المنهجية في قراءة الكتب
وجرد المطولات
محاضرة ألقاها فضيلة الشيخ
د . عبد الكريم بن عبدالله الخضير
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد :
فإنَّ هذا الموضوع الذي اختاره الأخوة عنوانًا لهذا الدرس يحتاج إلى محاضرات ، بل إلى وقت ؛ لأن كل فنٍ يحتاج إلى وقت مستقل من فنون العلم ، سواءً كان العلم الشرعي ، أو ما يعين على فهم العلم الشرعي ، لكن في هذا الدرس نُلِمُّ بأطرافه - إن شاء الله تعالى - ونذكر بإذن الله -جلَّ وعلا- ما لعله أن يفيد السامع ، وإن كان قد تقدَّم لقاءات كثيرة في هذا الشأن ، وسُجِّلت، والأشرطة موجودة ، لكنها مُتَشعبة ، تحتاج إلى أن تُلتقط من عدة لقاءات .
في هذه الساعة نبدأ بمقدمة لبداية التأليف والتصنيف:
في عهد النبي - عليه الصلاة والسلام - لم يكن هناك كتب مصنفة ، ولا مؤلفة حتى القرآن لم يكن مجموعًا في مصحف ، بل كان محفوظًا في الصدور ، ومكتوبًا كتابات متفرقة ، والخشية مأمونة في ذلك الوقت مع وجوده عليه الصلاة والسلام في أن يختلط هذا القرآن بغيره ، وفي أن يضيع منه شيء؛ لأن الله -جلَّ وعلا- تكفَّل بحفظه.
لمَّا فُتحت البلدان ، ووُجدت بوادر للاختلاف على أصل الأصول وهو القرآن بادر الصحابة -رضوان الله عليهم- بجمعه ، فجُمع في عهد أبي بكر جمعًا مبدئيًا ، ثم جُمع الجمع النهائي في عهد عثمان رضي الله تعالى عنه ، وكتب منه نسخًا - أربع أو خمس - وأرسلها إلى الأنصار، واعتمدها الناس ، وما زالت بأيدي الناس إلى يومنا هذا ، وهذا برهان على حفظ القرآن الذي تكفَّل الله بحفظه من الزيادة والنقصان ، حتى ذكر البيهقي في "دلائل النبوة" عن يهوديٍّ دعاه القاضي يحيي بن أكثم إلى الإسلام ، فلم يسلم ، لم يسلم لمَّا دعاه القاضي يحيي بن أكثم .(1/1)
بعد ذلك - بعد مرور سنة كاملة - جاء ليعلن إسلامه على يدي القاضي يحيي بن أكثم ، فسأله عن السبب في هذا التأخر، فذكر له أنه عَمِدَ إلى التوراة ، فكتب منها نسخًا حرَّف فيها ، وغيَّر ، وبدَّل، ثم ذهب بها إلى سوق اليهود، فتخطفوها من يده ، واشتروها وقرؤوها ، وعملوا بما فيها ، ثم صنع مثل ذلك في الإنجيل، قدَّم وأخَّر، وزاد ونقص ، وحرَّف ، ثم بعد ذلك عرضه على النصارى واشتروه، واعتمدوه، ثم بعد ذلك عَمِدَ إلى القرآن الكريم، فغيَّر فيه تغييرات يسيرة جدًّا لا تكاد تُلحظ ، فجاء به إلى سوق المسلمين، سوق الورَّاقين من المسلمين ، فمن نَظَرَ فيه رماه في وجهه ، ثم بعد ذلك أعلن إسلامه ، وذكر القصة ليحيي بن أكثم ، فلما حجَّ يحيي بن أكثم التقى سفيانَ بن عيينة ، واجتمع به، وذكر له القصة، قال: هذه القصة شاهدها في القرآن؛ الله -جلَّ وعلا- تكفَّل بحفظه { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر:9]لا يستطيع أحد، ولا يجرؤ أحد أن يزيد أو ينقص ، وأما بالنسبة لتوراة والإنجيل فقد استُحفِظوا عليها، ووكِلَ حفظهما إليهم ، فلم يحفظوا ، فوقع ما وقع من التحريف ، والتبديل، والزيادة والنقصان .
هذا الكتاب المحفوظ بين الدفتين هو أصل الأصول بالنسبة لهذه الأمة ، وفي فلكه تدور جميع الكتب بما في ذلك السنة ؛ لأنها مُفسِّرة للقرآن ، ومُبيِّنة له ، ومُوَضحة للقرآن نعم ؛ فيها أحكام زائدة على ما جاء في القرآن ، وتستقل بتشريع بعض الأحكام ، وهي من الوحي كما قال جلَّ وعلا :
{ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى - إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } [النجم3 : 4]
بالنسبة لتدوين السنة:
جاء في حديث أبي سعيد عند مسلم أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( لَا تَكْتُبُوا عَنِّي وَمَنْ كَتَبَ عَنِّي غَيْرَ الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ )) .(1/2)
ومع ذلك كان من الصحابة من يكتب ، فمنهم من حمل هذا الأمر، أو هذا النهي على الكراهة ، الأمر على الكراهة ؛ لأنه خلاف الأوْلَى ، يعني : اعتنوا بالقرآن، ولا تخلطوا معه غيره.
ومنهم من حمل هذا النهي على ما إذا خيف اختلاط غير القرآن بالقرآن ؛ بأن تكتب السنة مع القرآن في صحيفة واحدة، فيتجه النهي حينئذٍ.
ومنهم من حمله على ما إذا اعتمد الناس على الكتابة، وتركوا الحفظ، والواقع يشهد بهذا :
أَنَّ مَنْ اعتمد على ما يكتب فإنَّ الحافظة عنده تضعف إلى أن تذهب ، فالذي يكتب ما يحتاج إليه يعتمد على هذا المكتوب ، ثم إذا تذكر شيئًا منه لم يذكره، بينما من لم يكتب ، وانتبه لما يُذكر، وما يُقال لا شك أنه يحفظه، والناس متفاوتون في الحفظ قوةًً وضعفًا.
بعد هذا أُمِنَ المحظور، فأمر عمر بن العزيز بكتابة السنة خشية أن تضيع بموت الصحابة رضوان الله عليهم، وهذا هو بداية التدوين الرسمي للسنة، وأما قبل ذلك فهو تدوين شخصي، ككتابة عبد الله بن عمرو بن العاص، قوله عليه الصلاة والسلام: (( اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ )) .
هذا أمر بالكتابة، لكنه نادر، ويبقى أن الضابط والكتابة للقرآن هو لم يكتب غيره خشية أن يختلط به.
وما خيف منه من الاعتماد على الكتابة، وضياع الحفظ هو الحاصل، فالناس قبل أن يكتبوا يحفظون، والتدرج الزمني الذي حصل يشهد بهذا، فكان الصحابة يحفظون السُنة، ثم بعد ذلك جاء بعدهم التابعون، والحُفَّاظ، ثم بعد ذلك بدأ التدوين، وما زال الحفظ في الأمة حتى وُجِدَ من الأئمة من يحفظ سبعمائة ألف حديث، أكثر من الحواسب، أكثر مما جُمِع في الحواسب بكثير، ثم انتشرت الكتابة، وما زال الأمر يضعف ، أعني: مسألة الحفظ، حفظ الصدر، وإن كان حفظ الكتاب الذي هو عنوان وبرهان لحفظ الدين ما زال مستمرًا، ولم يفت على الأمة شيء، ولم يضع من دينها وعلمها شيء بمجموعها.(1/3)
استمر الأمر على ذلك، والحافظة عند الناس تضعف اعتمادًا على هذه الكتب، ونظرًا لكثرتها، وتنوعها ، وتشعبها.
في أول الأمر كُتبت السُنة ، ثم كُتبت الآثار عن الصحابة والتابعين ، ثم دُوِّنت أقوال الرجال ، وصار لها أثر على حفظ السنة ، دُوِّنت العلوم ، وصُنِّفت في الكتب ، فمنها الغايات ، ومنها الوسائل ، ومنها ما يُتوصل به إلى المطلوب ، ويكون مطلوبًا لا لذاته .
ثم بعد ذلكم جاءت المطابع ، فصارت الكتب متيسرةً أكثر مما كان عليه الأمر قبل ؛ تيسر الحصول على الكتاب بعد المطابع ، في السابق قبل وجود هذه المطابع إذا احتجت إلى كتاب إما أن تستعيره، وتحرص على قراءته ، والفراغ منه ، وتعيده إلى صاحبه ، أو تنسخ الكتاب ، وكتابة الكتاب ، ونسخه أفضل من قراءته عشر مرات ؛ فيستفيد الطالب بهذه الكتابة، كما أنه يستفيد إذا استعار الكتاب ؛ لأن يومًا من الأيام لابد أن يُرد على صاحبه، بخلاف ما إذا اقتناه الإنسان، والاقتناء غير مُتيسِّر للسواد الأعظم من طلاب العلم ، يصعب عليهم اقتناء الكتب قبل وجود هذه المطابع ، فأُوجِدت هذه المطابع ، وهي بقدر ما هي نعمة من نعم الله جلَّ وعلا ، إلا أن لها من الأثر على الحفظ ، ودراسة هذه الكتب ما يشاهده كل أحد .
في أول الأمر ، في بداية الطباعة أفتى بعض شيوخ الأزهر بتحريم طباعة الكتب الشرعية ، وأجازوا طباعة كتب التواريخ ، والأدب ، واللغة، وما أشبهها .
ولا شك أن هذه- لاسيما - في أول الأمر نظرة طبيعية؛ لأن هذه الكتب تُوجِد ريبة في قلوب العلماء ؛ لأنهم يعرفون من آثارها ما يعرفون، فإذا كان الأمر قبل الكتابة الاعتماد كله على الحفظ، ثم بعد ذلك لمَّا انتشرت الكتابة صار الاعتماد على الكتابة، والكتابة تحتاج إلى معاناة، وبالمعاناة يكبُت العلم .
ثم بعد ذلك، بعد الطباعة ما الذي حصل ؟(1/4)
حصل أن طالب العلم يجمع من الكتب أضعاف ما كان عند شيوخه، ومع ذلكم لا يعرف عنها شيئًا؛ فإن طالب العلم الحريص المجتهد الذي إذا اشترى الكتاب قرأ المقدمة، وصار عنده تصور عن الكتاب، بما أن يُقرأ الكتاب من أوله إلى آخره مع كثرة المطبوعات، لا شك أن دونه خرط القتاد.
ثم استمر الأمر بعد الطباعة إلى أن ظهرت هذه الحواسب التي يسَّرت كثيرًا على المتعلمين، وبضغطة زر، في ثوانٍ تحصل على ما تريد ، لكنَّ القاعدة : " أن ما أُخذ بسهولة يُفقد بسهولة " .
فإن تضغط زر ، وتستخرج ما تريد من النصوص ، من الكتاب ، من السنة، بالطرق ، بالأسانيد ، تستخرج ما تريد من أقوال أهل العلم بسهولة، لكن ما الذي يثبت من هذا العلم الذي يؤخذ بسهولة ؟
إذا فُقِدَ الكهرباء عاد طالب العلم عاميًا ، هذا هو الواقع ؛ لأن العلم متين ، يحتاج إلى معاناة ، ويحتاج إلى حفر في القلوب، ما يحتاج أن يمر بمرور السراب ، ومثلنا لذلك :
بمن يمشي على رجليه في شارع من الشوارع ، وهذا الشارع فيه محلات تجارية ، وينظر في هذه العناوين الموضوعة على هذه المحلات، إذا انتهى من الشارع يكون قد حفظ شيئًا كثيرًا، وعرف ما في هذا الشارع من المحلات.
لكن إذا مرَّ بهذا الشارع بسيارة هل يحفظ منها شيء ، أو يعرف المحلات ؟
ما يعرف شيء، فالذي يمر بسرعة لا شك أنه لا يثبت في القلب منه شيء.
وقد يقول قائل: إذا كان الأمر كذلك فهل نكتب الكتب، ولا نعتمد على الطباعة ؟
نقول : لا يا أخي؛ لأن الطباعة فرضت نفسها.
وهل نترك هذه الحواسب ؟
نقول: لا يا أخي .
إذًا: كيف يتفق هذا مع ما ذكرت؟
نقول: الكتب يُقتنى منها ما يُحتاج إليه؛ لأن كثرة التصانيف كما قال ابن خلدون:
"مشغلة عن التحصيل"(1/5)
وأما بالنسبة لهذه الحواسب فلا يُعتمد عليها، ولا يُعوَّلُ عليها في بناء طالب علم أبدًا؛ فطالب العلم لا يعتمد عليها البتة في بناءه العلمي، إنما يتعلم على الجادة، على طريقة من سبق؛ بحفظ المتون، ومجالسة الشيوخ، وملازمتهم، وبمطالعة الشروح والحواشي.
ثم بعد ذلك:
يستفيد من هذه الآلات، إذا أراد أن يُخرِّج حديث يخرجه بنفسه من الكتب، وإن استطاع أن يخدم نفسه بنفسه دون الفهارس، فهو أولى.
قد يقول قائل: إن في هذا إضاعة وقت!
نقول: نعم، فيه إضاعة وقت، لكن وقت في سبيل مَنْ؟
في سبيل التحصيل، وأنت تريد حديثًا من الأحاديث، في طريقك إلى الوقوف على هذا الحديث تمر بأحاديث كثيرة، أنت قد تكون بحاجة إليها أشد من الحديث الذي تنشده وتطلبه، إذا أردت أن تقف على مسألة من مسائل العلم، وتوصلت إليها بنفسك، ما توصلت إلا بعد أنه مررت على مسائل كثيرة.
كثير من الناس، ومن طلاب العلم -مع الأسف- يقول:
إن الناس في عصر السرعة، وتعدوا هذا الكلام، وتخطوه الآن؛ بلحظة تأخذ ما تريد.
نقول: نعم، بلحظة، لكن ما النتيجة؟
إذا أردت تخريج حديث فاتعب عليه، ما المانع من أن تتعب على الحديث؟
اتعب على جمعه، جمع طرقه، وألفاظه، وقد تقف على عشرين طريقًا بنفسك، ثم بعد ذلك لا مانع من أن ترجع إلى هذه الآلات، فتختبر العمل، لعلك أن تقف على طرق لم تقف عليها بنفسك، وحينئذٍ تثبت هذه الطرق التي أخذتها من الآلات في قلبك؛ لأنها قدر زائد على ما جمعت، فتشوَّفْ إليه.
فهذه يُستفاد منها في اختبار العمل.
يُستفاد منها أيضًا: عند ضيق الوقت، إذا ضاق الوقت، عندك خطبة جمعة، وما بقي إلا ربع ساعة، وأنت محتاج إلى حديث ما تدري ماذا قال فيه أهل العلم، لا مانع من أن تطلع على درجته من خلال هذه الآلات، ثم أن تُعوِّل عليها في مبتدئ أمرك فلا..(1/6)
فلابد أن يكون طلب العلم على الجادة، وأن يُتعب في تحصيله، وأن يسلك السُبُل والطرق التي سلكها من تقدَّم؛ لنحصل على ما حصلوا عليه.
لذلكم مع هذه التيسيرات، وهذه التسهيلات كم في الأمة من الحُفَّاظ؟
أعني حفاظ السنة، وإن كانت البوادر -ولله الحمد- قد ظهرت، وتبشر بخير، وبعثت آمال، وكانت الطريقة عند أهل العلم حفظ المختصرات الصغيرة اليسيرة مثل:
الأربعين، ثم العمدة، ثم البلوغ.
ومن يتطاول على (المنتقى) فضلًا أن عن أن يحفظ في الكتب المسندة، لكن مع ذلك الآمال -ولله الحمد- وُجدت؛ ففي الشباب من يحفظ آلاف الأحاديث، وهذا يبشِّر بخير، لكن لا يكفي هذا، لا يكفي أبدًا، بل لابد من معرفة الفقه، والاستنباط من هذه الأحاديث، ومعرفة ثبوت هذه الأحاديث من عدم ثبوتها، فلابد من أن نتحقق من ثبوتها بمعرفة الأسانيد والطرق؛ لأن الإخوان يحفظون أحاديث مجردة، بدون تكرار، لكن لابد من التكرار، لابد من الأسانيد، لابد من النظر في المتون.
قد يقول قائل:
أنه في هذه المرحلة، في مرحلة تخزين للمتون.
نعم، صحيح، لكن لابد أن يعود إلى هذا العلم مرة أخرى ليتفقه فيه على طريقةٍ شرحناها مرارًا، وإن كان الآن بدأنا ندخل في السنة، والأصل أن نتحدث عن القرآن.
كيفية التفقه في السنة:
ذكرناها مرارًا ، وهي سهلة ميسورة، لكنها تحتاج إلى وقت، تحتاج إلى معاناة ، وتحتاج إلى تعب.
باختصار : تأتي إلى البخاري، وتجعله المحور، والأساس الذي تدور عليه.
وهذه مرحلة لاحقة بعد حفظ المتون المعتبرة عند أهل العلم في الفنون ، وعلى حسب الترتيب الطبقي لمستويات الطلاب .(1/7)
تأتي إلى الحديث الأول في البخاري ، وتجد الإمام البخاري خرَّجه في سبعة مواضع ، تنظر في هذه المواضع كلها، وتنظر بمَ ترجم البخاري على هذا الحديث في هذه المواضع ، وتقارن بين الأسانيد في المواضع السبعة ، هل هي متطابقة ، مختلفة، هل زاد البخاري في هذا الموضع على الموضع الآخر ، هل تغير بعض الرواة ، هل تغيرت صيغ الأداء .
كل هذا مؤثر في فهم السنة ، وفي تحصيل هذا العلم العظيم .
إذا انتهيت من المواضع تنظر في مطابقة الحديث للترجمة التي وضعها البخاري عنوانًا لهذا الحديث ، وتربط هذا الحديث بترجمته، وتنظر في أقوال السلف من الصحابة والتابعين التي يذكرها المؤلف رحمه الله تعالى تحت هذه الترجمة ؛ لأنها خير مُعين على فهم الحديث، وإذا نظرت في المواضع السبعة على هذه الطريقة تكشَّف لك أمور لا تتكشف لك إذا اقتصرت على موضع واحد كما هو شأن المختصرات ؛ لأَنَّه أحيانًا يختصر البخاري ، وأحيانًا يبسط ، وأحيانًا تَجِد كلمة تفتح لَكَ أَفَاق في فَهْم هذا الحديث ، وكم حصل من الخبط بالنسبة للشروح والخلط التي لا يُعنى مؤلفوها بالنظر إلى أطراف الحديث ، ثم بعد ذلك إذا انتهيت من هذه المواضع تنظر إلى حديث في صحيح مسلم بِطُرُقِه وألفاظِهِ ، وَبِمَا تَرجم عليه الشُّراح ، لأن مسلمًا لم يترجم الكتاب ؛ ثم بعد ذلك تنظر في سنن أبي داود ثم في الترمذي ، والحديث مُخَرَّج عند الجماعة .
بهذه الطريقة يكون لديك التصور كامل للحديث ، وبهذه الطريقة تَتَفَقه في السنة ، ويكون عندك فقه الحديث على طريقة أهل الحديث(1/8)
كيف تقرأ القرآن ؟ وكيف تفهم القرآن ؟
لأَنَّ لابد أن نبدأ بأصل الأصول القرآن محفوظ بين الدفتين , كذلك لا تتعب في مسألة ثبوته كالسنة , ولا في جمع طرقه , ولا غير ذلك , تقرأ القرآن على الوجه المأمور به , وهذا يكون بعد الحفظ إن تيسر لأن الحفظ ما يتيسر لكل الناس مع أن الله جل وعلا قد يسر القرآن { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } [القمر:17] القرآن ميسر ولله الحمد ، فيكون هذا بعد الحفظ تنظر في المصحف وتقرأ فيه على الطريقة المأمور بها بالتدبر والترتيل , وأنت تنظر في كلماته ، ما يُشْكِل عليك من هذه الكلمات تندونه في كُرَّاس , وهذا يسميه أهل العلم : غريب القرآن .
ومن أفضل ما كتب في غريب القرآن : كتاب صغير اسمه " نزهة القلوب " لابن عُزيز السِجستاني كتاب مختصر جدًا في غريب القرآن ، أثنى عليه أهل العلم كثيرًا من المتقدمين ومن المتأخرين .
ويكون بيد طالب العلم المبتدأ بعض التفاسير الموثقة المختصرة جدًا ؛ لَأَنَّ كثرة التفاريع تُذْهِب عليه وقته لأنه لا يستوعب .
ومن أنفع ما يرجع إليه طالب العلم المبتدأ في فهم ألفاظ القرآن :....(1/9)
لأن الألفاظ لابد أن تفهم , والمعاني أيضًا لابد أن تفهم في فهم القرآن في فهم ألفاظه يكون بيد طالب العلم " توفيق الرحمن لدروس القرآن " للشيخ فيصل المبارك هذا التفسير على اختصاره -مختصر جدًا - مختصر من ابن جرير والبغوي وابن كثير , وهو على منهج السلف .. مختصر جدًا , وجعل القرآن ثلاثمائة وخمسين درس بقدر أيام السنة , وأيضًا يستفاد في فهم معاني القرآن من تفسير الشيخ ابن سعدي رحمه الله - ورحم الله الجميع - هذه التفاسير المختصرة تجعل طالب العلم لا يتشتت فيرجع إلى غريب القرآن إلى كتاب السجستاني , ويرجع أيضًا إلى تفسير الشيخ فيصل بن مبارك , ويرجع أيضًا إلى تفسير ابن سعدي في هذه المرحلة , ومع ذلك استفيد من كتب علوم القرآن , وكتب علوم القرآن التي أُلفت على طريقة المتون تفيد طالب العلم في مرحلته الأولى منها رسالة للسيوطي جيدة في هذا الباب ، وكذلك منظومة الزمزمي هي نظم لهذه الرسالة , والرسالة مأخوذة مستنة من كتاب للسيوطي اسمه " النُقاية " ، وهذه الكتب موجودة ومتداولة ومشروحة - لها شروح مسجلة ومطبوعة أيضًا ، فيفاد منها - ومع ذلك يحتاج إلى فهم المُشكِل من معاني القرآن , ولابن قتيبة كتاب اسمه تأويل الْمُشْكِل , لكن أن عندي مُشْكِل القرآن يؤجل إلى المرحلة الثانية يكفي أن نفهم ونُعنى بألفاظ القرآن بحيث لا يُشكِل علينا معنى لفظ ، وأما الْمُشْكِل ، والاستنباط من القرآن ، واستخرج درر القرآن ، وعجائب القرآن هذه مرحلة لاحقة تلي هذه المرحلة .
فإذا أكمل القرآن على هذه الطريقة :
حفظ القرآن ، ونظر في ألفاظه ، ورجع فيما يُشْكِل عليه إلى كتب غريب القرآن , وهذه التفسير المختصرة .
إذا أنهى القرآن على هذه الطريقة لاشك أنه يخرج بفائدة عظيمة , وقد يطلب العلم سنينن عديدة ثم تسأله عن لفظة غريبة في القرآن فلا يجد جواب لكن إذا عُنِي به من أول الأمر سَهُلَ عليه .....(1/10)
بعد هذا إذا تعدى هذه المرحلة يُعْنَى بتفسير الحافظ ابن كثير , ويكون مع ذلك نظر في العلوم الأخرى على ما سيأتي .
كثيرٌ من النَّاس يقول قراءة تفسير ابن كثير لما انتهيت ما عندي شيء نقول إذا كانت الحافظة لا تُسْعِفُك فاختصر التفسير ، بنفسك تفسير ابن كثير له مختصرات موجودة ، ومتداولة ومتعددة نقول يا أخي لا تعتمد , ولا تعول على المختصرات لأن العلم إنما يثبت بالمعاناة ؛ فاختصر تفسير ابن كثير لأنك الآن عندك شيء من الأهلية عندك أرضية كما يقولون ؛ فإذا اختصرت تفسير ابن كثير , وعرضته على من تثق بعلمه , وسدد لك هذا المختصر بعد الرجوع إلى أصله لاشك أنك إذا انتهيت عندك رصيد كبير مما ذكره الحافظ ابن كثير رحمه الله من الأحاديث والآثار والتوجيهات من الأقوال والاستنباط والفقه .
إذا ارتفعت درجةً , وأردت أن تنظر وتجمع بين التفسير بالأثر الذي عليه الْمُعَوَل , والتفسير بالرأي ، كتب التفسير التي تُعْنَى بالصناعة اللفظية ؛ فتجمع بين تفسير البغوي بعد ابن كثير أو الطبري مع تفسير أبي السعود لعنايته بالمباحث البلاغية ، وتفسير أبي حيان لعنايته النحوية والصرفية وغيرهم من التفسير .
قد يقول : قائل العمر لا يستوعب إذا كان هذا فن واحد ونحتاج إلى هذه الكتب .
نقول : نعم تحتاج إلى هذه الكتب ، وبعض طلاب العلم قد تتقدم به السن ، ويَتَسَنَّم المناصب ويسود على غيره ويتصدر لتعليم وإرشاد الناس ووعظهم وتوجيههم ولو تسأله :
هل قرأت تفسير كامل ؟
- يقول لك : ما قرأت تفسيرًا كاملًا .
فإذا اختصر تفسير ابن كثير وانتهى منه ، ثم ارتقى إلى تفسير البغوي والطبري ثم نظر في كتب التفاسير الأخرى المتنوعة في الفنون ممن يُعْنَى بالعلوم الأخرى المعينة على فهم القرآن كفروع علوم اللغة من نحو وصرف ومعان وبيان وبديع ، وإعجاز وغير ذلك .....(1/11)
وأيضًا ينظر في كتب أحكام القرآن ؛ كتب أحكام القرآن موجودة ، ومع الأسف أنها موجودة على المذاهب عدا المذهب الحنبلي المتداول بين الناس ، فتجد " أحكام القرآن " لابن العربي على مذهب مالك ، إلكيا الطبري الرازي على المذهب الشافعي ، " الجصاص " على مذهب أبي حنيفة ، لا مانع أن يتخذ طالب العلم آلية تعينه على فهم هذه الكتب ، فينظر في آيات الأحكام ويراجع لها هذه الكتب ، ويثبت المذاهب الثلاثة من هذه الكتب ، ثم بعد ذلك يأتي بالمذهب الحنبلي من كتب الفقه الحنبلي فيسدد هذا النقص ، وإذا انتهى من هذه الكتب الثلاثة ؛ ما هي مسألة سواليف أو مسألة استرخاء ، يقول : والله أنا عندي راحات وجيات وأسفار ورحلات ويقرأ هذه الكتب !! ما يمكن !! لا بد أن يقتطع من عمره سنين حتى يثبت العلم في قلبه ، وإلا لو كان العلم بهذه السهولة لكان كل الناس علماء ، لأنا نرى رفعة العلماء في الدنيا فضلًا عن الآخرة ، لكان كل الناس علماء ، وفي أسواق المسلمين من يفوق في الفهم والحفظ والذكاء كثيرٌ من المنتسبين إلى العلم ، كان هؤلاء علماء ، لكن دون تحصيله هذا التَعَب الشديد ، فنحتاج إلى أَنْ نعتكف لقراءة هذه الكتب ، فإذا نظرنا بهذه الكتب على هذه الطريقة ، وجمعنا بين أقوال أهل العلم ؛ مذهب أبي حنيفة نأخذه من الجصاص ، مذهب مالك نأخذه من ابن العربي ، مذهب الشافعي نأخذه من إلكيا الطبري ، ومذهب الحنبلي نأخذه من المغني ، ما الذي يمنع ؟! نراجع هذه المسائل في المغني ونضيف حقل رابع للمذهب الحنبلي .
فإذا انتهيت من هذه الكتب ، قد يقول قائل :هذه المراجع تحتاج إلى سنة !
نقول : وما لنا نستعجل! إننا نمضي عشرات السنين ما صنعنا شيئًا !
فبعد ذلك إذا تأهل فينظر في الكتب التي فيها فائدة وفيها شَوْبُ بدعة ؛ لأنها فيها فوائد ، لكن مع ذلك يمنع من النظر فيها في المرحلة الأولى والثانية والثالثة وجود هذه البدع .....(1/12)
فعندك مثلًا تفسير الزمخشري فيه من الفوائد اللغوية والبلاغية والبيانية قد لا يوجد في غيره مثله ، ونعرف أنه معتزلي وشبهه استخرجها أهل العلم بالمناقيش ، ومع ذلك لا تنظر فيه مجردًا ، انظر فيه مع حواشيه ، والأمنية قائمة في أن يتصدى أهل السنة وأهل الخبرة - أهل الاختصاص في العقيدة وأهل الذهن الحاضر الوَقَّاد - لهذه الكتب فيعلِّق على ما فيها من مخالفات ؛ لأننا قد نجد من يُعَلِّق على الزمخشري ويبين اعتزالياته ، لكن هو متلبس ببدعة أخرى ؛ فَكَوْن هذه الكتب لا ينظر فيها من قِبَل أهل السنة , وقد يدور ذكرها على بعض الألسنة , ونجد مثلًا في تفسير ابن كثير نُقُول عن الزمخشري ، نُقُول عن الرازي ؛ فطالب العلم إذا قرأ في هذه النقول استهواه ما نقل الحافظ ابن كثير عن هذه الكتب إلى الرجوع إلى هذه الكتب ، لكن لا يمكن أن يجرؤ طالب علم إلى القراءة في مثل تفسير الرازي ؛ لأنه خطر على طالب العلم , ولذا المرجو والمطلوب من أهل التحقيق من أهل العلم الذين عندهم خبرة ومعرفة بهذا الأمور أن يعلقوا على هذه الكتب فيستفاد منها ويُتَقَى شَرها .
إذا انتهينا من هذه الطريقة قرائنا كتب التفسير بهذه الطريقة نخرج بفائدة عظيمة هذه كتب مطولة قد يقول طالب أن لا تستطيع أن استوعب هذه المطولات ، وهذه الطريقة تصلح لكتب التفسير ، وكتب الحديث ، وغيرها من الكتب يكون معك أقلام ؛ أربعة أو خمسة بألوان وأنت تنظر في تفسير القرطبي مثلًا ، وهو أطول تفسير في أحكام القرآن ، وفيه من الفوائد شيء كثير لكنه على مذهب الأشاعرة ، وأيضًا فيه من الأحاديث الضعيفة والواهية والموضوعة شيء كبير لأنه ليس من أهل الصناعة .....(1/13)
تقرأ في تفسير القرطبي مثلًا وعندك الأقلام الملونة , والمسألة مسألة جرد قراءة ، لأن الكتاب من عشرين مجلد إذا أردت أن تقف عند كل مسألة ما تنتهي ، تأخذ القلم الأحمر وتقول : " قف " عند مبحث تريد حفظه ؛ لأن بعض المباحث يمر عليك في هذا التفسير وفي غيره لابد أن تحفظه ، هذا لا يمكن يمر ثانيا ، هذا تستفيد منه في كل العلوم ، ينير لك طريقتك .
يعني : بعض التوجيهات في بعض الكتب هذه يفتح الله عز وجل بها عند هذا المؤلف بحيث لا توجد عند غيره ، فمثل هذه تكتب قف بقلم أحمر وفي طرة الكتاب تقول اللون الأحمر مثلًا صفحة كذا يأتيك مسألة صَعُبَت عليك ، وتريد أن ترجعها لتفهماها الأخضر قف ، تذكر الألوان الأخضر " قف " وتذكر الاصطلاح في طرة الكتاب : الأحمر لما يراد حفظه ، والأخضر لما يراد مراجعته ..تحتاج تراجع من أجل أن تفهم ، إذا ما فهمت بنفسك راجع أهل العلم يحل لك هذا الإشكال وجدت مقطع لأعجبك أسلوبه وتريد أن تستفيد منه في إنشائك وفي إلقائك وفي تعليمك فأتي بالقلم الأسود وقل قف لتعود إليه مرة أخرى وتنقله في مذكرتك .
وهكذا بهذه الطريقة في سائر الكتب المطولة يستفيد طالب العلم ، لأن هذه المطولات لا يمكن تعامل معاملات متون ؛ فتفهم كل شيء فيها ما يمكن لأن أهل العلم لما صنفوا المصنفات ، وجعلوا منها المختصرات لتحفظ ، وجعلوا منها المطولات لتفهم ويستفاد منها ، ويستعان بها على فهم هذه المختصرات .
فالكتب عند أهل العلم على أنواع منها:
المتون . ... الشروح .
الحواشي . ... النكت .
بعض الطلاب يسمع النكت على كتاب كذا يظنه الأخبار الطريفة المضحكة ! ليس الأمر كذلك ؛ بل هي المسائل المشكلة هي المسائل المشكلة يعني ليست حاشية تتعرض لكل شيء وإنما هي في مسائل دون مسائل هذه المطولات تقرأ بهذه الطريقة انتهينا من التفسير نأتي إلى الحديث.....(1/14)
الحديث :
يُبْدَأ فيه بـ " الأربعين النووية " لأن ابن عباس يقول : " الرَّبَانِي هُوَ الْذِي يَبْدَأُ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ " فتبدأ من العتبة الأولى لهذا السُّلم الذي ترتقيه لنيل هذه المطالب تبدأ بالأربعين النووية وهي أحاديث جوامع من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - فتحفظ الأربعين وترجع عليها الشروح الموثقة من قِبَلِ أهل العلم المختصرة أيضًا .
ثم تقرأ في " العمدة " وفي العَرْضَةِ الأولى تقرأ كتابًا ميسرًا على العمدة لأن العمدة عرف فيها أو في شرحها كثير فتقرأ عليها شرح مبسط يعني في بداية الأمر لو قرأ الإنسان شرح الشيخ عبد الله بن بسام " تيسير العلام " ينفعه ويستفيد منه وسهل جدًا كتاب شبه مدرسي .
ثم بعد ذلك هل يقرأ على العمدة شرح ابن دقيق العيد ؟
- نقول : لا ؛ يؤجل شرح ابن دقيق العيد إلى أن يقرأ كتب أخرى ؛ لأن شرح ابن دقيق في غاية الصعوبة ومن استطاع أن يتعامل مع شرح ابن دقيق العيد ويخرج منه بحيث لا يَشْكل عليه شيء فهو تعلم السِّبَاحة , فليقرأ أي كتاب من شروح السنة ، بعد هذا يحفظ البلوغ ويقرأ في شروحه ويجمع بين سبل السلام وتوضيح الأحكام للشيخ عبد الله بن بسام إذا جمع بينهما استفاد فائدة عظيمة لأن شرح الصنعاني شرح متين يمكن أن يربى عليه طالب علم بخلاف الشروح التي أشبه بالمذكرات التي لا يستشكل منها شيء ، هذه لا يربى عليها طالب علم لكن يمكن أن ينتفع منها , وفيها فوائد وفيها ما يعين طالب العلم ؛ فإذا قرأ " بلوغ المرام " لأنه مختوم , وقرأ معه في الوقت نفسه " المحرر " لابن عبد الهادي وقارن بين الكتابين ونظر في زوائد هذا وزوائد هذا واستخرج الزوائد على الكتابين ونظر في أحكام ابن حجر وابن عبد الهادي ، وقارن بينهما وبحث ليصل إلى القول الصائب من هذه القولين مع مراجعته للشروح بعد ذلك يتأهل للكتب المسندة الكبرى .............(1/15)
يقرأ في البخاري ، في مسلم في باقية الكتب الستة ، ويراجع على كل كتاب منها شرح , وإن أراد أن تكون قراءة للشروح سردًا وجردًا ؛ لأن الفائدة من قراءة المطولات مثل شروح البخاري تُوَلد عند طالب العلم ملكة يستطيع بواسطتها أن يتعامل مع الأحاديث , وليس كل الأحاديث مشروحة إذا سمعت حديث مباشرة ترجع إلى شرحه فتجد كلام أهل العلم ، لا .. أنت في يوم من الأيام ستقف على حديث لم يشرح وإذا نظرة في الشروح وجردت على كتاب شرح أو أكثر من شرح فإنك حينئذ تتولد لديك هذه الملكة ، وَيُفْتَح عليك بعض الأمور التي لا توجد في هذه الكتب وهذا مجرب , ولكن قد يقول قائل إذا بدأت بالبخاري كيف أقرأ فتح الباري ؟ وكم يحتاج فتح الباري من هذه المدة لكي أنتهي منه ؟....(1/16)
نقول : يا أخي فتح الباري لا شك أن فيه صعوبة مثل لحم الجمل بالنسبة للصبي فيه وعُوَرة بالنسبة لطالب العلم نقول أقرأ قبله - كما يقول العلماء القوامص والجوارش مشهيات - أقرأ الكرماني مثلًا الكرماني فيه طرائف وفيه لطائف يستفيد طالب العلم حقيقة من بدأ بهذا الكتاب لا يتمالك أن يتركه حتى ينهيه , ويقرأه بالطريقة التي ذكرنها عندما يقرأ تفسير القرطبي بالأقلام الأربعة بالطريقة السابقة فإذا قرأ الكرماني انفتحت نفسه وتعود على القراءة لأن طالب العلم أول ما يبدأ بالقراءة ، فالقراءة لا شك تحتاج إلى معاناة تحتاج إلى صبر ، تحتاج إلى حبس نفس ؛ فإذا قرأ يقرأ في أول الأمر في اليوم ساعة , ثم بعد ذلك من الغد النفس تجره وتسحبه إلى القراءة لا سيما إذا بدأ بمثل هذا الكتاب ؛ فإذا قرأ الْكِرمَاني فيه الطرائف فيه الغرائب ، وفيه العجائب بالنسبة للرواة ، وفيها استنباطات فيها أفيد وعليه ملاحظات وأوهام . الذي يستشكله يضع عليه من الخطوط ما قدمناه سابقًا ويرجع عليه ماذا قال ابن حجر هل وافق الكرماني أو ما وافق , ثم بعد الكرماني يقرأ في شرح النووي على مسلم ، وأيضًا من المشهيات ، وفيه ما في شرح الكرماني ، وإن كان الكرماني قد يذكر في ترجمة راوي ويطيل فيها بخلاف غيره من الشروح يذكر في ترجمة هذا الراوي أطرف ما ذكر في ترجمته وما يستغرب من ترجمة هذا الراوي سواء كان في علمه ، في عبادته ، في زهده ، في أخباره العجيبة التي ذكرت عنه ؛ فالكرماني والنووي لا شك أنهما ييسران القراءة على طالب العلم بعد ذلك إذا قراء في هذين الكتابين لا مانع أن يقرأ في فتح الباري ويجد النفس قد انفتحت لقراءته .
فتح الباري إذا خصص له وقت يحتاج إلى سنيين بالطريقة السابقة بالأقلام .
وَأَيْش المانع أَنْ تفهم البخاري ويرسخ في ذهنك صحيح البخاري بمعانيه , ولا يشكل عليك شيء سنتين !!
يعني : تتكاسل عن البخاري بسنتين ؛ لأن بعض الطلاب يستعجل الفائدة .....(1/17)
ثم بعد ذلك تنبيه :
أريد أن أنبه إليه الإخوة أنه لابد أن يكون شيء على حساب شيء فإذا استرسل الإنسان وراء الشروح التي تحتاج إلى مدد متطاولة لاشك أنها ستكون على حِسَاب المتون , وقد يغفل الطالب إذا بدأ بالشروح على هذه الطريقة عن أهم المهمات : عن القرآن مراجعة القرآن وتلاوة القرآن فنقول لابد أن يقتطع للقرآن جزء يفرضه من وقته من سنام وقته لا من فضوله جالس في انتظار ولا عند إشارة ، ولا في مستوصف ولا شيء يفتح المصحف لا إنما يفرض للقرآن إن استطاع أن يقوم قبل صلاة الفجر ويقرأ حزبه من القرآن هذا أفضل بلا شك وأحضر لقلبه , وإن كان لا يستطيع فبعد صلاة الصبح إلى انتشار الشمس ينتهي من حزبه ؛ لأنه في خضم هذا الكم الهائل من المقروءات , وما يخطط له طالب العلم من الإطلاع عليه قد يغفل عن القرآن .
نعم ، الأوقات المفضولة أوقات الاستجمام لا مانع أن يقرأ طالب العلم في كتاب تاريخ مثلًا للاستجمام وللاعتبار لأن كتب التاريخ فيها العبرة , وكذلك ينظر في كتب الأدب فيها متعة , وقد يحتاج إليها طالب العلم , ومر بنا في علوم القرآن وعلوم السنة ما كان مفتاحه في كتب الأدب ولولا أن الوقت لا يستوعب لذكرت أمثلة .....(1/18)
الحديث الذي نتحدث عنه عبارة عن متون وأسانيد وفقه واستنباط من هذه المتون ، فالأسانيد وسيلة لإثبات هذه المتون ، والغاية العظمى هو الاستنباط الذي على ضوئه يكون العمل ، فإذا قرأنا في هذه الشروح ورأينا كيف استنبط أهل العلم من هذه الأحاديث ، الأذهان تتفتق ويكون لديها الاستعداد للاستنباط والمزيد منه ؛ لأن طالب العلم ليس مثل الآلة ، هذه الآلات لا تزيد ولا تنقص ، خَزِّن فيها تجد ، لا أكثر ولا أقل ، لكن طالب العلم وهبه الله جل وعلا هذا العقل الذي به يستطيع النظر والموازنة ، فينظر فيما قاله ، يرجع إذا قلنا يقرأ بعد ذلك في " فتح الباري " ويجد صاحب الفتح ينتقد الكرماني ، يُدَوِّن هذا النقد على شرح الكرماني الذي سبق أن قرأه .
ثم بعد ذلك نريد إلى أن ننبه إلى أن كل شرح من الشروح له مزيته وله خصيصته .
فشرح الخطابي الذي هو أقدم الشروح واسمه " أعلام الحديث " أو " أعلام السنن " ، لا شك أن مؤلِفَه إمام ، وفَتَح مجالًا لغيره واعتمدوا عليه ، لكن فيه قصور وعواز شديد .
شرح الكرماني فيه مثل ذلك من القصور ما يُسدَّد من الكتب التي جاءت بعده ، لكنه قلنا إنه يفتح الشهية ، وفيه فوائد ولطائف وطرائف ، وفيه أوهام .
إذا قرأ في " شرح النووي " ثم " فتح الباري " استفاد فائدة عظمى ، ثم بعد ذلك هناك كتب لا يُستغنى عنها ، فإذا كانت خصيصة " فتح الباري " تَكْمُنُ في إحاطة الحافظ ابن حجر في الأحاديث التي يشرحها بجميع أطرافها ، فإن لغيره من المزايا ما يوجد فيه .
شرح الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى : شرح فيه نَفَسُ السَّلف ، شرح معتمِد اعتمادًا كلي على أقوال السلف ، وهو أيضًا مجرد من أقوال الخلف وتعقيداتهم .....(1/19)
العَيْنِي : يفيد طالب العلم في الناحية اللغوية والناحية الفقهية ؛ لأنه يُطِيل أيما إطالة في المسائل اللغوية ، وهو يطيل أيضًا في الفقه والاستنباط ، إلا أنه فقيه حَنَفِي ، قد يكون مدلول الحديث على خلاف ما يريد وخلاف ما يُقَرِر ، فعلى هذا يُستفاد منه أصل المسألة ، وأما تقرير الحُكْم ، فالحَكَم هو النص
شرح القسطلاني المسمى " إرشاد الساري " شرح لا يستغنى عنه ، لا يستغني عنه طالب علم ، لا سيما الذي يريد أن يفهم البخاري ، لأن البخاري مروي بروايات متعددة ، روى البخاري عن صاحبه ، الصحيح رواه عن مؤلفه ما يقرب من مائة ألف راوٍ ، والبخاري كغيره من كتب المتقدمين في كل رواية يزيد المؤلف وينقص ويُغَيِّر ، فـ" إرشاد الساري " ميزته في بيان هذه الروايات ، الحافظ ابن حجر اعتمد على رواية أبي ذر وأشار إلى ما عداها ، " إرشاد الساري " لا ، أشار إلى جميع ما وقف عليه من الروايات ، وهذه ميزة له ، هو مفيد من هذه الحَيْثِيَّة على اختصاره ، وهو في الجملة كأنه زُبْدَة لـ" فتح الباري " و" عمدة القاري " ، فيُستفاد منه .
ويستفاد لمعرفة ثبوت الخبر من كتب علوم الحديث :
وعلوم الحديث مشتملة على أنواع ، كل نوع يستفاد منه فيما يخصه ، فمنها ما يتعلق بالأسانيد ومنها ما يتعلق بالمتون ، منها ما يتعلق بالظاهر ومنها ما يتعلق بالباطن كالعلل ، فيستفاد من كتب علوم الحديث ، وكتب العلل في إثبات الأخبار وعدم إثباتها .........(1/20)
كتب العقائد يتدرج فيها طالب العلم ؛ بَدْءًا من مؤلفات الإمام المجدِّد رحمه الله تعالى : الأصول الثلاثة ، والقواعد الأربع ، وكشف الشبهات ، ثم كتاب التوحيد ، ثم الواسطية ، ثم الحموية ، والطحاوية ، والتدمرية ، على هذه الطريقة ، على هذا التسلسل : يمسك الطالب المتن ويحفظه ، ويراجع في أول الأمر شرح مختصر يَحُل له بعض الإشكالات ، ثم يراجع ما هو أطول منه على ما تقدم في كيفية دراسة التفاسير وشروح الأحاديث ، فإذا قرأ هذه المتون : مؤلفات الشيخ الإمام المجدد " الأصول الثلاثة ، والقواعد الأربع ، وكشف الشبهات ، التوحيد " ، " الواسطية ، الحموية ، التدمرية " ، و" الطحاوية " ، أيهما يقدِّم على الآخر ، لا شك أن الحموية أسهل من التدمرية ، لكن التدمرية لا بد منها ، قبل التدمرية والطحاوية لو قرأ في " سلم الوصول " مثلًا وفي " عقيدة السفاريني " وراجع عليها في الشروح ، وفي هذين الكتابين وغيرهما من الكتب كـ" كتاب التوحيد " يختصر الشروح .
قد يقول قائل : أنا أقرأ شروح " التوحيد " ثم بعد ذلك إذا انتهيت ، الفائدة موجودة لكن أقل مما توقعت !
نقول : اختَصِرْ ، اختَصِرْ " فتح المجيد " ما المانع ، اختَصِرْ " تيسير العزيز الحميد " ، انثُر زوائد هذا على هذا لأن العلم بالتقليب وبالمعاناة هذه وكثرة التعب يَثْبُت ، فعندك " سلم الوصول " أبيات قليلة شُرحت في ألف وثلاثمائة صفحة ، ما المانع أن تختصر هذا الكتاب بثلاثمائة صفحة فقط ، ويرسخ عندك الكتاب ، تحفظ المنظومة وبعد ذلك يرسخ عندك معاني هذه الأبيات ، وقُلْ مثل هذا في منظومة السَّفَّاريني في عقيدته " الدرة المضيَّة " مع شرحها " لوائح الأنوار البهية " أو " لوامع الأنوار " ؛ لأنه في طبعته الأولى - طبعة المنار - سموه " لوائح " ، وفي الطبعة الثانية " لوامع " ، فالاختصار أنا عندي في غاية الأهمية لطالب العلم .........(1/21)
ولا يختصر هذا بنية النشر على أنه مؤلَّف له جديد ينشره بين الناس ، لا ، أول من يستفيد منه نفس المختصِر هذا ، ولذا يقول الإمام مسلم في مقدمة صحيحه : " وإذا عُزِم لي تمامُه فأول من يفيد منه أنا " ، صحيح ! المؤلف أول من يستفيد من كتابه ، لا على نية أن ينشره للناس ، ولا مانع أنه إذا تأهل بعد ذلك وعرضه على أهل العلم والخبرة والاختصاص أن يقدمه للناس يستفيدون منه ، فعندي مسألة الاختصار خير معين للتحصيل ، بل إذا قلت أنها من أقرب الطرق لا سيما لمتوسط الحافظة ، أم قوي الحافظة فإذا قرأ ما عنده مشكلة ، إذا قرأ الكتب من الناس - وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء - مرة واحدة استوعب الكتاب ، بعض الناس إذا قرأ مرتين انتهى ، بعض الناس يقرأ مائة مرة لا يستوعب الكتاب ، مثل هذا لا بد له من أن يعاني ويتعب على الكتب ، والاختصار من أفضل الوسائل ، وذكرنا هذا بالنسبة لتفسير ابن كثير ، ونذكره في مثل هذه الكتب ، ونذكره في شروح كتب الأصول مثلًا ، لكن من طلاب العلم يقولون : والله كتب الأصول أنا أعاني ، عجزت ، ما مسكت شيئًا !! أو كتب النحو !! نقول : تحفظ الورقات وتقرأ وتسمع شروح الورقات تستفيد فتتأهل للمرحلة التي بعدها ، والمرحلة التي بعدها يكون فيها الاختصار ، تأتي إلى مختصر التحرير ؛ قد لا تفهم المختصر ، لأنه صعب ؟ كلا ، أو تأتي إلى مختصر الروضة للطوفي ، ثم بعد ذلك هذان الكتابان مشروحان بشرحين مبسوطين ، فشرح مختصر التحرير اسمه " الكوكب المنير " ؛ هذا في أربعة مجلدات ، والمختصر في صفحات يسيرة ، ما المانع أن تنظر في هذا الشرح وتنظر في المتن ؛ مسألة مسألة وماذا قال الشارح ، حاول أن تفهم هذا الشرح ، تعيده مرتين ثلاثة فتصوغه بأسلوبك ، بدلًا ما هو في ثلاث صفحات أربع صفحات تصوغه بأسطر ، فإذا انتهيت من الكتاب المكون من أربعة مجلدات تكون قد اختصرته في مائتي صفحة أو ثلاثمائة صفحة ، بهذا يثبت العلم ويَنْحَفِر في الذهن....(1/22)
، قل مثل هذا في شرح مختصر الروضة للمؤلف نفسه ، والشرح من أنفس الكتب في هذا الباب ، ما تستطيع أن تستوعب ألف وسبعمائة صفحة من القطع الكبير ، لكن إذا اختصرت وانتهيت من هذا الاختصار تستوعب .
ولا بد أن ننبه أن من استطال الطريق لن يحصل علمًا ، لا بد أن يطول الطريق ؛ لأن العلم لا بد أن يُطلب من التمهيد إلى الموت إلى الوفاة ، فأنت إذا حفظت المتون وقرأت في الشروح المختصرة بعد الحفظ ثم بعد ذلك تختصر الشروح المطوَّلة .
كتب العقائد التي ذكرناها على هذا الترتيب وهذا التسلسل إذا انتهيت منها أنت مؤهل لأن تقرأ أي كتاب في العقائد ، نعم إذا لم يكن لديك معرفة بعلم الكلام يبقى عندك إشكالات في مثل " منهاج السنة " وفي مثل " درء تعارض العقل والنقل " وفي مثل " نقض التأسيس " ، نقول : يا طالب العلم لا تكلف نفسك بفهم كل شيء يقوله شيخ الإسلام في هذه الكتب الثلاثة ؛ لأنها تعوقك عما هو أهم منها ، يعني في " شرح السنة " عندك المجلد الأول أو الثاني ما يقرب من ثلاثمائة صفحة أشبه ما تكون بالتلاصم ، إلا شخص عنده درْبة بعلم الكلام وله معاناة في هذا الفن ، وقل مثل هذا " درء تعارض العقل والنقل " مملوء من هذه المباحث،…
فما تفهمه أعد النظر فيه وكرره، والذي لا تفهمه إمرار، ولا يلزم أن تقف عليه؛ لأن من الكبار من يمر هذه المباحث، بل إذا علَّم عليها علامة الصعوبة بالقلم المعيَّن لهذه المباحث وليكن بيده قلم خامس بلون خامس يضع عليه علامة أن هذا لا يرجع إليه، وعلم الكلام كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: المنطق علم غث كلحم جمل على رأس جبل، لا يحتاجه الذكي ولا يفيد منه الغبي.
نعم يحتاجه من يريد أن يرد على الفلاسفة وعلماء الكلام، يفيد منها، لكن كم تحتاج الأمة إلى مثل هؤلاء علشان نقول لطلاب العلم: كلكم اقرؤوا في هذا، ويصير هذا على حساب المقاصد التي هي علوم الكتاب والسنة.
السواد الأعظم من طلاب العلم لا يحتاجوا إليه .....(1/23)
كتب شيخ الإسلام وكتب ابن القيم لا يستغني عنها طالب علم ، كُتُب منها ما لا يمكن تصنيفه تحت عنوان، أو تحت فنٍ من الفنون، فإذا تدرج طالب العلم في الفنون قد يغفل عن هذه المهمات، وهو بحاجة إلى هذه الكتاب التي تعالج أدواء القلوب، فلو يجعل الترتيب المعروف لتحصيل العلم الذي يتعلق بعلم الجوارح متى يرجع إلى هذه الكتب التي تعالج أمراض القلوب؟
متى يقرأ الجواب الكافي مثلًا لابن القيم؟ متى يقرأ في حادي الأرواح؟ متى يقرأ في مدارج السالكين؟ متى يقرأ في إغاثة اللهفان؟ متى يقرأ وهو بأمس الحاجة إلى إعلام الموقعين أو زاد المعاد؟ لابد أن يقتطع لها جزءً من وقته، ،وقل مثل هذا في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتكون بجواره الأقلام التي ذكرنا لتتم الاستفادة .
كتب الفقه يحتاج فيها إلى التدرج، ولا نحتاج أن نطيل فيها لأن الشيخ عبد القادر بن بدران ذكر طريقة للتفقه مفيدة:............(1/24)
أولًا: التدرج لابد منه سيقرأ الطالب في أول الأمر مثل: آداب المشي إلى الصلاة مع شروطها للشيخ الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهَّاب، ثم يقرأ في العمدة (عمدة الفقه) للإمام الموَفَق، ثم بعد ذلك يقرأ في الدليل والزاد وما بعد ذلك على طريقة تكون هذه الكتب في المرحلة الثالثة عناصر بحث ، خطة بحث ، يعني في المرحلة الأولى طريقة الشيخ عبد القادر بن بدران نافعة للمرحلة الثانية، يحفظ المتن ويجتمع مع مجموعة متقاربين في السن والفهم ثم بعد ذلك كل واحد من هؤلاء الطلاب يشرح القدر المحدد بنفسه من غير الرجوع إلى الشروح، ثم بعد ذلك إذا اجتمعوا يقرأ كل واحد شرحه ، ويتناقشوه، يقول: أنا فهمت كذا، والثاني يقول: لا، أنا فهمت في هذه الجملة كذا، فإذا انتهوا من قراءة ما عندهم يقرؤون الشرح، شرح الكتاب، ويصححون أخطائهم، فإذا صُحِحَت هذه الأخطاء لن تعود إلى القلب مرة ثانية، ثم يرجعون إلى الحواشي، ثم بعد ذلك يحضرون الدرس عند الشيخ، صار عندهم الآن استعداد تام لما يزيده الشيخ على ما في الكتب ، يتفقه الطالب بهذه الطريقة .
في المرحلة الثالثة: وحينئذٍ يقرأ الزاد - زاد المستقنع- ووضع له أساس كتاب أو اثنين يقرأ الزاد على أساس أنه عناصر بحث ، خطة بحث، لا أنه دستور لا يحاد عنه هذا كلام البشر، فتمسك المسألة الأولى ثم تبحث لها عن دليل وتعليل، دليل وتعليل لهذه المسألة، من وافق المؤلف على هذا من أتباع المذهب؟ من خالفه؟ من وافقه من المذاهب الأخرى؟ ومن خالفه؟....(1/25)
وننظر في أدلة الجميع ونأخذ القول الراجح؛ يعني طالب العلم إذا انتهى من زاد المستقنع على هذه الطريقة فقيه، ينتهي فقيه ، يعني بدون تردد ، هذا إذا كان لديه فقه نفس ، فما كل واحد يعاني العلم يكون عالم، قد يطلب العلم سنين ولا يحصل علم، لكن إذا مسك الجادة من أولها ومعه من الإخلاص ما يَعْتَمد عليه مما يكون سببًا إلى توفيقه ومعه حرص واجتهاد وعنده من يستشيره من أهل العلم ممن يثق بعلمه، بإذن الله يحصل، وإلا فلا يلزم أن يكون كل من طلب العلم يكون عالم، ويكفي من لم يُقَدِّر الله له شيء من العلم يكفيه أن يكون قد سلك الطريق ?? مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ ?? يكفيه هذا.
المتفقه على هذه الطريقة، قد يقول قائل: هل نحفظ كتب الفقه؟
إذا كانت الحاضرة قوية وتُسعف لا شك أن حفظ كلام أهل العلم مفيد، نحن نسمع من يفتي ويتصدر للإفتاء، تجد بعض الناس عنده محفوظ من كلام أهل العلم كلامه متين ورزين، وبعض الناس ما عنده حفظ تجده إلى ما يكون إلى الإنشاء، وهذا عند تفريغ الكلام وطبعه لا تقبله الأسماع؛ لأنه ليس لديه رصيد من كلام أهل العلم .
انتهينا من التفسير والحديث والعقائد والفقه.
اللغة : طالب العلم بأمس الحاجة إلى اللغة؛ لأن القرآن عربي والرسول عليه الصلاة والسلام عربي، ولا يُفهم الكتاب والسنة إلا بلغة العرب.........(1/26)
علوم اللغة متفرعة تصل إلى اثني عشر فرعًا، لكن أكثر ما يحتاج إليه النحو والصرف والمعاني والبيان والبديع والوضع والاشتقاق، ومتن اللغة وفقه اللغة هذا أكثر ما يُحتاج، ليأخذ طالب العلم من كل فن من هذه الفنون مختصر، فيبدأ بالآجرومية مثلًا، فيحفظها ويقرأ عليها الشروح المطبوعة، يحضر فيها الدروس، قراءة الكتب يا إخوان لا تُغني عن حضور الدروس، لهذا لابد أن نؤكد عليه، لابد من الحضور عند المشايخ، يقول أهل العلم قديمًا: من كان علمه من كتابه صار خطئه أكثر من صوابه .
إذا حضر الدروس وسمع من المشايخ وقرأ الشروح وسمع من سُجِّل على هذا الكتاب من أشرطة يفيد فائدة عظيمة، لبنة أولى في هذا الفن، ثم بعد ذلك القطر - قطر الندى - أو " الملحة " بشروحها، ثم بعد ذلك يتأهل للنظر في " ألفية ابن مالك " فإذا قرأ هذه الكتب قد يقول قائل: أنا والله حفظت الألفية لكن ما ثبت في ذهني من شروحها شيء، نقول: عليك تمسك الشروح، شرح ابن عقيل مثلًا فصغه بأُسلوبك ، شرح ابن هشام مثل شروح مثل شرح مختصر التحرير صعب، فأنت إذا فهمته وصغته بأُسلوبك فهمت ، لو تطلع إلى ما فوق ذلك من شرح الأشموني حاشية الصبان، وتختصره في أربعة مجلدات في مجلد واحد تستفيد فائدة عظيمة .
وأما ما يتعلق بعلوم الحديث فقد كررناها مرارًا، وكتبت في مقدمة بعض الكتب يرجع إليها طالب العلم .
بقي عندنا الصرف، إذا تدرجنا في النحو الآجرومية، القطر، الألفية، وفيها مباحث صرفية، يقرأ قبل الألفية مما يعينه على فهم المباحث الصرفية الشافية لابن الحاجب ولها شأن عند أهل العلم، وهي مشروحة، لكن مع الأسف أنه قد لا يجد شيخ يعينه على فهمها، ولا مانع من أن يجتمع ثلة من طلاب العلم يذكرون حاجتهم إلى شرح هذا الكتاب إلى شخص متخصص ويحتسب لهم درس وعليها شروح وموجودة ومطبوعة.....(1/27)
المعاني والبيان والبديع هذه يقوم بها التلخيص - تلخيص المفتاح مع شروحه - ويقرأ المطولات في كل علمٍ من العلوم على الطريقة التي أبديناها سابقًا في التفاسير المطولة بالأقلام والمذكرات .
هناك علوم يستهين بها كثير من طلاب العلم وكثير منها لا شك أنه ليس من متن العلم، بل هي من مُلَحِهِ ، ككتب التاريخ مثلًا، كتب التاريخ، إذا قرأ الطالب في كتب التاريخ لا شك أنها فيها شيء من المتعة والاستجمام؛ لأنك إذا انتقلت من أصول الفقه إلى النحو ورجعت للتفاسير، عدت إلى كتب شروح الحديث، لا شك أن الذهن يحتاج إلى شيء من الاستجمام، فيحصل الاستجمام بكتب التواريخ وكتب الآداب، كتب التواريخ إضافة إلى الاستجمام فيها العِظَة والاعتبار؛ لأن السنن الإلهية واحدة لا تتغير ، فالأسباب التي أُهلِك بسببها الأمم يهلك فيها غيرهم ، فالسنن لا تتغير ولا تتبدل ، ولم يُستثن من ذلك إلا قوم يونس ، وأما مَنْ عداهم إذا توافرت الأسباب حَقَت الكلمة ، فماذا لو قرأنا في تاريخ ابن كثير رحمه الله، في الأمم الماضية واللاحقة ، في الأمم التي قبل الإسلام والأمم التي والدول التي جاءت بعد الإسلام وجدنا أن كثير من بلدان المسلمين يحذو حذو تلك الأمم التي حَقَت عليها الكلمة ، وحصل ما حصل في بعض البلدان من الأسباب ما حصل والنتائج حصل فيها ما حصل، في العصر الذي نعيشه، وما أشبه الليلة بالبارحة، وإذا كنا نقرأ قصص القرآن في الأمم الماضية على أنها للتسلية فنحن لسنا على الصراط ، ضللنا إذًا ، مضى القوم ولم يرد به سوانا { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ } [يوسف: 111] فلابد أن نعتبر وندكر .
يعني : لو قرأنا بالمجلد السادس مثلًا من نفح الطيب في تاريخ الأندلس الإنسان يضع يده على قلبه، ويسأل الله جل وعلا السلامة وأن يدفع عن المسلمين ما يستحقونه من العذاب، لابد من القراءة في هذه الكتب لما ذكرنا .....(1/28)
يقرأ في كتب الأدب ، وفيها أيضًا من المتعة ما فيها ، وهي أكثر لم نقل مثل كتب التاريخ من المتعة ما فيها، وفيها أيضًا ثروة لُغَوية يستطيع العالم أو طالب العلم أن يبُِين عن ما في نفسه بواسطتها، فالعلماء يقرؤون هذه الكتب وإن كان في كثير منها شيء مما لا يقبله الذوق، ذوق الرجل العادي فضلًا عن عالم ومتعلم، شيء يُستحيا من ذكره لكن لابد من قراءتها، ووجدنا من أهل العلم من يقرأ، ووقع في أيدينا من كتب الأدب المطوَّلة ما عليه اسم بعض الكبار أهل العلم والورع، وعليها تعليقات لهم تدل على أنهم يقرؤون في هذه الكتب، لكن ليس معنى هذا أن يكون على حساب علوم الكتاب والسنة، لا، هذه يُسْتَفاد منها؛ متعة، واستجمام، وشيء يتحدث به العالم حينما يشرح لطلابه، وبذكر نكتة من هذه الكتب، يريح الطلاب فيها ، ويجعلهم يتقبلون ما عنده ، فإذا لم يكن في الدرس طرفة لا شك أن الطالب يمَلَ ، وما يُشاهد في بعض الدروس من نوم بعض الطلاب إلا لأنها ماشية على وَتِيرة واحدة فالخروج إلى مثل هذه الكتب والإفادة منها، وإفادة الطلاب وإلقاء مثل هذه العلوم عليهم لا شك أَنَّه ينشط الطلاب، والأمور بمقاصدها، ويستعمل في هذه الكتب المطولة ما ذكرناه من الأقلام ، وكتب التواريخ كثيرة جدًا ، فيها مطولات ومن أنفعها لطالب العلم " الكامل " لابن الأثير، وصياغته للأحداث لا نظير لها ، و" البداية والنهائية " للإمام الحافظ بن كثير ، وفيه أيضًا لافتات له رحمه الله، وتنبيهات لا توجد في غيره ، فعلى سبيل المثال لمَّا ترجم لابن الراوندي مُلْحِد ذكر عنه ما يستحق من الألفاظ، ثم قال: ترجم له ابن خَالِكان في: وفيات الأعيان ، وأشاد به وأطال في ترجمته كعادته في معاملة الأدباء وبخس العلماء ، ولم يذكر عنه ما عُرِفَ عنه من زندقة، وكأن الكلب ما أكل له شيئًا من العجين ، يعني ما كأن الأمر يعنيه، مع أن العالم أو المتعلم هذه وظيفته، هذه وظيفة العالم بيان الحق من....(1/29)
الباطل، فيعاملنا ابن الراوندي مثل ما نعامل أئمة الإسلام، وأضفنا عليه من الثناء والمدح، ولو في فَنِهِ مثل ما يُضاف إلى علماء المسلمين، كيف يفرِّق طالب العلم؟
الحافظ ابن كثير له تنبيهات مهمة جدًا وله أيضًا عناية بالتراجم أكثر من ابن الأثير ، وأيضًا يفيد طالب العلم من تاريخ ابن خلدون ، وفيه تحليل للأحداث، ولا شك أن هذا يفتح آفاق لطالب العلم يحلل بها الأحداث المماثلة بدلًا من أن يتخبط كما يتخبط الناس الآن مع الأسف، حتى مع بعض طلاب العلم يخرجون في وسائل الإعلام ثم بعد ذلك يتحدثون عن بعض القضايا المعاصرة كأنهم صحافيون، توقعات كلها ، ما كأنهم يأوون ويرجعون إلى نصوص، فطالب العلم بحاجة إلى قراءة كتب التواريخ والأدب .
وسمات كتب الأدب متفاوتة ، فيها المسف، وفيها النظيف إلى حد ما، فـ " زهر الآداب " للحصري نظيف إلى حد ما، أيضًا " نزهة الْمجَالس وَأُنْس الْمُجَالس " لابن عبد البر كتاب نفيس، هذا في كتب أدب الدرس.
أما في كتب أدب النفس: فعلى طالب العلم أن يُعنى بها عناية فائقة، الآداب الشرعية لابن مفلح، منظومة الآداب مع شروحها لابن عبد القوي، هذه في غاية الأهمية لطالب العلم ، المنظومة الميمية في الوصايا والآداب العلمية للشيخ حافظ حكمي أيضًا في غاية الأهمية لطالب العلم ، فطالب العلم عليه أن يُعنى بهذه الكتب، ويستفيد منها من أدب النفس ما لا يجد في غيرها من الكتب ، والطريقة لقراءة هذه الكتب على ما ذكرنا، المقطع الذي يحتاج إلى حفظه يُعلِّم عليه بعلامة ما يُراد حفظه، والمقطع الذي يُراد فهمه وإعادة النظر فيه كذلك، والذي يُراد نقله كذلك، إلى آخر ما ذكرنا، والكتب كثيرة لا يمكن أن تنتهي، والعلم ودَرْبُهُ طويل لا يمكن أن يُقطع بمرحلة أو مراحل، فعلى طالب العلم أن يوطِّن نفسه على هذا، وحينئذٍ إذا صاحب ذلك الإخلاص، والكد، فإن طالب العلم حينئذٍ يُوَفَق ويُسَدَّد .....(1/30)
والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الأسئلة
س : هذا يقول: حفظت الأربعين والعمدة مع الشروح حتى وصلت باب الحج في البلوغ، وحفظت القرآن ، وبعدها دخلت عالم الأسهم ولي الآن قرابة سبعة أشهر لم أفتح كتابًا ، ولا أستطيع إلا قراءة سورة الكهف يوم الجمعة، ما نصيحتك ؟
ج : إذا عرفت الهدف الذي من أجله خُلِقْتَ أجبت عن نفسك ، أجبت عن سؤالك، أنت خلقت لتحقيق العبودية ومادام لديك أهلية لطلب العلم ، فكيف تفرِّط بعد أن حفظت ما حفظت ثم بعد ذلك ألا يحز في نفسك أن تفقد أغلى ما تملك ؟
يعني : لو أن الإنسان لديه خمسة من الأولاد مع الوالدين وفجأة فقدهم، بلحظة ، هل يُعَوِّض هذا جميع ما يمكن أن يُملك من أمور الدنيا؟ لا، فكيف بمن حفظ كتاب الله جل وعلا، ثم يفرِّط فيه بسبب هذه الأسهم ، أو غيرها من التجارات ؟
الإنسان، الإنس والجن ما خُلِقُوا إلا لتحقيق العبودية لله جل وعلا، تحقيق العبودية لا يتم إلا إذا كان على بصيرة، والبصيرة لا تكون إلا بطلب العلم، فإذا فرَّط هذا من أجل حُطَام الدنيا فلا شك أن هذا خذلان، نسأل الله السلامة والعافية، فعليك أن تعود وأن تراجع ما حفظت، وتلزم الدروس وتسمع التسجيل والأشرطة على هذه الكتب، وتزاحم الشيوخ وتلازمهم ، ولا تنس نصيبك من الدنيا كما قال الله جل وعلا، أي لا ينبغي أن يعيش طالب العلم عالة يتكفف الناس ، لا ينسى نصيبه من الدنيا، عليه أن يسدد ويقارب لكن لا يترك العلم .
س : يقول: أنا أقرأ القرآن بترتيل لكن ما أدري كيف أتدبر القرآن ، ما الطريقة على تدبر القرآن ؟
ج : تدبر القرآن يعينك عليه فَهْمُهُ، فإذا فهمت القرآن بالطريقة التي شرحناها، واستمعت إلى قراءة قارئ مؤثر فلا شك أنك سوف تتدبر القرآن إذا قرأت بنفسك ، يعني : تسمع القرآن من قارئ مؤثر، وتنظر في التفاسير على الطريقة التي ذكرناها لا شك أنك يورثك هذا التدبر.....(1/31)
س : يقول: هل أختار فن من الفنون وأبدأ به أم أشملها جميعًا؟
ج : يعني هل في آن واحد في وقت واحد ينوِّع ويتفنن ويقرأ في أكثر من علم أو يقتصر على علم واحد ؟
نقول: الناس يتفاوتون في هذا؛ منهم: المالون ، الذي يمل بسرعة فإذا مسك وبدأ بكتاب واحد يمل، مثل هذا ينوِّع، يقرأ في الفنون، يجعل له جدول مثل جدول المدرسة، بعد صلاة الصبح لكذا ، بعد طلوع الشمس لكذا ، إذا كان لديه عمل إلى صلاة الظهر، بعد صلاة الظهر مباشرة كذا ، ثم يرتاح بعد صلاة العصر فن أو فنين إذا طال الوقت ، بعد صلاة المغرب كذا ، فيضع جدول.
أما إذا كان من غير هذا النوع ، عنده صبر وجلد ، وتحمل لكتب واحد ، مثل هذا لو اقتصر على فن أو فنين أفضل حتى يتمه ثم ينتقل إلى الآخر، ثم ينتقل إلى الفن الآخر.
س : هذا يسأل يقول: قول من يقول: " إن الغرابة تراعى في الوصف، والتفرد في الفعل " فيقال: تفرد به فلان ، ولا يقال: أغرب به ، ويقال: حديث غريب دون حديث فرد ، ما صحة هذه العبارة؟
ج : نعم ، ويندر أن يقال من قبل أهل الحديث: أغرب به فلان، وإنما يُقال: تفرد به فلان ، وحديث غريب أكثر من قول حديث فرد ، وإن جاء إطلاق الجمع " الأفراد " ، جاء أيضًا إطلاق الجمع " الغرائب " ، وهما متقاربان في المعنى، وأكثر ما يطلقون الفرد على الغرابة المطلقة التي تكون في أصل السند، وأما بالنسبة للغرابة حينما تكون في أثناء السند " النسبية " ، وإلا فالأصل أن المعاني واحدة.
منهم من يقول: إنه إذا أُطلق الفعل مثلما ذكر السائل ، جاءوا بالتفرد، وإذا وصف الحديث جاءوا بالغرابة مثل ما ذكر السائل، وهذا كثير في كلامهم، ما يقال: أغرب به ، وإنما يقال: تفرد به، والسبب في ذلك: قرب المعنى في اللفظين .....(1/32)
س : هذا يقول: قررت حفظ ألفية العراقي، وألفية ابن مالك، ومنهاج البيضاوي في أصول الفقه ، منهاج الطالبين للنووي في الفقه ، وذلك بالتدرج ، ولكن أخبرني بعض الأخوة أن صرف الوقت في حفظ الحديث مثل البلوغ ورياض الصالحين يكون أفضل، وأنا في حيرة فما الأفضل عليَّ في أني أحفظ المتون الصغيرة مثل الآجرومية والورقات والنخبة والطحاوية؟
ج : على كل حال هذه الكتب من أهم المهمات عند أهل العلم وهي للطبقة العليا أعني ألفية العراقي وألفية ابن مالك ومنهاج البيضاوي، ومنهاج الطالبين للنووي، يعني منهاج الطالبين يعادل الزاد ، ومنهاج البيضاوي يعادل مختصر التحرير، والألفية سواء كانت ألفية ابن مالك أو العراقي الطبقة العليا، بعد أن توجد الأرضية في تجاوز كتب المرحلة الطبقة الأولى والثانية، فلابد من المرور، ولا يلزم إذا كانت الحافظة ضعيفة وخشي أن يمضي به العمر والوقت ويكون هذا على حساب الأصول، نقول: سدد وقارب؛ احفظ من ألفية العراقي ما يُخْتَار لك حفظه لا سيما الثلث الأول، واحفظ من ألفية ابن مالك ما يُحْتَاج إليه؛ لأن هذه العلوم الوسائل لا ينبغي أن تكون على حساب المقاصد؛ لأن بعض الناس يستهويه علم النحو، فيحفظ " الآجرومية " ويقرأ شروحها ويأخذ عليها وقت طويل، ثم بعد هذا " القطر " بجميع شروحه ، ثم " شذور الذهب" ثم " ملحة الإعراب " بشروحها، ثم " الألفية " ، ثم " المفصَّل " بشروحه ينقضي الأمر، والنحو كما يقول أهل العلم: كالمْلِح، إنما يحُتاج منه ما يفيد الطالب ، وكثير من طلاب العلم لا سيما في النحو قد يقول إنه: قرأ في كتب النحو، وحضر الدروس، لكنه إن قرأ في كتاب لَحَن ، ضبط القواعد وحفظها وفهم، لكن إن قرأ في كتاب لحن، وإن ألقى كلمة لحَن، فهل نقول: إنه استفاد من علم النحو مع هذه المعاناة، أو نقول: إن جهده ذهب سدى ؟
نقول: استفاد، لماذا ؟
لأن علم النحو يفيد فائدتين :....(1/33)
الأولى: تعديل اللسان، وهذا يحتاجه المعلم والخطيب، والذي يقرأ على الشيوخ بأمس الحاجة إليه، لكن إذا لم يستفد هذا هل يُحرم فهم المعاني المتغيرة بتغير الإعراب ؟
افترض أنه ينصب الفاعل، ويرفع المفعول، لكن إذا أعرب يعني هل يُتَصَور منه أنه يخطئ في الإعراب بعد معرفة هذه الأمور، يعني وهو يقرأ يسبق لسانه للخطأ، لكن إذا تأمل وقرأ: ضرب زيد عمرًا، ونطقها: ضرب زيدًا عمرٌو، وهو يريد العكس، سبق لسانه إلى الخطأ، نقول: أخطأ لا شك.
والفائدة الثانية : وهي تقويم اللسان ما استفاد هذا الرجل؛ لأن هذه بالمران تأتي، المران المصاحب للتعلم، وقد تجد طالب علم أقل في التحصيل من آخر، تجد هذا إذا قرأ يشنف السامعين ويطربهم، ولا يَلْحَن، والذي أعلى منه وأرفع وأعرف منه بهذا العلم لا يقيم جملة، يخطئ ويمل السامعون من قراءته، هذا ما تعوَّد، لكن الفائدة الثانية وهي فهم الكلام الذي يختلف معناه باختلاف إعرابه لن يُحرم من عرف النحو ؛ لأنه يقرأ يقول: ضرب زيدٌ عمرًا، لكن إذا أراد أن يُعرب لا يخطئ، وفهم الكلام مترتب على إعرابه، وخير ما يعين على التطبيق في هذا الفن، خير ما يعين إعراب القرآن، إذا انتهيت من الآجرومية انتهيت من الآجرومية طبقتها بشروحها، أعرب الفاتحة كاملة، إعرابًا مفصلًا، ثم بعد ذلك اعرض إعرابك على كتب إعراب القرآن، فإن طابق فأنت مستفيد مائة بالمائة، إن لم يطابق فبقدر ما يختل من المطابقة يكون الخلل في تحصيلك لهذا العلم، ومما يمتاز به شرح الأزهرية إعراب قصار السور، فهذا مهم ؛ لأن هذا الإعراب مع كونك تستفيد منه في العربية تستفيد منه في فهم القرآن ؛ لأن بعض الكلمات، كلمات القرآن لا يفهم معناها إلا إذا عُرِفَ موقعها من الإعراب.
س : يقول: قررتم إن ما حُفظ سريعًا يُنسى سريعًا، وفي الإجازة هناك دورات لحفظ القرآن والسنة فما رأيكم؟....(1/34)
ج : هذه الدورات لا شك أنها مفيدة، ونافعة لطالب العلم، وهل معنى ذلك أنك إذا انتهيت في شهرين من هذا الكم الهائل من الأحاديث أنك تكون ضبطت هذه الأحاديث وأتقنتها.
أولًا: الناس يتفاوتون ، منهم من يضبط في هذه المدة، ومنهم من يضبط بنسبة ثمانين في المائة، ومنهم من يضبط بنسبة ستين بالمائة، ومنهم من يضبط بنسبة تسعين في المائة وبعد شهر ينسى.
على كل حال هذه توطئة، لابد من أن يعاود سقي هذا الزرع، معنى إنك حفظت مختصر الصحيحين، مختصر البخاري ، وزوائد مسلم إنك خلاص تطبق الكتابين ، لا !! هذا بذر، فكيف أول مرة وظهرت سنابله خضر ، لكن يحتاج إلى الزيادة في السقي؛ تعاهده بالسقي لتكون الثمرة ناضجةً ، لأننا سمعنا من بعض من ينتسب إلى العلم من ينتقض هذه الدورات، ولا شك أن هذا صد عن التحصيل ، فهذه الدورات في غاية الأهمية ، والحمد لله أن الوسائل تنوعت ، ويمكن ضبط السنة وحفظ السنة، متون السنة بهذه الطريقة وأسانيد الأحاديث والتَفَقُه وفهم السنة على طريقة السلف بالطريقة التي شرحناها مرارًا .
والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.....(1/35)