَلاَ يَظُنَّنَّ أحَدٌ أنَّ الذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَنِعَمِهِ،( كَمَنْعِ الزَّكَاةِ،وَعَدَمِ البَذْلِ حِينَمَا تَتَعرَّضُ الأُمَّةُ لِلَمَكَارِهِ . . ) هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ،وَإِنَّمَا هُوَ مَضَرَّةٌ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5477)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5277)(1/368)
وُدُنْيَاهِمْ،لأنَّ العَبْدَ مُطَالَبٌ بِشُكْرِ اللهِ عَلَى نِعَمِهِ،وَالبُخْلُ كُفْرَانلإ لاَ يَنْبَغِي أنْ يَصْدُرَ عَنْ عَاقِلٍ . وَحِينَمَا يَتَهَدَّدُ الخَطَرُ الأمَّةُ،وَيَقْتَضِي الأمْرُ مِنَ المُؤْمِنِينَ البَذْلَ،فَعَلَيهِمْ أنْ لاَ يَبْخَلُوا لأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ النَّفْسِ وَالمَالِ؛ وَالبُخْلِ وَالامْتِنَاعِ عَنِ البَذْلِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الظُرُوفِ شَرٌّ لَهُمْ فِي دُنيَاهُمْ أمَّا فِي دِينِهِمْ فَإنَّ اللهَ يَتَهَدَّدُهُمْ بِأنَّهُمْ سُيُطَوَّقُونَ بِالمَالِ الذِي بَخِلُوا بِهِ،وَيَلْزَمُهُمُ الإِثْمُ وَالذَنْبُ،وَلاَ يَجِدُونَ إلَى دَفْعِهِ سَبِيلاً .وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الذِي يَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا،وَالمَالَ كُلُّهُ صَائِرٌ إلَيهِ،فَمَا لِهَؤلاءِ يَبْخَلُونَ عَلَيهِ بِمَالِهِ،وَلاَ يُنْفِقُونَ فِي سَبِيلِهِ،وَهُوَ لاَ تَخْفَى عَلِيهِ خَافِيَةٌ مِنْ أَعْمَالِ العِبَادِ؟ (1)
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « أَعْطُوا السَّائِلَ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ ». (2)
وعَنْ أَبِي مَدَيْنَةَ ؛ أَنَّ سَائِلاً سَأَلَ عَبْدَ الرَّحْمَن بْنِ عَوْفٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ عِنَبٌ،فَنَاوَلَهُ حَبَّةً،فَكَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِكَ،فَقَالَ:فِي هَذِهِ مِثْقَالُ ذَرٍّ كَثِيرٌ. (3)
وعَنْ أُمِّ الْحَسَنِ ؛ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم،فَجَاءَ مَسَاكِينُ،فَقَالَتْ:أَخْرِجْهُنّ ؟ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ:مَا بِهَذَا أمِرنَا،أَبدِّيهنَّ بِتَمْرَةٍ تَمْرَةٍ. (4)
وعَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،قَالَ:كَانَ يُقَالُ:رُدُّوا السَّائِلَ وَلَوْ بِمِثْلِ رَأْسِ الْقَطَاة. (5)
وعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ حُسَيْنٍ،عَنْ أَبِيهَا،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:لِلسَّائِلِ حَقٌّ وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ. (6)
وعَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ،قَالَ:قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ:لِلسَّائِلِ حَقٌّ،وَإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ مُطَوَّقٍ بِالْفِضَّةِ. (7)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 473)
(2) - موطأ مالك- المكنز - (1846 ) صحيح لغيره
(3) - مصنف ابن أبي شيبة - (3 / 113)(9913) صحيح
(4) - مصنف ابن أبي شيبة - (3 / 113)(9914) حسن
(5) - مصنف ابن أبي شيبة - (3 / 113)(9915) صحيح
(6) - مصنف ابن أبي شيبة - (3 / 113)(9916) صحيح لغيره
(7) - مصنف ابن أبي شيبة - (3 / 113)(9917) صحيح مقطوع(1/369)
وعَنْ أَبِي الأَحْوَصِ،قَالَ:إذَا أَتَى أَحَدَكُمَ السَّائِلُ،وَهُوَ يُرِيدُ الصَّلاَةَ،أَوَ قَالَ:يُرِيدُ أَنْ يُصَلِّيَ،فَإِنَ اسْتَطَاعَ أَنْ يَتَصَدَّقَ فَلْيَفْعَلْ،فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}،فَإِنَ اسْتَطَاعَ أَنْ يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْ صَلاَتِهِ صَدَقَةً فَلْيَفْعَلْ. (1)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَنْ سَأَلَ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ،وَمَنِ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ،وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ. (2)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ،عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،رَأَيْتُ فُلاَنًا يَشْكُرُ،ذَكَرَ أَنَّكَ أَعْطَيْتَهُ دِينَارَيْنِ،فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - :لَكِنَّ فُلاَنًا قَدْ أَعْطَيْتُهُ مَا بَيْنَ الْعَشَرَةِ إِلَى الْمِئَةِ،فَمَا يَشْكُرُهُ وَلاَ يَقُولُهُ،إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَخْرُجُ مِنْ عِنْدِي لِحَاجَتِهِ مُتَأَبِّطَهَا،وَمَا هِيَ إِلاَّ النَّارُ،قَالَ:قُلْتُ:يَا رَسُولَ اللهِ لِمَ تُعْطِهِمْ ؟ قَالَ:يَأْبَوْنَ إِلاَّ أَنْ يَسْأَلُونِي،وَيَأْبَى اللَّهُ لِيَ الْبُخْلَ. (3)
عَنْ عَدِىَّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ » (4)
وعَنْ عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَسَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،لَيْسَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ،ثُمَّ يَنْظُرُ فَلاَ يَرَى شَيْئًا قُدَّامَهُ،ثُمَّ يَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ،فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِىَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ » (5) .
وعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :مَا مِنْكُمْ مِنْ رَجُلٍ،إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ،ثُمَّ يَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ،فَلاَ يَرَى شَيْئًا قَدَّمَهُ،ثُمَّ يَنْظُرُ أَيْسَرَ مِنْهُ،فَلاَ يَرَى شَيْئًا قَدَّمَهُ،ثُمَّ يَنْظُرُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ،فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ،قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَقِيَ وَجْهَهُ النَّارَ،وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ. (6)
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة - (3 / 113)(9918) صحيح مقطوع
(2) - صحيح ابن حبان - (8 / 200) (3409) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (8 / 203) (3414) صحيح
(4) - صحيح البخارى(1417)
(5) - صحيح البخارى(6539 )
(6) - صحيح ابن حبان - (ج 16 / ص 373)(7373) صحيح(1/370)
وعَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ،قَالَ:كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَ إِلَيْهِ رَجُلاَنِ يَشْكُو أَحَدُهُمَا الْعَيْلَةَ،وَيَشْكُو الآخَرُ قَطْعَ السَّبِيلِ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - :أَمَّا قَطْعُ السَّبِيلِ:فَلاَ يَأْتِي عَلَيْكَ إِلاَّ قَلِيلٌ حَتَّى تَخْرُجَ الْعِيرُ مِنَ الْحِيرَةِ إِلَى مَكَّةَ بِغَيْرِ خَفِيرٍ،وَأَمَّا الْعَيْلَةُ:فَإِنَّ السَّاعَةَ لاَ تَقُومُ حَتَّى يَخْرُجَ الرَّجُلُ بِصَدَقَةِ مَالِهِ،فَلاَ يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا مِنْهُ،ثُمَّ لَيَقِفَنَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ لَيْسَ بَيْنَهُ،وَبَيْنَهُ حِجَابٌ يَحْجُبُهُ،وَلاَ تُرْجُمَانٌ يُتَرْجِمُ لَهُ،فَيَقُولَنَّ لَهُ:أَلَمْ أُوتِكَ مَالاً ؟ فَلَيَقُولَنَّ:بَلَى،فَيَقُولُ:أَلَمْ أُرْسِلْ إِلَيْكَ رَسُولاً ؟ فَلَيَقُولَنَّ:بَلَى،ثُمَّ يَنْظُرُ عَنْ يَمِينِهِ،فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ،ثُمَّ يَنْظُرُ عَنْ شِمَالِهِ،فَلاَ يَرَى إِلاَّ النَّارَ،فَلْيَتَّقِ أَحَدُكُمُ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ،فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ. (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لِيَتَّقِ أَحَدُكُمْ وَجْهَهُ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ » (2) .
وعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهَا « يَا عَائِشَةُ اسْتَتِرِى مِنَ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَإِنَّهَا تَسُدُّ مِنَ الْجَائِعِ مَسَدَّهاَ مِنَ الشَّبْعَانِ » (3) . وفالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:احْتَجِبِي مِنَ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ" (4) .
وعَنْ عَائِشَةَ،قَالَتْ:جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا،فَأَطْعَمْتُهَا ثَلاَثَ تَمَرَاتٍ،فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً،وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا،فَاسْتَطْعَمَتَاهَا ابْنَتَاهَا،فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا فَأَعْجَبَنِي حَنَانُهَا،فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فقَالَ:إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْجَبَ لَهَا الْجَنَّةَ،وَأَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ. (5)
وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ وَمَعَهَا ابْنَتَانِ لَهَا تَسْأَلُنِي، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي شَيْئًا غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهَا، فَأَخَذَتْهَا فَشَقَّقَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا وَلَمْ تَأْكُلْ مِنْهَا شَيْئًا، ثُمَّ قَامَتْ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (ج 16 / ص 374)(7374) صحيح
(2) - مسند أحمد (3751) صحيح
(3) - مسند أحمد(25236) صحيح لغيره
(4) - الآحاد والمثاني (2644) صحيح لغيره
(5) - صحيح مسلم- المكنز - (6863 ) وصحيح ابن حبان - (2 / 192) (448)(1/371)
فَخَرَجَتْ هِيَ وَابْنَتَاهَا، فَدَخَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى بَقِيَّةِ ذَلِكَ فَحَدَّثْتُهُ حَدِيثَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنِ ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْبَنَاتِ بِشَيْءٍ فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ " (1)
وعَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" اصْنَعِ الْمَعْرُوفَ إِلَى مَنْ هُوَ أَهْلُهُ،وَإِلَى مَنْ لَيْسَ هُوَ بِأَهْلِهِ،فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ،فَكُنْ أَنْتَ مِنْ أَهْلِهِ " (2)
قال الكلاباذي:" فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ:" لَا يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلَّا تَقِيٌّ "،وَإِنَّمَا أَرَادَ الْمُوَاكَلَةَ الَّتِي تُوجِبُ الْأُلْفَةَ وَالْخُلَّةَ،وَكَيْفَ يَنْهَى عَنْ إِطْعَامِ مِنْ لَيْسَ بِتَقِيٍّ،وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ:وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا فِي الْأَسِيرِ،فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مُشْرِكٌ،فَأَثْنَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَنْ أَطْعَمَ الْمُشْرِكِينَ،فَكَيْفَ بِمَنْ أَطْعَمَ مَنْ كَانَ فِي جُمْلَةِ الْمِسْكِينِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِيهِ التَّحَرِّيَ،وَالْقَصْدَ،كَأَنَّهُ يَقُولُ:لَا تَتَحَرَّيَنَّ بِإِطْعَامِكَ إِلَّا التَّقِيَّ،وَلَا تَقْصِدَنَّ بِهِ إِلَّا الْبَرَّ الَّذِي يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى،وَالْعِبَادَةِ لَهُ،وَالشُّكْرِ لَهُ،فَتَكُونَ مُعَاوِنًا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى،كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى،فَيَقُولُ:لَا تَقْصِدَنَّ بِإِطْعَامِكَ الْفَاجِرَ الَّذِي يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى فُجُورِهِ وَآثَامِهِ،فَتَكُونَ مُعَاوِنًا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ،فَمَنْ تَحَرَّى فِي إِطْعَامِهِ،وَطَلَبَ لَهُ،وَاخْتَارَ،فَلْيَقْصِدْ أَهْلَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى،وَمَنْ بَذَلَ طَعَامَهُ،وَتَسَخَّى فِي إِطْعَامِهِ،فَلْيَدَعِ التَّحَيُّرَ،وَلْيُطْعِمْهُ مَنْ قَصَدَهُ،وَلَا يَحْرِمْهُ مَنْ أَتَاهُ قَالَ الشَّيْخُ:وَسَمِعْتُ بَعْضَ مَشَايِخِنَا،يَقُولُ:كَانَ الْحُسَيْنُ بْنُ وَاصِلٍ يَبْنِي رِبَاطَهُ يَتَنَاوَبُ مِنْ ثَغْرٍ اسْتِحْبَابًا،وَكَانَ الْعَدُوُّ يُقَاتِلُهُ،وَهُوَ يُقَاتِلُهُمْ نَهَارَهُ أَجْمَعَ،فَإِذَا كَانَ اللَّيْلُ،وَبَسَطَ سُفْرَتَهُ لِلْإِطْعَامِ لَمْ يَمْنَعْ مَنْ يُقَاتِلُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ،وَكَانَ يُطْعِمُهُمْ،فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ ؟ فَقَالَ:إِنْ سُئِلْتُ عَنْ ذَلِكَ ؟ قُلْتُ:مِنْكَ أَخَذْتُ،وَبِأَمْرِكَ ائْتَمَرْتُ،وَمِنْكَ تَعَلَّمْتُ،فَأَطْعَمْتُ مَنْ أَطْعَمْتَ،وَقَاتَلْتُ مَنْ أَمَرْتَ . وَقِيلَ لِأَبِي الْقَاسِمِ الْحَكِيمِ:تَخَيَّرْ مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِجْرَاءِ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ،وَأَسْقِطْ مَنْ لَا يَصْلُحُ مِنْهُمْ،فَأَجْرَى لِكُلِّ مَنْ فِي الرِّبَاطِ،فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ ؟ فَقَالَ:لَمْ أَجِدْ فِيهِ مَنْ لَا يُسَوِّي مِنْ خَيْرٍ , هَذَا عِنْدَ الْبَذْلِ،وَالسَّخَاءِ،وَذَاكَ
__________
(1) - صحيح مسلم-المكنز -(6862 )وشعب الإيمان -(11 / 142) (8308 )
(2) - بَحْرُ الْفَوَائِدِ الْمُسَمَّى بِمَعَانِي الْأَخْيَارِ لِلْكَلَابَاذِيِّ(197 ) ضعيف(1/372)
عِنْدَ التَّحَرِّي،وَالدُّعَاءِ،وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ،وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى،وَاللَّهُ يَجْزِي الْمُحْسِنِينَ،وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ "
وقال ابن عبد البر:" وفيه من الفقه الحض على الصدقة وفيه أن الفرس إذا كان صاحبه محتاجا إليه لا غنى به عنه لضعفه عن التصرف في معاشه على رجليه فإن ملكه للفرس لا يخرجه عن حد الفقر ولا يدخله في حكم الأغنياء الذين لا تحل لهم الصدقة.
وقد أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إعطاءه وإن جاء على فرس ولم يقل من صدقة التطوع دون الصدقة الواجبة فجائز أن يعطى من كل صدقة.
ومحمل الدار التي لا غنى لصاحبها عن سكناها ولا فضل له فيها عما يحتاج إليه منها والخادم الذي لا غنى به عنه محمل الفرس، وهذا قول جمهور فقهاء الأمصار ...
ويحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم أراد بقوله في هذا الحديث الحض على إعطاء السائل وأن لا يرد كائنا من كان إذا رضي لنفسه بالسؤال إذ الأغلب من هذه الحال أنها لا تكون إلا عن حاجة ندباً إلى نوافل الخير وصدقة التطوع وفعل البر والإحسان بكل مستضعف إذا لم يعلم أنه غني مستكثر بالسؤال مع ما كان منه صلى الله عليه وسلم من التغليط في المسألة وكراهيتها ..." (1)
وقال تعالى:{وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} (10) سورة الضحى
وهذه التوجيهات إلى إكرام اليتيم والنهي عن قهره وكسر خاطره وإذلاله،وإلى إغناء السائل مع الرفق به والكرامة،كانت - كما ذكرنا مرارا - من أهم إيحاءات الواقع في البيئة الجاحدة المتكالبة،التي لا ترعى حق ضعيف،غير قادر على حماية حقه بسيفه! حيث رفع الإسلام هذه البيئة بشرعة اللّه إلى الحق والعدل،والتحرج والتقوى،والوقوف عند حدود اللّه،الذي يحرس حدوده ويغار عليها ويغضب للاعتداء على حقوق عباده الضعاف الذين لا يملكون قوة ولا سيفا يذودون به عن هذه الحقوق (2) .
__________
(1) - التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد - (5 / 294)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3927)(1/373)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،رَضِيَ اللهُ عَنْهُ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قَالَ رَجُلٌ:لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ،فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ،فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ:تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ،فَقَالَ:اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ،لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ،فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِى يَدَيْ زَانِيَةٍ،فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ:تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ،فَقَالَ:اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ،لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ،فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدَيْ غَنِيٍّ،فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ:تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ،فَقَالَ:اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ،عَلَى سَارِقٍ،وَعَلَى زَانِيَةٍ،وَعَلَى غَنِيٍّ،فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ:أَمَّا صَدَقَتُكَ عَلَى سَارِقٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَسْتَعِفَّ عَنْ سَرِقَتِهِ،وَأَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ عَنْ زِنَاهَا،وَأَمَّا الْغَنِيُّ فَلَعَلَّهُ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللهُ. (1)
واختلف العلماء فى الذى يعطى الفقير من الزكاة على ظاهر فقره ثم تبين غناه، فقال الحسن البصرى: إنها تجزئه. وهو قول أبى حنيفة، ومحمد، قالوا: لأنه قد اجتهد، وأعطى فقيرًا عنده، وليس عليه إلا الاجتهاد. وأيضًا فإن الصدقة إذا خرجت من مال المتصدق على نية الصدقة أنها جازية عنه حيث وقعت ممن بسط إليها إذا كان مسلمًا بدليل هذا الحديث قاله المهلب.
وقال أبو يوسف، والثورى، والحسن بن حى، والشافعى: لا تجزئه، لأنه لم يضع الصدقة موضعها، وقد أخطأ فى اجتهاده كما أنه لو نسى الماء فى رحله، وتيمم لصلاته لم تجزئه صلاته. واختلف قول ابن القاسم: هل تجزئه أم لا، فقال ابن القصار: وقول مالك يدل على هذا، لأنه نص فى كفارة اليمين إن أطعم الأغنياء أنه لا يجزئه، وإن كان قد اجتهد فالزكاة أَوْلَى.وأما الصدقة على السارق والزانية، فإن العلماء متفقون أنهما إن كانا فقيرين فهما ممن تجوز له الزكاة. (2)
حُكْمُ مَنْ أَخَذَ الزَّكَاةَ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا (3) :
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز -(1421 ) وصحيح مسلم- المكنز - (2409 )
(2) - شرح ابن بطال - (5 / 469)
(3) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (23 / 333)(1/374)
لاَ يَحِل لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْل الزَّكَاةِ أَخْذُهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا زَكَاةٌ،إِجْمَاعًا . فَإِنْ أَخَذَهَا فَلَمْ تُسْتَرَدَّ مِنْهُ فَلاَ تَطِيبُ لَهُ،بَل يَرُدُّهَا أَوْ يَتَصَدَّقُ بِهَا ؛ لأَِنَّهَا عَلَيْهِ حَرَامٌ،وَعَلَى دَافِعِ الزَّكَاةِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي تَعَرُّفِ مُسْتَحَقِّي الزَّكَاةِ،فَإِنْ دَفَعَهَا بِغَيْرِ اجْتِهَادِهِ،أَوْ كَانَ اجْتِهَادُهُ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا وَأَعْطَاهُ لَمْ تُجْزِئْ عَنْهُ،إِنْ تَبَيَّنَ الآْخِذُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا،وَالْمُرَادُ بِالاِجْتِهَادِ النَّظَرُ فِي أَمَارَاتِ الاِسْتِحْقَاقِ،فَلَوْ شَكَّ فِي كَوْنِ الآْخِذِ فَقِيرًا فَعَلَيْهِ الاِجْتِهَادُ كَذَلِكَ (1) .
أَمَّا إِنِ اجْتَهَدَ فَدَفَعَ لِمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْل الزَّكَاةِ فَتَبَيَّنَ عَدَمُ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِهَا،فَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي ذَلِكَ،فَقَال بَعْضُهُمْ:تُجْزِئُهُ،وَقَال آخَرُونَ:لاَ تُجْزِئُهُ،عَلَى تَفْصِيلٍ يَخْتَلِفُ مِنْ مَذْهَبٍ إِلَى مَذْهَبٍ .
فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ:إِنْ دَفَعَ الزَّكَاةَ إِلَى مَنْ يَظُنُّهُ فَقِيرًا ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ غَنِيٌّ أَوْ هَاشِمِيٌّ أَوْ كَافِرٌ،أَوْ دَفَعَ فِي ظُلْمَةٍ،فَبَانَ أَنَّ الآْخِذَ أَبُوهُ،أَوِ ابْنُهُ فَلاَ إِعَادَةَ عَلَيْهِ،لِحَدِيثِ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ قَال:كَانَ أَبِي يَزِيدُ أَخْرَجَ دَنَانِيرَ يَتَصَدَّقُ بِهَا فَوَضَعَهَا عِنْدَ رَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ،فَجِئْتُ فَأَخَذْتهَا فَأَتَيْتُهُ بِهَا،فَقَال:وَاَللَّهِ مَا إِيَّاكَ أَرَدْتُ،فَخَاصَمْتُهُ إِلَى رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَال:لَكَ مَا نَوَيْتَ يَا يَزِيدُ ،وَلَكَ مَا أَخَذْتَ يَا مَعْنُ . (2)
وَلأَِنَّا لَوْ أَمَرْنَاهُ بِالإِْعَادَةِ أَفْضَى إِلَى الْحَرَجِ ؛ لأَِنَّهُ رُبَّمَا تَكَرَّرَ خَطَؤُهُ،وَاسْتَثْنَوْا مِنْ هَذَا أَنْ يَتَبَيَّنَ الآْخِذُ غَيْرَ أَهْلٍ لِلتَّمْلِيكِ أَصْلاً،نَحْوُ أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ الآْخِذَ عَبْدُهُ أَوْ مُكَاتَبُهُ،فَلاَ تُجْزِئُ فِي هَذَا الْحَال .
وَقَال أَبُو يُوسُفَ:لاَ تُجْزِئُهُ إِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الآْخِذَ لَيْسَ مِنَ الْمَصَارِفِ،لِظُهُورِ خَطَئِهِ بِيَقِينٍ مَعَ إِمْكَانِ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ،كَمَا لَوْ تَحَرَّى فِي ثِيَابٍ فَبَانَ أَنَّهُ صَلَّى فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ (3) .
وَفَصَّل الْمَالِكِيَّةُ بَيْنَ حَالَيْنِ :
الأُْولَى:أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ الإِْمَامَ أَوْ مُقَدَّمَ الْقَاضِي أَوِ الْوَصِيَّ،فَيَجِبُ اسْتِرْدَادُهَا،لَكِنْ إِنْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا،أَجْزَأَتْ،لأَِنَّ اجْتِهَادَ الإِْمَامِ حُكْمٌ لاَ يَتَعَقَّبُ .
__________
(1) - ابن عابدين 2 / 68 ، والهداية وفتح القدير 2 / 26 .
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (1422)
(3) - الهداية وفتح القدير 2 / 26 .(1/375)
وَالثَّانِيَةُ:أَنْ يَكُونَ الدَّافِعُ رَبَّ الْمَال فَلاَ تُجْزِئُهُ،فَإِنِ اسْتَرَدَّهَا وَأَعْطَاهَا فِي وَجْهِهَا،وَإِلاَّ فَعَلَيْهِ الإِْخْرَاجُ مَرَّةً أُخْرَى،وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ اسْتِرْدَادَهَا إِنْ فَوَّتَهَا الآْخِذُ بِفِعْلِهِ،بِأَنْ أَكَلَهَا،أَوْ بَاعَهَا،أَوْ وَهَبَهَا،أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ .
أَمَّا إِنْ فَاتَتْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ بِأَنْ تَلِفَتْ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ،فَإِنْ كَانَ غَرَّ الدَّافِعَ بِأَنْ أَظْهَرَ لَهُ الْفَقْرَ ،أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّهَا أَيْضًا،أَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ غَرَّهُ فَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ (1) .
وَقَال الشَّافِعِيَّةُ:يَجِبُ الاِسْتِرْدَادُ،وَعَلَى الآْخِذِ الرَّدُّ،سَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّهَا زَكَاةٌ أَمْ لاَ،فَإِنِ اسْتُرِدَّتْ صُرِفَتْ إِلَى الْمُسْتَحِقِّينَ،وَإِنْ لَمْ يُمْكِنِ الاِسْتِرْدَادُ فَإِنْ كَانَ الَّذِي دَفَعَهَا الإِْمَامُ لَمْ يَضْمَنْ،وَإِنْ كَانَ الَّذِي دَفَعَهَا الْمَالِكُ ضَمِنَ،وَهَذَا هُوَ الْمُقَدَّمُ عِنْدَهُمْ،وَفِي بَعْضِ صُوَرِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَهُمْ أَقْوَالٌ أُخْرَى (2) .
وَقَال الْحَنَابِلَةُ:إِنْ بَانَ الآْخِذُ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا أَوْ هَاشِمِيًّا،أَوْ قَرَابَةً لِلْمُعْطِي مِمَّنْ لاَ يَجُوزُ الدَّفْعُ إِلَيْهِ،فَلاَ تُجْزِئُ الزَّكَاةُ عَنْ دَافِعِهَا رِوَايَةً وَاحِدَةً ؛ لأَِنَّهُ لَيْسَ بِمُسْتَحِقٍّ،وَلاَ تَخْفَى حَالُهُ غَالِبًا،فَلَمْ يَجْزِهِ الدَّفْعُ إِلَيْهِ،كَدُيُونِ الآْدَمِيِّينَ .
أَمَّا إِنْ كَانَ ظَنَّهُ فَقِيرًا فَبَانَ غَنِيًّا فَكَذَلِكَ عَلَى رِوَايَةٍ،وَالأُْخْرَى يُجْزِئُهُ،لِحَدِيثِ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ الْمُتَقَدِّمِ،وَحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَال:قَال رَجُلٌ:لأََتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ،فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيٍّ،فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ:تُصُدِّقَ عَلَى غَنِيٍّ . . . . الْحَدِيثَ وَفِيهِ:فَأُتِيَ فَقِيل لَهُ:أَمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبِلَتْ،لَعَل الْغَنِيَّ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ (3) . وَلأَِنَّ حَالَهُ تَخْفَى غَالِبًا (4) .
- - - - - - - - - - - -
__________
(1) - الدسوقي والشرح الكبير 1 / 501 ، 502 .
(2) - روضة الطالبين 2 / 338 .
(3) - صحيح وقد مر تخريجه
(4) - المغني 2 / 667 .(1/376)
الخلاصة في حق المسلم على أخيه
والجملة الجامعة فيه أن لا تستصغر منهم أحداً حياً كان أو ميتاً فتهلك؛لأنك لا تدري لعله خير منك؟ فإنه وإن كان فاسقاً فلعله يختم لك بمثل حاله ويختم له بالصلاح؟ .
ولا تنظر إليهم بعين التعظيم لهم في حال دنياهم،فإن الدنيا صغيرة عند الله صغير ما فيها.
ومهما عظم أهل الدنيا في نفسك فقد عظمت الدنيا فتسقط من عين الله.
ولا تبذلْ لهم دينك لتنال من دنياهم فتصغر في أعينهم ثم تحرم دنياهم ،فإن لم تحرم كنت قد استبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير.
ولا تعادهم بحيث تظهر العداوة فيطول الأمر عليك في المعاداة ويذهب دينك ودنياك فيهم ويذهب دينهم فيك،إلا إذا رأيت منكراً في الدِّين فتعادي أفعالهم القبيحة وتنظر إليهم بعين الرحمة لهم لتعرضهم بمقت الله وعقوبته بعصيانهم فحسبهم جهنم يصلونها،فما لك تحقد عليهم ولا تستكن إليهم في مودتهم لك وثنائهم عليك في وجهك وحسن بشرهم لك،فإنك إن طلبت حقيقة ذلك لم تجد في المائة إلا واحداً وربما لا تجده.
ولا تشكو إليهم أحوالك فيكلك الله إليهم،ولا تطمع أن يكونوا لك في الغيب والسِّر كما في العلانية ،فذلك طمعٌ كاذب وأنى تظفر به؟.
ولا تطمع فيما في أيديهم فتستعجل الذلَّ ولا تنال الغرض.
ولا تعلو عليهم تكبراً لاستغنائك عنهم،فإن الله يلجئك إليهم عقوبة على التكبر بإظهار الاستغناء. وإذا سألت أخاً منهم حاجة فهو أخٌ مستفاد وإن لم يقض فلا تعاتبه فيصير عدواً تطول عليك مقاساته.
ولا تشتغلْ بوعظ من ترى فيه مخايل القبول فلا يسمع منك ويعاديك،وليكن وعظك عرضاً واسترسالاً من غير تنصيص على الشخص.
ومهما رأيت منهم كرامة وخيراً فاشكر الله الذي سخرهم لك واستعذ بالله أن يكلك إليهم.(1/377)
وإذا بلغك عنهم غيبة أو رأيت منهم شراً أو أصابك منهم ما يسوءك فكلْ أمرهم إلى الله واستعذ بالله من شرهم.
ولا تشغل نفسك بالمكافأة فيزيد الضرر ويضيع العمر بشغله. ولا تقل لهم لم تعرفوا موضعي.
وأعتقد أنك لو استحقيت ذلك لجعل الله لك موضعاً في قلوبهم فالله المحبب والمبغض إلى القلوب،وكن فيهم سميعاً لحقهم أصمَّ عن باطنهم نطوقاً بحقهم صموتاً عن باطنهم.
واحذر صحبة أكثر الناس،فإنهم لا يقيلون عثرة ولا يغفرون زلة ولا يسترون عورة ويحاسبون على النقير والقطمير ويحسدون على القليل والكثير،ينتصفون ولا ينصفون ويؤاخذون على الخطأ والنسيان ولا يعفون،يغرُّون الإخوان على الإخوان بالنميمة والبهتان،فصحبة أكثرهم خسران وقطيعتهم رجحان،إن رضوا فظاهرهم الملق،وإن سخطوا فباطنهم الحنق،لا يؤمنون في حنقهم ولا يرجون في ملقهم،ظاهرهم ثياب وباطنهم ذئاب،يقطعون بالظنون،ويتغامزون وراءك بالعيون ويتربصون بصديقهم من الحسد ريب المنون،يحصون عليك العثرات في صحبتهم يواجهوك بها في غضبهم ووحشتهم.
ولا تعوِّلْ على مودة من لم تخبره حق الخبرة،بأن تصحبه مدة في دار أو موضع واحد فتجربه في عزله وولايته وغناه وفقره أو تسافر معه أو تعامله في الدينار والدرهم أو تقع في شدة فتحتاج إليه،فإن رضيته في الأحوال فاتخذه أباً لك إن كان كبيراً أو ابناً لك إن كان صغيراً أو أخاك إن كان مثلك فهذه جملة آداب المعاشرة مع أصناف الخلق (1) .
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - إحياء علوم الدين - (2 / 55)(1/378)
أهم المصادر
1. أيسر التفاسير لأسعد حومد
2. التفسير الميسر
3. الدر المنثور للسيوطي -موافق للمطبوع
4. تفسير ابن أبي حاتم
5. تفسير ابن كثير - دار طيبة
6. تفسير الطبري - مؤسسة الرسالة
7. تفسير القرطبي ـ موافق للمطبوع
8. فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع
9. أخبار مكة للفاكهي (272)
10. اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة
11. الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم
12. الأدب المفرد للبخاري
13. الترغيب والترهيب للمنري
14. التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان
15. السنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة
16. السنن الكبرى للبيهقي- المكنز
17. الشمائل المحمدية للترمذي
18. المجالسة وجواهر العلم (333)
19. المدخل إلى السنن الكبرى
20. المستدرك للحاكم مشكلا
21. المسند الجامع
22. المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية (852)
23. المعجم الأوسط للطبراني
24. المعجم الصغير للطبراني
25. المعجم الكبير للطبراني
26.(1/379)
بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث
27. جامع الأحاديث
28. جامع الأصول في أحاديث الرسول
29. دلائل النبوة للبيهقي
30. سنن أبي داود - المكنز
31. سنن ابن ماجة- طبع مؤسسة الرسالة
32. سنن الترمذى- المكنز
33. سنن الدارقطنى- المكنز
34. سنن الدارمى- المكنز
35. سنن النسائي- المكنز
36. شرح مشكل الآثار (321)
37. شرح معاني الآثار (321)
38. شعب الإيمان (458)
39. صحيح ابن حبان
40. صحيح ابن خزيمة
41. صحيح البخارى- المكنز
42. صحيح مسلم- المكنز
43. عشرة النساء للإمام للنسائي - الطبعة الثالثة
44. غاية المقصد فى زوائد المسند 1
45. غاية المقصد فى زوائد المسند 2
46. كشف الأستار
47. مجمع الزوائد
48. مسند أبي عوانة مشكلا
49. مسند أبي يعلى الموصلي
50. مسند أحمد (عالم الكتب)
51. مسند البزار ( المطبوع باسم البحر الزخار
52. مسند الحميدي - المكنز
53.(1/380)
مسند الشاشي 335
54. مسند الشاميين 360
55. مسند الطيالسي
56. مسند عبد بن حميد
57. مصنف ابن أبي شيبة
58. مصنف عبد الرزاق مشكل
59. معرفة الصحابة لأبي نعيم (430)
60. موسوعة السنة النبوية
61. موطأ مالك- المكنز
62. التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد
63. المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم
64. بحر الفوائد المسمى بمعاني الأخيار للكلاباذي
65. تحفة الأحوذي
66. تيسير العلام شرح عمدة الحكام- للبسام
67. جامع العلوم والحكم محقق
68. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين
69. شرح ابن بطال
70. شرح النووي على مسلم
71. شرح رياض الصالحين لابن عثيمين
72. عمدة القاري شرح صحيح البخاري
73. فتح الباري لابن حجر
74. فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين
75. فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري
76. فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2
77. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح
78. معالم السنن للخطابي
79. الفقه الإسلامي وأدلته
80.(1/381)
الموسوعة الفقهية الكويتية
81. فتاوى الأزهر
82. فتاوى الإسلام سؤال وجواب
83. فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة
84. فتاوى واستشارات الإسلام اليوم
85. فتاوى يسألونك لعفانة1-12
86. مجموع الفتاوى لابن تيمية
87. أدب الدنيا والدين
88. إحياء علوم الدين
89. الأذكار للنووي
90. البرهان المؤيد
91. الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي مشكل
92. الروح لابن القيم
93. الزواجر عن اقتراف الكبائر
94. الكبائر
95. المدخل لابن الحاج
96. بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية
97. تحفة الأبرار بنكت الأذكار للنووي
98. تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين للشوكاني
99. حلية الأولياء
100. غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب
101. ففروا إلى الله1
102. لا تحزن للقرني
103. لواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمدية
104. موسوعة خطب المنبر - الإصدار الثاني
105. موسوعة مواقف السلف في العقيدة والمنهج والتربية
106. نوادر الأصول فى أحاديث الرسول ـ للترمذى
107.(1/382)
السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث
108. حياة الصحابة للكاندهلوى
109. زاد المعاد في هدي خير العباد
110. نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم
111. آدَابُ الصُّحْبَةِ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ
112. منهاج المسلم للجزائري
113. مُعْجَمُ ابْنِ الْأَعْرَابِيِّ
114. مُعْجَمُ ابْنِ الْمُقْرِئِ
115. مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ
116. البعث والنشور للبيهقي
117. الفوائد لتمام
118. تبصرة ابن فرحون
119. أسهل المدارك
120. فتح العلي المالك
121. إعانة الطالبين
122. المغني لابن قدامة
123. شرح منتهى الإرادات
124. التحفة مع حاشيتي الشرواني وابن قاسم
125. الطحطاوي على الدر
126. الْكِفَايَةُ فِي عِلْمِ الرِّوَايَةِ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ
127. حاشية ابن عابدين
128. الجمل على المنهج
129. نهاية المحتاج
130. الفتاوى البزازية
131. تفسير الشعراوي
132. كشاف القناع
133. حاشية الشرقاوي
134.(1/383)
مغني المحتاج
135. آفات على الطريق كامل
136. المصباح المنير
137. التعريفات للجرجاني ط الحلبي .
138. الفروق للقرافي
139. مختصر منهاج القاصدين نشر مكتبة دار البيان .
140. رفع الريبة للشوكاني
141. الصَّمْتُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا
142. الْجَامِع مِنَ الْمُقَدِّمَاتِ لاِبْن رُشْد ( ط دَارَ الْفَرْقَانِ )
143. الْمُنْتَقَى لِلْبَاجِي
144. كِفَايَة الطَّالِب الرَّبَّانِيّ لِرِسَالَةِ ابْن أَبِي زَيْد الْقَيْرَوَانِيّ
145. مَنَار السَّبِيل فِي شَرْحِ الدَّلِيل ( دَار الْحِكْمَةِ )
146. شَرْح السُّنَّة لِلْبَغْوَيْ
147. بدائع الصنائع
148. أحكام القرآن للجصاص
149. مُدَارَاةُ النَّاسِ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا
150. الزهْدُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
151. تعظيم قدر الصلاة لمحمد بن نصر المروزي
152. الكرم والجود للبرجلاني
153. الْإِخْوَانُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا
154. تراجم شعراء موقع أدب
155. لطائف المعارف
156. الصحيحة للألباني
157. الْآدَابِ لِلْبَيْهَقِيِّ
158. الأموال لابن زنجويه
159. المحلى لابن حزم
160. أحكام القرآن لابن العربي
161.(1/384)
الأذكار مع شرحه الفتوحات الربانية
162. المبدع شرح المقنع
163. الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية للبعلي
164. حاشية ابن الشاط على الفروق للقرافي
165. عارضة الأحوذي لابن العربي
166. إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين
167. روضة الطالبين
168. الأشباه والنظائر لابن نجيم كتاب الحظر والإباحة
169. شرح المجلة لعلي حيدر
170. شرح المجلة للأتاسي
171. حاشية الحموي على الأشباه والنظائر
172. تحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب
173. البيان والتحصيل لابن رشد
174. مجالس العرفان لجعيط
175. الْقَنَاعَةُ لِابْنِ السُّنِّيّ
176. أَخْلَاقُ النَّبِيِّ لِأَبِي الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيِّ
177. الْأَحَادِيثُ الطِّوَالُ
178. الزُّهْدُ أَبِي دَاوُد
179. مُعْجَمُ الصِّحَابِةِ لِابْنِ قَانِعٍ
180. طَبَقَاتُ الْمُحَدِّثِينَ بِأَصْبَهَانَ لِأَبِي الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيِّ
181. الطَّبَقَاتُ الْكُبْرَى لِابْنِ سَعْدٍ
182. الرُّخْصَةُ فِي تَقْبِيلِ الْيَدِ لِمُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُقْرِئِ
183. الزُهْدُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
184. السير الكبير ط شركة الإعلانات .
185. تبصرة الحكام
186. الأحكام السلطانية لأبي يعلى
187. نيل الأوطار للشوكاني
188.(1/385)
الصحاح للجوهري
189. لسان العرب لابن منظور
190. المفردات للرّاغب
191. عَمَلُ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لِابْنِ السُّنِّيِّ
192. تسلية أهل المصائب
193. الإيمان باليوم الآخر وأهواله للمؤلف
194. الضُّعَفَاءُ الْكَبِيرِ لِلْعُقَيْلِيِّ
195. فتاوى العز بن عبد السلام
196. الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ لِلْبَيْهَقِيِّ
197. السنة لأحمد بن محمد الخلال
198. السُّنَنُ الْوَارِدَةُ فِي الْفِتَنِ لِلدَّانِي
199. مدارج السالكين لابن القيم
200. المكتبة الشاملة 3
201. برنامج قالون(1/386)
الفهرس العام
الحق الأول ... 6
يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه ... 6
الحق الثاني ... 10
لا يؤذي أحداً من المسلمين بفعل ولا قول ... 10
الحق الثالث ... 19
يتواضع لكل مسلم ... 19
الحق الرابع ... 25
لا ينم له ولا عليه ولا يغتابه ... 25
ولا يغتابه : ... 29
تعريف الغيبة : ... 30
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ: ... 30
مَا تَكُونُ بِهِ الْغِيبَةُ : ... 31
الأَْسْبَابُ الْبَاعِثَةُ عَلَى الْغِيبَةِ : ... 32
أُمُورٌ تُبَاحُ فِيهَا الْغِيبَةُ : ... 34
كَيْفِيَّةُ مَنْعِ الْغِيبَةِ : ... 36
كَفَّارَةُ الْغِيبَةِ : ... 37
الحق الخامس ... 40
لا يزيد في الهجر لمن يعرفه على ثلاثة أيام ... 40
جَزَاءُ الْهَجْرِ الْمُحَرَّمِ ... 44
هجر الأقارب : ... 45
الْهَجْرُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَمَّا يُوجِبُ الْهَجْرَ : ... 45
هل يزولُ الْهَجْرُ بِالسَّلاَمِ ؟ : ... 46
فَضْل الْبَدْءِ بِالسَّلاَمِ بَعْدَ الْهَجْرِ: ... 47
ثَالِثًا:هَجْرُ غَيْرِ الْمُسْلِمِ : ... 48(1/387)
رَابِعًا:تَأْدِيبُ الزَّوْجَةِ لِنُشُوزِهَا بِالْهَجْرِ : ... 48
خَامِسًا:هَجْرُ الْمُجَاهِرِينَ بِالْمَعَاصِي زَجْرًا وَتَأْدِيبًا : ... 49
هَجْرُ الْمُسْتَتِرِ بِالْمَعْصِيَةِ : ... 52
هَجْرُ مَكَانِ الْمَعْصِيَةِ : ... 53
الحق السادس ... 55
يحسن إلى كل من قدر عليه منهم ما استطاع ... 55
الحق السابع ... 57
لا يدخل على أحد منهم إلا بإذنه ... 57
الحق الثامن ... 65
يخالق الناس بخلق حسن ويعاملهم بحسب طريقته ... 65
الحق التاسع ... 72
يوقر المشايخ ويرحم الصبيان ... 72
الحق العاشر ... 80
يكون مع كافة الخلق مستبشراً طلق الوجه رفيقا ... 80
الحق الحادي عشر ... 82
لا يعد مسلماً بوعد إلا ويفي به ... 82
الأحكام الفقهية للوعد ... 86
أَحَدُهَا:أَنَّ إِنْجَازَ الْوَعْدِ وَاجِبٌ . ... 87
الاِسْتِثْنَاءُ فِي الْوَعْدِ : ... 92
الحق الثاني عشر ... 93
ينصف الناس من نفسه ولا يأتي إليهم إلا بما يحب أن يؤتى إليه ... 93
الحق الثالث عشر ... 95
ينزل الناس منازلهم ... 95
الحق الرابع عشر ... 103
يصلح ذات البين بين المسلمين ... 103
من فوائد (الإصلاح) ... 117(1/388)
الحق الخامس عشر ... 119
يستر عورات المسلمين كلهم ... 119
سَتْرُ عُيُوبِ الْمُؤْمِنِ : ... 124
سَتْرُ الْمُؤْمِنِ عَلَى نَفْسِهِ : ... 126
سَتْرُ السُّلْطَانِ عَلَى الْعَاصِي : ... 126
سِتْرُ الْمَظْلُومِ عَنِ الظَّالِمِ : ... 127
سِتْرُ الأَْسْرَارِ : ... 127
الحق السادس عشر ... 130
يتقي مواضع التهم ... 130
أنواع الظنِّ: ... 133
السابع عشر ... 135
يشفع لكل من له حاجة من المسلمين إلى من له عنده منزلة ... 135
الشَّفَاعَةُ قِسْمَانِ:شَفَاعَةٌ حَسَنَةٌ،وَشَفَاعَةٌ سَيِّئَةٌ . ... 137
الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ : ... 137
ب -الشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ : ... 138
وَالشَّفَاعَةُ تَكُونُ فِي الآْخِرَةِ وَفِي الدُّنْيَا : ... 138
أَوَّلاً - الشَّفَاعَةُ فِي الآْخِرَةِ : ... 138
ثَانِيًا - الشَّفَاعَةُ فِي الدُّنْيَا : ... 141
أ - الشَّفَاعَةُ فِي الْحَدِّ : ... 141
ب - الشَّفَاعَةُ فِي التَّعَازِيرِ: ... 142
ج - الشَّفَاعَةُ إِلَى وُلاَةِ الأُْمُورِ : ... 143
أَخْذُ الْهَدِيَّةِ عَلَى الشَّفَاعَةِ : ... 143
الحق الثامن عشر ... 144
يبدأ كل مسلم منهم بالسلام قبل الكلام ويصافحه عند السلام ... 144
الحق التاسع عشر ... 151
الأخذ بالركاب في توقير العلماء ... 151(1/389)
الحق العشرون ... 154
القيام له على سبيل الإكرام ... 154
الْقِيَامُ لِلْقَادِمِ وَالْوَالِدِ وَالْحَاكِمِ وَالْعَالِمِ وَأَشْرَافِ الْقَوْمِ : ... 156
الحق الحادي والعشرون ... 160
المحافظة على نفس أخيه وعرضه وماله ... 160
الحق الثاني والعشرون ... 164
تشميته إذا عطس ... 164
الحق الثالث والعشرين ... 168
إذا بلي بذي شر فينبغي أن يتحمله ويتقيه ... 168
الحق الثالث والعشرون ... 172
يجتنب مخالطة الأغنياء ويختلط بالمساكين ويحسن إلى الأيتام ... 172
الحق الخامس والعشرون ... 176
النصيحة لكل مسلم والجهد في إدخال السرور على قلبه ... 176
الحقُّ السادس والعشرون ... 184
يجيب دعوته ... 184
حُكْمُ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ : ... 186
إِجَابَةُ دَعْوَةِ الْفُقَرَاءِ وَالإِْجَابَةُ عَلَى الطَّعَامِ الْقَلِيل : ... 187
مُسْقِطَاتُ وُجُوبِ إِجَابَةِ الدَّعْوَةِ : ... 188
مِنَ الآدَابِ الَّتِي يُرَاعِيهَا الدَّاعِي فِي دَعْوَتِهِ : ... 189
وَمِنَ الآْدَابِ الَّتِي يُرَاعِيهَا الْمَدْعُوُّ : ... 189
التَّطَفُّل عَلَى الدَّعَوَاتِ : ... 189
الحقُّ السابع والعشرون ... 191
تبرُّ قسمه ... 191
الْحَلِفُ عَلَى الْغَيْرِ وَاسْتِحْبَابِ إِبْرَارِ الْقَسَمِ : ... 191
الحقُّ الثامن والعشرون ... 194
إذا استنصرك فانصره ... 194(1/390)
الإِعَانَةُ : ... 199
الإِْغَاثَةُ : ... 199
الاِسْتِعَانَةُ : ... 199
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ : ... 199
الإِْعَانَةُ الْوَاجِبَةُ : ... 200
أ - إِعَانَةُ الْمُضْطَرِّ : ... 200
ب - الإِْعَانَةُ لإِِنْقَاذِ الْمَال: ... 200
ج - الإِْعَانَةُ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ : ... 200
د - إِعَانَةُ الْبَهَائِمِ : ... 201
الإِْعَانَةُ الْمَنْدُوبَةُ : ... 201
الإِْعَانَةُ الْمَكْرُوهَةُ : ... 201
الإِْعَانَةُ عَلَى الْحَرَامِ : ... 202
إِعَانَةُ الْكَافِرِ : ... 202
آثَارُ الإِْعَانَةِ : ... 203
أ - الأَْجْرُ عَلَى الإِْعَانَةِ : ... 203
ب - الْعِقَابُ عَلَى الإِْعَانَةِ : ... 204
ج - الضَّمَانُ : ... 205
أنواع التحالف : ... 206
أَوَّلاً:التَّحَالُفُ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمٍ : ... 206
ثَانِيًا:التَّحَالُفُ بَيْنَ طَائِفَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ : ... 211
الحقُّ التاسع والعشرون ... 213
الدعاء له بالخير حيًّا وميتا حاضراً وغائباً ... 213
فَضْل الدُّعَاءِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ : ... 215
طَلَبُ الدُّعَاءِ مِنْ أَهْل الْفَضْل : ... 218
اسْتِحْبَابُ الدُّعَاءِ لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ : ... 218
الدُّعَاءُ لِلذِّمِّيِّ إِذَا فَعَل مَعْرُوفًا : ... 218
دُعَاءُ الإِْنْسَانِ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ أَوْ ظَلَمَ الْمُسْلِمِينَ : ... 219(1/391)
الحقُّ الثلاثون ... 223
قضاء حاجة أهله إذا غاب ... 223
ومنها رعاية أسر الشهداء : ... 226
تَفَاوُتُ إِثْمِ الزِّنَى : ... 230
الحق الواحد والثلاثون ... 232
عدم التجسس عليه ... 232
التَجَسُّسً: ... 234
أ - التَّحَسُّسُ : ... 234
ب - التَّرَصُّدُ : ... 234
ج-التَّنَصُّتُ : ... 235
حُكْمُ التَّجَسُّسِ التَّكْلِيفِيِّ : ... 235
التَّجَسُّسُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْحَرْبِ : ... 236
التَّجَسُّسُ عَلَى الْكُفَّارِ : ... 241
تَجَسُّسُ الْحَاكِمِ عَلَى رَعِيَّتِهِ : ... 242
تَجَسُّسُ الْمُحْتَسِبِ : ... 244
عِقَابُ التَّجَسُّسِ عَلَى الْبُيُوتِ : ... 245
من مضار (التجسس) ... 246
الحق الثاني والثلاثون ... 248
لا يخطب على خطبة أخيه,ولا يبع على بيعته ... 248
السَّوْمُ،وَالشِّرَاءُ عَلَى شِرَاءِ أَخِيهِ : ... 248
حُكْمُهُ : ... 250
الْخِطْبَةُ عَلَى الْخِطْبَةِ : ... 251
مَتَى تَحْرُمُ الْخِطْبَةُ عَلَى الْخِطْبَةِ ؟ ... 252
خِطْبَةُ مَنْ لاَ تُعْلَمُ خِطْبَتُهَا أَوْ جَوَابُهَا : ... 252
الْخِطْبَةُ عَلَى خِطْبَةِ الْكَافِرِ وَالْفَاسِقِ : ... 253
الْعَقْدُ بَعْدَ الْخِطْبَةِ الْمُحَرَّمَةِ : ... 253(1/392)
الحق الثالث والثلاثون ... 255
أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ... 255
المعروف لغة: ... 264
المنكر لغة: ... 265
المعروف اصطلاحا: ... 265
والمنكر اصطلاحا: ... 265
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اصطلاحا: ... 265
منزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ... 266
القطب الأعظم في الدين: ... 268
من فوائد (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ... 268
الحق الرابع والثلاثون ... 270
لا تظلمه بقول أو فعل ... 270
من مضار (الظلم) ... 277
الحق الخامس والثلاثون ... 279
لا تخذلُه ولا تُسْلِمه ... 279
التخاذل لغة: ... 279
التخاذل اصطلاحا: ... 280
من مضار (التخاذل) ... 283
الحق السادس والثلاثون ... 284
يعود مرضاهم ... 284
الحق السابع والثلاثون ... 292
يشيع جنائزهم ... 292
الحق الثامن والثلاثون ... 301
يزور قبورهم ... 301
الحق التاسع والثلاثون ... 307
لا يحسده ولا يغدر به ولا يغشه ... 307(1/393)
أولا- النهي عن الحسد : ... 307
الْحَسَدُ: ... 308
أَسْبَابُ الْحَسَدِ : ... 308
أَقْسَامُ الْحَسَدِ : ... 310
مَرَاتِبُ الْحَسَدِ : ... 310
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ : ... 311
عِلاَجُ الْحَسَدِ : ... 313
الْقَدْرُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ مِنَ الْحَسَدِ وَعَكْسُهُ وَمَا فِيهِ خِلاَفٌ : ... 313
عِلاَجُ الْمَحْسُودِ مِمَّا لَحِقَ بِهِ مِنْ أَذًى بِسَبَبِ الْحَسَدِ : ... 314
الآْثَارُ الْفِقْهِيَّةُ : ... 316
ثانيا- النهي عن الغدر : ... 317
الغدر : ... 323
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ : ... 323
الْجِهَادُ مَعَ الإِْمَامِ الْغَادِرِ : ... 327
من مضار (الغدر) ... 333
ثالثا- النهي عن الغش : ... 333
الغشُّ : ... 335
حكمُ الغشِّ : ... 336
الْغِشُّ فِي الْمُعَامَلاَتِ : ... 337
أَوَّلاً - الْغِشُّ بِالتَّدْلِيسِ وَالتَّصْرِيَةِ : ... 337
ثَانِيًا - الْغِشُّ الْمُسَبِّبُ لِلْغَبْنِ: ... 338
التَّعَامُل بِالنَّقْدِ الْمَغْشُوشِ : ... 339
صَرْفُ الْمَغْشُوشِ بِجِنْسِهِ أَوْ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ : ... 340
الْغِشُّ فِي الْمِكْيَال وَالْمِيزَانِ : ... 341
الْغِشُّ فِي الْمُرَابَحَةِ : ... 342
الْغِشُّ فِي التَّوْلِيَةِ : ... 343
الْغِشُّ فِي الْوَضِيعَةِ : ... 343(1/394)
غِشُّ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ فِي النِّكَاحِ : ... 344
غِشُّ وُلاَةِ الأُْمُورِ لِرَعِيَّتِهِمْ : ... 344
الْغِشُّ فِي الْمَشُورَةِ وَالنَّصِيحَةِ : ... 345
التَّعْزِيرُ عَلَى الْغِشِّ : ... 346
من مضار (الغش) ... 346
الحق الأربعون ... 347
يؤثره على نفسه ... 347
الإِْيثَارُ بِالْقُرَبِ : ... 354
الإيثار لغة واصطلاحاً: ... 355
درجات الإيثار: ... 356
الأسباب التي تعين على الإيثار: ... 357
الفرق بين الإيثار والسخاء والجود: ... 357
الإيثار والأثرة: ... 358
من فوائد (الإيثار) ... 358
الحق الواحد والأربعون ... 360
إكرام الضيف ... 360
تعريف الضيافة : ... 364
آدَابُ الْمُضِيفِ : ... 365
آدَابُ الضَّيْفِ : ... 366
مَقَامُ الضَّيْفِ عِنْدَ الْمُضِيفِ : ... 366
أَكْل طَعَامِ الضِّيَافَةِ : ... 367
الحق الثاني والأربعون ... 368
لا يرد سائلاً ... 368
حُكْمُ مَنْ أَخَذَ الزَّكَاةَ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا : ... 374
الخلاصة في حق المسلم على أخيه ... 377(1/395)