أَهْتَمُّ بِهِ وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي،اللَّهُمَّ زَوِّدْنِي التَّقْوَى،وَاغْفِرْ لِي ذَنْبِي وَوَجِّهْنِي إِلَى الْخَيْرِ حَيْثُ مَا تَوَجَّهْتُ " ثُمَّ يَخْرُجُ " (1) .
وعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" مَنْ خَرَجَ مَخْرَجًا فَقَالَ حِينَ يَخْرُجُ:بِسْمِ اللَّهِ،وَآمَنْتُ بِاللَّهِ،وَاعْتَصَمْتُ بِاللَّهِ،وَتَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ،عَصَمَهُ اللَّهُ مِنْ شَرِّ مَخْرَجِهِ " (2)
وعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ،يُرِيدُ سَفَرًا،أَوْ غَيْرَهُ،فَقَالَ حِينَ يَخْرُجُ:بِسْمِ اللهِ،آمَنْتُ بِاللَّهِ،اعْتَصَمْتُ بِاللَّهِ،تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ،لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ،إِلاَّ رُزِقَ خَيْرَ ذَلِكَ الْمَخْرَجِ،وَصُرِفَ عَنْهُ شَرُّ ذَلِكَ الْمَخْرَجِ. (3)
توديع أهله وجيرانه وأصداقئه. فعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ،رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ سَفَرًا،فَلْيُوَدِّعْ إِخْوَانَهُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَاعِلٌ لَدَى دُعَائِهِمُ الْبَرَكَةَ " (4)
والسنة أن يقول له من يودعه ما روي عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ،قَالَ:كَانَ أَبِي عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ إِذَا أَتَى الرَّجُلَ وَهُوَ يُرِيدُ السَّفَرَ،قَالَ لَهُ:ادْنُ حَتَّى أُوَدِّعَكَ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُوَدِّعُنَا،فَيَقُولُ:أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ. (5) .
وعَنْ قَزَعَةَ،قَالَ:قَالَ لِي ابْنُ عُمَرَ:أُوَدِّعُكَ كَمَا وَدَّعَنِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكَ وَأَمَانَتَكَ،وَخَوَاتِيمَ عَمَلِكَ. (6)
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى أُرِيدُ سَفَرًا فَزَوِّدْنِى. قَالَ « زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى ». قَالَ زِدْنِى. قَالَ « وَغَفَرَ ذَنْبَكَ ». قَالَ زِدْنِى بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى. قَالَ « وَيَسَّرَ لَكَ الْخَيْرَ حَيْثُمَا كُنْتَ » (7) .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُ:يَا نَبِىَّ اللَّهِ إِنِّى أُرِيدُ السَّفَرَ. فَقَالَ لَهُ :« مَتَى؟ ». قَالَ:غَداً إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ:فَأَتَاهُ فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَقَالَ لَهُ :« فِى حِفْظِ اللَّهِ وَفِى كَنَفِهِ،زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى،وَغَفَرَ لَكَ ذَنْبَكَ وَوَجَّهَكَ لِلْخَيْرِ أَيْنَمَا تَوَجَّهْتَ أَوْ أَيْنَمَا تَوَخَّيْتَ » (8)
__________
(1) - تَهْذِيبُ الْآثَارِ لِلطَّبَرِيِّ (1407 ) والسُّنَنُ الْكُبْرَى لِلْبَيْهقِيِّ(9688 ) ضعيف
هَكَذَا يَقُولُهُ الْعَوَّامُّ : " بِكَ انْتَشَرْتُ " وَأَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ يَقُولُ : الصَّحِيحُ " ابْتَسَرْتُ " يَعْنِي ابْتَدَأْتُ سَفَرِي
(2) - تَهْذِيبُ الْآثَارِ لِلطَّبَرِيِّ (1408 ) والخطيب فى موضح أوهام الجمع والتفريق (1/369) صحيح
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 218) (471) صحيح لغيره
(4) - مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ (759 ) ضعيف جدا
(5) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 230)(4524) صحيح
(6) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 278) (4781) صحيح
(7) - سنن الترمذى- المكنز - (3776 ) وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
(8) - سنن الدارمى- المكنز - (2727) صحيح(1/369)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ قَالَ - يَعْنِى إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ - بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ. يُقَالُ لَهُ كُفِيتَ وَوُقِيتَ. وَتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَانُ ». (1) .
يقول عند خروجه من بيته ما صح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا خرج من بيته" فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ،فَقَالَ:بِسْمِ اللهِ،تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ،لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ،فَيُقَالُ لَهُ:حَسْبُكَ قَدْ كُفِيتَ وَهُدِيتَ وَوُقِيتَ. فَيَلْقَى الشَّيْطَانُ شَيْطَانًا آخَرَ فَيَقُولُ لَهُ:كَيْفَ لَكَ بِرَجُلٍ قَدْ كُفِيَ وَهُدِيَ وَوُقِيَ (2) .
وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ،قَالَ:بِسْمِ اللهِ،تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ،اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ نَزِلَّ،أَوْ نَضِلَّ،أَوْ نَظْلِمَ،أَوْ نُظْلَمَ،أَوْ نَجْهَلَ،أَوْ يُجْهَلَ عَلَيْنَا. (3)
ويستحب هذا الدعاء لكل خارج من بيته،ويستحب أن يتصدق بشيء عند خروجه وكذا بين يدي كل حاجة يريدها. (4)
يسمي الله إذا بدأ المسافر بركوب مركبته ويدعو بما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . فعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ،أَنَّ أَبَا الزُّبَيْرَ أَخْبَرَهُ،أَنَّ عَلِيًّا الأَسَدِيَّ أَخْبَرَهُ،أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ عَلَّمَهُ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلاَثًا،وَقَالَ:{سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف]،اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى،وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى،اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا،وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ،اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ،وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ،اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ،وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ،وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ،فَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ،وَزَادَ فِيهِنَّ:آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ. رواه مسلم (5) .
تجنب الشبع المفرط والزينة والترفه والتبسط في ألوان الأطعمة،فإن الحاج أشعث أغبر،وينبغي أن يستعمل الرفق وحسن الخلق مع جميع الناس وتجنب المخاصمة والمخاشنة ومزاحمة الناس في الطريق وموارد الماء ما أمكنه ويصون لسانه من الشتم والغيبة واللعن وجميع الألفاظ القبيحة وليلاحظ ما ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ حَجِّ فَلَمْ يَرْفُثْ،وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. (6) .
وليرفق بالسائل له والضعيف ولا ينهر أحدا منهم ولا يوبخه على خروجه بلا زاد بل يواسيه بشيء مما تيسر فإن لم يفعل رده ردا جميلا ودعا له بالمعونة.
__________
(1) - سنن الترمذى- المكنز - (3754 ) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (3 / 104) (822) صحيح
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 616)(26616) 27151- صحيح
(4) - الفقه الإسلامي وأدلته - (3 / 698)
(5) - صحيح مسلم- المكنز - (3339 ) وصحيح ابن حبان - (6 / 413) (2696)
(6) - صحيح ابن حبان - (9 / 7) (3694) وصحيح مسلم- المكنز - (3357 و3358)(1/370)
التكبير أثناء الصعود والتسبيح أثناء الهبوط ويندرج ذلك على الصعود والهبوط في المطبات الهوائية في الطائرات. فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - قَالَ كُنَّا إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا،وَإِذَا نَزَلْنَا سَبَّحْنَا" رواه البخاري (1) .
وعَنْ جَابِرٍ قَالَ كُنَّا إِذَا سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا صَعِدْنَا كَبَّرْنَا وَإِذَا هَبَطْنَا سَبَّحْنَا. (2)
كما يسن الدعاء أثناء السفر،فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،أَنَّهُ قَالَ:ثَلاَثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لاَ شَكَّ فِيهِنَّ:دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ،وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ،وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ (3) ..
وعَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : ثَلاَثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لاَ شَكَّ فِيهِنَّ دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ." (4)
يدعو بدعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - كلما أراد دخول قرية. عَنْ أَبِي سَهْلِ بْنِ مَالِكٍ،عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ كَانَ يَسْمَعُ قِرَاءَةَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَهُوَ يَؤُمُّ النَّاسَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ دَارِ أَبِي جُهَيْمٍ،وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: وَالَّذِي فَلَقَ الْبَحْرَ لِمُوسَى إِنَّ صُهَيْبًا حَدَّثَنِي أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَرَ قَرْيَةً يُرِيدُ دُخُولَهَا إِلَّا قَالَ حِينَ يَرَاهَا: " اللهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظْلَلْنَ،وَرَبَّ الْأَرَضِينَ السَّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ،وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وَمَا أَضْلَلْنَ،وَرَبَّ الرِّيَاحِ وَمَا ذَرَيْنَ،فَإِنَّا نَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ وَخَيْرَ أَهْلِهَا،وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا ".وَحَلَفَ كَعْبٌ: وَالَّذِي فَلَقَ الْبَحْرَ لِمُوسَى لَإِنَّهَا كَانَتْ دَعَوَاتِ دَاوُدَ حِينَ يَرَى الْعَدُوَّ (5) .
وعَن كَعْبٍ،أَنَّ صُهَيبًا صَاحِبَ النَّبِيِّ ِ، - صلى الله عليه وسلم - ،حَدَّثَهُ ؛
أَنَّ النَّبِيِّ، - صلى الله عليه وسلم - ،لَمْ يَرَ قَرْيَةً،يُرِيدُ دُخُولَهَا إِلاَّ قَالَ حِينَ يَرَاهَا:اللهمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ،وَمَا أَظْلَلْنَ،وَرَبَّ الأَرَضِينَ،وَمَا أَقْلَلْنَ،وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ،وَمَا أَضْلَلْنَ،وَرَبَّ الرِّيَاحِ،وَمَا ذَرَيْنَ،فَإِنَّا نَسْألُكَ خَيْرَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ،وَخَيرَ أَهْلِهَا،وَنَعُوذُ بِكَ مِن شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا،وَشَرِّ مَا فِيهَا." رواه النسائي (6) .
التأدب بآداب الإحرام وهي:
ا- النظافة: وتتحقق بتقليم الأظافر،وقص الشارب،ونتف الإبط،وحلق العانة،والوضوء،أو الاعتسال،وهو أفضل،وتسريح اللحية،وشعر الرأس. عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:إِنَّ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَغْتَسِلَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ (7) .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2993 )
(2) - سنن الدارقطنى- المكنز - (2513 ) فيه انقطاع
(3) - صحيح ابن حبان - (6 / 416) (2699) صحيح
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 658)(10196) 10199- صحيح
(5) - شرح مشكل الآثار - (6 / 354) (2529 ) صحيح
(6) - أخرجه النَّسائي في "الكبرى"( 8776 ) والمسند الجامع - (7 / 786) (5418) صحيح
(7) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (5 / 33) (9212) صحيح(1/371)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَفَعَ الْحَدِيثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَنَّ النُّفَسَاءَ وَالْحَائِضَ تَغْتَسِلُ وَتُحْرِمُ وَتَقْضِى الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرَ ». (1)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أَنَّ النُّفَسَاءَ،وَالْحَائِضَ تَغْتَسِلُ وَتُحْرِمُ وَتَقْضِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا،غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرَ." رواه أحمد (2) .
ب- التجرد: من الثياب المخيطة ولبس ثوبي الإحرام،وهما رداء يلف النصف الأعلى من البدن،دون الرأس،وإزار يلف به النصف الأسفل منه.وينبغي أن يكونا أبيضين،فإن الأبيض أحب الثياب إلى الله تعالى،فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ انْطَلَقَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْمَدِينَةِ،بَعْدَ مَا تَرَجَّلَ وَادَّهَنَ وَلَبِسَ إِزَارَهُ وَرِدَاءَهُ،هُوَ وَأَصْحَابُهُ،فَلَمْ يَنْهَ عَنْ شَىْءٍ مِنَ الأَرْدِيَةِ وَالأُزْرِ تُلْبَسُ إِلاَّ الْمُزَعْفَرَةَ الَّتِى تَرْدَعُ عَلَى الْجِلْدِ،فَأَصْبَحَ بِذِى الْحُلَيْفَةِ،رَكِبَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الْبَيْدَاءِ،أَهَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَقَلَّدَ بَدَنَتَهُ،وَذَلِكَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِى الْقَعْدَةِ،فَقَدِمَ مَكَّةَ لأَرْبَعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِى الْحَجَّةِ،فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ،وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ أَجْلِ بُدْنِهِ لأَنَّهُ قَلَّدَهَا،ثُمَّ نَزَلَ بِأَعْلَى مَكَّةَ عِنْدَ الْحَجُونِ،وَهْوَ مُهِلٌّ بِالْحَجِّ،وَلَمْ يَقْرَبِ الْكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ،وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ،ثُمَّ يُقَصِّرُوا مِنْ رُءُوسِهِمْ ثُمَّ يَحِلُّوا،وَذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ بَدَنَةٌ قَلَّدَهَا،وَمَنْ كَانَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ فَهِىَ لَهُ حَلاَلٌ،وَالطِّيبُ وَالثِّيَابُ " رواه البخاري (3) .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ،فَإِنَّهَا مِنْ خَيْرِ ثِيَابِكُمْ،وَإِنَّ مِنْ خَيْرِ أَكْحَالِكُمُ الإِثْمِدَ،يَجْلُو الْبَصَرَ،وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ." (4)
ج- التطيب في البدن والثوب،وإن بقي أثره عليه بعد الإحرام.
فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِى مَفْرِقِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهْوَ مُحْرِمٌ.رواه البخاري ومسلم (5) .
وعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لإِحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ،وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ.رواه البخاري ومسلم (6) .
د- صلاة ركعتين: ينوي بهما سنة الإحرام،يقرأ في الأولى منهما بعد الفاتحة سورة الكافرون وفي الثانية سورة الإخلاص.
قال ابن عمر رضي الله عنهما: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يركع بذي الحليفة ركعتين" رواه مسلم.
__________
(1) - سنن الترمذى- المكنز - (960 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 908)(3435) حسن
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (1545 ) -تَرجل : سرح الشعر ونظفه وحسنه
(4) - صحيح ابن حبان - (12 / 242) (5423) صحيح
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (271 ) وصحيح مسلم- المكنز - (2889) -الوبيص : البريق
(6) - صحيح البخارى- المكنز - (1539 ) وصحيح مسلم- المكنز - (2883)(1/372)
التأدب بآداب دخول مكة والبيت الحرام وهي:
الاغتسال.فعن عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَغْتَسِلُ لِدُخُولِ مَكَّةَ (1) .
أن يبادر إلى البيت بعد أن يدع أمتعته في مكان أمين ويدخل من باب بني شيبة ـ باب السلام ـ ويقول في خشوع وضراعة: ( أَعُوذ بِاَللَّهِ الْعَظِيم وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيم وَسُلْطَانه الْقَدِيم مِنَ الشَّيْطَان الرَّجِيم بِسْمِ اللَّه وَالْحَمْد لِلَّهِ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِ مُحَمَّد وَسَلَّمَ اللَّهُمَّ اِغْفِرْ لِي ذُنُوبِي وَافْتَحْ لِي أَبْوَاب رَحْمَتك ) وَفِي الْخُرُوج يَقُولهُ،لَكِنْ يَقُول:اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلك مِنْ فَضْلك . (2)
ج- إذا وقع نظره على البيت،رفع يديه وقال: ما روي عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ:كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ مَكَّةَ فَرَأَى الْبَيْتَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَكَبَّرَ وَقَالَ :« اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلاَمِ،اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيَما وَمَهَابَةً وَزِدْ مَنْ حَجَّهُ أَوِ اعْتَمَرَهُ تَكْرِيمًا وَتَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَبِرًّا ». (3) .
وعَنْ مَكْحُولٍ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا رَأَى الْبَيْتَ،قَالَ:اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتِ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَمَهَابَةً،وَزِدْ مَنْ حَجَّهُ،أَوِ اعْتَمَرَهُ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْبِيرًا وَبِرًّا." (4)
وعَنْ حُمَيْدِ بْنِ يَعْقُوبَ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ سَمِعْتُ مِنْ عُمَرَ رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ كَلِمَةً مَا بَقِىَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ سَمِعَهَا غَيْرِى سَمِعْتُهُ يَقُولُ إِذَا رَأَى الْبَيْتَ:اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلاَمُ وَمِنْكَ السَّلاَمُ فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلاَمِ." (5)
د- ثم يقصد إلى الحجر الأسود،فيقبله بدون صوت. فإن لم يتمكن استلمه بيده وقبله. فإن عجز عن ذلك،أشار إليه بيده. ثم يقف بحذائه ويشرع في الطواف ولا يصلي تحية المسجد،فإن تحيته الطواف به،إلا إذا كانت الصلاة المكتوبة مقامة فيصليها مع الإمام.لقوله - صلى الله عليه وسلم - : « إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ صَلاَةَ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةُ » (6) .
وكذلك إذا خاف فوات الوقت،يبدأ به فيصليه.
__________
(1) - عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ اغْتَسَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لِدُخُولِهِ مَكَّةَ بِفَخٍّ. قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ غَيْرُ مَحْفُوظٍ. وَالصَّحِيحُ مَا رَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَغْتَسِلُ لِدُخُولِ مَكَّةَ. وَبِهِ يَقُولُ الشَّافِعِىُّ يُسْتَحَبُّ الاِغْتِسَالُ لِدُخُولِ مَكَّةَ. سنن الترمذى- المكنز - (862 )
(2) - هو ملفق من عدة أحاديث انظر : شرح النووي على مسلم - (3 / 33) والفقه الإسلامي وأدلته - (3 / 678) والموسوعة الفقهية الكويتية - (4 / 11) والموسوعة الفقهية الكويتية - (20 / 242) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (1 / 3127) سؤال رقم 31819- صفة العمرة وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (1 / 3130) سؤال رقم 31822- صفة الحج وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (2 / 1530) رقم الفتوى 3741 من آداب وأحكام المساجد والأذكار للنووي - (1 / 31)
(3) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (5 / 73) (9481) فيه جهالة
(4) - مصنف ابن أبي شيبة - (4 / 97)(15999) فيه جهالة
(5) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (5 / 73) (9483) فيه جهالة
(6) - صحيح مسلم- المكنز - (1678 )(1/373)
هـ- أن يستحضر عند رؤية الكعبة ما أمكنه من الخشوع والتذلل والخضوع فهذه عادة الصالحين وعباد الله العارفين لأن رؤية البيت تذكر وتشوق إلى رب البيت.
التأدب بآداب الطواف وسننه وهي:
أ- استقبال الحجر الأسود،عند بدء الطواف مع التكبير والتهليل،ورفع اليدين: كرفعهما في الصلاة،واستلامه بهما بوضعهما عليه،وتقبيله بدون صوت،ووضع الخد عليه،إن أمكن ذلك،وإلا مسح بيده وقبلها،أو مسه بشيء معه وقبله،أو أشار بيده وقبلها في المكان الذي يقف فيه مقابل الحجر على خط البدء بالطواف.فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،قَالَ:اسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْحَجَرَ وَاسْتَلَمَهُ،ثُمَّ وَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ يَبْكِي طَوِيلا فَالْتَفَتَ،فَإِذَا عُمَرُ يَبْكِي،فَقَالَ:يَا عُمَرُ هَاهُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ " رواه الحاكم (1) .
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَفْوَانَ أَوْ صَفْوَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،قَالَ: " لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَكَّةَ قُلْتُ: لَأَلْبِسَنَّ ثِيَابِي وَلَأَنْظُرَنَّ كَيْفَ يَصْنَعُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَكَانَتْ دَارِي عَلَى الطَّرِيقِ فَانْطَلَقْتُ فَوَافَقْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ خَرَجَ مِنَ الْكَعْبَةِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ،وَقَدِ اسْتَلَمُوا الْبَيْتَ مِنَ الْبَابِ إِلَى الْحَطِيمِ،وَقَدْ وَضَعُوا خُدُودَهُمْ عَلَى الْبَيْتِ وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَسَطُهُمْ هَكَذَا " (2)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ: طُفْتُ مَعَ عَبْدِ اللهِ فَلَمَّا جِئْنَا دُبُرَ الْكَعْبَةِ،قُلْتُ لَهُ: أَلَا تَتَعَوَّذُ ؟،قَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ النَّارِ،ثُمَّ مَضَى حَتَّى اسْتَلَمَ الْحَجَرَ وقَامَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ،فَوَضَعَ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَكَفَّيْهِ،وَبَسَطَهُمَا بَسْطًا،ثُمَّ قَالَ: " هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمَكَّةَ يَفْعَلُهُ " (3)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ،أَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ،وَكَانَ يَقُولُ: " مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ يُدْعَى الْمُلْتَزَمَ لَا يَلْزَمُ مَا بَيْنَهُمَا أَحَدٌ يَسْأَلُ اللهَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ " (4)
وعَنْ سَالِمٍ،عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَبَّلَ الرُّكْنَ ثُمَّ قَالَ: " أَمَا وَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ،وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ " (5)
وعَنْ جَعْفَرٍ،يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِي اللَّفْظِ،قَالَ: رَأَيْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ يُقَبِّلُ الْحَجَرَ،ثُمَّ يَسْجُدُ عَلَيْهِ،ثُمَّ قَبَّلَهُ،ثُمَّ سَجَدَ عَلَيْهِ،ثُمَّ قَبَّلَهُ،ثُمَّ سَجَدَ عَلَيْهِ،فَقُلْتُ لَهُ،فَقَالَ: " رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَفْعَلُهُ "،وَقَالَ أَبُو عَاصِمٍ: إِنِّي رَأَيْتُ خَالَكَ يَفْعَلُهُ،فَسَأَلْتُهُ كَمَا سَأَلْتَنِي فَقَالَ: " رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَفْعَلُهُ وَيَقُولُ: " إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ،وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ
__________
(1) - المستدرك للحاكم (1670) ضعيف
(2) - شعب الإيمان - (5 / 491) (3766 ) حسن
(3) - شعب الإيمان - (5 / 492) (3767 ) فيه لين
(4) - شعب الإيمان - (5 / 492) (3769 ) ضعيف
(5) - أخبار مكة للفاكهي - (1 / 106) (54 ) صحيح(1/374)
اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُهُ بِكَ لَمْ أَفْعَلْ بِكَ مَا فَعَلْتُ " قَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: قُلْتُ لِأَبِي عَاصِمٍ: مَنْ خَالُهُ ؟ قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا " (1)
وعَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَبَّلَ الرُّكْنَ وَالْتَزَمَهُ،وَقَالَ: " رَأَيْتُ أَبَا الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم - بِكَ حَفِيًّا " (2)
وقَالَ أَبُو حَمَّادٍ:"رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَخْلَفَ طَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ قَبَّلَ الْحَجَرَ،فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَتَى الْمَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ،ثُمَّ طَافَ الثَّانِيَةَ،فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْحَجَرِ وَضَعَ خَدَّهُ عَلَيْهِ فَمَسَحَ،ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى أَثَرِ سُجُودِهِ،ثُمَّ أَمَرَّهُ عَلَى أَنْفِهِ وَشَفَتَيْهِ " (3)
وعَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: " رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يَوْمًا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَالْتَفَتَ فَلَمْ يَرَ خَلْفَهُ إِلَّا رَجُلًا أَوْ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً،فَعَمَدَ إِلَى الرُّكْنِ فَقَبَّلَهُ ثُمَّ عَادَ فَقَبَّلَهُ " (4)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَكَبَّ عَلَى الرُّكْنِ،فَقَالَ:إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ،وَلَوْ لَمْ أَرَ حِبِّي - صلى الله عليه وسلم - قَبَّلَكَ وَاسْتَلَمَكَ،مَا اسْتَلَمْتُكَ وَلاَ قَبَّلْتُكَ،{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. رواه أحمد (5) .
ب- الاضطباع: وهو جعل وسط الرداء تحت الإبط الأيمن،وطرفيه على الكتف الأيسر.فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابَهُ اعْتَمَرُوا مِنْ جِعِرَّانَةَ،فَاضْطَبَعُوا أَرْدِيَتَهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ. رواه أحمد (6) .
ج- الرّمل: وهو الإسراع في المشي مع هز الكتفين وتقارب الخطى وقد شرع ذلك إظهار للقوة والنشاط. فعَنِ ابْنِ عُمَرَ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَمَلَ مِنَ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ إِلَى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ. (7)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا طَافَ الطَّوَافَ الأَوَّلَ خَبَّ ثَلاَثًا وَمَشَى أَرْبَعًا،وَكَانَ يَسْعَى بَطْنَ الْمَسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.فَقُلْتُ لِنَافِعٍ أَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَمْشِى إِذَا بَلَغَ الرُّكْنَ الْيَمَانِىَ قَالَ لاَ.إِلاَّ أَنْ يُزَاحَمَ عَلَى الرُّكْنِ فَإِنَّهُ كَانَ لاَ يَدَعُهُ حَتَّى يَسْتَلِمَهُ (8) .
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَتَى الْحَجَرَ فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ مَشَى عَلَى يَمِينِهِ فَرَمَلَ ثَلاَثًا وَمَشَى أَرْبَعًا. (9)
__________
(1) - أخبار مكة للفاكهي - (1 / 112)(76 و77 ) إسناده صحيح
(2) - أخبار مكة للفاكهي - (1 / 112) (79 ) إسناده صحيح
(3) - أخبار مكة للفاكهي - (1 / 113) (80 ) صحيح
(4) - أخبار مكة للفاكهي - (1 / 113) (81 ) إسناده صحيح
(5) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 116) (131) صحيح
(6) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 781)(2792) 2793- صحيح
(7) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 507) (6047) صحيح
(8) - صحيح البخارى- المكنز - (1644 ) وصحيح مسلم- المكنز - (3107) -خب : عدا عدوا
(9) - صحيح مسلم- المكنز - (3012 ) -رمل : الرمل إسراع المشى مع تقارب الخطا(1/375)
وعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَدِمَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مُعْتَمِرًا،وَقَدِمَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا،فَقُلْتُ: أَيُّهُمَا أَبْدَأُ ؟ فَقُلْتُ: أَلْزَمُ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ،ثُمَّ آتِي أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فَأُسَلِّمُ عَلَيْهَا قَالَ: فَلَزِمْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَبَدَأَ عَبْدُ اللهِ فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ ثُمَّ أَخَذَ عَلَى يَمِينِهِ فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا،ثُمَّ أَتَى الْمَقَامَ فَصَلَّى وَرَاءَهُ رَكْعَتَيْنِ،ثُمَّ عَادَ إِلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ،ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّفَا،فَقَامَ عَلَى صَدْعٍ فِيهِ فَأَهَلَّ،فَقُلْتُ: إِنَّ النَّاسَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْإِهْلَالِ فِي هَذَا الْمَكَانِ قَالَ: " لَكِنِّي آمُرُكَ بِهِ،أَتَدْرِي مَا التَّلْبِيَةُ ؟ إِنَّمَا هِيَ اسْتِجَابَةٌ اسْتَجَابَ بِهَا مُوسَى لِرَبِّهِ " ثُمَّ هَبَطَ،فَلَمَّا أَتَى بَطْنَ الْوَادِي رَمَلَ وَقَالَ: " رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ " (1)
وهذا للرجال أما النساء فلا اضطباع عليهن لوجوب سترهن ولا رمل.
د- استلام الركن اليماني:
فعَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ،أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا رَأَيْتُكَ لَا تَمَسُّ مِنَ الْأَرْكَانِ إِلَّا الْيَمَانِيَّيْنِ فَقَالَ " رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - , لَا يَمَسُّ مِنَ الْأَرْكَانِ إِلَّا الْيَمَانِيَّيْنِ " (2)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ مَا تَرَكْتُ اسْتِلاَمَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ فِى شِدَّةٍ وَلاَ رَخَاءٍ،مُنْذُ رَأَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَلِمُهُمَا.قُلْتُ لِنَافِعٍ أَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَمْشِى بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ قَالَ إِنَّمَا كَانَ يَمْشِى لِيَكُونَ أَيْسَرَ لاِسْتِلاَمِهِ" رواه البخاري ومسلم (3) .
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:لَمْ أَرَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ مِنَ الْبَيْتِ،إِلاَّ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ. (4)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - طَافَ بِالْبَيْتِ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ. (5)
وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ:شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنِّي شَاكِيَةٌ فَقَالَ:طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ،وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ،قَالَتْ:فَفَعَلْتُ. (6)
وعَنْ أَبِى الطُّفَيْلِ قَالَ:حَجَّ مُعَاوِيَةُ فَجَعَلَ لاَ يَأْتِى عَلَى رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْبَيْتِ إِلاَّ اسْتَلَمَهُ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:إِنَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَلِمُ الْيَمَانِىَ وَالْحَجَرَ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ:لَيْسَ مِنْ أَرْكَانِهِ مَهْجُورٌ. (7)
__________
(1) - أخبار مكة للفاكهي - (2 / 219) (1391) صحيح
(2) - شرح معاني الآثار - (2 / 184) (3853 ) صحيح
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (1606 ) وصحيح مسلم- المكنز - (3123 )
(4) - صحيح ابن حبان - (9 / 136) (3827) وصحيح مسلم- المكنز - (3120 )
(5) - صحيح ابن حبان - (9 / 138) (3829) صحيح
(6) - صحيح ابن حبان - (9 / 139) (3830) صحيح
(7) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (5 / 76) (9508) صحيح(1/376)
وعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ،قَالَ:كُنْتُ مَعَ مُعَاوِيَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَهُمَا يَطُوفَانِ حَوْلَ الْبَيْتِ،فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَيْنِ،وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلِمُ الأَرْكَانَ كُلَّهَا،فَقَالَ:ابْنُ عَبَّاسٍ:كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لاَ يَسْتَلِمُ إِلاَّ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ:الْيَمَانِيَ وَالأَسْوَدَ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ:لَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ مَهْجُورٌ. (1)
وعَنْ أَبِى الشَّعْثَاءِ أَنَّهُ قَالَ وَمَنْ يَتَّقِى شَيْئًا مِنَ الْبَيْتِ،وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلِمُ الأَرْكَانَ،فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - إِنَّهُ لاَ يُسْتَلَمُ هَذَانِ الرُّكْنَانِ.فَقَالَ لَيْسَ شَىْءٌ مِنَ الْبَيْتِ مَهْجُورًا،وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ - رضى الله عنهما - يَسْتَلِمُهُنَّ كُلَّهُنَّ . (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،أَنَّهُ طَافَ مَعَ مُعَاوِيَةَ بِالْبَيْتِ،فَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلِمُ الأَرْكَانَ كُلَّهَا،فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ:لِمَ تَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ ؟ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَلِمُهُمَا،فَقَالَ مُعَاوِيَةُ:لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْبَيْتِ مَهْجُورًا،فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}،فَقَالَ مُعَاوِيَةُ:صَدَقْتَ. (3)
هـ- صلاة ركعتين بعد الطواف:
يسن للطائف صلاة ركعتين بعد كل طواف،عند مقام إبراهيم أو في أي مكان من المسجد.
فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا،فَقَرَأَ { وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [البقرة: 125] فَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ،ثُمَّ أَتَى الْحَجَرَ فَاسْتَلَمَهُ " (4) .
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 926) (3533) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (1608 ) معلقاً ووصله مصنف عبد الرزاق (8948) والمعجم الكبير للطبراني - (9 / 137) (10486 ) صحيح
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 579) (1877) حسن
ورَوى ابن المُنذِر وغَيره استِلام جَمِيع الأَركان أَيضًا عَن جابِر وأَنَس والحَسَن والحُسَين مِنَ الصَّحابَة.وعَن سُويدِ بن غَفَلَةَ مِنَ التّابِعِينَ. وقَد يُشعِر ما تَقَدَّمَ فِي أَوائِل الطَّهارَة مِن حَدِيث عُبَيد بن جُرَيجٍ أَنَّهُ قالَ لابنِ عُمَر " رَأَيتُك تَصنَع أَربَعًا لَم أَرَ أَحَدًا مِن أَصحابك يَصنَعها " فَذَكَرَ مِنها " ورَأَيتُك لا تَمَسّ مِنَ الأَركان إِلاَّ اليَمانِيَّينِ " الحَدِيث بِأَنَّ الَّذِينَ رَآهُم عُبَيد بن جُرَيجٍ مِنَ الصَّحابَة والتّابِعِينَ كانُوا لا يَقتَصِرُونَ فِي الاستِلام عَلَى الرُّكنَينِ اليَمانِيَّينِ.
وقالَ بَعض أَهل العِلم : اختِصاص الرُّكنَينِ مُبَيَّن بِالسُّنَّةِ ومُستَنَدُ التَّعمِيم القِياس.وأَجابَ الشّافِعِيّ عَن قَول مَن قالَ لَيسَ شَيء مِنَ البَيت مَهجُورًا بِأَنّا لَم نَدَّعِ استِلامهما هَجرًا لِلبَيتِ ، وكَيفَ يَهجُرهُ وهُو يَطُوف بِهِ ،ولَكِنّا نَتَّبِع السُّنَّة فِعلاً أَو تَركًا ، ولَو كانَ تَرك استِلامهما هَجرًا لَهُما لَكانَ تَرك استِلام ما بَينَ الأَركان هَجرًا لَها ولا قائِل بِهِ."فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار المعرفة - (3 / 474)
(4) - أخبار مكة للفاكهي - (1 / 459) (1008 ) وسنن الترمذى- المكنز - (872 ) صحيح
قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ يَبْدَأُ بِالصَّفَا قَبْلَ الْمَرْوَةِ فَإِنْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ قَبْلَ الصَّفَا لَمْ يُجْزِهِ وَبَدَأَ بِالصَّفَا. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى رَجَعَ فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِنْ لَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ فَإِنْ ذَكَرَ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْهَا رَجَعَ فَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ حَتَّى أَتَى بِلاَدَهُ أَجْزَأَهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ. وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِىِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنْ تَرَكَ الطَّوَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى بِلاَدِهِ فَإِنَّهُ لاَ يُجْزِيهِ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِىِّ. قَالَ الطَّوَافُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَاجِبٌ لاَ يَجُوزُ الْحَجُّ إِلاَّ بِهِ.(1/377)
والسنّة فيهما قراءة سورة الكافرون بعد الفاتحة في الركعة الأولى وسورة الإخلاص في الركعة الثانية،فعن جَعْفَر،حَدَّثَنِي أَبِي،قَالَ:أَتَيْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ،فَسَأَلْنَاهُ عَنْ حَجَّةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ،وَقَالَ:إِذَا فَرَغَ يُرِيدُ مِنَ الطَّوَافِ عَمَدَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ،فَصَلَّى خَلْفَهُ رَكْعَتَيْنِ،وَتَلا:وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى،قَالَ:أَيْ يَقْرَأُ فِيهَا بِالتَّوْحِيدِ،وَ قُلْ يَأَيُّهَا الْكَافِرُونَ " (1)
وقَالَ جَابِرٌ:لَسْنَا نَنْوِي إِلاَّ الْحَجَّ،لَسْنَا نَعْرِفُ الْعُمْرَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ،اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلاَثًا،وَمَشَى أَرْبَعًا،ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ،فَقَرَأَ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة]،فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ،فَكَانَ أَبِي يَقُولُ:- وَلاَ أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلاَّ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ " (2)
التأدب بآداب الوقوف بعرفات وسننه:
الاغتسال للوقوف بعرفة. فعَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَغْتَسِلُ لإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَلِدُخُولِهِ مَكَّةَ وَلِوُقُوفِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ. (3)
المحافظة على الطهارة الكاملة،واستقبال القبلة والإكثار من الاستغفار والذكر والدعاء لنفسه ولغيره بما شاء من أمر الدين والدنيا مع الخشية وحضور القلب ورفع اليدين.
قَالَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ:كُنْتُ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَفَاتٍ،فَرَفَعَ يَدَيْهِ يَدْعُو،فَمَالَتْ بِهِ نَاقَتُهُ،فَسَقَطَ خِطَامُهَا قَالَ:فَتَنَاوَلَ الْخِطَامَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ وَهُوَ رَافِعٌ يَدَهُ الأُخْرَى." (4) .
وعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِى لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ ». " رواه الترمذي (5) .
البعد في جميع أعمال الحج عن إيذاء الناس في الزحمة أو دفعهم ويتلطف بمن يزاحمه ويلحظ بقلبه جلالة البقعة التي هو فيها والتي هو متوجه إليها ويلتمس عذر من زاحمه وما نزعت الرحمة إلا من قلب شقي. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : خَيْرُكُمُ أُلْيَنُكُمْ مَنَاكِبَ فِي الصَّلاَةِ." (6)
البعد أيضا عن الغضب أوالفحش في الكلام والسب والشتم واللعن والجدال والخصومات مع الآخرين لقول الله عز وجل:{ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ
__________
(1) - صحيح ابن خزيمة (4 / 76) وسنن أبي داود - المكنز - (1911) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (9 / 254)(3944) وصحيح مسلم- المكنز - (3009)
(3) - موطأ مالك- المكنز - (710 ) صحيح
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 298)(21821) 22165- صحيح
(5) - سنن الترمذى- المكنز - (3934 ) وصحيح الجامع (3274) قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ
(6) - صحيح ابن حبان - (5 / 52) (1756) صحيح(1/378)
فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (197)} البقرة.
التذكر دائما بأنه في أعماله إنما يؤدي فرضا من فروض الله،يؤدى مرة في العمر فيتحمل المشاق ويصبر على الإيذاء ويوجه قلبه لله سبحانه ويستشعر بأن الله معه يراه ويراقبه ويلتمس الخشوع والإجلال والسكينة والطمأنينة ويكثر من التهليل والتكبير والتمجيد والتعظيم لله سبحانه وتعالى .
ويشغل أوقاته بالدعاء وقراءة القرآن والذكر والبكاء والتضرع والتوبة وإخلاص العبودية لله ولا ينسى الدعاء للأقرباء والأرحام والأصدقاء ومن سألوه ولجميع المسلمين بالخير والسعادة والتوفيق وصالح أمورهم والعفو والعافية الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
التأدب بآداب زيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - :
أن يكثر من الصلاة والتسليم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في طريقه إلى المدينة وزيارة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
أن يغتسل قبل دخوله المسجد النبوي ويلبس أنظف ثيابه متطيبا بالطيب.
ج- دخول مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالسكينة والوقار،فإذا وصل باب المسجد فليقدّم رجله اليمنى في الدخول قائلا:" أعوذ بالله العظيم،وبوجهه الكريم،وبسلطانه القديم،من الشيطان الرجيم،بسم الله والحمد لله،اللهم صلّ على سيدنا محمد وعلى آل محمد وسلم،اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك" (1) .
د- أن يأتي الروضة الشريفة،" وهي ما بين المنبر والقبر" فيصلي فيها بجنب المنبر تحية المسجد ركعتين،ويشكر الله تعالى بالثناء عليه على هذه النعمة.
هـ- يتجه إلى القبر الشريف مستقبلا جداره ومستدبرا القبلة فيسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،مستحضرا جلال موقفه ومنزلة من هو في حضرته قائلا بصوت خفيض:
السلام عليك يا رسول الله،السلام عليك يا نبي الله،السلام عليك يا خيرة الله،السلام عليك يا خير خلق الله،السلام عليك يا حبيب الله،السلام عليك يا سيد المرسلين،السلام عليك يا رسول رب العالمين،جزاك الله يا رسول الله أفضل ما حزى نبيا ورسولا عن أمته،أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،وأشهد أنك عبده ورسوله وخيرته من خلقه،وأشهد أنك قد بلغت الرسالة،وأديت الأمانة،ونصحت الأمة،وجاهدت في الله حق جهاده (2) .
و- ثم يتأخر نحو ذراع إلى الجهة اليمنى فيسلم على سيدنا أبي بكر الصديق،ثم يتأخر أيضا نحو ذراع فيسلم على سيدنا الفاروق عمر رضي الله عنهما.
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (466 ) صحيح
(2) - انظر : تيسير العلام شرح عمدة الحكام- للبسام - (1 / 421) والفقه الإسلامي وأدلته - (3 / 690) وفتاوى الإسلام سؤال وجواب - (1 / 3350) سؤال رقم 34464- زيارة المسجد النبوي(1/379)
عَنْ نَافِعٍ:أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ دَخَلَ الْمَسْجِدَ ثُمَّ أَتَى الْقَبْرَ فَقَالَ:السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا أَبَا بَكْرٍ السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا أَبَتَاهُ. (1)
ز- ثم يستقبل القبلة فيدعو لنفسه،ولأحبابه،ولإخوانه،وسائر المسلمين ثم ينصرف (2) .
ح- على الزائر أن لا يرفع صوته إلا بقدر ما يسمع نفسه.
وَقَال النَّوَوِيُّ فِي بَيَانِ آدَابِ زِيَارَةِ قَبْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - :
ثُمَّ يَرْجِعُ الزَّائِرُ إِلَى مَوْقِفٍ قُبَالَةَ وَجْهِ رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَيَتَوَسَّل بِهِ وَيَسْتَشْفِعُ بِهِ إِلَى رَبِّهِ،وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يَقُول- الزَّائِرُ- مَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا عَنِ الْعُتْبِيِّ مُسْتَحْسِنِينَ لَهُ قَال:كُنْت جَالِسًا عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَال:السَّلاَمُ عَلَيْك يَا رَسُول اللَّهِ.سَمِعْتُ اللَّهَ تَعَالَى يَقُول:" وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا " (النساء:64) وَقَدْ جِئْتُك مُسْتَغْفِرًا مِنْ ذَنْبِي مُسْتَشْفِعًا بِك إِلَى رَبِّي.ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُول:
يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنَتْ بِالْقَاعِ أَعْظُمُهُ وَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ الْقَاعُ وَالأَْكَمُ
نَفْسِي الْفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرْمُ
ثُمَّ انصرف فَحَمَلَتْنِي عَيْنَايَ فَرَأَيْت النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي النَّوْمِ فَقَالَ:" يَا عُتْبِيُّ الْحَقْ الْأَعْرَابِيَّ فَبَشِّرْهُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ غَفَرَ لَهُ ".ثُمَّ يَتَقَدَّمُ إلَى رَأْسِ الْقَبْرِ فَيَقِفُ بَيْنَ الْأُسْطُوَانَةِ وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُمَجِّدُهُ وَيَدْعُو لِنَفْسِهِ بِمَا شَاءَ وَلِوَالِدَيْهِ،وَمَنْ شَاءَ مِنْ أَقَارِبِهِ وَمَشَايِخِهِ وَإِخْوَانِهِ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ،ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى الرَّوْضَةِ فَيُكْثِرُ فِيهَا مِنْ الدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ وَيَقِفُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَيَدْعُو. (3)
التأدب بآداب الإقامة بالمدينة المنورة:
أن يصلي الصلوات الخمس بمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وأن ينوي الاعتكاف فيه كلما دخله.أن يخرج كل يوم إلى البقيع بعد زيارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون،اللهم اغفر لأهل بقيع الفرقد،اللهم اغفر لنا ولهم. عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَتَى الْمَقْبُرَةَ فَقَالَ « السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (5 / 245) (10570) صحيح
(2) - إن كتب المالكية طافحة باستحباب الدعاء عند القبر واستقباله ، مع مس القبر بيده.ويقول : وإلى هذا ذهب الشافعى والجمهور ، ونقل عن أبى حنيفة . قال ابن الهمام : وما نقل عنه أنه يستقبل القبلة مردود بما روى عن ابن عمر : من السنة أن يستقبل القبر المكرم ، ويجعل ظهره للقبلة ، وهو الصحيح من مذهب أبى حنيفة ، وقول الكرمانى : مذهبه خلافه ليس بشىء ، لأنه حى، ومن بأتى الحى إنما يتوجه إليه . وصرح النووى فى كتابه "الأذكار " فتاوى الأزهر - (8 / 106) -زيارة قبر الرسول
(3) - المجموع - (ج 8 / ص 274) ومغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج - (ج 6 / ص 97) والأذكار للنووي - (ج 1 / ص 206) ورفع المنارة لتخريج أحاديث التوسل والزيارة - (ج 1 / ص 15) و(المغني:3/588- 589) و(الشرح الكبير:3/494) وكشَّاف القناع ( 2/514 _ 515) وفي الإنصاف (4/53 ) كلهم وسكتوا عنها واحتجوا بها، وإن لم يصح سندها .(1/380)
إِخْوَانَنَا ». قَالُوا أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « أَنْتُمْ أَصْحَابِى وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ ». فَقَالُوا كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ « أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَىْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ أَلاَ يَعْرِفُ خَيْلَهُ ». قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ « فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ أَلاَ لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِى كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ أُنَادِيهِمْ أَلاَ هَلُمَّ. فَيُقَالُ إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا ». (1)
ج- أن يزور قبور الشهداء بأحد ويبدأ بالسلام على عمّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حمزة بن عبدالمطلب سيد الشهداء ثم يسلم على بقية الشهداء الأبرار ويدعو لهم قائلا: {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } (24) سورة الرعد.
عن هَاشِمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعُمَرِيِّ مِنْ وَلَدِ عُمَرَ بْنِ عَلِيٍّ يَقُولُ:أَخَذَنِي أَبِي بِالْمَدِينَةِ إِلَى زِيَارَةِ قُبُورِ الشُّهَدَاءِ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَالشَّمْسِ،وَكُنْتُ أَمْشِي خَلْفَهُ،فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْمَقَابِرِ رَفَعَ صَوْتَهُ فَقَالَ:سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ،قَالَ:فَأُجِيبَ:وَعَلَيْكَ السَّلَامُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ،قَالَ:فَالْتَفَتَ أَبِي إِلَيَّ فَقَالَ:أَنْتَ الْمُجِيبُ يَا بُنَيَّ ؟ فَقُلْتُ:لَا،قَالَ:فَأَخَذَ بِيَدِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ،ثُمَّ أَعَادَ السَّلَامَ عَلَيْهِمْ،ثُمَّ جَعَلَ كُلَّمَا سَلَّمَ عَلَيْهِمْ يُرَدُّ عَلَيْهِ،حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ،قَالَ:فَخَرَّ أَبِي سَاجِدًا شُكْرًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " (2)
د- أن يزور مسجد قباء وهو أول مسجد بني في الإسلام وهو المسجد الذي أسس على التقوى وتستحب زيارته والصلاة فيه استحبابا مؤكدا. فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَأْتِى مَسْجِدَ قُبَاءٍ رَاكِبًا وَمَاشِيًا فَيُصَلِّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ فِى رِوَايَتِهِ قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ فَيُصَلِّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ. رواه مسلم (3) .
هـ- أن يأتي سائر المشاهد بالمدينة وهي نحو ثلاثين موضعا يعرفها أهل المدينة فليقصد ما قدر عليه منها وكذا يأتي الآبار التي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ منها ويغتسل ويشرب وهي سبع آبار.
و- أن يلاحظ بقلبه في مدة مقامه بالمدينة جلالتها وأنها البلدة التي اختارها الله تعالى لهجرة نبيه - صلى الله عليه وسلم - واستيطانه ومدفنه وليستحضر تردده - صلى الله عليه وسلم - فيها ومشيه في بقاعها.
التأدب بآداب الرجوع من سفر الحج وسننه.
ا- الاستعجال في العودة إلى أهله وولده إذا قضى المسافر حاجته وغرضه من سفره ليستأنف رعايته لهم وإشرفه على تربيتهم.
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (607)
بهم : جمع بهيم وهو الأسود وقيل الذى لايخالط لونه لون سواه -الدهم : جمع أدهم وهو الأسود
(2) - دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ (1206 ) فيه جهالة
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (3456 )(1/381)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ،يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ،فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ مِنْ سَفَرِهِ،فَلْيُعَجِّلِ الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِ. " رواه البخاري ومسلم (1) .
ب-الدعاء:
عَنِ ابْنِ عُمَرَ،أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا قَفَلَ مِنَ الْغَزْوِ،أَوِ الْحَجِّ،أَوِ الْعُمْرَةِ يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ ثَلاثَ تَكْبِيرَاتٍ،ثُمَّ يَقُولُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ،وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ،لَهُ الْمُلْكُ،وَلَهُ الْحَمْدُ،يُحْيِي وَيُمِيتُ،وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ،آيِبُونَ،تَائِبُونَ،عَابِدُونَ،سَائِحُونَ،لِرَبِّنَا حَامِدُونَ،صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ،وَنَصَرَ عَبْدَهُ،وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ." (2)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ،كَبَّرَ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ فِي الأَرْضِ ثَلاَثَ تَكْبِيرَاتٍ،ثُمَّ يَقُولُ:لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ،لَهُ الْمُلْكُ،وَلَهُ الْحَمْدُ،وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ،آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ،سَاجِدُونَ،لِرَبِّنَا حَامِدُونَ،صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ،وَنَصَرَ عَبْدَهُ،وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ. رواه البخاري ومسلم (3) .
ج- ترتيب العودة من السفر قدر الإمكان بحيث لا يصل إلى أهله في ساعة متأخرة من الليل بل يفضّل أن يدخل بيته في النهار وبعد أن يصلح شأنه.
فعَنِ الشَّعْبِىِّ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا أَطَالَ أَحَدُكُمُ الْغَيْبَةَ فَلاَ يَطْرُقْ أَهْلَهُ لَيْلاً » رواه البخاري (4) .
د- دخول أقرب مسجد إلى المدينة ويصلي فيه ركعتين.
فعَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ،أَحَدُ الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ،أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ،قَالَ:كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَسَبَّحَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ،ثُمَّ سَلَّمَ فَجَلَسَ فِي مُصَلاَّهُ فَيَأْتِيهِ النَّاسُ،فَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ. (5) .
هـ- إحضار الهدايا لأهل بيته وأقربائه وأصحابه بقدر الإمكان من طعام أو متاع البلدة التي كان فيها،فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : تَهَادُوا،تَحَابُّوا. (6)
وعن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" تَهَادَواْ تَحَابُّوْا نِعْمَ مِفْتَاحُ الحَاجَةِ الهَديةُ " (7)
و- وقوله إذا دخل بيته ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (1804) وصحيح مسلم- المكنز - (5070 ) وصحيح ابن حبان - (6 / 425) (2708)
(2) - مسند أبي عوانة (2905 ) صحيح
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (1797) وصحيح مسلم- المكنز - (3343 ) وصحيح ابن حبان - (6 / 424) (2707)
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (5244 ) -يطرقوا : الطروق : أن يأتي الرجل المكان الذي يريده ليلا.
(5) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 414)(15772) 15864- صحيح
(6) - الفوائد لتمام 414 - (2 / 347) (1577) صحيح لغيره
(7) - الأمثال في الحديث - ( 245 ) إسناده حسن(1/382)
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،قَالَ:كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ فِي سَفَرِهِ،قَالَ:اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ،اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الضِّبْنَةِ فِي السَّفَرِ،وَالْكَآبَةِ فِي الْمُنْقَلَبِ،اللَّهُمَّ اقْبِضْ لَنَا الأَرْضَ،وَهَوِّنْ عَلَيْنَا السَّفَرَ،فَإِذَا أَرَادَ الرُّجُوعَ،قَالَ:آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا سَاجِدُونَ،فَإِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ،قَالَ:تَوْبًا تَوْبًا،لِرَبِّنَا أَوْبًا،لاَ يُغَادِرُ عَلَيْنَا حَوْبًا (1) . أي أسألك توبة لا تترك إثما.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذَا أَرَادَ الرُّجُوعَ،يعني مِنَ السَّفَرِ قَالَ:تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ،وَإِذَا دَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ،قَالَ:تَوْبًا تَوْبًا لِرَبِّنَا أَوْبًا لاَ يُغَادِرُ عَلَيْنَا حَوْبًا. (2)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ؛ كَانَ يَقُولُ إذَا رَجَعَ مِنَ الْجَيْشِ،أَوِ السَّرَايَا،أَوِ الْحَجِّ،أَوِ الْعُمْرَةِ كُلَّمَا أَوْفَى عَلَى ثَنِيَّةٍ،أَوْ فَدْفَدٍ كَبَّرَ ثَلاَثًا،ثُمَّ قَالَ:لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ،صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ،آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ،لِرَبِّنَا حَامِدُونَ. (3)
ز- قَال الإِْمَامُ النَّوَوِيُّ:يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَ رُجُوعِهِ خَيْرًا مِمَّا كَانَ،فَهَذَا مِنْ عَلاَمَاتِ قَبُول الْحَجِّ،وَأَنْ يَكُونَ خَيْرُهُ آخِذًا فِي ازْدِيَادٍ (4) .
ح- استقبال الزائرين على أحسن حال وهيئة مع البشاشة وحسن الضيافة والحديث حول مزايا الحج وفوائده وما يشعر به الحاج من طمأنينة وانشراح وزيادة في الإيمان مرغبا إياهم ومشوقا لهم ليعقدوا العزم على أداء هذه الفريضة ولا يتحدث أبدا عن المصاعب أو المتاعب التي لا بدّ أن يلاقيها كل مسافر حتى لا يثبط الهمة وحتى لا يحبط عمله وثوابه.
ط- يستحب لمن يسلم على القادم من الحج أن يدعو له.فعَنْ سَالِمٍ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ:جَاءَ غُلَامٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ:إِنِّي أُرِيدُ هَذَا الْوَجْهَ الْحَجَّ " يَا غُلَامُ،زَوَّدَكَ اللَّهُ التَّقْوَى،وَوَجَّهَكَ فِي الْخَيْرِ،وَكَفَاكَ الْهَمَّ ".فَلَمَّا رَجَعَ الْغُلَامُ سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيْهِ،فَقَالَ:" يَا غُلَامُ،قَبِلَ اللَّهُ حَجَّكَ،وَغَفَرَ ذَنْبَكَ،وَأَخْلَفَ نَفَقَتَكَ " رواه ابن السني (5) .
وعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " اللهُمَّ اغْفِرْ لِلْحَاجِّ وَلِمَنِ اسْتَغْفَرَ لَهُ الْحَاجُّ " رواه البيهقي (6) .
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (6 / 431) (2716) صحيح
(2) - مصنف ابن أبي شيبة - (10 / 360) (30228) صحيح
(3) - مصنف ابن أبي شيبة - (12 / 519) (34316) صحيح
(4) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (17 / 84) والإيضاح ص 564 - 565
(5) - عَمَلُ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لِابْنِ السُّنِّيِّ(505 ) حسن لغيره
(6) - شعب الإيمان - (6 / 20) (3817 ) حسن، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ،وفي سنده شريك بن عبد الله النخعي وروايته عن أهل الكوفة مستقيمة وهذا منها فهو عن منصور فهو صحيح على شرط مسلم(1/383)
-34-آداب العمل والمعاش والبيع والشعار
الإسلام دين العمل،ولكنه العمل الصالح النافع،وإيمان بدون عمل تمنّ وإدعاء،وعمل بدون إيمان فسوق وعصيان.
قال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} الكهف 107.
أَمَّا السُّعَدَاءُ فَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ فِيمَا جَاؤُوهُمْ بِهِ،وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ التِي تُرْضِي اللهَ،وَهَؤُلاَءِ يَكُونُ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ اللهِ جَنَّاتٍ تَجْرِي فِيهَا الأَنْهَارِ،وَتَكُونُ مَنْزِلاً لَهُمْ . (1)
والرجولة في الإسلام،وكمال النضج فيه،أن ينزل المسلم في ميادين الحياة مكافحا،وإلى أبواب الرزق ساعيا،ولكن قلبه معلق بالله،وفكره لا يغيب عن مراقبة الله وخشيته،والالتزام بحدوده والتقيد بأوامره.
قال تعالى:{رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) سورة النور..
هَؤُلاءِ الرِّجَالُ،الذينَ يَعْمُرُونَ بُيُوتَ اللهِ،هُمُ رِجَالٌ أَصْحَابُ هِمَمٍ وَعَزَائِمَ لاَ يُلْهِيهِمْ شَيءٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ،وإِقَامِ الصَّلاَةِ:لاَ تِجَارَةٌ،وَلاَ بَيْعٌ،وَلاَ تَشْغَلُهُم الدُّنْيا وَزُخْرُفُهَا،وَزِينَتُها،وَمَلاذُّهَا،وَلاَ بَيْعُها،ولاَ رِبْحُها.. عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ لأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الذي عَنْدَ اللهِ خَيْرٌ لَهُمْ وأَنْفَعُ مِمَا بِأَيْدِيهِمْ،وَهُمْ يُقَدِّمُونَ طَاعَةَ رَبِّهِمْ وَمَحَبَّتَه عَلَى مُرَادِهِم وَمَحَبَّتِهِمْ،فَلاَ شَيءَ يُلْهِيهِم عَنْ أَنْ يُؤدُّوا الصَّلاَةَ فِي وَقْتِهَا،لأَنَّهُمْ يَخَافُونَ يَومَ القِيَامَةِ الذي تتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ والأَبْصَارُ مِنْ شِدَّةِ الفَزَعِ،وَعِظَمِ الهَوْلِ .
وَهَؤُلاَءِ هُمُ الذينُ يَتَقَبَّلُ اللهُ تَعَالَى حَسَنَاتِهِمْ،وَيَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ،فَيُضَاعِفُ لَهُمُ الحَسَنَاتِ ( وَيَزِيدُهُم مِنْ فَضْلِهِ )،وَهُوَ تَعَالَى يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ،وَبِدُونَ تَحْدِيدٍ فَهُوَ الكَرِيمُ الجَوَادُ. (2)
وهو بذلك يضع حدا لمن يتخشعون أمام الناس في المساجد ركعا سجدا وقياما،فإذا عاملتهم بالأموال أو التجارات تبين أنهم أفاعٍ سامةٌ،أو عقاربُ مؤذيةٌ.
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ،وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ » رواه البخاري (3) .
وإن نظام هذه الحياة،يتطلب السعيَ والعملَ،وحركةُ الأعمال فيها تتوقف على الجد والاجتهاد ولذلك كان من الواجب أن ينهض الإنسان للعمل مستشعرا بشعار الجد والنشاط،طارحا القعود والكسل وراءه ظهريا،حتى يقوم بما فرضته عليه الطبيعة وهي سنة الله في خلقه،ويعمل بما أوحته إليه القوانين
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2247)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2710)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (2387 )(1/384)
الشرعية،والعاقل لا يرضى لنفسه أن يكون كلًّا على غيره،وهو يعلم أن الرزق منوط بالسعي،وأن مصالح الحياة لا تتم إلا باشتراك الأفراد حتى يقوم كل واحد بعمل خاص له،وهناك تتبادل المنافع،وتدور رحى الأعمال،ويتم النظام على الوجه الأكمل.قال تعالى:{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)} الجمعة.
والعمل على أنواع كثيرة فمنها ما له علاقة بالدين ومنها ما له علاقة بالدنيا فما له علاقة بالدين فهو العبادات وغيرها من الأعمال الصالحة المختلفة.
وما له علاقة بالدنيا من معاملة وبيع وشراء وتكسب وتجارة أو أي حرفة كانت فهو وإن كان بابا للرزق والسعي للتكسب والعيش والحصول على المال من أجل القيام بحاجات الإنسان الضرورية في حياته. فهو مع كل ذلك اعتبره الإسلام عملا مرتبطا بالدِّين بل حثّ الدِّينُ على العمل وجعل له الثواب العظيم.قال تعالى:{ وجعلنا النهار معاشا} النبأ 11.
وَجَعَلَ اللهُ النَّهَارَ مُشْرِقاً بِالضِّيَاءِ لِيَتَمَكَّنَ النَّاسُ مِنَ التَّصُرُّفِ فِيهِ،وَالسَّعْيِ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ وَالمَعَاشِ (1) .
وقال أيضا سبحانه وتعالى:{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)} الملك.
وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الذِي سَخَّرَ الأَرْضَ لِلْعِبَادِ،وَجَعَلَهَا مُذَلَّلَةً سَاكِنَةً،وَأَرْسَاهَا بِالجِبَالِ لِكَيْلاَ تَضْطَرِبِ وَتَمِيدَ بِمَنْ عَلَيهَا مِنَ الخَلاَئِقِ،وَأَخْرَجَ مِنْهَا المِيَاهَ،وَسَلَكَهَا فِي الأَرْضِ جَدَاوِلَ وَأَنْهَاراً،لِيَنْتَفِعَ بِهَا الخَلْقُ فِي الشُّرْبِ،وَفِي رَيِّ زُرُوعِهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ،وَجَعَلَ فِي الأَرْضِ سُبُلاً،فَسَافِرُوا يَا أَيُّهَا النَّاسُ فِي أَرْجَائِهَا حَيْثُ شِئْتُمُ،وَتَرَدَّدُوا فِي أَرْجَائِهَا وَأَقَالِيمِهَا طَلَباً لِلرِّزْقِ وَالتِّجَارَةِ،وَكُلُوا مِمَّا أَخْرَجَهُ لَكُمْ مِنْهَا مِنَ الرِّزْقِ،وَإِلَى اللهِ مَرْجِعُ الأَمْرِ،وَإِليهِ يَصِيرُ الخَلْقُ يَوْمَ القِيَامَةِ لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ جَمِيعاً
والمَخْلُوقَاتُ تَسْعَى فِي الرِّزْقِ وَفْقَ الأَسْبَابِ اللاَزِمَةِ لَهً وَلَكِنَّ سَعْيَهَا وَحْدَهُ لاَ يَكْفِي،وَلاَ يُجْدِي عَلَيْهَا نفعاً إِلاَّ أَنْ يُيَسِّرَهُ اللهُ لَهَا،فَالسَّعْيُ فِي السَّببِ لاَ يُنَافِي التَّوَكُلَ (2) .
وعَنِ الْمِقْدَامِ - رضى الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ،وَإِنَّ نَبِىَّ اللَّهِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ ».رواه البخاري (3) .
قال يوسف بن الحسين:إذا رأيت المريد يشتغل بالرخص والكسب فليس يجيء منه شيء .
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5560)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5134)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (2072 )(1/385)
قال ابن الجوزي رحمه الله ردّا عليه: قلت هذا كلام قوم ما فهموا معنى التوكل وظنوا أنه ترك الكسب وتعطيل الجوارح عن العمل وقد بينا أن التوكل فعل القلب فلا ينافي حركة الجوارح ولو كان كل كاسب ليس بمتوكل لكان الأنبياء غير متوكلين فقد كان آدم عليه السلام حراثا ونوح وزكريا نجارين وإدريس خياطا وإبراهيم ولوط زراعين وصالح تاجرا.وكان سليمان يعمل الخوص وداود يصنع الدرع ويأكل من ثمنه وكان موسى وشعيب ومحمد رعاة صلوات الله عليهم أجمعين.وقال نبينا - صلى الله عليه وسلم - : "كنت أرعى غنما لأهل مكة بالقراريط" فلما أغناه الله عز وجل بما فرض له من الفيء لم يحتج إلى الكسب.وقد كان أبو بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة رضوان الله عليهم بزازين.وكذلك محمد بن سيرين وميمون بن مهران بزازين،وكان الزبير بن العوام وعمرو بن العاص وعامر بن كريز خزازين،وكذلك أبو حنيفة.وكان سعد بن أبي وقاص يبري النبل وكان عثمان بن طلحة خياطا.وما زال التابعون ومن بعدهم يكتسبون ويأمرون بالكسب ." (1)
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ قِيلَ لِأَحْمَدَ:مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ جَلَسَ فِي بَيْتِهِ أَوْ مَسْجِدِهِ وَقَالَ:لَا أَعْمَلُ شَيْئًا حَتَّى يَأْتِي رِزْقِي ؟ فَقَالَ أَحْمَدُ:هَذَا رَجُلٌ جَهِلَ الْعِلْمَ أَمَا سَمِعَ قَوْلَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - { إنَّ اللَّهَ جَعَلَ رِزْقِي تَحْتَ ظل رُمْحِي وَجَعَلَ الذِّلَّةَ وَالصَّغَارَ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي،مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ. } (2) وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،يَقُولُ:لَوْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ،لَرَزَقَكُمُ اللَّهُ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ،تَغْدُو خِمَاصًا،وَتَعُودُ بِطَانًا. (3) وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَّجِرُونَ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَيَعْمَلُونَ فِي نَخْلِهِمْ،وَالْقُدْوَةُ بِهِمْ /وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَيْسَ الْعِبَادَةُ عِنْدَنَا أَنْ تَصُفَّ قَدَمَيْك وَغَيْرُك يَتْعَبُ لَك وَلَكِنْ ابْدَأْ بِرَغِيفِك فَاحْرُزْهُمَا ثُمَّ تَعَبَّدْ (4) .
وَرُوِيَ أَنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ اسْتَعِنْ بِالْكَسْبِ الْحَلَالِ فَإِنَّهُ مَا افْتَقَرَ أَحَدٌ قَطُّ إلَّا أَصَابَهُ ثَلَاثُ خِصَالٍ:رِقَّةٌ فِي دِينِهِ وَضَعْفٌ فِي عَقْلِهِ وَذَهَابُ مُرُوءَتِهِ،وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ اسْتِخْفَافُ النَّاسِ بِهِ " (5)
وإليكم بعض آداب هذا الموضوع:
1- حسن النية في التجارة،فلينو بها الاستعفاف عن السؤال وكف الطمع عن الناس،والقيام بكفاية العيال ليكون بذلك من جملة المجاهدين ولينو النصح للمسلمين.
__________
(1) - تلبيس إبليس لابن الجوزي - (1 / 124) وفيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (1 / 183) وفيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (1 / 183)
(2) 0 مصنف ابن أبي شيبة - (12 / 351) (33687) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (2 / 509) (730) صحيح
(4) - حلية الأولياء - (4 / 176)
(5) - الآداب الشرعية - (3 / 437)(1/386)
عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ،أَنَّ رَجُلاً مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَرَأَى أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ جَلَدِهِ وَنَشَاطِهِ مَا أَعْجَبَهُمْ،فَقَالُوا:يَا رَسُولَ اللهِ،لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ،وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَفِي سَبِيلِ اللهِ،وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ لِيَعِفَّهَا فَفِي سَبِيلِ اللهِ،وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَهْلِهِ فَفِي سَبِيلِ اللهِ،وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى تَفَاخُرًا وَتَكَاثُرًا فَفِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ " (1)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،قَالَ: مَرَّ بِهِمْ رَجُلٌ فَعَجِبُوا مِنْ خَلْقِهِ،فَقَالُوا: لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَأَتَوُا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبَرُوهُ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ،وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِبْيَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ،وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ لِيَعُفَّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ " (2) .
2- أن لا يمنعه سوق الدنيا عن سوق الآخرة،وسوق الآخرة المساجد فينبغي أن يجعل أول النهار إلى وقت دخول السوق لآخرته،فيواظب على الأوراد والأذكار والصلوات،فقد كان صالحوا السلف من التجار يجعلون أول النهار وآخره للآخرة ووسطه للتجارة،وإذا سمع أذان الظهر والعصر فينبغي أن يترك المعاش اشتغالا بأداء الفرائض. قال تعالى: {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (37) سورة النور.
3- أن يلازم ذكر الله تعالى في السوق ويشتغل بالتسبيح والتهليل وأن لا يكون شديد الحرص على السوق والتجارة. فلا يكون أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منه. عَنْ سَلْمَانَ،قَالَ:لاَ تَكُونَنَّ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ السُّوقَ،وَلاَ آخِرَ مَنْ يَخْرُجُ مِنْهَا،فَإِنَّهَا مَعْرَكَةُ الشَّيْطَانِ،وَبِهَا يَنْصِبُ رَايَتَهُ.قَالَ:أُنْبِئْتُ أَنَّ جِبْرِيلَ،عَلَيْهِ السَّلاَمُ،أَتَى نَبِيَّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَعِنْدَهُ أُمُّ سَلَمَةَ،قَالَ:فَجَعَلَ يَتَحَدَّثُ،ثُمَّ قَامَ،فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لأُمِّ سَلَمَةَ:مَنْ هَذَا ؟ أَوْ كَمَا قَالَ،قَالَتْ:هَذَا دِحْيَةُ.قَالَ:فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ:ايْمُ اللَّهِ،مَا حَسِبْتُهُ إِلاَّ إِيَّاهُ،حَتَّى سَمِعْتُ خُطْبَةَ نَبِيِّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُخْبِرُ خَبَرَنَا،أَوْ كَمَا قَالَ.قَالَ:فَقُلْتُ لأَبِي عُثْمَانَ:مِمَّنْ سَمِعْتَ هَذَا ؟ قَالَ:مِنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ" (3)
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " ذَاكِرُ اللهِ فِي الْغَافِلِينَ مِثْلُ الَّذِي يُقَاتِلُ عَنِ الْفَارِّينَ،وَذَاكِرُ اللهِ فِي الْغَافِلِينَ مِثْلُ الشَّجَرَةِ الْخَضْرَاءِ فِي وَسَطِ الشَّجَرِ الَّذِي قَدْ تَحَاتَّ ورقه،يَعْنِي مِنَ الضَّرِيبِ قَالَ: يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ يَعْنِي بِالضَّرِيبِ الْبَرْدَ الشَّدِيدَ وَذَاكِرُ اللهِ فِي الْغَافِلِينَ يُغْفَرُ لَهُ بِعَدَدِ
__________
(1) - المعجم الصغير للطبراني - (2 / 148) (940) صحيح
(2) - شعب الإيمان - (11 / 159) (8337 ) حسن
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (6469 )
معركة الشيطان : المعركة والمعترك : موضع القتال ، والمراد : موطن الشيطان ومحله .
وقوله : وبها ينصب رايته : كناية عن قوة طمعه في إغوائهم؛ لأن الرايات في الحروب لا تنصب إلا مع قوة الطمع في الغلبة ، وإلا فهي مع اليأس من الغلبة تُحطُّ ولا تُرفع .(1/387)
كُلِّ فَصِيحٍ وَأَعْجَمِيٍّ قَالَ: فَالْفَصِيحُ بَنُو آدَمَ وَالْأَعْجَمِيُّ الْبَهَائِمُ وَذَاكِرُ اللهِ فِي الْغَافِلِينَ يُعَرِّفُهُ اللهُ مَقْعَدَهُ فِي الْجَنَّةِ " (1)
وعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: " مَنْ ذَكَرَ اللهَ فِي السُّوقِ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ بِعَدَدِ كُلِّ فَصِيحٍ فِيهَا،وَأَعْجَمِيٍّ " فَقَالَ الْمُبَارَكُ: الْفَصِيحُ الْإِنْسَانُ،وَالْأَعْجَمُ الْبَهِيمَةُ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: كُلُّ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ فَهُوَ أَعْجَمُ مُسْتَعْجَمٌ " (2)
وقال أَبُو الْهِلَالِ:" مَثَلُ ذَاكِرِ اللَّهِ فِي السُّوقِ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ بَيْنَ شَجَرٍ مَيِّتٍ " (3)
4- أن يطلب الحلال ويجتنب الحرام ويتوقى مواقع الشبه ومواضع الريب،وطلب الحلال فرض على كل مسلم. فعَنْ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « الْحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ،وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ،فَمَنِ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِيِنِهِ وَعِرْضِهِ،وَمَنْ وَقَعَ فِى الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى،يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ.أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى،أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِى أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ،أَلاَ وَإِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ،وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ.أَلاَ وَهِىَ الْقَلْبُ » رواه البخاري (4)
وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (51) سورة المؤمنون
يَأْمُرُ اللهُ عِبَادَهُ المُرْسَلِينَ بالأًَكْلِ مِنَ الحَلالِ الطَّيِّبِ،والقِيَامِ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ شُكْراً للهِ عَلَى نِعَمِهٍ عَلَيْهِمْ،فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الحَلاَلَ عَوْنٌ عَلَى العَمَلِ الصَّالِحِ،والرُّسلُ كَانُوا يَأْكُلُونَ مِن كَسْبِ أَيْدِيِهِمْ،وَقَالَ لَهُم اللهُ تعالى: إِنَّهُ عَالِمٌ بِمَا يَعْمَلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهُ وَقَدْ قَامَ الرُّسُلُ عَلَيْهِم السَّلامُ بِأَمْرِ اللهِ أًَتَمَّ قِيَامٍ وَجَمَعُوا بَيْنَ كُلِّ خَيْرٍ قَوْلاً وَعَمَلاً وَدَلاَلَةً وَنُصْحاً . (5)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ،لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا،وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ،بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ،فَقَالَ: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [المؤمنون: 51] وَقَالَ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنَ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [البقرة: 172] " ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ،أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ،يَا رَبُّ،يَا رَبُّ،وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ،وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ،وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ،فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ" رواه مسلم (6) .
5- البعد عن الاحتكار فهو حرام.
__________
(1) - شعب الإيمان - (2 / 90) (561و562 ) حسن
(2) - شعب الإيمان - (2 / 92) (563 ) حسن
(3) - الزُّهْدُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ (1953 ) صحيح
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (52 )
(5) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2604)
(6) - صحيح مسلم- المكنز - (2393 ) وشعب الإيمان - (7 / 491)(5353)(1/388)
عَنِ ابْنِ عُمَرَ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : مَنِ احْتَكَرَ طَعَامًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً،فَقَدْ بَرِئَ مِنَ اللهِ تَعَالَى،وَبَرِئَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ،وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمُ امْرُؤٌ جَائِعٌ،فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللهِ تَعَالَى." رواه أحمد (1) .
وعَنْ فَرُّوخَ،مَوْلَى عُثْمَانَ،أَنَّ عُمَرَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ،خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَرَأَى طَعَامًا مَنْثُورًا،فَقَالَ:مَا هَذَا الطَّعَامُ ؟ فَقَالُوا:طَعَامٌ جُلِبَ إِلَيْنَا،قَالَ:بَارَكَ اللَّهُ فِيهِ،وَفِيمَنْ جَلَبَهُ،قِيلَ:يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ قَدِ احْتُكِرَ،قَالَ:وَمَنِ احْتَكَرَهُ ؟ قَالُوا:فَرُّوخُ مَوْلَى عُثْمَانَ،وَفُلانٌ مَوْلَى عُمَرَ،فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا فَدَعَاهُمَا،فَقَالَ:مَا حَمَلَكُمَا عَلَى احْتِكَارِ طَعَامِ الْمُسْلِمِينَ ؟ قَالاَ:يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،نَشْتَرِي بِأَمْوَالِنَا،وَنَبِيعُ،فَقَالَ عُمَرُ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:مَنِ احْتَكَرَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طَعَامَهُمْ،ضَرَبَهُ اللَّهُ بِالإِِفْلاسِ،أَوْ بِجُذَامٍ،فَقَالَ فَرُّوخُ:عِنْدَ ذَلِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،أُعَاهِدُ اللَّهَ،وَأُعَاهِدُكَ،أَنْ لاَ أَعُودَ فِي طَعَامٍ أَبَدًا،وَأَمَّا مَوْلَى عُمَرَ فَقَالَ:إِنَّمَا نَشْتَرِي بِأَمْوَالِنَا وَنَبِيعُ.قَالَ أَبُو يَحْيَى:فَلَقَدْ رَأَيْتُ مَوْلَى عُمَرَ مَجْذُومًا." (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنِ احْتَكَرَ حُكْرَةً،يُرِيدُ أَنْ يُغْلِيَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ،فَهُوَ خَاطِئٌ." (3)
وعَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ يَحْتَكِرُ إِلاَّ خَاطِئٌ ». رواه مسلم. (4) ،وخاطئ أي آثم.
والاحتكار هو أن يخفي التاجر ما يحتاج الناس إليه حاجة ضرورية ليتحكم بالسعر في الوقت المناسب كالمواد التموينية بشكل عام (5) .
6- البعد عن البيع عن طريق الغش لما ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ النَّبِيَّ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ،فَأَدْخَلَ أَصَابِعَهُ فِيهَا،فَإِذَا فِيهِ بَلَلٌ،فَقَالَ:مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ ؟ قَالَ:أَصَابَتْهُ سَمَاءٌ يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ:فَهَلاَّ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ،حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ،مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا." رواه مسلم (6) .
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ،قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ،وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا فِيهِ عَيْبٌ إِلاَّ بَيَّنَهُ لَهُ." (7)
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 296)(4880) ضعيف
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 117) (135) ضعيف
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 325)(8617) 8602- ضعيف
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (4207 )
(5) - انظر التفاصيل في الفقه الإسلامي وأدلته - (4 / 237) والموسوعة الفقهية الكويتية - (2 / 90)
(6) - صحيح مسلم- المكنز - (295) وصحيح ابن حبان - (11 / 270) (4905)
السماء : المطر -الصبرة : الكومة المجموعة بلا كيل ولا وزن
(7) - سنن ابن ماجة- طبع مؤسسة الرسالة - (3 / 355)(2246) صحيح(1/389)
وقَالَ أَبُو سِبَاعٍ:اشْتَرَيْتُ نَاقَةً مِنْ دَارِ وَاثِلَةَ بْنِ الأَسْقَعِ،فَلَمَّا خَرَجْتُ بِهَا،أَدْرَكَنَا وَاثِلَةُ وَهُوَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ،فَقَالَ:يَا عَبَدَ اللهِ،اشْتَرَيْتَ ؟ قُلْتُ:نَعَمْ،قَالَ:هَلْ بَيَّنَ لَكَ مَا فِيهَا ؟ قُلْتُ:وَمَا فِيهَا ؟ قَالَ:إِنَّهَا لَسَمِينَةٌ ظَاهِرَةُ الصِّحَّةِ،قَالَ:فَقَالَ:أَرَدْتَ بِهَا سَفَرًا،أَمْ أَرَدْتَ بِهَا لَحْمًا ؟ قُلْتُ:بَلْ أَرَدْتُ عَلَيْهَا الْحَجَّ،قَالَ:فَإِنَّ بِخُفِّهَا نَقْبًا،قَالَ:فَقَالَ صَاحِبُهَا:أَصْلَحَكَ اللَّهُ،مَا تُرِيدُ إِلَى هَذَا تُفْسِدُ عَلَيَّ ؟ قَالَ:إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:لاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ يَبِيعُ شَيْئًا أَلاَّ يُبَيِّنُ مَا فِيهِ،وَلاَ يَحِلُّ لِمَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ أَلاَّ يُبَيِّنُهُ." (1) .
والغش هو إظهار الشيء على خلاف حقيقته دون علم المشتري به.
7- تجنب حلف الإيمان لترويج البضاعة.
عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ،إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ،رَضِيَ اللهُ عَنْهُ،قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:الْحَلِفُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ،مُمْحِقَةٌ لِلْبَرَكَةِ " متفق عليه (2) .
وعَنْ أَبِى قَتَادَةَ الأَنْصَارِىِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَلِفِ فِى الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يُنَفِّقُ ثُمَّ يَمْحَقُ ». رواه مسلم (3) .
ثم والذي يحلف وهو متيقن الكذب يكون حالفا بيمين الغموس.
واليمين الغموس: هو من الكبائر وسمي غموسا لأنه يغمس صاحبه في النار وليس له كفارة سوى التوبة الصادقة النصوح. فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضى الله عنهما - قَالَ جَاءَ أَعْرَابِىٌّ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْكَبَائِرُ قَالَ « الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ».قَالَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ « ثُمَّ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ».قَالَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ « الْيَمِينُ الْغَمُوسُ ».قُلْتُ وَمَا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ قَالَ « الَّذِى يَقْتَطِعُ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا كَاذِبٌ » (4) .
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُنَيْسٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مِنْ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ،وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ،وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ،وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَحْلِفُ الرَّجُلُ عَلَى مِثْلِ جَنَاحِ بَعُوضَةٍ إِلاَّ كَانَتْ كَيَّةً فِي قَلْبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ." (5)
8- عدم التطفيف في الكيل والميزان وإتمام الكيل والميزان،وإرجاح الوزن زيادة في الاحتياط.
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 496)(16013) 16109- و صحيح الترغيب والترهيب 2/337-338 حسن لغيره
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (2087 ) وصحيح مسلم- المكنز - (4209)
يمحق : المحق : النقص ، ومنه قوله تعالى : {يمحق الله الربا ويُربي الصدقات } [البقرة: 276] أي: ينقص هذا ويزيد هذه ، وقوله: «مَمْحَقَةٌ ومنفقة» أي مظنة للمحق والنفاق ، ومجراة بهما.
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (4210 )
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (6920 )
(5) -صحيح ابن حبان - (12 / 374) (5563) صحيح(1/390)
قال تعالى:{وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (35) سورة الإسراء.
وَالوَفَاءُ بِالْكَيْلِ وَالاسْتِقَامَةِ فِي الوَزْنِ هُمَا مِنْ أَمَانَاتِ التَّعَامُلِ،يَسْتَقِيمُ بِهِمَا التَّعَامُلُ فِي الجَمَاعَةِ،وَتَتَوَافَرُ بِهِمَا الثِّقَةُ فِي النُّفُوسِ،وَلِذلِكَ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَأْمُرُ المُؤْمِنِينَ بِإِيفَاءِ الكَيْلِ وَالمِيزَانِ وَإِتْمَامِهِمَا مِنْ غَيْرِ بَخْسٍ وَلاَ تَطْفِيفٍ،وَبِأَنْ يَزِنُوا بِمِيزَانٍ عَادِلٍ سَلِيمٍ مَضْبُوطٍ ( المُسْتَقِيمِ ) .
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى إِنَّ الوَفَاءَ بِالعَهْدِ وَإِيفَاءِ الكَيْلِ وَالوَزْنِ خَيْرٌ لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا مِنَ النَّكْثِ بِالعَهْدِ،وَبَخْسِ النَّاسِ حَقَهُمْ فِي المِكْيَالِ وَالمِيزَانِ،وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً وَمُنْقَلَباً فِي الآخِرَةِ . (1)
وقال تعالى:{ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) } [المطففين:1 - 6].
المُطَفِّفُونَ هُم الذِينَ يَبْخَسُونَ المِكْيَالَ وَالمِيزَانَ،إِمَّا بِالزِّيَادَةِ إِذَا اقْتَضَوا مِنَ النَّاسِ،وَإِمَّا بِالنُّقْصَانِ إِذَا قَضَوْهُمْ،وَسُمِّيَ عَمَلُهُمْ تَطْفِيفاً لأَنَّ مَا يَبْخسُونَهُ النَّاسَ شَيءٌ حَقِيرٌ طَفِيفٌ .
وَيَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا جَاء المَدِينَةَ وَجَدَهُمْ أَخْبَثَ النَّاسِ كَيْلاً،فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ فَحَسَّنُوا الكَيْلَ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَيَتَهَدَّدُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ بِالهَلاَكِ وَالخِزْيِ،مَنْ يُطَفِّفُ فِي المِكْيَالِ وَالمِيزَانِ.وَفَسَّرَ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ،وَالتِي تَلِيهَا،المَعْنَى المَقْصُودَ بِالمًطَفِّفِينَ فَقَالَ:هُمُ الذِينَ إِذَا كَانَ المَالُ لِلنَّاسِ،وَأَرَادُوا أَنْ يَكِيلُوا مِنْهُ لأَنْفُسِهِمْ زَادُوا فِي المِكْيَالِ وَالمِيزَانِ،وَاسْتَوْفُوا أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِمْ .
وَإِذَا كَانَ المَالُ لَهُمْ وَأَرَادُوا أَنْ يَكِيلُوا مِنْهُ لِلنَّاسِ أَوْ يَزِنُوا لَهُمْ،أَنْقَصُوا مِنْهُ،وَأَعْطَوْهُمْ أَقَلَّ مِنْ حَقِّهِمْ .
أَيَظُنُّ هَؤُلاَءِ أَنَّهُمْ لَنْ يُبْعَثُوا يَوْمَ القِيَامَةِ لِيُحَاسَبُوا أَمَامَ اللهِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ؟ فَهَذِهِ الأفْعَالُ المُنْكَرَةُ لاَ تَصْدُرُ عَمَّنْ يَعْتَقِدُ بِوُجُودِ اللهِ،وَأَنَّ اللهَ سَيَجْمَعُ النَّاسَ يَوْمَ القِيَامَةِ لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ.أَيْ أَلاَ يَعْتَقِدُ هَؤُلاَءِ أَنَّهُمْ سَيُبْعَثُونَ فِي يَوْمٍ عَظِيمِ الهَوْلِ - هُوَ يَوْمُ القِيَامَةِ - لِيُحَاسِبُوا عَلَى أَعْمَالِهِمْ؟ .وَفِي هَذَا اليَوْمِ يَخْرُجُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ،وَيَقُومُونَ بَيْنَ يَدِي رَبِّهِمْ حُفَاةً عُرَاةً لِلْعَرْضِ وَالحِسَابِ،وَهُوَ يَوْمٌ شَدِيدُ الهَوْلِ عَلَى الكَافِرِينَ لِمَا يَرَوْنَهُ وَيَنْتَظِرُونَهُ مِنْ عَذَابٍ . (2)
وعَنْ سُوَيْدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ:جَلَبْتُ أَنَا وَمَخْرَمَةُ الْعَبْدِيُّ ثِيَابًا مِنْ هَجَرَ قَالَ:فَأَتَانَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَسَاوَمَنَا فِي سَرَاوِيلَ،وَعِنْدَنَا وَزَّانُونَ يَزِنُونَ بِالأَجْرِ،فَقَالَ لِلْوَزَّانِ:زِنْ وَأَرْجِحْ." (3) .
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2065)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5726)
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (6 / 484)(19098) 19308- صحيح(1/391)
9- تجنب الثناء على البضاعة عند البيع ووصفها بما ليس فيها فهو كذب وتدليس وتمويه وخداع،وتجنب ذمها عند الشراء،والقيام بالتجارة بالصدق والحق والعدل والاستقامة والأمانة.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : التَّاجِرُ الأَمِينُ الصَّدُوقُ الْمُسْلِمُ مَعَ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (1) .
وعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ أَطْيَبَ الْكَسْبِ كَسْبُ التُّجَّارِ الَّذِينَ إِذَا حَدَّثُوا لَمْ يَكْذِبُوا،وَإِذَا ائْتُمِنُوا لَمْ يَخُونُوا،وَإِذَا وَعَدُوا لَمْ يُخْلِفُوا،وَإِذَا اشْتَرُوا لَمْ يَذِمُّوا،وَإِذَا بَاعُوا لَمْ يُطْرُوا،وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَمْطُلُوا،وَإِذَا كَانَ لَهُمْ لَمْ يُعَسِّرُوا " (2) .
10- البعد عن النجش. فعَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ يَبِعِ الْمَرْءُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلاَ يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ وَلاَ يَخْطُبِ الْمَرْءُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَلاَ تَسْأَلِ الْمَرْأَةُ طَلاَقَ الأُخْرَى لِتَكْتَفِئَ مَا فِى إِنَائِهَا » (3) ..
__________
(1) - سنن ابن ماجة- طبع مؤسسة الرسالة - (3 / 272) (2139) حسن لغيره
(2) - الْآدَابِ لِلْبَيْهَقِيِّ (787 ) فيه انقطاع
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (3525 ) ...
لا يبع بعضكم على بيع بعض وفيه قولان :
أحدهما : أن يشتري الرجل السلعة ويتم البيع ، ولم يفترق المتبايعان عن مقامهما ذلك ، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعرض رجلٌ آخر سلعةً أخرى على ذلك المشتري ، تشبه السلعة التي اشتراها ليبيعها له ، لما في ذلك من الإفساد على البائع الأول ، إذ لعله يرد للمشتري التي اشتراها أولاً ، ويميل إلى هذه ، وهما وإن كان لهما الخيار ما لم يتفرقا على هذا المذهب ، فهو نوع من الإفساد .
والقول الثاني : أن يكون المتبايعان يتساومان في السلعة ، ويتقارب الانعقاد ، ولم يبق إلا اشتراط النقد أو نحوه ، فيجيء رجل آخر يريد أن يشتري تلك السلعة ، ويخرجها من يد المشتري الأول ، فذلك ممنوع عند المقاربة ، لما فيه من الإفساد ، ومباح أول العرض والمساومة .
هذا تأويل أصحاب الغريب ، وهو تأويل الفقهاء ، إلا أن لفظ الفقهاء هذا:
قالوا: إذا كان المتعاقدان في مجلس العقد ، فطلب طالب السلعة بأكثر من الثمن ليرِّغب البائع في فسخ العقد ، فهذا هو البيع على بيع الغير ، وهو محرَّم لأنه إضرار بالغير؛ ولكنه منعقد؛ لأن نفس البيع غير مقصود بالنهي ، فإنه لا خلل فيه ، وكذلك إذا رغب المشتري في الفسخ بعرض سلعة أجود منها بمثل ثمنها ، أو مثلها بدون ذلك الثمن ، فإنه مثله في النهي.
وأما السوم على سوم أخيك : فأن تطلب السلعة بزيادة على ما استقر الأمر عليه بين المتساومين قبل البيع ، وإنما يحرم على من بلغه الخبر فإن تحريمه خفي ، قد لا يعرفه .
لا تناجشوا : النجش في الأصل : المدح والإطراء ، والمراد به في الحديث الذي ورد النهي عنه: أنه يمدح السلعة ، ويزيد فيها وهو لا يريدها ليسمعه غيره فيزيده ، وهذا خداع محرم ، ولكن العقد صحيح من العاقدين ، والآثم غيرهما .وقيل: هو تنفير الناس عن الشيء إلى غيره .
حاضر لباد : الحاضر : المقيم في المدن والقرى ، والبادي : المقيم بالبادية ، والمنهي عنه: هو أن يأتيَ البدوي البلدة ، ومعه قوت يبغي التسارع إلى بيعه رخيصًا ، فيقول له الحاضر : اتركه عندي لأغالي في بيعه ، فهذا الصنيع محرم لما فيه من الإضرار بالغير ، والبيع إذا جرى مع المغالاة منعقد ، فهذا إذا كانت السلعة مما تعم الحاجة إليها ، فإن كانت سلعة لا تعم الحاجة إليها ، أو كثر بالبلد القوت ، واستغني عنه ، ففي التحريم تردد. يعوَّل في أحدهما على عموم ظاهر النهي وحَسم باب الضرر . وفي الثاني: على معنى الضرر(1/392)
والنجش أن يكون هناك بائع ومشتري وبينهما سلعة معينة وقد أوضح البائع للمشتري الراغب في ثمنها فيأتي شخص آخر لا رغبة له في السلعة فيقول للبائع:" أنا أشتريها منك بثمن أكثر من الثمن المذكور" وقد قصد من ذلك تحريك رغبة المشتري الأول فيها.
11- تجنب الجلوس في طريق المسلمين من أجل البيع أو الشراء فيضيّق عليهم وتجنب الخوض في الباطل والإثم والخصومات ورفع الصوت والصياح أو الشتم.
12- الرضا بالربح القليل وهذا يؤدي إلى محبة الناس وكثرة الزبائن وطيب المعاملة والبركة في الرزق.
13- تجنب البيع والشراء عن طريق السرقة والاغتصاب.عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ :« مَنِ اشْتَرَى سَرِقَةً وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا سَرِقَةٌ فَقَدْ شْرَكَ فِى عَارِهَا وَإِثْمِهَا ». رواه البيهقي (1) .
14- تجنب التكسب عن طريق الربا والميسر.قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (275) سورة البقرة
بَعْدَ أنْ ذَكَر اللهُ تَعَالَى الإِنفَاقَ فِي سَبيلِ اللهِ،وَالتَّصَدُّقَ عَلَى عِبَادِهِ،وَإخْراجَ الزَّكَاةِ،شَرَعَ فِي عَرْضِ حَالِ أكِلِي الرِّبا،وَأمْوالِ النَّاسِ بِالبَاطِلِ،وَأَنْوَاعِ الشُّبُهَاتِ،فَأخْبَرَ عَنْ حَالِهِمْ يَوْمَ خُرُوجِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ،يَوْمَ البَعْثِ وَالنُّشُورِ،فَقَالَ عَنْهُم:إنَّهُم لاَ يَقُومُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ إلاّ قِياماً مُنْكَراً،كَمَا يَقُومُ المَصْرُوعُ حَالَ صَرَعِهِ وَأكْلُهُمُ الرِّبَا هَذا قائِمٌ عَلى اسْتِحلاَلِهِمْ لَهُ،وَجَعْلِهِ كَالبَيْعِ،فَيَقُولُونَ:كَمَا يَجُوزُ أنْ يَبيعَ الإِنْسَانُ سِلعَتَهُ التِي ثَمَنُهَا عَشَرَةُ دَراهِمَ عَلَى أنْ يَرُدَّهَا عَلَيهِ عِشْرِينَ دِرْهَماً بَعْدَ سَنَةٍ،فَالسَّبَبُ فِي رَأيِهِمْ وَاحِدٌ فِي كُلٍّ مِنَ الزِّيَادَتَيْنِ،وَهُوَ الأجَلُ .هَذِهِ هِيَ حُجَّةُ آكِلِي الرِّبا وَهُمْ وَاهِمُونَ فِيمَا قَالُوهُ،وَقِيَاسُهُمْ فَاسِدٌ،لأنَّ البَيْعَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي حِلَّهُ لأَنَّهُ يُلاحَظُ فِيهِ انْتِفاعُ المُشْتَرِي بِالشَّيْءِ انْتِفَاعاً حَقِيقيّاً .
أمَّا الرِّبا فَهُوَ إعْطَاءُ الدَّراهِم وَالْمِثْلِيَّاتِ وَأخْذُها مُضَاعَفَةً فِي وَقْتٍ آخَرَ.فَمَا يُؤخَذُ مِنَ المَدِينِ زِيَادَةً في رَأسِ المَالِ لاَ مُقَابِلَ لَهُ مِنْ عَيْنٍ وَلاَ عَمَل.فَمَنْ بَلَغَهُ نَهْيُ اللهِ عَنِ الرِّبا،فَانْتَهى عَنِ الرِّبا فَلَهُ مَا سَلَفَ مِمَّا أكَلَهُ مِنَ الرِّبا قَبْلَ التَّحْرِيم،وَمَا سَبَقَ لَهُ أنْ أخَذَهُ أَيَّامَ الجَاهِلِيَّةِ،وَأمْرُه مَرْدُودٌ إلى اللهِ.وَمَنْ عَادَ إلى الرِّبا،بَعْدَ أنْ بَلَغَهُ النَّهْيُ عَنْهُ،فَقَدِ اسْتَوْجَبَ العُقُوبَةَ مِنَ اللهِ،وَالخُلُودَ في نَارِ جَهَنَّمَ . (2)
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد - (5 / 335)(11141) والإصابة 2/145 وإسحاق(412و413) حسن لغيره
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 282)(1/393)
ولقوله تبارك وتعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ (279)} البقرة.
يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ،المُصَدِّقِينَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ،بِالتَّقْوى،فَيَقُولُ لَهُمْ:اتَّقُوا اللهَ وَاتْرُكُوا مَا لَكُمْ عِنْدَ النَّاسِ مِنَ الرِّبا ( أَيْ مَا يَزيدُ عَلَى رُؤُوسِ أَمْوالِكُمْ ) إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حَقّاً بِمَا شَرَعَ اللهُ لَكُمْ مِنْ تَحْلِيلِ البَيْعِ،وَتَحْرِيمِ الرِّبا،وَغَيْرَ ذَلِكَ .
وَأنْذَرَ اللهُ تَعَالَى الذِينَ لاَ يَمْتَثِلُونَ لأَمْرِهِ مِنْ تَرْكِ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا عِنْدَ النَّاسِ،بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ لخُرُوجِهِمْ عَنِ الشَّرْعِ،وَعَدَمِ خَضُوعِهِمْ لَهُ،فَإنْ تَابُوا فَلَهُمْ رُؤُوسُ أمْوَالِهِمْ بِدُونِ زِيَادَةٍ،لاَ يَظْلِمُونَ بِأخْذِ زِيادَةٍ،وَلاَ يُظْلَمُونَ بِوَضْعِ شَيءٍ مِنْ رَأسِ المَالِ (1) .
ولما ورد عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِى جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ اشْتَرَى غُلاَمًا حَجَّامًا فَقَالَ إِنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ،وَثَمَنِ الْكَلْبِ،وَكَسْبِ الْبَغِىِّ،وَلَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ وَالْمُصَوِّرَ (2) .
وعَنْ جَابِرٍ قَالَ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - آكِلَ الرِّبَا وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَيْهِ وَقَالَ هُمْ سَوَاءٌ. (3)
وعَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللهِ،أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ،قَالَ:آكُلُ الرِّبَا وَمُوكِلُهُ وَكَاتِبُهُ وَشَاهِدَاهُ إِذَا عَلِمُوا بِهِ،وَالْوَاشِمَةُ وَالْمُسْتَوْشِمَةُ لِلْحُسْنِ،وَلاَوِي الصَّدَقَةِ،وَالْمُرْتَدُّ أَعْرَابِيًّا بَعْدَ هِجْرَتِهِ مَلْعُونُونَ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (4)
15- تجنب بيع الأشياء المحرمة لما ورد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،نَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ،وَقَالَ:قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ،فَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا،وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ." (5) .
وعلى هذا فإن بيع الخمر وكل محرم محرم في نظر الإسلام. فعَنِ ابْنِ وَعْلَةَ،أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَمَّا يُعْصَرُ مِنَ الْعِنَبِ،فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:أَهْدَى رَجُلٌ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - رَاوِيَةَ خَمْرٍ،فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلاَ،حَرَّمَ شُرْبَهَا،فَسَارَ الرَّجُلُ إِنْسَانًا إِلَى جَنْبِهِ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِمَ سَارَرْتَهُ ؟ فَقَالَ:أَمَرْتُهُ أَنْ يَبِيعُهَا،فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا،حَرَّمَ بَيْعَهَا فَفَتَحَ الْمَزَادَتَيْنِ حَتَّى ذَهَبَ مَا فِيهِمَا. (6)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 286)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (5962 )
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (4177 )
(4) - صحيح ابن حبان - (8 / 44) (3252) صحيح
(5) - صحيح ابن حبان - (11 / 312) (4938) صحيح
(6) - صحيح ابن حبان - (11 / 317) (4942) صحيح(1/394)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،قَالَ:لَمَّا حُرِّمَتِ الْخَمْرُ،قَالَ:إِنِّي يَوْمَئِذٍ أَسْقِي أَحَدَ عَشَرَ رَجُلاً،قَالَ:فَأَمَرُونِي فَكَفَأْتُهَا وَكَفَأَ النَّاسُ آنِيَتَهُمْ بِمَا فِيهَا حَتَّى كَادَتِ السِّكَكُ تَمْتَنِعُ مِنْ رِيحِهَا،قَالَ أَنَسٌ:وَمَا خَمْرُهُمْ يَوْمَئِذٍ إِلاَّ الْبُسْرُ،وَالتَّمْرُ مَخْلُوطَيْنِ،فَجَاءَ رَجُلٌ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ:إِنَّهُ قَدْ كَانَ عِنْدِي مَالُ يَتِيمٍ،فَاشْتَرَيْتُ بِهِ خَمْرًا،أَفَتَرَى أَنْ أَبِيعَهُ،فَأَرُدَّ عَلَى الْيَتِيمِ مَالَهُ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ،فَبَاعُوهَا،وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا وَلَمْ يَأْذَنْ لِيَ،النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَيْعِ الْخَمْرِ." (1)
16- عدم إعانة المشتري الظالم فإعانة التاجر للمشتري في الشر محرمة ويأثم منها التاجر ومثال ذلك التاجر الذي يبيع العنب أو التمر لمن يعلم أنه يتخذه خمرا. عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" مَنْ حَبَسَ الْعِنَبَ أَيَّامَ الْقِطَافِ حَتَّى يَبِيعَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ،أَوْ نَصْرَانِيٍّ،أَوْ مَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا،فَقَدْ تَقَحَّمَ النَّارَ عَلَى بَصِيرَةٍ ".رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (2)
وعَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: بِعْهُ عَصِيرًا مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ طِلاَءً وَلاَ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا. (3)
17- الإحسان في المعاملة وفي إستيفاء الثمن إما بالمسامحة أو بالمساهلة أو بالإهمال أو بالتأخير.
قال تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} (280) سورة البقرة
فَإنْ كَانَ المَدِينُ مُعْسِراً لاَ يَجِدُ وَفَاءَ دَيْنِهِ،فَإنَّ اللهَ يَأمُرُ الدَّائِنَ بِنَظِرَتِهِ إلى حِينِ مَيْسَرَتِهِ،وَتَمَكُّنِهِ مِنْ دَفْعِ مَا عَلَيهِ.وَإِنْ تَصَدَّقَ الدَّائِنُ عَلَى المَدِينِ المُعْسِرِ بِشَيءٍ مِنْ رَأسِ المَالِ،أوْ بِرَأسِ المَالِ كُلِّهِ،فَذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ.وَقَدْ وَرَدَتْ أحَادِيثُ كَثِيرةٌ فِي الحَثِّ عَلَى تَنْفِيسِ كُرْبَةِ المُكْرُوبِ وَالتَّجَاوُزِ عَنِ المُعْسِرِ . (4)
عن رَجُلٍ مِنْ بَلْعَدَوِيَّةِ،قَالَ:حَدَّثَنِي جَدِّي،قَالَ:انْطَلَقْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ فَنَزَلَتُ عِنْدَ الْوَادِي فَإِذَا رَجُلانِ بَيْنَهُمَا عَنْزٌ وَاحِدَةٌ،وَإِذَا الْمُشْتَرِي يَقُولُ لِلْبَائِعِ:أَحْسِنْ مُبَايَعَتِي،قَالَ:فَقُلْتُ فِي نَفْسِي هَذَا الْهَاشِمِيُّ الَّذِي أَضَلَّ النَّاسَ أَهُوَ هُوَ ؟ قَالَ:فَنَظَرْتُ،فَإِذَا رَجُلٌ حَسَنُ الْجِسْمِ،عَظِيمُ الْجَبْهَةِ،دَقِيقُ الأَنْفِ،دَقِيقُ الْحَاجِبَيْنِ،وَإِذَا مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى سُرَّتِهِ مِثْلُ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ شَعَرٌ أَسْوَدُ،وَإِذَا هُوَ بَيْنَ طِمْرَيْنِ،قَالَ:فَدَنَا مِنَّا،فَقَالَ:السَّلامُ عَلَيْكُمْ،فَرُدُّوا عَلَيْهِ،فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ دَعَا الْمُشْتَرِي،فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،قُلْ لَهُ يُحْسِنْ مُبَايَعَتِي،فَمَدَّ يَدَهُ وَقَالَ:أَمْوَالَكُمْ تَمْلِكُونَ،إِنِّي أَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يَطْلُبُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ بِشَيْءٍ ظَلَمْتُهُ فِي مَالٍ،وَلا دَمٍ،وَلا عِرْضٍ،إِلا بِحَقِّهِ،رَحِمَ اللَّهَ امْرَءًا سَهْلَ الْبَيْعِ،سَهْلَ الشِّرَاءِ،سَهْلَ الأَخْذِ،سَهْلَ الإِعْطَاءِ،سَهْلَ الْقَضَاءِ،سَهْلَ التَّقَاضِي،ثُمَّ مَضَى،فَقُلْتُ:وَاللَّهِ لأَقُصَنَّ هَذَا،فَإِنَّهُ حَسَنُ الْقَوْلِ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (11 / 320) (4945) صحيح
(2) - المعجم الأوسط للطبراني - (5515) وعلل (1112) وجرجان 241 والشعب (5618) والنيل 5/154
وفي سنده عبد الكريم بن عبدالله السكري اتهمه أبوحاتم في العلل بالكذب ووثقه ابن حبان وروى عنه في صحيحه (2837) وحسن الحديث الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام (817 )
(3) - سنن النسائي- المكنز - (5732) صحيح -الطلاء : شراب يطبخ حتى يذهب ثلثاه ويسمى البعض الخمر طلاء
(4) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 288)(1/395)
فَتَبِعْتُهُ،فَقُلْتُ:يَا مُحَمَّدُ فَالْتَفَتَ إِلَيَّ بِجَمِيعِهِ،فَقَالَ:مَا تَشَاءُ ؟ فَقُلْتُ:أَنْتَ الَّذِي أَضْلَلْتَ النَّاسَ وَأَهْلَكْتَهُمْ وَصَدَدْتَهُمْ عَمَّا كَانَ يُعْبَدُ آبَاؤُهُمْ ؟ قَالَ:ذَاكَ اللَّهُ،قُلْتُ:مَا تَدْعُو إِلَيْهِ ؟ قَالَ:أَدْعُو عِبَادَ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ،قَالَ:مَا تَقُولُ ؟ قَالَ:أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ،وَتُؤْمِنُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ،وَتَكْفُرُ بِاللاتِ وَالْعُزَّى،وَتُقِيمُ الصَّلاةَ،وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ،قَالَ:قُلْتُ:وَمَا الزَّكَاةُ ؟ قَالَ:يَرُدُّ غَنِيُّنَا عَلَى فَقِيرِنَا،قَالَ:قُلْتُ:نِعْمَ الشَّيْءُ تَدْعُو إِلَيْهِ،قَالَ:فَلَقَدْ كَانَ وَمَا فِي الأَرْضِ أَحَدٌ يَتَنَفَّسُ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْهُ،فَمَا بَرِحَ حَتَّى كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ وَلَدِي،وَوَالِدِي،وَمِنَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ،قَالَ:فَقُلْتُ:قَدْ عَرَفْتُ،قَالَ:قَدْ عَرَفْتَ ؟ قُلْتُ:نَعَمْ،قَالَ:تَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ،وَأَنِّي مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ،وَتُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيَّ ؟ قَالَ:قُلْتُ:نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ،إِنِّي أَرِدُ مَاءً عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فَأَدْعُوهُمْ إِلَى مَا دَعَوْتَنِي إِلَيْهِ،فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يَتَّبِعُوكَ،قَالَ:نَعَمْ،فَادْعُهُمْ،فَأَسْلَمَ أَهْلُ ذَلِكَ الْمَاءِ رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ،فَمَسَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأْسَهُ " (1)
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ،وَإِذَا اشْتَرَى،وَإِذَا اقْتَضَى ».رواه البخاري (2) .
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ،سَمْحًا إِذَا اشْتَرَى،سَمْحًا إِذَا اقْتَضَى،سَمْحًا إِذَا قَضَى. (3)
18- تجنب شراء شيء يساوم غيرنا لشرائه حتى ينتهي بشرائه أو بتركه.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:لاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ. (4) .
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:لاَ يَبِعْ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ،إِلاَّ بِإِذْنِهِ." (5)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا ». وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ « بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ ». (6)
19- البعد عن ترويج النقود المزيفة،فقد ترد أحيانا إلى يد التاجر نقود مزيفة أو نقود قديمة انتهى التعامل بها أو نقود بلد آخر لا يتعامل بها في بلده،فيجب على التاجر في هذه الحالة أن لا يروج هذه النقود بإعطائها لشخص آخر وإلا كان ظالما لأنه أضرّ بغيره من المسلمين،وقال بعضهم: إنفاق درهم
__________
(1) - مسند أبي يعلى الموصلي(6830) فيه جهالة
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (2076 )
(3) - صحيح ابن حبان - (11 / 267) (4903) صحيح
(4) - صحيح ابن حبان - (11 / 339) (4965) وصحيح مسلم- المكنز - (3884 )
(5) - صحيح ابن حبان - (11 / 339) (4966) صحيح
(6) - صحيح مسلم- المكنز - (6706 )(1/396)
زيف أشد من سرقة مائة درهم،لأن السرقة معصية واحدة وقد تمت وانقطعت،وإنفاق الزيف بدعة أظهرها في الدين وسنة سيئة يعمل بها من بعده فيكون عليه وزرها بعد موته إلى مائة سنة،أو مائتي سنة..إلى أن يفنى ذلك الدرهم،ويكون عليه ما فسد من أموال الناس بسنته،وطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه،والويل الطويل لمن يموت وتبقى ذنوبه مائة ومائتي سنة أو أكثر يعذب بها في قبره ويسئل عنها إلى آخر انقراضها" (1)
قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (12) سورة يس
إنا نحن نحيي الأموات جميعًا ببعثهم يوم القيامة،ونكتب ما عملوا من الخير والشر،وآثارهم التي كانوا سببًا فيها في حياتهم وبعد مماتهم من خير،كالولد الصالح،والعلم النافع،والصدقة الجارية،ومن شر،كالشرك والعصيان،وكلَّ شيء أحصيناه في كتاب واضح هو أمُّ الكتب،وإليه مرجعها،وهو اللوح المحفوظ. فعلى العاقل محاسبة نفسه; ليكون قدوة في الخير في حياته وبعد مماته. (2)
20- إقالة النادم: في بعض الأحيان قد يشتري أحدهم السلعة ثم يتضح له أنه في غير حاجة لها أو يرى أنه محتاج لثمنها فيندم على شرائه ويأتي إلى التاجر ليقيله ( أي يقبل السلعة ويرد إليه ثمنها) فمن حسن المعاملة الشرعية أن يقبل التاجر السلعة من المشتري النادم وله من الله في هذا الفعل ثواب كثير كما يشير إلى ذلك حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - (3) . فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا عَثْرَتَهُ،أَقَالَهُ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (4) ..
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ أَقَالَ نَادِمًا بَيْعَتَهُ،أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " (5)
21- أن يتجنب العامل والموظف التأخر عن موعد العمل المتفق عليه واستغلال وقت العمل بكامله لصالح العمل وعدم إضاعة الوقت والانشغال بغير العمل،فهذا الوقت من حق صاحب العمل وإلا فإن الإضاعة للوقت والانشغال عن العمل المطلوب تجعل أجرة هذا الوقت موضع شبهة لأنه أخذ أجرة بدون عمل.
22- أن يتجنب الموظف تأخير المعاملات وتأجيل أصحاب الحاجة ومماطلتهم والإسراع في أداء الأعمال وحل مشاكل الناس بوجه طلق وكلام حسن طيب لأنه يعمل في مضمار خدمة الناس وهذا عمله ولا يجوز له التصرف بما يؤذي الناس وتأخير حاجاتهم وإضاعة أوقاتهم والفرص لديهم.
__________
(1) - إحياء علوم الدين - (1 / 422)
(2) - التفسير الميسر - (7 / 476)
(3) - وانظر فتاوى يسألونك لعفانة1-12 - (10 / 163)
(4) - صحيح ابن حبان - (11 / 405) (5030) صحيح
(5) - صحيح ابن حبان - (11 / 404) (5029) صحيح(1/397)
وأختم هذا البحث بما قاله الشعراني رحمه الله:
(أخذ علينا العهد العام من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أن نرغب إخواننا الذين لم يكثروا التعبد بعلم ولا غيره في التكسب بالبيع والشراء والزراعات وكل عمل يساعدهم على القوت بطريقه الشرعي على وجه الإخلاص لا على وجه التكاثر والمفاخرة بمطاعم الدنيا وملابسها وشهواتها،فإن من اكتسب الدنيا على وجه التكاثر والتفاخر،فمن لازمه تعدى الحدود الشرعية في الحل لأن الحلال في كل زمان لا يتحمل الإسراف.
وقد زار الحسن البصري أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز،فأخرج له عمر كسرة يابسة ونصف خيارة،وقال: كل يا حسن فإن هذا الزمان لا يتحمل الحلال فيه الإسراف اهـ،فلا ترى أحدا في سعة من الدنيا إلا وهو قليل الورع فيغش وينصب،ويبيع على المكاسين وأكلة الرشا وغيرهم،وأما إن طلب التوسع في الدنيا بغير طريق التكسب الشرعي وأقبل على العبادة فربما أكل بدينه،ووقع في الرياء والنفاق لمن يحسن إليه،وإن لم يكن مقبلا على العبادة سلق الناس بألسنة حداد إذا لم يعطوه ما طلب فالتكسب الشرعي أولى بكل حال.
وقد ورد أن الله تعالى علم آدم عليه السلام ألف حرفة،وقال له يا آدم قل لبنيك يكتسبون بهذه الحرف ولا يأكلون بدينهم. (1)
وقد سمعت سيدي عليا الخواص رحمه الله يقول: قد تغير التكسب اليوم على كل فقير وفقيه لعدم من يتفقدهم بالبر والإحسان في هذا الزمان لقلة المكاسب،فقد صار التاجر اليوم يمكث الثلاثة أيام أو أكثر لا يستفتح،فكيف يفتقد غيره،وهو لم يعمل بقوت نفسه وعياله وضيوفه،فضلا عن المغارم التي عليه من كراء بيت وحانوت وعوائد للظلمة من غفراء ورسل محتسب ومشد التراب ومشد الفلوس،والذهب في الأسواق،فالتاجر في أغلب أيامه ينفق من رأس ماله أو مال غيره الذي هو عامل فيه،ومثل هذا لا يطالب أن يفتقد فقيرا ولا فقيها،لاسيما إن كان الفقير أو الفقيه غير مخلص في علمه وعبادته،وأما الفلاح فهو طول سنته في شقاء وتعب وكلف لقُصاد الكشاف والعمال والعرب والعشير وأتباعهم فلا يزال يقدم لهؤلاء كلما كان عنده من لبن وسمن ودجاج وغنم حتى أنه يبيع غزل امرأته لهم ثم آخر السنة يحملونه عاطل البلد زيادة على خراجه وربما رسموا على زرعه في الجرن فيطلب لأولاده منه طحينا فلا يمكنوه من ذلك فيا ليتهم جعلوه كغلمان الأمين الذين لهم عادة،ومعلوم أن القرى هي مادة الأمصار فجميع ما في الأمصار إنما يحمل من القرى،فوالله لقد صارت الرعية اليوم بأعمالهم السيئة ؛كأنهم في صحراء من نار أو كسمك كان في بركة فنزل عنه الماء،فصارت الكلاب والجوارح تفسخه بالنهار والذئاب والثعالب تفسخه بالليل،وما بقي يرجى عود
__________
(1) - الدر المنثور للسيوطي -موافق للمطبوع - (1 / 265)(1/398)
الماء في البركة الذي هو كناية عن الرحمة لينغمر فيه السمك،ولا يعرف ما قلناه إلا الذين يلزمون بما لا يلزم ممن تقدم ذكرهم من السوقة والفلاحين.
وسمعت سيدي عليا الخواص يقول: غالب أهل النعم لا تعرف مقدارها إلا بالتحول كما حكي أن عبدا كان سيده يكرمه ويلبسه الثياب الحسنة ويأكل معه على السماط فتنكر عليه سيده يوما ونقمه فقال:بعني في سوق السلطان فاشتراه إنسان حاله أضيق من سيده،فخلع عنه ثيابه وألبسه خليقات وصار يطعمه من فضلة السماط،فقال سوق السلطان،فاشتراه إنسان حاله أضيق من الثاني فصار يأكل الدقيق ويطعمه النخالة فقال سوق السلطان فاشتراه إنسان يأكل النخالة ويجوعه،فقال سوق السلطان فاشتراه إنسان يجوع ويجوع العبد معه،واحتاج في ليلة إلى منارة يضع عليها المسرجة،فما وجد شيئا فأجلسه،ووضع المسرجة على رأسه إلى بكرة النهار،فقال سوق السلطان،فوجده فقير وهو خارج إلى السوق ممن كان يعرف حاله الأول،فذكر له قصته مع هؤلاء الذين اشتروه فقال له: إن سمعت مني رددتك إلى سيدك الأول،فقال: وماذا أصنع؟ قال:تعترف له بالنعمة،فاعترف فرجع فاشتراه سيده الأول،فما عرف هذا العبد مقدار النعمة إلا بتحويلها لاسيما من فتح عينه على النعمة من غير اكتساب كالجالسين في مثل جامع الأزهر أو الزوايا التي لها خبز وجوامك وليس عليهم مغارم فإن هؤلاء لا يعرفون ما الخلق فيه وربما بطر أحدهم النعمة التي هو فيها حتى صار يرد على الخادم والنقيب الخبز اليابس،فحول الله عنه النعمة ثم إنه يريد استرجاعها فلا يتيسر له ذلك أبدا.
فعَنْ عَائِشَةَ،قَالَتْ:دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَرَأَى كِسْرَةً مُلْقَاةً فَمَسَحَهَا،فَقَالَ:" يَا عَائِشَةُ أَحْسِنِي جِوَارَ نِعَمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهَا مَا نَفَرَتْ عَنْ أَهْلِ بَيْتٍ فَكَادَتْ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِمْ " (1) .
وفي القرآن العظيم: {وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} (112) سورة النحل ففهمنا من هذه الآية أن النعم لا تتحول عن صاحبها وهو شاكر لله تعالى أبدا.. (2)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - شُعَبُ الْإِيمَانِ لِلْبَيْهَقِيِّ(4380 ) ضعيف والمرفوع حسن لغيره
(2) - لواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمدية - (1 / 331)(1/399)
-35-آداب الصلة
الإنسان بطبعه وغريزته ميال للاجتماع بالآخرين والتعاون معهم وإنشاء الصلاة الحميمة بهم وهذا ما شجعه الإسلام أيضا وقد أنشأ العلاقات الاجتماعية الحميمة والروابط الإيمانية القوية.
هذا وقد نظم الإسلام هذه العلاقات تنظيما دقيقا فقد حدد أنواع هذه الروابط وعدد الواجبات نحوها فجعل أول هذه الصلات مع أقرب الناس إلى الفرد مع الوالدين فأمر ببرهما وطاعتهما واحترامهما ثم انتقل إلى الصلة بالزوج فجعل الصلة بين الزوجين قائمة على الحب والاحترام المتبادل وأداء كل منهما لواجباته تجاه الآخر واحترام حقوقه،ثم انتقل إلى الصلة بالولد وجعلها قائمة على الرعاية والتربية الحسنة من قبل الوالدين مع العطف والمساواة بينهم ثم الصلة مع الأخوة فأمر الصغير باحترام الكبير وأمر الكبير برحمة الصغير والعطف عليه كذلك عمق الصلة بالأقارب والأرحام وأمر بصلتهم وزيارتهم وتقديم المساعدة لهم. والأقربون أولى بالمعروف.
كذلك امتدت الصلة إلى الأصدقاء والأصحاب فنظم العلاقة معهم وحدد الواجبات تجاههم وكذلك حدد العلاقة مع الجيران بالاحترام والتعاون والمساعدة وإبعاد الأذى والضرر عنهم.
ووسع الصلة حتى امتدت إلى هذا المجتمع الواسع فنظم هذه الصلة وحدد الواجبات تجاه هذا المجتمع وعناصره وجعل التعاون وأداء الحقوق والواجبات والعمل على رفعة هذا المجتمع أساس هذه الصلة بل امتدت الصلة بالدولة والأمة ونظم هذه العلاقة على أساس العمل على الطاعة والاحترام والتقيد بالنظام والدفاع عن الحرمات ومحبة جميع أفراده،وأفرد هذه الأمة والتعاون معهم جميعا على رفع مكانة هذه الأمة والافتخار بها قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} (110) سورة آل عمران
إذا مواضيع الصلة كثيرة وقد مرّ بعضها معنا وفي موضوع هذا الأدب "
آداب الصلة:
أـ بالرحم،ب ـ بالجار،ج ـ بالمريض،دـ بالميت. "التعزية".
ا-آداب صلة الرحم:
إن الرحم على وجهين عامة وخاصة،فالرحم العامة رحم الدِّين ويجب مواصلتها بملازمة الأيمان والمحبة لأهله ونصرتهم والنصيحة لهم وترك مضارتهم والعدل بينهم والنصفة في معاملاتهم والقيام بحقوقهم الواجبة كتمريض المرضى وحقوق الموتى من غسلهم والصلاة عليهم وتكفينهم ودفنهم وغير ذلك من الحقوق مترتبة لهم،وهذا هو الأدب مع الرحم العامة،وأما القرابة والرحم الخاصة فإن الإسلام قد قد وضع لها آدابا خاصة فوق ما سبق من نفقة وتفقد أحوالهم وترك التغافل عنهم في أوقات(1/400)
حاجتهم والأدب معهم يكون بصلتهم بإيصال ما أمكن من الخير ودفع ما أمكن من الشر حسب الطاقة وتتمثل في قوله تعالى :{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} (21) سورة الرعد
وهذه خلاصتها :
زيارة الأرحام باستمرار،وتفقد أحوالهم،وإدخال السرور عليهم ابتغاء مرضاة الله تعالى .
قال تعالى:{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} (26) سورة الإسراء
وأحسِنْ إلى كل مَن له صلة قرابة بك،وأعطه حقه من الإحسان والبر،وأعط المسكين المحتاج والمسافر المنقطع عن أهله وماله،ولا تنفق مالك في غير طاعة الله،أو على وجه الإسراف والتبذير. (1)
وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) سورة النساء
يا أيها الناس خافوا الله والتزموا أوامره،واجتنبوا نواهيه; فهو الذي خلقكم من نفس واحدة هي آدم عليه السلام،وخلق منها زوجها وهي حواء،ونشر منهما في أنحاء الأرض رجالا كثيرًا ونساء كثيرات،وراقبوا الله الذي يَسْأل به بعضكم بعضًا،واحذروا أن تقطعوا أرحامكم. إن الله مراقب لجميع أحوالكم. (2)
عَنْ عَلِيٍّ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ،وَيُوَسَّعَ لَهُ فِي رِزْقِهِ،وَيُدْفَعَ عَنْهُ مِيتَةُ السُّوءِ،فَلْيَتَّقِ اللَّهَ وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ" رواه أحمد (3)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ،وَيُزَادَ فِي رِزْقِهِ،فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ،وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ. (4)
وعَنْ أَنَسٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ،وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَجَلِهِ،فَلْيَتَّقِ اللَّهَ،وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ. (5)
وعَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ،أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِيَّ،أَخْبَرَهُ أَنَّ أَعْرَابِيًّا عَرَضَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ،فقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،أَخْبِرْنِي بِأَمْرٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُنْجِينِي مِنَ النَّارِ ؟ قَالَ:فَنَظَرَ إِلَى وُجُوهِ أَصْحَابِهِ
__________
(1) - التفسير الميسر - (5 / 20)
(2) - التفسير الميسر - (2 / 1)
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 400) (1213) حسن
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 679)(13811) 13847- صحيح لغيره
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (5986 ) وصحيح مسلم- المكنز -(6688) وصحيح ابن حبان - (2 / 182) (439) -الأثر : الأجل -ينسأ : يؤخر(1/401)
وَكَفَّ عَنْ نَاقَتِهِ وَقَالَ:لَقَدْ وُفِّقَ،أَوْ هُدِيَ،لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا،وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ،وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ،وَتَصِلُ الرَّحِمَ دَعِ النَّاقَةَ." (1)
تجنب قطيعة الرحم والانشغال عن برها وصلتها بمتاع الدنيا وتحصيل الأموال.
قال تعالى:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (22) سورة محمد
فلعلكم إن أعرضتم عن كتاب الله وسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - أن تعصوا الله في الأرض،فتكفروا به وتسفكوا الدماء وتُقَطِّعوا أرحامكم. (2)
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ خَلْقِهِ،قَالَتِ الرَّحِمُ هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنَ الْقَطِيعَةِ.قَالَ نَعَمْ أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ.وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ.قَالَتْ بَلَى يَا رَبِّ.قَالَ فَهْوَ لَكِ ».قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِى الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ).رواه البخاري ومسلم (3) .
وعَنِ الزُّهْرِىِّ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ ». رواه مسلم (4) .
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتعالى: أَنَا الرَّحْمَنُ خَلَقْتُ الرَّحِمَ،وَشَقَقْتُ لَهَا اسْمًا مِنِ اسْمِي،فَمَنْ وَصَلَهَا،وَصَلْتُهُ وَمَنْ قَطَعَهَا،بَتَتُّهُ. (5) .
صلة الرحم بالقيام بنصيحتهم وإرشاد صالهم،وهداية شاردهم،وتذكير غافلهم ودعوة معرضهم إلى الله وعبادته وأداء الفرائض واجتناب المعاصي.قال تعال: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (214) سورة الشعراء
يَأمُرُ اللهُ تَعالى رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - بِأْنَ يُنْذِرَ عَشِيرَتَهُ الأَدْنَيْنَ لَهُ،وأَنْ يُعْلِمَهُمْ أنَّهُ لا يَنْفَعُ أحَداً منُهمْ يَوْمَ القِيامةِ إِلا إِيمانُهُ بربِّهِ،وعَمَلُه الصَّالحُ . (6)
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ،أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ،وَأَبُو سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ،قَالَ:إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء]،قَالَ:يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللهِ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا،يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا،يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (113) و صحيح ابن حبان - (2 / 180) (437)
(2) - التفسير الميسر - (9 / 181)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (5987 ) وصحيح مسلم-المكنز -(6682 )
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (6685 )
(5) - صحيح ابن حبان - (2 / 186) (443) صحيح
(6) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 3028)(1/402)
عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًا،يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا،يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا. (1) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:] جَمَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قُرَيْشًا،فقَالَ:يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ،أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ،فَإِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ مِثْلَ ذَلِكَ،وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِثْلَ ذَلِكَ،ثُمَّ،قَالَ:يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ،أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ،فَإِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكِ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا،إِلاَّ أَنَّ لَكِ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلاَلِهَا. (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،قَالَ:لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء] وَرَهْطَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ. قَالَ:وَهُنَّ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللهِ،خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَتَى الصَّفَا،فَصَعِدَ عَلَيْهَا،ثُمَّ نَادَى:يَا صَبَاحَاهُ،فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ فَبَيْنَ رَجُلٍ يَجِيءُ،وَبَيْنَ رَجُلٍ يَبْعَثُ رَسُولَهُ،فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ،يَا بَنِي فِهْرٍ،يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ،يَا بَنِي،يَا بَنِي أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ أَصَدَّقْتُمُونِي ؟ قَالُوا:نَعَمْ،قَالَ:فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ،فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ:تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ،أَمَا دَعَوْتُمُونَا إِلاَّ لِهَذَا،ثُمَّ قَامَ،فَنَزَلَتْ:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد]،وَقَدْ تُبَّ،وَقَالُوا:مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا. (3)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } [الشعراء: 214] ( وَرَهْطَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ )،قَالَ: وَهِيَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللهِ،خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَتَى الصَّفَا فَصَعِدَ عَلَيْهِ ثُمَّ نَادَى: " يَا صَاحِبَاهُ " قَالَ: فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَبَيْنَ رَجُلٍ يَجِيءُ وَبَيْنَ رَجُلٍ يَبْعَثُ رَسُولَهُ،فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ،يَا بَنِي قُصَيٍّ،يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ،يَا بَنِي،يَا بَنِي،أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِسَفْحِ الْجِبَالِ تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ،أَصَدَّقْتُمُونِي ؟ " قَالُوا: نَعَمْ،قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : " فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ " فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكُمْ سَائِرَ الْيَوْمِ،مَا دَعَوْتُمُونَا إِلَّا لِهَذَا قَالَ: فَنَزَلَتْ: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [المسد: 1] (4)
صلة الرحم بالتصدق عليهم إن كانوا فقراء ومن تصدق على أقاربه كان ثوابه عند الله عظيما لأن له أجر الصلة وأجر الصدقة.عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ،أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ،يَقُولُ:كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةَ مَالاً،وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرَحَاءُ،وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ،وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ،قَالَ أَنَسٌ:فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران]،قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2753 ) وصحيح مسلم- المكنز -(525) وصحيح ابن حبان - (14 / 486)(6549)
(2) - صحيح ابن حبان - (2 / 412) (646) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (14 / 487) (6550) صحيح
(4) - أخبار مكة للفاكهي - (2 / 213)(1379 ) صحيح(1/403)
فِي كِتَابِهِ:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران]،وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرَحَاءُ،فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللهِ،فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللهِ حَيْثُ شِئْتَ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : بَخٍ ذَاكَ مَالٌ رَابِحٌ،بَخٍ ذَاكَ مَالٌ رَابِحٌ،وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهَا،وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ،فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ:أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللهِ،فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ. رواه البخاري (1) .
تجنب مقابلة السيئة بمثلها،والقطعية بمثلها،أو انتظار زيارتهم ردا على كل زيارة.قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} (21) سورة الرعد
وَهَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ المُهْتَدُونَ يَصِلُونَ الأَرْحَامَ التِي أَمَرَ اللهُ بِوَصْلِهَا،وَيُحْسِنُونَ إِلَى الأَقْرِبَاءِ وَالفُقَرَاءِ،وَيُعَامِلُونَهُمْ بِالمَودَّةِ وَالحُسْنَى،وَيَبْذُلُونَ المَعْرُوفَ،وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ فِيمَا يَأْتُونَ،وَيُرَاقِبُونَهُ فِي ذَلِكَ،وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ،وَعَدَمِ الصَّفْحِ عَنْ ذُنُوبِهِمْ وَخَطَايَاهُمْ . (2)
ولقد بين - صلى الله عليه وسلم - أن الأدب مع الأقارب وذوي الأرحام واجب حتى ولو كانوا هم من لا يستحقون ذلك وبين أن ذلك من أسباب نصر الله لصاحبه،فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَجُلاً،قَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ،وَيَقْطَعُونِي،وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ،وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ،فقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : لَئِنْ كَانَ كَمَا تَقُولُ،لَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمُ الْمَلَّ،وَلاَ يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظُهَيْرٌ،مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ. رواه مسلم (3) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:إِنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ تُعْرَضُ كُلَّ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ،فَلاَ يُقْبَلُ عَمَلُ قَاطِعِ رَحِمٍ. (4) .
وَعَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ:كَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ جَالِسًا بَعْدَ الصُّبْحِ فِي حَلْقَةٍ،قَالَ:" أُنْشِدُ اللَّهَ قَاطِعَ رَحِمٍ لَمَا قَامَ عَنَّا ; فَإِنَّا نُرِيدُ أَنْ نَدْعُوَ رَبَّنَا،وَإِنَّ أَبْوَابَ السَّمَاءِ مُرْتَجَةٌ دُونَ قَاطِعِ رَحِمٍ ".رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ (5)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍوعَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ،وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِى إِذَا قَطَعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا ».رواه البخاري (6) .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ،حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْهُمْ قَامَتِ الرَّحِمُ فَأَخَذَتْ بِحَقْوِ الرَّحْمَنِ،فَقَالَ: مَهْ،فَقَالَتْ: هَذَا مَكَانُ الْعَائِذِ مِنَ الْقَطِيعَةِ ؟ قَالَ: نَعَمْ،أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ،وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ ؟ قَالَتْ: بَلَى،قَالَ: فَذَاكَ لَكِ "،ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " اقْرَأُوا إِنْ شِئْتُمْ: { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ،وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (1461) وصحيح ابن حبان - (8 / 129) (3340)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1729)
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (6689 ) وصحيح ابن حبان - (2 / 196) (451)
الظهير : المعين الدافع لأذاهم -المل : الرماد الحار الذى يحمى ليدفن فيه الطعام لينضج
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 673)(10272) 10277- حسن
(5) - المعجم الكبير للطبراني - (8 / 69)(8705 ) فيه انقطاع
(6) - صحيح البخارى- المكنز - (5991 )(1/404)
اللهُ،فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [محمد: 23] " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ (1)
تجنب الخلوة بأجنبية أو مصافحتها أثناء زيارة الأرحام كبنات الخال وبنات الخالة،وبنات العم وبنات العمة،والالتزام بآداب الزيارة من غض البصر،وحفظ اللسان.
قال تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (30) سورة النور
يَأْمُرُ اللهُ عِبَادَه المُؤْمِنِيِنَ بِأَنْ يَغُضُوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ عَنِ النَّظَرِ إِلَى مَا حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِم،فَإِذَا اتَّفَقَ أَنْ وَقَعَ البَصَرُ عَلَى مُحَرِّم عَلَيْهِمْ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ فَعَلى المُؤْمِن أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ بَصَرَهُ سَرِيعاً،كَمَا يَأَمُرُ اللهُ المُؤْمِنِينَ بِحِفْظِ فُرُوجِهم عَنِ الزِّنَى،وبِحِفْظِها مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهَا،فَذَلِكَ أَطْهَرُ لِقُلُوبِهِمْ وَأَزَكَى لِدِيِنهِم (2) .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ مَعَ ذِى مَحْرَمٍ ».فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ امْرَأَتِى خَرَجَتْ حَاجَّةً وَاكْتُتِبْتُ فِى غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا.قَالَ « ارْجِعْ فَحُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ ».رواه البخاري (3) .
وعَنْ أَبِي الْخَيْرِ،أَنَّهُ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ،يَقُولُ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ تَدْخُلُوا عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ:أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : الْحَمْوُ الْمَوْتُ. رواه البخاري ومسلم (4) .
الحمو: قريب الزوج كأخيه وابن أخيه وابن عمه وقريب الزوجة كذلك.
وتكون الصلة لذوي الأرحام بالمال والزيارة وعيادة المريض وإجابة الدعوة والتهنئة بما يسر والتعزية في المصائب وسداد الدين أو المساعدة في سداده وتمريض المريض،وذلك لأن الرحم لها حق زائد على
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (5987) وصحيح مسلم- المكنز - (6682 ) وشعب الإيمان - (10 / 319) (7558 )
قَوْلُهُ: " فَأَخَذَتْ بِحَقْوِ الرَّحْمَنِ " مَعْنَاهُ: اسْتَجَارَتْ بِاللهِ، واعْتَصَمَتْ بِهِ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: تَعَلَّقْتُ بِظِلِّ جَنَاحِهِ، أَيِ اعْتَصَمْتُ بِهِ، وَقِيلَ: الْحِقْوُ: لِلْإِزَارِ، وَإِزَارُ اللهِ عَزَّ جَلَّ عِزُّهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالْعِزِّ، فَاسْتَعَاذَتِ الرَّحِمُ بِعِزِّ اللهِ مِنَ الْقَطِيعَةِ، وَلَاذَتْ بِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْعَرْشُ، فَقَدْ رُوِيَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنَّهُ قَالَ: الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ "
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2703)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (5233 )
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (5232) وصحيح مسلم- المكنز -(5803) وصحيح ابن حبان - (12 / 401) (5588)
قَالَ النَّوَوِيّ : الْمُرَاد فِي الْحَدِيث أَقَارِب الزَّوْج غَيْر آبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ ، لِأَنَّهُمْ مَحَارِم لِلزَّوْجَةِ يَجُوز لَهُمْ الْخَلْوَة بِهَا وَلَا يُوصَفُونَ بِالْمَوْتِ . قَالَ وَإِنَّمَا الْمُرَاد الْأَخ وَابْن الْأَخ وَالْعَمّ وَابْن الْعَمّ وَابْن الْأُخْت وَنَحْوهمْ مِمَّا يَحِلّ لَهَا تَزْوِيجه لَوْ لَمْ تَكُنْ مُتَزَوِّجَة ، وَجَرَتْ الْعَادَة بِالتَّسَاهُلِ فِيهِ فَيَخْلُو الْأَخ بِامْرَأَةِ أَخِيهِ فَشَبَّهَهُ بِالْمَوْتِ وَهُوَ أَوْلَى بِالْمَنْعِ مِنْ الْأَجْنَبِيّ اهـ عشرة النساء للإمام للنسائي - الطبعة الثالثة - (1 / 232)(1/405)
حقوق عامة المسلمين،فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ،قَالَتْ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَسْرَعُ الْخَيْرِ ثَوَابًا الْبِرُّ،وَصِلَةُ الرَّحِمِ،وَأَسْرَعُ الشَّرِّ عُقُوبَةً،الْبَغْيُ،وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ. (1)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:" لَا تَنْزِلُ الرَّحْمَةُ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ قَاطِعُ رَحِمٍ " (2)
ولقد لفت الإسلام نظر أتباعه إلى حسن الأدب مع الأهل والأقربين وذوي الأرحام فأوجب الإحسان إليهم وعدم نسيانهم من الخير حتى عند قسمة التركات والمواريث إذا لم يكن لهم نصيب عند استغراق الورثة للتركة فعلينا أن نعطيهم من المال،بل إن الإسلام قد جعل لهم الوصية مفروضة يقول سبحانه ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) [البقرة:180،181])،ويقول سبحانه: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا } (8) سورة النساء،وقد جعلهم القرآن الكريم أحق الناس بالمعروف والإحسان قبل غيرهم فقال سبحانه: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا} (36) سورة النساء.
كما جاء الحث على إعطائهم حقوقهم في قوله تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (38) سورة الروم،وحتى إذا لم يجد الإنسان ما يعطيهم فلا أقل من أن يمنيهم بالخير ويردهم بما يؤملون به الفضل الذي يرجوه من الله فيقول تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا} (28) سورة الإسراء
وعَنْ زَيْنَبَ،امْرَأَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ،قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " تَصَدَّقْنَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ "،قَالتْ: فَرَجَعْتُ إِلَى عَبْدِ اللهِ فَقُلْتُ: إِنَّكَ رَجُلٌ خَفِيفُ ذَاتِ الْيَدِ،وَإِنِّي أُنْفِقُ عَلَيْكَ وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حِجْرِي،وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أَمَرَ بِالصَّدَقَةِ فَأْتِهِ فَاسْأَلْهُ،فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُجْزِينِي وَإِلَّا صَرَفْتُهَا إِلَى غَيْرِكُمْ،قَالَتْ: فَقَالَ لِي عَبْدُ اللهِ: بَلِ ائْتِيهِ أَنْتِ،قَالَتْ: فَانْطَلَقْتُ وَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِبَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَاجَتُهَا حَاجَتِي،قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ الْمَهَابَةُ،قَالَتْ: فَخَرَجَ عَلَيْنَا بِلَالٌ،فَقُلْنَا لَهُ: ائْتِ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَخْبِرْهُ أنَّ امْرَأَتَيْنِ بِالْبَابِ تَسْأَلَانِكَ أَتُجْزِئُ الصَّدَقَةُ عَنْهُمَا عَلَى أَزْوَاجِهِمَا وَلِأَيْتَامٍ فِي حُجُورِهِمَا ؟ وَلَا تُخْبِرْهُ مَنْ نَحْنُ،قَالَتْ: فَدَخَلَ بِلَالٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ
__________
(1) - سنن ابن ماجة- طبع مؤسسة الرسالة - (5 / 297) (4212) ضعيف جدا
(2) - التَّرْغِيبُ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَثَوَابُ ذَلِكَ لِابْنِ شَاهِينَ(571 ) حسن لغيره(1/406)
- صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلَهُ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ هُمَا ؟ " قَالَ: امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ،وَزَيْنَبُ،قَالَ: " أَيُّ الزَّيَانِبِ ؟ " قَالَ: امْرَأَةُ عَبْدِ اللهِ،قَالَ: " لَهُمَا أَجْرَانِ،أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ " (1)
وفي هذا دليل على مكانة الإحسان لذوي الأرحام،إن الأقربين هم أولى الناس بمعروفك وقد أوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهم خير تأدبا معهم وجعل الصدقة لهم تعادل صدقتين لغيرهم فعَنْ سَلْمَانَ بْنِ عَامِرٍ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ،وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَانِ:صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ. (2)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَا يُعَذِّبُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ رَحِمَ الْيَتِيمَ،وَلَانَ لَهُ فِي الْكَلَامِ،وَرَحِمَ يُتْمَهُ وَضَعْفَهُ،وَلَمْ يَتَطَاوَلْ عَلَى جَارِهِ بِفَضْلِ مَا آتَاهُ اللَّهُ " وَقَالَ:" يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ،وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةً مِنْ رَجُلٍ،وَلَهُ قَرَابَةٌ مُحْتَاجُونَ إِلَى صِلَتِهِ وَيَصْرِفُهَا إِلَى غَيْرِهِمْ،وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (3)
وهذا من أدب الإسلام مع الأقارب من حيث برهم ومواساتهم والإحسان إليهم ومسح دموعهم ومؤاساة جراحاتهم وتفريج كرباتهم وإدخال السعادة عليهم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} (6) سورة الأحزاب وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ،عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" إِنَّ صَدَقَةَ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ،وَإِنَّ صَنَائِعَ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ،وَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمْرِ وَتَنْفِي الْفَقْرَ،وَأَكْثِرْ مِنْ قَوْلِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ،فَإِنَّهُ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ وَإِنَّ فِيهَا شِفَاءً مِنْ [ تِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ ] دَاءً أَدْنَاهَا الْهَمُّ،".رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ. (4)
ولقد بين سبحانه وتعالى أن الإعراض عند ذوي الأرحام إنما هو من إساءة الأدب معهم وهو قرين الفاسدين في الأرض إذ يقول سبحانه:( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) [محمد:22،23]) وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" إِنَّ اللَّهَ لَيُعَمِّرُ بِالْقَوْمِ الدِّيَارَ،وَيُثْمِرُ لَهُمُ الْأَمْوَالَ،وَمَا نَظَرَ إِلَيْهِمْ مُنْذُ خَلَقَهُمْ بُغْضًا لَهُمْ ".قِيلَ:وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ:" بِصِلَتِهِمْ أَرْحَامَهُمْ ".رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ (5)
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (2365 ) و شعب الإيمان - (5 / 100) (3152 )
(2) - صحيح ابن حبان - (8 / 133) (3344) صحيح لغيره
(3) - المعجم الأوسط للطبراني - (9073 ) ضعيف
(4) - المعجم الأوسط للطبراني - (956) والصحيحة ( 1908) حسن لغيره
(5) - المعجم الكبير للطبراني - (10 / 234)(12291) حسن(1/407)
وهي من الأسباب التي ترد عمل صاحبها حين يعرض عمله على الله كل خميس وليلة الجمعة،فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ عَشِيَّةَ كُلِّ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ،فَلَا يُرْفَعُ فِيهَا قَاطِعُ رَحِمٍ " (1)
فلنحرص على الأدب مع أقاربنا وذي أرحامنا حتى نكون أهلا لمرضاة الله ورضوانه وعفوه وإحسانه.
ب -آداب الجار:
ابتداء الجار بالسلام إذا لقيه،مع السؤال عن حاله،والبشاشة في وجهه.عيادته في مرضه،والمسارعة إلى إسعافه عند الحاجة أو الاستدعاء.تعزيته عند إصابته بمصيبة،أو حلول كارثة به،أو وفاة عزيز عليه،وفتح بيته لذلك إن استدعى الأمر والقيام معه في عزائه،وإعانته على شدائده ونوائبه.مشاركته في فرحه،وتهنئته عند حلوله ومحبة الخير له،والسرور لسروره.الصفح عن زلاته وسقطاته،والتغاضي عن تقصيره وسيئاته،ومعاتبته برفق وأدب على هفواته.التلطف في معاملة أبنائه،والإحسان إليهم،والرفق بهم ونصيحتهم بالمعروف.غض البصر عن أهله،وتجنب متابعة أسراره،والحفاظ على حرمته،وملاحظة داره عند غيبته.غض الصوت تجنبا لمضايقته. وخفض صوت المذياع والرائي خصوصا في أوقات راحته.تجنب إيذائه بتضييق الطريق عليه،أو طرح الأقذار قرب داره،أو التجاوز على حدوده أو التطاول عليه في البنيان فتنحجب عنه الشمس والهواء.
عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِى كَثِيرٍ قَالَ حَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُنَاسٍ خُصُومَةٌ،فَذَكَرَ لِعَائِشَةَ - رضى الله عنها - فَقَالَتْ يَا أَبَا سَلَمَةَ اجْتَنِبِ الأَرْضَ،فَإِنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ ظَلَمَ قِيدَ شِبْرٍ مِنَ الأَرْضِ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ ».رواه البخاري ومسلم (2) .
وعَنْ أَبِى شُرَيْحٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ،وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ،وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ ».قِيلَ وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « الَّذِى لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَايِقَهُ ».رواه البخاري (3)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ » (4) .
بذل النصيحة له،والإخلاص في مشوراته وإرشاده إلى ما يجهله من أمر دينه ودنياه.
تحمل الأذى منه،والصبر على جفائه،وإعراضه. وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَوَّلُ خَصْمَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَارَانِ. (5)
__________
(1) - شعب الإيمان - (10 / 340) (7593 ) صحيح لغيره
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (2453) وصحيح مسلم- المكنز -(4222)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (6016 )
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (181 ) -البوائق : الغوائل والشرور واحدها بائقة
(5) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (5 / 905)(17372) 17507- حسن(1/408)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:قَالَ رَجُلٌ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،إِنَّ لِي جَارًا يُؤْذِينِي،فَقَالَ:" انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَتَاعَكَ إِلَى الطَّرِيقِ "،فَانْطَلَقَ فَأَخْرِجَ مَتَاعَهُ،فَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ،فَقَالُوا:مَا شَأْنُكَ ؟ قَالَ:لِي جَارٌ يُؤْذِينِي،فَذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ:" انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَتَاعَكَ إِلَى الطَّرِيقِ "،فَجَعَلُوا يَقُولُونَ:اللَّهُمَّ الْعَنْهُ،اللَّهُمَّ أَخْزِهِ.فَبَلَغَهُ،فَأَتَاهُ فَقَالَ:ارْجِعْ إِلَى مَنْزِلِكَ،فَوَاللَّهِ لَا أُؤْذِيكَ " (1)
وعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ:شَكَا رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - جَارَهُ،فَقَالَ:" احْمِلْ مَتَاعَكَ فَضَعْهُ عَلَى الطَّرِيقِ،فَمَنْ مَرَّ بِهِ يَلْعَنُهُ "،فَجَعَلَ كُلُّ مَنْ مَرَّ بِهِ يَلْعَنُهُ،فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:مَا لَقِيتُ مِنَ النَّاسِ ؟ فَقَالَ:" إِنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ فَوْقَ لَعْنَتِهِمْ "،ثُمَّ قَالَ لِلَّذِي شَكَا:" كُفِيتَ " أَوْ نَحْوَهُ " (2)
بذل المعروف له،وإعانته بالنفس والمال،وإهداؤه من طعام داره،وفاكهته،وتلبيته في قضاء حوائجه.
قال الله تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا} (36) سورة النساء
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ،وَبِعَدَمِ الإشْرَاكِ بِهِ،وَبِالعَمَلِ بِمَا أَمَرَ بِهِ،ثُمَّ أَوْصَاهُمْ بِالإِحْسَانِ إلَى الوَّالِدَينِ،فَقَدْ جَعَلَهُمَا اللهُ سَبباً لِخُرُوجِ الإِنْسَانِ مِن العَدَمِ.ثُمَّ أَمَرَ بِالإِحْسَانِ إلَى ذَوِي القُرْبَى،مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ،ثُمَّ أَمَرَ بِالإِحْسَانِ إلى اليَتَامَى الذِينَ فَقَدُوا آبَاءَهُمْ،وَمَنْ يُنْفِقُونَ عَلَيْهِمْ،ثُمَّ بِالإِحْسَانِ إلَى المَسَاكِينِ ( وَهُمُ المُحْتَاجُونَ الذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَنْ يَقُومُ بِكِفَايَتِهِمْ )،فَأَمَرَ اللهُ بِمُسَاعَدَتِهِمْ بِمَا تَتِمُّ بِهِ كِفَايَتُهُمْ.ثُمَّ أَمَرَ بِالإِحْسَانِ إلى الجَارِ الجَنْبِ،وَهُوَ الجَارِ الذِي لَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ،كَمَا أَمَرَ تَعَالَى بِالإِحْسَانِ إلَى الصَّاحِبِ بِالجَنْبِ،وَهُوَ الرَّفِيقُ الصَّالِحُ فِي الحِلِّ وَالسَّفَر،وَابْنِ السَّبِيلِ وَهُوَ الضَّيْفُ عَابِرُ السَّبِيلِ مَارّاً بِكَ فِي سَفَرٍ فَقَدْ أَمَرَ اللهُ بِالإِحْسَانِ إِلَيْهِ.كَمَا أَمَرَ اللهُ النَّاسَ بِالإِحْسَانِ إلى الأَرِقَّاءِ الذِين تَحْتَ أَيْدِيهِمْ .ثُمَّ أَضَافَ تَعَالَى إلى ذَلِكَ،أنَّهُ لاَ يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فِي نَفْسِهِ،مُعْجَباً مُتَكَبِّراً فَخُوراً عَلَى النَّاسِ،يَرَى أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُمْ،فَهُوَ فِي نَفْسِهِ كَبِيرٌ وَهُوَ عِنْدَ اللهِ حَقِيرٌ . (3)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِى بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ ».رواه البخاري ومسلم (4) .
وعَنْ أَبِى شُرَيْحٍ الْخُزَاعِىِّ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ ». (5)
__________
(1) - الْأَدَبُ الْمُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ (124 ) حسن
(2) - الْأَدَبُ الْمُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ(125 ) صحيح
(3) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 529)
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (6015 ) وصحيح مسلم- المكنز -(6854)
(5) - صحيح مسلم- المكنز - (185 )(1/409)
وعَنْ مُجَاهِدٍ،وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ لِأَبِي عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ:" كُنْتُ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَغُلَامُهُ يَسْلُخُ شَاةً،فَقَالَ:يَا غُلَامُ،إِذَا سَلَخْتَ فَابْدَأْ بِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ حَتَّى قَالَ ذَلِكَ مِرَارًا،فَقَالُوا لَهُ:كَمْ تَقُولُ هَذَا ؟ فَقَالَ:إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَزَلْ يُوصِينَا بِالْجَارِ حَتَّى خَشِينَا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ " (1)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ،قَالَ:أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلاَثٍ:اسْمَعْ وَأَطِعْ وَلَوْ لِعَبْدٍ مُجَدَّعِ الأَطْرَافِ،وَإِذَا صَنَعْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا،ثُمَّ انْظُرْ إِلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ جِيرَانَكَ فَأَصِبْهُمْ مِنْهُ بِمَعْرُوفٍ،وَصَلِّ الصَّلاَةَ لِوَقْتِهَا،فَإِنْ وَجَدْتَ الإِمَامَ قَدْ صَلَّى فَقَدْ أَحْرَزْتَ صَلاَتَكَ،وَإِلاَّ فَهِيَ نَافِلَةٌ. رواه مسلم (2) .
إعطاء كل جار حقوقه التي يستحقها،عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ،عَنْ أَبِيهِ،عَنْ جَدِّهِ،أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ دُونَ جَارِهِ مَخَافَةً عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُؤْمِنٍ،وَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ مَنْ لَمْ يَأْمَنْ جَارُهُ بَوَائِقَهُ،أَتَدْرُونَ مَا حَقُّ الْجَارِ ؟ إِنِ اسْتَعَانَكَ أَعَنْتُهُ،وَإِنِ اسْتَقْرَضَكَ أَقْرَضْتَهُ،وَإِنِ افْتَقَرَ عُدْتَ عَلَيْهِ،وَإِنْ مَرِضَ عُدْتَهُ،وَإِنْ مَاتَ شَهِدْتَ جَنَازَتَهُ،وَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ هَنَّأْتَهُ،وَإِنْ أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ عَزَّيْتَهُ،وَلاَ تَسْتَطِيلَ عَلَيْهِ بِالْبِنَاءِ،فَتَحْجُبَ عَنْهُ الرِّيحَ إِلاَّ بِإِذْنِهِ،وَإِذَا شَرَيْتَ فَاكِهَةً فَاهْدِ لَهُ،فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَأَدْخِلْهَا سِرًّا،وَلاَ يَخْرُجْ بِهَا وَلَدُكَ لِيَغِيظَ بِهَا وَلَدَهُ،وَلاَ تُؤْذِهِ بِقِيثَارِ قَدْرَكَ إِلاَّ أَنْ تَغْرِفَ لَهُ مِنْهَا فَمَا زَالَ يُوصِيهِمْ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ،ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : الْجِيرَانُ ثَلاَثَةٌ،فَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ ثَلاَثُ حُقُوقٍ،وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ حَقَّانِ،وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ،فَأَمَّا الَّذِي لَهُ ثَلاَثُ حُقُوقٍ فَالْجَارُ الْمُسْلِمُ الْقَرِيبُ،لَهُ حَقُّ الْإِسْلاَمِ وَحَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ الْقَرَابَةِ،وَأَمَّا الَّذِي لَهُ حَقَّانِ فَالْجَارُ الْمُسْلِمُ،لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ الْإِسْلاَمِ،وَأَمَّا الَّذِي لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ فَالْجَارُ الْكَافِرُ،لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ قَالُوا:يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنُعْطِيهِمْ مِنْ لُحُومِ النُّسُكِ ؟ فَقَالَ:لاَ تُعْطِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ نُسُكِ الْمُسْلِمِينَ. (3)
وعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ،إِنَّ لِى جَارَيْنِ،فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِى قَالَ « إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا ».رواه البخاري (4) .
جـ -آداب عيادة المريض:
المبادرة إلى زيارته في أول المرض.
عن الْأَعْمَشَ،قَالَ: " كُنَّا نَقْعُدُ فِي الْمَجْلِسِ،فَإِذَا فَقَدْنَا الرَّجُلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ سَأَلْنَا عَنْهُ،فَإِنْ كَانَ مَرِيضًا عُدْنَاهُ " (5)
__________
(1) - مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ (204 ) حسن
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6856) وصحيح ابن حبان - (4 / 622) (1718)
(3) - مسند الشاميين (2430و2458) حسن لغيره
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (2259 )
(5) - شعب الإيمان - (11 / 430) صحيح(1/410)
تكرار الزيارة كل يومين أو ثلاثة لمؤانسته وإدخال السرور على قلبه فلقد سميت زيارة المريض ( عيادة) من العودة للزيارة وتكرارها.
عَنْ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزَلْ فِى خُرْفَةِ الْجَنَّةِ ». قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا خُرْفَةُ الْجَنَّةِ قَالَ « جَنَاهَا ». رواه مسلم (1) .
الدعاء للمريض عند قعوده عنده. عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُعَوِّذُ بَعْضَ أَهْلِهِ،يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَيَقُولُ « اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ أَذْهِبِ الْبَاسَ،اشْفِهِ وَأَنْتَ الشَّافِى،لاَ شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ،شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَمًا » رواه البخاري (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَحْضُرْ أَجَلُهُ فَقَالَ عِنْدَهُ سَبْعَ مِرَارٍ أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَكَ إِلاَّ عَافَاهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ ». رواه أبو داود (3) .
تجنب تهويل المرض،وكثرة السؤال عنه،وذكر أحد توفي في مثل مرضه. فعن ابْنِ عَبَّاسٍ،أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ،خَرَجَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فِي وَجَعِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ،فَقَالَ النَّاسُ:يَا أَبَا حَسَنٍ،كَيْفَ أَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ فَقَالَ:أَصْبَحَ بِحَمْدِ اللهِ بَارِئًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:فَأَخَذَ بِيَدِهِ عَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ:أَلاَ تَرَى أَنْتَ ؟ وَاللَّهِ إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - سَيُتَوَفَّى فِي وَجَعِهِ هَذَا،إِنِّي أَعْرِفُ وُجُوهَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عِنْدَ الْمَوْتِ،فَاذْهَبْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَلْنَسْأَلْهُ فِيمَنْ هَذَا الأَمْرُ ؟ فَإِنْ كَانَ فِينَا عَلِمْنَا ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِنَا كَلَّمْنَاهُ،فَأَوْصَى بِنَا،فَقَالَ عَلِيٌّ:وَاللَّهِ لَئِنْ سَأَلْنَاهَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَمَنَعَنَاهَا،لاَ يُعْطِينَاهَا النَّاسُ أَبَدًا،فَوَاللَّهِ لاَ أَسْأَلُهُ أَبَدًا." رواه البخاري (4) .
تبشير المريض،وتطبيب نفسه بالشفاء،وبث روح الثقة في نفسه،ورفع حالته المعنوية،وإدخال السرور على قلبه وتذكيره بثواب الرضا عن الله والصبر على بلائه.
قال تعالى:{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} (80) سورة الشعراء
وإذَا ألمَّ بِي مَرَضٌ فَرَبِّي هوَ الذي يَشْفِينِي مِنَ المَرضِ،ولا يقْدِرُ عَلى شِفَائي غيرُهُ،بما يُقَدِّرُهُ من الأَسْبَابِ المُوصِلَةِ إليهِ . (5)
عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَى الْمَرِيضِ فَنَفِّسُوا لَهُ فِى أَجَلِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يَرُدُّ شَيْئًا وَيُطَيِّبُ نَفْسَهُ ». رواه الترمذي (6) .
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6719 ) -الخرفة : أى اجتناء ثمر الجنة
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (5743 )
(3) - سنن أبي داود - المكنز - (3108 ) صحيح
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 689)(2374) وصحيح البخارى- المكنز - (4447 و6266)
(5) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2894)
(6) - سنن الترمذى- المكنز - (2231 ) ضعيف
فنَفِّسُوا له : نفَّستُ عن المريض : إذا منيته طول الأجل ، وسألت الله أن يطيل له عمره.(1/411)
إظهار شفقته،وعرض خدمته،وعدم التكلم إلا بخير. فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا حَضَرْتُمُ الْمَرِيضَ أَوِ الْمَيِّتَ فَقُولُوا خَيْرًا فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ ». قَالَتْ فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ أَتَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سَلَمَةَ قَدْ مَاتَ قَالَ « قُولِى اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِى وَلَهُ وَأَعْقِبْنِى مِنْهُ عُقْبَى حَسَنَةً ». قَالَتْ فَقُلْتُ فَأَعْقَبَنِى اللَّهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ لِى مِنْهُ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - . (1)
غض البصر عن عورات المريض أو ما يتعلق بحاجاته وأدويته الخاصة.
خفة الجلسة وتجنب القعود لفترة طويلة إلا إذت رغب المريض وأنس بذلك،حرصا على راحته.
طلب الدعاء من المريض،بعد الدعاء له،فإن المريض يكون في حالة قرب والتجاء إلى الله. فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،قَالَ:قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِذَا دَخَلْتَ عَلَى مَرِيضٍ،فَمُرْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَكَ ؛ فَإِنَّ دُعَاءَهُ كَدُعَاءِ الْمَلاَئِكَةِ (2) .
ترغيب المريض بأن يصبر على قضاء الله وأن لا يلج ويستبطئ الشفاء فيدعو على نفسه بالموت. فعَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ،أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،أَنَّهُ قَالَ:لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ،فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ فَاعِلاً فَلْيَقُلْ:أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي،وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي. رواه البخاري ومسلم (3) .
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ،عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ،قَالَ:سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ،يَقُولُ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ،إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ خَيْرًا،وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ. (4)
توصية أهل المريض والذين يقومون بخدمته بحسن معاملته والصبر على ما يصدر منه من أقوال وأفعال.
د-آداب الصلة بالميت "التعزية":
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (2168 ) -أعقب : بدل وعوض
(2) - سنن ابن ماجة- طبع مؤسسة الرسالة - (2 / 435)(1441)
إسناد صحيح لكنه منقطع ميمون بن مهران لم يسمع من عمر . وله شاهد غير قوي الشعب (6214) وأعله ابن حجر في التهذيب بعلة خفية وهي أن كثير بن هشام رواه عن عيسى بن إبراهيم الهاشمي عن جعفر بن برقان.. وعيسى متروك وتابعه الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله- في الضعيفة (1004)
أقول : ما قالاه مجرد احتمال لكن سند ابن ماجه ثنا جعفر بن مسافر ثني كثير بن هشام ثنا جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران عن عمر . وجعفر صدوق كما في الكاشف (811) وقد روى عنه أبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم وهو يرويه عن شيخه كثير بصيغة التحديث وكثير يرويه عن جعفر بصيغة التحديث ولم يوصف أحد منهم بالتدليس ، كما أن كثير بن هشام مجمع على ثقته وهو من أروى الناس عن جعفر بن برقان كما في التهذيب فلم لا تكون الرواية الثانية التي فيها عيسى بن إبراهيم وهم من راويها وغلط ! ولاسيما أن جعفر بن مسافر من شيوخ ابن ماجه المباشرين . ومن هنا فإن المنذري والبوصيري والنووي وغيرهم أعلوه فقط بالإنقطاع . كما أن الحافظ ابن حجر حسنه في الفتح وأعله بالإنقطاع وهذا هو الراجح لأن الفتح مؤلف بعد التهذيب بكثير وهو من الكتب التي رضى عنها .. الفيض (595) فالحديث حسن لغيره
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (5671) وصحيح مسلم- المكنز -(6990) صحيح ابن حبان - (3 / 248) (968)
(4) - صحيح ابن حبان - (7 / 267) (3000) صحيح(1/412)
الدعاء للميت عند العلم بموته. عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " الْمَوْتُ فَزَعٌ،فَإِذَا بَلَغَ أَحَدَكُمْ وَفَاةُ أَخِيهِ فَلْيَقُلْ:إِنَّا لِلَّهِ،وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ،وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ،اللَّهُمَّ اكْتُبْهُ عِنْدَكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ،وَاجْعَلْ كِتَابَهُ فِي عِلِّيِّينَ،وَاخْلُفْهُ فِي أَهْلِهِ فِي الْغَابِرِينَ،وَلَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ،وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ " رواه ابن السني (1) .
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ،أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عَلَى الْمَيِّتِ،اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَحْيَائِنَا وَأَمْوَاتِنَا الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهِمْ وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَاجْعَلْ قُلُوبَهُمْ عَلَى قُلُوبِ خِيَارِهِمَ،اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِفُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ ذَنْبَهُ،وَأَلْحِقْهُ بِنَبِيِّهِ مُحَمَد - صلى الله عليه وسلم - , اللَّهُمَّ ارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمُهْتَدِينَ،وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ،وَاجْعَلْ كِتَابَهُ فِي عِلِّيِّينَ،وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ رَبَّ الْعَالَمِينَ،اللَّهُمَّ لاَ تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ،وَلاَ تُضِلَّنَا بَعْدَهُ. (2)
الصلاة على الميت واتباع الجنازة حتى يفرغ من دفنها. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنِ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهَا،ثُمَّ يَقْعُدُ حَتَّى يُوضَعَ فِي قَبْرِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ وَلَهُ قِيرَاطَانِ مِنَ الأَجْرِ وَهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ،وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ يُوضَعَ فِي الْقَبْرِ،فَلَهُ قِيرَاطٌ. رواه البخاري (3) .
الموعظة عند القبر أثناء الدفن والدعاء للميت بعد ردم التراب. فعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ:أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،كَانَ فِي جِنَازَةٍ فَأَخَذَ عُودًا،فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِ فِي الأَرْضِ،فقَالَ:مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ،فقَال رَجُلٌ:أَلاَ نَتَّكِلُ ؟ فقَالَ:اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ ثُمَّ قَرَأَ:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى،فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى،وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى،فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:]. رواه البخاري (4) .
وعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ « اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ ». رواه أبو داود (5) .
وعَنْ عُثْمَانَ،قَالَ:وَقَفَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى قَبْرِ رَجُلٍ وَهُوَ يُدْفَنُ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَالَ:اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ وَسَلُوا اللَّهَ لَهُ بالثَّبَاتِ ؛ فَإِنَّهُ يُسْأَلُ الآنَ. (6)
__________
(1) - عَمَلُ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لِابْنِ السُّنِّيِّ (560 ) والمعجم الكبير للطبراني - (10 / 206) (12299) حسن
عِلِّيُّون : اسم للسماء السابعة، وقيل : هو اسمٌ لدِيوَان الملائكة الحَفَظَة، تُرْفَع إليه أعمالُ الصالحين من العباد، وقيل : أراد أعْلَى الأمْكِنَة وأشْرَفَ المرَاتِب من اللّه في الدار الآخرة. - الغابرين : الباقين - الفِتْنة : الامْتِحانُ والاخْتِبار
(2) - مصنف ابن أبي شيبة - (3 / 293) (11480) حسن
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (47 ) وصحيح ابن حبان - (7 / 350) (3080)
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : وَهُمَا مِثْلُ أُحُدٍ يُرِيدُ بِهِ أَحَدَهُمَا.
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (4946 ) وصحيح ابن حبان - (2 / 45) (334)
(5) - سنن أبي داود - المكنز - (3223 ) صحيح
(6) - مسند البزار ( المطبوع باسم البحر الزخار - (2 / 91) (445) صحيح(1/413)
جاء في الموسوعة الفقهية (1) : "قَال الطَّحْطَاوِيُّ:إِذَا فَرَغُوا مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ يُسْتَحَبُّ الْجُلُوسُ ( الْمُكْثُ ) عِنْدَ قَبْرِهِ بِقَدْرِ مَا يُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهُ،( فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَال:إِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا،ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْل قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ،وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُل رَبِّي ) (2) يَتْلُونَ الْقُرْآنَ وَيَدْعُونَ لِلْمَيِّتِ.وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى الْقَبْرِ بَعْدَ الدَّفْنِ أَوَّل سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَخَاتِمَتَهَا. (3)
مساعدة أهل المتوفى بتقديم ما يمكن من الخدمات أثناء تجهيز الميت وخروجه ودفنه والمساعدة في إعداد الطعام لأهل الفقيد لأنهم في وضع لا يساعدهم على تحضير الطعام والانشغال به.فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « اصْنَعُوا لآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا فَإِنَّهُ قَدْ أَتَاهُمْ أَمْرٌ شَغَلَهُمْ ». رواه أبو داود (4)
المبادرة إلى التعزية مع إظهار الحزن والتأسف لمن يواسيهم ويعزيهم ومع الترحم على الميت وتعداد مآثره. فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ ». رواه الترمذي (5) .
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اذْكُرُوا مَحَاسِنَ مَوْتَاكُمْ وَكُفُّوا عَنْ مَسَاوِئِهِمْ." (6)
وعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تَسُبُّوا الأَمْوَاتَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا » (7) .
التلفظ بالمأثور من الكلام والانتباه إلى تجنب الزلل فيه والتجاوز إلى ألفاظ لا تليق بالمسلم ويمكن أَنْ يَقُولَ:أَعْظَمُ اللَّهُ أَجْرَك وَأَحْسَنَ عَزَاك،وَغَفَرَ لِمَيِّتِك (8) .
وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ أَهْل الْعِلْمِ:أَنْ يَقُول:إِنَّ فِي اللَّهِ عَزَاءً مِنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ،وَخَلَفًا مِنْ كُلِّ فَائِتٍ،فَبِاللَّهِ فَثِقُوا،وَإِيَّاهُ فَارْجُوا،فَإِنَّمَا الْمَحْرُومُ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابُ،وَالسَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ " (9)
بذل النصيحة لأهل الميت بالصبر والسلوان،وتذكيرهم بثواب الله،وتقبل قضائه وقدره،وبأجر المحتسب الصابر ومنعهم من لطم الخدود،وشق الجيوب،والصراخ والنحيب،وذلك بالموعظة الحسنة.
__________
(1) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (ج 16 / ص 42)
(2) - أخرجه مسلم ( 336) .
(3) - انظر المعجم الكبير للطبراني - (ج 14 / ص 108)(15833 ) والقراءة على القبور(1) وهو حسن موقوف ، ورفعه الطبراني
(4) - سنن أبي داود - المكنز - (3134 ) صحيح لغيره
(5) - سنن الترمذى- المكنز - (1094 ) حسن
(6) - صحيح ابن حبان - (7 / 290) (3020) صحيح
(7) - صحيح البخارى- المكنز - (1393 ) -أفضوا : وصلوا
(8) - الفتاوى الكبري لابن تيمية - (3 / 430) و الفقه الإسلامي وأدلته - (2 / 684)
(9) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (12 / 289) و المستدرك للحاكم (4391و4392) فيه ضعف(1/414)
قال تعالى:{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) } [البقرة:155 - 157].
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنينَ بِأَنَّهُ سَيَبْلُوهُمْ وَيَخْتَبِرُهُمْ بِقَليلٍ ( بِشَيءٍ ) مِنْ الخَوْفِ والجُوعِ،وَبِذَهَابِ بَعْضِ المَالِ،وَبِمَوتِ بَعْضِ الأَصْحَابِ وَالأَقَارِبِ وَالأَحْبَابِ،وَبِنَقْصِ غِلاَلِ المَزَارِعِ...فَمَنْ صَبَرَ عَلَى قَضَاءِ اللهِ وَحُكْمِهِ أَثَابَهُ،وَمَنْ قَنَطَ وَلَجَّ أَحَلَّ بِهِ عِقَابَهُ .
أّمَّا الصَّابِرُونَ الذِينَ خَصَّهُمُ اللهُ بِالبُشْرَى فَهُمُ الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ الخَيْرَ وَالشَّرَّ مِنَ اللهِ،وَإِذَا نَزَلَتْ بِهِمْ مُصِيبَةٌ صَبَرُوا،وَتَمَسَّكُوا بِقَولِهِمْ:إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِليهِ رَاجِعُونَ،أَيْ إِنَّهُم عَبيدُ اللهِ وَمُلْكُهُ،وَإِنَّهُمْ رَاجِعُونَ إِليهِ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ.يُثنِي اللهُ جَلَّ شَأْنُهُ عَلَى هَؤُلاءِ الصَّابِرِينَ،وَيُخْبِرُ بَأَنَّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ،وَأَنَّهُمْ يَجِدُونَ أَثَرَهَا فِي بَرْدِ قُلُوبِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ المُصِيبَةِ،وَأَنَّهُمْ هُمُ المُهْتَدُونَ إِلى طَريقِ الخَيْرِ،وَإِلى الحَقِّ والصَّوابِ،وَأَنَّهُمُ اسْتَسْلَمُوا لِقَضَاءِ اللهِ فَلَمْ يَسْتَحْوِذِ الجَزَعُ عَلَيهِمْ . (1)
فلا بد من تربية النفوس بالبلاء،ومن امتحان التصميم على معركة الحق بالمخاوف والشدائد،وبالجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات .. لا بد من هذا البلاء ليؤدي المؤمنون تكاليف العقيدة،كي تعز على نفوسهم بمقدار ما أدوا في سبيلها من تكاليف. والعقائد الرخيصة التي لا يؤدي أصحابها تكاليفها لا يعز عليهم التخلي عنها عند الصدمة الأولى. فالتكاليف هنا هي الثمن النفسي الذي الذي تعز به العقيدة في نفوس أهلها قبل أن تعز في نفوس الآخرين. وكلما تألموا في سبيلها،وكلما بذلوا من أجلها .. كانت أعز عليهم وكانوا أضن بها. كذلك لن يدرك الآخرون قيمتها إلا حين يرون ابتلاء أهلها بها وصبرهم على بلائها .. إنهم عندئذ سيقولون في أنفسهم:لو لم يكن ما عند هؤلاء من العقيدة خيرا مما يبتلون به وأكبر ما قبلوا هذا البلاء،ولا صبروا عليه .. وعندئذ ينقلب المعارضون للعقيدة باحثين عنها،مقدرين لها،مندفعين إليها .. وعندئذ يجيء نصر اللّه والفتح ويدخل الناس في دين اللّه أفواجا ..
ولا بد من البلاء كذلك ليصلب عود أصحاب العقيدة ويقوى. فالشدائد تستجيش مكنون القوى ومذخور الطاقة وتفتح في القلب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن في نفسه إلا تحت مطارق الشدائد. والقيم والموازين والتصورات ما كانت لتصح وتدق وتستقيم إلا في جو المحنة التي تزيل الغبش عن العيون،والران عن القلوب.
وأهم من هذا كله،أو القاعدة لهذا كله .. الالتجاء إلى اللّه وحده حين تهتز الأسناد كلها،وتتوارى الأوهام وهي شتى،ويخلو القلب إلى اللّه وحده. لا يجد سندا إلا سنده. وفي هذه اللحظة فقط تنجلي الغشاوات،وتتفتح البصيرة،وينجلي الأفق على مد البصر .. لا شيء إلا اللّه .. لا قوة إلا قوته .. لا
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 162)(1/415)
حول إلا حوله .. لا إرادة إلا إرادته .. لا ملجأ إلا إليه .. وعندئذ تلتقي الروح بالحقيقة الواحدة التي يقوم عليها تصور صحيح ..
والنص القرآني هنا يصل بالنفس إلى هذه النقطة على الأفق :«وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا:إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» ..
إنا للّه .. كلنا .. كل ما فينا .. كل كياننا وذاتيتنا .. للّه .. وإليه المرجع والمآب في كل أمر وفي كل مصير .. التسليم .. التسليم المطلق .. تسليم الالتجاء الأخير المنبثق من الالتقاء وجها لوجه بالحقيقة الوحيدة،وبالتصور الصحيح.
هؤلاء هم الصابرون .. الذين يبلغهم الرسول الكريم بالبشرى من المنعم الجليل ..
وهؤلاء هم الذين يعلن المنعم الجليل مكانهم عنده جزاء الصبر الجميل:«أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ،وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» ..صلوات من ربهم .. يرفعهم بها إلى المشاركة في نصيب نبيه الذي يصلي عليه هو وملائكته سبحانه .. وهو مقام كريم .. ورحمة .. وشهادة من اللّه بأنهم هم المهتدون ..وكل أمر من هذه هائل عظيم .. (1)
وعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ،قَالَ:كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَجَاءَ رَسُولُ امْرَأَةٍ مِنْ بَنَاتِهِ،فقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،أَرْسَلَتْ إِلَيْكَ ابْنَتُكَ أَنْ تَأْتِيَهَا،فَإِنَّ صَبِيًّا لَهَا فِي الْمَوْتِ،فقَالَ:ائْتِهَا فَقُلْ لَهَا:إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ،وَلَهُ مَا أَعْطَى،وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى،فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ،قَالَ:فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ رَجَعَ،فقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،إِنَّهَا تُقْسِمُ عَلَيْكَ إِلاَّ جِئْتَهَا،فَقَامَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَقُمْنَا مَعَهُ رَهْطٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَدَخَلْنَا،فَرُفِعَ إِلَيْهِ الصَّبِيُّ،وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ فِي صَدْرِهِ،فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ،فقَالَ لَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ:مَا هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ:رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ،وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ." متفق عليه (2) .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ،وَشَقَّ الْجُيُوبَ،وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ » (3) .
ترك الابتسام عند التعزية وتجنب الضحك أو اللغو بباطل الكلام أو قلة الاكتراث فكلها من علامات قسوة القلب،ومن لم يتعظ بالموت لم يتعظ بشيء. فعن أبي الدَّرْدَاءِ أنه كَانَ إِذَا رَأَى الْجَنَازَةَ قَالَ:اغْدِي فَإِنَّا رَائِحُونَ،وَرُوحِي فَإِنَّا غَادُونَ،مَوْعِظَةٌ بَلِيغَةٌ وَغَفْلَةٌ سَرِيعَةٌ،كَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظًا،يَذْهَبُ الأَوَّلُ فَالأَوَّلُ،وَيَبْقَى الآخِرُ لاَ حُلْمَ لَهُ." (4)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 145)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (7377 ) وصحيح مسلم- المكنز - (2174) وصحيح ابن حبان - (2 / 208) (461)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (1294 )
(4) - الزهد أبي داود 275 - (1 / 222) (261) حسن موقوف
الغدو : السير والذهاب والتبكير أول النهار - الرواح : نقيض الصباح وهو اسم للوقت من زوال الشمس إلى الليل -الغدو : السير والذهاب والتبكير أول النهار والمراد أننا نلحق بنفس المصير في وقته المحتوم(1/416)
التعزية خلال ثلاثة أيام،لا زيادة عليها،إلا لمسافر،فعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى هَالِكٍ أَكْثَرِ مِنْ ثَلاَثٍ،إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ،فَإِنَّهَا تَحُدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. (1)
وعَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ،أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ بِهَذِهِ الأَحَادِيثِ الثَّلاَثِ،قَالَتْ زَيْنَبُ:دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ حِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ،فَدَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِطِيبِ فِيهِ صُفْرَةٌ خَلُوقٌ،أَوْ غَيْرُهُ،فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيَةً،ثُمَّ مَسَّتْ بِهِ بَطْنَهَا،ثُمَّ قَالَتْ:وَاللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ،إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. (2)
وعَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ،أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ بِهَذِهِ الأَحَادِيثِ الثَّلاَثِ،قَالَتْ زَيْنَبُ:دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ حِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ،فَدَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِطِيبِ فِيهِ صُفْرَةٌ خَلُوقٌ،أَوْ غَيْرُهُ،فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيَةً،ثُمَّ مَسَّتْ بِهِ بَطْنَهَا،ثُمَّ قَالَتْ:وَاللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ،إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.
وَقَالَتْ زَيْنَبُ:دَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ حِينَ تُوُفِّيَ أَخُوهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشٍ فَدَعَتْ بِطِيبٍ،فَمَسَّتْ مِنْهُ،ثُمَّ قَالَتْ:وَاللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ:لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثَ لَيَالٍ،إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا.
قَالَتْ زَيْنَبُ:وَسَمِعْتُ أُمِّي أُمَّ سَلَمَةَ تَقُولُ:جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَتْ:يَا رَسُولَ اللهِ،إِنَّ ابْنَتِي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا وَقَدِ اشْتَكَتْ عَيْنَاهَا فَنُكَحِّلُهَا ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ،مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا،كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ:لاَ،إِنَّمَا هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ،وَقَدْ كَانَتْ إِحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَرْمِي بِالْبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الْحَوْلِ. (3)
وعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ،إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ،فَإِنَّهَا تَحُدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا،لاَ تَكْتَحِلُ،وَلاَ تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا،إِلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ،وَلاَ تَمَسُّ طِيبًا إِلاَّ عِنْدَ أَدْنَى طُهْرِهَا إِذَا اغْتَسَلَتْ مِنْ مَحِيضِهَا نُبْذَةَ قُسْطٍ وَأَظْفَارٍ. (4)
يستحب قراءة القرآن والدعاء للميت عند حضور الجنازة وعند التعزية.
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (10 / 137) (4301) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (1280 ) وصحيح مسلم- المكنز - (3802) وصحيح ابن حبان - (10 / 140) (4304)
(3) - صحيح ابن حبان - (10 / 140) (4304) صحيح
(4) - صحيح ابن حبان - (10 / 142) (4305) صحيح(1/417)
ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى جَوَازِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلْمَيِّتِ وَإِهْدَاءِ ثَوَابِهَا لَهُ،قَال ابْنُ عَابِدِينَ نَقْلاً عَنِ الْبَدَائِعِ:وَلاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَجْعُول لَهُ مَيِّتًا أَوْ حَيًّا،وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لاَ فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَنْوِيَ بِهِ عِنْدَ الْفِعْل لِلْغَيْرِ أَوْ يَفْعَلَهُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَجْعَل ثَوَابَهُ لِغَيْرِهِ .
وَقَال الإِْمَامُ أَحْمَدُ:الْمَيِّتُ يَصِل إِلَيْهِ كُل شَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ،لِلنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِيهِ ؛ وَلأَِنَّ النَّاسَ يَجْتَمِعُونَ فِي كُل مِصْرٍ وَيَقْرَءُونَ يُهْدُونَ لِمَوْتَاهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إِجْمَاعًا،قَالَهُ الْبُهُوتِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ (1) .
وَذَهَبَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى كَرَاهَةِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ لِلْمَيِّتِ وَعَدَمِ وُصُول ثَوَابِهَا إِلَيْهِ،لَكِنِ الْمُتَأَخِّرُونَ عَلَى أَنَّهُ لاَ بَأْسَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالذِّكْرِ وَجَعْل الثَّوَابِ لِلْمَيِّتِ وَيَحْصُل لَهُ الأَْجْرُ .
قَال الدُّسُوقِيُّ:فِي آخِرِ نَوَازِل ابْنِ رُشْدٍ فِي السُّؤَال عَنْ قَوْله تعالى: { وَأَنْ لَيْسَ لِلإِْنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى } (سورة النجم / 39 )،قَال:وَإِنْ قَرَأَ الرَّجُل وَأَهْدَى ثَوَابَ قِرَاءَتِهِ لِلْمَيِّتِ جَازَ ذَلِكَ وَحَصَل لِلْمَيِّتِ أَجْرُهُ .
وَقَال ابْنُ هِلاَلٍ:الَّذِي أَفْتَى بِهِ ابْنُ رُشْدٍ وَذَهَبَ إِلَيْهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّتِنَا الأَْنْدَلُسِيِّينَ أَنَّ الْمَيِّتَ يَنْتَفِعُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَيَصِل إِلَيْهِ نَفْعُهُ وَيَحْصُل لَهُ أَجْرُهُ إِذَا وَهَبَ الْقَارِئُ ثَوَابَهُ لَهُ،وَبِهِ جَرَى عَمَل الْمُسْلِمِينَ شَرْقًا وَغَرْبًا،وَوَقَّفُوا عَلَى ذَلِكَ أَوْقَافًا،وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ الأَْمْرُ مُنْذُ أَزْمِنَةٍ سَالِفَةٍ (2)
وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لاَ يَصِل ثَوَابُ الْقِرَاءَةِ إِلَى الْمَيِّتِ .
وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إِلَى وُصُول ثَوَابِ الْقِرَاءَةِ لِلْمَيِّتِ .قَال سُلَيْمَانُ الْجَمَل:ثَوَابُ الْقِرَاءَةِ - لِلْقَارِئِ،وَيَحْصُل مِثْلُهُ أَيْضًا لِلْمَيِّتِ لَكِنْ إِنْ كَانَ بِحَضْرَتِهِ،أَوْ بِنِيَّتِهِ،أَوْ يَجْعَل ثَوَابَهَا لَهُ بَعْدَ فَرَاغِهَا عَلَى الْمُعْتَمَدِ فِي ذَلِكَ .وَصَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَوْ سَقَطَ ثَوَابُ الْقَارِئِ لِمُسْقِطٍ كَأَنْ غَلَبَ الْبَاعِثُ الدُّنْيَوِيُّ كَقِرَاءَتِهِ بِأُجْرَةٍ فَإِنَّهُ لاَ يَسْقُطُ مِثْلُهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَيِّتِ .
وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَوِ اسْتُؤْجِرَ لِلْقِرَاءَةِ لِلْمَيِّتِ وَلَمْ يَنْوِهِ وَلاَ دَعَا لَهُ بَعْدَهَا وَلاَ قَرَأَ لَهُ عِنْدَ قَبْرِهِ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ وَاجِبِ الإِْجَارَةِ (3)
قال الشافعي (4) :
إني معزيك لا أني على ثقة من الخلود ولكن سنة الدين
فما المعزى بباق بعد ميته ولا المعزي ولو عاش إلى حين.
هـ- الأدب مع الكافر :
__________
(1) - حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1 / 605 ، وكشاف القناع 2 / 147 ، الإنصاف 2 / 558 - 560 .
(2) - حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 1 / 423 .
(3) - نهاية المحتاج 6 / 93 ، وحاشية القليوبي وعميرة 3 / 175 - 176 ، وحاشية الجمل على شرح المنهج 4 / 67 ، 68 .الموسوعة الفقهية الكويتية - (33 / 60)
(4) - الأذكار للنووي - (1 / 151) والكبائر - (1 / 73) وكتاب تسلية أهل المصائب - (1 / 46)(1/418)
يعتقد المسلمُ أن سائر الملل والأديان باطلةٌ،وأن أصحابها كفارٌ إلا الدين الإسلامي الحنيف،فإنه الدينُ الحقُّ،وإلا أصحابه فإنهم المؤمنون المسلمون،وذلك لقول الله تعالى:{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (19) سورة آل عمران
إن الدين الذي ارتضاه الله لخلقه وأرسل به رسله،ولا يَقْبَل غيره هو الإسلام،وهو الانقياد لله وحده بالطاعة والاستسلام له بالعبودية،واتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين حتى خُتموا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ،الذي لا يقبل الله مِن أحد بعد بعثته دينًا سوى الإسلام الذي أُرسل به. وما وقع الخلاف بين أهل الكتاب من اليهود والنصارى،فتفرقوا شيعًا وأحزابًا إلا من بعد ما قامت الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب; بغيًا وحسدًا طلبًا للدنيا. ومن يجحد آيات الله المنزلة وآياته الدالة على ربوبيته وألوهيته،فإن الله سريع الحساب،وسيجزيهم بما كانوا يعملون. (1)
وقوله تعالى:{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (85) سورة آل عمران
ومن يطلب دينًا غير دين الإسلام الذي هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة،والعبودية،ولرسوله النبي الخاتم محمد - صلى الله عليه وسلم - بالإيمان به وبمتابعته ومحبته ظاهرًا وباطنًا،فلن يُقبل منه ذلك،وهو في الآخرة من الخاسرين الذين بخسوا أنفسهم حظوظها. (2)
وقوله تعالى:{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ..} (3) سورة المائدة
اليوم أكملت لكم دينكم دين الإسلام بتحقيق النصر وإتمام الشريعة،وأتممت عليكم نعمتي بإخراجكم من ظلمات الجاهلية إلى نور الإيمان،ورضيت لكم الإسلام دينًا فالزموه،ولا تفارقوه،وقوموا به شكرا لربكم،واحمدوا الذي مَنَّ عليكم بأفضل الأديان وأشرفها وأكملها.
فبهذه الأخبار الإلهية الصادقة علِم المسلمُ أن سائر الأديان التي قبل الإسلام قد نسخت بالإسلام،وأن الإسلام هو دين البشرية العامُّ،فلم يقبل الله من أحد ديناً غيره،ولا يرضى بشرع سواه،ومن هنا كان المسلم يرى أن كل من لم يدن لله تعالى بالإسلام فهو كافر،ويلتزم حياله بالآداب التالية :
1- عدم إقراره على الكفر،وعدم الرضاء به ؛ إذ الرضا بالكفر كفرٌ.قال تعالى:{إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} (7) سورة الزمر
__________
(1) - التفسير الميسر - (1 / 318)
(2) - التفسير الميسر - (1 / 384)(1/419)
2- بغضه ببغض الله تعالى له؛إذ الحب في الله والبغض في الله،وما دام الله سبحانه أبغضه لكفره به،فالمسلم يبغض الكافر ببغض الله تعالى له.فعَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ،عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا عَبْدَ اللهِ،أَيُّ عُرَى الْإِسْلَامِ أَوْثَقُ ؟ " قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: " الْوَلَايَةُ فِي اللهِ،الْحَبُّ فِي اللهِ وَالْبُغْضُ فِي اللهِ،يَا عَبْدَ اللهِ، " (1)
وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ،قَالَ:كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:أَتَدْرُونَ أَيُّ عُرَى الإِيمَانِ أَوْثَقُ ؟ قُلْنَا:الصَّلاَةُ قَالَ:الصَّلاَةُ حَسَنَةٌ وَلَيْسَ بِذَاكَ قُلْنَا:الصِّيَامُ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى ذَكَرْنَا الْجِهَادَ،فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَوْثَقُ عُرَى الإِيمَانِ الْحَبُّ فِي اللهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ." (2)
3-عدم موالالته ومودته لقوله تعالى:{ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (22) سورة المجادلة
لاَّ تَجِدُ قَوْماً يَجْمَعُونَ بَيْنَ الإِيْمَانِ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ،وَبَينَ مُوَادَّةِ أَعْدَاءِ اللهِ وَأَعْدَاءِ رَسُولِهِ،لأَنَّ المُؤْمِنِينَ حَقّاً لاَ يُوَالُونَ الكَافِرِينَ،وَلَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ الكَافِرُونَ هُمْ أَهْلَهُمْ،وَأَقْرِبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ الذِينَ هُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيهِمْ،وَالمُؤْمِنُونَ الذِينَ يَمْتَنِعُونَ عَنْ مُوَادَّةِ الكَافِرِينَ،وَلَوْ كَانُوا أَقْرَبَاءَهُمْ وَعَشِيرَتَهُمْ،هُمُ الذِينَ ثَبَّتَ اللهُ الإِيْمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ،وَزَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى،وَقَوَّاهُمْ بِطُمَأْنِينَةِ القَلْبِ،وَالثَّبَاتِ عَلَى الحَقِّ { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ }،وَسَيُدْخِلُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ،وَيَبْقَوْنَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً،رَضِيَ اللهَ عَنْهُمْ،وَأَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ،فَأَدْخَلَهُمُ الجَنَّاتِ،وَرَضُوا بِمَا آتَاهُم اللهُ عَنْهُمْ،وَأَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ،فَأَدْخَلَهُمُ الجَنَّاتِ،وَرَضُوا بِمَا آتَاهُم اللهُ مِنْ فَضْلِهِ،وَبِمَا عَوَّضَهُمْ بِهِ لاِسْخَاطِهِم الأَقَارِبَ وَالأَبْنَاءَ.وَهَؤُلاَءِ هُم أَنْصَارُ اللهِ،وَجُنْدُهُ،وَحِزْبُهُ،وَأَهْلُ كَرَامَتِهِ،وَهُمْ أَهْلُ الفَلاَحِ وَالسَّعَادَةِ والنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ . (3)
4- إنصافه والعدل معه وإسداء الخير له إن لم يكن محارباً لقوله تعالى:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (8) سورة الممتحنة
إِنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يَنْهَاكُمْ عَنِ الإِحْسَانِ إِلَى الكُفَّارِ الذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ،وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ،وَلَمْ يُعَاوِنُوا فِي إِخْرَاجِكُمْ مِنْهَا،وَلاَ يَمْنَعُكُمْ مِنْ إِكْرَامِهِمْ،وَمَنْحِهِمْ صِلَتَكُمْ،لأَنَّ اللهَ يُحِبُّ أَهْلَ البِرِّ والتَّوَاصُل .
__________
(1) - شعب الإيمان - (12 / 73)(9064 ) صحيح لغيره
(2) - مسند الطيالسي - (2 / 110) (783) حسن لغيره
(3) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5004)(1/420)
5- يرحمه بالرحمة العامة،كإطعامه إن جاع،وسقيه إن عطش،ومداواته إن مرض،وكإنقاذه من تهلكة،وتجنيبه الأذى،فعَنْ عَبْدِ اللهِ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:ارْحَمْ مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكَ مَنْ فِي السَّمَاءِ. (1)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ،يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ،ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ ..". (2)
6- عدم أذيته في ماله أو دمه أو عرضه إن كان غير محارب،ولا محرض عليها،فعَنْ أَبِي ذَرٍّ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ:يَا عِبَادِي،إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي،وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا،فَلاَ تَظَّالَمُوا .." (3)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ » . (4)
7- جواز الإهداء له وقبول هديته،وأكل طعامه إن كان كتابيا ( يهوديًّا أو نصرانيًّاً) لقوله تعالى :{الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (5) سورة المائدة
ومن تمام نعمة الله عليكم اليوم -أيها المؤمنون- أن أَحَلَّ لكم الحلال الطيب،وذبائحُ اليهود والنصارى -إن ذكَّوها حَسَبَ شرعهم- حلال لكم وذبائحكم حلال لهم. وأَحَلَّ لكم -أيها المؤمنون- نكاح المحصنات،وهُنَّ الحرائر من النساء المؤمنات،العفيفات عن الزنى،وكذلك نكاحَ الحرائر العفيفات من اليهود والنصارى إذا أعطيتموهُنَّ مهورهن،وكنتم أعِفَّاء غير مرتكبين للزنى،ولا متخذي عشيقات،وأمِنتم من التأثر بدينهن. ومن يجحد شرائع الإيمان فقد بطل عمله،وهو يوم القيامة من الخاسرين. (5)
وعَنْ عَائِشَةَ:أَنَّ أَسْمَاءَ سَأَلَتِ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،عَنْ أُمٍّ لَهَا مُشْرِكَةٍ،قَالَتْ:جَاءَتْنِي رَاغِبَةً رَاهِبَةً،أَصِلُهَا ؟ قَالَ:نَعَمْ." (6)
__________
(1) - مسند الطيالسي - (1 / 262)(333) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 592)(6494) صحيح لغيره
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (6737 ) وصحيح ابن حبان - (2 / 385) (619)
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (2447)وصحيح مسلم- المكنز -(6742)
(5) - التفسير الميسر - (2 / 179)
قلت : هذا اليوم غير موجود فإباحة الزواج من الكتابية كان في العهد المدني بل في آخره ، ووسط المجتمع الإسلامي ، فليس لها تأثير على الأولاد ولا على الزوج ، وأما اليوم فلا ، حتى تتحقق الشروط ، وتتوفر الدواعي ...
(6) - صحيح ابن حبان - (2 / 198) (453) صحيح(1/421)
وعن هِشَامَ بْنِ عُرْوَةَ أَخْبَرَنِى أَبِى أَخْبَرَتْنِى أَسْمَاءُ ابْنَةُ أَبِى بَكْرٍ - رضى الله عنهما - قَالَتْ أَتَتْنِى أُمِّى رَاغِبَةً فِى عَهْدِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَأَلْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - آصِلُهَا قَالَ « نَعَمْ ».قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (8) سورة الممتحنة (1) .
8- عدم إنكاحه المؤمنة،وجواز نكاح الكتابيات وسط المجتمع الإسلامي إن كان هناك ثمة جاحة لذلك وأمنت الفتنة الأولاد،قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (10) سورة الممتحنة
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه،إذا جاءكم النساء المؤمنات مهاجرات من دار الكفر إلى دار الإسلام،فاختبروهن؛ لتعلموا صدق إيمانهن،الله أعلم بحقيقة إيمانهن،فإن علمتموهن مؤمنات بحسب ما يظهر لكم من العلامات والبينات،فلا تردُّوهن إلى أزواجهن الكافرين،فالنساء المؤمنات لا يحلُّ لهن أن يتزوجن الكفار،ولا يحلُّ للكفار أن يتزوجوا المؤمنات،وأعطوا أزواج اللاتي أسلمن مثل ما أنفقوا عليهن من المهور،ولا إثم عليكم أن تتزوجوهن إذا دفعتم لهنَّ مهورهن. ولا تمسكوا بنكاح أزواجكم الكافرات،واطلبوا من المشركين ما أنفقتم من مهور نسائكم اللاتي ارتددن عن الإسلام ولحقن بهم،وليطلبوا هم ما أنفقوا من مهور نسائهم المسلمات اللاتي أسلمن ولحقن بكم،ذلكم الحكم المذكور في الآية هو حكم الله يحكم به بينكم فلا تخالفوه. والله عليم لا يخفى عليه شيء،حكيم في أقواله وأفعاله. (2)
وقال تعالى:{وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (221) سورة البقرة
ولا تتزوجوا -أيها المسلمون- المشركات عابدات الأوثان،حتى يدخلن في الإسلام. واعلموا أن امرأة مملوكة لا مال لها ولا حسب،مؤمنةً بالله،خير من امرأة مشركة،وإن أعجبتكم المشركة الحرة. ولا تُزَوِّجوا نساءكم المؤمنات -إماء أو حرائر- للمشركين حتى يؤمنوا بالله ورسوله. واعلموا أن عبدًا مؤمنًا مع فقره،خير من مشرك،وإن أعجبكم المشرك. أولئك المتصفون بالشرك رجالا ونساءً يدعون
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (5978 )
(2) - التفسير الميسر - (10 / 110)(1/422)
كل مَن يعاشرهم إلى ما يؤدي به إلى النار،والله سبحانه يدعو عباده إلى دينه الحق المؤدي بهم إلى الجنة ومغفرة ذنوبهم بإذنه،ويبين آياته وأحكامه للناس; لكي يتذكروا،فيعتبروا. (1)
9- تشميته إذا عطس وحمد الله،بأن يقول له:يهديكم الله ويصلح بالكم،فعَنْ أَبِي مُوسَى،قَالَ: كَانَتِ الْيَهُودُ يَتَعَاطَسُونَ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَجَاءَ أَنْ يَقُولَ: يَرْحَمُكُمُ اللهُ،وَكَانَ يَقُولُ: " يَهْدِيكُمُ اللهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ " (2)
وأما المسلم إذا عطس وحمد الله،فنقول له بما ورد عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ.وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ.فَإِذَا قَالَ لَهُ يَرْحَمُكَ اللَّهُ.فَلْيَقُلْ يَهْدِيكُمُ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ ». (3)
10- لا يبدأه بالسلام،وإن سلَّم رد عليه بقوله:وعليكم،فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،أَنَّ يَهُودِيًّا سَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ السَّامُ عَلَيْكَ قَالَ:رُدُّوهُ عَلَيَّ.قَالَ:أَقُلْتَ:السَّامُ عَلَيْكَ ؟ قَالَ:نَعَمْ.فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقُولُوا:وَعَلَيْكَ." (4)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقُولُوا:وَعَلَيْكُمْ. (5)
11- يضطره عند المرور به إلى أضيق الطريق،فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ تَبْدَؤُوا أَهْلَ الْكِتَابِ بِالسَّلاَمِ،وَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فِي طَرِيقٍ،فَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِهِ. (6)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:لاَ تُبَادِرُوا أَهْلَ الْكِتَابِ بِالسَّلاَمِ،فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فِي طَرِيقٍ،فَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِهِ. (7)
وعن سُهَيْلَ بْنِ أَبِي صَالِحٍ،قَالَ:خَرَجْتُ مَعَ أَبِي إِلَى الشَّامِ،فَكَانَ أَهْلُ الشَّامِ يَمُرُّونَ بِأَهْلِ الصَّوَامِعِ فَيُسَلِّمُونَ عَلَيْهِمْ،فَسَمِعْتُ أَبِي،يَقُولُ:سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ،يَقُولُ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،يَقُولُ:لاَ تَبْدَؤُوهُمْ بِالسَّلاَمِ،وَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقِهِ." (8)
12-مخالفته وعدم التشبه به فيما ليس بضروري كإعفاء اللحية إذا كان هو يحلقها،وصبغها إذا كان هو لا يصبغها،وكذا مخالفته في اللباس من عمة وطربوش ونحوه،فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ
__________
(1) - التفسير الميسر - (1 / 234)
(2) - شعب الإيمان - (11 / 503) (8908 ) صحيح
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (6224 )
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 362)(12427) 12454- صحيح
(5) - سنن ابن ماجة- طبع مؤسسة الرسالة - (4 / 651)(3697) صحيح
(6) - صحيح مسلم- المكنز - (5789) وصحيح ابن حبان - (2 / 254) (501)
(7) - صحيح ابن حبان - (2 / 253) (500) صحيح
(8) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 313)(8561) 8542- صحيح(1/423)
اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: " بُعِثْتُ بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لِيُعْبَدَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ رُمْحِي وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَنِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ " (1)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ وَفِّرُوا اللِّحَى وَأَحِفُّوا الشَّوَارِبَ " فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا حَجَّ أَوِ اعْتَمَرَ،قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ فَمَا فَضَلَ أَخَذَهُ " (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لاَ يَصْبِغُونَ فَخَالِفُوهُمْ. (3)
يعني خضاب اللحية أو شعر الرأس بصفرة أو حمرة،لأن الصبغ بالسواد قد نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،فعَنْ جَابِرٍ،قَالَ:أُتِيَ بِأَبِي قُحَافَةَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ،وَرَأْسُهُ وَلِحْيَتُهُ كَثُغَامَةٍ بَيْضَاءَ،فَقَالَ:رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : غَيِّرُوا رَأْسَهُ وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ. (4)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (1 / 213) (231 ) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (5892 ) وصحيح مسلم- المكنز -( 625 ) وشعب الإيمان - (8 / 414) (6015 )
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (3462 ) وصحيح مسلم- المكنز - (5632 ) وصحيح ابن حبان - (12 / 284) (5470)
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (5631 ) وصحيح ابن حبان - (12 / 285) (5471)
الثغامة : نبت أبيض الزهر والثمر يشبَّه به الشيب(1/424)
-36-آداب الصحبة
اهتمَّ الإسلام بالصحبة اهتماما بالغا،لما لها من شأن كبير،وأمر خطير،فأمر بالتزام الصادقين،قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} (119) سورة التوبة
يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ،وَرَاقِبُوهُ بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَوَاجِبَاتِهِ،وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ،وَاصْدقوا وَالزَمُوا الصِّدْقَ تَكُونُوا أَهْلَهُ،وَتَنْجُوا مِنَ المَهَالِكِ،وَيَجْعَلُ اللهُ لَكُمْ فَرَجاً مِنْ أُمُورِكِمْ وَمَخْرَجاً . (1)
وحض على صحبة العابدين قال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (28) سورة الكهف
واصبر نفسك -أيها النبي- مع أصحابك مِن فقراء المؤمنين الذين يعبدون ربهم وحده،ويدعونه في الصباح والمساء،يريدون بذلك وجهه،واجلس معهم وخالطهم،ولا تصرف نظرك عنهم إلى غيرهم من الكفار لإرادة التمتع بزينة الحياة الدنيا،ولا تُطِعْ من جعلنا قلبه غافلا عن ذكرنا،وآثَرَ هواه على طاعة مولاه،وصار أمره في جميع أعماله ضياعًا وهلاكًا. (2)
ورغب باتباع طريق المنيبين،قال سبحانه:{ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} لقمان 15.
واتَّبعْ في أُمُورِ الدِّينِ سَبيلَ الذينَ أَخْلَصُوا العِبَادَةَ للهِ مِنَ المُؤْمِنينَ،وأَنَابُوا إِليهِ بدونِ وَهَنٍ وَلاَ تَرَدُّدٍ
ونهى عن صحبة الظالمين،فرب صحبة ساعة كشفت صاحبها إلى قيام الساعة،وأعقبته ندما لا ينتهي،قال تعالى:{ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) } [الفرقان:27 - 29] الفرقان
وَيَنْدَمُ فِي ذَلِكَ اليومِ الظَّالِمُونَ الكَافِرُونَ،الذين تَرَكُوا طَريقَ الرَّسُولِ،وَكَفُرُوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى مِنَ الحَقِّ المُبِينِ،وَيَعَضُّونَ عَلَى أَيْدِيهِمْ نَدَماً عَلَى مَا فَرَّطُوا فِي جَنْبِ اللهِ،وَيَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا اتَّبَعْنَا طَرِيقَ الرَّسُولِ المُوصِلِ إِلى الجَنَّةِ،وَلَكِنَّ النَّدَمَ لاَ يَنْفَعُهُمْ حِيْنَئِذٍ .وَيَقُولَ الظَالِمُ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ مُتَحَسِّراً:يَا خَسَارَهُ وَيَا هَلاَكَهُ،وَيَا لَيْتَهُ لَمْ يَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً وَصَدِيقاً ( وَيَذْكُرُ اسمَ من أَضَلَّهُ وَصَرَفَهُ عَنِ الحَقِّ والهُدَى )،وَيَتَمَّنى لَوْ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَمِعْ إِلَيْهِ،وَلَمْ يَسْتَجِبْ لِدَعْوَتِهِ .
لَقَدْ أَضْلَّنِي هَذَا الصَّدِيقُ عَنِ الإِيْمَانِ بالقُرْآنِ بَعْدَ بُلُوغِهِ إِلَيَّ،وَمَنَّانِي بالنَّصْرِ والفَلاَحِ،وَمِنْ عَادَةِ الشَّيْطَانِ أَنْ يُمَنِّي وَيَعِدَ،وَيُمَنِّي كَذِباً وَغُرُوراً،وَأَنْ يَخْذُلَ الإِنْسَانَ يَوْمَ القِيَامَةِ،وَيَتْرِكَهُ لِمَصِيرِهِ،وَيَقُولَ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1355)
(2) - التفسير الميسر - (5 / 131)(1/425)
لأَوْلِيَائِهِ:{ إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ.}( وَقِيلَ بَلْ إِنَّ المَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ:أَنَّ الشَّيْطَانَ يُخَذِّلُ الإِنْسَانَ عَنِ الحَقِّ،وَيَصْرِفُهُ عَنْهُ،وَيَسْتَعْمِلُهُ فِي البَاطِل وَيَدْعُوهُ إٍِلَيْهِ ) (1)
وجعل كل صحبة لا تجتمع أواصرها على تقوى الله تعالى فمصيرها إلى عداوة محققة،قال سبحانه: {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} (67) سورة الزخرف.
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ صََدَقَةٍ وَصُحْبَةٍ فِي الدُّنْيَا تَنْقَلِبُ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَى عَدَاوَةٍ إِلاَّ مَا كَانَ مِنْهَا فِي اللهِ،أَوْ فِي سَبِيلِ اللهِ،فَإِنَّهَا تَبْقَى فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ دَائِمَةً بِدَوَامِ اللهِ تَعَالَى . (2)
ولا عجب فالصاحب ما هو إلا معلم لصاحبه من حيث لا يشعر،تنطبع صفاته في نفس صاحبه،وتنتقل أخلاقه إلى أخلاقه،وتسري معاملاته إلى معاملاته،بتأثير القرب،وعن طريق الحب،فلا يلبث إلا وهو نسخة عن صاحبه تتردد على لسانه كلماته،وتظهر في أعماله تصرفاته من حيث لا يدري،ولذلك فقد حذر الله تعالى من صحبة من قال فيهم: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (29) سورة النجم.
فَأَعْرِضْ عَنْ مِثْلِ هؤُلاءِ الذِينَ أَعْرَضُوا عَنِ القُرآنِ وَمَا فِيهِ مِنَ الحَقِّ والهُدَى،وَجَعَلُوا هَمَّهُمُ الدُّنيا وَمَا فِيها مِنْ مُتَعٍ وَمَلَذَّاتٍ،وَاهْجُرْهُمْ وَلاَ تَهْتَمَّ بِمَصِيرِهِمْ . (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ " (4)
وقال بعضهم (5) :
وصاحب تقيا عالما تنتفع به فصحبة أهل الخير ترجى وتطلبُ
وإياك والفساد لا تصحبنّهم فصحبتهم تعدي وذاك مجرب
واحذر مؤاخاة الدنيء لأنه يعدي كما يعدي الصحيحَ الأجربُ
واختر صديقك واصطفيه تفاخرا إن القرين إلى المقارن ينسب
وإذا كان المرء ينتقي من أطيب الطعام والشراب لبطنه،ويحرص على صحة جسمه فيتقي ما يسبب مرضها وضعفها،فأولى به أن ينتقي لروحه وقلبه وأخلاقه من يغذيها بأحسن الصفات،وأجمل الآداب،وأكمل العادات،وأكرم الأخلاق،ويتقي مرضى النفوس،ويتجنب ضعيفي الإيمان خوفا على
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2764)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4271)
(3) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4692)
(4) - شعب الإيمان - (12 / 44) (8990 ) صحيح - خليله : الخليل : الصديق ، الخلة - بالضم - الصداقة
(5) - فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (9 / 7416) وموسوعة خطب المنبر - (1 / 1954) وموسوعة خطب المنبر - الإصدار الثاني - (1 / 1875)(1/426)
دينه،وضنا على أخلاقه،أن يصيبها ما أصابهم،فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا وَلاَ يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِىٌّ »..رواه أبو داود والترمذي (1) .
وعن بُدَيْلَ بْنِ وَرْقَاءَ قَالَ:قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ:" عَلَيْكَ بِإِخْوَانِ الصِّدْقِ فَكُنْ فِي اكْتِسَابِهِمْ،فَإِنَّهُمْ زَيْنٌ فِي الرَّخَاءِ،وَعِزَّةٌ عِنْدَ الْبَلَاءِ " (2)
ولئن كان أشرف لقب في الإسلام هو لقب ( الصحابي)،وهو من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وآمن به،وتشرَّف بصحبته،فإن الصحابة يتفاوتون فيما بينهم في الفضل بمقدار صدق صحبتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - وعمق محبتهم له،وشدة إخلاصهم في خدمته،وقد حصل على النصيب الأوفى من هذه الأفضلية من قال الله تعالى في حقه:{ {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (40) سورة التوبة
يَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ إِذَا لَمْ تَنْصُرُوا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِنَّ اللهَ نَاصِرُهُ وَمُؤَيِّدُهُ وَكَافِيهِ،كَمَا تَوَلَّى نَصْرَهُ حِينَ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَكَّةَ حِينَ هَاجِرَ،فَخَرَجَ مِنْهَا هَارِباً بِصُحْبَةِ صَدِيقِهِ وَصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ،فَلَجَأَ إلَى غَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ،وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ فِي آثَارِهِمَا حَتَّى وَقَفُوا بِبَابِ الغَارِ،فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكرٍ جَزِعاً:لَوْ نَظَرَ أَحَدُهُمْ مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ لَرَآنَا.فَقَالَ لَهُ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - : مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا؟ فَأَنْزَلَ اللهُ طُمَأْنِينَتَهُ وَتَأْيِيدَهُ وَنَصْرَهُ عَلَى رَسُولِهِ،وَأَيَّدَهُ بِالمَلاَئِكَةِ تَحْفَظَهُ وَتَحْمِيهِ ( بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا )،وَجَعَلَ كَلِمَةَ الشِّرْكِ وَأَهْلَهُ السُّفْلَى،وَجَعَلَ كَلِمَةَ الإِيمَانِ ( لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ ) هِيَ الْعُلْيَا،وَاللهُ عَزِيزٌ فِي انْتِقَامِهِ وَانْتِصَارِهِ،وَهُوَ مَنِيعُ الْجَانِبِ لاَ يُضَامُ،وَهُوَ حَكِيمٌ فِي شَرْعِهِ وَتَدْبِيرِهِ . (3)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ،فَقَالَ:إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ،فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ،فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ،وَقَالَ:فَدَيْنَاكَ بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتِنَا،فَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - هُوَ الْمُخَيَّرُ،وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا بِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي مَالِهِ وَصَحِبْتِهِ أَبُو بَكْرٍ،وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً،وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلاَمِ لاَ يَبْقِيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلاَّ خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ." (4)
وكان سيدنا أبو بكر رضي الله عنه بفضل هذه الصحبة المشرفة،الخليفة الأول لسيد النبيين - صلى الله عليه وسلم - .
ولقد ضرب لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا المثل في أهمية الصحبة وما لها من تأثير عظيم على مصير صاحبها فعن أَبِى مُوسَى - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (4834 ) وسنن الترمذى- المكنز - (2574) حسن
(2) - مَسَاوِئُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ (658 ) حسن موقوف - البلاء : الاخْتِبار بالخير ليتَبَيَّن الشُّكر، وبالشَّر ليظْهر الصَّبْر
(3) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1276)
(4) - صحيح ابن حبان - (15 / 277) (6861) صحيح(1/427)
السَّوْءِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْمِسْكِ،وَكِيرِ الْحَدَّادِ،لاَ يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ الْمِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ،أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ،وَكِيرُ الْحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ أَوْ ثَوْبَكَ أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً ».متفق عليه (1) .
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شِهَابٍ،قَالَ:قَالَ عُمَرُ:لاَ تَعْتَرِضْ فِيمَا لاَ يَعْنِيك،وَاعْتَزِلْ عَدُوَّك،وَاحْتَفِظْ مِنْ خَلِيلك إلاَّ الأَمِين،فَإِنَّ الأَمِين لاَ يُعَادِلُهُ شَيْءٌ،لاَ تَصْحَبَ الْفَاجِرَ فَيُعَلِّمُك مِنْ فُجُورِهِ،وَلاَ تُفْشِ إلَيْهِ بسِرّك،وَاسْتَشِرْ فِي أَمْرِكَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَّهَ (2) .
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ،قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ بَعْضُ إِخْوَانِي مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَنْ ضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ مَا لَمْ يَأْتِكِ مَا يَغْلِبُكَ،وَلَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ شَرًّا وَأَنْتَ تَجِدُ لَهُ فِي الْخَيْرِ مَحْمَلًا،وَمَنْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتُّهَمِ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ،وَمَنْ كَتَمَ سِرَّهُ كَانَتِ الْخِيَرَةُ فِي يَدَيْهِ،وَمَا كَافَأْتَ مَنْ عَصَى اللهَ فِيكَ بِمِثْلِ أَنْ تُطِيعَ اللهَ فِيهِ،وَعَلَيْكَ بِإِخْوَانِ الصِّدْقِ،فَكَثِّرْ فِي اكْتِسَابِهِمْ،فَإِنَّهُمْ زِينَةٌ فِي الرَّخَاءِ،وَعُدَّةٌ عِنْدَ عَظِيمِ الْبَلَاءِ،وَلَا تَهَاوَنْ بِالْحَلِفِ فَيُهِينَكَ اللهُ،وَلَا تَسْأَلَنَّ عَمَّا لَمْ يَكُنْ حَتَّى يَكُونَ،وَلَا تَضَعْ حَدِيثَكَ إِلَّا عِنْدَ مَنْ يَشْتَهِيهِ،وَعَلَيْكَ بِالصِّدْقِ وَإِنْ قَتَلَكَ الصِّدْقُ،وَاعْتَزِلْ عَدُوَّكَ،وَاحْذَرْ صَدِيقَكَ إِلَّا الْأَمِينَ،وَلَا أَمِينَ إِلَّا مَنْ خَشِيَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ،وَشَاوِرْ فِي أَمْرِكَ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ " (3)
ويؤكد لنا الواقع العملي المنظور أنه من صحب الأبرار الصالحين صار منهم،ومن التزم الذاكرين ثوى في قلبه ذكرهم،ومن لصق بالعلماء انتقل إليه نور العلم والإيمان،وامتد هذا النفخ إلى يوم القيامة،فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،مَتَى قِيَامُ السَّاعَةِ ؟ فَقَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الصَّلاَةِ،فَلَمَّا قَضَى الصَّلاَةَ،قَالَ:أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ سَاعَتِهِ ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ:أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ:مَا أَعْدَدْتَ لَهَا ؟ قَالَ:مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ شَيْءٍ،وَلاَ صَلاَةٍ،وَلاَ صِيَامٍ،أَوْ قَالَ:مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ عَمَلٍ،إِلاَّ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ،أَوْ قَالَ:أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ قَالَ أَنَسٌ:فَمَا رَأَيْتُ الْمُسْلِمِينَ فَرِحُوا بِشَيْءٍ بَعْدَ الإِسْلاَمِ مِثْلَ فَرَحِهِمْ بِهَذَا. (4)
كما أنه لم يصبح سارقا إلا من صاحب السارقين،ولم يشرب التبغ أو يحتس الخمر إلا من سهر مع المدمنين،ولم يتقلب شقيا إلا من صادق الأشقياء المجرمين قال الشاعر:
عدوى الشقي إلى السعيد سريعة والجمر يوضع في الرماد فيخمد
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2101 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6860)
الكير : منفاخ الحداد ، وكوره : المبني من الطين للنار. -يحذيك : يعطيك ، من الحذية ، والحذيا : العطية.
(2) - مصنف ابن أبي شيبة - (8 / 384) (26041) وشعب الإيمان - (12 / 47)(8995 ) حسن لغيره
(3) - شعب الإيمان - (10 / 560) (7992 ) فيه جهالة
(4) - صحيح ابن حبان - (1 / 308) (105) صحيح(1/428)
ولا يمكن للمؤمن أن يأنس بأهل الغفلة والبطالة والعصيان،أو يميل قلبه إلى مخالطتهم،أو يتخذهم أصحابا وخلانا يجتمعون على مائدة واحدة،وفي مجلس سمر واحد،ولو كانوا أقرب الأقرباء إليه.
قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (22) سورة المجادلة.
لاَّ تَجِدُ قَوْماً يَجْمَعُونَ بَيْنَ الإِيْمَانِ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ،وَبَينَ مُوَادَّةِ أَعْدَاءِ اللهِ وَأَعْدَاءِ رَسُولِهِ،لأَنَّ المُؤْمِنِينَ حَقّاً لاَ يُوَالُونَ الكَافِرِينَ،وَلَوْ كَانَ هَؤُلاَءِ الكَافِرُونَ هُمْ أَهْلَهُمْ،وَأَقْرِبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ الذِينَ هُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيهِمْ،وَالمُؤْمِنُونَ الذِينَ يَمْتَنِعُونَ عَنْ مُوَادَّةِ الكَافِرِينَ،وَلَوْ كَانُوا أَقْرَبَاءَهُمْ وَعَشِيرَتَهُمْ،هُمُ الذِينَ ثَبَّتَ اللهُ الإِيْمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ،وَزَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى،وَقَوَّاهُمْ بِطُمَأْنِينَةِ القَلْبِ،وَالثَّبَاتِ عَلَى الحَقِّ { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ }،وَسَيُدْخِلُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ،وَيَبْقَوْنَ فِيهَا خَالِدِينَ أَبَداً،رَضِيَ اللهَ عَنْهُمْ،وَأَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ،فَأَدْخَلَهُمُ الجَنَّاتِ،وَرَضُوا بِمَا آتَاهُم اللهُ عَنْهُمْ،وَأَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ،فَأَدْخَلَهُمُ الجَنَّاتِ،وَرَضُوا بِمَا آتَاهُم اللهُ مِنْ فَضْلِهِ،وَبِمَا عَوَّضَهُمْ بِهِ لإسْخَاطِهِم الأَقَارِبَ وَالأَبْنَاءَ.وَهَؤُلاَءِ هُم أَنْصَارُ اللهِ،وَجُنْدُهُ،وَحِزْبُهُ،وَأَهْلُ كَرَامَتِهِ،وَهُمْ أَهْلُ الفَلاَحِ وَالسَّعَادَةِ والنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ (1) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ ». (2) .
عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ (3) : قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ لِرَجُلٍ،وَكَرِهَ لَهُ صُحْبَةَ أَحْمَقَ فَقَالَ لَهُ :
لَا تَصْحَبْ أَخَا الْجَهْلِ فَإِيَّاكَ وَإِيَّاهُ
فَكَمْ مِنْ جَاهِلٍ أَرْدَى حَلِيمًا حِينَ يَغْشَاهُ
يُقَاسُ الْمَرْءُ بِالْمَرْءِ إِذَا مَا هُوَ مَاشَاهُ
وَلِلشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ مَقَايِيسُ وَأَشْبَاهُ
وَلِلْقَلْبِ عَلَى الْقَلْبِ دَلِيلٌ حِينَ يَلْقَاهُ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5004)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6876 )
(3) - الْعُزْلَةُ لِلْخَطَّابِيِّ (115 ) وجامع الأحاديث - (31 / 181) (34040) وآداب الصحبة لأبي عبد الرحمن السلمي - (1 / 13)(7) حسن(1/429)
وإذا كان للصحبة هذا الاهتمام،فإن لكل من المتصاحبين آداباً وواجباتٍ،كل تجاه صاحبه،وهي أشد اهتماما،لتدوم عرى هذه الصحبة،وتؤتي ثمارها من رضوان الله في الدارين..
ومنها نذكر ما يلي:
انتقاء الصاحب واختياره قبل مصاحبته،ممن توافر فيه الشروط التالية:
العقل الحصيف.الدين الصحيح.الأخلاق الحميدة.
قال لقمان الحكيم لابنه: يَا بُنَىَّ جَالِسِ الْعُلَمَاءَ وَزَاحِمْهُمْ بِرُكْبَتَيْكَ،فَإِنَّ اللَّهَ يُحْيِى الْقُلُوبَ بِنُورِ الْحِكْمَةِ كَمَا يُحْيِى اللَّهُ الأَرْضَ الْمَيْتَةَ بِوَابِلِ السَّمَاءِ. (1) .
تجنب صحبة الجهلة والفسقة،والأراذل والحمقى،فالصاحب ساحب،ومن جالس جانس.
قال أحدهم (2) : لا تصحب خمسة:
الكذاب: فإنك منه على غرور،وهو مثل السراب يقرب منك البعيد،ويبعد منك القريب.
والأحمق: فإنك لست منه على شيء،يريد أن ينفعك فيضربك.
والبخيل: فإنه يقطع بك أحوج ما تكون إليه.
والجبان: فإنه يسلمك ويفر عند الشدة.
والفاسق: فإنه يبيعك بأكلة أو أقل منها،قيل: وما أقل منها؟ قال: الطمع فيها ثم لا ينالها.
وقد ورد: لا تصحب من لا ينهضك حاله،ولا يدلك على الله مقاله (3) .
الإخلاص في صحبة من تصاحب لوجه الله تعالى،دون النظر إلى غاية دنيوية،أو مصلحة عاجلة،والصحبة لوجه الله تعالى هي أن تصاحبه لعلمه أو حسن خلقه أو صلاحه أو قربه من الله ومحبته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - .قال تعالى:{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} الكهف 28.
وعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا،وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ،وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِى الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِى النَّارِ » (4) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلاَلِي ؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي،يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلِّي. رواه مسلم (5) .
__________
(1) - موطأ مالك- المكنز - (1859 ) بلاغاً
(2) - إحياء علوم الدين - (2 / 20)
(3) - فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2 - (14 / 181) وإيقاظ الهمم شرح متن الحكم - (1 / 57) وبريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية - (6 / 122)
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (16 )
(5) - صحيح ابن حبان - (2 / 334) (574) وصحيح مسلم- المكنز - (6713 )(1/430)
إخبار صاحبه بمحبته له في الله،ليكون تواصلهما أكبر وارتباطهما أشد وإخلاصهما أعمق..
قال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (9) سورة الحشر
فعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِيكَرِبَ - وَقَدْ كَانَ أَدْرَكَهُ - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِذَا أَحَبَّ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَلْيُخْبِرْهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ ». رواه أبو داود (1) .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،قَالَ:كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،إِذْ مَرَّ رَجُلٌ،فقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ:يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي لَأُحِبُّ هَذَا الرَّجُلَ،قَالَ:هَلْ أَعْلَمْتَهُ ذَاكَ ؟ قَالَ:لاَ،قَالَ:قُمْ أَعْلِمْهُ،فَقَامَ إِلَيْهِ،فقَالَ:يَا هَذَا،وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ،قَالَ:أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ. (2) .
التعارف قبل الصحبة،والسؤال عن اسم صاحبه وعمله ومسكنه،وما يتبع ذلك من أصول التعارف. فعَنِ ابْنِ عُمَرَ،قَالَ: رَآنِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا أَلْتَفِتُ،فَقَالَ: " مَا لَكَ تَلْتَفِتُ ؟ "،قُلْتُ: آخَيْتُ رَجُلًا،قَالَ: " إِذَا أَحْبَبْتَ رَجُلًا فَاسْأَلْهُ عَنِ اسْمِهِ،وَاسْمِ أَبِيهِ،فَإِنْ كَانَ غَائِبًا حَفِظْتَهُ،وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا فَعُدْهُ،وَإِنْ مَاتَ شَهِدْتَهُ " البيهقي (3) .
وعَن يَزِيدَ بْنِ نَعَامَةَ الضَّبِّيِّ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إذَا آخَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَلْيَسْأَلْهُ،عَنِ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَمِمَّنْ هُوَ،فَإِنَّهُ أَوْصَلُ لِلْمَوَدَّةِ. (4) .
اعتبار صاحبه كنفسه في محبة إيصال الخير له،والحرص على ما ينفعه،وبذل الغالي والنفيس من أجله. وقد كان مضر بن عيسى وسليمان يقولان: من أحبّ رجلاً ثم قصر في حقه فهو كاذب في حبه،وكان أبو سليمان الداراني يقول: هو صادق في حبه مفرط في حقّه،ثم قال: لو أنّ الدنيا كلها لي فجعلتها في فم أخ من إخواني لاستقللتها له،وقال: إني لألقم الأخ من إخواني اللقمة فأجد طعمها في حلقي،وأعلم أنّ إطعام الطعام والإنفاق على الإخوان مضاعف على الصدقات وعلى العطاء للأجانب،بمنزلة تضعيف الثواب في الأهل والقرابات. (5)
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (5126 ) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (2 / 330) (571) صحيح
(3) - شعب الإيمان - (11 / 329) (8607 ) ضعيف جدا
(4) - مصنف ابن أبي شيبة - (9 / 106) (27175) حسن
لكن رجح الأئمة أن يزيد هذا تابعي انظر الإصابة 3/663 ت (9317) وفي سنده: سعيد بن سلمان: روى عنه واحد ووثقه ابن حبان وقال الذهبي في الكاشف (1918) وثق والتهذيب 4/41
(5) - قوت القلوب - (2 / 192)(1/431)
وعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ » متفق عليه (1) .
الإكثار من التواصل والتناصح والتباذل والتزاور في سبيل الله. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أَنَّ رَجُلاً زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى،قَالَ:فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا،فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ،قَالَ:أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ:أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ،فقَالَ لَهُ:هَلْ لَهُ عَلَيْكَ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا ؟ قَالَ:لاَ،غَيْرَ أَنِّي أُحِبُّهُ فِي اللهِ،قَالَ:فَإِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ،إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلاَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ. رواه مسلم (2) .
وعَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْعَيْذيِّ أَوِ الْخَوْلاَنِيِّ قَالَ:جَلَسْتُ مَجْلِسًا فِيهِ عِشْرُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،وَإِذَا فِيهِمْ شَابٌّ حَدِيثُ السِّنِّ،حَسَنُ الْوَجْهِ،أَدْعَجُ الْعَيْنَيْنِ،أَغَرُّ الثَّنَايَا،فَإِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ،فَقَالَ قَوْلاً انْتَهَوْا إِلَى قَوْلِهِ،فَإِذَا هُوَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ،فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ،جِئْتُ فَإِذَا هُوَ يُصَلِّي إِلَى سَارِيَةٍ،قَالَ:فَحَذَفَ مِنْ صَلاَتِهِ،ثُمَّ احْتَبَى،فَسَكَتَ،قَالَ:فَقُلْتُ:وَاللَّهِ إِنِّي لأُحِبُّكَ مِنْ جَلاَلِ اللهِ،قَالَ:أَللَّهِ ؟ قَالَ:قُلْتُ:أَللَّهِ.قَالَ:فَإِنَّ مِنَ الْمُتَحَابِّينَ فِي اللهِ،فِيمَا أَحْسَبُ أَنَّهُ قَالَ،فِي ظِلِّ اللهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ،إِلاَّ ظِلُّهُ،ثُمَّ لَيْسَ فِي بَقِيَّتِهِ شَكٌّ،يَعْنِي:فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ،يُوضَعُ لَهُمْ كَرَاسِي مِنْ نُورٍ يَغْبِطُهُمْ بِمَجْلِسِهِمْ مِنَ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ النَّبِيُّونَ وَالصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ،قَالَ:فَحَدَّثْتُهُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ،فَقَالَ:لاَ أُحَدِّثُكَ إِلاَّ مَا سَمِعْتُ عَنْ لِسَانِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : حَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ،وَحَقَتْ مَحَبَّتِي للمتزاورينَ في،وَحَقَّتْ مَحَبَّتي لِلْمُتَبَاذِلِينَ فِيَّ،وَحَقَّتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَصَافِينَ فِيَّ الْمُتَوَاصِلِينَ. (3) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ عَادَ مَرِيضًا أَوْ زَارَ أَخًا لَهُ فِى اللَّهِ نَادَاهُ مُنَادٍ أَنْ طِبْتَ وَطَابَ مَمْشَاكَ وَتَبَوَّأْتَ مِنَ الْجَنَّةِ مَنْزِلاً ». رواه الترمذي (4) .
الإسراع في المعونة بالنفس والمال،لتفريج الهم،وتنفيس الكرب،ولو كان في ذلك إيثار على النفس.
قال تعالى: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } (9) سورة الحشر
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ فِى عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِى عَوْنِ أَخِيهِ وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (13 ) وصحيح مسلم- المكنز - (179)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6714 ) وصحيح ابن حبان - (2 / 331) (572) - المدرجة : الطريق -ترب : تحفظ وتراعى وتربى
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 346)(22002) 22352- صحيح
(4) - سنن الترمذى- المكنز - (2139 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.(1/432)
اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ ». رواه مسلم (1) .
الاعتدال في المحبة،والاقتصاد في المديح،والإنصاف في المعاملة،والتوسط في المعاشرة،والالتزام بالشرع في المخالطة. فعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ: قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " يَا أَسْلَمُ لَا يَكُنْ حُبُّكَ كَلَفًا وَلَا بُغْضُكَ تَلَفًا "،قَالَ: قُلْتُ: وَكَيْفَ ذَاكَ ؟ قَالَ: " إِذَا أَحْبَبْتَ فَلَا تَكْلَفْ كَمَا يَكْلَفُ الصَّبِيُّ بِالشَّيْءِ يُحِبُّهُ،وَإِذَا أَبْغَضْتَ فَلَا تَبْغَضْ بُغْضًا تُحِبُّ أَنْ تُتْلِفَ صَاحِبَكَ أَوْ تُهْلِكَ " (2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أُرَاهُ رَفَعَهُ قَالَ « أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا ».. (3)
تبادل الهدايا والأعطيات؛ في المواسم والمناسبات،والابتداء في ذلك على قدر الإمكان. فإن الهدية تزيد في المحبة،وتزيل ما في الصدر من عداوة وبغضاء. فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« تَهَادَوْا تَحَابُّوا ». (4) .
الابتداء بالسلام والمصافحة كلما تجدد اللقاء،مع بشاشة الوجه،وطيب الكلام. فعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إِلاَّ غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا ». رواه أبو داود (5) .
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا،وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ،فَإِذَا صَنَعْتَ مَرَقَةً،فَأَكْثِرْ مَاءَهَا،وَاغْرِفْ لِجِيرَانِكَ مِنْهَا. (6)
تجنب السخرية والغيبة والحسد والبغضاء والظن السوء،والتماس الأعذار له في كل أمر لم يجر حسب مراده.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12) }سورة الحجرات
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (7028 )
(2) - شعب الإيمان - (8 / 518) (6173 ) صحيح - والكلف شدة التعلق بالشيء،والتلف: الإهمال.
(3) - سنن الترمذى- المكنز - (2128 ) و مصنف ابن أبي شيبة - (14 / 102) (37026) صحيح لغيره
(4) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (6 / 169)(12297) صحيح
« تَهَادَوْا تَحَابُّوا ». بِالتَّشْدِيدِ مِنَ الْمَحَبَّةِ وَإِذَا قَالَ بِالتَّخْفِيفِ فَإِنَّهُ مِنَ الْمُحَابَاةِ.
(5) - سنن أبي داود - المكنز - (5214 ) صحيح
(6) - صحيح ابن حبان - (2 / 282) (523) وصحيح مسلم- المكنز - (6857 )(1/433)
يَنْهَى اللهُ تَعَالى المُؤْمنينَ عنِ السُّخرِيةِ مِنْ إِخْوانِهِم المُؤْمِنينَ،وَالاستهزاء بِهِمْ،وَاسْتصْغَارِ شأَنِهِم،فَقَدْ يَكُونُ المُسْتَهزَأ بهِ أكْرَمَ عِنْدَ اللهِ مِنَ السَّاخِرِ مِنهُ،وَالمُحتقِر لهُ،فَيَظْلمُ نَفْسَه بِتَحْقيرِ مَنْ وَقَّرَهُ اللهُ .
كَمَا نَهى تَعَالى النِّساءَ المُؤْمِنَاتِ عَنْ أنْ يَسْخَرْنَ مِنْ أخَواتِهِنَّ المُؤْمِنَاتِ،فَقَدْ تَكُونُ المُسْتَهزأ بِها أكرَمَ عِنْدَ اللهِ مِنَ السَّاخِرةِ مِنْها.كَما أمَرَ اللهُ المُؤْمِنينَ بألاَّ يَغْتَابَ بَعْضُهُم بَعْضاً،وَبأنْ لاَ يَعِيبَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً،وَبأنْ لا يَطْعَنَ بَعْضهُمْ في بَعْضٍ.وَاعْتَبَرَ تَعَالى لَمْزَ الإِنسَانِ أخَاهُ كَلمْزِهِ نَفْسَهُ،وَطَعنَهُ أخَاه كَطَعْنِهِ في نَفْسِهِ،لأنَّ المُسْلِمينَ جِسَدٌ وَاحِدٌ إِنِ اشتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بالسَّهرِ وَالحمى.كَما قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - .
وأمرُ الله تَعَالى المُؤْمِنينَ بأنْ لاَ يَدْعُو بَعْضُهُمْ بَعْضاً بِلَقَبِ يَسُوؤُهُ أو يَكْرَهُهُ،كَأنْ يَقُولَ مُسْلِمٌ لأخِيهِ المُسْلِمِ:يا فَاجِرُ،أوْ يَا غَادِرُ أو يَا عَدُوَّ اللهِ أو يَا مُنَافِقُ.. .
وَبِئْسَتِ الصِّفَةُ،وَبِئْسَ الاسْمُ للْمُؤْمِنينَ أنْ يُذكَرُوا بالفُسُوقِ بَعْدَ دُخُولِهمْ في الإيمَانِ.وَمَن لم يَتُبْ مِنْ نَبْزهِ أخَاهُ المُؤمِنَ بِلَقَبِ يَكْرَهُهُ،وَمَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْ لَمْزهِ إخْوَتَهُ،وَمِنْ سُخْرِيَتِهِ مِنْهُم.. فأولئِكَ هُمُ الظَّالِمونَ الذِينَ ظَلَمُوا أنفُسَهم فَأكْسَبُوها عِقَابَ اللهِ بِعِصْيَانِهِم إيَّاهُ .
يَنْهى اللهُ تَعَالى عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ عَن الظَّنِّ السَّيِّء بإخوانِهِمْ المُؤْمِنينَ،لأنَّ ظَنَّ المُؤْمِنِ السَّوْءَ إِثمٌ،لأنَّ اللهَ نَهَى عَنْ فِعْلِهِ،فَإذا فَعَلَهُ فَهُوَ آثمٌ .
ثُمَّ نَهَى اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ عَنْ أن يَتَجَسَّسَ بَعُضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ،كَمَا نَهَاهُمْ عَنْ أنْ يَتَتَبَّعَ بَعْضُهُم عَوْرَاتِ بَعْضٍ،وَعَنْ أنْ يَبْحَث الوَاحِدُ مِنْهُمْ عَنْ سَرَائِرِ أخِيهِ،وَهُوَ يَبْتَغِي بِذِلَكَ فَضْحَهُ،وَكَشْفَ عُيُوبِهِ .
ثُمَّ نَهَاهم عَنْ أنْ يَغْتَابَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً،وَعَنْ أنْ يَذْكُرَ أحَدُهُمْ أخَاهُ بما يَكْرَهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَخَلْقِهِ وَخُلُقِهِ وَأهلِهِ وَمَالِهِ وَزَوْجِهِ وَوَلدِهِ.. ( كَما عَرَّفَ رَسُولُ اللهِ الاغِتْيَابَ ) .
وَشَبَّه تَعَالى اغْتِيَابَ المُؤْمِنِ لأخيِهِ المؤمِنِ بأكْلِهِ لَحمَهُ بَعْدَ موتِهِ،وَقَالَ لِلمُؤمِنِينَ إنَّهم إذا كَانَ أَحَدُهُمْ يَكْرَهُ أكْلَ لَحْمِ أخِيهِ بَعْدَ مَوتِهِ،وَإذا كَانَتْ نَفْسُهُ تَعَافُ ذَلِكَ فَعَلَيهِمْ أنْ يَكْرَهُوا أنْ يَغْتَابُوهُ في حَيَاتِهِ .
وَلِلْغِيبَةِ ثَلاثَةُ وُجُوهٍ:
الغِيبَةُ - وَهِيَ أنْ يَقُولَ الإِنسَانُ في أخيهِ مَا هُوَ فيه مِمَّا يَكْرَهُهُ .
الإٍفْكُ - أنْ يَقُولَ فِيهِ مَا بَلَغَهُ عَنْهُ مِمَّا يَكْرَهُهُ .
البُهْتَانُ - أنْ يَقُولُ فيهِ مَا لَيسَ فيهِ ممّا يَكْرَهُهُ .(1/434)
ثُمَ حَثَّ اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ عَلى تَقْوى اللهِ،وَعَلَى تَرْكِ الغِيبَةِ،وَمُرَاقَبِتِهِ تَعَالى في السِّرِّ والعَلنِ،فإذا تَابُوا وانتَهَوا واستَغْفَروا رَبَّهم عَمّا فَرَطَ مِنْهُم،اسْتَجَابَ لَهُم رَبُّهُمْ،فَتَابَ عَلَيِهمْ،لأنَّه تَعَالى كَثيرُ التَّوْبِ عَلَى عِبَادِهِ،كَثِيرُ الرَّحمةِ بِهِمْ . (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ،وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ تَحَسَّسُوا،وَلاَ تَحَاسَدُوا،وَلاَ تَنَافَسُوا،وَلاَ تَبَاغَضُوا،وَلاَ تَدَابَرُوا،وَكُونُوا عِبَادًا لِلَّهِ إِخْوَانًا. (2)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا ». وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ « بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ ». رواه مسلم (3) .
تجنب إفشاء سر ائتمنه عليه صاحبه مهما كانت الأسباب،وَفِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ قَالَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ: لَا تَصْحَبْ مِنَ النَّاسِ إلَّا مَنْ يَكْتُمُ سرَّكَ،وَيَسْتُرُ عَيْبَك،وَيَكُونُ مَعَك فِي النَّوَائِبِ وَيُؤْثِرُك فِي الرَّغَائِبِ،وَيَنْشُرُ حَسَنَتَك،وَيَطْوِي سَيِّئَتَك فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فَلَا تَصْحَبْ إلَّا نَفْسَك " (4) .
أداء حقوق الصحبة،وهي كثيرة يضيق المجال لذكرها مع شواهدها،ونكتفي بعرض بعضها كما جمعها كثير من السلف الصالح:
عَنْ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ الْحَجَبِيِّ،قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ،أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " ثَلَاثٌ يُصْفِينَ لَكَ وُدَّ مِنْ أَخِيكَ تُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيتَهُ،وَتُوسِعُ لَهُ فِي الْمَجْلِسِ،وَتَدْعُوهُ بِأَحَبِّ أَسْمَائِهِ إِلَيْهِ " (5) .
وعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ،قَالَ:مَنْ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتُّهْمَةِ فَلاَ يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِهِ الظَّنَّ،وَمَنْ كَتَمَ سِرَّهُ كَانَتِ الْخِيَرَةُ فِي يَدِهِ،وَضَعْ أَمْرَ أَخِيكَ عَلَى أَحْسَنِهِ حَتَّى يَأْتِيَكَ مِنْهُ مَا يَغْلِبُكَ،وَمَا كَافَأْتَ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيكَ مِثْلَ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ فِيهِ،وَعَلَيْكَ بِصَالِحِ الإِخْوَانِ،أَكْثِرِ اكْتِسَابَهُمْ فَإِنَّهُمْ زَيْنٌ فِي الرَّخَاءِ،وَعِدَّةٌ عِنْدَ الْبَلاَءِ،وَلاَ تَسَلْ عَمَّا لَمْ يَكُنْ حَتَّى يَكُونَ،فَإِنَّ فِي مَا كَانَ شُغْلاً عَنْ مَا لَمْ يَكُنْ،وَلاَ يَكُنْ كَلاَمُكَ بَدْلَةً إِلاَّ عِنْدَ مَنْ يَشْتَهِيهِ وَيَتَّخِذُهُ غَنِيمَةً،وَلاَ تَسْتَعِنْ عَلَى حَاجَتِكَ إِلاَّ مَنْ يُحِبُّ نَجَاحَهَا،وَلاَ تَسْتَشِرْ إِلاَّ الَّذِينَ يَخَافُونَ اللَّهَ،وَلاَ تَصْحَبِ الْفَاجِرَ فَتَعَلَّمَ مِنْ فُجُورِهِ،وَتَخَشَّعْ عِنْدَ الْقُبُورِ ." (6)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4502)
(2) - صحيح ابن حبان - (12 / 500) (5687) وصحيح البخارى- المكنز -(5143)
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (6706 )
(4) - إحياء علوم الدين - (2 / 19) وقوت القلوب - (2 / 194) و بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية - (4 / 132) و(6 / 121)
(5) - شعب الإيمان - (11 / 196) (8397 ) حسن
(6) - الزهد أبي داود 275 - (1 / 98) (89) حسن(1/435)
ومن حقوق أخيك: الإيثار بالمال،والإعانة بالنفس،وكتمان السر،وستر العيوب،والشكر على المعروف،والإعانة على الإحسان،والنصح عند الإساءة،والحفظ بظهر الغيب إذا غاب عنك،والمحبة الخالصة لله تعالى،وعدم إيذائه بقول أو فعل،وأن يتواضع له،ولا يتكبر عليه،ويعفو عنه،عَنْ عِكْرِمَةَ،قَالَ:قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِيُوسُفَ:" يَا يُوسُفُ،بِعَفْوِكَ عَنْ إِخْوَتِكَ رَفَعْتُ ذِكْرَكَ فِي الذَّاكِرِينَ " (1)
قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (10) سورة الحجرات
وقال سبحانه: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (215) سورة الشعراء.
يَأْمُرُ اللهُ تَعالى رسُولَه محمداً - صلى الله عليه وسلم - ،بأنْ يُلِينَ جَانِبَهُ لِمَنْ اتَّبَعَهُ مِنْ عِبادِ اللهِ المُؤمنينَ،وأَنْ يَتَرَفَّقَ بِهِمْ،فَذَلِكَ أَدْعَى لإخْلاصِهِمْ للرّسُولِ،ولِزِيَادَةِ مَحَبِتَّهِ (2) .
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :" المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا،وشبك بين أصابعه" متفق عليه.
وعن أبي هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ رَدُّ السَّلاَمِ،وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ،وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ،وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ،وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ » متفق عليه (3) .
وعدم هجره إلا لسبب ديني،فعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ،يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيُعْرِضُ هَذَا،وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ. (4) .
وعَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الطُّفَيْلِ،هُوَ ابْنُ الْحَارِثِ،وَهْوَ ابْنُ أَخِي عَائِشَةَ،زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،لأُمِّهَا،أَنَّ عَائِشَةَ حُدِّثَتْ،أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ فِي بَيْعٍ،أَوْ عَطَاءٍ،أَعْطَتْهُ عَائِشَةُ:وَاللهِ،لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ،أَوْ لأَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا،فَقَالَتْ:أَهُوَ قَالَ هَذَا ؟ قَالُوا:نَعَمْ،قَالَتْ:هُوَ ِللهِ عَلَيَّ نَذْرٌ،أَنْ لاَ أُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَدًا،فَاسْتَشْفَعَ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلَيْهَا،حِينَ طَالَتِ الْهِجْرَةُ،فَقَالَتْ:لاَ وَاللهِ،لاَ أُشَفِّعُ فِيهِ أَبَدًا،وَلاَ أَتَحَنَّثُ إِلَى نَذْرِي،فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ،كَلَّمَ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ،وَعَبْدَ الرَّحْمَانِ ابْنَ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ،وَهُمَا مِنْ بَنِي زُهْرَةَ،وَقَالَ لَهُمَا:أَنْشُدُكُمَا بِاللهِ،لَمَّا أَدْخَلْتُمَانِي عَلَى عَائِشَةَ،فَإِنَّهَا لاَ يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَنْذُِرَ قَطِيعَتِي،فَأَقْبَلَ بِهِ الْمِسْوَرُ،وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ،مُشْتَمِلَيْنِ بِأَرْدِيَتِهِمَا،حَتَّى استأذنا عَلَى عَائِشَةَ،فَقَالاَ:السَّلاَمُ عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ،أَنَدْخُلُ ؟ قَالَتْ عَائِشَةُ:ادْخُلُوا،قَالُوا:كُلُّنَا ؟ قَالَتْ:نَعَمِ،ادْخُلُوا كُلُّكُمْ،وَلاَ تَعْلَمُ أَنَّ مَعَهُمَا ابْنَ الزُّبَيْرِ،فَلَمَّا دَخَلُوا دَخَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الْحِجَابَ،فَاعْتَنَقَ
__________
(1) - مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ (347 ) ضعيف
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 3029)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (1240) وصحيح مسلم- المكنز - (5777)
(4) - صحيح ابن حبان - (12 / 484) (5669) وصحيح البخارى- المكنز -(6237 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6697 )(1/436)
عَائِشَةَ،وَطَفِقَ يُنَاشِدُهَا وَيَبْكِي،وَطَفِقَ الْمِسْوَرُ،وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ يُنَاشِدَانِهَا إِلاَّ مَا كَلَّمَتْهُ،وَقَبِلَتْ مِنْهُ،وَيَقُولاَنِ:إِنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَمَّا قَدْ عَلِمْتِ مِنَ الْهِجْرَةِ.فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ،فَلَمَّا أَكْثَرُوا عَلَى عَائِشَةَ مِنَ التَّذْكِرَةِ وَالتَّحْرِيجِ،طَفِقَتْ تُذَكِّرُهُمَا نَذْرَهَا وَتَبْكِي،وَتَقُولُ:إِنِّي نَذَرْتُ،وَالنَّذْرُ شَدِيدٌ،فَلَمْ يَزَالاَ بِهَا حَتَّى كَلَّمَتِ ابْنَ الزُّبَيْرِ،وَأَعْتَقَتْ فِي نَذْرِهَا ذَلِكَ أَرْبَعِينَ رَقَبَةً،وَكَانَتْ تَذْكُرُ نَذْرَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَتَبْكِي،حَتَّى تَبُلَّ دُمُوعُهَا خِمَارَهَا." (1)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6073 و 6074 و 6075 )(1/437)
-37-آداب السلام
يبحث العالم اليوم عن السلام كأقصى ما يتمناه الإنسان،وغاية ما ترجوه البشرية،في حين نجد أن الإسلام منذ أربعة عشر قرنا قد مجد السلام وكرمه،ثم حققه ونشره،بعد أن غرسه في قلب كل مسلم وعلى لسانه وفي كل أعماله.
قدَّس السلام فجعله اسما من أسماء الله الحسنى التي أمر الله تعالى الناس أن يدعوه بها: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } (23) سورة الحشر.
هُوَ اللهُ المَالِكُ لِجَمِيعِ مَا فِي الوُجُودِ،المُتَصَرِّفُ فِيهِ تَصَرُّفاً مُطْلَقاً،وَالمُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَنَقْصٍ،الذِي أَمَّنَ خَلْقَهُ مِنْ أَنْ يَظْلِمَهُمْ،وَهُوَ الرَّقِيبُ عَلَيْهِم الذِي قَهَرَ كُلَّ شَيءٍ،وَغََلَبَهُ لِعَظَمَتِهِ وَجَبَرُوتِهِ،فَلاَ تَلِيقُ الكِبْرِيَاءُ إِلاَّ لَهُ،تَنَزَّهَ اسْمُهُ عَمَّا يَقُولُهُ المُشْرِكُونَ مِنَ الصَّاحِبَةِ وَالوَلَدِ وَالشَّرِيكِ فَهُوَ الوَاحِدُ الأَحَدُ الفَرْدُ الصَّمَدُ . (1)
والسلام هو تحية أبي البشر هدية زفتها له الملائكة الأبرار،فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ وَطُولِهِ سِتُّونَ ذِرَاعًا،فَلَمَّا خَلْقَهُ قَالَ:اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفْرِ،وَهُمْ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ جُلُوسٌ،فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ. قَالَ:فَذَهَبَ فَقَالَ:السَّلاَمُ عَلَيْكَمْ،فَزَادُوهُ:وَرَحْمَةُ اللهِ. قَالَ:فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا. فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الآنَ. (2) .
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5027)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (3326 ) وصحيح مسلم- المكنز - (7342 ) وصحيح ابن حبان - (14 / 33)(6162)
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : هَذَا الْخَبَرُ تَعَلَّقَ بِهِ مَنْ لَمْ يُحْكِمُ صِنَاعَةَ الْعِلْمِ وَأَخَذَ يُشَنِّعُ عَلَى أَهْلِ الْحَدِيثِ الَّذِينَ يَنْتَحِلُونَ السُّنَنَ ، وَيَذُبُّونَ عَنْهَا ، وَيَقْمَعُونَ مَنْ خَالَفَهَا بِأَنْ قَالَ : لَيْسَتْ تَخْلُو هَذِهِ الْهَاءُ مِنْ أَنْ تُنْسَبَ إِلَى اللهِ أَوْ إِلَى آدَمَ ، فَإِنْ نُسِبَتْ إِلَى اللهِ كَانَ ذَلِكَ كُفْرًا ، إِذْ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وَإِنْ نُسِبَتْ إِلَى آدَمَ تَعَرَّى الْخَبَرُ عَنِ الْفَائِدَةِ ، لأَنَّهُ لاَ شَكَّ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ خُلِقَ عَلَى صُورَتِهِ لاَ عَلَى صُورَةِ غَيْرِهِ.
وَلَوْ تَمَلَّقَ قَائِلُ هَذَا إِلَى بَارِئِهِ فِي الْخَلْوَةِ ، وَسَأَلَهُ التَّوْفِيقَ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ وَالْهِدَايَةِ لِلطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ فِي لُزُومِ سُنَنِ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - لَكَانَ أَوْلَى بِهِ مِنَ الْقَدْحِ فِي مُنْتَحِلِي السُّنَنِ بِمَا يَجْهَلُ مَعْنَاهُ ، وَلَيْسَ جَهْلُ الإِنْسَانِ بِالشَّيْءِ دَالاً عَلَى نَفْيِ الْحَقِّ عَنْهُ لِجَهْلِهِ بِهِ.
وَنَحْنُ نَقُولُ : إِنَّ أَخْبَارَ الْمُصْطَفَى - صلى الله عليه وسلم - إِذَا صَحَّتْ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ لاَ تَتَضَادَّ ، وَلاَ تَتَهَاتَرُ ، وَلاَ تَنْسَخُ الْقُرْآنَ بَلْ لِكُلِّ خَبَرٍ مَعْنًى مَعْلُومٌ يُعْلَمُ ، وَفَصْلٌ صَحِيحٌ يُعْقَلُ ، يَعْقِلُهُ الْعَالِمُونَ.
فَمَعْنَى الْخَبَرِ عِنْدَنَا بِقَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ : إِبَانَةُ فَضْلِ آدَمَ عَلَى سَائِرِ الْخَلْقِ ، وَالْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى آدَمَ ، وَالْفَائِدَةُ مِنْ رُجُوعِ الْهَاءِ إِلَى آدَمَ دُونَ إِضَافَتِهَا إِلَى الْبَارِئِ جَلَّ وَعَلاَ - جَلَّ رَبُّنَا وَتَعَالَى عَنْ أَنْ يُشَبَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ - أَنَّهُ جَلَّ وَعَلاَ جَعَلَ سَبَبَ الْخَلْقِ الَّذِي هُوَ الْمُتَحَرِّكُ النَّامِي بِذَاتِهِ اجْتِمَاعَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، ثُمَّ زَوَالَ الْمَاءِ عَنْ قَرَارِ الذَّكَرِ إِلَى رَحِمِ الْأُنْثَى ، ثُمَّ تَغَيُّرَ ذَلِكَ إِلَى الْعَلَقَةِ بَعْدَ مُدَّةٍ ، ثُمَّ إِلَى الْمُضْغَةِ ، ثُمَّ إِلَى الصُّورَةِ ، ثُمَّ إِلَى الْوَقْتِ الْمَمْدُودِ فِيهِ ، ثُمَّ الْخُرُوجِ مِنْ قَرَارِهِ ، ثُمَّ الرَّضَاعِ ، ثُمَّ الْفِطَامِ ، ثُمَّ الْمَرَاتِبِ الْأُخَرِ عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْنَا إِلَى حُلُولِ الْمَنِيَّةِ بِهِ. هَذَا وَصْفُ الْمُتَحَرِّكِ النَّامِي بِذَاتِهِ مِنْ خَلْقِهِ وَخَلْقِ اللهِ جَلَّ وَعَلاَّ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خَلْقَهُ عَلَيْهَا ، وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ تَقْدُمُهُ اجْتِمَاعُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى ، أَوْ زَوَالُ الْمَاءِ ، أَوْ قَرَارُهُ ، أَوْ تَغْيِيرُ الْمَاءِ عَلَقَةً أَوْ مُضْغَةً ، أَوْ تَجْسِيمُهُ بَعْدَهُ ، فَأَبَانَ اللَّهُ بِهَذَا فَضْلَهُ عَلَى سَائِرِ مَنْ ذَكَرْنَا مِنْ خَلْقِهِ ، بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ نُطْفَةً فَعَلَقَةً ، وَلاَ عَلَقَةً فَمُضْغَةً ، وَلاَ مُضْغَةً فَرَضِيعًا ، وَلاَ رَضِيعًا فَفَطِيمًا ، وَلاَ فَطِيمًا فَشَابًّا كَمَا كَانَتْ هَذِهِ حَالَةُ غَيْرِهِ ضِدَّ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَصْحَابَ الْحَدِيثِ حَشْوِيَّةٌ يَرْوُونَ مَا لاَ يَعْقِلُونَ وَيَحْتَجُّونَ بِمَا لاَ يَدْرُونَ.(1/438)
ولما جاءت الملائكة سيدنا إبراهيم عليه السلام تبشره بإسحاق قدمت بين يديها عند الدخول تحية السلام:{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) } [الذاريات:24 - 25]
يَعُودُ تَعَالى لِيُذَكِّرَ رَسُولَهُ الكَرِيمَ - صلى الله عليه وسلم - بِقَصَصِ الأنبياءِ الكِرَامِ مَعَ أقوامِهم،وَمَا لَقوهُ من تَكْذِيبٍ وَإيذاءٍ فَثَبَتُوا عَلى ما أصَابَهُمْ،وَتَابَعُوا أَدَاءَ مَهَمَّتِهِم التي كَلَّفَهُمْ بها رَبُّهُمْ،،بِعَزْمٍ وَصَبْرٍ فَنَصَرَهُمُ اللهُ،وَدَمَّرَ أقَوْامَهُمْ .
وَفي هَذِهِ القَصَصِ تَثْبِيتٌ لِقَلْبِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَتَسْلِيَةٌ لَهُ،وَتَحْذيرٌ للكَافِرِينَ مِنْ عَذابِ اللهِ وَعِقَابِهِ،وَلفتٌ لأنْظارِهِمْ إلى أنَّ سُنَّةَ اللهِ قَدْ مَضَتْ في نَصْرِ الرُّسُلِ،وَتَدْمِيرِ الكُفْرِ وَأهْلِهِ،وَليسَ لِسُنةِ اللهِ تَبْدِيلٌ،وَلا تَحْويلٌ .
وَيَبْدَأ اللهُ تَعَالى بِقصَّةِ إبراهيمَ،عليه السَّلامُ،حينَما جَاءَهُ ضُيُوفٌ مُكَرَّمونَ مِنَ الملائكةِ الأطْهَارِ .وَقَدْ دَخَلَ هَؤُلاءِ الأضْيَافُ عَلَى إبراهِيمَ،عَليهِ السَّلامُ،فَحَيَّوْهُ بالسَّلامِ،فَرَدَّ تَحِيَّتَهُمْ بأحْسَنَ مِنْها.وَقَدْ جَاءَهُ الرُّسُلُ في هَيِْئةِ شُبَّانٍ صِبَاحِ الوُجُوهِ،عَلَيهِم المَهَابَةُ،فأَنْكَرَ وُجُودَ مِثْلِهِمْ في المِنْطَقَةِ . (1)
وأمر الله تعالى عباده بالسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (56) سورة الأحزاب
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالى عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ مُحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فِي المَلإِ الأَعْلَى،وَأَنَّ المَلائِكَةَ تَسْتَغفِرُ لَهُ،ثَمَّ أَمَرَ اللهُ عِبَادَهُ بالصَّلاة والسَّلامِ عَلى نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِيَجْتَمِعَ لَهُ الثَّنَاءُ عَلَيهِ مِنْ أَهْلِ العَالَمَيْنِ:العُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ . (2)
وكما أن الله تبارك وتعالى كرر في ثنايا كتابه الكريم السلام على الأنبياء والمرسلين تكريما لأعمالهم،وتخليدا لذكراهم وتعريفا بفضلهم: {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} (79) سورة الصافات،{سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} (109) سورة الصافات 109،{سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ } (120) سورة الصافات،{سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} (130) سورة الصافات،وعن سيدنا يحيى عليه السلام يقول: {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} (15) سورة مريم،ويقول على لسان سيدنا عيسى: {وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} (33) سورة مريم
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4578)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 3470)(1/439)
والإسلام هو دين السلام قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (208) سورة البقرة
يا أيها الذين آمنوا بالله ربًا وبمحمد نبيًا ورسولا وبالإسلام دينًا،ادخلوا في جميع شرائع الإسلام،عاملين بجميع أحكامه،ولا تتركوا منها شيئًا،ولا تتبعوا طرق الشيطان فيما يدعوكم إليه من المعاصي. إنه لكم عدو ظاهر العداوة فاحذروه. (1)
وأول مفاهيم هذه الدعوة أن يستسلم المؤمنون بكلياتهم للّه،في ذوات أنفسهم،وفي الصغير والكبير من أمرهم. أن يستسلموا الاستسلام الذي لا تبقى بعده بقية ناشزة من تصور أو شعور،ومن نية أو عمل،ومن رغبة أو رهبة،لا تخضع للّه ولا ترضى بحكمه وقضاه. استسلام الطاعة الواثقة المطمئنة الراضية. الاستسلام لليد التي تقود خطاهم وهم واثقون أنها تريد بهم الخير والنصح والرشاد وهم مطمئنون إلى الطريق والمصير،في الدنيا والآخرة سواء.
وتوجيه هذه الدعوة إلى الذين آمنوا إذ ذاك تشي بأنه كانت هنالك نفوس ما تزال يثور فيها بعض التردد في الطاعة المطلقة في السر والعلن. وهو أمر طبيعي أن يوجد في الجماعة إلى جانب النفوس المطمئنة الواثقة الراضية .. وهي دعوة توجه في كل حين للذين آمنوا ليخلصوا ويتجردوا وتتوافق خطرات نفوسهم واتجاهات مشاعرهم مع ما يريد اللّه بهم،وما يقودهم إليه نبيهم ودينهم،في غير ما تلجلج ولا تردد ولا تلفت.
والمسلم حين يستجيب هذه الاستجابة يدخل في عالم كله سلم وكله سلام. عالم كله ثقة واطمئنان،وكله رضى واستقرار. لا حيرة ولا قلق،ولا شرود ولا ضلال. سلام مع النفس والضمير. سلام مع العقل والمنطق. سلام مع الناس والأحياء. سلام مع الوجود كله ومع كل موجود. سلام يرف في حنايا السريرة.
وسلام يظلل الحياة والمجتمع. سلام في الأرض وسلام في السماء.
وأول ما يفيض هذا السلام على القلب يفيض من صحة تصوره للّه ربه،ونصاعة هذا التصور وبساطته ..
إنه إله واحد. يتجه إليه المسلم وجهة واحدة يستقر عليها قلبه فلا تتفرق به السبل،ولا تتعدد به القبل ولا يطارده إله من هنا وإله من هناك - كما كان في الوثنية والجاهلية - إنما هو إله واحد يتجه إليه في ثقة وفي طمأنينة وفي نصاعة وفي وضوح.
وهو إله قوي قادر عزيز قاهر .. فإذا اتجه إليه المسلم فقد اتجه إلى القوة الحقة الوحيدة في هذا الوجود.
__________
(1) - التفسير الميسر - (1 / 222)(1/440)
وقد أمن كل قوة زائفة واطمأن واستراح. ولم يعد يخاف أحدا أو يخاف شيئا،وهو يعبد اللّه القوي القادر العزيز القاهر. ولم يعد يخشى فوت شيء. ولا يطمع في غير من يقدر على الحرمان والعطاء.
وهو إله عادل حكيم،فقوته وقدرته ضمان من الظلم،وضمان من الهوى،وضمان من البخس. وليس كآلهة الوثنية والجاهلية ذوات النزوات والشهوات. ومن ثم يأوي المسلم من إلهه إلى ركن شديد،ينال فيه العدل والرعاية والأمان.
وهو رب رحيم ودود. منعم وهاب. غافر الذنب وقابل التوب. يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء.
فالمسلم في كنفه آمن آنس،سالم غانم،مرحوم إذا ضعف،مغفور له متى تاب ..
وهكذا يمضي المسلم مع صفات ربه التي يعرفه بها الإسلام فيجد في كل صفة ما يؤنس قلبه،وما يطمئن روحه،وما يضمن معه الحماية والوقاية والعطف والرحمة والعزة والمنعة والاستقرار والسلام
كذلك يفيض السلام على قلب المسلم من صحة تصور العلاقة بين العبد والرب. وبين الخالق والكون.
وبين الكون والإنسان .. فاللّه خلق هذا الكون بالحق وخلق كل شيء فيه بقدر وحكمة. وهذا الإنسان مخلوق قصدا،وغير متروك سدى،ومهيأ له كل الظروف الكونية المناسبة لوجوده،ومسخر له ما في الأرض جميعا.
وهو كريم على اللّه،وهو خليفته في أرضه. واللّه معينه على هذه الخلافة. والكون من حوله صديق مأنوس،تتجاوب روحه مع روحه،حين يتجه كلاهما إلى اللّه ربه. وهو مدعو إلى هذا المهرجان الإلهي المقام في السماوات والأرض ليتملاه ويأنس به. وهو مدعو للتعاطف مع كل شيء ومع كل حي في هذا الوجود الكبير،الذي يعج بالأصدقاء المدعوين مثله إلى ذلك المهرجان! والذين يؤلفون كلهم هذا المهرجان! والعقيدة التي تقف صاحبها أمام النبتة الصغيرة،وهي توحي إليه أن له أجرا حين يرويها من عطش،وحين يعينها على النماء،وحين يزيل من طريقها العقبات .. هي عقيدة جميلة فوق أنها عقيدة كريمة. عقيدة تسكب في روحه السلام وتطلقه يعانق الوجود كله ويعانق كل موجود ويشيع من حوله الأمن والرفق،والحب والسلام.
والاعتقاد بالآخرة يؤدي دوره الأساسي في إفاضة السلام على روح المؤمن وعالمه ونفي القلق والسخط والقنوط .. إن الحساب الختامي ليس في هذه الأرض والجزاء الأوفى ليس في هذه العاجلة .. إن الحساب الختامي هناك والعدالة المطلقة مضمونة في هذا الحساب. فلا ندم على الخير والجهاد في سبيله إذا لم يتحقق في الأرض أو لم يلق جزاءه. ولا قلق على الأجر إذا لم يوف في هذه العاجلة بمقاييس الناس،فسوف يوفاه بميزان اللّه. ولا قنوط من العدل إذا توزعت الحظوظ في الرحلة القصيرة على غير ما يريد،فالعدل لا بد واقع. وما اللّه يريد ظلما للعباد.(1/441)
والاعتقاد بالآخرة حاجز كذلك دون الصراع المجنون المحموم الذي تداس فيه القيم وتداس فيه الحرمات.
بلا تحرج ولا حياء. فهناك الآخرة فيها عطاء،وفيها غناء،وفيها عوض عما يفوت. وهذا التصور من شأنه أن يفيض السلام على مجال السباق والمنافسة وأن يخلع التجمل على حركات المتسابقين وأن يخفف السعار الذي ينطلق من الشعور بأن الفرصة الوحيدة المتاحة هي فرصة هذا العمر القصير المحدود! ومعرفة المؤمن بأن غاية الوجود الإنساني هي العبادة،وأنه مخلوق ليعبد اللّه .. من شأنها - ولا شك - أن ترفعه إلى هذا الأفق الوضيء. ترفع شعوره وضميره،وترفع نشاطه وعمله،وتنظف وسائله وأدواته. فهو يريد العبادة بنشاطه وعمله وهو يريد العبادة بكسبه وإنفاقه وهو يريد العبادة بالخلافة في الأرض وتحقيق منهج اللّه فيها. فأولى به ألا يغدر ولا يفجر وأولى به ألا يغش ولا يخدع وأولى به ألا يطغى ولا يتجبر وأولى به ألا يستخدم أداة مدنسة ولا وسيلة خسيسة. وأولى به كذلك ألا يستعجل المراحل،وألا يعتسف الطريق،وألا يركب الصعب من الأمور. فهو بالغ هدفه من العبادة بالنية الخالصة والعمل الدائب في حدود الطاقة ..
ومن شأن هذا كله ألا تثور في نفسه المخاوف والمطامع،وألا يستبد به القلق في أية مرحلة من مراحل الطريق.
فهو يعبد في كل خطوة وهو يحقق غاية وجوده في كل خطرة،وهو يرتقي صعدا إلى اللّه في كل نشاط وفي كل مجال.
وشعور المؤمن بأنه يمضي مع قدر اللّه،في طاعة اللّه،لتحقيق إرادة اللّه .. وما يسكبه هذا الشعور في روحه من الطمأنينة والسلام والاستقرار والمضي في الطريق بلا حيرة ولا قلق ولا سخط على العقبات والمشاق وبلا قنوط من عون اللّه ومدده وبلا خوف من ضلال القصد أو ضياع الجزاء .. ومن ثم يحس بالسلام في روحه حتى وهو يقاتل أعداء اللّه وأعداءه. فهو إنما يقاتل للّه،وفي سبيل اللّه،ولإعلاء كلمة اللّه ولا يقاتل لجاه أو مغنم أو نزوة أو عرض ما من أعراض هذه الحياة.
كذلك شعوره بأنه يمضي على سنة اللّه مع هذا الكون كله. قانونه قانونه،ووجهته وجهته. فلا صدام ولا خصام،ولا تبديد للجهد ولا بعثرة للطاقة. وقوى الكون كله تتجمع إلى قوته،وتهتدي بالنور الذي يهتدي به،وتتجه إلى اللّه وهو معها يتجه إلى اللّه.
والتكاليف التي يفرضها الإسلام على المسلم كلها من الفطرة ولتصحيح الفطرة. لا تتجاوز الطاقة ولا تتجاهل طبيعة الإنسان وتركيبه ولا تهمل طاقة واحدة من طاقاته لا تطلقها للعمل والبناء والنماء ولا تنسى حاجة واحدة من حاجات تكوينه الجثماني والروحي لا تلبيها في يسر وفي سماحة وفي رخاء .. ومن ثم لا يحار ولا يقلق في مواجهة تكاليفه. يحمل منها ما يطيق حمله،ويمضي في الطريق إلى اللّه في طمأنينة وروح وسلام.(1/442)
والمجتمع الذي ينشئه هذا المنهج الرباني،في ظل النظام الذي ينبثق من هذه العقيدة الجميلة الكريمة،والضمانات التي يحيط بها النفس والعرض والمال .. كلها مما يشيع السلم وينشر روح السلام.
هذا المجتمع المتواد المتحاب المترابط المتضامن المتكافل المتناسق. هذا المجتمع الذي حققه الإسلام مرة في أرقى وأصفى صوره. ثم ظل يحققه في صور شتى على توالي الحقب،تختلف درجة صفائه،ولكنه يظل في جملته خيرا من كل مجتمع آخر صاغته الجاهلية في الماضي والحاضر،وكل مجتمع لوثته هذه الجاهلية بتصوراتها ونظمها الأرضية! هذا المجتمع الذي تربطه آصرة واحدة - آصرة العقيدة - حيث تذوب فيها الأجناس والأوطان،واللغات والألوان،وسائر هذه الأواصر العرضية التي لا علاقة لها بجوهر الإنسان ..
هذا المجتمع الذي يسمع اللّه يقول له:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (10) سورة الحجرات .. والذي يرى صورته في قول رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ». (1) ..
هذا المجتمع الذي من آدابه:{وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} (86) سورة النساء.. {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (18) سورة لقمان.. {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (34) سورة فصلت.. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (11) سورة الحجرات.. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات ..
هذا المجتمع الذي من ضماناته:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (6) سورة الحجرات .. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (27) سورة النور .. وقول رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَنَاجَشُوا
__________
(1) - - صحيح مسلم- المكنز - (6706 )(1/443)
وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا. الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يَخْذُلُهُ وَلاَ يَحْقِرُهُ. التَّقْوَى هَا هُنَا ». وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ « بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ ». (1) ..
ثم هذا المجتمع النظيف العفيف الذي لا تشيع فيه الفاحشة ولا يتبجح فيه الإغراء،ولا تروج فيه الفتنة،ولا ينتشر فيه التبرج،ولا تتلفت فيه الأعين على العورات،ولا ترف فيه الشهوات على الحرمات،ولا ينطلق فيه سعار الجنس وعرامة اللحم والدم كما تنطلق في المجتمعات الجاهلية قديما وحديثا .. هذا المجتمع الذي تحكمه التوجيهات الربانية الكثيرة،والذي يسمع اللّه - سبحانه - يقول:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (19) سورة النور .. {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} (2) سورة النور.. {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (4) سورة النور
.. {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (30) سورة النور.. {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (31) سورة النور
والذي يخاطب فيه نساء النبي - أطهر نساء الأرض في أطهر بيت في أطهر بيئة في أطهر زمان {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)} سورة الأحزاب..
وفي مثل هذا المجتمع تأمن الزوجة على زوجها،ويأمن الزوج على زوجته،ويأمن الأولياء على حرماتهم وأعراضهم،ويأمن الجميع على أعصابهم وقلوبهم. حيث لا تقع العيون على المفاتن،ولا تقود العيون القلوب إلى المحارم. فإما الخيانة المتبادلة حينذاك وإما الرغائب المكبوتة وأمراض النفوس وقلق
__________
(1) - - صحيح مسلم- المكنز - (6751 )(1/444)
الأعصاب .. بينما المجتمع المسلم النظيف العفيف آمن ساكن،ترف عليه أجنحة السلم والطهر والأمان! وأخيرا إنه ذلك المجتمع الذي يكفل لكل قادر عملا ورزقا،ولكل عاجز ضمانة للعيش الكريم،ولكل راغب في العفة والحصانة زوجة صالحة،والذي يعتبر أهل كل حي مسؤولين مسؤولية جنائية لومات فيهم جائع حتى ليرى بعض فقهاء الإسلام تغريمهم بالدية.
والمجتمع الذي تكفل فيه حريات الناس وكراماتهم وحرماتهم وأموالهم بحكم التشريع،بعد كفالتها بالتوجيه الرباني المطاع. فلا يؤخذ واحد فيه بالظنة،ولا يتسور على أحد بيته،ولا يتجسس على أحد فيه متجسس،ولا يذهب فيه دم هدرا والقصاص حاضر ولا يضيع فيه على أحد ماله سرقة أو نهبا والحدود حاضرة.
المجتمع الذي يقوم على الشورى والنصح والتعاون. كما يقوم على المساواة والعدالة الصارمة التي يشعر معها كل أحد أن حقه منوط بحكم شريعة اللّه لا بإرادة حاكم،ولا هوى حاشية،ولا قرابة كبير.
وفي النهاية المجتمع الوحيد بين سائر المجتمعات البشرية،الذي لا يخضع البشر فيه للبشر. إنما يخضعون حاكمين ومحكومين للّه ولشريعته وينفذون حاكمين ومحكومين حكم اللّه وشريعته. فيقف الجميع على قدم المساواة الحقيقية أمام اللّه رب العالمين وأحكم الحاكمين،في طمأنينة وفي ثقة وفي يقين ..
هذه كلها بعض معاني السلم الذي تشير إليه الآية وتدعو الذين آمنوا للدخول فيه كافة. ليسلموا أنفسهم كلها للّه فلا يعود لهم منها شي ء،ولا يعود لنفوسهم من ذاتها حظ إنما تعود كلها للّه في طواعية وفي انقياد وفي تسليم ..
ولا يدرك معنى هذا السلم حق إدراكه من لا يعلم كيف تنطلق الحيرة وكيف يعربد القلق في النفوس التي لا تطمئن بالإيمان،في المجتمعات التي لا تعرف الإسلام،أو التي عرفته ثم تنكرت له،وارتدت إلى الجاهلية،تحت عنوان من شتى العنوانات في جميع الأزمان .. هذه المجتمعات الشقية الحائرة على الرغم من كل ما قد يتوافر لها من الرخاء المادي والتقدم الحضاري،وسائر مقومات الرقي في عرف الجاهلية الضالة التصورات المختلة الموازين.
وحسبنا مثل واحد مما يقع في بلد أوربي من أرقى بلاد العالم كله وهو «السويد». حيث يخص الفرد الواحد من الدخل القومي ما يساوي خمسمائة جنيه في العام. وحيث يستحق كل فرد نصيبه من التأمين الصحي وإعانات المرض التي تصرف نقدا والعلاج المجاني في المستشفيات. وحيث التعليم في جميع مراحله بالمجان،مع تقديم إعانات ملابس وقروض للطلبة المتفوقين وحيث تقدم الدولة حوالي ثلاثمائة جنيه إعانة زواج لتأثيث البيوت .. وحيث وحيث من ذلك الرخاء المادي والحضاري العجيب ..
ولكن ماذا؟ ماذا وراء هذا الرخاء المادي والحضاري وخلو القلوب من الإيمان باللّه؟(1/445)
إنه شعب مهدد بالانقراض،فالنسل في تناقص مطرد بسبب فوضى الاختلاط! والطلاق بمعدل طلاق واحد لكل ست زيجات بسبب انطلاق النزوات وتبرج الفتن وحرية الاختلاط! والجيل الجديد ينحرف فيدمن على المسكرات والمخدرات ليعوض خواء الروح من الإيمان وطمأنينة القلب بالعقيدة. والأمراض النفسية والعصبية والشذوذ بأنواعه تفترس عشرات الآلاف من النفوس والأرواح والأعصاب .. ثم الانتحار ..والحال كهذا في أمريكا .. والحال أشنع من هذا في روسيا ..
إنها الشقوة النكدة المكتوبة على كل قلب يخلو من بشاشة الإيمان وطمأنينة العقيدة. فلا يذوق طعم السلم الذي يدعى المؤمنون ليدخلوا فيه كافة،ولينعموا فيه بالأمن والظل والراحة والقرار:«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً .. وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ» ..
ولما دعا اللّه الذين آمنوا أن يدخلوا في السلم كافة ... حذرهم أن يتبعوا خطوات الشيطان. فإنه ليس هناك إلا اتجاهان اثنان. إما الدخول في السلم كافة،وإما اتباع خطوات الشيطان. إما هدى وإما ضلال. إما إسلام وإما جاهلية. إما طريق اللّه وإما طريق الشيطان. وإما هدى اللّه وإما غواية الشيطان .. وبمثل هذا الحسم ينبغي أن يدرك المسلم موقفه،فلا يتلجلج ولا يتردد ولا يتحير بين شتى السبل وشتى الاتجاهات.
إنه ليست هنالك مناهج متعددة للمؤمن أن يختار واحدا منها،أو يخلط واحدا منها بواحد .. كلا! إنه من لا يدخل في السلم بكليته،ومن لا يسلم نفسه خالصة لقيادة اللّه وشريعته،ومن لا يتجرد من كل تصور آخر ومن كل منهج آخر ومن كل شرع آخر .. إن هذا في سبيل الشيطان،سائر على خطوات الشيطان ..
ليس هنالك حل وسط،ولا منهج بين بين،ولا خطة نصفها من هنا ونصفها من هناك! إنما هناك حق وباطل. هدى وضلال. إسلام وجاهلية. منهج اللّه أو غواية الشيطان. واللّه يدعو المؤمنين في الأولى إلى الدخول في السلم كافة ويحذرهم في الثانية من اتباع خطوات الشيطان. ويستجيش ضمائرهم ومشاعرهم،ويستثير مخاوفهم بتذكير هم بعداوة الشيطان لهم،تلك العداوة الواضحة البينة،التي لا ينساها إلا غافل.والغفلة لا تكون مع الإيمان.
ثم يخوفهم عاقبة الزلل بعد البيان:«فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ..
وتذكيرهم بأن اللّه «عَزِيزٌ» يحمل التلويح بالقوة والقدرة والغلبة،وأنهم يتعرضون لقوة اللّه حين يخالفون عن توجيهه .. وتذكير هم بأنه «حَكِيمٌ» .. فيه إيحاء بأن ما اختاره لهم هو الخير،وما نهاهم(1/446)
هو الشر،وأنهم يتعرضون للخسارة حين لا يتبعون أمره ولا ينتهون عما نهاهم عنه .. فالتعقيب بشطريه يحمل معنى التهديد والتحذير في المقام .. (1)
والسلام كلمة مقدسة يكررها المسلم في كل صلاة عدة مرات،ثم يختم صلاته بقوله" السلام عليكم ورحمة الله وبركاته" وهو خير ما في الإسلام فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو،أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ ؟ قَالَ:تُطْعِمُ الطَّعَامَ،وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ،وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ. " (2) .
وجعله سببا مفضيا إلى المحبة،فالإيمان فدخول الجنة،فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا،وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا،أَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ (3) .
وليلة القدر التي نزل فيها القرآن العظيم هدى ورحمة للعالمين وصفها الله تعالى بأنها {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (5) سورة القدر.
وَهِيَ لَيْلَةٌ كُلُّهَا سَلاَمٌ وَأَمْنٌ وَخَيْرٌ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللهِ،وَأَهْلِ طَاعَتِهِ،مِنْ مَبْدَئِهَا إِلَى نِهَايَتِهَا فِي مَطْلَعِ الفَجْرِ . (4)
وأمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يعامل معارضيه وخصومه قائلا: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} (89) سورة الزخرف.
فَأَعْرِضْ عَنْ هَؤَلاَءِ المُعَانِدِينَ بَعْدَ أَنْ أَبْلَغْتَهُمْ رِسَالَةَ رَبِّكَ،وَلاَ تُجِبْهِمْ بِمِثْلِ مَا يُخَاطِبُونَكَ بِهِ مِنَ الكَلاَمِ السَّيءِ وَلَكِنْ تَأَلَّفْهُمْ،وَاصْفَحْ عَنْهُمْ قَولاً وَفِعْلاً،فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أَنَّ عَاقِبَةَ كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ هِيَ الخُسْرَانُ المُبِينُ . (5)
كما جعل تحية أهل الجنة حين يلقون ربهم {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} (44) سورة الأحزاب 44.
وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُحَيَّوْنَ باِلسَّلاَمِ،وَهُنَاكَ ثَلاثَةُ أَقْوالٍ حَوْلَ مَنِ الذِي يُحَيِّيهِمْ بالسَّلام:
- يَقُولُ أَحَدُ هذِهِ الأََقْوَالِ:إِنَّ اللهَ تَعَالى هُوَ الذِي يُحَيِّيهِمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ بالسَّلامِ،لِقَوْلِهِ تَعَالى فِي آيةٍ أُخْرَى:{ سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } - وَيَقُولُ الآخَرُ:إِنَّ المَلاَئِكَةَ الكِرَامَ هُمُ الذِينَ يُحَيُّونَهُمْ بالسَّلامِ،إِذا دَخُلُوا الجَنَّةَ كَمَا قَالَ تَعَالى:{ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ } - وَالقَولُ الآخَرُ يَقُولُ:إِنَّهُمْ هُمُ الذِينَ يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضاً بالسَّلامِ،يَوْمَ يَلْقَوْنَ رَبِّهُمْ فِي
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 206)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (12 ) وصحيح مسلم- المكنز - (169) وصحيح ابن حبان - (2 / 258) (505)
(3) - صحيح ابن حبان - (1 / 472) (236) وصحيح مسلم- المكنز - (203)
(4) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 6007)
(5) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4293)(1/447)
الدَّارِ الآخِرَةِ،كَمَا قَالَ تَعَالى:{ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } وَقَدْ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ فِي الجَنَّة ثَواباً عَظِيماً عَلَى إِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا . (1)
وعندما تتلقاهم الملائكة {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} (73) سورة الزمر،وكذلك ينعم عليهم المولى عز وجل بخطابه الإلهي: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} (34) سورة ق.
وأخيرا فقد شرع الإسلام السلام تحية بين المسلمين وحض على إفشائه والإكثار من ترداده،كلما لقي المسلم فردا أو جماعة،عرفهم أم لم يعرفهم كما سبق في الحديث الشريف،وجعل ذلك أحد الطرق الموصلة إلى الجنة،فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ قَالَ:لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ اسْتَشْرَفَهُ النَّاسُ فَقَالُوا:قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:فَخَرَجْتُ فِيمَنْ خَرَجَ فَلَمَّا رَأَيْتُ وَجْهَهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ،فَكَانَ أَوَّلَ مَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ :« يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلاَمَ وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ،وَصِلُوا الأَرْحَامَ وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ،تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلاَمٍ » (2) ..
وقد بلغ من محبة السلف الصالح لبذل السلام هذه الحادثة الغريبة فعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ،أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ،أَخْبَرَهُ أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَيَغْدُو مَعَهُ إِلَى السُّوقِ،قَالَ:فَإِذَا غَدَوْنَا إِلَى السُّوقِ،لَمْ يَمُرَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى سَقَاطٍ،وَلَا صَاحِبِ بِيعَةٍ،وَلَا مِسْكِينٍ،وَلَا أَحَدٍ إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ،قَالَ الطُّفَيْلُ:فَجِئْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَوْمًا فَاسْتَتْبَعَنِي إِلَى السُّوقِ،فَقُلْتُ لَهُ:وَمَا تَصْنَعُ فِي السُّوقِ ؟ وَأَنْتَ لَا تَقِفُ عَلَى الْبَيِّعِ،وَلَا تَسْأَلُ عَنِ السِّلَعِ،وَلَا تَسُومُ بِهَا،وَلَا تَجْلِسُ فِي مَجَالِسِ السُّوقِ ؟ قَالَ:وَأَقُولُ اجْلِسْ بِنَا هَاهُنَا نَتَحَدَّثُ،قَالَ فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ:" يَا أَبَا بَطْنٍ - وَكَانَ الطُّفَيْلُ ذَا بَطْنٍ - إِنَّمَا نَغْدُو مِنْ أَجْلِ السَّلَامِ،نُسَلِّمُ عَلَى مَنْ لَقِيَنَا ". رواه مالك في الموطأ (3) .
وإذا كان للسلام هذه الأهمية في الإسلام،فإن له آدابا كثيرة على المسلم أن يراعيها في معرفة أحكامه،وكيفية إلقائه،وغير ذلك من الآداب الكريمة التي لا تترك نقيرا ولا فتيلا ولا قطميرا:
الالتزام بصيغة السلام الواردة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ،فيقول: السلام عليكم ويمكنه أن يزيد ورحمة الله وبركاته،أما ردُّ السلام فيكون على الفور وبالصيغة التالية وعليكم السلام،والأفضل أن يزيد ورحمة الله وبركاته،ولئن كان إلقاء السلام سنة فإن رده واجبا يأثم تاركه.
قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا} (86) سورة النساء.
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 3458)
(2) - سنن الدارمى- المكنز - (2688) صحيح
(3) - موطأ مالك- المكنز - (1764 ) صحيح -السقاط : بائع المتاع الردىء(1/448)
وَإِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ،فَرُدُّوا السَّلاَمَ عَلَيْهِ بِأَفْضَلَ مِنْهُ،أَوْ رُدُّوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ ( فََإِذَا قَالَ لَكُمْ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ فَرُدُّوا عَلَيهِ قَائِلِينَ:وَعَلَيْكُمُ السَّلاَمَ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ ).فَالزِّيَادَةُ مَنْدُوبَةٌ،وَالمُمَاثَلَةُ مَفْرُوضَةٌ .وَاللهُ مُحَاسِبٌ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ،وَاللهُ تَعَالَى رَقِيبٌ عَلَيْكُمْ فِي مُرَاعَاةِ الصِّلَةِ بَيْنَكُمْ بِالتَّحِيَّةِ،وَيُحَاسِبُكُمْ عَلَى ذَلِكَ . (1)
وعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ. فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلاَمَ ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « عَشْرٌ ». ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. فَرَدَّ عَلَيْهِ فَجَلَسَ فَقَالَ « عِشْرُونَ ». ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. فَرَدَّ عَلَيْهِ فَجَلَسَ فَقَالَ « ثَلاَثُونَ ». رواه أبو داود (2)
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا،قَالَتْ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السَّلاَمَ،فَقُلْتُ:وَعَلَيْهِ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ،تَرَى مَا لاَ نَرَى يَا رَسُولَ اللهِ. متفق عليه (3) .
أن يأتي بضمير الجمع وإن كان المسلم عليه واحدا،وأن يقصد من سلامه امتثال أمر الله تعالى ورسوله،وعقد وشائج المحبة والأمان والاطمئنان بين المسلمين.
فعن الْبَرَاءَ بْنِ عَازِبٍ - رضى الله عنهما - قَالَ أَمَرَنَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِسَبْعٍ،وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ.فَذَكَرَ عِيَادَةَ الْمَرِيضِ،وَاتِّبَاعَ الْجَنَائِزِ،وَتَشْمِيتَ الْعَاطِسِ،وَرَدَّ السَّلاَمِ،وَنَصْرَ الْمَظْلُومِ،وَإِجَابَةَ الدَّاعِى،وَإِبْرَارَ الْمُقْسِمِ " (4) .
أن يبدأ بالسلام قبل الكلام إذا أتى أحدا في بيته،أو لقي أحدا في الطريق،وأن يختم مجلسه أو كلامه بالسلام أيضا.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (27) سورة النور
يُؤَدِّبُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ فَيَأْمُرُهُم بِأَلاَّ يَدْخُلُوا بُيوتاً غَيْرَ بُيُوتِهِمْ حَتَّى يَسْتَأْذِنُوا قَبْلَ الدُّخُولِ ( يَسْتَأنِسُوا )،وَيُسَلِّمُوا بَعْدَ الاستئذان،وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَأَذِنُوا ثَلاثَ مَرَّاتٍ،فَإِذَا أُذِنَ لَهُمْ دَخُلُوا وَإِلاَّ انصرفوا،فَالاستئذان خَيْرٌ لِلمُسْتَأذِنِ وَلأَهْلِ البَيْتِ،فالبيْتُ سَكَنٌ يَفِيُْ إِلَيْهِ النَّاسُ فَتَسْكُنُ أَرْوَاحُهُمْ،وَيَطْمَئِنُّونَ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ وَحُرَمَاتِهِم،وَيُلْقُونَ عَنْهُمْ أَعْبَاءَ الحِرْصِ والحَذَرِ المُرْهِقَةِ للنُّفُوسِ والأَعْصَابِ،والبُيُوتُ لاَ تَكُونُ كَذَلِكَ إِلاَّ تَكُونُ حَرَمَاً آمِناً لاَ يَسْتَبِيحُهُ أَحَدٌ إِلاَّ بِعِلمِ أَهْلِهِ وإِذْنِهِمْ فِي
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 579)
(2) - سنن أبي داود - المكنز - (5197) صحيح
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (3217) وصحيح مسلم- المكنز - (6457 ) وصحيح ابن حبان - (16 / 11) (7098)
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (2445 )(1/449)
الوَقتِ الذي يُرِيدُونَ هُمْ.( وَكَانُوا فِي الجَاهِليَّةِ يَدْخُلُونَ بِدُونِ اسْتِئْذَان ) ثُمَّ يَقُولُونَ لَقَدْ دَخَلْنَا ) (1) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَجْلِسِ فَلْيُسَلِّمْ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقُومَ فَلْيُسَلِّمْ فَلَيْسَتِ الأُولَى بِأَحَقَّ مِنَ الآخِرَةِ ». رواه أبو داود (2) .
وعَنْ جُنْدُبٍ،قَالَ:كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِذَا لَقِيَ أَصْحَابَهُ لَمْ يُصَافِحْهُمْ حَتَّى يُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ. رواه الطبراني (3) .
وعَنْ قَتَادَةَ،قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " إِذَا دَخَلْتُمْ بَيْتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهِ،فَإِذَا خَرَجْتُمْ فَأَوْدِعُوا أَهْلَهُ بِسَلَامٍ "رواه البيهقي (4) .
السلام على أهل بيته كلما دخل البيت أو خرج منه. عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ قَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَا بُنَىَّ إِذَا دَخَلْتَ عَلَى أَهْلِكَ فَسَلِّمْ يَكُونُ بَرَكَةً عَلَيْكَ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ ». رواه الترمذي (5) .
التجرؤ على ابتداء السلام وإلقائه على الآخرين،لا انتظار الناس لتلقي عليه السلام. وذلك ليكتسب الأجر الكبير الذي ينتظر من يبدأ غيره بالسلام.فعَنْ أَبِى أُمَامَةَ قَالَ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلاَنِ يَلْتَقِيَانِ أَيُّهُمَا يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ فَقَالَ « أَوْلاَهُمَا بِاللَّهِ ». رواه الترمذي (6) .
يستحب أن يكرر المسلم السلام على أخيه المسلم كلما تقرر لقاؤه به ولو كان الفاصل زمنا يسيرا.
فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ إِذَا لَقِىَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ فَإِنْ حَالَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ أَوْ جِدَارٌ أَوْ حَجَرٌ ثُمَّ لَقِيَهُ فَلْيُسَلِّمْ عَلَيْهِ أَيْضًا." أبو داود (7) .
يستحب إذا أتى قوما وهم جمع كثير أن يسلِّم عليهم ثلاثا حتى يبلغهم جميعا. فعَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاَثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ،وَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلاَثًا" (8)
يسلم الماشي على الواقف،والراكب على الماشي،والصغير على الكبير،والواحد على الجماعة،والقليل على الكثير،وهكذا..
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2700)
(2) - سنن أبي داود - المكنز - (5210 ) صحيح لغيره
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (2 / 241) (1700) فيه جهالة
(4) - شعب الإيمان - (11 / 231) (8459 ) صحيح مرسل
(5) - سنن الترمذى- المكنز - (2915 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
(6) - سنن الترمذى- المكنز - (2910 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
(7) - سنن أبي داود - المكنز - (5202 ) صحيح موقوفا ومرفوعاً
(8) - صحيح البخارى- المكنز - (95)(1/450)
فعَنْ ثَابِتٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ زَيْدٍ،أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي،وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ،وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ. متفق عليه (1) .
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: يَرْفَعْهُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي،وَالْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ،وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ،وَالصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ،وَإِذَا مَرَّ الْقَوْمُ فَسَلَّمَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَجْزَأَ عَنْهُمْ،وَإِذَا رَدَّ عَنِ الْآخَرِينَ وَاحِدٌ أَجْزَأَ عَنْهُمْ " (2)
إذا قدم جماعة على فرد أجزأ أن يسلم أحدهم نيابة عنه،وإذا قدم أحد على جماعة فسلم عليهم أجزأ أن يرد أحدهم عليه نيابة عنهم. فعَنْ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ رضى الله عنه - قَالَ أَبُو دَاوُدَ رَفَعَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِىٍّ - قَالَ « يُجْزِئُ عَنِ الْجَمَاعَةِ إِذَا مَرُّوا أَنْ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمْ وَيُجْزِئُ عَنِ الْجُلُوسِ أَنْ يَرُدَّ أَحَدُهُمْ ».رواه أبو داود (3) .
يستحب خفض الصوت بالسلام ليلا،أو إذا أتى قوما بينهم نيام. فعَنِ الْمِقْدَادِ قَالَ أَقْبَلْتُ أَنَا وَصَاحِبَانِ لِى وَقَدْ ذَهَبَتْ أَسْمَاعُنَا وَأَبْصَارُنَا مِنَ الْجَهْدِ فَجَعَلْنَا نَعْرِضُ أَنْفُسَنَا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَقْبَلُنَا فَأَتَيْنَا النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَانْطَلَقَ بِنَا إِلَى أَهْلِهِ فَإِذَا ثَلاَثَةُ أَعْنُزٍ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « احْتَلِبُوا هَذَا اللَّبَنَ بَيْنَنَا ». قَالَ فَكُنَّا نَحْتَلِبُ فَيَشْرَبُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنَّا نَصِيبَهُ وَنَرْفَعُ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - نَصِيبَهُ - قَالَ - فَيَجِىءُ مِنَ اللَّيْلِ فَيُسَلِّمُ تَسْلِيمًا لاَ يُوقِظُ نَائِمًا وَيُسْمِعُ الْيَقْظَانَ - قَالَ - ثُمَّ يَأْتِى الْمَسْجِدَ فَيُصَلِّى ثُمَّ يَأْتِى شَرَابَهُ فَيَشْرَبُ فَأَتَانِى الشَّيْطَانُ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَقَدْ شَرِبْتُ نَصِيبِى فَقَالَ مُحَمَّدٌ يَأْتِى الأَنْصَارَ فَيُتْحِفُونَهُ وَيُصِيبُ عِنْدَهُمْ مَا بِهِ حَاجَةٌ إِلَى هَذِهِ الْجُرْعَةِ فَأَتَيْتُهَا فَشَرِبْتُهَا فَلَمَّا أَنْ وَغَلَتْ فِى بَطْنِى وَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ إِلَيْهَا سَبِيلٌ - قَالَ - نَدَّمَنِى الشَّيْطَانُ فَقَالَ وَيْحَكَ مَا صَنَعْتَ أَشَرِبْتَ شَرَابَ مُحَمَّدٍ فَيَجِىءُ فَلاَ يَجِدُهُ فَيَدْعُو عَلَيْكَ فَتَهْلِكُ فَتَذْهَبُ دُنْيَاكَ وَآخِرَتُكَ. وَعَلَىَّ شَمْلَةٌ إِذَا وَضَعْتُهَا عَلَى قَدَمَىَّ خَرَجَ رَأْسِى وَإِذَا وَضَعْتُهَا عَلَى رَأْسِى خَرَجَ قَدَمَاىَ وَجَعَلَ لاَ يَجِيئُنِى النَّوْمُ وَأَمَّا صَاحِبَاىَ فَنَامَا وَلَمْ يَصْنَعَا مَا صَنَعْتُ - قَالَ - فَجَاءَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَسَلَّمَ كَمَا كَانَ يُسَلِّمُ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ فَصَلَّى ثُمَّ أَتَى شَرَابَهُ فَكَشَفَ عَنْهُ فَلَمْ يَجِدْ فِيهِ شَيْئًا فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ فَقُلْتُ الآنَ يَدْعُو عَلَىَّ فَأَهْلِكُ.
فَقَالَ « اللَّهُمَّ أَطْعِمْ مَنْ أَطْعَمَنِى وَأَسْقِ مَنْ أَسْقَانِى ». قَالَ فَعَمَدْتُ إِلَى الشَّمْلَةِ فَشَدَدْتُهَا عَلَىَّ وَأَخَذْتُ الشَّفْرَةَ فَانْطَلَقْتُ إِلَى الأَعْنُزِ أَيُّهَا أَسْمَنُ فَأَذْبَحُهَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَإِذَا هِىَ حَافِلَةٌ وَإِذَا هُنَّ حُفَّلٌ كُلُّهُنَّ فَعَمَدْتُ إِلَى إِنَاءٍ لآلِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مَا كَانُوا يَطْمَعُونَ أَنْ يَحْتَلِبُوا فِيهِ - قَالَ - فَحَلَبْتُ فِيهِ حَتَّى عَلَتْهُ رَغْوَةٌ فَجِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « أَشَرِبْتُمْ شَرَابَكُمُ اللَّيْلَةَ ». قَالَ قُلْتُ يَا
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6232 ) وصحيح مسلم- المكنز - (5772 )
(2) - شعب الإيمان - (11 / 268)(8526) صحيح مرسل
(3) - سنن أبي داود - المكنز - (5212 ) صحيح(1/451)
رَسُولَ اللَّهِ اشْرَبْ. فَشَرِبَ ثُمَّ نَاوَلَنِى فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ اشْرَبْ. فَشَرِبَ ثُمَّ نَاوَلَنِى فَلَمَّا عَرَفْتُ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ رَوِىَ وَأَصَبْتُ دَعْوَتَهُ ضَحِكْتُ حَتَّى أُلْقِيتُ إِلَى الأَرْضِ - قَالَ - فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِحْدَى سَوْآتِكَ يَا مِقْدَادُ ». فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَانَ مِنْ أَمْرِى كَذَا وَكَذَا وَفَعَلْتُ كَذَا. فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مَا هَذِهِ إِلاَّ رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ أَفَلاَ كُنْتَ آذَنْتَنِى فَنُوقِظَ صَاحِبَيْنَا فَيُصِيبَانِ مِنْهَا ». قَالَ فَقُلْتُ وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أُبَالِى إِذَا أَصَبْتَهَا وَأَصَبْتُهَا مَعَكَ مَنْ أَصَابَهَا مِنَ النَّاسِ. رواه مسلم (1) .
يستحب أن يسلم على نفسه إذا دخل بيته وكان خاليا قائلا:" السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين".
قال الله تعالى:{ فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} (61) سورة النور
فإذا دخلتم بيوتًا مسكونة أو غير مسكونة فليسلِّم بعضكم على بعض بتحية الإسلام،وهي: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،أو السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين،إذا لم يوجد أحد،وهذه التحية شرعها الله،وهي مباركة تُنْمِي المودة والمحبة،طيبة محبوبة للسامع،وبمثل هذا التبيين يبيِّن الله لكم معالم دينه وآياته؛ لتعقلوها،وتعملوا بها.
يسنُّ السلام على الصبيان إذا مر بهم،مما يستجلب محبتهم،ويقوي شخصيتهم،ويمهد لنصحهم وتعليمهم،وينفي الكبر عن الذي ألقى السلام،كما يستحب إلقاء السلام على الفقراء والمساكين.
فعَنْ أَنَسٍ،أَنَّهُ مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ،ثُمَّ حَدَّثَنَا: " أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ ".رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (2) .
وفي رواية عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ عَلَى غِلْمَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ (3) .
تستحب المصافحة مع السلام،دون الانحناء أو العناق أو التقبيل.فعَنِ الْبَرَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إِلاَّ غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا ». رواه أبو داود (4) .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أَوْ صَدِيقَهُ أَيَنْحَنِى لَهُ قَالَ « لاَ ». قَالَ أَفَيَلْتَزِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ قَالَ « لاَ ».قَالَ أَفَيَأْخُذُ بِيَدِهِ وَيُصَافِحُهُ قَالَ « نَعَمْ ».. رواه الترمذي (5) .
تستحب استصحاب بشاشة الوجه،ولين الجانب،وحرارة اللقاء،أثناء إلقاء السلام أو رده.
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (5483 ) -الحافلة : كثيرة اللبن -وغلت : دخلت وتمكنت
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (6247 ) وشعب الإيمان - (11 / 254)(8503 )
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (5791 )
(4) - سنن أبي داود - المكنز - (5214) صحيح
(5) - سنن الترمذى- المكنز - (2947 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.(1/452)
فعَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قَالَ لِىَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ ». رواه مسلم (1) .
يكره ألقاء السلام على من يبول،وعلى النائم،وعلى المصلي أو المتوضئ حتى ينتهيا،كما يكره السلام على تالي القرآن والمنشغل بالذكر أو الدعاء لئلا يشغلهم عن عبادتهم برد السلام،كما يكره السلام على المؤذن والخطيب والمدرس. (2)
عدم السلام على الكفار:
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلاَ النَّصَارَى بِالسَّلاَمِ فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِى طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ ». أخرجه مسلم (3)
وعَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ مَرَّ يَهُودِىٌّ بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ السَّامُ عَلَيْكَ.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « وَعَلَيْكَ ».فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَتَدْرُونَ مَا يَقُولُ قَالَ السَّامُ عَلَيْكَ ».قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ نَقْتُلُهُ قَالَ « لاَ،إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا وَعَلَيْكُمْ » (4) .
من مر بمجلس فيه كفار ومسلمون سلم وقصد المسلمين:
عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - رَكِبَ حِمَارًا عَلَيْهِ إِكَافٌ تَحْتَهُ قَطِيفَةٌ فَدَكِيَّةٌ وَأَرْدَفَ وَرَاءَهُ أُسَامَةَ وَهُوَ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِى بَنِى الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ وَذَاكَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ حَتَّى مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلاَطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ وَفِى الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَلَمَّا غَشِيَتِ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ خَمَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ ثُمَّ قَالَ لاَ تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا.
فَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ أَيُّهَا الْمَرْءُ لاَ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَلاَ تُؤْذِنَا فِى مَجَالِسِنَا وَارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ فَمَنْ جَاءَكَ مِنَّا فَاقْصُصْ عَلَيْهِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ اغْشَنَا فِى مَجَالِسِنَا فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ. قَالَ فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَتَوَاثَبُوا فَلَمْ يَزَلِ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يُخَفِّضُهُمْ ثُمَّ رَكِبَ دَابَّتَهُ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6857 )
(2) - انظر : الفقه الإسلامي وأدلته - (4 / 232) والموسوعة الفقهية الكويتية - (43 / 374) وفتاوى الشبكة الإسلامية معدلة - (5 / 8198) رقم الفتوى 39149 أحوال يكره فيها البدء بالسلام وفتاوى واستشارات الإسلام اليوم - (15 / 65) السلام على المنشغل بتلاوة القرآن والآداب الشرعية - (1 / 415) وغذاء الألباب في شرح منظومة الآداب - (1 / 432)
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (5789 )
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (6926)(1/453)
حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ « أَىْ سَعْدُ أَلَمْ تَسْمَعْ إِلَى مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ - يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ - قَالَ كَذَا وَكَذَا ». قَالَ اعْفُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاصْفَحْ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَاكَ اللَّهُ الَّذِى أَعْطَاكَ وَلَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُوهُ بِالْعِصَابَةِ فَلَمَّا رَدَّ اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِى أَعْطَاكَهُ شَرِقَ بِذَلِكَ فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ. فَعَفَا عَنْهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - . (1)
ما يقول من التحايا بعد السلام ورده
عَنْ أَبِي جَمْرَةَ،قَالَ:كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَيْنَ النَّاسِ،فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ تَسْأَلُهُ عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ،فَقَالَ:إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ أَتَوْا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنِ الْوَفْدُ،أَوْ مَنِ الْقَوْمُ ؟ قَالُوا:رَبِيعَةُ،قَالَ:مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ أَوْ بِالْوَفْدِ غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ نَدَامَى،قَالُوا:يَا رَسُولَ اللهِ،إِنَّا نَأْتِيكَ مِنْ شُقَّةٍ بَعِيدَةٍ،إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَرَ،وَإِنَّا لاَ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ إِلاَّ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ،فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نُخْبِرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا،وَنَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ. قَالَ:فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ،وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ:أَمَرَهُمْ بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ،وَقَالَ:هَلْ تَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ ؟ قَالُوا:اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ،قَالَ:شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ،وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ،وَإِقَامُ الصَّلاَةِ،وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ،وَصَوْمُ رَمَضَانَ،وَأَنْ تُعْطُوا الْخُمُسَ مِنَ الْمَغْنَمِ،وَنَهَاهُمْ عَنِ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ،وَالْمُزَفَّتِ. قَالَ شُعْبَةُ:وَرُبَّمَا قَالَ:وَالنَّقِيرِ،وَرُبَّمَا قَالَ:الْمُقَيَّرِ،وَقَالَ:احْفَظُوهُ وَأَخْبِرُوهُ مَنْ وَرَاءَكُمْ. (2)
وعَنْ أَبِى النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِى طَالِبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِى طَالِبٍ تَقُولُ ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الْفَتْحِ،فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ،وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ قَالَتْ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ « مَنْ هَذِهِ ».فَقُلْتُ أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِى طَالِبٍ.فَقَالَ « مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ ».فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ،قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِىَ رَكَعَاتٍ،مُلْتَحِفًا فِى ثَوْبٍ وَاحِدٍ،فَلَمَّا انْصَرَفَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ،زَعَمَ ابْنُ أُمِّى أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلاً قَدْ أَجَرْتُهُ فُلاَنَ بْنَ هُبَيْرَةَ.فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ ».قَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ وَذَاكَ ضُحًى (3) .
تأنيس القادم،وسؤاله عن اسمه لينزل منزلته: عَنْ أَبِي جَمْرَةَ،قَالَ:كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَيْنَ النَّاسِ،فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ تَسْأَلُهُ عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ،فَقَالَ:إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ أَتَوْا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنِ الْوَفْدُ،أَوْ مَنِ الْقَوْمُ ؟ قَالُوا:رَبِيعَةُ،قَالَ:مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ أَوْ بِالْوَفْدِ غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ نَدَامَى " (4)
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (4760 )
شرق : غص به ولم يسيغه والمراد أنه حسد النبى -العجاجة : ما ارتفع من غبار حوافرها -الإكاف : البرذعة
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (53 ) وصحيح ابن حبان - (1 / 395)(172)
الحنتم : جرار مدهونة خضر تسرع الشدة فيها لأجل دهنها -الدباء : القرع كانوا ينتبذون فيه -المزفت : الإناء المطلى بالزفت -المقير : ما طلى بالقار وهو نبت يحرق إذا يبس تطلى به السفن وغيرها -النقير : أصل النخلة ينقر وسطه ثم ينتبذ فيه
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (357 ) وصحيح مسلم- المكنز - (1702)
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (87 ) وصحيح ابن حبان - (1 / 395) (172)(1/454)
السلام على الصبيان والنساء عند أمن الفتنة: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه أَنَّهُ مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَلُهُ. (1)
وعَنِ ابْنِ أَبِى حُسَيْنٍ سَمِعَهُ مِنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ يَقُولُ أَخْبَرَتْهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ يَزِيدَ مَرَّ عَلَيْنَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فِى نِسْوَةٍ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا. (2)
عدم الابتداء بـ: عليك السلام،عَنْ أَبِى جُرَىٍّ الْهُجَيْمِىِّ قَالَ أَتَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ عَلَيْكَ السَّلاَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ « لاَ تَقُلْ عَلَيْكَ السَّلاَمُ فَإِنَّ عَلَيْكَ السَّلاَمُ تَحِيَّةُ الْمَوْتَى ». (3)
القيام للقادم إكراماً له، عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ - هُوَ ابْنُ مُعَاذٍ - بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَكَانَ قَرِيبًا مِنْهُ،فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ،فَلَمَّا دَنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ ».فَجَاءَ فَجَلَسَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ لَهُ « إِنَّ هَؤُلاَءِ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِكَ ».قَالَ فَإِنِّى أَحْكُمُ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ،وَأَنْ تُسْبَى الذُّرِّيَّةُ.قَالَ « لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ » (4) .
وعَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رضى الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَشْبَهَ سَمْتًا وَهَدْيًا وَدَلاًّ - بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ فَاطِمَةَ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهَا كَانَتْ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ قَامَ إِلَيْهَا فَأَخَذَ بِيَدِهَا وَقَبَّلَهَا وَأَجْلَسَهَا فِى مَجْلِسِهِ وَكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهَا قَامَتْ إِلَيْهِ فَأَخَذَتْ بِيَدِهِ فَقَبَّلَتْهُ وَأَجْلَسَتْهُ فِى مَجْلِسِهَا. (5)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6247 )
(2) - سنن أبي داود - المكنز - (5206 ) صحيح لغيره
(3) - سنن أبي داود - المكنز - (5211 ) صحيح
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (3043 )
(5) - سنن أبي داود - المكنز - (5219) صحيح(1/455)
-38-آداب الاستئذان
الاستئذان أدب رفيع،يدل على حياء صاحبه وشهامته،وتربيته وعفته،وتزاهة نفسه وتكريمها عن رؤية ما لا يحب أن يراه عليه الناس،أو سماع حديث لا يحل له أن يسترقه دون معرفة المتحادثين،أو الدخول على قوم وإيقاعهم بالمفاجأة والإحراج.
والاستئذان هو طلب الأذن،ويكون لدخول بيت،أو الانضمام إلى مجلس،أو الخروج منه،أو التصرف في متاع غيره،أو إبداء رأي في مجتمعات الناس،أو سماع حديثهم.
عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ:أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَتْ:" يَا رَسُولَ اللَّهِ،إِنِّي أَكُونُ فِي مَنْزِلِي عَلَى الْحَالِ الَّتِي لَا أُحِبُّ أَنْ يَرَانِيَ أَحَدٌ عَلَيْهَا وَالِدٌ وَلَا وَلَدٌ،وَأَنَّهُ لَا يَزَالُ يَدْخُلُ عَلَيَّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِي وَأَنَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ ؟ قَالَ:فَنَزَلَتْ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (27) سورة النور" (1)
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه،لا تدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتى تستأذنوا أهلها في الدخول وتسلموا عليهم وصيغة ذلك من السنة: السلام عليكم أأدخل؟ ذلكم الاستئذان خير لكم ؛ لعلكم تتذكرون- بفعلكم له- أوامر الله،فتطيعوه. (2)
ولا يخفى ما في هذه الآية من معنى الاستئناس،الذي هو أبلغ من الاستئذان،إذ هو بالإضافة إلى ما فيه من معنى طلب الإذن،فيه معرفة أنس أهل البيت،واستعدادهم لاستقباله،ورضاهم عن دخوله عليهم.
ومع تقدم الحضارة،وصناعة البيوت المغلقة،والأبواب المحكمة،فما زال هناك من يدخل بيته دون سلام،أو يغشى غرفة غيره،أو يقتحم مجلسه دون إعلام أو استئذان.
وإذا ما تعود الغلام منذ نعومة أظافره أن يستأذن على والديه كما أمر الله تعالى،نشأ على هذه العادة الحميدة،وهي ملكة في نفسه وطبع كريم،يقدره عليه الناس ويحبونه،ويثقون في أمانته وكرامته.
وهذه طائفة من آداب الاستئذان التي جاء بها ديننا الحنيف قبل أن يعرف الناس،أصول الأعراف وفن المعاملات،وحسن التصرف واللباقة في البيوت والمجتمعات..
يجب الاستئذان لدخول بيت الناس،والاستئناس لمعرفة أنس أهل البيت بالدخول عليهم،فيأنس الداخل إلى إذنهم،ويأنسون إلى استئذانه.قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (27) سورة النور
يجب قرن الاستئذان بالسلام،بل تقديمه عليه،لأن السلام قبل الكلام.
__________
(1) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (23675 ) ضعيف
(2) - التفسير الميسر - (6 / 231)(1/456)
عن عَمْرَو بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ صَفْوَانَ أَنَّ كَلَدَةَ بْنَ الْحَنْبَلِ،أَخْبَرَهُ،أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ بَعَثَهُ فِي الْفَتْحِ بِلَبَنٍ وَجَدَايَةٍ وَضَغَابِيسَ وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْوَادِي قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَلَمْ أُسَلِّمْ،وَلَمْ استأذن،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " ارْجِعْ فَقُلِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ،أَأَدْخُلُ بَعْدَمَا أَسْلِمْ ؟ " (1) ..
وعَنْ رِبْعِىٍّ قَالَ حَدَّثَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِى عَامِرٍ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِى بَيْتٍ فَقَالَ أَلِجُ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لِخَادِمِهِ « اخْرُجْ إِلَى هَذَا فَعَلِّمْهُ الاِسْتِئْذَانَ فَقُلْ لَهُ قُلِ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ ». فَسَمِعَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ فَأَذِنَ لَهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَدَخَلَ. رواه أبو داود (2) .
وعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ أَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِى مَشْرُبَةٍ لَهُ فَقَالَ السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ أَيَدْخُلُ عُمَرُ. (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِيمَنْ يَسْتَأْذِنُ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ قَالَ:لَا يُؤْذَنُ لَهُ حَتَّى يَبْدَأَ بِالسَّلَامِ". رواه البخاري في الأدب (4) .
ينبغي على مَن قرع الباب مستأذنا أن يقف بجانب الباب الذي لا يظهر منه البيت عند فتحه،وظهره للباب،وعليه أن يغض بصره ما استطاع. فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجْرَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَهُ مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ،فَقَالَ:لَوْ أَعْلَمُكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهِ عَيْنَكَ إِنَّمَا جُعِلَ الاِسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ." (5)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ،أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ،أَخْبَرَهُ أَنَّ رَجُلاً اطَّلَعَ مِنْ جُحْرٍ فِي بَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَمَعَ رَسُولِ اللهِ مِدْرًى يَحُكُّ بِهَا رَأْسَهُ،فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُنِي لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ،إِنَّمَا جُعِلَ الإِذْنُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ. متفق عليه (6) .
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ لَمْ يَسْتَقْبِلِ الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الأَيْمَنِ أَوِ الأَيْسَرِ وَيَقُولُ « السَّلاَمُ عَلَيْكُمُ السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ». وَذَلِكَ أَنَّ الدُّورَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ سُتُورٌ. رواه أبو داود (7)
يشمل الأمر بالاستئذان النساء كما يشمل الرجال،لأنه شرع لئلا يطلع أحد على أحد على ما يطو الناس في بيوتهم مما لا يحبون أن يطلع عليه أحد،إلى جانب عدم النظر إلى ما لا يحل له أن ينظر إليه.
__________
(1) - شعب الإيمان - (11 / 213) (8428) صحيح
(2) - سنن أبي داود - المكنز - (5179 ) صحيح
(3) - سنن أبي داود - المكنز - (5203 ) صحيح - المشربة : الغرفة العالية
(4) - الْأَدَبُ الْمُفْرَدِ لِلْبُخَارِيِّ (1106 ) صحيح
(5) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 577)(22802) 23188- صحيح
(6) - صحيح البخارى- المكنز - (6241) وصحيح مسلم- المكنز - (5764 ) وصحيح ابن حبان - (13 / 348) (6001) - المدرى : مشط له أسنان يسيرة
(7) - سنن أبي داود - المكنز - (5188) صحيح(1/457)
فعن أُمِّ إِيَاسٍ, قَالَتْ:"كُنْتُ فِي أَرْبَعِ نِسْوَةٍ نَسْتَأْذِنُ عَلَى عَائِشَةَ, فَقُلْتُ: نَدْخُلُ؟ فَقَالَتْ: لا, فَقُلْتُ لِصَاحِبَتِكُنَّ: نَسْتَأْذِنُ؟ فَقَالَتِ: السَّلامُ عَلَيكُمْ, أَنَدْخُلُ؟ فَقَالَتْ: ادْخُلُوا, ثُمَّ قَالَتْ: " {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) }سورة النور" (1)
والمستأذن يستأذن ثلاث مرات فإن أُذن له وإلا رجع. وقد قيل: إن أهل البيت بالأولى يستنصتون،وبالثانية يستصلحون،وبالثالثة يأذنون أو يردُّون،لكن قال أهل العلم: لا يزيد على ثلاثٍ إذا سُمع صوته وإلا زاد حتى يعلم أو يظن أنه سُمع. (2) .
وقال تعالى: {فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (28) سورة النور
فَإِذَا لَمْ يَجِدُوا فِي هَذَهِ البُيُوتِ أَحَداً يَأْذَنُ لَهُمْ بِالدُّخُولِ إِلَيْهَا،كَانَ عَلَيْهِمْ أَلاَّ يَدْخُلُوهَا،وَإِذَا كَانَ أَهْلُ البَيْتِ فِيهِ،وَلَمْ يَأْذَنُوا بالدُّخُولِ،كَانَ عَلَى الزَّائِرِ الانْصِرَافُ،وَلَيْسَ لَهُ الدُّخُولُ،وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَغَضبَ،أو يَسْتَشْعِرَ مِنْ أَهْلِ البَيْتِ الإِسَاءَةَ إِلَيْهِ،أو النُّفْرَةَ مِنْهُ،فَلِلنَّاسِ،أسْرَارُهم وَأَعْذَارُهُم وَيَجِبُ أَنْ يُتْرَكَ لَهُمْ وَحْدَهُمْ حَقُّ تَقْدِيرِ ظُرُوفِهِمْ.وَاللهُ هُوَ المُطَّلِعُ عَلَى خَفَايَا القُلُوبِ،وهُوَ العَلِيمُ بالدَّوافِعِ . (3)
وعن بُسْرَ بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ،سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ،يَقُولُ:كُنَّا فِي مَجْلِسِ عِنْدَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ،فَأَتَى أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ بِعَصًا حَتَّى وَقَفَ،فَقَالَ:أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ،هَلْ سَمِعَ أَحَدٌ مِنْكُمْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:الاِسْتِئْذَانُ ثَلاَثٌ،فَإِنْ أُذِنَ لَكَ،وَإِلاَّ فَارْجِعْ ؟ قَالَ أُبَيٌّ:وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ:اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَمْسِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ،فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي،فَرَجَعْتُ،ثُمَّ جِئْتُهُ،فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ،فَأَخْبَرْتُهُ أَنِّي جِئْتُهُ أَمْسِ،فَسَلَّمْتُ ثَلاَثًا،ثُمَّ انْصَرَفْتُ،فَقَالَ:قَدْ سَمِعْنَاكَ وَنَحْنُ حِينَئِذٍ عَلَى شُغْلٍ،فَلَوِ اسْتَأْذَنْتَ حَتَّى يُؤْذَنَ لَكَ ؟ قَالَ:اسْتَأْذَنْتُ كَمَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:فَوَاللَّهِ لَأُوجِعَنَّ ظَهْرَكَ أَوْ لَتَأْتِيَنِّي بِمَنْ يَشْهَدُ لَكَ عَلَى هَذَا،قَالَ:فَقَالَ أُبَيٌّ:وَاللَّهِ لاَ يَقُومُ مَعَكَ إِلاَّ أَحْدَثُنَا سِنًّا،قُمْ يَا أَبَا سَعِيدٍ،فَقُمْتُ حَتَّى أَتَيْتُ عُمَرَ فَقُلْتُ:قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ هَذَا." (4)
ينبغي عند استعلام صاحب البيت عن المستأذن أن يذكر اسمه،ويكره أن يقول ( أنا) لعدم كفايتها في معرفة قائلها. عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ،قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرًا،قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فِي دَيْنٍ عَلَى أَبِي،فَدقَقْتُ الْبَابَ،فَقَالَ: " مَنْ ذَا ؟ "،فَقُلْتُ: أَنَا،فَقَالَ: " أَنَا أَنَا " كَأَنَّهُ كَرِهَهُ.رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ (5) .
__________
(1) - تفسير ابن أبي حاتم - (10 / 97) (15188) فيه جهالة
(2) - موسوعة خطب المنبر - (1 / 45)
(3) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2701)
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (5753 ) وصحيح ابن حبان - (13 / 127)(5810)
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (6250 )(1/458)
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ - رضى الله عنه - قَالَ خَرَجْتُ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِى فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَمْشِى وَحْدَهُ،وَلَيْسَ مَعَهُ إِنْسَانٌ - قَالَ - فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَكْرَهُ أَنْ يَمْشِىَ مَعَهُ أَحَدٌ - قَالَ - فَجَعَلْتُ أَمْشِى فِى ظِلِّ الْقَمَرِ فَالْتَفَتَ فَرَآنِى فَقَالَ « مَنْ هَذَا ».قُلْتُ أَبُو ذَرٍّ جَعَلَنِى اللَّهُ فِدَاءَكَ.قَالَ « يَا أَبَا ذَرٍّ تَعَالَهْ ». متفق عليه (1) .
وعَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ،أَنَّ نَبِيَّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ،قَالَ:بَيْنَمَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ وَرُبَّمَا قَالَ:فِي الْحِجْرِ إِذْ أَتَانِي آتٍ،فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ فَقُلْتُ لِلْجَارُودِ وَهُوَ إِلَى جَنْبِي:مَا يَعْنِي بِهِ ؟ قَالَ:مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شِعْرَتِهِ فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي،ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءًا إِيمَانًا وَحِكْمَةً،فَغُسِلَ قَلْبِي،ثُمَّ حُشِيَ،ثُمَّ أُتِيتُ بِدَابَّةٍ دُونَ الْبَغْلِ وَفَوْقَ الْحِمَارِ أَبْيَضَ،فَقَالَ لَهُ الْجَارُودُ:هُوَ الْبُرَاقُ يَا أَبَا حَمْزَةَ ؟ قَالَ أَنَسٌ:نَعَمْ،يَقَعُ خَطْوُهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ،فَانْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الدُّنْيَا،فَاسْتَفْتَحَ،فَقِيلَ:مَنْ هَذَا ؟ قَالَ:جِبْرِيلُ،قِيلَ:وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ:مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - ،قِيلَ:وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ:نَعَمْ،قِيلَ:مَرْحَبًا بِهِ،فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ،فَفُتِحَ. فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا فِيهَا آدَمُ،فَقَالَ:هَذَا أَبُوكَ آدَمُ،فَسَلَّمَ عَلَيْهِ،فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ،فَرَدَّ السَّلاَمَ ثُمَّ قَالَ:مَرْحَبًا بِالاِبْنِ الصَّالِحِ،وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ،فَاسْتَفْتَحَ،قِيلَ:مَنْ هَذَا ؟ قَالَ:جِبْرِيلُ،قِيلَ:وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ:مُحَمَّدٌ،قِيلَ:وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ:نَعَمْ،قِيلَ:مَرْحَبًا بِهِ فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ،فَفُتِحَ،فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا خَالَةٍ،قَالَ:هَذَا يَحْيَى وَعِيسَى،فَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا،فَسَلَّمْتُ،فَرَدَّا ثُمَّ قَالاَ:مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ،وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ،فَاسْتَفْتَحَ،قِيلَ:مَنْ هَذَا ؟ قَالَ:جِبْرِيلُ،قِيلَ:وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ:مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - ،قِيلَ:وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ:نَعَمْ،قِيلَ:مَرْحَبًا بِهِ،فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ،فَفُتِحَ،فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا يُوسُفُ،قَالَ:هَذَا يُوسُفُ،فَسَلَّمَ عَلَيْهِ،فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ،فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ:مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ،وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الرَّابِعَةَ،فَاسْتَفْتَحَ،قِيلَ:مَنْ هَذَا ؟ قَالَ:جِبْرِيلُ. قِيلَ:وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ:مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - ،قِيلَ:أَوَ قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ نَعَمْ،قِيلَ:مَرْحَبًا بِهِ،فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ،فَفُتِحَ،فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا إِدْرِيسُ،قَالَ هَذَا إِدْرِيسُ،فَسَلَّمَ عَلَيْهِ،فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ،فَرَدَّ ثُمَّ قَالَ:مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ،وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الْخَامِسَةَ،فَاسْتَفْتَحَ،قِيلَ:مَنْ هَذَا ؟ قَالَ:جِبْرِيلُ قِيلَ:وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ:مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - ،قِيلَ:وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ:نَعَمْ،قِيلَ:مَرْحَبًا بِهِ،فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ،فَفُتِحَ،فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا هَارُونُ،قَالَ:هَذَا هَارُونُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ،فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ،فَرَدَّ السَّلاَمَ ثُمَّ قَالَ:مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ،وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّادِسَةَ،فَاسْتَفْتَحَ،قِيلَ:مَنْ هَذَا ؟ قَالَ:جِبْرِيلُ،قِيلَ:وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ:مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - ،قِيلَ:أَوَ قَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ:نَعَمْ،قِيلَ:مَرْحَبًا بِهِ،فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ،فَفُتِحَ،فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا مُوسَى،قَالَ:هَذَا مُوسَى،فَسَلَّمَ عَلَيْهِ،فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ،فَرَدَّ السَّلاَمَ،ثُمَّ قَالَ:مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ،وَالنَّبِيِّ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6443 ) وصحيح مسلم- المكنز - (2352)(1/459)
الصَّالِحِ،فَلَمَّا تَجَاوَزْتُ بَكَى،قِيلَ لَهُ:مَا يُبْكِيكَ ؟ قَالَ:أَبْكِي لأَنَّ غُلاَمًا بُعِثَ بَعْدِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِهِ أَكْثَرُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا مِنْ أُمَّتِي. ثُمَّ صَعِدَ بِي حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ السَّابِعَةَ،فَاسْتَفْتَحَ،قِيلَ:مَنْ هَذَا ؟ قَالَ:جِبْرِيلُ قِيلَ:وَمَنْ مَعَكَ ؟ قَالَ:مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - ،قِيلَ:وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ ؟ قَالَ:نَعَمْ،قِيلَ:مَرْحَبًا بِهِ،فَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ،فَفُتِحَ،فَلَمَّا خَلَصْتُ إِذَا إِبْرَاهِيمُ،قَالَ:هَذَا أَبُوكَ إِبْرَاهِيمُ،فَسَلَّمَ عَلَيْهِ،فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ،فَرَدَّ السَّلاَمَ ثُمَّ قَالَ:مَرْحَبًا بِالاِبْنِ الصَّالِحِ،وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ. ثُمَّ رُفِعْتُ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى،فَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلاَلِ هَجَرَ،وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ،قَالَ:هَذِهِ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى،وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ،نَهْرَانِ بَاطِنَانِ،وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ،فَقُلْتُ:مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ:أَمَّا الْبَاطِنَانِ،فَنَهَرَانِ فِي الْجَنَّةِ،وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ،فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ. ثُمَّ رُفِعَ لِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ. قَالَ قَتَادَةُ:وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ،عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،أَنَّهُ رَأَى الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ،وَيَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ،ثُمَّ لاَ يَعُودُونَ فِيهِ،ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ أَنَسٍ:ثُمَّ أُتِيتُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ،وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ،وَإِنَاءٍ مِنْ عَسَلٍ،فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ،فَقَالَ:هَذِهِ الْفِطْرَةُ،أَنْتَ عَلَيْهَا وَأُمَّتُكَ. ثُمَّ فُرِضَتْ عَلَيَّ الصَّلاَةُ خَمْسِينَ صَلاَةً فِي كُلِّ يَوْمٍ،فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى،فَقَالَ:بِمَ أُمِرْتَ ؟ قَالَ:أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ،قَالَ:إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ،وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ،وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ،فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ،فَرَجَعْتُ،فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا،فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى،فَقَالَ مِثْلَهُ،فَرَجَعْتُ،فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا،فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ،فَرَجَعْتُ،فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا،فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ،فَرَجَعْتُ،فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ،فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى،فَقَالَ مِثْلَهُ،فَرَجَعْتُ،فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ،فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى،فَقَالَ:بِمَ أُمِرْتَ ؟ قَالَ:أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ،قَالَ:إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تَسْتَطِيعُ خَمْسَ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ،وَإِنِّي قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ،وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ الْمُعَالَجَةِ،فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَسَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ،قَالَ:قُلْتُ:سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ،لَكِنِّي أَرْضَى وَأُسَلِّمُ،فَلَمَّا جَاوَزْتُ نَادَانِي مُنَادٍ:أَمْضَيْتُ فَرِيضَتِي،وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي." (1)
يطلب الاستئذان بين الأهل في الدار الواحدة،عند إرادة الدخول على غرفة أحدهم،حتى مع أقرب الأقربين إليه،كأمه وأبيه..
عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ:أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ:أَسْتَأْذِنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى أُمِّى؟ فَقَالَ :« نَعَمْ ». فَقَالَ:إِنِّى مَعَهَا فِى الْبَيْتِ فَقَالَ :« اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا ». فَقَالَ الرَّجُلُ:إِنِّى خَادِمُهَا فَقَالَ :« أَتُحِّبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً ». قَالَ:لاَ قَالَ :« فَاسْتَأْذَنْ عَلَيْهَا ». (2) .
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - : أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي ؟ قَالَ:نَعَمْ،أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً." (3)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3207 ) وصحيح مسلم- المكنز - (434 ) وصحيح ابن حبان - (1 / 236) (48)
(2) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (7 / 97)(13942) صحيح مرسل
(3) - مصنف ابن أبي شيبة - (4 / 398) (17890) صحيح مرسل(1/460)
تعليم الأطفال الذين لم يبلغوا سن التكليف أن يستأنسوا في أوقات ثلاثة: وقت الفجر،وهو وقت النوم أو التهيؤ لصلاة الفجر،ووقت الظهيرة،وهو وقت القيلولة والراحة والتخفف من الثياب،ووقت العشاء،وهو وقت الخلود إلى النوم،وكلها أوقات فيها مظنة التكشف،ومحبة الخلوة،وهذا التعليم من باب التأديب والتعويد،حتى إذا بلغوا سن المراهقة والرشد استأنسوا في جميع الأوقات.
عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ, قوله:" " يَا أَيُّهَا الَّذِينُ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ " بَلَغَنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ وَامْرَأَتَهُ أَسْمَاءَ بِنْتَ مُرْشِدَةٍ صَنَعَا لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - طَعَامًا فَجَعَلَ النَّاسُ يَدْخُلُونَ بِغَيْرِ إِذْنٍ, فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, مَا أَقْبَحَ هَذَا ! إِنَّهُ لِيَدْخُلُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ غُلامُهُمَا بِغَيْرِ إِذْنٍ, فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: " يَا أَيُّهَا الَّذِينُ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ " فِي الْعَبِيدِ وَالإِمَاءِ". (1)
ينبغي للمرأة أن تتعفف في ثيابها،وتلتزم الحشمة والكمال والأدب في مظهرها في منزلها،أمام أولادها وإخوتها ومحارمها لأن الله ستير يحب الستر والعفة والحياء.
قال تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاء اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (60) سورة النور
والنِّسَاءُ الطَاعِنَاتُ فِي السِنِّ اللاَّتِي يَِئِسْنَ مِنَ الوَلَدِ،وَلَمْ يَبْقَ لَهُنَّ تَطَلُّعٌ إِلَى التَّزَوُّجِ،فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ مَا عَلَى غَيْرِهنَّ مِنَ النِّسَاءِ فِي الحَجِرِ والتَّسَتُّرِ،وَلا حَرَجَ عَلَيْهِنَّ فِي أَنْ يَخْلَعْنَ ثِيَابَهُنَّ الخَارِجِيَّةَ عَلَى أًَنْ لاَ تَنْكَشِفَ عَوْرَاتُهُنَّ،وَلا يَنْكِشِفْنَ عَنْ زِينَةٍ،وَخَيْرٌ لَهُنَّ أَنْ يَبْقَيْنَ كَاسِياتٍ بِثِيَابِهِنَّ الخَارِجِيَّةِ الفَضْفَاضَةِ،وَسَمَّى تَعَالَى مِنْهُنَّ ذَلِكَ اسْتِعَفَافاً،أَيْ يَفْعَلْنَهُ طَلَباً لِلعِفَّةِ،وإِيثَاراً لَهَا لِمَا بَيْنَ التَّبُّرجِ والفِتْنَةِ مِنْ صِلَةٍ،وَبَيْنَ التَّحَجُّبِ والتَّسَتُّرِ وَالعِفَّةِ مِنْ صِلَةٍ،وَخَيْرُ سَبِيلٍ إِلى العِفَّةِ تَقْلِيلُ فُرَصِ الغَوَايَةِ،والحَيْلُولَةِ بَيْنَ اللِّسَانُ،وَيَطِّلِعُ بَيْنَ أَسْبَابِ الإٍثَارَةِ وَبَيْنَ النُّفُوسِ.واللهُ تَعَالَى يَسْمَعُ مَا يَقُولُهُ اللِّسَانُ،وَيَطِّلِ'ُ عَلَى مَا يُوَسْوِسُ فِي الجَنَانِ ويُجَازِي عَلَى ذَلِكَ.وَالأَمْرُ كُلُّهُ أَمْرُ نِيَّةٍ وَحَسَاسِيَّةٍ فِي الضَّمِيرِ . (2)
وقال تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (31) سورة النور
__________
(1) - تفسير ابن أبي حاتم - (10 / 201) (15591) معضل
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2733)(1/461)
وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن عمَّا لا يحلُّ لهن من العورات،ويحفظن فروجهن عمَّا حَرَّم الله،ولا يُظهرن زينتهن للرجال،بل يجتهدن في إخفائها إلا الثياب الظاهرة التي جرت العادة بلُبْسها،إذا لم يكن في ذلك ما يدعو إلى الفتنة بها،وليلقين بأغطية رؤوسهن على فتحات صدورهن مغطيات وجوههن؛ ليكمل سترهن،ولا يُظْهِرْنَ الزينة الخفية إلا لأزواجهن ؛ إذ يرون منهن ما لا يرى غيرهم. وبعضها،كالوجه،والعنق،واليدين،والساعدين يباح رؤيته لآبائهن أو آباء أزواجهن أو أبنائهن أو أبناء أزواجهن أو إخوانهن أو أبناء إخوانهن أو أبناء أخواتهن أو نسائهن المسلمات دون الكافرات،أو ما ملكن مِنَ العبيد،أو التابعين من الرجال الذين لا غرض ولا حاجة لهم في النساء،مثل البُلْه الذين يتبعون غيرهم للطعام والشراب فحسب،أو الأطفال الصغار الذين ليس لهم علم بأمور عورات النساء،ولم توجد فيهم الشهوة بعد،ولا يضرب النساء عند سَيْرهن بأرجلهن ليُسْمِعْن صوت ما خفي من زينتهن كالخلخال ونحوه،وارجعوا- أيها المؤمنون- إلى طاعة الله فيما أمركم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الحميدة،واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة؛ رجاء أن تفوزوا بخيري الدنيا والآخرة. (1)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - التفسير الميسر - (6 / 235)(1/462)
-39-آداب المجلس
لا بد للإنسان في حياته اليومية من مخالطة الناس ومعاملتهم،ومجالستهم في مجالس عامة أو خاصة،ومن خلال هذه المجالس يمكن الحكم على المتجالسين،وبما ينفضُّون عن مجلسهم من نتائج وثمرات يمكن الاعتداد بهذا المجلس والافتخار بحضوره،أو الإعراض عنه وتجنب خطره وفساده.
والمجالس مجتمعات يحضرها أناس من جميع الطبقات،ويتكلم فيها رجال من كافة المستويات،منهم الغث ومنهم السمين ومنهم المصلح ومنهم المفسد،والمسلم من يستطيع أن يدير دفة المجلس لما فيه من خير المتجالسين في دينهم ودنياهم،ولما فيه رضى الله ورسوله،فإن لم يستطع فالإعراض عن ذلك المجلس هو محض الخير وعين الصواب.قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (140) سورة النساء
وقد كان الأنبياء والمصلحون يغشون مجالس الناس فيقعدون معهم بتواضع وإخلاص،يأمرونهم بالمعروف،وينهونهم عن المنكر،ويذكرونهم بما يصلحهم،ويعظونهم بالحكمة والموعظة الحسنة،ويرغبونهم بالتقوى والعمل الصالح،ويرهبوهم من الكفر والإثم والمعصية والعدوان.
ولا ينبغي للعالم أو المرشد أن يجالس قوما يخوضون في باطلهم،ويرتكبون الذنوب والآثام،غافلين عن الله،ساهين عن عقابه وانتقامه،مغترين بحلمه وإمهاله،إلا كما يجالس الطبيب المريض،والعالم المعلم الغافل الجاهل،بمقدار الحاجة وبما يحقق الدعوة والإصلاح،كما لا ينبغي للمسلم أن يجلس مجلسا تنتهك فيه حرمات الله،وتدور فيه كؤوس اللهو واللغو والمنكرات،يشاركهم فيها أكلهم وشربهم،وضحكهم وبطالتهم،غير مبال بما ينزل على مجلسهم هذا من غضب الله ومقته..
عَنْ عَبْدِ اللهِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَمَّا وَقَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ فِي الْمَعَاصِي،نَهَتْهُمْ عُلَمَاؤُهُمْ،فَلَمْ يَنْتَهُوا،فَجَالَسُوهُمْ فِي مَجَالِسِهِمْ،قَالَ يَزِيدُ:أَحْسِبُهُ قَالَ:وَأَسْوَاقِهِمْ،وَوَاكَلُوهُمْ وَشَارَبُوهُمْ،فَضَرَبَ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ،وَلَعَنَهُمْ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ،وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ،ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ،وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُتَّكِئًا،فَجَلَسَ،فَقَالَ:لاَ،وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ،حَتَّى تَأْطُرُوهُمْ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا." (1) .
واليوم قل أن نرى مجلسا يذكر فيه الله والدار الآخرة،بعد أن عمت مجالس الغفلة والمنكرات،وفشت مجالس الغيبة والنميمة والطعن في الأعراض،والانغماس في المحرمات.
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 47)(3713) حسن(1/463)
ورب مجلس يقعده المرء مع قوم أشقياء،يصنع لنفسه فيه حلة من الشقاء تلازمه إلى يوم القيامة.. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ فِيهِ إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً،وَمَا مَشَى أَحَدٌ مَمْشًى لَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ فِيهِ إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِ تِرَةً،وَمَا أَوَى أَحَدٌ إِلَى فِرَاشِهِ وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهَ فِيهِ إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِ تِرَةً (1) .
ورب مجلس علم أو ذكر أو نصيحة يرتع فيها الإنسان في روضة من رياض الجنة فلا يخرج منها إلى يوم القيامة.. فعَنِ الأَغَرِّ،قَالَ:أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،وَأَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،أَنَّهُ قَالَ:مَا جَلَسَ قَوْمٌ يَذْكُرُونَ اللَّهَ،إِلاَّ حَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ،وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ،وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ،وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ. (2)
وعَنْ سَهْلِ بْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَا يَجْتَمِعُ قَوْمٌ عَلَى ذِكْرِ اللهِ إِلَّا قِيلَ لَهُمْ: قُومُوا مَغْفُورًا لَكُمْ،فَقَدْ بُدِّلَتْ سَيِّئَاتُكُمْ حَسَنَاتٍ " (3)
هذا في الحديث عن أنواع المجالس،أما ما يتعلق بآدابها ففيها تنعكس جميع آداب المسلم الاجتماعية،وتتجلى براعته في لفت أنظار الناس،وانتزاع إعجابهم،واكتساب قلوبهم،وذلك بحسن أدبه،وكرم معشره،ودماثة خلقه،ولين جانبه،وطيب كلامه،وبشاشة وجهه.
وقد نبهنا الله تعالى إلى شيء من هذه الآداب في كتابه العزبز،فأمر بالتوسع والتفسح في المجالس للقادمين إليها،وإكرامهم وإيثارهم والإحسان إليهم.
أخرج ابن جرير عَنْ قَتَادَةَ،قَوْلُهُ:ي{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (11) سورة المجادلة،كَانُوا إِذَا رَأَوْا مَنْ جَاءَهُمْ مُقْبِلًا ضَنُّوا بِمَجْلِسِهِمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُفْسِحَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ " (4)
وهذه باقة من الآداب الخاصة بالمجالس:
السلام عند الدخول إلى المجلس،وعند الخروج منه.عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:إِذَا انْتَهَى أَحَدُكُمْ إِلَى مَجْلِسٍ فَلْيُسَلِّمْ،فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَلْيَجْلِسْ،فَإِذَا قَامَ فَلْيُسَلِّمْ،فَلَيْسَتِ الْأُولَى بِأَحَقَّ مِنَ الآخِرَةِ (5) .
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (3 / 133) (853) صحيح
(2) - صحيح ابن حبان - (3 / 136) (855) صحيح
(3) - معرفة الصحابة لأبي نعيم - (3 / 1311) (3290 ) حسن
(4) - جَامِعُ الْبَيَانِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ لِلطَّبَرِيِّ (31258 ) صحيح مرسل
(5) - صحيح ابن حبان - (2 / 247) (494) صحيح(1/464)
الجلوس حيث ينتهي المجلس،ولو انتهى به إلى مكان متواضع وتجنب تخطي الرقاب للوصول إلى صدر المجلس. عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ:كُنَّا إِذَا أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - جَلَسْنَا حَيْثُ نَنَتَهِى. (1)
وعَنْ أَبِى وَاقِدٍ اللَّيْثِىِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِى الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ،إِذْ أَقْبَلَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ،فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَذَهَبَ وَاحِدٌ،قَالَ فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِى الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا،وَأَمَّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ،وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا،فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « أَلاَ أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ،فَآوَاهُ اللَّهُ،وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا،فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ،وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ،فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ » (2) .
تجنب الجلوس في مكان أحد بعد إبعاده عنه ولو كان طفلا صغيرا أو رجلا فقيرا.
تجنب الجلوس بين اثنين جلسا مع بعضهما قبله إلا إذا فسحا له بينهما. عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ،عَنْ أَبِيهِ،عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:لاَ يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إِلاَّ بِإِذْنِهِمَا (3) .
تجنب الجلوس في وسط الحلقة في مجلس حلق فيه الناس على شكل دائري. عَنْ أَبِى مِجْلَزٍ أَنَّ رَجُلاً قَعَدَ وَسْطَ حَلْقَةٍ فَقَالَ حُذَيْفَةُ مَلْعُونٌ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ أَوْ لَعَنَ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - - مَنْ قَعَدَ وَسْطَ الْحَلْقَةِ. (4)
تجنب إشغال المكان الذي قام منه صاحبه إذا علم أنه سيعود إليه،والإفساح له في مجلسه إذا عاد إليه. عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَجْلِسٍ كَانَ فِيهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِمَجْلِسِهِ » (5) .
تجنب تهامس اثنين وتناجيهما مع بعضهما في مجلس لا يضم سوى ثلاثة أشخاص لئلا يظن بهم ظن السوء،أو يحزن لانشغالهم عنه وتركه وحيدا. إلا إذا أذن لهم بذلك. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِذَا كَانُوا ثَلاَثَةٌ فَلاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ » (6) .
تجنب تنقيص أحد أو الاستهزاء به في المجلس،أو الاستهتار بالحاضرين أو الجلوس على غير هيئة الأدب بينهم كالاستلقاء وهم جلوس أو القعود في مكان مرتفع وهم على الأرض أو مد الأرجل.
تجنب الاحتباء وتشبيك الأصابع وفرقعتها،والعبث بالخاتم،وتخليل الأسنان،وإدخال اليد في الأنف،وكثرة التمطي والتثاؤب.
__________
(1) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (3 / 231) (6101) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (66 )
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 701) (6999) صحيح
(4) - سنن الترمذى- المكنز - (2977 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
(5) - السنن الكبرى للبيهقي- المكنز - (3 / 233) (6113) صحيح
(6) - صحيح البخارى- المكنز - (6288 ) وصحيح مسلم- المكنز - (5823)(1/465)
التيامن في الدخول إلى المجلس والخروج منه وشغل الأماكن بالجلوس،وإخلائها بعد المجلس،وفي توزيع الماء أو الطعام،حيث يبدأ بسيد المجلس ثم الأيمن فالأيمن. عَنْ أَنَسٍ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بِلَبَنٍ قَدْ شِيبَ بِمَاءٍ وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ وَعَنْ يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ،فَشَرِبَ ثُمَّ أَعْطَى الأَعْرَابِيَّ،وَقَالَ:الأَيْمَنُ فَالأَيْمَنُ. (1)
المحافظة على نظافة المجلس،وحضوره بثياب نظيفة،ومظهر حسن،متعطرا،متسوكا،مرجلا شعره،مقلما أظافره هادئا وقورا.
تجنب إفشاء أسرار المجالس،وما ائتمنه عليه أصحابها،فذلك من الخيانة.
تجنب نقل أحاديث المجالس وتبليغها على وجه الإفساد ونشر العداوة والبغضاء.
تجنب مجالس اللهو واللغو والحرام وهدر الأوقات،ونهش الأعراض،وغمط الناس وهمزهم وغيبتهم،أو مجالس المراء والجدال والكفر والإلحاد والباطل. أو مجالس الغناء والمعازف أو مجالس الاختلاط وإثارة الغرائز والشهوات.
أداء حق المجلس بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتذكير بالطاعات والصالحات والصدقات.
الإصغاء إلى الكلام الحسن ممن يحدث،دون طلب إعادته،والبعد عن المضاحك والمهازل،وتجنب التصنع والقطع والتكلف والتبذل.
إنهاء المجلس بقراءة سورة العصر والتواصي بها والتذكير بمعناها الجامع لكل خير. عَنْ أَبِي مَدِينَةَ الدَّارِمِيِّ،وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ،قَالَ: كَانَ الرَّجُلانِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - "إِذَا الْتَقَيَا لَمْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَقْرَأَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ،ثُمَّ يُسَلِّمَ أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ" (2)
وعَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ،قَالَ: سَأَلْتُ خَالِي هِنْدَ بْنَ أَبِي هَالَةَ وَكَانَ وَصَّافًا قَالَ: فَسَأَلْتُهُ عَنْ مَجْلِسِهِ،فَقَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَجْلِسُ وَلَا يَقُومُ إِلَّا عَلَى ذِكْرٍ وَلَا يُوَطِّنُ الْأَمَاكِنَ وَيَنْهَى عَنْ إِيطَانِهَا،وَإِذَا انْتَهَى إِلَى قَوْمٍ جَلَسَ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ وَيَأْمُرُ بِذَلِكَ وَيُعْطِي كُلَّ جُلَسَائِهِ بنَصِيبَهُ ولَا يَحْسَبُ جَلِيسُهُ أَنَّ أَحَدًا أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُ مَنْ جَالَسَهُ أَوْ قَاوَمَهُ فِي حَاجَةٍ صَابَرَهُ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُنْصَرَفَ،ومَنْ سَأَلَهُ حَاجَةً لَمْ يَرُدَّهُ إِلَّا بِهَا أَوْ بِمَيْسُورٍ مِنَ الْقَوْلِ،قَدْ وَسِعَ النَّاسَ مِنْهْ بَسْطُهُ وَخُلُقُهُ فَصَارَ لَهُمْ أَبَا وَصَارُوا عنده فِي الْحَقِّ سَوَاءً،مَجْلِسُهُ مَجْلِسُ حِلْمٍ وَحَيَاءٍ وَصَبْرٍ وَأَمَانَةٍ لَا تُرْفَعُ فِيهِ الْأَصْوَاتُ،وَلَا تُؤْبَنُ فِيهِ الْحُرَمُ،وَلَا تُنْثَى فَلَتَاتُهُ مُتَعَادِلِينَ،يتَفَاضِلِونَ فِيهِ بِالتَّقْوَى مُتَوَاضِعِينَ يُوَقِّرُونَ فِيهِ الْكَبِيرَ وَيَرْحَمُونَ فِيهِ الصَّغِيرَ،وَيُؤْثِرُونَ ذَا الْحَاجَةِ وَيَحُوطُونَ - أَوْ قَالَ: يَحْفَظُونَ - فِيهِ الْغَرِيبَ "،قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ كَانَتْ سِيرَتُهُ فِي جَلَسَاتِهِ ؟ قَالَ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دَائِمَ الْبِشْرِ،سَهْلَ الْخُلُقِ،لَيَّنَ الْجَانِبِ،لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا سَخَّابٍ وَلَا فَحَّاشٍ وَلَا عَيَّابٍ وَلَا مَدَّاحٍ،يَتَغَافَلُ عَمَّا لَا يَشْتَهِي وَلَا يُوئسُ مِنْهُ وَلَا يُخَيِّبُ فِيهِ،قَدْ تَرَكَ نَفْسَهُ مِنْ ثَلَاثٍ: المراء،والإكثار،وما لا يعينه،وترك الناس
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (12 / 150) (5333) صحيح
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (20 / 70) (1366 ) حسن(1/466)
من ثلاث كَانَ لَا يُذَمُِّ أَحَدًا وَلَا يُعَيِّرُهُ وَلَا يَطْلُبُ عَوْرَتَهُ وَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا فيمَا رَجَا ثَوَابَهُ،إِذَا تَكَلَّمَ أَطْرَقَ جُلَسَاؤُهُ كَأَنَّمَا عَلَى رؤسِهُمُ الطَّيْرُ،وإِذَا سَكَتَ تَكَلَّمُوا،وَلَا يَتَنَازَعُونُ عِنْدَهُ بِشَيْءٍ مَنْ تَكَلَّمَ أَنْصَتُوا لَهُ حَتَّى يَفْرُغَ،حَدِيثُهُمْ عنده حَدِيثُ أَوَّلِهِمْ،يَضْحَكُ مِمَّا يَضْحَكُونَ مِنْهُ وَيَتَعَجَّبُ مِمَّا يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ،ويَصْبِرُ لِلْغَرِيبِ عَلَى الْجَفْوَةِ فِي مَنْطِقِهِ وَمَسأَلَتِهِ حَتَّى إِذَا كَانَ أَصْحَابُهُ لَيَسْتَجْلِبُونَهُمْ،وَيَقُولُ: إِذَا رَأَيْتُمْ طَالِبَ الْحَاجَةِ يَطْلُبُهَا فَأَرْفِدُوهُ وَلَا يَقْبَلُ الثَّنَاءَ إلا مِنْ مُكَافِئٍ وَلَا يَقْطَعُ عَلَى أَحَدٍ حَدِيثَهُ حَتَّى يَجُوزَ فَيَقْطَعَهُ بِنَهْيٍ أَوْ قِيَامٍ " (1)
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - شعب الإيمان - (3 / 24) (1362 ) فيه جهالة(1/467)
-40-آداب النزهات
وهي نوع محبَّب إلى النفس. وكما أن فيها ترويحًا كبيرًا وإنعاشًا للنفس فهي فرصة سانحة لأن يتأمّل المسلمُ ملكوتَ السموات والأرض،{أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} (185) سورة الأعراف.
وثمةَ توجيهات مهمّة للخارجين لهذه الرحلات البرية فمنها:
1- إخلاص النية في ترويح القلب،وإراحة الجسم للتقوِّي على طاعة الله تعالى،والعودة لتنفيذ أوامر الله بهمة أعلى،وعزيمة أقوى.
2- أنه يجب عليهم الحرصُ على الاستيقاظِ لصلاة الفجر،فإن الغالب على من يخرج إلى مثل هذه الأماكن السهرُ الطويل الذي يفوِّتُ عليهم أداءها في وقتها. وعليهم معرفة دخول الوقت والحرص على الصلاة في وقتها،لما صح عنه عندما سئل عن أفضل الأعمال،فعن أبي عَمْرٍو الشَّيْبَانِىِّ قال:حَدَّثَنَا صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ وَأَشَارَ إِلَى دَارِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَىُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ قَالَ « الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا ».قَالَ ثُمَّ أَىُّ قَالَ « ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ».قَالَ ثُمَّ أَىُّ قَالَ « الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ».قَالَ حَدَّثَنِى بِهِنَّ وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِى . (1)
ومما يبشَّر به من خرج للبر أن في محافظته على الصلاة في ترحاله أجرًا عظيمًا،فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : صَلاَةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تَزِيدُ عَلَى صَلاَتِهِ وَحْدَهُ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً،وَإِنْ صَلاَّهَا بِأَرْضِ فَلاَةٍ فَأَتَمَّ وُضُوءَهَا وَرُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا بَلَغَتْ صَلاَتُهُ خَمْسِينَ دَرَجَةً." (2) .
وكذا الأذان في الفلاة فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى صَعْصَعَةَ الأَنْصَارِىِّ ثُمَّ الْمَازِنِىِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ قَالَ لَهُ « إِنِّى أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ،فَإِذَا كُنْتَ فِى غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بِالصَّلاَةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ،فَإِنَّهُ لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلاَ إِنْسٌ وَلاَ شَىْءٌ إِلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ».قَالَ أَبُو سَعِيدٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رواه البخاري. (3)
ومن المسائل المهمة التأكد من القبلة والاجتهاد في ذلك،فإن اجتهد وصلّى وتحرّى القبلة فصلاته صحيحة،ولو اكتشف بعد الانتهاء من الصلاة أنه صلّى إلى غير القبلة فلا يعيد وصلاته صحيحة.
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (527)
(2) - مصنف ابن أبي شيبة - (2 / 479) (8476) صحيح
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (609 )(1/468)
3- ومما ينبغي مراعاته في البر عدم تقذير الأماكن التي يرتادها الناس من ظلّ أو عشب، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « اتَّقُوا الْمَلاَعِنَ الثَّلاَثَ الْبَرَازَ فِى الْمَوَارِدِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالظِّلِّ ». رواه أبو داود (1)
ويقاس على ذلك رمي مخلّفات الأكل الورقية والبلاستيكية. وأقبح منه ما تفعله بعض النساء من رمي حفائظ الأطفال. وما أحسن إحراق هذه المخلفات قبل الارتحال من المكان ليسلم من أذاها من أتاها من إنسان أو حيوان.
4- ومن تلك الآداب عدم إيذاء الناس،وخصوصًا ما يقع من بعض الشباب ـ هداهم الله ـ من التفحيط والتطعيس والمرور أمام النساء في البر والتعرّض لهن فجأة،والله يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} (58) سورة الأحزاب.
والذَينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنينَ وَالمُؤْمِنَاتِ،بِأَنْ يَنْسبُوا إِليهِمْ أَعْمَالاً لَمْ يَعْمَلُوهَا عَلى سَبيلِ العَيْبِ والتَّنَقُّصِ،فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ قَدِ اجْتَرحُوا كَذِباً فَظِيعاً،وَذَنباً عَظِيماً وَاضِحاً،فَالذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ،وَالذِينَ يُؤْذُونَ الرَّسُولَ يُؤْذُونَ اللهَ (2) .
وعَنْ حُذَيْفَةَ بن أُسَيْدٍ،أَنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:" مَنْ آذَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ ". (3)
5- وعلى المرأة المسلمة إذا خرجت للبر الاحتشام وحفظ حيائها ومراقبة ربها وعدم تبرجها بحضرة الرجال الأجانب،فالحجاب لا يرتبط بمكان أو زمان معين؛ بل هو أمرٌ من الله سبحانه وتعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (59) سورة الأحزاب
6- ومن الآداب ذِكْرُ الدعاء عند النزول وتعويد الأطفال عليه،فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ لَدَغَتْ عَقْرَبٌ رَجُلاً فَلَمْ يَنَمْ لَيْلَتَهُ فَقِيلَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّ فُلاَنًا لَدَغَتْهُ عَقْرَبٌ فَلَمْ يَنَمْ لَيْلَتَهُ. فَقَالَ « أَمَا إِنَّهُ لَوْ قَالَ حِينَ أَمْسَى أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ - مَا ضَرَّهُ لَدْغُ عَقْرَبٍ حَتَّى يُصْبِحَ ». (4)
،لكن هذا الدعاء لا يعني تركَ الأخذ بالأسباب الواقية من الأذى،ومِن أخذ الأسباب عند المبيت والنزول أن يحذر الأماكن الخطرة كأماكن جريان السيول،وأما الذين يخاطرون بالذهاب لمواقع تنقطع فيها أسباب النجاة أو تَقِلُّ فهم آثمون. (5)
7- السمع والطاعة للمشرف على الرحلة أو النزهة بشكل كامل ومطلق.
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (26 ) صحيح لغيره -الموارد : المجارى والطرق إلى الماء واحدها مورد
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 3472)
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (3 / 296) (2978) حسن
(4) - سنن ابن ماجه- المكنز - (3647 ) صحيح
(5) - انظر موسوعة خطب المنبر - الإصدار الثاني - (1 / 5580)(1/469)
8- التقيد التام،والالتزام المطلق ببرنامج الرحلة ومواقيت حركاته،وخطوات تنقلها.
9- تجنب الابتعاد عن الركب،وترك الجماعة لأي سبب كان إلا بإذن من المشرف.
10- التحلي بالأخلاق الحسنة الخاصة بالمعاملات،كالصدق والأمانة والإيثار،والصبر والحلم والتواضع،وطلاقة الوجه،ولين الكلام.
11- اعتنام الوقت بالتفكير في بديع صنع الله،وذكر الله تعالى،وأداء فرائض الله والمحافظة عليها،وسرد الأحاديث المعينة والممتعة لجميع الحاضرين. فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ: " اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ،شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ،وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ،وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ،وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلُكَ،وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ " (1)
وعَنْ مُعَاذٍ،قَالَ:كُنْتُ رِدْفَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ ؟ قَالَ:قُلْتُ:اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.قَالَ:أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا قَالَ:فَهَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ إِذَا هُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ ؟ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.قَالَ:لاَ يُعَذِّبُهُمْ." (2)
12- المسارعة إلى الخدمة،والمشاركة في إعداد متطلبات الرحلة وتحضير لوازمها.
13- تجنب الاختلاط،والابتعاد عن الممنوعات والمحرمات،والحرص على راحة الأصدقاء.
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - شعب الإيمان - (12 / 476) (9767 ) صحيح
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 342)(21991) 22341- وصحيح البخارى- المكنز - (7373 ) وصحيح مسلم- المكنز - (154)(1/470)
-41- آداب اللقاء
البدء بالسلام:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ،قَالُوا:مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ:إِذَا لَقِيَهُ سَلَّمَ عَلَيْهِ،وَإِذَا دَعَاهُ أَجَابَهُ،وَإِذَا اسْتَنْصَحَ نَصَحَهُ،وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ يُشَمِّتُهُ،وَإِذَا مَرِضَ عَادَهُ،وَإِذَا مَاتَ صَحِبَهُ. أخرجه مسلم (1) .
وعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمَ الْمَعَافِرِيُّ،عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ ضَمَّهُمْ وَأَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ مَرْسًى فِي الْبَحْرِ،فَلَمَّا حَضَرَ غَدَاؤُنَا أَرْسَلْنَا إلَى أَبِي أَيُّوبَ وَإِلَى أَهْلِ مَرْكَبِهِ،فَقَالَ: دَعَوْتُمُونِي وَأَنَا صَائِمٌ فَكَانَ مِنَ الْحَقِّ عَلَيَّ أَنْ أُجِيبَكُمْ إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: " لِلْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ سِتُّ خِصَالٍ:يُجِيبُهُ إذَا دَعَاهُ،وَإِذَا لَقِيَهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ،وَإِذَا عَطَسَ أَنْ يُشَمِّتَهُ أَوْ عَطِشَ أَنْ يَسْقِيَهُ وَإِذَا مَرِضَ أَنْ يَعُودَهُ،وَإِذَا مَاتَ أَنْ يَحْضُرَهُ وَإِذَا اسْتَنْصَحَ نَصَحَهُ " (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ،لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا،وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا،أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ " (3)
المصافحة عند اللقاء:
ع عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إِلاَّ غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا ». أخرجه أبو داود (4)
عدم مصافحة المرأة التي لا تحل له:
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ أَخْبَرَنِى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ كَانَتِ الْمُؤْمِنَاتُ إِذَا هَاجَرْنَ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - يَمْتَحِنُهُنَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (10) سورة الممتحنة،قَالَتْ عَائِشَةُ فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ فَقَدْ أَقَرَّ بِالْمِحْنَةِ،فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَقْرَرْنَ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِنَّ قَالَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (1 / 477) (242) وصحيح مسلم- المكنز - (5778)
(2) - شرح مشكل الآثار - (2 / 8) (531 ) حسن
(3) - شعب الإيمان - (11 / 180) (8371 ) صحيح
(4) - سنن أبي داود - المكنز - (5214 ) صحيح(1/471)
- صلى الله عليه وسلم - « انْطَلِقْنَ فَقَدْ بَايَعْتُكُنَّ »،لاَ وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ،غَيْرَ أَنَّهُ بَايَعَهُنَّ بِالْكَلاَمِ،وَاللَّهِ مَا أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى النِّسَاءِ إِلاَّ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ يَقُولُ لَهُنَّ إِذَا أَخَذَ عَلَيْهِنَّ « قَدْ بَايَعْتُكُنَّ ».كَلاَمًا . (1)
وعَنْ أُمَيْمَةَ بِنْتِ رُقَيْقَةَ،أَنَّهَا قَالَتْ:أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي نِسْوَةٍ يُبَايِعْنَهُ،فَقُلْنَ:نُبَايِعُكَ يَا رَسُولَ اللهِ عَلَى أَنْ لاَ نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا،وَلاَ نَسْرِقَ،وَلاَ نَزْنِيَ،وَلاَ نَقْتُلَ أَوْلاَدَنَا،وَلاَ نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا،وَلاَ نَعْصِيَكَ فِي مَعْرُوفٍ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : فِيمَا اسْتَطَعْتُنَّ وَأَطَقْتُنَّ،قَالَتْ:فَقُلْتُ:اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا،هَلُمَّ نُبَايِعُكَ يَا رَسُولَ اللهِ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنِّي لاَ أُصَافِحُ النِّسَاءَ،إِنَّمَا قَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ كَقَوْلِي لاِمْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ،أَوْ مِثْلَ قَوْلِي لاِمْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ. (2)
عدم النظر إلى المرأة التي لا تحل له:
قال الله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (30) سورة النور
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ:كَانَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رَدِيفَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ تَسْتَفْتِيهِ،فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ،فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ،فَقَالَتْ:يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَأَحُجَّ عَنْهُ قَالَ:نَعَمْ،وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. (3)
وعَنْ عَلِىِّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ رضى الله عنه قَالَ وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَفَةَ فَقَالَ « هَذِهِ عَرَفَةُ وَهَذَا هُوَ الْمَوْقِفُ وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ ». ثُمَّ أَفَاضَ حِينَ غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَجَعَلَ يُشِيرُ بِيَدِهِ عَلَى هَيْئَتِهِ وَالنَّاسُ يَضْرِبُونَ يَمِينًا وَشِمَالاً يَلْتَفِتُ إِلَيْهِمْ وَيَقُولُ « يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمُ السَّكِينَةَ ». ثُمَّ أَتَى جَمْعًا فَصَلَّى بِهِمُ الصَّلاَتَيْنِ جَمِيعًا فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى قُزَحَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ « هَذَا قُزَحُ وَهُوَ الْمَوْقِفُ وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ ». ثُمَّ أَفَاضَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى وَادِى مُحَسِّرٍ فَقَرَعَ نَاقَتَهُ فَخَبَّتْ حَتَّى جَاوَزَ الْوَادِىَ فَوَقَفَ وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ ثُمَّ أَتَى الْجَمْرَةَ فَرَمَاهَا ثُمَّ أَتَى الْمَنْحَرَ فَقَالَ « هَذَا الْمَنْحَرُ وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ ». وَاسْتَفْتَتْهُ جَارِيَةٌ شَابَّةٌ مِنْ خَثْعَمٍ فَقَالَتْ إِنَّ أَبِى شَيْخٌ كَبِيرٌ قَدْ أَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِى الْحَجِّ أَفَيُجْزِئُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ قَالَ « حُجِّى عَنْ أَبِيكِ ». قَالَ وَلَوَى عُنُقَ الْفَضْلِ فَقَالَ الْعَبَّاسُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ لَوَيْتَ عُنُقَ ابْنِ عَمِّكَ قَالَ « رَأَيْتُ شَابًّا وَشَابَّةً فَلَمْ آمَنِ الشَّيْطَانَ عَلَيْهِمَا ». ثُمَّ أَتَاهُ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (5288 ) وصحيح مسلم- المكنز - (4941)
(2) - صحيح ابن حبان - (10 / 417) (4553) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (9 / 301) (3989) وصحيح البخارى- المكنز - (1513 ) وصحيح مسلم- المكنز - (3315 )(1/472)
رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى أَفَضْتُ قَبْلَ أَنْ أَحْلِقَ.قَالَ « احْلِقْ أَوْ قَصِّرْ وَلاَ حَرَجَ ». قَالَ وَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّى ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِىَ. قَالَ « ارْمِ وَلاَ حَرَجَ ». قَالَ ثُمَّ أَتَى الْبَيْتَ فَطَافَ بِهِ ثُمَّ أَتَى زَمْزَمَ فَقَالَ « يَا بَنِى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَوْلاَ أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ عَنْهُ لَنَزَعْتُ » (1) .
عدم نظر المرأة إلى الرجال الأجانب:
قال الله تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (31) سورة النور
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ،أَنَّ نَبْهَانَ،حَدَّثَهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَيْمُونَةُ،قَالَتُ:فَبَيْنَا نَحْنُ عِنْدَهُ أَقْبَلَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ،فَدَخَلَ عَلَيْهِ،وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ أُمِرَ بِالْحِجَابِ،قَالَتْ:فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : احْتَجِبَا مِنْهُ فَقَالَتَا:يَا رَسُولَ اللهِ:أَلَيْسَ هُوَ أَعْمَى فَمَا يُبْصِرُنَا وَلاَ يَعْرِفُنَا،قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَلَسْتُمَا تُبْصِرَانِهِ ؟. (2)
عدم الخلوة بالمرأة التي لا تحل له:
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ،فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي اكْتُتِبْتُ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَكَذَا وَانْطَلَقَتِ امْرَأَتِي حَاجَةً،فَقَالَ:انْطَلِقْ فَحِجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ. (3)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ خَطَبَ بِالْجَابِيَةِ،فَقَالَ:قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَقَامِي فِيكُمْ،فَقَالَ:اسْتَوْصُوا بِأَصْحَابِي خَيْرًا،ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ،ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَبْتَدِئُ بِالشَّهَادَةِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا،فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ بَحْبَحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمُ الْجَمَاعَةَ،فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ،وَهُوَ مِنَ الاِثْنَيْنِ أَبْعَدُ،لاَ يَخْلُوَنَّ أَحَدُكُمْ بِامْرَأَةٍ،فَإِنَّ الشَّيْطَانَ ثَالِثُهُمَا،وَمَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ
__________
(1) - سنن الترمذى- المكنز - (894 ) قَالَ أَبُو عِيسَى حَدِيثُ عَلِىٍّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ
وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ رَأَوْا أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ فِى وَقْتِ الظُّهْرِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِذَا صَلَّى الرَّجُلُ فِى رَحْلِهِ وَلَمْ يَشْهَدِ الصَّلاَةَ مَعَ الإِمَامِ إِنْ شَاءَ جَمَعَ هُوَ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ مِثْلَ مَا صَنَعَ الإِمَامُ.
خب : عدا عدوا -قرع : ضرب بالسوط
(2) - صحيح ابن حبان - (12 / 389) (5576) حسن صحيح
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (3336) وصحيح ابن حبان - (9 / 73) (3757)(1/473)
سَيِّئَتُهُ،فَهُوَ مُؤْمِنٌ." (1)
القيام للقادم إكراماً له:
فعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّ أَهْلَ قُرَيْظَةَ لَمَّا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ أَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَ عَلَى حِمَارٍ أَقْمَرَ فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ ». أَوْ « إِلَى خَيْرِكُمْ ».فَجَاءَ حَتَّى قَعَدَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . (2)
وعَنْ أَبِيهِ،عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ: كُنَّا نَقْعُدُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْغَدَوَاتِ فَإِذَا قَامَ إِلَى بَيْتِهِ لَمْ نَزَلْ قِيَامًا حَتَّى يَدْخُلَ بَيْتَهُ " (3)
قال الطحاوي:فَقَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ تَقْبَلُونَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ،وَأَنْتُمْ تَرْوُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا يُخَالِفُهَا،عَبْدُ اللهِ بْنُ بُرَيْدَةَ،قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ،يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْتَجِمَّ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا وَجَبَتْ لَهُ النَّارُ "
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ عِنْدَنَا غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْأَحَادِيثِ الْأُوَلِ الَّتِي رَوَيْنَاهَا فِي هَذَا الْبَابِ ; لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الْأُوَلَ الَّتِي رَوَيْنَاهَا فِي هَذَا الْبَابِ فِيهَا إطْلَاقُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قِيَامَ الرِّجَالِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ بِاخْتِيَارِ الْقَائِمِينَ لِذَلِكَ لَا بِذِكْرِ مَحَبَّةِ الَّذِينَ قَامُوا لَهُمْ إِيَّاهُ مِنْهُمْ،وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ الْمَحَبَّةُ مِنَ الَّذِي يُقَامُ لَهُ لِذَلِكَ مِمَّنْ يَقُومُهُ لَهُ،فَتَصْحِيحُ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ أَنْ تَكُونَ الْأَحَادِيثُ الْأُوَلُ عَلَى مَا لَا مَحَبَّةَ فِيهِ لِمَنْ يُقَامُ لَهُ،وَهَذَا الْحَدِيثُ عَلَى الْمَحَبَّةِ لِمَنْ يُقَامُ لَهُ بِذَلِكَ الْقِيَامِ،فَبَانَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ جِنْسٍ مِنْ هَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ مُحْتَمِلٌ لِمَا حَمَلْنَاهُ عَلَيْهِ مِمَّا ذَكَرْنَا،فَلَمْ يَبِنْ بِحَمْدِ اللهِ وَنِعْمَتِهِ تَضَادٌّ لِجِنْسٍ مِنْ هَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ لِلْجِنْسِ الْآخَرِ مِنْهُمَا،وعَنْ أَنَسٍ،قَالَ: " لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَكَانُوا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا لَهُ لِمَا يَعْلَمُوا مِنْ كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ " قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَكَانَ مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَدْ دَلَّ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِنَّمَا كَانُوا يَتْرُكُونَ الْقِيَامَ لَهُ - صلى الله عليه وسلم - لِعِلْمِهِمْ بِكَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ مِنْهُمْ وَفِي ذَلِكَ مَا قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَوْلَا كَرَاهَتُهُ لِذَلِكَ مِنْهُمْ لَقَامُوا لَهُ وَقَدْ تَكُونُ كَرَاهَتُهُ لِذَلِكَ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ التَّوَاضُعِ مِنْهُ - صلى الله عليه وسلم - لِذَلِكَ ; لَا لِأَنَّهُ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ لَهُ،وَكَيْفَ يُظَنُّ أَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ عَلَيْهِمْ وَقَدْ أَمَرَهُمْ بِالْقِيَامِ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَقَامَ بِمَحْضَرِهِ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ إِلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عِنْدَ نُزُولِ تَوْبَتِهِ مُهَنِّئًا لَهُ بِذَلِكَ فَلَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 110) (114) صحيح
(2) - سنن أبي داود - المكنز - (5217 ) صحيح
(3) - شرح مشكل الآثار - (3 / 154)(1124) حسن(1/474)
وعَنْ أَبِي مِجْلَزٍ،قَالَ: دَخَلَ مُعَاوِيَةُ بَيْتًا فِيهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَامِرٍ فَقَامَ ابْنُ عَامِرٍ وَثَبَتَ ابْنُ الزُّبَيْرِ وَكَانَ أَوْزَنَهُمَا،فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: اجْلِسْ يَا ابْنَ عَامِرٍ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ " فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّ الْمَكْرُوهَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ هُوَ الْمَحَبَّةُ مِنْ بَعْضِ الرِّجَالِ لِذَلِكَ مِنْ بَعْضٍ،وَقَدْ تَكُونُ تِلْكَ الْمَحَبَّةُ مِنَ الْقِيَامِ إِلَيْهِمْ،وَقَدْ تَكُونُ بِلَا قِيَامٍ إِلَيْهِمْ،فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هِيَ لِلْمَحَبَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا لِلْقِيَامِ الَّذِي لَا مَحَبَّةَ مَعَهُ " (1)
عدم الانحناء أو السجود عند اللقاء:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أَوْ صَدِيقَهُ أَيَنْحَنِى لَهُ قَالَ « لاَ ». قَالَ أَفَيَلْتَزِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ قَالَ « لاَ ».قَالَ أَفَيَأْخُذُ بِيَدِهِ وَيُصَافِحُهُ قَالَ « نَعَمْ » (2) .
طلاقة الوجه عند اللقاء:
عَنْ أَبِى ذَرٍّ قَالَ قَالَ لِىَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ ». أخرجه مسلم (3)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (3 / 154)(1125 )
(2) - سنن الترمذى- المكنز - (2947 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (6857 )(1/475)
-42- آداب الزيارة
فضل الزيارة في الله:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : أَنَّ رَجُلاً زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى،قَالَ:فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا،فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ،قَالَ:أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ:أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ،فقَالَ لَهُ:هَلْ لَهُ عَلَيْكَ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا ؟ قَالَ:لاَ،غَيْرَ أَنِّي أُحِبُّهُ فِي اللهِ،قَالَ:فَإِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكَ،إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلاَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ. أخرجه مسلم (1)
وعَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيِّ،أَنَّهُ قَالَ:دَخَلْتُ مَسْجِدَ دِمَشْقَ فَإِذَا فَتًى بَرَّاقُ الثَّنَايَا،وَإِذَا النَّاسُ مَعَهُ،إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ،أَسْنَدُوهُ إِلَيْهِ،وَصَدَرُوا عَنْ رَأْيِهِ،فَسَأَلْتُ عَنْهُ،فَقِيلَ:هَذَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ،فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ،هَجَّرْتُ فَوَجَدْتُهُ قَدْ سَبَقَنِي بِالتَّهْجِيرِ،وَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي،قَالَ:فَانْتَظَرْتُهُ حَتَّى قَضَى صَلاَتَهُ،ثُمَّ جِئْتُهُ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ،فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ وَقُلْتُ:وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ لِلَّهِ،فقَالَ:آللَّهُ ؟ قُلْتُ:آللَّهُ،فَأَخَذَ بِحَبْوَةِ رِدَائِي فَجَذَبَنِي إِلَيْهِ وَقَالَ:أَبْشِرْ،فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولَ:قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:وَجَبَتْ مَحَبَّتِي لِلْمُتَحَابِّينَ فِيَّ،وَالْمُتَجَالِسِينَ فِيَّ،وَالْمُتَزَاوِرِينَ فِيَّ. (2)
الإكثار من الزيارة لأهل الخير:
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَىَّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ،وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلاَّ يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - طَرَفَىِ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً،ثُمَّ بَدَا لأَبِى بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ،فَكَانَ يُصَلِّى فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ،فَيَقِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ،وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ،وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلاً بَكَّاءً لاَ يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ،فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " أخرجه البخاري (3)
وعَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَىَّ قَطُّ،إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ،وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلاَّ يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - طَرَفَىِ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً،فَلَمَّا ابْتُلِىَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا قِبَلَ الْحَبَشَةِ،حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ - وَهْوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ - فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَخْرَجَنِى قَوْمِى فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِى الأَرْضِ فَأَعْبُدَ رَبِّى.قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ إِنَّ مِثْلَكَ لاَ يَخْرُجُ وَلاَ يُخْرَجُ،فَإِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ،وَتَصِلُ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (2 / 331) (572) وصحيح مسلم- المكنز - (6714)
فأرصد الله له على مدرجته : أرصدت على طريق فلان قوما : إذا وكلتهم بحفظه ، والمدرجة : الطريق.
(2) - صحيح ابن حبان - (2 / 335) (575) صحيح
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (476 )(1/476)
الرَّحِمَ،وَتَحْمِلُ الْكَلَّ،وَتَقْرِى الضَّيْفَ،وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ،وَأَنَا لَكَ جَارٌ فَارْجِعْ فَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبِلاَدِكَ.فَارْتَحَلَ ابْنُ الدَّغِنَةِ،فَرَجَعَ مَعَ أَبِى بَكْرٍ،فَطَافَ فِى أَشْرَافِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ،فَقَالَ لَهُمْ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لاَ يَخْرُجُ مِثْلُهُ،وَلاَ يُخْرَجُ،أَتُخْرِجُونَ رَجُلاً يُكْسِبُ الْمَعْدُومَ،وَيَصِلُ الرَّحِمَ،وَيَحْمِلُ الْكَلَّ،وَيَقْرِى الضَّيْفَ،وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ.فَأَنْفَذَتْ قُرَيْشٌ جِوَارَ ابْنِ الدَّغِنَةِ وَآمَنُوا أَبَا بَكْرٍ وَقَالُوا لاِبْنِ الدَّغِنَةِ مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِى دَارِهِ،فَلْيُصَلِّ وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ،وَلاَ يُؤْذِينَا بِذَلِكَ،وَلاَ يَسْتَعْلِنْ بِهِ،فَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا.قَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لأَبِى بَكْرٍ،فَطَفِقَ أَبُو بَكْرٍ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِى دَارِهِ،وَلاَ يَسْتَعْلِنُ بِالصَّلاَةِ وَلاَ الْقِرَاءَةِ فِى غَيْرِ دَارِهِ،ثُمَّ بَدَا لأَبِى بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ،وَبَرَزَ فَكَانَ يُصَلِّى فِيهِ،وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ،فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ،يَعْجَبُونَ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ،وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلاً بَكَّاءً لاَ يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ،فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ،فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ،فَقَالُوا لَهُ إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِى دَارِهِ،وَإِنَّهُ جَاوَزَ ذَلِكَ،فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ،وَأَعْلَنَ الصَّلاَةَ وَالْقِرَاءَةَ،وَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ أَبْنَاءَنَا وَنِسَاءَنَا،فَأْتِهِ فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِى دَارِهِ فَعَلَ،وَإِنْ أَبَى إِلاَّ أَنْ يُعْلِنَ ذَلِكَ فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ،فَإِنَّا كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ،وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لأَبِى بَكْرٍ الاِسْتِعْلاَنَ.قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ أَبَا بَكْرٍ،فَقَالَ قَدْ عَلِمْتَ الَّذِى عَقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ،فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّ إِلَىَّ ذِمَّتِى،فَإِنِّى لاَ أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّى أُخْفِرْتُ فِى رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ.قَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنِّى أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ،وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ.وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « قَدْ أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ،رَأَيْتُ سَبْخَةً ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لاَبَتَيْنِ ».وَهُمَا الْحَرَّتَانِ،فَهَاجَرَ مَنْ هَاجَرَ قِبَلَ الْمَدِينَةِ حِينَ ذَكَرَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْضُ مَنْ كَانَ هَاجَرَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ،وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا،فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « عَلَى رِسْلِكَ فَإِنِّى أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِى ».قَالَ أَبُو بَكْرٍ هَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِى أَنْتَ قَالَ « نَعَمْ ».فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِيَصْحَبَهُ وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ (1) .
الطلب من العلماء وأهل الخير الإكثار من الزيارة:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِجِبْرِيلَ « مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا فَنَزَلَتْ {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2297 )
نخفر : ننقض العهد -المعدوم : الشىء المعدوم الذى لا يجدونه أو الفقير الذى صار كالمعدوم -يتقصف : يزدحم -تكسب : تعطى المال للفقير(1/477)
نَسِيًّا} (64) سورة مريم.أخرجه البخاري (1)
فَالمَلاَئِكَةُ الكِرَامُ لاَ تَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِإِذْنِ رَبِّهِم الَّذِي لَهُ أَمْرُ الدُّنْيَا ( مَا بَيْنَ أَيْدِينَا )،وَلَهُ أَمْرُ الآخِرَةِ ( وَمَا خَلْفَنَا )،وَمَا بَيْنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ،وَلاَ يَنْسَى اللهُ شَيْئاً،وَلاَ تَطْرَأُ عَلَيْهِ غَفْلَةٌ سُبْحَانَهُ،وَإِنَّهُ تَعَالَى جَدُّهُ إِنْ كَانَ قَدْ أَخَّرَ الوَحْيَ عَنِ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ،فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ يَعْرِفُهَا هُوَ (2) .
لا يؤم الزائر صاحب الدار ولا يجلس على فراشه إلا بإذنه:
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيِّ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَؤُمُّ الْقَوْمُ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ،فَإِنْ كَانَتْ قِرَاءَتُهُمْ سَوَاءً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً،فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ سِنًّا وَلاَ يَؤُمُّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي بَيْتِهِ وَلاَ فِي فُسْطَاطِهِ وَلاَ يَقْعُدُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ." أخرجه مسلم (3)
احتفاء صاحب المنزل بمن زاره:
قال الله تعالى: { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) } [الذاريات:24 - 30]
هل أتاك -أيها الرسول- حديث ضيف إبراهيم الذين أكرمهم- وكانوا من الملائكة الكرام- حين دخلوا عليه في بيته،فحيَّوه قائلين له: سلامًا،فردَّ عليهم التحية قائلا سلام عليكم،أنتم قوم غرباء لا نعرفكم.فعَدَلَ ومال خفية إلى أهله،فعمد إلى عجل سمين فذبحه،وشواه بالنار،ثم وضعه أمامهم،وتلَّطف في دعوتهم إلى الطعام قائلا ألا تأكلون؟
فلما رآهم لا يأكلون أحسَّ في نفسه خوفًا منهم،قالوا له: لا تَخَفْ إنا رسل الله،وبشروه بأن زوجته "سَارَةَ" ستلد له ولدًا،سيكون من أهل العلم بالله وبدينه،وهو إسحاق عليه السلام.فلما سمعت زوجة إبراهيم مقالة هؤلاء الملائكة بالبشارة أقبلت نحوهم في صيحة،فلطمت وجهها تعجبًا من هذا الأمر،وقالت: كيف ألد وأنا عجوز عقيم لا ألد،قالت لها ملائكة الله: هكذا قال ربك كما أخبرناك،وهو القادر على ذلك،فلا عجب من قدرته. إنه سبحانه وتعالى هو الحكيم الذي يضع
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (4731 )
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2314)
(3) - صحيح ابن حبان - (5 / 516) (2144) وصحيح مسلم- المكنز - (1566)
التكرمة : الفراش والبساط الخاص بصاحب المنزل(1/478)
الأشياء مواضعها،العليم بمصالح عباده. (1)
أن يطعم الزائر مما يقدم له:
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - زَارَ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَطَعِمَ عِنْدَهُمْ طَعَامًا فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَمَرَ بِمَكَانٍ مِنَ الْبَيْتِ فَنُضِحَ لَهُ عَلَى بِسَاطٍ فَصَلَّى عَلَيْهِ وَدَعَا لَهُمْ " أخرجه البخاري (2)
التعريض أو القيام من صاحب المنزل إذا أطال الزوار الجلوس:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ لَمَّا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - زَيْنَبَ ابْنَةَ جَحْشٍ دَعَا الْقَوْمَ،فَطَعِمُوا ثُمَّ جَلَسُوا يَتَحَدَّثُونَ وَإِذَا هُوَ كَأَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلْقِيَامِ فَلَمْ يَقُومُوا،فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَامَ،فَلَمَّا قَامَ قَامَ مَنْ قَامَ،وَقَعَدَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ فَجَاءَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لِيَدْخُلَ فَإِذَا الْقَوْمُ جُلُوسٌ ثُمَّ إِنَّهُمْ قَامُوا،فَانْطَلَقْتُ فَجِئْتُ فَأَخْبَرْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُمْ قَدِ انْطَلَقُوا،فَجَاءَ حَتَّى دَخَلَ،فَذَهَبْتُ أَدْخُلُ فَأَلْقَى الْحِجَابَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا} (53) سورة الأحزاب (3)
يَا أَيُّها المُؤِمنُونَ لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلاَّ أَنْ تُدْعَوْا إِلى طعام تَطْعَمُونَهُ غَيْرَ مُنْتَظِرِينَ إِدْرَاكَ نُضْجِهِ،( أَي إِذا دُعِيتُم إِلى طَعَامٍ في بَيْتِ رَسُولِ اللهِ فَلا تَدْخُلُوا إِلا إِذَا عَلِمْتُمْ أَنَّ الطَّعَامَ قَدْ تَمَّ نُضْجُهُ وإِعْدَادُهُ ) وَلكِنْ إِذا دَعَاكُمُ النَّبِيُّ إِلى الدُّخُولِ فَادخُلُوا،فَإِذَا أَكَلْتُمُ الطَّعَامَ فَانصَرِفُوا،وَلا تَمْكُثُوا فِيهِ لِتَبَادُلِ الحَدِيثِ،فَذَلِكَ اللُبْثُ،بَعْدَ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ،كَانَ يُؤِْي النَّبِيَّ،وَيُثْقِلُ عَليهِ وَعَلى أَهْلِهِ،وَلكِنَّهُ كَانَ يَسْتَحْيِي مِنْ أَنْ يَقُولَ لَكُمْ ذَلِكَ،وَأَنْ يَدْعُوَكُمْ إِلى الانْصِرَافِ،وَاللهُ الذِي يُريدُ أَنْ يُحْسِنَ تَرِبيتَكم وَتَأدِيبكُمْ،يُريدُ أَنْ يَقُولَ لَكُمُ الحَقَّ لتَعمَلُوا بِهِ،فَإِذا طَعِمْتُم فِي بَيتِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَاخْرُجُوا،وَلاَ تَقْعُدُوا لِلْحَدِيثِ.وَإِذا طَلَبْتُم مِنْ أَزواجِ النَّبِيِّ وَنِسَاءِ المُؤمِنِينَ شَيئاً تَتَمَتَّعُونَ بِهِ،مِنْ مَاعُونٍ،وَغيرِهِ،فَاطْلُبُوهُ مِنْ وَرَاءِ سِتْرٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُنَّ.وَذلِكَ الدُّخُولُ بَعْدَ الاسْتِئِذَانِ،وَعَدَمُ البَقَاءِ بَعْدَ الطَّعَامِ للاسْتِئْنَاسِ بِالحَدِيثِ،وَسُؤالُ نِسَاءِ النَّبِيِّ المَتَاعَ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ.. كُلُّ ذَلِكَ أَطْهَرُ لِقُلُوبِ الرِّجَالِ وَقُلُوبِ النِّسَاءِ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطَانِ،وَأَبْعَدُ عَنْ الرِّيبِ والشُّكُوكِ،وَلاَ يَنْبَغِي لِلْمُؤِمِنينَ أَنْ يَفْعَلُوا فَعْلاً فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ
__________
(1) - التفسير الميسر - (9 / 290)
(2) - صحيح ابن حبان - (6 / 84) (2309) وصحيح البخارى- المكنز - (6080 )
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (4791 )(1/479)
يُؤْذِيهِ وَيُزْعِجُهُ،وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُؤْذُوهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِالتَّزَوٌّجِ بِنِسَائِهِ.فَإِيذَاءُ النَّبِيِّ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ هُوَ أَمْرٌ عَظِيمٌ لاَ يُقَدِّرُ قَدْرَهُ إِلاَّ اللهُ تَعَالى . (1)
زيارة العالم والكبير لوجهاء القوم:
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَىَّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ،وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلاَّ يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - طَرَفَىِ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً،ثُمَّ بَدَا لأَبِى بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ،فَكَانَ يُصَلِّى فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ،فَيَقِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ،وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ،وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلاً بَكَّاءً لاَ يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ،فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ .أخرجه البخاري (2)
وعَنْ عُرْوَةَ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى إِكَافٍ عَلَى قَطِيفَةٍ فَدَكِيَّةٍ،وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ وَرَاءَهُ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ فَسَارَ حَتَّى مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ ابْنُ سَلُولَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ،وَفِى الْمَجْلِسِ أَخْلاَطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ،وَفِى الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ،فَلَمَّا غَشِيَتِ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ خَمَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ،قَالَ لاَ تُغَيِّرُوا عَلَيْنَا فَسَلَّمَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَوَقَفَ وَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ فَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ،فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ يَا أَيُّهَا الْمَرْءُ إِنَّهُ لاَ أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ إِنْ كَانَ حَقًّا،فَلاَ تُؤْذِنَا بِهِ فِى مَجْلِسِنَا،وَارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ.قَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاغْشَنَا بِهِ فِى مَجَالِسِنَا فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ فَلَمْ يَزَلِ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى سَكَتُوا فَرَكِبَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - دَابَّتَهُ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ لَهُ « أَىْ سَعْدُ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ ».يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ.قَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْفُ عَنْهُ وَاصْفَحْ فَلَقَدْ أَعْطَاكَ اللَّهُ مَا أَعْطَاكَ وَلَقَدِ اجْتَمَعَ أَهْلُ هَذِهِ الْبَحْرَةِ أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُوهُ فَلَمَّا رَدَّ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِى أَعْطَاكَ شَرِقَ بِذَلِكَ،فَذَلِكَ الَّذِى فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ . (3)
زيارة العالم والكبير بيوت الفقراء:
عَنْ أَنَسِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - زَارَ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَطَعِمَ عِنْدَهُمْ طَعَامًا فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَمَرَ بِمَكَانٍ مِنَ الْبَيْتِ فَنُضِحَ لَهُ عَلَى بِسَاطٍ فَصَلَّى عَلَيْهِ وَدَعَا لَهُمْ " (4)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 3467)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (476 )
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (5663 )
شرق : غص به ولم يسيغه والمراد أنه حسد النبى -العجاجة : ما ارتفع من غبار حوافرها -الإكاف : البرذعة
(4) - صحيح ابن حبان - (6 / 84) (2309) صحيح(1/480)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - زَارَ أَهْلَ بَيْتٍ فِى الأَنْصَارِ فَطَعِمَ عِنْدَهُمْ طَعَامًا،فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَمَرَ بِمَكَانٍ مِنَ الْبَيْتِ،فَنُضِحَ لَهُ عَلَى بِسَاطٍ،فَصَلَّى عَلَيْهِ،وَدَعَا لَهُمْ.أخرجه البخاري (1)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ،فَأَكَلَ مِنْهُ فَقَالَ « قُومُوا فَلأُصَلِّىَ بِكُمْ ».فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ مَا لُبِسَ،فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالْيَتِيمُ مَعِى،وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا،فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ.متفق عليه (2)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6080 )
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (860 ) وصحيح مسلم- المكنز - (1533 ) -لبس : استعمل(1/481)
-43- آداب الضيافة
فضل الضيافة:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ،وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ،فَلاَ يُؤْذِي جَارَهُ،وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ،فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ." متفق عليه (1)
إكرام الضيوف من سنن المرسلين:
1- قال الله تعالى: { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27)} [الذاريات:24 - 27]
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،قَالَ:كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَجْوَدَ النَّاسِ،وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ،وَحِينَ يَلْقَى جِبْرِيلَ،وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ،فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ،فَلَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ. (2)
حكم الضيافة:
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ،وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ،وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ ».متفق عليه (3)
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ - رضى الله عنه - أَنَّهُ قَالَ قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تَبْعَثُنَا فَنَنْزِلُ بِقَوْمٍ فَلاَ يَقْرُونَنَا فَمَا تَرَى،فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنْ نَزَلْتُمْ بِقَوْمٍ فَأَمَرُوا لَكُمْ بِمَا يَنْبَغِى لِلضَّيْفِ فَاقْبَلُوا،فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَخُذُوا مِنْهُمْ حَقَّ الضَّيْفِ الَّذِى يَنْبَغِى لَهُمْ » (4)
الترحيب بالضيوف والثناء عليهم بما فيهم:
عَنْ أَبِي جَمْرَةَ،قَالَ:كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَيْنَ النَّاسِ،فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ تَسْأَلُهُ عَنْ نَبِيذِ الْجَرِّ،فَقَالَ:إِنَّ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (2 / 259) (506) وصحيح البخارى- المكنز - (6018 )وصحيح مسلم- المكنز - (182 )
(2) - صحيح ابن حبان - (14 / 285) (6370) وصحيح البخارى- المكنز - (6)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (6136) وصحيح مسلم- المكنز - (182)
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (6137 ) -يقرى : يكرم الضيف ويقوم بحق ضيافته(1/482)
وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ أَتَوْا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنِ الْوَفْدُ،أَوْ مَنِ الْقَوْمُ ؟ قَالُوا:رَبِيعَةُ،قَالَ:مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ أَوْ بِالْوَفْدِ غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ نَدَامَى " (1)
المبادرة في إكرام الضيف:
قال الله تعالى: { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27)} [الذاريات:24 - 27]
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا،فَإِذَا هُوَ بِأَبِي بَكْرٍ،وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،فَقَالَ:"مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا؟"،قَالا: الْجُوعُ،قَالَ:"وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَخْرَجَنِي إِلا الَّذِي أَخْرَجَكُمَا،قُومُوا"،فَقَامُوا مَعَهُ وَأَتَى رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ،فَإِذَا الأَنْصَارِيُّ لَيْسَ ثَمَّ،وَإِذَا هُوَ بِالْمَرْأَةِ،فَقَالَ لَهَا:"أَيْنَ فُلانٌ؟"،قَالَتِ: انْطَلَقَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا مِنَ الْمَاءِ،فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ الأَنْصَارِيُّ وَعَلَيْهِ قِرْبَةٌ مِنْ مَاءٍ،فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَصَاحِبَيْهِ،قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ،مَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ أَكْرَمُ مِنْ أَضْيَافِنَا،قَالَ: فَعَلَّقَ الْقِرْبَةَ وَقَطَعَ لَهُمْ عَذْقًا فِيهِ بُسْرٌ وَرُطَبٌ وَتَمْرٌ،فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"لَوِ انْتَقَيْتَ؟"،قَالَ: تَخَيَّرُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى أَعْيُنِكُمْ،قَالَ: وَأَخَذَ الْمُدْيَةَ،فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"إِيَّاكَ وَالْحَلُوبَ"،فَذَبَحَ لَهُمْ فَأَكَلُوا،فَلَمَّا فَرَغُوا،قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :"لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَبْتُمْ مِنْ هَذَا النَّعِيمِ". (2)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ أَنَّ أَصْحَابَ الصُّفَّةِ كَانُوا أُنَاسًا فُقَرَاءَ،وَأَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَلْيَذْهَبْ بِثَالِثٍ،وَإِنْ أَرْبَعٌ فَخَامِسٌ أَوْ سَادِسٌ ».وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ جَاءَ بِثَلاَثَةٍ فَانْطَلَقَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَشَرَةٍ،قَالَ فَهْوَ أَنَا وَأَبِى وَأُمِّى،فَلاَ أَدْرِى قَالَ وَامْرَأَتِى وَخَادِمٌ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَيْتِ أَبِى بَكْرٍ.وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ تَعَشَّى عِنْدَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ لَبِثَ حَيْثُ صُلِّيَتِ الْعِشَاءُ،ثُمَّ رَجَعَ فَلَبِثَ حَتَّى تَعَشَّى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَجَاءَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ،قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ وَمَا حَبَسَكَ عَنْ أَضْيَافِكَ - أَوْ قَالَتْ ضَيْفِكَ - قَالَ أَوَمَا عَشَّيْتِيهِمْ قَالَتْ أَبَوْا حَتَّى تَجِىءَ،قَدْ عُرِضُوا فَأَبَوْا.قَالَ فَذَهَبْتُ أَنَا فَاخْتَبَأْتُ فَقَالَ يَا غُنْثَرُ،فَجَدَّعَ وَسَبَّ،وَقَالَ كُلُوا لاَ هَنِيئًا.فَقَالَ وَاللَّهِ لاَ أَطْعَمُهُ أَبَدًا،وَايْمُ اللَّهِ مَا كُنَّا نَأْخُذُ مِنْ لُقْمَةٍ إِلاَّ رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا.قَالَ يَعْنِى حَتَّى شَبِعُوا وَصَارَتْ أَكْثَرَ مِمَّا كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ،فَنَظَرَ إِلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ فَإِذَا هِىَ كَمَا هِىَ أَوْ أَكْثَرُ مِنْهَا.فَقَالَ لاِمْرَأَتِهِ يَا أُخْتَ بَنِى فِرَاسٍ مَا هَذَا قَالَتْ لاَ وَقُرَّةِ عَيْنِى لَهِىَ الآنَ أَكْثَرُ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ بِثَلاَثِ مَرَّاتٍ.فَأَكَلَ مِنْهَا أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ إِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنَ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (53 ) وصحيح ابن حبان - (1 / 395) (172)
(2) - المعجم الكبير للطبراني - (14 / 157) (15914 ) صحيح(1/483)
الشَّيْطَانِ - يَعْنِى يَمِينَهُ - ثُمَّ أَكَلَ مِنْهَا لُقْمَةً،ثُمَّ حَمَلَهَا إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَصْبَحَتْ عِنْدَهُ،وَكَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمٍ عَقْدٌ،فَمَضَى الأَجَلُ،فَفَرَّقَنَا اثْنَا عَشَرَ رَجُلاً،مَعَ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أُنَاسٌ،اللَّهُ أَعْلَمُ كَمْ مَعَ كُلِّ رَجُلٍ فَأَكَلُوا مِنْهَا أَجْمَعُونَ،أَوْ كَمَا قَالَ." (1)
إكرام الضيف بما تيسر:
قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} (69) سورة هود
وَجَاءَ المَلائِكَةُ،رُسُلُ اللهِ،إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ،يُبَشِّرُونَهُ بِولاَدَةِ ابْنِهِ إِسْحَاقَ،فَقَالُوا لَهُ:نُسَلِّمُ عَليكَ سَلاماً فَقَالَ:وَعَلَيكم سَلاَمٌ.فَذَهَبَ سَريعاً فَأَتَاهُمْ بِعِجْلٍ مِنَ البَقَرِ مَشْوِيٍّ ( حَنِيذٍ ) وَهُوَ مَا يُوجِبُهُ عَليهِ حَقُّ الضِّيَافَةِ لِلنَّازِلِينَ عَلَيهِ (2) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ:إِنِّي مَجْهُودٌ،فَأَرْسَلَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ،فَقَالَتْ:وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ نَبِيًّا،مَا عِنْدِي إِلاَّ مَاءٌ،ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُخْرَى فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ،حَتَّى قُلْنَ كُلُّهُنَّ مِثْلَ ذَلِكَ،فَقَالَ:مَنْ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ،فَقَالَ:أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ،فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ،فَقَالَ لاِمْرَأَتِهِ:هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ ؟ قَالَتْ:لاَ،إِلاَّ قُوتُ صِبْيَانِي،قَالَ:فَعَلِّلِيهِمْ بِشَيْءٍ،فَإِذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا فَأَضِيئِي السِّرَاجَ وَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُلُ،فَإِذَا أَهْوَى لِيَأْكُلَ قَوْمِي إِلَى السِّرَاجِ حَتَّى تُطْفِئِيهِ،قَالَ:فَقَعَدُوا وَأَكَلَ الضَّيْفُ،فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ:لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا اللَّيْلَةَ. (3)
ما يقول الضيف إذا تبعه من لم يُدْع:
عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ،قَالَ:كَانَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو شُعَيْبٍ،وَكَانَ لَهُ غُلاَمٌ لَحَّامٌ،فَرَأَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَعَرَفَ فِي وَجْهِهِ الْجُوعَ،فَقَالَ لِغُلاَمِهِ:اصْنَعْ لَنَا طَعَامًا لِخَمْسَةٍ،فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَدْعُوَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - خَامِسَ خَمْسَةٍ،قَالَ:فَصَنَعَ ثُمَّ جَاءَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - خَامِسَ خَمْسَةٍ وَتَبِعَهُمْ رَجُلٌ،فَلَمَّا بَلَغَ الْبَابَ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ هَذَا تَبِعَنَا،فَإِنْ شِئْتَ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ وَإِنْ شِئْتَ رَجَعَ قَالَ:بَلْ آذَنُ لَهُ يَا رَسُولَ اللهِ (4) .
أين يجلس الضيف؟:
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (602 ) - جَدع : دعا بقطع الأنف -الغنثر : الثقيل الوخم
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1543)
(3) - صحيح ابن حبان - (12 / 95) (5286) وصحيح مسلم- المكنز - (5480)
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (5429 ) وصحيح ابن حبان - (12 / 112) (5300) -اللحام : بائع اللحم(1/484)
عَنْ أَبِى مَسْعُودٍ الأَنْصَارِىِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ كَانُوا فِى الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ فَإِنْ كَانُوا فِى السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا فِى الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِلْمًا وَلاَ يَؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِى سُلْطَانِهِ وَلاَ يَقْعُدْ فِى بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ». قَالَ الأَشَجُّ فِى رِوَايَتِهِ مَكَانَ سِلْمًا سِنًّا. أخرجه مسلم (1)
توقير العلماء والكبار:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (11) سورة المجادلة
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه،إذا طُلب منكم أن يوسع بعضكم لبعض المجالس فأوسعوا،يوسع الله عليكم في الدنيا والآخرة،وإذا طلب منكم- أيها المؤمنون- أن تقوموا من مجالسكم لأمر من الأمور التي يكون فيها خير لكم فقوموا،يرفع الله مكانة المؤمنين المخلصين منكم،ويرفع مكانة أهل العلم درجات كثيرة في الثواب ومراتب الرضوان،والله تعالى خبير بأعمالكم لا يخفى عليه شيء منها،وهو مجازيكم عليها. وفي الآية تنويه بمكانة العلماء وفضلهم،ورفع درجاتهم. (2)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « أَرَانِى أَتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ،فَجَاءَنِى رَجُلاَنِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الآخَرِ،فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الأَصْغَرَ مِنْهُمَا،فَقِيلَ لِى كَبِّرْ.فَدَفَعْتُهُ إِلَى الأَكْبَرِ مِنْهُمَا » (3) .
تقديم الأكبر ثم من هو على يمين الأكبر:
عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رضى الله عنه - قَالَ أُتِىَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِقَدَحٍ فَشَرِبَ مِنْهُ،وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ أَصْغَرُ الْقَوْمِ،وَالأَشْيَاخُ عَنْ يَسَارِهِ فَقَالَ « يَا غُلاَمُ أَتَأْذَنُ لِى أَنْ أُعْطِيَهُ الأَشْيَاخَ ».قَالَ مَا كُنْتُ لأُوثِرَ بِفَضْلِى مِنْكَ أَحَدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ.فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ . (4)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،قَالَ: " قَدِمَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْمَدِينَةَ وَأَنَا ابْنُ عَشْرٍ وَمَاتَ وَأَنَا ابْنُ عِشْرِينَ،وَأُمَّهَاتِي كُنَّ يَحْثُثْنَنِي عَلَى خِدْمَتِهِ،فَدَخَلَ عَلَيْنَا دَارَنَا فَحَلَبْنَا لَهُ مِنْ شَاةٍ دَاجِنٍ وَشِيبَ لَهُ مِنِ بِئْرٍ فِي الدَّارِ،فَشَرِبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ يَسَارِهِ وَأَعْرَابِيٌّ عَنْ يَمِينِهِ وَعُمَرُ نَاحِيَةً،فَقَالَ عُمَرُ: نَاوِلْ أَبَا بَكْرٍ،فَنَاوَلَ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (1564 ) -السلم : الإسلام -التكرمة : الفراش والبساط الخاص بصاحب المنزل
(2) - التفسير الميسر - (10 / 64)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (246) وصحيح مسلم- المكنز - (6071)
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (2351 )(1/485)
الْأَعْرَابِيَّ وَقَالَ: الْأَيْمَنُ فَالْأَيْمَنُ " متفق عليه (1)
خفض الصوت وغض البصر:
قال الله تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (19) سورة لقمان
وقال الله تعالى:{قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} (30) سورة النور
خدمة صاحب المنزل لضيوفه:
قال الله تعالى: { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27)} [الذاريات:24 - 27]
وعَنْ سَهْلٍ قَالَ لَمَّا عَرَّسَ أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِىُّ دَعَا النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابَهُ،فَمَا صَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا وَلاَ قَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ إِلاَّ امْرَأَتُهُ أُمُّ أُسَيْدٍ،بَلَّتْ تَمَرَاتٍ فِى تَوْرٍ مِنْ حِجَارَةٍ مِنَ اللَّيْلِ،فَلَمَّا فَرَغَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الطَّعَامِ أَمَاثَتْهُ لَهُ فَسَقَتْهُ،تُتْحِفُهُ بِذَلِكَ . (2)
وعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ أَبَا أُسَيْدٍ صَاحِبَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَعْرَسَ فَدَعَا النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - لِعُرْسِهِ،فَكَانَتِ الْعَرُوسُ خَادِمَهُمْ.فَقَالَ سَهْلٌ لِلْقَوْمِ هَلْ تَدْرُونَ مَا سَقَتْهُ قَالَ أَنْقَعَتْ لَهُ تَمْرًا فِى تَوْرٍ مِنَ اللَّيْلِ،حَتَّى أَصْبَحَ عَلَيْهِ فَسَقَتْهُ إِيَّاهُ (3) .
وفي الحديث جواز خدمة المرأة زوجها ومن يدعوه،ولا يخفى أن محل ذلك عند أمن الفتنة ومراعاة ما يجب عليها من الستر،وجواز استخدام الرجل امرأته في مثل ذلك،وشرب ما لا يسكر في الوليمة،وفيه جواز إيثار كبير القوم في الوليمة بشيء دون من معه (4)
مدة الضيافة:
عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ،وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتَ،وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2571) وصحيح مسلم- المكنز - (5411 ) وشعب الإيمان - (8 / 157)(5633 ) - شبت : خلطت
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (5182 ) -التور : إناء صغير من نحاس أو حجارة -أماث : حلل فى الماء
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (6685 )
(4) - فتح الباري لابن حجر - (9 / 251)(1/486)
ضَيْفَهُ،جَائِزَتُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ،وَالضِّيَافَةُ ثَلاَثَةُ أَيَّامٍ،فَمَا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ،وَلاَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَثْوِيَ عِنْدَهُ حَتَّى يُحْرِجَهُ (1) .
عدم التكلف للضيف وغيره:
عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ فَقَالَ: نُهِينَا عَنِ التَّكَلُّفِ. أخرجه البخاري (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " طَعَامُ الِاثْنَيْنِ كَافِي الثَّلَاثَةِ،وَطَعَامُ الثَّلَاثَةِ كَافِي الْأَرْبَعَةِ " متفق عليه (3)
وعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ،قَالَ:أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ،قَالَ:سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ،يَقُولُ:سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الاِثْنَيْنِ،وَطَعَامُ الاِثْنَيْنِ يَكْفِي الأَرْبَعَةَ،وَطَعَامُ الأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ. أخرجه مسلم (4)
دعاء الضيف إذا طعم:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ،قَالَ:نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَبِي،قَالَ:فَقَرَّبْنَا إِلَيْهِ طَعَامًا وَوَطْبَةً،فَأَكَلَ مِنْهَا،ثُمَّ أُتِيَ بِتَمْرٍ فَكَانَ يَأْكُلُهُ وَيُلْقِي النَّوَى بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ،وَيَجْمَعُ السَّبَّابَةَ وَالْوُسْطَى ثُمَّ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ،ثُمَّ نَاوَلَهُ الَّذِي عَنْ يَمِينِهِ،قَالَ:فَقَالَ أَبِي:وَأَخَذَ بِلِجَامِ دَابَّتِهِ،ادْعُ اللَّهَ لَنَا،فَقَالَ:" اللَّهُمَّ،بَارِكْ لَهُمْ فِي مَا رَزَقْتَهُمْ،وَاغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ " أخرجه مسلم (5)
الانصراف بعد الفراغ من الطعام:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا} (53) سورة الأحزاب
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه لا تدخلوا بيوت النبي إلا بإذنه لتناول طعام غير منتظرين نضجه،ولكن إذا دعيتم فادخلوا،فإذا أكلتم فانصرفوا غير مستأنسين لحديث بينكم؛ فإن
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6019 ) وصحيح ابن حبان - (12 / 97) (5287)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (7293)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (5392 ) وصحيح مسلم- المكنز - (5488)
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (5489 ) وصحيح ابن حبان - (12 / 42) (5237)
(5) - صَحِيحُ مُسْلِمٍ (5449 )(1/487)
انتظاركم واستئناسكم يؤذي النبي،فيستحيي من إخراجكم من البيوت مع أن ذلك حق له،والله لا يستحيي من بيان الحق وإظهاره. وإذا سألتم نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاجة من أواني البيت ونحوها فاسألوهن من وراء ستر؛ ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن من الخواطر التي تعرض للرجال في أمر النساء،وللنساء في أمر الرجال؛ فالرؤية سبب الفتنة،وما ينبغي لكم أن تؤذوا رسول الله،ولا أن تتزوجوا أزواجه من بعد موته أبدًا؛ لأنهن أمهاتكم،ولا يحلُّ للرجل أن يتزوج أمَّه،إنَّ أذاكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونكاحكم أزواجه من بعده إثم عظيم عند الله.(وقد امتثلت هذه الأمة هذا الأمر،واجتنبت ما نهى الله عنه منه). (1)
إجابة دعوة الكافر لمصلحة ما لم يكن منكر:
قال الله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (5) سورة المائدة
من تمام نعمة الله عليكم اليوم -أيها المؤمنون- أن أَحَلَّ لكم الحلال الطيب،وذبائحُ اليهود والنصارى -إن ذكَّوها حَسَبَ شرعهم- حلال لكم وذبائحكم حلال لهم. وأَحَلَّ لكم -أيها المؤمنون- نكاح المحصنات،وهُنَّ الحرائر من النساء المؤمنات،العفيفات عن الزنى،وكذلك نكاحَ الحرائر العفيفات من اليهود والنصارى إذا أعطيتموهُنَّ مهورهن،وكنتم أعِفَّاء غير مرتكبين للزنى،ولا متخذي عشيقات،وأمِنتم من التأثر بدينهن. ومن يجحد شرائع الإيمان فقد بطل عمله،وهو يوم القيامة من الخاسرين. (2)
وعَنْ أَنَسٍ،أَنَّ يَهُودِيًّا دَعَا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى خُبْزِ شَعِيرٍ وَإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ،فَأَجَابَهُ. أخرجه أحمد (3)
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَذُمَّ طَعَامًا
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،قَالَ:مَا عَابَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - طَعَامًا قَطُّ،كَانَ إِذَا قُرِّبَ إِلَيْهِ طَعَامٌ،فَأَرَادَهُ،أَوِ اشْتَهَاهُ أَكَلَ،وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ تَرَكَهُ.
__________
(1) - التفسير الميسر - (7 / 361)
(2) - التفسير الميسر - (2 / 179)
قلت : ولا يخفى أن هذا وسط المجتمع الذي يحكمه الإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة وليس كحالنا اليوم ، فكيف بمن يتزوج بالكفارة في بلاد الكفر ؟؟؟!!!
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 543)(13201) 13233- صحيح
الإهالة : ما أذبت من الشحم ، وقيل : الشحم والزيت ، وقيل : كل دهن اؤتدم به إهالة- السّنِخة : المتَغَيَّرة الرِّيح(1/488)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:مَا عَابَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - طَعَامًا قَطُّ،كَانَ إِذَا قَرَّبَ إِلَيْهِ شَيْءٌ إِنَّ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ،وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِهِ تَرَكَهُ.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:مَا عَابَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - طَعَامًا قَطُّ،كَانَ إِذَا قُرِّبَ إِلَيْهِ شَيْءٌ إِنِ اشْتَهَاهُ أَكَلَهُ،وَإِنْ كَرِهَهُ تَرَكَهُ.
و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:مَا عَابَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - طَعَامًا قَطُّ،إِنْ أَعْجَبَهُ أَكَلَهُ،وَإِنْ لَمْ يُعْجِبْهُ تَرَكَهُ.
و عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:مَا عَابَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - طَعَامًا قَطُّ،إِنَّ اشْتَهَى شَيْئًا أَكَلَهُ،وَإِنَّ لَمْ يَشْتَهِ تَرَكَهُ.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَابَ طَعَامًا قَطُّ،كَانَ إِذَا اشْتَهَى أَكَلَهُ،وَإِنْ لَمْ يَشْتَهِ سَكَتَ ". (1)
وأن يأكل مما يليه،فعن عُمَرَ بْنِ أَبِى سَلَمَةَ قال:كُنْتُ غُلاَمًا فِى حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَتْ يَدِى تَطِيشُ فِى الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :« يَا غُلاَمُ سَمِّ اللَّهَ،وَكُلْ بِيَمِينِكَ وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ ».فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِى بَعْدُ (2) .
- - - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - مسند أبي عوانة (6812 -6819) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (5376 ) وصحيح مسلم- المكنز - (5388)(1/489)
-44- آداب المعاشرات
فضل حسن الخلق:
قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (4) سورة القلم
وإنك -أيها الرسول- لعلى خلق عظيم،وهو ما اشتمل عليه القرآن من مكارم الأخلاق؛ فقد كان امتثال القرآن سجية له يأتمر بأمره،وينتهي عما ينهى عنه.
إن إطاقة محمد - صلى الله عليه وسلم - لتلقي هذه الكلمة،من هذا المصدر،وهو ثابت،لا ينسحق تحت ضغطها الهائل - ولو أنها ثناء - ولا تتأرجح شخصيته تحت وقعها وتضطرب .. تلقيه لها في طمأنينة وفي تماسك وفي توازن .. هو ذاته دليل على عظمة شخصيته فوق كل دليل.ولقد رويت عن عظمة خلقه في السيرة،وعلى لسان أصحابه روايات منوعة كثيرة. وكان واقع سيرته أعظم شهادة من كل ما روي عنه. ولكن هذه الكلمة أعظم بدلالتها من كل شيء آخر. أعظم بصدورها عن العلي الكبير.وأعظم بتلقي محمد لها وهو يعلم من هو العلي الكبير،وبقائه بعدها ثابتا راسخا مطمئنا. لا يتكبر على العباد،ولا ينتفخ،ولا يتعاظم،وهو الذي سمع ما سمع من العلي الكبير! واللّه أعلم حيث يجعل رسالته. وما كان إلا محمد - صلى الله عليه وسلم - بعظمة نفسه هذه - من يحمل هذه الرسالة الأخيرة بكل عظمتها الكونية الكبرى. فيكون كفئا لها،كما يكون صورة حية منها.إن هذه الرسالة من الكمال والجمال،والعظمة والشمول،والصدق والحق،بحيث لا يحملها إلا الرجل الذي يثني عليه اللّه هذا الثناء. فتطيق شخصيته كذلك تلقي هذا الثناء. في تماسك وفي توازن،وفي طمأنينة.طمأنينة القلب الكبير الذي يسع حقيقة تلك الرسالة وحقيقة هذا الثناء العظيم. ثم يتلقى - بعد ذلك - عتاب ربه له ومؤاخذته إياه على بعض تصرفاته،بذات التماسك وذات التوازن وذات الطمأنينة. ويعلن هذه كما يعلن تلك،لا يكتم من هذه شيئا ولا تلك .. وهو هو في كلتا الحالتين النبي الكريم. والعبد الطائع. والمبلغ الأمين.إن حقيقة هذه النفس من حقيقة هذه الرسالة. وإن عظمة هذه النفس من عظمة هذه الرسالة. وإن الحقيقة المحمدية كالحقيقة الإسلامية لأبعد من مدى أي مجهر يملكه بشر. وقصارى ما يملكه راصد لعظمة هذه الحقيقة المزدوجة أن يراها ولا يحدد مداها. وأن يشير إلى مسارها الكوني دون أن يحدد هذا المسار! ومرة أخرى أجد نفسي مشدودا للوقوف إلى جوار الدلالة الضخمة لتلقي رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - لهذه الكلمة من ربه،وهو ثابت راسخ متوازن مطمئن الكيان .. لقد كان - وهو بشر - يثني على أحد أصحابه،فيهتز كيان صاحبه هذا وأصحابه من وقع هذا الثناء العظيم. وهو بشر وصاحبه يعلم أنه بشر. وأصحابه يدركون أنه بشر.(1/490)
إنه نبي نعم. ولكن في الدائرة المعلومة الحدود. دائرة البشرية ذات الحدود .. فأما هو فيتلقى هذه الكلمة من اللّه. وهو يعلم من هو اللّه. هو بخاصة يعلم من هو اللّه! هو يعلم منه ما لا يعلمه سواه. ثم يصطبر ويتماسك ويتلقى ويسير ... إنه أمر فوق كل تصور وفوق كل تقدير!!! إنه محمد - وحده - هو الذي يرقى إلى هذا الأفق من العظمة .. إنه محمد - وحده - هو الذي يبلغ قمة الكمال الإنساني المجانس لنفخة اللّه في الكيان الإنساني. إنه محمد - وحده - هو الذي يكافئ هذه الرسالة الكونية العالمية الإنسانية حتى لتتمثل في شخصه حية،تمشي على الأرض في إهاب إنسان .. إنه محمد - وحده الذي علم اللّه منه أنه أهل لهذا المقام. واللّه أعلم حيث يجعل رسالته - وأعلن في هذه أنه على خلق عظيم. وأعلن في الأخرى أنه - جل شأنه وتقدست ذاته وصفاته،يصلي عليه هو وملائكته «إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ».
وهو - جل شأنه - وحده القادر على أن يهب عبدا من عباده ذلك الفضل العظيم ..
ثم إن لهذه اللفتة دلالتها على تمجيد العنصر الأخلاقي في ميزان اللّه وأصالة هذا العنصر في الحقيقة الإسلامية كأصالة الحقيقة المحمدية.
والناظر في هذه العقيدة،كالناظر في سيرة رسولها،يجد العنصر الأخلاقي بارزا أصيلا فيها،تقوم عليه أصولها التشريعية وأصولها التهذيبية على السواء .. الدعوة الكبرى في هذه العقيدة إلى الطهارة والنظافة والأمانة والصدق والعدل والرحمة والبر وحفظ العهد،ومطابقة القول للفعل،ومطابقتهما معا للنية والضمير والنهي عن الجور والظلم والخداع والغش وأكل أموال الناس بالباطل،والاعتداء على الحرمات والأعراض،وإشاعة الفاحشة بأية صورة من الصور .. والتشريعات في هذه العقيدة لحماية هذه الأسس وصيانة العنصر الأخلاقي في الشعور والسلوك،وفي أعماق الضمير وفي واقع المجتمع. وفي العلاقات الفردية والجماعية والدولية على السواء.
والرسول الكريم يقول:«إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» .. فيلخص رسالته في هذا الهدف النبيل.
وتتوارد أحاديثه تترى في الحض على كل خلق كريم. وتقوم سيرته الشخصية مثالا حيا وصفحة نقية،وصورة رفيعة،تستحق من اللّه أن يقول عنها في كتابه الخالد:«وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» .. فيمجد بهذا الثناء نبيه - صلى الله عليه وسلم - كما يمجد به العنصر الأخلاقي في منهجه الذي جاء به هذا النبي الكريم،ويشد به الأرض إلى السماء،ويعلق به قلوب الراغبين إليه - سبحانه - وهو يدلهم على ما يحب ويرضى من الخلق القويم.وهذا الاعتبار هو الاعتبار الفذ في أخلاقية الإسلام. فهي أخلاقية لم تنبع من البيئة،ولا من اعتبارات أرضية إطلاقا وهي لا تستمد ولا تعتمد على اعتبار من اعتبارات العرف أو المصلحة أو الارتباطات التي كانت قائمة في الجيل. إنما تستمد من السماء وتعتمد على(1/491)
السماء. تستمد من هتاف السماء للأرض لكي تتطلع إلى الأفق.
وتستمد من صفات اللّه المطلقة ليحققها البشر في حدود الطاقة،كي يحققوا إنسانيتهم العليا،وكي يصبحوا أهلا لتكريم اللّه لهم واستخلافهم في الأرض وكي يتأهلوا للحياة الرفيعة الأخرى:«فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ» .. ومن ثم فهي غير مقيدة ولا محدودة بحدود من أي اعتبارات قائمة في الأرض إنما هي طليقة ترتفع إلى أقصى ما يطيقه البشر،لأنها تتطلع إلى تحقيق صفات اللّه الطليقة من كل حد ومن كل قيد.
ثم إنها ليست فضائل مفردة:صدق. وأمانة. وعدل. ورحمة. وبر .... إنما هي منهج متكامل،تتعاون فيه التربية التهذيبية مع الشرائع التنظيمية وتقوم عليه فكرة الحياة كلها واتجاهاتها جميعا،وتنتهي في خاتمة المطاف إلى اللّه. لا إلى أي اعتبار آخر من اعتبارات هذه الحياة! وقد تمثلت هذه الأخلاقية الإسلامية بكمالها وجمالها وتوازنها واستقامتها واطرادها وثباتها في محمد - صلى الله عليه وسلم - وتمثلت في ثناء اللّه العظيم،وقوله:«وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ» .. (1)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضى الله عنهما - قَالَ لَمْ يَكُنِ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا وَكَانَ يَقُولُ « إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلاَقًا » (2) .
حسن المعاشرة والعمل الصالح:
1قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (71) سورة التوبة
المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَيْنَهُمْ أُخُوَّةٌ،وَمَوَدَّةٌ،وَتَعَاوُنٌ،وَتَرَاحُمٌ،وَيَتَّصِفُونَ بِالصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ التِي يَأْمُرُهُمْ بِهَا دِينُهُمْ:فَيَتَنَاصَرُونَ وَيَتَعَاضَدُونَ وَيَفْعَلُونَ الخَيْرَ،وَيَأْمُرُونَ بِهِ،وَيَنْتَهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ،وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤَدُّونَهَا حَقَّ أَدَائِهَا،وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا،وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَمَرَ،وَيَتْرُكُونَ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ.وَالمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الطَّيِّبَةِ الْكَرِيمَةِ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ،وَاللهُ عَزِيزُ الجَانِبِ،يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ،وَهُوَ حَكِيمٌ فِي قِسْمَتِهِ الصِّفَاتِ بَيْنَ خَلْقِهِ،فَجَعَلَ المُؤْمِنِينَ يَخْتَصُّونَ بِالصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ،وَالمُنَافِقِينَ يَخْتَصُّونَ بِالصِّفِاتِ الذَمِيمَةِ المُنْكَرَةِ (3) .
وعَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ قَائِمَةٌ قَالَ «
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3656)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - ( 3559 )
(3) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1307)(1/492)
وَيْلَكَ وَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا » .قَالَ مَا أَعْدَدْتُ لَهَا إِلاَّ أَنِّى أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.قَالَ « إِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ ».فَقُلْنَا وَنَحْنُ كَذَلِكَ.قَالَ « نَعَمْ ».فَفَرِحْنَا يَوْمَئِذٍ فَرَحًا شَدِيدًا» (1) .
الإحسان في كل شيء:
قال الله تعالى: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (195) سورة البقرة
بَذَلَ الأَنْصَارُ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبيلِ اللهِ،وَنُصْرَةِ دِينِهِ،وَأوَوا المُهَاجِرِينَ وَسَاعَدُوهُمْ،فَلَمَّا أَعَزَّ اللهُ الإِسْلامَ،وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ،قَالَ بَعْضُ الأَنْصَارِ لِبَعْضٍ:لَوْ أَنَّهُمْ أَقْبَلُوا عَلَى أَمْوَالِهِمْ فَأَصْلَحُوهَا.فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هذِهِ الآيَةَ.وَفِيها يُبَيِّنُ اللهُ لَهُمْ أَنَّ الإِقَامَةَ عَلَى الأَمْوَالِ،وَإِصْلاَحَهَا،وَتَرْكَ الغَزْوِ وَالجِهَادِ وَالإِنْفَاقِ فِي سَبيل الله...فِيهِ التَّهْلُكَةُ.فَعَادُوا إِلى الجِهَادِ،وَإِلى إِنْفَاقِ أَمْوالِهِمْ فِي سَبيلِ اللهِ،وَإِعْلاَءِ كَلِمَتِهِ،وَفِي وُجُوهِ الطَّاعَاتِ.وَأَخْبَرَ اللهُ المُؤْمِنينَ بِأَنَّ تَرْكَ الجِهَادِ،وَتَرْكَ الإِنْفَاقِ فِيهِ هَلاَكٌ وَدَمَارٌ لِمَنْ لِزِمَهُ وَاعْتَادَهُ،فَإِذا بَخِلَ المُؤْمِنُونَ،وَقَعَدُوا عَنِ الجِهَادِ رَكِبَهُمْ أًعْدَاؤُهُمْ وَأَذَلُّوهُمْ،فَكَأَنَّهُمْ إِنَّمَا أَلْقَوا بِأَيْدِيهِمْ إِلى التَّهْلُكَةِ .ثُمَّ أَمَرَ اللهُ المُسْلِمِينَ بِأَنْ يُحْسِنُوا كُلَّ أَعْمَالِهِمْ،وَأَنْ يُجَوِّدٌوهَا،وَيَدْخُلُ فِي ذلِكَ التَّطَوُعُ بِالإِنْفَاقِ فِي سَبيلِ اللهِ لِنَشْرِ الدَّعْوَةِ . (2)
وقال الله تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} (56) سورة الأعراف
يَنْهَى اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ عَنِ الإِفْسَادِ فِي الأَرْضِ بَعْدَ أَنْ أَصْلَحَهَا اللهُ بِمَا خَلَقَ فِيهَا مِنَ المَنَافِعِ وَالنِّظَامِ،وَبِمَا هَدَى النَّاسَ إِلَيهِ مِنْ حُسْنِ اسْتِغْلاَلها،وَالانْتِفَاعِ بِخَيْرَاتِهَا،وَبِمَا سَخَّرَهُ لَهُمْ مِنْهَا .وَيَشْمَلُ الإِفْسَادُ كُلَّ مَا أَفْسَدَ العُقُولَ وَالعَقَائِدَ،وَالآدَابَ الشَّخْصِيَّةَ وَالمَعَايِشَ وَالمَرَافِقَ مِنْ زِرَاعَةٍ وَتِجَارَةٍ وَصِنَاعَةٍ.. ثُمَّ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِدُعَائِهِ خَوْفاً مِمَّا عِنْدَهُ مِنْ شَدِيدِ العِقَابِ،وَطَمَعاً بِمَا عِنْدَهُ مِنْ جَزِيلِ الثَّوابِ،فَرَحْمَةُ اللهِ مُرْصَدَةٌ لِلْمُحْسِنِينَ الذِي يَتَّبِعُونَ أَوَامِرَهُ وَيَنْتَهُونَ عَمَّا نَهَى عَنْهُ . (3)
وقال الله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (26) سورة يونس
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ الذِينَ يَسْتَجِيبُونَ لِدَعْوَةِ اللهِ،وَيُحْسِنُونَ العَمَلَ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيا،سَيَكُونُ جَزَاؤُهُمُ الحُسْنَى مِنَ اللهِ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ ( وَهَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ )،وَسَيُضَاعِفُ اللهُ لَهُمْ ثَوَابَ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6167 )
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 202)
(3) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1011)(1/493)
أَعْمَالِهِمْ ( وَزِيَادَةٌ )،وَسَيُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ،وَسَيُعْطِيهِمْ مَا لاَ عَيْنَ رَأَتْ،وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ،وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ .وَلاَ يَغْشَى وُجُوهَهُمْ قَتَامٌ أَسْوَدُ،مِمَّا يَعْتَرِي وُجُوهَ الكَفَرَةِ،مِنَ القَتَرَةِ وَالغَبَرَةِ،وَلاَ يَلْحَقُ بِالمُؤْمِنِينَ صَغَارٌ وَلاَ هَوَانٌ وَلاَ ذِلَّةٌ .وَقَالَ اللهُ تَعَالَى يَصِفُ المُؤْمِنِينَ فِي آيَةٍ أُخْرَى { فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً.} لاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ - لاَ يَغْشَى وُجُوهَهُمْ وَلاَ يَعْلُوهَا . (1)
اختيار الرفيق والجليس الصالح:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} (119) سورة التوبة
يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ،وَرَاقِبُوهُ بِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَوَاجِبَاتِهِ،وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ،وَاصْدقوا وَالزَمُوا الصِّدْقَ تَكُونُوا أَهْلَهُ،وَتَنْجُوا مِنَ المَهَالِكِ،وَيَجْعَلُ اللهُ لَكُمْ فَرَجاً مِنْ أُمُورِكِمْ وَمَخْرَجاً (2) .
وعَنْ أَبِى مُوسَى عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّمَا مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالْجَلِيسِ السَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً ». (3)
حسن البشاشة واللين:
عَنْ عَقِيلِ بْنِ طَلْحَةَ،قَالَ:حَدَّثَنِي أَبُو جُرَيٍّ الْهُجَيْمِيُّ،قَالَ:أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ:يَا رَسُولَ اللهِ،إِنَّا قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَعَلِّمْنَا شَيْئًا يَنْفَعُنَا اللَّهُ بِهِ،فقَالَ:لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا،وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْمُسْتَسْقِي،وَلَوْ أَنْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ،وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْبَسِطٌ وَإِيَّاكَ وَإِسْبَالَ الإِزَارِ،فَإِنَّهُ مِنَ الْمَخِيلَةِ،وَلاَ يُحِبُّهَا اللَّهُ وَإِنِ امْرُؤٌ شَتَمَكَ بِمَا يَعْلَمُ فِيكَ،فَلاَ تَشْتُمْهُ بِمَا تَعْلَمُ فِيهِ،فَإِنَّ أَجْرَهُ لَكَ،وَوَبَالَهُ عَلَى مَنْ قَالَهُ. (4)
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا،وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ،فَإِذَا صَنَعْتَ مَرَقَةً،فَأَكْثِرْ مَاءَهَا،وَاغْرِفْ لِجِيرَانِكَ مِنْهَا. (5)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1391)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1355)
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (6860 )
الكير : منفاخ الحداد ، وكوره : المبني من الطين للنار. -يحذيك : يعطيك ، من الحذية ، والحذيا : العطية.
(4) - صحيح ابن حبان - (2 / 281) (522) صحيح
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : الأَمْرُ بِتَرْكِ اسْتِحْقَارِ الْمَعْرُوفِ أَمْرٌ قُصِدَ بِهِ الإِرْشَادُ وَالزَّجْرُ عَنْ إِسْبَالِ الإِزَارِ زَجْرُ حَتْمٍ لِعِلَّةٍ مَعْلُومَةٍ وَهِيَ الْخُيَلاَءُ ، فَمَتَى عُدِمَتِ الْخُيَلاَءُ ، لَمْ يَكُنْ بِإسْبَالِ الإِزَارِ بَأْسٌ وَالزَّجْرُ عَنِ الشَّتِيمَةِ إِذَا شُوتِمَ الْمَرْءُ ، زَجْرٌ عَنْهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَقَبْلَهُ ، وَبَعْدَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُشْتَمْ.
(5) - صحيح ابن حبان - (2 / 282)(523) وصحيح مسلم- المكنز - (6857)(1/494)
التواضع وعدم التكبر:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ،وَلاَ زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا،وَلاَ تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ. أخرجه مسلم (1)
وعَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَخِى بَنِى مُجَاشِعٍ قَالَ قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ يَوْمٍ خَطِيبًا فَقَالَ:إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَىَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لاَ يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلاَ يَبْغِى أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ ». أخرجه مسلم (2)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَىَّ أَنْ تَوَاضَعُوا وَلاَ يَبْغِى بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ ». (3)
الصدق وعدم الكذب:
عَنْ عَبْدِ اللهِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ،وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ،وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا،وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ،وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ،وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا. متفق عليه (4)
المودة والرحمة وسلامة الصدر:
قال الله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (29) سورة الفتح
إِن مُحمداً - صلى الله عليه وسلم - رَسُولُ اللهِ حَقّاً وَصِدْقاً،بِلاَ شَكٍّ وَلاَ رَيبٍ،وَإِنَّ أصْحَابَهُ يَتَّصِفُونَ بالصِّفَاتِ الجَمِيلةِ الحَسَنةِ،فَهُمْ أشِدَّاءٌ غِلاَظُ القُلُوبِ عَلَى الكُفارِ،وَهُمْ رُحَماءُ مُتَوَادُّونَ فيما بَيْنَهم يَرَاهُم النَّاظِرُ إليهِمْ دَائِبينَ عَلَى أدَاءِ الصَّلاةِ،مُخْلِصِينَ فيها للهِ،مُحْتَسِبينَ أجْرَهَا عِنْدَ اللهِ،يَبْتَغُونَ بِصَلاتِهِمْ رِضَا اللهِ وَرِضْوَانَهُ،تَتْرُكُ نُفُوسُهُمُ المُطْمَئِنَّةُ أَثَراً عَلَى وُجُوهِهِمْ،فَهِي هَادِئَةٌ مُطْمَئِنَّةٌ مَسْتَبْشِرَةٌ،وَهَذِهِ هِيَ صِفَاتُ المُؤمِنينَ المُخْلِصِينَ في التورَاةِ.وَجَاءَ وَصْفُهُمْ في الإِنجيلِ أَنَّ أتْبَاعَ مُحَمَّدٍ سَيَكُونُونَ قَليلينَ ثُمَّ يَزْدَادُونَ وَيكْثُرُونَ وَيَسْتَغْلظُونَ كَزَرْعٍ أخْرَجَ مُحَمَّدٍ سَيَكُونُونَ قَلِيلينَ ثُمَّ يَزْدَادُونَ وَيَكْثُرُونَ وَيَسْتَغْلظُونَ كَزَرْعٍ أخْرَجَ فُروعَهُ ( شَطْأهُ ) التي تَتَفَرَّعُ مِنْهُ عَلَى جَوَانِبِهِ،فَيَقْوى وَيَتَحَوَّلُ من الدِّقَّةِ إِلى
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (8 / 40)(3248) وصحيح مسلم- المكنز - (6757 )
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (7389 )
(3) - سنن ابن ماجه- المكنز - (4354 ) صحيح
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (6094 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6803 ) وصحيح ابن حبان - (1 / 509)(274)(1/495)
الغِلْظَةِ،وَيَسْتَقيمُ عَلَى أصُولِهِ فَيُعْجَبُ بِهِ الزَّراعِ لِخِصْبِهِ،وَقُوَّتِهِ،وَحُسْنِ مَظْهَرِهِ،وَقَدْ نَمَّاهُمُ اللهُ وأكْثَرَ عَدَدَهُم لِيَغِيظَ بهم الكُفَّارَ،وَقَدْ وَعَدَ اللهُ المُؤْمِنينَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ،العَامِلِينَ للصَّالِحَاتِ،بأن يَغْفِرَ لَهُمْ ذُنُوبَهمْ،وَأنْ يُجْزِلَ لَهُمُ الأجْرَ والعَطَاءَ،وبِأنْ يُدْخِلَهُمْ جَنَّاتِهِ،وَاللهُ لاَ يُخْلِفَ وَعْدَهُ أبَداً . (1)
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى » (2) .
وعَنْ أَبِى مُوسَى عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ،يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا ».وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ . (3)
كظم الغيظ والعفو عن الزلات:
قال الله تعالى: { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) } [آل عمران:133 - 136]
وَيَنْدُبُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ إلَى القِيَامِ بِالأَعْمِالِ الصَّالِحَةِ،وَإلى المُسَارَعَةِ فِي فِعْلِ الخَيْرَاتِ،لِيَنَالُوا مَغْفِرَةَ اللهِ وَرِضْوَانَهُ،وَجَنَّتَهُ الوَاسِعَةَ العَرِيضَةَ التِي أَعَدَّهَا اللهُ لِعِبَادِهِ المُتَّقِينَ،الذِينَ يَمْتَثِلُونَ أَمْرَهُ .
يَذْكُرُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ صِفَاتِ أهْلِ الجَنَّةِ فَيَقُولُ:إِنَّهُمُ الذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ مَرْضَاةِ اللهِ،فِي الرَّخَاءِ ( السَّرَاءِ )،وَفِي الشِّدَّةِ ( الضَرَّاءِ )،وَفِي الصِّحَّةِ وَالمَرَضِ،وَفِي جَمِيعِ الأَحْوَالِ،لاَ يَشْغَلُهُمْ أَمْرٌ عَنْ طَاعَةِ اللهِ،وَالإِنْفَاقِ فِي سَبيلِ مَرْضَاتِهِ،وَإِنَّهُمْ يَكْتُمُونَ غَيْظَهُمْ إذَا ثَارَ،وَيَعْفُونَ عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيهِمْ.وَاللهُ يُحِبُّ الذِينَ يَتَفَضَّلُونَ عَلَى عِبَادِهِ البَائِسِينَ،وَيُوَاسُونَهُمْ شُكْراً للهِ عَلَى جَزِيلِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ.وَمِنْ صِفَاتِ أَهْلِ الجَنَّةِ أَنَّهُمْ إذَا صَدَرَ عَنْهُمْ فِعْلَ قَبيحٌ يَتَعَدَّى أثرُهُ إلَى غَيْرِهِمْ ( كَغَيبَةِ إِنْسَانٍ )،أَو صَدَرَ عَنْهُمْ ذَنْبٌ يَكُونُ مُقْتَصِراً عَلَيْهِمْ ( كَشُرْبِ خَمْرٍ وَنَحْوَهُ )،ذَكَرُوا اللهَ تَعَالَى وَوَعِيدَهُ،وَعَظَمَتَهُ وَجَلاَلَهُ،فَرَجَعُوا إلَى اللهِ تَائِبِينَ،طَالِبِينَ مَغْفِرَتَهُ،وَلَمْ يُقِيمُوا عَلى القَبِيحِ مِنْ غَيْرِ اسْتِغْفَارٍ،لِعِلْمِهِمْ أنَّ اللهَ هُوَ الذِي يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً،وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى الذَّنْبِ،لأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أنَّ مَنْ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4491)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6751 )
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (481 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6750 )(1/496)
تَابَ إلَى اللهِ،تَابَ اللهُ عَلَيهِ،وَغَفَرَ لَهُ . (1)
وعَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذٍ،عَنْ أَبِيهِ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ دَعَاهُ اللهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ الْحُورِ شَاءَ " (2)
التعاون على البر والتقوى:
قال الله تعالى: { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2) سورة المائدة
وعَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ،قَالَ: أَقَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمَدِينَةِ سَنَةً مَا يَمْنَعُنِي مِنَ الْهِجْرَةِ إِلَّا الْمَسْأَلَةُ،كَانَ أَحَدُنَا إِذَا هَاجَرَ لَمْ يَسْأَلْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ شَيْءٍ،فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْبِرِّ،وَالْإِثْمِ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ،وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ،وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ " أخرجه مسلم (3)
بذل النصيحة:
قال هود - صلى الله عليه وسلم - لقومه: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (67) {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ(68)} سورة الأعراف
قَالَ جُمْهُورُ السَّادَةِ مِنْ قَوْمِهِ ( المَلأُ ):إِنَّنَا نَرَاكَ فِي ضَلالٍ وَفَسَادِ رَأْيٍ ( فِي سَفَاهَةٍ )،إِذْ تَدْعُونَا إلَى تَرْكِ عِبَادَة الأَصْنَامِ،وَالإِقْبَالِ عَلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ،وَإِنَّنَا نَظُنُّ أَنَّكَ كَاذِبٌ فِي دَعْواكَ أَنَّ اللهَ أَرْسَلَكَ إِلَيْنَا رَسُولاً.فَقَالَ لَهُمْ:إِنَّنِي لَسْتُ سَفِيهاً ضَالاً عَنِ الحَقِّ وَالصَّوَابِ،وَلاَ ضَعِيفَ الرَّأْيِ،كَمَا تَزْعُمُونَ،وَإِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ إِلَيْكُمْ،وَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالحَقِّ وَالهُدَى مِنَ اللهِ الذِي خَلَقَ كُلَّ شَيءٍ،فَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيءٍ وَخَالِقُهُ وَمَالِكُهُ .وَمَهَمَّتِي هِيَ مَهَمَّةُ جَمِيعِ الرُّسُلِ الذِينَ جَاؤُوا قَبْلِي وَهِيَ إِبْلاغُ رِسَالَةِ اللهِ إلى عِبَادِهِ،وَإِسْدَاءُ النُّصْحِ إِليهِم،وَأَنَا صَادِقٌ فِي نُصْحِي لَكُمْ،أَمينٌ فِي إِبْلاَغِكُمْ مَا أَمَرَنِي رَبِّي بِإِبْلاَغِهِ إِلَيْكُمْ . (4)
وعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،أَنَّهُ قَالَ:الدِّينُ النَّصِيحَةُ،ثَلاَثَ مَرَّاتٍ،قَالُوا:لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ:لِلَّهِ،وَلِكِتَابِهِ،وَلِرَسُولِهِ،وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ،أَوْ لِلْمُؤْمِنِينَ،وَعَامَّتِهِمْ. أخرجه مسلم (5)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 426)
(2) - شعب الإيمان - (10 / 536) (7950 ) حسن - كظم غيظا : كظم الغيظ : تجرعه وترك المقابلة عليه.
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (6681) وشعب الإيمان - (10 / 362)(7628 )
(4) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1021)
(5) - صحيح ابن حبان - (10 / 435)(4574) وصحيح مسلم- المكنز - (205 )
قال العلماء : النصيحة لله إخلاص الاعتقاد في الوحدانية ، ووصفه بصفات الألوهية ، وتنزيهه عن النقائص والرغبة في محابّه والبعد من مساخطه. والنصيحة لرسوله : التصديق بنبوته ، والتزام طاعته في أمره ونهيه ، وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه ، وتوقيره ، ومحبته ومحبة آل بيته ، وتعظيمه وتعظيم سنته ، وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها ، والتفقه فيها والذب عنها ونشرها والدعاء إليها ، والتخلق بأخلاقه الكريمة - صلى الله عليه وسلم - . وكذا النصح لكتاب الله : قراءته والتفقه فيه ، والذب عنه وتعليمه وإكرامه والتخلق به. والنصح لأئمة المسلمين : ترك الخروج عليهم ، إرشادهم إلى الحق وتنبيههم فيما أغفلوه من أمور المسلمين ، ولزوم طاعتهم والقيام بواجب حقهم. والنصح للعامة : ترك معاداتهم ، وإرشادهم وحب الصالحين منهم ، والدعاء لجميعهم وإرادة الخير لكافتهم.تفسير القرطبي ـ موافق للمطبوع - (8 / 227)(1/497)
وعَنْ جَرِيرٍ قَالَ:بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فَقَالَ:فَلَقَّنَنِي فَقَالَ:فِيمَا اسْتَطَعْتَ وَالنُّصْحَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ. متفق عليه (1)
الإصلاح بين الناس:
قال الله تعالى: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (114) سورة النساء
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِمَا يَتَنَاجَى بِهِ هَؤُلاءِ الذِينَ يُسِرُّونَ الحَدِيثَ،مِنْ جَمَاعَةِ ابْنِ أَبَيْرق،الذِينَ أَرَادُوا مُسَاعَدَتَهُ عَلَى اتِّهَامِ اليَهُودِيِّ وَبَهْتِهِ،وَمَنْ مَاثَلَهُمْ مِنَ النَّاسِ،وَلَنْ يَكُونَ الخَيْرُ فِي نَجْوَى النَّاسِ،إلاَّ إذَا تَنَاوَلَتْ أحَاديثُهُمْ ذِكْرَ اللهِ،أَوْ أَمْراً بِصَدَقَةٍ،أَوْ أَمْراً بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيّاً عَنْ مُنْكَرٍ،أَوْ سَعْياً فِي إِصْلاَحِ ذَاتِ البَيْنِ بَيْنَ أنَاسٍ مُخْتَلِفِينَ مُتَخَاصِمِينَ.وَمَنْ يَفُعْلْ هَذِهِ الأَعْمَالَ الثَّلاَثَةَ،ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَرْضَاتِهِ لاَ يَبْغِي ثَوَابَ ذَلِكَ عِنْدَ غَيْرِ اللهِ،فَسَوْفَ يُثِيبُهُ اللهُ ثَوَاباً جَزِيلاً . (2)
وعن مُحَمَّدَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ خُنَيْسٍ الْمَكِّيِّ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ بِمَكَّةَ نَعُودُهُ فِي دَارِ الْعَطَّارِينَ،فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ حَسَّانَ الْمَخْزُومِيُّ يَعُودُهُ،فَقَالَ لَهُ سُفْيَانُ الْحَدِيثُ الَّذِي كُنْتَ حَدَّثْتَنِيهِ،عَنْ أُمِّ صَالِحٍ ارْدُدْهُ عَلَيَّ،فَقَالَ: حَدَّثَتْنِي أُمُّ صَالِحٍ بِنْتُ صَالِحٍ،عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ،عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " كَلَامُ ابْنِ آدَمَ كُلُّهُ عَلَيْهِ لَا لَهُ إِلَّا أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ،أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ،أَوْ ذَكَرَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ "،فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: " مَا أَشَدُّ هَذَا الْحَدِيثِ ".فَقَالَ سُفْيَانُ: " وَمَا شِدَّةُ هَذَا الْحَدِيثِ،إِنَّمَا جَاءَتْ بِهِ امْرَأَةٌ عَنِ امْرَأَةٍ هَذَا فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ نَبِيَّكُمْ - صلى الله عليه وسلم - : أَمَا سَمِعْتَ اللهَ يَقُولُ: { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ } [النساء: 114] إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ فَهُوَ هَذَا بِعَيْنِهِ أَوَ مَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } [النبأ: 38] فَهُوَ هَذَا بِعَيْنِهِ.أَوَمَا سَمِعْتَ اللهَ يَقُولُ: { وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (7204 ) وصحيح مسلم- المكنز - (210)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 607)(1/498)
الصَّالِحَاتِ،وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [العصر: 2] فَهُوَ هَذَا بِعَيْنِهِ " (1)
وقال الله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)} سورة الحجرات
وإذَا اقْتَتَلَتْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمنينَ فَأصِلِحُوا - يا أيُّها المُؤْمِنُونَ - بَينَهما بالعَدْلِ،وذَلِكَ بالدَّعْوةِ إِلى حُكْمِ اللهِ،وَالرِّضَا بِمَا فيهِ،فإذا أبَتْ إِحْدَى هَاتِينِ الطَّائِفَتَينِ الإِجَابَةَ إلى حُكْمِ اللهِ،وَتَجَاوَزَتْ حُدُودَ العَدْلِ،وأَجَابتِ الاخْرى،فَقَاتِلُوا التي تَعْتَدِي وَتأبى الإِجَابَةَ إلى حُكْمُ اللهِ،حَتَّى تَرْجِعَ إليهِ وَتَخْضَعَ لَهُ،فَإِنْ رَجَعَت الطَّائِفَةُ البَاغِيةُ إلى الرِّضا بِحُكْم اللهِ،فَأصْلِحُوا بَينَهما بالعَدْلِ،وَاعْدِلُوا في حُكْمِكُم فإنَّ اللهَ يُحبُّ العَادِلينَ،وَيَجزِيِهْم أحْسَنَ الجَزَاءِ.المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ في الدِّينِ،فأصْلِحُوا بَينَ الأخَوينِ المُتَقَاتِلَينِ،أو الطَّائِفَتَين المُتَقَاتِلَتَين كَما تُصْلِحُونَ بين الأخَوينِ منَ النَّسَبِ،وَاتْقُوا اللهَ في جَميعِ أمُورِكُم لَعَل اللهَ يَرْحَمُكُم وَيَصْفَحُ عَمَا سَلَفَ مِنْكُم مِنْ ذُنُوبٍ وَهَفَواتٍ . (2)
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:أَلاَ أُخْبِرُكُمْ،بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ،وَالْقِيَامِ ؟ قَالُوا:بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ،قَالَ:إِصْلاَحُ ذَاتِ الْبَيْنِ،وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ. (3)
حسن الظن بالمؤمنين:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه اجتنبوا كثيرًا من ظن السوء بالمؤمنين; إن بعض ذلك الظن إثم،ولا تُفَتِّشوا عن عورات المسلمين،ولا يقل بعضكم في بعضٍ بظهر الغيب ما يكره. أيحب أحدكم أكل لحم أخيه وهو ميت؟ فأنتم تكرهون ذلك،فاكرهوا اغتيابه. وخافوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه. إن الله تواب على عباده المؤمنين،رحيم بهم. (4)
وقال الله تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ}
__________
(1) - شعب الإيمان - (7 / 30)(4603 ) فيه جهالة
(2) أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4500)
(3) - صحيح ابن حبان - (11 / 489) (5092) صحيح
(4) - التفسير الميسر - (9 / 233)(1/499)
(12) سورة النور
يُؤَدِّبُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الآيَةِ المُؤْمِنِينَ فِي قِصَّةِ عَائشَةَ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهَا،حَينَ أَفاضَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ الإِفِكِ،فَقَالَ تَعَالَى:هَلاَّ إِذْ سَمِعْتُمْ هَذَا القَوْلَ الذي رُمِيَتْ بِهِ أمُّ المُؤْمِنِينَ،فَقِسْتُمْ ذَلِكَ الكَلاَمَ عَلَى أَنْفُسكُم،فَإِذَا كَانَ لاَ يَلِيقُ بِكُمْ،فَأُمُّ المُؤْمِنِينَ أَوْلَى بالبَرَاءَةِ مِنْهُ،بِالأَحْرَى وَالأَوْلَى .وَقَالَ تَعَالَى:هَلاَّ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ الخَيْرَ،فَأُمُّ المُؤْمِنِينَ أَهْلُهُ وَأَوْلَى بِهِ،وَهَلاَّ قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ هَذَا كَذِبٌ ظًاهِرٌ عَلَى أُمِّ المُؤْمِنِينَ،فَإِنَّ الذي وَقَعَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يُريبُ،وَذَلِكَ أَنَّ عَائِشَةَ جَاءَتْ رَاكِبَةً جَهْرَةً عَلَى رَاحِلَةِ صِفْوَانِ بنِ المُعَِّطلِ السلمِي،فِي وَقْتِ الظَهِيرَةِ،والجَيْشُ بِكَامِلِهِ يُشَاهِدُ ذَلِكَ،وَرَسُولُ اللهِ مَعَهُمْ،فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْفِي كُلَّ شُبْهَةٍ وَشَكٍّ،وَلَوْ كَانَ فِي الأَمْرٍ مَا يُرْتَابُ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ هَكَذَا جَهْرَةً (1) .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ،وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ تَحَسَّسُوا،وَلاَ تَحَاسَدُوا،وَلاَ تَنَافَسُوا،وَلاَ تَبَاغَضُوا،وَلاَ تَدَابَرُوا،وَكُونُوا عِبَادًا لِلَّهِ إِخْوَانًا. متفق عليه (2)
الحب في الله:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلاَلِي ؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ فِي ظِلِّي،يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلِّي. أخرجه مسلم (3)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا عَبْدَ اللهِ،أَيُّ عُرَى الْإِسْلَامِ أَوْثَقُ ؟ " قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: " الْوَلَايَةُ فِي اللهِ،الْحَبُّ فِي اللهِ وَالْبُغْضُ فِي اللهِ،يَا عَبْدَ اللهِ،أَتَدْرِي أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ ؟ " قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ،قَالَ: " فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسَ أَعْلَمُهُمْ بِالْحَقِّ إِذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ،وَإِنْ كَانَ مُقَصِّرًا فِي الْعَمَلِ،وَإِنْ كَانَ يَزْحَفُ عَلَى سِتَّةٍ " (4)
وعَنِ الْبَرَاءِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَوْثَقُ عُرَى الإسْلامِ الْحُبُّ فِي اللهِ وَالْبُغْضُ فِي اللهِ. (5)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - « أَنَّ رَجُلاً زَارَ أَخًا لَهُ فِى قَرْيَةٍ أُخْرَى فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ أَيْنَ تُرِيدُ قَالَ أُرِيدُ أَخًا لِى فِى هَذِهِ الْقَرْيَةِ. قَالَ هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا قَالَ لاَ غَيْرَ أَنِّى أَحْبَبْتُهُ فِى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ فَإِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2685)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (5143 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6701 ) وصحيح ابن حبان - (12 / 500)(5687)
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (6713 ) وصحيح ابن حبان - (2 / 334) (574)
(4) - شعب الإيمان - (12 / 73) (9064 ) حسن
(5) - مصنف ابن أبي شيبة - (11 / 41) (31059) صحيح لغيره(1/500)
». أخرجه مسلم (1)
إخبار المؤمن أخاه بمحبته له:
عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:إِذَا أَحَبَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ،فَلْيُعْلِمْهُ. (2)
حفظ الأمانات:
قال الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} (58) سورة النساء
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ بِأَدَاءِ الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا.وَأَدَاءِ الأَمَانَاتِ يَشْمَلُ جَمِيعَ الأَمَانَاتِ الوَاجِبَةِ عَلى الإِنْسَانِ:مِنْ حُقُوقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ( مِنْ صَلاَةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ...) وَمِنْ حُقُوقِ العِبَادِ ( كَالوَدَائِعِ وَغَيرَ ذَلِكَ مِمَّا يُؤْتَمَنُ الإِنْسَانُ عَلَيهِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ بِيَدِ أَصْحَابِهَا وَثَائِقَ وَبَيَنَاتٍ عَلَيهَا ).هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ،فَقَدْ كَانَتْ لَهُ حِجَابَةُ الكَعْبَةِ.وَلَمَّا فَتَحَ اللهُ مَكَّةَ عَلَى رَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - طَافَ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - بِالكَعْبَةِ،ثُمَّ دَعَا بِعُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ،وَأَخَذَ مِنْهُ مُفْتَاحَ الكَعْبَةِ وَدَخَلَها.فَجَاءَهُ العَبَّاسُ ( وَقِيلَ بَلْ جَاءَهُ عَلِي ) فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،اجْمَعْ لَنَا حَجَابَةَ الكَعْبَةِ مَعَ السِّقَايَةِ.فَدَعَا رَسُولَ اللهِ بِعُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَدَفَعَ إِلَيهِ المُفْتَاحَ،وَخَرَجَ يَقْرَأُ هَذِهِ الآيَةَ .وَيَأْمُرُ اللهُ المُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَحْكُمُوا بَيْنَ النَّاسِ بِالعَدْلِ،وَأَنْ يَكُونَ العَدْلُ عَاماً لِلْبَرِّ وَالفَاجِرِ،وَلِكُلِّ أحَدٍ،وَأنْ لاَ يَمْنَعَهُمْ مِنْ إِقَامَةِ العَدْلِ حِقْدٌ أَوْ كَرَاهِيَةٌ أوْ عَدَاؤةٌ .
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى إنَّ مَا يَأْمُرُ بِهِ،وَيَعِظُ بِهِ المُؤْمِنِينَ،هُوَ الشَّرْعُ الكَامِلُ،وَفِيهِ خَيْرُهُمْ،وَاللهُ سَمِيعٌ لأَقْوَالِ العِبَادِ،بَصِيرٌ بِأَفْعَالِهِمْ،فَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ بِمَا يَسْتَحِقُّ . (3)
وقال تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} (8) سورة المؤمنون
وَالذينَ إِذَا ائْتُمِنُوا لَمْ يَخُونُوا أَمَانَاتِهم،بَلْ يُؤَدُّونَها إِلى أَهْلِهَا،وإِذَا عَاهَدُوا أو عَاقَدُوا أَوْفُوا بِذَلِكَ،وَلَمْ يَخُونُوا وَلَمْ يَغْدُرُوا،وَبقوا مُحَافِظِينَ عَلَى عُهُودِهِمْ وأَمَانَاتِهِمْ وعُقُودِهِمْ . (4)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ،وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ. (5)
حفظ السر:
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6714 ) -المدرجة : الطريق -ترب : تحفظ وتراعى وتربى
(2) - صحيح ابن حبان - (2 / 329) (570) صحيح
(3) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 551)
(4) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2561)
(5) - مسند الشاميين 360 - (2 / 251) (1284) صحيح(1/501)
عَنْ سُلَيمَانَ التَّيْمِيِّ،قَالَ:سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ؛أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - سِرًّا،فَمَا أَخْبَرْتُ بِهِ أَحَدًا بَعْدَهُ،وَلَقَدْ سَأَلَتْنِي أُمُّ سُلَيْمٍ فَمَا أَخْبَرْتُهَا بِهِ (1) ..
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،قَالَ:قَالَ الْعَبَّاسُ لاِبْنِهِ عَبْدِ اللهِ بن عباس:يَا بُنَيَّ،إنِّي أَرَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يُقَرِّبُك،وَيَسْتَشِيرُك مَعَ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَيَخْلُو بِكَ،فَاحْفَظْ عَنِّي ثَلاَثًا:اتَّقِ اللَّهَ لاَ يُجَرِّبَنَّ عَلَيْك كِذْبَةً،وَلاَ تُفْشِيَنَّ لَهُ سِرًّا،وَلاَ تُغتَابنَّ عِنْدَهُ أَحَدًا،قَالَ:فَقُلْت لاِبْنِ عَبَّاسٍ:يَا أَبَا عَبَّاسٍ،كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ،قَالَ:وَمِنْ عَشَرَةِ آلاَفٍ." (2)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،قَالَ:قَالَ لِي أَبِي:" أَيْ بُنَيَّ،إِنِّي أَرَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَدْعُوكَ وَيُقَرِّبُكَ وَيَسْتَشِيرُكَ مَعَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَاحْفَظْ عَنِّي ثَلَاثَ خِصَالٍ:اتَّقِ اللَّهَ لَا يُجَرِّبَنَّ عَلَيْكَ كِذْبَةً،وَلَا تُفْشِيَنَّ لَهُ سِرًّا،وَلَا تَغْتَابَنَّ عِنْدَهُ أَحَدًا ".قَالَ عَامِرٌ:فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ:كُلُّ وَاحِدَةٍ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ،قَالَ:كُلُّ وَاحِدَةٍ خَيْرٌ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ " (3)
خدمة أهل العلم والفضل:
عَنْ أَنَسٍ،قَالَ: خَدَمْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَشْرَ سِنِينَ،فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ،وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ:لِمَ صَنَعْتَهُ ؟ وَلاَ لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ:لِمَ تَرَكْتَهُ ؟ وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا،وَلاَ مَسِسْتُ خَزًّا قَطُّ،وَلاَ حَرِيرًا،وَلاَ شَيْئًا كَانَ أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَلاَ شَمَِمْتُ مِسْكًا قَطُّ،وَلاَ عِطْرًا،كَانَ أَطْيَبَ مِنْ عَرَقِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - . (4)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،قَالَ:كُنْتُ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ،فَوَضَعْتُ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - طَهُورًا،فَقَالَ:مَنْ وَضَعَ هَذَا ؟ قَالَتْ مَيْمُونَةُ:عَبْدُ اللهِ،فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ. (5)
الإيثار ومواساة المحتاجين:
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (9) سورة الحشر
أَثْنَى اللهُ تَعَالَى عَلَى الأَنْصَارِ مُبِيِّناً فَضْلَهُمْ وَشَرَفَهُمْ وَكَرَمَهُمْ،حِينَ جَعَلَ اللهُ الفَيءَ لإِخْوَانِهِم المُهَاجِرِينَ دُونَهُمْ،فَقَالَ تَعَالَى:والذِينَ سَكَنُوا دَارَ الهِجْرَةِ قَبْلَ المُهَاجِرِينَ،وَآمَنُوا قَبْلَ كَثِيرٍ مِنَ المُهَاجِرِينَ،يُحِبُّونَ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6289 )
(2) - مصنف ابن أبي شيبة - (8 / 384) (26040) حسن
(3) - حِلْيَةُ الْأَوْلِيَاءِ (1160 ) حسن
(4) - سنن الترمذى- المكنز - (2147 ) صحيح
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (143 ) وصحيح ابن حبان - (15 / 531) (7055)(1/502)
المُهَاجِرِينَ،وَيَتَمَنَّوْنَ لَهُمْ الخَيْرَ،كَمَا يَتَمَنَّوْنَهُ لأَنْفُسِهِمْ،وَقَدْ أَسْكَنُوا المُهَاجِرِينَ فِي دُورِهِمْ،وَأَشْرَكُوهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ حَتَّى نَزَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضِ نِسَائِهِ لِلْمُهَاجِرِينَ.وَقَدْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَنُفُوسُهُمْ طَيِّيَةٌ،وَأَعْيُنُهُمْ قَرِيرَةٌ بِمَا يَفْعَلُونَ،لاَ يَجِدُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَسَداً لِلْمُهَاجِرِينَ.وَلاَ ضِيقاً بِهِمْ لِمَا فَضَّلَهُمُ اللهُ بِهِ مِنَ المَنْزِلَةِ والشَّرَفِ وَالتَّقْدِيمِ فِي الذِّكْرِ والرُّتْبَةِ،وَلِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ مَغْنَمِ بَنِي النَّضِيرِ دُونَهُمْ .وَهُمْ يُقَدِّمُونَ أَهْلَ الحَاجَةِ مِنَ المُهَاجِرِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ،وَيَبْدَؤُونَ بِالنَّاسِ قَبْلَ أَنْفُسِهِمْ فِي حَالِ احْتِيَاجِهِمْ إِلَى ذَلِكَ .وَمَنْ سَلِمَ مِنْ آفَةِ الحِرْصِ عَلَى المَالِ وَالبُخْلِ،فَقَدْ فَازَ وَأَفْلَحَ (1) .
وقال الله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (274) سورة البقرة
يَمْدَحُ اللهُ تَعَالَى الذِينَ يُنْفِقُونَ فِي جَميعِ الأوْقَاتِ وَالأحْوالِ،فِي السِّرِّ وَالعَلاَنِيَةِ،وَهُمْ لاَ يَبْتَغُونَ مِنْ وَراءِ إنْفَاقِهِمْ إلا مَرْضَاةَ اللهِ فَهَؤُلاءِ لَهُمْ أجْرُهُمْ عَنْدَ رَبِّهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ،وَلا يَخَافُونَ هَوْلَ ذَلِكَ اليَوْمِ،وَلاَ يَحْزَنُونَ عَلَى مَا تَرَكُوا مِنْ لَذَائِذِ الدُّنيا . (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا،نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ،وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا،سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ،وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ،يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ،وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ،وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا،سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ،وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ،وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ،إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ،وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ،وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ،وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَنْ عِنْدَهُ،وَمَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ،لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ. أخرجه مسلم (3)
الصبر في جميع الأحوال:
قال الله تعالى: { وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) } [العصر:1-3].
أقسم تعالى بالعصر،الذي هو الليل والنهار،محل أفعال العباد وأعمالهم أن كل إنسان خاسر،والخاسر ضد الرابح.والخسار مراتب متعددة متفاوتة:
قد يكون خسارًا مطلقًا،كحال من خسر الدنيا والآخرة،وفاته النعيم،واستحق الجحيم.
وقد يكون خاسرًا من بعض الوجوه دون بعض،ولهذا عمم الله الخسار لكل إنسان،إلا من اتصف
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5013)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 281)
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 68)(7427) 7421- وصحيح مسلم- المكنز - (7028 )(1/503)
بأربع صفات:
الإيمان بما أمر الله بالإيمان به،ولا يكون الإيمان بدون العلم،فهو فرع عنه لا يتم إلا به.
والعمل الصالح،وهذا شامل لأفعال الخير كلها،الظاهرة والباطنة،المتعلقة بحق الله وحق عباده،الواجبة والمستحبة. والتواصي بالحق،الذي هو الإيمان والعمل الصالح،أي: يوصي بعضهم بعضًا بذلك،ويحثه عليه،ويرغبه فيه.والتواصي بالصبر على طاعة الله،وعن معصية الله،وعلى أقدار الله المؤلمة.فبالأمرين الأولين،يكمل الإنسان نفسه،وبالأمرين الأخيرين يكمل غيره،وبتكميل الأمور الأربعة،يكون الإنسان قد سلم من الخسار،وفاز بالربح [العظيم]. (1)
وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} (153) سورة البقرة
يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى لِعِبَادِهِ أَنَّ خَيْرَ مَا يَسْتَعِينَُونَ بِهِ عَلَى إِقَامَةِ دِينِهِمْ،وَالدِّفَاعَ عَنْهُ،وَعَلَى سَائِرِ مَا يَشُقُّ عَلَيهِمْ مِنْ مَصَائِبِ الحَيَاةِ هُوَ التَّحَلِّي بِالصَّبْرِ،وَتَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى احتِمَالِ المَكَارِهِ،وَأَدَاءِ الصَّلاَةِ وَإِقَامَتِهَا حَقَّ إِقَامَتِهَا.فَالصَّبْرِ أَشَدُّ الأَعْمَالِ البَاطِنَةِ عَلَى النَّفْسِ،وَالصَّلاَةُ أَشَدُّ الأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ عََلَى البَدَنِ،وَاللهُ نَاصِرُ الصَّابِرِينَ،وَمُجِيبٌ لِدُعَائِهِمْ . (2)
وقال الله تعالى: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) }[البقرة:155 - 157]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنينَ بِأَنَّهُ سَيَبْلُوهُمْ وَيَخْتَبِرُهُمْ بِقَليلٍ ( بِشَيءٍ ) مِنْ الخَوْفِ والجُوعِ،وَبِذَهَابِ بَعْضِ المَالِ،وَبِمَوتِ بَعْضِ الأَصْحَابِ وَالأَقَارِبِ وَالأَحْبَابِ،وَبِنَقْصِ غِلاَلِ المَزَارِعِ...فَمَنْ صَبَرَ عَلَى قَضَاءِ اللهِ وَحُكْمِهِ أَثَابَهُ،وَمَنْ قَنَطَ وَلَجَّ أَحَلَّ بِهِ عِقَابَهُ.أّمَّا الصَّابِرُونَ الذِينَ خَصَّهُمُ اللهُ بِالبُشْرَى فَهُمُ الذِينَ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ الخَيْرَ وَالشَّرَّ مِنَ اللهِ،وَإِذَا نَزَلَتْ بِهِمْ مُصِيبَةٌ صَبَرُوا،وَتَمَسَّكُوا بِقَولِهِمْ:إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِليهِ رَاجِعُونَ،أَيْ إِنَّهُم عَبيدُ اللهِ وَمُلْكُهُ،وَإِنَّهُمْ رَاجِعُونَ إِليهِ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ .يُثنِي اللهُ جَلَّ شَأْنُهُ عَلَى هَؤُلاءِ الصَّابِرِينَ،وَيُخْبِرُ بَأَنَّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ،وَأَنَّهُمْ يَجِدُونَ أَثَرَهَا فِي بَرْدِ قُلُوبِهِمْ عِنْدَ نُزُولِ المُصِيبَةِ،وَأَنَّهُمْ هُمُ المُهْتَدُونَ إِلى طَريقِ الخَيْرِ،وَإِلى الحَقِّ والصَّوابِ،وَأَنَّهُمُ اسْتَسْلَمُوا لِقَضَاءِ اللهِ فَلَمْ يَسْتَحْوِذِ الجَزَعُ عَلَيهِمْ (3) .
__________
(1) - تفسير السعدي - (1 / 934)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 160)
(3) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 162)(1/504)
عدم المنّ على الناس:
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } (262) سورة البقرة
يَمْدَحُ الله تَعَالَى الذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبيلِ اللهِ،وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ إِنْفَاقَهُم مَنّاً عَلَى النَّاسِ بِفِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ،وَلاَ يَفْعَلُونَ مَعَ مَنْ أَحْسَنُوا إِلَيْهِمْ مَكْرُوهاً أَوْ أَذًى يُحْبِطُونَ بِهِ مَا أَسْلَفُوهُ مِنَ الإِحْسَانِ،فَهَؤلاءِ ثَوَابُهُمْ عَلَى اللهِ لا عَلَى أَحَدٍ سِوَاهُ،وَلا خَوْفٌ عَلَيهِمْ فِيمَا يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنْ أهْوالِ يَوْمِ القِيَامَةِ،وَلا يَحْزَنُونَ عَلَى مَا خَلَّفُوهُ فِي الدُّنْيا مِنَ الأوِلادِ وَالأمْوالِ،وَلا عَلَى مَا فَاتَهُمْ مِنَ الحَيَاةِ وَزِينَتِها،لأَنَّهُمْ صَارُوا إلى خَيْرٍ مِمَّا كَانُوا فِيهِ . (1)
وعَنْ أَبِى ذَرٍّ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ » قَالَ فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَلاَثَ مِرَارٍ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ خَابُوا وَخَسِرُوا مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ « الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ ». أخرجه مسلم (2)
عدم الفخر والخيلاء:
قال الله تعالى:{ وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} [لقمان:18-19].
وَلاَ تُعْرِضْ بِوجَهِكَ عَنِ النَّاسِ كِبْراً واسْتِعْلاءً،ولكِنْ أَقبِلْ عَليهِمْ بِوَجْهِكَ كُلِّهِ إذا كَلَّمْتَهُم،مُسْتَبْشِراً مُتَهَلِّلاً مِنْ غير كِبْرٍ وَلاَ عُتُوٍّ،وَلا تَمْشِ في الأَرْضٍِ مُتَبَخْتِراً،مُعْجَباً بِنَفْسِكَ كالجَبَّارِينَ الطُّغَاةِ المُتَكَبِّرِينَ ( مَرَحاً )،بَلِ امْشِ هَوْناً مِشْيَةَ المُتَواضِعِينَ للهِ،فَيُحِبَّكَ اللهُ،ويُحِبَّكَ خَلْقُهُ،واللهُ تَعَالَى لا يُحِبُّ المُعْجَبَ بِنَفْسِهِ ( المُخْتَالَ ) الفَخُورَ عَلى غَيْرِهِ.وَامشِ مُقْتَصِداًَ فِي مَشْيِكَ،عَدْلاً وَسَطاً بَيْنَ البَطِيءِ المُتَثَبِّطِ،والسَّريعِ المُفْرِطِ،وَلا تُبَالِغْ فِي الكَلاَمِ،وَلا تَرْفَعَ صَوْتَكَ فِيمَا لا فَائِدَةَ مِنْهُ،وَحِينَما لاَ تَكُونَ هُنَاكَ حَاجَةٌ إِلى رَفْعِ الصَّوتِ،فَذَلِكَ يَكُونُ أَوْقَرَ لِلمُتَكَلِّمِ،وأَبْسَطَ لِنَفْسِ السَّامِعِ.ثُمَّ قَالَ لُقْمَانُ لاْبِنِهِ مُنَفِّراً إِيَّاهُ مِنْ رَفْعِ صَوْتِهِ حِينَما لاَ يَكُونُ هُنَاكَ حَاجَةً لِذلِك:إِنَّ الحِمَارَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ عِندَ النَّهِيقِ،ولكِنَّ الصَّوْتَ الذِي يَصْدُرُ عَنْهُ قَبيحٌ مُنْكَرٌ،فَلاَ يَلِيقُ بالإِنسَانِ العَاقِلِ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلَ الحِمَارِ . (3)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « بَيْنَمَا رَجُلٌ يَتَبَخْتَرُ يَمْشِى فِى بُرْدَيْهِ قَدْ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 269)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (306 )
(3) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 3368)(1/505)
فَخَسَفَ اللَّهُ بِهِ الأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ » (1) .
? اجتناب الغيبة والنميمة:
1- قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات.
2- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الغِيبَةُ؟». قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ». قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ،وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ». أخرجه مسلم (2) .
اجتناب السخرية والتنابز بالألقاب:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (11) سورة الحجرات
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشريعته لا يهزأ قوم مؤمنون من قوم مؤمنين؛ عسى أن يكون المهزوء به منهم خيرًا من الهازئين،ولا يهزأ نساء مؤمنات من نساء مؤمنات; عسى أن يكون المهزوء به منهنَّ خيرًا من الهازئات،ولا يَعِبْ بعضكم بعضًا،ولا يَدْعُ بعضكم بعضًا بما يكره من الألقاب،بئس الصفة والاسم الفسوق،وهو السخرية واللمز والتنابز بالألقاب،بعد ما دخلتم في الإسلام وعقلتموه،ومن لم يتب من هذه السخرية واللمز والتنابز والفسوق فأولئك هم الذين ظلموا أنفسهم بارتكاب هذه المناهي. (3)
وقال الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} (140) سورة النساء
وقد نزل عليكم -أيها المؤمنون- في كتاب ربكم أنه إذا سمعتم الكفر بآيات الله والاستهزاء بها فلا تجلسوا مع الكافرين والمستهزئين،إلا إذا أخذوا في حديث غير حديث الكفر والاستهزاء بآيات الله. إنكم إذا جالستموهم،وهم على ما هم عليه،فأنتم مثلهم; لأنكم رضيتم بكفرهم
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (5588 ) -يتجلجل : يتحرك مع جلبة فى حركته
(2) أخرجه مسلم برقم (2589).
(3) - التفسير الميسر - (9 / 232)(1/506)
واستهزائهم،والراضي بالمعصية كالفاعل لها. إن الله تعالى جامع المنافقين والكافرين في نار جهنم جميعًا،يلْقَون فيها سوء العذاب. (1)
وقال تعالى:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (68) سورة الأنعام
كَانَ المُشْرِكُونَ يَجْلِسُونَ إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّونَ أَنْ يَسْمَعُوا مِنْهُ،فَإِذَا سَمِعُوا اسْتَهْزَؤُوا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ إذَا اسْتَهْزَؤُوا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِمْ فَحَذِرُوا،وَقَالُوا لاَ تَسْتَهْزِئُوا فَيَقُومُ.وَالمُخَاطَبُ بِهَذِهِ الآيَةِ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - وَالمُؤْمِنُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ،فَإِذَا رَأَى المُؤْمِنُ الذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللهِ المُنْزَلَةِ،مِنَ الكُفَّارِ المُكَذِّبِينَ،وَأَهْلَ الأَهْوَاءِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُدَّ عَنْهُمْ بِوَجْهِهِ،وَأَنْ لاَ يَجْلِسَ مَعَهُمْ حَتَّى يَأْخُذُوا فِي حَدِيثٍ آخَرَ غَيْرَ حَدِيثِ الكُفْرِ وَالاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللهِ أَوْ تَأْوِيلِهَا بِالبَاطِلِ مِنْ جَانِبِ أَهْلِ الأَهْوَاءِ،وَإِذَا أَنْسَاكَ الشَّيْطَانُ،أَيُّهَا المُؤْمِنُ،هَذَا النَّهْيَ،وَقَعَدْتَ مَعَهُمْ،وَهُمْ عَلَى تِلْكَ الحَالِ،ثُمَّ ذَكَرْتَ فَقُمْ عَنْهُمْ،وَلاَ تَقْعُدْ مَعَ هؤُلاَءِ الظَّالِمِينَ لأَنْفُسِهِمْ بِالتَّكْذِيبِ بِآيَاتِ اللهِ،وَالاسْتِهْزَاءِ بِهَا . (2)
اجتناب التحاسد والتباغض والتهاجر:
قال الله تعالى: { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)} [النساء:54،55]
إنَّ هَؤُلاَءِ يُرِيدُونَ أنْ يَضِيقَ فَضْلُ اللهِ بِعِبَادِهِ،وَلاَ يُحِبُّونَ أَنْ يَكُونَ لأمَّةٍ فَضْلٌ أَكْثَرُ مِمَّا لَهُمْ أَوْ مِثْلُهُمْ،لِمَا اسْتَحْوذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الغُرُورِ بِنَسَبِهِمْ،وَتَقَالِيدِهِمْ،مَعَ سُوءِ حَالِهِمْ.وَإنَّ حَسَدَهُمْ لِلرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - ،عَلَى مَا رَزَقَهُ اللهُ مِنَ النُّبُوَّةِ العَظِيمَةِ،هُوَ الذِي مَنَعَهُمْ مِنَ التَّصْدِيقِ وَالإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ،لأَنَّهُ مِنَ العَرَبِ،وَلَيْسَ مِنْ بَني إِسْرَائِيلَ .وَإنْ يَحْسُدُوا مُحَمَّداً عَلَى مَا أوتِيَ،فَقَدْ أخْطَؤُوا إذْ أنَّ مَا أتَى اللهُ مُحَمَّداً لَيْس بِدْعاً مِنَ اللهِ،فَقَدْ آتَى اللهُ هَذا آلَ إِبْرَاهِيمَ،وَالعَرَبُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ،فَلِمَاذَا يَعْجَبُونَ مِمَّا آتَى اللهُ مُحَمَّداً،وَلَمْ يَعْجَبُوا مِمَّا آتَى آلَ إِبْرَاهِيمَ؟
وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ آمَنَ فَرِيقٌ،مِنْ أَقْوَامِ هَؤُلاءِ الأَنْبِيَاءِ،بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ أَنْبِيَاؤُهُمْ،وَكَفَرَ فَرِيقٌ وَسَعَى فِي الأَرْضِ يُفْسِدَ فِيهَا،وَيَصُدُّ النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ،وَعَنِ اتِّبَاعِ الحَقِّ،وَكَفَى بِالنَّارِ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ،وَمُخَالَفَتِهِمْ كُتُبَ اللهِ وَرُسُلَهُ (3) .
__________
(1) - التفسير الميسر - (2 / 138)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 858)
(3) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 547)(1/507)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:لاَ تَبَاغَضُوا،وَلاَ تَحَاسَدُوا،وَلاَ تَدَابَرُوا،وَكُونُوا عِبَادًا لِلَّهِ إِخْوَانًا،وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ. متفق عليه (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ،فَيُغْفَرُ لِمَنْ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلاَّ الْمُتَهَاجِرَيْنِ،يَقُولُ:رُدُّوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا.. أخرجه مسلم (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ،فَيَغْفِرُ اللَّهُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُسْلِمِ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا،إِلاَّ رَجُلاً كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ،فَيُقَالُ:أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا. (3)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6065) وصحيح مسلم- المكنز - (6690 ) وصحيح ابن حبان - (12 / 476) (5660)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6709 ) وصحيح ابن حبان - (12 / 480) (5663) -أنظروا : أخروا وأمهلوا
(3) - صحيح ابن حبان - (12 / 482)(5666) صحيح(1/508)
-45- آداب الرؤيا
فضل الرؤيا الصالحة:
عَنِ الزُّهْرِىِّ حَدَّثَنِى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلاَّ الْمُبَشِّرَاتُ ».قَالُوا وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ قَالَ « الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ ».أخرجه البخاري (1) .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ » (2) .
أقسام الرؤيا:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ،لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ تَكْذِبُ،وَأَصْدَقُهُمْ رُؤْيَا،أَصْدَقُهُمْ حَدِيثًا،وَالرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ. (3) .
وعن مُحَمَّدَ بْنُ سِيرِينَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ تَكْذِبُ رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ،وَرُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ.» قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَنَا أَقُولُ هَذِهِ قَالَ وَكَانَ يُقَالُ الرُّؤْيَا ثَلاَثٌ حَدِيثُ النَّفْسِ،وَتَخْوِيفُ الشَّيْطَانِ،وَبُشْرَى مِنَ اللَّهِ،فَمَنْ رَأَى شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلاَ يَقُصُّهُ عَلَى أَحَدٍ،وَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ.قَالَ وَكَانَ يُكْرَهُ الْغُلُّ فِى النَّوْمِ،وَكَانَ يُعْجِبُهُمُ الْقَيْدُ،وَيُقَالُ الْقَيْدُ ثَبَاتٌ فِى الدِّينِ.متفق عليه (4)
عدم الكذب في حكاية الرؤيا:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلُمٍ لَمْ يَرَهُ،كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ،وَلَنْ يَفْعَلَ،وَمَنِ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ،صُبَّ فِى أُذُنِهِ الآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،وَمَنْ صَوَّرَ صُورَةً،عُذِّبِ وَكُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا،وَلَيْسَ بِنَافِخٍ » (5) .
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مِنْ أَفْرَى الْفِرَى أَنْ يُرِىَ عَيْنَيْهِ مَا لَمْ تَرَ ».أخرجه
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6990 )
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (6983)
(3) - صحيح ابن حبان - (13 / 404)(6040) صحيح
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (7017 ) وصحيح مسلم- المكنز -(6042 )
الغل : القيد فى العنق وهو يفسر فى الرؤيا بتحمل دين أو مظالم
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (7042 ) -الآنك : الرصاص الخالص(1/509)
البخاري (1)
عدم الإخبار بتلعب الشيطان به في المنام:
عَنْ جَابِرٍ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْتُ فِى الْمَنَامِ كَأَنَّ رَأْسِى قُطِعَ. قَالَ فَضَحِكَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ « إِذَا لَعِبَ الشَّيْطَانُ بِأَحَدِكُمْ فِى مَنَامِهِ فَلاَ يُحَدِّثْ بِهِ النَّاسَ ». أخرجه مسلم (2)
أنسب الأوقات في حكاية الرؤيا وتعبيرها:
عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِوَجْهِهِ فَقَالَ « هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمُ الْبَارِحَةَ رُؤْيَا » (3) .
وعن سَمُرَةَ بْنُ جُنْدَبٍ - رضى الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ لأَصْحَابِهِ « هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رُؤْيَا ».قَالَ فَيَقُصُّ عَلَيْهِ مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُصَّ،وَإِنَّهُ قَالَ ذَاتَ غَدَاةٍ « إِنَّهُ أَتَانِى اللَّيْلَةَ آتِيَانِ،وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِى،وَإِنَّهُمَا قَالاَ لِى انْطَلِقْ.وَإِنِّى انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا،وَإِنَّا أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ،وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ،وَإِذَا هُوَ يَهْوِى بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ،فَيَثْلَغُ رَأْسَهُ فَيَتَهَدْهَدُ الْحَجَرُ هَا هُنَا،فَيَتْبَعُ الْحَجَرَ فَيَأْخُذُهُ،فَلاَ يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ كَمَا كَانَ،ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ،فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الأُولَى.قَالَ قُلْتُ لَهُمَا سُبْحَانَ اللَّهِ مَا هَذَانِ قَالَ قَالاَ لِى انْطَلِقْ - قَالَ - فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ،وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ،وَإِذَا هُوَ يَأْتِى أَحَدَ شِقَّىْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ،وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ - قَالَ وَرُبَّمَا قَالَ أَبُو رَجَاءٍ فَيَشُقُّ - قَالَ ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الآخَرِ،فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الأَوَّلِ،فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الْجَانِبُ كَمَا كَانَ،ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الأُولَى.قَالَ قُلْتُ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا هَذَانِ قَالَ قَالاَ لِى انْطَلِقْ.فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ التَّنُّورِ - قَالَ فَأَحْسِبُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ - فَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ - قَالَ - فَاطَّلَعْنَا فِيهِ،فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ،وَإِذَا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ،فَإِذَا أَتَاهُمْ ذَلِكَ اللَّهَبُ ضَوْضَوْا - قَالَ - قُلْتُ لَهُمَا مَا هَؤُلاَءِ قَالَ قَالاَ لِى انْطَلِقِ انْطَلِقْ.قَالَ فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ - حَسِبْتُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ - أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ،وَإِذَا فِى النَّهَرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ،وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً،وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ يَسْبَحُ مَا يَسْبَحُ،ثُمَّ يَأْتِى ذَلِكَ الَّذِى قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الْحِجَارَةَ فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا فَيَنْطَلِقُ يَسْبَحُ،ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ،كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ فَغَرَ لَهُ فَاهُ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (7043 ) -(أفرى الفرى ) أكذب الكذبات ، والفرية : الكذب ، والجمع : الفرى.
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (6064 )
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (6076 )(1/510)
فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا - قَالَ - قُلْتُ لَهُمَا مَا هَذَانِ قَالَ قَالاَ لِى انْطَلِقِ انْطَلِقْ.قَالَ فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ كَرِيهِ الْمَرْآةِ كَأَكْرَهِ مَا أَنْتَ رَاءٍ رَجُلاً مَرْآةً،وَإِذَا عِنْدَهُ نَارٌ يَحُشُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا - قَالَ - قُلْتُ لَهُمَا مَا هَذَا قَالَ قَالاَ لِى انْطَلِقِ انْطَلِقْ.فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى رَوْضَةٍ مُعْتَمَّةٍ فِيهَا مِنْ كُلِّ نَوْرِ الرَّبِيعِ،وَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَىِ الرَّوْضَةِ رَجُلٌ طَوِيلٌ لاَ أَكَادُ أَرَى رَأْسَهُ طُولاً فِى السَّمَاءِ،وَإِذَا حَوْلَ الرَّجُلِ مِنْ أَكْثَرِ وِلْدَانٍ رَأَيْتُهُمْ قَطُّ - قَالَ - قُلْتُ لَهُمَا مَا هَذَا مَا هَؤُلاَءِ قَالَ قَالاَ لِى انْطَلِقِ انْطَلِقْ.- قَالَ - فَانْطَلَقْنَا فَانْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ عَظِيمَةٍ لَمْ أَرَ رَوْضَةً قَطُّ أَعْظَمَ مِنْهَا وَلاَ أَحْسَنَ.- قَالَ - قَالاَ لِى ارْقَ فِيهَا.قَالَ فَارْتَقَيْنَا فِيهَا فَانْتَهَيْنَا إِلَى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنِ ذَهَبٍ وَلَبِنِ فِضَّةٍ،فَأَتَيْنَا بَابَ الْمَدِينَةِ فَاسْتَفْتَحْنَا فَفُتِحَ لَنَا،فَدَخَلْنَاهَا فَتَلَقَّانَا فِيهَا رِجَالٌ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ،وَشَطْرٌ كَأَقْبَحِ مَا أَنْتَ رَاءٍ - قَالَ - قَالاَ لَهُمُ اذْهَبُوا فَقَعُوا فِى ذَلِكَ النَّهَرِ.قَالَ وَإِذَا نَهَرٌ مُعْتَرِضٌ يَجْرِى كَأَنَّ مَاءَهُ الْمَحْضُ فِى الْبَيَاضِ،فَذَهَبُوا فَوَقَعُوا فِيهِ،ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ،فَصَارُوا فِى أَحْسَنِ صُورَةٍ - قَالَ - قَالاَ لِى هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ،وَهَذَاكَ مَنْزِلُكَ.قَالَ فَسَمَا بَصَرِى صُعُدًا،فَإِذَا قَصْرٌ مِثْلُ الرَّبَابَةِ الْبَيْضَاءِ - قَالَ - قَالاَ هَذَاكَ مَنْزِلُكَ.قَالَ قُلْتُ لَهُمَا بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمَا،ذَرَانِى فَأَدْخُلَهُ.قَالاَ أَمَّا الآنَ فَلاَ وَأَنْتَ دَاخِلُهُ.قَالَ قُلْتُ لَهُمَا فَإِنِّى قَدْ رَأَيْتُ مُنْذُ اللَّيْلَةِ عَجَبًا،فَمَا هَذَا الَّذِى رَأَيْتُ قَالَ قَالاَ لِى أَمَا إِنَّا سَنُخْبِرُكَ،أَمَّا الرَّجُلُ الأَوَّلُ الَّذِى أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ،فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ وَيَنَامُ عَنِ الصَّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ،وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِى أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ،وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ،وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ،فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الْكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ،وَأَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ الْعُرَاةُ الَّذِينَ فِى مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ فَإِنَّهُمُ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِى.وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِى أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ فِى النَّهَرِ وَيُلْقَمُ الْحَجَرَ،فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا،وَأَمَّا الرَّجُلُ الْكَرِيهُ الْمَرْآةِ الَّذِى عِنْدَ النَّارِ يَحُشُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا،فَإِنَّهُ مَالِكٌ خَازِنُ جَهَنَّمَ،وَأَمَّا الرَّجُلُ الطَّوِيلُ الَّذِى فِى الرَّوْضَةِ فَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ - صلى الله عليه وسلم - وَأَمَّا الْوِلْدَانُ الَّذِينَ حَوْلَهُ فَكُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ ».قَالَ فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَوْلاَدُ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « وَأَوْلاَدُ الْمُشْرِكِينَ.وَأَمَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنًا وَشَطَرٌ مِنْهُمْ قَبِيحًا،فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا،تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُمْ » (1) .
ابتعثاني:الابتعاث:افتعال من البعث،وهو الإنباه والإثارة من النوم.
يهوي:الهوي:الوقوع من العلو إلى السفل.
فيثلغ:الثلغ:الشدخ،وقيل:هو أن يضرب الشيء اللين بالشيء الصلب حتى ينشدخ.
فيتدهده:التدهده:التدحرج،ويروى:«يتدهدى» بياء،وهو مثله.
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (7047 )(1/511)
بكلوب:الكلوب:حديدة معوجة الرأس.
فيشرشر:يشرشر:يقطع ويشق.
لغط: اللغط:الضجة والجلبة.
ضوضوا:الضوضاة [ والضوضاء ]:أصوات الناس وغلبتهم،يقال منه:ضوضوا بلا همز.
فغر فاه:إذا فتحه. كريه المرآة فلان كريه المرآة،أي:قبيح المنظر،يقال:امرأة حسنة المرآة والمرأى،أي:حسنة المنظر،وفلان حسن في مرآة العين،أي:في المنظر،ووزنها في الأصل:مفعلة.
يحشها حش النار يحشها:إذا أوقدها.
معتمة أي:طويلة النبات،يقال:اعتم النبت:إذا طال.
نور النور بفتح النون:الزهر.
ظهري يقال:قعدت بين ظهري القوم وظهرا نيهم،أي:بينهم،وقد تقدم شرح ذلك مستقصى في حرف الهمزة.
دوحة الدوح:الشجر العظام.
المحض من كل شيء:الخالص منه،وهو اللبن الخالص،كأنه سمي بالصفة،ثم استعمل في الصفاء،فقيل:عربي محض،أي:خالص،ونحو ذلك.
جنة عدن عدن بالمكان:إذا أقام به وثبت،يعني:جنة إقامة
صعدا يقال:نما النبت صعدا:أي:ازداد طولا،يريد:ارتفع بصره إلى فوق.
الربابة السحابة،وجمعها:رباب،وتكون بيضاء وسوداء،والمراد بها في الحديث:البيضاء. (1)
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:أَصْدَقُ الرُّؤْيَا بِالأَسْحَارِ. (2)
ما يقول ويفعل إذا رأى في منامه ما يحب أو يكره:
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ،قَالَ:لَقَدْ كُنْتُ أَرَى الرُّؤْيَا فَتُمْرِضُنِي،حَتَّى سَمِعْتُ أَبَا قَتَادَةَ يَقُولُ:وَأَنَا كُنْتُ لأَرَى الرُّؤْيَا تُمْرِضُنِي،حَتَّى سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ :الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنَ اللهِ،فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ،فَلاَ
__________
(1) - جامع الأصول في أحاديث الرسول - (2 / 535)
(2) - صحيح ابن حبان - (13 / 406)(6041) حسن
واعتبره ابن عدي مما تفرد به دراج أبي السمح عن أبي الهثيم عن أبى سعيد .
قلت : لكن صححه ابن حبان والحاكم والذهبي وسكت عليه الحافظ ابن حجر في الفتح و مجرد تفرد دراج به لا يضر إذا لم يخالف الثقات ، ولا نعلم حديثا يعارضه بل هناك نصوص قرآنية وحديثية تبين فضيلة الأسحار ...(1/512)
يُحَدِّثْ بِهِ إِلاَّ مَنْ يُحِبُّ،وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ،فَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنْ شَرِّهَا،وَمِنْ شَرِّ الشَّيْطَانِ،وَلْيَتْفِلْ ثَلاَثًا،وَلاَ يُحَدِّثْ بِهَا أَحَدًا،فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ. (1) .
وعَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « إِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ الرُّؤْيَا يُحِبُّهَا،فَإِنَّهَا مِنَ اللَّهِ،فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَلَيْهَا،وَلْيُحَدِّثْ بِهَا،وَإِذَا رَأَى غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَكْرَهُ،فَإِنَّمَا هِىَ مِنَ الشَّيْطَانِ،فَلْيَسْتَعِذْ مِنْ شَرِّهَا،وَلاَ يَذْكُرْهَا لأَحَدٍ،فَإِنَّهَا لَنْ تَضُرَّهُ » أخرجه البخاري (2) .
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِذَا اقْتَرَبَ الزَّمَانُ لَمْ تَكَدْ رُؤْيَا الْمُسْلِمِ تَكْذِبُ وَأَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا وَرُؤْيَا الْمُسْلِمِ جُزْءٌ مِنْ خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ وَالرُّؤْيَا ثَلاَثَةٌ فَرُؤْيَا الصَّالِحَةِ بُشْرَى مِنَ اللَّهِ وَرُؤْيَا تَحْزِينٌ مِنَ الشَّيْطَانِ وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُمْ فَلْيُصَلِّ وَلاَ يُحَدِّثْ بِهَا النَّاسَ ». قَالَ « وَأُحِبُّ الْقَيْدَ وَأَكْرَهُ الْغُلَّ وَالْقَيْدُ ثَبَاتٌ فِى الدِّينِ ».فَلاَ أَدْرِى هُوَ فِى الْحَدِيثِ أَمْ قَالَهُ ابْنُ سِيرِينَ. (3)
الاستبشار برؤية النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام:
عَنِ الزُّهْرِىِّ حَدَّثَنِى أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « مَنْ رَآنِى فِى الْمَنَامِ فَسَيَرَانِى فِى الْيَقَظَةِ،وَلاَ يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِى ». متفق عليه (4)
وعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ رَآنِى فِى النَّوْمِ فَقَدْ رَآنِى إِنَّهُ لاَ يَنْبَغِى لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَتَمَثَّلَ فِى صُورَتِى ». وَقَالَ « إِذَا حَلَمَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يُخْبِرْ أَحَدًا بِتَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بِهِ فِى الْمَنَامِ ». أخرجه مسلم (5)
قالَ القاضِي أَبُو بَكر بن العَرَبِيّ:رُؤيَة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بِصِفَتِهِ المَعلُومَة إِدراك عَلَى الحَقِيقَة،ورُؤيَته عَلَى غَير صِفَته إِدراك لِلمِثالِ،فَإِنَّ الصَّواب أَنَّ الأَنبِياء لا تُغَيِّرهُم الأَرض،ويَكُون إِدراك الذّات الكَرِيمَة حَقِيقَة وإِدراك الصِّفات إِدراك المَثَل.
قالَ وشَذَّ بَعض القَدَرِيَّة فَقالَ:الرُّؤيا لا حَقِيقَة لَها أَصلاً وشَذَّ بَعض الصّالِحِينَ فَزَعَمَ أَنَّها تَقَع بِعَينَي الرَّأس حَقِيقَة،وقالَ بَعض المُتَكَلِّمِينَ:هِيَ مُدرَكَة بِعَينَينِ فِي القَلب قالَ.
وقَوله:"فَسَيَرانِي " مَعناهُ فَسَيَرَى تَفسِير ما رَأَى لأَنَّهُ حَقّ وغَيب أُلقِيَ فِيهِ،وقِيلَ مَعناهُ فَسَيَرانِي فِي
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (7044 )
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (7045 )
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (6042 )
الغل : القيد فى العنق وهو يفسر فى الرؤيا بتحمل دين أو مظالم
(4) - صحيح البخارى- المكنز -(6993 ) وصحيح مسلم- المكنز -(6057 )
(5) - صحيح مسلم- المكنز - (6060 )(1/513)
القِيامَة،ولا فائِدَة فِي هَذا التَّخصِيص.
وأَمّا قَولُه:"فَكَأَنَّما رَآنِي " فَهُو تَشبِيه ومَعناهُ أَنَّهُ لَو رَآهُ فِي اليَقَظَة لَطابَقَ ما رَآهُ فِي المَنام فَيَكُون الأَوَّل حَقًّا وحَقِيقَة والثّانِي حَقًّا وتَمثِيلاً،قالَ:وهَذا كُلّه إِذا رَآهُ عَلَى صُورَته المَعرُوفَة:فَإِن رَآهُ عَلَى خِلاف صِفَته فَهِيَ أَمثال،فَإِن رَآهُ مُقبِلاً عَلَيهِ مَثَلاً فَهُو خَير لِلرّائِي وفِيهِ وعَلَى العَكس فَبِالعَكسِ.
وقالَ النَّووِيّ قالَ عِياض:يَحتَمِل أَن يَكُون المُراد بِقَولِهِ فَقَد رَآنِي أَو فَقَد رَأَى الحَقّ أَنَّ مَن رَآهُ عَلَى صُورَته فِي حَياته كانَت رُؤياهُ حَقًّا،ومَن رَآهُ عَلَى غَير صُورَته كانَت رُؤيا تَأوِيل.
وتَعَقَّبَهُ فَقالَ:هَذا ضَعِيف بَل الصَّحِيح أَنَّهُ يَراهُ حَقِيقَة سَواء كانَت عَلَى صِفَته المَعرُوفَة أَو غَيرها انتَهَى.
ولَم يَظهَر لِي مِن كَلام القاضِي ما يُنافِي ذَلِكَ،بَل ظاهِر قَوله أَنَّهُ يَراهُ حَقِيقَة فِي الحالَينِ.لَكِن فِي الأُولَى تَكُون الرُّؤيا مِمّا لا يَحتاج إِلَى تَعبِير والثّانِيَة مِمّا يَحتاج إِلَى التَّعبِير.
قالَ القُرطُبِيّ:اُختُلِفَ فِي مَعنَى الحَدِيث فَقالَ قَوم هُو عَلَى ظاهِره فَمَن رَآهُ فِي النَّوم رَأَى حَقِيقَته كَمَن رَآهُ فِي اليَقَظَة سَواء،قالَ وهَذا قَول يُدرَك فَسادُهُ بِأَوائِل العُقُول،ويَلزَم عَلَيهِ أَن لا يَراهُ أَحَد إِلاَّ عَلَى صُورَته الَّتِي ماتَ عَلَيها وأَن لا يَراهُ رائِيانِ فِي آنٍ واحِد فِي مَكانَينِ وأَن يَحيا الآن ويَخرُج مِن قَبره ويَمشِي فِي الأَسواق ويُخاطِب النّاس ويُخاطِبُوهُ ويَلزَم مِن ذَلِكَ أَن يَخلُو قَبرُهُ مِن جَسَده فَلا يَبقَى مِن قَبره فِيهِ شَيء فَيُزار مُجَرَّد القَبر ويُسَلَّم عَلَى غائِب لأَنَّهُ جائِز أَن يُرَى فِي اللَّيل والنَّهار مَعَ اتِّصال الأَوقات عَلَى حَقِيقَته فِي غَير قَبره،وهَذِهِ جَهالات لا يَلتَزِم بِها مَن لَهُ أَدنَى مُسكَة مِن عَقل.
وقالَت طائِفَة:مَعناهُ أَنَّ مَن رَآهُ رَآهُ عَلَى صُورَته الَّتِي كانَ عَلَيها،ويَلزَم مِنهُ أَنَّ مَن رَآهُ عَلَى غَير صِفَته أَن تَكُون رُؤياهُ مِنَ الأَضغاث،ومِن المَعلُوم أَنَّهُ يُرَى فِي النَّوم عَلَى حالَة تُخالِف حالَته فِي الدُّنيا مِنَ الأَحوال اللاَّئِقَة بِهِ وتَقَع تِلكَ الرُّؤيا حَقًّا كَما لَو رُئِيَ مَلأَ دارًا بِجِسمِهِ مَثَلاً فَإِنَّهُ يَدُلّ عَلَى امتِلاء تِلكَ الدّار بِالخَيرِ،ولَو تَمَكَّنَ الشَّيطان مِنَ التَّمثِيل بِشَيءٍ مِمّا كانَ عَلَيهِ أَو يُنسَب إِلَيهِ لَعارَضَ عُمُومَ قَولِهِ:"فَإِنَّ الشَّيطان لا يَتَمَثَّل بِي " فالأَولَى أَن تُنَزَّه رُؤياهُ وكَذا رُؤيا شَيء مِنهُ أَو مِمّا يُنسَب إِلَيهِ عَن ذَلِكَ،فَهُو أَبلَغُ فِي الحُرمَة وأَليَقُ بِالعِصمَةِ كَما عُصِمَ مِنَ الشَّيطان فِي يَقَظَته.
قالَ:والصَّحِيح فِي تَأوِيل هَذا الحَدِيث أَنَّ مَقصُوده أَنَّ رُؤيَته فِي كُلّ حالَة لَيسَت باطِلَة ولا أَضغاثًا بَل هِيَ حَقّ فِي نَفسها ولَو رُئِيَ عَلَى غَير صُورَته فَتَصَوُّر تِلكَ الصُّورَة لَيسَ مِنَ الشَّيطان بَل هُو مِن قِبَل الله وقالَ وهَذا قَول القاضِي أَبِي بَكر بن الطَّيِّب وغَيره،ويُؤَيِّدهُ قَولُه:"فَقَد رَأَى الحَقّ" أَي رَأَى الحَقّ الَّذِي قَصَدَ إِعلام الرّائِي بِهِ فَإِن كانَت عَلَى ظاهِرها وإِلاَّ سَعَى فِي تَأوِيلها ولا يُهمِل أَمرها لأَنَّها إِمّا بُشرَى بِخَيرٍ أَو إِنذار مِن شَرّ إِمّا لِيُخِيفَ الرّائِي وإِمّا لِيَنزَجِر عَنهُ وإِمّا لِيُنَبِّه عَلَى حُكم يَقَع لَهُ فِي دِينه أَو دُنياهُ.(1/514)
وقالَ ابن بَطّال قَولُه:"فَسَيَرانِي فِي اليَقَظَة " يُرِيد تَصدِيق تِلكَ الرُّؤيا فِي اليَقَظَة وصِحَّتها وخُرُوجها عَلَى الحَقّ،ولَيسَ المُراد أَنَّهُ يَراهُ فِي الآخِرَة لأَنَّهُ سَيَراهُ يَوم القِيامَة فِي اليَقَظَة فَتَراهُ جَمِيع أُمَّته مَن رَآهُ فِي النَّوم ومَن لَم يَرَهُ مِنهُم.
وقالَ ابن التِّين:المُراد مَن آمَنَ بِهِ فِي حَياته ولَم يَرَهُ لِكَونِهِ حِينَئِذٍ غائِبًا عَنهُ فَيَكُون بِهَذا مُبَشِّرًا لِكُلِّ مَن آمَنَ بِهِ ولَم يَرَهُ أَنَّهُ لا بُدّ أَن يَراهُ فِي اليَقَظَة قَبل مَوته قالَهُ القَزّاز،وقالَ المازِرِيّ:إِن كانَ المَحفُوظ " فَكَأَنَّما رَآنِي فِي اليَقَظَة" فَمَعناهُ ظاهِر وإِن كانَ المَحفُوظ " فَسَيَرانِي فِي اليَقَظَة " احتَمَلَ أَن يَكُون أَرادَ أَهل عَصره مِمَّن يُهاجِر إِلَيهِ فَإِنَّهُ إِذا رَآهُ فِي المَنام جُعِلَ عَلامَة عَلَى أَنَّهُ يَراهُ بَعد ذَلِكَ فِي اليَقَظَة وأَوحَى الله بِذَلِكَ إِلَيهِ - صلى الله عليه وسلم - .
وقالَ القاضِي:وقِيلَ مَعناهُ سَيَرَى تَأوِيل تِلكَ الرُّؤيا فِي اليَقَظَة وصِحَّتها،وقِيلَ مَعنَى الرُّؤيا فِي اليَقَظَة أَنَّهُ سَيَراهُ فِي الآخِرَة وتُعُقِّبَ بِأَنَّهُ فِي الآخِرَة يَراهُ جَمِيع أُمَّته مَن رَآهُ فِي المَنام ومَن لَم يَرَهُ يَعنِي فَلا يَبقَى لِخُصُوصِ رُؤيَته فِي المَنام مَزِيَّة،وأَجابَ القاضِي عِياض بِاحتِمالِ أَن تَكُون رُؤياهُ لَهُ فِي النَّوم عَلَى الصِّفَة الَّتِي عُرِفَ بِها ووُصِفَ عَلَيها مُوجِبَة لِتَكرِمَتِهِ فِي الآخِرَة وأَن يَراهُ رُؤيَة خاصَّة مِنَ القُرب مِنهُ والشَّفاعَة لَهُ بِعُلُوِّ الدَّرَجَة ونَحو ذَلِكَ مِنَ الخُصُوصِيّات،قالَ:ولا يَبعُد أَن يُعاقِب الله بَعض المُذنِبِينَ فِي القِيامَة بِمَنعِ رُؤيَة نَبِيّه - صلى الله عليه وسلم - مُدَّة.
وحَمَلَهُ ابن أَبِي جَمرَة عَلَى مَحمَل آخَر فَذَكَرَ عَن ابن عَبّاس أَو غَيره أَنَّهُ رَأَى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فِي النَّوم فَبَقِيَ بَعد أَن استَيقَظَ مُتَفَكِّرًا فِي هَذا الحَدِيث فَدَخَلَ عَلَى بَعض أُمَّهات المُؤمِنِينَ ولَعَلَّها خالَته مَيمُونَة فَأَخرَجَت لَهُ المِرآة الَّتِي كانَت لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَنَظَرَ فِيها فَرَأَى صُورَة النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - ولَم يَرَ صُورَة نَفسه.
ونُقِلَ عَن جَماعَة مِنَ الصّالِحِينَ أَنَّهُم رَأَوا النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فِي المَنام ثُمَّ رَأَوهُ بَعد ذَلِكَ فِي اليَقَظَة وسَأَلُوهُ عَن أَشياء كانُوا مِنها مُتَخَوِّفِينَ فَأَرشَدَهُم إِلَى طَرِيق تَفرِيجها فَجاءَ الأَمر كَذَلِكَ.
قُلت:وهَذا مُشكِل جِدًّا ولَو حُمِلَ عَلَى ظاهِره لَكانَ هَؤُلاءِ صَحابَةً ولأَمكَنَ بَقاء الصُّحبَة إِلَى يَوم القِيامَة،ويُعَكِّر عَلَيهِ أَنَّ جَمعًا جَمًّا رَأَوهُ فِي المَنام ثُمَّ لَم يَذكُر واحِدٌ مِنهُم أَنَّهُ رَآهُ فِي اليَقَظَة وخَبَر الصّادِق لا يَتَخَلَّف،وقَد اشتَدَّ إِنكار القُرطُبِيّ عَلَى مَن قالَ مَن رَآهُ فِي المَنام فَقَد رَأَى حَقِيقَته ثُمَّ يَراها كَذَلِكَ فِي اليَقَظَة كَما تَقَدَّمَ قَرِيبًا،وقَد تَفَطَّنَ ابن أَبِي جَمرَة لِهَذا فَأَحالَ بِما قالَ عَلَى كَرامات الأَولِياء فَإِن يَكُن كَذَلِكَ تَعَيَّنَ العُدُول عَن العُمُوم فِي كُلّ راءٍ،ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ عامّ فِي أَهل التَّوفِيق وأَمّا غَيرهم فَعَلَى الاحتِمال،فَإِنَّ خَرقَ العادَةِ قَد يَقَع لِلزِّندِيقِ بِطَرِيقِ الإِملاء والإِغواء كَما يَقَع لِلصِّدِّيقِ بِطَرِيقِ الكَرامَة والإِكرام،وإِنَّما تَحصُل التَّفرِقَة بَينهما بِاتِّباعِ الكِتاب والسُّنَّة انتَهَى.
والحاصِل مِنَ الأَجوِبَة سِتَّة :(1/515)
أَحَدها أَنَّهُ عَلَى التَّشبِيه والتَّمثِيل،ودَلَّ عَلَيهِ قَوله فِي الرِّوايَة الأُخرَى " فَكَأَنَّما رَآنِي فِي اليَقَظَة.
ثانِيها أَنَّ مَعناها سَيَرَى فِي اليَقَظَة تَأوِيلها بِطَرِيقِ الحَقِيقَة أَو التَّعبِير،
ثالِثها أَنَّهُ خاصّ بِأَهلِ عَصره مِمَّن آمَنَ بِهِ قَبل أَن يَراهُ
رابِعها أَنَّهُ يَراهُ فِي المِرآة الَّتِي كانَت لَهُ إِن أَمكَنَهُ ذَلِكَ،وهَذا مِن أَبعَدِ المَحامِل.
خامِسها أَنَّهُ يَراهُ يَوم القِيامَة بِمَزِيدِ خُصُوصِيَّة لا مُطلَق مَن يَراهُ حِينَئِذٍ مِمَّن لَم يَرَهُ فِي المَنام.
سادِسها أَنَّهُ يَراهُ فِي الدُّنيا حَقِيقَة ويُخاطِبهُ،وفِيهِ ما تَقَدَّمَ مِنَ الإِشكال.
وقالَ القُرطُبِيّ:قَد تَقَرَّرَ أَنَّ الَّذِي يُرَى فِي المَنام أَمثِلَةٌ لِلمَرئِيّاتِ لا أَنفُسُها،غَير أَنَّ تِلكَ الأَمثِلَة تارَة تَقَع مُطابِقَة وتارَة يَقَع مَعناها،فَمِن الأَوَّل رُؤياهُ - صلى الله عليه وسلم - عائِشَة وفِيهِ " فَإِذا هِيَ أَنتِ " فَأَخبَرَ أَنَّهُ رَأَى فِي اليَقَظَة ما رَآهُ فِي نَومه بِعَينِهِ ومِن الثّانِي رُؤيا البَقَر الَّتِي تُنحَر والمَقصُود بِالثّانِي التَّنبِيه عَلَى مَعانِي تِلكَ الأُمُور.
ومِن فَوائِد رُؤيَته - صلى الله عليه وسلم - تَسكِين شَوق الرّائِي لِكَونِهِ صادِقًا فِي مَحَبَّته لِيَعمَل عَلَى مُشاهَدَته،وإِلَى ذَلِكَ الإِشارَة بِقَولِهِ:"فَسَيَرانِي فِي اليَقَظَة" أَي مَن رَآنِي رُؤيَة مُعَظِّم لِحُرمَتِي ومُشتاق إِلَى مُشاهَدَتِي وصَلَ إِلَى رُؤيَة مَحبُوبه وظَفِرَ بِكُلِّ مَطلُوبه،قالَ:ويَجُوز أَن يَكُون مَقصُود تِلكَ الرُّؤيا مَعنَى صُورَته وهُو دِينه وشَرِيعَته،فَيُعَبِّر بِحَسَبِ ما يَراهُ الرّائِي مِن زِيادَة ونُقصان أَو إِساءَة وإِحسان.
قُلت:وهَذا جَواب سابِع والَّذِي قَبله لَم يَظهَر لِي فَإِن ظَهَرَ فَهُو ثامِن." (1)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - فتح الباري شرح صحيح البخاري- ط دار المعرفة - (12 / 384)(1/516)
-46- آداب عشرة النساء
تعليم النساء أمور دينهن:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (6) سورة التحريم
يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ،اعْمَلُوا بِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى،وَاتَّقُوا مَعْصَيَتَهُ،وَأمُرُوا أَهْلَكُمْ بِالذّكْرِ والتَّقْوَى،وَعَلِّمُوهُمْ مَا فَرَضَ اللهُ عَلَيهِمْ،وَمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ،وَأمُرُوهُمْ بِطَاعَةِ اللهِ لِتُنقِذُوهُمْ وَأَنْفُسَكُمْ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ،التِي يَكُونُ وَقُودُهَا النَّاسُ مِنَ الكَفَرَةِ،وَالحِجَارَةُ،وَتَقُومُ عَلَيهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ عَلَى أَهْلِ النَّارِ،أَشِدَّاءُ َعَلَيهِمْ،لاَ يُخَالِفُونَ رَبَّهُمْ فِي أَمْرٍ بِهِ،وَيُبَادِرُونَ إِلَى فِعْلِ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ . (1)
وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (59) سورة الأحزاب
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالى رَسُولَه - صلى الله عليه وسلم - بأَنْ يَأْمُرَ نِسَاءَهُ وَبَنَاتِهِ والنِّسَاءَ المُؤْمِنَاتِ،بِأَنْ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ،وَأَن يُغَطِّينَ وُجُوهَهُنَّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِنَّ،وَأَنْ يُغَطِّينَ ثَغْرَةَ نُحُورِهِنَّ بِالجَلابِيبِ التِي يُدْنِينَهَا عَلَيهِنَّ.وَالغَايَةُ مِنْ ذَلِكَ التَّسَتُّرُ،وَأَن يُعْرَفْنَ بِأَنَّهُنَّ حَرَائِرُ فَلا يُؤْذِيهِنَّ أَحَدٌ،وَلا يَتَعَرَّضُ لَهُنَّ فَاسِقٌ بِأَذى وَلا رِيبَةٍ،وَرَبُّكُمْ غَفَّارٌ لِمَا عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ صَدرَ مِنَ الإْخْلاَلِ بالسِّتْرِ،كَثِيرُ الرَّحْمَةِ لِمَنِ امْتَثَلَ أَمْرَهُ،وَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ عَمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَصَّرَ فِي مُرَاقَبَتِهِ فِي أُمُورِ التَّسَتُّرِ (2)
وعَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ أَتَيْتُ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - فِى نَفَرٍ مِنْ قَوْمِى فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ لَيْلَةً،وَكَانَ رَحِيمًا رَفِيقًا،فَلَمَّا رَأَى شَوْقَنَا إِلَى أَهَالِينَا قَالَ « ارْجِعُوا فَكُونُوا فِيهِمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَصَلُّوا،فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ » (3) ..
الرفق بالنساء:
عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ: " يَا عَائِشَةُ،إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ،وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ،وَلَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ " (4)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَإِذَا شَهِدَ أَمْرًا فَلْيَتَكَلَّمْ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5113)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 3473)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (628 )
(4) - صحيح البخارى- المكنز -(6927 ) وصحيح مسلم- المكنز -(6766 )(1/517)
بِخَيْرٍ أَوْ لِيَسْكُتْ وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ وَإِنَّ أَعْوَجَ شَىْءٍ فِى الضِّلَعِ أَعْلاَهُ إِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا » (1) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِىَ مِنْهَا آخَرَ ». أوْ قال: «غَيْرَهُ». أخرجه مسلم (2)
وعَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ فِى سَفَرٍ،وَكَانَ غُلاَمٌ يَحْدُو بِهِنَّ يُقَالُ لَهُ أَنْجَشَةُ،فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « رُوَيْدَكَ يَا أَنْجَشَةُ،سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ ».قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ يَعْنِى النِّسَاءَ (3) .
وعن سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ،أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ،يَقُولُ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِخَادِمِهِ:" أَنَجَشَةُ،رِفْقًا قَوْدًا بِالْقَوارِيرِ " يَعْنِي النِّسَاءَ " (4) ...
الإحسان إلى النساء:
قال الله تعالى: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ} (228) سورة البقرة
إنَّ لِلْمَرْأةِ عَلَى الرَّجُلِ مِنَ الحُقُوقِ مِثْلَ مَا لَهُ عَلَيهَا مِنْهَا،فَلْيُؤَدِّ كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ بِالمَعْرُوفِ،وَلِلرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ دَرَجَةٌ هِيَ الرِّئاسَةُ،وَالقِيَامُ عَلى المَصَالِحِ،كَمَا فَسَّرتْها الآيةُ:{ الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } وَفَسَّرَ بَعْضُهُمْ ( وَلِلرِّجَالِ عَلَيهِنَّ دَرَجَةٌ ) بِأَنَّها حَقُّ الرَجُلِ فِي رَدِّ المُطَلَّقَةِ إلى عِصْمَتِهِ فِي فَتْرَةِ العِدَّةُ،وَقَدْ جَعَلَ اللهُ الحَقَّ فِي يَدِ الرَّجُلِ لأنَّهُ هُوَ الذِي طَلَّقَ.وَاللهُ عَزِيزٌ فِي انْتِقَامِهِ مِنَّنْ عَصَاهُ،حَكِيمٌ في شَرْعِهِ وَتدْبِيرِهِ (5) .
وقال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (34) سورة النساء
مِنْ شَأْنِ الرَّجُلِ أنْ يَقُومَ عَلَى المَرْأَةِ بِالحِمَايَةِ وَالرِّعَايَةِ،وَلِذَلِكَ فَرَضَ اللهُ تَعَالَى الجِهَادَ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ وَالجِهَادُ مِن أخَصِّ شُؤُونِ الحِمَايَةِ.وَقَدْ فَضَّلَ اللهُ الرِّجَالَ عَلَى النِّسَاءِ فِي الخِلْقَةِ،وَأعْطَاهُمْ مَا لَمْ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (3720 )
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (3721 ) -يَفرك : يبغض
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (6210 )
(4) - مُسْنَدُ الْحُمَيْدِيِّ (1157 ) صحيح
(5) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 235)(1/518)
يُعْطَ النِّسَاءُ مِنَ الحَوْلِ وَالقُوَّةِ،كَمَا فَضّلَهُمْ بِالقُدْرَةِ عَلَى الإِنْفَاقِ عَلَى النِّسَاءِ مِنْ أَمْوالِهِمْ،فَإِنَّ فِي المُهُورِ تَعْوِيضاً لِلْنِّسَاءِ،وَمُكَافَأَةً لَهُنَّ عَلَى الدُّخُولِ تَحْتَ رِئَاسَةِ الرَّجُلِ،وَقَبُولِ القِيَامَةِ عَلَيْهِنَّ.وَالقِيَامَةُ تَعْنِي الإِرْشَادَ وَالمُرَاقَبَةَ فِي تَنْفِيذِ مَا تُرْشِدُ إلَيْهِ النِّسَاءُ،وَمُلاَحَظَةَ أَعْمَالِهِنَّ،وَمِنْ ذَلِكَ حِفْظُ المَنْزِلِ،وَعَدَمِ مُفَارَقَتِهِ إلاَّ بِإِذْنٍ،وَالانْصِرَافَ إلى وَظِيفَتِهِنَّ الفِطْرِيَّةِ مِنْ حَمْلٍ وَرَضَاعٍ وَتَرْبِيَّةٍ.وَالنِّسَاءُ الصَّالِحَاتُ مُطِيعَاتٌ لأَزْوَاجِهِنَّ،حَافِظَاتٌ لِمَا يَجْرِي بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ فِي خِلْوَاتِهِمْ،لاَ يُطْلِعْنَ عَلَيهِ أَحَداً،وَيَحْفَظْنَّ أَنْفُسَهُنَّ مِنْ أَيْدِي العَابِثِينَ،وَعَلَيْهِنَّ أنْ يَحْفَظَنَّ أَمْوَالَ أَزْوَاجِهِنَّ مِنَ الضَيَاعِ،وَهَذا الصِنْفُ مِنَ النِّسَاءِ لَيْسَ لِلْرِّجَالِ عَلَيِهِنَّ سُلْطَانُ التَّأديب.أمَّا اللَّوَاتِي تَخْشَوْنَ مِنْهُنَّ أنْ لاَ يَقُمْنَ بِحَقِّ الزَّوْجِيَّةِ عَلَى الوَجْهِ الذِي تَرْضَونَ،فَعَلَى الرِّجَالِ مُعَامَلَتُهُنَّ،مُبْتَدِئِينَ بِالوَعْظِ وَالإِرْشَادِ،وَالتَّذْكِيرِ بِوَاجِبَاتِهِنَّ،فَقَدْ يَكْفِي ذَلِكَ،فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ،فَجَرِّبُوا الهَجْرَ فِي المَضْجَعِ،وَالإِعْرَاضِ عَنْهُنَّ،فَقَدْ يُفِيدُهُنَّ ذَلِكَ فَيَفِئْنَ إلى الصَّوَابِ.وَإذَا لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ فَجَرِّبُوا الضَّرْبَ غَيْرَ المُبَرِّحِ وَغَيْرَ المُؤْذِي،وَهَذا لاَ يَلْجَأُ إلَيْهِ إلاَّ إذَا يَئِسَ الرَّجُلُ مِنْ رُجُوعِ المَرْأَةِ عَنْ نُشُوزِهَا إلاَّ بِهِ .وَإذَا أَطَاعَتِ المَرْأَةُ زَوْجَهَا فِيمَا يُرِيدُهُ مِنْهَا،مِمَّا أَبَاحَهُ اللهُ لَهُ مِنْها،فَلاَ سَبِيلَ لَهُ عَلَيْها،وَلَيْسَ لَهُ ضَرْبَهَا،وَلاَ هُجْرَانَها،وَلاَ إِسَاءَةُ مُعَامَلَتِهَا .وَيُهَدِّدُ اللهُ تَعَالَى الرِّجَالَ إذا بَغَوْا عَلَى النِّسَاءِ بَغْيِرِ سَبَبٍ،وَيُعْلِمُهُمْ بِأنَّهُ وَليُّهُنَّ،وَأنَّهُ سَيَنْتَقِمُ مِمَّنْ يَبْغِي عَلَيْهِنَّ . (1)
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : خَيْرُكُمْ خَيْرَكُمْ لأَهْلِهِ،وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي. وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي،وَإِذَا مَاتَ صَاحِبُكُمْ فَدَعُوهُ. (2)
حسن المعاشرة بين الزوجين:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} (19) سورة النساء
كَانَ النَّاسُ قَبْلَ الإِسْلاَمِ يَجْعَلُونَ النِّسَاءَ كَالمَتَاعِ فَإذا مَاتَ الرًَّجُلُ كَانَ أَوْلِياؤُهُ أَحَقُّ بِامْرَأَتِهِ يَتَزَوَّجُونَها بِدُونِ مَهْرٍ وَلاَ رِضَاً مِنْهَا،وَكَأنَّهَا شَيءٌ مِنْ مِيرَاثِ الرَّجُلِ المُتَوَفَّى،فَإنْ شَاءَ بَعْضُهُمْ تَزَوَّجَها،وَإنْ شَاؤُوا زَوَّجُوهَا،وَإِنْ شَاؤُوا لَمْ يُزَوِّجُوهَا،فَكَانُوا أَحَقَّ بِهِا مِنْ أَهْلِها،فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ لإِبْطَالِ هَذا التَّعَامُلِ الجَائِرِ .
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 527)
(2) - صحيح ابن حبان - (9 / 485)(4177) صحيح
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَوْلُهُ - صلى الله عليه وسلم - : فَدَعُوهُ يَعْنِي : لاَ تَذْكُرُوهُ إِلاَّ بِخَيْرٍ(1/519)
وَفِي هَذِهِ الآيَةِ يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى النَّاسَ بِعَدَمِ الإِضْرَارِ بِالمَرْأَةِ،وَبِعَدَمِ مُضَايَقَتِهَا ( عَضْلِهَا ) فِي العِشْرَةِ لِتَتْرُكَ لِلْرَجُلِ مَا دَفَعَهُ لَها مِنْ مَهْرٍ،أوْ بَعْضِ حُقُوقِهَا عَلَيهِ،أَوْ شَيْئاً مِنْ حُقُوقِهَا فِي المِيْرَاثِ،عَلى سَبِيلِ القَهْرِ وَالإِضْرَارِ .أمَّا إذَا زَنَتِ المَرْأَةُ فَكَانَ لِلرَّجُلِ أنْ يَسْتَرْجِعَ مِنْهَا الصَّدَاقَ الذِي دَفَعَهُ إلَيها،وَأنْ يُضَاجِرَهَا حتَّى تَتْرُكَهُ ( أيْ أنَّ لَهُ عَضْلَهَا فِي هَذِهِ الحَالَةِ ).أمَّا فِي غَيْرِ حَالَةِ الزِّنَى فَقَدْ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى الرِّجَالَ بِمُعَاشَرَةِ النِّسَاءِ بِالمَعْرُوفِ،أيْ مَعَ طِيبِ قَوْلٍ،وَحُسْنِ فِعْلٍ،حَتَّى وَلَوْ كَرِهُوهُنَّ،فَقَدْ يَكْرَهُ الإِنسَانُ شَيْئاً وَيَجْعَلُ اللهُ لَهُ فِيهِ خَيراً كَثِيراً،كَأنْ تَلِدَ لَهُ المَرْأةُ وَلَداً يَنْبُغُ أو يَسُودُ،أوْ يَكُونُ ذَا شَأنٍ أوْ أنْ يَنْصَلِحَ حَالُها فَتَكُونَ سَبباً فِي سَعَادَته (1) .
عَنْ مُعَاوِيَةَ الْقُشَيْرِىِّ قَالَ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ فَقُلْتُ مَا تَقُولُ فِى نِسَائِنَا قَالَ « أَطْعِمُوهُنَّ مِمَّا تَأْكُلُونَ وَاكْسُوهُنَّ مِمَّا تَكْتَسُونَ وَلاَ تَضْرِبُوهُنَّ وَلاَ تُقَبِّحُوهُنَّ ». أخرجه أبو داود (2) .
وعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ:دَخَلْنَا عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ،فَقَالَ:أَمَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِقُبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ،فَضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ،فَسَارَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَلاَ تَشُكُّ قُرَيْشٌ إِلاَّ أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ،فَأَجَازَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَوَجَدَ الْقُبَّةَ قَدْ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ،فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ،أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ،فَرُحِلَتْ لَهُ،فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي،فَخَطَبَ النَّاسُ،ثُمَّ قَالَ:إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا،فِي شَهْرِكُمْ هَذَا،فِي بَلَدِكُمْ هَذَا،أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ،وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ،وَأَنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ - كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ - فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ،فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ،وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ،وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ،فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ،وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ،وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ،كِتَابَ اللهِ،وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي،فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ ؟ قَالُوا:نَشْهَدُ أَنْ قَدْ بَلَّغْتَ،فَأَدَّيْتَ،وَنَصَحْتَ،فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ:اللَّهُمَّ اشْهَدْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ،ثُمَّ أَذَّنَ،ثُمَّ أَقَامَ،فَصَلَّى الظُّهْرَ،ثُمَّ أَقَامَ،فَصَلَّى الْعَصْرَ،وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا.". أخرجه مسلم (3)
ملاطفة الزوجة وملاعبتها:
عَنْ عَائِشَةَ،قَالَتْ:خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَأَنَا جَارِيَةٌ لَمْ أَحْمِلِ اللَّحْمَ وَلَمْ أَبْدُنْ،فَقَالَ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 512)
(2) - سنن أبي داود - المكنز - (2146 ) صحيح
(3) - صحيح ابن حبان - (4 / 310)(1457) وصحيح مسلم- المكنز - (3009)(1/520)
لِلنَّاسِ:تَقَدَّمُوا فَتَقَدَّمُوا،ثُمَّ قَالَ لِي:تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ،فَسَكَتَ عَنِّي،حَتَّى إِذَا حَمَلْتُ اللَّحْمَ وَبَدُنْتُ وَنَسِيتُ،خَرَجْتُ مَعَهُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ،فَقَالَ لِلنَّاسِ:تَقَدَّمُوا فَتَقَدَّمُوا،ثُمَّ قَالَ:تَعَالَيْ حَتَّى أُسَابِقَكِ فَسَابَقْتُهُ،فَسَبَقَنِي،فَجَعَلَ يَضْحَكُ،وَهُوَ يَقُولُ:هَذِهِ بِتِلْكَ. " أخرجه أحمد (1)
وعَنْ عَائِشَةَ،قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِِ - صلى الله عليه وسلم - وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثٍ.فَاضْطَجَعَ عَلَى الْفِرَاشِ.وَحَوَّلَ وَجْهَهُ.فَدَخَلَ ابُو بَكْرٍ فَانْتَهَرَنِي.وَقَالَ:مِزْمَارُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ؟ فَاقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِِ - صلى الله عليه وسلم - . فَقَالَ:دَعْهُمَا.فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا.وَكَانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ.فَإِمَّا سَالْتُ رَسُولَ اللهِِ - صلى الله عليه وسلم - . وَإِمَّا قَالَ:تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ ؟ فَقُلْتُ:نَعَمْ.فَاقَامَنِي وَرَاءَهُ.خَدِّي عَلَى خَدِّهِ.وَهُوَ يَقُولُ:دُونَكُمْ يَابَنِي ارْفَدَةَ.حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ قَالَ:حَسْبُكِ ؟ قُلْتُ:نَعَمْ.قَالَ:فَاذْهَبِي.". متفق عليه (2)
العدل بين الزوجات:
قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ} (3) سورة النساء
فَإنْ خِفْتُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أنْ لاَ تَعْدِلُوا مَعَ الزَّوْجَةِ اليَتِيْمَةِ،وَأنْ تَأْكُلُوا مَالَهَا،فَاعْدِلُوا عَنِ الزَّوَاجِ بِهَا إلَى الزَّوَاجِ بِغَيْرِهَا،فَإِذَا كَانَ فِي حِجْرِ أَحَدِكُمْ يَتِيمَةٌ وَخَافَ أَنْ لاَ يُعْطِيهَا مَهْرٌ مِثْلِهَا،فَعَلَيْهِ أنَ يَعْدِلَ إلَى الزَّوَاجِ بِغَيْرِهَا،فَإِنَّ النِسَاءَ كَثِيرَاتٍ،وَلَم يُضَيِّقُ اللهُ عَلَى النَّاسِ،إذْ أَبَاحَ لَهُمْ الزَّوَاجَ بِاثْنَتَينِ وَثَلاَثٍ وَأَرْبَعٍ.فَإِنْ خِفْتُمْ،فِي حَالِ تَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ عِنْدَكُمْ،أنْ لاَ تَعْدِلُوا بَيْنَهُنَّ فِي المُعَامَلَةِ،فَاقْتَصِرُوا عَلَى الزَّوَاجِ بِوَاحِدَةٍ،وَعَلَى الجَوَارِي السَّرَارِي ( لأنَّهُ لاَ وُجُوبَ لِلْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ،وَإنْ كَانَ ذَلِكَ مُسْتَحَباً ) وَالاقْتِصَارُ عَلَى الزَّوَاجِ بِوَاحِدَةٍ فِيهِ ضَمَانٌ مِنْ عَدَمِ الجُوْرِ وَالظُّلْمِ.( وَقِيلَ إنَّ مَعْنَى - ذَلِكَ أدْنَى ألاّ تَعُولُوا - هُوَ أنْ لاَ تَفْتَقِرُوا ) ( وَالعَدْلُ يَكُون فِيمَا يَدْخُلُ تَحْتَ طَاقَةِ الإِنْسَانِ كَالتَّسْوِيَةِ فِي المَأْكَلِ وَالمَلْبَسِ وَالمَسْكَنِ وَغَيْرِهِ.. أمَّا مَا لاَ يَدْخُلُ فِي وُسْعِهِ مِنْ مَيْلِ القَلْبِ إلَى وَاحِدَةٍ دُونَ الأُخْرَى فَلاَ يُكَلِّفُ الإِنْسَانَ بِالعَدْلِ فِيهِ ) (3) .
وقال الله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 524) (26277) 26807- صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (949 و950 ) وصحيح مسلم- المكنز - (2102 )
الدرق : جمع درقة وهى الترس من جلود ليس فيه خشب ولا عصب
(3) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 496)(1/521)
بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} (6) سورة الطلاق
وَأَسْكِنُوا النِّسَاءَ المُطَلَّقَاتِ فِي المَوْضِعِ الذِي تَسْكُنُونَ فِيهِ،عَلَى مِقْدَارِ حَالِكُمْ،فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا إِلاَّ حُجْرَةً بِجَانِبِ حُجرَتِكُمْ فَأَسْكِنُوهُنَّ فِيها.. ( لأَنَّ السُّكْنَى نَوْعٌ مِنَ النَّفَقَةِ وَهِي وَاجِبَةٌ عَلَى الأَزْوَاجِ ).وَلاَ تُضَاجِرُوهُنَّ،وَلاَ تُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ فِي السُّكْنَى،بِشَغْلِ المَكانِ،أَوْ بِإِسْكَانِ غَيرِهِنَّ مَعَهُنَّ مِمَّنْ لاَ يُحْبِبْنَ السُّكْنَى مَعَهُ،لِتُلْجِئُوهُنَّ إِلَى الخُرُوجِ مِنْ مَسَاكِنِهِنَّ.وَإِذَا كَانَتِ المُطَلَّقَةُ ذَاتَ حَمْلٍ فَعَلَى الزَوْجِ،أَوْ وَلِيِّهِ،أَنْ يُنْفِقَ عَلَيهَا حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا .فإِذا وأَرْضَعَتِ المُطَلَّقَةُ وَلِيدها الذِي وَضَعَتْهُ،وَهِيَ طَالِقٌ،قَدْ بَانَتْ بِانْقضَاءِ عَدَتِهَا،فَلَهَا أَنْ تُرَضِعَ الوَلَدَ لَها عَلَى الزَّوْجِ أَجْرُ إِرْضَاعِهِ ( أَجْرُ مِثْلِهَا ).وَتَتَّفِقُ المُطَلَّقَةُ مَعَ وَالِدِ الطِّفْلِ أَوْ وَلِيِّهِ عَلَى مِقْدَارِهِ.وَلَهَا أَنْ لاَ تُرْضِعَهُ فَيَقُومُ الوَالِدُ بِتَكْلِيفِ أُخْرَى بِإِرْضَاعِهِ.وَيَحْثُّ اللهُ تَعَالَى الآبَاءَ والأَمَّهَاتِ عَلىَ التَّشَاوُرِ والتَّفَاهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ،فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِشُؤُونِ الأَوْلاَدِ،وَفِيمَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُمْ.كَمَا يَحْثُّهُمْ عَلَى أَلاَّ يَجْعَلُوا المَالَ عَقَبَةً فِي سَبِيلِ تَحْقِيقِ مَا هُوَ أَنْفَعُ لِلوَلَدِ،فَلاَ يَكُونُ مِنَ الأَزْوَاجِ مُمَاكَسَةٌ،وَلاَ يَكُونُ مِنَ الأُمَّهَاتِ مُعَاسَرَةٌ وَإِحْرَاجٌ لِلآبَاءِ .أَمَّا إِذَا ضَيَّقَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضِ فَإِنَّ لِلأَبِ أَنْ يَسْتَرْضِعَ امْرَأَةً أُخْرَى،فإِنْ رَضِيتِ الأُمُّ بِمِثْلِ مَا اسْتُؤْجِرَتْ بِهِ الأَجْنَبِيَّةُ كَانَتْ أَحَقَّ بِإِرْضَاعِ طِفْلِهَا مِنَ الأَجْنَبِيَّةِ . (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ،فَمَالَ مَعَ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى،جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَحَدُ شِقَّيْهِ سَاقِطٌ." (2)
عدم إفشاء الأسرار الزوجية:
قال الله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ } (3) سورة التحريم
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى زَوْجِهِ حَفْصَةَ حَدِيثاً فَقَالَ لَهَا:إِنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ العَسَلَ عِنْدَ زَوْجَتِهِ زَيْنَبَ،وَقَالَ لَنْ أَعُودَ إِلَى شُرْبِهِ وَقَدْ حَلَفْتُ،فَلاَ تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَداً.فَلَمَّا أَخْبَرَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ بِالحَدِيثِ الذِي اسْتَكْتَمَهَا النَّبِيُّ عَلَيهِ.وَأَطْلَعَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَا فَعَلَتْهُ حَفْصَةُ مِنْ إِفْشَائِهَا مَا اسْتَكْتَمَهَا النَّبِيُّ عَليْهِ أَخْبَرَ حَفْصَةَ بِبَعْضِ الحَدِيثِ الذِي أَفْشَتْهُ ( وَهُوَ كُنْتُ شَرِبْتُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَلَنْ أَعُودَ )،وَأَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ بَعْضِ الحَدِيثِ الذِي أَفْشَتْهُ ( وَهُوَ قَوْلُهُ وَقَدْ حَلَفْتُ فَلاَ تُخْبِرِي أَحَداً )،فَلَمْ يُخْبِرْهَا بِهِ تَكَرُّماً مِنْهُ لِكَيْلا يَزِيدَ فِي خَجَلِهَا مِنْهُ .فَلَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيُّ حَفصَةَ بِمَا دَارَ بَيْنَهَا وَبَينَ عَائِشَةَ قَالَتْ مَنْ أَخْبَرَكَ بِهَذَا؟ وَهِيَ تَظُنُّ أَنَّ عَائِشَةَ قَدْ فَضَحَتْهَا وَنَقَلَتِ الحَدِيثَ إِلَى الرَّسُولِ.فَقَالَ لَهَا
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5101)
(2) - صحيح ابن حبان - (10 / 7) (4207) صحيح(1/522)
النَّبِيُّ:أَخْبَرَنِي بِهِ رَبِّي العِلِيمُ بِالسِّرِّ وَالنَّجْوَى،وَالخَبِيرُ بِكُلِّ مَا فِي الوُجُودِ . (1)
الصبر والتغاضي عن الزلات:
عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ،فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ خَادِمٍ بِقَصْعَةٍ فِيهَا طَعَامٌ فَضَرَبَتْ بِيَدِهَا،فَكَسَرَتِ الْقَصْعَةَ،فَضَمَّهَا،وَجَعَلَ فِيهَا الطَّعَامَ وَقَالَ « كُلُوا ».وَحَبَسَ الرَّسُولَ وَالْقَصْعَةَ حَتَّى فَرَغُوا،فَدَفَعَ الْقَصْعَةَ الصَّحِيحَةَ وَحَبَسَ الْمَكْسُورَةَ " أخرجه البخاري (2) .
وعَنْ جَسْرَةَ بِنْتِ دِجَاجَةَ قَالَتْ قَالَتْ عَائِشَةُ رضى الله عنها مَا رَأَيْتُ صَانِعًا طَعَامًا مِثْلَ صَفِيَّةَ صَنَعَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - طَعَامًا فَبَعَثَتْ بِهِ فَأَخَذَنِى أَفْكَلٌ فَكَسَرْتُ الإِنَاءَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كَفَّارَةُ مَا صَنَعْتُ قَالَ « إِنَاءٌ مِثْلُ إِنَاءٍ وَطَعَامٌ مِثْلُ طَعَامٍ ». (3)
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ،فَضَرَبَتِ الَّتِى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فِى بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِمِ فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ،فَجَمَعَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فِلَقَ الصَّحْفَةِ،ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِى كَانَ فِى الصَّحْفَةِ وَيَقُولُ « غَارَتْ أُمُّكُمْ »،ثُمَّ حَبَسَ الْخَادِمَ حَتَّى أُتِىَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا،فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِى كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا،وَأَمْسَكَ الْمَكْسُورَةَ فِى بَيْتِ الَّتِى كَسَرَتْ (4) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ،فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ،وَإِنَّ أَعْوَجَ شَىْءٍ فِى الضِّلَعِ أَعْلاَهُ،فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ،وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ،فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ » متفق عليه (5)
التبكير بالنوم مع الأهل:
عَنْ أَبِى بَرْزَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ الْعِشَاءِ وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا " (6) .
وعظ الأهل وحثهم على الخير:
قال الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى }
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5110)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (2481 )
(3) - سنن أبي داود - المكنز - (3570 ) حسن - الأفكل : الرعدة
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (5225 )
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (3331 ) وصحيح مسلم- المكنز - (3720)
(6) - صحيح البخارى- المكنز - (568 )(1/523)
(132) سورة طه
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِإِقَامَةِ الصَّلاَةِ فِي أَوْقَاتِهَا،لِتُنْقِذَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ،وَاصْبِرْ أَنْتَ عَلَيْهَا وَأَدِّهَا كَامِلَةً حَقَّ أَدَائِهَا،فَالوَعْظُ بِالفِعْلِ أَشَدُّ أَثَراً مِنْهُ بِالقَوْلِ.وَإِذَا أَقَمْتَ الصَّلاَةَ أَتَاكَ الرِّزْقُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَحْتَسِبْ،وَلَمْ تُكَلَّفُ أَنْتَ رِزْقَ نَفْسِكَ.وَكَانَ الأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ أَمْرٌ فَزِعُوا إِلَى الصَّلاَةِ . (1)
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّى مِنَ اللَّيْلِ فَإِذَا أَوْتَرَ قَالَ « قُومِى فَأَوْتِرِى يَا عَائِشَةُ ». أخرجه مسلم (2) .
وعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتِ اسْتَيْقَظَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ « سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الْفِتَنِ وَمَاذَا فُتِحَ مِنَ الْخَزَائِنِ أَيْقِظُوا صَوَاحِبَاتِ الْحُجَرِ،فَرُبَّ كَاسِيَةٍ فِى الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِى الآخِرَةِ » .. أخرجه البخاري (3)
ما يفعله الزوجان إذا تنازعا:
قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (34) سورة النساء .
الرجال قوَّامون على توجيه النساء ورعايتهن،بما خصهم الله به من خصائص القِوامَة والتفضيل،وبما أعطوهن من المهور والنفقات. فالصالحات المستقيمات على شرع الله منهن،مطيعات لله تعالى ولأزواجهن،حافظات لكل ما غاب عن علم أزواجهن بما اؤتمنَّ عليه بحفظ الله وتوفيقه،واللاتي تخشون منهن ترفُّعهن عن طاعتكم،فانصحوهن بالكلمة الطيبة،فإن لم تثمر معهن الكلمة الطيبة،فاهجروهن في الفراش،ولا تقربوهن،فإن لم يؤثر فعل الهِجْران فيهن،فاضربوهن ضربًا لا ضرر فيه،فإن أطعنكم فاحذروا ظلمهن،فإن الله العليَّ الكبير وليُّهن،وهو منتقم ممَّن ظلمهنَّ وبغى عليهن. (4)
وقال الله تعالى: { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)}
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2441)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (1768 )
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (115 )
(4) - التفسير الميسر - (2 / 34)(1/524)
[فصلت:34،35].
وَلاَ تَتَسَاوَى الحَسَنَةُ التِي يَرْضَى اللهُ بِهَا،وَيُثِبُ عَلْيَها،مَعَ السَّيِئةِ التِي يَكْرَهُهَا اللهُ وَيُعَاقِبُ عَلَيْهَا،فَادْفَعْ سَفَاهَةَ السُّفَهَاءِ،وَجَهَالَةَ الجُهَلاَءِ بِالطَّرِيقَةِ الحُسْنَى،فَقَابِلْ إِسَاءَتَهُمْ بِالإحْسَانِ إِلَيهِمْ،وَقَابِلِ الذَّنْبَ بِالعَفْوِ،فَإِذَا صَبَرْتَ عَلَى سُوءِ أَخْلاَقِهِمْ،وَقَابَلْتَ سَفَاهَتَهُمْ بِرَحَابَةِ صَدْرٍ اسْتَحْيَوْا مِنْ ذَمِيمِ أَخْلاَقِهِمْ،وَتَرَكُوا قَبِيحَ أَفْعَالِهِمْ .وَانْقَلَبُوا مِنَ العَدَاوَةِ إِلَى المَحَبَّةِ.وَلاَ يَقْبَلُ هَذِهِ الوَصِيّةَ وَيَعْمَلُ بِهَا إِلاَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى ذَلِكَ،لأَنَّ الصَّبْرَ يَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ،وَيَصْعبُ احْتِمَالُهُ فِي مَجْرَى العَادَةِ،وَلاَ يَتَقَبَّلُهَا إِلاَّ ذُو نَصِيبٍ وَافِرٍ مِنَ السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ (1) .
استخدام الروائح الطيبة،واجتناب الروائح الخبيثة:
عَنْ عَائِشَةَ.قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ،فَكَانَ اذَا صَلَّى الْعَصْر،دَارَ عَلَى نِسَائِهِ،فَيَدْنُو مِنْهُنّ َ،فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ فَاحْتَبَسَ عِنْدَهَا اكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَحْتَبِسُ،فَسَالْتُ عَنْ ذَلِكَ،فَقِيلَ لِى: اهْدَتْ لَهَا امْرَاةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةً مِنْ عَسَلٍ،فَسَقَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْهُ شَرْبَةً.فَقُلْتَُ: امَا وَاللَّهِ لَنَحْتَالَنَّ لَهُ،فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسَوْدَةَ.وَقُلْتَُ: اذَا دَخَلَ عَلَيْكِ فَانَّهُ سَيَدْنُو مِنْكِ،فَقُولِى: لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ اكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ فَانَّهُ سَيَقُولُ لَكِ:لا.فَقُولِى لَهُ مَا هَذِهِ الرِّيحُ ؟ (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَشْتَدُّ عَلَيْهِ انْ يُوجَدَ مِنْهُ الرِّيحُ) فَانَّهُ سَيَقُولُ لَكِ:سَقَتْنِى حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ.فَقُولِى لَهُ:جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ،وَسَاقُولُ ذَلِكَ لَهُ،وَقُولِيهِ انْتِ يَا صَفِيَّةُ،فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى سَوْدَةَ،قالت:تَقُولُ سَوْدَةُ: وَالَّذِى لا الَهَ الا هُوَ،لَقَدْ كِدْتُ انْ ابَادِئَهُ بِالَّذِى قُلْتِ لِى،وَانَّهُ لَعَلَى الْبَابِ،فَرَقا مِنْكِ،فَلَمَّا دَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ قال:لا.قَالَتْ: فَمَا هَذِهِ الرِّيحُ ؟ قال:سَقَتْنِى حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ.قَالَتْ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ،فَلَمَّا دَخَلَ عَلَىَّ قُلْتُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ،ثُمَّ دَخَلَ عَلَى صَفِيَّةَ فَقَالَتْ بِمِثْلِ ذَلِكَ،فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الا اسْقِيكَ مِنْهُ قال:لا حَاجَةَ لِى بِهِ.قَالَتْ:تَقُولُ سَوْدَةُ:سُبْحَانَ اللَّهِ وَاللَّهِ لَقَدْ حَرَمْنَاهُ.قَالَتْ: قُلْتُ لَهَا:اسْكُتِى." متفق عليه (2) .
وعَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ صَنَعْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بُرْدَةً سَوْدَاءَ فَلَبِسَهَا فَلَمَّا عَرَقَ فِيهَا وَجَدَ رِيحَ الصُّوفِ فَقَذَفَهَا.قَالَ وَأَحْسِبُهُ قَالَ وَكَانَ تُعْجِبُهُ الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ." أخرجه أبو داود (3)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4131)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (5431 ، 5216 ، 5267 ، 5268 ، 5599 ، 5614 ، 5682 ، 6691 ، 6972 ) وصحيح مسلم- المكنز - (3752 )
جرست : أكلت -العرفط : شجر له صمغ حلو يسمى المغافير -العكة : قربة صغيرة تتخذ وعاء للسمن أو العسل وهى بالسمن أخص -المغافير : جمع مغفور وهو صمغ حلو له رائحة كريهة -الفَرق : الخوف والفزع
(3) - سنن أبي داود - المكنز - (4076 ) صحيح(1/525)
التسمية قبل الوطء:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِىَ أَهْلَهُ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ،اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ،وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا،فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فِى ذَلِكَ،لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا » متفق عليه (1) .
الأحوال التي تُمنع فيها النساء من الطيب:
عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ - قَالَتْ كُنَّا نُنْهَى أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ،إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا،وَلاَ نَكْتَحِلَ وَلاَ نَتَطَيَّبَ وَلاَ نَلْبَسَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ،وَقَدْ رُخِّصَ لَنَا عِنْدَ الطُّهْرِ إِذَا اغْتَسَلَتْ إِحْدَانَا مِنْ مَحِيضِهَا فِى نُبْذَةٍ مِنْ كُسْتِ أَظْفَارٍ،وَكُنَّا نُنْهَى عَنِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ"متفق عليه (2) .
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَيُّمَا امْرَأَةٍ أَصَابَتْ بَخُورًا فَلاَ تَشْهَدْ مَعَنَا الْعِشَاءَ الآخِرَةَ ». أخرجه مسلم (3)
صفة القَسْم بين الزوجات:
عَنْ أَنَسٍ،قَالَ: كَانَ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - تِسْعُ نِسْوَةٍ،فَكَانَ إِذَا قَسَمَ بَيْنَهُنَّ لاَ يَنْتَهِي إِلَى الْمَرْأَةِ الأُولَى إِلاَّ فِي تِسْعٍ،فَكُنَّ يَجْتَمِعْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي بَيْتِ الَّتِي يَأْتِيهَا،فَكَانَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ،فَجَاءَتْ زَيْنَبُ،فَمَدَّ يَدَهُ إِلَيْهَا،فَقَالَتْ:هَذِهِ زَيْنَبُ،فَكَفَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ،فَتَقَاوَلَتَا حَتَّى اسْتَخَبَتَا،وَأُقِيمَتِ الصَّلاَةُ،فَمَرَّ أَبُو بَكْرٍ عَلَى ذَلِكَ،فَسَمِعَ أَصْوَاتَهُمَا،فَقَالَ:اخْرُجْ يَا رَسُولَ اللهِ إِلَى الصَّلاَةِ،وَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ،فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَتْ عَائِشَةُ:الآنَ يَقْضِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - صَلاَتَهُ،فَيَجِيءُ أَبُو بَكْرٍ فَيَفْعَلُ بِي وَيَفْعَلُ،فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - صَلاَتَهُ،أَتَاهَا أَبُو بَكْرٍ،فَقَالَ لَهَا قَوْلاً شَدِيدًا،وَقَالَ:أَتَصْنَعِينَ هَذَا ؟.. أخرجه مسلم (4) .
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6388 ) وصحيح مسلم- المكنز - (3606 )
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (313 ) وصحيح مسلم- المكنز - (3815)
الأظفار : نبات عطرى يشبه الأظفار -العصب : برود يمنية -الكست : البخور -النبذة : القطعة اليسيرة من الشىء
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (1026 )
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (3701 )(1/526)
-47- آداب الكلام
شكر نعمة الكلام:
قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (22) سورة الروم
ومِنْ آياتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ العَظِيمَةِ،أَنَّهُ تَعَالى خَلقَ السَّماوَاتِ في ارْتِفَاعِهَا واتِّسَاعِها،وَخَلَقَ فِيها النُّجُومَ والكَواكِبَ،وَخَلقَ الأَرضَ وَمَا فِيها مِنْ بِحَارٍ وَمياهٍ ومخلُوقَاتٍ وَنَبَاتَاتٍ وجِبَالٍ،وجَعَلَ أَلسِنَةَ البَشَرِ مُخْتَلِفَةً مُتَمَايِزَةً،كَما جَعَلَ ألوانَ البَشَرِ مُخْتِلفةً،وإِن تَشَابِهُوا جَمِيعاً في الخُطُوطِ الكُبرى مِنْ مَلاَمِحِهِم،وَفي ذَلك آياتٌ تَدُلُّ عَلى عَظَمَةِ الخَالِقِ لأُولِي العِلْمِ الذِينَ يَتَفَكَّرُونَ فِيمَا خَلَقَ اللهُ . (1)
أحسن الكلام:
قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (23) سورة الزمر .
اللهُ تَعَالَى أَنْزَلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ قُرْآناً يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضاً ( مَثَانِيَ )،وَيَتَرَدَّدُ فِيهِ القَوْلُ،مَعَ المَوَاعِظِ والأَحْكَامِ لِيَفْهَمَ النَّاسُ مَا أَرَادَ رَبُّهُمْ تَعَالَى،وَإِذَا تُلِيَتْ مَعَهُ آيَاتُ العَذَابِ والعِقَابِ اقْشَعَرَّتْ لَهَا جُلُودُ الذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ،وَوَجِلَتْ لَهَا قُلُوبُهُمْ،وَإِذَا تُلِيَتْ آيَاتُ الرَّحْمَةِ وَالمَغْفِرَةِ والثَّوَابِ تَلِينُ قُلُوبُهُمْ،وَتَطَمئِنُّ نُفُوسُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ.وَمَنْ كَانَتْ هَذَهِ صِفَتُهُ فَقَدْ هَدَاهُ اللهُ،وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ،وَمَنْ أَضَلَّهُ اللهُ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ سَيُعْرِضُ عَنِ الحَقِّ فَلَيْسَ لَهُ مَنْ يَهْدِيهِ مِنْ دُونِ اللهِ . (2)
وقال الله تعالى: { وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)} [الزمر:17،18]
والذينَ اجْتَنَبُوا عِبَادَةَ الأَصْنَامِ،واتِّبَاعَ الشَّيَاطِينِ،وَأَقْبَلُوا عَلَى عِبَادَةِ رَبِّهِمْ مُعْرِضِينَ عَمّا سِوَاهُ،يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ بالثَّوَابِ العَظِيمِ حِينَ المَوْتِ،وَحِينَ يَلْقَونَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الحِسَابِ،وَهَؤُلاَءِ الذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ،وَأَنَابُوا إِلَى رَبِّهِمْ،وَسَمِعُوا القَوْلَ فَاتَّبَعُوا أَحْسَنَهُ وَأَوْلاَهُ بالقَبُولِ.. هَؤُلاَءِ يُبَشِّرُهُمْ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 3313)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 3960)(1/527)
رَبُّهُمْ بالنَّعِيمِ المُقِيمِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ،وَأولَئِكَ هُمُ الذِينَ وَفَّقَهُمُ اللهَ تَعَالَى لِلرَّشَادِ وَالصَّوَابِ،وَأولَئِكَ هُمْ أَصْحَابُ العُقُولِ والأَفْهَامِ السَّلِيمَةِ . (1)
الإكثار من ذكر الله والصلاة على نبيه - صلى الله عليه وسلم - :
قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42)} [الأحزاب:41 - 42]
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ مِنْ عِبَادِهِ بِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ،فَهُوَ المُنْعِمُ المُتَفَضِّلُ عَلَيهِمْ،لِمَا لَهُمْ فِي ذِكْرِ اللهِ مِنْ عَظيمِ الثَّوابِ.وَيَأْمُرُهُمْ تَعَالى أَيضاً بِتَنْزِيهِهِ عَمَّا لاَ يَلِيقُ بَيْنَ طَرَفَيِ النَّهَارِ:فِي البُكُورِ عِنْدَ القِيامِ مِنَ النَّومِ،وَوَقْتِ الأَصِيلِ،وَقْتِ الانْتِهَاءِ مِنَ العَمَلِ اليَومِيِّ،فَيَكُونُ الذِّكْرُ فِي الصَّبَاحِ شُكْراً للهِ عَلى بَعْثِ الإِنسْانِ مِنْ رُقَادِهِ،وَفِي المَسَاء شُكْراً لَهُ عَلى تِوفِيقِه لأَداءِ العَمَلِ،والقِيَامِ بالسَّعِي لِلْحُصُولِ عَلَى الرِّزْقِ . (2)
وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (56) سورة الأحزاب
هذا فيه تنبيه على كمال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ،ورفعة درجته،وعلو منزلته عند اللّه وعند خلقه،ورفع ذكره. و { إِنَّ اللَّهَ } تعالى { وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ } عليه،أي: يثني اللّه عليه بين الملائكة،وفي الملأ الأعلى،لمحبته تعالى له،وتثني عليه الملائكة المقربون،ويدعون له ويتضرعون. { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } اقتداء باللّه وملائكته،وجزاء له على بعض حقوقه عليكم،وتكميلا لإيمانكم،وتعظيمًا له - صلى الله عليه وسلم - ،ومحبة وإكرامًا،وزيادة في حسناتكم،وتكفيرًا من سيئاتكم وأفضل هيئات الصلاة عليه عليه الصلاة والسلام،ما علم به أصحابه: "اللّهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد،وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" وهذا الأمر بالصلاة والسلام عليه مشروع في جميع الأوقات،وأوجبه كثير من العلماء في الصلاة (3)
وعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ،عَنْ أَبِيهِ،عَنْ جَدِّهِ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ صَلَّى عَلَيَّ وَاحِدَةً صَلَّى الله عَلَيْهِ عَشْرًا فَلْيُكْثِرْ عبد مِنْ ذَلِكَ،أَوْ لِيُقلِلْ " (4)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 3954)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 3455)
(3) - تفسير السعدي - (1 / 671)
(4) - شعب الإيمان - (3 / 127)(1459 ) صحيح(1/528)
وعَنْ بُرَيْدِ بْنِ أَبِى مَرْيَمَ قَالَ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ صَلَّى عَلَىَّ صَلاَةً وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ وَحُطَّتْ عَنْهُ عَشْرُ خَطِيئَاتٍ وَرُفِعَتْ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ ». (1)
وعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ،قَالَ: كانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا ذَهَبَ رُبْعُ اللَّيْلِ قَامَ،فَقَالَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ،اذْكُرُوا اللهَ جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ "فَقَالَ لَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: يَا رَسُولَ اللهِ،إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَيْكَ فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْهَا ؟ قَالَ: " مَا شِئْتَ "،قَالَ: الرُّبْعُ ؟ قَالَ: " مَا شِئْتَ،وَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ "،قَالَ: النِّصْفُ ؟ قَالَ " مَا شِئْتَ،وَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ "،قَالَ: ثُلُثَيْنِ ؟ قَالَ: " مَا شِئْتَ،وَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ "،قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَجْعَلُهَا كُلَّهَا لَكَ ؟ قَالَ: " إِذًا تُكْفَى أهَمَّكَ،وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ " " وهَذَا لَفْظُ حَدِيثِ أَبِي عَبْدِ اللهِ،وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ عَبْدَانَ فِي رِوَايَتِهِ الرُّبُعَ وَالثُّلُثَيْنِ،وَقَالَ فِي آخِرِهِ،قُلْتُ: أَجْعَلُ دُعَائِي كُلَّهُ صَلَاةً عَلَيْكَ ؟ قَالَ: " إِذًا يَكْفِيكَ اللهُ مَا أهَمَّكَ وَيَغْفِرُ لَكَ " (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:مَا جَلَسَ قَوْمٌ مَجْلِسًا لَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ رَبَّهُمْ،وَيُصَلُّوا عَلَى نَبِيِّهِمْ إِلاَّ كَانَ عَلَيْهِمْ تِرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ،إِنْ شَاءَ آخَذَهُمْ بِهِ،وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُمْ. أخرجه أحمد (3)
أفضل الكلام مع الناس:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} (67) سورة المائدة
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ مُحَمَّداً - صلى الله عليه وسلم - بِأَنْ يُبَلِّغَ النَّاسَ جَمِيعَ مَا أَنْزَلَهُ اللهُ عَلَيْهِ لَيُبَلِّغَهُمْ إيَّاهُ،وَقَدِ امْتَثَلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لأَمْرِ رَبِّهِ .وَيَقُولُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - : فَإِذَا لَمْ تَقُمْ بِمَا أُمِرْتَ بِهِ لاَ تَكُونُ قَدْ بَلْغَتَ رِسَالَةَ رَبِّكَ.ثُمَّ يَقُولُ اللهُ لِرَسُولِهِ:لاَ تَخَفْ مِنْ أنْ يَصِلَ إلَيْكَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ بِأَذًى،فَأَنْتَ فِي حِفْظِ اللهِ وَرِعَايَتِهِ،وَهُوَ يَمْنَعُكَ مِنْهُمْ،وَيَحْفَظُكَ وَيُؤَيِّدُكَ بِنَصْرِهِ.وَاللهُ هُوَ الذِي يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ،وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ،وَهُوَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ إلَى الطَّرِيقِ السَّوِيِّ (4) .
وقال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (33) سورة فصلت .
__________
(1) - سنن النسائي- المكنز - (1305 ) صحيح
(2) - شعب الإيمان - (3 / 85)(1418 ) حسن
(3) - صحيح ابن حبان - (3 / 133) (853) ومسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 674)
(10277) 10282- صحيح
(4) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 737)(1/529)
لا أحد أحسن قولا ممن دعا إلى توحيد الله وعبادته وحده وعمل صالحًا وقال: إنني من المسلمين المنقادين لأمر الله وشرعه. وفي الآية حث على الدعوة إلى الله سبحانه،وبيان فضل العلماء الداعين إليه على بصيرة،وَفْق ما جاء عن رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - . (1)
وقال الله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} (79) سورة آل عمران
مَا يَنْبَغِي لِبَشَرٍ آتَأهُ اللهُ الكِتَابَ وَالحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ أنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ اعْبُدُونِي مِنْ دُونِ اللهِ،وَلَكِنَّ الرَّسُولَ يَقُولُ لِلنَّاسِ:اعْبُدُوا اللهَ،وَكُونُوا أهْلَ عِبَادَةٍ للهِ وَتَقْوىً ( رَبَّانِيِّينَ )،وَكُونُوا فُقَهَاءً تَفْهَمُونَ شَرَائِعَ دِينِهِ،وَتَحْفَظُونَها،وَتَدْرُسُونَ كُتُبَهُ وَتَعْمَلُونَ بِهَا . (2)
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا.أَوَلاَ أَدُلُّكُمْ عَلَى شَىْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلاَمَ بَيْنَكُمْ ».. أخرجه مسلم (3) .
حفظ اللسان عن الباطل:
قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (36) سورة الإسراء .
يَنْهَى اللهُ تَعَالَى العِبَادَ عَنِ القَوْلِ بِلاَ عِلْمٍ،وَبُدُونِ تَثَبُّتٍ،فَعَلَى المُؤْمِنِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنِ الحَدِيثِ فِي أَمْرٍ عَلَى الظَّنِّ وَالشُّبْهَةِ وَالتَّوَهُّمِ.وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ:لاَ تَشْهَدْ إِلاَّ بِمَا رَأَتْ عَيْنَاكَ،وَسَمِعَتُهُ أُذُنَاكَ،وَوَعَاهُ قَلْبُكَ . (4)
وقال الله تعالى:{ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)} [النحل:116 - 117]
وَلاَ تَقُولُوا عَنْ شَيءٍ هَذَا حَرَامٌ،وَهَذا حَلاَلٌ،إِذَا لَمْ يَأْتِكُمْ حِلُّهُ وَتَحْرِيمُهُ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ،فَالَّذِي يُحَلِّلُ وَيُحَرِّمُ هُوَ اللهُ وَحْدَهُ.( وَيَدْخُلُ فِي هَذا ابْتِدَاعِ بِدْعَةٍ لَيْسَ لَهَا مُسْتَنَدٌ شَرْعِيٌّ،أَوْ تَحْلِيلُ شَيءٍ مِمَّا حَرَّمَ اللهُ،أَوْ تَحْرِيمُ شَيءٍ مِمَّا أَحَلَّهُ اللهُ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِّ وَالهَوَى ) .ثُمَّ يَتَوَعَّدُ اللهُ تَعَالَى الذِينَ يَفْتَرُونَ
__________
(1) - التفسير الميسر - (8 / 402)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 373)
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (203 )
(4) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2066)(1/530)
الكَذِبَ عَلَى اللهِ،وَيَقُولُ عَنْهُمْ:إِنَّهُمْ لاَ يُفْلِحُونَ فِي الدُّنْيَا،وَلاَ فِي الآخِرَةِ . (1)
وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات .
يَنْهى اللهُ تَعَالى عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ عَن الظَّنِّ السَّيِّء بإخوانِهِمْ المُؤْمِنينَ،لأنَّ ظَنَّ المُؤْمِنِ السَّوْءَ إِثمٌ،لأنَّ اللهَ نَهَى عَنْ فِعْلِهِ،فَإذا فَعَلَهُ فَهُوَ آثمٌ .ثُمَّ نَهَى اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ عَنْ أن يَتَجَسَّسَ بَعُضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ،كَمَا نَهَاهُمْ عَنْ أنْ يَتَتَبَّعَ بَعْضُهُم عَوْرَاتِ بَعْضٍ،وَعَنْ أنْ يَبْحَث الوَاحِدُ مِنْهُمْ عَنْ سَرَائِرِ أخِيهِ،وَهُوَ يَبْتَغِي بِذِلَكَ فَضْحَهُ،وَكَشْفَ عُيُوبِهِ .
ثُمَّ نَهَاهم عَنْ أنْ يَغْتَابَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً،وَعَنْ أنْ يَذْكُرَ أحَدُهُمْ أخَاهُ بما يَكْرَهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَخَلْقِهِ وَخُلُقِهِ وَأهلِهِ وَمَالِهِ وَزَوْجِهِ وَوَلدِهِ.. ( كَما عَرَّفَ رَسُولُ اللهِ الاغِتْيَابَ ) .
( وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بلِسَانِهِ وَلَم يَدْخُلِ الإِيمانُ قَلْبَهُ:لاَ تَغْتَابُوا المُسْلِمينَ،وَلاَ تَتبَّعُوا عَوْرَاتِهِم فإِنَّ مَنِ تَتَبَّعَ عَوْرَاتِهِمْ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ،وَمَنْ يَتَتَبَّعِ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ في عُقْرِ بَيْتِهِ " ) .
وَشَبَّه تَعَالى اغْتِيَابَ المُؤْمِنِ لأخيِهِ المؤمِنِ بأكْلِهِ لَحمَهُ بَعْدَ موتِهِ،وَقَالَ لِلمُؤمِنِينَ إنَّهم إذا كَانَ أَحَدُهُمْ يَكْرَهُ أكْلَ لَحْمِ أخِيهِ بَعْدَ مَوتِهِ،وَإذا كَانَتْ نَفْسُهُ تَعَافُ ذَلِكَ فَعَلَيهِمْ أنْ يَكْرَهُوا أنْ يَغْتَابُوهُ في حَيَاتِهِ .
وَلِلْغِيبَةِ ثَلاثَةُ وُجُوهٍ:
الغِيبَةُ - وَهِيَ أنْ يَقُولَ الإِنسَانُ في أخيهِ مَا هُوَ فيه مِمَّا يَكْرَهُهُ .
الإٍفْكُ - أنْ يَقُولَ فِيهِ مَا بَلَغَهُ عَنْهُ مِمَّا يَكْرَهُهُ .
البُهْتَانُ - أنْ يَقُولُ فيهِ مَا لَيسَ فيهِ ممّا يَكْرَهُهُ .
ثُمَ حَثَّ اللهُ تَعَالى المُؤْمِنينَ عَلى تَقْوى اللهِ،وَعَلَى تَرْكِ الغِيبَةِ،وَمُرَاقَبِتِهِ تَعَالى في السِّرِّ والعَلنِ،فإذا تَابُوا وانتَهَوا واستَغْفَروا رَبَّهم عَمّا فَرَطَ مِنْهُم،اسْتَجَابَ لَهُم رَبُّهُمْ،فَتَابَ عَلَيِهمْ،لأنَّه تَعَالى كَثيرُ التَّوْبِ عَلَى عِبَادِهِ،كَثِيرُ الرَّحمةِ بِهِمْ . (2)
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لاَ يُلْقِى لَهَا بَالاً،يَرْفَعُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ،وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لاَ يُلْقِى لَهَا بَالاً يَهْوِى بِهَا فِى جَهَنَّمَ »
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2017)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4503)(1/531)
(1) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ ؟ قَالُوا:اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ،قَالَ:ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ،قَالَ:أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ ؟ قَالَ:فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ،وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ.. أخرجه مسلم (2)
وعَنْ حُذَيْفَةَ،أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَجُلًا يَنُمُّ الْحَدِيثَ،فَقَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،يَقُولُ: " لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ " (3)
الصدق وعدم الكذب:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} (119) سورة التوبة
وعَنْ عَبْدِ اللهِ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ،وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ،وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صدِّيقًا،وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ،وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ،وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا ". متفق عليه (4)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ،وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ،وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا،وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ،وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ،وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا." (5)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِى إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِى إِلَى الْجَنَّةِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِى إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِى إِلَى النَّارِ وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا ». (6)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ،وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ،وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ » متفق عليه (7)
ما يباح من الكذب:
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6478 )
(2) - صحيح ابن حبان - (13 / 72) (5759) وصحيح مسلم- المكنز - (6758 )
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (303 )
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (6094) وصحيح مسلم- المكنز - (6803 )
(5) - صحيح ابن حبان - (1 / 509) (274) صحيح
(6) - صحيح مسلم- المكنز - (6805 )
(7) - صحيح البخارى- المكنز - (33 ) وصحيح مسلم- المكنز - (220)(1/532)
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِى حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ أُمَّهُ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِى مُعَيْطٍ وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلِ اللاَّتِى بَايَعْنَ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ يَقُولُ « لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِى يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ وَيَقُولُ خَيْرًا وَيَنْمِى خَيْرًا ». قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِى شَىْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلاَّ فِى ثَلاَثٍ الْحَرْبُ وَالإِصْلاَحُ بَيْنَ النَّاسِ وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا.". متفق عليه (1) .
وعَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي أَسْمَاءُ ابْنَةُ يَزِيدَ الْأَشْعَرِيَّةُ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " كُلُّ الْكَذِبِ يُكْتَبُ عَلَى بَنِي آدَمَ إِلَّا مَنْ كَذَبَ لِامْرَأَتِهِ،أَوْ رَجُلٌ كَذَبَ بَيْنَ امْرَأَيْنِ مُسْلِمَيْنِ يُصْلِحَ بَيْنَهُمَا،وَرَجُلٌ كَذَبَ فِي حَرْبٍ " (2)
قَالَ الطحاوي: فَتَأَمَّلْنَا هَذِهِ الْآثَارَ،فَوَجَدْنَا فِيهَا قَوْلَ مَنْ رَوَيْتُ عَنْهُ مِمَّا أُضِيفَ فِيهَا مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَصْلُحُ لِلْكَذِبِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَوَجَدْنَا اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ قَالَ فِي كِتَابِهِ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } [التوبة: 119] وَوَجَدْنَاهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ قَالَ فِي كِتَابِهِ: { وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } [الحج: 30] فَكَانَ فِيمَا تَلَوْنَا أَمْرُهُ عَزَّ وَجَلَّ لِصَحَابَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْمُؤْمِنِينَ بِهِ أَنْ يَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ،وَهُمْ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَمَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ أَنْبِيَائِهِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ،وَلَمْ يُخَصِّصْ ذَلِكَ بِحَالٍ دُونَ حَالٍ،وَلَا وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ بَلْ عَمَّ بِهِ الْأَحْوَالَ كُلَّهَا وَالْأَوْقَاتِ كُلَّهَا،وَكَذَلِكَ مَا أَمَرَ بِهِ مِنَ اجْتِنَابِهِ فِيهَا هُوَ كَذَلِكَ أَيْضًا عَلَى الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا،وَعَلَى الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبْعَدُ النَّاسِ مِنْ خِلَافِ مَا أَمَرَهُ بِهِ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ،ثُمَّ نَظَرْنَا هَلْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي هَذِهِ الْمَعَانِي سِوَى مَا قَدْ رَوَيْنَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ،فعَنْ أُمِّ كُلْثُومِ ابْنَةِ عُقْبَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ،فَيَقُولُ خَيْرًا أَوْ يَنْمِي خَيْرًا "
وعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أُمَّهُ أُمَّ كُلْثُومِ ابْنَةَ عُقْبَةَ وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ اللَّاتِي بَايَعْنَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهَا سَمِعَتِ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يَنْمِي خَيْرًا،أَوْ يَقُولُ خَيْرًا لِيُصْلِحَ بَيْنَ النَّاسِ " وَكَانَ فِي هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ نَفْيُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْكَذِبَ عَمَّنْ يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ،فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا،وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي بِمَعَارِيضِ الْكَلَامِ مِمَّا لَيْسَ قَائِلُهُ كَاذِبًا،وعَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،أَنَّ أُمَّ كُلْثُومِ ابْنَةَ عُقْبَةَ أَخْبَرَتْهُ،أَنَّهَا،سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ،فَيَقُولُ خَيْرًا أَوْ يَنْمِي خَيْرًا "،وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ: إِنَّهُ كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: فِي الْحَرْبِ،وَإِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ،وَحَدِيثِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثِ الْمَرْأَةِ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (6799 ) وصحيح ابن حبان - (13 / 40) (5733) وصحيح البخارى- المكنز - (2692 )
(2) - شرح مشكل الآثار - (7 / 357) (2915 ) حسن(1/533)
زَوْجَهَا"
فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ :إِنَّ الَّذِي فِيهِ حِكَايَةٌ عَنْ بَعْضِ رُوَاتِهِ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ رَخَّصَ فِيهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - , وَلَيْسَ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: لَا بَأْسَ بِالْكَذِبِ فِي تِلْكَ الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَخَّصَ فِي ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْأَشْيَاءِ،وَكَانَ الَّذِي فِيهِ مِنْ ذِكْرِ الْكَذِبِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَا عَدَّهُ قَائِلُ ذَلِكَ مِنْ رُوَاةِ هَذَا الْحَدِيثِ كَذِبًا لَيْسَ كَذِبًا فِي الْحَقِيقَةِ،وَإِنَّمَا هُوَ لِظَنِّهِ ذَلِكَ.وَفِي ذَلِكَ مَا قَدْ وَقَفْنَا بِهِ عَلَى قَوْلِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي ذَلِكَ يُوَافِقُ ذَلِكَ الْبَابَ،فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَهَلْ يُبَاحُ التَّعْرِيضُ فِي مِثْلِ هَذَا حَتَّى يَكُونَ الْمُخَاطَبُ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ خِلَافُ حَقِيقَةِ كَلَامِ مَنْ يُخَاطِبُهُ ؟ فَكَانَ جَوَابُنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا بَأْسَ بِهِ.قَالَ: وَهُوَ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ صَاحِبِهِ لَمَّا قَالَ لَهُ { لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ } [الكهف: 73] لَيْسَ لِأَنَّهُ نَسِيَ،وَلَكِنَّهُ عَلَى مَعَارِيضِ الْكَلَامِ،وَمِثْلُ ذَلِكَ مَا قَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ قَوْلِهِ: الْحَرْبُ خُدْعَةٌ،وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي الْحَرْبِ عَقَلْنَا بِهِ أَنَّ الْمُرَخَّصَ فِيهِ فِي الْحَرْبِ فِي الْآثَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي هَذَا الْبَابِ هُوَ هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ لَا مَا سِوَاهُ،وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي الْحَرْبِ كَانَ الَّذِي يُصْلِحُ بِهِ الرَّجُلُ بَيْنَ النَّاسِ،وَالَّذِي يُصْلِحُ بِهِ قَلْبَ زَوْجَتِهِ،وَالَّذِي تُصْلِحُ بِهِ الزَّوْجَةُ قَلْبَ زَوْجِهَا هُوَ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا لَا الْكَذِبَ،وَقَدْ حُقِّقَ ذَلِكَ أَيْضًا فِي حَدِيثِ أُمِّ كُلْثُومٍ،وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ إِنَّهُ كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ،أَيْ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ إِنَّهُ كَذِبٌ،وَلَيْسَ بِكَذِبٍ،وَهَذِهِ الْمَعَانِي هِيَ الْأَوْلَى بِأَهْلِ الْعِلْمِ أَنْ يَحْمِلُوا أُمُورَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهَا،وَفِيمَا رَوَيْنَا مِنْ أَحَادِيثِ أُمِّ كُلْثُومٍ هَذِهِ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي يَمْشِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ،فَيَنْمِي خَيْرًا أَوْ يَقُولُهُ،وَفِي ذَلِكَ نَفْيُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَمَّنْ كَانَتْ تِلْكَ حَالُهُ الْكَذِبَ،وَإِذَا انْتَفَى عَنْهُ بِذَلِكَ الْكَذِبُ انْتَفَى عَمَّنْ كَانَ مِنْهُ الْكَذِبُ أَيْضًا،وَثَبَتَ أَنَّ الَّذِي كَانَ فِي ذَلِكَ هُوَ الْمَعَارِيضَ لَا مَا سِوَاهَا ."
اجتناب الفحش واللعن:
1قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (11) سورة الحجرات
إن المجتمع الفاضل الذي يقيمه الإسلام بهدى القرآن مجتمع له أدب رفيع،ولكل فرد فيه كرامته التي لا تمس. وهي من كرامة المجموع. ولمز أي فرد هو لمز لذات النفس،لأن الجماعة كلها وحدة،كرامتها واحدة.
والقرآن في هذه الآية يهتف للمؤمنين بذلك النداء الحبيب:«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا». وينهاهم أن يسخر قوم(1/534)
بقوم،أي رجال برجال،فلعلهم خير منهم عند اللّه،أو أن يسخر نساء من نساء فلعلهن خير منهن في ميزان اللّه.
وفي التعبير إيحاء خفي بأن القيم الظاهرة التي يراها الرجال في أنفسهم ويراها النساء في أنفسهن ليست هي القيم الحقيقية،التي يوزن بها الناس. فهناك قيم أخرى،قد تكون خافية عليهم،يعلمها اللّه،ويزن بها العباد.وقد يسخر الرجل الغني من الرجل الفقير. والرجل القوي من الرجل الضعيف،والرجل السوي من الرجل المؤوف. وقد يسخر الذكي الماهر من الساذج الخام. وقد يسخر ذو الأولاد من العقيم. وذو العصبية من اليتيم ...
وقد تسخر الجميلة من القبيحة،والشابة من العجوز،والمعتدلة من المشوهة،والغنية من الفقيرة .. ولكن هذه وأمثالها من قيم الأرض ليست هي المقياس،فميزان اللّه يرفع ويخفض بغير هذه الموازين! ولكن القرآن لا يكتفي بهذا الإيحاء،بل يستجيش عاطفة الأخوة الإيمانية،ويذكر الذين آمنوا بأنهم نفس واحدة من يلمزها فقد لمزها:«وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ» .. واللمز:العيب. ولكن للفظة جرسا وظلا فكأنما هي وخزة حسية لا عيبة معنوية! ومن السخرية واللمز التنابز بالألقاب التي يكرهها أصحابها،ويحسون فيها سخرية وعيبا. ومن حق المؤمن على المؤمن ألا يناديه بلقب يكرهه ويزري به - ومن أدب المؤمن ألا يؤذي أخاه بمثل هذا. وقد غير رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أسماء وألقابا كانت في الجاهلية لأصحابها،أحس فيها بحسه المرهف،وقلبه الكريم،بما يزري بأصحابها،أو يصفهم بوصف ذميم. والآية بعد الإيحاء بالقيم الحقيقة في ميزان اللّه،وبعد استجاشة شعور الأخوة،بل شعور الاندماج في نفس واحدة،تستثير معنى الإيمان،وتحذر المؤمنين من فقدان هذا الوصف الكريم،والفسوق عنه والانحراف بالسخرية واللمز والتنابز:«بِئْسَ الِاسْمُ:الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ». فهو شيء يشبه الارتداد عن الإيمان! وتهدد باعتبار هذا ظلما،والظلم أحد التعبيرات عن الشرك:«وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» .. وبذلك تضع قواعد الأدب النفسي لذلك المجتمع الفاضل الكريم. (1)
وقال الله تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (19) سورة لقمان
وَامشِ مُقْتَصِداًَ فِي مَشْيِكَ،عَدْلاً وَسَطاً بَيْنَ البَطِيءِ المُتَثَبِّطِ،والسَّريعِ المُفْرِطِ،وَلا تُبَالِغْ فِي الكَلاَمِ،وَلا تَرْفَعَ صَوْتَكَ فِيمَا لا فَائِدَةَ مِنْهُ،وَحِينَما لاَ تَكُونَ هُنَاكَ حَاجَةٌ إِلى رَفْعِ الصَّوتِ،فَذَلِكَ يَكُونُ أَوْقَرَ لِلمُتَكَلِّمِ،وأَبْسَطَ لِنَفْسِ السَّامِعِ.ثُمَّ قَالَ لُقْمَانُ لاْبِنِهِ مُنَفِّراً إِيَّاهُ مِنْ رَفْعِ صَوْتِهِ حِينَما لاَ يَكُونُ هُنَاكَ حَاجَةً لِذلِك:إِنَّ الحِمَارَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ عِندَ النَّهِيقِ،ولكِنَّ الصَّوْتَ الذِي يَصْدُرُ عَنْهُ قَبيحٌ مُنْكَرٌ،فَلاَ يَلِيقُ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (6 / 3344)(1/535)
بالإِنسَانِ العَاقِلِ أَنْ يَفْعَلَ فِعْلَ الحِمَارِ . (1)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - رضى الله عنهما - قَالَ لَمْ يَكُنِ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَاحِشًا وَلاَ مُتَفَحِّشًا وَكَانَ يَقُولُ « إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلاَقًا » (2)
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ،قَالَ:كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ يُرْسِلُ إِلَى أُمِّ الدَّرْدَاءِ،قَالَ:وَرُبَّمَا بَاتَتْ عِنْدَهُ،قَالَ:فَدَعَا عَبْدُ الْمَلِكِ خَادِمًا فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ،فَقَالَ:اللَّهُمَّ الْعَنْهُ،فَقَالَتْ:لاَ تَلْعَنْهُ،فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:إِنَّ اللَّعَّانَيْنَ لاَ يَكُونُونَ شُهَدَاءَ،وَلاَ شُفَعَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (3)
وعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ،قَالَ:كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ،يُرْسِلُ إِلَى أُمِّ الدَّرْدَاءِ،فَتَبِيتُ عِنْدَ نِسَائِهِ،وَيَسْأَلُهَا عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:فَقَامَ لَيْلَةً فَدَعَا خَادِمَهُ،فَأَبْطَأَتْ عَلَيْهِ فَلَعَنَهَا فَقَالَتْ:لاَ تَلْعَنْ فَإِنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ حَدَّثَنِي أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:إِنَّ اللَّعَّانِينَ لاَ يَكُونُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُهَدَاءَ،وَلاَ شُفَعَاءَ. " (4)
قلة الكلام وعدم الخوض في الباطل:
قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (68) سورة الأنعام
كَانَ المُشْرِكُونَ يَجْلِسُونَ إلى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّونَ أَنْ يَسْمَعُوا مِنْهُ،فَإِذَا سَمِعُوا اسْتَهْزَؤُوا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فَجَعَلَ النَّبِيُّ إذَا اسْتَهْزَؤُوا قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِمْ فَحَذِرُوا،وَقَالُوا لاَ تَسْتَهْزِئُوا فَيَقُومُ.وَالمُخَاطَبُ بِهَذِهِ الآيَةِ الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - وَالمُؤْمِنُونَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ،فَإِذَا رَأَى المُؤْمِنُ الذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ اللهِ المُنْزَلَةِ،مِنَ الكُفَّارِ المُكَذِّبِينَ،وَأَهْلَ الأَهْوَاءِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُدَّ عَنْهُمْ بِوَجْهِهِ،وَأَنْ لاَ يَجْلِسَ مَعَهُمْ حَتَّى يَأْخُذُوا فِي حَدِيثٍ آخَرَ غَيْرَ حَدِيثِ الكُفْرِ وَالاسْتِهْزَاءِ بِآيَاتِ اللهِ أَوْ تَأْوِيلِهَا بِالبَاطِلِ مِنْ جَانِبِ أَهْلِ الأَهْوَاءِ،وَإِذَا أَنْسَاكَ الشَّيْطَانُ،أَيُّهَا المُؤْمِنُ،هَذَا النَّهْيَ،وَقَعَدْتَ مَعَهُمْ،وَهُمْ عَلَى تِلْكَ الحَالِ،ثُمَّ ذَكَرْتَ فَقُمْ عَنْهُمْ،وَلاَ تَقْعُدْ مَعَ هؤُلاَءِ الظَّالِمِينَ لأَنْفُسِهِمْ بِالتَّكْذِيبِ بِآيَاتِ اللهِ،وَالاسْتِهْزَاءِ بِهَا . (5)
عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ،وَوَأْدَ الْبَنَاتِ،وَمَنَعَ وَهَاتِ،وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ،وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ،وَإِضَاعَةَ الْمَالِ ».متفق عليه (6) .
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 3369)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (3559 )
(3) - صحيح ابن حبان - (13 / 56)(5746) وصحيح مسلم- المكنز - (6777 ) مختصراً
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 893)(27529) 28079- صحيح
(5) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 858)
(6) - صحيح البخارى- المكنز - (2408 ) وصحيح مسلم- المكنز - (4580)(1/536)
الصمت وعدم الكلام إلا بخير:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ،فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ،وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ،فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ،وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ،فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ. ». متفق عليه (1)
وعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ،وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ،وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصمُتْ " (2)
عدم مقاطعة الحديث:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:بَيْنَمَا النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِى مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِىٌّ فَقَالَ مَتَى السَّاعَةُ فَمَضَى رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُحَدِّثُ،فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ سَمِعَ مَا قَالَ،فَكَرِهَ مَا قَالَ،وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ لَمْ يَسْمَعْ،حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ أَيْنَ - أُرَاهُ - السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ.قَالَ هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ.قَالَ فَإِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ.قَالَ كَيْفَ إِضَاعَتُهَا قَالَ إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَة.. أخرجه البخاري (3) .
عدم إطالة الحديث:
عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُحَدِّثُ حَدِيثًا لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لأَحْصَاهُ .. (4)
وعَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: خَطَبَنَا عَمَّارٌ،فَأَبْلَغْ وَأَوْجَزْ،فَلَمَّا نَزَلَ قُلْنَا: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ،لَقَدْ أَبَلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ،فَلَوْ كُنْتَ نَفَّسْتَ،فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ،وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ،فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ وَأَقْصِرُوا الْخُطْبَةَ،فَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا ". أخرجه مسلم (5)
عدم الإكثار من الأسئلة:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (101) سورة المائدة
يُؤَدِّبُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنِينَ،وَيَنْهَاهُمْ عَنْ أنْ يَسْألُوا عَنْ أشْيَاءَ لاَ فَائِدَةَ لَهُمْ فِي السُؤَالِ عَنْهَا،وَعَنِ
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6018 ) وصحيح مسلم- المكنز - (182) وصحيح ابن حبان - (2 / 273)(516)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (85)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (59 )
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (3567 )
(5) - صحيح مسلم- المكنز - (2046 )(1/537)
التَّنْقِيبِ عَنْ خَفَايَاهَا،لأَنَّها إنْ ظَهَرَتْ لَهُمْ تِلْكَ الأشْيَاءُ رُبَّمَا سَاءَتْهُمْ،وَشَقَّ عَلَيْهِمْ سَمَاعُهَا .وَيَقُولُ تَعَالَى:إذَا سَألْتُمْ عَنْ هَذِهِ الأشْيَاءِ التِي نُهِيتُمْ عَنِ السُّؤَالِ عَنْها،حِينَ يَنْزِلُ القُرآنُ فِي شَأنِهَا أوْ حُكْمِهَا،أوْ لأجْلِ فَهْمِ مَا نَزَلَ إلَيكُمْ،فَإنَّ اللهَ يُبْدِيهِ لَكُمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ .وَقِيلَ إنَّ المَقْصُودَ بِقَولِهِ تَعَالَى:{ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ } هُوَ لاَ تَسْألُوا عَنْ أَشْيَاءَ تَسْتَأنِفُونَ السُّؤَالَ عَنْها،فَلَعَلَّهُ يَنْزِلُ بِسَبَبِ سُؤَالِكُمْ تَشْدِيدٌ أَوْ تَضْيِيقٌ . (1)
وعَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ سُئِلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا،فَلَمَّا أُكْثِرَ عَلَيْهِ غَضِبَ،ثُمَّ قَالَ لِلنَّاسِ « سَلُونِى عَمَّا شِئْتُمْ ».قَالَ رَجُلٌ مَنْ أَبِى قَالَ « أَبُوكَ حُذَافَةُ ».فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ مَنْ أَبِى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ « أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَى شَيْبَةَ ».فَلَمَّا رَأَى عُمَرُ مَا فِى وَجْهِهِ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،إِنَّا نَتُوبُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . (2)
وعَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ،وَوَأْدَ الْبَنَاتِ،وَمَنَعَ وَهَاتِ،وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ،وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ،وَإِضَاعَةَ الْمَالِ ».متفق عليه (3)
الجهر عند وعظ الناس:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فِى سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا،فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلاَةُ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ،فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا،فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ « وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ ».مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا . (4)
وعَنْ جَابِرٍ،قَالَ:كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ،وَعَلاَ صَوْتُهُ،وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ،حَتَّى كَأَنَّهُ نَذِيرُ جَيْشٍ،يَقُولُ:صَبَّحَكُمْ وَمَسَّاكُمْ،وَيَقُولُ:بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةِ كَهَاتَيْنِ يُفَرِّقُ بَيْنَ السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَيَقُولُ:أَمَّا بَعْدُ،فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ،وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ،وَإِنَّ شَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا،وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ،ثُمَّ يَقُولُ:أَنَا أَوْلَى بِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ نَفْسِهِ،مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلأَهْلِهِ،وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيْعَةً فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ." أخرجه مسلم (5) .
تكرار الكلام ليُفهم عنه:
عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ كَانَ إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَعَادَهَا ثَلاَثًا حَتَّى تُفْهَمَ عَنْهُ،وَإِذَا أَتَى عَلَى قَوْمٍ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 771)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (92 )
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (2408 ) وصحيح مسلم- المكنز - (4580)
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (60 ) -أرهق : أخر
(5) - صحيح مسلم- المكنز - (2042) وصحيح ابن حبان - (1 / 186)(10)(1/538)
فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلاَثًا .. أخرجه البخاري (1) .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ:إِذَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ،أَعَادَهَا ثَلاثًا لِتُعْقَلَ عَنْهُ" (2)
وعَنْ عُرْوَةَ قَالَ:كَانَ ابُو هُرَيْرَةَ يُحَدِّثُ وَيَقُولُ:اسْمَعِي يَارَبَّةَ الْحُجْرَةِ اسْمَعِي يَارَبَّةَ الْحُجْرَةِ.وعَائِشَةُ تُصَلِّي.فَلَمَّا قَضَتْ صَلاتَهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ:الا تسْمَعُ إِلَى هَذَا وَمَقَالَتِهِ انِفًا ؟
إِنَّمَا كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُحَدِّثُ حَدِيثًا،لَوْ عَدَّهُ الْعَادُّ لاحْصَاهُ. (3)
وعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ - رضى الله عنه - قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ».ثَلاَثًا.قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ.قَالَ « الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ،وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ».وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ « أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ ».قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ.متفق عليه (4) .
مخاطبة الناس بالكلام اللين الحسن:
قال الله تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} (53) سورة الإسراء
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ الكَرِيمَ بِأَنْ يَنْصَحَ المُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَقُولُوا فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ،وَمُحَاوَرَتِهِم الكَلاَمِيَّةِ،العِبَارَاتِ الأَحْسَنِ،وَالكَلِمَاتِ الأَطْيَبِ،فَإِنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ نَزَعَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمْ،وَأَوْقَعَ بَيْنَهُمُ الشَّرَّ وَالمُخَاصَمَةَ،وَالعَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ،فَهُوَ عَدٌّو لِذُرِّيَّةِ آدَمَ،ظَاهِرُ العَدَاوَةِ سَافِرُهَا . (5)
وقال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ} (83) سورة البقرة
يُذَكِّرُ اللهُ تَعَالَى بَني إَسْرَائِيلَ بِأَوَامِرِهِ إِلَيهِمْ،وَبِالمِيثَاقِ الذِي أَخَذَهُ عَلَيهِمْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى وَغَيرِهِ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ أَلاَّ يَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ وَحْدَهُ،لا شَرِيكَ لَهُ،وَأَلاَّ يُشْرِكُوا بِهِ شَيئاً،وَأَنْ يُحْسِنُوا مُعَامَلَةَ الوَالِدَينِ،وَأَنْ يُحسِنُوا إِلَى ذَوِي قُربَاهُمْ،وَإِلَى اليَتَامَى الذِين مَاتَ آبَاؤُهُمْ،وإِلى المَسَاكِينِ الذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَعِيَالِهِمْ،وَأَنْ يُحْسِنُوا مُعَامَلَةَ النَّاسِ وَمُعَاشَرَتَهُمْ،وَأَنْ يَقُولُوا لَهُمْ كَلِمَاتٍ طَيِّبَاتٍ (
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (95 )
(2) - المستدرك للحاكم (7716) صحيح
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (7701 )
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (2654) وصحيح مسلم- المكنز -(269)
(5) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2083)(1/539)
وَيدخُلُ فِي ذلِكَ الأَمرُ بِالمَعْروفِ والنَّهيُ عَنْ المُنْكَرِ ) وَأَنْ يُقِيموا الصَّلاَةَ،وَأَنْ يُؤَدُّوا الزَّكَاةَ.وَلكِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَوَلَّوْا عَنْ ذلِكَ،وَأَعْرَضُوا عَنْهُ عَنْ عَمْدٍ،بَعْدَ العِلْمِ بِهِ،وَلَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ بِأَمْرِ اللهِ إِلاَّ قَلِيلُونَ،أَقَامُوا الشَّرِيعَةَ عَلَى وَجْهِهَا الصَّحِيحِ فِي زَمَنِ مُوسَى وَبَعْدَهُ،وَدَخَلُوا فِي الإِسْلامِ حِينَمَا أَدْرَكُوهُ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلاَّمٍ وَثَعْلَبَةَ بْنِ سعيدٍ . (1)
وقال الله تعالى: { اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46)} [طه:42 - 46]
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ هَارُونَ مُؤَيَّدَيْنِ بِمُعْجِزَاتِي،وَحُجَجِي،وَبَرَاهِينِي الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِكُمَا،إِلَى فِرْعَوْنَ،وَلاَ تَفْتُرا عَنْ ذِكْرِي عِنْدَ لِقَائِكُمَا إِيَّاهُ،لِيَكُونَ ذَلِكَ عَوْناً لَكُمَا،وَقُوَّةً وَسُلْطَاناً كَاسِراً لَهُ،وَلاَ تَتَهَاوَنَا فِي دَعْوَتِهِ وَتَبْلِيغِهِ مَا أَرْسَلْتُكُمَا بِهِ إِلَيْهِ .اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ فَإِنَّهُ عَتَا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ،وَتَمَرَّدَ وَتَجَبَّرَ عَلَى اللهِ وَعَصَاهُ .وَادْعُوَاهُ بِرِفْقٍ وَلِينٍ وَحُسْنَى إِلَى عِبَادَةِ رَبِّهِ،وَتَرْكِ العُتُوِّ،وَالتَّجَبُّرِ وَالاسْتِعْلاَءِ عَلَى خَلْقِ اللهِ،لَعَلَّ الكَلاَمَ الرَّقِيقَ اللَّيِّنِ يُؤَثِّرُ فِي نَفْسِهِ فَيَرْجِعَ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الضَّلاَلِ،وَيَتَذَكَّرُ آيَاتِ اللهِ وَيَخْشَى لِقَاءَهُ وَعَذَابَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ،فَيَرْتَدِعَ عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ الغَيِّ وَالضَّلاَلِ .فَقَالَ هَارُونَ وَمُوسَى،عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ:يَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَبْطِشَ بِنَا فِرْعَوْنُ إِنْ نَحْنُ دَعَوْنَاهُ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ،وَالكَفِّ عَنِ العُتُوِّ وَالطُّغْيَانِ،وَنَخْشَى أَنْ يُعَجِّلَ لَنَا بِالعُقُوبَةِ،أَوْ أَنْ يَعْتَدِي عَلَيْنَا.قَالَ اللهُ تَعَالَى:لاَ تَخَافَا فَإِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ كَلاَمَكُمَا وَكَلاَمَهُ،وَأَرَى مَكَانَكُمَا وَمَكَانَهُ،وَلاَ يَخْفَى عَلَيِّ مِنْ أَمْرِكُمْ شَيءٌ،وَاعْلَمَا أَنَّ نَاصِيَتَهُ بِيَدِي،فَلاَ يَتَكَلَّمُ،وَلاَ يَتَنَفَّسُ،وَلاَ يَبْطِشُ إِلاَّ بِإِذْنِي،وَأَنْتُمَا فِي حِفْظِي وَرِعَايَتِي . (2)
اذهب أنت وأخوك مزودين بآياتي وقد شهد منها آية العصا وآية اليد - ولا تنيا في ذكري فهو عدتكما وسلاحكما وسندكما الذي تأويان منه إلى ركن شديد .. اذهبا إلى فرعون. وقد حفظتك من شره من قبل.وأنت طفل وقد قذفت في التابوت،فقذف التابوت في اليم،فألقاه اليم بالساحل،فلم تضرك هذه الخشونة،ولم تؤذك هذه المخاوف. فالآن أنت معد مهيأ،ومعك أخوك. فلا عليك وقد نجوت مما هو أشد،في ظروف أسوأ وأعنف.اذهبا إلى فرعون فقد طغى وتجبر وعتا «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً» فالقول اللين لا يثير العزة بالإثم ولا يهيج الكبرياء الزائف الذي يعيش به الطغاة. ومن شأنه أن يوقظ القلب فيتذكر ويخشى عاقبة الطغيان.اذهبا إليه غير يائسين من هدايته،راجيين أن يتذكر ويخشى. فالداعية الذي ييأس من اهتداء أحد بدعوته لا يبلغها بحرارة،ولا يثبت عليها في وجه الجحود
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 90)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2391)(1/540)
والإنكار.وإن اللّه ليعلم ما يكون من فرعون. ولكن الأخذ بالأسباب في الدعوات وغيرها لا بد منه. واللّه يحاسب الناس على ما يقع منهم بعد أن يقع في عالمهم. وهو عالم بأنه سيكون. فعلمه تعالى بمستقبل الحوادث كعلمه بالحاضر منها والماضي في درجة سواء.وإلى هنا كان الخطاب لموسى - عليه السلام - وكان المشهد هو مشهد المناجاة في الفلاة. وهنا يطوي السياق المسافات والأبعاد والأزمان،فإذا هارون مع موسى. وإذا هما معا يكشفان لربهما عن خوفهما من مواجهة فرعون،ومن التسرع في أذاه،ومن طغيانه إذا دعواه :«قالا:رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى.قالَ:لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى.فَأْتِياهُ فَقُولا:إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ. قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ. وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى.إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى».وهارون لم يكن مع موسى قطعا في موقف المناجاة الطويل - الذي تفضل المنعم فيه على عبده،فأطال له فيه النجاء،وبسط له في القول،وأوسع له في السؤال والجواب - فردهما معا بقولهما:«إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى » لم يكن في موقف المناجاة. إنما هو السياق القرآني يطوي الزمان والمكان،ويترك فجوات بين مشاهد القصص،تعلم من السياق ليصل مباشرة إلى المواقف الحية الموحية ذات الأثر في سير القصص وفي وجدان الناس.ولقد اجتمع موسى وهارون عليهما السلام إذن بعد انصراف موسى من موقف المناجاة بجانب الطور.وأوحى اللّه إلى هارون بمشاركة أخيه في دعوة فرعون ثم هاهما ذان يتوجهان إلى ربهما بمخاوفهما:«قالا:رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى » ..والفرط هو التسرع بالأذى للوهلة الأولى،والطغيان أشمل من التسرع وأشمل من الأذى. وفرعون الجبار يومئذ لا يتحرج من أحدهما أو كليهما. هنا يجيئهما الرد الحاسم الذي لا خوف بعده،ولا خشية معه:«قالَ:لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى » ..إنني معكما .. إنه القوي الجبار الكبير المتعال. إنه اللّه القاهر فوق عباده. إنه موجد الأكوان والحيوات والأفراد والأشياء بقولة:كن. ولا زيادة .. إنه معهما .. وكان هذا الإجمال يكفي. ولكنه يزيدهما طمأنينة،ولمسا بالحس للمعونة:«أَسْمَعُ وَأَرى ..» فما يكون فرعون وما يملك وما يصنع حين يفرط أو يطغى؟ واللّه معهما يسمع ويرى؟ (1)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2336)(1/541)
-48- آداب الدعاء
فضل الدعاء:
قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (186) سورة البقرة
وإذا سألك -أيها النبي- عبادي عني فقل لهم: إني قريب منهم،أُجيب دعوة الداعي إذا دعاني،فليطيعوني فيما أمرتهم به ونهيتهم عنه،وليؤمنوا بي،لعلهم يهتدون إلى مصالح دينهم ودنياهم. وفي هذه الآية إخبار منه سبحانه عن قربه من عباده،القرب اللائق بجلاله. (1)
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ،قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ " ثُمَّ قَرَأَ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (60) سورة غافر (2) .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ ». (3)
الإكثار من الأعمال الصالحة:
قال الله تعالى :{ وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)} [الأنبياء:83 - 90]
يذْكُرُ اللهُ تَعالى مَا أَصابَ عَبْدَهُ أَيُّوبَ عَليْه السلامُ،مِنَ البَلاءِ في مَالِهِ وولَدِهِ وجَسَدِهِ،ولِبثَ فِي ذلِكَ البلاءِ مُدَّةً طَويلةً فَنادَى رَبَّه:يَا رَبِّ لَقَدْ مَسَّنِي الضُّرُّ فَارْحَمْنِي،وأفِضْ عَليَّ مِنْ جُودِكَ وَرَحْمَتِكَ مَا يُسْعِفُنِي،ويَدْفَعُ الضُّرُّ عَنِّي،وأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ .وإِنَّ إسْمَاعيلَ وإدريسَ وذا الكفْلِ،كلَّهُم مِنَ
__________
(1) - التفسير الميسر - (1 / 200)
(2) - شعب الإيمان - (2 / 362)(1070 ) وصحيح ابن حبان - (3 / 172)(890) صحيح
(3) - سنن الترمذى- المكنز - (3698 ) حسن(1/542)
الرُّسُل الكِرَامِ،الذين صَبَروا على ما ابْتَلاهُمْ بِهِ اللهُ،وأَخْبتُوا لِرَبِّهم،فَنَالُوا رِضَاهُ .يَذْكُرُ اللهُ تَعالى قِصَّةَ يونُسَ عليهِ السلامُ ( وهوَ ذو النُّونِ أيْ صاحبُ الحُوت )،وكانَ اللهُ قَدْ بَعَثَهُ نَبِياً إلى أَهْل نينَوَى فَدَعَاهُمْ إلى عِبَادةِ اللهِ وَحدَهُ فَأَبَوْا،وَتَمَادَوْا في كُفْرِهم،فَخَرَجَ يُونُسُ مِنْ بَيْنِهِم مُغَاضِباً لَهُمْ،وأَتْذَرَهُمْ بأنَّ العَذَابَ وَاقِعٌُ بِهِمْ بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّام،فَلما تَحَقَّقُوا مِنْ ذَلِكَ،وَعِلمُوا أنَّ النبيَّ لا يَكْذِبُ،خًَرَجُوا مِنَ البلدِ بأطْفَالِهم وأنْعامِهم ومَوَاشِيهِم،ثُمَّ تَضَرَّعُوا إلى اللهِ تَعَالى،وَجأَرُوا إليهِ بالدُّعَاءِ،فَرَفَعَ اللهُ عَنْهُمْ العَذابَ،وصَرَفَهُ عَنْهُم،كَمَا جَاءَ في آيةٍ أُخْرى .أمَّا يونسُ فإنَّه تَرَكَ قَوْمَه مُغَاضِباً لَهُم،وذَهَبَ فَرَكِبَ في سَفِينَةٍ فَاضْطَرَبَتْ وَخافَ مَنْ فِيها مِنْ غَرَقِها،فاقْتَرعُوا على رَجُل يُلقُونهُ مِنْ بينِهم في الماءِ يَتَخفَّفُونَ مِنهُ،فوقَعَتِ القُرْعَةُ على يُونُسَ،فَأَبَوْا أنْ يُلْقُوهُ،ثُمَّ أعادُوا القُرْعَةَ فَوَقَعَتْ علَيْهِ،فَأَبَوْا،ثمَّ أعَادُوا للمرةِ الثّالثةِ فَوَقَعَتْ عليه،فَتَجَرَّدَ يُونُسُ مِنْ ثِيَابِهِ،وأَلْقَى بِنَفْسِهِ في المَاءِ،فالْتَقَمَهُ الحُوتُ،ولِذَلِكَ سُمِّيَ بصَاحِبِ الحُوتِ ( ذُو النُّونِ ) .وكانَ يُونسُ يَظُنُّ أنَّ الله لَنْ يُضَيِّقَ عليْهِ في بَطْنِ الحُوتِ،( أو أنهُ تَعالى لنْ يَقْدِرَ عليه أَنْ يَكُونَ فِي بَطْن الحُوتِ ) فَكَانَ في بَطْنِ الحوتِ في ظُلْمَةٍ،وفي أعْمَاقِ البَحْرِ في ظُلمَةٍ،وفي ظَلاَمِ الليلِ في ظُلْمَةٍ،ولذلك قَالَ تَعالى:{ فنادى فِي الظلمات } ودَعاَ رَبَّهُ قائلاً:لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَك إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ.يُخْبِرُ اللهُ تعالى عَنْ زَكَريَّا عَليهِ السَّلامُ حينما تَقَدَّمَتْ بِهِ السِّنُ،وطَلبَ مِنَ اللهِ أَنْ يَهَبَهُ وَلَداً يَرثُ النُبُوَّةَ من بَعْدِهِ،فَنَادَى رَبَّه نِدَاءً خَفِيّاً عَنْ قَوْمِهِ،وقَالَ:رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً بِلا وَلَدٍ،وَلاَ وَارِثٍ،يَقُومُ بَعْدِي في النَّاسِ،وأَنْتَ يَا رَبِّ خَيْرُ مَنْ وَرِثَ العِبَادَ ( وفي هذا الدُّعَاءِ إشَارَةٌ إِلى قِيَامِ السَّاعةِ،وهَلاَكِ البشَرِ جَمِيعاً،وَبَقَاءِ اللهِ وَحْدَهُ سُبْحَانَهُ . (1)
فاستجبنا له دعاءه ووهبنا له على الكبر ابنه يحيى،وجعلنا زوجته صالحة في أخلاقها وصالحة للحمل والولادة بعد أن كانت عاقرًا،إنهم كانوا يبادرون إلى كل خير،ويدعوننا راغبين فيما عندنا،خائفين من عقوبتنا،وكانوا لنا خاضعين متواضعين. (2)
إن هذه أمتكم. أمة الأنبياء. أمة واحدة. تدين بعقيدة واحدة. وتنهج نهجا واحدا. هو الاتجاه إلى اللّه دون سواه.أمة واحدة في الأرض،ورب واحد في السماء. لا إله غيره ولا معبود إلا إياه.أمة واحدة وفق سنة واحدة،تشهد بالإرادة الواحدة في الأرض والسماء. (3)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلاَ يَقُولُ:مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا،فَقَدْ آذَانِي،وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ،وَمَا يَزَالُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ،فَإِذَا
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2484)
(2) - التفسير الميسر - (6 / 6)
(3) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2395)(1/543)
أَحْبَبْتُهُ،كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ،وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ،وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا،وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا فَإِنْ سَأَلَنِي عَبْدِي،أَعْطَيْتُهُ،وَإِنِ اسْتَعَاذَنِي،أَعَذْتُهُ،وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ،يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ. أخرجه البخاري (1) .
التوسل بالأعمال الصالحة عند الدعاء:
قال الله تعالى: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (53) سورة آل عمران
وَتَضَرَّعَ الحَوَارِيُّونَ إلى رَبِّهِمْ قَائِلِينَ:رَبَّنا آمَنَّا بِكَ وَبِنَبِّيكَ،وَبِمَا أَنْزَلْتَ عَلَيهِ،وَاتَّبَعْنا رَسُولَكَ وَصَدَّقْنَاهُ،وَامْتَثَلْنَا لِمَا أتَى بِهِ،فَاكْتُبْنَا وَاجْعَلْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ لِرَسُولِكَ بِالتَّبلِيغِ،وَعََلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِالكُُفْرِ وَالعِنَادِ وَالجُحُودِ . (2)
وقال الله تعالى: {رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ} (193) سورة آل عمران
بَعْدَ أَنْ عَرَفُوا اللهَ حَقَّ المَعْرِفَةِ بِالذِّكْرِ وَالفِكْرِ،عَبَّرُوا عَنْ وُصُولِ دَعْوَةِ الرَّسُولِ إلَيْهِمْ،وَاسْتِجَابَتِهِمْ لِدَعْوَتِهِ سِرَاعاً،فَقَالُوا:رَبَّنَا إنَّنَا سَمِعْنَا دَاعِياً يَدْعُو النَّاسَ إلَى الإِيمَانِ بِكَ ( وَهُوَ الرَّسُولُ )،وَيَقُولُ:آمِنُوا بِرَبِّكُمْ،فآمَنَّا مُسْتَجِيبِينَ لَهُ،رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا،وَتَجاوَزْ عَنْ سَيِئَاتِنَا،فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ،وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارَ الصَّالِحِينَ وَأَلْحِقْنَا بِهِمْ . (3)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ:" بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَتَمَشَّوْنَ أَخَذَهُمُ الْمَطَرُ،فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فِي جَبَلٍ،فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ،فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ،فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً لِلَّهِ،فَادْعُوا اللَّهَ تَعَالَى بِهَا،لَعَلَّ اللَّهَ يَفْرُجُهَا عَنْكُمْ،فَقَالَ أَحَدُهُمْ:اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ،وَامْرَأَتِي،وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ أَرْعَى عَلَيْهِمْ،فَإِذَا أَرَحْتُ عَلَيْهِمْ،حَلَبْتُ،فَبَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ،فَسَقَيْتُهُمَا قَبْلَ بَنِيَّ،وَأَنَّهُ نَأَى بِي ذَاتَ يَوْمٍ الشَّجَرُ،فَلَمْ آتِ حَتَّى أَمْسَيْتُ،فَوَجَدْتُهُمَا قَدْ نَامَا،فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ،فَجِئْتُ بِالْحِلَابِ،فَقُمْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا مِنْ نَوْمِهِمَا،وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْقِيَ الصِّبْيَةَ قَبْلَهُمَا،وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ،فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ،فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ،فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً،نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ،فَفَرَجَ اللَّهُ مِنْهَا فُرْجَةً،فَرَأَوْا مِنْهَا السَّمَاءَ،وَقَالَ الْآخَرُ:اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَتْ لِيَ ابْنَةُ عَمٍّ أَحْبَبْتُهَا
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (6502 ) وصحيح ابن حبان - (2 / 59) (347)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 347)
(3) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 486)(1/544)
كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ،وَطَلَبْتُ إِلَيْهَا نَفْسَهَا،فَأَبَتْ حَتَّى آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ،فَتَعِبْتُ حَتَّى جَمَعْتُ مِائَةَ دِينَارٍ،فَجِئْتُهَا بِهَا،فَلَمَّا وَقَعْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا،قَالَتْ:يَا عَبْدَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ،وَلَا تَفْتَحِ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ،فَقُمْتُ عَنْهَا،فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ،فَافْرُجْ لَنَا مِنْهَا فُرْجَةً،فَفَرَجَ لَهُمْ،وَقَالَ الْآخَرُ:اللَّهُمَّ إِنِّي كُنْتُ اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ،فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ قَالَ:أَعْطِنِي حَقِّي،فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ فَرَقَهُ فَرَغِبَ عَنْهُ،فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرِعَاءَهَا،فَجَاءَنِي فَقَالَ:اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَظْلِمْنِي حَقِّي،قُلْتُ:اذْهَبْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ وَرِعَائِهَا،فَخُذْهَا فَقَالَ:اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَسْتَهْزِئْ بِي فَقُلْتُ:إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ،خُذْ ذَلِكَ الْبَقَرَ وَرِعَاءَهَا،فَأَخَذَهُ فَذَهَبَ بِهِ،فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ،فَافْرُجْ لَنَا مَا بَقِيَ،فَفَرَجَ اللَّهُ مَا بَقِيَ " (1)
التوسل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد موته :
في الدُّعَاءُ لِلطَّبَرَانِيِّ ( 971 ) حَدَّثَنَا طَاهِرُ بْنُ عِيسَى الْمُقْرِئُ الْمِصْرِيُّ،ثنا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ،ثنا ابْنُ وَهْبٍ،عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَكِّيِّ،عَنْ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ،عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ،عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْخَطْمِيِّ،عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ،عَنْ عَمِّهِ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَخْتَلِفُ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَاجَتِهِ وَكَانَ عُثْمَانُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ وَلَا يَنْظُرُ فِي حَاجَتِهِ،فَلَقِيَ ابْنَ حُنَيْفٍ فَشَكَا ذَلِكَ إِلَيْهِ،فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ:ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأْ،ثُمَّ ائْتِ الْمَسْجِدَ،فَصَلِّ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ وَقُلِ:" اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا نَبِيِّ الرَّحْمَةِ:يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَتَوَجَّهُ بِكَ إِلَى رَبِّكَ فَيَقْضِي لِي حَاجَتِي،وَتُذْكُرُ حَاجَتَكَ " حَتَّى أَرْوَحَ مَعَكَ،فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ فَصَنَعَ مَا قَالَ لَهُ،ثُمَّ أَتَى بَابَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَاءَهُ الْبَوَّابُ حَتَّى أَخَذَ بِيَدِهِ فَأَدْخَلَهُ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَى الطِّنْفِسَةِ فَقَالَ:حَاجَتُكَ ؟ فَذَكَرَ حَاجَتَهُ وَقَضَاهَا لَهُ،وَقَالَ لَهُ:مَا فَهِمْتَ حَاجَتَكَ حَتَّى كَانَ السَّاعَةُ،وَقَالَ لَهُ:مَا كَانَ لَكَ مِنْ حَاجَةٍ فَسَلْ،ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ عُثْمَانَ فَلَقِيَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ فَقَالَ لَهُ جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا مَا كَانَ يَنْظُرُ إِلَيَّ فِي حَاجَتِي وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَيَّ حَتَّى كَلَّمْتُهُ فِي،فَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ:مَا كَلِمَتُهُ فِيكَ،وَلَكِنِّي شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَتَاهُ ضَرِيرٌ فَشَكَا إِلَيْهِ ذَهَابَ بَصَرِهِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :" أَوَتَصْبِرُ ؟ " فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ وَقَدْ شَقَّ عَلَيَّ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ:" ائْتِ الْمِيضَأَةَ فَتَوَضَّأْ،ثُمَّ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ،ثُمَّ ادْعُ بِهَذِهِ الدَّعَوَاتِ " قَالَ ابْنُ حُنَيْفٍ:وَاللَّهِ مَا تَفَرَّقْنَا حَتَّى دَخَلَ عَلَيْنَا الرَّجُلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهِ ضَرَرٌ قَطُّ" .
__________
(1) - صَحِيحُ مُسْلِمٍ >> كِتَابُ الرِّقَاقِ (7125 )(1/545)
قَالَ الطَّبَرَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: خَالَفَ شُعْبَةُ رَوْحَ بْنَ الْقَاسِمِ فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ فَرَوَاهُ عَنُ أَبِي جَعْفَرٍ الْخَطْمِيِّ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَدَّثَنَا إِدْرِيسُ بْنُ جَعْفَرٍ الْعَطَّارُ،ثنا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ بْنِ فَارِسٍ،ثنا شُعْبَةُ،عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْخَطْمِيِّ،عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ،عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ،رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِمَعْنَاهُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْبَرَاءِ،قَالَ:سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ الْمَدِينِيِّ،يَقُولُ:رَوَى شُعْبَةُ،عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ،فَذَكَرَ حَدِيثَ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ،قَالَ عَلِيُّ:وَرَوَاهُ رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْخَطْمِيِّ،عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ،عَنْ عُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ،قَالَ عَلِيُّ:وَمَا أَرَى رَوْحَ بْنَ الْقَاسِمِ إِلَّا قَدْ حَفِظَهُ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ:وَرَوَاهُ عَوْنُ بْنُ عُمَارَةَ عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَجُلًا كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى عُثْمَانَ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ،ثنا عَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ،ثنا عَوْنُ بْنُ عُمَارَةَ،عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ،عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ،عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ،رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ إِلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ،عَنْ رَوْحِ بْنِ الْقَاسِمِ قَالَ الطَّبَرَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ:وَهِمَ عَوْنٌ فِي الْحَدِيثِ وَهْمًا فَاحِشًا " .
قلتُ:وقد تكلَّم ابنُ عدي على شبيب بن سعيد فقال:" ولشبيب بن سعيد نسخة الزهري عنده عن يونس عن الزهري،وهي أحاديث مستقيمة وحدث عنه ابن وهب بأحاديث مناكير .ولعل شبيبا لما قدم مصر فى تجارته كتب عنه ابن وهب من حفظه فغلط ووهم،وأرجو أن لا يتعمد الكذب،وإذا حدَّث عنه ابنه أحمد فكأنه شبيب آخر ـ يعني يجوِّدُ ". (1)
قلتُ:وجميعُ أئمة الجرح والتعديل على توثيقه،فلا يقبلُ قول ابن عدي فيه،لأنه محجوجٌ بمن سبقه،ولم يعز لأحد من أئمة الجرح والتعديل تضعيفَه،فيردُّ قولُه،هذا على فرض تفرد ابن وهب بالرواية عنه. وإلا فقد روى هذه الزيادة عنه ابنه أحمد فتسقط الشبهة من أساسها،ففي دلائل النبوة للبيهقي برقم (2417 ) قال بعد رواية الحديث المذكور:وَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ،عَنْ سَعِيدٍ،عَنْ أَبِيهِ أَيْضًا بِطُولِهِ.أَخْبَرَنَا أَبُوعَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ شَاذَانَ،أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ دُرُسْتَوَيْهِ،حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ،حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ،فَذَكَرَهُ بِطُولِهِ.وَهَذِهِ زِيَادَةٌ أَلْحَقْتُهَا بِهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ،وَرَوَاهُ أَيْضًا هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ،عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ،عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ،عَنْ عَمِّهِ وهو عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ "
__________
(1) - - الكامل لابن عدي - ج4 / ص 31)(1/546)
وكذلك لها شاهد كما بين الطبراني أيضاً .ورجاله جميعا ثقات،وليس فيهم مدلس،وسمعوا من بعضهم كما ترى،فالحديث صحيحٌ،وهو نصٌّ في محلِّ النزاع،حيث فهم الراوي من الحديث العموم،وليس خاصًّا بحياة النبي - صلى الله عليه وسلم - الدنيوية فقط،كما زعم المانعون.
التضرع والانكسار بين يدي الله:
قال الله تعالى: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [الأعراف:55 - 57]
يُرْشِدُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ إلى دُعَائِهِ بِتَضَرُّعٍ وَبِصُورَةٍ خَفِيَّةٍ.( أَيْ بِخُشُوع وَصِحَّةِ يَقِينٍ بِوَحْدَانِيَّةِ اللهِ وَبُرُبُوبِيَّتِهِ ) لاَ جَهَاراً وَلاَ مُرَاءَاةً،فَاللهُ لاَ يُحِبُّ أَنْ يَتَجَاوَزُوا فِي الدُّعَاءِ حُدُودَ مَا أُمِرُوا بِهِ ( كَالمُبَالَغَةِ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الدُّعَاءِ،أَوْ طَلَبِ العَوْنِ مِنَ اللهِ عَلَى ارْتِكَابِ المَعَاصِي وَالمُنْكَرَاتِ،أَوْ التَّوجُّهِ بِالدُّعَاءِ إلَى غَيْرِ اللهِ لِيَشْفَعَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ...).يَنْهَى اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ عَنِ الإِفْسَادِ فِي الأَرْضِ بَعْدَ أَنْ أَصْلَحَهَا اللهُ بِمَا خَلَقَ فِيهَا مِنَ المَنَافِعِ وَالنِّظَامِ،وَبِمَا هَدَى النَّاسَ إِلَيهِ مِنْ حُسْنِ اسْتِغْلاَلها،وَالانْتِفَاعِ بِخَيْرَاتِهَا،وَبِمَا سَخَّرَهُ لَهُمْ مِنْهَا .
وَيَشْمَلُ الإِفْسَادُ كُلَّ مَا أَفْسَدَ العُقُولَ وَالعَقَائِدَ،وَالآدَابَ الشَّخْصِيَّةَ وَالمَعَايِشَ وَالمَرَافِقَ مِنْ زِرَاعَةٍ وَتِجَارَةٍ وَصِنَاعَةٍ.. ثُمَّ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِدُعَائِهِ خَوْفاً مِمَّا عِنْدَهُ مِنْ شَدِيدِ العِقَابِ،وَطَمَعاً بِمَا عِنْدَهُ مِنْ جَزِيلِ الثَّوابِ،فَرَحْمَةُ اللهِ مُرْصَدَةٌ لِلْمُحْسِنِينَ الذِي يَتَّبِعُونَ أَوَامِرَهُ وَيَنْتَهُونَ عَمَّا نَهَى عَنْهُ (1) .
وقال الله تعالى: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)} [الأنبياء:83 - 84]
واذكر - أيها الرسول - عبدنا أيوب،إذ ابتليناه بضر وسقم عظيم في جسده،وفقد أهله وماله وولده،فصبر واحتسب،ونادى ربه عز وجل أني قد أصابني الضر،وأنت أرحم الراحمين،فاكشفه عني.فاستجبنا له دعاءه،ورفعنا عنه البلاء،ورددنا عليه ما فقده من أهل وولد ومال مضاعفًا،فَعَلْنا به ذلك رحمة منَّا،وليكون قدوة لكل صابر على البلاء،راجٍ رحمة ربه،عابد له. (2)
وقال الله تعالى:{ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1010)
(2) - التفسير الميسر - (5 / 499)(1/547)
(88)} [الأنبياء:87،88]
واذكر قصة صاحب الحوت،وهو يونس بن مَتَّى عليه السلام،أرسله الله إلى قومه فدعاهم فلم يؤمنوا،فتوعَّدهم بالعذاب فلم ينيبوا،ولم يصبر عليهم كما أمره الله،وخرج مِن بينهم غاضبًا عليهم،ضائقًا صدره بعصيانهم،وظن أن الله لن يضيِّق عليه ويؤاخذه بهذه المخالفة،فابتلاه الله بشدة الضيق والحبس،والتقمه الحوت في البحر،فنادى ربه في ظلمات الليل والبحر وبطن الحوت تائبًا معترفًا بظلمه; لتركه الصبر على قومه،قائلا: لا إله إلا أنت سبحانك،إني كنت من الظالمين.فاستجبنا له دعاءه،وخلَّصناه مِن غَم هذه الشدة،وكذلك ننجي المصدِّقين العاملين بشرعنا. (1)
وقال الله تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) } [الأنعام:40 - 44]
قُلْ أيُّهَا الرَّسُولُ لِهَؤُلاَءِ المُشْرِكِينَ المُكَذِّبِينَ:أَخْبِرُونِي إنْ أَتَاكُمْ عَذَابٌ مِنَ اللهِ،كَالذِي نَزَلَ بِمَنْ قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ الذِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ،أوْ جَاءَتْكُمُ السَّاعَةُ بِأَهْوَالِهَا وَخِزْيِها وَنَكَالِها،وَبُعِثْتُمْ لِمَوْقِفِ الحِسَابِ،مَنْ تَدْعُونَ غَيْرَ اللهِ،فِي هَذِهِ الأَحْوَالِ،لِيَكْشِفَ عَنْكُمْ مَا نَزَلَ بِكُمْ مِنَ البَلاَءِ؟ وَهَلْ تَفْزَعُونَ إلَى الآلِهَةِ التِي تَزْعُمُونَ شِرْكَتَهَا مَعَ اللهِ لِكَشْفِ البَلاءِ النَّازِلِ بِكُمْ،هذا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي دَعْوَاكُمْ ألُوهِيَّةَ هَؤُلاَءِ الشُّرَكَاءِ؟
إنَّكُمْ أَيُّهَا المُشْرِكُونَ لاَ تَدْعُونَ فِي سَاعَةِ الهَوْلِ وَالشِّدَّةِ صَنَماً وَلا وَثَناً،وَإنَّمَا تَدْعُونَ اللهَ وَحْدَهُ،لِعِلْمِكُمْ أَنَّهُ لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى كَشْفِ مَا نَزَلَ بِكُمْ مِنْ بَلاَءٍ وَعَذَابٍ،وَتَنْسَوْنَ غَيْرَهُ مِنَ الشُّرَكَاءِ وَالأَنْدَادِ.وَإذَا شَاءَ اللهُ أنْ يَكْشِفَ مَا بِكُمْ مِنْ ضُرٍ وَبَلاَءٍ كَشَفَهُ عَنْكُمْ.يَقُولُ تَعَالَى:إنَّهُ أَرْسَلَ إلى الأُمَمِ السَّالِفَةِ رُسُلاً يَدْعُونَهُمْ إلَى عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ،فَكَذَّبُوا الرُّسُلَ،وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ،فَابْتَلاَهُمُ اللهُ بِالفَقْرِ،وَالضِّيقٍ،فِي العَيْشِ ( فَأَخَذْنَاهُمْ بِالبَأْسَاءِ )،وَسَلَّطَ عَلَيْهِم الأَمْرَاضَ وَالأَسْقَامَ وَالآلاَمَ ( وَالضَّرَّاءِ )،لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ إلى اللهِ،وَيَخْشَعُونَ إلَيْهِ،وَيَدْعُونَهُ لِيَكْشِفَ عَنْهُمْ مَا نَزَلَ بِهِمْ،فَقَدْ أَوْدَعَ اللهُ تَعَالَى فِي فِطْرَةِ البَشَرِ أَنْ يَضْرَعُوا إلى اللهِ وَحْدَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ .فَهَلاّ،إِذ ابْتَلاَهُمُ اللهُ بِذَلِكَ البَلاءِ،تَضَرَّعُوا إلَيْهِ وَتَوَسَّلُوا،حِينَ جَاءَتْهُم مُقَدِّمَاتُ العَذَابِ،لِيَكْشِفَهُ عَنْهُمْ،وَلَكِنَّ قُلُوبَهُمْ قَسَتْ فَلَمْ
__________
(1) - التفسير الميسر - (6 / 3)(1/548)
تَرِقَّ وَلَمْ تَخْشَعْ،وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ مِنَ الشِّرْكِ وَالمَعَاصِي وَالمُعاَنَدَةِ،وَحَسَّنَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَثْبُتُوا عَلَى مَا وَجَدُوا آبَاءَهُمْ عَلَيْهِ.فَلَمَّا أَعْرَضُوا عَمَّا أَنْذَرَهُمْ بِهِ رُسُلُهُمْ،وَتَرَكُوا الاهْتِدَاءَ بِهِ،وَتَنَاسُوْهُ وَجَعَلُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ،اسْتَدْرَجَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِأَنْ فَتَحَ عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ الرِّزْقِ،وَأَعْطَاهُمْ مِنْ كُلِّ مَا يُحِبُّونَ وَيَخْتَارُونَ،وَزَادَهُمْ سِعَةً فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ،فَلَمْ تُرَبِّهِم النِّعْمَةُ،وَلا شَكَرُوا اللهَ عَلَى نِعَمِهِ وَآلاَئِهِ،بَلْ دَفَعَتْهُمْ تِلْكَ النِّعْمَةُ إلى البَطَرِ وَالأَشَرِ،فَفَرِحُوا بِذَلِكَ وَسُرُّوا،إذْ ظَنُّوا أنَّ الذِي أُوتُوا إِنَّمَا هُوَ بِاسْتِحْقَاقِهِمْ،وَحِينَئِذٍ أَخَذَهُمُ اللهُ بِالعَذَابِ بَغْتَةً،وَعَلَى حِينِ غِرَّةٍ مِنْهُمْ،فَإذَا هُمْ يَائِسُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ . (1)
حضور القلب عند الدعاء:
قال الله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) } [الأنفال:2 - 4]
إنما المؤمنون بالله حقًا هم الذين إذا ذُكِر الله فزعت قلوبهم،وإذا تليت عليهم آيات القرآن زادتهم إيمانًا مع إيمانهم،لتدبرهم لمعانيه وعلى الله تعالى يتوكلون،فلا يرجون غيره،ولا يرهبون سواه.الذين يداومون على أداء الصلوات المفروضة في أوقاتها،ومما رزقناهم من الأموال ينفقون فيما أمرناهم به.هؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال هم المؤمنون حقًا ظاهرًا وباطنًا بما أنزل الله عليهم،لهم منازل عالية عند الله،وعفو عن ذنوبهم،ورزق كريم،وهو الجنة. (2)
وقال الله تعالى:{ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) } [المؤمنون:60 - 61]
وَهُمْ يَنْهَضُونَ بِالتَّكَالِيفِ والوَاجِبَاتِ المَفْرُوضَةِ عَلَيْهِمْ،وَيُؤَدُّونَ الطَّاعَاتِ والنَّوَافِلَ،وَيَشْعُرُونَ أَنَّهُمْ مُقَصِّرُونَ فِي جَانِبِ اللهِ تَعَالَى وَيَسْتَقِلَّونَ كُلَّ طَاعَةٍ إِلى جَانِبِ آلاَءِ اللهِ وَنِعَمِهِ،وَيَخَافُونَ أَنْ لاَ تُقْبَلَ طَاعَاتُهُم لِخَوْفِهِمْ مِنَ أَنْ يَكُونُوا قَصَّرُوا فِي شُرُوطِ أَدَائِها،لأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أنَّهُم رَاجِعُونَ إِِلَى رَبِهِّم،وَسَيُحَاسِبُهُمْ وَسَيُحَاسِبُ جَمِيعَ الخَلْقِ عَلَى جَميعِ أًعْمَالِهمْ .وَهَؤُلاءِ الذينَ جَمَعُوا هَذِهِ المَحَاسِنَ،يَرْغَبُونَ فِي الطَّاعَاتِ أَشَدَّ الرَّغْبَةِ،فَيُبَادرُونَهَا لِئلاَّ تَفُوتَهم إِذَا هُمْ مَاتُوا،وَيَتَعَجَّلُونَ فِي الدَّنْيَا وُجُوهَ الخَيْرَاتِ العَاجِلَةِ التي وُعِدُوا بِهَا عَلَى الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ،وَهُمْ يَرْغَبُونَ فِي الطَّاعَاتِ،وَهُمْ لأَجْلِهَا
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 830)
(2) - التفسير الميسر - (3 / 170)(1/549)
سَابِقُونَ النَّاسَ إِلى الثَّوَابِ (1)
قوة اليقين والعزم في الدعاء:
قال الله تعالى حكاية عن قوم هود: { إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) }[هود:54 - 56]
وَقَالُوا لَهُ:مَا نَظُنُّ إِلاَّ أَنَّ بَعْضَ آلِهَتِنَا أَصَابَكَ بِمَسٍّ مِنْ جُنُونٍ وَخَبَالٍ فِي عَقْلِكَ ( اعْتَرَاكَ )،بِسَبَبِ نَهْيِكَ إِيَّانَا عَنْ عِبَادَتِهَا،وَطَعْنِكَ فِيهَا،فَصِرْتَ تَهْذِي بِهَذَا الكَلاَمِ.فَرَدَّ عَلَيْهِمْ هُودٌ قَائِلاً:اشْهَدُوا أَنْتُمْ،وَإِنِّي أُشْهِدُ اللهَ رَبِّي عَلَى مَا أَقُولُ،بِأَنِّي بَرِيءٌ مِنْ جَمِيعِ الأَصْنَامِ وَالأَنْدَادِ الذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ.فَاجْتَمِعُوا أَنْتُم وَآلِهَتِكُمْ عَلَى الكَيْدِ لِي،وَلاَ تَتَوَانَوْا فِي ذَلِكَ،وَلاَ تُقَصِّرُوا فِيهِ لَحْظَةً،فَهُوَ لاَ يُهِمُّنِي،وَلاَ يَضُرّنِي فِي شَيءٍ.إِنِّي وَكَّلْتُ أُمُورِي إلى اللهِ،وَهُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمُ الحَقُّ،خَلَقَ المَخْلُوقَاتِ كُلَّها،وَجَعَلَهَا تَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ،وَهُوَ الحَاكِمُ العَادِلُ الذِي لاَ يَجُوزُ فِي حُكْمِهِ.وَأَفْعَالُهُ تَعَالى،تَجْرِي عَلَى طَريقِ الحَقِّ وَالعَدْلِ فِي مُلْكِهِ .أَمَّا الأَصْنَامُ وَالأَوْثَانُ فَهِيَ حِجَارَةٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ وَلاَ تَمْلِكُ لِنَفْسِهَا ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً . (2)
وقال الله تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) }[يونس:71 - 73]
يُسَلِّي اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - عَمَّا يُلاَقِيهِ مِنْ إِيذَاءِ قَوْمِهِ،وَتَكْذِيبِهِمْ بِمَا يَقُصُّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ.وَيَبْدَأُ تَعَالَى بِقِصَّةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ،فَيَقُولُ تَعَالَى:أَخْبِرْ يَا مُحَمَّدُ كُفَّارَ مَكَّةَ الذِينَ يُكَذِبُونَكَ خَبَرَ نُوحٍ مَعْ قَوْمِهِ الذِينَ كَذَّبُوهُ،كَيْفَ أَهْلَكَهُمُ اللهُ،وَدَمَّرَهُمْ بِالغَرَقِ أَجْمَعِينَ،وَلَيْحَذَرْ هَؤُلاَءِ أَنْ يُصِيبَهُمْ مِنَ البَلاَءِ وَالهَلاَكِ وَالدَّمَارِ مَا أَصَابَ أُوْلَئِكَ .لَقَدْ قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ:يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ ثَقُلَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي بَيْنَكُمْ ( كَبُرَ )،وَإِنْ شَقَّ عَلَيْكُمْ تَذْكِيرِي إِيَّاكًُمْ بِآيَاتِ اللهِ،وَحُجَجِهِ وَبَرَاهِينِهِ،فَإِنِّي قَدْ وَكَّلْتُ أَمْرِي إِلَى اللهِ الذِي أَرْسَلَنِي،وَاعْتَمَدْتُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ،وَإِنِّي لاَ أُبَالِي بِكُمْ،وَلاَ أَكُفُّ عَنْكُمْ،سَوَاءَ عَظُمَ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2613)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1528)(1/550)
عَلَيْكُمْ مَقَامِي أَوْ لاَ،فَاجْتَمِعُوا أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ،مِنَ الأَصْنَامِ الذِينَ تَدْعُونَهُمْ،وَلاَ تَتْرُكُوا أَمْرَكُمْ مُلْتَبَساً عَلَيْكُمْ ( غَمَّةً )،بَلْ كُونُوا عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْهُ،لِكَيْلا تَتَحَوَّلُوا عَنْهُ،وَافْصِلُوا أَمْرَكُمْ مَعِيَ،فَإِنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ مُحِقُّونَ فَاقْضُوا إِلَيَّ،وَافْعَلُوا مَا تَسْتَطِيعُونَ،وَلاَ تُؤَخِرُونِي سَاعَةً وَاحِدَةً ( وَلاَ تُنْظِرُونَ ).فَإِنْ أَعْرَضْتُمْ عَنْ تَذْكِيرِي،وَأَدْبَرْتُمْ عَنِ الطَّاعَةِ ( تَوَلَّيْتُمْ )،فَلاَ يَضُرُّنِي ذَلِكَ لأَنَّنِي لَمْ أَطْلُبْ مِنْكُمْ أَجْراً عَلَى نُصْحِي لَكُمْ،وَإِنَّمَا أَطْلُبُ الأَجْرَ مِنَ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ الذِي أَمَرَنِي بِأَن أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ،المُؤْمِنِينَ العَابِدِينَ القَائِمِينَ بِأَمْرِ رَبِّهِمْ.فَلَمَّا أَصَرُّوا عَلى تَكْذِيبِهِ،بَعْدَ أَنْ قَامَتْ عَلَيهِمُ الحُجَّةُ،نَجَّى اللهُ نُوحاً وَالمُؤْمِنِينَ مَعَهُ فِي السَّفِينَةِ،وَجَعَلَهُمْ خُلَفَاءَ يَرِثُونَ الأَرْضَ،وَيَتَوَارَثُونَ الإِيمَانَ بِاللهِ،وَأَغْرَقَ اللهُ تَعَالَى الذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَآيَاتِهِ،وَكَذَّبُوا رَسُولَهُ،فَانْظُرْ يَا مُحَمَّدُ كَيْفَ كَانَتْ عَاقِبَةُ هَؤُلاَءِ الذِينَ جَاءَهُمُ النَّذِيرُ مِنْ رَبِّهِمْ،فَاستَخَفُّوا بِهِ . (1)
وعَنْ أَنَسٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَعْزِمْ فِي الدُّعَاءِ،وَلاَ يَقُلِ:اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي،فَإِنَّ اللَّهَ لاَ مُسْتَكْرِهَ لَهُ. (2)
استقبال القبلة عند الدعاء:
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رضى الله عنه - قَالَ اسْتَقْبَلَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - الْكَعْبَةَ فَدَعَا عَلَى نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ،عَلَى شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ،وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ،وَأَبِى جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ.فَأَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى،قَدْ غَيَّرَتْهُمُ الشَّمْسُ،وَكَانَ يَوْمًا حَارًّا " متفق عليه (3)
وعن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ،قَالَ:حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ،قَالَ:لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلاَثُ مِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً،فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْقِبْلَةَ،ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ،فَجَعَلَ يَهْتِفُ رَبَّهُ:اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي،اللَّهُمَّ آتِنِي مَا وَعَدْتَنِي،اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ،مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ لاَ تُعْبَدُ فِي الأَرْضِ،فَمَا زَالَ يَهْتِفُ رَبَّهُ جَلَّ وَعَلاَ مَاذَا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ،حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبِهِ، - صلى الله عليه وسلم - ،فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ،فَأَخَذَ رِدَاءَهُ،وَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبِهِ،ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ،فَقَالَ:يَا نَبِيَّ اللهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ،فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ،فَأَنْزَلَ اللَّهُ {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ،فَاسْتَجَابَ لَكُمْ،أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ،مُرْدِفِينَ} [الأنفال]،فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلاَئِكَةِ.
قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ:بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ،يَوْمَئِذٍ يَشُدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1436)
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 256) (11980) 12003- وصحيح مسلم- المكنز - (6987)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (3960 ) وصحيح مسلم- المكنز - (4753 )(1/551)
الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ،إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ،فَوْقَهُ وَصَوْتَ الْفَارِسِ فَوْقَهُ،يَقُولُ أَقْدِمْ حَيْزُومُ،إِذْ نَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ خَرَّ،مُسْتَلْقِيًا،فَنَظَرَ إِلَيْهِ،فَإِذْا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ وَشُقَّ وَجْهُهُ كَضَرْبَةِ سَوْطٍ،فَاخْضَرَّ ذَاكَ أَجْمَعُ،فَجَاءَ الأَنْصَارِيُّ،فَحَدَّثَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : صَدَقْتَ ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ،فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ،وَأَسَرُوا سَبْعِينَ...". أخرجه مسلم (1) .
جواز الدعاء لغير القبلة:
عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ بَيْنَا النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا.فَتَغَيَّمَتِ السَّمَاءُ وَمُطِرْنَا،حَتَّى مَا كَادَ الرَّجُلُ يَصِلُ إِلَى مَنْزِلِهِ،فَلَمْ تَزَلْ تُمْطَرُ إِلَى الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ،فَقَامَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَوْ غَيْرُهُ فَقَالَ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَصْرِفَهُ عَنَّا،فَقَدْ غَرِقْنَا.فَقَالَ « اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا ».فَجَعَلَ السَّحَابُ يَتَقَطَّعُ حَوْلَ الْمَدِينَةِ،وَلاَ يُمْطِرُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ . (2) .
رفع اليدين عند الدعاء:
عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الأَنْصَارِيِّ،قَالَ:حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ،قَالَ: أَصَابَتِ النَّاسَ سَنَةٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ،يَوْمَ الْجُمُعَةِ،قَامَ أَعْرَابِيٌّ،فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،هَلَكَ الْمَالُ،وَجَاعَ الْعِيَالُ،فَادْعُ اللَّهَ لَنَا أَنْ يَسْقِيَنَا،قَالَ:فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَيْهِ،وَمَا فِي السَّمَاءِ قَزَعَةٌ،قَالَ:فَثَارَ سَحَابٌ أَمْثَالُ الْجِبَالِ،ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ،حَتَّى رَأَيْتُ الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ،قَالَ:فَمُطِرْنَا يَوْمَنَا ذَلِكَ،وَفِي الْغَدِ،وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ،وَالَّذِي يَلِيهِ،إِلَى الْجُمُعَةِ الأُخْرَى،فَقَامَ ذَلِكَ الأَعْرَابِيُّ،أَوْ رَجُلٌ غَيْرُهُ،فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،تَهَدَّمَ الْبِنَاءُ،وَغَرِقَ الْمَالُ،فَادْعُ اللَّهَ لَنَا،فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَيْهِ،وَقَالَ:اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا،قَالَ:فَمَا جَعَلَ يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ السَّمَاءِ،إِلاَّ تَفَرَّجَتْ،حَتَّى صَارَتِ الْمَدِينَةُ فِي مِثْلِ الْجَوْبَةِ،حَتَّى سَالَ الْوَادِي - وَادِي قَنَاةَ - شَهْرًا،قَالَ:فَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلاَّ حَدَّثَ بِالْجَوْدِ. متفق عليه (3) .
وعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:إِنَّ رَبَّكُمْ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا. (4)
إخفاء الدعاء:
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (11 / 114) (4793) وصحيح مسلم- المكنز - (4687 )
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (6342 )
(3) - صحيح البخارى- المكنز -(933) وصحيح مسلم- المكنز - (2116 )
الجوبة : الحفرة المستديرة الواسعة -الجود : المطر الشديد -القزعة : قطعة سحاب
(4) - صحيح ابن حبان - (3 / 159) (876) صحيح(1/552)
قال الله تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (55) سورة الأعراف
الدعاء يدخل فيه دعاء المسألة،ودعاء العبادة،فأمر بدعائه { تَضَرُّعًا } أي: إلحاحا في المسألة،ودُءُوبا في العبادة،{ وَخُفْيَةً } أي: لا جهرا وعلانية،يخاف منه الرياء،بل خفية وإخلاصا للّه تعالى.{ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } أي: المتجاوزين للحد في كل الأمور،ومن الاعتداء كون العبد يسأل اللّه مسائل لا تصلح له،أو يتنطع في السؤال،أو يبالغ في رفع صوته بالدعاء،فكل هذا داخل في الاعتداء المنهي عنه. (1)
وقال الله تعالى: { كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)} [مريم:1 - 3]
هذَا ذِكْرُ رَحْمَةِ اللهِ لِعَبْدِهِ زَكَرِيَّا نَقُصُّهُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ.( وَزَكَرِيَّا نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ) .حِينَ دَعَا رَبَّهُ خفْيَةً عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ ( لأَنَّ الدُّعَاءَ الخَفِيَّ أَحَبُّ إِلَى اللهِ لِدَلاَلَتِهِ عَلَى الإِخْلاَصِ،وَالْبُعْد عَنِ الرِّياءِ ) . (2)
تكرار الدعاء والإلحاح فيه:
عن ابْنِ عَبَّاسٍ،قَالَ:حدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ،قَالَ:لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ اسْتَقْبَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - الْقِبْلَةَ،ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ:اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتنِي،اللَّهُمَّ ائْتِنِي مَا وَعَدْتنِي،اللَّهُمَّ إنَّك إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإِسْلامِ فَلا تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ أَبَدًا،فَمَا زَالَ يَسْتَغِيثُ رَبَّهُ وَيَدْعُو حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ،فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} (9) سورة الأنفال. (3)
وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى الْمُشْرِكِينَ،وَهُمْ أَلْفٌ وَأَصْحَابُهُ ثَلاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا،قَالَ: فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الْقِبْلَةَ،ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: اللَّهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي،اللَّهُمَّ آتِنِي مَا وَعَدْتَنِي،اللَّهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الإِسْلامِ لا تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ أَبَدًا،فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ،فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ،ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ،فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ ! كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ إِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ،فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ
__________
(1) - تفسير السعدي - (1 / 291)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 2252)
(3) - مصنف ابن أبي شيبة - (10 / 350)(30199) صحيح(1/553)
مُرْدِفِينَ}[سورة الأنفال آية 9 ]،فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلائِكَةِ. (1)
وعَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ،قَالَ:سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ،يَقُولُ:دَخَلَ رَجُلٌ الْمَسْجِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ بَابٍ كَأَنَّ رَجَاءَهُ الْمِنْبَرُ،وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ،فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا،فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،هَلَكَتِ الْمَوَاشِي وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ،فَادْعُ اللَّهَ لِيُغِيثُنَا،فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ،يَقُولُ:اللَّهُمَّ اسْقِنَا،اللَّهُمَّ اسْقِنَا،قَالَ أَنَسٌ:وَاللَّهِ مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ سَحَابَةً وَلاَ قَزَعَةً بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلاَ دَارٍ،فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ تُرْسٍ،فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ ثُمَّ أَمْطَرَتْ،فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا. ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنَ الْبَابِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ الْمُقْبِلَةِ،وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ،فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا ثُمَّ،قَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،هَلَكَتِ الأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ،فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَكُفَّهَا عَنَّا،فَرَفَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَيْهِ،يَقُولُ:اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا،اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالظِّرَابِ وَالأَوْدِيَةِ وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ،قَالَ:فَأَقْلَعَتْ وَخَرَجَ - صلى الله عليه وسلم - يَمْشِي فِي الشَّمْسِ،فَسَأَلْتُ أَنَسًا أَهُوَ الرَّجُلُ الأَوَّلُ ؟ قَالَ:لاَ أَدْرِي. متفق عليه (2) .
تقديم الحمد والثناء على الله،والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الدعاء:
قال الله تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) { [الفاتحة:2 - 7]
(الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ) الثناء على الله بصفاته التي كلُّها أوصاف كمال،وبنعمه الظاهرة والباطنة،الدينية والدنيوية،وفي ضمنه أَمْرٌ لعباده أن يحمدوه،فهو المستحق له وحده،وهو سبحانه المنشئ للخلق،القائم بأمورهم،المربي لجميع خلقه بنعمه،ولأوليائه بالإيمان والعمل الصالح.(الرَّحْمَنِ) الذي وسعت رحمته جميع الخلق،(الرَّحِيمِ)،بالمؤمنين،وهما اسمان من أسماء الله تعالى.وهو سبحانه وحده مالك يوم القيامة،وهو يوم الجزاء على الأعمال. وفي قراءة المسلم لهذه الآية في كل ركعة من صلواته تذكير له باليوم الآخر،وحثٌّ له على الاستعداد بالعمل الصالح،والكف عن المعاصي والسيئات.إنا نخصك وحدك بالعبادة،ونستعين بك وحدك في جميع أمورنا،فالأمر كله بيدك،لا يملك منه أحد مثقال ذرة. وفي هذه الآية دليل على أن العبد لا يجوز له أن يصرف شيئًا من أنواع العبادة كالدعاء والاستغاثة والذبح والطواف إلا لله وحده،وفيها شفاء القلوب من داء التعلق بغير الله،ومن أمراض الرياء والعجب،والكبرياء.دُلَّنا،وأرشدنا،ووفقنا إلى الطريق المستقيم،وثبتنا عليه حتى نلقاك،وهو الإسلام،الذي هو الطريق الواضح الموصل إلى رضوان الله وإلى جنته،الذي دلّ عليه خاتم رسله
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (4687 ) ومسند أبي عوانة (5361 )
(2) - صحيح البخارى- المكنز -(1013) وصحيح مسلم- المكنز -(2115) وصحيح ابن حبان - (3 / 272)(992)(1/554)
وأنبيائه محمد - صلى الله عليه وسلم - ،فلا سبيل إلى سعادة العبد إلا بالاستقامة عليه.طريق الذين أنعمت عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين،فهم أهل الهداية والاستقامة،ولا تجعلنا ممن سلك طريق المغضوب عليهم،الذين عرفوا الحق ولم يعملوا به،وهم اليهود،ومن كان على شاكلتهم،والضالين،وهم الذين لم يهتدوا،فضلوا الطريق،وهم النصارى،ومن اتبع سنتهم. وفي هذا الدعاء شفاء لقلب المسلم من مرض الجحود والجهل والضلال،ودلالة على أن أعظم نعمة على الإطلاق هي نعمة الإسلام،فمن كان أعرف للحق وأتبع له،كان أولى بالصراط المستقيم،ولا ريب أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هم أولى الناس بذلك بعد الأنبياء عليهم السلام،فدلت الآية على فضلهم،وعظيم منزلتهم،رضي الله عنهم (1)
وعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ الأَنْصَارِيِّ،أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رَجُلا يُصَلِّي لَمْ يَحْمَدِ اللَّهَ وَلَمْ يُمَجِّدْهُ،وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَانْصَرَفَ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : عَجِلَ هَذَا،فَدَعَاهُ،وَقَالَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ:إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ،فَلْيَبْدَأْ بِتَمْجِيدِ رَبِّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ،وَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،ثُمَّ يَدْعُو بِمَا شَاءَ" (2)
الدعاء بما يناسب الحال مما ورد في القرآن والسنة:
قال الله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} (8) سورة آل عمران
يا ربنا لا تَصْرِف قلوبنا عن الإيمان بك بعد أن مننت علينا بالهداية لدينك،وامنحنا من فضلك رحمة واسعة،إنك أنت الوهاب: كثير الفضل والعطاء،تعطي مَن تشاء بغير حساب. (3)
وقال الله تعالى: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (194) سورة آل عمران
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى لِسَانِ رُسُلِكَ،وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ أَمَامَ الخَلْقِ،إنَّكَ لاَ تُخْلِفُ المِيْعَادَ الذِي أَخْبَرَ عَنْهُ رُسُلُكَ الكِرَامُ،وَهُوَ قِيَامُ الخَلْقِ يَوْمَ القِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيْكَ،وَإنَّكَ تَجْزِي العَامِلِينَ الصَّالِحِينَ بِالخَيْرِ وَالحُسْنَى،وَتَجْزِي الذِينَ أسَاؤُوا بِمَا يَسْتَحِقُونَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ . (4)
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ كُنَّا إِذَا كُنَّا مَعَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فِى الصَّلاَةِ قُلْنَا السَّلاَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ عِبَادِهِ،السَّلاَمُ عَلَى فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ.فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « لاَ تَقُولُوا السَّلاَمُ عَلَى اللَّهِ.فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلاَمُ،وَلَكِنْ قُولُوا التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ،وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ،السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِىُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ،السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ.فَإِنَّكُمْ إِذَا قُلْتُمْ أَصَابَ كُلَّ عَبْدٍ فِى السَّمَاءِ أَوْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ،أَشْهَدُ أَنْ لاَ
__________
(1) - التفسير الميسر - (1 / 8)
(2) - صحيح ابن خزيمة(1 / 417) صحيح
(3) - التفسير الميسر - (1 / 307)
(4) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 487)(1/555)
إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ،وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ فَيَدْعُو » (1) .
الدعاء بجوامع الكلم،ومنه:
قال الله تعالى: {وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (201) سورة البقرة
وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (74) سورة الفرقان
وعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي،قَالَ:قُلِ:اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ،فَاغْفِرْ لِي،مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ،وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. (2)
اجتناب ما يمنع استجابة الدعاء،ومنه:
1- الاعتداء في الدعاء:
قال الله تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (55) سورة الأعراف
2- أكل ولبس الحرام:
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ،لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا،وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ،بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ،فَقَالَ: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [المؤمنون: 51] وَقَالَ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنَ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [البقرة: 172] " ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ،أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ،يَا رَبُّ،يَا رَبُّ،وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ،وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ،وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ،فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ " أخرجه مسلم (3)
3- الدعاء بإثم أو قطيعة رحم أو تعجل الإجابة:
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:لاَ يَزَالُ يُسْتَجَابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ،أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ،مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ،قِيلَ:يَا رَسُولَ اللهِ،كَيْفَ يَسْتَعْجِلُ ؟ قَالَ:يَقُولُ:قَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي،فَيَنْحَسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ،فَيَتْرُكُ الدُّعَاءَ." (4) .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (835 )
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (834 ) وصحيح ابن حبان - (5 / 314)(1976)
(3) - صحيح مسلم- المكنز -(2393 ) وشعب الإيمان - (7 / 491)(5353 )
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (7112 ) وصحيح ابن حبان - (3 / 163)(881) - يستحسر : ينقطع عن الدعاء(1/556)
الدعاء والذكر في جميع الأوقات والأحوال:
قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (186) سورة البقرة
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ. أخرجه مسلم (1)
تأمين الحضور عند الجهر بالدعاء:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:( إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ فَأَمِّنُوا،فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلاَئِكَةِ،غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.)".قَالَ ابْنُ شِهَابٍ:وَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:آمِينَ..متفق عليه (2) .
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (852 )
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (780 ) وصحيح مسلم- المكنز -(942 )(1/557)
-49- آداب الشورى
فضل الشورى:
قال الله تعالى: { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2) سورة المائدة
إنها تبعة القيادة والقوامة والشهادة على الناس .. التبعة التي لا بد أن ينسى فيها المؤمنون ما يقع على أشخاصهم من الأذى ليقدموا للناس نموذجا من السلوك الذي يحققه الإسلام،ومن التسامي الذي يصنعه الإسلام. وبهذا يؤدون للإسلام شهادة طيبة تجذب الناس إليه وتحببهم فيه.
وهو تكليف ضخم ولكنه - في صورته هذه - لا يعنت النفس البشرية،ولا يحملها فوق طاقتها. فهو يعترف لها بأن من حقها أن تغضب،ومن حقها أن تكره. ولكن ليس من حقها أن تعتدي في فورة الغضب ودفعة الشنآن .. ثم يجعل تعاون الأمة المؤمنة في البر والتقوى لا في الإثم والعدوان ويخوفها عقاب اللّه،ويأمرها بتقواه،لتستعين بهذه المشاعر على الكبت والضبط،وعلى التسامي والتسامح،تقوى للّه،وطلبا لرضاه.
ولقد استطاعت التربية الإسلامية،بالمنهج الرباني،أن تروض نفوس العرب على الانقياد لهذه المشاعر القوية،والاعتياد لهذا السلوك الكريم .. وكانت أبعد ما تكون عن هذا المستوي وعن هذا الاتجاه .. كان المنهج العربي المسلوك والمبدأ العربي المشهور:«انصر أخاك ظالما أو مظلوما» .. كانت حمية الجاهلية،ونعرة العصبية. كان التعاون على الإثم والعدوان أقرب وأرجح من التعاون على البر والتقوى وكان الحلف على النصرة،في الباطل قبل الحق. وندر أن قام في الجاهلية حلف للحق. وذلك طبيعي في بيئة لا ترتبط باللّه ولا تستمد تقاليدها ولا أخلاقها من منهج اللّه وميزان اللّه .. يمثل ذلك كله ذلك المبدأ الجاهلي المشهور:
«انصر أخاك ظالما أو مظلوما» .. وهو المبدأ الذي يعبر عنه الشاعر الجاهلي في صورة أخرى،وهو يقول:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت،وإن ترشد غزية أرشد!
ثم جاء الإسلام .. جاء المنهج الرباني للتربية .. جاء ليقول للذين آمنوا:
« وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا. وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى،وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ. وَاتَّقُوا اللَّهَ،إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» ..(1/558)
جاء ليربط القلوب باللّه وليربط موازين القيم والأخلاق بميزان اللّه. جاء ليخرج العرب - ويخرج البشرية كلها - من حمية الجاهلية،ونعرة العصبية،وضغط المشاعر والانفعالات الشخصية والعائلية والعشائرية في مجال التعامل مع الأصدقاء والأعداء ..
وولد «الإنسان» من جديد في الجزيرة العربية .. ولد الإنسان الذي يتخلق بأخلاق اللّه .. وكان هذا هو المولد الجديد للعرب كما كان هو المولد الجديد للإنسان في سائر الأرض .. ولم يكن قبل الإسلام في الجزيرة إلا الجاهلية المتعصبة العمياء:«انصر أخاك ظالما أو مظلوما». كذلك لم يكن في الأرض كلها إلا هذه الجاهلية المتعصبة العمياء!
والمسافة الشاسعة بين درك الجاهلية،وأفق الإسلام هي المسافة بين قول الجاهلية المأثور:«انصر أخاك ظالما أو مظلوما». وقول اللّه العظيم:«وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا. وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى،وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ».وشتان شتان! (1)
وعَنْ أَبِي مُوسَى،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا،وَشَبَّكَ بَيْنَ أصَابِعِهِ.. متفق عليه (2) .
وقال تعالى:{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (38) سورة الشورى
وَهَؤُلاَءِ المُؤْمِنُونَ،الذِينَ أَعَدَّ لَهُم اللهُ تَعَالَى الثَّوَابَ والجَنَّةَ فِي الآيَاتِ السَّابِقَاتِ،هُمُ الذِينَ أَجَابُوا رَبَّهُم الكَرِيمَ إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيهِ مِنَ الإِيْمَانِ بِهِ،وَتوْحِيدِهِ وَإِطَاعَةِ أَوَامِرِهِ،وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ،وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ،وَأَدّوهَا حَقَّ أَدَائِهَا فِي أَوْقَاتِهَا،وَأَتَمُّوهَا بِرُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَخُشُوعِهَا،وَلاَ يُبْرِمُونَ أَمْراً حَتَّى يَتَشَاوَرُوا فِيهِ،وَيُدْلِي كُلٌّ بِرأْيِهِ لِيَتَبَيَّنَ لَهُمْ الهُدَى والصَّوَابُ فِيهِ.وَلِتَتَبَيَّنَ جَمِيعُ جَوانِبِ المَوْضُوعِ،فَلاَ يَنْتَكِسُ أَمْرُ المُسْلِمِينَ بِاسْتِبْدَادِ فَرْدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ فِي الرَّأْيِ.وَيُنْفِقُونَ مِمَّا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ فِي سَبِيلِ الخَيْرِ والبِرِّ،فِيمَا فِيهِ نَفْعُ الجَمَاعَةِ . (3)
وهنا في هذه الآيات يصور خصائص هذه الجماعة التي تطبعها وتميزها. ومع أن هذه الآيات مكية،نزلت قبل قيام الدولة المسلمة في المدينة،فإننا نجد فيها أن من صفة هذه الجماعة المسلمة:«وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ» ..مما يوحي بأن وضع الشورى أعمق في حياة المسلمين من مجرد أن تكون نظاما سياسيا للدولة،فهو طابع أساسي للجماعة كلها،يقوم عليه أمرها كجماعة،ثم يتسرب
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 839)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (481) وصحيح مسلم- المكنز -(6750)
(3) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4189)(1/559)
من الجماعة إلى الدولة،بوصفها إفرازا طبيعيا للجماعة. (1)
وقال ابن كثير:{ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } أي: لا يبرمون أمرا حتى يتشاوروا فيه،ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها،كما قال تعالى: { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } [آل عمران: 159] ولهذا كان عليه [الصلاة] السلام،يشاورهم في الحروب ونحوها،ليطيب بذلك قلوبهم. وهكذا لما حضرت عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] الوفاة حين طعن،جعل الأمر بعده شورى في ستة نفر،وهم: عثمان،وعلي،وطلحة،والزبير،وسعد،وعبد الرحمن بن عوف،رضي الله عنهم أجمعين،فاجتمع رأي الصحابة كلهم على تقديم عثمان عليهم،رضي الله عنهم" (2)
وقال القرطبي:" مدح الله المشاورة في الأمور بمدح القوم الذين كانوا يمتثلون ذلك. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يشاور أصحابه في الآراء المتعلقة بمصالح الحروب ؛ وذلك في الآراء كثير. ولم يكن يشاورهم في الأحكام ؛ لأنها منزلة من عند الله على جميع الأقسام من الفرض والندب والمكروه والمباح والحرام. فأما الصحابة بعد استئثار الله تعالى به علينا فكانوا يتشاورون في الأحكام ويستنبطونها من الكتاب والسنة. وأول ما تشاور فيه الصحابة الخلافة ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينص عليها حتى كان فيها بين أبي بكر والأنصار ما سبق بيانه. وقال عمر رضي الله عنه:نرضى لدنيانا من رضيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لديننا وتشاوروا في أهل الردة فاستقر رأي أبي بكر على القتال. وتشاوروا في الجد وميراثه،وفي حد الخمر وعدده. وتشاوروا بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحروب ؛ حتى شاور عمر الهرمزان حين وفد عليه مسلما في المغازي،فقال له الهرمزان:مثلها ومئل من فيها من الناس من عدو المسلمين مثل طائر له ريش وله جناح فإن كسر أحد الجناحين نهضت الرجلان بجناح والرأس وإن كسر الجناح الآخر نهضت الرجلان والرأس وإن شدخ الرأس ذهب الرجلان والجناحان. والرأس كسرى والجناح الواحد قيصر والآخر فارس ؛ ؛ فمر المسلمين فلينفروا إلى كسرى... وذكر الحديث. وقال بعض العقلاء:ما أخطأت قط ! إذا حزبني أمر شاورت قومي ففعلت الذي يرون ؛ فإن أصبت فيهم المصيبون،وإن أخطأت فهم المخطئون. " (3)
وجوب الشورى :
قال تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 3160)
(2) - تفسير ابن كثير - دار طيبة - (7 / 211)
(3) - تفسير القرطبي ـ موافق للمطبوع - (16 / 37)(1/560)
(159) سورة آل عمران
لَقَدْ كَانَ مِنَ أَصْحَابِكَ مَا يَسْتَحِقُّ المَلاَمَةَ وَالتَّعْنِيفَ،بِمُقْتَضَى الطَّبِيعَةِ البَشَرِيَّةِ،إذْ تَخَلَّوْا عَنْكَ حِينَ اشْتِدَادِ الحَرْبِ،وَشَمَّرُوا لِلْهَزِيمَةِ وَالحَرْبِ قَائِمَةٌ،وَمَعَ ذَلِكَ لِنْتَ لَهُمْ،وَعَامَلْتَهُمْ بِالحُسْنَى،لِرَحْمَةٍ أوْدَعَها اللهُ فِي قَلْبِكَ،وَخَصَّكَ بِهَا.وَقَدْ مَدَحَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - بِحُسْنِ الخُلُقِ فِي أَكْثَرِ مِنْ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ العَزِيزِ.ثُمَّ قَالَ لَوْ كُنْتَ خَشِناً جَافِياً فِي مُعَامَلَتِهِمْ لَتَفَرَّقُوا عَنْكَ،وَلَنَفَرُوا مِنْكَ،وَلَمْ يَسْكُنُوا إلَيْكَ،وَلَكِنَّ اللهَ جَمَعَهُمْ عَلَيْكَ،وَأَلانَ جَانِبَكَ لَهُمْ تَأَلُّفاً لِقُلُوبِهِمْ.ثُمَّ أمَرَ اللهُ رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنْ يَتَجَاوَزَ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ وَهَفَوَاتِهِمْ،وَأنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُم الله،وَأنْ يُشَاوِرَهُمْ فِي الأَمْرِ تَطِييباً لِقُلُوبِهِمْ،وَشَحْذاً لِهِمَمِهِمْ .
ثُمَّ يَقُولُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ.فَإذا شَاوَرْتَهُمْ فِي الأَمْرِ،وَعَزَمْتَ عَلَى إِنْفَاذِهِ،فَتَوكَّلْ عَلَى اللهِ فِيهِ،لأنَّ اللهَ يُحِبُّ مَنْ يَتَوكَّلُ عَلَيْهِ،وَيَثِقُ بِنَصْرِهِ . (1)
قال ابن عطية:والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ؛ من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب. هذا ما لا خلاف فيه. وقد مدح الله المؤمنين بقوله:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]. قال أعرابي:ما غبنت قط حتى يغبن قومي ؛ قيل:وكيف ذلك ؟ قال لا أفعل شيئا حتى أشاورهم. وقال ابن خويز منداد:واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون،وفيما أشكل عليهم من أمور الدين،ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب،ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح،ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها. وكان يقال:ما ندم من استشار. وكان يقال:من أعجب برأيه ضل. (2)
وبهذا النص الجازم:«وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» .. يقرر الإسلام هذا المبدأ في نظام الحكم - حتى ومحمد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يتولاه. وهو نص قاطع لا يدع للأمة المسلمة شكا في أن الشورى مبدأ أساسي،لا يقوم نظام الإسلام على أساس سواه .. أما شكل الشورى،والوسيلة التي تتحقق بها،فهذه أمور قابلة للتحوير والتطوير وفق أوضاع الأمة وملابسات حياتها. وكل شكل وكل وسيلة،تتم بها حقيقة الشورى - لا مظهرها - فهي من الإسلام. لقد جاء هذا النص عقب وقوع نتائج للشورى تبدو في ظاهرها خطيرة مريرة! فقد كان من جرائها ظاهريا وقوع خلل في وحدة الصف المسلم! اختلفت الآراء. فرأت مجموعة أن يبقى المسلمون في المدينة محتمين بها،حتى إذا هاجمهم العدو قاتلوه على أفواه الأزقة. وتحمست مجموعة أخرى فرأت الخروج للقاء المشركين.وكان من جراء هذا الاختلاف ذلك الخلل في وحدة الصف. إذ عاد عبد اللّه بن أبي بن سلول بثلث الجيش،والعدو على
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 452)
(2) - تفسير القرطبي ـ موافق للمطبوع - (4 / 249)(1/561)
الأبواب - وهو حدث ضخم وخلل مخيف - كذلك بدا أن الخطة التي نفذت لم تكن - في ظاهرها - أسلم الخطط من الناحية العسكرية. إذ أنها كانت مخالفة «للسوابق» في الدفاع عن المدينة - كما قال عبد اللّه ابن أبي - وقد اتبع المسلمون عكسها في غزوة الأحزاب التالية،فبقوا فعلا في المدينة،وأقاموا الخندق،ولم يخرجوا للقاء العدو. منتفعين بالدرس الذي تلقوه في أحد! ولم يكن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - يجهل النتائج الخطيرة التي تنتظر الصف المسلم من جراء الخروج.فقد كان لديه الإرهاص من رؤياه الصادقة،التي رآها،والتي يعرف مدى صدقها. وقد تأولها قتيلا من أهل بيته،وقتلى من صحابته،وتأول المدينة درعا حصينة .. وكان من حقه أن يلغي ما استقر عليه الأمر نتيجة للشورى .. ولكنه أمضاها وهو يدرك ما وراءها من الآلام والخسائر والتضحيات. لأن إقرار المبدأ،وتعليم الجماعة،وتربية الأمة،أكبر من الخسائر الوقتية.ولقد كان من حق القيادة النبوية أن تنبذ مبدأ الشورى كله بعد المعركة. أمام ما أحدثته من انقسام في الصفوف في أحرج الظروف وأمام النتائج المريرة التي انتهت إليها المعركة! ولكن الإسلام كان ينشئ أمة،ويربيها،ويعدها لقيادة البشرية. وكان اللّه يعلم أن خير وسيلة لتربية الأمم وإعدادها للقيادة الرشيدة،أن تربى بالشورى وأن تدرب على حمل التبعة،وأن تخطئ - مهما يكن الخطأ جسيما وذا نتائج مريرة - لتعرف كيف تصحح خطأها،وكيف تحتمل تبعات رأيها وتصرفها. فهي لا تتعلم الصواب إلا إذا زاولت الخطأ ..والخسائر لا تهم إذا كانت الحصيلة هي إنشاء الأمة المدربة المدركة المقدرة للتبعة. واختصار الأخطاء والعثرات والخسائر في حياة الأمة ليس فيها شيء من الكسب لها،إذا كانت نتيجته أن تظل هذه الأمة قاصرة كالطفل تحت الوصاية. إنها في هذه الحالة تتقي خسائر مادية وتحقق مكاسب مادية. ولكنها تخسر نفسها،وتخسر وجودها،وتخسر تربيتها،وتخسر تدريبها على الحياة الواقعية. كالطفل الذي يمنع من مزاولة المشي - مثلا - لتوفير العثرات والخبطات،أو توفير الحذاء! كان الإسلام ينشئ أمة ويربيها،ويعدها للقيادة الراشدة. فلم يكن بد أن يحقق لهذه الأمة رشدها،ويرفع عنها الوصاية في حركات حياتها العملية الواقعية،كي تدرب عليها في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبإشرافه. ولو كان وجود القيادة الراشدة يمنع الشورى،ويمنع تدريب الأمة عليها تدريبا عمليا واقعيا في أخطر الشؤون - كمعركة أحد التي قد تقرر مصير الأمة المسلمة نهائيا،وهي أمة ناشئة تحيط بها العداوات والأخطار من كل جانب - ويحل للقيادة أن تستقل بالأمر وله كل هذه الخطورة - لو كان وجود القيادة الراشدة في الأمة يكفي ويسد مسد مزاولة الشورى في أخطر الشؤون،لكان وجود محمد - صلى الله عليه وسلم - ومعه الوحي من اللّه سبحانه وتعالى - كافيا لحرمان الجماعة المسلمة يومها من حق الشورى! - وبخاصة على ضوء النتائج المريرة التي صاحبتها في ضلل الملابسات الخطيرة لنشأة الأمة المسلمية. ولكن وجود محمد(1/562)
رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ومعه الوحي الإلهي ووقوع تلك الأحداث،ووجود تلك الملابسات،لم يلغ هذا الحق. لأن اللّه - سبحانه - يعلم أن لا بد من مزاولته في أخطر الشؤون،ومهما تكن النتائج،ومهما تكن الخسائر،ومهما يكن انقسام الصف،ومهما تكن التضحيات المريرة،ومهما تكن الأخطار المحيطة ..لأن هذه كلها جزئيات لا تقوم أمام إنشاء الأمة الراشدة،المدربة بالفعل على الحياة المدركة لتبعات الرأي والعمل،الواعية لنتائج الرأي والعمل .. ومن هنا جاء هذا الأمر الإلهي،في هذا الوقت بالذات:«فَاعْفُ عَنْهُمْ،وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ،وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» ..ليقرر المبدأ في مواجهة أخطر الأخطار التي صاحبت استعماله وليثبت هذا القرار في حياة الأمة المسلمة أيا كانت الأخطار التي تقع في أثناء التطبيق وليسقط الحجة الواهية التي تثار لإبطال هذا المبدأ في حياة الأمة المسلمة،كلما نشأ عن استعماله بعض العواقب التي تبدو سيئة،ولو كان هو انقسام الصف،كما وقع في «أحد» والعدو على الأبواب .. لأن وجود الأمة الراشدة مرهون بهذا المبدأ. ووجود الأمة الراشدة أكبر من كل خسارة أخرى في الطريق! على أن الصورة الحقيقية للنظام الإسلامي لا تكمل حتى نمضي مع بقية الآية فنرى أن الشورى لا تنتهي أبدا إلى الأرجحة والتعويق،ولا تغني كذلك عن التوكل على اللّه في نهاية المطاف:«فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» ..إن مهمة الشورى هي تقليب أوجه الرأي،واختيار اتجاه من الاتجاهات المعروضة،فإذا انتهى الأمر إلى هذا الحد،انتهى دور الشورى وجاء دور التنفيذ .. التنفيذ في عزم وحسم،وفي توكل على اللّه،يصل الأمر بقدر اللّه،ويدعه لمشيئته تصوغ العواقب كما تشاء.وكما ألقى النبي - صلى الله عليه وسلم - درسه النبوي الرباني،وهو يعلم الأمة الشورى،ويعلمها إبداء،الرأي،واحتمال تبعته بتنفيذه،في أخطر الشؤون وأكبرها .. كذلك ألقى عليها درسه الثاني في المضاء بعد الشورى،وفي التوكل على اللّه،وإسلام النفس لقدره - على علم بمجراه واتجاهه - فأمضى الأمر في الخروج،ودخل بيته فلبس درعه ولأمته - وهو يعلم إلى أين هو ماض،وما الذي ينتظره وينتظر الصحابة معه من آلام وتضحيات .. وحتى حين أتيحت فرصة أخرى بتردد المتحمسين،وخوفهم من أن يكونوا استكرهوه - صلى الله عليه وسلم - على ما لا يريد،وتركهم الأمر له ليخرج أو يبقى .. حتى حين أتيحت هذه الفرصة لم ينتهزها ليرجع. لأنه أراد أن يعلمهم الدرس كله. درس الشورى. ثم العزم والمضي. مع التوكل على اللّه والاستسلام لقدره. وأن يعلمهم أن للشورى وقتها،ولا مجال بعدها للتردد والتأرجح ومعاودة تقليب الرأي من جديد.فهذا مآلة الشلل والسلبية والتأرجح الذي لا ينتهي .. إنما هو رأي وشورى. وعزم ومضاء. وتوكل على اللّه،يحبه اللّه:
«إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» ..والخلة التي يحبها اللّه ويحب أهلها هي الخلة التي ينبغي أن يحرص عليها المؤمنون. بل هي التي تميز المؤمنين ..والتوكل على اللّه،ورد الأمر إليه في النهاية،هو خط التوازن(1/563)
الأخير في التصور الإسلامي وفي الحياة الإسلامية.وهو التعامل مع الحقيقة الكبيرة:حقيقة أن مرد الأمر كله للّه،وأن اللّه فعال لما يريد ..لقد كان هذا درسا من دروس «أحد» الكبار. هو رصيد الأمة المسلمة في أجيالها كلها،وليس رصيد جيل بعينه في زمن من الأزمان .. (1)
وقال أستاذنا الزحيلي:" اختلف الفقهاء في حكم الشورى: هل هي ملزمة للحاكم،أو اختيارية،وهل نتيجتها ملزمة أو اختيارية أيضاً؟.
قال جماعة: إن الشورى فيما لم ينزل فيه وحي في مكايد الحروب وعند لقاء العدو اختيارية،تطييباً للنفوس ورفعاً للأقدار،وتألفاً على الدين؛ لقوله تعالى: {فإذا عزمت فتوكل على الله } [آل عمران:159/3] والعزم من الحاكم قد يكون على رأيه أو رأي المستشارين،ولأن أبا بكر حينما استشار الناس بمحاربة المرتدين،لم ير غالبية المسلمين ومنهم عمر قتالهم،وأخذ أبو بكر برأيه الذي لم يفرق بين الصلاة والزكاة قائلاً: والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لحاربتهم عليه.
وقال آخرون: إن الحاكم ملزم برأي أغلبية المستشارين من أهل الحل والعقد عملاً بالأوامر القرآنية،ويصبح الأمر عديم الأثر إذا لم يلزم الحاكم بنتيجتها. وقد عمل بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الراشدون من بعده (2) .
ورأيي هو القول بوجوب الشورى على كل حاكم وضرورتها له وإلزامه بنتيجتها كما قرر المفسرون (3) ،لتسير الأمور على وفق الحكمة والمصلحة،ومنعاً من الاستبداد بالرأي؛ لأن حكم الإسلام يقوم على أصل الشورى،وبه تميز،وعلى نهجه سار السلف الصالح،وذلك ما لم يستطع الحاكم إقناع أهل الشورى بأفضلية رأيه،كما فعل أبو بكر الذي ما فتئ يوضح رأيه للمسلمين في شأن حرب المرتدين وجمع القرآن،حتى شرح الله صدورهم له،كما قال عمر رضي الله عنه. وكما فعل أيضاً بإقناع مخالفيه في قسمة سواد العراق،حتى شرح صدورهم لرأيه ووافقوه على فعله،فكان الرأي مجمعاً عليه،كما ذكر أبو يوسف في كتاب الخراج وغيره من الفقهاء.أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو بحق لم يكن بحاجة للشورى لاعتماده على الوحي،ومع ذكل فإنه كان يشاور أصحابه تطييباً لقلوبهم وتعليماً لمن بعده (4)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 501)
(2) - راجع تفسير الطبري: 343/7-346، والقرطبي: 249/4-253، وابن كثير: 420/1، 118/4 عند تفسير آية {وشاورهم في الأمر} آل عمران: 159، تفسير الزمخشري: 357/1 وما بعدها، تفسير الألوسي: 106/4 وما بعدها، 46/25، الجصاص، المرجع السابق، البيضاوي: 50/1، 145/4، ط التجارية.
(3) - راجع تفسير الطبري: 345/7، ط دار المعارف.
(4) - راجع الآراء الأربعة في تحديد المقصود من أمر النبي بالمشاورة في الأحكام السلطانية للماوردي:ص41.(1/564)
قال الحسن رضي الله عنه: علم الله أنه ما به إليهم حاجة،ولكنه أراد أن يستن به من بعده. وهذا هو معنى قوله تعالى {فإذا عزمت فتوكل على الله } [آل عمران:159/3] أي فإذا قطعت الرأي على شيء بعد الشورى،فتوكل على الله في إمضاء أمرك على الأرشد الأصلح،فإن ما هو أصلح لك لا يعلمه إلا الله،لا أنت ولا من تشاور،والله هو الذي يرشدك للأفضل بالوحي،روى البيهقي عن ابن عباس قال: «أما إن الله ورسوله لغنيان عنها،ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي،فمن استشار منهم لم يعدم رشداً،ومن تركها لم يعدم غياً» قال ابن عطية: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام،من لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب،هذا ما لا خلاف فيه،وقد مدح الله المؤمنين بقوله: {وأمرهم شورى بينهم} [الشورى:38/42]. وقال ابن أبي خُوَيزمَنْداد: واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون،وما أشكل عليهم من أمور الدين،ووجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب،ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح،ووجوه الكتاب والوزراء والعمال فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها (1) .
ويلاحظ الفرق بين مجالس الشورى في الشريعة ومجالس الشورى في النظم الوضعية القانونية،فإن مجلس الشورى في الإسلام ليس بمشرِّع،وإنما هو مجرد كاشف وباحث عن حكم الله تعالى،لذا يستوي فيه القلة والكثرة الغالبة. أما مجلس الشورى في الأنظمة الوضعية فهو مشرع،فيلزم الحاكم برأي الأكثرية. (2)
وفي الموسوعة الفقهية:" لِلْعُلَمَاءِ فِي حُكْمِ الشُّورَى - مِنْ حَيْثُ هِيَ - رَأْيَانِ:
الأَْوَّل:الْوُجُوبُ:وَيُنْسَبُ هَذَا الْقَوْل لِلنَّوَوِيِّ،وَابْنِ عَطِيَّةَ،وَابْنِ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ،وَالرَّازِيِّ .
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَْمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } ( سورة آل عمران / 159 ) وَظَاهِرُ الأَْمْرِ فِي قَوْله تَعَالَى:{ وَشَاوِرْهُمْ } يَقْتَضِي الْوُجُوبَ.وَالأَْمْرُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمُشَاوَرَةِ،أَمْرٌ لأُِمَّتِهِ لِتَقْتَدِيَ بِهِ وَلاَ تَرَاهَا مَنْقَصَةً،كَمَا مَدَحَهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قَوْلِهِ:{ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } (سورة الشورى / 38 ) .قَال ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ:وَاجِبٌ عَلَى الْوُلاَةِ مُشَاوَرَةُ الْعُلَمَاءِ فِيمَا لاَ يَعْلَمُونَ،وَمَا أَشْكَل عَلَيْهِمْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ،وَوُجُوهِ الْجَيْشِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَرْبِ،وَوُجُوهِ النَّاسِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ،وَوُجُوهِ الْكُتَّابِ وَالْوُزَرَاءِ وَالْعُمَّال،فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِمَصَالِحِ الْبِلاَدِ وَعِمَارَتِهَا .قَال ابْنُ عَطِيَّةَ:" وَالشُّورَى مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ،وَعَزَائِمِ الأَْحْكَامِ،وَمَنْ لاَ يَسْتَشِيرُ أَهْل الْعِلْمِ وَالدِّينِ فَعَزْلُهُ وَاجِبٌ وَهَذَا مِمَّا لاَ اخْتِلاَفَ
__________
(1) - راجع تفسير القرطبي: 249/4 وما بعدها.
(2) - الفقه الإسلامي وأدلته - (8 / 324)(1/565)
فِيهِ (1) " .
وَلاَ يَصِحُّ اعْتِبَارُ الأَْمْرِ بِالشُّورَى لِمُجَرَّدِ تَطْيِيبِ نُفُوسِ الصَّحَابَةِ،وَلِرَفْعِ أَقْدَارِهِمْ ؛ لأَِنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ أَنَّ مَشُورَتَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَغَيْرُ مَعْمُولٍ عَلَيْهَا مَعَ اسْتِفْرَاغِهِمْ لِلْجَهْدِ فِي اسْتِنْبَاطِ مَا شُوِرُوا فِيهِ،لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَطْيِيبٌ لِنُفُوسِهِمْ وَلاَ رَفْعٌ لأَِقْدَارِهِمْ،بَل فِيهِ إِيحَاشُهُمْ وَإِعْلاَمُهُمْ بِعَدَمِ قَبُول مَشُورَتِهِمْ (2) .
الثَّانِي:النَّدْبُ.وَيُنْسَبُ هَذَا الْقَوْل لِقَتَادَةَ،وَابْنِ إِسْحَاقَ،وَالشَّافِعِيِّ،وَالرَّبِيعِ .وَاسْتَدَلُّوا بِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ أُمِرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُشَاوِرَ أَصْحَابَهُ فِي مَكَائِدِ الْحُرُوبِ،وَعِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ،هُوَ تَطْيِيبٌ لِنُفُوسِهِمْ،وَرَفْعٌ لأَِقْدَارِهِمْ،وَتَأَلُّفُهُمْ عَلَى دِينِهِمْ - وَإِنْ كَانَ اللَّهُ قَدْ أَغْنَاهُ عَنْ رَأْيِهِمْ بِوَحْيِهِ .وَلَقَدْ كَانَتْ سَادَاتُ الْعَرَبِ إِذَا لَمْ يُشَاوَرُوا فِي الأَْمْرِ شَقَّ عَلَيْهِمْ،فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُشَاوِرَهُمْ لِيَعْرِفُوا إِكْرَامَهُ لَهُمْ فَتَذْهَبَ أَضْغَانُهُمْ.فَالأَْمْرُ فِي الآْيَةِ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ كَمَا فِي قَوْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - : الْبِكْرُ تُسْتَأْمَرُ (3) ،وَلَوْ أَجْبَرَهَا الأَْبُ عَلَى النِّكَاحِ جَازَ.لَكِنَّ الأَْوْلَى أَنْ يَسْتَأْمِرَهَا،وَيَسْتَشِيرَهَا تَطْيِيبًا لِنَفْسِهَا ؛ فَكَذَا هَاهُنَا (4) .
قلت:القول بوجوب الشورى هو الصواب الذي لا يجوز العدول عنه،وإلا كانت لعباً لا قيمة لها.
مقصد الشورى:
قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (71) سورة التوبة
المُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَيْنَهُمْ أُخُوَّةٌ،وَمَوَدَّةٌ،وَتَعَاوُنٌ،وَتَرَاحُمٌ،وَيَتَّصِفُونَ بِالصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ التِي يَأْمُرُهُمْ بِهَا دِينُهُمْ:فَيَتَنَاصَرُونَ وَيَتَعَاضَدُونَ وَيَفْعَلُونَ الخَيْرَ،وَيَأْمُرُونَ بِهِ،وَيَنْتَهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنْهُ،وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤَدُّونَهَا حَقَّ أَدَائِهَا،وَيُؤَدُّونَ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا،وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَمَرَ،وَيَتْرُكُونَ مَا نَهَى عَنْهُ وَزَجَرَ.وَالمُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الطَّيِّبَةِ الْكَرِيمَةِ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ،وَاللهُ عَزِيزُ الجَانِبِ،يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ،وَهُوَ حَكِيمٌ فِي قِسْمَتِهِ الصِّفَاتِ بَيْنَ خَلْقِهِ،فَجَعَلَ المُؤْمِنِينَ
__________
(1) - تفسير القرطبي 4 / 249، أحكام القرآن للجصاص 2 / 48، تفسير الفخر الرازي 9 / 67، مواهب الجليل 3 / 395 - 396، بدائع السلك في طبائع الملك 1 / 295 .
(2) - أحكام القرآن للجصاص 2 / 49 .
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (6946)
(4) - الموسوعة الفقهية الكويتية - (26 / 279) وتفسير الفخر الرازي 9 / 67، وتفسير القرطبي 4 / 250، وأحكام القرآن للجصاص 2 / 48 .(1/566)
يَخْتَصُّونَ بِالصِّفَاتِ الحَمِيدَةِ،وَالمُنَافِقِينَ يَخْتَصُّونَ بِالصِّفِاتِ الذَمِيمَةِ المُنْكَرَةِ . (1)
إذا كان المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض. إذا كانوا جبلة واحدة وطبيعة واحدة .. فالمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض. إن المنافقين والمنافقات مع وحدة طبيعتهم لا يبلغون أن يكونوا أولياء بعضهم لبعض. فالولاية تحتاج إلى شجاعة وإلى نجدة وإلى تعاون وإلى تكاليف. وطبيعة النفاق تأبى هذا كله ولو كان بين المنافقين أنفسهم. إن المنافقين أفراد ضعاف مهازيل،وليسوا جماعة متماسكة قوية متضامنة،على ما يبدو بينهم من تشابه في الطبيعة والخلق والسلوك. والتعبير القرآني الدقيق لا يغفل هذا المعنى في وصف هؤلاء وهؤلاء ..
«الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ» ..
«وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» ..
إن طبيعة المؤمن هي طبيعة الأمة المؤمنة. طبيعة الوحدة وطبيعة التكافل،وطبيعة التضامن،ولكنه التضامن في تحقيق الخير ودفع الشر.
« يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» .. وتحقيق الخير ودفع الشر يحتاج إلى الولاية والتضامن والتعاون. ومن هنا تقف الأمة المؤمنة صفا واحدا. لا تدخل بينها عوامل الفرقة. وحيثما وجدت الفرقة في الجماعة المؤمنة فثمة ولا بد عنصر غريب عن طبيعتها،وعن عقيدتها،هو الذي يدخل بالفرقة. ثمة غرض أو مرض يمنع السمة الأولى ويدفعها. السمة التي يقررها العليم الخبير! «بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ» .. يتجهون بهذه الولاية إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،وإعلاء كلمة اللّه،وتحقيق الوصاية لهذه الأمة في الأرض.
«وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ» ..الصلة التي تربطهم باللّه.
«وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ» ..الفريضة التي تربط بين الجماعة المسلمة،وتحقق الصورة المادية والروحية للولاية والتضامن.
«وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ..فلا يكون لهم هوى غير أمر اللّه وأمر رسوله،ولا يكون لهم دستور إلا شريعة اللّه ورسوله. ولا يكون لهم منهج إلا دين اللّه ورسوله،ولا يكون لهم الخيرة إذا قضى اللّه ورسوله .. وبذلك يوحدون نهجهم ويوحدون هدفهم ويوحدون طريقتهم،فلا تتفرق بهم السبل عن الطريق الواحد الواصل المستقيم.«أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ» ..والرحمة لا تكون في الآخرة وحدها،إنما تكون في هذه الأرض أولا ورحمة اللّه تشمل الفرد الذي ينهض بتكاليف الأمر بالمعروف والنهي عن
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1307)(1/567)
المنكر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وتشمل الجماعة المكونة من أمثال هذا الفرد الصالح. رحمة اللّه في اطمئنان القلب،وفي الاتصال باللّه،وفي الرعاية والحماية من الفتن والأحداث.
ورحمة اللّه في صلاح الجماعة وتعاونها وتضامنها واطمئنان كل فرد للحياة واطمئنانه لرضاء اللّه.
إن هذه الصفات الأربع في المؤمنين:الأمر بالمعروف،والنهي عن المنكر،وإقامة الصلاة،وإيتاء الزكاة،لتقابل من صفات المنافقين:الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ونسيان اللّه وقبض الأيدي .. وإن رحمة اللّه للمؤمنين لتقابل لعنته للمنافقين والكفار .. وإن تلك الصفات لهي التي وعد اللّه المؤمنين عليها بالنصر والتمكين في الأرض ليحققوها في وصايتهم الرشيدة على البشرية:«إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» ..
قادر على إعزاز الفئة المؤمنة ليكون بعضها أولياء بعض في النهوض بهذه التكاليف،حكيم في تقدير النصر والعزة لها،لتصلح في الأرض،وتحرس كلمة اللّه بين العباد.
وإذا كان عذاب جهنم ينتظر المنافقين والكافرين،وكانت لعنته لهم بالمرصاد،وكان نسيانه لهم يدمغهم بالضئالة والحرمان. فإن نعيم الجنة ينتظر المؤمنين:«جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ» ..للإقامة المطمئنة. ولهم فوقها ما هو أكبر وأعظم:«وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» ..وإن الجنة بكل ما فيها من نعيم لتتضاءل وتتوارى في هالات ذلك الرضوان الكريم.«وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ» ..
إن لحظة اتصال باللّه. لحظة شهود لجلاله. لحظة انطلاق من حبسة هذه الأمشاج،ومن ثقلة هذه الأرض وهمومها القريبة. لحظة تنبثق فيها في أعماق القلب البشري شعاعة من ذلك النور الذي لا تدركه الأبصار.
لحظة إشراق تنير فيها حنايا الروح بقبس من روح اللّه .. إن لحظة واحدة من هذه اللحظات التي تتفق للندرة القليلة من البشر في ومضة صفاء،ليتضاءل إلى جوارها كل متاع،وكل رجاء .. فكيف برضوان من اللّه يغمر هذه الأرواح،وتستشعره بدون انقطاع؟ «ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» (1)
وقال الله تعالى: {وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} (83) سورة النساء
يُنْكِرُ اللهُ تَعَالَى عَلى مَنْ يُبَادِرُ إلى الأُمُورِ قَبْلَ أنْ يَتَحَقَقُ مِنْهَا،فَيُخْبِرُ بِهَا وَيُفْشِيهَا،وَيَنْشُرُهَا،وَقَدْ لاَ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1675)(1/568)
يَكُونُ لَهَا أَسَاسٌ مِنَ الصِّحَّةِ،وَيَكُونُ مِنْ شَأْنِهَا أنْ تُحْدِثَ البَلْبَلَةَ فِي الجَمَاعَةِ،وَقَدْ تَكُونُ صَحِيْحَةٌ وَلَكِنْ يَكُونُ فِي إفْشَائِهَا وَالإِعْلاَنِ عَنْهَا مَضَرَّةٌ بِالأمَّةِ،يُفِيدُ مِنْهَا أعْدَاؤُها .
وَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى:لَوْ أنَّ هَؤُلاءِ رَدُّوا مَا سَمِعُوا إلى الرَّسُولِ،وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنَ المُسْلِمِينَ،الذِينَ يَسْتَطِيعُونَ تَقْدِيرَ الأمُورِ،وَمَعْرِفَةَ مَا يَجُوزُ نَشْرُهُ وَإذَاعُتُهُ،وَمَا لاَ يَجُوزُ،لَقَدَّرُوهُ،وَلَرأوا إنْ كَانَ يَحْسُنُ نَشْرُهُ وَإذَاعَتُهُ أوْ لا .وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ وَرَحْمَتِهِ بِكُمْ - إذْ هَدَاكُمْ إلى طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ ظَاهِراً وَبَاطِناً،وَرَدَّ الأُمُورَ العَامَّةَ إلى الرَّسُولِ،وَإلَى أُوْلِي الأَمْرِ - لاَتَّبَعْتُمْ وَسْوَسَةَ الشَّيْطَانِ،كَمَا اتَّبَعَتْها تِلَكَ الطَّائِفَةُ مِنَ المُنَافِقِينَ،التِي تَقُولُ لِلرَّسُولِ:طَاعَةٌ! ثُمَّ تُبَيِّتُ فِعْلَ غَيْرِ مَا قَالَتْ،وَالتِي تُذْيعُ أَمْرَ الأَمْنِ وَالخَوْفِ،وَتُفْسِدُ سِيَاسَةَ الأُمَّةِ،وَلأخَذْتُمْ بِآرَاءِ المُنَافِقِينَ،فِيمَا تَأْتُونَ،وَفِيمَا تَذَرُونَ،وَلَمَا اهْتَدى إلى الصَّوَابِ مِنْكُمْ إلاَّ قَلِيلُونَ (1) .
وقال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ} (13) سورة الشورى
شَرَعَ اللهُ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا شَرَعَ لِنُوحٍ،وَمَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَرْبَابِ الشَّرَائِعِ وَأُوْلِي العَزْمِ مِنَ الرُسُلِ،وَأَمْرَهُمْ أَمْراً مُؤَكَّداً مِمَّا هُوَ أَصْلُ الإِيْمَانِ،وَأَصْلُ الشَّرَائِعِ،مِمَّا لاَ يَخْتَلِفُ بِاخْتَلافِ الزَّمَانِ وَالمَكَانِ:كَالإِيْمَانِ بِاللهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ،وَالإِيْمَانِ بِاليَوْمِ الآخِرِ،وَالإِيْمَانِ بِالمَلاَئِكَةِ وَالكُتُبِ والرُّسُلِ.وَقَدْ أَوْصَاهُمْ تَعَالَى جَمِيعاً بِإِقَامَةِ دِينِ التَّوْحِيدِ والتَّمْسُّكِ بِهِ،وَبِحِفْظِهِ مِنْ أَنْ يَقَعَ فِيهِ زَيغٌ أَوِ اضْطِرَابٌ،وَبِأَلاَّ يَتَفَرَّقُوا فِي أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَمَبَادِئِهَا .
أَمَّا فِي التَّفَاصِيلِ فَقَدْ جَاءَ كُلُّ مُرْسَلٍ بِمَا يُنَاسِبُ قَوْمَهُ وَزَمَانَهُ ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً.وَقَدْ شَقَّ عَلَى المُشْرِكِينَ مَا دَعَوْتَهُمْ إِلَيهِ مِنَ التَّوْحِيدِ،وَتَركِ عِبَادَةِ الأَصْنَامِ،وَمَا أَلْفَوْا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ،وَاللهُ يَصْطَفِي مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيُقَرِّبُهُمْ إِلَيهِ،وَيُوَفِّقُهُمْ لِلعَمَلِ بِطَاعَتِهِ،وَأتِّبَاعِ رُسُلِهِ (2)
لقد جاء في مطلع السورة:«كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .. فكانت هذه إشارة إجمالية إلى وحدة المصدر،ووحدة المنهج،ووحدة الاتجاه. فالآن يفصل هذه الإشارة ويقرر أن ما شرعه اللّه للمسلمين هو - في عمومه - ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى. وهو أن يقيموا دين اللّه الواحد،ولا يتفرقوا فيه. ويرتب عليها نتائجها من وجوب الثبات على المنهج الإلهي القديم،دون التفات إلى أهواء المختلفين. ومن هيمنة هذا الدين الواضح المستقيم،ودحض حجة الذين
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 576)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 4164)(1/569)
يحاجون في اللّه،وإنذارهم بالغضب والعذاب الشديد.
ويبدو من التماسك والتناسق في هذه الفقرة كالذي بدا في سابقتها بشكل ملحوظ:«شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً،وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ،وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى:أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» ..
وبذلك يقرر الحقيقة التي فصلناها في مطلع السورة. حقيقة الأصل الواحد،والنشأة الضاربة في أصول الزمان. ويضيف إليها لمحة لطيفة الوقع في حس المؤمن. وهو ينظر إلى سلفه في الطريق الممتدة من بعيد. فإذا هم على التتابع هؤلاء الكرام .. نوح. إبراهيم. موسى. عيسى،محمد - صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين - ويستشعر أنه امتداد لهؤلاء الكرام وأنه على دربهم يسير. إنه سيستروح السير في الطريق،مهما يجد فيه من شوك ونصب،وحرمان من أعراض كثيرة. وهو برفقة هذا الموكب الكريم على اللّه. الكريم على الكون كله منذ فجر التاريخ.
ثم إنه السّلام العميق بين المؤمنين بدين اللّه الواحد،السائرين على شرعه الثابت وانتفاء الخلاف والشقاق والشعور بالقربى الوثيقة،التي تدعو إلى التعاون والتفاهم،ووصل الحاضر بالماضي،والماضي بالحاضر،والسير جملة في الطريق. وإذا كان الذي شرعه اللّه من الدين للمسلمين المؤمنين بمحمد هو ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى.
ففيم يتقاتل أتباع موسى وأتباع عيسى؟ وفيم يتقاتل أصحاب المذاهب المختلفة من أتباع عيسى وفيم يتقاتل أتباع موسى وعيسى مع أتباع محمد؟ وفيم يتقاتل من يزعمون أنهم على ملة إبراهيم من المشركين مع المسلمين؟
ولم لا يتضام الجميع ليقفوا تحت الراية الواحدة التي يحملها رسولهم الأخير؟ والوصية الواحدة الصادرة للجميع :« أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ»؟ فيقيموا الدين،ويقوموا بتكاليفه،ولا ينحرفوا عنه ولا يلتووا به ويقفوا تحت رايته صفا،وهي راية واحدة،رفعها على التوالي نوح وإبراهيم وموسى وعيسى - صلوات اللّه عليهم - حتى انتهت إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - في العهد الأخير.
ولكن المشركين في أم القرى ومن حولها - وهم يزعمون أنهم على ملة إبراهيم - كانوا يقفون من الدعوة القديمة الجديدة موقفا آخر :
«كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ» ..
كبر عليهم أن يتنزل الوحي على محمد من بينهم وكانوا يريدون أن يتنزل «عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ» أي صاحب سلطان من كبرائهم. ولم تكن صفات محمد الذاتية وهو بإقرارهم الصادق(1/570)
الأمين،ولا كان نسبه وهو من أوسط بيت في قريش. ما كان هذا كله يعدل في نظرهم أن يكون سيد قبيلة ذا سلطان! وكبر عليهم أن ينتهي سلطانهم الديني بانتهاء عهد الوثنية والأصنام والأساطير التي يقوم عليها هذا السلطان وتعتمد عليها مصالحهم الاقتصادية والشخصية. فتشبثوا بالشرك وكبر عليهم التوحيد الخالص الواضح الذي دعاهم إليه الرسول الكريم.
وكبر عليهم أن يقال:إن آباءهم الذين ماتوا على الشرك ماتوا على ضلالة وعلى جاهلية فتشبثوا بالحماقة،وأخذتهم العزة بالإثم،واختاروا أن يلقوا بأنفسهم إلى الجحيم،على أن يوصم آباؤهم بأنهم ماتوا ضالين.والقرآن يعقب على موقفهم هذا بأن اللّه هو الذي يصطفي ويختار من يشاء وأنه كذلك يهدي إليه من يرغب في كنفه،ويتوب إلى ظله من الشاردين :«اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ» ..وقد اجتبى محمدا - صلى الله عليه وسلم - للرسالة. وهو يفتح الطريق لمن ينيب إليه ويثوب.
ثم يعود إلى موقف أتباع الرسل،الذين جاءوا قومهم بدين واحد،فتفرق أتباعهم شيعا وأحزابا:« وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ - بَغْياً بَيْنَهُمْ - وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ،وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» ..
فهم لم يتفرقوا عن جهل ولم يتفرقوا لأنهم لا يعرفون الأصل الواحد الذي يربطهم،ويربط رسلهم ومعتقداتهم. إنما تفرقوا بعد ما جاءهم العلم. تفرقوا بغيا بينهم وحسدا وظلما للحقيقة ولأنفسهم سواء. تفرقوا تحت تأثير الأهواء الجائرة،والشهوات الباغية. تفرقوا غير مستندين إلى سبب من العقيدة الصحيحة والمنهج القويم. ولو أخلصوا لعقيدتهم،واتبعوا منهجهم ما تفرقوا.
ولقد كانوا يستحقون أن يأخذهم اللّه أخذا عاجلا،جزاء بغيهم وظلمهم في هذا التفرق والتفريق. ولكن كلمة سبقت من اللّه لحكمة أرادها،بإمهالهم إلى أجل مسمى «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» .. فحق الحق وبطل الباطل وانتهى الأمر في هذه الحياة الدنيا. ولكنهم مؤجلون إلى يوم الوقت المعلوم.
فأما الأجيال التي ورثت الكتاب من بعد أولئك الذين تفرقوا وفرقوا من أتباع كل نبي،فقد تلقوا عقيدتهم وكتابهم بغير يقين جازم إذ كانت الخلافات السابقة مثارا لعدم الجزم بشي ء،وللشك والغموض والحيرة بين شتى المذاهب والاختلافات :«وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ» ..
وما هكذا تكون العقيدة. فالعقيدة هي الصخرة الصلبة التي يقف عليها المؤمن،فتميد الأرض من حوله وهو ثابت راسخ القدمين فوق الصخرة الصلبة التي لا تميد. والعقيدة هي النجم الهادي الثابت على الأفق يتجه إليه المؤمن وسط الأنواء والزوابع،فلا يضل ولا يحيد. فأما حين تصبح العقيدة ذاتها موضع(1/571)
شك ومثار ريبة،فلا ثبات لشيء ولا لأمر في نفس صاحبها،ولا قرار له على وجهة،ولا اطمئنان إلى طريق.
ولقد جاءت العقيدة ليعرف أصحابها طريقهم ووجهتهم إلى اللّه ويقودوا من وراءهم من البشر في غير ما تلجلج ولا تردد ولا ضلال. فإذا هم استرابوا وشكوا فهم غير صالحين لقيادة أحد،وهم أنفسهم حائرون.وكذلك كان حال أتباع الرسل يوم جاء هذا الدين الجديد. (1)
التأدب في الشورى بآداب المجلس،ومنها:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (11) سورة المجادلة
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه،إذا طُلب منكم أن يوسع بعضكم لبعض المجالس فأوسعوا،يوسع الله عليكم في الدنيا والآخرة،وإذا طلب منكم- أيها المؤمنون- أن تقوموا من مجالسكم لأمر من الأمور التي يكون فيها خير لكم فقوموا،يرفع الله مكانة المؤمنين المخلصين منكم،ويرفع مكانة أهل العلم درجات كثيرة في الثواب ومراتب الرضوان،والله تعالى خبير بأعمالكم لا يخفى عليه شيء منها،وهو مجازيكم عليها.وفي الآية تنويه بمكانة العلماء وفضلهم،ورفع درجاتهم. (2)
وقال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات
اختيار الكفء للفصل في الأمور:
قال الله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (9) سورة الزمر
هَلْ يَسْتَوِي حَالُ هَذَا المُشْرِكِ الذِي يَكْفُرُ بِنعَمِ اللهِ،وَيُشْرِكُ بِهِ الأَصْنَامَ وَالأَنْدَادَ،وَلاَ يَذْكُرُ الله إِلاَّ عِنْدَ الشَّدَّةِ والبَلاَءِ،مَعَ حَالِ مَنْ هُوَ مُؤْمِنٌ قَائِمٌ بِأَدَاءِ الطَّاعَاتِ،وَدَائِبٌ عَلَى العِبَادَاتِ آنَاءَ اللَّيْلِ حِينَمَا يَكُونُ النَّاسُ نِياماً،لاَ يَرْجُو مِنْ أَدَائِهَا غَيْرَ رِضْوَانِ اللهِ وَثَوَابِهِ وَرَحْمَتِهِ،إِنَّهُمَا بِلاَ شَكٍّ لاَ يَسْتَوِيَانِ .ثُمَّ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 3147)
(2) - التفسير الميسر - (10 / 64)(1/572)
أَكَّدَ اللهُ تَعَالَى عَدَمَ التَّسَاوِي بَيْنَ المُؤْمِنِ المُطِيعِ والكَافِرِ الجَاحِدِ،فَقَالَ لرَسُولِهِ الكَرِيمِ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤَلاَءِ:هَلْ يَسْتَوِي الذِينَ يَعْلَمُونَ مَا لَهُمْ فِي طَاعَةِ رَبِّهِمْ مِنْ ثَوَابٍ،وَمَا لَهُمْ فِي مَعْصِيَتِهِ مِنْ عِقَابٍ،وَالذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ وَإِنَّمَا يَعْتَبِرُ بِحُجَجِ اللهِ،وَيَتَّعِظُ بِهَا،وَيَتَدَبَّرُهَا أَهَلُ العُقُولِ والأَفْهَامِ،لاَ أَهْلَ الجَهْلِ والغَفْلَةِ . (1)
وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللهِ،فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ،فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً،فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا،وَلاَ يُؤَمَّ الرَّجُلُ فِي سُلْطَانِهِ وَلاَ يُجْلَسَ عَلَى تَكْرِمَتِهِ فِي بَيْتِهِ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ. أخرجه مسلم (2) .
أهل الشورى:
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} (119) سورة التوبة
وقال الله تعالى: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } (26) سورة القصص
وقال تعالى:{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (55) سورة يوسف
وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (59) سورة النساء
فِي هَذِهِ الآيَةِ يَأمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِإِطَاعَتِهِ تَعَالَى،وَبِالعَمَلِ بِكِتَابِهِ،وَبِإِطَاعَةِ رَسُولِهِ،لأَنَّهُ يُبَيِّنُ لِلْنَّاسِ مَا نَزَلَ إِلَيْهِمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ،وَيُبَلِّغُ عَنِ اللهِ شَرْعَُ وَأَوَامِرَهُ،كَمَا يَأْمُرُ اللهُ بِإِطَاعَةِ أُوْلِي الأمْرِ،مِنْ حُكَّامٍ وَأُمَرَاءٍ وَرُؤَسَاءٍ جُنْدٍ،مِمَّنْ يَرْجِعُ النَّاسُ إلَيْهِمْ فِي الحَاجَاتِ،وَالمَصَالِحِ العَامَّةِ،فَهَؤُلاءِ إذَا اتَّفَقُوا عَلَى أَمْرٍ وَجَبَ أنْ يُطَاعُوا فِيهِ،بِشَرْطِ أنْ يَكُونُوا أُمَنَاءَ،وَأنْ لاَ يُخَالِفُوا أَمْرَ اللهِ،وَلاَ سُنَّةَ نَبِّيهِ التِي عُرِفَتْ بِالتَّوَاتُرِ،وَأنْ يَكُونُوا مُخْتَارِينَ فِي بَحْثِهِمْ فِي الأَمْرِ،وَاتِّفَاقِهِمْ عَلَيْهِ غَيْرَ مُكْرَهِينَ عَلَيهِ بِقُوَّةِ أَحَدٍ أَوْ نُفُوذِهِ .وَكُلُّ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ المُسْلِمُونَ فَمِنَ الوَاجِبِ رَدُّهُ إلى كِتَابِ اللهِ،وَسُنَّةِ رَسُولِهِ،وَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ،وَيَحْتَكِمْ إلَى كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ،فَلَيْسَ مُؤْمِناً بِاللهِ وَلاَ بِاليَوْمِ الآخِرِ .وَمَنْ يَحْتَكِم إلى شَرْعِ اللهِ،وَسُنَّةِ رَسُولِهِ،فَذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ وَأَحْسَنُ عَاقِبَةً وَمَآلاً ( تَأْوِيلاً )،لأنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُشَرِّعْ لِلنَّاسِ إلاَّ مَا فِيهِ
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 3946)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (1564 ) وصحيح ابن حبان - (5 / 501) (2127)
السلم : الإسلام -التكرمة : الفراش والبساط الخاص بصاحب المنزل(1/573)
مَصْلَحَتُهُمْ وَمَنْفَعَتُهُمْ،وَالاحْتِكَامِ إلى الشَّرْعِ يَمْنَعُ الاخْتِلافَ المُؤَدِّي إلَى التَّنَازُعِ وَالضَّلاَلِ . (1)
إن للعقل البشري وزنه وقيمته بوصفه أداة من أدوات المعرفة والهداية في الإنسان .. هذا حق .. ولكن هذا العقل البشري هو عقل الأفراد والجماعات في بيئة من البيئات،متأثرا بشتى المؤثرات .. ليس هناك ما يسمى «العقل البشري» كمدلول مطلق! إنما هناك عقلي وعقلك،وعقل فلان وعلان،وعقول هذه المجموعة من البشر،في مكان ما وفي زمان ما .. وهذه كلها واقعة تحت مؤثرات شتى تميل بها من هنا،وتميل بها من هناك ..ولا بد من ميزان ثابت،ترجع إليه هذه العقول الكثيرة فتعرف عنده مدى الخطأ والصواب في أحكامها وتصوراتها. ومدى الشطط والغلو،أو التقصير والقصور في هذه الأحكام والتصورات. وقيمة العقل البشري هنا هو أنه الأداة المهيأة للإنسان،ليعرف بها وزن أحكامه في هذا الميزان .. الميزان الثابت،الذي لا يميل مع الهوى،ولا يتأثر بشتى المؤثرات ..
ولا عبرة بما يضعه البشر أنفسهم من موازين .. فقد يكون الخلل في هذه الموازين ذاتها. فتختل جميع القيم .. ما لم يرجع الناس إلى ذلك الميزان الثابت القويم.واللّه يضع هذا الميزان للبشر،للأمانة والعدل،ولسائر القيم،وسائر الأحكام،وسائر أوجه النشاط،في كل حقل من حقول الحياة:«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ،وَأُولِي الْأَمْرِ .. مِنْكُمْ .. فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ،فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ. إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» ..
وفي هذا النص القصير يبين اللّه - سبحانه - شرط الإيمان وحد الإسلام. في الوقت الذي يبين فيه قاعدة النظام الأساسي في الجماعة المسلمة وقاعدة الحكم،ومصدر السلطان .. وكلها تبدأ وتنتهي عند التلقي من اللّه وحده والرجوع إليه فيما لم ينص عليه نصا،من جزئيات الحياة التي تعرض في حياة الناس على مدى الأجيال مما تختلف فيه العقول والآراء والأفهام .. ليكون هنالك الميزان الثابت،الذي ترجع إليه العقول والآراء والأفهام! إن «الحاكمية» للّه وحده في حياة البشر - ما جل منها وما دق،وما كبر منها وما صغر - واللّه قد سن شريعة أودعها قرآنه. وأرسل بها رسولا يبينها للناس. ولا ينطق عن الهوى. فسنته - صلى الله عليه وسلم - من ثم شريعة من شريعة اللّه.
واللّه واجب الطاعة. ومن خصائص ألوهيته أن يسن الشريعة. فشزيعته واجبة التنفيذ. وعلى الذين آمنوا أن يطيعوا اللّه - ابتداء - وأن يطيعوا الرسول - بما له من هذه الصفة. صفة الرسالة من اللّه - فطاعته إذن من طاعة اللّه،الذي أرسله بهذه الشريعة،وببيانها للناس في سنته .. وسنته وقضاؤه - على هذا - جزء من الشريعة واجب النفاذ .. والإيمان يتعلق - وجودا وعدما - بهذه الطاعة وهذا التنفيذ - بنص القرآن:«إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» ..
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 552)(1/574)
فأما أولو الأمر فالنص يعين من هم.«وَأُولِي الْأَمْرِ .. مِنْكُمْ ..» أي من المؤمنين .. الذين يتحقق فيهم شرط الإيمان وحد الإسلام المبين في الآية .. من طاعة اللّه وطاعة الرسول وإفراد اللّه - سبحانه - بالحاكمية وحق التشريع للناس ابتداء والتلقي منه وحده - فيما نص عليه - والرجوع إليه أيضا فيما تختلف فيه العقول والأفهام والآراء،مما لم يرد فيه نص لتطبيق المبادئ العامة في النصوص عليه.
والنص يجعل طاعة اللّه أصلا وطاعة رسوله أصلا كذلك - بما أنه مرسل منه - ويجعل طاعة أولي الأمر ..منكم .. تبعا لطاعة اللّه وطاعة رسوله. فلا يكرر لفظ الطاعة عند ذكرهم،كما كررها عند ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليقرر أن طاعتهم مستمدة من طاعة اللّه وطاعة رسوله - بعد أن قرر أنهم «منكم» بقيد الإيمان وشرطه ..
وطاعة أولي الأمر .. منكم .. بعد هذه التقريرات كلها،في حدود المعروف المشروع من اللّه،والذي لم يرد نص بحرمته ولا يكون من المحرم عند ما يرد إلى مبادئ شريعته،عند الاختلاف فيه .. والسنة تقرر حدود هذه الطاعة،على وجه الجزم واليقين:في الصحيحين من حديث الأعمش:«إنما الطاعة في المعروف».وفيهما من حديث يحيى القطان:«السمع والطاعة على المرء المسلم. فيما أحب أو كره. ما لم يؤمر بمعصية.فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة».
وأخرج مسلم من حديث أم الحصين:«ولو استعمل عليكم عبد. يقودكم بكتاب اللّه. اسمعوا له وأطيعوا» ..
بهذا يجعل الإسلام كل فرد أمينا على شريعة اللّه وسنة رسوله. أمينا على إيمانه هو ودينه. أمينا على نفسه وعقله.
أمينا على مصيره في الدنيا والآخرة .. ولا يجعله بهيمة في القطيع تزجر من هنا أو من هنا فتسمع وتطيع! فالمنهج واضح،وحدود الطاعة واضحة. والشريعة التي تطاع والسنة التي تتبع واحدة لا تتعدد،ولا تتفرق،ولا يتوه فيها الفرد بين الظنون! ذلك فيما ورد فيه نص صريح. فأما الذي لم يرد فيه نص. وأما الذي يعرض من المشكلات والأقضية،على مدى الزمان وتطور الحاجات واختلاف البيئات - ولا يكون فيه نص قاطع،أو لا يكون فيه نص على الإطلاق .. مما تختلف في تقديره العقول والآراء والأفهام - فإنه لم يترك كذلك تيها. ولم يترك بلا ميزان.
ولم يترك بلا منهج للتشريع فيه والتفريع .. ووضع هذا النص القصير،منهج الاجتهاد كله،وحدده بحدوده وأقام «الأصل» الذي يحكم منهج الاجتهاد أيضا.«فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ» ..ردوه إلى النصوص التي تنطبق عليه ضمنا. فإن لم توجد النصوص التي تنطبق على هذا النحو،فردوه إلى المبادئ الكلية العامة في منهج اللّه وشريعته .. وهذه ليست عائمة،ولا فوضى،ولا(1/575)
هي من المجهلات التي تتيه فيها العقول كما يحاول بعض المخادعين أن يقول. وهناك - في هذا الدين - مبادئ أساسية واضحة كل الوضوح،تغطي كل جوانب الحياة الأساسية،وتضع لها سياجا خرقه لا يخفى على الضمير المسلم المضبوط بميزان هذا الدين .«إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ» ..تلك الطاعة للّه والطاعة للرسول،ولأولي الأمر المؤمنين القائمين على شريعة اللّه وسنة الرسول .. ورد ما يتنازع فيه إلى اللّه والرسول .. هذه وتلك شرط الإيمان باللّه واليوم الآخر. كما أنها مقتضى الإيمان باللّه واليوم الآخر ..فلا يوجد الإيمان ابتداء وهذا الشرط مفقود .. ولا يوجد الإيمان،ثم يتخلف عنه أثره الأكيد.وبعد أن يضع النص المسألة في هذا الوضع الشرطي،يقدمها مرة أخرى في صورة «العظة» والترغيب والتحبيب على نحو ما صنع في الأمر بالأمانة والعدل ثم التحبيب فيها والترغيب:«ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» ..ذلك خير لكم وأحسن مآلا. خير في الدنيا وخير في الآخرة. وأحسن مآلا في الدنيا وأحسن مآلا في الآخرة كذلك .. فليست المسألة أن اتباع هذا المنهج يؤدي إلى رضاء اللّه وثواب الآخرة - وهو أمر هائل،عظيم - ولكنه كذلك يحقق خير الدنيا وحسن مآل الفرد والجماعة في هذه الحياة القريبة. إن هذا المنهج معناه:أن يستمتع «الإنسان» بمزايا منهج يضعه له اللّه .. اللّه الصانع الحكيم العليم البصير الخبير .. منهج بريء من جهل الإنسان،وهوى الإنسان،وضعف الإنسان. وشهوة الإنسان .. منهج لا محاباة فيه لفرد،ولا لطبقة،ولا لشعب،ولا لجنس،ولا لجيل من البشر على جيل .. لأن اللّه رب الجميع،ولا تخالجه - سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - شهوة المحاباة لفرد،أو طبقة،أو شعب،أو جنس،أو جيل. ومنهج من مزاياه،أن صانعه هو صانع هذا الإنسان .. الذي يعلم حقيقة فطرته،والحاجات الحقيقية لهذه الفطرة،كما يعلم منحنيات نفسه ودروبها ووسائل خطابها وإصلاحها،فلا يخبط - سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا - في تيه التجارب بحثا عن منهج يوافق. ولا يكلف البشر ثمن هذه التجارب القاسية،حين يخبطون هم في التيه بلا دليل! وحسبهم أن يجربوا في ميدان الإبداع المادي ما يشاءون. فهو مجال فسيح جد فسيح للعقل البشري. وحسبهم كذلك أن يحاول هذا العقل تطبيق ذلك المنهج ويدرك مواضع القياس والاجتهاد فيما تتنازع فيه العقول.ومنهج من مزاياه أن صانعه هو صانع هذا الكون،الذي يعيش فيه الإنسان. فهو يضمن للإنسان منهجا تتلاءم قواعده مع نواميس الكون فلا يروح يعارك هذه النواميس. بل يروح يتعرف إليها،ويصادقها،وينتفع بها .. والمنهج يهديه في هذا كله ويحميه.ومنهج من مزاياه أنه - في الوقت الذي يهدي فيه الإنسان ويحميه - يكرمه ويحترمه ويجعل لعقله مكانا للعمل في المنهج .. مكان الاجتهاد في فهم النصوص الواردة. ثم الاجتهاد في رد مالم يرد فيه نص إلى النصوص أو إلى المبادئ العامة للدين .. ذلك إلى المجال الأصيل،الذي يحكمه العقل البشري،ويعلن فيه سيادته(1/576)
الكاملة:ميدان البحث العلمي في الكون والإبداع المادي فيه ..«ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا» .. وصدق اللّه العظيم. (1)
وعَنْ أَنَسٍ ؛أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شَاوَرَ النَّاسَ يَوْمَ بَدْرٍ،فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ،فَأَعْرَضَ عَنْهُ،ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ،فَأَعْرَضَ عَنْهُ،فَقَالَتِ الأَنْصَارُ:يَا رَسُولَ اللهِ،إِيَّانَا تُرِيدُ ؟ فَقَالَ الْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ:يَا رَسُولَ اللهِ،وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ،لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبَحْرَ لأَخَضْنَاهَا،وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ فَعَلْنَا،فَشَأْنَكَ يَا رَسُولَ اللهِ،فَنَدَبَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَصْحَابَهُ،فَانْطَلَقَ حَتَّى نَزَلَ بَدْرًا،وَجَاءَتْ رَوَايَا قُرَيْشٍ،وَفِيهِمْ غُلاَمٌ لِبَنِي الْحَجَّاجِ أَسْوَدُ،فَأَخَذَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَسَأَلُوهُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ،فَقَالَ:أَمَّا أَبُو سُفْيَانَ فَلَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ،وَلَكِنْ هَذِهِ قُرَيْشٌ،وَأَبُو جَهْلٍ،وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ،قَدْ جَاءَتْ،فَيَضْرِبُونَهُ،فَإِذَا ضَرَبُوهُ قَالَ:نَعَمْ،هَذَا أَبُو سُفْيَانَ،فَإِذَا تَرَكُوهُ،فَسَأَلُوهُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ،فَقَالَ:مَا لِي بِأَبِي سُفْيَانَ مِنْ عِلْمٍ،وَلَكِنْ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ جَاءَتْ،وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي،فَانْصَرَفَ،فَقَالَ:إِنَّكُمْ لَتَضْرِبُونَهُ إِذَا صَدَقَكُمْ،وَتَدَعُونَهُ إِذَا كَذَبَكُمْ،وَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ فَوَضَعَهَا،فَقَالَ:هَذَا مَصْرَعُ فُلاَنٍ غَدًا،وَهَذَا مَصْرَعُ فُلاَنٍ غَدًا،إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى،فَالْتَقُوْا،فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ،عَزَّ وَجَلَّ،فَوَاللهِ مَا أَمَاطَ رَجُلٌ مِنْهُمْ عَنْ مَوْضِعِ كَفَّيِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:فَخَرَجَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ،وَقَدْ جَيَّفُوا،فَقَالَ:يَا أَبَا جَهْلٍ،يَا عُتْبَةُ،يَا شَيْبَةُ،يَا أُمَيَّةُ،هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا ؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا،فَقَالَ لَهُ عُمَرُ:يَا رَسُولَ اللهِ،تَدْعُوهُمْ بَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ،وَقَدْ جَيَّفُوا ؟ فَقَالَ:مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ،غَيْرَ أَنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ جَوَابًا،فَأَمَرَ بِهِمْ فَجُرُّوا بِأَرْجُلِهِمْ،فَأُلْقُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ. أخرجه مسلم (2)
أخذ الرأي من العالم والكبير ثم من على يمينه:
عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِى حَثْمَةَ،أَنَّهُ أَخْبَرَهُ رِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ ,أَنَّ عَبْدَ الله بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ،فَأُتِىَ مُحَيِّصَةُ فَأُخْبِرَ أَنَّ عَبْدَ الله بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ،وَطُرِحَ فِى فَقِيرِ،أَوْ عَيْنٍ،فَأَتَى يَهُودَ. وَقَالَ:أَنْتُمْ وَالله قَتَلْتُمُوهُ،قَالُوا:وَالله مَا قَتَلْنَاهُ،فَأَقْبَلَ،حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ،فَذَكَرَ لَهُمْ،ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ،وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ،وَعَبْدُ الرَّحْمَانِ بن سهل،فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ،وَهُوَ الَّذِى كَانَ بِخَيْبَرَ،فَقَالَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم - , كَبِّرْ كَبِّرْ،يُرِيدُ السِّنَّ،فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ،ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ،فَقَالَ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم - : إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ،وَإِمَّا أَنْ يُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ،فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم - , فِى ذَلِكَ،فَكَتَبُوا إِنَّا وَالله مَا قَتَلْنَاهُ،فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَانِ:أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 690)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (4721 )(1/577)
صَاحِبِكُمْ ؟ وَقَالُوا:لاَ. قَالَ:فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ،قَالُوا:لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ،فَوَدَاهُ رَسُولُ الله، - صلى الله عليه وسلم - , مِنْ عِنْدِهِ،فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ بِمِئَةِ نَاقَةٍ،حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدَّارَ. قَالَ سَهْلٌ:لَقَدْ رَكَضَتْنِى مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ. متفق عليه (1)
وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ كَانَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِى تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِى شَأْنِهِ كُلِّهِ " (2)
وقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَخُو بَنِي سَلَمَةَ أَنَّ أَخَاهُ عُبَيْدَ اللهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ الْأَنْصَارِ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَاهُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ،وَكَانَ كَعْبٌ مِمَّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَايَعَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: فَخَرَجْنَا فِي حُجَّاجِ قَوْمِنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ فَقِهْنَا وَصَلَّيْنَا وَمَعَنَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ سَيِّدُنَا وَكَبِيرُنَا،فَلَمَّا وَجَّهْنَا لِسَفَرِنَا وَخَرَجْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا هَؤُلَاءِ إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَأَيًا وَاللهِ مَا أَدْرِي أَتُوَافِقُونِي عَلَيْهِ أَمْ لَا،فَقُلْنَا مَا هُوَ ؟ قَالَ: تُصَلُّونَ إِلَى الْكَعْبَةِ قَالَ: قُلْنَا: مَا أَمَرَنَا نَبِيُّنَا - صلى الله عليه وسلم - نُصَلِّي إِلَّا إِلَى الشَّامِ،وَمَا نُرِيدُ أَنْ نُخَالِفَهُ،قَالَ: إِنِّي لِمُصَلٍّ إِلَيْهَا،قَالَ: قُلْنَا: لَا تَفْعَلْ،قَالَ: فَكُنَّا إِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ نُصَلِّي إِلَى الشَّامِ وَيُصَلِّي إِلَى الْكَعْبَةِ،حَتَّى قَدِمْنَا مَكَّةَ وَقَدْ عِبْنَا عَلَيْهِ مَا صَنَعَ وَأَبَى إِلَّا الْإِقَامَةَ عَلَيْهِ،قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ: يَا أَخِي أَنْطَلِقُ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أَسْأَلَهُ عَمَّا صَنَعْتُ فِي سَفَرِي هَذَا فَإِنِّي وَاللهِ لَقَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ لَمَّا رَأَيْتُ مِنْ خِلَافِكُمْ إِيَّايَ فِيهِ،فَخَرَجْنَا نَسْأَلُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكُنَّا لَا نَعْرِفُهُ لَمْ نَرَهْ قَبْلَ ذَلِكَ،فَلَقِينَا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُونَهُ ؟ قَالَ: قُلْنَا: لَا،قَالَ: فَهَلْ تَعْرِفُونَ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ؟ قَالَ: قُلْنَا نَعَمْ،وَكُنَّا نَعْرِفُ الْعَبَّاسَ،كَانَ لَا يَزَالُ يَقْدَمُ عَلَيْنَا تَاجِرًا،قَالَ: فَإِذَا دَخَلْتُمَا الْمَسْجِدَ فَهُوَ الرَّجُلُ الْجَالِسُ مَعَ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ،فَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ فَإِذَا الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ جَالِسٌ وَرَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَهُ جَالِسٌ،فَسَلَّمْنَا ثُمَّ جَلَسْنَا إِلَيْهِ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِلْعَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " هَلْ تَعْرِفُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ يَا أَبَا الْفَضْلِ ؟ " قَالَ: نَعَمْ هَذَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ سَيِّدُ قَوْمِهِ وَهَذَا كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ،قَالَ: فَوَاللهِ مَا أَنْسَى قَوْلَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " الشَّاعِرُ ؟ " يُرِيدُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا نَبِيَّ اللهِ إِنِّي قَدْ خَرَجْتُ فِي سَفَرِي هَذَا وَقَدْ هَدَانِي اللهُ تَعَالَى إِلَى الْإِسْلَامِ فَرَأَيْتُ أَلَّا أَضَعَ هَذِهِ الْبَنِيَّةَ بِظَهْرٍ فَصَلَّيْتُ إِلَيْهَا،وَقَدْ خَالَفَنِي أَصْحَابِي فِي ذَلِكَ حَتَّى وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ،فَمَاذَا تَرَى يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : " قَدْ كُنْتَ عَلَى قِبْلَةٍ لَوْ صَبَرْتَ عَلَيْهَا " قَالَ: فَرَجَعَ الْبَرَاءُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى قِبْلَةِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَصَلَّى مَعَنَا إِلَى الشَّامِ وَأَهْلُهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ صَلَّى إِلَى الْكَعْبَةِ حَتَّى مَاتَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا قَالُوهُ وَنَحْنُ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُمْ.ثُمَّ خَرَجْنَا إِلَى
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز -(7192 ) وصحيح مسلم- المكنز -(4441)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (168 ) -الترجل : تسريح الشعر وتنظيفه وتحسينه(1/578)
الْحَجِّ وَوَاعَدْنَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْعَقَبَةَ مِنْ أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ،فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنَ الْحَجِّ وَكَانَتْ لَيْلَةُ الَّتِي وَاعَدْنَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْعَقَبَةَ مِنْ أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَمَعَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَبُو جَابِرٍ سَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا،وَكُلُّنَا يَكْتُمُ مَنْ مَعَنَا مِنْ قَوْمِنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَرَنَا فَكَلَّمْنَاهُ وَقُلْنَا: يَا أَبَا جَابِرٍ إِنَّكَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا وَإِنَّا نَرْغَبُ بِكَ عَمَّا أَنْتَ عَلَيْهِ أَنْ تَكُونَ حَطَبًا لِلنَّارِ غَدًا ثُمَّ دَعَوْنَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبَرْنَاهُ بِمِيعَادِنَا رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْعَقَبَةَ،قَالَ: فَأَسْلَمَ وَشَهِدَ مَعَنَا مِنْ رِجَالِنَا لِمِيعَادِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَخْفِينَ تَسَلُّلَ الْقَطَا إِذِ اجْتَمَعْنَا فِي الشِّعْبِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ وَنَحْنُ سَبْعُونَ رَجُلًا مِنْهُمُ امْرَأَتَانِ نُسَيْبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ أُمُّ عُمَارَةَ إِحْدَى بَنِي عَامِرِ بْنِ النَّجَّارِ وَأَسْمَاءُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ بْنُ نَابِي إِحْدَى بَنِي سَلَمَةَ وَهِيَ أُمُّ مَنِيعٍ قَالَ: فَاجْتَمَعْنَا بِالشِّعْبِ نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى جَاءَنَا لَيْلَتَئِذٍ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ إِلَّا أَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ ابْنِ أَخِيهِ فَيُوثِقُ لَهُ،فَلَمَّا جَلَسْنَا كَانَ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ قَالَ: وَكَانَتِ الْعَرَبُ يُسَمُّونَ هَذَا الْحَيَّ مِنَ الْأَنْصَارِ الْخَزْرَجَ أَوْسَهَا وَخَزْرَجَهَا إِنَّ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - مِنَّا حَيْثُ عَلِمْتُمْ،وَقَدْ مَنَعْنَاهُ مِنْ قَوْمِنَا مِمَّنْ هُوَ عَلَى رَأْيِنَا وَهُوَ فِي عَزٍّ مِنْ قَوْمِهِ وَمَنَعَةٍ مِنْ بَلَدِهِ،قَالَ: قُلْنَا: مَا قُلْتَ،فَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَدَعَى إِلَى اللهِ تَعَالَى وَرَغَّبَ فِي الْإِسْلَامِ،ثُمَّ قَالَ - صلى الله عليه وسلم - : " أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ " قَالَ: فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَنَمْنَعَنَّكَ مِمَّا نَمْنَعُ مِنْهُ أُزُرَنَا يَا رَسُولَ اللهِ فَبَايِعْنَا،فَنَحْنُ وَاللهِ أَهْلُ الْحُرُوبِ وَأَهْلُ الْحَلْقَةِ وَرِثْنَاهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ،فَاعْتَرَضَ الْقَوْلَ وَالْبَرَاءُ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التَّيْهَانِ حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّاسِ حِبَالًا،وَإِنَّا قَاطِعُوهَا،فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ نَحْنُ فَعَلْنَا ذَلِكَ ثُمَّ أَظْهَرَكَ اللهُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى قَوْمِكَ وَتَدَعَنَا ؟ قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَالَ: " بَلِ الدَّمُ بِالدَّمِ وَالْهَدْمُ بِالْهَدْمِ،أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنِّي،دَمِي مَعَ دِمَائِكُمْ،وَهَدْمِي مَعَ هَدْمِكُمْ،أُحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمْ،وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ " وَقَدْ قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " أَخْرِجُوا إِلَيَّ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا يَكُونُونَ عَلَى قَوْمِهِمْ " فَأَخْرَجُوا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا تِسْعَةً مِنَ الْخَزْرَجِ وَثَلَاثَةً مِنَ الْأَوْسِ " (1)
إعطاء الرأي إذا طُلب منه:
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " لَمَّا أَسَرُوا الْأُسَارَى،يَعْنِي فِي يَوْمِ بَدْرٍ قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرُ،مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ،هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةُ،أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً فَتَكُونَ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ،فَعَسَى الله عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَهْدِيَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ.قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَا تَرَى يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ؟ "،قَالَ: فَقَالَ عُمَرُ: وَاللهِ مَا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ يَا نَبِيَّ اللهِ،وَلَكِنْ أَرَى أَنْ
__________
(1) - أخبار مكة للفاكهي - (4 / 234) (2542 ) صحيح(1/579)
تُمَكِّنَّا مِنْهُمْ فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ،وَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ،وَتُمَكِّنِّي مِنْ فُلَانٍ،نَسِيبٍ لِعُمَرَ،فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ،فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ،وَصَنَادِيدُهَا،وَقَادَتُهَا.فَهَوِيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ،فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَانِ يَبْكِيَانِ،قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ،أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ،فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَبْكِي لِلَّذِي عَرَضَ عَلَيَّ أَصْحَابُكَ مِنَ الْفِدَاءِ،لَقَدْ عُرِضَ عَلَيَّ عَذَابُكُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ "،شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ،تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا،وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ،وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ.فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا } [الأنفال: 68].فَأَحَلَّ اللهُ الْغَنِيمَةَ لَهُمْ " .. أخرجه مسلم (1)
إعطاء الرأي السديد:
قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) } [الأحزاب:70 - 71]
يَا أَيُّها الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلاَ تَعْصُوهُ،وَقُولُوا فِي المُؤْمِنينَ قَوْلاً حَقّاً لاَ بَاطِلَ فيهِ،وَلا جَوْرَ عَنِ الصَوَابِ .وَمَنْ يُؤْمِنْ باللهِ وَيَتَّقِهِ،وَيَقُلِ القَوْلَ المُنْصِفَ السَّديدَ،فَإِنَّ اللهَ تَعَالى يُوفِّقُهُ إِلى صَالِحِ الأَعْمَالِ،وَيُسَدِّدُ خُطَاهُ فِي مَسِيرَتِهِ،وَيَغْفِرُ لَهُ ذُنُوبَهُ.وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَيَعْمَلْ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ،وَيَنْتَهِ عَمَّا نَهَاهُ عَنْهُ،فَقَدْ ظَفِرَ بِالمَثُوبَةِ والكَرَامَةِ يومَ الحِسَابِ { فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } (2) .
وعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّمَا الدِّينُ النَّصِيحَةُ،إِنَّمَا الدِّينُ النَّصِيحَةُ،إِنَّمَا الدِّينُ النَّصِيحَةُ "،فَقِيلَ: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: " لِلَّهِ،وَلِكِتَابِهِ،وَلِرَسُولِهِ،وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ ". أخرجه مسلم (3) .
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،أَنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: كُلُّكُمْ رَاعٍ،وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ،فَالأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ عَلَيْهِمْ،وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ،وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ،وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ،وَامْرَأَةُ الرَّجُلِ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ،وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ،وَعَبْدُ الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ،وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ أَلا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ،وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ،"
وعَنْ أَبِي الْمَلِيحِ،أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيَادٍ،عَادَ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَرَضِهِ،فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ:
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (8 / 359)(3309 ) وصحيح مسلم- المكنز - (4687)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 3484)
(3) - شعب الإيمان - (7 / 206) (4884 ) وصحيح مسلم- المكنز - (205 ) واللفظ للبيهقي(1/580)
إِنِّي مُحَدِّثُكَ بِحَدِيثٍ لَوْلا أَنِّي فِي الْمَوْتِ لَمْ أُحَدِّثْكَ بِهِ،سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ لا يَجْهَدُ لَهُمْ،وَلا يَنْصَحُ لَهُمْ،إِلا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنَّةَ .
وعَنِ الْحَسَنِ،قَالَ: أَتَيْنَا مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ نَعُودُهُ،إِذْ جَاءَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ،فَقَالَ مَعْقِلٌ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: مَنِ اسْتُرْعِيَ رَعِيَّةً،فَلَمْ يُحِطْ مِنْ وَرَائِهَا بالنَّصِيحَةِ،أَوْ مَاتَ وَهُوَ لَهَا غَاشٌّ،أَدْخَلَهُ اللَّهُ نَارَ جَهَنَّمَ،قَالَ لَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ: أَلا كُنْتَ حَدَّثَتْنَا هَذَا الْحَدِيثَ قَبْلَ الْيَوْمِ،قَالَ: إِنِّي كُنْتُ فِي سُلْطَانٍ سِوَى سُلْطَانِكَ" (1)
قال الْأَوْزَاعِيُّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو: " بَعَثَ إِلَيَّ الْمَنْصُورُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَا بِالسَّاحِلِ،فَلَمَّا وَصَلْتُ إِلَيْهِ سَلَّمْتُ عَلَيْهِ بِالْخِلَافَةِ فَرَدَّ عَلَيَّ وَأَجْلَسَنِي " ثُمَّ قَالَ: مَا الَّذِي بَطَّأَ بِكَ عَنَّا يَا أَوْزَاعِيُّ ؟ قُلْتُ: " وَمَا الَّذِي تُرِيدُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ " قَالَ: أُرِيدُ الْأَخْذَ عَنْكَ والِاقْتِبَاسَ مِنْكَ،قَالَ: " فَانْظُرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ لَا تَجْهَلَ شَيْئًا مِمَّا أَقُولُ لَكَ " قَالَ: وَكَيْفَ أَجْهَلُهُ وَأَنَا أَسْأَلُكَ عَنْهُ وَقَدْ وَجَّهْتُ إِلَيْكَ وَأَقْدَمْتُكَ لَهُ ؟ قُلْتُ: " أَنْ تَسْمَعَهُ وَلَا تَعْمَلَ بِهِ،يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ كَرِهَ الْحَقَّ فَقَدْ كَرِهَ اللهَ،إِنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ " قَالَ: فَصَاحَ ابْنُ الرَّبِيعِ وَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلَى السَّيْفِ،فَانْتَهَرَهُ الْمَنْصُورُ،وَقَالَ: هَذَا مَجْلِسُ مَثُوبَةٍ لَا مَجْلِسُ عُقُوبَةٍ،فَطَابَتْ نَفْسِي وَانْبَسَطْتُ فِي الْكَلَامِ،فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَدَّثَنِي مَكْحُولٌ،عَنْ عَطِيَّةَ،عَنْ بِشْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَيُّمَا عَبْدٍ أَتَاهُ مَوْعِظَةٌ مِنَ اللهِ فِي دِينِهِ فَإِنَّمَا هِيَ نِعْمَةٌ مِنَ اللهِ سِيقَتْ إِلَيْهِ،فَإِنْ قَبِلَهَا بِشُكْرٍ وَإِلَّا كَانَتْ حُجَّةً مِنَ اللهِ لِيَزْدَادَ بِهَا إِثْمًا،وَيَزْدَادَ عَلَيْهِ سُخْطًا "
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَدَّثَنِي مَكْحُولٌ،عَنْ عَطِيَّةَ،عَنْ بِشْرٍ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَيُّمَا وَالٍ بَاتَ غَاشًّا لِرَعِيَّتِهِ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ " " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الَّذِي لَيَّنَ قُلُوبَ أَمَّتِكُمْ لَكُمْ حِينَ وَلَّوْكُمْ لِقَرَابَتِكُمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَدْ كَانَ بِهِمْ رَءُوفًا رَحِيمًا مُوَاسِيًا لَهُمْ بِنَفْسِهِ وَذَاتِ يَدِهِ،وَعِنْدَ النَّاسِ لَحَقِيقٌ أَنْ يَقُومَ لَهُ فِيهِمْ بِالْحَقِّ،وَأَنْ يَكُونَ بِالْقِسْطِ لَهُ فِيهِمْ قَائِمًا،وَلِعَوْرَاتِهِمْ سَاتِرًا،لَمْ يُغْلَقْ عَلَيْهِ دُونَهُمُ الْأَبْوَابُ،وَلَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دُونَهُمُ الْحُجَّابُ،يَبْتَهِجُ بِالنِّعْمَةِ عِنْدَهُمْ،وَيَبْتَئِسُ بِمَا أَصَابَهُمْ مِنْ سُوءٍ،يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،قَدْ كُنْتَ فِي شُغْلٍ شَاغِلٍ مِنْ خَاصَّةِ نَفْسِكَ عَنْ عَامَّةِ النَّاسِ الَّذِينَ أَصْبَحْتَ تَمْلِكُهُمْ،أَحْمَرِهِمْ وَأَسْوَدِهِمْ،مُسْلِمِهِمْ وَكَافِرِهِمْ،وَكُلٌّ لَهُ عَلَيْكَ نَصِيبٌ مِنَ الْعَدْلِ،فَكَيْفَ بِكَ إِذَا اتَّبَعَكَ مِنْهُمْ فِئَامٌ وَرَاءَ فِئَامٍ،لَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ يَشْكُو شَكْوَى،أَوْ بَلِيَّةً أَدْخَلَتْهَا عَلَيْهِ،أَوْ ظُلَامَةً سُقْتَهَا إِلَيْهِ "
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَدَّثَنِي مَكْحُولٌ،عَنْ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ،قَالَ: " كَانَتْ بَيْدِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - جَرِيدَةٌ رَطْبَةٌ
__________
(1) - مسند أبي عوانة (5664-5667) صحيح(1/581)
يَسْتَاكُ بِهَا،وَيُرَوِّعُ بِهَا الْمُنَافِقِينَ،فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ،مَا هَذِهِ الْجَرِيدَةُ الَّتِي كَسَرْتَ بِهَا قُرُونَ أُمَّتِكَ،وَمَلَأَتَ بِهَا قُلُوبَهُمْ رُعْبًا ؟ " " فَكَيْفَ بِمَنْ شَقَّقَ أَبْشَارَهُمْ،وَسَفَكَ دِمَاءَهُمْ،وَخَرَّبَ دِيَارَهُمْ،وَأَجْلَاهُمْ عَنْ بِلَادِهِمْ،وَغَيَّبَهُمُ الْخَوْفُ مِنْهُ ؟ "
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ حَدَّثَنِي مَكْحُولٌ،عَنْ زِيَادِ بْنِ حَارِثَةَ،عَنْ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ،" أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - دَعَا إِلَى الْقِصَاصِ مِنْ نَفْسِهِ فِي خَدْشَةٍ خَدَشَهَا أَعْرَابِيًّا لَمْ يَتَعَمَّدْهُ،فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: إِنَّ اللهَ لَمْ يَبْعَثْكَ جَبَّارًا وَلَا مُتَكَبِّرًا،فَدَعَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - " فَقَالَ: " اقْتَصَّ مِنِّي " فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: قَدْ أَحْلَلْتُكَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي،مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ ذَلِكَ أَبَدًا وَلَوْ أَتَيْتَ عَلَى نَفْسِي،فَدَعَا اللهَ لَهُ بِخَيْرٍ " " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ رَوِّضْ نَفْسَكَ لِنَفْسِكَ،وَخُذْ لَهَا الْأَمَانَ مِنْ رَبِّكَ،وَارْغَبْ فِي جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ الَّتِي "
يَقُولُ فِيهَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " لَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا " " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الْمُلْكَ لَوْ بَقِيَ لِمَنْ كَانَ قَبْلَكَ لَمْ يَصِلْ إِلَيْكَ،وَكَذَلِكَ لَا يَبْقَى لَكَ كَمَا لَا يَبْقَى لِغَيْرِكَ،يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ تَدْرِي مَا جَاءَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ جَدِّكَ: { مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا } [الكهف: 49] قَالَ: الصَّغِيرَةُ التَّبَسُّمُ،وَالْكَبِيَرَةُ الضَّحِكُ،فَكَيْفَ مَا عَمِلَتْهُ الْأَيْدِي وَأَحْصَتْهُ الْأَلْسُنُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ "
بَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: " لَوْ مَاتَتْ سَخْلَةٌ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ ضَيْعَةً لَخِفْتُ أَنْ أُسْأَلَ عَنْهَا " " فَكَيْفَ بِمَنْ حُرِمَ عَدْلَكَ وَهُوَ عَلَى بِسَاطِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ تَدْرِي مَا جَاءَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ جَدِّكَ: { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى } " قَالَ: " يَا دَاوُدُ،إِذَا قَعَدَ الْخَصْمَانِ بَيْنَ يَدَيْكَ فَكَانَ لَكَ فِي أَحَدِهِمَا هَوًى فَلَا تَتَمَنَّيَنَّ فِي نَفْسِكَ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ لَهُ فَيُفْلِحَ عَلَى صَاحِبِهِ فَأَمْحُوكَ عَنْ نُبُوَّتِي ثُمَّ لَا تَكُونَ خَلِيفَتِي وَلَا كَرَامَةَ،يَا دَاوُدُ إِنَّمَا جَعَلْتُ رُسُلِي إِلَى عِبَادِي رُعَاةً تَرْعَى الْإِبِلَ لِعِلْمِهِمْ بِالرِّعَايَةِ وَرِفْقِهِمْ بِالسِّيَاسَةِ،لِيَجْبُرُوا الْكَسْرَةَ،وَيَدُلُّوا الْهَزِيْلَ عَلَى الْكَلَأِ وَالْمَاءِ،يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّكَ قَدْ بُلِيتَ بِأَمْرٍ لَوْ عُرِضَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ لَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهُ وَأَشْفَقْنَ مِنْهُ،يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ "
حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ،عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ الْأَنْصَارِيِّ،أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ عَلَى الصَّدَقَةِ فَرَآهُ بَعْدَ أَيَّامٍ مُقِيمًا،فَقَالَ لَهُ: مَا مَنَعَكَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى عَمَلِكَ ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ لَكَ مِثْلَ أَجْرِ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ ؟ قَالَ: لَا،قَالَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَا مِنْ وَالٍ يَلِي شَيْئًا مِنْ أُمُورِ النَّاسِ إِلَّا يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدُهُ مَغْلُولَةٌ إِلَى عُنُقِهِ،فَيُوقَفُ عَلَى جِسْرٍ مِنَ النَّارِ،يَنْتَفِضُ ذَلِكَ الْجِسْرُ انْتِفَاضَةً تُزِيلُ كُلَّ عُضْوٍ مِنْهُ عَنْ مَوْضِعِهِ ثُمَّ يُعَادُ فَيُحَاسَبُ فَإِنْ كَانَ مُحْسِنًا نَجَّاهُ إِحْسَانُهُ،وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا انْحَرَفَ بِهِ ذَلِكَ الْجِسْرُ فَهَوَى بِهِ فِي(1/582)
النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا " قَالَ لَهُ: مِمَّنْ سَمِعْتَ هَذَا ؟ قَالَ: مِنْ أَبِي ذَرٍّ،وَسَلْمَانَ،فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا عُمَرُ فَسَأَلَهُمَا فَقَالَا: نَعَمْ سَمِعْنَاهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ عُمَرُ: وَاعُمَرَاهُ مَنْ يَتَوَلَّاهَا بِمَا فِيهَا ؟ فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: " مَنْ أَرْغَمَ اللهُ أَنْفَهُ وَأَلْصَقَ خَدَّهُ بِالْأَرْضِ " قَالَ: فَأَخَذَ الْمَنْدِيلَ فَوَضَعَهُ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ بَكَى وَانْتَحَبَ حَتَّى أَبْكَانِي ثُمَّ قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،قَدْ سَأَلَ جَدُّكَ الْعَبَّاسُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِمَارَةً عَلَى مَكَّةَ أَوِ الطَّائِفِ أَوِ الْيَمَنِ،فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ النَّبِيِّ،نَفْسٌ تُنْجِيهَا خَيْرٌ مِنْ إِمَارَةٍ لَا تُحْصِيهَا " نَصِيحَةً مِنْهُ لِعَمِّهِ وَشَفَقَةً مِنْهُ عَلَيْهِ،وَإِنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا،إِذْ أُوحِيَ إِلَيْهِ: { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } [الشعراء: 214] فَقَالَ: " يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ النَّبِيِّ،وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ النَّبِيِّ،وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ،إِنِّي لَسْتُ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا،لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلِكُمْ " وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: " لَا يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ إِلَّا حَصِيفُ الْعَقْلِ،أَرِبُ الْعُقْدَةِ،لَا يُطَّلَعُ مِنْهُ عَلَى عَوْرَةٍ،وَلَا يُحْنَقُ عَلَى جَرَاءَةٍ،وَلَا يَأْخُذْهُ فِي اللهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ "
وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: " السُّلْطَانُ أَرْبَعَةٌ: فَأَمِيرٌ قَوِيٌّ طَلَّقَ نَفْسَهُ وَعُمَّالُهُ فَذَلِكَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ،يَدُ اللهِ بَاسِطَةٌ عَلَيْهِ بِالرَّحْمَةِ،وَأَمِيرٌ طَلَّقَ نَفْسَهُ وَأَرْتَعَ عُمَّالُهُ لِضَعْفِهِ،فَهُوَ عَلَى شَفَا هَلَاكٍ،إِلَّا أَنْ يَتْرُكَهُمْ،وَأَمِيرٌ طَلَّقَ عُمَّالَهُ وَأَرْتَعَ نَفْسَهُ،فَذَلِكَ الْحُطَمَةُ " الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " شَرُّ الرُّعَاةِ الْحُطَمَةُ فَهُوَ الْهَالِكُ وَحْدَهُ،وَأَمِيرٌ أَرْتَعَ نَفْسَهُ وَعُمَّالُهُ فَهَلَكُوا جَمِيعًا " بَلَغَنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ " أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: أَتَيْتُكَ بِخَبَرٍ مِنْ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِمَفَاتِيحِ النَّارِ،فَوُضِعَتْ عَلَى النَّارِ تُسَعَّرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ،فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : صِفْ لِيَ النَّارَ،فَقَالَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَمَرَ بِهَا فَأَوْقَدَ عَلَيْهَا أَلْفَ عَامٍ حَتَّى احْمَرَّتْ،ثُمَّ أَوْقَدَ عَلَيْهَا أَلْفَ عَامٍ حَتَّى اصْفَرَّتْ،ثُمَّ أَوَقَدَ عَلَيْهَا أَلْفَ عَامٍ حَتَّى اسْوَدَّتْ،فَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ،لَا يُطْفَأُ لَهَبُهَا وَلَا جَمْرُهَا،وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ أَنَّ ثَوْبًا مِنْ ثِيَابِ أَهْلِ النَّارِ ظَهَرَ لِأَهْلِ الْأَرْضِ لَمَاتُوا جَمِيعًا،وَلَوْ أَنَّ ذَنُوبًا مِنْ شَرَابِهَا صُبَّ فِي مِيَاهِ أَهْلِ الْأَرْضِ جَمِيعًا لَقُتِلَ مَنْ ذَاقَهُ،وَلَوْ أَنَّ ذِرَاعًا مِنَ السِّلْسِلَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وُضِعَ عَلَى جِبَالِ الْأَرْضِ لَذَابَتْ وَمَا اشْتَعَلَتْ،وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أُدْخِلَ النَّارَ ثُمَّ أُخْرِجَ مِنْهَا لَمَاتَ أَهْلُ الْأَرْضِ مِنْ نَتَنِ رِيحِهِ وَتَشْوِيهِ خَلْقِهِ وَعَظْمِهِ،فَبَكَى النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ،وَبَكَى جِبْرِيلُ لِبُكَائِهِ فَقَالَ: بَلَى يَا مُحَمَّدُ،وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ،قَالَ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا ؟ وَلِمَ بَكَيْتَ يَا جِبْرِيلُ وَأَنْتَ الرُّوحُ الْأَمِينُ،أَمِينُ اللهِ عَلَى وَحْيِهِ ؟ " فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ أُبْتَلَى بِمِثْلِ مَا ابْتُلِيَ بِهِ هَارُوتُ،وَمَارُوتُ،فَهُوَ الَّذِي مَنَعَنِي مِنَ اتِّكَالِي عَلَى مَنْزِلَتِي عِنْدَ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ،فَأَكُونُ قَدْ أَمِنْتُ مَكْرَهُ،فَلَمْ يَزَالَا يَبْكِيَانِ حَتَّى نُودِيَ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ يَا جِبْرِيلُ وَيَا مُحَمَّدُ،إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَمَّنَكُمَا أَنْ تَعْصِيَاهُ فَيُعَذِّبَكُمَا "
وَقَدْ بَلَغَنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: " اللهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي أُبَالِي إِذَا قَعَدَ(1/583)
الْخَصْمَانِ بَيْنَ يَدَيَّ عَلَى مَنْ حَالَ الْحَقُّ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ فَلَا تُمْهِلْنِي طَرْفَةَ عَيْنٍ " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ،إِنَّ أَشَدَّ الشِّدَّةِ الْقِيَامُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،وَإِنَّ أَكْرَمَ الْكَرَمِ عِنْدَ اللهِ التَّقْوَى،وَإِنَّ مَنْ طَلَبَ الْعِزَّ بِطَاعَةِ اللهِ رَفَعَهُ وَأَعَزَّهُ،وَمَنْ طَلَبَهُ بِمَعْصِيَةِ اللهِ أَذَلَّهُ اللهُ وَوَضَعَهُ،فَهَذِهِ نَصِيحَتِي وَالسَّلَامُ عَلَيْكَ،ثُمَّ نَهَضْتُ،فَقَالَ: إِلَى أَيْنَ ؟ فَقُلْتُ: إِلَى الْبَلَدِ وَالْوَطَنِ بِإِذْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِنْ شَاءَ اللهُ،قَالَ: " قَدْ أَذِنْتُ لَكَ،وَشَكَرْتُ لَكَ نَصِيحَتَكَ وَقَبِلْتُهَا بِقَوْلِهَا،وَاللهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُوَفَّقُ لِلْخَيْرِ وَالْمُعِينُ عَلَيْهِ،وَبِهِ أَسْتَعِينُ وَعَلَيْهِ أَتَوَكَّلُ،وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ،فَلَا تُخْلِنِي مِنْ مُطَالَعَتِكَ إِيَّايَ بِمِثْلِهَا،فَإِنَّكَ الْمَقْبُولُ الْقَوْلِ غَيْرُ الْمُتَّهَمِ فِي نَصِيحَتِهِ،قُلْتُ: أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللهُ،قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُصْعَبٍ: فَأَمَرَ لَهُ بِمَالٍ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى خُرُوجِهِ فَلَمْ يَقْبَلْهُ،وَقَالَ: أَنَا فِي غِنًى عَنْهُ،وَمَا كُنْتُ أَبِيعُ نَصِيحَتِي بِعَرَضٍ مِنْ أَعْرَاضِ الدُّنْيَا كُلِّهَا،وَعَرَفَ الْمَنْصُورُ مَذْهَبَهُ فَلَمْ يَجِدْ عَلَيْهِ فِي رَدِّهِ " (1)
وعَنْ أَبِي حَازِمٍ ؛ قَالَ:دَخَلَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمَدِينَةَ،فَأَقَامَ بِهَا ثَلاثًا،فَقَالَ:مَا هَا هُنَا رَجُلٌ مِمَّنْ أَدْرَكَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - يُحَدِّثُنَا ؟ فَقِيلَ لَهُ:بَلَى،هَا هُنَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ:أَبُو حَازِمٍ.فَبَعَثَ إِلَيْهِ،فَجَاءَهُ،فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ:يَا أَبَا حَازِمٍ ! مَا هَذَا الْجَفَاءُ ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو حَازِمٍ:وَأَيَّ جَفَاءٍ رَأَيْتَ مِنِّي ؟ فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ:أَتَانِي وُجُوهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كُلُّهُمْ وَلَمْ تَأْتِنِي.فَقَالَ لَهُ:أُعِيذُكَ بِاللهِ أَنْ تَقُولَ مَا لَمْ يَكُنْ،مَا جَرَى بَيْنِي وَبَيْنَكَ مَعْرِفَةٌ آتِيكَ عَلَيْهَا.فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ:صَدَقَ الشَّيْخُ.فَقَالَ سُلَيْمَانُ:يَا أَبَا حَازِمٍ ! مَا لَنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ ؟ فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ:لأَنَّكُمْ أَخْرَبْتُمُ آخِرَتَكُمْ،وَعَمَّرْتُمْ دُنْيَاكُمْ ؛ فَأَنْتُمْ تَكْرَهُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا مِنَ الْعُمْرَانِ إِلَى الْخَرَابِ.قَالَ:صَدَقْتَ يَا أَبَا حَازِمٍ،فَكَيْفَ الْقُدُومُ ؟ قَالَ:أَمَّا الْمُحْسِنُ ؛ فَكَالْغَائِبِ يُقْدِمُ عَلَى أهله،وما الْمُسِيءُ ؛ فَكَالآبِقِ يُقْدِمُ عَلَى مَوْلاهُ.قَالَ:فَبَكَى سُلَيْمَانُ،وَقَالَ:لَيْتَ شِعْرِي ! مَا لَنَا عِنْدَ اللهِ يَا أَبَا حَازِمٍ ؟ فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ:اعْرِضْ نَفْسَكَ عَلَى كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ تَعْلَمْ مَا لَكَ عِنْدَ اللهِ.فَقَالَ:يَا أَبَا حَازِمٍ ! أَيْنَ نُصِيبُ تِلْكَ مِنْ الْمَعْرِفَةِ مِنْ كِتَابِ اللهِ ؟ فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ:عِنْدَ قَوْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ:( إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ( 13 ) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ( 14 ) ) [ الانفطار:13 - 14 ].فَقَالَ سُلَيْمَانُ:يَا أَبَا حَازِمٍ ! فَأَيْنَ رَحْمَةُ اللهِ ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ:{ قَرِيبٌ من المحسنين } [ الأعراف:56 ].قَالَ سُلَيْمَانُ:يَا أَبَا حَازِمٍ ! مَنْ أَعْقَلُ النَّاسِ ؟ فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ:مَنْ تَعَلَّمَ الْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهَا النَّاسَ.فَقَالَ سُلَيْمَانُ:فَمَنْ أَحْمَقُ النَّاسِ ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ:مَنْ حَطَّ فِي هَوَى رَجُلٍ وَهُوَ ظَالِمٌ فَبَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ.فَقَالَ سُلَيْمَانُ:يَا أَبَا حَازِمٍ ! مَا أَسْمَعُ الدُّعَاءِ ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ:دُعَاءُ الْمُخْبِتِينَ [ إِلَيْهِ ].قَالَ سُلَيْمَانُ:يَا أَبَا حَازِمٍ ! فَمَا أَزْكَى الصَّدَقَةُ ؟ فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ:جُهْدُ الْمُقِلِّ.فَقَالَ سُلَيْمَانُ:يَا أَبَا حَازِمٍ ! مَا تَقُولُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ ؟ فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ:اعْفِنَا مِنْ هَذَا.قَال سُلَيْمَانُ:نَصِيحَةٌ بَلَّغْتَهَا.فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ:إِنَّ
__________
(1) - شعب الإيمان - (9 / 505) (7024 ) فيه لين(1/584)
نَاسًا أَخَذُوا هَذَا الأَمْرَ مِنْ غَيْرِ مُشَاوَرَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَلا إِجْمَاعٍ مِنْ رَأْيِهِمْ،فَسَفَكُوا فِيهَا الدِّمَاءَ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا،ثُمَّ ارْتَحَلُوا عَنْهَا،فَلَيْتَ شِعْرِي مَا قَالُوا وَمَا قِيلَ لَهُمْ ؟ ! فَقَالَ بَعْضُ جُلَسَائِهِ:بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا شَيْخُ:فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ:كَذَبْتَ ! إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَخَذَ عَلَى الْعُلَمَاءِ لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا يَكْتُمُونَهُ.فَقَالَ سُلَيْمَانُ:يَا أَبَا حَازِمٍ ! كَيْفَ لَنَا أَنْ نَصْلُحَ ؟ فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ:تَدَعُوا التَّكَلُّفَ،وَتَتَمَسَّكُوا بِالْمُرُوءَةِ.فَقَالَ سُلَيْمَانُ:يَا أَبَا حَازِمٍ ! كَيْفَ الْمَأْخَذُ لِذَلِكَ ؟ قَالَ أَبُو حَازِمٍ:تَأْخُذُهُ مِنْ حَقِّهِ وَتَضَعُهُ فِي أَهْلِهِ.فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ:اصْحَبْنَا يَا أَبَا حَازِمٍ وَتُصِيبُ مِنَّا وَنُصِيبُ مِنْكَ.فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ:أَعُوذُ بِاللهِ مِنْ ذلك.فقال سُلَيْمَانُ:وَلِمَ ؟ قَالَ:أَخَافُ أَنْ أَرْكَنَ إِلَيْكُمْ شَيْئًا قَلِيلا فَيُذِيقَنِي ضَعْفُ الْحَيَاةِ وَضَعْفُ الْمَمَاتِ.فَقَالَ سُلَيْمَانُ:فَأَشِرْ عَلَيَّ يَا أَبَا حَازِمٍ.فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ:اتَّقِ أَنْ يَرَاكَ حَيْثُ نَهَاكَ،وَأَنْ يَفْقِدَكَ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكَ.قَالَ سُلَيْمَانُ:يَا أَبَا حَازِمٍ ! ادْعُ لنا بخير.فقال أَبُو حَازِمٍ:اللهُمَّ إِنْ كَانَ سُلَيْمَانُ وَلِيَّكَ ؛ فَيَسِّرْهُ لِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ،وَإِنْ كَانَ عَدُوَّكَ ؛ فَخُذْ إِلَى الْخَيْرِ بِنَاصِيَتِهِ.قَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ:عِظْ.قَالَ:قَدْ أَوْجَزْتَ،إِنْ كُنْتَ وَلِيَّهُ،وَإِنْ كُنْتَ عَدُوَّهُ ؛ فَمَا يَنْفَعُكَ أَنْ أَرْمِيَ عَنْ قَوْسٍ بِغَيْرِ وَتَرٍ.فَقَالَ سُلَيْمَانُ:يَا غُلامُ ! إِيتْ بمئة دِينَارٍ.ثُمَّ قَالَ:خُذْهَا يَا أَبَا حَازِمٍ.فَقَالَ أَبُو حَازِمٍ:لا حَاجَةَ لِي بِهَا،إِنِّي أَخَافُ أن يكون لِمَا سَمِعْتَ مِنْ كَلامِي،إِنَّ مُوسَى [ - صلى الله عليه وسلم - ] لَمَّا هَرَبَ مِنْ فِرْعَوْنَ وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ،وَجَدَ عَلَيْهَا الْجَارِيَتَيْنِ تَذُودَانِ،فَقَالَ:مَا لَكُمَا عَوْنٌ ؟ قَالَتَا:لا.فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ،فَقَالَ:{ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خير فقير } [ القصص:24 ]،وَلَمْ يَسَلِ اللهَ أَجْرًا عَلَى دِينِهِ،فَلَمَّا أَعْجَلَ بِالْجَارِيَتَيْنِ الانْصِرَافُ ؛ أَنْكَرَ ذَلِكَ أَبُوهُمَا،وَقَالَ:مَا أَعْجَلُكُمَا الْيَوْمَ ؟ ! قَالَتَا:وَجَدْنَا رَجُلا صَالِحًا فَسَقَى لَنَا.فَقَالَ:فَمَا سَمِعْتُمَاهُ يَقُولُ ؟ قَالَ:قَالَتَا:سَمِعْنَاهُ يَقُولُ:{ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ من خير فقير } [ القصص:24 ].قَالَ:يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا جَائِعًا،تَنْطَلِقُ إِلَيْهِ إِحْدَاكُمَا فَتَقُولُ لَهُ:إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا.فَأَتَتْهُ تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ - قَالَ:عَلَى إِجْلالٍ - ؛ قَالَتْ:إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا.قَالَ:فَجَزِعَ مِنْ ذَلِكَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ،وَكَانَ طَرِيدًا فِي فَيَافِي الصَّحْرَاءِ،فَأَقْبَلَ وَالْجَارِيَةُ أَمَامَهُ،فَهَبَّتِ الرِّيحُ،فوصفتها له،وكانت ذا خُلُقٍ،[ فَقَالَ لَهَا:كُونِي خَلْفِي ]،وَأَرِينِي السَّمْتَ.فَلَمَّا بَلَغَ الْبَابَ دَخَلَ،إِذَا طَعَامٌ مَوْضُوعٌ،فَقَالَ لَهُ شُعَيْبٌ عَلَيْهِ السَّلامُ:أَصِبْ يَا فَتًى مِنْ هَذَا الطَّعَامِ.قَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ:أَعُوذُ بِاللهِ.قَالَ شُعَيْبٌ:وَلِمَ ؟ قَالَ مُوسَى:لأَنَّا فِي [ أَهْلِ ] بَيْتٍ لا نَبِيعُ دِينَنَا بِمِلْءِ الأَرْضِ ذَهَبًا.قَالَ شُعَيْبٌ:لا وَاللهِ ! وَلَكِنَّهَا عَادَتِي وَعَادَةُ آبَائِي،نُطْعِمُ الطَّعَامَ وَنُقْرِي الضَّيْفَ.فَجَلَسَ مُوسَى،فَأَكَلَ،فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الدَّنَانِيرُ عِوَضًا لِمَا سَمِعْتَ مِنْ كَلامِي،فَلأَنْ أَرَى أَكْلَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ آخُذَهَا.فَكَأَنَّ سُلَيْمَانَ أُعْجِبَ بِأَبِي حَازِمٍ.فَقَالَ بَعْضُ جُلَسَائِهِ:يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ! أَيَسُرُّكَ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ مِثْلُهُ ؟ قَالَ الزُّهْرِيُّ:إِنَّهُ لَجَارِي مُنْذُ ثَلاثِينَ سَنَةً،مَا(1/585)
كَلَّمْتُهُ بِكَلِمَةٍ قَطُّ.فَقَالَ لَهُ أَبُو حَازِمٍ:صَدَقْتَ،إِنَّكَ نَسِيتَ اللهَ فَنَسِيتَنِي،وَلَوْ أَحْبَبْتَ اللهَ ؛ لأَحْبَبْتَنِي.قَالَ الزُّهْرِيُّ:أَتَشْتِمُنِي ؟ فَقَالَ سُلَيْمَانُ:بَلْ أَنْتَ شَتَمْتَ نَفْسَكَ،أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ لِلْجَارِ على جاره حَقًّا ؟ فَقَالَ أبَوُ حَازِمٍ:إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا كَانُوا عَلَى الصَّوَابِ،وَكَانَتِ الأُمَرَاءُ تَحْتَاجُ إِلَى الْعُلَمَاءِ ؛ فَكَانَتِ الْعُلَمَاءُ تَفِرُّ بِدِينِهَا مِنَ الأُمَرَاءِ،فَاسْتَغْنَتِ الأُمَرَاءُ عَنِ الْعُلَمَاءِ،وَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ؛ فَشُغِلُوا وَانْتَكَسُوا،وَلَوْ كَانَ عُلَمَاؤُنَا هَؤُلاءِ يَصُونُونَ عِلْمَهُمْ لَمْ تَزَلِ الأُمَرَاءُ تَهَابُهُمْ.قَالَ الزُّهْرِيُّ:كَأَنَّكَ إِيَّايَ تُرِيدُ وَبِي تُعَرِّضُ ؟ ! قَالَ:هُوَ مَا تَسْمَعُ.قَالَ:وَقَدِمَ هِشَامٌ المدينة مرة أخرة،فَأَرْسَلَ إلى أَبِي حَازِمٍ،فَقَالَ لَهُ:يَا أَبَا حَازِمٍ ! عِظْنِي وَأَوْجِزْ.قَالَ أَبُو حَازِمٍ:اتَّقِ اللهَ ! وَازْهَدْ فِي الدُّنْيَا ؛ فَإِنَّ حَلالَهَا حِسَابٌ،وَحَرَامَهَا عَذَابٌ.قَالَ:لَقَدْ أَوْجَزْتَ يَا أَبَا حَازِمٍ.فَقَالَ لَهُ:يَا أَبَا حَازِمٍ ! ارْفَعْ حَوَائِجَكَ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.قَالَ أَبُو حَازِمٍ:هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ ! قَدْ رَفَعْتُ حَوَائِجِي إِلَى مَنْ لا تُخْتَزَلِ الْحَوَائِجُ دُونَهُ ؛ فَمَا أَعْطَانِي مِنْهَا قَنِعْتُ بِهِ،وَمَا مَنَعَنِي مِنْهَا رَضِيتُ،وَقَدْ نَظَرْتُ فِي هَذَا الأَمْرِ ؛ فَإِذَا هُوَ نِصْفَانِ:أَحَدُهُمَا لِي،وَالآخَرُ لِغَيْرِي ؛ فَأَمَّا مَا كَانَ لِي ؛ فَلَوِ احْتَلْتُ فِيهِ بِكُلِّ حِيلَةٍ مَا وَصَلْتُ إِلَيْهِ قَبْلَ أَوَانِهِ الَّذِي قُدِّرَ لِي فِيهِ،وَأَمَّا الَّذِي لِغَيْرِي ؛ فَذَلِكَ الَّذِي لا أُطْمِعُ نَفْسِي فِيمَا مَضَى،وَلَمْ أطعمها فِيمَا بقي،وَكَمَا مُنِعَ غَيْرِي رِزْقِي كَذَلِكَ مُنِعْتُ رِزْقَ غَيْرِي ؛ فَعَلَى مَا أَقْتُلُ نَفْسِي ؟ ! (1)
عدم التعصب للرأي:
قال الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (26) سورة ص
قَالَ اللهُ تَعَالَى لِدَاوُدَ:إِنَّهُ جَعَلَهُ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ،نَافِذَ الكَلِمَةِ والحُكْمِ بَينَ الرَّعِيَّةِ،فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بَينَ النَّاسِ بِالحَقِّ وَالعَدْلِ،وَأَنْ لاَ يَتَّبعَ الهَوَى لأَنَّ اتِّبَاعَ الهَوَى يَكُونُ سَبَباً لِلضَّلاَلَةِ وَالجَوْرِ عَنِ الطَّرِيقِ القَويمِ الذِي شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى .ثَمَّ يَقُولُ تَعَالَى:إِنَّ الذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَهُدَاهُ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ ( يَوْمَ الحِسَابِ ) عَذَابٌ شَدِيدٌ لِنِسْيَانِهِمْ ذَلِكَ اليَومَ،وَإِنَّ الله سَيُحَاسِبُ العِبَادَ فِيهِ عَلَى أَعَمَالِهِمْ جَمِيعاً،صَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا . (2)
وقال الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) } [المائدة:49،50]
__________
(1) - المجالسة وجواهر العلم - (8 / 151)( 3456 ) وسُنَنُ الدَّارِمِيِّ (685 ) وحلية الأولياء (4010) من طرق صحيح لغيره
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 3875)(1/586)
قَالَ بَعْضُ رُؤَسَاءِ اليَهُودِ لِبَعْضٍ:اذْهَبُوا إلَى مُحَمَّدٍ لَعَلَّنَا نَفْتِنُهُ عَنْ دِينِهِ.فَأتَوْهُ فَقَالُوا:يَا مُحَمَّدُ إنَّكَ عَرَفْتَ أَنَّا أحْبَارُ يَهُودَ وَأشْرَافُهُمْ وَسَادَتُهُمْ،وَإِنَّا إنِ اتَّبَعَنَا يَهُودُ وَلَمْ يَحَالِفُونَا،وَإِنَّ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنَا خُصُومَةً،فَنُخَاصِمُهُمْ إلَيكَ فَتَقْضِي لَنَا عَلَيْهِمْ،وَنُؤْمِنُ لَكَ وَنُصَدِّقُكَ.فَأَبَى الرَّسُولُ - صلى الله عليه وسلم - ذَلِكَ وَأنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ فِيهِمْ .
وَفِي هَذِهِ الآيَةِ يُؤَكِّدُ اللهُ تَعَالَى عَلَى مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الحُكْمِ بَيْنَ أَهْلِ الكِتَابِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ إلَيْهِ فِي القُرْآنِ،وَيُحَذِّرُهُ مِنْ أَنْ يَفْتِنَهُ اليَهُودُ،وَيَصْرِفُوهُ عَنِ الحَقِّ،وَيَأمُرُهُ بِألاَّ يَغْتَرَّ بِهِمْ،فَهُمْ كَذَبَةٌ كَفَرَةٌ.ثٌمَّ يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ:فَإنْ أَعْرَضُوا عَنْ حُكْمِكَ بَعْدَ تَحَاكُمِهِمْ إلَيْكَ،فَاعْلَمْ أنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ عَنْ إِرَادَةِ اللهِ،وَمَشِيئَتِهِ،وَحِكْمَتِهِ فِيهِمْ،أنْ يَصْرِفَهُمْ عَنِ الهُدَى لِيُعَذِّبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ،وَإنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ خَارِجُونَ عَنْ طَاعَةِ اللهِ،مُخَالِفُونَ لِلْحَقِّ.أَيَتَوَلَّوْنَ عَنْ حُكْمِكَ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ؟ فَهَلْ يُرِيدُونَ حُكْماً كَحُكْمِ الجَاهِلِيَّةِ المَبْنِي عَلَى التَحَيُّزِ وَالهَوى،وَتَرْجِيحِ جَانِبِ القَويِّ عَلَى الضَّعِيفِ؟ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً،وَمَنْ أَعْدَلُ مِنْهُ فَصْلاً؟ لِمَنْ عَقَلَ شَرْعَ اللهِ وَآمَنَ بِهِ؟ (1)
فالتحذير هنا أشد وأدق وهو تصوير للأمر على حقيقته .. فهي فتنة يجب أن تحذر .. والأمر في هذا المجال لا يعدو أن يكون حكما بما أنزل اللّه كاملا أو أن يكون اتباعا للهوى وفتنة يحذر اللّه منها.
ثم يستمر السياق في تتبع الهواجس والخواطر فيهون على رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - أمرهم إذا لم يعجبهم هذا الاستمساك الكامل بالصغيرة قبل الكبيرة في هذه الشريعة،وإذا هم تولوا فلم يختاروا الإسلام دينا أو تولوا عن الاحتكام إلى شريعة اللّه (في ذلك الأوان حيث كان هناك تخيير قبل أن يصبح هذا حتما في دار الإسلام):«فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ. وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ».
فإن تولوا فلا عليك منهم ولا يفتنك هذا عن الاستمساك الكامل بحكم اللّه وشريعته. ولا تجعل إعراضهم يفت في عضدك أو يحولك عن موقفك .. فإنهم إنما يتولون ويعرضون لأن اللّه يريد أن يجزيهم على بعض ذنوبهم. فهم الذين سيصيبهم السوء بهذا الإعراض:لا أنت ولا شريعة اللّه ودينه ولا الصف المسلم المستمسك بدينه .. ثم إنها طبيعة البشر:«وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ» فهم يخرجون وينحرفون. لأنهم هكذا ولا حيلة لك في هذا الأمر،ولا ذنب للشريعة! ولا سبيل لاستقامتهم على الطريق! وبذلك يغلق كل منافذ الشيطان ومداخله إلى النفس المؤمنة ويأخذ الطريق على كل حجة وكل ذريعة لترك شيء من أحكام هذه الشريعة لغرض من الأغراض في ظرف من الظروف ..
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 719)(1/587)
ثم يقفهم على مفرق الطريق .. فإنه إما حكم اللّه،وإما حكم الجاهلية. ولا وسط بين الطرفين ولا بديل ..
حكم اللّه يقوم في الأرض،وشريعة اللّه تنفذ في حياة الناس،ومنهج اللّه يقود حياة البشر .. أو أنه حكم الجاهلية،وشريعة الهوى،ومنهج العبودية .. فأيهما يريدون؟
« أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ؟ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ؟» ..
إن معنى الجاهلية يتحدد بهذا النص. فالجاهلية - كما يصفها اللّه ويحددها قرآنه - هي حكم البشر للبشر،لأنها هي عبودية البشر للبشر،والخروج من عبودية اللّه،ورفض ألوهية اللّه،والاعتراف في مقابل هذا الرفض بألوهية بعض البشر وبالعبودية لهم من دون اللّه ..
إن الجاهلية - في ضوء هذا النص - ليست فترة من الزمان ولكنها وضع من الأوضاع. هذا الوضع يوجد بالأمس،ويوجد اليوم،ويوجد غدا،فيأخذ صفة الجاهلية،المقابلة للإسلام،والمناقضة للإسلام.
والناس - في أي زمان وفي أي مكان - إما أنهم يحكمون بشريعة اللّه - دون فتنة عن بعض منها - ويقبلونها ويسلمون بها تسليما،فهم إذن في دين اللّه. وإما أنهم يحكمون بشريعة من صنع البشر - في أي صورة من الصور - ويقبلونها فهم إذن في جاهلية وهم في دين من يحكمون بشريعته،وليسوا بحال في دين اللّه.
والذي لا يبتغي حكم اللّه يبتغي حكم الجاهلية والذي يرفض شريعة اللّه يقبل شريعة الجاهلية،ويعيش في الجاهلية.
وهذا مفرق الطريق،يقف اللّه الناس عليه. وهم بعد ذلك بالخيار! ثم يسألهم سؤال استنكار لابتغائهم حكم الجاهلية وسؤال تقرير لأفضلية حكم اللّه.
«وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ؟» ..وأجل! فمن أحسن من اللّه حكما؟
ومن ذا الذي يجرؤ على ادعاء أنه يشرع للناس،ويحكم فيهم،خيرا مما يشرع اللّه لهم ويحكم فيهم؟
وأية حجة يملك أن يسوقها بين يدي هذا الادعاء العريض؟
أيستطيع أن يقول:إنه أعلم بالناس من خالق الناس؟ أيستطيع أن يقول:إنه أرحم بالناس من رب الناس؟ أيستطيع أن يقول:إنه أعرف بمصالح الناس من إله الناس؟ أيستطيع أن يقول:إن اللّه - سبحانه - وهو يشرع شريعته الأخيرة،ويرسل رسوله الأخير ويجعل رسوله خاتم النبيين،ويجعل رسالته خاتمة الرسالات،ويجعل شريعته شريعة الأبد .. كان - سبحانه - يجهل أن أحوالا ستطرا،وأن حاجات ستستجد،وأن ملابسات ستقع فلم يحسب حسابها في شريعته لأنها كانت خافية عليه،حتى انكشفت(1/588)
للناس في آخر الزمان؟! ما الذي يستطيع أن يقوله من ينحي شريعة اللّه عن حكم الحياة،ويستبدل بها شريعة الجاهلية،وحكم الجاهلية ويجعل هواه هو أو هوى شعب من الشعوب،أو هوى جيل من أجيال البشر،فوق حكم اللّه،وفوق شريعة اللّه؟
ما الذي يستطيع أن يقوله .. وبخاصة إذا كان يدعي أنه من المسلمين؟! الظروف؟ الملابسات؟ عدم رغبة الناس؟ الخوف من الأعداء؟ .. ألم يكن هذا كله في علم اللّه وهو يأمر المسلمين أن يقيموا بينهم شريعته،وأن يسيروا على منهجه،وألا يفتنوا عن بعض ما أنزله؟
قصور شريعة اللّه عن استيعاب الحاجات الطارئة،والأوضاع المتجددة،والأحوال المتغلبة؟ ألم يكن ذلك في علم اللّه وهو يشدد هذا التشديد،ويحذر هذا التحذير؟
يستطيع غير المسلم أن يقول ما يشاء .. ولكن المسلم .. أو من يدعون الإسلام .. ما الذي يقولونه من هذا كله،ثم يبقون على شيء من الإسلام؟ أو يبقى لهم شيء من الإسلام؟
إنه مفرق الطريق،الذي لا معدى عنده من الاختيار ولا فائدة في المماحكة عنده ولا الجدال ..
إما إسلام وإما جاهلية. إما إيمان وإما كفر. إما حكم اللّه وإما حكم الجاهلية ..والذين لا يحكمون بما أنزل اللّه هم الكافرون الظالمون الفاسقون. والذين لا يقبلون حكم اللّه من المحكومين ما هم بمؤمنين ..
إن هذه القضية يجب أن تكون واضحة وحاسمة في ضمير المسلم وألا يتردد في تطبيقها على واقع الناس في زمانه والتسليم بمقتضى هذه الحقيقة ونتيجة هذا التطبيق على الأعداء والأصدقاء! وما لم يحسم ضمير المسلم في هذه القضية،فلن يستقيم له ميزان ولن يتضح له منهج،ولن يفرق في ضميره بين الحق والباطل ولن يخطو خطوة واحدة في الطريق الصحيح .. وإذا جاز أن تبقى هذه القضية غامضة أو مائعة في نفوس الجماهير من الناس فما يجوز أن تبقى غامضة ولا مائعة في نفوس من يريدون أن يكونوا «المسلمين» وأن يحققوا لأنفسهم هذا الوصف العظيم .. (1)
مشاورة العلماء والكبار في كل شيء:
عَنْ أَنَسٍ ؛أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - شَاوَرَ النَّاسَ يَوْمَ بَدْرٍ،فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ،فَأَعْرَضَ عَنْهُ،ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ،فَأَعْرَضَ عَنْهُ،فَقَالَتِ الأَنْصَارُ:يَا رَسُولَ اللهِ،إِيَّانَا تُرِيدُ ؟ فَقَالَ الْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ:يَا رَسُولَ اللهِ،وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ،لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبَحْرَ لأَخَضْنَاهَا،وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (2 / 904)(1/589)
فَعَلْنَا،فَشَأْنَكَ يَا رَسُولَ اللهِ " أخرجه مسلم (1)
وعَنْ أَنَسٍ،قَالَ:خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ،يَوْمَ سَارَ إِلَى بَدْرٍ،فَجَعَلَ يَسْتَشِيرُ النَّاسَ،فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ،ثُمَّ اسْتَشَارَهُمْ،فَأَشَارَ عَلَيْهِ عُمَرُ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ،فَجَعَلَ يَسْتَشِيرُ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَتِ الأَنْصَارُ:وَاللَّهِ مَا يُرِيدُ غَيْرَنَا،فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ:أَرَاكَ تَسْتَشِيرُ،فَيُشِيرُونَ عَلَيْكَ،وَلاَ نَقُولُ كَمَا قَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ:{اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ}،وَلَكِنْ،وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ،لَوْ ضَرَبْتَ أَكْبَادَهَا،حَتَّى تَبْلُغَ بَرْكَ الْغِمَادِ كُنَّا مَعَكَ. (2)
وعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو اللَّيْثِيِّ،عَنْ أَبِيهِ،عَنْ جَدِّهِ،قَالَ:خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى بَدْرٍ،حَتَّى إِذَا كَانَ بِالرَّوْحَاءِ خَطَبَ النَّاسَ،فَقَالَ:كَيْفَ تَرَوْنَ ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ:يَا رَسُولَ اللهِ،بَلَغَنَا أَنَّهُمْ بِكَذَا وَكَذَا،قَالَ:ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ،فَقَالَ:كَيْفَ تَرَوْنَ ؟ فَقَالَ عُمَرُ مِثْلَ قَوْلِ أَبِي بَكْرٍ،ثُمَّ خَطَبَ،فَقَالَ:مَا تَرَوْنَ ؟ فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ:إيَّانَا تُرِيدُ،فَوَالَّذِي أَكْرَمَكَ وَأَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مَا سَلَكْتُهَا قَطُّ،وَلاَ لِي بِهَا عِلْمٌ،وَلَئِنْ سِرْتَ حَتَّى تَأْتِيَ بَرْكَ الْغِمَادِ مِنْ ذِي يَمَنٍ لَنَسِيرَنَّ مَعَكَ،وَلاَ نَكُونُ كَاَلَّذِينَ قَالُوا لِمُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ:اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّك فَقَاتِلاَ،إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ،وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنَّا مَعَكُمَا مُتَّبِعُونَ،وَلَعَلَّكَ أَنْ تَكُونَ خَرَجْتَ لأَمْرٍ،وَأَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْك غَيْرَهُ،فَانْظُرَ الَّذِي أَحْدَثَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَامْضِ لَهُ،فَصِلْ حِبَالَ مَنْ شِئْتَ،وَاقْطَعْ حِبَالَ مَنْ شِئْتَ،وَسَالِمْ مَنْ شِئْتَ،وَعَادِ مَنْ شِئْتَ،وَخُذْ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا شِئْتَ،فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى قَوْلِ سَعْدٍ:{كَمَا أَخْرَجَك رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ،وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} إِلَى قَوْلِهِ:{وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ} وَإِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُرِيدُ غَنِيمَةَ مَا مَعَ أَبِي سُفْيَانَ،فَأَحْدَثَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ الْقِتَالَ. (3)
وعن أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدٍ قَالَتْ: أُتِىَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ قَالَ « مَنْ تَرَوْنَ نَكْسُوهَا هَذِهِ الْخَمِيصَةَ ».فَأُسْكِتَ الْقَوْمُ.قَالَ « ائْتُونِى بِأُمِّ خَالِدٍ ».فَأُتِىَ بِى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَلْبَسَهَا بِيَدِهِ وَقَالَ « أَبْلِى وَأَخْلِقِى ».مَرَّتَيْنِ فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَلَمِ الْخَمِيصَةِ،وَيُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَىَّ وَيَقُولُ « يَا أُمَّ خَالِدٍ هَذَا سَنَا ».وَالسَّنَا بِلِسَانِ الْحَبَشِيَّةِ الْحَسَنُ.. أخرجه البخاري (4) .
المشاورة في الأمور الكبار والصغار:
عَنِ الزُّهْرِىِّ.قَالَ:أخْبَرَنِى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَعَلْقَمَةُ بْنِ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (4721)
(2) - صحيح ابن حبان - (11 / 23)(4721) صحيح
(3) - مصنف ابن أبي شيبة - (14 / 355)(37815) حسن
(4) - صحيح البخارى- المكنز - ( 5845 )(1/590)
اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ،زَوْجِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،حِينَ قَالَ لَهَا اهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا فَبَرَّاهَا اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكُلُّهُمْ حَدَّثَنِى طَائِفَةً مِنْ حَدِيثِهَا.وَبَعْضُهُمْ كَانَ اوْعَى لِحَدِيثِهَا مِنْ بَعْضٍ،وَاثْبَتَ اقْتِصَاصًا،وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْحَدِيثَ الَّذِى حَدَّثَنِى،وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا،ذَكَرُوا ؛ أَنَّ عَائِشَةَ،زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا ارَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرًا،اقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ،فَايَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا،خَرَجَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَهُ.قَالَتْ عَائِشَةُ:فَاقْرَعَ بَيْنَنَا فِى غَزْوَةٍ غَزَاهَا،فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِى،فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَذَالِكَ بَعْدَ مَا اُنْزِلَ الْحِجَابُ،فَانَا اُحْمَلُ فِى هَوْدَجِى،وَاُنْزَلُ فِيهِ،مَسِيرَنَا،حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ غَزْوِهِ،وَقَفَلَ،وَدَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ،اذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ،فَقُمْتُ حِينَ اذَنُوا بِالرَّحِيلِ،فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ،فَلَمَّا قَضَيْتُ مِنْ شَاْنِى اقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ،فَلَمَسْتُ صَدْرِى فَإِذَا عِقْدِى مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ قَدِ انْقَطَعَ،فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِى فَحَبَسَنِى ابْتِغَاؤُهُ،وَاقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ لِى،فَحَمَلُوا هَوْدَجِى،فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِىَ الَّذِى كُنْتُ ارْكَبُ،وَهُمْ يَحْسَبُونَ انِّى فِيهِ،قَالَتْ:وَكَانَتِ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا،لَمْ يُهَبَّلْنَ،وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ إِنَّمَا يَاْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنَ الطَّعَامِ،فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الْقَوْمُ ثِقَلَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَحَلُوهُ وَرَفَعُوهُ وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ،فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا،وَوَجَدْتُ عِقْدِى بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ،فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلا مُجِيبٌ،فَتَيَمَّمْتُ مَنْزِلِى الَّذِى كُنْتُ فِيهِ،وَظَنَنْتُ أَنَّ الْقَوْمَ سَيَفْقِدُونِى فَيَرْجِعُونَ إِلَىَّ،فَبَيْنَا انَا جَالِسَةٌ فِى مَنْزِلِى غَلَبَتْنِى عَيْنِى فَنِمْتُ،وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِىُّ،ثُمَّ الذَّكْوَانِىُّ قَدْ عَرَّسَ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ فَادَّلَجَ فَاصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِى،فَرَاى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ،فَاتَانِى فَعَرَفَنِى حِينَ رَانِى وَقَدْ كَانَ يَرَانِى قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ عَلَىَّ،فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِى فَخَمَّرْتُ وَجْهِى بِجِلْبَابِى،وَوَاللَّهِ مَا يُكَلِّمُنِى كَلِمَةً وَلا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ،حَتَّى انَاخَ رَاحِلَتَهُ،فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا فَرَكِبْتُهَا،فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِى الرَّاحِلَةَ،حَتَّى اتَيْنَا الْجَيْشَ،بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِى نَحْرِ الظَّهِيرَةِ،فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ فِى شَاْنِى،وَكَانَ الَّذِى تَوَلَّى كِبْرَهُ عَبْدُ اللَّهِ،بْنُ اُبَىٍّ،بْنُ سَلُولَ،فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ،فَاشْتَكَيْتُ،حِينَ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ شَهْرًا،وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِى قَوْلِ اهْلِ الإِفْكِ،وَلا اشْعُرُ بِشَىْءٍ مِنْ ذَالِكَ،وَهُوَ يَرِيبُنِى فِى وَجَعِى انِّى لا اعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - اللُّطْفَ الَّذِى كُنْتُ ارَى مِنْهُ حِينَ اشْتَكِى،إِنَّمَا يَدْخُلُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ:كَيْفَ تِيكُمْ ؟ فَذَاكَ يَرِيبُنِى،وَلا اشْعُرُ بِالشَّرِّ،حَتَّى خَرَجْتُ بَعْدَ مَا نَقِهْتُ،وَخَرَجَتْ مَعِى أم مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ،وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا،وَلا نَخْرُجُ إِلاَّ لَيْلاً إِلَى لَيْلٍ،وَذَالِكَ قَبْلَ أَنَّ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا،وَامْرُنَا امْرُ الْعَرَبِ الاُوَلِ فِى التَّنَزُّهِ،وَكُنَّا نَتَاذَّى بِالْكُنُفِ أَنْ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا،فَانْطَلَقْتُ انَا وَاُمُّ مِسْطَحٍ،وَهِىَ بِنْتُ ابِى رُهْمِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ،وَاُمُّهَا ابْنَةُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ،خَالَةُ ابِى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ،وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ اُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ،فَاقْبَلْتُ انَا وَبِنْتُ ابِى رُهْمٍ(1/591)
قِبَلَ بَيْتِى،حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَاْنِنَا،فَعَثَرَتْ أم مِسْطَحٍ فِى مِرْطِهَا.فَقَالَتْ:تَعِسَ مِسْطَحٌ.فَقُلْتُ لَهَا:بِئْسَ مَا قُلْتِ،اتَسُبِّينَ رَجُلاً قَدْ شَهِدَ بَدْرًا.قَالَتْ:اىْ هَنْتَاهُ،اوَ لَمْ تَسْمَعِى مَا قَالَ ؟ قُلْتُ:وَمَاذَا قَالَ ؟ قَالَتْ:فَاخْبَرَتْنِى بِقَوْلِ اهْلِ الإِفْكِ،فَازْدَدْتُ مَرَضًا إِلَى مَرَضِى،فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِى،فَدَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَسَلَّمَ.ثُمَّ قَالَ:كَيْفَ تِيكُمْ ؟ قُلْتُ:اتَاْذَنُ لِى أَنْ اتِىَ ابَوَىَّ ؟ قَالَتْ:وَانَا حِينَئِذٍ اُرِيدُ أَنْ اتَيَقَّنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا،فَاذِنَ لِى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَجِئْتُ ابَوَىَّ فَقُلْتُ لاُمِّى:يَا اُمَّتَاهْ،مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ ؟ فَقَالَتْ:يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِى عَلَيْكِ،فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَاةٌ قَطُّ وَضِيئَةًٌ،عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا،وَلَهَا ضَرَائِرُ،إِلاَّ كَثَّرْنَ عَلَيْهَا.قَالَتْ:قُلْتُ:سُبْحَانَ اللَّهِ،وَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا ؟ قَالَتْ:فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ حَتَّى اصْبَحْتُ لا يَرْقَاُ لِى دَمْعٌ وَلا اكْتَحِلُ بِنَوْمٍ،ثُمَّ اصَبَحْتُ ابْكِى،وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلِىَّ بْنَ ابِى طَالِبٍ وَأُسامة بْنَ زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْىُ،يَسْتَشِيرُهُمَا فِى فِرَاقِ اهْلِهِ،قَالَتْ :فَامَّا أُسامة بْنُ زَيْدٍ فَاشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالَّذِى يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ اهْلِهِ،وَبِالَّذِى يَعْلَمُ فِى نَفْسِهِ لَهُمْ مِنَ الْوُدِّ فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،هُمْ اهْلُكَ وَلا نَعْلَمُ إِلاَّ خَيْرًا،وَامَّا عَلِىُّ بْنُ ابِى طَالِبٍ فَقَالَ:لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ.وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ،وَإِنْ تَسْالِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ.قَالَتْ:فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَرِيرَةَ.فَقَالَ:اىْ بَرِيرَةُ،هَلْ رَايْتِ مِنْ شَىْءٍ يَرِيبُكِ مِنْ عَائِشَةَ ؟ قَالَتْ لَهُ بَرِيرَةُ:وَالَّذِى بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ رَايْتُ عَلَيْهَا امْرًا قَطُّ اغْمِصُهُ عَلَيْهَا اكْثَرَ مِنْ انَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ،تَنَامُ عَنْ عَجِينِ اهْلِهَا،فَتَاْتِى الدَّاجِنُ فَتَاْكُلُهُ.قَالَتْ:فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الْمِنْبَرِ،فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ اُبَىٍّ،ابْنِ سَلُولَ.قَالَتْ:فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ:يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ،مَنْ يَعْذِرُنِى مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَ اذَاهُ فِى اهْلِ بَيْتِى،فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى اهْلِى إِلاَّ خَيْرًا،وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلاً مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلاَّ خَيْرًا،وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى اهْلِى إِلاَّ مَعِى.فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الانْصَارِىُّ فَقَالَ:انَا اعْذِرُكَ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ،إِنْ كَانَ مِنَ الاوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ،وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا الْخَزْرَجِ امَرْتَنَا فَفَعَلْنَا امْرَكَ.قَالَتْ:فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ،وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ،وَكَانَ رَجُلاً صَالِحًا،وَلَكِنِ اجْتَهَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ،فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ:كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ،لا تَقْتُلُهُ وَلا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ،فَقَامَ اُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ،وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ،فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ:كَذَبْتَ،لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ،فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ،فَثَارَ الْحَيَّانِ الاوْسُ وَالْخَزْرَجُ،حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا،وَرَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ،فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ.قَالَتْ:وَبَكَيْتُ يَوْمِى ذَالِكَ،لا يَرْقَاُ لِى دَمْعٌ وَلا اكْتَحِلُ بِنَوْمٍ،ثُمَّ بَكَيْتُ لَيْلَتِى الْمُقْبِلَةَ،لا يَرْقَاُ لِى دَمْعٌ وَلا اكْتَحِلُ بِنَوْمٍ،وَابَوَاىَ يَظُنَّانِ أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِى،فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِى،وَانَا ابْكِى،اسْتَاْذَنَتْ عَلَىَّ امْرَاةٌ مِنَ الانْصَارِ فَاذِنْتُ لَهَا،فَجَلَسَتْ تَبْكِى،قَالَتْ:فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَالِكَ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ.قَالَتْ:وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِى مُنْذُ قِيلَ لِى مَا قِيلَ،وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لا يُوحَى إِلَيْهِ فِى شَاْنِى بِشَىْءٍ.قَالَتْ:فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ(1/592)
جَلَسَ ثُمَّ قَالَ:امَّا بَعْدُ،يَا عَائِشَةُ،فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِى عَنْكِ كَذَا وَكَذَا،فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ،وَإِنْ كُنْتِ الْمَمْتِ بِذَنْبٍ،فَاسْتَغْفِرِى اللَّهَ وَتُوبِى إِلَيْهِ،فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبٍ ثُمَّ تَابَ،تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ.قَالَتْ:فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَقَالَتَهُ،قَلَصَ دَمْعِى،حَتَّى مَا اُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً.فَقُلْتُ لابِى:اجِبْ عَنِّى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا قَالَ.فَقَالَ:وَاللَّهِ مَا ادْرِى مَا اقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَقُلْتُ لاُمِىِّ:اجِيبِى عَنِّى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَقَالَتْ:وَاللَّهِ مَا ادْرِى مَا اقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - . فَقُلْتُ،وَانَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ،لا اقْرَاُ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْانِ:إِنِّى،وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتُ انَّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِهَذَا حَتَّى اسْتَقَرَّ فِى نُفُوسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ،فَإِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّى بَرِيئَةٌ،وَاللَّهُ يَعْلَمُ انِّى بَرِيئَةٌ،لا تُصَدِّقُونِى بِذَالِكَ،وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِامْرٍ،وَاللَّهُ يَعْلَمُ انِّى بَرِيئَةٌ،لَتُصَدِّقُونَنِى،وَإِنِّى،وَاللَّهِ،مَا اجِدُ لِى وَلَكُمْ مَثَلاً إِلاَّ كَمَا قَالَ ابُو يُوسُفَ:( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ).قَالَتْ:ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِى.قَالَتْ:وَانَا وَاللَّهِ،حِينَئِذٍ اعْلَمُ انِّى بَرِيئَةٌ،وَانَّ اللَّهَ مُبَرِّئِى بِبَرَاءَتِى،وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا كُنْتُ اظُنُّ أَنْ يُنْزَلَ فِى شَاْنِى وَحْىٌ يُتْلَى،وَلَشَاْنِى كَانَ احْقَرَ فِى نَفْسِى مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِىَّ بِامْرٍ يُتْلَى،وَلَكِنِّى كُنْتُ ارْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِى اللَّهُ بِهَا.قَالَتْ:فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَجْلِسَهُ،وَلا خَرَجَ مِنْ اهْلِ الْبَيْتِ احَدٌ،حَتَّى انْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَاخَذَهُ مَا كَانَ يَاْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ عِنْدَ الْوَحْىِ،حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ،فِى الْيَوْمِ الشَّاتِ،مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِى اُنْزِلَ عَلَيْهِ.قَالَتْ:فَلَمَّا سُرِّىَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَهُوَ يَضْحَكُ،فَكَانَ اوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ:ابْشِرِى يَا عَائِشَةُ،امَّا اللَّهُ فَقَدْ بَرَّاكِ.فَقَالَتْ لِى اُمِّى:قُومِى إِلَيْهِ.فَقُلْتُ:وَاللَّهِ لا اقُومُ إِلَيْهِ،وَلا أحمد إِلاَّ اللَّهَ،هُوَ الَّذِى انْزَلَ بَرَاءَتِى.قَالَتْ:فَانْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) [النور:11-20])،فَانْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلاءِ(1/593)
الايَاتِ بَرَاءَتِى ...". متفق عليه (1) .
مشاورة الرجال والنساء:
قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (71) سورة التوبة
والمؤمنون والمؤمنات بالله ورسوله بعضهم أنصار بعض،يأمرون الناس بالإيمان والعمل الصالح،وينهونهم عن الكفر والمعاصي،ويؤدون الصلاة،ويعطون الزكاة،ويطيعون الله ورسوله،وينتهون عما نُهوا عنه،أولئك سيرحمهم الله فينقذهم من عذابه ويدخلهم جنته. إن الله عزيز في ملكه،حكيم في تشريعاته وأحكامه. (2)
وعَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ قَالَ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ ..،فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ،قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لأَصْحَابِهِ:قُومُوا فَانْحَرُوا،ثُمَّ احْلِقُوا،قَالَ:فَوَاللهِ،مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ،حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ،فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ،دَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ،فَذَكَرَ لَهَا مَالَقِيَ مِنَ النَّاسِ،فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ:يَا نَبِيَّ اللهِ،أَتُحِبُّ ذَلِكَ،اخْرُجْ،ثُمَّ لا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً،حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ،وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ،فَخَرَجَ،فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ،حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ،نَحَرَ بُدْنَهُ،وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ،فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا،وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا،حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ يَقْتُلُ بَعْضًا غَمًّا..". أخرجه البخاري (3)
اللين وسماحة الخلق:
قال الله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159) سورة آل عمران
فبرحمة من الله لك ولأصحابك -أيها النبي- منَّ الله عليك فكنت رفيقًا بهم،ولو كنت سيِّئ الخُلق قاسي القلب،لانْصَرَفَ أصحابك من حولك،فلا تؤاخذهم بما كان منهم في غزوة "أُحد"،واسأل الله -أيها النبي- أن يغفر لهم،وشاورهم في الأمور التي تحتاج إلى مشورة،فإذا عزمت على أمر من الأمور
__________
(1) - المسند الجامع - (20 / 593)(17256) وصحيح البخارى- المكنز - (2637) وصحيح مسلم- المكنز - (7196)
(2) - التفسير الميسر - (3 / 313)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (2731 و2732 )(1/594)
-بعد الاستشارة- فأَمْضِه معتمدًا على الله وحده،إن الله يحب المتوكلين عليه. (1)
وقال الله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (199) سورة الأعراف
أَعْرِضْ أَيُّهَا النَّبِيُّ عَنِ الجَاهِلِينَ،وَسِرْ فِي سَبِيلِ الدَّعْوةِ،وَخُذِ النَّاسَ بِمَا يَسْهُلُ عَلَيْهِمْ،وَأَمُرْهُمْ بِكُلِّ أَمْرٍ مُسْتَحْسَنٍ تَعْرِفُهُ العُقُولُ،وَتُدْرِكُهُ الأَفْهَامُ .وَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لا يُخَيَّرُ بَيْنَ أَمْرَينِ إلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا .وَقِيلَ إِنَّ حُسْنَ المُعَامَلَةِ يَكُفُّ العَاصِي عَمَّا هُوَ فِيهِ مِنَ التَّمَرُّدِ . (2)
خذ العفو الميسر الممكن من أخلاق الناس في المعاشرة والصحبة،ولا تطلب إليهم الكمال،ولا تكلفهم الشاق من الأخلاق. واعف عن أخطائهم وضعفهم ونقصهم .. كل أولئك في المعاملات الشخصية لا في العقيدة الدينية ولا في الواجبات الشرعية. فليس في عقيدة الإسلام ولا شريعة اللّه يكون التغاضي والتسامح.
ولكن في الأخذ والعطاء والصحبة والجوار. وبذلك تمضي الحياة سهلة لينة. فالإغضاء عن الضعف البشري،والعطف عليه،والسماحة معه،واجب الكبار الأقوياء تجاه الصغار الضعفاء. ورسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - راع وهاد ومعلم ومرب. فهو أولى الناس بالسماحة واليسر والإغضاء .. وكذلك كان - صلى الله عليه وسلم - .. لم يغضب لنفسه قط. فإذا كان في دين اللّه لم يقم لغضبه شي ء! .. وكل أصحاب الدعوة مأمورون بما أمر به رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - . فالتعامل مع النفوس البشرية لهدايتها يقتضي سعة صدر،وسماحة طبع،ويسرا وتيسيرا في غير تهاون ولا تفريط في دين اللّه ..
«وأمر بالعرف» .. وهو الخير المعروف الواضح الذي لا يحتاج إلى مناقشة وجدال والذي تلتقي عليه الفطر السليمة والنفوس المستقيمة .. والنفس حين تعتاد هذا المعروف يسلس قيادها بعد ذلك،وتتطوع لألوان من الخير دون تكليف وما يصد النفس عن الخير شيء مثلما يصدها التعقيد والمشقة والشد في أول معرفتها بالتكاليف! ورياضة النفوس تقتضي أخذها في أول الطريق بالميسور المعروف من هذه التكاليف حتى يسلس قيادها وتعتاد هي بذاتها النهوض بما فوق ذلك في يسر وطواعية ولين
«وأعرض عن الجاهلين» .. من الجهالة ضد الرشد،والجهالة ضد العلم .. وهما قريب من قريب ..
والإعراض يكون بالترك والإهمال والتهوين من شأن ما يجهلون به من التصرفات والأقوال والمرور بها مر الكرام وعدم الدخول معهم في جدال لا ينتهي إلى شيء إلا الشد والجذب،وإضاعة الوقت والجهد ..
__________
(1) - التفسير الميسر - (1 / 458)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1154)(1/595)
وقد ينتهي السكوت عنهم،والإعراض عن جهالتهم إلى تذليل نفوسهم وترويضها،بدلا من الفحش في الرد واللجاج في العناد. فإن لم يؤد إلى هذه النتيجة فيهم،فإنه يعزلهم عن الآخرين الذين في قلوبهم خير. إذ يرون صاحب الدعوة محتملا معرضا عن اللغو،ويرون هؤلاء الجاهلين يحمقون ويجهلون فيسقطون من عيونهم ويعزلون! وما أجدر صاحب الدعوة أن يتبع هذا التوجيه الرباني العليم بدخائل النفوس! ولكن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - بشر. وقد يثور غضبه على جهالة الجهال وسفاهة السفهاء وحمق الحمقى .. وإذا قدر عليها رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقد يعجز عنها من وراءه من أصحاب الدعوة ..
وعند الغضب ينزغ الشيطان في النفس،وهي ثائرة هائجة مفقودة الزمام! .. لذا يأمره ربه أن يستعيذ باللّه لينفثئ غضبه،ويأخذ على الشيطان طريقه:«وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» ..
وهذا التعقيب:«إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» .. يقرر أن اللّه سبحانه سميع لجهل الجاهلين وسفاهتهم عليم بما تحمله نفسك من أذاهم .. وفي هذا ترضية وتسرية للنفس .. فحسبها أن الجليل العظيم يسمع ويعلم! وماذا تبتغي نفس بعد ما يسمع اللّه ويعلم ما تلقى من السفاهة والجهل وهي تدعو إليه الجاهلين؟! ثم يتخذ السياق القرآني طريقا آخر للإيحاء إلى نفس صاحب الدعوة بالرضى والقبول،وذكر اللّه عند الغضب لأخذ الطريق على الشيطان ونزغه اللئيم:«إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» ..وتكشف هذه الآية القصيرة عن إيحاءات عجيبة،وحقائق عميقة،يتضمنها التعبير القرآني المعجز الجميل ..
إن اختتام الآية بقوله:«فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» ليضيف معاني كثيرة إلى صدر الآية. ليس لها ألفاظ تقابلها هناك ..إنه يفيد أن مس الشيطان يعمي ويطمس ويغلق البصيرة. ولكن تقوى اللّه ومراقبته وخشية غضبه وعقابه ..تلك الوشيجة التي تصل القلوب باللّه وتوقظها من الغفلة عن هداه .. تذكر المتقين. فإذا تذكروا تفتحت بصائرهم وتكشفت الغشاوة عن عيونهم:«فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ» .. إن مس الشيطان عمى،وإن تذكر اللّه إبصار .. إن مس الشيطان ظلمة،وإن الاتجاه إلى اللّه نور .. إن مس الشيطان تجلوه التقوى،فما للشيطان على المتقين من سلطان .. (1)
وعَنْ مَسْرُوقٍ،قَالَ:قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو:إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا،وَلاَ مُتَفَحِّشًا،وَكَانَ يَقُولُ:خِيَارُكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقًا. (2)
التثبت والتماس العذر وبيان الحق:
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (3 / 1419)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (3559 ) وصحيح ابن حبان - (14 / 354) (6442)(1/596)
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (6) سورة الحجرات
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه،إن جاءكم فاسق بخبر فتثبَّتوا من خبره قبل تصديقه ونقله حتى تعرفوا صحته؛ خشية أن تصيبوا قومًا برآء بجناية منكم،فتندموا على ذلك. (1)
وعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - قَالَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالصَّدَقَةِ فَقِيلَ مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.فَقَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - « مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ فَقِيرًا فَأَغْنَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ،وَأَمَّا خَالِدٌ فَإِنَّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِدًا،قَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتُدَهُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ،وَأَمَّا الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَعَمُّ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَهْىَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ وَمِثْلُهَا مَعَهَا » .. متفق عليه (2) .
من فوائد (الشورى)
(1) الشّورى من مبادإ الإسلام السّمحة في نظام الحكم.
(2) النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - شاور المؤمنين ليطيّب بذلك قلوبهم وليشجّعهم على المضيّ في نشر الدّين والدّعوة إلى اللّه- عزّ وجلّ-.
(3) لقد مدح اللّه المؤمنين بانتها جهم مبدأ الشّورى بينهم.
(4) الشّورى: تبعث في النّاس حبّ التّعاون مع المسئولين وتشجّعهم على تحمّل مسئوليّاتهم أمام مجتمعهم.
(5) شورى- ما يدعونه- الدّيمقراطيّة تعتمد رأي الأكثريّة مهما كان شأنها،وشورى الإسلام تعتمد رأي العلماء الأتقياء المخلصين من رجال الأمّة.
(6) الشّورى والتّشاور كما تكون في الأمور العامّة بين الحاكم والمحكومين تكون أيضا في الأمور الخاصّة بين أفراد الأسرة في المجتمع.
(7) إذا وردت النّصوص الواضحة في المسألة فلا مشورة بعدها.
(8) لا يستشار إلّا من عرف بالأمانة والإخلاص والعلم.
(9) من استشاره أخوه المسلم،فعليه أن ينصحه فيما يعلم. (3)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - التفسير الميسر - (9 / 227)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (1468 ) وصحيح مسلم- المكنز -(2324)
(3) - نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم - (6 / 2440)(1/597)
-50- آداب النصيحة
النصيحة دعامة من دعامات الإسلام. قال تعالى: { وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) } سورة العصر
وعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:أَلاَ إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ،أَلاَ إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ،أَلاَ إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ،قَالُوا:لِمَنْ يَا رَسُولَ ؟ قَالَ:لِلَّهِ،وَلِكِتَابِهِ،وَلِرَسُولِهِ،وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ،وَعَامَّتِهِمْ." (1)
وعَنْ جَرِيرٍ،قَالَ:بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى السَّمْعِ،وَالطَّاعَةِ،وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ،فَكَانَ إِذَا اشْتَرَى شَيْئًا أَوْ بَاعَهُ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ:اعْلَمْ أَنَّ مَا أَخَذْنَا مِنْكَ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمَّا أَعْطَيْنَاكَهُ فَاخْتَرْ. (2)
وعَنْ زِيَادِ بْنِ عِلاَقَةَ،قَالَ:سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ،يَقُولُ يَوْمَ مَاتَ المُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ،قَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ،وَقَالَ:عَلَيْكُمْ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ،وَالوَقَارِ،وَالسَّكِينَةِ،حَتَّى يَأْتِيَكُمْ أَمِيرٌ،فَإِنَّمَا يَأْتِيكُمُ الآنَ.ثُمَّ قَالَ:اسْتَعْفُوا لِأَمِيرِكُمْ،فَإِنَّهُ كَانَ يُحِبُّ العَفْوَ،ثُمَّ قَالَ:أَمَّا بَعْدُ،فَإِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قُلْتُ:أُبَايِعُكَ عَلَى الإِسْلاَمِ فَشَرَطَ عَلَيَّ:" وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ " فَبَايَعْتُهُ عَلَى هَذَا،وَرَبِّ هَذَا المَسْجِدِ إِنِّي لَنَاصِحٌ لَكُمْ،ثُمَّ اسْتَغْفَرَ وَنَزَلَ " (3)
قال الطحاوي بعد ذكر الأحاديث:" فَقَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ تَقْبَلُونَ هَذَا وَتُصَحِّحُونَهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَفِيهِ الدِّينُ النَّصِيحَةُ،وَكَيْفَ يَكُونُ الدِّينُ النَّصِيحَةَ،وَقَدْ وَجَدْتُمُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: فِي كِتَابِهِ { إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ } [آل عمران: 19] فَكَانَ جَوَابَنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ أَنَّ الَّذِي رَوَيْنَاهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - غَيْرُ مُخَالِفٍ لِمَا تَلَاهُ عَلَيْنَا مِنْ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إذْ كَانَتِ النَّصِيحَةُ مِنَ الْإِسْلَامِ،وَقَدْ بَايَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهَا مَنْ بَايَعَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ،فعَنْ زِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ،قَالَ: سَمِعْتُ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ،يَقُولُ " بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ " قَالَ جَرِيرٌ: وَإِنِّي لَكُمْ لَنَاصِحٌ.
فَكَانَ فِيمَا ذَكَرْنَا مَا قَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّ النَّصِيحَةَ مِنَ الْإِسْلَامِ فَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ: أَفَهِيَ كُلُّ الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ الدِّينُ عَلَى مَا فِي هَذِهِ الْآثَارِ الَّتِي رَوَيْتُمُوهَا فِي هَذَا الْبَابِ ؟
فَكَانَ جَوَابَنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ أَنَّهَا لَيْسَتْ كُلَّ الدِّينِ وَلَكِنَّهَا بِمَكَانٍ مِنَ الدِّينِ جَلِيلٍ،وَكُلُّ مَا جَلَّ مِنْ جِنْسٍ مِنَ الْأَجْنَاسِ جَازَ أَنْ يُطْلَقَ لَهُ الِاسْمُ الَّذِي يُسَمَّى بِهِ ذَلِكَ الْجِنْسُ فَيُذْكَرُ بِهِ كَمَا يُذْكَرُ بِهِ ذَلِكَ الْجِنْسُ،مِنْ ذَلِكَ أَنَّكَ تَقُولُ: النَّاسُ الْعَرَبُ وَفِيهِمْ غَيْرُ الْعَرَبِ لِجَلَالَةِ الْعَرَبِ فِي النَّاسِ ؛ وَلِأَنَّهُمْ يَبِينُونَ بِالْخَاصِّيَّةِ الَّتِي فِيهِمْ عَنْ سَائِرِ النَّاسِ فَجَازَ بِذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: هُمُ النَّاسُ،وَمِنْ ذَلِكَ
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (205) وصحيح ابن حبان - (10 / 436) (4575)
(2) - صحيح البخارى- المكنز -(57) وصحيح مسلم-المكنز - 208) وصحيح ابن حبان - (10 / 412) (4546)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (58)(1/598)
قَوْلُهُمُ: الْمَالُ النَّخْلُ لِجَلَالَةِ النَّخْلِ فِي الْأَمْوَالِ،وَإِنْ كَانَ فِي الْأَمْوَالِ سِوَى النَّخْلِ فَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - " الدِّينُ النَّصِيحَةُ " هُوَ لِجَلَالَةِ مَوْضِعِ النَّصِيحَةِ مِنَ الدِّينِ،وَإِنْ كَانَ فِي الدِّينِ سِوَاهَا فَقَالَ هَذَا الْقَائِلُ فَمَا مَعْنَى مَا فِي تِلْكَ الْآثَارِ مِنْ قَوْلِهِ وَلِكِتَابِهِ ؟ فَكَانَ جَوَابَنَا لَهُ فِي ذَلِكَ بِتَوْفِيقِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَوْنِهِ أَنَّ ذَلِكَ عِنْدَنَا عَلَى تَعْلِيمِ كِتَابِهِ وَعَلَى النُّصْحِ لِمَنْ يُعَلِّمُونَهُ إيَّاهُ فِي تَعْلِيمِهِمْ مَا يَحْتَاجُونَ إلَى عِلْمِهِ مِنْ مُحْكَمِهِ وَمِنْ مُتَشَابِهِهِ وَمَا يَعْمَلُونَ بِهِ مِنْهُ وَمَا يَقِفُونَ عِنْدَهُ مِنْهُ ; لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا كَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ يَتَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ،فعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ،قَالَ: " كُنَّا نَتَعَلَّمُ مِنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَشْرَ آيَاتٍ فَمَا نَعْلَمُ الْعَشْرَ الَّتِي بَعْدَهُنَّ حَتَّى نَتَعَلَّمَ مَا أُنْزِلَ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ مِنَ الْعَمَلِ "
وعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ،قَالَ: أَخْبَرَنَا أَصْحَابُنَا الَّذِينَ،كَانُوا يُعَلِّمُونَا،قَالُوا: " كُنَّا نَعْلَمُ عَشْرَ آيَاتٍ فَمَا نَتَجَاوَزُهُنَّ حَتَّى نَعْلَمَ مَا فِيهِنَّ مِنْ عَمَلٍ "
وعَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ،قَالَ: كَانَ أَصْحَابُنَا يُقْرِئُونَا وَيُعَلِّمُونَا وَيُخْبِرُونَا أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - " كَانَ يُقْرِئُ أَحَدَهُمْ عَشْرَ آيَاتٍ فَمَا يَجُوزُهَا حَتَّى يَتَعَلَّمَ الْعَمَلَ فِيهَا " قَالَ: وَقَالُوا: عَلِمْنَا الْقُرْآنَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا"
وعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَوْفٍ،قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ،يَقُولُ: " لَقَدْ عِشْنَا بُرْهَةً مِنْ دَهْرٍ وَأَحَدُنَا يُؤْتَى الْإِيمَانَ قَبْلَ الْقُرْآنِ وَتَنْزِلُ السُّورَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فَيَتَعَلَّمُ حَلَالَهَا وَحَرَامَهَا وَآمِرَهَا وَزَاجِرَهَا وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهَا كَمَا تَتَعَلَّمُونَ أَنْتُمُ الْيَوْمَ الْقُرْآنَ ثُمَّ لَقَدْ رَأَيْتُ الْيَوْمَ رِجَالًا يُؤْتَى أَحَدُهُمُ الْقُرْآنَ قَبْلَ الْإِيمَانِ فَيَقْرَأُ مَا بَيْنَ فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ،وَلَا يَدْرِي مَا آمِرُهُ،وَلَا زَاجِرُهُ،وَلَا مَا يَنْبَغِي أَنْ يُوقَفَ عِنْدَهُ مِنْهُ وَيَنْتَثِرُهُ نَثْرَ الدَّقَلِ " فَكَانَ فِيمَا رَوَيْنَا كَيْفِيَّةُ تَعْلِيمِ النَّاسِ كَانَ الْقُرْآنَ وَكَيْفِيَّةُ أَخْذِهِمْ كَانَ إيَّاهُ وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْمَشَقَّةِ عَلَى مَنْ كَانَ يُعَلِّمُهُ وَعَلَى مَنْ كَانَ يَتَعَلَّمُهُ مَا لَا خَفَاءَ بِهِ عَلَى سَامِعِي هَذِهِ الْآثَارِ فَأَعْلَمَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ سَأَلَهُ عَنِ النَّصِيحَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي هَذِهِ الْآثَارِ لِمَنْ هِيَ وَفِي ذَلِكَ النَّصِيحَةُ لِكِتَابِ اللهِ وَالنَّصِيحَةُ لَهُ هِيَ النَّصِيحَةُ لِمَنْ يَأْخُذُهُ تَعْلِيمًا مِمَّنْ يَأْخُذُهُ مِنْهُ،وَفِيمَا ذَكَرْنَا بَيَانُ وَجْهِ هَذَا الْمَعْنَى وَاللهَ نَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ " (1)
قَالَ أَبُو عُثْمَانَ: " فَانْصَحْ لِلسُّلْطَانِ وَأَكْثِرْ لَهُ مِنَ الدُّعَاءِ بِالصَّلَاحِ وَالرَّشَادِ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالْحُكْمِ،فَإِنَّهُمْ إِذَا صَلُحُوا صَلُحَ الْعِبَادُ بِصَلَاحِهِمْ،وَإِيَّاكَ أَنْ تَدْعُوَ عَلَيْهِمْ بِاللَّعْنَةِ فَيَزْدَادُوا شَرًّا وَيَزْدَادَ الْبَلَاءُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ،وَلَكِنِ ادْعُ لَهُمْ بِالتَّوْبَةِ فَيَتْرُكُوا الشَّرَّ فَيَرْتَفِعَ الْبَلَاءُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ،وَإِيَّاكَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ أَوْ تَتَصَنَّعَ لِإِتْيَانِهِمْ أَوْ تُحِبَّ أَنْ يَأْتُوكَ،واهْرَبْ مِنْهُمْ مَا اسْتَطَعْتَ،مَا دَامُوا مُقِيمِينَ عَلَى الشَّرِّ،فَإِنْ تَابُوا وَتَرَكُوا الشَّرَّ مِنَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَالْحُكْمِ وَأَخَذُوا الدُّنْيَا مِنْ وَجْهِهَا فَهُنَاكَ فَاحْذَرِ الْعِزَّ بِهِمْ،لِتَكُونَ بَعِيدًا مِنْهُمْ قَرِيبًا بِالرَّحْمَةِ لَهُمْ وَالنَّصِيحَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ،وَأَمَّا نَصِيحَةُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ نَصِيحَتَهُمْ
__________
(1) - شرح مشكل الآثار - (4 / 73) (1439 -1453 )(1/599)
عَلَى أَخْلَاقِهِمْ مَا لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ مَعْصِيَةٌ،وَانْظُرْ إِلَى تَدْبِيرِ اللهِ فِيهِمْ بِقَلِيلٍ،فَإِنَّ اللهَ قَسَمَ بَيْنَهُمْ أَخْلَاقَهُمْ كَمَا قَسَمَ بَيْنَهُمْ أَرْزَاقَهُمْ،وَلَوْ شَاءَ لَجَمَعَهُمْ عَلَى قَلْبٍ وَاحِدٍ،فَلَا يُغْفَلْ عَنِ النَّظَرِ إِلَى تَدْبِيرِ اللهِ فِيهِمْ،فَإِذَا رَأَيْتَ مَعْصِيَةَ اللهِ احْمَدِ اللهَ إِذْ صَرَفَهَا عَنْكَ فِي وَقْتِكَ،وَتَلَطَّفْ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي رِفْقٍ وَصَبْرٍ وَسَكِينَةٍ،فَإِنْ قُبِلَ مِنْكَ فَاحْمَدِ اللهَ،وَإِنْ رُدَّ عَلَيْكَ فَاسْتَغْفَرِ اللهَ لِتَقْصِيرٍ مِنْكَ كَانَ فِي أَمْرِكَ وَنَهْيِكَ،وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ،إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ " (1)
وقَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ أَبِي ذَرٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ:النُّصْحُ فِي الْجُمْلَةِ عِنْدِي هُوَ:فِعْلُ الشَّيْءِ الَّذِي بِهِ الصَّلَاحُ وَالْمُلَاءَمَةُ،مَأْخُوذٌ مِنَ النَّصَاحَةِ،وَهِيَ السُّلُوكُ الَّتِي يُخَاطُ بِهَا،وَتَصْغِيرُهَا نُصَيْحَةٌ،يَقُولُ الْعَرَبُ:هَذَا قَمِيصٌ مَنْصُوحٌ أَيْ:مَخِيطٌ،وَنَصَحْتُهُ أَنْصَحُهُ نُصْحًا إِذَا خِطْتُهُ،وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتِ النُّصْحُ فِي الْأَشْيَاءِ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْأَشْيَاءِ:فَالنُّصْحُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ:وَصْفُهُ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ،وَتَنْزِيهُهُ عَمَّا هُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهُ عَقْدًا وَقَوْلًا،وَالْقِيَامُ بِتَعْظِيمِهِ،وَالْخُضُوعُ لَهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا،وَالرَّغْبَةُ فِي مَحَابِّهِ،وَالْبُعْدُ مِنْ مَسَاخِطِهِ،وَمُوَالَاةُ مَنْ أَطَاعَهُ،وَمُعَادَاةُ مَنْ عَصَاهُ،وَالْجِهَادُ فِي رَدِّ الْعَاصِينَ إِلَى طَاعَتِهِ قَوْلًا وَفِعْلًا.وَإِرَادَةُ النَّصِيحَةِ لِكِتَابِهِ:إِقَامَتُهُ فِي التِّلَاوَةِ،وَتَحْسِينُهُ عِنْدَ الْقِرَاءَةِ،وَتَفَهُّمُ مَا فِيهِ وَاسْتِعْمَالُهُ،وَالذَّبُّ عَنْهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْمُحَرِّفِينَ،وَطَعْنِ الطَّاعِنِينَ.وَالنَّصِيحَةُ لِلرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - : مُؤَازَرَتُهُ وَنُصْرَتُهُ،وَالْحِمَايَةُ مِنْ ذَوِيهِ حَيًّا وَمَيِّتًا،وَإِحْيَاءُ سُنَّتِهِ بِالطَّلَبِ،وَإِحْيَاءُ طَرِيقَتِهِ فِي بَثِّ الدَّعْوَةِ،وَتَأْلِيفِ الْكَلِمَةِ،وَالتَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِهِ الظَّاهِرَةِ.وَالنَّصِيحَةُ لِلْأَئِمَّةِ:مُعَاوَنَتُهُمْ عَلَى مَا تَكَلَّفُوا الْقِيَامَ بِهِ،وَفِي بَعْضُ النُّسَخِ " عَلَى مَا تَكَلَّفُوا الْقِيَامَ بِهِ " فِي تَنْبِيهِهِمْ عِنْدَ الْغَفْلَةِ،وَتَقْوِيمِهِمْ عِنْدَ الْهَفْوَةِ،وَسَدِّ خَلَّتِهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ،وَنُصْرَتِهِمْ فِي جَمِيعِ الْكَلِمَةِ عَلَيْهِمْ،وَرَدِّ الْقُلُوبِ النَّاضِرَةِ إِلَيْهِمْ.وَالنَّصِيحَةُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ:الشَّفَقَةُ عَلَيْهِمْ،وَتَوْقِيرُ كَبِيرِهِمْ،وَرَحْمَةُ صَغِيرِهِمْ،وَتَفْرِيجُ كُرَبِهِمْ،وَالسَّعْيُ فِيمَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَيْهِمْ فِي الْآجِلِ،وَدَعْوَتُهُمْ إِلَى مَا يُسْعِدُهُمْ،وَتَوَقِّي مَا يَشْغَلُ خَوَاطِرَهُمْ،وَفَتَحَ بَابَ الْوَسْوَاسِ عَلَيْهِمِ،وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ حَقًّا وَحَسَنًا،وَمِنَ النَّصِيحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ رَفْعُ مُؤْنَةِ بَدَنِهِ وَنَفْسِهِ وَحَوَائِجِهِ عَنْهُمْ،وَاللَّهُ أَعْلَمُ" (2)
وللنصيحة جملة من الآداب،منها ما يتعلق بالناصح،ومنها ما يتعلق بالمنصوح.
آداب الناصح:
الإخلاص: فلا يبغي الناصح من نصحه إظهار رجاحة عقله،أو فضح المنصوح والتشهير به،وإنما يكون غرضه من النصح الإصلاح،وابتغاء مرضاة الله.
الحكمة والموعظة الحسنة واللين: فالكلمة الطيبة مفتاح القلوب،قال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (125) سورة النحل.
__________
(1) - شعب الإيمان - (9 / 498)
(2) - بَحْرُ الْفَوَائِدِ الْمُسَمَّى بِمَعَانِي الْأَخْيَارِ لِلْكَلَابَاذِيِّ (67 )(1/600)
عدم كتمان النصيحة: المسلم يعلم أن النصيحة هي أحد الحقوق التي يجب أن يؤديها لإخوانه المسلمين،فالمؤمن مرآة أخيه،يقدم له النصيحة،ويخبره بعيوبه،ولا يكتم عنه ذلك. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ،قَالُوا:مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ:إِذَا لَقِيَهُ سَلَّمَ عَلَيْهِ،وَإِذَا دَعَاهُ أَجَابَهُ،وَإِذَا اسْتَنْصَحَ نَصَحَهُ،وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ يُشَمِّتُهُ،وَإِذَا مَرِضَ عَادَهُ،وَإِذَا مَاتَ صَحِبَهُ." (1)
أن تكون النصيحة في السِّر: المسلم لا يفضح المنصوح ولا يجرح مشاعره،وقد قيل: النصيحة في الملأ (العلن) فضيحة.
وما أجمل قول الإمام الشافعي (2) :
تَعَمَّدني بِنُصْحِكَ في انْفِرَادِي وجنِّني النصيحة َ في الجماعهْ
فَإِنَّ النُّصْحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوْعٌ من التوبيخِ لا أرضى استماعه
وَإنْ خَالَفْتنِي وَعَصَيْتَ قَوْلِي فَلاَ تَجْزَعْ إذَا لَمْ تُعْطَ طَاعَه
وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن ينصح أحد الحاضرين يقول: ما بال أقوام يفعلون كذا،ما بال أحدكم يفعل كذا. فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ،فَقَالَ بَعْضُهُمْ:لاَ أَتَزَوَّجُ،وَقَالَ بَعْضُهُمْ:لاَ آكُلُ اللَّحْمَ،وَقَالَ بَعْضُهُمْ:لاَ أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ،فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ،ثُمَّ قَالَ:مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا،لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ،وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ،وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ،فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي." (3)
وعَنْ أَنَسٍ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إِلَى السَّمَاءِ فِي صَلاَتِهِمْ،فَاشْتَدَّ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَالَ:لَيَنْتَهُنَّ عَنْ ذَلِكَ،أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُمْ. (4)
وقيل: النصح ثقيل فلا تجعلوه جبلا،ولا ترسلوه جدلا،والحقائق مرة فاستعينوا عليها بخفة البيان.
الأمانة في النصح: فلا يخدع المنصوح ولا يستهين بأمره،بل يبذل الجهد،ويعمل الفكر،قبل أن ينصح،وعليه بيان ما يراه من المفاسد إن وجد في ستر وأمانة.
آداب المنصوح:
أن يتقبل النصيحة بصدر رحب: وذلك دون ضجر أو ضيق أو تكبر،وقد قيل: تقبل النصيحة بأي وجه،وأدِّها على أحسن وجه.
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (5778 ) وصحيح ابن حبان - (1 / 477) (242)
(2) - تراجم شعراء موقع أدب - (10 / 322)
(3) - صحيح ابن حبان - (1 / 191) (14) صحيح
(4) - صحيح ابن حبان - (6 / 61) (2284) صحيح(1/601)
عدم الإصرار على الباطل: فالرجوع إلى الحق فضيلة والتمسك بالباطل رذيلة،والمسلم يحذر أن يكون ممن قال الله -تعالى- فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} (206) سورة البقرة
أخذ النصح من المسلم العاقل: لأنه يفيده بعقله وحكمته،كما أن المسلم يتجنب نصح الجاهل أو الفاسق؛ لأنه يضره من حيث لا يحتسب. فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" مَنْ أَرَادَ أَمْرًا فَشَاوَرَ فِيهِ امْرَأً مُسْلِمًا،وَفَّقَهُ اللَّهُ لِأَرْشَدِ أُمُورِهِ ".رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (1) .
شكر الناصح: يجب على المنصوح أن يقدم الشكر لمن نصحه،فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَنْ لاَ يَشْكُرِ النَّاسَ لاَ يَشْكُرِ اللَّهَ ». (2)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - المعجم الأوسط للطبراني - (8568 ) فيه ضعف
(2) - سنن الترمذى- المكنز - (2081 ) قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.(1/602)
-51- آداب الدعوة
عَنْ أَنَسٍ،أَنَّ غُلاَمًا مِنَ الْيَهُودِ كَانَ يَخْدُمُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعُودُهُ وَهُوَ بِالْمَوْتِ،فَدَعَاهُ إِلَى الإِِسْلاَمِ،فَنَظَرَ الْغُلاَمُ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَ رَأْسِهِ،فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ:أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ،فَأَسْلَمَ،ثُمَّ مَاتَ،فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ يَقُولُ:الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ بِي مِنَ النَّارِ." (1)
أمر الله -عز وجل- المسلمين بالدعوة إلى الإيمان به وعبادته،فقال سبحانه: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (104) سورة آل عمران.
لِتَكُنْ مِنَ المُؤْمِنِينَ جَمَاعَةٌ مُتَخَصِّصَةٌ مُتَمَيِّزَةٌ تَعْرِفُ أَسْرَارَ الأَحْكَامِ،وَحِكْمَةَ التَّشْرِيعِ وَفِقْهَهُ،تَتَولَّى القِيَامَ بِالدَّعْوَةِ إلى الدِّين،وَتَأمُرُ بِالمَعْروفِ،وَتُحَارِبُ المُنْكَرَ،وَتَنْهَى عَنْهُ،وَمِنْ وَاجِبِ كُلِّ مُسْلِمِ أنْ يُحَارِبَ المُنْكَرَ مَا اسْتَطَاعَ إلى ذَلِكَ،وَهَؤُلاءِ هُمُ الفَائِزُونَ فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ . (2)
وقال الله تعالى مبينًا فضل الدعوة إليه: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) } [فصلت:33 - 36]
لا أحد أحسن قولا ممن دعا إلى توحيد الله وعبادته وحده وعمل صالحًا وقال: إنني من المسلمين المنقادين لأمر الله وشرعه. وفي الآية حث على الدعوة إلى الله سبحانه،وبيان فضل العلماء الداعين إليه على بصيرة،وَفْق ما جاء عن رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - .
ولا تستوي حسنة الذين آمنوا بالله،واستقاموا على شرعه،وأحسنوا إلى خلقه،وسيئة الذين كفروا به وخالفوا أمره،وأساؤوا إلى خلقه. ادفع بعفوك وحلمك وإحسانك مَن أساء إليك،وقابل إساءته لك بالإحسان إليه،فبذلك يصير المسيء إليك الذي بينك وبينه عداوة كأنه قريب لك شفيق عليك. وما يُوفَّق لهذه الخصلة الحميدة إلا الذين صبروا أنفسهم على ما تكره،وأجبروها على ما يحبه الله،وما يُوفَّق لها إلا ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة.وإما يلقينَّ الشيطان في نفسك وسوسة من حديث النفس لحملك على مجازاة المسيء بالإساءة،فاستجر بالله واعتصم به،إن الله هو السميع لاستعاذتك به،العليم بأمور خلقه جميعها. (3)
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (4 / 584)(13375) 13408- صحيح
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 397)
(3) - التفسير الميسر - (8 / 402)(1/603)
إن النهوض بواجب الدعوة إلى اللّه،في مواجهة التواءات النفس البشرية،وجهلها،واعتزازها بما ألفت،واستكبارها أن يقال:إنها كانت على ضلالة،وحرصها على شهواتها وعلى مصالحها،وعلى مركزها الذي قد تهدده الدعوة إلى إله واحد،كل البشر أمامه سواء.
إن النهوض بواجب الدعوة في مواجهة هذه الظروف أمر شاق. ولكنه شأن عظيم:«وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ،وَعَمِلَ صالِحاً،وَقالَ:إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ».
إن كلمة الدعوة حينئذ هي أحسن كلمة تقال في الأرض،وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء. ولكن مع العمل الصالح الذي يصدق الكلمة ومع الاستسلام للّه الذي تتوارى معه الذات. فتصبح الدعوة خالصة للّه ليس للداعية فيها شأن إلا التبليغ.
ولا على الداعية بعد ذلك أن تتلقى كلمته بالإعراض،أو بسوء الأدب،أو بالتبجح في الإنكار. فهو إنما يتقدم بالحسنة. فهو في المقام الرفيع،وغيره يتقدم بالسيئة. فهو في المكان الدون:«وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ».
وليس له أن يرد بالسيئة،فإن الحسنة لا يستوي أثرها - كما لا تستوي قيمتها - مع السيئة والصبر والتسامح،والاستعلاء على رغبة النفس في مقابلة الشر بالشر،يرد النفوس الجامحة إلى الهدوء والثقة،فتنقلب من الخصومة إلى الولاء،ومن الجماح إلى اللين:« ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ،فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ».
وتصدق هذه القاعدة في الغالبية الغالبة من الحالات. وينقلب الهياج إلى وداعة. والغضب إلى سكينة.
والتبجح إلى حياء على كلمة طيبة،ونبرة هادئة،وبسمة حانية في وجه هائج غاضب متبجح مفلوت الزمام!
ولو قوبل بمثل فعله ازداد هياجا وغضبا وتبجحا ومرودا. وخلع حياءه نهائيا،وأفلت زمامه،وأخذته العزة بالإثم.
غير أن تلك السماحة تحتاج إلى قلب كبير يعطف ويسمح وهو قادر على الإساءة والرد. وهذه القدرة ضرورية لتؤتي السماحة أثرها. حتى لا يصور الإحسان في نفس المسيء ضعفا. ولئن أحس أنه ضعف لم يحترمه،ولم يكن للحسنة أثرها إطلاقا.
وهذه السماحة كذلك قاصرة على حالات الإساءة الشخصية. لا العدوان على العقيدة وفتنة المؤمنين عنها.
فأما في هذا فهو الدفع والمقاومة بكل صورة من صورها. أو الصبر حتى يقضي اللّه أمرا كان مفعولا.
وهذه الدرجة،درجة دفع السيئة بالحسنة،والسماحة التي تستعلي على دفعات الغيظ والغضب،والتوازن الذي يعرف متى تكون السماحة ومتى يكون الدفع بالحسنى .. درجة عظيمة لا يلقاها كل إنسان.(1/604)
فهي في حاجة إلى الصبر. وهي كذلك حظ موهوب يتفضل به اللّه على عباده الذين يحاولون فيستحقون:«وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا،وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» ..
إنها درجة عالية إلى حد أن رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي لم يغضب لنفسه قط وإذا غضب للّه لم يقم لغضبه أحد. قيل له - وقيل لكل داعية في شخصه -:«وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ،إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» ..
فالغضب قد ينزغ. وقد يلقي في الروع قلة الصبر على الإساءة. أو ضيق الصدر عن السماحة. فالاستعاذة باللّه من الشيطان الرجيم حينئذ وقاية،تدفع محاولاته،لاستغلال الغضب،والنفاذ من ثغرته.
إن خالق هذا القلب البشري،الذي يعرف مداخله ومساربه،ويعرف طاقته واستعداده،ويعرف من أين يدخل الشيطان إليه،يحوط قلب الداعية إلى اللّه من نزغات الغضب. أو نزغات الشيطان. مما يلقاه في طريقه مما يثير غضب الحليم.
إنه طريق شاق. طريق السير في مسارب النفس ودروبها وأشواكها وشعابها،حتى يبلغ الداعية منها موضع التوجيه ونقطة القياد!!! (1)
وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الأَنْصَارِيِّ،قَالَ:أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ،فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،إِنِّي أُبْدِعَ بِي،فَاحْمِلْنِي،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَيْسَ عِنْدِي فَقَالَ رَجُلٌ:أَنَا أَدُلُّهُ عَلَى مَنْ يَحْمِلُهُ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ. (2) .
وللدعوة إلى الله آداب يتحلى بها المسلم،منها:
إخلاص النية: الإخلاص هو السرُّ في نجاح الداعي إلى الله،فعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ،عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِي أَنَّهُ،سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ،وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى،فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ،وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا،أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا،فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ " (3)
الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة: المسلم -في دعوته غيره- يستخدم الكلمة الطيبة،ويبتعد عن الفحش والتفحش،قال تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (125) سورة النحل
على هذه الأسس يرسي القرآن الكريم قواعد الدعوة ومبادئها،ويعين وسائلها وطرائقها،ويرسم المنهج للرسول الكريم،وللدعاة من بعده بدينه القويم فلننظر في دستور الدعوة الذي شرعه اللّه في هذا القرآن.
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 3121)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (5007 ) وصحيح ابن حبان - (4 / 554) (1668) -أبدع : كل وتعب
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (1) وشرح معاني الآثار - (3 / 96) (4650)(1/605)
إن الدعوة دعوة إلى سبيل اللّه. لا لشخص الداعي ولا لقومه. فليس للداعي من دعوته إلا أنه يؤدي واجبه للّه،لا فضل له يتحدث به،لا على الدعوة ولا على من يهتدون به،وأجره بعد ذلك على اللّه.
والدعوة بالحكمة،والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم،والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها. والطريقة التي يخاطبهم بها،والتنويع في هذه الطريقة حسب مقتضياتها. فلا تستبد به الحماسة والاندفاع والغيرة فيتجاوز الحكمة في هذا كله وفي سواه.
وبالموعظة الحسنة التي تدخل إلى القلوب برفق،وتتعمق المشاعر بلطف،لا بالزجر والتأنيب في غير موجب.
ولا بفضح الأخطاء التي قد تقع عن جهل أو حسن نية. فإن الرفق في الموعظة كثيرا ما يهدي القلوب الشاردة،ويؤلف القلوب النافرة،ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ.
وبالجدل بالتي هي أحسن. بلا تحامل على المخالف ولا ترذيل له وتقبيح. حتى يطمئن إلى الداعي ويشعر أن ليس هدفه هو الغلبة في الجدل،ولكن الإقناع والوصول إلى الحق. فالنفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها،وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق،حتى لا تشعر بالهزيمة. وسرعان ما تختلط على النفس قيمة الرأي وقيمتها هي عند الناس،فتعتبر التنازل عن الرأي تنازلا عن هيبتها واحترامها وكيانها. والجدل بالحسنى هو الذي يطامن من هذه الكبرياء الحساسة. ويشعر المجادل أن ذاته مصونة،وقيمته كريمة،وأن الداعي لا يقصد إلا كشف الحقيقة في ذاتها،والاهتداء إليها. في سبيل اللّه،لا في سبيل ذاته ونصرة رأيه وهزيمة الرأي الآخر! ولكي يطامن الداعية من حماسته واندفاعه يشير النص القرآني إلى أن اللّه هو الأعلم بمن ضل عن سبيله وهو الأعلم بالمهتدين. فلا ضرورة للجاجة في الجدل إنما هو البيان والأمر بعد ذلك للّه.
هذا هو منهج الدعوة ودستورها ما دام الأمر في دائرة الدعوة باللسان والجدل بالحجة. فأما إذا وقع الاعتداء على أهل الدعوة فإن الموقف يتغير،فالاعتداء عمل مادي يدفع بمثله إعزازا لكرامة الحق،ودفعا لغلبة الباطل،على ألا يتجاوز الرد على الاعتداء حدوده إلى التمثيل والتفظيع،فالإسلام دين العدل والاعتدال،ودين السلم والمسالمة،إنما يدفع عن نفسه وأهله البغي ولا يبغي «وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ». وليس ذلك بعيدا عن دستور الدعوة فهو جزء منه. فالدفع عن الدعوة في حدود القصد والعدل يحفظ لها كرامتها وعزتها،فلا تهون في نفوس الناس. والدعوة المهينة لا يعتنقها أحد،ولا يثق أنها دعوة اللّه. فاللّه لا يترك دعوته مهينة لا تدفع عن نفسها،والمؤمنون باللّه لا يقبلون الضيم وهم دعاة للّه والعزة للّه جميعا. ثم إنهم أمناء على إقامة الحق في هذه الأرض وتحقيق العدل بين الناس،وقيادة البشرية إلى الطريق القويم،فكيف ينهضون بهذا كله وهم يعاقبون فلا يعاقبون،ويعتدى عليهم فلا يردون؟!.(1/606)
ومع تقرير قاعدة القصاص بالمثل،فإن القرآن الكريم يدعو إلى العفو والصبر،حين يكون المسلمون قادرين على دفع الشر ووقف العدوان،في الحالات التي قد يكون العفو فيها والصبر أعمق أثرا. وأكثر فائدة للدعوة.
فأشخاصهم لا وزن لها إذا كانت مصلحة الدعوة تؤثر العفو والصبر. فأما إذا كان العفو والصبر يهينان دعوة اللّه ويرخصانها،فالقاعدة الأولى هي الأولى.
ولأن الصبر يحتاج إلى مقاومة للانفعال،وضبط للعواطف،وكبت للفطرة،فإن القرآن يصله باللّه ويزين عقباه:«وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ. وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ» .. فهو الذي يعين على الصبر وضبط النفس،والاتجاه إليه هو الذي يطامن من الرغبة الفطرية في رد الاعتداء بمثله والقصاص له بقدره.
ويوصي القرآن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي وصية لكل داعية من بعده،ألا يأخذه الحزن إذا رأى الناس لا يهتدون،فإنما عليه واجبه يؤديه،والهدى والضلال بيد اللّه،وفق سنته في فطرة النفوس واستعداداتها واتجاهاتها ومجاهدتها للهدى أو للضلال. وألا يضيق صدره بمكرهم فإنما هو داعية للّه،فاللّه حافظه من المكر والكيد،لا يدعه للماكرين الكائدين وهو مخلص في دعوته لا يبتغي من ورائها شيئا لنفسه ..
ولقد يقع به الأذى لامتحان صبره،ويبطئ عليه النصر لابتلاء ثقته بربه،ولكن العاقبة مظنونة ومعروفة «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ» ومن كان اللّه معه فلا عليه ممن يكيدون وممن يمكرون.هذا هو دستور الدعوة إلى اللّه كما رسمه اللّه. والنصر مرهون باتباعه كما وعد اللّه. ومن أصدق من اللّه؟. (1)
الفهم الجيد للدين: لا بد أن يكون الداعي إلى الله على علم بأحكام الدَّين،ولكي يتحقق له ذلك فيستحب له حفظ القرآن الكريم،ومن أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - قدر ما يستطيع حتى يستدلَّ بها في دعوته فعلى الأقل يحفظ أحاديث رياض الصالحين للإمام النووي رحمه الله،يقول تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (108) سورة يوسف
يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ - صلى الله عليه وسلم - بِأَنْ يُخْبِرَ النَّاسَ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَةَ إِلى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهَ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ هِيَ سَبِيلُهُ وَمَسْلَكُهُ وَسُنَّتُهُ،وَأَنَّهُ إِنَّمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهَا وَهُوَ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنَ اللهِ وَيَقِينٍ،هُوَ وَكُلُّ مَنْ آمَنَ بِهِ وَاتَّبَعَهُ،مِنْ حَقِيقَةِ مَا يَدْعُونَ إِلَيْهِ،وَمَا يَقُولُونَ بِهِ،وَأَنَّهُ يُنْزِّهُ اسْمَ اللهِ،وَيُقَدِّسُهُ عَنِ الشِّرْكِ وَالوَلَدِ وَالصَّحَابَةِ،تَعَالَى اللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوّاً كَبِيراً (2)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2201)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1705)(1/607)
فنحن على هدى من اللّه ونور. نعرف طريقنا جيدا،ونسير فيها على بصر وإدراك ومعرفة،لا نخبط ولا نتحسس،ولا نحدس. فهو اليقين البصير المستنير. ننزه اللّه - سبحانه - عما لا يليق بألوهيته،وننفصل وننعزل ونتميز عن الذين يشركون به:
«وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ..لا ظاهر الشرك ولا خافيه.هذه طريقي فمن شاء فليتابع،ومن لم يشأ فأنا سائر في طريقي المستقيم.
وأصحاب الدعوة إلى اللّه لا بد لهم من هذا التميز،لا بد لهم أن يعلنوا أنهم أمة وحدهم،يفترقون عمن لا يعتقد عقيدتهم،ولا يسلك مسلكهم،ولا يدين لقيادتهم،ويتميزون ولا يختلطون! ولا يكفي أن يدعوا أصحاب هذا الدين إلى دينهم،وهم متميعون في المجتمع الجاهلي. فهذه الدعوة لا تؤدي شيئا ذا قيمة! إنه لا بد لهم منذ اليوم الأول أن يعلنوا أنهم شيء آخر غير الجاهلية وأن يتميزوا بتجمع خاص آصرته العقيدة المتميزة،وعنوانه القيادة الإسلامية .. لا بد أن يميزوا أنفسهم من المجتمع الجاهلي وأن يميزوا قيادتهم من قيادة المجتمع الجاهلي أيضا! إن اندغامهم وتميعهم في المجتمع الجاهلي،وبقاءهم في ظل القيادة الجاهلية،يذهب بكل السلطان الذي تحمله عقيدتهم،وبكل الأثر الذي يمكن أن تنشئه دعوتهم،وبكل الجاذبية التي يمكن أن تكون للدعوة الجديدة.
وهذه الحقيقة لم يكن مجالها فقط هو الدعوة النبوية في أوساط المشركين .. إن مجالها هو مجال هذه الدعوة كلما عادت الجاهلية فغلبت على حياة الناس .. وجاهلية القرن العشرين لا تختلف في مقوماتها الأصيلة،وفي ملامحها المميزة عن كل جاهلية أخرى واجهتها الدعوة الإسلامية على مدار التاريخ! والذين يظنون أنهم يصلون إلى شيء عن طريق التميع في المجتمع الجاهلي والأوضاع الجاهلية،والتدسس الناعم من خلال تلك المجتمعات ومن خلال هذه الأوضاع بالدعوة إلى الإسلام .. هؤلاء لا يدركون طبيعة هذه العقيدة ولا كيف ينبغي أن تطرق القلوب! .. إن أصحاب المذاهب الإلحادية أنفسهم يكشفون عن عنوانهم وواجهتهم ووجهتهم! أفلا يعلن أصحاب الدعوة إلى الإسلام عن عنوانهم الخاص؟ وطريقهم الخاص؟ وسبيلهم التي تفترق تماما عن سبيل الجاهلية؟ (1)
القدوة الحسنة: الداعي قدوة لغيره،ولذلك عليه أن يحرص على العمل بما يعلم،وأن يتخلق بما يدعو إليه وإلا كان ممن قال الله فيهم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} (44) سورة البقرة
يَنْعِى اللهُ تَعَالَى عَلَى اليَهُودِ - وَهُمْ أَهْلُ الكِتَابِ - أَنْ يَأْمُرُوا النَّاسَ بِالخَيْرِ وَالبِرِّ وَطَاعَةِ اللهِ،فِي حَالِ أَنَّهُمْ يَنْسَوْنَ وَعْظَ أَنْفُسِهِمْ،وَحَمْلَهَا عَلَى طَاعَةِ اللهِ،فَلاَ يَأْتَمِرُونَ بِمَا يَأْمُرُونَ بِهِ غَيْرَهُمْ مِنَ النَّاسِ،مَعَ أَنَّهُمْ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ المُنْزَلَ إِلَيْهِمْ،وَيَعْلَمُونَ مَا فِيهِ مِنْ عَقَابِ يَحِلُّ بِمَنْ يُقَصِّرُ فِي القِيَامِ بمَا أَمَرَ
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (4 / 2034)(1/608)
اللهُ.وَلكِنَّ الأَحْبَارَ وَالرُّهْبَانَ مِنْهُمْ لاَ يَذْكُرُونَ مِنَ الحَقِّ إِلاَّ مَا يُوَافِقُ أَهْوَاءَهُمْ،وَلا يَعْمَلُونَ بِمَا فِيهِ مِنَ الأَحْكَامِ إِذَا عَارَضَ شَهَوَاتِهِمْ (1)
فعَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ قَالَ:حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ مُحْرِزٍ،سَمِعَ جُنْدُبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيَّ يَقُولُ فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ:" إِنَّ مَثَلَ الَّذِي يَعِظُ النَّاسَ وَيَنْسَى نَفْسَهُ كَالْمِصْبَاحِ يَحْرِقُ نَفْسَهُ وَيُضِيءُ لِغَيْرِهِ "
قَالَ أَبُو عُمَرَ:" أَخَذَهُ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ فَقَالَ :
وَبَّخْتَ غَيْرَكَ بِالْعَمَى فَأَفَدْتَهُ بَصَرًا وَأَنْتَ مُحْسِنٌ لِعَمَاكَا
كَفَتِيلَةِ الْمِصْبَاحِ تَحْرِقُ نَفْسَهَا وَتُنِيرُ مَوْقِدَهَا وَأَنْتَ كَذَاكَا
وَلَقَدْ أَحْسَنَ أَبُو الْأَسْوَدِ الدُّؤَلِيُّ فِي قَوْلِهِ،وَتُرْوَى لِلْعَرْزَمِيِّ :
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ هَلَّا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيمُ
وَنَرَاكَ تُلْقِحُ بِالرَّشَادِ عُقُولَنَا صِفَةً وَأَنْتَ مِنَ الرَّشَادِ عَدِيمُ
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ
وَابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
فَهُنَاكَ تُقْبَلُ إِنْ وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى بِالْقَوْلِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ (2)
فلابد أن يكون الداعي طيب الأخلاق،حسن السيرة. وعَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ،قَالَ:أَتَيْتُ عَائِشَةَ،فَقُلْتُ:يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ،أَخْبِرِينِي بِخُلُقِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَتْ:كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ،أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ،قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}،قُلْتُ:فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَبَتَّلَ،قَالَتْ:لاَ تَفْعَلْ،أَمَا تَقْرَأُ:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ} حَسَنَةٌ ؟ فَقَدْ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،وَقَدْ وُلِدَ لَهُ. " (3) .
أي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتصف بكل صفات الخير التي يدعو الناس للتمسك بها من خلال آيات القرآن الكريم والسنة النبوية.
وليحذر الداعي من الانسياق في المعاصي مع الناس،ويبتعد عن مواضع التهم والشبهات،فعَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: شَهِدْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ عَلَى مِنْبَرِنَا هَذَا يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: " إنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ وَإِنَّ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُشْتَبِهَاتٍ فَمَنْ تَرَكَهَا اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ رَتَعَ فِيهَا يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَمَنْ رَعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ،أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وَإِنَّ الْحَرَامَ حِمَى اللهِ الَّذِي حَرَّمَ عَلَى عِبَادِهِ " (4) .
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 51)
(2) - جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ (783 )
(3) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 144)(24601) 25108- صحيح
(4) - صحيح مسلم- المكنز - (4178 ) وشرح مشكل الآثار - (2 / 220) (751 )(1/609)
البعد عن مواضع الخلافات: الداعي يبتعد عن مواضع الخلاف ما وسعه ذلك،فيتحدث إلى الناس في الأمور المتفق عليها،حتى لا يتعرض للدخول في جدال لا طائل تحته،أو لرياء يُذهب ثواب عمله.
ذلك لأن الله تعالى شاء هذا الاختلاف في فهم النصوص الشرعية،فليست قطعية الدلالة على المعنى المراد إلا القليل منها،وقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم في فهمها فما أنكر عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك،فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ قَالَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ « لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِى بَنِى قُرَيْظَةَ ».فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمُ الْعَصْرَ فِى الطَّرِيقِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لاَ نُصَلِّى حَتَّى نَأْتِيَهَا،وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُصَلِّى لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ.فَذُكِرَ لِلنَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ . (1)
وعَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ،قَالَ:" كَانَ اخْتِلَافُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا نَفَعَ اللَّهُ بِهِ،فَمَا عَمِلْتَ مِنْهُ مِنْ عَمَلٍ لَمْ يَدْخُلْ نَفْسَكَ مِنْهُ شَيْءٌ " (2)
وعَنْ قَتَادَةَ،أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ،كَانَ يَقُولُ:" مَا سَرَّنِي لَوْ أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَخْتَلِفُوا،لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَخْتَلِفُوا لَمْ تَكُنْ رُخْصَةٌ " (3)
البدء بالأهم: الداعي إلى الله يتدرج في دعوة الناس،فيدعوهم إلى الفرائض قبل السنن،ويدعوهم إلى الأمور الواجبة قبل الأمور المستحبة.
فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا عَلَى الْيَمَنِ قَالَ :« إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ،فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِى يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ،فَإِذَا فَعَلُوا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً تُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ،فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا فَخُذْ مِنْهُمْ،وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ » (4)
الرفق واللين: المسلم يدعو غيره بالرفق واللين،قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159) سورة آل عمران
وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِى شَىْءٍ إِلاَّ زَانَهُ وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَىْءٍ إِلاَّ شَانَهُ ». (5)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ،وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ. (6)
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (946 )
(2) - الْفَقِيهُ وَالْمُتَفَقِّهُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ (736 ) صحيح
(3) - الْفَقِيهُ وَالْمُتَفَقِّهُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ (738 ) صحيح
وانظر للتوسع في هذا الموضوع كتابي (( الخلاصة في أسباب اختلاف الفقهاء ))
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (1458) وصحيح مسلم- المكنز - (132)
(5) - صحيح مسلم- المكنز - (6767 )
(6) - صحيح ابن حبان - (2 / 309) (549) وصحيح مسلم- المكنز - (6766) عن عائشة نحوه(1/610)
الذكاء والفطنة: المسلم ذكي وفطن،يعرف كيف يدعو الناس إلى الله،وكيف يتحدث إليهم ويقنعهم،وهو دائمًا يختار الوقت المناسب لدعوته. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ:أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ يَسْتَعِينُهُ فِي شَيْءٍ قَالَ عِكْرِمَةُ:أُرَاهُ فِي دَمٍ،فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا،ثُمَّ قَالَ:" أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ ؟ ".قَالَ الْأَعْرَابِيُّ:لَا،وَلَا أَجْمَلْتَ.فَغَضِبَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ،وَهَمُّوا أَنْ يَقُومُوا إِلَيْهِ.فَأَشَارَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْهِمْ:أَنْ كُفُّوا.فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَبَلَغَ إِلَى مَنْزِلِهِ دَعَا الْأَعْرَابِيَّ إِلَى الْبَيْتِ،فَقَالَ لَهُ:الجزء التاسع < 16 > " إِنَّكَ جِئْتَنَا،فَسَأَلْتَنَا فَأَعْطَيْنَاكَ،فَقُلْتَ مَا قُلْتَ ".فَزَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا،فَقَالَ:" أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ ؟ ".فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ:نَعَمْ فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ وَعَشِيرٍ خَيْرًا.فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :" إِنَّكَ كُنْتَ جِئْتَنَا فَسَأَلْتَنَا فَأَعْطَيْنَاكَ،فَقُلْتَ مَا قُلْتَ وَفِي نَفْسِ أَصْحَابِي عَلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ،فَإِذَا جِئْتَ فَقُلْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مَا قُلْتَ بَيْنَ يَدَيَّ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْ صُدُورِهِمْ ".قَالَ:نَعَمْ.قَالَ:فَلَمَّا جَاءَ الْأَعْرَابِيُّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :" إِنَّ صَاحِبَكُمْ كَانَ جَاءَنَا،فَسَأَلَنَا فَأَعْطَيْنَاهُ،فَقَالَ مَا قَالَ،وَإِنَّا قَدْ دَعَوْنَاهُ فَأَعْطَيْنَاهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ قَدْ رَضِيَ أَكَذَاكَ ؟ ".قَالَ الْأَعْرَابِيُّ:نَعَمْ،فَجَزَاكَ اللَّهُ مِنْ أَهْلٍ وَعَشِيرٍ خَيْرًا.قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - :" إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ هَذَا الْأَعْرَابِيِّ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَتْ لَهُ نَاقَةٌ فَشَرَدَتْ عَلَيْهِ،فَاتَّبَعَهَا النَّاسُ فَلَمْ يَزِيدُوهَا إِلَّا نُفُورًا،فَقَالَ صَاحِبُ النَّاقَةِ:خَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ نَاقَتِي فَأَنَا أَرْفَقُ بِهَا وَأَعْلَمُ بِهَا،فَتَوَجَّهَ إِلَيْهَا صَاحِبُ النَّاقَةِ فَأَخَذَ لَهَا مِنْ قُشَامِ الْأَرْضِ،وَدَعَاهَا حَتَّى جَاءَتْ وَاسْتَجَابَتْ،وَشَدَّ عَلَيْهَا رَحْلَهَا وَاسْتَوَى عَلَيْهَا،وَلَوْ أَنِّي أَطَعْتُكُمْ حَيْثُ قَالَ مَا قَالَ دَخَلَ النَّارَ ".رَوَاهُ الْبَزَّارُ (1)
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ:إِنَّ فَتًى شَابًّا أَتَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ،ائْذَنْ لِي بِالزِّنَا،فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ فَزَجَرُوهُ وَقَالُوا:مَهْ.مَهْ.فَقَالَ:ادْنُهْ،فَدَنَا مِنْهُ قَرِيبًا.قَالَ:فَجَلَسَ قَالَ:أَتُحِبُّهُ لأُمِّكَ ؟ قَالَ:لاَ،وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ.قَالَ:وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأُمَّهَاتِهِمْ.قَالَ:أَفَتُحِبُّهُ لاِبْنَتِكَ ؟ قَالَ:لاَ،وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ قَالَ:وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِبَنَاتِهِمْ.قَالَ:أَفَتُحِبُّهُ لأُخْتِكَ ؟ قَالَ:لاَ،وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ.قَالَ:وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لأَخَوَاتِهِمْ.قَالَ:أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ ؟ قَالَ:لاَ،وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ.قَالَ:وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِعَمَّاتِهِمْ.قَالَ:أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ ؟ قَالَ:لاَ،وَاللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ.قَالَ:وَلاَ النَّاسُ يُحِبُّونَهُ لِخَالاَتِهِمْ.قَالَ:فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ:اللَّهُمَّ اغْفِرْ ذَنْبَهُ وَطَهِّرْ قَلْبَهُ،وَحَصِّنْ فَرْجَهُ فَلَمْ يَكُنْ بَعْدُ ذَلِكَ الْفَتَى يَلْتَفِتُ إِلَى شَيْءٍ." (2)
فهم شخصية المدعوّ: الداعي إلى الله لابد أن يكون بصيرًا عارفًا بمن يدعوه فيتفهم شخصيته،ويحسن الطريقة التي يدعوه بها،وما يناسب شخصًا قد لا يناسب شخصًا آخر. ومن الأفضل للداعي أن
__________
(1) - مسند البزار ( المطبوع باسم البحر الزخار - (15 / 294)(8799) فيه ضعف
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 407)(22211) 22564- صحيح(1/611)
يعرف شيئًا عن ظروف المدعو الاجتماعية. فعَنْ طَارِقِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُحَارِبِيِّ،قَالَ:رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ وَأَنَا فِي بِيَاعَةٍ لِي،فَمَرَّ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ حَمْرَاءُ،فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:يَا أَيُّهَا النَّاسُ،قُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تُفْلِحُوا،وَرَجُلٌ يَتْبَعُهُ يَرْمِيهِ بِالْحِجَارَةِ قَدْ أَدْمَى كَعْبَهُ،وَهُوَ يَقُولُ:يَا أَيُّهَا النَّاسُ،لاَ تُطِيعُوا هَذَا فَإِنَّهُ كَذَّابٌ،فَقُلْتُ:مَنْ هَذَا ؟ فَقِيلَ:غُلامٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ،فَلَمَّا أَظْهَرَ اللَّهُ الإِسْلامَ خَرَجْنَا مِنَ الرَّبَذَةِ وَمَعَنَا ظَعِينَةٌ لَنَا حَتَّى نَزَلْنَا قَرِيبًا مِنَ الْمَدِينَةِ،فَبَيْنَا نَحْنُ قُعُودًا إِذْ أَتَانَا رَجُلٌ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا،فَقَالَ:مِنْ أَيْنَ الْقَوْمُ ؟ فَقُلْنَا:مِنَ الرَّبَذَةِ،وَمَعَنَا جَمَلٌ أَحْمَرُ،فَقَالَ:تَبِيعُونِي هَذَا الْجَمَلَ ؟ فَقُلْنَا:نَعَمْ،فَقَالَ:بِكَمْ ؟ فَقُلْنَا:بِكَذَا وَكَذَا صَاعًا مِنْ تَمْرٍ،قَالَ:أَخَذْتُهُ،وَمَا اسْتَقْصَى،فَأَخَذَ بِخِطَامِ الْجَمَلِ فَذَهَبَ بِهِ حَتَّى تَوَارَى فِي حِيطَانِ الْمَدِينَةِ،فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ:تَعْرِفُونَ الرَّجُلَ ؟ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَحَدٍ يَعْرِفُهُ،فَلامَ الْقَوْمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا،فَقَالُوا:تُعْطُونَ جَمَلَكُمْ مَنْ لاَ تَعْرِفُونَ ؟ فَقَالَتِ الظَّعِينَةُ:فَلا تَلاوَمُوا،فَلَقَدْ رَأَيْنَا رَجُلا لاَ يَغْدِرُ بِكُمْ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ مِنْ وَجْهِهِ،فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ أَتَانَا رَجُلٌ،فَقَالَ:السَّلامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ،أَأَنْتُمُ الَّذِينَ جِئْتُمْ مِنَ الرَّبَذَةِ ؟ قُلْنَا:نَعَمْ،قَالَ:أَنَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْكُمْ وَهُوَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ هَذَا التَّمْرِ حَتَّى تَشْبَعُوا وَتَكْتَالُوا حَتَّى تَسْتَوْفُوا،فَأَكَلْنَا مِنَ التَّمْرِ حَتَّى شَبِعْنَا،وَاكْتَلْنَا حَتَّى اسْتَوْفَيْنَا،ثُمَّ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ مِنَ الْغَدِ،فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَائِمٌ يَخْطُبُ النَّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ،فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:يَدُ الْمُعْطِي الْعُلْيَا وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ:أُمَّكَ،وَأَبَاكَ،وَأُخْتَكَ،وَأَخَاكَ،وَأَدْنَاكَ،أَدْنَاكَ،وَثَمَّ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ،فَقَالَ:يَا رَسُولَ اللَّهِ،هَؤُلاءِ بَنُو ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعَ الَّذِينَ قَتَلُوا فُلانًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ،فَخُذْ لَنَا بِثَأْرِنَا،فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ،فَقَالَ:لاَ تَجْنِي أُمٌّ عَلَى وَلَدٍ،لاَ تَجْنِي أُمٌّ عَلَى وَلَدٍ" (1)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ:كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي تِلْكَ السِّنِينَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ،وَيُكَلِّمُ كُلَّ شَرِيفِ قَوْمٍ لَا يَسَلْهُمْ مَعَ ذَلِكَ إِلَّا أَنْ يَرَوْهُ وَيَمْنَعُوهُ وَيَقُولُ:" لَا أُكْرِهُ أَحَدًا مِنْكُمْ عَلَى شَيْءٍ،مَنْ رَضِيَ مِنْكُمْ بِالَّذِي أَدْعُوهُ إِلَيْهِ فَذَلِكَ،وَمَنْ كَرِهَ لَمْ أُكْرِهْهُ،إِنَّمَا أُرِيدُ أَنْ تُحْرِزُونِي مِمَّا يُرَادُ بِي مِنَ الْقَتْلِ حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَاتِ رَبِّي وَحَتَّى يَقْضِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِي وَلِمَنْ صَحِبَنِي بِمَا شَاءَ اللَّهُ " فَلَمْ يَقْبَلْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ،وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الْقَبَائِلِ إِلَّا قَالَ:قَوْمُ الرَّجُلِ أَعْلَمُ بِهِ،أَتَرَوْنَ أَنَّ رَجُلًا يُصْلِحُنَا وَقَدْ أَفْسَدَ قَوْمَهُ وَلَفَظُوهُ ؟ فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا ذَخَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْأَنْصَارِ وَأَكْرَمَهُمْ بِهِ.فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو طَالِبٍ ارْتَدَّ الْبَلَاءُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَشَدُّ مَا كَانَ،فَعَمَدَ لِثَقِيفٍ بِالطَّائِفِ رَجَاءَ أَنْ يَأْوُوَهُ،فَوَجَدَ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ مِنْهُمْ سَادَةُ ثَقِيفٍ يَوْمَئِذٍ وَهُمْ أُخْوَةٌ:عَبْدُ يَالِيلَ بْنُ عَمْرٍو،وَحَبِيبُ بْنُ عَمْرٍو،وَمَسْعُودُ بْنُ عَمْرٍو،فَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ،وَشَكَا إِلَيْهِمُ الْبَلَاءَ وَمَا انْتَهَكَ مِنْهُ قَوْمُهُ.فَقَالَ أَحَدُهُمْ:أَنَا أَمْرُقُ أَسْتَارَ الْكَعْبَةِ إِنْ كَانَ اللَّهُ بَعَثَكَ بِشَيْءٍ قَطُّ.وَقَالَ الْآخَرُ:أَعَجَزَ اللَّهُ أَنْ يُرْسِلَ غَيْرَكَ.وَقَالَ الْآخَرُ:وَاللَّهِ لَا أُكَلِّمُكَ بَعْدَ
__________
(1) - المستدرك للحاكم ( 4219) صحيح(1/612)
مَجْلِسِكَ هَذَا أَبَدًا،وَاللَّهِ لَئِنْ كُنْتَ رَسُولَ اللَّهِ لَأَنْتَ أَعْظَمُ شَرَفًا وَحَقًّا مِنْ أَنْ أُكَلِّمَكَ،وَلَئِنْ كُنْتَ تَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ لَأَنْتَ أَشَرُّ مِنْ أَنْ أُكَلِّمَكَ.وَتَهَزَّءُوا بِهِ وَأَفْشَوْا فِي قَوْمِهِمُ الَّذِي رَاجَعُوهُ بِهِ،وَقَعَدُوا لَهُ صَفَّيْنِ عَلَى طَرِيقِهِ،فَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ صَفَّيْهِمْ جَعَلُوا لَا يَرْفَعُ رِجْلَيْهِ وَلَا يَضَعُهُمَا إِلَّا رَضَخُوهُمَا بِالْحِجَارَةِ،وَكَانُوا أَعَدُّوهَا حَتَّى أَدْمَوْا رِجْلَيْهِ.فَخَلَصَ مِنْهُمْ وَهُمَا يَسِيلَانِ الدِّمَاءَ،فَعَمَدَ إِلَى حَائِطٍ مِنْ حَوَائِطِهِمْ،وَاسْتَظَلَّ فِي ظِلِّ حَبَلَةٍ مِنْهُ،وَهُوَ مَكْرُوبٌ مُوجَعٌ،تَسِيلُ رِجْلَاهُ دَمًا،فَإِذَا فِي الْحَائِطِ عُقْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ،وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ،فَلَمَّا رَآهُمَا كَرِهَ مَكَانَهُمَا لِمَا يَعْلَمُ مِنْ عَدَاوَتِهِمَا اللَّهَ وَرَسُولَهُ،فَلَمَّا رَأَيَاهُ أَرْسَلَا إِلَيْهِ غُلَامًا لَهُمَا يُدْعَى عَدَّاسًا وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ مِنْ أَهْلِ نِينَوَى مَعَهُ عِنَبٌ،فَلَمَّا جَاءَهُ عَدَّاسٌ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مِنْ أَيِّ أَرْضٍ أَنْتَ يَا عَدَّاسُ ؟ " قَالَ لَهُ عَدَّاسٌ:أَنَا مِنْ أَهْلِ نِينَوَى،فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : مِنْ مَدِينَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتَى،فَقَالَ لَهُ عَدَّاسٌ:وَمَا يُدْرِيكَ مَنْ يُونُسُ بْنُ مَتَّى قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَ لَا يَحْقِرُ أَحَدًا أَنْ يُبَلِّغَهُ رِسَالَةَ رَبِّهِ:" أَنَا رَسُولُ اللَّهِ،وَاللَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَنِي خَبَرَ يُونُسَ بْنِ مَتَى ".فَلَمَّا أَخْبَرَهُ بِمَا أَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ شَأْنِ يُونُسَ بْنِ مَتَّى،خَرَّ عَدَّاسٌ سَاجِدًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَجَعَلَ يُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَهُمَا يَسِيلَانِ الدِّمَاءَ.فَلَمَّا أَبْصَرَ عُقْبَةُ وَشَيْبَةُ مَا يَصْنَعُ غُلَامُهُمَا سَكَنَا،فَلَمَّا أَتَاهُمَا،قَالَا:مَا شَأْنُكَ سَجَدْتَ لِمُحَمَّدٍ،وَقَبَّلْتَ قَدَمَيْهِ،وَلَمْ نَرَكَ فَعَلْتَهُ بِأَحَدٍ مِنَّا ؟ قَالَ:هَذَا رَجُلٌ صَالِحٌ،أَخْبَرَنِي بِشَيْءٍ عَرَفْتُهُ مِنْ شَأْنِ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَيْنَا يُدْعَى يُونُسَ بْنَ مَتَى،فَضَحِكَا بِهِ،وَقَالَا:لَا يَفْتِنُكَ عَنْ نَصْرَانِيَّتِكَ،فَإِنَّهُ رَجُلٌ خَدَّاعٌ،فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِلَى مَكَّةَ " (1)
مخاطبة الناس على قدر عقولهم: المسلم إذا دعا غيره كان عليه أن يراعي حاله ومستواه،فمن الناس من يناسبه الكلام الفصيح،ومنهم من يناسبه الكلام البسيط المفهوم،وَقَالَ عَلِىٌّ:حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ،أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ " (2)
وعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ قَالَ مَا أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لاَ تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلاَّ كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً. (3)
البدء بدعوة الأهل والأقارب: المسلم يبدأ بدعوة أهله وأقاربه،قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (6) سورة التحريم. ويقول تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (214) سورة الشعراء.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ لَمَّا نَزَلَتْ ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ) صَعِدَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى الصَّفَا فَجَعَلَ يُنَادِى « يَا بَنِى فِهْرٍ،يَا بَنِى عَدِىٍّ ».لِبُطُونِ قُرَيْشٍ حَتَّى اجْتَمَعُوا،فَجَعَلَ الرَّجُلُ إِذَا
__________
(1) - دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ (690 ) صحيح مرسل
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (127 )
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (4 ) وقيل لم يسمع من عم أبيه(1/613)
لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَخْرُجَ أَرْسَلَ رَسُولاً لِيَنْظُرَ مَا هُوَ،فَجَاءَ أَبُو لَهَبٍ وَقُرَيْشٌ فَقَالَ « أَرَأَيْتَكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِالْوَادِى تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ،أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِىَّ ».قَالُوا نَعَمْ،مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ إِلاَّ صِدْقًا.قَالَ « فَإِنِّى نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ».فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ،أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا فَنَزَلَتْ ( تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ) (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء:] جَمَعَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قُرَيْشًا،فقَالَ:يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ،أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ،فَإِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ مِثْلَ ذَلِكَ،وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِثْلَ ذَلِكَ،ثُمَّ،قَالَ:يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - ،أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ،فَإِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكِ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا،إِلاَّ أَنَّ لَكِ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلاَلِهَا." (2)
عدم اليأس: الداعي إلى الله لا ييأس إذا صادف رفضًا ممن يدعوه،فعليه أن يدعو ويترك أمر الهداية إلى الله،قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (56) سورة القصص
إنك -أيها الرسول- لا تهدي هداية توفيق مَن أحببت هدايته،ولكن ذلك بيد الله يهدي مَن يشاء أن يهديه للإيمان،ويوفقه إليه،وهو أعلم بمن يصلح للهداية فيهديه. (3)
وعَنِ ابْنِ شِهَابٍ،قَالَ:أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ:لَمَّا حَضَرَ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : يَا عَمِّ،قُلْ:لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ أَشْهَدْ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ،قَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ:يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ؟ قَالَ:فَلَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيُعِيدُ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأَبَى أَنْ يَقُولَ:لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ،فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:]،وَأُنْزِلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ:{إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ،وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ،وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}." (4)
وإن الإنسان ليقف أمام هذا الخبر مأخوذا بصرامة هذا الدين واستقامته. فهذا عم رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وكافله وحاميه والذائد عنه،لا يكتب اللّه له الإيمان،على شدة حبه لرسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وشدة حب رسول اللّه له أن يؤمن. ذلك أنه إنما قصد إلى عصبية القرابة وحب الأبوة،ولم يقصد إلى العقيدة. وقد علم اللّه هذا منه،فلم يقدر له ما كان يحبه له رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - ويرجوه.
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (4770 ) وصحيح مسلم- المكنز - (529)
(2) - صحيح ابن حبان - (2 / 412)(646) وصحيح مسلم- المكنز - (522)
(3) - التفسير الميسر - (7 / 90)
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (4772) وصحيح مسلم- المكنز - (141) وصحيح ابن حبان - (3 / 263) (982)(1/614)
فأخرج هذا الأمر - أمر الهداية - من حصة رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - وجعله خاصا بإرادته سبحانه وتقديره. وما على الرسول إلا البلاغ. وما على الداعين بعده إلا النصيحة. والقلوب بعد ذلك بين أصابع الرحمن،والهدى والضلال وفق ما يعلمه من قلوب العباد واستعدادهم للهدى أو للضلال. (1)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2703)(1/615)
-52- آداب العمل
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ أَتَى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْأَلُهُ فَقَالَ « أَمَا فِى بَيْتِكَ شَىْءٌ ». قَالَ بَلَى حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ. قَالَ « ائْتِنِى بِهِمَا ».فَأَتَاهُ بِهِمَا فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدِهِ وَقَالَ « مَنْ يَشْتَرِى هَذَيْنِ ». قَالَ رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ. قَالَ « مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ ». مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا قَالَ رَجُلٌ أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ. فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا الأَنْصَارِىَّ وَقَالَ « اشْتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ وَاشْتَرِ بِالآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِى بِهِ ». فَأَتَاهُ بِهِ فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عُودًا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ « اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ وَلاَ أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ». فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِىءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِى وَجْهِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ لِثَلاَثَةٍ لِذِى فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ لِذِى غُرْمٍ مُفْظِعٍ أَوْ لِذِى دَمٍ مُوجِعٍ ». (1)
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ،قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ،رَجُلٌ لَهُ حَشَمٌ خَلْقًا،فَقَالُوا: لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ ؟ وَجَاءَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالُوا: لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللهِ ؟ فَقَالَ: " لَعَلَّهُ يَكُدُّ عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ،فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ،لَعَلَّهُ يَكُدُّ عَلَى صِبْيَةٍ صِغَارٍ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ،لَعَلَّهُ يَكُدُّ عَلَى نَفْسِهِ لِيُغْنِيَهَا عَنِ النَّاسِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ " (2)
وعَنْ كَعْبِ بن عُجْرَةَ،قَالَ: مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ،فَرَأَى أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ جِلْدِهِ وَنَشَاطِهِ،فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - :"إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ،وَإِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ،وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يُعِفُّهَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ،وَإِنْ كَانَ خَرَجَ رِيَاءً وَمُفَاخَرَةً فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ". (3)
فالإسلامُ دين العمل،وهو عمل للدنيا،وعمل للآخرة. قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (77) سورة القصص.
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (1643 ) وقال الشيخ الألباني: صحيح لشواهده، انظر صحيح الترغيب والترهيب 1/350 .
المدقع : الشديد الملصق لصاحبه بالأرض -القعب : القدح -النكتة : الأثر القليل كالنقطة
(2) - شعب الإيمان - (10 / 264) (7469 ) صحيح لغيره
(3) - المعجم الكبير للطبراني - (13 / 491) (15619) صحيح لغيره(1/616)
واسْتَعْمِلْ مَا وَهَبكَ اللهُ مِنَ المَالِ الجَزيلِ،والنَّعمَةِ الطَّائِلَةِ،في طَاعَةِ رَبِّكَ،والتَّقَرُّبِ إليهِ،ولا تَنْسَ حَظَّكَ ( نَصِيبَكَ ) مِنَ الدُّنيا،ممَّا أَبَاحَهُ اللهُ فيها لِعِبادِهِ،مِنَ المَآكِلِ والمَشَارِبِ والمَلاَبِسِ وغَيرها.. فإِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيكَ حَقّاً،وَلِنَفَسِكَ عَليكَ حَقّاً،..فَآتِ كُلِّ ذي حقٍّ حَقَّهُ.وأحْسِنْ إِلى خَلْقِ اللهِ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ولا يَكنْ هَمُّكَ الإِفسَادَ في الأَرضِ،والإِساءَةَ إلى خَلْقِ اللهِ،إنّ الله لاَ يُحِبُّ المُفْسِدِينَ . (1)
وفي هذا يتمثل اعتدال المنهج الإلهي القويم. المنهج الذي يعلق قلب واجد المال بالآخرة. ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة. بل يحضه على هذا ويكلفه إياه تكليفا،كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها.
لقد خلق اللّه طيبات الحياة ليستمتع بها الناس وليعملوا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها،فتنمو الحياة وتتجدد،وتتحقق خلافة الإنسان في هذه الأرض. ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة،فلا ينحرفون عن طريقها،ولا يشغلون بالمتاع عن تكاليفها. والمتاع في هذه الحالة لون من ألوان الشكر للمنعم،وتقبل لعطاياه،وانتفاع بها. فهو طاعة من الطاعات يجزي عليها اللّه بالحسنى.
وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة الإنسان،ويمكنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة،التي لا حرمان فيها،ولا إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة.
«وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ» .. فهذا المال هبة من اللّه وإحسان. فليقابل بالإحسان فيه. إحسان التقبل وإحسان التصرف،والإحسان به إلى الخلق،وإحسان الشعور بالنعمة،وإحسان الشكران.
«وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ» .. الفساد بالبغي والظلم. والفساد بالمتاع المطلق من مراقبة اللّه ومراعاة الآخرة.
والفساد بملء صدور الناس بالحرج والحسد والبغضاء. والفساد بإنفاق المال في غير وجهه أو إمساكه عن وجهه على كل حال.
«إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» .. كما أنه لا يحب الفرحين. (2)
وقد أمر الله -سبحانه- بالعمل والسعي في الأرض والأكل من رزق الله،فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } (15) سورة الملك
وَاللهُ تَعَالَى هُوَ الذِي سَخَّرَ الأَرْضَ لِلْعِبَادِ،وَجَعَلَهَا مُذَلَّلَةً سَاكِنَةً،وَأَرْسَاهَا بِالجِبَالِ لِكَيْلاَ تَضْطَرِبِ وَتَمِيدَ بِمَنْ عَلَيهَا مِنَ الخَلاَئِقِ،وَأَخْرَجَ مِنْهَا المِيَاهَ،وَسَلَكَهَا فِي الأَرْضِ جَدَاوِلَ وَأَنْهَاراً،لِيَنْتَفِعَ بِهَا الخَلْقُ فِي الشُّرْبِ،وَفِي رَيِّ زُرُوعِهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ،وَجَعَلَ فِي الأَرْضِ سُبُلاً،فَسَافِرُوا يَا أَيُّهَا النَّاسُ فِي أَرْجَائِهَا حَيْثُ شِئْتُمُ،وَتَرَدَّدُوا فِي أَرْجَائِهَا وَأَقَالِيمِهَا طَلَباً لِلرِّزْقِ وَالتِّجَارَةِ،وَكُلُوا مِمَّا أَخْرَجَهُ لَكُمْ مِنْهَا مِنَ الرِّزْقِ،وَإِلَى اللهِ مَرْجِعُ الأَمْرِ،وَإِليهِ يَصِيرُ الخَلْقُ يَوْمَ القِيَامَةِ لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ جَمِيعاً
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 3211)
(2) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (5 / 2711)(1/617)
والمَخْلُوقَاتُ تَسْعَى فِي الرِّزْقِ وَفْقَ الأَسْبَابِ اللاَزِمَةِ لَهً وَلَكِنَّ سَعْيَهَا وَحْدَهُ لاَ يَكْفِي،وَلاَ يُجْدِي عَلَيْهَا نفعاً إِلاَّ أَنْ يُيَسِّرَهُ اللهُ لَهَا،فَالسَّعْيُ فِي السَّببِ لاَ يُنَافِي التَّوَكُلَ (1) .
وحث الله تعالى على العمل بقوله: {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (105) سورة التوبة
هَذَا وَعِيدٌ مْنَ اللهِ تَعَالَى لِمَنْ خَالَفُوا أَوَامِرَهُ،وَتَحْذِيرٌ لَهُمْ بِأَنَّ أَعْمَالَهُمْ سَتُعْرَضُ عَلَيهِ،وَعَلَى رَسُولِهِ،وَعَلَى المُؤْمِنِينَ،يَوْمَ القِيَامَةِ،وَأَنَّهُمْ سَيُرَدُّونَ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَى اللهِ،الذِي يَعْلَمُ الغَيْبَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ،وَهُوَ الشَاهِدُ عَلَى خَلْقِهِ جَمِيعاً،فَيُخْبِرُهُمْ بِكُلِّ عَمَلٍ عَمِلُوهُ . (2)
وحثَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - على العمل،فعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ:أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،كَانَ فِي جِنَازَةٍ فَأَخَذَ عُودًا،فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِ فِي الأَرْضِ،فقَالَ:مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ وَمَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ،فقَال رَجُلٌ:أَلاَ نَتَّكِلُ ؟ فقَالَ:اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ ثُمَّ قَرَأَ:{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى،فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى،وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى،فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:] (3) .
وعَنْ جَابِرٍ،أَنَّ سُرَاقَةَ بْنَ جُعْشُمٍ،قَالَ:يَا رَسُولَ اللهِ أَخْبِرْنَا عَنْ أَمْرِنَا كَأَنَّا نَنْظُرُ إِلَيْهِ،أَبِمَا جَرَتْ بِهِ الأَقْلاَمُ وَثَبَتَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ،أَوْ بِمَا يُسْتَأْنَفُ ؟ قَالَ:لاَ،بَلْ بِمَا جَرَتْ بِهِ الأَقْلاَمُ وَثَبَتَتْ بِهِ الْمَقَادِيرُ،قَالَ:فَفِيمَ الْعَمَلُ إِذًا ؟ قَالَ:اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ.قَالَ سُرَاقَةُ:فَلاَ أَكُونُ أَبَدًا أَشَدَّ اجْتِهَادًا فِي الْعَمَلِ مِنِّي الآنَ." (4)
. وكان الأنبياء جميعًا -عليهم الصلاة والسلام- خير قدوة لنا في العمل والسعي،فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلاَّ رَعَى الْغَنَمَ ».فَقَالَ أَصْحَابُهُ وَأَنْتَ فَقَالَ « نَعَمْ كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لأَهْلِ مَكَّةَ » (5) .
وكان لكل نبي حرفة وعمل يقوم به،وقد شارك النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه في الأعمال المختلفة،ولم يتميز عليهم كما حدث في بناء المسجد أو حفر الخندق،فكان يحمل التراب والأحجار.
وعَنْ عَبَايَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ،عَنْ أَبِيهِ،قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ ؟ قَالَ: " كَسْبُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ،وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ " (6)
وعَنِ الْمِقْدَامِ - رضى الله عنه - عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ،وَإِنَّ نَبِىَّ اللَّهِ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ » (7)
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 5134)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1341)
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (4945 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6903 ) وصحيح ابن حبان - (2 / 45) (3349
(4) - صحيح ابن حبان - (2 / 49)(337) صحيح
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (2262 ) -القراريط : جمع قيراط وهو من أجزاء الدينار
(6) - شعب الإيمان - (2 / 436) (1174 ) صحيح
(7) - صحيح البخارى- المكنز - (2072 )(1/618)
وَعَنِ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:" مَنْ أَمْسَى كَالًّا مِنْ عَمَلِ يَدَيْهِ أَمْسَى مَغْفُورًا لَهُ ".رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (1) .
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ كَانَ أَخَوَانِ عَلَى عَهْدِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَكَانَ أَحَدُهُمَا يَأْتِى النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - وَالآخَرُ يَحْتَرِفُ فَشَكَا الْمُحْتَرِفُ أَخَاهُ إِلَى النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « لَعَلَّكَ تُرْزَقُ بِهِ ». (2)
وللعمل والسعي على الرزق آداب يجب على كل مسلم أن يتحلى بها،منها:
استحضار النية: المسلم يبتغي من عمله إشباع البدن من الحلال وكفه عن الحرام،والتقوِّي على العبادة،وعمارة الأرض. فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ،عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:" طَلَبُ الْحَلَالِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ".رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ (3)
عدم تأخير العمل عن وقته: المسلم يقوم بأعماله في أوقاتها دون تأخير،فمن جد وجد،ومن سار على الدرب وصل،وإياك والتسويف،واحذر ليت ولعل وسوف ولو أني...،ولا تؤخر عمل اليوم إلى الغد،وما بلغ من بلغ إلا بالجد والعمل،لا بالتسويف والكسل..
التبكير: فعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اللَّهُمَّ بَارِكْ لأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا." (4)
وعَنْ صَخْرٍ الْغَامِدِيِّ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا،قَالَ:وَكَانَ إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً،أَوْ جَيْشًا بَعَثَهُمْ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ،وَكَانَ صَخْرٌ رَجُلاً تَاجِرًا،وَكَانَ يَبْعَثُ تِجَارَتَهُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَأَثْرَى وَأَصَابَ مَالاً." (5)
وعَنْ صَخْرٍ الْغَامِدِيِّ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:اللَّهُمَّ بَارِكْ لِأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا قَالَ:فَكَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - ،إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً بَعَثَ بِهَا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ،وَكَانَ صَخْرٌ رَجُلاً تَاجِرًا،فَكَانَ يَبْعَثُ غِلْمَانَهُ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ،فَكَثُرَ مَالُهُ،وَأَثْرَى. (6)
الجد في العمل: المسلم يذهب إلى عمله بجد ونشاط،دون تباطؤ أو كسل،فمن جَدَّ وجد،ومن زرع حصد. قال الشافعي رحمه الله (7) :
بقدرِ الكدِّ تكتسبُ المعالي ومن طلب العلا سهر الليالي
__________
(1) - المعجم الأوسط للطبراني - (7733 ) والإتحاف 6/9 حسن لغيره
فيه سليمان بن علي بن عبدالله بن عباس روى عنه جماعة وقال الذهبي في الكاشف (2139) وثق
(2) - سنن الترمذى- المكنز - (2516 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. - يحترف : يتخذ صنعة يكتسب منها
(3) - المعجم الأوسط للطبراني - (8848) حسن
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 424)(1320) من طرق كثيرة عنه وعن غيره وهو حديث متواتر
(5) - صحيح ابن حبان - (11 / 62) (4754) صحيح
(6) - صحيح ابن حبان - (11 / 63) (4755) صحيح
(7) - تراجم شعراء موقع أدب - (10 / 348)(1/619)
ومن رام العلا من غير كد أضاع العمر في طلب المحال
تروم العز ثم تنام ليلاً يغوص البحر من طلب اللآلي
ونسب لعلى رضي الله عنه (1) :
لنقلُ الصخر من قلل الجبال أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مِنَنِ الرَّجَالِ
يَقُولُ النَّاسُ لي في الكسْبِ عارٌ فقلت العار في ذل السؤال
بَلَوْتُ النَّاسَ قرنا بَعْدَ قَرْنٍ ولم أر مثل محتالٍ بمالِ
وَذُقْتُ مَرَارَة الأشياءِ طُرّا فَمَا طعْمٌ أَمَرُّ مِنَ السؤالِ
وَلَمْ أرَ في الخُطُوْبِ أشدَّ هولاً وأصعب من مقالات الرجالِ
إتقان العمل: المسلم يتقن عمله ويحسنه قدر المستطاع. فعَنْ عَائِشَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إِنَّ اللهَ جَلَّ وَعَزَّ يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ " (2) .
وعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ،قَالَ:ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ،فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ،وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ،وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ،وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ. (3)
الاستمرار في العمل:فعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجِ،قَالَ:سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ،يَقُولُ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ،فَإِنَّ خَيْرَ الْعَمَلِ أَدْوَمُهُ،وَإِنْ قَلَّ." (4)
التواضع: الكبر في الأمور كلها مذموم،فعَنْ عَبْدِ اللهِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ،وَلاَ يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ.. (5)
فلْيتواضع كل رئيس لمرءوسيه،ولْيتعاون كل مرءوس مع رئيسه،ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القدوة الحسنة؛ فقد كان يعاون أصحابه فيما يقومون به من عمل،ويساعد أهله في تواضع عظيم.
__________
(1) - تراجم شعراء موقع أدب - (13 / 102)
(2) - شعب الإيمان - (7 / 234) (4931 ) صحيح لغيره
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (5167) وصحيح ابن حبان - (13 / 199) (5883)
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 321)(8600) 8584- صحيح لغيره
(5) - صحيح ابن حبان - (12 / 493) (5680) صحيح
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ : فِي هَذَا الْخَبَرِ مَعْنَيَانِ اثْنَانِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الَّذِي نَوَّعْنَا لَهُ النَّوْعَ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ أَرَادَ بِهِ جَنَّةً عَالِيَةً يَدْخُلُهَا غَيْرُ الْمُتَكَبِّرِينَ ، وَقَوْلُهُ : وَلاَ يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ أَرَادَ بِهِ نَارًا سَافِلَةً يَدْخُلُهَا غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْمَعْنَى الثَّانِي : لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَصْلاً مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ ، أَرَادَ بِالْكِبْرِ الشِّرْكَ ، إِذِ الْمُشْرِكُ لاَ يَدْخُلُ جَنَّةً مِنَ الْجِنَّانِ أَصْلاً ، وَقَوْلُهُ : لاَ يَدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلِ مِنْ إِيمَانٍ أَرَادَ بِهِ عَلَى سَبِيلِ الْخُلُودِ ، حَتَّى يَصِحَّ الْمَعْنَيَانِ مَعًا.(1/620)
عدم الانشغال بعمل الدنيا عن العبادة والطاعة: المسلم يعمل لكي يحصل على الكسب الطيب له ولأسرته،وهو عندما يعمل يكون واثقًا من تحقيق أمر الله؛ إذ يقول: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } (15) سورة الملك].
فالله وحده هو الذي جعل لكم الأرض سهلة ممهدة تستقرون عليها،فامشوا في نواحيها وجوانبها،وكلوا من رزق الله الذي يخرجه لكم منها،وإليه وحده البعث من قبوركم للحساب والجزاء. وفي الآية إيماء إلى طلب الرزق والمكاسب،وفيها دلالة على أن الله هو الإله الحق وحده لا شريك له،وعلى قدرته،والتذكير بنعمه،والتحذير من الركون إلى الدنيا. (1)
وإذا كان العمل لاكتساب الرزق وإعفاف النفس عن المسألة عبادة في
حد ذاته،فإن ذلك لا يشغلنا عن طاعة الله فيما أمرنا به من سائر العبادات.
البعد عن العمل الحرام: المسلم يختار عملا لا يتعارض مع أصل شرعي،فلا يعمل في بيع الخمور أو فيما شابه ذلك. فعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ قَالَ: قَالَ نَبِيُّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " يَا كَعْبُ كَيْفَ بِكَ إِذَا كَانَ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ ؟ فَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَا أَنَا مِنْهُ،وَلَا يَرِدُ عَلَيَّ حَوْضِي،يَا كَعْبُ،إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَحْمٌ،وَلَا دَمٌ نَبَتَا مِنْ سُحْتٍ كُلُّ لَحْمٍ وَدَمٍ نَبَتَا مِنْ سُحْتٍ،فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ،يَا كَعْبُ،النَّاسُ رَجُلَانِ غَادِيَانِ،وَرَائِحَانِ غَادٍ فِي فَكَاكِ رَقَبَتِهِ فَمُعْتِقُهَا،وَغَادٍ فَمُوبِقُهَا،يَا كَعْبُ،الصَّلَاةُ بُرْهَانٌ،وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ،وَالصَّدَقَةُ تُذْهِبُ الْخَطِيئَةَ،كَمَا تَذْهَبُ الْجَامِدَةُ عَلَى الصَّفَا " (2)
وعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ،قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: " كُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ " (3)
الأمانة: المسلم أمين في عمله؛ لا يغش ولا يخون،ولا يتقاضى رشوة من عمله وهو حافظ لأسرار العمل،ويؤديه على أكمل وجه،وكذلك صاحب العمل عليه أن يحفظ للعاملين حقوقهم؛ فيدفع لهم الأجر المناسب دون ظلم،ولا يكلفهم ما لا يطيقون من العمل،كما أنه يوفر لهم ما يحتاجون إليه من رعاية صحية واجتماعية. فعن الْمَعْرُورَ بْنِ سُوَيْدٍ،قال: رَأَيْتُ أَبَا ذَرٍّ الْغِفَارِيَّ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ وَعَلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ،فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَشَكَانِي إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ " ؟ ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ إِخْوَانَكُمْ خَوَلُكُمْ،جَعَلَهُمُ اللهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ،فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ،وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ،وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ،فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ فَأَعِينُوهُمْ عَلَيْهِ " (4)
__________
(1) - التفسير الميسر - (10 / 205)
(2) - شعب الإيمان - (7 / 507)(5378) حسن
(3) - شعب الإيمان - (7 / 505) (5375 ) صحيح لغيره
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (30 ) وشعب الإيمان -(11 / 72)(8198 )(1/621)
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ،قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ. (1)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ:رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ،وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ،وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُوَفِّهِ أَجْرَهُ. (2)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - سنن ابن ماجة- طبع مؤسسة الرسالة - (3 / 510)(2443) حسن
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (2227 ) ومسند أحمد (عالم الكتب) - (3 / 341)(8692) 8677-(1/622)
-53- آداب الحزن في الإسلام
الأمة العظيمة تكون قوية في أفراحها قوية في أحزانها،لا تضعفها المصائب ولا تزعزعها النوائب كالجبال الراسيات لا تنال منها الأحداث إلا بمثل ما تنال من الجبال الرياح الشديدة.
لهذا كله رسم لنا الإسلام منهجاً في النوازل ينبغي أن نتبع خطاه ولا نبتعد عنه قيد شعرة إذا كنا من ذوي الإيمان الصحيح والعزيمة القوية الجديرة بالحياة.
بل وبين لنا أن الابتلاء لا بد منه،فقال تعالى:{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) } [آل عمران:185،186]
يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِأَنَّ كُلَّ نَفْسٍ سَتَذُوقُ طَعْمَ المَوْتِ،وَتُحِسُّ بِمُفَارَقَةِ الرُّوحِ لِلْجَسَدِ.وَاسْتَدَّلَ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلَى أنَّ الأَرْوَاحَ لاَ تَمُوتُ بِمَوتِ البَدَنِ،لأنَّ الذَّوْقَ شُعُورٌ لاَ يُحِسُ بِهِ إلاَّ الحَيُّ،وَهُوَ تَعَالَى وُحْدَهُ الحَيُّ الذِي لاَ يَمُوتُ.وَيَوْمَ القِيَامَةِ يُحْشَرُ النَّاسُ إلى الله،وَتُوفَّى كُلُّ نَفْسٍ أجُورَهَا عَمَّا اكْتَسَبَتْهُ مِنْ أَعْمَالٍ،فَمِنْ جُنِّبَ النَّارَ،وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ،فَقَدْ فَازَ كُلَّ الفَوْزِ .وَالحَيَاةُ الدُّنْيَا لَيْسَتْ إلاَّ مَتَاعاً تَافِهاً زَائِلاً،صَاحِبُهُ مَغْرُورٌ مَخْدُوعٌ،وَهُوَ مَتَاعٌ مَتْرُوكٌ يُوشِكُ أنْ يَضْمَحِلَّ عَنْ أهْلِهِ.يُسَلّي اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ - صلى الله عليه وسلم - ،وَيَقُولُ لَهُ:إنَّهُ وَأصْحَابَهُ سَيَلْقَوْنَ مِنَ الكُفْارِ أَذًى كَثِيراً فِي النَّفْسِ وَالمَالِ،كَمَا لَقُوهُ مِنْهُمْ مِنْ أَذًى يَوْمَ أحُدٍ،وَعَلَى المُؤْمِنِينَ أنْ يُوَطِّنُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهِ،إذْ لاَ بُدَّ مِنْ أنْ يَبْتَلِيَ اللهُ المُؤْمِنَ فِي شَيءٍ مِنْ مَالِهِ،أوْ نَفْسِهِ أو وَلَدِهِ أوْ أَهْلِهِ...وَابْتَلاءُ المُؤْمِنِ يَكُونُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ،فَإنْ كَانَ فِيهِ صَلاَبَةٌ فِي دِينِهِ زِيدَ فِي بَلاَئِهِ.وَنَبَّهَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ الكَرِيمُ وَالمُؤْمِنِينَ عِنْدَ مَقْدَمِهِمْ إلَى المَدِينَةِ ( وَقَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ ) إلَى أَنَّهُمْ سَيَسْمَعُونَ مِنَ اليَهُودِ وَمِنَ المُشْرِكِينَ أَذًى كَثِيراً:مِنَ التَّقَوُّلِ وَالإِرْجَافِ،وَنَقْضِ العُهُودِ وَبَثِّ الشَّائِعَاتِ،وَمُحَاوَلَةِ الإِيذَاءِ...وَيَأمر اللهُ نَبِيَّهُ وَالمُؤْمِنينَ بِالصَّفْحِ وَالصَّبْرِ وَالعَفْوِ حَتَّى يُفَرِّجَ اللهُ،وَلا يَصْبِرُ عَلَى احْتِمَالِ ذَلِكَ إلاَّ أولُو العَزْمِ الأَقْويَاءُ . (1)
إنه لا بد من استقرار هذه الحقيقة في النفس:حقيقة أن الحياة في هذه الأرض موقوتة،محدودة بأجل ثم تأتي نهايتها حتما .. يموت الصالحون ويموت الطالحون. يموت المجاهدون ويموت القاعدون. يموت المستعلون بالعقيدة ويموت المستذلون للعبيد. يموت الشجعان الذين يأبون الضيم،ويموت الجبناء الحريصون على الحياة بأي ثمن .. يموت ذوو الاهتمامات الكبيرة والأهداف العالية،ويموت التافهون الذين يعيشون فقط للمتاع الرخيص.الكل يموت .. «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ» .. كل نفس تذوق
__________
(1) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 478)(1/623)
هذه الجرعة،وتفارق هذه الحياة .. لا فارق بين نفس ونفس في تذوق هذه الجرعة من هذه الكأس الدائرة على الجميع. إنما الفارق في شيء آخر.
الفارق في قيمة أخرى. الفارق في المصير الأخير:«وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» ..هذه هي القيمة التي يكون فيها الافتراق. وهذا هو المصير الذي يفترق فيه فلان عن فلان. القيمة الباقية التي تستحق السعي والكد. والمصير المخوف الذي يستحق أن يحسب له ألف حساب:«فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» ..ولفظ «زُحْزِحَ» بذاته يصور معناه بجرسه،ويرسم هيئته،ويلقي ظله! وكأنما للنار جاذبية تشد إليها من يقترب منها،ويدخل في مجالها! فهو في حاجة إلى من يزحزحه قليلا قليلا ليخلصه من جاذبيتها المنهومة! فمن أمكن أن يزحزح عن مجالها،ويستنقذ من جاذبيتها،ويدخل الجنة .. فقد فاز ..صورة قوية. بل مشهد حي. فيه حركة وشد وجذب! وهو كذلك في حقيقته وفي طبيعته. فللنار جاذبية! أليست للمعصية جاذبية؟ أليست النفس في حاجة إلى من يزحزحها زحزحة عن جاذبية المعصية؟ بلى! وهذه هي زحزحتها عن النار! أليس الإنسان - حتى مع المحاولة واليقظة الدائمة - يظل أبدا مقصرا في العمل .. إلا أن يدركه فضل اللّه؟ بلى! وهذه هي الزحزحة عن النار حين يدرك الإنسان فضل اللّه،فيزحزحه عن النار! «وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ» ..
إنها متاع. ولكنه ليس متاع الحقيقة،ولا متاع الصحو واليقظة .. إنها متاع الغرور. المتاع الذي يخدع الإنسان فيحسبه متاعا. أو المتاع الذي ينشئ الغرور والخداع! فأما المتاع الحق. المتاع الذي يستحق الجهد في تحصيله .. فهو ذاك .. هو الفوز بالجنة بعد الزحزحة عن النار.
وعند ما تكون هذه الحقيقة قد استقرت في النفس. عند ما تكون النفس قد أخرجت من حسابها حكاية الحرص على الحياة - إذ كل نفس ذائقة الموت على كل حال - وأخرجت من حسابها حكاية متاع الغرور الزائل ..
عندئذ يحدث اللّه المؤمنين عما ينتظرهم من بلاء في الأموال والأنفس. وقد استعدت نفوسهم للبلاء:«لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ،وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً. وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» ..
إنها سنة العقائد والدعوات. لا بد من بلاء،ولا بد من أذى في الأموال والأنفس،ولا بد من صبر ومقاومة واعتزام.
إنه الطريق إلى الجنة. وقد حفت الجنة بالمكاره. بينما حفت النار بالشهوات.
ثم إنه هو الطريق الذي لا طريق غيره،لإنشاء الجماعة التي تحمل هذه الدعوة،وتنهض بتكاليفها. طريق التربية لهذه الجماعة وإخراج مكنوناتها من الخير والقوة والاحتمال. وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف والمعرفة الواقعية لحقيقة الناس وحقيقة الحياة.(1/624)
ذلك ليثبت على هذه الدعوة أصلب أصحابها عودا. فهؤلاء هم الذين يصلحون لحملها إذن والصبر عليها ..فهم عليها مؤتمنون.
وذلك لكي تعز هذه الدعوة عليهم وتغلو،بقدر ما يصيبهم في سبيلها من عنت وبلاء،وبقدر ما يضحون في سبيلها من عزيز وغال. فلا يفرطوا فيها بعد ذلك،مهما تكن الأحوال.
وذلك لكي يصلب عود الدعوة والدعاة. فالمقاومة هي التي تستثير القوى الكامنة،وتنميها وتجمعها وتوجهها.
والدعوة الجديدة في حاجة إلى استثارة هذه القوى،لتتأصل جذورها وتتعمق وتتصل بالتربة الخصبة الغنية في أعماق الفطرة ..وذلك لكي يعرف أصحاب الدعوة حقيقتهم هم أنفسهم وهم يزاولون الحياة والجهاد مزاولة عملية واقعية. ويعرفوا حقيقة النفس البشرية وخباياها. وحقيقة الجماعات والمجتمعات. وهم يرون كيف تصطرع مبادئ دعوتهم،مع الشهوات في أنفسهم وفي أنفس الناس. ويعرفون مداخل الشيطان إلى هذه النفوس،ومزالق الطريق،ومسارب الضلال! ثم .. لكي يشعر المعارضون لها في النهاية أنه لا بد فيها من خير،ولا بد فيها من سر،يجعل أصحابها يلاقون في سبيلها ما يلاقون وهم صامدون .. فعندئذ قد ينقلب المعارضون لها إليها .. أفواجا .. في نهاية المطاف! إنها سنة الدعوات. وما يصبر على ما فيها من مشقة ويحافظ في ثنايا الصراع المرير على تقوى اللّه،فلا يشط فيعتدي وهو يرد الاعتداء ولا ييأس من رحمة اللّه ويقطع أمله في نصره وهو يعاني الشدائد .. ما يصبر على ذلك كله إلا أولو العزم الأقوياء :« وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» ..
وهكذا علمت الجماعة المسلمة في المدينة ما ينتظرها من تضحيات وآلام. وما ينتظرها من أذى وبلاء في الأنفس والأموال. من أهل الكتاب من حولها. ومن المشركين أعدائها .. ولكنها سارت في الطريق. لم تتخاذل،ولم تتراجع،ولم تنكص على أعقابها .. لقد كانت تستيقن أن كل نفس ذائقة الموت. وأن توفية الأجور يوم القيامة. وأنه من زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز. وأن الحياة الدنيا ما هي إلا متاع الغرور .. على هذه الأرض الصلبة المكشوفة كانت تقف وفي هذا الطريق القاصد الواصل كانت تخطو .. والأرض الصلبة المكشوفة باقية لأصحاب هذه الدعوة في كل زمان. والطريق القاصد الواصل مفتوح يراه كل إنسان. وأعداء هذه الدعوة هم أعداؤها،تتوالى القرون والأجيال وهم ماضون في الكيد لها من وراء القرون والأجيال ..والقرآن هو القرآن ..
وتختلف وسائل الابتلاء والفتنة باختلاف الزمان وتختلف وسائل الدعاية ضد الجماعة المسلمة،ووسائل إيذائها في سمعتها وفي مقوّماتها وفي أعراضها وفي أهدافها وأغراضها .. ولكن القاعدة واحدة:«لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً»! ولقد حفلت السورة بصور من مكايد أهل الكتاب والمشركين وصور من دعايتهم للبلبلة والتشكيك.(1/625)
أحيانا في أصول الدعوة وحقيقتها،وأحيانا في أصحابها وقيادتها. وهذه الصور تتجدد مع الزمان. وتتنوع بابتداع وسائل الدعاية الجديدة،وتوجه كلها إلى الإسلام في أصوله الاعتقادية،وإلى الجماعة المسلمة والقيادة الإسلامية. فلا تخرج على هذه القاعدة التي كشف اللّه عنها للجماعة المسلمة الأولى،وهو يكشف لها عن طبيعة الطريق،وطبيعة الأعداء الراصدين لها في الطريق ..
ويبقى هذا التوجيه القرآني رصيدا للجماعة المسلمة كلما همت أن تتحرك بهذه العقيدة،وأن تحاول تحقيق منهج اللّه في الأرض فتجمعت عليها وسائل الكيد والفتنة،ووسائل الدعاية الحديثة،لتشويه أهدافها،وتمزيق أوصالها .. يبقى هذا التوجيه القرآني حاضرا يجلو لأبصارها طبيعة هذه الدعوة،وطبيعة طريقها. وطبيعة أعدائها الراصدين لها في الطريق. ويبث في قلبها الطمأنينة لكل ما تلقاه من وعد اللّه ذاك فتعرف حين تتناوشها الذئاب بالأذى،وحين تعوي حولها بالدعاية،وحين يصيبها الابتلاء والفتنة .. أنها سائرة في الطريق،وأنها ترى معالم الطريق! ومن ثم تستبشر بالابتلاء والأذى والفتنة والادعاء الباطل عليها وإسماعها ما يكره وما يؤذي .. تستبشر بهذا كله،لأنها تستيقن منه أنها ماضية في الطريق التي وصفها اللّه لها من قبل. وتستيقن أن الصبر والتقوى هما زاد الطريق. ويبطل عندها الكيد والبلبلة ويصغر عندها الابتلاء والأذى وتمضي في طريقها الموعود،إلى الأمل المنشود .. في صبر وفي تقوى .. وفي عزم أكيد .. (1)
ولما كانت الغالبية من الناس تنسى عند المصائب وتخرج عن طورها في النائبات حتى تقع في شر عملها وتضاعف من مصيبتها وتظهر بمظهر القلق المضطرب وتخسر كثيراً من أموالها،لهذا كله اذكِّر هذه الأسر بممارسة الإسلام حين ينزل بهم ما لا بد منه من النكبات والمصائب.
1- الترجيع عند المصيبة،قال تعالى:{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة:155 - 157]
وعن أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قالت: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:" مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ،اللهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي وَاخْلُفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا،إِلَّا آجَرَهُ اللهُ فِي مُصِيبَتِهِ وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا "،قَالَتْ: فَلَمَّا تُوُفِّيَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ: مَنْ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ صَاحِبِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَتْ: ثُمَّ عَزَمَ اللهُ لِي فَقُلْتُهَا: اللهُمَّ أْجُرْنِي عَنْ مُصِيبَتِي وَاخْلُفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا،قَالَتْ: فَتَزَوَّجْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - . (2)
__________
(1) - فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع - (1 / 538)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (2166 )(1/626)
2- الصبر،فعَنْ أَنَسٍ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - ،مَرَّ بِامْرَأَةٍ عِنْدَ قَبْرٍ تَبْكِي،فَقَالَ:يَا هَذِهِ،اصْبِرِي،فَقَالَتْ:إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا مُصَابِي فَقِيلَ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ:هَذَا رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَأَتَتْهُ،فَقَالَتْ:لَمْ أَعْرِفْكَ. (1)
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ مَرَّ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - بِامْرَأَةٍ تَبْكِى عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ « اتَّقِى اللَّهَ وَاصْبِرِى ».قَالَتْ إِلَيْكَ عَنِّى،فَإِنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِى،وَلَمْ تَعْرِفْهُ.فَقِيلَ لَهَا إِنَّهُ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - .فَأَتَتْ بَابَ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ فَقَالَتْ لَمْ أَعْرِفْكَ.فَقَالَ « إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى » (2) .
3- ترك النوح والدعوة بدعوة الجاهلية،وشوق الجبيب،فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لَيْسَ مِنَّا مَنْ شَقَّ الْجُيُوبَ وَضَرَبَ الْخُدُودَ وَدَعَا بِدَعْوَةِ الْجَاهِلِيَّةِ ». (3)
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ،أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ النَّائِحَةَ وَالْمُسْتَمِعَةَ،وَقَالَ:لَيْسَ لِلنِّسَاءِ فِي الْجِنَازَةِ نَصِيبٌ." (4)
وعَنِ امْرَأَةٍ مِنَ الْمُبَايِعَاتِ قَالَتْ كَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى الْمَعْرُوفِ الَّذِى أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ لاَ نَعْصِيَهُ فِيهِ أَنْ لاَ نَخْمِشَ وَجْهًا وَلاَ نَدْعُوَ وَيْلاً وَلاَ نَشُقَّ جَيْبًا وَأَنْ لاَ نَنْشُرَ شَعْرًا. (5)
وعن أَنَسَ بْنِ مَالِكٍ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : صَوْتَانِ مَلْعُونَانِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ:مِزْمَارٌ عِنْدَ نِعْمَةٍ،وَرَنَّةٌ عِنْدَ مُصِيبَةٍ." (6)
4- النهي عن الحداد فوق ثلاث إلا على زوج،هذا وقد جرت عادة بعض النساء أن تحزن على أبيها وأخيها سنين طويلة فنهى الإسلام عن ذلك،فعَنْ حُمَيْدِ بْنِ نَافِعٍ،عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ،أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ بِهَذِهِ الأَحَادِيثِ الثَّلاَثِ،قَالَتْ زَيْنَبُ:دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ حِينَ تُوُفِّيَ أَبُوهَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ،فَدَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ بِطِيبِ فِيهِ صُفْرَةٌ خَلُوقٌ،أَوْ غَيْرُهُ،فَدَهَنَتْ مِنْهُ جَارِيَةً،ثُمَّ مَسَّتْ بِهِ بَطْنَهَا،ثُمَّ قَالَتْ:وَاللَّهِ مَا لِي بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:لاَ يَحِلُّ لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ،إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. (7)
وقد تفنن البسطاء في وضع القيود للمرأة في عدتها،وكل ذلك لا أصل له في الدين إلا أن تترك الزينة فقط خلال هذه المدة،ولا تخرج من بيتها إلا لضرورة،ولا تخطب ولا تتزوج أثناء العدة
كما جرت العادة أيضاً في أكثر البيوتات إقامة الولائم على روح الميت في يوم خميسه ويومه الثالث ويوم الأربعين وبعد انقضاء سنة على وفاته،وكل ذلك لا أصل له في الدِّين،بل هو من البدع التي
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (7 / 154) (2895) وصحيح البخارى- المكنز - (1252)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (1283 )
(3) - سنن الترمذى- المكنز - (1015 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
(4) - كشف الأستار - (1 / 376) (793) فيه ضعف
(5) - سنن أبي داود - المكنز - (3133 ) صحيح
(6) - كشف الأستار - (1 / 377)(795) حسن
(7) - صحيح البخارى- المكنز - (5334) وصحيح ابن حبان - (10 / 140) (4304)(1/627)
تسبب تبذير أموال الأيتام والأرامل. بل السنَّة في ذلك أن يقدِّم الأصحاب لأهل الميت الطعام،فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرٍ،قَالَ:لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرٍ حِينَ قُتِلَ،قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : اصْنَعُوا لآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا،فَقَدْ أَتَاهُمْ أمْرٌ يَشْغَلُهُمْ،أَوْ أتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ." (1)
- - - - - - - - - - - -
__________
(1) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (1 / 546)(1751) صحيح
وانظر تفاصيل هذا الموضوع في كتابي (( الاستعداد للموت)) ط2(1/628)
-54- آداب معاملة الحيوان
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ:بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ،اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ،فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا،فَشَرِبَ،ثُمَّ خَرَجَ،فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ،يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ،فقَالَ الرَّجُلُ:لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبُ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلَ الَّذِي بَلَغَ بِي،فَنَزَلَ الْبِئْرَ،فَمَلَأَ خُفَّهُ مَاءً،ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ حَتَّى رَقِيَ،فَسَقَى الْكَلْبَ،فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ،فَغَفَرَ لَهُ فَقَالُوا:يَا رَسُولَ اللهِ،إِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ لَأَجْرًا ؟ فقَالَ - صلى الله عليه وسلم - : فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ. (1)
خلق الله الإنسان وكرمه،وسخر له الحيوانات لتخدمه في قضاء حوائجه؛ فيستفيد من لحومها وألبانها،ويرتدي الملابس من صوفها وجلودها،ويتخذ من بعضها زينة وطيبًا. قال تعالى: { وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) } [النحل:5 - 8]
يَمْتَنُّ اللهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ بِمَا خَلَقَهُ لَهُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ( وَهِيَ الإِبْلُ وَالبَقَرُ وَالغَنَمُ وَالمَاعِزُ ) وَبِمَا جَعَلَ لَهُمْ فِيهَا مِنَ المَنَافِعِ،مِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا يَلْبَسُونَ وَيَفْتَرِشُونَ ( لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ )،وَمِنْ لُحُومِهَا وَأَلْبَانِهَا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ .وَلَهُمْ فِيهَا زِينَةٌ وَبَهْجَةَ لِلنَّفْسِ،حِينَ تَرْجِعُ مِنَ المَرْعَى عَشِيَّةً شَبْعَي رَيَّا ( حِينَ تُرِيحُونَ )،وَحِينَ تَغْدُو إِلَى مَرَاعِيهَا صَبَاحاً ( حِينَ تَسْرَحُونَ ).وَهِيَ تَحْمِلُ أَيْضاً مَتَاعَكُمْ وَأَحْمَالَكُمُ الثَّقِيلَةَ ( أَثْقَالَكُمْ ) التِي تَعْجَزُونَ عَنْ حَمْلِها وَنَقْلِهَا فِي أَسْفَارِكُمْ إِلَى بَلادٍ بَعِيدَةٍ،لَمْ تَكُونُوا لِتَبْلَغُوهَا بِأَنْفُسِكُمْ إِلاَّ بِمَشَقَّةٍ زَائِدَةٍ،وَلَكِنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ الأَنْعَامَ لِتْرَكَبُوهَا،وَلِتَحْمِلُوا عَلَيْها أَثْقَالَكُمْ،لأَنَّهُ تَعَالَى رَؤُوفٌ بِعِبَادِهِ رَحِيمٌ .وَخَلَقَ اللهُ الخَيْلَ وَالبِغَالَ وَالحَمِيرَ لِلرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ،وَاللهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مَخْلُوقَاتٍ وَوَسَائِلَ أُخْرَى لاَ يَعْلَمُهَا النَّاسُ،تُفِيدُ فِي الزِّينَةِ والرُّكُوبِ ( كَالقُطُرِ وَالسُّفُنِ وَالطَّائِرَاتِ...) . (2)
ومن الآداب التي يلتزم بها المسلم عند تعامله مع الحيوان:
شكر الله على هذه النعمة: وذلك بحسن استخدامها والاستفادة منها،وأداء حق الله فيها من الزكاة والصدقات،إذا كانت مما تزكَّى .
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (2363) وصحيح مسلم- المكنز - (5996) وصحيح ابن حبان - (2 / 302)(544)
(2) - أيسر التفاسير لأسعد حومد - (1 / 1907)(1/629)
الرحمة بالحيوانات: المسلم يوفر للحيوانات الطعام والشراب والمكان المناسب،وقد كانت العرب تهتم بالخيول،وتحرص على تربيتها،وانتقاء سلالاتها الجيدة،عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - رُئِىَ وَهُوَ يَمْسَحُ وَجْهَ فَرَسِهِ بِرِدَائِهِ فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ « إِنِّى عُوتِبْتُ اللَّيْلَةَ فِى الْخَيْلِ ». (1) .
وعَنْ كَبْشَةَ بِنْتِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ،وَكَانَتْ تَحْتَ ابْنِ أَبِي قَتَادَةَ،أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا،فَسَكَبَتْ لَهُ وَضُوءَهُ،فَجَاءَتْ هِرَّةٌ تَشْرَبُ مِنْهُ،فَأَصْغَى لَهَا الإِِنَاءَ حَتَّى شَرِبَتْ.قَالَتْ كَبْشَةُ:فَرَآنِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ،فَقَالَ أَتَعْجَبِينَ يَا بِنْتَ أَخِي ؟ فَقَالَتْ:نَعَمْ.فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ." (2)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:دَخَلْتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا،فَلاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا،وَلاَ هِيَ أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ. (3)
وعَنْ أَنَسٍ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا،أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا،فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ،أَوْ إِنْسَانٌ،أَوْ بَهِيمَةٌ إِلا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةٌ (4) .
عدم تحميلها ما لا تُطيق: المسلم لا يشق على الحيوان بتحميله ما لا يطيق،فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ،قَالَ:أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ،فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لَا أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا النَّاسِ،وَكَانَ أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لِحَاجَتِهِ هَدَفًا،أَوْ حَائِشَ نَخْلٍ،قَالَ:فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ الْأَنْصَارِ فَإِذَا جَمَلٌ،فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ،فَأَتَاهُ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ،فَقَالَ:" مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ،لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ ؟ "،فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ:لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ.فَقَالَ:" أَفَلَا تَتَّقِي اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا ؟،فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ " (5)
وعَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ وَيُعْطِى عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِى عَلَى الْعُنْفِ وَمَا لاَ يُعْطِى عَلَى مَا سِوَاهُ » (6) .
وعَنْ خَالِدِ بن مَعْدَانَ،عَنْ أَبِيهِ،عَن ِالنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ،وَيَرْضَاهُ،وَيُعِينُ عَلَيْهِ مَا لا يُعِينُ عَلَى الْعُنْفِ،فَإِذَا رَكِبْتُمْ هَذِهِ الدَّوَابَّ الْعُجْمَ،فَأَنْزِلُوهَا مَنَازِلَهَا،فَإِنْ أَجْدَبَتِ
__________
(1) - موطأ مالك- المكنز - (1007 ) صحيح مرسل
(2) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (7 / 514)(22580) 22950- صحيح
(3) - صحيح البخارى- المكنز - (3318)وصحيح مسلم- المكنز - (7157و7158) وصحيح ابن حبان - (12 / 438) (5621)
الخشاش : هوام الأرض وحشراتها واحده خَشَاشَة
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (2320) وصحيح مسلم- المكنز - (4050-4056 ) من طرق كثيرة ،شعب الإيمان - (5 / 149) (3222 )
(5) - سُنَنُ أَبِي دَاوُدَ(2229 ) صحيح -تدئبه :تتعبه وترهقه
(6) - صحيح مسلم- المكنز - (6766 )(1/630)
الأَرْضُ،فَانْجُوا عَلَيْهَا،فَإِنَّ الأَرْضَ تُطْوَى بِاللَّيْلِ مَا لا تُطْوَى بِالنَّهَارِ،وَإِيَّاكُمْ وَالتَّعْرِيسَ بِالطَّرِيقِ،فَإِنَّهُ طَرِيقُ الدَّوَابِّ وَمَأْوَى الْحَيَّاتِ. (1)
عدم تعذيب الحيوانات أو إيذائها: حث الإسلام على الرحمة والشفقة،لذلك فإن المسلم لا يعذب حيوانًا أو طائرًا،خاصة إذا كان هذا التعذيب بالنار،أي عدم تعذيبها بأي نوع من العذاب سواء كان بتجويعها،أو ضربها،أو تحميلها ما لا تطيق،أوبالمثلة بها،أو حرقها بالنار.
فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا فَجَاءَتِ الْحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرُشُ فَجَاءَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا ». وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ « مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ ». قُلْنَا نَحْنُ. قَالَ « إِنَّهُ لاَ يَنْبَغِى أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ » (2) .
وعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ عَلَيْهِ حِمَارٌ قَدْ وُسِمَ فِى وَجْهِهِ فَقَالَ « لَعَنَ اللَّهُ الَّذِى وَسَمَهُ » (3) .
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا،أَنَّهُ سَمِعَهَا تَقُولُ:كُنْتُ عَلَى بَعِيرٍ صَعْبٍ،فَجَعَلْتُ أَضْرِبُهُ،فَقَالَ لِي رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ،فَإِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ،وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ." (4)
ويجواز وسم النِّعم في آذانها للمصلحة،فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ:أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِعَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ لِيُحَنِّكَهُ،فَوَافَيْتُهُ بِيَدِهِ الْمِيسَمُ يَسِمُ إِبِلَ الصَّدَقَةِ (5) .
عدم اتخاذها غرضًا للرمي: المسلم لا يجعل من الطيور أو الحيوانات هدفًا للرمي فعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ:خَرَجْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ مِنْ مَنْزِلهِ،فَمَرَرْنَا بِفِتْيَانٍ مِنْ قُرَيْشٍ نَصَبُوا طَيْرًا يَرْمُونَهُ،وَقَدْ جَعَلُوا لِصَاحِبِ الطَّيْرِ كُلَّ خَاطِئَةٍ مِنْ نَبْلِهِمْ.قَالَ:فَلَمَّا رَأَوْا ابْنَ عُمَرَ تَفَرَّقُوا،فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ:مَنْ فَعَلَ هَذَا ؟ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ هَذَا،إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا. (6) .
وعَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ دَخَلْتُ مَعَ أَنَسٍ عَلَى الْحَكَمِ بْنِ أَيُّوبَ،فَرَأَى غِلْمَانًا - أَوْ فِتْيَانًا - نَصَبُوا دَجَاجَةً يَرْمُونَهَا.فَقَالَ أَنَسٌ نَهَى النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ تُصْبَرَ الْبَهَائِمُ. (7)
عدم التفريق بين الطيور الصغيرة وأمهاتها: عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِى سَفَرٍ فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا فَجَاءَتِ الْحُمَّرَةُ
__________
(1) - المعجم الكبير للطبراني - (15 / 297)(17241 ) صحيح لغيره
(2) - سنن أبي داود - المكنز - (2677 ) صحيح - حمرة : طائر صغير كالعصفور
(3) - صحيح مسلم- المكنز - (5674 ) -وسم : عُلم بالكى
(4) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (8 / 220)(24938) 25451- صحيح
(5) - صحيح البخارى- المكنز - (1502) وصحيح مسلم- المكنز - (5680) وصحيح ابن حبان - (10 / 395)(4533)
الميسم : المكواة التى تُعَلَّم بها الدواب- يسم : يُعَلِّم بالكى
(6) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 423)(5587) وصحيح مسلم- المكنز - (5174)
(7) - صحيح البخارى- المكنز - (5513) -تصبر : تحبس وترمى حتى تموت(1/631)
فَجَعَلَتْ تَفْرُشُ فَجَاءَ النَّبِىُّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ « مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا ». وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا فَقَالَ « مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ ». قُلْنَا نَحْنُ. قَالَ « إِنَّهُ لاَ يَنْبَغِى أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلاَّ رَبُّ النَّارِ ». (1)
الرفق بالحيوان عند ذبحه: المسلم لا يذبح الحيوانات ولا يصطادها إلا بسبب شرعي؛ وعليه حينئذ أن يلتزم تجاه هذه الحيوانات الرفق والإحسان. فعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ،قَالَ:ثِنْتَانِ حَفِظْتُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ،فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ،وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ،وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ،وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ. (2)
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ،قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : " مَنْ رَحِمَ وَلَوْ ذَبِيحَةَ عُصْفُورٍ رَحِمَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " (3)
وعَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ،قَالَ:سَمِعْتُ الشَّرِيدَ،يَقُولُ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا عَبَثًا عَجَّ إِلَى اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ:يَا رَبِّ،إِنَّ فُلاَنًا قَتَلَنِي عَبَثًا،وَلَمْ يَقْتُلْنِي مَنْفَعَةً." (4)
عدم التمثيل بالحيوان: المسلم لا يؤذى الحيوان بقطع آذانه أو عضو من أعضائه وهو حي،فعَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - أُرَاهُ ابْنَ عُمَرَ،قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ:مَنْ مَثَّلَ بِذِي رُوحٍ،ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مَثَّلَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (5) .
عدم قتلها إلا لضرورة: قد يؤدي سوء تعامل الإنسان مع بعض الأنواع من الحيوانات إلى الإخلال بالتوازن البيئي،فمثلا: في بعض المناطق لجأ الإنسان إلى قتل القطط،فازداد عدد الفئران،وأصبحت تمثل خطرًا على المحاصيل،مما كلف الإنسان أموالا طائلة،لصنع سموم ومبيدات للتخلص من الفئران.
ويجوز قتل المؤذي منها كالكلب العقور والذئب والحية والعقرب،والفار وما إلى ذلك،فعَنْ سَالِمٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - رضى الله عنهما - قَالَتْ حَفْصَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لاَ حَرَجَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ الْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْفَأْرَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ » . (6)
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا إِلا كَلْبَ مَاشِيَةٍ،أَوْ صَيْدٍ،أَوْ زَرْعٍ،انْتَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ " (7)
__________
(1) - سنن أبي داود - المكنز - (2677 ) صحيح -حمرة : طائر صغير كالعصفور
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (5167) وصحيح ابن حبان - (13 / 200)(5884)
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَرَادَ بِقَوْلِهِ : أَحْسَنُوا الْقِتْلَةَ فِي الْقِصَاصِ.
(3) - شعب الإيمان - (13 / 415) (10559 ) حسن
(4) - صحيح ابن حبان - (13 / 214)(5894) صحيح
(5) - مسند أحمد (عالم الكتب) - (2 / 437)(5661) حسن
(6) - صحيح البخارى- المكنز - (1828 )
(7) - مصنف عبد الرزاق (19613) صحيح(1/632)
علاج الحيوان إذا مرض: المسلم يحرص على مداواة الحيوان الذي يملكه،ويتعامل معه برفق.
عدم التشاغل بها عن طاعة الله تعالى أو اللهو بها عن ذكره،ككثير من المسابقات التي تجري اليوم بين الحيوانات بلا مبرر،وتصرف عليها الأموال الطائلة وتهدر الأوقات وتضيع الواجبات الشرعية،فال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (9) سورة المنافقون
يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله وعملوا بشرعه،لا تَشْغَلْكم أموالكم ولا أولادكم عن عبادة الله وطاعته،ومن تشغَله أمواله وأولاده عن ذلك،فأولئك هم المغبونون حظوظهم من كرامة الله ورحمته (1) .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،أَنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،قَالَ: " الْخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ،وَلِرَجُلٍ سَتْرٌ،وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ،فَأَمَّا الَّذِي أُجِرَ: فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ،فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنَ الْمَرْجِ،أَوِ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ،وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا ذَلِكَ،فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا،أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ،وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ،فَشَرِبَتْ مِنْهُ،وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ بِهِ،كَانَ ذَلِكَ لَهُ حَسَنَاتٍ،فَهِيَ لِذَلِكَ أَجْرٌ.وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا،وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللهِ فِي رِقَابِهَا وَلَا ظُهُورِهَا،فَهِيَ لِذَلِكَ سَتْرٌ وَجَلَّ.وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً،وَنَوْأ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ،فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ " " (2)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - التفسير الميسر - (10 / 145)
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (2860 )
استنت : جرت وعدت -الطيل : حبل يشد به قائمة الدابة -المرج : الأرض الواسعة ذات نبات كثير تخلى فيه الدواب تسرح مختلطة كيف شاءت -النواء : العداوة(1/633)
-55- أدب الحوار
أهمية الحوار :
تبرز أهمية الحوار من جانبين:
.الجانب الأول: دعوة الناس إلى الإسلام والسنة:
فتعقد لذلك محاورات مع غير المسلمين؛ لإقناعهم بأن دين الله تعالى حق لا شك فيه،أو مع مبتدعين منحرفين عن السنة؛ لدعوتهم إلى السنة،وأمرهم بالتزامها.
والقرآن الكريم حافل بنماذج من مثل هذه الحوارات التي جرت بين أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام وبين أقوامهم،حتى إن قوم نوح قالوا له: (يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [هود:32]،فأكثر جدالهم حتى تبرَّموا من كثرة جداله لهم،والجدال نوع من الحوار.
إننا بحاجة إلى أن نحاور أصحاب المذاهب والنظريات والأديان الأخرى؛ بهدف دعوتهم إلى الله تعالى،فالحوار وسيلة من وسائل الدعوة.
ولا يجوز أبدًا أن نعتقد -كما يعتقد الكثيرون- أن العالم اليوم يعيش حالة إفلاس من النظريات والعقائد والمبادئ والمثل،فهذا غير صحيح؛ بل العالم اليوم يعيش حالة تخمة من كثرة النظريات والمبادئ والعقائد والمثل والفلسفات وغيرها،صحيح أنها باطلة،ولكن هذا الركام الهائل من الباطل مدجج بأقوى أسلحة الدعوة والدعاية،والدعاة الذين تدرَّبوا وتعلَّموا كيف يدافعون عن الباطل حتى يصبح في نظر الناس حقًّا.
أما أهل الحق فكثير منهم لا يحسن الطريقة المثلى للحوار؛ لإقناع الخصم بما لديه من الحق والسنة.
وقد لا يحسن هؤلاء أن يناقش بعضهم بعضًا،إلا من خلال فوهات المدافع والبنادق،فإن لم يملكوها،فمن خلال الأفواه التي تطلق من الكلمات الحارة الجارحة،ما هو أشد فتكًا من الرصاص والقذائف.
إذن،فإن الهدف الأول من الحوار هو دعوة الكفار إلى الإسلام،أو دعوة الضالين من المبتدعة إلى السنة.
الجانب الثاني: فصل الخلاف في الأمور الاجتهادية:
فالحوار يُعد وسيلة للوصول إلى اليقين والحق في مسألة اجتهادية اختلفت فيها أقوال المجتهدين،فيتكلم اثنان في محاورة أو مناظرة للوصول إلى الحق في مسألة اجتهادية ليس فيها نص صريح،أو إجماع لا يجوز تعديه.
وليس من الضروري -أيها القارئ الكريم- أن تعتقد أن نتيجة الحوار لابد أن تكون إقناعك الطرف الآخر بأن ما عندك حق،وما عنده باطل،فليس هذا بلازم،فقد تقنع إنسانًا بذلك،فإن لم تتمكن،فأقل(1/634)
شيء تكسبه من الحوار - إذا التزمتَ بالشروط الموضوعية له - أن يعلم خصمك أن لديك حجة قوية،وأنك محاور جيد،وأن يأخذ انطباعًا بأنك موضوعي متعقل،بعيد عن التشنج والهيجان والانفعال.
فكثير من الناس يظنون أن الآخرين لا يملكون الحق،وليس عندهم شيء،وأنهم مجرد مقلِّدين،فإذا حاوروهم وناظروهم علموا أن لديهم حججًا قوية،فأقل ما تكسبه أن تجعل أمام مناظرك علامة استفهام.
فقد تلتقي بنصراني داعية إلى النصرانية،فتناقشه،فمن المحتمل أن يسلم،وهذا خير كثير،وهو أرقى وأعلى ما تتمناه،لكن قد لا يسلم،فهل تعتبر أنك قد خسرت المناظرة؟ لا؛ لأنه وإن لم يسلم،فربما صار عنده تفكير في الإسلام يدعوه إلى أن يبحث،ثم قد يسلم ولو بعد حين،وإذا لم يفكر في ذلك،فعلى الأقل صار عنده شكوك في دينه،وإذا لم يحصل هذا،فعلى أقل تقدير فتر شيء من الحماس الذي كان يحمله لدينه،وصار عنده تردد في مذهبه الباطل.
ونحن نجد أن المسلمين الذين يكثرون الاحتكاك بأهل الكتاب أو بالمنحرفين عن الإسلام ويسمعون منهم الكثير؛ نجد أن هؤلاء المسلمين وإن لم يتركوا دينهم إلا أن حماسهم يقل ويفتر لدينهم حتى وهم على الحق؛ وذلك من كثرة ما سمعوا من أعدائه،فما بالك بأهل الباطل إذا سمعوا نقد باطلهم؟ لابد أن يفتر حماسهم له،أو يشكّوا فيه،أو يتراجعوا عنه.
قواعد الحوار وأصوله:
إن من الضروري أن يتلقَّى المسلم -وخاصة الداعية إلى الله- أسس الحوار وأصوله،في عالم يموج اليوم بالنظريات الكافرة والاتجاهات المنحرفة،فقد أصبح الحوار فنًّا يدرس -أحيانًا- باسم: فن الجدل،وأحيانًا يسمونه: فن المناظرة.
إضافة إلى فن آخر له علاقة كبيرة بالموضوع،وهو ما يسمى بفن العلاقات العامة،الذي تقام فيه دورات لكثير من الموظفين،والمتخصِّصين في العلاقات العامة،والدعاة،وغيرهم.
والعلاقات العامة تعني: حسن الاتصال بالآخرين؛ لإقناعهم برأي،أو لترويج سلعة من السلع،أو تصحيح فكرة،أو التمهيد لقضية من القضايا من خلال الاتصال بالناس،فهو فن لابد للداعية أن يتعلمه نظريًّا وعمليًّا.
وللحوار قواعد كثيرة،نعرض بعضها فيما يلي:
القاعدة الأولى: تحديد موضوع الحوار:
ينبغي أن يدور الحوار حول مسألة محددة،فإن كثيرًا من الحوارات تكون جدلاً عقيمًا،ليس له نقطة محددة ينتهي إليها،فينبغي أن يكون الحوار أو الجدل (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل:125] حول نقطة معينة،بحيث يتم التركيز عليها،ولا يتعداها الحوار حتى يُنْتَهى منها.(1/635)
القاعدة الثانية: مناقشة الأصل قبل الفرع:
ينبغي ألا يتم التناقش في الفرع قبل الاتفاق على الأصل؛ إذ إن مناقشة الفرع مع كون الأصل غير متفق عليه،تعتبر نوعًا من الجدل العقيم إلا في حالات معينة.
وأضرب أمثلة لحالات يمكن فيها مناقشة الفرع،أو مناقشة الأصل:
فلو جاءك كافر لا يؤمن بيوم الحساب،وأخذ يناقشك في قضية حجاب المرأة المسلمة -مثلاً-،أو في قضية تعدد الزوجات،أو في مسألة الجهاد؛ حيث إن هذه القضايا بالذات هي أكثر القضايا التي يثير حولها الغربيون شبهاتهم؛ لإثارة الفتنة بين المسلمين.
المهم هو كيف تحاور هذا الكافر الذي لا يؤمن بالإسلام؟ هل تناقشه في هذه المسائل إذا حاورك بشأنها؟
بإمكانك هنا أن تحاوره بإحدى طريقتين:
- الأولى: أن تحيل إلى الأصل،فتقول له: إن الجهاد وتعدد الزوجات والحجاب وما على شاكلة هذه القضايا؛ جزء من دين الإسلام،وبدلاً من أن نناقش هذه النقاط ينبغي أن نرجع للأصل،وهو الإسلام،فنتجادل فيه،فإذا اقتنعت بالإسلام،فحينئذ -من باب أولى- أن تقتنع بهذه الأمور،ولا حاجة أن نتجادل فيها،وإذا لم تقتنع بالإسلام،فنقاشي معك في هذه الجزئية يعتبر نوعًا من العبث الذي لا طائل تحته.
- الثانية: يمكنك أن تناقشه بالحجج المنطقية،في نفس الجزئيات التي يجادل حولها.
فمثلاً: إذا تكلم عن تعدد الزوجات،فيمكن أن تجادله في هذا الموضوع بأن تخبره أنه من الثابت علميًّا أن عدد النساء أكثر من عدد الرجال،وفي (أمريكا) نفسها تصل -أحيانًا- نسبة النساء إلى الرجال مائة وتسعة عشر إلى مائة،وأحيانًا مائة وستين إلى مائة؛ فستون امرأة زيادة على المائة،لمن تكون؟!
فإذا لم نأذن للرجال بتعدد الزوجات،فذلك يعني أن هؤلاء النساء بقين ضائعات بلا أزواج،أو اضطررن إلى ممارسة البغاء والرذيلة،فتعدد الزوجات ضرورة لابد منها؛ لأن نسبة الإناث في أكثر المجتمعات أكثر من نسبة الرجال.
وهكذا،عندما تثبت لهذا الكافر حالات وأوضاعًا يكون تعدد الزوجات فيها أمرًا سائغًا؛ فربما آمن بالإسلام من خلال اقتناعه بهذه الحجج.
وقد بسط القول في الرد على هذه الشبهات الأستاذ محمد قطب في كتابه "شبهات حول الإسلام" بما لا يدع حاجة إلى أن نطيل فيه الآن.
القاعدة الثالثة: الاتفاق على أصل يُرجع إليه:(1/636)
يجب الاتفاق على أصل يرجع إليه المتحاورون إذا وُجد الخلاف،واحتدم النقاش،وذلك كالاتفاق على الرجوع عند الاختلاف إلى القرآن الكريم،وإلى صحيح السنة،وإلى القواعد الثابتة المستقرة،أو إلى ما كان عليه السلف الصالح -رضي الله عنهم-،المهم أن نتفق على أمور تكون مرجعًا عند الخلاف.
صفات المحاور :
.أولاً: جودة الإلقاء،وحسن العرض،وسلاسة العبارة:
وقد كان ذلك من صفات الرسول - صلى الله عليه وسلم - ،فعَنِ ابْنِ شِهَابٍ،أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ،أَنَّ عَائِشَةَ،قَالَتْ:أَلاَ يُعْجِبُكَ أَبُو هُرَيْرَةَ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَى جَانِبِ حُجْرَتِي يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يُسْمِعُنِي ذَلِكَ،وَكُنْتُ أُسَبِّحُ،فَقَامَ قَبْلَ أَنْ أَقْضِيَ سُبْحَتِي،وَلَوْ أَدْرَكْتُهُ لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ،إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ يَسْرُدُ الْحَدِيثَ كَسَرْدِكُمْ. (1) .
فعلى المحاور أن يكون هادئًا سلسًا،جيد الإلقاء.
.ثانيًا: حسن التصور:
والمقصود من حسن التصور،ألاَّ تكون الأفكار عند المتحدث مشوشة أو متداخلة أو متضاربة،فبعض الناس -لضعف تصوره- ربما يطرح فكرة أثناء النقاش،وبعدما ينتصف في شرحها يتبيَّن له أنها غير صالحة،ولا تخدم الغرض،فينتبه في منتصف الطريق بعدما يكون قد تورَّط في ذلك.
.ثالثًا: ترتيب الأفكار:
فالقدرة على ترتيب الأفكار،وتسلسلها،وارتباط بعضها ببعض وعدم تداخلها،أو اضطرابها،مما يثبت حجة المحاور ويقويها.
.رابعًا: العلم:
ينبغي أن يكون المحاور ذا علم وقوة وقدرة،فإن بعض المحاورين قد يخذل الحق بضعف علمه،فرغم أن الحق معه،إلا أنه لم يدعمه بالعلم القوي،فيضع نفسه في غير موضعه.
لذلك فليس كل إنسان مهيأ للحوار،حتى وإن كان صاحب حق،فإنه ربما حاور بهدف نصر الحق فيخذل الحق؛ لضعف علمه وبصيرته،وربما حاور بجهل فيقتنع بالباطل الذي مع خصمه،وربما احتج بحجج باطلة،مثلما يحدث في بعض المناظرات والمحاورات التي تعقد،فلا يقتنع الناس بالحق الذي يحمله.
.خامسًا: الفهم مع العلم:
لابد من الفهم وقوة العقل؛ ليدرك المتحدث حجج الخصم،ويتمكن من فهمها،ويعرف نقاط الضعف والقوة فيها،فيقبل ما فيها من حق،ويرد ما فيها من باطل.
.سادسًا: الإخلاص:
__________
(1) - صحيح البخارى- المكنز - (3568 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6554 ) وصحيح ابن حبان - (1 / 302) (100)
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَوْلُ عَائِشَةَ لَرَدَدْتُ عَلَيْهِ ، أَرَادَتْ بِهِ سَرْدَ الْحَدِيثِ لاَ الْحَدِيثَ نَفْسَهُ(1/637)
فينبغي التجرد في طلب الحق وتوصيله إلى الآخرين،بحيث لا يكون همُّ المرء الانتصار لرأيه،وإنما همه طلب الحق وإيصاله للآخرين.
.سابعًا: التواضع:
فالتواضع أثناء المناقشة،أو بعد الانتصار على الخصم،من أهم ما ينبغي أن يتحلى به المحاور.
آفات في الحوار :
أما الحوار القائم بين كثير من المسلمين بعضهم مع بعض،ففيه عيوب وأخطاء نذكر منها:
.أولاً: رفع الصوت:
فكأن الإنسان في غابة تتهارش فيها السباع،ومن لم يكن ذئبًا أكلته الذئاب،فيرى أن انتصاره في الحوار لن يكون إلا عن طريق مبالغته في رفع الصوت على خصمه،والله تعالى يقول: (إِنَّ أَنْكَرَ الأََصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان:19].
.ثانيًا: أخذ زمام الحديث بالقوة:
وذلك لئلا تدع للخصم فرصة يتحدث فيها،فيهدم بناءك الهش،أو يحطِّم حججك الزجاجية،أو يثير البلبلة في نفوس الناس.
وكأننا في ذلك قد أخذنا بمبدأ الكلمة التي قالها (دايل كارنيجي) في كتابه: "كيف تؤثر في الناس وتكسب الأصدقاء"؛ إذ قال: إذا كنت تريد أن ينفض الناس من حولك،ويسخروا منك عندما توليهم ظهرك وتتركهم،فإليك الوصفة: لا تعط أحدًا فرصة للحديث،تكلم بدون انقطاع،وإذا خطرت لك فكرة بينما غيرك يتحدث،فلا تنتظر حتى يتم حديثه،فهو ليس ذكيًّا مثلك! فلماذا تضيع وقتك في الاستماع إلى حديثه السخيف؟ اقتحم عليه الحديث،واعترض في منتصف كلامه،واطرح ما لديك.
.ثالثًا: تهويل مقالة الطرف الآخر:
إن البعض يهوِّلون أقوال الآخرين،ويحمِّلون كلامهم من الضخامة ما لا يخطر إلا في نفوس مرضى القلوب،لماذا؟ لئلا يتجرأ أحد على القول بمثل ما قالوا،أو نصرة ما ذهبوا إليه.
فيحاول المحاور -أحيانًا- أن يحيط القول المردود بهالة رهيبة فيقول: هذا القول كفر،وهذا فسق،وهذا بدعة،وهذا خرق للإجماع،وهذا مصادمة للنصوص الشرعية،وهذا اتهام للعلماء،وهذا قول حادث باطل لم يسبق إليه...،ويظل يهوِّل ويطول ويضخم العبارات،بحيث يشعر السامع أنه قول خطير،يجب البعد عنه،وعدم التورط في قبوله،أو الاقتناع بحجة من تكلم به.
وقد لا يكون القول كذلك.
نحن لا ننكر أن من الأقوال ما يكون كفرًا أو فسقًا أو بدعة،ومنها ما يكون مصادمة للنص،أو قولاً حادثًا لم يسبق إليه صاحبه،لكن هذه الأشياء كلها لابد حين يقولها الإنسان أن يثبتها بالدليل الواضح،أما مجرد إطلاق دعاوى فارغة في الهواء،فهذا لا يسمن ولا يغني من جوع.(1/638)
.رابعًا: الاعتداء في وصف الطرف الآخر:
فتصفه بما لا يليق من الأوصاف؛ تأديبًا له وردعًا لأمثاله،فتقول: هذا جاهل سخيف حقير متسرع،وأضعف الإيمان أن تصفه بأنه ليس أهلاً لهذا الأمر.
ولا يكفي هذا فحسب؛ بل لابد من كشف نية هذا الإنسان،فتتهمه بفساد نيته،وسوء طويته،وخبث مقصده؛ بل قد تتهمه بأنه عدو مغرض للإسلام،أو محارب للسنة وأهلها،له أهداف بعيدة من وراء مقالته تلك،أو بأنه عميل للشرق أو الغرب،أو لقوى خارجية أو داخلية...
ونحن لا ننكر -أيضًا- أن من الناس من هو سيء النية والطويَّة خبيث المقصد،ومنهم من هو عدو للإسلام أو السنة؛ بل ومنهم من هو عميل للشرق أو الغرب،أو لقوى بعيدة أو قريبة،لكن حين تُطلق هذه الأشياء،فلابد من الدليل الواضح عليها،ولا يجوز أن نصادر عقولنا،ويُطلب منا أن نقتنع بشيء لم يُسَق عليه أي دليل.
فليس مقصود الحوار تناول شخص بعينه،اللهم إلا إن كان موضوع الحوار أو نقطة الحوار -أصلاً- هي الكلام عن هذا الشخص،فهذا باب آخر.
---------------
آداب الحوار :
الحوار جائز في الإسلام متى كانت المصلحة المتوقعة منه أعظم من المفسدة المترتبة عليه،ومتى ثبت أن نفعه أكثر من ضرره،وقد عني القرآن الكريم عناية بالغة بالحوار،وذلك أمر لا غرابة فيه أبدًا،فالحوار هو الطريق الأمثل للاقتناع الذي ينبع من أعماق صاحبه،والاقتناع هو أساس الإيمان الذي لا يمكن أن يُفرض فرضًا،وإنما ينبع من داخل الإنسان. (1)
1- إحسان الظن بالآخرين:
ومن المبادئ الأخلاقية المهمة في التعامل بين الإسلاميين مع بعضهم البعض: إحسان الظن بالآخرين،وخلع المنظار الأسود،عند النظر إلى أعمالهم ومواقفهم فلا ينبغي أن يكون سلوك المؤمن واتجاهه قائما على تزكية نفسه،واتهام غيره..
والله تعالى ينهانا أن نزكي أنفسنا،فيقول: { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} (32) سورة النجم.
ويذم اليهود الذين زكوا أنفسهم وقالوا: إنهم أبناء الله وأحباؤه،فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاء وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} (49) سورة النساء.
والمؤمن ـ كما قال بعض السلف ـ أشد حسابا لنفسه من سلطان غاشم،ومن شريك شحيح!
__________
(1) - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - (ج 2 / ص 21886)(1/639)
فهو أبدا متهم لنفسه لا يتسامح معها،ولا يسوغ لها خطأها،يغلب عليه شعور التفريط في جنب الله،والتقصير في حقوق عباد الله.
وهو يعمل الخير،ويجتهد في الطاعة،ويقول: أخشى أن لا يقبل مني. فإنما يتقبل الله من المتقين،وما يدريني أني منهم؟!
وهو في الجانب المقابل يلتمس المعاذير لخلق الله،وخصوصا لإخوانه والعاملين معه لنصرة دين الله،فهو يقول ما قال بعض السلف الصالح: ألتمس لأخي من عذر إلى سبعين،ثم أقول: لعل له عذرا آخر لا أعرفه!
وإن من أعظم شعب الإيمان حسن الظن بالله،وحسن الظن بالناس،وفي مقابلهما: سوء الظن بالله،وسوء الظن بعباد الله.
إن سوء الظن من خصال الشر التي حذر منها القرآن والسُّنَّة،فالأصل حمل المسلم على الصلاح،وأن لا تظن به إلا خيرا،وأن تحمل ما يصدر منه على أحسن الوجوه،وإن بدا ضعفها،تغليبا لجانب الخير على جانب الشر.
والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} (12) سورة الحجرات،والمراد به: ظن السوء الذي لم يقم عليه دليل حاسم.
وعَنِ الأَعْرَجِ قَالَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَأْثُرُ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: « إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ،فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ،وَلاَ تَجَسَّسُوا،وَلاَ تَحَسَّسُوا،وَلاَ تَبَاغَضُوا،وَكُونُوا إِخْوَانًا » (1) .
والمفروض في المسلم إذا سمع شرا عن أخيه أن يطرد عن نفسه تصور أي سوء عنه،وأن لا يظن به إلا خيرا،كما قال تعالى في سياق حديث الإفك: { لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} (12) سورة النور.
وما أصدق ما قاله الشاعر هنا:
تأن ولا تعجل بلومك صاحبا لعل له عذرا وأنت تلوم!
ومن أجل هذا يعجب المرء غاية العجب،ويتألم كل الألم،إذا وجد بعض العاملين للإسلام يتهم بعضهم بالعمالة أو الخيانة،جريا وراء العلمانيين وأعداء الإسلام فيقول أحدهم عن الآخر: هذا عميل للغرب أو للشرق أو للنظام الفلاني،لمجرد أنه خالفه في رأي أو في موقف،أو في اتخاذ وسيلة للعمل مخالفة له،ومثل هذا لا يجوز بحال لمن فقه عن الله ورسوله.
2-ترك الطعن والتجريح للمخالفين:
__________
(1) - صحيح البخارى(5143)(1/640)
ومن أسباب التواصل والتقارب: ترك الطعن والتجريح للمخالف،والتماس العذر له،وإن كان مخطئا في ظنك.
وذلك لأنه قد يكون مصيبا وأنت المخطئ،إذ لا يقين في الاجتهادات بصواب أحد القولين،كل ما تملك في هذا المجال هو الترجيح،والترجيح لا يعني القطع واليقين.
كما أن المخطئ في هذه القضايا لا يجوز الطعن عليه بحال،لأنه معذور في خطئه،بل مأجور عليه بنص الحديث النبوي الشريف.
فكيف يجرح أن يطعن عليه في أمر هو مأجور عليه من الله تعالى،وإن كان أجرا واحدا غير مضاعف،ولكن يكفي أنه مثاب ومأجور غير مأزور؟
وهذا هو نهج السلف في اختلافهم في الاجتهاد،فلم يجرح بعضهم بعضا،بل أثنى بعضهم على بعض برغم ما اختلفوا فيه.
نموذج من أدب كبار العلماء مع مخالفيهم:
بسم الله الرحمن الرحيم وهذه رسالة مالك بن أنس إلى الليث بن سعد.
قال يحيى: حدثنا عبد الله بن صالح: من مالك بن أنس إلى الليث بن سعد سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو.
أما بعد عصمنا الله وإياك بطاعته في السر والعلانية وعافانا وإياك من كل مكروه.
كتبت إليك وأنا ومن قبلي من الولدان والأهل على ما تحب والله محمود. أتانا كتابك تذكر من حالك ونعمة الله عليك الذي أنا به مسرور أسأل الله أن يتم علي وعليك صالح ما أنعم علينا وعليك وأن يجعلنا له شاكرين وفهمت ما ذكرت في كتب بعثت بها لأعرضها لك وأبعث بها إليك وقد فعلت ذلك وغيرت منها ما غيرت حتى صح أمرها على ما يجب وختمت على كل قنداق أو قال يحيى: غنداق منها بخاتمي ونقشه حسبي الله ونعم الوكيل.
وكان حبيباً إلي حفظك وقضاء حاجتك وأنت لذلك أهل وصبرت لك نفسي في ساعة لم أكن أعرض فيها لأن أنجح ذلك فتأتيك مع الذي جاءني بها حتى دفعتها إليه وبلغت من ذلك الذي رأيت أنه يلزمني لك في حقك وحرمتك وقد نشطني ما استطلعت مما قبلي من ذلك في ابتدائك بالنصيحة لك ورجوت أن يكون لها عندك موضع ولم يكن منعني من ذلك قبل اليوم إلا أن يكون رأيي لم يزل فيك جميلاً إلا أنك لم تذاكرني شيئاً من هذا الأمر ولا تكتب فيه إلي.
واعلم رحمك الله أنه بلغني أنك تفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا وببلدنا الذي نحن به وأنت في إمامتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك وحاجة من قبلك إليك واعتمادهم على ما جاء منك حقيق بأن تخاف على نفسك وتتبع ما ترجو النجاة باتباعه فإن الله عز وجل يقول في كتابه "(1/641)
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم " .
قال تعالى: " الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب ".فإنما الناس تبع لأهل المدينة إليها كانت الهجرة وبها نزل القرآن وأحل الحلال وحرم الحرام إذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم يحضرون الوحي والتنزيل ويأمرهم فيتبعونه ويسن لهم فيتبعونه حتى توفاه الله واختار له ما عنده - صلى الله عليه وسلم - ثم قام من بعده أتبع الناس له من أمته ممن ولي الأمر من بعده فما نزل بهم مما علموا أنفذوه وما لم يكن عندهم علم فيه سألوا عنه ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك في اجتهادهم وحداثة عهدهم فإن خالفهم مخالف أو قال: امرؤ غيره أقوى منه وأولى ترك قوله وعمل بغيره ثم كان التابعون من بعدهم يسلكون تلك السبيل ويتبعون تلك السنن فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهراً معمولاً به لم أر خلافه للذي في أيديهم من تلك الوراثة التي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادعاؤها ولو ذهب أهل الأمصار يقولون هذا العمل ببلدنا وهذا الذي مضى عليه من مضى منا لم يكونوا من ذلك على ثقة. ولم يجز لهم من ذلك مثل الذي جاز لهم فانظر رحمك الله فيما كتبت إليك فيه لنفسك واعلم أني لأرجو ألا يكون دعائي إلى ما كتبت إليك إلا النصيحة لله والنظر إليك والضن بك فأنزل كتابي منك منزله فإنك إن تفعل تعلم أني لم آلك نصحاً.
وفقنا الله وإياك بطاعته وطاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل أمر وعلى كل حال والسلام عليكم ورحمة الله." (1)
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يُوسُفَ يَعْقُوبُ بْنُ سُفْيَانَ الْفَسَوِيُّ فِي كِتَابِ التَّارِيخِ وَالْمَعْرِفَةِ لَهُ،وَهُوَ كِتَابٌ جَلِيلٌ غَزِيرُ الْعِلْمِ جَمُّ الْفَوَائِدِ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُكَيْر الْمَخْزُومِيُّ قَالَ:هَذِهِ رِسَالَةُ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ إلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ .
[ رِسَالَةٌ مِنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ إلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ]:سَلَامٌ عَلَيْك،فَإِنِّي أَحْمَدُ إلَيْك اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ،أَمَّا بَعْدُ - عَافَانَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ،وَأَحْسَنَ لَنَا الْعَاقِبَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ - قَدْ بَلَغَنِي كِتَابُك تَذْكُرُ فِيهِ مِنْ صَلَاحِ حَالِكُمْ الَّذِي يَسُرُّنِي،فَأَدَامَ اللَّهُ ذَلِكَ لَكُمْ وَأَتَمَّهُ بِالْعَوْنِ عَلَى شُكْرِهِ وَالزِّيَادَةِ مِنْ إحْسَانِهِ،وَذَكَرْت نَظَرَك فِي الْكُتُبِ الَّتِي بَعَثْت بِهَا إلَيْك وَإِقَامَتَك إيَّاهَا وَخَتْمَك عَلَيْهَا بِخَاتَمِك،وَقَدْ أَتَتْنَا فَجَزَاك اللَّهُ عَمَّا قَدَّمْت مِنْهَا خَيْرًا،فَإِنَّهَا كُتُبٌ انْتَهَتْ إلَيْنَا عَنْك فَأَحْبَبْت أَنْ أَبْلُغَ حَقِيقَتَهَا بِنَظَرِك فِيهَا،وَذَكَرْت أَنَّهُ قَدْ أَنْشَطَك مَا كَتَبْت إلَيْك فِيهِ مِنْ تَقْوِيمِ مَا أَتَانِي عَنْك إلَى ابْتِدَائِي بِالنَّصِيحَةِ،وَرَجَوْت أَنْ يَكُونَ لَهَا عِنْدِي مَوْضِعٌ،وَأَنَّهُ لَمْ يَمْنَعْك مِنْ ذَلِكَ فِيمَا خَلَا إلَّا أَنْ يَكُونَ رَأْيُك فِينَا جَمِيلًا إلَّا لِأَنِّي لَمْ أُذَاكِرْك مِثْلَ هَذَا،وَأَنَّهُ بَلَغَك أَنِّي أُفْتِي بِأَشْيَاءَ مُخَالِفَةٍ لِمَا عَلَيْهِ جَمَاعَةُ النَّاسِ
__________
(1) - تاريخ يحيى بن معين - (1 / 153)(1/642)
عِنْدَكُمْ،وَأَنِّي يَحِقُّ عَلَيَّ الْخَوْفُ عَلَى نَفْسِي لِاعْتِمَادِ مَنْ قَبْلِي عَلَى مَا أَفْتَيْتهمْ بِهِ،وَأَنَّ النَّاسَ تَبَعٌ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّتِي إلَيْهَا كَانَتْ الْهِجْرَةُ وَبِهَا نَزَلَ الْقُرْآنُ،وَقَدْ أَصَبْت بِاَلَّذِي كُتِبَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى،وَوَقَعَ مِنِّي بِالْمَوْقِعِ الَّذِي تُحِبُّ،وَمَا أَجِدُ أَحَدًا يُنْسَبُ إلَيْهِ الْعِلْمُ أَكْرَهَ لِشَوَاذِّ الْفُتْيَا وَلَا أَشَدَّ تَفْضِيلًا لِعُلَمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ مَضَوْا وَلَا آخُذُ لِفُتْيَاهُمْ فِيمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ مِنِّي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ،وَأَمَّا مَا ذَكَرْت مِنْ مَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالْمَدِينَةِ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ بِهَا عَلَيْهِ بَيْنَ ظَهْرَيْ أَصْحَابِهِ وَمَا عَلَّمَهُمْ اللَّهُ مِنْهُ وَأَنَّ النَّاسَ صَارُوا بِهِ تَبَعًا لَهُمْ فِيهِ فَكَمَا ذَكَرْت،وَأَمَّا مَا ذَكَرْت مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:{ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَاَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ أُولَئِكَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ خَرَجُوا إلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَجَنَّدُوا الْأَجْنَادَ وَاجْتَمَعَ إلَيْهِمْ النَّاسُ فَأَظْهَرُوا بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ وَلَمْ يَكْتُمُوهُمْ شَيْئًا عَلِمُوهُ .
وَكَانَ فِي كُلِّ جُنْدٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ يُعَلِّمُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ وَيَجْتَهِدُونَ بِرَأْيِهِمْ فِيمَا لَمْ يُفَسِّرْهُ لَهُمْ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ،وَتَقَدَّمَهُمْ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ الْمُسْلِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ،وَلَمْ يَكُنْ أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ مُضَيِّعِينَ لِأَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا غَافِلِينَ عَنْهُمْ،بَلْ كَانُوا يَكْتُبُونَ فِي الْأَمْرِ الْيَسِيرِ لِإِقَامَةِ الدِّينِ وَالْحَذَرِ مِنْ الِاخْتِلَافِ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ،فَلَمْ يَتْرُكُوا أَمْرًا فَسَّرَهُ الْقُرْآنُ أَوْ عَمِلَ بِهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَوْ ائْتَمَرُوا فِيهِ بَعْدَهُ إلَّا عَلَّمُوهُمُوهُ،فَإِذَا جَاءَ أَمْرٌ عَمِلَ فِيهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِمِصْرَ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَلَمْ يَزَالُوا عَلَيْهِ حَتَّى قُبِضُوا لَمْ يَأْمُرُوهُمْ بِغَيْرِهِ،فَلَا نَرَاهُ يَجُوزُ لِأَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُحْدِثُوا الْيَوْمَ أَمْرًا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ سَلَفُهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ،مَعَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَدْ اخْتَلَفُوا بَعْدُ فِي الْفُتْيَا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ،وَلَوْلَا أَنِّي قَدْ عَرَفْت أَنْ قَدْ عَلِمْتهَا كَتَبْت بِهَا إلَيْك،ثُمَّ اخْتَلَفَ التَّابِعُونَ فِي أَشْيَاءَ بَعْدَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَنُظَرَاؤُهُ أَشَدَّ الِاخْتِلَافِ،ثُمَّ اخْتَلَفَ الَّذِينَ كَانُوا بَعْدَهُمْ فَحَضَرْتهمْ بِالْمَدِينَةِ وَغَيْرِهَا وَرَأْسُهُمْ يَوْمَئِذٍ ابْنُ شِهَابٍ وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَكَانَ مِنْ خِلَافِ رَبِيعَةَ لِبَعْضِ مَا قَدْ مَضَى مَا قَدْ عَرَفْت وَحَضَرْت،وَسَمِعْت قَوْلَك فِيهِ وَقَوْلَ ذَوِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَكَثِيرِ بْنِ فَرْقَدٍ وَغَيْرِ كَثِيرٍ مِمَّنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْهُ حَتَّى اضْطَرَّك مَا كَرِهْت مِنْ ذَلِكَ إلَى فِرَاقِ مَجْلِسِهِ .
وَذَاكَرْتُك أَنْتَ وَعَبْدُ الْعَزِيزِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بَعْضَ مَا نَعِيبُ عَلَى رَبِيعَةَ مِنْ ذَلِكَ،فَكُنْتُمَا مِنْ الْمُوَافِقِينَ فِيمَا أَنْكَرْت،تَكْرَهَانِ مِنْهُ مَا أَكْرَهُهُ،وَمَعَ ذَلِكَ بِحَمْدِ اللَّهِ عِنْدَ رَبِيعَةَ خَيْرٌ كَثِيرٌ،وَعَقْلٌ أَصِيلٌ وَلِسَانٌ بَلِيغٌ،وَفَضْلٌ مُسْتَبِينٌ،وَطَرِيقَةٌ حَسَنَةٌ فِي الْإِسْلَامِ،وَمَوَدَّةٌ لِإِخْوَانِهِ عَامَّةً وَلَنَا خَاصَّةً رَحِمَهُ اللَّهُ وَغَفَرَ لَهُ وَجَزَاهُ بِأَحْسَنَ مِنْ عَمَلِهِ .(1/643)
وَكَانَ يَكُونُ مِنْ ابْنِ شِهَابٍ اخْتِلَافٌ كَثِيرٌ إذَا لَقِينَاهُ،وَإِذَا كَاتَبَهُ بَعْضُنَا فَرُبَّمَا كَتَبَ إلَيْهِ فِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ عَلَى فَضْلِ رَأْيِهِ وَعِلْمِهِ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ يَنْقُضُ بَعْضُهَا بَعْضًا،وَلَا يَشْعُرُ بِاَلَّذِي مَضَى مِنْ رَأْيِهِ فِي ذَلِكَ،فَهَذَا الَّذِي يَدْعُونِي إلَى تَرْكِ مَا أَنْكَرْت تَرْكِي إيَّاهُ .
وَقَدْ عَرَفْت أَيْضًا عَيْبَ إنْكَارِي إيَّاهُ أَنْ يَجْمَعَ أَحَدٌ مِنْ أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لَيْلَةَ الْمَطَرِ،وَمَطَرُ الشَّامِ أَكْثَرُ مِنْ مَطَرِ الْمَدِينَةِ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ لَمْ يَجْمَعْ مِنْهُمْ إمَامٌ قَطُّ فِي لَيْلَةِ مَطَرٍ،وَفِيهِمْ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ،وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ:{ أَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ } وَقَالَ:{ يَأْتِي مُعَاذٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيْ الْعُلَمَاءِ بِرَتْوَةٍ } وَشُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَبِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ،وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ بِمِصْرَ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ،وَبِحِمْصَ سَبْعُونَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ،وَبِأَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ كُلِّهَا وَبِالْعِرَاقِ ابْنُ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ،وَنَزَلَهَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فِي الْجَنَّةِ سِنِينَ،وَكَانَ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - [ كَثِيرٌ ] فَلَمْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ قَطُّ .
وَمِنْ ذَلِكَ الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَيَمِينِ صَاحِبِ الْحَقِّ،وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يَقْضِي بِالْمَدِينَةِ بِهِ،وَلَمْ يَقْضِ بِهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِالشَّامِ وَبِحِمْصَ وَلَا بِمِصْرَ وَلَا بِالْعِرَاقِ،وَلَمْ يَكْتُبْ بِهِ إلَيْهِمْ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ،ثُمَّ وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَكَانَ كَمَا قَدْ عَلِمْت فِي إحْيَاءِ السُّنَنِ وَالْجِدِّ فِي إقَامَةِ الدِّينِ وَالْإِصَابَةِ فِي الرَّأْيِ وَالْعِلْمِ بِمَا مَضَى مِنْ أَمْرِ النَّاسِ،فَكَتَبَ إلَيْهِ رُزَيْقُ بْنُ الْحَكَمِ:إنَّك كُنْت تَقْضِي بِالْمَدِينَةِ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ وَيَمِينِ صَاحِبِ الْحَقِّ،فَكَتَبَ إلَيْهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ:إنَّا كُنَّا نَقْضِي بِذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ،فَوَجَدْنَا أَهْلَ الشَّامِ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ ؛ فَلَا نَقْضِي إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ؛ وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ الْعِشَاءِ وَالْمَغْرِبِ قَطُّ لَيْلَةَ الْمَطَرِ،وَالْمَطَرُ يَسْكُبُ عَلَيْهِ فِي مَنْزِلِهِ الَّذِي كَانَ فِيهِ بخناصرة سَاكِنًا .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ يَقْضُونَ فِي صَدَقَاتِ النِّسَاءِ أَنَّهَا مَتَى شَاءَتْ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِي مُؤَخَّرِ صَدَاقِهَا تَكَلَّمَتْ فَدَفَعَ إلَيْهَا،وَقَدْ وَافَقَ أَهْلُ الْعِرَاقِ أَهْلَ الْمَدِينَةِ عَلَى ذَلِكَ وَأَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ مِصْرَ،وَلَمْ يَقْضِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلَا مَنْ بَعْدَهُمْ لِامْرَأَةٍ بِصَدَاقِهَا الْمُؤَخَّرِ إلَّا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا مَوْتٌ أَوْ طَلَاقٌ فَتَقُومُ عَلَى حَقِّهَا .
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ فِي الْإِيلَاءِ إنَّهُ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ طَلَاقٌ حَتَّى يُوقَفَ وَإِنْ مَرَّتْ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ،وَقَدْ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُرْوَى عَنْهُ ذَلِكَ التَّوْقِيفُ بَعْدَ الْأَشْهُرِ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الْإِيلَاءِ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ:لَا يَحِلُّ لِلْمُولِي إذَا بَلَغَ الْأَجَلُ إلَّا أَنْ يَفِيءَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ أَوْ يَعْزِمَ الطَّلَاقَ،وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ:إنْ لَبِثَ بَعْدَ الْأَشْهُرِ الَّتِي سَمَّى اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَلَمْ يُوقَفْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ طَلَاقٌ،وَقَدْ بَلَغَنَا أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَقَبِيصَةَ بْنَ ذُؤَيْبٍ وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ(1/644)
عَوْفٍ قَالُوا فِي الْإِيلَاءِ:إذَا مَضَتْ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ،وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَابْنُ شِهَابٍ:إذَا مَضَتْ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرُ فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ،وَلَهُ الرَّجْعَةُ فِي الْعِدَّةِ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ كَانَ يَقُولُ:إذَا مَلَكَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَاخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ،وَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا فَهِيَ تَطْلِيقَةٌ،وَقَضَى بِذَلِكَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ،وَكَانَ رَبِيعَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَقُولُهُ،وَقَدْ كَادَ النَّاسُ يَجْتَمِعُونَ عَلَى أَنَّهَا إنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طَلَاقٌ،وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ،وَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا بَانَتْ مِنْهُ وَلَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَيَدْخُلُ بِهَا ثُمَّ يَمُوتُ أَوْ يُطَلِّقُهَا،إلَّا أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا فِي مَجْلِسِهِ فَيَقُولُ:إنَّمَا مَلَكْتُك وَاحِدَةً،فَيَسْتَحْلِفُ وَيُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ:أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ أَمَةً ثُمَّ اشْتَرَاهَا زَوْجُهَا فَاشْتِرَاؤُهُ إيَّاهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ،وَكَانَ رَبِيعَةُ يَقُولُ ذَلِكَ،وَإِنْ تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ عَبْدًا فَاشْتَرَتْهُ فَمِثْلُ ذَلِكَ .
وَقَدْ بُلِّغْنَا عَنْكُمْ شَيْئًا مِنْ الْفُتْيَا مُسْتَكْرَهًا،وَقَدْ كُنْت كَتَبْت إلَيْك فِي بَعْضِهَا فَلَمْ تُجِبْنِي فِي كِتَابِي،فَتَخَوَّفْت أَنْ تَكُونَ اسْتَثْقَلْت ذَلِكَ،فَتَرَكْت الْكِتَابَ إلَيْك فِي شَيْءٍ مِمَّا أُنْكِرُهُ وَفِيمَا أَوْرَدْت فِيهِ عَلَى رَأْيِك،وَذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّك أَمَرْت زُفَرَ بْنَ عَاصِمٍ الْهِلَالِيَّ - حِينَ أَرَادَ أَنْ يَسْتَسْقِيَ - أَنْ يُقَدِّمَ الصَّلَاةَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ،فَأَعْظَمْت ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ وَالِاسْتِسْقَاءَ كَهَيْئَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ إذَا دَنَا مِنْ فَرَاغِهِ مِنْ الْخُطْبَةِ فَدَعَا حَوَّلَ رِدَاءَهُ ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى،وَقَدْ اسْتَسْقَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَغَيْرُهُمَا،فَكُلُّهُمْ يُقَدِّمُ الْخُطْبَةَ وَالدُّعَاءَ قَبْلَ الصَّلَاةِ،فَاسْتَهْتَرَ النَّاسُ كُلُّهُمْ فِعْلَ زُفَرَ بْنِ عَاصِمٍ مِنْ ذَلِكَ وَاسْتَنْكَرُوهُ .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّك تَقُولُ فِي الْخَلِيطَيْنِ فِي الْمَالِ:إنَّهُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمَا الصَّدَقَةُ حَتَّى يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ،وَفِي كِتَابِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الصَّدَقَةُ وَيَتَرَادَّانِ بِالسَّوِيَّةِ،وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ يُعْمَلُ بِهِ فِي وِلَايَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَبْلَكُمْ وَغَيْرِهِ،وَاَلَّذِي حَدَّثَنَا بِهِ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَلَمْ يَكُنْ بِدُونِ أَفَاضِلِ الْعُلَمَاءِ فِي زَمَانِهِ فَرَحِمَهُ اللَّهُ وَغَفَرَ لَهُ وَجَعَلَ الْجَنَّةَ مَصِيرَهُ ابْنُ سَعِيدٍ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّك تَقُولُ:إذَا أَفْلَسَ الرَّجُلُ وَقَدْ بَاعَهُ رَجُلٌ سِلْعَةً فَتَقَاضَى طَائِفَةً مِنْ ثَمَنِهَا أَوْ أَنْفَقَ الْمُشْتَرِي طَائِفَةً مِنْهَا أَنَّهُ يَأْخُذُ مَا وَجَدَ مِنْ مَتَاعِهِ،وَكَانَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ إذَا تَقَاضَى مِنْ ثَمَنِهَا شَيْئًا أَوْ أَنْفَقَ الْمُشْتَرِي مِنْهَا شَيْئًا فَلَيْسَتْ بِعَيْنِهَا .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّك تَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يُعْطِ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ،وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ يُحَدِّثُونَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ أَرْبَعَةَ أَسْهُمٍ لِفَرَسَيْنِ وَمَنَعَهُ الْفَرَسَ الثَّالِثَ،وَالْأُمَّةُ كُلُّهُمْ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ أَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ مِصْرَ وَأَهْلُ الْعِرَاقِ وَأَهْلُ إفْرِيقِيَّةَ،لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ اثْنَانِ ؛ فَلَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَك - وَإِنْ كُنْت سَمِعْته مِنْ رَجُلٍ مَرْضِيٍّ - أَنْ تُخَالِفَ الْأُمَّةَ أَجْمَعِينَ .(1/645)
وَقَدْ تَرَكْت أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ أَشْبَاهِ هَذَا،وَأَنَا أُحِبُّ تَوْفِيقَ اللَّهِ إيَّاكَ وَطُولَ بَقَائِك ؛ لِمَا أَرْجُو لِلنَّاسِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ،وَمَا أَخَافُ مِنْ الضَّيْعَةِ إذَا ذَهَبَ مِثْلُك مَعَ اسْتِئْنَاسِي بِمَكَانِك،وَإِنْ نَأَتْ الدَّارُ ؛ فَهَذِهِ مَنْزِلَتُك عِنْدِي وَرَأْيِي فِيك فَاسْتَيْقِنْهُ،وَلَا تَتْرُكْ الْكِتَابَ إلَيَّ بِخَبَرِك وَحَالِك وَحَالِ وَلَدِك وَأَهْلِك وَحَاجَةٍ إنْ كَانَتْ لَك أَوْ لِأَحَدٍ يُوصَلُ بِك،فَإِنِّي أُسَرُّ بِذَلِكَ،كَتَبْت إلَيْك وَنَحْنُ صَالِحُونَ مُعَافُونَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ،نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنَا وَإِيَّاكُمْ شُكْرَ مَا أَوْلَانَا وَتَمَامَ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْنَا،وَالسَّلَامُ عَلَيْك وَرَحْمَةُ اللَّهِ (1) .
وإن من المؤسف اليوم أن نجد من بين المشتغلين بالدعوة إلى الإسلام من يشهر سيف الذم والتجريح لكل من يخالفه،متهما إياه بقلة الدين،أو باتباع الهوى أو بالابتداع والانحراف،أو بالنفاق،وربما بالكفر!
وكثير من هؤلاء لا يقتصرون في الحكم على الظواهر،بل يتهمون النيات والسرائر،التي لا يعلم حقيقة ما فيها إلا الله سبحانه،كأنما شقوا عن قلوب العباد واطلعوا على دخائلها!
ولم يكد يسلم من ألسنة هؤلاء أحد من القدامى،أو المحدثين،أو المعاصرين ممن لا يقول بقولهم في قضايا معينة،حتى وجدنا من يسب بعض الأئمة الأربعة في الفقه،ومن يسب بعض أئمة السلوك والزهد.
وهذه من المزالق التي يتورط فيها كثير من المنتسبين إلى التيار الديني: الطعن والتجريح،فيمن يخالف وجهتهم،أو مذهبهم في الاعتقاد أو الفقه أو السلوك.
فتجد بعض المنتمين إلى مذهب يطعنون في المذهب الآخر وإمامه.
ومن ينتمون إلى الحديث أو السلف يطعنون في الفقهاء كالأئمة الأربعة وكبار أتباعهم ممن لا يشك أحد في علمهم واجتهادهم ودينهم وورعهم.
أو يطعنون في كبار الصوفية الذين أثنى عليهم الربانيون والعلماء المحققون من خيار الأمة،وربما طعنوا في الصوفية جميعا.
وكذلك قد يطعنون في كبار علماء الأشاعرة ويجرحونهم تجريحا منكرا،وهم من لهم منزلة وفضلا في الذب عن هذا الدين،وعن الكتاب والسُّنَّة.
وانظر إلى موقف الإمام ابن القيم من شيخ الإسلام الهروي الأنصاري صاحب كتاب (منازل السائرين إلى مقامات "إياك نعبد وإياك نستعين") الذي شرحه ابن القيم بكتابه (مدارج السالكين) فكثيرا ما خالف الشارح (صاحب المدارج) المؤلف (صاحب المنازل) وبين خطأه فيما ذهب
__________
(1) - إعلام الموقعين عن رب العالمين - (ج 3 / ص 262) وتاريخ ابن معين - الدوري - (2 / 373) والمعرفة والتاريخ - (1 / 167)(1/646)
إليه،وذلك حين لا يجد أي مجال لتأويل كلامه وحمله على أحسن الوجوه الممكنة،ومع ذلك يلتمس له العذر بعد العذر،ويثني عليه وعلى علمه وفضله ومنزلته.
خذ مثلا لذلك ما قاله الهروي في حقائق التوبة،حيث جعل منها (طلب أعذار الخليقة) على نحو ما يقوله كثير من الصوفية أن من نظر إلى الخلق بعين الحقيقة عذرهم،على حين أن من نظر إليهم بعين الشريعة لامهم.
قال ابن القيم رحمه الله:" " ولا ريب أن صاحب المنازل إنما أراد أن يعذرهم بالقدر ويقيم عليهم حكم الأمر فينظر بعين القدر ويعذرهم بها وينظر بعين الأمر ويحملهم عليها بموجبها فلا يحجبه مطالعة الأمر عن القدر ولا ملاحظة القدر عن الأمر.
فهذا وإن كان حقا لا بد منه فلا وجه لعذرهم وليس عذرهم من التوبة في شيء ألبتة ولو كان صحيحا فضلا عن كونه باطلا فلا هم معذورون ولا طلب عذرهم من حقائق التوبة بل التحقيق: أن الغيرة لله والغضب له من حقائق التوبة فتعطيل عذر الخليقة في مخالفة الأمر والنهي وشدة الغضب: هو من علامات تعظيم الحرمة وذلك بأن يكون من حقائق التوبة أولى من عذر مخالفة الأمر والنهي.
ولاسيما أنه يدخل في هذا: عذر عباد الأصنام والأوثان وقتلة الأنبياء وفرعون وهامان ونمروذ بن كنعان وأبو جهل وأصحابه وإبليس وجنوده وكل كافر وظالم ومتعد حدود الله ومنتهك محارم الله فإنهم كلهم تحت القدر وهم من الخليقة أفيكون عذر هؤلاء من حقيقة التوبة؟.
فهذا مما أوجبه السير في طريق الفناء في توحيد الربوبية وجعله الغاية التي يشمر إليها السالكون.
ثم أي موافقة للمحبوب في عذر من لا يعذره هو؟ بل قد اشتد غضبه عليه وأبعده عن قربه وطرده عن بابه ومقته أشد المقت؟ فإذا عذرته فهل يكون عذره إلا تعرضا لسخط المحبوب وسقوطا من عينه؟.
ولا توجب هذه الزلة من شيخ الإسلام إهدار محاسنه وإساءة الظن به فمحله من العلم والإمامة والمعرفة والتقدم في طريق السلوك المحل الذي لا يجهل وكل أحد فمأخوذ من قوله ومتروك إلا المعصوم صلوات الله وسلامه عليه والكامل من عد خطؤه ولا سيما في مثل هذا المجال الضنك والمعترك الصعب الذي زلت فيه أقدام وضلت فيه أفهام وافترقت بالسالكين فيه الطرقات وأشرفوا إلا أقلهم على أودية الهلكات.
وكيف لا؟ وهو البحر الذي تجري سفينة راكبه في موج كالجبال والمعترك الذي تضاءلت لشهوده شجاعة الأبطال وتحيرت فيه عقول ألباء الرجال ووصلت الخليقة إلى ساحله يبغون ركوبه." (1)
__________
(1) - مدارج السالكين - (1 / 197) والصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم - (1 / 133)(1/647)
ومن الخطأ الذي يقع فيه بعض المتدينين: أنهم لا يسمحون للشخص الذي يثقون بمنزلته في العلم أو في الدين،بأي زلة تزلها قدمه في الفكر أو في السلوك،وتراهم بمنزلة واحدة يهدمون جهاد إنسان وجهوده طوال عمره،ويهيلون التراب على تاريخه كله.
3-البعد عن المراء واللدد في الخصومة :
وعامل آخر يقرب بين أصحاب الرأي المختلف،وهو: البعد عن المراء المذموم واللدد في الخصومة.
فالإسلام ـ وإن أمر بالجدال بالتي هي أحسن ـ ذم المراء،الذي يراد منه الغلبة على الخصم بأي طريق،دون التزام بمنطق ولا خضوع لميزان بين الطرفين.
وهذا ما ذم الله به الممارين من أهل الشرك والكفر،بمثل قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) [الحج/8-9]).
ومن هنا جاء في الحديث ذم المراء،والترغيب في البعد عنه.فعَن أَبِى أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِى رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَن تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا وَبِبَيْتٍ فِى وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَن تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِى أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَن حَسَّنَ خُلُقَهُ » (1) .
وعَن أَبِى أُمَامَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - « مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلاَّ أُوتُوا الْجَدَلَ ». ثُمَّ تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - هَذِهِ الآيَةَ {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَل هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (58) سورة الزخرف (2) .
وهذا أمر ملاحظ: أن القوم إذا حرموا التوفيق،تركوا العمل،وغرقوا في الجدل،وبخاصة أن هذا موافق لطبيعة الإنسان التي لم يهذبها الإيمان {ووَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} (54) سورة الكهف.
ونحن نشاهد على الساحة الإسلامية أناسا لا هم لهم إلا الجدل في كل شيء وليس لديهم أدنى استعداد لأن يعدلوا عن أي رأي من آرائهم،وإنما يريدون للآخرين أن يتبعوهم فيما يقولون. فهم على حق دائما،وغيرهم على باطل أبدا. منهم من يجادل في كلمات أعطاها اصطلاحا خاصا،خالفه فيه غيره،ويريد أن يلزم الآخرين برأيه،مع أن علماءنا قالوا: لا مشاحة في الاصطلاح.
ومنهم من يذم التعصب للمذاهب،وهو يقيم مذهبا جديدا،يقاتل الآخرين عليه!
ومن يحرم التقليد ويطلب من الناس أن يقلدوه! أو يمنع تقليد القدامى وهو يقلد بعض المعاصرين!
4- الحوار بالتي هي أحسن :
ومن الدعائم الأساسية في أدب الاختلاف: الحوار بالحسنى،وإذا استخدمنا التعبير القرآني قلنا: الجدال بالتي هي أحسن،وهو ما أمر الله تعالى به في كتابه حين قال: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
__________
(1) - سنن أبى داود(4802 ) صحيح لغيره -الربض : حوالى الجنة وأطرافها
(2) - سنن الترمذى(3562 ) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ(1/648)
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (125) سورة النحل.
وهنا نجد تفرقة في التعبير بين المطلوب في الموعظة والمطلوب في الجدال. ففي الموعظة اكتفى بأن تكون حسنة،أما في الجدال فلم يرض إلا أن يكون بالتي هي أحسن،بمعنى أنه إذا كان هناك أسلوبان،أو طريقتان إحداهما حسنة،والأخرى أحسن منها وأفضل،فالمأمور به أن نتبع التي هي أحسن.
وسر ذلك: أن الموعظة ترجع ـ عادة ـ إلى الموافقين الملتزمين بالمبدأ والفكرة،فهم لا يحتاجون إلا إلى موعظة تذكرهم،وترقق قلوبهم وتجلو صدأهم،وتقوي عزائمهم،على حين يوجه الجدال ـ عادة ـ إلى المخالفين،الذين قد يدفع الخلاف معهم إلى شيء من القسوة في التعبير،أو الخشونة في التعامل،أو العنف في الجدل،فكان من الحكمة أن يطلب القرآن اتخاذ أحسن الطرائق وأمثلها للجدال أو الحوار،حتى يؤتي أكله.
ومن هذه الطرائق أو الأساليب أن يختار المجادل أرق التعبيرات وألطفها في مخاطبة الطرف الآخر.
إن بعض المتحاورين في مسائل العلم والدين،يخيل إليك أنهم يتقاتلون لا أنهم يتجادلون،وإن الذي في إيمانهم ليس قلما يقطر مدادا أسود بل سيفا يقطر دما أحمر.
وكان الأولى أن يغلب الجو العلمي بهدوئه ورزانته على الجو الانفعالي بشدته وسخونته،وأن تهب الكلمات من الجانبين نسائم تنعش،لا أعاصير تدمر.
إن الكلمة العنيفة لا لزوم لها،ولا ثمرة تجتني من ورائها،إلا أنها تجرح المشاعر،وتغير مودة القلوب،وإن قال شوقي: اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.
ولكن هذا إنما يكون في الاختلاف الملتزم بآداب الحوار وموضوعيته،والبعد عن الإثارة والتهييج،أما الحوار الذي يصحبه العنف والاتهام والتجريح فالأغلب أنه يفسد الود،ويعكر صفاء الأنفس بل قد يخشى إذا ذهب الود أن لا يعود مرة أخرى،على نحو ما قال الشاعر:
إن القلوب إذا تنافر ودها مثل الزجاجة كسرها لا يجبر!
إن حسن اختيار بعض الجمل أو العبارات المناسبة في بعض الأحيان يحل مشكلات،ويفض اشتباكات.
وعَن أَنَسٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ :« يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا،وَبَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا » (1) .
5- حسن المقصد:
فليس المقصود من الحوار العلو في الأرض،ولا الفساد،ولا الانتصار للنفس،ولكن المقصود الوصول إلى الحق.
__________
(1) - صحيح البخاري(69)(1/649)
والله تعالى يعلم من قلب المحاور ما إن كان يهدف إلى ذلك أم يهدف إلى الانتصار،والتحدث في المجالس أنه أفحم خصمه بالحجة.
ضع في اعتبارك أنه يحتمل أن يكون الخطأ عندك والصواب عند غيرك،فالله تعالى لم يحابك،ويختصك دون بقية خلقه بالعلم والفهم والإدراك والعقل،فإذا كان عندك حق،فعند غيرك حق،وقد يكون عندك حق كثير،وعنده حق قليل،وقد يكون العكس.
فعلى المسلم أن يطلب الحق بحسن نية،وألا يكون هدفه وهو يسمع كلام خصمه أن يرد عليه متى سكت؛ بل هدفه الوصول إلى الحقيقة،ولهذا كان الإمام الشافعي رحمه الله يقول: "ما ناظرت أحدًا قط إلا أحببت أن يوفق ويُسدَّد ويعان،ويكون عليه رعاية من الله وحفظ،وما ناظرت أحدًا إلا ولم أبال بيَّن الله الحق على لساني أو لسانه". (1)
وهذه -والله- أخلاق أتباع الأنبياء؛ لأنه يبتغي إحقاق الحق لا إسقاط الخصم .
6- التواضع بالقول والفعل:
من آداب الحوار: التواضع،وتجنُّب ما يدل على العجب والغرور والكبرياء.
فبعض الناس إذا حاور شخصًا أو حادثه أعرض ونأى بجانبه،وازورَّ لا يلتفت إلى خصمه،إشارة إلى السخرية وعدم الاكتراث به،وربما ظهر على قسمات وجهه أو حركات حاجبيه أو عينيه أو شفتيه ما يدل على السخرية والاستكبار،وربما يزم شفتيه،أو يلوي وجهه،أو يلوي عنقه،أو يشير بطرف عينيه إشارات تعبر عن السخرية والازدراء،فهذا كله من الكبر. عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِى قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ». قَالَ رَجُلٌ إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَالَ « إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ ». (2)
فمن التواضع أن تقبل الحق ممن جاء به حتى ولو كان أعدى أعدائك،وتعدّ ذلك ضالتك المنشودة،فأنت باحث عن الحقيقة أنىَّ وجدتها فأنت أحق بها.
ومن التواضع -أيضًا- ترك استخدام الألفاظ الدالة على التعالي والكبرياء،وازدراء ما عند الآخرين،كأن يقول: نرى كذا،وعندي،وأنا،وقلت،ونحو هذه الألفاظ.
وقد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله وغيره من أهل العلم أن إبليس هو الذي قال: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ) [الأعراف:12]،فـ(أنا) هذه المتعاظمة الرادة للحق هي من إبليس،وقارون هو الذي قال: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص:78]،فالذي يقول: عندي،وهو ليس أهلاً لذلك شبيه بقارون،وسائر المستكبرين تعاظموا في نفوسهم فردُّوا الحق.
7- الإصغاء وحسن الاستماع:
__________
(1) - صفة الصفوة - (1 / 234) وحلية الأولياء - (4 / 100)
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (275 )
البطر : التكبر على الحق فلا يقبله -الغمط : الاحتقار والاستهانة(1/650)
الإصغاء إلى الآخرين فن قَلَّ من يجيده،فأكثرنا يجيد الحديث أكثر من الاستماع،والله سبحانه وتعالى جعل لك لسانًا واحدًا،وجعل لك أذنين حتى تسمع أكثر مما تتكلم،فلابد أن تستمع جيدًا،وأن تستوعب جيدًا ما يقوله الآخرون.
ووضع أذنك للمحدِّث،وحملقة عينيك بوجهه،وتأملك لما قال،يمكن أن يكون دليلاً على قوتك،وقدرتك على الحوار،وإذا وجدت ملاحظات،فيمكن أن تسجلها في ورقة لتتحدث فيها بعدما ينتهي من حديثه.
وهكذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - ،فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ،قَالَ:اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ يَوْمًا،فَقَالُوا:اُنْظُرُوا أَعْلَمَكُمْ بِالسِّحْرِ وَالْكِهَانَةِ وَالشِّعْرِ،فَلْيَأْتِ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي فَرَّقَ جَمَاعَتَنَا،وَشَتَّتْ أَمْرَنَا،وَعَابَ دِينَنَا،فَلْيُكَلِّمْهُ،وَلْيَنْظُرْ مَاذَا يَرُدُّ عَلَيْهِ،فَقَالُوا:مَا نَعْلَمُ أَحَدًا غَيْرَ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ،فَقَالُوا:أَنْتَ يَا أَبَا الْوَلِيد.
فَأَتَاهُ عُتْبَةُ،فَقَالَ:يَا مُحَمَّدُ،أَنْتَ خَيْرٌ،أَمْ عَبْدُ اللهِ ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،ثُمَّ قَالَ:أَنْتَ خَيْرٌ،أَمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ،فَقَالَ:إِنْ كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ هَؤُلاَءِ خَيْرٌ مِنْك،فَقَدْ عَبَدُوا الآلِهَةَ الَّتِي عِبْتَ،وَإِنْ كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّك خَيْرٌ مِنْهُمْ فَتَكَلَّمْ حَتَّى نَسْمَعَ قَوْلَك،إِنَّا وَاللهِ مَا رَأَيْنَا سَخْلَةً قَطُّ أَشْأَمَ عَلَى قَوْمِهِ مِنْك،فَرَّقْتَ جَمَاعَتَنَا،وَشَتَّتَ أَمْرَنَا،وَعِبْتَ دِينَنَا،وَفَضَحْتَنَا فِي الْعَرَبِ،حَتَّى لَقَدْ طَارَ فِيهِمْ أَنَّ فِي قُرَيْشٍ سَاحِرًا،وَأَنَّ فِي قُرَيْشٍ كَاهِنًا،وَاللهِ مَا نَنْتَظِرُ إِلاَّ مِثْلَ صَيْحَةِ الْحُبْلَى،أَنْ يَقُومَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ بِالسُّيُوفِ حَتَّى نَتَفَانَى. أَيُّهَا الرَّجُلُ،إِنْ كَانَ إِنَّمَا بِكَ الْبَاءَةُ،فَاخْتَرْ أَيَّ نِسَاءِ قُرَيْشٍ فَلْنُزَوِّجُك عَشْرًا،وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا بِكَ الْحَاجَةُ،جَمَعْنَا لَك حَتَّى تَكُونَ أَغْنَى قُرَيْشٍ رَجُلاً وَاحِدًا،فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : أَفَرَغْتَ ؟ قَالَ:نَعَمْ،فَقَرَأَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : بسم الله الرَّحْمَن الرحيم{حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَن الرَّحِيمِ} حَتَّى بَلَغَ:{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثُمَّودَ ْ}،فَقَالَ لَهُ عُتْبَةُ:حَسْبُك حَسْبُك،مَا عِنْدَكَ غَيْرُ هَذَا ؟ قَالَ:لاَ،فَرَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ،فَقَالُوا:مَا وَرَاءَك ؟ قَالَ:مَا تَرَكْتُ شَيْئًا أَرَى أَنَّكُمْ تُكَلِّمُونَهُ بِهِ إِلاَّ وَقَدْ كَلَّمْتُهُ بِهِ،فَقَالُوا:فَهَلْ أَجَابَك ؟ قَالَ:نَعَمْ ؛ قَالَ:لاَ،وَالَّذِي نَصَبَهَا بَيِّنَةً مَا فَهِمْتُ شَيْئًا مِمَا قَالَ،غَيْرَ أَنَّهُ أَنْذَرَكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثُمَّودَ،قَالُوا:وَيْلَك،يُكَلِّمُك رَجُلٌ بِالْعَرَبِيَّةِ لاَ تَدْرِي مَا قَالَ،قَالَ:لاَ وَاللهِ،مَا فَهِمْتُ شَيْئًا مِمَا قَالَ غَيْرَ ذِكْرِ الصَّاعِقَةِ." (1)
8- الإنصاف:
وهو أن تكون الحقيقة ضالتك المنشودة،تبحث عنها في كل مكان،وفي كل عقل.
جرِّد نفسك،ولا تبالِ بالناس رضوا أم سخطوا،وكن باحثًا عن الحقيقة،وليعلم ربك من قلبك أنه ليس في قلبك إلا محبة الله تعالى،ومحبة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ،وحب الحق الذي يحبه الله ورسوله.
فلتستخلص الحق من خصمك،ولو من بين ركام الباطل الكثير الذي ربما جاء به.
وربما أجرى الله تعالى كلمة الحق على لسان الفاسق،أو حتى على لسان الكافر -أحيانًا-،فيمكن أن تستفيد من المحاور ولو كان فاسقًا أو كافرًا،فقد تستفيد منه عيبًا موجودًا عندك أو عند المسلمين،أو تستفيد منه مصلحة دنيوية للمسلمين،أو أسلوبًا من أساليب الدعوة إلى الله تعالى،ربما فطن له هو،وغفلت أنت عنه.
__________
(1) - مصنف ابن أبي شيبة - (20 / 236) (37715) حسن(1/651)
وللشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله كلمة حكيمة جميلة،يقول فيها معبِّرًا عن رد الحق عند الكثيرين: "إن الذين لديهم ذكاء حاد لا يقبلون الصواب غالبًا إلا إذا كان من عند أنفسهم؛ وذلك أن الله تعالى أعطاهم قدرات وطاقات عالية،وُفِّقوا بسببها إلى كثير من الحق الذي أخطأ فيه الناس؛ ولذلك فلديهم من الثقة بآرائهم وعدم الثقة بآراء الآخرين،ما يصعب معه على الناس إقناعهم بغير الآراء التي يرون هم".
إن الاعتراف بالحق وإعلانه -أيضًا- لا ينقص من قيمة الإنسان،فكونك تقول في مناظرة أو محاورة أو محاضرة: أنا أخطأت في كذا،هذا لا يعيبك؛ بل هذا يرفع منزلتك عند الناس،ويدل على شجاعتك وقوتك،وثقتك بنفسك.
9- البدء بمواضع الاتفاق والإجماع والمسلَّمات والبدهيات:
فمن المصلحة ألا تبدأ الحوار بقضية مختلف فيها؛ بل ابدأ بموضوع متفق عليه،أو بقاعدة كلية مسلَّمة أو بدهية،وتدرج منها إلى ما يشبهها أو يقاربها،ثم إلى مواضع الخلاف.
فممَّا يذكر عن سقراط -وهو أحد حكماء اليونان-،أنه كان يبدأ مع خصمه بنقاط الاتفاق بينهما،ويسأله أسئلة لا يملك الخصم أن يجيبه عليها إلا بنعم،ويظل ينقله إلى الجواب تلو الآخر،حتى يرى المناظر أنه أصبح يُقر بفكرة كان يرفضها من قبل.
وأضرب مثالاً على قضية الانتقال من الكليات إلى الجزئيات،أو من المسلَّمات إلى غير المسلمات:
قد يخاصمك إنسان في قضية أساليب الدعوة إلى الله تعالى،هل هي توقيفية،أي لابد أن يكون فيه نص على أسلوب الدعوة؟ أم أنها أساليب اجتهادية متجددة،يمكن أن آخذ بأي أسلوب،ولو لم يكن منصوصًا عليه،إذا لم يكن هذا الأسلوب حرامًا؟
مثال: النشيد،قد يقول قائل: إن النشيد أسلوب من أساليب الدعوة،ويقول آخر: لا. أساليب الدعوة توقيفية،والنشيد ما ورد في الكتاب ولا في السنة،فلا يجوز استخدام النشيد كأسلوب من أساليب الدعوة،وهذا يختلف فيه بعض العلماء والدعاة في هذا العصر،ويتحاورون فيه.
والنقاش حول مشروعية النشيد كأسلوب للدعوة،قد يكون موضوعًا جزئيًّا شكليًّا،ولكن لا مانع من ذكره للإيضاح فقط،فأرى أن تبدأ النقاش بهذا السؤال: لو أن إنسانًا أنشد نشيدًا ليس فيه معصية ولا كلام باطل محرم،وغير مصحوب بدف ولا مزمار ولا غيره،وهذا الكلام أنشده على سبيل الترويح عن النفس،أو المؤانسة،أو قطع عناء الطريق في سفر؛ هل هذا يحرم أم لا؟
سيقول لك الطرف الآخر: لا يحرم؛ بل هو طيب،ثم تنتقل وتسأله سؤالاً آخر: هل يوجد شيء في الشريعة يكون مباحًا غير حرام بشرط عدم إصلاح النية فيه،فإذا صلحت النية كان هذا الشيء حرامًا ؟ سيقول لك: لا.
إذًا: فمن أين لك أن قراءة بعض الأناشيد بنية صالحة؛ بهدف إشغال الناس -مثلاً- عن الغناء المحرم،أو رفع معنوياتهم،أو تلقينهم الحكم،والمعاني الرفيعة؛ أن هذا العمل يكون حرامًا؟!(1/652)
قد يقول البعض: إن هذا عبادة والعبادة توقيفية،فيقال: من أين لك أن هذا داخل في باب العبادة التي هي القربى؟
إن العبادة أنواع: فقد تطلق العبادة على العبادات التوقيفية،التي هي القرب كالصلاة -مثلاً- والحج،فإحداث صفة جديدة للصلاة أو الحج لا يجوز؛ بل هو بدعة؛ لأن الصلاة توقيفية،وهي قُربة محضة إلى الله تعالى.
وهناك أعمال أخرى يمكن أن يكون الإنسان مأجورًا عليها،ولا يُطلق عليها أنها قربة محضة إلى الله تعالى فعَنْ أَبِي ذَرٍّ؛أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالُوا لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - : يَا رَسُولَ اللهِ،ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالأُجُورِ،يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي،وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ،وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ،قَالَ:أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ،إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً،وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ،وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ،وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ،وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ،وَنَهْىٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ،وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ،قَالُوا:يَا رَسُولَ اللهِ،أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ ؟ قَالَ:أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ،أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلاَلِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ." (1)
فليس معنى ذلك أن جماع الإنسان لزوجته يكون عبادة بذاته،وليس قربة محضة إلى الله عز وجل،لكن يؤجر عليه الإنسان ما دام في الحلال،وقد أصلح صاحبه فيه النية.
كذلك القول في الأناشيد،مع التنبيه أنه لابد من ضوابط بطبيعة الحال،مثل: عدم الإكثار منها،وخلوها من المعاني السيئة،وألا تكون مصحوبة بآلات محرمة،إلى غير ذلك.
10- ترك التعصب لغير الحق:
فلو حاورت إنسانًا،فتناول معهدًا تعمل فيه،أو مقالة كتبتها،أو كتابًا ألَّفته،أو محاضرة ألقيتها،أو تناول جهة -تُحسب أنت عليها- بالانتقاص والسب وتتبع الأخطاء،فإياك أن تتعصب لهذا الشيء الذي تنتمي وتنتسب إليه،ثم تبادر بالرد،وتقوم بتقديم كشف بالإيجابيات والحسنات في مقابل الكشف الذي قدمه هو بالأخطاء،والسلبيات..،لا؛ بل عليك بالأمور التالية:
- أولاً: دع زمام الحديث بيده حتى ينتهي -كما اتفقنا قبل قليل-.
- ثانيًا: اعترف بصوابه فيما أصاب فيه،والحق ضالة المؤمن -كما سبق-.
- ثالثًا: إذا انتهى فانقد الخطأ بطريقة علمية،بعيدة عن العواطف.
وما أعز وأصعب وأندر أن يتخلص الإنسان من التعصب -أي لون من ألوان التعصب-؛ فإن الحزبيات قد أثَّرت في المسلمين تأثيرًا كبيرًا جدًّا.
__________
(1) - صحيح مسلم- المكنز - (2376) -الدثور : جمع دثر وهو المال العظيم(1/653)
فمثلاً: يتعصب الإنسان -أحيانًا- لمذهب أو لوطن،أو قبيلة،أو لدعوة،أو لجماعة،فهذا ما يُسمى بالحزبية،بحيث يحيط هذا الشيء بعقله،فلا يملك عقلاً متحررًا من القيود والأوهام؛ بل تجده يدور في فلك معين،ولا يستطيع أن يتقبل الحق إلا في إطار محدود.
11- احترام الطرف الآخر:
فنحن مأمورون أن نُنزل الناس منازلهم،وألا نبخس الناس أشياءهم.
فيا أخي المسلم الداعية،ليس النجاح في الحوار والمناظرة مرهونًا بإسقاطك لشخصية الطرف الآخر الذي تناظره،ولا إسقاطك لشخصيته يعني أنك نجحت في المناظرة؛ بل ربما يرتد الأمر عليك،ويكون هذا دليلاً على إفلاسك وعجزك،وأنك لا تملك الحجة؛ فاشتغلت بالمتكلِّم عن الكلام.
والناس اليوم تعي وتعقل،ولو أنك سندت قولاً من الأقوال الباطلة الزائفة حينًا من الزمن بالتهويش،واللجاج،فإن هذا القول الذي لا يسنده الحق سرعان ما ينهار ويتهاوى بمجرد غفلة السَّاعين به،أو انشغالهم عنه بغيره،فيموت وينساه الناس.
فعَنْ عَبْدِ اللهِ،قَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ،وَلاَ اللِّعَانِ،وَلاَ الْبَذِيءِ،وَلاَ الْفَاحِشِ. (1)
فالمؤمن ليس باللعان،ولا بالطعان في الناس وأعراضهم،ونياتهم ومقاصدهم وأحوالهم،ولا بالفاحش،ولا بالبذيء.
وعَنْ مَسْرُوقٍ،قَالَ:قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو:إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا،وَلاَ مُتَفَحِّشًا،وَكَانَ يَقُولُ:خِيَارُكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلاَقًا. (2)
وعَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ الْجَدَلِيِّ،قَالَ:قُلْتُ لِعَائِشَةَ:كَيْفَ كَانَ خُلُقُ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَهْلِهِ ؟ قَالَتْ:كَانَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا،لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا،وَلاَ مُتَفَحِّشًا،وَلاَ سَخَّابًا فِي الأَسْوَاقِ،وَلاَ يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ،وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ. (3)
فهذا حال النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفته،وهذا كلامه في وصف المؤمن،أنه لا يحب الفحش ولا التفحش.
ومن بديع احترام رأي الآخرين،ما ينقل عن الإمام مالك: أنه لمَّا ألَّف الموطأ،ومكث أربعين سنة يؤلفه،وقرئ عليه آلاف المرات،وعرضه على سبعين من العلماء فأقروه عليه،وتعب فيه أيما تعب،ومع ذلك لمَّا بلغ الخليفة المنصور كتاب مالك وأعجبه،قال ابن سعد :" أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ،قَالَ:سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ،يَقُولُ:لَمَّا حَجَّ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ دَعَانِي فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَحَادَثْتُهُ،وَسَأَلَنِي فَأَجَبْتُهُ،فَقَالَ:إِنِّي قَدْ عَزَمْتُ أَنْ آمُرَ بِكُتُبِكَ هَذِهِ الَّتِي وَضَعْتَهَا يَعْنِي الْمُوَطَّأَ فَتُنْسَخُ نُسَخًا،ثُمَّ أَبْعَثُ إِلَى كُلِّ مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا بِنُسْخَةٍ،وَآمَرُهُمْ أَنْ يُعَلِّمُوا بِمَا فِيهَا لَا يَتَعَدَّوْهُ
__________
(1) - صحيح ابن حبان - (1 / 421)(192) صحيح
(2) - صحيح البخارى- المكنز - (3559 ) وصحيح مسلم- المكنز - (6177 ) وصحيح ابن حبان - (14 / 354)(6442)
(3) - صحيح ابن حبان - (14 / 355) (6443) صحيح(1/654)
إِلَى غَيْرِهِ،وَيَدَعُوا مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ الْمُحْدَثِ فَإِنِّي رَأَيْتُ أَصْلَ الْعِلْمِ رِوَايَةَ الْمَدِينَةِ وَعِلْمِهِمْ،قَالَ:فَقُلْتُ:يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَفْعَلْ هَذَا،فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ سَبَقَتْ إِلَيْهِمْ أَقَاوِيلُ،وَسَمَعُوا أَحَادِيثَ وَرَوَوْا رِوَايَاتٍ،وَأَخَذَ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا سَبَقَ إِلَيْهِمْ وَعَلِمُوا بِهِ،وَدَانُوا بِهِ مِنِ اخْتِلَافِ النَّاسِ وَغَيْرِهِمْ،وَإِنَّ رَدَّهُمْ عَمَّا قَدِ اعْتَقَدُوهُ شَدِيدٌ،فَدَعِ النَّاسَ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ،وَمَا اخْتَارَ كُلُّ أَهْلِ بَلَدٍ مِنْهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ،فَقَالَ:لَعَمْرِي لَوْ طَاوَعْتَنِي عَلَى ذَلِكَ لَأَمَرْتُ بِهِ" (1)
فلا حاجة إلى اللجوء إلى تبكيت الشخص الذي تخاصمه وإحراجه والسخرية منه .
12- الموضوعية:
الموضوعية تعني: رعاية الموضوع،وعدم الخروج عنه.
- فمن الموضوعية: عدم الهروب من الموضوع الأساسي إلى غيره. إن بعض الناس إذا أحرجته في موضوع هرب منه إلى موضوع آخر،فهو ينتقل من موضوع إلى موضوع،وكلما أُحرج في نقطة انسحب منها إلى غيرها،ونقل الحديث نقلة بعيدة أو قريبة.
ولعل هذا أعظم أدواء المناظرة،التي تجعل الإنسان يخرج منها -ربما بعد ساعات- دون طائل،والموضوع يقتضي ألا تخرج من نقطة إلا إذا انتهيت منها،ثم تنتقل إلى غيرها.
-كذلك من الموضوعية: عدم إدخال موضوع في آخر،فقد تتكلم مع إنسان في قضية حجاب المرأة المسلمة،وضرورة التزامها بالستر،وبُعدها عن السفور،وعن الاختلاط بالرجال الأجانب،أو الذهاب إلى أماكن اللهو والفساد وغير ذلك،فتجد أنه بدلاً من أن يناقشك في هذا الموضوع يقول: يا أخي،الناس قد وصلوا إلى القمر،وأنت لازلت تجادل في هذا الموضوع!
فما علاقة وصول الناس إلى القمر أو عدم وصولهم بقضية مطالبتنا بحجاب المرأة المسلمة؟! أليس هذا إدخالاً لموضوع في قضية أخرى لا يتعلق بها؟
وقد تُكلِّم إنسانًا -مثلاً- في قضية الغناء الفاحش البذيء،الذي أصبح يصك الأسماع،ويهيِّج الغرائز،ويدعو إلى الرذيلة،فيقول لك: يا أخي،المسلمون يُقتلون في مشارق البلاد ومغاربها،وتسفك دماؤهم،وتنتهك أعراضهم،وأنت لازلت تتكلم في هذه الجزئيات؟!
فما دمنا قد اتفقنا أن موضوع الغناء هو مادة الحوار الذي سيناقَش،فما دخل قضية قتل المسلمين بذلك؟ وهل إذا تركنا الحديث عن الغناء أو الحديث عن حجاب المرأة المسلمة،ستُحل مشاكل المسلمين،ويُرفع الظلم عن المظلومين؟!
-كذلك من الموضوعية: عدم النيل من المتحدث باتهامه في نيته أو الكلام على شخصه،فبعض الناس يقول: من هذا الإنسان؟ ما هدفه؟ ما تاريخه؟ من وراءه؟ ما درجته من العلم؟ ما قدره؟
__________
(1) - الطَّبَقَاتُ الْكُبْرَى لِابْنِ سَعْدٍ (6606 )(1/655)
فيا أخي،ما علاقتك بهذا الشخص المتكلِّم؟ المهم أن أمامك دعوى وكلامًا ومطلوب منك مناقشته بالحجة والبرهان،فدع المتكلم جانبًا،وانظر في الكلام الذي قيل،وما قدره من الخطأ أو من الصواب؟
اعْمَلْ بِقَوْلِي وَإِنْ قَصَّرْت فِي عَمَلِي يَنْفَعْك قَوْلِي وَلَا يَضْرُرْك تَقْصِيرِي (1)
-كذلك ليس من الموضوعية: الاشتغال بالأيمان المغلظة،والله سبحانه وتعالى ذمَّ الذين يكثرون من اليمين: قال تعالى: (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ.هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ.مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ.عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) [القلم:10-13]،فهذا دعيٌّ ملصق في أهل العلم وليس منهم،وملصق في قومه وليس منهم،ومع ذلك يكثر من الأيمان الكاذبة،أو قد لا تكون كاذبة لكن اليمين ليس حجة،فكونك تحلف بالله العظيم الذي لا إله إلا هو أن هذا هو الحق،فهذا لا يقدِّم ولا يؤخِّر.
قد تكون مقتنعًا فعلاً أنه هو الحق،لكن قناعتك هذه ليست نابعة من دراستك،أو معرفتك بالحجج والأدلة؛ ولكنها نابعة عما تلقيته عن شيخ تعظمه فوقر في قلبك،أو درسته منذ صغرك فاستقر في قراره في نفسك،وليس لأن لديك دليلاً قويًّا على أنه هو الحق.
وفرق بين أن تكون مقتنعًا قناعة مطلقة بأنه هو الحق،فتحلف على ذلك،فإذا حلفتَ أنت عرفتُ أنك تعتقد أنه هو الحق،ولكن لا يلزم أن يكون هو الحق،فقد تراه حقًّا وتحلف عليه،والواقع أن الحق بخلافه.
-كذلك من الموضوعية: تجنب الكذب في الحديث،فإن المناظر قد يكذب أحيانًا،فقد سمعت مرة مناظرة بين اثنين في قضية أحدهما شيعي،فقام الشيعي وقال: روى الإمام أحمد في مسنده،وذكر حديثًا موضوعًا مختلقًا،وهذا الحديث إذا رجعت للجزء والصفحة من المسند،لا تجده،لكنه يعرف أن الخصم ليس عنده وقت حتى يرجع للمسند،ويتأكد من صحة الحديث،ومن البعيد جدًّا أن يكون قد أحاط بمسند الإمام أحمد حتى يعرف ما فيه،مما ليس فيه،فيستغل حديثًا مختلقًا ليضر به الخصم،وينسبه إلى كتاب من هذه الكتب،وربما ينطلي عليه.
فهذا ليس من الموضوعية في شيء،وإذا لم يكتشفه الخصم حال المناقشة فسيكتشفه فيما بعد،ويبين أنك كنت كاذبًا فيما ادعيت.
ومثل الكذب وأخوه بتر النصوص،وهو أن تنقل نصًّا طويلاً،فتجتزئ الكلام الذي يصلح لك،ويدل على ما تريد،وتترك الباقي،فهذا ليس من الأمانة؛ بل عليك أن تنقل الكلام كاملاً حتى يشاركك الناس فيما استنتجته،فإما أن يقرُّوك،وإما أن يخالفوك في الفهم.
ثم إن هذا الكلام أيضًا قد يقوله الإنسان ولا يُدرى كل ما وراءه،فالكلام يُفهم من حال المتكلم،ومن سياقه،ومن نصوصه الأخرى،ومن سيرة قائله،كما ذكر الإمام ابن القيم في مواضع من كتبه: أن كلام
__________
(1) - أدب الدنيا والدين - (1 / 89)(1/656)
الناس -يعني كلام البشر- يفهم على ضوء الشخص المتكلم،وظروفه،وما يُعلم عن المتكلم وأحواله،فإذا صدر كلام من شخص يحتمل أكثر من معنى عرفنا أن الذي يليق بفلان من المعاني هو كيت،وكيت،وإن كان الكلام يحتمل غيره؛ لأن كلام الناس يحتمل وجوهًا.
-كما أن من الموضوعية: إذا لم تعرف مسألة ما أن تقول: لا أدري،وإذا ترك العالم لا أدري،أصيبت مقاتله،كما كان السلف يقولون: ويجب على العالم أن يعلم تلاميذه وطلابه قول: "لا أدري"؛ حتى يلجؤوا إليها فيما لا يعلمون.
- ومن الموضوعية: التوثيق العلمي،يعني إذا استدللت فلا تستدل بشائعات أو ظنون أو أوهام استقرت في عقلك أو في عقل من أمامك من الناس؛ بل استدل بالنصوص،والأدلة الواضحة؛ والبراهين الثابتة،والإحصاءات الدقيقة،قال رسوله - صلى الله عليه وسلم - ،وبراهين العلماء،تستدل بحقائق علمية،وتوثِّق ما تقول،أما مجرد الظنون والأوهام والشائعات،فإنها لا تصلح أدلة.
13- عدم الإلزام بما لا يلزم أو المؤاخذة باللازم:
فإذا خالف إنسان أحد العلماء في قول،تأتي فتقول له: يا أخي،أنت خالفت فلانًا العالم،وهذا يلزم منه أنك ترى نفسك أعلم منه.
وهذا غير صحيح،فلا يلزم من قوله وخلافه للعالم الفلاني ذلك،فقد يخالفه في هذه المسألة باجتهاده،وهو يعرف أن هذا العالم أعلم منه في كل المسائل،لكن هذه المسألة لا يسعه أن يقلده فيها،كما لا يلزم من مخالفته له أن أن يخطِّئه أو يضلِّله.
كذلك يأتي إنسان فيقول: فلان قال قولاً ما سُبق إليه،وهذا يلزم منه أنه يحكم بأن الحق قد غاب عن الأمة كلها طيلة القرون الماضية.. والصحيح أنه لا يلزم ذلك.
وقد يكون هذا القول قد سُبق إليه،وقال به غيره من قبل،وعلى فرض أنه ما قال به أحد قبله،فقد يحدث أنه لم ينقل مع كونه قد قيل من قبل.
وحتى لو فُرض أنه لم يُسبق إليه،فهو لا يرى أن هذا من الحق الذي يجب أن تعلمه الأمة في كل زمان ومكان؛ بل يرى أن هذا من الأشياء الاجتهادية التي قد يقول بها إنسان،وربما تحتاجها الأمة أو لا تحتاجها،فليس فرضًا أن تعلمه الأمة في كل حين وكل زمن وكل مكان،أو أن يقول به من قال به،وقد يرى أن المسألة ما نقل فيها قول -أصلاً-.
والإلزام -بأن تلزم إنسانًا بمقتضى كلامه- من المشكلات؛ لأن اللازم يصلح في كلام الله تعالى،فتقول: الآية يلزم منها كذا،واللازم يعتبر دليلاً من أنواع الدلالات،وكما يقول علماء الأصول: الدلالات ثلاث: دلالة المطابقة،ودلالة التضمن،ودلالة الإلزام،يعني: يلزم من هذا النص كذا وكذا.(1/657)
فهذا يصح في كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - ،أما كلام الناس فلا إلزام فيه بشيء ما،تقول: يلزم من كلامه كذا وكذا،رغم أنه ما خطر في باله هذا اللازم،ولا فكَّر فيه يومًا من الأيام،وقد لا يوافقك على أنه لازم،ولو وافقك على أنه لازم قد لا يُقر به،فلماذا تلزم الناس بشيء لم يلتزموا به؟
ولذلك من باطل اللوازم أن الشاعر ابن الرومي حاول أن يستخدم هذا الإلزام بطريقة ماجنة،فكان أهل العراق الأحناف يقولون بجواز النبيذ،وأهل الحجاز يقولون بتحريمه مثل الخمر،فيقولون النبيذ والخمر سواء،فكان هذا الشاعر الماجن الخبيث يقول (1) :
أحل العراقيُّ النبيذَ وشربهُ وقال الحرامان المدامة ُ والسُّكرُ
وقال الحجازيُّ الشرابان واحد فحلّتْ لنا بين اختلافهما الخمرُ
سآخذ من قوليهما طرفيهما وأشربها لافارقَ الوازر الوزر
ولا شك أن من قال بحل الخمر فهو كافر؛ لأن تحريمها ثابت بنص القرآن الكريم،قال تعالى: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأََنْصَابُ وَالأََزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) [المائدة:90]،لكني أردت أن أبيِّن فساد الالتزامات والإلزامات التي يختلقها البعض ويحاول أن يحاصر بها الآخرين.
14- اعتدال الصوت:
لا تبالغ في رفع الصوت أثناء الحوار،فليس من قوة الحجة المبالغة في رفع الصوت في النقاش والحوار؛ بل كلَّما كان الإنسان أهدأ كان أعمق؛ ولهذا تجد ضجيج البحر وصخبه على الشاطئ،حيث الصخور والمياه الضحلة،وحيث لا جواهر ولا درر،فإذا مشيت إلى عمق البحر ولجته وجدت الهدوء،حيث الماء العميق ونفائس البحر وكنوزه؛ لذلك يقول المثل الغربي: "الماء العميق أهدأ".
حوار بين إسحق والشافعي:
هذا حوار جرى بين إسحاق بن راهويه رحمه الله -إمام من أئمة أهل الحديث- وبين الشافعي.
يقول إسحاق: إن الإمام أحمد لمَّا كان في مكة،قال: لماذا لا تذهب للشافعي وتستفيد منه؟ قلت له: كيف أترك ابن عيينة والمشايخ وأذهب إلى الإمام الشافعي؟ قال له: يفوت وهم لا يفوتون.
قال: فذهبنا إليه فتناظرنا في كراء (2) بيوت مكة،هل تكرى،أو لا تكرى؟ قال: فتكلمت مع الشافعي وتحمست؛ ولكن الشافعي كان متساهلاً،فتكلَّمت بالفارسية مع رجل جانبي،وذكر كلمة بالفارسية معناها: هذا ليس عنده كمال -يعني الشافعي-،قال: فعلم الشافعي أني أسبه،وإن كان لا يجيد اللغة،فقال: هل تريد أن تناظرني؟ قلت: من أجل المناظرة جئت!
قال: أرأيت قول الله تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) [الحشر:8]،أليس الله نسب الديار إلى أربابها،أو إلى غير أربابها؟ قال: قلت: بل إلى أربابها،قال: عمر لما اشترى دار السجن
__________
(1) - محاضرات الأدباء - (1 / 304) و تراجم شعراء موقع أدب - (71 / 109)
(2) - الكِراء: أجر المستأجَر. المعجم الوسيط (2/817).(1/658)
بمكة (1) ،اشتراها من إنسان يملكها،أو لا يملكها؟ قلت: ممن يملكها،قال: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : "وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور" (2)
الدور لهم،أو ليست لهم؟ قلت: لهم.
قال إسحاق: فقلت: الدليل على صحة قولي أنه قال به من التابعين فلان وفلان وفلان،قال: فالتفت الشافعي إلى رجل بجنبه وقال: من هذا؟ قال له: هذا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي،قال: أنت الذي يزعم أهل خراسان أنك فقيههم؟!،قلت: هكذا يزعمون! قال: ما أحوجني أن يكون غيرك في مكانك فآمر بعرك أذنه،-هذا أدب يؤدب به الطالب الصغير-،قال: أقول لك: قال الله،قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنت تقول: قال: عطاء وطاوس والحسن وإبراهيم؟! وهل لأحد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجة؟ (3)
ومثلها قصة أخرى طريفة جرت بحضرة الإمام أحمد،وذلك أن الشافعي وإسحاق تناظرا -أيضًا- في جلود الميتة إذا دُبغت هل تطهر،أو لا تطهر؟ فقال الشافعي: دباغ جلود الميتة طهورها،فإذا دُبغ جلد الميتة طهر،قال إسحاق: ما الدليل؟ قال: الدليل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجد شاة ميتة،أُعطيَتها مولاة لميمونة من الصدقة،فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "هلا انتفعتم بجلدها؟"،قالوا: إنها ميتة،فقال: "إنما حَرُم أكلها" (4)
قال إسحاق: دليلي على أن جلود الميتة لا تطهر: حديث عبد الله بن عكيم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إليهم قبل أن يموت بشهر: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" (5) ،يعني لا بجلد،ولا بعظم،وهذا يمكن أن يكون ناسخًا؛ لأنه قبل موت النبي - صلى الله عليه وسلم - بشهر،قال الشافعي: هذا كتاب الرسول عليه الصلاة والسلام،وذاك سماع،والسماع مقدَّم،فقال له إسحاق: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم،وكان ذلك حجة عليهم عند الله تعالى،فسكت الشافعي.
والغريب في الأمر أن أحمد بن حنبل ذهب بعد تلك المناظرة إلى حديث عبد الله بن عكيم وقال به،ثم رجع عنه فيما بعد،وكذلك رجع إسحاق إلى حديث الشافعي وقال به (6) ، وهذا دليل على تجردهم،وسعيهم للوصول إلى الحق. (7)
- - - - - - - - - - - - -
__________
(1) - قصة شراء عمر لدار السجن أخرجها عبد الرزاق في المصنف (9213)، والفاكهي في أخبار مكة (2076)، والبيهقي في الكبرى (10962).عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ فَرُّوخَ، قَالَ: " إِنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ اشْتَرَى لِعُمَرَ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ دَارَ السِّجْنِ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ فَإِنْ رَضِيَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَإِلَّا فَلِصَفْوَانَ أَرْبَعُمِائَةِ دِرْهَمٍ "أخبار مكة
(2) - صحيح مسلم- المكنز - (3360 )
(3) - انظر القصة بتمامها: في طبقات الشافعية الكبرى (2/90،89).
(4) - صحيح البخارى- المكنز - (1492)
(5) - صحيح ابن حبان - (4 / 93) (1277) وفيه اختلاف في صحته وصححه جمع
(6) - انظر القصة بتمامها: في طبقات الشافعية الكبرى (2/92،91)
(7) - انظر : http://www.saaid.net/mktarat/m/14.htm(1/659)
أهم المصادر
1. أيسر التفاسير لأسعد حومد
2. التفسير الميسر
3. الدر المنثور للسيوطي -موافق للمطبوع
4. تفسير ابن أبي حاتم
5. تفسير ابن كثير - دار طيبة
6. تفسير السعدي
7. تفسير الشعراوي
8. تفسير الطبري - مؤسسة الرسالة
9. تفسير القرطبي ـ موافق للمطبوع
10. فى ظلال القرآن ـ موافقا للمطبوع
11. أخبار مكة للفاكهي
12. اتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة
13. الآحاد والمثاني لابن أبي عاصم
14. الأدب المفرد للبخاري
15. الترغيب والترهيب للمنري
16. التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان
17. السنن الكبرى للإمام النسائي الرسالة
18. السنن الكبرى للبيهقي - حيدر آباد
19. السنن الكبرى للبيهقي- المكنز
20. الشمائل المحمدية للترمذي
21. الفوائد لتمام 414
22. المجالسة وجواهر العلم (333)
23. المدخل إلى السنن الكبرى
24. المستدرك للحاكم مشكلا
25. المسند الجامع
26. المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية (852)
27. المعجم الأوسط للطبراني
28. المعجم الصغير للطبراني
29. المعجم الكبير للطبراني
30. المنتقى من السنن المسندة لابن الجارود
31. بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث
32. بلوغ المرام من أدلة الأحكام
33.(1/660)
تهذيب الآثار للطبري
34. جامع الأحاديث
35. جامع الأصول في أحاديث الرسول
36. دلائل النبوة للبيهقي
37. سنن أبي داود - المكنز
38. سنن ابن ماجة- طبع مؤسسة الرسالة
39. سنن الترمذى- المكنز
40. سنن الدارقطنى- المكنز
41. سنن الدارمى- المكنز
42. سنن النسائي- المكنز
43. شرح مشكل الآثار (321)
44. شرح معاني الآثار (321)
45. شعب الإيمان (458)
46. صحيح ابن حبان
47. صحيح ابن خزيمة مشكل
48. صحيح البخارى- المكنز
49. صحيح مسلم- المكنز
50. عشرة النساء للإمام للنسائي - الطبعة الثالثة
51. غاية المقصد فى زوائد المسند 1
52. غاية المقصد فى زوائد المسند 2
53. كشف الأستار
54. مجمع الزوائد
55. مسند أبي عوانة مشكلا
56. مسند أبي يعلى الموصلي مشكل
57. مسند أحمد (عالم الكتب)
58. مسند احمد بن حنبل ( بأحكام شعيب الأرنؤوط)
59. مسند البزار ( المطبوع باسم البحر الزخار
60. مسند الحميدي - المكنز
61. مسند الشاشي 335
62. مسند الشاميين 360
63. مسند الطيالسي
64. مسند عبد بن حميد
65. مصنف ابن أبي شيبة
66.(1/661)
مصنف عبد الرزاق مشكل
67. معرفة الصحابة لأبي نعيم (430)
68. موسوعة السنة النبوية
69. موطأ مالك- المكنز
70. التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد
71. المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم
72. بحر الفوائد المسمى بمعاني الأخيار للكلاباذي
73. تحفة الأحوذي
74. تيسير العلام شرح عمدة الحكام- للبسام
75. جامع العلوم والحكم محقق
76. دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين
77. شرح ابن بطال
78. شرح النووي على مسلم
79. شرح رياض الصالحين لابن عثيمين
80. عمدة القاري شرح صحيح البخاري
81. عون المعبود
82. فتح الباري لابن حجر
83. فتح القوي المتين في شرح الأربعين وتتمة الخمسين
84. فقه الدعوة في صحيح الإمام البخاري
85. فيض القدير، شرح الجامع الصغير، الإصدار 2
86. مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح
87. معالم السنن للخطابي
88. الفتاوى الكبري لابن تيمية
89. الفقه الإسلامي وأدلته
90. الفقه على المذاهب الأربعة
91. الموسوعة الفقهية الكويتية
92. فتاوى الأزهر
93. فتاوى الإسلام سؤال وجواب
94. فتاوى الشبكة الإسلامية معدلة
95. فتاوى واستشارات الإسلام اليوم
96. فتاوى يسألونك لعفانة1-12
97. مجلة مجمع الفقه الإسلامي
98. مجموع الفتاوى لابن تيمية
99.(1/662)
أدب الدنيا والدين
100. إحياء علوم الدين
101. الآداب الشرعية
102. الأذكار للنووي
103. الزواجر عن اقتراف الكبائر
104. القرآن منهاج حياة
105. الكبائر
106. المدخل لابن الحاج
107. بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية
108. بشارة المحبوب بتكفير الذنوب
109. تربية الأولاد في الإسلام النابلسي
110. تربية الأولاد في الإسلام لعلوان
111. تربية الطفل في الإسلام
112. تهذيب الأخلاق
113. حلية الأولياء
114. روضة العقلاء ونزهة الفضلاء
115. رياض الصالحين
116. صفة الصفوة
117. غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب
118. قوت القلوب
119. كتاب تسلية أهل المصائب
120. لواقح الأنوار القدسية في بيان العهود المحمدية
121. مدارج السالكين
122. موسوعة خطب المنبر - الإصدار الثاني
123. موسوعة فقه القلوب
124. ميزان العمل
125. :http://saaid.net/book/open.php?cat=82&book=4943
126. تاج العروس
127. لسان العرب
128. سير أعلام النبلاء
129. حلية طالب العلم
130. لباب الآداب لأسامة بن منقذ
131. ترتيب المدارك للقاضي عياض رحمه الله
132.(1/663)
الصحيحة للألباني
133. صحيح الجامع الصغير للألباني
134. http://www.d-alsonah.com/vb/showthread.php?t=1704
135. منهاج المسلم للجزائري
136. http://www.odabasham.net/show.php?sid=15006
137. الخلاصة في حقوق النبي صلى الله عليه وسلم للمؤلف
138. التبصرة ـ لابن الجوزى
139. الزهد والرقائق لابن المبارك
140. حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ
141. الزُهْدُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
142. عَمَلُ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لِابْنِ السُّنِّيِّ
143. http://www.kettaneh.net/islam/islam/adaab3.htm
144. http://alboraq.info/archive/index.php/t-42768.html
145. http://www.asdaff.com/t21816.html
146. المغني لابن قدامة
147. المجموع للنووي
148. فَضَائِلُ الصِّحَابَةِ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
149. الدُّعَاءُ لِلطَّبَرَانِيِّ
150. أخلاق النبي لأبي الشيخ الأصبهاني
151. الْجَامِعُ لِأَخْلَاقِ الرَّاوِي وَآدَابِ السَّامِعِ لِلْخَطِيِبِ الْبَغْدَادِيِّ
152. السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث
153. حياة الصحابة للكاندهلوى
154. تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين للشوكاني
155. آفات على الطريق كامل
156. الْجَامِعُ فِي الْحَدِيثِ لِابْنِ وَهْبٍ
157. أَخْبَارُ أَصْبَهَانَ لِأَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبهَانِيِّ
158. الوجيز في حقوق الأولاد للمؤلف
159. الْفَقِيهُ وَالْمُتَفَقِّهُ لِلْخَطِيبِ الْبَغْدَادِيِّ
160. الأربعون للفسوي
161. السنة لابن أبي عاصم
162. عمل اليوم والليلة لابن السني
163. الزهد لوكيع
164. العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني
165.(1/664)
الترغيب في فضائل الأعمال وثواب ذلك لابن شاهين
166. معجم ابن الأعرابي
167. سيرة ابن هشام
168. الزُّهْدُ لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ
169. جَامِعُ بَيَانِ الْعِلْمِ
170. اقتضاء العلم العمل للخطيب البغدادي
171. الأمثال في الحديث
172. القول المسدد في عن مسند أحمد
173. إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين للزبيدي
174. الْمَدْخَلُ إِلَى السُّنَنِ الْكُبْرَى لِلْبَيْهَقِيِّ
175. الْأَرْبَعُونَ حَدِيثًا لِلْآجُرِّيِّ
176. الْمُحَدِّثُ الْفَاصِلُ بَيْنَ الرَّاوِي وَالْوَاعِي لِلرَّامَهُرْمُزِيِّ
177. الْعُزْلَةُ لِلْخَطَّابِيِّ
178. الْإِخْوَانُ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا
179. بداية الهداية
180. فَضَائِلُ الْقُرْآنِ لِلْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ
181. نوادر الأصول فى أحاديث الرسول ـ للترمذى
182. الزهد أبي داود
183. فَضَائِلُ الْقُرْآنِ لِلْقَاسِمِ بْنِ سَلَّامٍ
184. التفسير من سنن سعيد بن منصور
185. أخلاق حملة القرآن للآجري
186. الزُّهْدُ وَالرَّقَائِقُ لِابْنِ الْمُبَارَكِ
187. الدعاء للطبراني
188. سلاح المؤمن في الدعاء والذكر
189. فُنُونُ الْعَجَائِبِ لِأَبِي سَعِيدٍ النَّقَّاشِ
190. تاريخ دمشق ابن عساكر
191. مسند المقلين من الأمراء والسلاطين
192. الْكُنَى وَالْأَسْمَاءُ لِلدُّولَابِيِّ
193. الفتوحات الربانية لابن علان
194. نيل الأوطار للشوكاني
195. الْأَوْسَطُ لِابْنِ الْمُنْذِرِ
196. فَضَائِلُ الْأَوْقَاتِ لِلْبَيْهَقِيِّ
197. فقه الزكاة للقرضاوي
198.(1/665)
فتح القدير للكمال بن الهمام شرح الهداية مطبعة مصطفى محمد
199. رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين محمد أمين طبع إستانبول دار الطباعة العامرة
200. الشفا نسخة شرحه للقاري طبع إستانبول سنة 1316
201. تَفْسِيرُ مُجَاهِدٍ
202. قِيَامُ اللَّيْلِ لِمُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيِّ
203. الاختيار لتعليل المختار لعبد الله بن محمود الموصلي ، طبع مصطفى البابي الحلبي
204. لباب المناسك للسندي وشرحه لعلي القاري طبع المطبعة الأميرية
205. الخلاصة في أحكام الحج والعمرة للمؤلف
206. مَكَارِمُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ
207. تلبيس إبليس لابن الجوزي
208. مَسَاوِئُ الْأَخْلَاقِ لِلْخَرَائِطِيِّ
209. الكامل لابن عدي
210. تراجم شعراء موقع أدب
211. إعلام الموقعين عن رب العالمين
212. تاريخ ابن معين - الدوري -
213. المعرفة والتاريخ للفسوي
214. الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرق المذموم
215. محاضرات الأدباء
216. طبقات الشافعية الكبرى
217. http://www.saaid.net/mktarat/m/14.htm
218. المكتبة الشاملة 3
219. برنامج قالون(1/666)
الفهرس العام
مقدمة عن الأدب وأهميته في الإسلام ... 5
1- تعريف الأدب : ... 5
2- منزلة الأدب وفضله : ... 6
3- حاجتنا إلى الأدب: ... 6
4- مراتب الأدب : ... 7
×أ) الأدب مع الله عز وجل : ... 7
×ب) الأدب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ... 7
×ج) الأدب مع الخلق : ... 8
×د) الأدب مع النفس : ... 8
5- طريق اكتساب الأدب : ... 9
6- الكتب والمصنفات في الأدب الشرعي : ... 10
-1- آداب النية ... 12
-2- الأدب مع الله سبحانه وتعالى ... 16
-3- الأدب مع رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - – ... 21
-4- الأدب مع النفس ... 27
-5-آدابُ الاستيقاظ ... 44
-6-آدابُ قضاء الحاجة ... 48
-7-آداب الوضوء ... 52
-8-آداب الصلاة ... 56
-9-آداب الطعام ... 64
-9-آداب الطعام ... 64
-10-آداب الشرب ... 73
-11-آداب اللباس ... 79
-12-آداب الكلام ... 88
-13-آداب بيتية ... 103
-14- آداب الابن مع الوالدين ... 108
-15- آداب الأخ مع إخوته ... 114
-16- الأدب مع الأولاد ... 119
الحقُّ الأول -اختيار الزوجة الصالحة ... 119
الحقُّ الثاني -إتباع السنَّة في المعاشرة الزوجية وطلب الولد الصالح ... 119
الحق الثالث -إتباعُ السنَّة في استقبال المولود ... 119
الحقُّ الرابع -الرضا بقسمة الله من الذكور والإناث وعدم تسخط البنات ... 120
الحقُّ الخامس -أن يختار له مرضعة صالحة إنْ فقد أمه ... 120
الحقُّ السادس -أن تحضن الأم ابنها ... 121(1/667)
الحقُّ السابع -أن يعلِّمه والداه كتاب الله و ما يلزم من العلوم الضرورية ... 121
الحقُّ الثامن -ألا يرزقه إلا طيباً من الكسب الحلال ... 121
الحقُّ التاسع -أن يعلِّمه الصلاة ويعوِّده عليها ... 121
الحقُّ العاشر - أن يدربه على الصوم ... 122
الحقُّ الحادي عشر -تربية البنات على الحجاب ... 122
الحقُّ الثاني عشر - أن يعلَّم الأطفال آداب الاستئذان في الدخول ... 122
الحقُّ الثالث عشر -أن يعدل الوالدان بين أولادهم ... 123
الحقُّ الرابع عشر - تخيِّرُ الصحبة الصالحة لهم ... 123
الحقُّ الخامس عشر -توفير أسباب اللهو واللعب المفيد ... 123
الحق السادس عشر -أن يعوله حتى سن الرشد ... 124
الحقُّ السابع عشر - الرحمة وما يتفرع عنها من حب وحنان وعطف ... 124
الحقُّ الثامن عشر -من حق الأولاد التأديب ... 125
الحقُّ التاسع عشر - تعليم الولد أحكام المراهقة والبلوغ ... 125
الحقُّ العشرون - أن يبحث الوالدان لولدهما عن الزوجة الصالحة ... 126
- 17-آداب الطريق ... 128
-18-آداب الدراسة والمدرسة ... 133
-19-آداب شخصية ... 136
-20-آداب النوم ... 141
-21-آداب الغسل ودخول الحمام ... 146
-22-آداب المسجد ... 152
-23-آداب صلاة الجماعة ... 164
-24-آداب العالِم ... 178
-25-آداب المتعلم ... 196
-26-آداب تلاوة القرآن الكريم ... 215
فضائل بعض سور القرآن الكريم ... 252
-27-آداب ذكر الله تعالى ... 258
بعض الأذكار المسنونة ... 280
-28-آداب الدعاء ... 285
-29-آداب الجمعة ... 314
-30-آداب العيدين ... 325
آداب عيد الفطر: ... 327
آداب عيد الأضحى: ... 331
-31-آداب الصيام ... 334
-32-آداب الزكاة والصدقات ... 346
-33-آداب الحج والزيارة ... 362
-34-آداب العمل والمعاش والبيع والشعار ... 384
-35-آداب الصلة ... 400(1/668)
ا-آداب صلة الرحم: ... 400
ب -آداب الجار: ... 408
جـ -آداب عيادة المريض: ... 410
د-آداب الصلة بالميت "التعزية": ... 412
هـ- الأدب مع الكافر : ... 418
-36-آداب الصحبة ... 425
-37-آداب السلام ... 438
-38-آداب الاستئذان ... 456
-39-آداب المجلس ... 463
-40-آداب النزهات ... 468
-41- آداب اللقاء ... 471
-42- آداب الزيارة ... 476
-43- آداب الضيافة ... 482
-44- آداب المعاشرات ... 490
-45- آداب الرؤيا ... 509
-46- آداب عشرة النساء ... 517
-47- آداب الكلام ... 527
-48- آداب الدعاء ... 542
-49- آداب الشورى ... 558
-50- آداب النصيحة ... 598
-51- آداب الدعوة ... 603
-52- آداب العمل ... 616
-53- آداب الحزن في الإسلام ... 623
-54- آداب معاملة الحيوان ... 629
-55- أدب الحوار ... 634
قواعد الحوار وأصوله: ... 635
القاعدة الأولى: تحديد موضوع الحوار: ... 635
القاعدة الثانية: مناقشة الأصل قبل الفرع: ... 636
القاعدة الثالثة: الاتفاق على أصل يُرجع إليه: ... 636
صفات المحاور : ... 637
آفات في الحوار : ... 638
آداب الحوار : ... 639
1- إحسان الظن بالآخرين: ... 639
2-ترك الطعن والتجريح للمخالفين: ... 640
3-البعد عن المراء واللدد في الخصومة : ... 648
4- الحوار بالتي هي أحسن : ... 648
5- حسن المقصد: ... 649(1/669)
6- التواضع بالقول والفعل: ... 650
7- الإصغاء وحسن الاستماع: ... 650
8- الإنصاف: ... 651
9- البدء بمواضع الاتفاق والإجماع والمسلَّمات والبدهيات: ... 652
10- ترك التعصب لغير الحق: ... 653
11- احترام الطرف الآخر: ... 654
12- الموضوعية: ... 655
13- عدم الإلزام بما لا يلزم أو المؤاخذة باللازم: ... 657
14- اعتدال الصوت: ... 658(1/670)