بسم الله الرحمن الرحيم
اجلس بنا نؤمن ساعة
مقدمة:
بين يدي هذه السلسلة
في بيان غايتها ومنهجها
لن ينفك الداعية المؤمن بين جذبين:
جذب إيمانه، ونيته، وهمته، ووعيه، وشعوره بمسؤوليته، فهو من ذلك في عمل صالح، أو عزمه خير.
وجذب الشيطان من جهة أخرى، وتزيينه الفتور، وحب الدنيا، فهو من ذلك في غفلة، وكسل وطول أمل، وتراخ عن تعلم ما يجهل.
وهذا التردد بين الجذبين قديم لا ينقطع، وبسببه، أوجب المؤمنون على أنفسهم جلسات تفكر وتأمل وتناصح، يتفقدون فيها النفس أن يطرأ عليها كبر أو بطر، والقلب أن يعتوره ميل، والعلم والإيمان أو يتلبسا بإفراط يزيد بدعة، أو تفريط يهمل أمرًا وإرشادًا.
وقد ترجم معاذ بن جبل رضي الله ع نه هذا الإحساس بكلمة عدت مادة في دستور أجيال المؤمنين، فقال لصاحبه وهو يذكره: (اجلس بنا نؤمن ساعة)(1).
فأخذها ابن رواحة، فقال لأبي الدرداء، رضي الله عنهما، وهو آخذ بيده: (تعالى نؤمن ساعة، إن القلب أسرع تقلبا من القدر إذا استجمعت غليانا).
فأخذناها عنهما، ف كانت هذه المواعظ في فقه الدعوة، ندعو معها داعية الإسلام أن يجلس مع كل موعظة ساعة، يؤمن ويراجع نفسه، وعلمه، وهمته.
بقية.. وأمل
وهكذا وضعت هذه السلسلة لتخاطب دعاة الإسلام، من المصلين المعتزين بدينهم، المتحلين بأخلاق المؤمنين، دون الغافلين، فضلا عن المنحرفين.
ذلك أن العلم الإسلامي اليوم لا يحتاج لحل مشكلته إلى انتقال جمهور جديد من المنحرفين والغافلين إلى التمسك بالإسلام، بمقدار ما هو بحاجة سريعة إلى توعية المتمسكين به، وبعث هممهم، وتعريفهم طريق العمل وفقه الدعوة، ولا تزال هناك بقية باقية منا لمؤمنين كثير عددها، تكفي لقيام الخير الذي نبغي وريد، إذا عرفت التجرد، وتقللت من الدنيا، وبعدت عن الفتن، وصبرت في المحن، وأجادت فن قيادة الأمة.
__________
(1) صحيح البخاري 1/10.(1/1)
ولهذا، فإن هذه المواعظ سوف لا تورد كلاما فكريا في الموازنة بين الإسلام والمذاهب الاجتماعية، والاقتصادية الحديثة، ولا تحاور المخلطين الذين يجمعون مع الإسلام غيره، بل اقتصرت على مخاطبة مسلم، صادق الإيمان، نقي العقيدة، يتألم لواقع المسلمين الحاضر ويحزن، فتدله على طريق العمل المثمر وسبل الخلاص، وما يلزمه من الارتقاء بتربية نفسه إلى مستوى متطلبات هذا الطريق، أو تخاطب مواعظنا داعية عرف طريق العمل، وانخلع عن المحاولات الفردية، وآثر العمل الجماعي مع ميامين نفروا لمقارعة الجاهلية والرجوع بالأمة إلى إسلامها، لكنه بحاجة إلى تثبيت، وزيادة بذل، وترقيق قلب.
فمن غفل عن هذه المقاصد: أخطأ التعرف على أهمية هذه السلسلة واضطرب في الاستفادة منها.
حاجة أهاجت القلب
ومن مارس التربية الحركية الإسلامية يدرك ندرة الكتب التي تفي بمثل هذه الحاجات من دون أن يكون بها بعض العيب، من حديث ضعيف، أو تفسير مرجوح، أو بلاغة متكلفة، أو استعانة بأقوال أهل البدع، أو استعمال لأسلوب معقد وتبويب يسرف في التقسيم يأباه الاسترسال الواجب في المخاطبات الإيمانية، أو حشر لسجع ممول متكرر، أو إيراد لكلمات وحشية غريبة واصطلاحات مخترعة مبهمة، وأمثال ذلك.
وإذا سلم كتاب من هذه العيوب، ولم يكن مطولا طولا منفرًا، أو مختصرا اختصارًا يجعله يسد القليل من الحاجة دون احتواء معظم المرحلة التربوية، أو مخلوطًا بمباحث خلافية وردود فلسفية كلامية لا يحتاجها الداعية، فإنه قد لا يخلو من نقص عام يقتصر معه مؤلفه على ذكر أخلاقيات المسلم الفرد، ويهمل ذكر مستلزمات الدعوة الجماعية والعمل الحركي.
ثم إن الكثير من الكتب الحديثة قد أغفلت إيراد أقوال الأئمة من السلف، ولم تحرص على بركة كامنة في نصوص الدعاة القدماء.
وبدأت بالاقتباس من القرآن الكريم.(1/2)
ثم ولجت الصحيحين، للبخاري ومسلم، واقتصرت عليهما فلم أتعدهما إلا قليلا، وإلى حديث صحيح، وخلصت مواعظي بذلك من الحديث الضعيف والموضوع.
ونخلت كتاب الزهد لعبد الله بن المبارك، وكتاب الزهد لأحمد بن حنبل، وكتب أخرى في الرقائق والتعريف بطبقات الصالحين، متحريا أبلغ الأقوال معنى ومبنى، معرضا عما صح معناه ورك لفظه، فضلا عن الذي جزل مبناه واشتبه مقصده، وحريصا على ما ينسب إلى الصحابة والتابعين والأئمة القدماء، مقلا عمن بعد القرن الفاضل الثالث، وإن كانوا نجباء، إلا الدعاة منهم، كابن تيمية، وابن القيم، وابن الجوزي.
أوهام وثقات
وأيضًا، فإني في هذا السياق، قد استفدت من أقوال جمهرة من الزهاد الثقات الذين يظنهم بعض المتشددين ضعافا مبتدعين بسبب أقوال ابتداعية نسبها لهم من بعدهم، هم منها أبرياء.
كمثل إبراهيم بن أدهم، والفضيل بن عياض، وبشر بن الحارث الحافي، والجنيد البغدادي، وعبد القادر الكيلاني.
إبراهيم بن أدهم على درب الاستقامة
فأما إبراهيم بن أدهم، فهو ثقة بإطلاق، وقد ترجم كتاب (تهذيب التهذيب) لابن أدهم ترجمة جيدة كشفت عن إجماع النقاد من علماء الرجال على توثيقه.
ولعل من اللازم أن أذكر القارئ هنا بأن هذا الكتاب يعتبر المرجع الرئيس الأول في علم الرجال، فقد ألف الحافظ المقدسي كتابه،: (الكمال في أسماء الرجال) وأودع فيه جميع أقوال الأئمة في رجال الصحيحين والسنن الأربعة، معتمدًا على تواريخ البخاري وكتاب ابن أبي حاتم وكتب ابن معين وأصحابه، وأمثال ذلك، ثم جاء الحافظ المزي فاختصره وسماه (تهذيب الكمال)، وجاء الحافظ ابن حجر العسقلاني من بعد÷ فاختصره وزاد عليه أشياء فاتتهما، وهي كثيرة، وعقب عليهما، وسمى مختصره: (تهذيب التهذيب) ولا زالت المقارنة بين كتاب ابن حجر هذا، وبين المصادر الأصلية التي اعتمد عليها هؤلاء الحفاظ الثلاثة، مما طبع ورأيناه، تبدي دقة بالغة في نقلهم النصوص منها.(1/3)
وأثمن توثيق تبديه ترجمة ابن أدهم في تهذيب التهذيب(1) يكمن في قول الإمام يحيي بن معين فيه، فقد قال عنه إنه: (عابد ثقة).
واصطلاح: (ثقة) عند ابن معين يدل على منزلة أعلى من مجرد الصدق، فالثقة عنده وعند معظم الأئمة هو: من كان صدوقا، ورعًا، بعيدًا عن البدعة الغليظة.
وناهيك بابن معين ناقدًا للرجال، فقد انعقد الإجماع على قبول رأيه، لما له من تشدد بالغ في توثيقهم.
ونتقدم قليلا، لنجد محمد بن عبد الله بن نمير الكوفي يقول في ابن أدهم أيضًا إنه (ثقة).
واصطلاح: (ثقة) عند ابن معين يدل على منزلة أعلى من مجرد الصدق، فالثقة عنده وعند معظم الأئمة هو: من كان صدوقا، وروعًا بعيدًا عن البدعة الغليظة.
وناهيك بابن معين ناقدًا للرجال، فقد انعقد الإجماع على قبول رأيه، لما له من تشدد بالغ في توثيقهم.
ونتقدم قليلا، لنجد محمد بن عبد الله بن نميز الكوفي يقول في ابن أدهم أيضًا إنه: (ثقة).
وما أدراك من ابن نمير هذا؟
هو (دره العراق) كما يقول الإمام أحمد بن حنيل، وتلمذ له البخاري وروى عنه في صحيحه، وسماه الحسن بن سفيان الفسوي: (ريحانة العراق)، وقال علي بن الجنيد: (كان أحمد وابن معين يقولان في شيوخ الكوفيين ما يقول ابن نمير فيهم)، فهو العمدة في التعريف برجال الكوفة، وقد عاش ابن أدهم دهرًا طويلا في الكوفة قبل أن ينزل الشام وبعد ذلك.
وكذلك الإمام النسائي صاحب السنن، فقد قال إن ابن أدهم: (ثقة مأمون أحد الزهاد)، والنسائي ثبت حجة في الرجال، يميل مذهبه إلى التشدد في توثيقهم، كما هو معلوم عند أهل هذا الفن.
وقال الإمام يعقوب بن سفيان: إبراهيم بن أدهم من الخيار الأفاضل، وهذا اللفظ يتجاوز مجرد الاعتراف له بأهلية رواية الحديث إلى الإقرار بالخيرية والفضل.
وقال الإمام الدارقطني صاحب السنن، إذا روي عنه ثق-ة فهو صحيح الحديث.
__________
(1) تهذيب التهذيب 1/102.(1/4)
وقال العجلي: ابن أدهم ثقة، والعجلي ناقد بصير متخصص في النقد، ولكتابه في الثقات منزلة عند المحدثين.
وقال ابن حبان في كتاب (الثقات): كان ابن أدهم صابرًا على الجهد، والفقه، والورع الدائم، والسخاء الوافر إلى أن مات في بلاد الروم سنة 161هـ.
ولعل أحدًا يتململ هنا ويقول: ابن حبان متساهل في التوثيق، وينسى أن التساهل المنسوب إلى ابن حبان مخصوص في الذين لم يجد أحدًا يوثقهم أو يجرحهم، فيرجح جانب الستر فيهم ويصنفهم في الثقات من دون إطراء، ولكنه هنا يطري على رجل معروف مشهور.
وقال أبو الأحوص: رأيت من بكر بن وائل خمسة ما رأيت مثلهم، فذكر ابن أدهم فيهم.
ومن لا خبرة له بعلم الرجال يمر على مثل هذه الأقوال مرورًا عابرًا، لجهله بمنازل أصحابها، ولا يدري -مثلا- أن أبا الأحوص هذا هو شيخ جمهرة من شيوخ البخاري، وحديثهم عنه متوافر في الصحيح، وكان كوفيا معاصراً لإبراهيم بن أدهم، وذكروا عنه أنه كان: (ثقة صاحب سنة وأتباع) (1)، أي أه كان صحيح العقيدة، حاثا على اتباع السنن، داعيًا إليها، ولم يكن يروي الحديث فقط، ومن كان في مثل هذه الحال، كيف يسوغ له توثيق مبتدع؟
وقال الإمام أحمد بن حنبل في كتاب الزهد: سمعت سفيان بن عيينة يقول: رحم الله أبا إسحاق -يعني إبراهيم بن أدهم- قد يكون الرجل عالمًا بالله ليس يفقه أمر الله.
ومرة أخرى يتعرض قليل الخبرة هنا للوهم حين يظن أن هذه الكلمة تحمل شبه تضعيف، لما في ظاهرها من إشعار بذلك، ولكنها أقرب الكلمات إلى توثيق عقيدة ابن أدهم، فابن عيينة يقر هنا بأن ابن أدهم من العلماء بالله، أي بتوحيده وصفاته، لكنه ليس بفقيه في الأحكام والأمر والنهي وفروع المعاملات.
وهذا القول على الأخص، ينفي الجانب الذي يرتكز عليه من يتهم ابن أدهم، إذ إن ابن عيينة وإن أقام بمكة وصار إمامها، إلا أنه كوفي الأصل، وله مع ابن أدهم مجالس.
__________
(1) تهذيب التهذيب 4/283.(1/5)
هذه هي التوثيقات التي أوردها ابن حجر خلال ترجمة إبراهيم في تهذيب التهذيب، ويمكننا أن نضيف لها توثيقات أخرى تؤخذ بالقرينة من نفس الترجمة، فقد ذكر أن إمام الكوفة سفيان الثوري، المعاصر لابن أدهم، قد روي عنه الحديث، وكذلك الأوزاعي إمام الشام، وروايتهما وإن لم تكن دلالة توثيق كاملة، إلا أنها تلقي في القلب نوع اطمئنان.
ومن القرائن الأخرى أيضًا: أن الترمذي روي له في باب الطهارة من سننه حديثا معلقا، وما هي بدلالة توثيق كاملة، نقولها مرة أخرى، لكنا نعرف أنهم كانوا يتجنبون أصحاب البدع العظيمة والعقيدة الفاسدة.
ولهذا نجد ابن تيمية قد سبقنا، فشهد لابن أدهم، وقال: (أما المستقيمون من السالكين، كجمهور مشايخ السلف، مثل الفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم...) (1).
وهذه تزكية طاهرة لعقيدة إبراهيم.. تتجاوز مجرد الإقرار له بالصدق.
ويهم بعضهم حين يفهمون أن توثيقات النقاد الذين ذكرناهم، لابن أدهم، تقتصر على توثيق روايته للحديث دون تزكية عقيدته، وأن أصحاب الحديث قد يروون لمبتدع صادق.
فهذا القياس لا يرد، إذ أن الصادقين أصحاب البدع، الذين أوردت المدونات الحديثة لهم شيئا من رواياتهم، كانت بدعتهم معروفة مشهورة في جيلهم، فذكرها النقاد، ونصوا على تلبسهم بها، ومع ذلك أجازوا الرواية عنهم، وجعلوا حديثهم حجة أو صالحًا للاستشهاد به، بمقدار بدعتهم، أما الذين أطلقوا فيهم القول بالتوثيق، فيشمل قولهم توثيق عقيدتهم، وأجزم بذلك وإن لم يكن بين يدي قول ناقد يقرر ذلك قاعدة، ولكنه الاستقراء الذي جعل ما أقول واضحًا لدى كل متداولي علم رجال الحديث، فإن جمع أقوال علماء الجرح والتعديل، على نحو ما أودع في كتاب تهذيب التهذيب، لم يترك أحدًا من المبتدعة إلا وذكرت بدعته في ثنايا ترجمته، إن أغفل ذكرها ناقد: ذكرها آخر ولا بد، ولم يفلت أحد من تدقيقهم.
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 10/516.(1/6)
فتضعيف إبراهيم بن أدهم إذن، يصطدم بعقبة توثيق القدماء له، خصوصا وإن فيهم ابن عيينة الذي صرح بأن ابن أدهم من العلماء بالله، ناهيك عن شهادة ابن تيمية له بالاستقامة، وهو الخبير بجزئيات المواقف العقائدية لأجيال المسلمين التي سبقته، خبرة لا نستطيع التقليل من شأنها.
فضيل سيد المسلمين
وأما الفضيل بن عياض فعالي المكانة، وخصه كتاب التهذيب بترجمة رائعة(1).
وأول من يوثقه: صاحبه أمير المحدثين عبد الله بن المبارك، إذ قال: (وأما أورع الناس: ففضيل).
وقال: (ما بقي على ظهر الأرض عندي أفضل من فضيل).
وقال: (إذا نظرت إلى فضيل: جدد لي الحزن، ومقت نفسي).
وظاهر أن توثيقه هذا لا يشمل الرواية فقط، بل هو يقر بالأفضلية العامة، ولا يكون أفضل الناس من هو مبتدع، وقد روى ابن المبارك عن الفضيل تأكيدًا لقوله فيه.
ووثقه أيضًا إمام العراق عبد الرحمن بن مهدي، فقال:
(فضيل بن عياض رجل صالح ولم يكن بحافظ).
وروى عنه، وهو لا يروي إلا عن ثقة.
وكذلك سفيان بن عيينة إمام مكة، قال: (فضيل ثقة) وروى عنه.
وقال شريك القاضي نموذج العدل: (لم يزل لكل قوم حجة في زمانهم، وإن فضيل بن عياض حجة لأهل زمانه).
وقال أبو حاتم: (صدوق).
وقال الدارقطني إمام بغداد: (ثقة).
وأما النسائي فقال: (ثقة مأمون رجل صالح).
ورأى شيخ البخاري الحسين بن حريث حديث الفضيل حجة، وروى عنه.
عده القواريري شيخ البخاري ثاني أفضل المشايخ الذين رآهم، وروى عنه.
ووصفه عثمان بن أبي شيبة الكوفي، شيخ البخاري ومسلم بأنه: (كان ثقة صدوقا، وليس بحجة)، أي يطلب لحديثه متابعًا.
وقال العجلي: (كوفي ثقة، متعبد، رجل صالح).
وقال ابن سعد صاحب الطبقات: (كان ثقة نبيلا فاضلا عابدًا ورعًا كثير الحديث).
وذكره ابن حبان في الثقات، ووصفه بالورع الدائم، والخوف الوافر، والبكاء الكثير.
__________
(1) تهذيب التهذيب 8/294.(1/7)
ومن القرائن الدالة على حسن حاله: رواية رهط آخر من الثقات عنه، فقد روى عنه الإمام الشافعي، ويحيي بن سعيد القطان إمام البصرة، وشيخا البخاري ومسلم: يحيي بن يحيي التميمي، وعبد الله بن مسلمة القعنبي، وهما من أصحاب مالك الكبار، وشيخ البخاري: أحمد بن عبد الله بن يونس، أحد رؤوس العلم في الكوفة، ومسدد بن مسرهد الذي قال فيه البخاري خلال صحيحه: هو مسدد كاسمه، وعبد الله بن الزبير الحميدي، ثالث المزني والبويطي في صحبة الشافعي، وإمام خراسان: قتيبة بن سعيد، وهما نم شيوخ البخاري ومسلم.
وحديث الفضيل نفسه تجده في الصحيحين.
ولم يضعفه إلا قطبه بن العلاء، إذ اتهمه بأنه روى أحاديث فيها إزراء على عثمان رضي الله عنه، فقال: ابن حجر: (لم يلتفت أحد إلى قطبة في هذا)، وأورد عن الفضيل ما يدل على توفيره لعثمان، عكس ما ادعاه قطبة.
وأما ابن تيمية فقد أكثر من مدحه، فسماه في موضع: (سيد المسمين في وقت) (1)
وعده من "المؤمنين"، وسلف الأمة، وأكابر المشايخ(2).
وأسلفنا أنه عده في المستقيمين من السالكين.
وعده في الفتوى الحموية من الأئمة، وذكر عنه عقيدة صحيحة.
معلم الزهد
وأما بشر بن الحارث الحافي فقد قلده أبو حاتم وسامه، مع تشدده البالغ، فقال (ثقة، مرضى) (3).
وقيل لأحمد بن حنبل: مات بشر، فقال: (مات رحمه الله وما له نظير في هذه الأمة إلا عامر بن عبد قيس)، وعامر هذا تابعي ناسك من أقران أويس.
وقال الإمام إبراهيم الحربي: (ما أخرجت بغداد أتم عقلا ولا أحفظ للسانه من بشر).
وقال ابن حبان في الثقات: (أخباره وشمائله في التقشف، وخفي الزهد، والورع، أظهر من أن يحتاج إلى الإغراق في وصفها).
وقال الدارقطني: ثقة، زاهد.
__________
(1) سماع الصوفية، وهي مطبوعة ضمن مجموعة رسائل بعنوان: الجامع الفريد ص677.
(2) الوصية الكبرى، ضمن مجموعة الرسائل الكبرى 1/319.
(3) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ج1، ق1، ص356.(1/8)
وقال الخطيب البغدادي، (كان ممن فاق أهل عصره في الورع والزهد، وتفرد بوفور العقل، وأنواع الفضل، وحسن الطريقة، واستقامة المذهب، وعزوف النفس).
وقال مسلمة بن قاسم الأندلسي: (ثقة فاضل).
كل ذلك في ترجمته في تهذيب التهذيب(1).
وأخباره في الانتصار للإمام أحمد خلال محنة خلق القرآن مبسوطة في كتاب ابن الجوزي حول مناقب أحمد، ولا أعلم أحدًا ضعفه.
وأما تركه التكسب، واعتماده على ربح أخته من بيعها الصوف المغزول، فليس بعيب، إذ كانوا يرون أنفسهم معلمين للأمة يجب تفرغهم، وكان شعبة بن الحجاج، رأس أهل جيله من المحدثين، متفرغًا للحديث، يعيش على مال أخيه الكادح، ولم يعبه أحد بذلك.
الجنيد من أئمة الهدى
أما الجنيد فلنا فيه توثيق ابن تيمية.
قال: (كان الجنيد رضي الله عنه سيد الطائفة إمام هدى).
وكررها بعد، فقال: (والجنيد وأمثاله: أئمة هدى) (2).
وقال: (كان الجنيد رضي الله عنه سيد الطائفة، ومن أحسنهم تعليمًا وتأديبًا وتقويمًا) (3).
ولما بين الفرق بين الإرادة الكونية القدرية، والإرادة الدينية، قال: (وكانت هذه المسألة قد اشتبهت على طائفة من الصوفية، فبينها الجنيد رحمه الله لهم، من اتبع الجنيد فيها كان على السداد، ومن خالفه ضل) (4).
وعدة في أخرى ضمن المشايخ الموثوق بهم(5).
ووصفه أيضًا بأنه شيخ عارف مستقيم(6).
وأثنى ابن القيم عليه كذلك، في مواضع من المدارج(7).
الكيلاني القدوة
وذكر ابن تيمية الشيخ عبد القادر، فوصفه بأنه:
__________
(1) تهذيب التهذيب 1/444.
(2) مجموعة فتاوى ابن تيمية 5/491.
(3) مجموعة فتاوى ابن تيمية 10/686.
(4) مجموعة فتاوى ابن تيمية 11/245.
(5) الرد على المنطقيين/515.
(6) مدارج السالكين 2/276/511، 3/121.
(7) مجموع فتاوى ابن تيمية 10/488.(1/9)
(من أعظم مشايخ زمانهم أمرًا بالتزام الشرع والأمر والنهي وتقديمه على الذوق والقدر، ومن أعظم المشايخ أمرًا بترك الهوى والإرادة النفسية) (1).
وعده في ثنايا كلام آخر من (أئمة الدين) (2).
ثم جعله في جملة (المشايخ أهل الاستقامة)(3).
وسماه ابن القيم: (الشيخ العارف القدوة) (4).
غنيمة الزهاد لنا فيها سهم..!
فها قد بأن لك سلسلتنا هذه لا تعتمد إلا على ثقة نال تزكية أئمة نقاد الرجال.
والحقيقة أن المسلم يستطيع أن يوسع دائرة اعتماده، ويستفيد من بعض أقوال الآخرين من الزهاد غير هؤلاء، ابتعدوا عن كفر وحدة الوجود وما يقاربه من البدع الغليظة، لكنهم لم يستطيعوا الخلاص من بدع دون ذلك أدت بهم إلى بعض الشطحات والمجازفات، فإن هذا الاعتماد الموسع لأقوال مثل هؤلاء المخلطين قد أجازه ابن القيم، واعتبره منهج أهل الموسع لأقوال مثل هؤلاء المخلطين قد أجازه ابن القيم، واعتبره منهج أهل العدل والإنصاف، وقرر أن:
(هذه الشطحات أوجبت فتنة على طائفتين من الناس:
إحداهما: حجبت بها عن محاسن هذه الطائفة، ولطف نفوسهم، وصدق معاملتهم، فأهدروها لأجل هذه الشطحات، وأنكروها غاية الإنكار، وأساءوا الظن بهم مطلقا، وهذا عدوان وإسراف، فلو كان كل من أخطأ أو غلط: ترك جملة، وأهدرت محاسنه، لفسدت العلوم والصناعات، والحكم، وتعطلت معالمها.
والطائفة الثانية: حجبوا بما رأوه من محاسن القوم، وصفاء قلوبهم ونقصانها، فسحبوا عليها ذيل المحاسن، واجروا عليها حكم القبول والانتصار لها، واستظهروا بها في سلوكهم.
وهؤلاء أيضًا معتدون مفرطون.
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 10/507.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 10/516.
(3) راجع أيضًا 8/319.
(4) مدارج السالكين 1/197.(1/10)
والطائفة الثالثة: وهم أهل العدل والإنصاف، الذين أعطوا كل ذي حق حقه، وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته، فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول، ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح، بل قبلوا ما يقبل، وردوا ما يرد) (1).
ثم قال مؤكدًا منهجه الوسط هذا:
إن (البصير الصادق يضرب في كل غنيمة بسهم ويعاشر كل طائفة على أحسن ما معها) (2).
وقد كان (مدارج السالكين) لابن القيم، ذلك الكتاب الرائع، أوضح ثمرة لمنهجه هذا.
ومع ذلك، فإننا آثرنا التشدد، وعزفنا عن سعة منهج ابن القيم، وحصرنا أنفسنا في دائرة الثقات فقط، حبا في أن لا نترك لناقد مجالا، فلم نقرب الضعفاء من أصحاب الشطح، ولا ذكرنا كتاباً فيه مدحهم وذكر أقوالهم إذا اضطررنا لنقل أقوال الثقات منه، احتياطًا، وحذرًا أن يعتقد الداعية الناشيء الصلاح المطلق لهذه الكتب المشوبة، أو يظن أننا نزكيا ونجيز له مطالعتها.
إحياء يقتبس من إحياء
إلا (إحياء علوم الدين) للغزالي، إن أصر المتشدد على اعتبار أخطائه شطحًا، فإن السهم في غنيمته مؤكد لكل من يطلبه، وما زاد ابن تيمية خلال (الرد على المنطقيين)، و(مجموع الفتاوى) على أن ناقش بعض تأثراته بالأشاعرة، ووجدنا من السهل علينا وعلى الناشيء تجنب ما في الإحياء من أحاديث ضعيفة، أو دعوة إلى مبالغة في الزهد يذهب فيها إلى أبعد من مجرد التقلل، وآثرنا أن نسلك مسلك أبي الحسن الندوي، حين رأي أنه:
__________
(1) مدارج السالكين 2/39/370.
(2) مدارج السالكين 2/39/370.(1/11)
(على ما تعقب على الغزالي في الإحياء من إيراد أحاديث ضعيفة، بل موضوعة في كثير من الأحيان، وأشياء من كلام الصوفية الممعنة في الغلو وهضم النفس وترك المباحات، وقد لا تتفق مع أصول الدين، ومع ما ورد فيه من مواد كلام الفلاسفة، إلى غير ذلك من مآخذ تعقبها العلامة الحافظ ابن الجوزي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، مع اعترافهما بفضل الكتاب، فإن كتاب الإحياء في مقدمة الكتب الإسلامية التي انتفع بها خلائق لا تحصى في كل عصر وجيل، وأثرت في النفوس تأثيرًا لا يعرف إلا عن كتب معدودة، ولا يزال الكتاب الذي يكثر قراؤه والمعجبون به والمتأثرون به في أكثر البلاد، ولا يزال زاخرة في الدين، ومصدرًا قويًا من مصادر الإصلاح والتربية) (1).
ولا نجادل في أن الداعية الناشئ، مكلف بأن يكون له كثير نظر في القرآن، والصحيحين وشروحهما، قبل أن يبيح لنفسه النظر في الإحياء وكتب الزهد والرقائق، وأن يقدم بين يدي مطالعته لها مطالعة (مدارج السالكين) لابن القيم أو تهذيبه (تلبيس إبليس) لابن الجوزي، وطائفة من كتب ابن تيمية، ليتجنب العمل بما يري في كتب الزهد من أحاديث ضعيفة، واصطلاحات تحمل أكثر من وجه، ورياضات ذكروها لم يأمر بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه.
وأما كتب من اعتقد وحدة الوجود، ولهج بها، وجعلها ديدنه، واقتفى أثر الحلاج والبسطامي، وابن الفارض، فالواجب أطراحها، ولا بد أن يكون داعية الإسلام في عافية مما فيها، وقد طهرت هذا الكتاب من ذكرهم وذكر أقوالهم تطهيرًا.
قدوات
__________
(1) رجال الفكر والدعوة/46.(1/12)
ثم إني تتبعت بعد كتب الزهد: سير الدعاة من الفقهاء والمحدثين والأمراء، في تاريخ الطبري، وتهذيب التهذيب وطبقات ابن سعد، وطبقات الشافعية، وطبقات الحنابلة، وتاريخ بغداد، وأمثالها، واستللت منها فوائد كثيرة، أضفتها إلى ما اقتبسته من الحديث وأقوال الزهاد، فكان ما شاء الله من النص القديم المبارك، الجامع لفقه أطباء القلوب ن الصحابة والتابعين وتابعيهم، الذين هم خير الناس، فإن أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ خير أمة أخرجت للناس، وأولئك خير أمة محمد.
سادة وفتوح
وعرجت بعد ذلك على إنتاج العصر الحديث، ولباب أقوال قادة الحركات الإسلامية المعاصرة، فبدأت بأبرك وأصفى وأصدق كلام فيه، كلام الإمام البنا رحمه الله.
ومررت بما كتبه سيد، والأستاذ المودودي، وأعلام من الدعاة إلى الله، وآخرون من الثقات الذين ما كانت مشاعرهم بعيدة عن الدعوة والدعاة، كمصطفى صادق الرافعي، وعبد الوهاب عزام، وغيرهم.
وكان بعض إكثار في اقتباسي عن سيد، فإنه -كما وصفه الأستاذ الندوي-: (من فتوح الإسلام الجديدة) (1).
ومن عرف رسائل الإمام البنا، وميز عبارات المودودي في (الجهاد) و(منهاج الانقلاب الإسلامي) و(نظرية الإسلام السياسية): بدا له بوضوح أثرهما العميق في كلام سيد في: التجمع الحركي، والقاعدة الصلبة، والمفاصلة، وتكشفت له أصول الكثير من لفتاته وعباراته.
ويبدو لي، أن سيد قد قصد من ظلاله المنقح(2)، أول ما قصد: شرح ورسم خطوط هذه القواعد الحركية في التجمع، ومفاصلة الجاهلية وتربية الصفوة المؤمنة المختارة، مقدمًا لدعاة الإسلام مادة الوعي الحقيقي الصائب.
__________
(1) مذكرات سائح في العالم العربي، 90.
(2) * نقح السيد وأعاد كتابة الأجزاء الأولى حتى الرابع عشر، وأعدم قبل إتمام التنقيح.(1/13)
وستقوم هذه المواعظ بانتقاء أهم ما تناوله قلم سيد في الفقه الحركي في مختلف المناسبات التي أتاحتها الآيات، مع شرح فقه الظلال بما يماثله مما في كتبه الأخرى، وبما يكمله مما في رسائل المودودي، وبما يكشف عن أصوله عند الصحابة والتابعين وفقهاء الصدر الأول.
وإنما اقتصرت في النقل عن هؤلاء الأفاضل جميعا على ما يحتاجه الدعاة لإتقان عملهم، وما يلزمهم من أخلاق المؤمنين لقطع الطريق، من صبر، وشجاعة، وأخوة، وخوف من الله، ورجاء لرحمته وزهده، وقصر أمل، وطاعة قادة، ثم ما يجب أن يداووه من أمراض القلوب، من غرور، وكبر، وهوى نفس، ونكث بيعة، إضافة إلى بيانهم وجوب العمل الجماعي، وفنونه، وأصول تربية الآخرين.
وهكذا ظفرنا بكل معنى حسن أشار إليه يحيي بن معاذ الزاهد لما قال: (أحسن شيء: كلام رقيق، يستخرج من بحر عميق، على لسان رجل رفيق) (1).
وأحسبه يعني مثل هذا الكلام الرقيق، الذي استخرجته لك -أيها الداعية- ن بطون هذه الكتب العميقة، وغيري إنما خلطة ما استخرجه من الساحل بما ظفر به من الأعماق، وأبيت أنا إلا أن استخرج لك من الأعماق فحسب، ولم أرض إلا كل نادر بليغ، وستعلم كم من الرفق كانت تحمله قلوب هؤلاء الرجال الذين أهدوا لك ثمرات تجاربهم ونتائج تأملاتهم، فخلدت كلماتهم وسرت في الناس، معلنة عما لها من الاتصال بسند الحق.
(ولن تخلد الكلمة على الأجيال إلا أن اتصلت بالحق والخير، وكان لها من قوانين الله في خلقه سند، ومن إلهامه لعباده مدد.
ورب بارقة يرمي بها سلطان مسلط، أو صنم مشهور، ف تدوي حينا، وتأتلق زمانًا، ثم تصمت وتنطفئ، وتكون كالشهاب يحور رمادًا بعد التهاب، بما كان دويها من صوت الباطل لا الحق، وائتلاف من زخرف الكذب لا الصدق.
__________
(1) تاريخ بغداد 14/209.(1/14)
ولا ينطق بكلمة الحق الخالدة إلا عقل مدرك، وقلب سليم، إلا قائل يعتد بنفسه ويثق برأيه، فيرسل الكلام أمثالا سائرة، وبينات في الحياة باقية، لا يصف وقتا محدودًا، ولا أمرًا موقوتًا، ولا إنسانًا فردًا، ولا حدثا واحدًا، ولكنه يعم الأجيال والإعصار، والبلدان والأقطار.
وعلى قدر عظم القائل: تجد هذا العموم في قوله، يبغي أن يجعل كلماته للناس منهاجًا، وفي ظلمات الحياة سراجًا وهاجًا) (1).
رب شعر يرتاع منه الكلام
ثم إني وجدت بعض الكتب الإسلامية الحركية التربوية قد فصلت بلا مسوغبين النثر والشعر، وحرمت المربين من استعمال مئات الأبيات والقطع من شعر الرقائق، أو شعر الحماسة، أو شعر العقيدة والفكرة، مما قاله ثقات الشعراء القدامي والمحدثين، وشعراء هذه الدعوة المباركة. والمرء ربما (يسمع المعنى نثرًا، فلا يهز له عطفا، ولا يهيج له طربا، فإذا حول نظمًا، فرح الحزين، وحرك الرزين.. وقرب من الأمل البعيد) (2).
و(أن من الشعر حكمه) كما يقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
(وإنما الوزن من الكلام كزيادة اللحن على الصوت: يراد منه إضافة صناعة من طرب النفس إلى صناعة من طرب الفكر) (3).
لهذا ملنا إلى إيراد الأشعار، والاستعانة بها في هذه المواعظ، قاصدين أن نضيف إلى المعاني التي يستحسنها فكر الداعية نوعًا من استحسان نفسه لها، ليرسخ المعنى، ويطول تأمله وتذكره.
وليس أدل على أهمية الشعر في نصر العقائد وترويجها ما كان له من دور في إسعاف أهل البدع وترويجها لدى العوام، مضادة لمساعي ابن تيمية وتلامذته عندما انبروا لتفنيدها ودمغها بحجج السنة الغراء.
(ولا ريب أن منطق ابن تيمية القوى أثر أثره، ولكن جفاف المنطق لا يقوى على مقاومة نضرة الشعر وفتنته). كما شاعر الإسلام محمد إقبال(4).
__________
(1) الشوارد لعزام/ 340.
(2) خريدة القصر/ القسم العراقي 1/202.
(3) وحي القلم للرافعي 3/285.
(4) كتاب محمد إقبال لعبد الوهاب عزام/52.(1/15)
وهو كما قال، فإن الذي قلل من سريان كلام ابن تيمية في أوساط العامة هو ما كان عليه أئمة الضلالة الداعين إلى البدع من روعة البيان، ورقة الشعر، وتمكنهم فيه، حتى سحروا قلوب الناس بشعرهم من حيث لا يشعرون، ولم يتهيأ لابن تيمية شاعر مبدع يسانده.
إن للشعر هذه القابلية في إسعاف من يستعمله وتزيين الخطأ أو الصواب، ونصرة الحق أو الباطل، على حد سواء في كل شؤون الفكر وحقائق الحياة، إذ النفس الإنسانية تحب الجمال، والشعر جمال كله، وبإمكانه أن يزيد الحق والصواب نضرة وزهاء ورونقا ووضوحًا، أو أن يخفي ما يشين صفحة الباطل والخطأ والوهم من خروق ونتوء واعوجاج، فينطلي عيبه بالتزويق، ولا يتخلص من أسر الشعر وتأثيره إلا قلب عامر بالإيمان عمرانًا كافيًا.
إن هذه الظاهرة الشعرية هي التي دفعتني إلى الاستعانة بالشعر في هذه المواعظ، ولئن كان يقلل من تذوق بعض الدعاة لهذا الشعر العربي الرصين الواضح الذي اخترته، ما أصابهم من هذا الذي أصاب عموم الجيل العربي الجديد من ضعف الحاسة الأدبية، فإني أرجو أن يكون عملي هذا محاولة للارتفاع بهذا الذوق لدى الدعاة، ولئن كان باعي في الشعر قصيرًا، فإن في إنتاج الثقات غني وبركة، ولئن كان أكثره منشورًا من قبل، فإن في هذا الانتقاء تقوية وحفظًا وترويجًا وبعثًا جديدًا له.
سلف وأتباع
ولنا اقتداء في استعمال شعر الرقائق بالإمام أحمد، فقد كان يحفظ شيئا منه أملاه على ثعلب، الأديب المشهور، وسمعه أصحابه ينشد الشعر، ووقف الشعراء بين يديه أيام محنته يمدحونه، بل تنسب إليه قطعة نظمها في عتاب علي بن المديني حين لم يصبر معه على العذاب(1).
وقال له أحد أصحابه:
(يا أبا عبد الله: هذه القصائد الرقاق التي في ذكر الجنة والنار، أي شي تقول فيها؟
فقال: مثل أي شيء؟
قال يقولون:
إذا ما قال لي ربي………أما استحييت تعصيني؟
وتخفى الذنب من خلقي………وبالعصيان تأتيني؟
فقال: أعد علي.
__________
(1) مناقب أحمد ابن الجوزي/205.(1/16)
قال: فأعدت عليه، فقام ودخل بيته، ورد الباب، فسمعت نحيبه من داخل البيت، وهو يقول:
إذا ما قال لي ربي ………أما استحييت تعصيني..) (1).
وأما استعارة بعض الأبيات التي قيلت في مدح أناس ثقات من الخلفاء والقادة الكرماء لوصف دعاة الإسلام بها، فذلك مما لا يأباه العرف المأثور عن السلف، ونقتدي بفعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين سمع أيبات زهير بن أبي سلمي في هرم بن سنان المري:
دع ذا وعد القول في هرم………خير الكهول وسيد الحضر
في أبيات أخرى.
فقال عمر: ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ(2).
وبهذه القناعة في جدوى الشعر وجوازه: اقتبست الكثير من دواوين القدماء، ثم من دواوين وليد الأعظمي، ومحمود آل جعفر، والأميري، وعبد الوهاب عزام، وغيرهم.
وكذلك أضفت شيئا من شعر إقبال، شاعر الإسلام الفحل مما في دواوينه: (رسالة المشرق) و(الأسرار والرموز)، (وضرب الكليم)، فدخل شعره لأول مرة في المواعظ العربية من بعد ما ترجمه عبد الوهاب عزام.
وإقبال شاعر صحيح العقيدة، عميق الرؤية، سليم التفكير، وقد وثقه أبو الحسن الندوي وخصص له دراسة سماها: (روائع إقبال)، كما وثقه المودودي في مقال مهم نشرته مجلة البعث الإسلامي الهندية(3)، بين فيه فضل إقبال في توجيه الجيل الذي أسرته الحضارة الغربية، وإبعاده عن ضيق القوميات، وتأكيد صورة الدولة الإسلامية لديه، حتى إن الأستاذ المودودي وصف عمل إقبال بأنه عمل عظيم في مجال الإصلاح، له قيمة لا ينساها التاريخ الإسلامي، وأنه استطاع إنقاذ الجيل المسلم الذي كانت تتلقفه فتن جديدة، ونظريات مختلفة.
__________
(1) تلبيس إبليس لابن الجوزي/218.
(2) الأغاني 10/304.
(3) مجلة البعث، مجلد 16 عدد 4 الصادر في شوال 1391هـ.(1/17)
وفوق هذا، فقد كان لإقبال في أواخر حياته عمل مهم ضخم جدًا، في ميزان الإسلام، وهو تخصيصه قلمه لفضح القاديانية والأحمدية، والتحذير منهما، ووجدته شديد الإنكار على زيغ وحدة الوجود، خلاف ما يفهم البعض عنه.
إن صفاء فكر إقبال حدا بسيد إلى أن يقول:
(قد رأيت بين أفكار محمد إقبال وبين وجهة نظري توافقا غريبا، قد تخطى المعاني إلى الكلمات، خصوصًا فيما يخص الوجدان والروح. وإني لشديد الشوق إلى دراسة إقبال ونصوصه) (1).
استرسال مع فطرة الجمال
والمجاز والجناس والتشبيه مثل الشعر، وصاحب الذوق يدرك أن حديث الحماسة يكون أبعد تأثيرًا، إذا ازدان بهذه الفنون البلاغية، ولذلك اقتبست منها ما يخلو من التكلف.
(وما المجازات والاستعارات والكنايات، ونحوها من أساليب البلاغة، إلا أسلوب طبيعي لا مذهب عنه للنفس الفنية، إذ هي بطبيعتها تريد دائمًا ما هو أعظم، وما هو أجمل، وما هو أدق. وربما ظهر ذلك لغير هذه النفس تكلفا وتعسفا ووضعا للأشياء في غير مواضعها، ويخرج من هذا أنه عمل فارغ وإساءة في التأدية، وتمحل لا عبرة به، ولكن فنية النفس الشاعرة تأبى إلا زيادة معانيها، فتصنع ألفاظها صناعة توليها من القوة ما ينفذ إلى النفس ويضاعف إحساسها، فمن ثم لا تكون الزيادة في صور الكلام وتقليب ألفاظه وترداد معانيه إلا تهيئة الزيادة في شعور النفس.) (2)، فمن الناس (من يعجبه حسن اللفظ، ومنهم من يعجبه الإشارة، ومنهم من ينقاد ببيت من الشعر، وأحوج الناس إلى البلاغة: الواعظ، ليجمع مطالبهم، لكنه ينبغي أن ينظر في اللازم الواجب وأن يعطيهم من المباح في اللفظ قدر الملح في الطعام، ثم يجتذبهم إلى العزائم، ويعرفهم طريق الحق.) (3).
قادة أنا لهم تابع
__________
(1) مذكرات سائح/ 149.
(2) وحي القلم/3/213.
(3) صيد الخاطر لابن الجوزي/100 طبعة محمد الغزالي.(1/18)
ومن عجب أن يجعل البعض اعتماد المؤلفين على النقل من كتب معاصريهم عيبا يعيب به أسلوبهم، ويقلل به من قيمة مؤلفاتهم، ويفرح بمن لا ينقل، ولو كان يصوغ أفكار غيره بألفاظه الخاصة، وهذا إنما مرده: البطر العلمي، فإن الكاتب لا بد له من الاستفادة من مجهود غيره، فيستعير منه الالتفاتة الجميلة، والمصطلح الناجح، والتعبير البليغ، وقد اقتبس السيد في الظلال نصف رسالة الجهاد للمودوي في مكان واحد.
وفي هذه السلسلة كان لابد مع هذا الاستعارة العرفية من أن أتواضع أمام فحول الفقهاء، وقادة الدعوة، وأن أترك لهم التعبير عن أصول العمل الإسلامي، مقتصرا على جمع ما تفرق من أقوالهم، محييا له بالتنسيق، مضيفا شيئا من الفوائد من خلال التعقيب عليه، فأدع الداعية أمام كلام من اتفقت كلمة الدعاة على توثيقه، والقلوب على حبه، بدل وضعه أمام كلام مجهول مثلي، وما أنا بالذي يقرب شأوهم، ويداني فضلهم، وإنما سوغت لنفسي الاستعجال في المشاركة في تبيين فقه الدعوة، وأقحمت قلمي إقحامًا في مجالاته: سدًا لذريعة حرمان الدعاة من معان ألمس لزوم الإسراع في تذكيرهم بها، أنسى بعضهم إياها ما هم فيه من خلاف أو حرص دنيوي، غير المعاني الأخرى التي أوردتها لهم، مما يحتاجون لها في تفهيم الجدد، وتربية الشباب.
وذولك الذي عنيته إذ وصفت عملي بإنه (إحياء) لفقه الدعوة، فهو إحياء لكلام المعاصرين بالتنسيق والموازنة، كما أنه إحياء لكلام أولئك القدماء بالبعث من بعد نسيان، في محاولة اجتهادية تكميلية من خلال الجمع بين الكلامين، نسأل الله تعالى السلامة والصواب فيها.
فلأن شطرًا كبيرًا من هذه الاستلالات يمثل أسطرًا خفية أرجعناها بطول التفتيش والتنقيب في كتب التراث إلى ميدان التداول والمدارسة، أو يمثل أسطرًا مهمة من بين بحوث طويلة للمعاصرين: كان عملنا كالإحياء.(1/19)
فعنوان (إحياء فقه الدعوة) وإن أشعر بتقليد الغزالي في إحيائه لعلوم الدين، إلا أن له من حقيقة دلالة لفظه نصيبا كبيرًا.
خلاصة متكاملة
وهكذا اكتملت هذه المواعظ في الدعوة، وصفات الداعية، والمدونة اللطيفة في أعمال القلوب وترقيقها.
وأظنها أول مواعظ شاملة تنخل القديم وتغربله، وتستفيد من الجديد، وتمزج النثر بالشعر، مجردة فقه العمل الحركي وأدب الرقائق والحماسة دون فروع المعاملات، مسترسلة في الخطاب على الأسلوب الحديث غير مكتفية بإيراد الأقوال المستحسنة في تعداد جامد استسهلته كتب المواعظ القديمة، مع هجر كل كلمة يحتاج القارئ إلى قاموس لغوي لفهمها، والنقاء من الحديث الضعيف، والإسرائليات، والأساطير، وقصص الكرامات المبالغ فيها، والبعد جهد الإمكان عن تكرار اللفظ.
فلكل فصل واعظ………ضرب من التعبير أوحد
لا أعمل اللفظ المكر………ر فيه والرأي المردد
فهنا تجد:
رصانة القديم، وشرحه الحديث.
وبليغ النثر، ورفيع الشعر.
والمجاز الرمزي، ومنطق التعليل.
والعربي من البحوث، والمعرب المترجم.
في جمع متناسق يهديك زبدة التذكير، وخلاصة الفقه.
وحسبنا ذلك وكفى:
فدونك والارتياد لنفسك وللشباب الذين معك من غرر الفكر وأغترف علمًا بغير رشاء، واستعد لاستقبال كل أصيل، فإني لم أ[ق حلبة منطق إلا وقد سبقت سوابقها إليك جيادي.
ولقد بدأنا معك اليوم في هذه الحلقة ببيان ضرورة الانخلاع عن السلبية، ووجوب إنكار المنكر في عمل جماعي منظم، وسنطرق في الحلقات التالية إن شاء الله تعالى أبواب الجهاد، والزهد، وأصول التربية والتحذير من الفتن وسبل النجاة منها، وأحاديث عامة في الحث على العمل والتخلق بأخلاق المؤمنين، ومباحث أخرى في المسار المرحلي وتطوير الدعوة.(1/20)
وليلتفت الأخ الداعية إلى ضرورات عدة حدت بنا إلى تجزئ هذا المواضيع وعدم نشرها في كتاب ضخم واحد، مراعيًا التكامل في معانيها، ناظرًا إلى ما في طبيعة كل حلقة من استدراك على الحلقات الأخرى، فالدعوة إلى الزهد لا تعني استساغة الزهد المبتدع وهجر الجهاد، والدعوة إلى الجهاد لا تعني التهور والمجازفة، كما أن المبالغة في الحث واتعاب البدن في العمل لا تؤخذ على ظاهرها بعيدة عن ضوابط التربية.
ولا بد أيضًا، خلال كل ذلك، من الالتفات إلى حقيقة الآراء المطروحة، وكونها من الآراء الشخصية البحتة المعبرة عن مفاهيم كاتبها فحسب، وما هي إلا اجتهادات فردية لا تمثل رأيا رسميا لجماعة من الجماعات الإسلامية العاملة، ولا تتحمل قياداتها مسؤولية خطأ يرد فيها، أو غلو تتورط فيها، أو تسهل وتفريط تجنح إليه.
عمق وارتفاع
وبعد يا داعية الإسلام:
فقد قيل: إن قائل الحكمة وسامعها شريكان، أولاهما بها من حققها بعمله، فحقق هذه الحكم بعملك: تكن أولى بها، وأجدر أن تنسب إليك.
وابدأ بإصلاح نفسك: يصلح الذين معك من ناشئة الدعوة، فإنها وصية الإمام الشافعي، أرشد بها مؤدب أولادها هارون الرشيد، فقال:
(ليكن أول ما تبدأ به إصلاح أولاد أمير المؤمنين: إصلاحك نفسك، فإن أعنتهم معقودة بيدك، فالحسن عندهم ما تستحسنه، والقبيح عندهم ما تركته).
فانرظ إلى قوله: القبيح عندهم ما تركته!
لم يقل له: القبيح عندهم ما قلت لهم إنه قبيح، بل ما لم تعمل به ولم تقربه.
وقد سئل الإمام أحمد عن الرجل يكثر من كتابة الحديث وطلبه، أيسوغ له ذلك.
فقال:
(ينبغي أن يكثر العمل به على قدر زيادته في الطلب).
وهذه الصفحات زيادة في العلم، سوغت لنفسك حيازتها، فوجبت عليك زكاتها، على مذهب الإمام أحمد.
فامض قدمًا، واقتحم.....
أنت نشء، وكلامي شعل
على شدوي مضرم فيك حريقا
ليس في قلبي إلا أن أرى
قطرة فيك غدت بحرًا عميقًا
لا عرى الروح هدوء، ولتكن
بحياة الكدح والكدح خليقا(1/21)
وما ارتفع صوت الحادي يوما لرفقة أولى صمم.
ولا ارتفع الفلك الأعلى لغير أهل الشموخ....
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] نرفض الأهواء
(إياكم وكل هوى يسمى بغير الإسلام).
صرخة تحذير صرخها المحدث الثقة ميمون بن مهران رحمه الله، حين خاف أن يخدعنا بريق الأسماء المغايرة، ما زال صداها مسموعًا عبر الأجيال.
فهو ينبهنا إلى أن كل ما هو (غير الإسلام) لا يعدو أن يكون هوى من الأهواء، مهما تعدد شكل هذا الغير، وأيًا كان الزمن الذي يظهر فيه.
وهذا هو المأثور عن جميع أئمة المسلمين، ليس عندهم إلا حق واحد، وهو الوحي، وما عداه فهو الهوى المذموم الذي لا يمدح شيء منه ولا يلتحق بالحق، ولا يجوز للمسلم أن يحتكم إليه أو يطمئن إليه قلبه.
وحي... أو الأهواء
وقد استوفى الإمام الشاطبي تقرير ذلك في إيجاز، فقال في الموافقات:
(قد جعل الله اتباع الهوى مضادًا للحق، وعده قسيما له، كما في قوله تعالى: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ)الآية.
وقال تعالى: (فَأَمَّا مَن طَغَى* وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى) وقال في قسيمة: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* .فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى).
وقال: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى).
فقد حصر الأمر في شيئين: الوحى، وهو الشريعة، والهوى، فلا ثالث لهما.
وإذا كان الأمر كذلك فهما متضادان، وحين تعين الحق في الوحي: توجه للهوى ضده، فاتباع الهوى مضاد للحق.
وقال تعالى: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ).
وقال: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ).(1/22)
وقال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ).
وقال: (أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ).
وتأمل. فكل موضع ذكر الله تعالى فيه الهوى فإنما جاء به في معرض الذم له ولمتبعيه، وقد روى هذا المعنى عن ابن عباس أنه قال: ما ذكر الهوى في كتابه إلا ذمه.
فهذا كله واضح في أن قصد الشارع: الخروج عن اتباع الهوى)(1).
ليس من طريق وسط
وما يزال ذاك أمر الله تعالى إلى رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقال جل من قائل: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ).
(فأما شريعة الله، وإما أهواء الذين لا يعلمون، وليس هنالك من فرض ثالث، ولا طريق وسط بين الشريعة المستقيمة والأهواء المتقلبة، وما يترك أحد شريعة الله إلا ليحكم الأهواء، فكل ما عداها هو يهفو إليه الذين لا يعلمون) (2).
(إنها شريعة واحدة هي التي تستحق هذا الوصف، وما عداها أهواء منبعها الجهل، وعلى صاحب الدعوة أن يتبع الشريعة وحدها، ويدع الأهواء كلها، وعليه ألا ينحرف عن شيء من الشريعة إلى شيء من الأهواء) (3).
ثم ما يزال ذاك أمره تعالى إلى المؤمنين، مخاطبًا لهم أن:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ).
إما هدى الله، وإما غواية الشيطان، وبمثل هذا الحسم يدرك المسلم موقفه، فلا يتلجلج، ولا يتردد، ولا يتحير بين شتى السبل، وشتى الاتجاهات.
إنه ليست هنالك مناهج متعددة للمؤمن أن يختار واحدًا منها، أو يخلط واحدًا منها بواحد.
__________
(1) الموافقات 2/121.
(2) في ظلال القرآن 25/136
(3) في ظلال القرآن 25/136.(1/23)
كلا! إنه من لا يدخل في السلم بكليته، ومن لا يسلم نفسه خالصة لقيادة الله وشريعته، ومن لا يتجرد من كل تصور آخر، ومن كل منهج آخر، ومن كل شرع آخر، إن هذا في سبيل الشيطان، سائر على خطوات الشيطان)(1).
فتنة.... وحذر
وقد سمى الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله رد الشيء الواحد من كلام رسول الله زيغًا، فقال:
نظرت في المصحف، فوجدت طاعة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ثلاثة وثلاثين موضعًا).
ثم جعل يتلو: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ).وجعل يكررها ويقول:
(وما الفتنة؟: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ، فيزيغ قلبه فيهلكه) (2).
إنكار بعض الشريعة كفر
ولكن الزيغ درجات.
فزيغ هو كفر محض ينتقل صاحبه إلى ما وراء حائط الإسلام، يحصل ويتحقق بأن يعلم امرؤ علما وافيا بحكم شرعي في العقيدة أو الأحكام ويعلم ثبوته بآية في كتاب الله أو بكلام م تواتر عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ثم يدعى عدم إيمانه بصلاح هذا الحكم الشرعي للعمل به، ويصفه بأنه يفون المصالح، أو بأنه لا يتناسب مع التطور، وما إلى ذلك.
فهذا هو من عنته الآيات بأنه يؤمن ببعض ويكفر ببعض، وما من خلاف بين المسلمين في تكفيره.
__________
(1) الظلال 2/142.
(2) الصارم المسلول على شاتم الرسول، لابن تيمية/56.(1/24)
فشيخ الإسلام ابن تيمية مثلا، يذهب في كلام صريح إلى تكفير هؤلاء أصحاب الإيمان الجزئي، ويأتي بأدلة من القرآن الكريم، ويعلن، رحمه الله، عدم اقتصار صفة الكفر على الملحد، ومنكر جميع الرسالة بل أن: (المؤمنين ببعض الرسالة دون بعض كافرًا أيضًا، كما قال تعالى: (الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) ويقولون: (نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً* أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا*وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَّحِيمًا).
وقال تعالى يخاطب أهل الكتاب: (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنْكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا* وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا).(1/25)
وقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاَءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) (أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَن يَلْعَنِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا).
ثم ينبه ابن تيمية، بعد سرده هذا الآيات، إلى أن الله تعالى خلالها، قد:
(ذم الذين أوتوا قسطا من الكتاب لما آمنوا بما خرج عن الرسالة وفضلوا الخارجين عن الرسالة على المؤمنين بها، كما يفضل ذلك بعض من يفضل الصابئة من الفلاسفة والدول الجاهلية – جاهلية الترك والديلم والعرب والفرس وغيرهم – على المؤمنين بالله وكتابه ورسوله، كما ذم المدعين الإيمان بالكتب كلها وهم يتركون التحاكم إلى الكتاب والسنة، ويتحاكمون إلى بعض الطواغيت المعظمة من دون الله، كما يصيب ذلك كثيرًا ممن يدعي الإسلام وينتحله، في تحاكمهم إلى مقالات الصابئة الفلاسفة أو غيرهم، أو إلى سياسة بعض الملوك الخارجين عن شريعة الإسلام من ملوك الترك وغيرهم، وإذا قيل لهم: تعالوا إلى كتاب الله وسنة رسوله: أعرضوا عن ذلك إعراضًا)(1).
فابن تيمية-كما ترى- يفسر الطاغوت الوارد في الآية بأنه صاحب كل مقال يخالف الكتاب والسنة، وأن سمى نفسه فيلسوفًا أو ملكًا، والإيمان بالله، دون الإيمان برسوله وأوامره وتعاليمه إنما هو تفريق يؤدي إلى الكفر، ولا اعتراف بمن يريد أن يتخذ الحل الوسط والدين المخلط المرقع، أولئك الذين وصفتهم الآية بأهم يريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، أي سبيلا ثالثا وسطا بين سبيل الإسلام وسبيل الآراء البشرية، فيجمع من هذا ومن هذا مزيجًا مركبًا يحكم الناس به.
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 12/339.(1/26)
وكثرة من حكومات البلاد الإسلامية، والأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية اليوم، لا تصرح بالإلحاد، وإنما تدعو إلى منهاج وأنظمة منافية لبعض أحكام الإسلام في الحلال والحرام، فتحل الكثير مما حرم الله، وتحرم الكثير مما أحل الله، عالمة بوجه مخالفتها للشريعة، قد بين علماء الإسلام ورجال الحركة الإسلامية لها الخلط الذي وقعت فيه، والتبعيض، والإيمان الجزئي، ومع ذلك أصرت على المخالفة والعودة إلى أهوائها.
فهذا كفر لا ريب فيهن والعياذ بالله.
لا نكفر مسلمًا بغير برهان
ثم هناك من الزيغ ما هو دون ذلك وأصغر.
قال ابن تيمية:
(قال غير واحد من السلف: كفر دون كفر، ونفاق دون نفاق، وشرك دن شرك) (1).
درجات متعددة من العصيان، منه اللمم، ومنه الكبائر، وما بينهما، يرتكبها المسلم شهوة، في ضعف من الهمة، وبعد عن المروءة، من دون أن يخطر على باله نفي ما أتت الشريعة به وخالفه، أو يفعل ذلك جهلا بأحكام الشريعة، لا يكلف نفسه عناء الاستفتاء، وما هو بعناء، أو يتأول تأولا.
ومحور الاستدلال في هذا عندنا قول البخاري رحمه الله:
(المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها، إلا بالشرك، لقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنك امرؤ فيك جاهلية)(2).
فأنت ترى أن استشهاد البخاري بهذا القول النبوي الشريف واضح الصواب، والمخاطب به: أبو ذر رضي الله عنه، مع أنه كان من أجل الصحابة، لما حصل منه من تعيير بلال بأمه السوداء.
فالمعصية الواحدة هي شعبة من الجاهلية كما يقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكلما زادت معاصي المسلم زادت نسبة ما فيه من الجاهلية، ولكن لا ينتقل إلى الجاهلية كلية إلا بالشرك في العبادة أو اعتقاد حل بعض ما حرم الله أو اعتقاد حرمة بعض ما أحل الله، وإيمانه ببعض وكفره ببعض.
__________
(1) مجموع الفتاوى 11/140.
(2) صحيح البخاري 1/15.(1/27)
وهذا هو السر في تشديد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على الحذر في تكفير من يظهر الإسلام، وقوله: (إيما امرئ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه) (1).
وهذا هو السر أيضًا في تشديد الإمام حسن البنا على ذلك، وقوله في الأصول العشرين: "لا نكفر مسلما أقر بالشهادتين، وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض، برأي أو بمعصية، إلا إن أقر بكلمة الكفر، أو أنكر معلومًا من الدين بالضرورة، أو كذب صريح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملا لا يحتمل تأويلا غير الكفر).
وهو المفهوم الوارد في الشرح العراقي للأصول العشرين، وقوله أن:
(تكفير المسلم على وجه يخرجه من الإسلام خطير جدًا، فلا بد من صدور ما يخرجه عن الإسلام قطعًا، كأن يأتي قولا أو عملا لا يحتمل أي تأويل في كفر صاحبه، مثل أن ينكر القطعي من الدين، كوجوب الصلاة، وحرمة الربا، أو عدم لزوم التقيد بالإسلام، أو استهزأ بالإسلام أو بالقرآن، أو سب الله ورسوله، أو لوث القرآن بالقذر، أو كذب صريح القرآن، أو أنكر اليوم الآخر، أو قال: إن الشريعة صارت عتيقة وذهب زمانها، ولا تصلح للتطبيق ولا لزوم لها في الوقت الحاضر، وغيرها ذلك، مما يجعل قائله أو فاعله كافرًا قطعًا.
أما إذا صدرت منه معاص، كشرب الخمر مع إقراره بأصول العقيدة الإسلامية، فهو عاص لا كافر، كذلك إذا قال قولا أو عمل عملا يحتمل التأويل، فلا نكفره بقوله أو عمله هذا.
ومن الجدير بالذكر أننا نطلق على بعض الأفعال، أو ترك بعض الأفعال، اسم الكفر، كما جاءت بها النصوص الشرعية، مثل "ترك الصلاة كفر"، أما تكفير شخص معين بالذات، فلا بد من صدور ما يكفر به يقينا، مثل جحوده فرض الصلاة، استتابته والقول له: إذا لم تصل نقتلك، ويصر على الترك، ويؤثر القتل، فهذا دليل خلو قلبه من الإيمان ويموت كافرًا.
كذلك يجب أن نعلم أن الكفر نوعان.
__________
(1) صحيح مسلم 1/57.(1/28)
كفر أصغر لا يخرج صاحبه من الإسلام.
وكفر أكبر يخرج صاحبه من الإسلام.
وعلى ضوء هذه التفرقة نستطيع أن نفهم بعض النصوص، مثل: "من حلف بغير الله فقد أشرك" فهذا شرك غير مخرج من الإسلام، وإنما هو معصية غليظة جدًا، وهكذا"(1).
حساسية النفس المؤمنة!
ولكن هذا الحذر في التكفير، لا يمنعنا من رؤية مدى الانحراف البالغ السعة، الذي جنح إليه معظم المسلمين.
نعم، هم من المسلمين.
لكنهم في المعاصي والغون؟، قد انحدروا إلى أدنى درجات الإيمان، وتخلفوا عن منازل الفضل.
ووراء ذلك قصة طويلة، تبدأ من يوم ما بدأت الفتوح والإدارة تستهلك تدريجيًا تلك الصفوة المؤمنة من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، المندفعة بعد موته لإتمام مهمته في نشر الدين بأروع الاندفاع، المنتشرة مثل شعاع الشمس، تفتح البلاد وتحطم الطواغيت، وتقود الناس إلى الجنة.
فما إن أتت السنوات الأخيرة من القرن الأول حتى كان نوع بطر قد سرى إلى جيل جديد ممن خلف أولئك الأفذاذ، فلانت له نفوس، وضعفت عزائم كان أولى لها أن تواصل تحطيم بقية الطواغيت.
ويهيئ الله تعالى للأمة عمر بن عبد العزيز رحمه الله، بما حباه من روح عالية، فيري في مجرد ذاك البطر القليل والقعود دلالة انحراف ع ن الحق، ويستعظم أن تكون أمة الجهاد قد خف اندفاعها، فيقول حزينًا:
(إني أعالج أمرًا لا يعين عليه إلا الله، قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وفصح عليه الأعجمي، وهاجر عليه الأعرابي، حتى حسبوه دينا لا يرون الحق غيره) (2).
كلمة قالها عمر فيحزن عميق، مع أنه يتسلم قيادة أمة تسود، وتفيض بمعاني الخير، وتحكم نفسها عمومًا بشرع الله.
إنه استكبار واستعظام المؤمن لصغار المعاصي، وقليل البدع، وهين الظلم، وأوليات الترف.
__________
(1) شرح الأصول العشرين/55.
(2) سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم/37.(1/29)
وإنها نفس المؤمن في حساسيتها البالغة إزاء معاني العدل والظلم، والاتباع والابتداع، والبذل والدعة.
ولذلك تجد المؤمن أبدًا ساعيا في طلب الأفضل الأكمل، غير مستعد لغض بصره أو كف لسانه عن ميل.
جيلنا المخدوع
ومضت من بعد عمر قرون وأجيال، نصر الإسلام في حقب منها أبطال من القادة والمصلحين، وسادت الغفلة في حقب أخرى، حتى رأينا الأمة في يومها هذا وقد انهكتها خطط اليهود ودول الكفر، وسلبتها خيرها، بما أضعفته من إيمانها، وبدلته من موازينها، وبما أقصته من حكم قرآنها، وما فرضته وربت عليه ذراري المسلمين من تصورات مغايرة للإسلام تكسبها مختلف الأسماء وتلبسها متعدد الثياب.
فإن كان في قلب المرء بقية من إيمان، وإثارة من غيرة، يأبى معها التنصل من دينه: صرعوه بالتزوير، وخدعوه بالتمويه، فيجعلوه أسير ساسة وأدباء ومستشرقين لا فقه لهم، يتشبثون بنصوص عامة من القرآن والحديث، وربما من الحديث الموضوع، لتخرج نظم السياسة والاقتصاد تخريجا إسلاميا دون ضابط من أصول الفقه وشروط الاجتهاد.
فمحنة المسلمين اليوم لا تقتصر على تسلط أئمة الضلالة فحسب، بل تعدت ذلك إلى تربية سخرت المناهج الدراسية وكراسي الجامعات والصحف والإذاعات لمسخ الأفكار والقيم، حتى غدا صيد المخططات في سرور، يحسب نفسه في انعتاق من أسر القديم، أي قديم كان.
إن عصاة المسلمين اليوم ضحية تربية أخلدتهم إلى الأرض، أرادت لهم الفسوق ابتداء، لتستخف بهم الطواغيت انتهاء.
وإنها خطة قديمة، يأخذها الطاغونت اللاحق عن الطاغوت السابق، حتى تصل أصولها إلى فرعون، (وذلك كما يقول الله سبحانه: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ). فهذا هو التفسير الصحيح للتاريخ، وما كان فرعون بقادر على أن يستخف قومه فيطيعوه لو لم يكونوا فاسقين عن دين الله، فالمؤمن بالله لا يستخفه الطاغوت، ولا يمكن أن يطيع له أمرًا)(1).
__________
(1) الظلال 9/45.(1/30)
وهكذا أدركوا المقتل الذي عرفه فرعون، فتواصوا بالإفساد، وأخذوا (يحولون المجتمعات إلى فتات غارق في وحل الجنس والفاحشة والفجور، مشغول بلقمة العيش لا يجدها إلا بالكد والعسر والجهد، كي لا يفيق، بعد اللقمة والجنس، ليستمع إلى هدى أو يفيء إلى دين) (1).
وصارت تلك سياستهم.
(سياسة محاربة المساجد بالمراقص.
ومحاربة الزوجات بالمومسات.
ومحاربة العقائد بأساتذة حرية الفكر.
ومحاربة فنون القوة بفنون اللذة) (2).
وهكذا تحول بهذه التربية ذلك الصقر الإسلامي إلى مثل طائر الحجل في وداعته، كما يقول إقبال.
إنه الأدب والترويض الذي استعمله أئمة الضلالة.
أدب:
يسلب السرو جميل الميل
ويرد الصقر مثل الحجل
يسحر الركبان باللحن المبين
ولقاع البحر يهوي بالسفين
نومت ألحانه يقظتنا
أطفأت أنفاسه وقدتنا(3)
وأشرب الناس الذل...
إن (الإنسان- بفطرته- نفر من الذل، آب على الحيف، ولكن تحيط بالناس أحوال، وتتوالى عليهم حادثات، فيراضون على الخضوع حينا بعد حين، ويسكنون إلى الخنوع حالا بعد حال، حتى يدربوا عليه، كما يستأنس السبع، ويؤلف الوحش، ولكن يبقى في النفس ذرات من الكرامة، ومن الدماء شذرات من الجمر، فإذا دعا الداعي إلى العزة، وأذن بالحرية، وأيقظ الوجدان النائم، وحرك الشعور الهاجد: نبضت الكرامة في النفس، وبصت الجمرة في الرماد، وفاقت في الإنسان إنسانيته، فأبي وجاهد، ورأى كل ما يلقي أهون من العبودية، وأحسن من هذه البهيمية.
كل ذل يصيب الإنسان من غيره، ويناله من ظاهره: قريب شفاؤه، ويسير إزالته، فإذا نبع الذل من النفس، وانبثق من القلب، فهو الدواء الدوي والموت الخفي.
__________
(1) الظلال 9/122.
(2) وحي القلم للرافعي 2/258.
(3) كتاب (محمد إقبال) لعبد الوهاب عزام/162.(1/31)
ولذلك عمد الطغاة المستعبدون إلى أن يشربوا الناس الذل، بالتعليم الذليل والتأديب المهين، وتنشئة الناشئة عليه بوسائل شتى، ليميتوا الهمة، ويخمدوا الحمية، وإذا بيدهم العصا والزمام)(1).
الظبي الجفول!
وكان من تمام ما يلزمه هذا الترويض أن يضيقوا على دعاة الإسلام، ليستبد بالتوجيه التربوي والإذاعي والصحافي أدعياء العلم والشعر والحكمة، الذين موهوا أمرهم بأسماء منظمات تبدو في ظاهرها مختلفة، وطفقوا يزينون للجيل الجديد، سليل المجاهدين وشبل الأسود، أن يكون رقيقا للشهوات والجنس والعيش الرغيد، وبدءوا يمحون تراث الأمة الذي نهضت به، ويطمسون قصص العلماء، حذرًا من أن تكون نبراسًا للجيل يستدل بها على طريق العمل.
فذلك قول شاعر الإسلام إقبال رحمه الله:
ليس يخلو زمان شعب ذليل
من عليم وشاعر وحكيم!
فرقتهم مذاهب القول لكن…
جمع الرأي مقصد في الصميم:
علموا الليث جفلة الظبي وامحوا
…………قصص الأسد في الحديث القديم
همهم غبطة الرقيق برق
كل تأويلهم خداع عليم(2)
وقد كان....
هذا هو عنوان خطة الكيد اليهودي والصليبي، إنه تعليم الليث الإسلام جفلة الظبي.
ومحو قصص أسد الإسلام من العلماء والزهاد والمجاهدين من تاريخ القرون الفاضلة الأولى لهذه الأمة المجاهدة.
وأنتجت خطط التربية ذاك الظبي الجفول الذي لم يعد يقتحم، واستبدال التلفت بالعزم، وتعلم المسارعة إلى الهرب.
إنهم هذا الجيل من أبناء المسلمين.
شبل أسد تحول إلى ظبي وديع.
وحر استرقوه ففرح.
__________
(1) الشوارد، لعبد الوهاب عزام/318.
(2) ديوان ضرب الكليم لإقبال/102.(1/32)
ومرت الخطة، حتى إن ما نلحظه اليوم لدى بعض المخلصين من ميل إلى العزلة والخوف من التعاون مع بقية المسلمين ليس إلا من آثار هذه التربية، ودليلا على نفاذها، وليس ذلك بمستغرب، فإنها إذا نجحت في إبعاد الكثيرين عن الإسلام، فمن باب أقرب أن تبعدهم عن بعض الإسلام، وتقنعهم بترديد الكلام، والاعتزال، والتماس الحذر من عمل يعرض للمتاعب.
وعندئذ بدأت المرحلة الثانية بعد أن أمنوا، وصارت عملية التحول السريع إلى الجاهلية..
ضرورة الانتشال السريع
يقف الداعية المسلم اليوم كذلك الموقف الذي وقفه عمر بن عبد العزيز، فيحس بوجوب السعي لانتشال الأمة من تيهها الذي تهيم فيه، ويدرك أن لا مناص له من التقدم للأخذ بقيادها وإن أبت، مع ما يكلفه الأمر من التعب والنصب.
فلا ريب أن السواد الأعظم قد انحرف عن غير ما قصد كيد، ولا إرادة سوء، وهم أهل لأن يشاركوا الدعاة في إرجاع الأمة إلى إسلامها، والسير في خط الحركة الإسلامية، والدوران في فلكها، إذا انجلى لهم جانب الانخداع الذي هم فيه.
ثم يقف الداعية وقف أخرى، فيجد أن الأمر كما قال عمر: صعب، قد فني عليه الكبير، وكبر عليه الصغير، وهاجر عليه الأعرابي.
فماذا يفعل؟
أيترك المحاولة؟ أم يؤجل إلى حين؟
كلا.
ليس من ترك، فإنه ليس في منهجه شيء من زيف ولا نقص، وآية كما له هؤلاء الشباب الأحرار الذين يتغنون بالقرآن في عصر المادة والشهوات، والقليل يؤدي إلى الكثير، والصبر مفتاح ما انغلق.
وليس من تأجيل، فإن مرور الزمن ليس من صالحه، وأن الطغيان كلما طال أمده تأصلت في نفوس المتميعين معاني الاستخذاء، ولا بد من مبادرة تنتشل، ما دام في الذين جرفهم التيار بقية عرق ينبض، وبذرة فطرة كامنة.
إنه (ليس أشد إفسادًا للفطرة من الذل الذي ينشئه الطغيان الطويل، والذي يحطم فضائل النفس البشرية، ويحلل مقوماتها، ويغرس فيها المعروف من طباع العبيد:
استخذاء تحت سوط الجلاد.
وتمردًا حين يرفع عنها السوط.(1/33)
وتبطرًا حين يتاح لها شيء من النعمة والقوة) (1).
وإذن، فليس من المصلحة الانتظار.
ولابد من ضم جدد تتسع بهم قافلة الأحرار.
الانطلاق المزدوجة
وهكذا، لحقيقة وجود هذه الظباء الجفولة، والعصاة الذين تخلفوا عن منازل الفضل، ولحقيقة كفر بعض حكومات الأمة الإسلامية وأحزابها وأفرادها اليوم، بإيمانهم ببعض الإسلام دون بعض: وجب وجود حركة إسلامية، آمرة بالمعروف، مستنهضة للهمم، ناهية عن الانحراف، كابتة له، محاولة إقامة حكم للإسلام.
وإنما استطردنا هذا الاستطراد لندلل على انتفاء الحاجة للحكم على جميع المجتمع الحاضر بالجاهلية، وأن الداعية المسلم يمكنه الانطلاق بحرية وافرة انطلاقا مزدوجًا في آن واحد لا حرج فيه.
فهو ينظر إلى الحكومة الداعية إلى نهج يخالف الشرع، أو الحزب الداعي إلى مثل ذلك، أو الفرد المتفلسف المعتقد لحل بعض الحرام، أو المنكر لجزء من الإيمان، نظرة تكفير غاضبة، ويسلك مسلكًا غليظًا مع هذه الحكومات والأحزاب وهؤلاء الأفراد.
وهو في الوقت نفسه ينطلق منطلقا آخر تجاه أهل المعاصي من المسلمين، ويخاطبهم أنواعًا متعددة من الخطاب. فمنها: خطاب حب وتوعية بمعاني العمل الجماعي لمن أدى الفرائض والتزم بالأحكام وأمر بالمعروف وفق اجتهاده الفردي.
ومنها: خطاب حب وعتاب، أو تقريع، لمن التزم وسكت في موطن الأمر والنهي.
ومنها: خطاب شفقة ورحمة وحنان، لمن ألهته الشهوة والغفلة عن الفرائض وسدر في العصيان.
ومنها: خطاب مقت وتذكير غاضب عنيف، لصاحب الكبائر الظالم الماجن.
كل ذلك في آن واحد.
معًا في المجتمع الواحد.…
[2] كسوف لا غروب
ويرفض الداعية أن ينصاع للخداع.
ويستعلي أن تمر خطة الكيد.
فيقف يؤذن في الناس.
ولكن أكثر الناس نيام.
ويرى جلد أصحاب الباطل وأهل الريبة وتفانيهم لتمرير خطتهم، فإذا التفت رأي المسلم سادرًا غافلا، إلا الذين رحمهم ربهم، وقليل ما هم.
ويعود ليفرغ حزنه، في خطاب مع نفسه.....
__________
(1) الظلال 1/90.(1/34)
تبلد في الناس حس الكفاح
ومالوا لكسب وعيش رتيب
يكاد يزعزع من همتي…
سدور الأمين، وعزم المريب(1)
ويتهم نفسه أنه لم يكن بليغًا في ندائه، ولكن سرعان ما يحس أنه قد حاز البلاغة من إقطارها، فيعود يسلي نفسه ويجمل عزاءه....
ومن حر شدوي يري في الخريف
طروبا بصحبتي العندليب
ولكن خلقت بأرض بها
نفوس العبيد برق تطيب(2)
لقد تبدلت موازين البلاغة، وافتقد الجيل الأعمال الكبيرة التي يتمجد بها، فصار- كما يقول الرافعي-:
(تخترع له الألفاظ الكبيرة ليتلهى بها)(3).
ورغم الفساد، فإن الداعية المسلم لن يتخلى عن محاولة انتشال العباد، وإن كل وساوس اليأس من الإصلاح لن تلبث أن تتبدد أمام لحظة انتباه إيماني تريه مكانته المتوسطة لموكب الإيمان السائر. أخذ عن السلف، ولا بد أن يسوق له قدر الله خلفا يتسلم الأمانة منه.
وإنه لموكب لن ينقطع أبدًا، مضى به القول على لسان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك(4).
بل إن وجود العصبة المسلمة في الأرض، الكاملة الدينونة لله، التي لم تتلوث بانحراف عن نهجه، ولا توان عن قصده، هي من سنن الله الكونية التي كمل بها الله سبحانه ميزان ما خلق. ولو افتقدت هذه العصبة لثقل الميزان في جانب، وخف في جانب، واضطرب الكون كله.
لذلك كان وجود الدعوة الربانية في هذه الأرض حتما مقضيا، لن تزول لرغبة طاغية أو اضطهاد من زبانية.
أرأيت لو زالت الشمس من هذا الكون، أو زالت الجاذبية، كم يكون الاضطراب؟
فكذلك وجود دعوة الحق، فإنها الشمس والقمر والجاذبية والماء والهواء من سنن الكون التي يتحتم وجودها، وإلا فتقوم ساعة القيامة، لكنها سنة لا يراها إلا صاحب قلب سليم، كما لا يرى الجاذبية إلا صاحب درس عليم.
__________
(1) ديوان مع الله للأميري/110.
(2) ديوان ضرب الكليم لإقبال/14.
(3) وحي القلم 1/103.
(4) صحيح مسلم 6/52.(1/35)
وهذا مصدر إصرار المسلم على المضي في الطريق، يتعرض لقدر الخير هذا من أقدار الله، يرجو أن يتجلى فيه، فيكون من الفائزين. وأما من أعرض فإن السنة ماضية لن تقف لإعراضه، ويهدي الله لتجلية قدره وسنته قوما آخرين.
وقد أجمل الأستاذ المرشد حسن الهضيبي رحمه الله هذا المعنى، فقال:
(إن أحداث الزمان يجب أن تخضع لكتاب الله وسنة رسوله، مهما تراءى للناس أن الدنيا لا تحتمل هذا الإخضاع، فالدين هو السنة التي وضعها الله للناس كما وضع السنن الكونية الأخرى للشمس والقمر والحيوان والنبات، وكل ما في السماء وما في الأرض وما عليها)(1).
إن يقول: كما أن للشمس ثباتًا وجاذبية وللأرض مدارًا ودورانًا، فإن للبشر هذا الدين، إن فقده اختل ميزانه، والناظر يرى أبعد من ذلك، ويبصر أن للكون هندسة بديعة، هذا الدين جزء منها، فلا بد أن تمثله جماعة في كل وقت.
وأدرك عبد الوهاب عزام رحمه الله هذه السنة الكونية أيضًا، سنة من لا يبتئس لصولة الباطل، ولا يرده تساقط الشهداء، أو غثاء المتخلفين، فقال:
سنن الله في الخلائق تمضي
لا تني ساعة، وليست تحول
وخلال الأحرار منها، فليست
عن جهاد عن الحق يومًا تزول(2)
وبإدراك عزام لهذه الحقيقية تبين فقهه ووعيه رحمه الله.
إن إسلامنا نبأ عظيم، وهو من مكملات الناموس الكوني الذي يختل بدونه، فلا بد إذن أن يوجد في الواقع، وتمحى الجاهلية ليتم الناموس من غير اضطراب.
(قل: هو نبأ عظيم، أنتم عنه معرضون).
(وإنه لأمر أعظم بكثير من ظاهرة القريب، إنه أمر من أمر الله في هذا الوجود كله وشأن من شؤون هذا الكون بكامله. إنه قدر من قدر الله في نظام هذا الوجود، ليس منفصلا ولا بعيدًا عن شأن السماوات والأرض، وشأن الماضي السحيق والمستقبل البعيد.
__________
(1) مجلة (الدعوة) عدد 52.
(2) ديوان المثاني لعزام/133.(1/36)
ولقد جاء هذا النبأ العظيم ليتجاوز قريشا في مكة، والعرب في الجزيرة، والجيل الذي عاصر الدعوة في الأرض، ليتجاوز هذا المدى المحدود من المكان والزمان، ويؤثر في مستقبل البشرية كلها في جميع إعصارها وأقطارها، ويكيف مصائرها منذ نزوله إلى الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولقد نزل في أوانه المقدر له في نظام هذا الكون كله، ليؤدي دوره هذا في الوقت الذي قدره الله له.
ولقد حول خط سير البشرية إلى الطريق الذي خطته يد القدر بهذا النبأ العظيم، سواء في ذلك من آمن به ومن صد عنه، ومن جاهد معه ومن قاومه، في جيله وفي الأجيال التي تلته، ولم يمر بالبشرية في تاريخها كله حادث أو نبأ ترك فيها من الآثار ما تركه هذا النبأ العظيم.
ولقد أنشأ من القيم والتصورات، وأرسى من القواعد والنظم في هذه الأرض كلها، وفي أجيال البشرية جميعها، ما لم يكن العرب يتصورونه ولو في الخيال.
وما كانوا يدركون في ذلك الزمان أن هذا النبأ إنما جاء ليغير وجه الأرض، ويوجه سير التاريخ، ويحقق قدر الله في مصير هذه الحياة، ويؤثر في ضمير هذه البشرية وفي واقعها، ويصل هذا كله بخط سير الوجود كله، وبالحق الكامن في خلق السماوات والأرض وما بينهما، وأنه ماض كذلك إلى يوم القيامة، ويؤدي دوره في توجيه أقدار الناس وأقدار الحياة.(1/37)
والمسلمون اليوم يقفون من هذا النبأ كما وقف منه العرب أول الأمر، لا يدركون طبيعته وارتباطه بطبيعة الوجود، ولا يتدبرون الحق الكامن فيه ليعلموا أنه طرف من الحق الكامن في بناء الوجود، ولا يستعرضون آثاره في تاريخ البشرية وفي خط سيرها الطويل استعراضًا واقعيًا، يعتمدون فيه على نظرة مستقلة غير مستمدة من أعداء هذا النبأ، الذين يهمهم دائما أن يصغروا من شأنه في تكييف حياة البشرية وفي تحديد خط التاريخ، ومن ثم فإن المسلمين لا يدركون حقيقة دورهم سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، وأنه دور ماض في هذه الأرض إلى آخر الزمان)(1).
ولكن إن لم يدركه ضحايا خطط الترويض من الظباء الجفولة وأسراب الحجل الوديع، فإن ليوثا من دعاة الإسلام قد أدركوه، وها نحن نسمع نشيدهم المتعالي في سيرهم الميمون
نحن وراث هداة للبشر
نحن عند الحق سر مدخر
لا تزال الشمس تبدي نورنا
غيمنا فيه بروق وسنا
ذاتنا المرآة للحق، أعلم
آية الحق: وجود المسلم(2)
وكذلك الفقه والوعي حين يكون...
آية الحق وجود المسلم.
ووجود المسلم حتمية من حتميات التاريخ الماضي والحاضر، وإنها لحتمية ماضية إلى يوم القيامة.
(والحق هو قوام هذا الوجود، فإذا حاد عنه: فسد وهلك (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ)، ومن ثم فلا بد للحق أن يظهر، ولا بد للباطل أن يزهق، ومهما تكن الظواهر غير هذا فإن مصيرها إلى تكشف صريح (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ)(3).
__________
(1) في ظلال القرآن 23/107.
(2) ديوان الأسرار والرموز لإقبال/67.
(3) مفدمة الظلال 1/7.(1/38)
ولئن رأى الحاضر من البشرية إقصاء الإسلام عن الحياة فما ذاك إلا كما تكسف الشمس. والذي حصل من الاضطراب والظلم والفساد بإقصائه لدليل لأولى الأبصار يميزون به صواب ما نقول من كون الإسلام جزئية لابد منها في نظام الكون البديع يختل بدونه.
وكما تأوى الطيور إلى أعشاشها حين تكسف الشمس ظهرًا، وتعرف بفطرتها إن ثمة شذوذا قد حصل، وأن الغروب لا يزال بعيدًا، ويكون لها الشعاع الضئيل الباقي مصدرًا أمل لعودة سريعة لنور الحياة، وتظل تنتظر لا تنام، فكذلك أولو القلوب الحية، يدركون بفطرتهم أن تنحية الإسلام عن الحكم كانت حدثا هائلا غريبًا، لكنه ليس الغروب، وإنما هو حدث شاذ، وما استمرار وجود عصبة للحق باقية –مهما كانت ضئيلة- إلا مصدر أمل لعودة الإسلام إلى الحياة، بل دلالة أكيدة على أنه سيعود إلى الحياة، ويرجع من أبق وتمرد من البشر إلى الرب الرحيم، ويستفيق ضحايا تربية الترويض، فإذا هم مستمسكون بالنهج القويم.
(لقد كانت تنحية الإسلام عن قيادة البشرية حدثا هائلا في تاريخها، ونكبة قاصمة في حياتها، نكبة لم تعرف لها البشرية نظيرًا في كل ما ألم بها من نكبات.
لقد كان الإسلام قد تسلم القيادة بعدما فسدت الأرض، وأسنت الحياة، وتعفنت القيادات، وذاقت البشرية الويلات من القيادات المتعفنة، و(ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ).
تسلم الإسلام القيادة بهذا القرآن، وبالتصور الجديد الذي جاء به القرآن، وبالشريعة المستمدة من هذا التصور، فكان ذلك مولدًا جديدًا للإنسان أعظم في حقيقته من المولد الذي كانت به نشأته، لقد أنشأ هذا القرآن للبشرية تصورًا جديدًا عن الوجود والقيم والنظم، كما حقق لها واقعًا اجتماعيًا فريدًا، كان يعز على خيالها تصوره مجرد تصور، قبل أن ينشئه لها القرآن إنشاء.(1/39)
نعم! لقد كان هذا الواقع من النظافة والجمال، والعظمة والارتفاع، والبساطة واليسر، والواقعية الإيجابية، والتوازن والتناسق، بحيث لا يخطر للبشرية على بال، لولا أن الله أراده لها، وحققه في حياتها، في ظلال القرآن، ومنهج القرآن وشريعة القرآن.
ثم وقعت تلك النكبة القاصمة، ونحي الإسلام عن القيادة، نحي عنها لتتولاها الجاهلية مرة أخرى، في صورة من صورها الكثيرة، صورة التفكير المادي الذي تتعاجب به البشرية اليوم، كما يتعاجب الأطفال بالثوب المبرقش واللعبة الزاهية الألوان)(1).
لكنها تنحية لن يسكت عنها دعاة الإسلام.
والطفل يجب أن نفتح له ذهنه ونريه حقائق الناموس الكوني.
إن المسلم أعز من أن يعتقد أن لصيق الأرض بإمكانه النطق بالصواب.
وإنما الصواب عنده ما نزل من السماء.
ولن يعدو هذا التنزيل، ولا يتجاوزه، بعد إذ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (لا أصدق كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل)(2).
رفعت الأقلام وجفت الصحف.
كل شيء ما خلا الله باطل.
لا منهج إلا منهج الله، وكل عبادة لسواه باطلة.
وهذا هو الذي عناه ربعي بن عامر حين قال لرستم:
(الله جاء بنا، لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله)(3).
فإن (الإسلام هو منهج الحياة الوحيد، الذي يتحرر فيه البشر من عبودية البشر)(4)، (فإذا أحنوا رؤوسهم فإنما يحنونها لله وحده، وإذا أطاعوا الشرائع فإنما يطيعون الله وحده، وإذا خضعوا للنظام فإنما يخضعون لله وحده، ومن ثم يتحررون حقا من عبودية العبيد للعبيد، حين يصبحون كلهم عبيدًا لله بلا شريك)(5).
سجدة الحرية
ورمزهم في كل ذلك هذه السجدة التي تعلي القلوب، كما أن رمز الجاهلين تلك السجدة للمادة والجنس مميتة القلوب.
__________
(1) مقدمة الظلال 1/9.
(2) صحيح البخاري 5/53.
(3) تاريخ الطبري 3/520.
(4) الظلال 4/206.
(5) المرجع السابق.(1/40)
إنها سجدة المسلم، عنوان العلو، وشارة الحرية والبراءة من كل طاغوت....
سجدة تخفض الجباه ولكن
عز فيها مسبح وتعالى
ظنها الجاهلون غلا على العبد
ولكن تحطم الأغلالا
خر فيها لساجد كل شيء
يرهب الكون قوله والفعالا
تثبت الوجه والجوارح في الأرض
ولكن تقلقل الأجبالا
تهدم الشرك والوساوس في النفس،
ولكن تشيد الأجيالا
في سكون، وللقلوب مسير
سخر الأرض رهبة وجلالا
هي لله، وحدته، فقرت
ومحت كل غاشم يتعالى
من وعاها: وعى السيادة في
الأرض جلالا، ورحمة، وجمالا(1)
واسمها: سجدة الحرية، بها يكسر المسلم قيد الهوى، فإذا به (يصبح حرًا. حرًا يتلقى التصورات والنظم والمناهج والشرائع والقوانين والقيم والموازين من الله وحده، شأنه في هذا شأن كل إنسان آخر مثله، فهو وكل إنسان آخر على سواء، كلهم يقفون في مستوى واحد، ويتطلعون إلى سيد واحد، ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابًا من دون الله)(2).
وستظل البشرية معذبة مضطربة قلقة مريضة ما دامت لا تسجد هذه السجدة ولا تعتنق عقيدة الإسلام، وما استمرار عذابها النفسي، وظلمها مع تقدمها المدني إلا ذلالة على (أن العقل لا يصلح وحده أن يكون ضابطًا موزونا ما لم ينضبط هو على ميزان العقيدة الصحيحة، فالعقل يتأثر بالهوى كما نشهد في كل حين، ويفقد قدرته على المقاومة في وجه الضغوط المختلفة ما لم يقم إلى جانبه ذلك الضابط الموزون)(3).
ولا سعادة لإنسان، ولا نجاة له من الانجراف في الانهيار السريع الذي تورطت فيه الجاهلية من حوله إلا بأن يلجأ إلى هذه العقيدة يستهديها الطريق، فتجيبه الجواب الصحيح على الأسئلة التليدة لكل إنسان، ليكشف أن أدعياء الفكر هم الذين أقاموا الحجاب بينه وبين فطرته، ويومها فقط سيذوق معنى السعادة....
إن السعادة أن تعيش
لفكرة الحق التليد
لعقيدة كبرى تحل
قضية الكون العتيد
__________
(1) لعبد الوهاب عزام في مجلة (المسلمون) السنة الأولى/961.
(2) الظلال 3/206.
(3) الظلال 7/57.(1/41)
وتجيب عما يسأل الحير
أن في وعي رشيد
من أين جئت؟ وأين أذهب؟
لم خلقت؟ وهل أعود؟
فتشيع في النفس اليقين
وتطرد الشك العنيد
وتعلم الفكر السوي
وتصنع الخلق الحميد
وترد للنهج المسدد كل
ذي عقل شرود
تعطي حياتك قيمة
رب الحياة بها يشيد
ليظل طرفك راينا
في الأفق للهدف البعيد
فتعيش في الدنيا لأخرى
لا تزال ولا تبيد
وتمد أرضك بالسماء
وبالملائكة الشهود
هذي العقيدة للسعيد
هي الأساس هي العمود
من عاش يحملها ويهتف
باسمها فهو السعيد(1)
…[3] الأبرار الهالكون
تحليل الأحداث، وتفسير التاريخ، وتسمية المقدمات الخفية المؤدية إلى النتائج المنظورة، كل ذلك إنما يتبع العقيدة التي يحملها الشخص المحلل المفسر، والميزان الذي يزن به الأمور والظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
ومن هنا اختلفت التفاسير والاجتهادات اختلافا بينا واضحًا وصار المؤمن ينظر أشياء من العلاقات بين النتائج وبين بعض الأحداث والأحوال نظرًا واضحًا كأنها أمام عينيه، ويلمسها بيده ويفركها فتزول قشورها التي تحجبها، بينما لا يراهما الكافر والجاهلي أو الفاسق الذي طبع على قلبه وتغلف بأغلفة الشهوات والغفلات.
إن هذا الاختلاف مرده اختلاف الميزان فحسب.
ومن أهم الظواهر التاريخية التي يختلف في تفسيرها وتحليلها ظاهرة الاضطراب الاجتماعي والتراجع والخراب المدني من بعد التقدم العلمي والعمراني والفني، واستمرار التقهقر التدريجي، حتى ربما يختم بدمار كامل فجائي بقوة غير عادية.
فالكفار والفساق يدورون في حلقة مفرغة من التعليلات لهذه الظاهرة كلها أوهام، أما المسلم فله قول فصل واحد في تفسير هذه الظاهرة مستمد من كثير من آيات القرآن وأحاديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأوجزه الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه بجملة واحدة جامعة حين سئل:
(أتوشك القرى أن تخرب وهي عامرة؟
__________
(1) ليوسف القرضاوي، عن مجلة التربية الإسلامية، السنة السادسة/278.(1/42)
قال: إذا علا فجارها على أبرارها)(1).
هذا هو السبب، والداء الدوي.
إن علو الفجار على الأبرار سبب الاضطراب والخراب.
يعلو الفاجر، فيولي أمثاله الأمور. ولا ينفك كل فاجر أن يكون أسير شهواته، فيطبع قلبه، ويعيش في غفلة عن ارتياد ما فيه منافع قومه، ثم يكون أسير مصالحه، فيظلم ويشتط ويتعسف، فتهدر بالتالي طاقات كثيرة وتتوارى الكفايات، تطلب لنفسها الستر، ستر عرضها من الاعتداء، وبدنها من العذاب، ويعود لا يتصدى لأمور الأمة إلا كل جاهل أناني، فيعم الاضطراب الاجتماعي، ثم من بعده الخراب الاقتصادي والمدني العلمي.
والله سبحانه شديد الغيرة على دينه، وعلى أعراضه العباد، فيمهل الأمة حين يعلو الفاجر، ويجب أن تبادر جماعة من عباده الأبرار الإصلاح الحال ومنازعة الفجار والتطويح بهم، لترجع الأمور إلى نصابها ويعود العمران، فإن بادرت فرقة أمر ملائكته بنصرهم وفتح عليهم ينابيع فضله وبركته وتوفيقه، وإلا فإنه يمهل أخرى، من بعد أخرى حتى إذا تمادى الفاجر في فجوره، وحتى إذا تمادى الأبرار في خوفهم وجبنهم وسكوتهم وقعودهم عن النهي عن المنكر: اشتد غضب الله، فإذا غضب: عم وشمل غضبه الفجار بما فجروا وظلموا، والأبرار بما سكنوا وتقاعسوا ورضوا الذلة.
وقد دلت الآيات والأحاديث على ذلك، كما في تعقيبات شيخ الإسلام وإمام الدعاة تقي الدين أحمد ابن تيمية الحراني على قوله تعالى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً).
قال رحمه الله:
(وقرأ طائفة من السلف:
__________
(1) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم/45.(1/43)
(لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، وكلا القراءتين حق فإن الذي يتعدى حدود الله هو الظالم، وتارك الإنكار عليه قد يجعل غير ظالم لكونه لم يشاركه، وقد يجعل ظالمًا باعتبار ما ترك من الإنكار الواجب، وعلى هذا قوله: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)، فأنجى الله الناهين. وأما أولئك الكارهون للذن، الذين قالوا: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا) فالأكثرون على أنهم نجوا لأنهم كانوا كارهين، فانكروا بحسب قدرتهم.
وأما من ترك الإنكار مطلقا فإنه ظالم يعذب، كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه" وهذا الحديث موافق للآية.
والمقصود هنا أنه يصح النفي والإثبات باعتبارين، كما أن قوله:
"لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة" أي لا تختص بالمعتدين بل يتناول من رأى المنكر فلم يغيره، ومن قرأ "لتصيبن الذين ظلموا منكم خاصة" أدخل في ذلك من ترك الإنكار مع قدرته عليه، وقد يراد أنهم يعذبون في الدنيا، ويبعثون على نياتهم، كالجيش الذين يغزون البيت، فيخسف بهم كلهم، ويحشر المكره على نيته"(1).
ويلاحظ سيد رحمه الله هنا، في معرض كلامه عن الآيات التي استشهد بها ابن تيمية، إن الله سبحانه ذكر نتيجة الذين ينهون عن السوء، وهي النجاة، ونتيجة الذين ظلموا، وهي إصابة العذاب البئيس لهم، أما الذين أنكروا بقلوبهم فقط ولم ينهوا عن المنكر فإن الله سبحانه لم يبين لنا نتيجتهم ولم يقص علينا خبرهم، بل أهمل ذكرهم والإهمال نوع جزاء لمثل هذه الطائفة.
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 17/382.(1/44)
والحقيقة أن أكثر من تكلم في هذه الآيات ذكر أن هؤلاء الذين سكتوا نالهم العذاب بسكوتهم، وشملهم العقاب، وللقرطبي في تفسيره تصريح واضح بذلك.
ووصف بعض الأفاضل هذا العقاب بأن "قانون العقاب الجماعي في سنة الله الكونية" وهو (قانون رهيب مخيف يدفع كل ذي علم وفقه، وكل ذي حكم وسلطان، إلى المسارعة، والمبادرة فورًا لتغيير المنكر، دفعا للعذاب عن الكل)(1).
(وهذا اللزوم أشد بالنسبة للحكام، لأن بأيديهم السلطة والأمر والنهي، وأن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، فإذا أصلحوا الأحوال حسب أحكام الشرع وأزالوا المنكر، وأقاموا العدل، وقضوا على أسباب المعصيات: أثابهم الله تعالى حسن ثواب الدنيا، وحسن ثواب الآخرة، ومكن لهم في الأرض، وإن هم تقاعسوا عن ذلك: أنطبق عليهم حكم الله وجرت عليهم سنته، وخسروا الدنيا والآخرة، نعوذ بالله من الخذلان) (2).
وصاحب القلب الحي يحس بفطرته الإيمانية أن الذي يعيشه ذراري المسلمين اليوم من نكسات وهزائم وتراجعات إنما هو مقدمة ونذير بين يدي ما هو أشد وأنكى من عذاب، والأمة الإسلامية اليوم لا يصدق عليها اسمها كل الصدق، فإن الانحراف قد أصابها، (ويكفي الأمة انحرافا أنها تركت الجهاد في سبيل الله، وأخلدت إلى الأرض، ورضيت بالحياة الدنيا من الآخرة، وأقبلت على الشهوات تعب منها، وأسرفت في المعاصي، حتى أذلها الله، وخذلها الخذلان الأكبر، وجعل قيادتها في أيدي المنحرفين العابثين)(3).
ووعي هذه الحقيقة يلزم من علت همته أن يرفق بنفسه، ويرحمها، ويتجنب أن يمسه هذا القانون العقابي الرهيب.
وإنه لحصار شديد هو محاصر فيه الآن.
لا يكفيه أن يفلت من خطط ترويض الأشبال وتحويلها إلى ظباء جفولة.
بل لا يكفيه مجرد الاستعلاء.
__________
(1) مجلة التربية الإسلامية، السنة السادسة/26.
(2) مجلة التربية الإسلامية، السنة السادسة/26.
(3) معركة الإسلام للأستاذ الصواف/24.(1/45)
ليس له من طريق نجاة من هذا الحصار الذي يحصاره به هذا القانون الرهيب إلا كوة يستطيع أن يفلت منها: كوة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومنازعة أهل المنكر، وسلوك سبيل الدعوة، والإهابة بالأمة أن تسارع إلى الصلاة وتحكيم شرع الله، من قبل أن يجرفهم "قانون التماثل"، الذي هو من سنة الله العامة في الكون، فيهلكوا، ويصيبهم العذاب، من بعد أن ارتكبوا مثل العصيان الذي أهلك الله بسببه الغابرين، فإن (النظير يأخذ حكم نظيره وإن ما يجري على الشيء يجري على مثيله ويستحيل أن يفترق المتساويان من الحكم، كما يستحيل أن يتساوى المختلفان في الحكم.
وهذا القانون يسري حكمه على الأفراد والأمم على حد سواء، وفي أحوال الدنيا والآخرة، وعلى هذا دل القرآن الكريم، فمن ذلك.
* -أ- قوله تعالى مبينا ما جرى لليهود من بني النضير من نكال في الدنيا بسبب كفرهم ونقضهم العهد وكيدهم للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وللمؤمنين: (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ). فقوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأبْصَارِ) صريح الدلالة على قانون التماثل، إذ أن من معناها. تأملوا يا أصحاب العقول السليمة بما وقع لهم، واحذروا أن يصيبكم مثل ما أصابهم إذا فعلتم مثل فعلهم، فإن سنة الله واحدة تجري على الجميع، وإن ما يجري على شيء يجري على نظيره. يوضحه أن الاعتبار لا يتأتي مطلقا ولا يكون للأمر به فائدة إلا إذا كان المثيل يأخذ حكم مثيله.(1/46)
* -ب- قال تعالى: (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ). فقول الله تعالى: (كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) دليل على أن ما جرى للمجرمين السالفين يجري على المجرمين اللاحقين، فالنظير يأخذ حكم نظيره، وأن سنة الله واحدة تجري على جميع المجرمين، والله المستعان.
* -ج- قال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) دليل واضح أن الدمار الذي حل بالكافرين السابقين سيحل بالكافرين اللاحقين، لأنهم متساوون في وصف الكفر والعناد والتكذيب فيتساويان في العاقبة.
* -د- قال تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءً يُجْزَ بِهِ) فالجزاء يلحق فاعل السوء أيًا كان، دون محايدة ولا تمييز ولا تخلف.
* -هـ- قول الهل تعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ* مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ). (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)، (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ).
فالقرآن شاهد على صحة قانون التماثل بشقيه، أي التساوي في الحكم والعاقبة بين المتماثلين، والتفريق بين المختلفين.(1/47)
فإذا فهم المسلمون مدلول هذه الآيات القرآنية التي ذكرناها للتدليل على صحة قانون التماثل وأمثالها من الآيات الأخرى، والتي فيها ذم للأقوام السابقة، كاليهود وغيرهم لتلبسهم بالأفعال القبيحة والأوصاف الذميمة: عرفوا أن الذم كان لهذه المعاني وأن الذم يلحقهم لا محالة إذا فعلوا فعلهم، وأن العاقبة السيئة تصيبهم كما أصابتهم فلا يغرهم مجرد انتسابهم للإسلام من دون عمل وانصباغ بمقتضاه(1).
وقد جعل إقبال رحمه الله هذا القانون من قواعد الهدى الإسلامي، وبين في المحاضرة الخامسة من المحاضرات التي ألقاها بمدينة مدارس الهندية:
(إن الأمم والجماعات مأخوذة بأعمالها في هذه الحياة، ولهذا يكثر القرآن من قصص الماضين ويأمر بالنظر في تجاريب الأمم، غابرها وحاضرها) (2).
إن هذه القوانين الرهيبة المفزعة لا يفهمها أكثر الناس، وليس لهم استعداد للتصديق بها، إنما يفهمها الدعاة إلى الله فحسب، ولابد لهم من مسارعة إلى القيام بواجب النهي عن المنكر، ليأمنوا من فزع يومئذ.
أيها الأبرار الصالحون.
أيها الزهاد العابدون.
أمامكم خطر القانون الرباني الرهيب إن تخارستم.
لا يغرنكم زهدكم ولا صلاتكم.
انطقوا بالحق، وانهوا عن المنكر، وإلا... فهو الهلاك.
[4] وجوب الدعوة إلى الله
إنها رهبة تفزع المسلم حقًا، تقذفها تلك التهديدات التي خاطب الله تعالى بها من يصمت ويتخارس ويدع النهي عن المنكر.
__________
(1) مجلة التربية 6/26.
(2) كتاب (محمد إقبال) لعبد الوهاب عزام/120.(1/48)
ويظل الأخرس قلقا أبدا، محروما من الطمأنينة والسكينة الإيمانية، فإنها حكر خالص لأصحاب اللسان الناطق بالحق، الذين يبشرون الناس بالجنة، وبسماحة الإسلام وعدله، وينذرونهم عذاب جهنم وقانون التماثل في العقاب الرباني، فيرثون النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ذلك، كما وصفه الله تعالى، حين قال أنه أرسله بشيرًا ونذيرًا. أو بالاصطلاح الآخر: الذين يدعون إلى الله، أو باصطلاح بعض الفقهاء: الذين يحتسبون، أي يقومون بمهمة الحسبة، أي احتساب الأجر عند الله في أداء النصيحة والأمر والنهي.
وقد تعرض ابن تيمية رحمه الله لتعريف الدعوة، فقال: (الدعوة إلى الله: هي الدعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رسله، بتصديقهم فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا) (1).
الدعوة والدعاة في اللغة والاشقاق
وكلمة (الدعوة) هذه هي مصطلح إسلامي، وهناك (علاقة وثيقة بين مدلول اللفظ في الأصل اللغوى، وبين استعمال اللفظ كمصطلح إسلامي صرف، ليس لبقية المعتقدات ناقة فيه ولا جمل.
وأول ما ننظر إلى كون اللفظ فعلا، وهو "دع و" على زنة "فعل" وفي العربية، إذا سبق حرف العلة "الواو" حرف مفتوح قلب الواو الفاء فتصبح "دعا".
ونجد أن هذا اللفظ لا يحمل إلا معنى واحدًا، وهو: أن تميل الشيء إليك بصوت وكلام يكون منك، انظر معجم مقاييس اللغة 2/279.
والإمالة هنا مقتصرة على شيئين: الصوت، والكلام، اللذين يخرجان من حدثهما، وحين ذاك لا يكون لهذا اللفظ مدلول آخر، فأنت حين تقرأ قوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) تفهم أن الله تعالى فضل من دعا إليه بأن أحسن "قولا" ممن لم يدع إليه.
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 15/157.(1/49)
ومشتقات هذا الفعل لم تخرج في مدلولاتها عن هذا المعنى أبدًا، فالمصدر منه مثلا هو: دعاء، والأصل: دعاو، لأنه -كما هو معروف- من دعوت، إلا أن الواو لما جاءت بعد الألف قلبت همزة، وقد يأخذ المصدر أشكال أخرى من الأبنية، يقول الجوهري: "يقال: كنا في دعوة فلان، ومدعاة، وهو في الأصل مصدر، يريدون: الدعوة إلى ....".
ويقول صاحب المحيط: "دعا دعاء ودعوى"، أي الإمالة والترغيب.
فمن مجموع ما تقدم نفهم أن الصلة وثيقة بين مدلول الفعل دعا في اللغة، وبين مدلوله فيما اصطلح عليه القرآن الكريم، فقوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ) يدل على الإمالة والترغيب.
والذي يقوم بأمر الدعوة ويحمل عبثها ليبلغها إلى الناس هو الذي يطلق عليه: "الداعي أو "الداعية" والداعي اسم فاعل من الفعل دعا يدعو، أما الداعية فهو بناء اسم الفااعل أيضا مع تاء تلحق في آخره لتدل على المبالغة والتكثير، وإذا أردنا الجمع قلنا: "عاة" والجمع السالم "داعون" و"داعيات"(1).
الدعوة وظيفة الرسل وأتباعهم
(والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قام بهذه الدعوة، فإنه أمر الخلق بكل ما أمر الله به، ونهاهم عن كل ما نهى الله عنه، أمر بكل معروف، ونهى عن كل منكر) (2).
(والواقع أن الدعوة إلى الله هي وظيفة رسل الله جميعا، ومن أجلها بعثهم الله تعالى إلى الناس، فكلهم بلا استثناء دعوا أقوامهم ومن أرسولا إليهم إلى الإيمان بالله، وأفراده بالعبادة، على النحو، الذي شرعه لهم. قال تعالى عن نوح عليه السلام: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ).
__________
(1) من مقال للشاعر الأستاذ رشيد الأعظمي في مجلة التربية الإسلامية 5/71 مع بعض حذف.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 15/161.(1/50)
وهكذا جميع رسل الله دعوا إلى الله، إلى عبادته وحده والتبرؤ من عبادة سواه، قال تعالى: (لَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) فرسل الله هم الدعاة إلى الله، وقد اختارهم الله لحمل دعوته وتبليغها إلى الناس) (1).
(وكل ما أحبه الله ورسوله من واجب ومستحب، ومن باطن وظاهر، فمن الدعوة إلى الله: الأمر به، وكلما أبغضه الله ورسوله، من باطن وظاهر، فمن الدعوة إلى الله: النهي عنه. لا تتم الدعوة إلى الله إلا بالدعوة إلى أن يفعل ما أحبه الله، ويترك ما أ[غضه الله، سواء كان من الأقوال أو الأعمال الباطنة أو الظاهرة) (2).
ما ورد في القرآن الكريم
من آيات الدعوة والأمر والنهي
ووردت في القرآن آيات كثيرة توجب الدعوة إلى الله، منها ما تخاطب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فتدخل أمته في الخطاب تبعا له، ومنها ما خطبت الأمة مباشرة.
فمن الآيات التي تخاطب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله تعالى: (وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ). وقوله تعالى: (وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).
(وهذه الآيات يدخل فيها المسلمون جميعا، لأن الأصل في خطاب الله لرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخول أمته فيه إلا ما استثني، وليس من هذا المستثني أمر الله تبارك وتعالى له بالدعوة إليه، ومعنى ذلك أن الله تعالى أكرم هذه الأمة الإسلامية وشرفها أن أشركها مع رسوله الكريم في وظيفة الدعوة إليه) (3).
وأما الآيات التي تخاطب الأمة وتوجب عليها أن تأمر وتنهي فكثيرة لا تدع عذرا لمتقاعد متخوف، كقوله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).
__________
(1) أصول الدعوة/26.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 15/164.
(3) أصول الدعوة/ 269.(1/51)
قال القرطبي: (فجهل الله تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقا بين المؤمنين والمنافقين، فدل على أن أخص أوصاف المؤمنين: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأسها: الدعاء إلى الإسلام) (1).
وقد سرد الغزالي رحمه الله هذه الآيات، وعقب عليها تعقيبات قيمة. قال:
(قال تعالى: (لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ
114.يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ).
فلم يشهد لهم بالصلاح بمجرد الإيمان بالله واليوم الآخر حتى أضاف إليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) (2).
(وقال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ* كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ).
وقال عز وجل: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).
وهذا يدل على فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ بين أنهم كانوا به خير أمة أخرجت للناس.
وقال تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ).
فبين أنهم استفادوا النجاة بالنهي عن السوء، ويدل ذلك على الوجوب أيضًا.
وقال تعالى: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ).
__________
(1) تفسير القرطبي 4/47 نقلا عن أصول الدعوة.
(2) إحياء علوم الدين 2/307.(1/52)
فقرن ذلك بالصلاة والزكاة في نعت الصالحين والمؤمنين.
وقال تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) وهو أمر جزم، ومعنى التعاون: الحث عليه وتسهيل طرق الخير، وسد سبل الشر والعدوان بحسب الإمكان.
وقال تعالى: (لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ).
وقال تعالى: (فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ).
فبين أنه أهلك جميعهم إلا قليلا منهم كانوا ينهون عن الفساد.
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ).
وذلك هو الأمر بالمعروف للوالدين والأقربين.
وقال تعالى: (لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا).
وقال تعالى: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا).
والإصلاح نهي عن البغي وإعادة إلى الطاعة، فإن لم يفعل فقد امر الله تعالى بقتاله فقال: (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ).
وذلك هو النهي عن المنكر) (1).
وإذن، فإن الحريص، على إيمانه، الطالب للقردوس وعليين، يحرص أشد الحرص على أن ينطق بالحق، معطيا راحته ووقته وماله، بل روحه ودمه، ثمنا لما يطلب، فإن الدعوة إلى الله واجبة، لا يعذر منها أحد، إلا من كان مستضعفا من عوام الناس، البسطاء السذج الذين لا يحسنون النطق وتدبير الأمور.
__________
(1) إحياء علوم الدين 2/307.(1/53)
وكما أوجب الله على نبيه الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يقوم فينذر ويدعو إلى الله، فكذلك (الدعوة إلى الله واجبة على من اتبعه، وهم أمته يدعون إلى الله، كما دعا إلى الله).
وكذلك يتضمن أمرهم بما أمر به، ونهيهم عما ينهي عنه، وإخبارهم بما أخبر به، إذ الدعوة تتضمن الأمر، وذلك يتناول الأمر بكل معروف، والنهي عن كل منكر) (1).
(وهذا الواجب واجب على مجموعة الأمة، وهو الذي يسميه العلماء: فرض كفاية، إذا قام به طائفة منهم سقط عن الباقين، فالأمة كلها مخاطبة بفعل ذلك، ولكن إذا قامت به طائفة سقط عن الباقين)(2).
(فمجموع أمته تقوم مقامه في الدعوة إلى الله، ولهذا كان إجماعهم حجة قاطعة، فأمته لا تجتمع على ضلالة، وإذا تنازعوا في شيء ردوا ما تنازعوا فيه إلى الله وإلى رسوله.
وكل واحد من الأمة يجب عليه أن يقوم من الدعوة بما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره، فما قام به غيره: سقط عنه، وما عجز: لم يطالب به.
وأما ما لم يقم به غيره وهو قادر عليه فعليه أن يقوم به، ولهذا يجب على هذا أن يقوم بما لا يجب على ذاك، وقد تقسطت الدعوة على الأمة بحسب ذلك تارة وبحسب غيره أخرى، فقد يدعو هذا إلى اعتقاد الواجب، وهذا إلى عمل ظاهر واجب، وهذا إلى عمل باطن واجب، فتنوع الدعوة يكون في الوجوب تارة، وفي الوقوع أخرى.
وقد تبين بهذا أن الدعوة إلى الله تجب على كل مسلم، لكنها فرض على الكفاية، وإنما يجب على الرجل المعين من ذلك ما يقدر عليه إذا لم يقم به غيره، وهذا شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبليغ ما جاء به الرسول والجهاد في سبيل الله، وتعليم الإيمان والقرآن.
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 15/ 165.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 15/165.(1/54)
وقد تبين بذلك أن الدعوة نفسها أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فإن الداعي طالب مستدع مقتض لما دعا إليه، وذلك هو الأمر به، إذ الأمر هو طلب الفعل المأمور به، واستدعاء له ودعاء إليه، فالدعاء إلى الله: الدعاء إلى سبيله، فهو أمر بسبيله، وسبيله تصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أمر) (1).
معنى الكفاية
ورد أوهام القاعدين الصامتين
ويتوهم الكثيرون أنهم قد أذن لهم بالقعود حين قرر الفقهاء أن الدعوة فرص على الكفاية، ويختارون أنفسهم في الطائفة المتخارسة، اغترار بأن الدعوة إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين، وليس الأمر كما فهموا، كما هو واضح في النص السابق، فإن لفظ القيام بها يعني حصول الشيء المأمور به في عالم الواقع وتطبيقه واتعاظ الطائفة المأمورة فعلا، فإذا بقيت الطائفة المأمورة سادرة في غفلتها، متبعة لشهوتها، والغة في عصيانها: بقي جميع المسلمين تحت هذا التكليف، وعليهم أن يعينوا الدعاة إلى الله الذين يأمرون بالمعروف ويزيدوا قوتهم، ويكثروا سوادهم، إلى الدرجة التي يكتسبون فيها الهيبة والتأثير الكافي لامتناع الطائفة العاصية من أفراد الأمة عن عصيانها ومخالفتها للشريعة، فإذا امتنعت فعلا لزم وجود عدد من الآمرين الدعاة يديمون حالة الامتناع هذه ، ووسع البعض الآخر أن يسكتوا، أما قبل ذلك فلا، ومن يستطع حالة المسلمين اليوم يجد أن الجهود المبذولة في الدعوة إلى الله، لا زالت أقل من المقدار المطلوب لامتناع من يرتكب المعاصي منهم، ورأس المعاصي: الحكم بغير ما أنزل الله، وبآراء العقول والأهواء والأفكار المستوردة، ومن ثم فإن لا يسع المسلم اليوم أن يقعد عن الدعوة إلى الله، ونصرة الدعاة، والاشتراك معهم في جهودهم لاقتلاع السوء والمعاصي، وأهل السوء والمعاصي، وإحلال الخير، وأهل الخير والتوحيد محل ذلك.
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 15/ 165.(1/55)
(فالدعوة إلى الخير –وأعلاها: الدعوة إلى الله- واجبة على كل مسلم بقدر استطاعته، لأن هذه الدعوة من صفات المؤمنين، ولأن الحديث الشريف أمر كل مسلم ومسلمة بإزالة المنكر حسب استطاعته، فإذا حصل المقصود بفرد أو أفراد: لم يطالب الآخرون بإعادة المنكر لإزالته، ولا يؤاخذون لأنهم يزيلوه، والشأن في المسلم المبادرة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون انتظار إلى غيره، فقد لا يقوم به الغير فيقع في الإثم، والمسلم يدعو إلى الله باعتباره مسلما مؤمنا بالله ورسوله، كما قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فلا بد للمسلم أن يدعو إلى الله، ولكن لو قدر أنه لم يدع شخصا معينا إلى الله أو لم يدع في وقت، وقام بالدعوة مسلم آخر، فإن الداعي يؤجر دون الأول، ولكن لو ترك المسلم الدعوة إلى الله تركا دائما مستمرا متعمدًا فإنه لا ينضوى تحت مفهوم قوله تعالى (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) لأن اتباع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هم الذين يدعون إلى الله.
هذا ومن معاني الفرض الكفائي أنه متوجه إلى المسلمين جميعا بأن يعملوا لتحقيق هذا الفرض، وعلى القادر فعلا أن يقوم بهذا الفرض مباشرة فيكون معنى الآية (وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ): أن يقوم المسلمون بإعداد هذه "الأمة" أي الجماعة المتصدية للدعوة إلى الله، وأن يعاونوهم بكل الوسائل ليتحقق المقصود من قيامهم وهو إقامة دين الله ونشر دعوته، فإن لم يفعل المسلمون ذلك أثم الجميع، المهل للدعوة وغيره.(1/56)
ويقال أيضًا: إن الدعوة إلى الله حتى لو قلنا أنها تجب على البعض دون البعض الآخر باعتبار أنها من الفروض الكفائية، فإن الشروط للخروج من عهدة الفرض الكفائي حصول الكفاية بمن يقوم به، وما كانت الكفاية غير حاصلة، فيجب أن يقوم بهذا الواجب كل مسلم حسب قدرته)(1).
معنى اختصاص الدعوة بالعلماء
وتعرض لمن لا فقه له هاهنا شبهات وأوهام يظن معها عدم وجوب الدعوة إلى الله.
وأمر هذه الشبهات كأمر أي بدعة، إنما تستند على نص مجمل يمكن صرفه وتأويله إلى بعض المعاني الخاصة التي يمكن أن يتحملها النص، ولكن القواعد العامة للشريعة تأبى هذا المعنى وتدل على خلافه، أو تنقضه نصوص أخرى توجب تفسيرًا آخر للنص الأول، وتكشف المعنى الزجوح فيه.
والغالب في أمر البدع أن النصوص التي يستند لها أصحابها في ترويجها هي نصوص واضحة لذي الفهم السليم، ولكن الهوى يحمل على التمحل والتكلف في صرفها عن معناها الظاهر، والهوى مسلك نفسي يظهر في صور كثيرة، وتسببه دوافع كثيرة مختلفة، وهو في هذا الموطن، موطن اعتقاد أو ادعاء عدم وجود الدعوة على جميع المسلمين، إنما يسببه في الغالب: الخوف والجبن والحرص على الراحة والأسى على تفويت بعض المنافع الدنيوية التي قد تفوت الداعية بسبب أمره ونهيه.
فمن هذه الشبهات: الفهم الخاطئ لقول العلماء إن التكليف بالدعوة مختص بالعلماء، إذ أن (العلم) شرط ذكره الفقهاء من جملة شروط الآمر الناهي، كقول الرازي:
(إن هذا التكليف مختص بالعلماء، لأن الدعوة إلى الخير: بالعلم بالخير وبالمعروف والمنكر، فثبت أن هذا التكليف متوجه على العلماء لا على الجهال، والعلماء بعض الأمة) (2).
ومثل هذا المعنى عند القرطبي والجصاص(3). فاشتبه الأمر على من اشتبه عليه من هاهنا.
__________
(1) أصول الدعوة/275.
(2) تفسير الرازي 7/177، وتفسير القرطبي 4/165، وأحكام القرآن للجصاص2/29، نقلا عن أصول الدعوة/274.
(3) المرجع السابق.(1/57)
والحقيقة أن هناك شيئا من الالتباس في فهم هذه المسألة بسبب كلمة "العلماء" التي فسر بها هؤلاء كلمة (وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ) الواردة في الآية باعتبار أن الدعوة إلى الخير مشروطة بالعلم.
(ولا شك أن الدعوة إلى الخير، وأعلاها: الدعوة إلى الله، مشروط لها العلم، ولكن العلم ليس شيئا واحدًا لا يتجزأ ولا يتبعض، إنما هو بطبيعته يتجزأ ويتبعض، فمن علم مسألة وجهل أخرى فهو عالم بالأولى جاهل بالثانية، ومعنى ذلك أنه يعد من جملة العلماء بالمسألة الأولى، وبالتالي يتوفر فيه شرط وجوب الدعوة إلى ما علم دون ما جهل، ولا خلاف بين الفقهاء أن من جهل شيئا أو جهل حكمه أنه لا يدعو إليه، لأن العلم بصحة ما يدعو إليه الداعي شرط لصحة الدعوة، وعلى هذا فكل مسلم يدعو إلى الله بالقدر الذي يعلمه كما سنبينه فيما بعد، ويكون هذا المعنى هو المقصود من قولهم أن الدعوة تجب على العلماء لا على غيرهم، أي على من يعلم المسألة وحكمها التي يدعو إليها، سواء كان من عامة المسلمين أو ممن نال حظا كبيرًا من العلم. وبهذا يظهر فساد قول من قال إن المقصود بالعلماء هم الذين نالوا حظا كبيرا من العلم دون سواهم، وقد يسمونهم برجال الدين، لأن هذه التسمية تصدق على كل مسلم، فهو من رجال الإسلام، وليست مقصورة على فئة منهم) (1).
لا يتم الاعتداء إلا بالأمر والنهي
ومن الشبهات أيضًا، الفهم الخاطئ للآية الكريمة: (لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)، فيحجم الذي لا فقه له ممن يسمعها عن الأمر والنهي، ويتودد إلى الناس.
وهذا الإحجام اعتبره ابن القيم من أعظم مكايد الشيطان، فيلقي الشيطان في روع البعض (ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قالب التودد إلى الناس وحسن الخلق معهم والعمل بقوله تعالى: عليكم أنفسكم) (2).
__________
(1) أصول الدعوة/274.
(2) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان 1/130.(1/58)
ويحسن في هذا الموضع أن نقل مقالة مهمة للإمام ابن تيمية في رد هذه الشبهة، أجاد فيها وأحسن، وأغنى وكفى.
قال رحمه الله:
(قوله تعالى علوا كبيرًا: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) لا يقتضى ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لا نهيا ولا إذنا، كما في الحديث المشهور في السنن عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه خطب على منبر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: أيها الناس: إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها، وإني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه".
وكذلك في حديث أبي ثعلبة الخشني مرفوعا في تأويلها: "إذا رأيت شحامطاعا، وهو متبعا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك"، وهذا يفسره حديث أبي سعيد في مسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
فإذا قوى أهل الفجور حتى لا يبقى لهم إصغاء إلى البر، بل يؤذون الناهي، لغلبة الشح والهوى والعجب: سقط التغيير باللسان في هذه الحال، وبقى بالقلب.
و"الشح" هو شدة الحرص التي توجب البخل والظلم، وهو منع الخير وكراهته، و"الهوى المتبع" في إرادة الشر ومحبته، و"الإعجاب بالرأي" في العقل والعلم، فذكر فساد القوى الثلاث التي هي العلم والحب والبغض، كما في الحديث الآخر: "ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهو متبع، وإعجاب المرء بنفسه"، وبإزائها الثلاث المنجيات: "خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الفقر والغنى، وكلمة الحق في الغضب والرضى"، وهي التي سألها في الحديث الآخر: "اللهم إني أسألك خشيتك في السر والعلانية، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الفقر والغني".(1/59)
فخشية الله بإزاء اتباع الهوى، فإن الخشية تمنع ذلك، كما قال (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى) والقصد في الفقر والغني بإزاء الشح المطاع، وكلمة الحق في الغضب والرضى بإزاء إعجاب المرء بنفسه، وما ذكره الصديق ظاهر، فإن الله قال: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ)، أي: إلزموها واقبلوا علها، ومن مصالح النفس فعل ما أمرت به من الأمر والنهي، وقال (لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) وإنما يتم الاهتداء إذا أطيع الله، وأدى الواجب من الأمر والنهي وغيرهما، ولكن في الآية فوائد عظيمة.
إحداها: أن لا يخاف المؤمن الكفار والمنافقين لإنهم لن يضروه إذا كان مهتديًا.
الثانية: أن لا يحزن عليهم ولا يجزع عليهم، فإن معاصيهم لا تضره إذا اهتدى، والحزن على ما لا يضر عبث، وهذان المعنيان مذكوران في قوله: (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ).
الثالثة: أن لا يركن إليهم، ولا يمد عينه إلى ما أوتوه من السلطان والمال والشهوات، كقوله: (لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) فنهاه عن الحزن عليهم والرغبة فيما عندهم في آية، ونهاه عن الحزن عليهم والرهبة منهم في آية، فإن الإنسان قد يتألم عليهم ومنهم: إما راغبًا وإما راهبًا.(1/60)
الرابعة: أن لا يعتدى على أهل المعاصي بزيادة على المشروع في بغضهم أو ذمهم، أو نهيهم أو هجرهم، أو عقوبتهم، بل يقال لمن اعتدى عليهم: عليك نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت، كما قال: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)، وقال: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)، وقال: (فَإِنِ انْتَهَوا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ)، فإن كثيرا من الآمرين الناهين قد يتعدى حدود الله إما بجهل وإما بظلم، وهذا باب يجب التثبت فيه، وسواء في ذلك الإنكار على الكفار والمنافقين والفاسقين والعاصين.
الخامسة: أن يقوم بالأمر والنهي على الوجه المشروع، من العلم والرفق، والصر، وحسن القصد، وسلوك السبيل القصد، فإن ذلك داخل في قوله: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) وفي قوله: (إِذَا اهْتَدَيْتُمْ).
فهذه خمسة أوجه تستفاد من الآية لمن هو مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيها المعنى الآخر، وهو: إقبال المرء على مصلحة نفسه علما وعملا، وإعراضه عما لا يعنيه، كماقال صاحب الشريعة: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، ولا سيما كثرة الفضول فيما ليس بالمرء إليه حاجة من أمر دين غيره ودنياه، لاسيما إن كان التكلم لحسد أو رئاسة.
وكذلك العمل، فصاحبه إما معتد ظالم، وإما سفيه عابث، أكثر ا يصور الشيطان ذلك بصورة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، ويكون من باب الظلم والعدوان.(1/61)
فتأمل الآية في هذه الأمور من أنفع الأشياء للمرء، وأنت إذا تأملت ما يقع من الاختلاف بين هذه الأمة، علمائها وعبادها وأمرائها ورؤسائها: وجدت أكثره من هذا الضرب الذي هو البغي بتأويل أو بغير تأويل، كما بغت الجهمية على المستنة في محنة الصفات والقرآن، محنة أحمد وغيره، وكما بغت الرافضة على المستنة مرات متعددة، وكما بغت الناصبة على علي وأهل بيته، وكما قد تبغي المشبهة على المنزهة، وكما قد يبغي بعض المستنة إما على بعضهم وإما على نوع من المبتدعة بزيادة على ما أمر الله به، وهو الإسراف المذكور في قوله تعالى: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا).
وبإزاء هذا العدوان: تقصير آخرين فيما أمروا به من الحق، أو فيما أمروا به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الأمور كلها، فما أحسن ما قال بعض السلف: ما أمر الله بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين، لا يبالي بأيهما ظفر، غلو أو تقصير.
فالمعين على الإثم والعدوان بإزائه تارك الإعانة على البر والتقوى، وفاعل المأمور به وزيادة منهي عنه بإزائه تارك المنهي عنه وبعض المأمور به، والله يهدينا الضراط المستقيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله).
انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(1)، وهو كلام رفيع جليل، ولذلك حرصنا على إيراده بطوله، وكنا قد اختططنا لأنفسنا في مقدمة هذه المواعظ التواضع أمام أئمة الفقهاء والدعاة، والحرص على كلام القدماء وتقديمه على كلام المعاصرين وعلى ما نستطيع إنشاءه.
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 14/479.(1/62)
ويجب الانتباه إلى أن ما أجازه خلال كلامه من السكوت عند قوة أهل الفجور وأذاهم للناهي إنما يقتصر على العامة من المستضعفين، وأما الدعاة والقادة والعلماء فيأخذون بالعزيمة، ويصدعون بالحق وإن لحقهم الأذى والعذاب والموت، كما بينه ابن تيمية في كلام آخر له سنذكره في حلقات قادمة، وكما بينه غيره، وكما كانت سيرة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله في أيام محنة خلق القرآن، ولاحظ بصورة خاصة أهمية قول ابن تيمية "وإنما يتم الاهتداء إذا أطيع الله".
(وهكذا صحح الخليفة الأول –رضوان الله عليه- ما ترامي إلى وهم بعض الناس في زمانه من هذه الآية الكريمة، ونحن اليوم أحوج إلى هذا التصحيح، لأن القيام بتكاليف التغيير للمنكر قد صارت أشق، فما أيسر ما يلجأ الضعاف إلى تأويل هذه الآية على النحو الذي يعفيهم من تعب الجهد ومشاقه، ويريحهم من عنت الجهاد وبلائه!
وكلا والله، إن هذا الدين لا يقوم إلا بجهد وجهاد، ولا يصلح إلا بعمل وكفاح، ولا بد لهذا الدين من أهل يبذلون جهدهم لرد الناس إله، ولإخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ولتقرير ألوهية الله في الأرض، ولرد المغتصبين لسلطان الله عما اغتصبوه من هذا السلطان، ولإقامة شريعة الله في حياة الناس، وإقامة الناس عليها.
لابد من جهد، بالحسنى حتى يكون الضالون أفرادًا ضالين، يحتاجون إلى الإرشاد والإنارة، وبكل وسيلة مشروعة وممكنة، حين تكون القوة الباغية في طريق الناس هي التي تصدهم عن الهدى، وتعطل دين الله أن يوجد، وتعوق شريعة الله أن تقوم.
وبعد ذلك –لا قبله- تسقط التبعة عن الذين آمنوا)(1).
__________
(1) الظلال 7/61/59.(1/63)
وإذن فإن مفهوم هؤلاء الذين يعذرون أنفسهم غير وارد، وإنما عنت الآية أن (عليكم أنفسكم فزكوها وطهروها، وعليكم جماعتكم فالتزموها وراعوها، ولا عليكم أن يضل غيركم إذا أنتم اهتديتم، فأنتم وحدة منفصلة عمن عداكم، وأنتم أمة متضامنة فيام بينها، بعضكم أولياء بعض، ولا ولاء لكم ولا ارتباط بسواكم.
إن هذه الآية الواحدة تقرر مبادئ أساسية في طبيعة الأمر المسلمة، وفي طبيعة علاقاتها بالأمم الأخرى.
إن الأمة المسلمة هي حزب الله، ومن عداها من الأمم فهم حزب الشيطان، ومن ثم لا يقوم بينها وبين الأمم الأخرى ولاء ولا تضامن، لأنه لا اشتراك في عقيدة، ومن ثم لا اشتراك في هدف أو وسيلة، ولا اشتراك في تبعة أو جزاء.
وعلى الأمة المسلمة أن تتضامن فيما بينها، وأن تتناصح وتتواصى، وأن تهتدي بهدى الله الذي جعل منها أمة مستقلة منفصلة عن الأمم غيرها.. ثم لا يضيرها بعد ذلك شيئا أن ضل الناس حولها ما دامت هي قائمة على الهدى.
ولكن ليس معنى هذا أن تتخلى الأمة المسلمة عن تكاليفها في دعوة الناس كلهم إلى الهدى، والهدى هو دينها هي وشريعتها ونظامها، فإذا هي أقامت نظامها في الأرض بقي عليها أن تدعو الناس كافة، وأن تحاول هدايتهم، وبقي عليها أن تباشر القوامة على الناس كافة لتقيم العدل بينهم، ولتحول بينهم وبين الضلال والجاهلية التي منها أخرجوا.
إن كون الأمة المسلمة مسؤولة عن نفسها أمام الله لا يضيرها من ضل إذا اهتدت، لا يعني أنها غير محاسبة على التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما بينها أولا، ثم في الأرض جميعا، وأول المعروف الإسلام لله وتحكيم شريعته، وأول المنكر الجاهلية والاعتداء على سلطان الله وشريعته، وحكم الجاهلية هو حكم الطاغوت، والطاغوت هو كل سلطان غير سلطان الله وحكمه... والأمة المسلمة قوامة على نفسها أولا، وعلى البشرية كلها أخيرًا.(1/64)
وليس الغرض من بيان حدود التبعة في الآية كما فهم بعضهم قديمًا -وكما يمكن أن يفهم بعضهم حديثًا- أن المؤمن الفرد غير مكلف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- إذا اهتدى هو بذاته- ولا أن الأمة المسلمة غير مكلفة إقامة شريعة الله في الأرض -إذا هي اهتدت بذاتها- وضل الناس من حولها.
إن هذه الآية لا تسقط عن الفرد ولا عن الأمة التبعة في كفاح الشر، ومقاومة الضلال ومحاربة الطغيان -وأطغى الطغيان الاعتداء على ألوهية الله واغتصاب سلطانه وتعبيد الناس لشريعة غير شريعته، وهو المنكر الذي لا ينفع الفرد ولا ينفع الأمة أن تهتدي وهذا المنكر قائم) (1).
[5] العابدون اللاعبون
ما نقلناه سباقا عن ابن تيمية، وابن القيم، والغزالي، وبعض المعاصرين، في وجوب الدعوة إلى الله،والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، معتمدين على طائفة من الآيات والأحاديث، إنما هي نقول تحمل معها من الوضوح ما كان كافيا لرد أوهام المتخارسين الذين ظنوا أن بعض العبارات الفقهية المجملة تعفيهم من هذا الوجوب.
ومع كثرة صيحات الدعاة في هذه السنين وإهابتهم بالناس، وبالمصلين خصوصًا، أن يعملوا، ويعاونوا الدعاة الآمرين النهاة، فإن الأكثرين لا زال الحزن على واقع المسلمين يستهلكهم يومًا بعد يوم، ولم يعرفوا طريق العمل، أو عرفوه ومنعهم الخوف من تحمل التضحيات عن العمل، أو منعهم الحرص على المال والمصالح الدنيوية، فانعزلوا في مساجدهم وبيوتهم، يبكون الإسلام، ويتركون الأجيال وجماهير الشباب الساذج لمن يربيها من دعاة الإلحاد والعلمانية والشيوعية والوجودية، ولمن يجرها إلى الفساد والحياة الشهوانية والزنا والخمر والإسراف في اللهو.
__________
(1) الظلال ج7/ص59-60.(1/65)
إن هؤلاء المصلين، وأهل الغيرة والحزن على مصير المسلمين، يقرأون كب الفقه التي ننقل عنها، وكتب الزهد والرقائق، ولكن كأن خور عزائمهم لا يوقع أبصارهم على ما فيها من صيحات المخلصين على مر الأجيال والقرون، من لدن عصر الصحابة إلى العصور المتأخرة، وحثهم على العمل للإسلام، والتبشير به، ودعوة الخلق، وتنبيه الجموع الغافلة، وترك العزلة والتواري، والتصدي للجهاد والبذل.
إنه حزن قاتل، وتعبد مرجوح، وعزلة مضيعة، وبدعة هادمة، وأن تجلل كل ذلك بالإخلاص والنية الصالحة.
من يقاتل العدو إذا اعتزلتم؟
وأول فوج ظهر من هؤلاء الواهمين كان في عصر صدر الإسلام، والصحابة رضي الله عنهم لا زالوا أحياء، فتصدى لهم الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وعرف ما في العزلة من مضادة للإسلام المتحرك، إسلام الأمر والنهي والجهاد والدعوة الذي رباه عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فأوضح لهم بدعتهم، ونهرهم واجتث أوهامهم من عروقها، وعاد بها إلى الصواب.
يروي لنا التابعي الكوفي، الفقيه النبيل عامر الشعبي، أن رجالا (خرجوا من الكوفة، ونزلوا قريبا يتعبدون، فبلغ ذلك عبد الله بن مسعود، فأتاهم، ففرحوا بمجيئه إليهم، فقال لهم:
ما حملكم على ما صنعتم؟
قالوا: أحببنا أن نخرج من غمار الناس نتعبد.
فقال عبد الله: لو أن الناس فعلوا مثل ما فعلتم فمن كان يقاتل العدو؟
وما أنا ببارح حتى ترجعوا).
روى ذلك شيخ المحدثين عبد الله بن المبارك رحمه الله(1).
وأظن، والله أعلم، أن هؤلاء أخذوا هذه البدعة عن النصارى، إذ كانت أراضي الفرات حول الكوفة كثيرة الديارات النصرانية، وكانت قبيلة طي تسكن حول الكوفة آنذاك وقد فشت فيها النصرانية قبل الإسلام، كما يدل على ذلك كون رئسها عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه نصرانيا قبل إسلامه.
__________
(1) كتاب الزهد لعبد الله بن المبارك:390.(1/66)
ومن هاهنا، من عبد الله بن مسعود، أقتبس الوعي الصحيح الداعون إلى الإسلام على تعاقب الأجيال.
إنها كلمة الحق، وعنوان الوعي، وشارة التربية النبوية الكريمة.
سياهم في كلامهم، مثلما هي في وجودهم.
من يقاتل العدو إذن لو اعتزل العابدون؟
من يرد كيد الصهيونية والماسونية، والدعاية الشيوعية الإلحادية، إذا بقي المصلون في مساجدهم لا يضمون جهودهم إلى جهود دعاة الإسلام؟
فلما مات ابن مسعود وأصحابه، وذهب جيل المجاهدين من التابعين الذين رباهم الصحابة، عاد إلى الخلي عن الجهاد، وإلى العزلة، مرة ثانية في النصف الثاني من القرن الثاني.
ابن المبارك يرث ابن مسعود
ولكن الله سبحانه يهدي عبد الله بن المبارك (ت181هـ) ليجدد حيوية الأمة.
كان رحمه الله محدثا ثقة، وحديثه في الصحيحين والسنن والمسانيد يشهد بذلك، وكان فوق ذلك من الفقهاء والنبلاء، وله مال كثير ينفقه على أهل العلم في جميع عواصم الإسلام، وله شعر إيماني جيد.
ولم يكتف بذلك بل كان داعية مجاهدا، يغزو كل سنة بلاد الروم، ويتخذ له من طرسوس مقرا، وهي جنوب تركيا الآن، حتى صار بهذه الصفات المجتمعة رأس المحدثين في جيله ذاك.
تهز ابن المبارك هذه الكلمة التي نقلها في كتابه عن ابن مسعود رضي الله عنه فيتخذ منها نيراسا، ويقوم بدور ابن مسعود ثانية، حتى نراه ينكر على رفيقه الزاهد العابد الثقة الفضيل بن عياض رحمه الله (ت 187هـ) اعتزاله ومجاورته في مكة، وتركه الجهاد.
كان الفضيل ثقة، وحديثه في الصحيحين يدل على ذلك، وهو من أشهر العباد الزهاد في تاريخ الإسلام، وأجودهم كلاما، لكن ابن المبارك لا يري كل ذلك مكافئا لترك الجهاد وقتال العدو، فيخشن له الكلام، حتى يصفه بأنه عابد لاعب بعبادته، ويبعث له من طرسوس، وبعد معركة من معاركه، قبل أن ينفض غبار المعركة عنه، أبياتًا رائعة جدًا تظل حجة لكل داعية من بعده.
إنها أبيات أكثر من رائعة، وأكثر من صادقة، وأكثر من بليغة,.(1/67)
فافتح قلبك، وفك قيوده وإساره، ليطير ويحلق عاليا مع أبيات ابن المبارك..
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا
لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب جيده بدموعه
فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل
فخيولنا يوم الكريهة تتعب
ريح العبير لكم، ونحن عبيرنا
رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا عن مقال نبينا
قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي غبار خيل الله في
أنت امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا
ليس الشهيد بميت لا يكذب(1).
قال ابن المبارك هذا لمن انصرف إلى العبادة والمجاورة في الحرم المكي، وكان الفضيل يلقب بعابد الحرمين، وله شهرة بكثرة البكاء، ولذلك غمزه بذكر الدموع، وكأنه كان مثل بعض المصلين، يتطيبون بدهن الورد وغيره اتباعًا لسنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فغمزه بذكر العبير الواحد السهل التناول، في حين كان للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولورثته من العلماء المجاهدين عبير غبار المعارك إضافة لعبير الورد والمسك.
فماذا نقول اليوم لمن ينصرف عن الجهاد والدعوة، والأمر والنهي، لا إلى كثرة العبادة بل إلى الراحة والترف وجمع الأموال والحرص على إرضاء زوجته؟
وهل لنا أن نقول لمتزهد اليوم إلا كما قال ابن المبارك: يا عابدًا لو أبصرت دعاة الإسلام يصاولون دعاة الكفر والضلال الحزبي لعلمت أنك بالعبادة تلعب؟
ولئن انحنت ظهور بعض المتعبدين اليوم من كثرة الصلاة، وجفت حلوقهم من مواصلة الصوم، فإن دعاة الإسلام قد انحنت ظهورهم بعد الفرائض والسنن من كثرة مجالس التداول في أمور المسلمين ومصالحهم، وجفت حلوقهم من كثرة السعي والحركة، وبذلوا دماءهم، واهتزت حبال المشانق بأجسادهم.
الشيخ الكيلاني.. على الدرب
__________
(1) طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 1/287.(1/68)
وتتلاحق من بعد ابن المبارك أجيال، وإذا بالهمم تضعف مرة أخرى، وإذا بالزهاد والعباد يعتزلون في الرباطات، ويتركون إرشاد الناس، ويعافون الدعوة، فيشيع الاضطراب في المجتمع المسلم مرة أخرى، فإذا بالقرن السادس الهجري يلد لنا وارثا صادقا من وراث تلك الأقباس الأولى لابن مسعود وابن المبارك، ينتفض، ويأبى وعيه الانسياق في تيار بدعة الترهب والاختفاء عن الناس، فيقف ينادي الأمة، ويدلها على الأمراض التي تتهددها.
إنه الشيخ القدوة العارف عبد القادر الكيلاني رحمه الله.
كان فقيها ثقة من فقهاء الحنابلة ببغداد، والغالب على الحنابلة في كل عصورهم الزهد والبعد عن كل ما يعارض التجرد للعلم، وكان شريفا علويا من ذرية الحسن المثني بن الحسن بن علي بن أ[ي طالب رضي الله عنه، وإنما انتسب إلى مدينة كيلان لسكني آبائه فيها، ولابن تيمية ثم لابن القيم مدح له، وهما اللذان يسميانه بالشيخ القدوة، كما في أكثر موضع من مدارج السالكين.
تكلم الشيخ عبد القادر كثيرًا، وصاح بأهل العراق صيحات بليغة رفيعة المعني والمبنى، وينتشل لنا أحد تلامذته من تلك الصيحات كلمات يدونها سريعا والإمام يخطب خطبه الأسبوعية سنة 545هـ، ويودعها كتابا سماه (الفتح الرباني والفيض الرحماني) قد تجد فيه ما يجب رده، لكنه مملوء بصيحات الحق، والالتفاتات القيمة، والتشديد على وجوب الدعوة والأمر والنهي.
فاسمع من صيحات الحق هذه قول عبد القادر رحمه الله أن:
(المتزهد المبتدي في زهذه يهرب من الخلق، والزاهد الكامل في زهده لا يبالي منهم، ولا يهرب منهم، بل يطلبهم، لأنه يصير عارفا لله عز وجل، ومن عرف الله لا يهرب من شيء، ولا يخاف من شيء سواه.
المبتدي يهرب من الفساق والعصاة، ,المنتهي يطلبهم.
كيف لا يطلبهم وكل دوائهم عنده؟
ولهذا قال بعضهم رحمة الله عليه: لا يضحك في وجه الفاسق إلا العارف.
من كملت معرفته لله عز وجل صار دالا عليه.
يصير شبكة يصطاد بها الخلق من بحر الدنيا.(1/69)
يعطي القوة حتى يهزم إبليس وجنده.
يأخذ الخلق من أيديهم.
يا من اعتزل بزهده مع جهله: تقدم واسمع ما أقول:
يا زهاد الأرض تقدموا.
خربوا صوامعكم واقربوا مني، قد قعدتم في خلواتكم من غير أصل.
ما وقعتم بشيء. تقدموا)(1).
قال هذا رحمة الله وهو في الشيخوخة.
وكذلك فهم العالم العامل، وإن كلماته ليهتز لها القلب اهتزازًا.تأمل قوله: (يا زهاد الأرض تقدموا، خربوا صوامعكم).
خرب صومعتك أيها الهارب الذي ترزح تحت نير الأفكار الأرضية، وآراء طواغيت القرن العشرين.
خذ مكانك في صفوف دعوة الإسلام.
ابن الجوزي يصف حالة الشجعان
وفي ذات الوقت كان داعية آخر في بغداد يحمل مثل هذا القلب الكبير أيضا، ويصيح بأهل بغداد.
إنه أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي مؤلف (زاد المسير في علم التفسير) و(تلبيس إبليس) وعشرات الكتب النافعة.
أبي إلا الصراحة، فاندفع يفضح ويقول:
(الزهاد في مقام الخفافيش، قد دفنوا أنفسهم بالعزلة عن نفع الناس، وهي حالة حسنة إذا لم تمنع من خير، من جماعة واتباع جنازة وعيادة مريض.
إلا أنها حالة الجبناء.
فأما الشجعان فهم يتعلمون ويعلمون، وهذه مقامات الأنبياء عليهم السلام) (2).
وهكذا استمرت كلمات الواعين في كل جيل، لا يسوغون لأحد أن يعتزل ويقعد عن الدعوة إلى الله ولو أكثر العبادة، ولو استعرضنا الجميع لطال السرد، ولكن الدكتور حسان حتحوت –بارك الله فيه- جمع بلاغة الجميع، وناب عنهم، وأعطى كلمة الفصل في أ[يات واضحة، وذلك قوله:
حسبوا بأن الدين عزلة راهب
واستمرؤوا الأورد والأذكارا
عجبا أراهم يؤمنون ببعضه
وأرى القلوب ببعضه كفارا
والدين كان ولا يزال فرائضا
ونوافلا لله واستغفارا
والدين ميدان وصمصام وفر
سان تبيد الشر والأشرارا
والدين حكم باسم ربك قائم
__________
(1) الفتح الرباني للشيخ عبد القادر/73 مع حذف.
(2) صيد الخاطر لابن الجوزي/224 بتحقيق محمد الغزالي.(1/70)
بالعدل لا جورًا ولا استهتارًا(1)
دع بيتك وراء ظهرك
والقعود في البيوت، من بعد الاعتزال في المساجد، أكثر بعدا عن صفة المسلم الكامل، ولذلك كان للصحابة رضي الله إنكار شديد على من يتوارى في بيته، ويأنس بالقرب من زوجة وأولاده، ويترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتخلى عن مكانه الذي يجب أن يحتله في صف المحاربين للطواغيت.
وقد حفظ لنا الرواة عن الصحابي الجليل المبشر بالجنة طلحة بن عبيد الله القرشي، رضي الله عنه أنه قال:
(إن أقل العيب على المرء أن يجلس في داره) (2).
وما كان أعيان العلماء يرضونه بتاتا.
هذا الغزالي رحمه الله يقول:
(اعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان فليس خاليا في هذا الزمان عن منكر، من حيث التقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم وحملهم على المعروف، فأكثر الناس جاهلون بالشرع في شروط الصلاة في البلاد، فكيف في القرى والبوادي، ومنهم الأعراب والأكراد والتركمانية، وسائر أصناف الخلق.
وواجب أن يكون في كل مسجد ومحله من البلد فقيه يعلم الناس دينهم، وكذا في كل قربة، وواجب على كل فقيه –فرغ من فرض عينه وتفرغ لفرض الكفاية- أن يخرج إلى ما يجاور بلده من أهل السواد ومن العرب والأكراد وغيرهم ويعلمهم دينهم وفرائض شرعهم) (3).
وهذا ابن تيمية يفسر قوله تعالى (يا أيها المدثر، قم فأنذر) فيقول: (فواجب على الأمة أ، يبلغوا ما أنزل إليه، وينذروا كما أ نذر، قال الله تعالى: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) والجن لما سمعوا القرآن: (وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنْذِرِينَ) (4).
__________
(1) مجلة المسلمون 3/199 من قصيدة طويلة.
(2) طبقات ابن سعد 3/221.
(3) إحياء علوم الدين 2/327.
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية 16/327.(1/71)
وكما تتفاضل الأعمال في الميزان الإيماني الإسلامي، فإن العمل الصالح الواحد يتفاضل تطبيقه أيضا من شخص إلى شخص وظرف إلى ظرف، ووقت إلى وقت، بحيث يندب إليه أحد المسلمين دون الآخر، وفي ظرف دون آخر، ولكل مسلم عمل من أعمال الخير هو أفضل له من الأعمال الأخرى الفاضلة، وذكر ابن القيم رحمه الله أن (الشجاع الشديد الذي يهاب العدو سطوته: وقوفه في الصف ساعة، وجهاده أعداء الله، أفضل من الحج والصوم والصدقة والتطوع.
والعالم الذي قد عرف السنة، والحلال والحرام، وطرق الخير والشر: مخالطته للناس وتعليمهم ونصحهم في دينهم أفضل من اعتزاله وتفريغ وقته للصلاة وقراءة القرآن والتسبيح) (1).
فلا يحتجن أحد بأحاديث فضل النوافل والتسبيح ليسوغ اعتزاله الناس، ويترك مهمته الإرشادية التي يلزمه إياها عمله الذي تعلمه، فإن مباشرة الدعوة خير من مباشرة النوافل.
الداعية رحالة
ولا ينبغي للداعية أن يبتئس إن لم يجد فضل وقت لقيام الليل يوميا، والإكثار من ختمات القرآن، فإن ما هو فيه من الدعوة وتعليم الناس وتربية الشباب خير وأجزل أجرًا، وقدوته في ذلك ورائده أئمة الدعاة من السلف الصالح الذين كانوا يسيحون لنشر الدعوة وتبليغها، ويبادئون الناس بالكلام، ويحتكون بهم احتكاكا هادفا، ولا ينتظرون مجئ الناس لهم ليسألوهم.
هكذا كان شأن الدعاة دومًا.
وعلى داعية اليوم أن يكون رحالة سائحا في محلات مدينته، ومدن قطره، يبلغ دعوة الإسلام.
انظر مثلا كيف كان رسل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تسيح في البوادي تبلغ الأعراب كلمة الإسلام وتبشر به، ولم يكن ثمة انتظار ورودهم إلى المدينة، ألا ترى أن الأعرابي الذي سأل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أركان الإسلام، فلما أخبره بها وقال: (لا أزيد عليهم ولا أنقص) كيف كان قد بدأ سؤاله بأن قال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ:
__________
(1) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، لابن القيم/93.(1/72)
(يا محمد، أتانا رسولك، فزعم لنا أنك تزعم أن الله ارسلك) (1)؟
أتاهم رسوله داعيا، وكذلك الناس تؤتي، ومن انتظر أن يأتيه الناس فليس بداعية.
ولو فصلت كلمة هذا الأعرابي لتبين لك كيف فارق هذا الصحابي الداعية المدينة لما أرسله النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لقوم هذا، وكيف فارق أهله وبيته وأولاده، وكيف اجتاز المفاوز وصحراء من بعد صحراء، وكيف تعرض للمخاطر والحر أو البرد، ليبلغ دعوة الإسلام.
وهذا شأن الدعوة التي تريد أن تصل إلى أهدافها.
لابد من تحرك ومبادأة وغدو ورواح وتكلم وزعم.
ليس القعود والتمني من الطرق الموصلة، فافقه سيرة سلفك وقلدهم، تصل، وإلا..... فرواح في مكانك، فإنك لن تبرحه.
[6] غطة من جهبذ
يتمنى المؤمن أن يغفر الله له ويدخله الجنة، وإنه لفوز عظيم نفوزه بمجرد أن نتجاوز باب الجنة بخطوات، ولكن الطمع بما عند الله طمع حلو لذيذ، وإذا بنا نعيش بين مدة وأخرى لحظات من اللحظات اللذيذة، لا نقنع فيها بأن ندلف من باب الجنة فحسب، ولا أن نبقى في منازلها الواطئة، بل نطمع أن نكون في عليين، وفي الفردوس، من منازلها الرفيعة.
وهنا يكون الكلام المنطقي:
إن من يريد المنزلة العليا القصوى من الجنة، فعليه أن يكون في المنزلة القصوى في هذه الحياة الدنيا.
واحدة بواحدة.
ولكل سلعة ثمن.
وما هذه المنزلة القصوى في الدنيا إلا منزلة الدعوة إلى الله، كما يقول الشيخ عبد البقادر الكيلاني رحمه الله في كتابه الآخر الذي سماه (فتوح الغيب).
كان هو داعية مصلحا، ولذلك تجد كل كتبه تركز على معنى الدعوة ووجوبها.
إن الفائز عند الكيلاني من اختاره الله.
(وجعله جهبذا وداعيا للعباد ونذيرا لهم وحجة فيهم، هاديا مهديا).
ثم قال: (فهذه هي الغاية القصوى في بني آدم، لا نمزلة تفوق منزلته إلا النبوة) (2).
المؤمن الأخرس متأخر
__________
(1) صحيح مسلم 1/32.
(2) فتوح الغيب للشيخ عبد القادر/49.(1/73)
وكان الشيخ قد عد دونه في المنزلة آخر له (قلب بلا لسان، وهو مؤمن ستره الله عز وجل عن خلقه، وأسبل عليه كنفه، وبصره بعيوب نفسه، ونور قلبه).
فلأن هذا المؤمن لم يملك اللسان، نزلت مرتبته، وتأخرت، وفقد ما في ألقاب الأول من الهيبة والفخامة، فالأول: (جهبذ) و(داعية) و(حجة)، وله ما في هذه الكلمات من إشعاع البهاء، والثاني: (مستور) فحسب، وبين جرس هذه الكلمة ولفظها وتلك الكلمات وألفاظها من البعد مثل ما بين الأرض والسماء.
إن بونا شاسعًا، وطفرة واسعة بين المنزلتين، منزلة الدعوة ومنزلة الإيمان المستور المنعزل، وسبب البون هو اللسان الناطق بالحق لا غير.
من ملك هذا اللسان فقد بذ وسبق قافلة السائرين إلى الله.. كلهم يسير إلى الله، ولكن أين في المقدمة، ممن في المؤخرة؟
وكلهم يدخل إن شاء الله الجنة، ولكن أين من يدخلها في الزمر الأول، ممن يدخلها بعد أعوام من الانتظار في ساحة العرض؟ ولذلك جعلا لكيلاني رحمه الله فقه الداعية لواجبه في تغيير الباطل وإظهار الحق منحة ربانية لمن يعلم الله صلاح قلوبهم، وصاغ هذا المعنى بأحرف يسيرة، لكنها ثمينة، فقال:
(إذا صلح قلب العبد للحق عز وجل، وتمكن من قربه، أعطى المملكة والسلطنة في أقطار الأرض، وسلم إليه نشر الدعوة إلى الخلق، والصبر على أذاهم يسلم إليه تغيير الباطل، وإظهار الحق) (1).
وكذلك البلاغة تكون حين تقتبس من مشكاة النبوة، نسبا وعلمًا، فإنه كان رحمه الله في الذروة من الشرف، علويا صحيح النسب، كما كان في الذروة من علم الحديث وفقه أقوال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
إنه يقول: إن نشر الدعوة توفيق من الله، يوفق له من يعلم صلاح قلبه، فهو تشريف، وليس بتكليف.
ودقق النظر في قوله: (يسلم إليه تغيير الباطل وإظهار الحق).
الباطل يجب أن (يغير)، يغيره (الداعية)، أي يحاربه، ويزيله، ويهيل عليه التراب يقبره.
__________
(1) الفتح الرباني للشيخ عبد القادر/144.(1/74)
أما أن ترجو من الباطل أن يترك مكانه ويعطيه إياك...
وأما أن تتكلم معه باللغة الدبلوماسية، فذلك لن يكون ولن يفيد، وإنما هو التغيير فقط ينص عليه قانون الدعوة.
نصل الماضي بالآتي
وإذن فإن الإسلام اليوم أحوج ما يكون إلى جماعة من الدعاة الذين يملكون هذه النظرة التغييرية المفاصلة، دعاة يدركون جيدًا واجبهم في هداية الناس، ويبصرون موقعهم في موكب الدعوة السائر، وأنهم حلقة تصل الماضي بالآتي، وينشدون:
نحن في ذي الحياة ركب سفار
يصل اللاحقين بالماضينا
قد هدانا السبيل من سبقونا
وعلينا هداية الآتينا(1)
نعم، تعبوا رحمهم الله، حتى أوصلوا عقيدة التوحيد لنا، وربونا وهذبونا، وانتشلونا من مخاطر متلفة، وعلينا أن نكون أوفياء لهم، ننفذ عهدنا حين أخذوا علينا أن نعمل مثل الذي عملوا.
غرسوا فأكلنا، ونغرس فيأكلون.
والغرس يقتضي مخالطة الناس، ومشافهتهم، والصدع بالحق.
أما أن يختار الخلوة، ويترك محاربة الأفكار الأرضية، والمفاسد الخلقية، فهو كما وصفه مصطفى صادق الرافعي (يحسب أنه قد فر من الرذائل إلى فضائله، وماذا تكون العفة والأمانة والصدق والوفاء والبر والإحسان وغيرها إذا كانت فيمن انقطع في صحراء أو على رأس جبل؟ أيزعم أحد أن الصدق فضيلة في إنسان ليس حوله إلا عشرة أحجار؟ وايم الله، إن الخالي من مجاهدة الرذائل جميعا لهو الخالي من الفضائل جميعًا) (2).
وأي فرق بين المعتزل في رأس جبل، وبين من يعيش مع الناس أخرس صامتًا؟
__________
(1) لعزام في ديوان المثاني/149.
(2) وحي القلم 2/97.(1/75)
إن مشكلة المسلمين اليوم لا يسببها نقص عددهم، ومشكلة الدعوة الإسلامية اليوم لا تتمثل في قلة عدد من بقي ثابتا صامدًا على إسلامه حين كثر في الأمة ترك الصلاة والابتداع وحمل أفكار الكفر، فإن كل قطر من أقطار الإسلام لا يزال فيه شباب خير كثير عددهم، ولكن المشكلة في أنهم يصدعون بإسلامهم، ولا يدعن، أو يدعون من غير تنسيق بينهم، وإلى هذا المعنى أرشد الداعية البطل المقدام الفقيه عبد القادر عودة رحمه الله فقال:
(في البلاد الإسلامية اليوم جيل مثقف ثقافة إسلامية عالية حريص على أن يعيد للإسلام ما فقده، لا تأخذه في الحق لومة لائم، ولا عيب فيهم إلا أنهم متأثرون بأسلافهم إلى حد كبير في بعض الاتجاهات، حيث يصرفون أكثر جهدهم في العبادات والمواعظ، ولو أنهم صرفوا أكثر جهدهم في تذكير المسلمين بشريعتهم المعطلة وقوانينهم المخالفة للشريعة وحكم الإسلام فيها لكان خيرًا لهم وللإسلام) (1).
الإمام أحمد يباشر التجميع
وشأن الداعية أن يترصد أخيار الرجال في المجتمع، فيحتك بهم، ويتعرف عليهم، ويزورهم، ويعلمهم طريق ضم الجهود الإسلامية وتنسيقها، فيجدد بذلك سيرة الإمام الداعية المبجل أحمد بن حنبل.
قالوا: كان الإمام أحمد (إذا بلغه عن شخص صلاح، أو زهد، أو قيام بحق، أو اتباع للأمر: سأل ع نه، وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة، وأحب أن يعرف أحواله) (2).
لم يكن بالمنعزل المتواري الهارب من الناس.
ولا يكون داعية اليوم إلا من يفتش عن الناس، ويبحث عنهم ويسأل عن أخبارهم ويرحل للقائهم، ويزورهم في مجالسهم ومنتدياتهم، ومن انتظر مجيء الناس إليه في مسجده أو بيته فإن الأيام تبقيه وحيدًا، ويتعلم فن التثاؤب.
وانظر من تطبيق الإمام أحمد لحرصه هذا مثالا يذكرونه في معرض التعريف بشيخ البخاري والترمذي موسى بن حزام.
__________
(1) الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه/65.
(2) مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي/218.(1/76)
قالوا: إنه كان ثقة صالحا، لكنه (كان في أول أمره ينتحل الإرجاء، ثم أعانه الله تعالى بأحمد ابن حنبل، فانتحل السنة، وذب عنها، وقمع من خالفها، مع لزوم الدين، حتى مات) (1).
وإنها لكلمات تحوي من معاني الدعوة شيئا كثيرًا.
إن هذا التغيير لم يتم بالأماني المجردة.
ألا ترى أن الإمام أحمد لزمه أن يجلس معه المجالس الطوال مناقشا له برفق وسكينة وحكمة وموعظة حسنة حتى استطاع صرفه عن بدعة الإرجاء التي توهمه أن العمل ليس شرطا في الإيمان، وإنما هو تصديق القلب فقط، ثم مجالس أخرى علمه فيها السنن، ثم مجالس أخرى بعث فيه همة عالية استمر معها حتى موته بالدفاع عن السنة وقمع مخالفيها من أهل البدع والشهوات.
إنه كذلك طريق الدعوة وسبيل خدمة الإسلام، وكذلك كان سلفنا من دعاة الإسلام.
لابد من اتصال بالناس.
لابد لك من مجالس معهم تعلمهم فيها.
لابد لك من ترك زوجك وأولادك ومجالس الدنيا وهموم التجارة بضع ساعات في كل يوم، تتوجه فيها إلى الله، داعيا أن يعين بك ضالا من ضحايا الطواغيت الحالية، فتهديه، أو يعين بك يائسا جامدًا، يستهلكه الحزن على واقع المسلمين، وتقيده همومه الدنيوية، فتحركه وتهزه وتغطه غطًا.
إنها غطة العزم.
غط جبريل عليه السلام نبينا محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثلاثا في غار حراء في أول لحظات نبوته، فضمه إلى صدره ضما شديدًا، ثم قال له: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ).
وغط النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ابن عمه عبد الله بن عباس، ضمه إلى صدره، وقال (اللهم علمه القرآن).
وغطك الدعاة.
وعليك أن تغط غيرك هذه الغطة الواجبة التي تضع حدا فاصلا بين عهد الرخاوة وعهد حملة الأمانة بحزم وعزم ووفاء.
لقد أعان الله تعالى بأحمد آلافا مثل موسى بن حزام هذا، وبهم استطاع أن يرد فتنة وكيد الجهمية والمعتزلة وينصر السنة، فكم يا ترى سيعين الله بك اليوم من ترد بهم كيد الشرق والغرب؟
__________
(1) تهذيب التهذيب لابن حجر 10/341.(1/77)
لقد كان السلف رضي الله عنهم أفرح ما يكونون عند العمل للدعوة وهداية أحد على أيديهم.
كان عبدالقادر الكيلاني يقول:
(سبحان من القى في قلبي نصح الخلق وجعله أكبر همي).
ثم يقول:
(إذا رأيت وجه مريد صادق قد أفلح على يدي: شبعت وارتويت، واكتشيت، وفرحت، كيف خرج مثله من تحت يدي؟)(1).
هذا شبعهم وريهم، لا في تأليف الكتب فحسب، والتي تكرر المعاني الواحدة.
العالم من كان داعية، أما مؤلف الكتب فحسب فنقول له:
لست والله عالما أو حاكمًا ……إنما أنت تاجر في العلوم(2)
الإسلام اليوم لا يحتاج مزيد بحوث في جزئيات الفقه بقدر ما يحتاج إلى دعاة يتكاتفون.
فقه الوزير الداعية
واسمع إلى طريف ما فهمه الفقيه المحدث العابد الوزير العباسي الصالح ابن هبيرة الدوري رحمه الله من قوله تعالى: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى) إذ يقول:
(تأملت ذكر أقصى المدينة، فإذا الرجلان جاءا من بعد في الأمر بالمعروف، ولم يتقاعدا لبعد الطريق) (3).
وياله من استخراج بديع مع بساطته يجعل الداعية يتأمل ويقول: هل يتأتي للداعية اليوم أن يستكثر ما توجبه الدعوة عليه من حركة يومية بعيدة بعد أن يعرف هذا الذي كان عليه سلفه من دعاة القرون الأولى وصفتهم هذه التي خلدها القرآن في الجوب والتجول والذهاب إلى الأقاصي بغية بث الدعوة والأمر بالمعروف؟
(وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى)،( قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ).
__________
(1) الفتح الرباني/27.
(2) لعزام في ديوان المثاني/98.
(3) ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 1/269.(1/78)
فهذا رجل سمع الدعوة فاستجاب لها بعدما رأى فيها من دلائل الحق والمنطق ما يتحدث عنه في مقالته لقومه، وحينما استشعر قلبه حقيقة الإيمان تحركت هذه الحقيقة في ضميره فلم يطق عليها سكوتًا، ولم يقبع في داره بعقيدته، وهو يرى الضلال من حوله والجحود والفجور، ولكنه سعى بالحق الذي استقر في ضميره وتحرك في شعوره، سعى به إلى قومه وهم يكذبون ويجحدون ويتوعدون ويهددون، وجاء من أقصى المدينة يسعى ليقوم بواجبه في دعوة قومه إلى الحق، وفي كفهم عن البغي، وفي مقاومتهم اعتدائهم الأثيم الذي يوشكون أن يصبوه على المرسلين.
وظاهر أن الرجل لم يكن ذا جاه ولا سلطان، ولم يكن في عزوة من قومه أو منعة من عشيرته، ولكنها العقيدة الحية في ضمير تدفعه وتجئ به من أقصى المدينة إلى أقصاها(1).
[7] جهاد الحجة
وعي المسلم لوجوب الدعوة إلى الله، وفقهه لهذه المسألة الحدية، ووضوح رؤيته لهذا المعلم البارز من معالم الطريق الإسلامي: كل هذا يحدد نقطة البدء والانطلاق في مسيرة الفرد المسلم في الحياة، وفي خطة أي إصلاح جماعي، ومن ثم وجب الإلحاح في بيان هذا الواجب، وتطيبق السلف الصالح له، وأمثلة من تجدد سيرة السلف وكلامهم في ذلك في قرننا هذا.
وكما رأينا عبد الله بن مسعود يرصد نفسه في الكوفة لتفنيد العزلة، نرى الحسن البصري سيد التابعين رحمه الله يرصد نفسه في البصرة لبعث همم الناس، وشرح معنى الإصلاح، فيتلو على أهل البصرة قول الله تعالى: (مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ثم يقول: (هو المؤمن أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحا في إجابته.
فهذا حبيب الله.
هذا ولي الله).
لا غيره ممن يعتزل ويجمد ويكون مستورا.
وحين نقل ابن القيم كلام الحسن هذا عقب فقال:
__________
(1) في ظلال القرآن 23/16.(1/79)
(فمقام الدعوة إلى الله أفضل مقامات العبد)(1).
وبمسارعته هذه إلى فهم كلام الحسن، وباتحاد قوله مع قول الكيلاني الذي ذكرناه قبل، دلل على أن وحدة المفاهيم تابعة لوحدة المنهج في البحث.
اقباس متشابهة من نور واحد
فلأن منهجهم هو جعل القرآن والحديث الصحيح مصدر الفهم، وبناء الاستعداد النفسي لقبول جميع معاني القرآن، والحديث التي يشير إليها العقل السليم والظاهر اللغوي: اتحدت أقوال هؤلاء الرهط الفاضل الذين ننقل عنهم ومفاهيمهم، ابتداء بالصحابة، ومن تبعهم بإحسان، ومرورًا بابن الجوزي والشيخ عبد القادر وابن تيمية وابن القيم، وانتهاء ببعض أفاضل هذا العصر، كالرافعي وإقبال وعبد الوهاب عزام، وبقادة الدعوة كالإمام البنا، والمودودي، وعودة، وسيدة قطب، وسيظل سير هذه الطائفة الظاهرة على الحق، الآخذة بالمعنى الظاهر، إلى يوم القيامة، بعكس منهج الطوائف الأخرى التي حددتها ابتداء تأثرات فلسفية، وميول ابتداعية، وشهوات بدنية ونفسية، وتخوفات، وجبن وحرص، فما عادت تفتش إلا عما يوافق الذي وقر في عقولها ونفوسها، وتعرض عما يفضحها، أو تتمحل وتتكلف لصرفه عن معناه الظاهر.
في سورة العصر كفاية
وسطر واحد في القرآن فيه كفاية وغني لأصحاب المنهج الأول الصحيح، وذلك قوله تعالى:
(وَالْعَصْرِ* إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).
بل يكفيهم ربعها الذي وصف المتواصي بالحق بالربح.
ولذلك وصف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سورة العصر بأنها تعدل ثلث القرآن(2).
فلكمتان فحسب، لأنهما بينتا وجوب الدعوة، كانتا ربع ثلث القرآن.
__________
(1) مفتاح دار السعادة لابن القيم 1/153.
(2) صحيح البخاري 6/233.(1/80)
فكل واحد في خسر، (إلا من كمل قوته العلمية بالإيمان بالله، وقوته العملية بالعمل بطاعته، فهذا كماله في نفسه، ثم كمل غيره بوصيته له النافع، والعمل الصالح، وكما غيره بتعليمه إياه ذلك، ووصيته بالصبر عليه، ولهذا قال الشافعي رحمه الله: لو فكر الناس في سورة العصر لكفتهم)(1).
فالله سبحانه (لم يكتف منهم بمعرفة الحق والصبر عليه، حتى يوصي بعضهم بعضا ويرشده إليه، ويحثه عليه، فإذا كان من عدا هؤلاء فهو من الخاسرين)(2).
أو باحرف أخرى يقولها الداعية الأستاذ محمد محمود الصواف أن:
(شرط النجاة من الخسران جعله الله تبارك وتعالى معلقا بمعرفة الناس للحق، وإذا عرفوه ألزموا أنفسهم به، ومكنوه من قلوبهم، وعاشوا بالحق، وللحق ، ولا يعفون من المسؤولية ولا ينجون بأنفسهم إذا عرفوا الحق ولم يبشروا به ويدعو الناس إليه ويحملوهم حملا على التمسك بالحق واتباع الحق.
__________
(1) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان لابن القيم 1/33.
(2) عدة المسلمين في معاني الفاتحة وقصار السور/87.(1/81)
فالدعوة إلى الحق والتبشير به: فرع الإيمان بالحق ومعرفة الحق، ولا يتم الأصل بدون هذا الفرع، الذي هو الدعوة إلى الحق والتبشير به بين الناس، ومن لم يأخذ نفسه بحمل الناس على الحق الصحيح، بعد أن يعرفه ويتبعه، فهو من الخاسرين، لأن أمر الله تبارك وتعالى صريح في هذا الآية، وهو التواصي بالحق، والتواصي يحمل معنى الدعوة إلى الحق بكل صراحة وقوة، فإذا عرفت الحق، ورأيت أهل الباطل يزيغون عن الحق، ولم تدعهم إلى اتباع الحق، وتوصهم باتباع طريق الحق الذي هو الضراط المستقيم، والنور المبين، فلا شك أنك من الخاسرين، لأنك لم تنفذ أمر الله، وتتواص بالحق ولأنك أخذت الحق لنفسك ولم تحمل عليه غيرك من الزائغين المنحرفين أو المخطئين التائهين، والمسلم لا يعيش لنفسه فقط، بل يعيش لنفسه وللناس، فإذا أصلح نفسه: وجب عليه إصلاح غيره، والدعوة إلى الإصلاح تشمل الناس جميعا، كل على حسب طاقته، وبقدر نطاقه الذي يحيط به، والنص في هذه الآية صريح، لا يقبل التأويل)(1).
الداعية مجاهد مهاجر
وبمقابل ذلك، منح الله تعالى المتواصين بالحق، من الأمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، الذين يقذفون بحجج الله وبيناته على آراء العقول الزائغة، أجر وثواب المجاهدين والمهاجرين، فعد الأمر والنهي جهادًا، والثبات على الدعوة هجرة.
وقال ابن القيم: (ولا ريب أن الأمر بالجهاد المطلق إنما كان بعد الهجرة، فأما جهاد الحجة فأمر به في مكة بقوله: (فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ) أي بالقرآن (جِهَادًا كَبِيرًا).
فهذه سورة مكية، والجهاد فيها هو التبليغ وجهاد الحجة).
جاهدهم بالقرآن يا أيها النبي، ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
وجاهدوهم بالقرآن، يا ورثة وأتباع هذا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
أي أن نقف لآراء عقولهم القاصرة بالمرصاد ندمغها بحجج من هذا القرآن، فإذا باطلهم هو زاهق.
__________
(1) زاد المعاد لابن القيم 2/58.(1/82)
فالدعوة، والأمر والنهي، والتواصي: نوع من الجهاد، ولذلك ساغ لنا في فقه الدعوة أن نتعرف على كثير من جوانب وصفات الدعوة والداعية قياسا على أحكام جهاد القتال، بل لذلك أيضًا وجب على الداعية أن يفهم آيات الجهاد وأحاديثها على أنها خطاب له هو أيضًا وهو في أمره ونهيه إن حجبه عن خوض القتال تقدير خسران المعركة وظهور المجازفة ووجود المثبطين والخونة الذين يضربون من الخلف، ولذلك أيضا يحق للآمرالناهي أن يمني نفسه بثواب المقاتلين إن شاء الله.
ثم الداعية بعد ذلك له أجر المهاجرين، كما قرر الإمام ابن تيمية في تفسير قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ)، فقال:
(قالت طائفة من السلف: هذا يدخل فيه من آمن وهاجر وجاهد إلى يوم القيامة، وهكذا قوله تعالى: (لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) يدخل في معناها كل من فتنه الشيطان عن دينه أو أوقعه في معصية، ثم هجر السيئات وجاهد نفسه وغيرها من العدو، وجاهد المنافقين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك، وصبر على ما أصابه من قول أو فعل، والله سبحانه وتعالى أعلم)(1).
إلحاح الكيلاني في بيان وجوب الدعوة
وكما اخترنا الإلحاح في بيان وجوب الدعوة إلى الله، واعتبرناه المنطلق: اختار الشيخ عبد القادر الكيلاني رحمه الله الإلحاح في بيان هذا الواجب، وعاد يذكر أهل بغداد كل أسبوع في خطبته، أو بالأحرى عاد يذكر خيار أبناء الأمة الذين تجمعوا من أطراف الأرض في عاصمة الإسلام.
نتدرج معه في أيامه.
يصف الدعاة أولا، فيقول:
(هم قيام في مقام الدعوة، يدعون الخلق إلى معرفة الحق عز وجل، لا يزالون يدعون القلوب)(2).
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 18/284.
(2) الفتح الرباني للشيخ عبد القادر/7.(1/83)
ويجعل إتاحة الله سبحانه لعبده هذا المقام الشريف أكبر نعمة، ويعد انشغاله به دليلا على صحة تبعيته وخلافته للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فيقول:
(من صحت تبعيته للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ البسه درعه وخوذته، وقلده سيفه، ونحله من أدبه وشمائله وأخلاقه، وخلع عليه من خلعه، واشتد فرحة به: كيف هو من أمته؟
ويشكر ربه عز وجل على ذلك، ثم يجعله نائبا له في أمته، ودليلا وداعيا لهم إلى باب الحق عز وجل.
كان هو الداعي والدليل، ولما قبضه الحق عز وجل أقام له من أمته من يخلفه فيهم، وهم آحاد أفراد، من كل ألف ألف واحد، يدلون الخلق، ويصبرون على أذاهم، مع دوام النصح لهم. يتبسون في وجوه المنافقين والفساق ويحتالون عليهم بكل حيلة حتى يخلصوهم مما فيه، ويحملوهم إلى باب ربهم عز وجل)(1).
ثم يدعوهم إلى إماتة الهوى والنفس الأمارة بالسوء، لتحصل حياة الدعوة.
(موت ثم نشر، ثم إذا شاء أنشرك له، ردك إلى الخلق لتنظر في مصالحهم وتردك إلى بابه، يجيء لك الميل إلى الدنيا والآخرة لتتناول أقسامك منهما، تجيء لك القوة على مقاساة الخلق، فتردهم عن ضلالهم)(2).
ثم يوجز صفات الداعية وشروط التوثيق في صفة واحدة جامعة لصفة التجرد الكامل والانغماس بكله في الدعوة، حتى ينسى نفسه ويعود لا يرى إلا من يدعوهم، ولا يتكلم إلا بما يفيد من يدعوهم. فعالمه، وكونه الفسيح: لا يحوي تجارة، ولا شهوة، ولا منصبا، ليس في هذا الكون إلا الذين يباشر دعوتهم، هم تجارته، ولذته، ومنصبه.
(يصير كأنه لا نفس له ولا طبع ولا هو، ينسى طعامه وشرابه ولباسه، يصير ناسيا لنفسه، ذاكرا لخلق ربه عز وجل، يخرج بقلبه عن نفسه والخلق، ويبقى بربه عز وجل، كل طلبه نفع الخلق، قد سلم نفسه إلى يد قضاء ربه عز وجل)(3).
فهذا نموذج الدعاة.
هذه صفة من يريد أن يكون ضمن القاعدة الصلبة التي يبني عليها الإسلام الآن.
__________
(1) الفتح الرباني /83.
(2) الفتح الرباني/107.
(3) الفتح الرباني/211.(1/84)
ووالله لا نجاح للدعوة، ولا وصول، إن أعطيناها فضول الأوقات، ولم ننس أنفسنا وطعامنا.
إن جاهلية القرن العشرين زادت ظلام القرون الأخيرة ظلامًا، فلا ترض العيش في الظلام، بل:
كن مشعلا في جنح ليل حالك
يهدي الأنام إلى الهدى ويبين
وأنشط لدينك لا تكن متكاسلا
واعمل على تحريك ما هو ساكن
وابدأ بأهلك إن دعوت فإنهم
أولى الورى بالنصح منك واقمن
والله يأمر بالعشيرة أولا
والأمر من بعد العشيرة هين(1)
[8] أصول فقه العمل الجماعي عند السلف
الطريق إلى الله طريق واضح مستقيم.
خطوت خطوتك الأولى فيه بإصغائك لمن دعاك إلى أن تذر آراء الطواغيت الذين يشرعون من دون الله.
ثم تمردت على خطط الترويض، وأبقيت صفتك، شبلا حفيد أسنود، ولم يجعلوك ظيبا جفولا.
ثم نطقت، ولم تسكت تتخارس، ودعوت إلى الله آمرًا بالمعروف، ناهيا عن المنكر. وكنت من الذين يعملون الحق ويرحمون الخلق" كما يقول ابن تيمية(2).
ترحمهم بانتشالهم مما هم فيه من الضلال الذي أرهقهم وحرمهم الطمأنينة والسكينة. أرهق قلوبهم بالقلق، وعقولهم بالحيرة، وأبدانهم بالتعب والمرض.
ولا يزال الأئمة ينادونك:
(ألست تبغي القرب منه؟
فاشتغل بدلالة عباده عليه، فهي حالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
أما علمت أنهم آثروا تعليم الخلق على خلوات التعبد، لعلمهم أن ذلك آثر عند حبيبهم؟)(3).
ولا يزالون يتسألونك:
(هل كان شغل الأنبياء إلا معاناة الخلق وحثهم على الخير ونهيهم عن الشر؟)(4).
ولا تزال أنت في استجابة من بعد استجابة، ونعمًا الذي تفعل.
وخطواتك المباركة هذه قد أوصلتك إلى منتصف الريق، فواصل الخطو: تصل.
كن من رجال العامة
خطواتك الأخرى في هجرتك إلى الله أن تتسع في نطقك بالحق، وتقصد العامة، فتكون لهم إمامًا، وقدوة، وقائدًا، ومرشدًا.
__________
(1) لوليد الأعظمي في ديوان الزوابع/ 124.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 16/96.
(3) صيد الخاطر لابن الجوزي /38.
(4) صيد الخاطر لابن الجوزي/42.(1/85)
أعد سيرة سلفك من الدعاة رحمهم الله.
كانوا أئمة للعامة، يتصدون لإرشاد كل الناس، فيتزايد حب القلوب لهم تدريجيًا، ويرون فيهم القدوة الصحيحة التي لا مطعن فيها، فيتبعونهم، ويمتثلون أمرهم.
هذا الزاهد المشهور بشر بن الحارث الحافي رحمه الله، يعدد ثلاث خصال امتاز بها الإمام أحمد ابن حنبل، وفضل بها عليه، وقصر هو عنها، أحد (أنه نصب إماما للعامة) (1).
ووصفوا الأوزاعي بأنه: (كان رجل عامة) (2).
ومثله المحدث الثقة الفقيه أبو إسحق الفزاري، قالوا: كان رجل عامة، وهو الذي أدب أهل الثغور الإسلامية التي في أعالي بلاد الشام والجزيرة تجاه الروم، وعلمهم سنن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وكان يأمر وينهي، وإذا دخل الثغر رجل مبتدع أخرجه(3).
وخالد بن عبد الله الواسطي، أحد المحدثين الثقات من شيوخ البخاري، وصفوه بأنه كان (رجل عامة) (4).
فحلل هذه التعريفات، نجد أنهم كانوا دعاة، يعلمون الناس، لم يحملهم علمهم على حصر أنفسهم بين الجدران بل كانوا ينزلون إلى الجموع، ويقودونها في مواقفها السياسية، كما قاد الإمام أحمد جموع الخير في معارضة الجهمية والمعتزلة الذين أرادوا حرف عقيدة الأمة ببدعة خلق القرآن، ونازع الدولة كلها حين أرادت فرض البدعة بالقوة، حتى نصره الله تعالى بالمتوكل، إذ كان المتوكل صحيح العقيدة، فبدل جهاز الدولة، وطهره من المبتدعة، وأخمد أمرهم وكبته.
وإنما نعني بالعامة جمهور الناس، المثقف منهم والأمي، لا الاصطلاح الحادث الذي يعني الجهال.
ولم يكونوا رحمهم الله بالذين ينسون الأعراب وأهل الأرياف حين يقودون أهل المدن، بل كانوا يلمسون أهمية وحدة عقائد ومواقف هؤلاء وهوؤلاء، فيرصدون لهم شيئا من جهودهم وأوقاتهم.
__________
(1) إحياء علوم الدين 2/23.
(2) تهذيب التهذيب لابن حجر 6/241، 1/152، 3/100.
(3) تهذيب التهذيب لابن حجر 6/241، 1/152، 3/100.
(4) تهذيب التهذيب لابن حجر 6/241، 1/152، 3/100.(1/86)
هذا الإمام الزهري زعيم المحدثين، ربي أجيالا من أهل الحواضر الإسلامية، وجعلهم أئمة في الحديث، وما كان ذلك يكفيه، بل (كان ينزل بالأعراب يعلمهم)، يحفظ من بقي صحيح العقيدة، ويتلطف مع من نجح أهل البدع في حرفه، فيرجعه إلى التوحيد.
وجدد آخرون سيرة الزهري، منهم الفقيه الواعظ أحمد الغزالي، أخو الإمام صحاب الإحياء، فإنه كان (يدخل القرى والضياع، ويعظ لأهل البوادي، تقربا إلى الله) (1).
ابن تيمية يسوغ العمل الجماعي
وكان هؤلاء الأئمة رحمهم الله أصحاب فقه عظيم، عرفوا المقاصد العامة للشريعة، وجواز –بل وجوب- كل ما يحقق هذه المقاصد وإن لم تنص عليه، وعرفوا أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو وجب، فانخلعوا عن الفردية حيث اقتضى الأمر هذا الانخلاع وتكاتفوا، وعملوا عملا جماعيًا، وأوضحوا في عدد من الفتاوى الواضحة الصريحة شرعية العمل الجماعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مهما تسمى هذا العمل الجماعي بأسماء مختلفة، كالجماعة، والحزب، والكتلة، وغير ذلك. وإذا كان العمل جماعيا فلابد أن يكون له قائد ورئيس، سواء سمى زعيما، أو مرشدًا، أو رأس الحزب.
وقد تستغرب أشد الاستغراب حين تعلم أن تسويغ إنشاء الجماعات العاملة لغايات شرعية، وتسويغ مثل هذه الاصطلاحات التي تظنها حديثة، قد ورد في كلام الفقهاء والأئمة القدماء، مما يعطينا صورة واضحة عما تحوي بطون الكتب الفقهية من فقه حركي إسلامي مجهول لدينا ينتظر من ينتزعه منها وينشره للدعاة.
اسمع قول ابن تيمية في شرعية العمل الجماعي، مما لا تكاد تصدق أنه من كلام القدماء.
يقول رحمه الله:
(وأما لفظ "الزعيم؟ فإنه مثل لفظ الكفيل والقبيل والضمين، قال تعالى: (وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) فمن تكفل بأمر طائفة فإنه يقال: هو زعيم، فإن كان قد تكفل بخير: كان محمودا على ذلك، وإن كان شرًا: كان مذموما على ذلك.
__________
(1) طبقات الشافعية للسبكي 6/62.(1/87)
وأما "رأس الحزب" فإنه رأس الطائفة التي تتحزب، أي تصير حزبا، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان فهم مؤمنون، لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا، مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم، سواء كان على الحق والباطل: فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف، ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان) (1).
إنه من أثمن النصوص التي تحج وتفند رأي من يرى أن العمل الجماعي بدعة غريبة على الأساليب الإسلامية.
وإنه لنص رائع يحفز الدعاة لجمع أمثاله وجعلها محور فقه الدعوة، فتحوز الدعوة رسوخا جديدًا، بما تملكه هذه النصوص من هيبة قائليها، وبما تؤدي إليه من القيام بدور القول الفصل حين يسارع مستعجل واهم، أو خائر نائم، إلى تبديع من يعمل من دعاة الإسلام العمل الجماعي مع أصحاب له من الدعاة آخرين.
وأني يكون في العمل الجماعي نوع بدعة وهو الأصل الموروث عن الأنبياء عليهم السلام؟
قال تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي).
قال ابن القيم: (قال الفراء وجماعة: ومن اتبعني معطوف على الضمير في أدعو، يعني: ومن اتبعني يدعو إلى الله كما أدعو، وهذا قول الكلبي.
قال: حق على كل من اتبعه أن يدعو إلى ما دعا إليه). (2)
وقال تعالى: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ).
قال ابن القيم: (فالربيون هنا: الجماعات، بإجماع المفسرين، قيل: إنه من الربة، بكسر الراء، وهي الجماعة. قال الجوهري: الربي واحد الربيين، وهم الألوف من الناس) (3).
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 11/92.
(2) مفتاح دار السعادة لابن القيم 1/154/126.
(3) مفتاح دار السعادة لابن القيم 1/154/126.(1/88)
فالأنبياء عليهم السلام قاتل معهم الألوف.
وسيرة خاتم المرسلين ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل واضح لذلك.
وورثة هذا النبي، وأؤلئك الأنبياء، لهم أسوة حسنة بهم، لا يتفردون، بل يسيرون ألوفا.
يأمرون بالمعروف في رجال معهم
وهذا المعني فقهه الصحابة والسلف الصالح ووعوه وعيا كاملا، فلم يكتفوا بالدعوة الفردية، وإنما أسسوا الجماعات للدعوة إلى الله وعملوا عملا جماعيًا.
منهم الصحابي هشام بن حكيم بن حزام القرشي رضي الله عنه.
قال الزهري: (كان يأمر بالمعروف في رجال معه) (1).
فانظر قول الزهري: في رجال معه، فهو قد كون جماعة آمرة، ودلل على أن الأمر بالمعروف لا بد له من عصبة، ومتى كانت عصبة كانت دعوة.
ثم ما فتئ أفاضل العلماء يتخذون لهم جماعة وأصحابا للقيام مجتمعين بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما كان أمر عبد الرحيم بن محمد العلثي البغدادي الفقيه المحدث الزاهد، قالوا: (كان شيخا جليلا، عالم، عارفا، من أجل شيوخ الحديث، ملتزما بالسنة، زاهدا ذا فضل وورع، وأدب وعلم.
وقال البرزالي عنه: محدث بغداد في وقته، موصوف باتباعه السنة ونصرها. والذب عنها.
قال الذهبي: وله أتباع وأصحاب يقولون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) (2).
نعم شرط واحد يحدد رأس هذه الجماعة به قبول الإنضمام لجماعته، وهو أن يتحرى الصالح من الرجال، المؤمن الآكل للحلال، ليكون في إعانته توفيق من الله، وأثر، وإلا فإن كان من المخلطين غير المتحرين لشروط الشرع في معاملاته وسلوكه ومعيشته رفع الله عن عمله البركة.
وهذا هو مذهب الدعاة القدماء.
قال ابن الجوزي:
__________
(1) تهذيب التهذيب 11/37.
(2) ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/316.(1/89)
(قال ابن عقيل: رأينا في زماننا أبا بكر الأقفالي، في أيام القائم، إذا نهض لانكار منكر استتبع معه مشايخ لا يأكلون إلا من صنعة أيديهم، كأبي بكر الخباز شيخ صالح أضر –أي صار ضريرا- من إطلاعه في التنور، وتبعه جماعة ما فيهم من يأخذ صدقه ولا يدنس بقبول عطاء -أي هدية من رجال الحكم- صوام النهار، قوام الليل، أرباب بكاء، فإذا تبعه مخلط رده، وقال: متى لقينا الجيش بمخلط: انهزام الجيش) (1).
وكذلك الوعي والفقه الصحيح والتمييز حين يكون.
وبدون مثل هذه الشروط الصعبة تغدو الجماعة الإسلامية مأوى للضعفاء، وتفقد صلابتها، ويحرمها الله نصره.
وإن مثل هذه النصوص لهى اكتشافات ثمينة يجب أن تأخذ دورها في الفقه الحركي لتبين أصوله التي استمد منها.
لا يشترط إذن السلطة
وقد تطرق الغزالي فبحث أمر جواز تكوين جماعة للأمر بالمعروف من ناحية موضوعية، ودلل على عدم اشتراط الشريعة إذن السلطة في ذلك، وأن ذلك الأوفق للقياس.
قال رحمه الله:
(قال قائلون: لا يستقل آحاد الرعية بذلك، لأنه يؤدي إلى تحريك الفتن، وهيجان الفساد، وخراب البلاد.
وقال آخرون: لا يحتاج إلى الإذن –وهو الأقيس- لأنه إذا جاز للآحاد الأمر بالمعروف، وأوائل درجاته تجر إلى ثوان، ثم إلى ثوالث، وقد ينتهي لا محالة إلى التضارب، والتضارب يدعو إلى التعاون، فلا ينبغي إلا أن نبالي بلوازم الأمر بالمعروف، ومنتهاه: تجنيج الجنود في رضا الله ودفع معاصيه.
ونحن نجوز للآحاد من الغزاة أن يجتمعوا ويقاتلوا من أرادوا من فرق الكفار، قمعا لأهل الكفر، فكذلك قمع أهل الفساد جائز، لأن الكفار لا بأس بقتله، والمسلم إن قتل فهو شهيد، فكذلك الفاسق المناضل عن فسقه لا بأس بقتله، والمحتسب الحق إن قتل مظلوما فهو شهيد.
__________
(1) تلبيس إبليس لابن الجوزي/145.(1/90)
وعلى الجملة، فانتهاء الأمر إلى هذا من النوادر في الحسبة، فلا يغير به قانون القياس، بل يقال: كل من قدر على دفع منكر فله أن يدفع ذلك بيده، وبسلاحه، وبنفسه، وبأعوانه) (1).
وهذا نص يكتب بماء الذهب.
وعلى الدعاة أن يحفظوه عن ظهر قلب.
وهو دليل على أن في كتب التراث مناجم للفقه الحركي كثيرة.
وللغزالي كلام آخر في تفنيد اشتراط إذن السلطان في الأمر بالمعروف، من المفيد أن نقرنه بكلامه هذا في تجويز الاجتماع على الأمر والنهي.
قال رحمه الله:
(قد شرط قوم هذا الشرط، ولم يثبتوا للآحاد من الرعية الحسبة، وهذا الاشتراط فاسد، فإن الآيات والأخبار التي أوردناها تدل على أن كل من رأي منكرًا فسكت عليه عصى، إذا يجب نهيه أينما رآه على العموم، فالتخصيص بشرط التفويض من الإمام تحكم لا أصل له).
ثم قال:
(فإن قيل: في الأمر بالمعروف إثبات سلطنة وولاية واحتكام على المحكوم عليه، ولذلك لم يثبت للكافر على المسلم مع كونه حقا، فينبغي أن يثبت لآحاد الرعية إلا بتفويض من الوالي وصاحب الأمر. فنقول: أما الكافر فممنوع لما فيه من السلطنة وعز الاحتكام، والكافر ذليل، فلا يستحق أن ينال عز التحكم على المسلم، وأما آحاد المسلمين فيستحقون هذا العز بالدين والمعرفة، وما فيه من عز السلطنة والاحتكام لا يحوج إلى تفويض، كعز التعليم والتعريف، إذ لا خلاف في أن تعريف التحريم والإيجاب لمن هو جاهل ومقدم على المنكر بجهله لا يحتاج إلى إذن الوالي، وفيه عز الإرشاد وعلى المعرف ذل التجهيل، وذلك يكفي فيه مجرد الدين، وكذلك النهي).
__________
(1) إحياء علوم الدين 2/333.(1/91)
ثم خلص إلى أن (استمرار عادات السلف على الحسبة على الولاة قاطع بإجماعهم على الاستغناء عن التفويض، بل كل من أمر بمعروف، فإن كان الوالي راضيا به فذاك، وإن كان ساخطا له فسخطه له منكر يجب الإنكار عليه، فكيف يحتاج إلى إذنه في الإنكار عليه؟ ويدل على ذلك عادة السلف في الإنكار على الأئمة، كما روى أن مروان ابن الحكم خطب قبل صلاة العيد، فقال له رجل: إنما الخطبة بعد الصلاة، فقال له مروان: أترك ذلك يا فلان: فقال أبو سعيد، أي الخدري: أما هذا فقد قضى ما عليه، قال لنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : من رأى منكم منكرًا فلينكره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان.
فلقد كانوا فهموا من هذه العموميات دخول السلاطين تحتها، فكيف يحتاج إذنهم؟)(1).
فهذا طرف أيها المسلم الغيور مما كان عليه السلف رضي الله عنهم من فقه الدعوة والعمل الجماعي.
[9] فقه العمل الجماعي في صياغته الحديثة
نكبتان كبيرتان حدثتا في تاريخ الإسلام، أتعبتا عموم المسلمين، ولمدى أجيال، بخلاف نكبات صغيرة محدودة الأثر كثيرة.
النكبة الأولى: أحدثها هولاكو، وبلغت ذروتها باحتلاله بغداد عاصمة الإسلام.
__________
(1) إحياء علوم الدين 2/315.(1/92)
والناظر لهذه النكبة يجد أنها ما كانت بدعة عما يصيب الأمم في فترات ضعفها، وتوقعها الكثير من العلماء، وحذروا الأمة وأولى الأمر من وقوعها قبل سنين طويلة من السنة التي وقعت فيها، وهي السنة 656هـ، لما رأوه من تردي أحوال العامة في عقيدتها وأخلاقها، وبعد جهاز الدولة عن الجد والتجرد، وضعف هيمنة الخلفاء، وعزوف جمهور العلماء عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتهائهم بالجدل والمناظرات الجافة الموغرة للصدور(1).
وقد حاول بعض متأخري الخلفاء إصلاح الأحوال بنظام الفتوة الذي حرف به سيرة كثير من العامة إلى سيرة شبه عسكرية، إلا أن إصلاحه كان مخروقا، لأنه لم يعتمد العقيدة أساسا تربويا لنظامه، فتحول النظام إلى نوع من اللهوى.
وهذا هو الذي يفسر لنا ذلك الذهول الذي أصاب معظم الأمة بعد تلك النكبة، وحيرتهم، ولولا أن أتاح الله للأمة الإمام ابن تيمية، بما أعاده من الثقة، وأوضحه من فقه العمل، لكان الذهول أطول، إلا أن بعض أصحاب القلوب الحية من العلماء كانوا أسرع إلى فهم كلام ابن تيمية، فعاونوه، أو نسجوا على منواله، ورتقوا بعض الخرق الكبير.
ومع ذلك، فيجب أن لا نبالغ في تصوير أثر الاستدراك الذي قام به ابن تيمية وصحبه، فإنه كان محدود الأثر، واستمرت أحوال العامة في التردي، واستمرت تجزئة العالم الإسلام إلى دويلات صغيرة متنازعة ضعيفة.
__________
(1) أشار الغزالي في مواضع من الإحياء إلى مثل هذه الظواهر، وكتب فيها الندوى خلال كتابه (رجال الفكر والدعوة في الإسلام) في طبعته الثانية، ولأكرم العمري بحث في أخلاق العامة آنذاك نشره في مجلة كلية الدراسات الإسلامية ببغداد.(1/93)
وبعد قرون من نكبة بغداد، استطاعت الدولة العثمانية في عصرها الأوسط، وبمجئ بعض السلاطين الأقوياء الذين تمكنوا من توسيع رقعتها، أن ترث هيبة العباسيين، وتعيد إلى الأذهان معنى الخلافة الأقرب إلى سمتها الأول الذي عهد المسلمون في أواسط الخلافة العباسية، إن لم نقل: سمتها الأقدم من ذلك، واستمرت الدولة العثمانية حتى نهاية حكم السلطان عبد الحميد رحمه الله جديرة بأن يوصف حكمها بأنه حكم إسلامي، على عيوب كثيرة، ونقص في تطبيق الأحكام الشرعية في آخر عهدها، وعلى ظلم من بعض الولاة الذين أساء السلاطين اختيارهم أحيانًا. ولا يقول بخلاف قولنا هذا إلا متأثر بتزييف حقائق التاريخ الحديث، ذلك التزييف الذي قامت به المجامع الاستشراقية والدوائر التبشيرية، واستخدمت فيه عملاءها من الكتاب أو ضحاياها من الذين تقمصهم نوع من التطرف القومي العربي.
وأما النكبة الثانية: فاحتلال الجيوش الإنكليزية والفرنسية لبلاد الإسلامي في الحرب العالمية الأولى، وقضاؤهم على آخر صورة يمكن أن تسمى بأنها إسلامية كما قلنا ممثلة في الحكم العثماني، أو بعبارة أدق: قضاؤهم على أي احتمال قريب لتقويم انحراف الحكم العثماني عن الإسلام، حين حرف حزب الاتحاد والترقي بانقلابه على عبد الحميد، قوانين شرعية كثيرة، وحرف منهاج التربية، وأشاع الطورانية، أي القومية التركية، ورضى السذج من أركان ذلك الحزب تدخل الأيادي اليهودية والماسونية في الحزب وسياسة الدولة.(1/94)
وكما جعل هولاكو احتلال بغداد هدفا معنويا مهما أراد به كسر معنويات عموم الأمة الإسلامية، فكذلك جعل الحلفاء، أو الإنكليز بالتحديد، أو تشرشل نفسه، احتلال بغداد والقدس هدفا معنويا، مع التركيز على احتلال بغداد بالذات لكسر معنويات الأمة، وإعادة احتلال هولاكو لها إلى الأذهان، كما كشفت عن ذلك البرقيات المتبادلة بين قائد الحملة الإنكليزية لاحتلال العراق خلال الحرب العالمية الأولى، وبين وزارة المستعمرات(1).
وبرزوح البلاد الإسلامية تحت حكم الجيوش الاستعمارية، أو تحت حكم المماليك الذين نصبوهم ووجهوهم من وراء ستار: عادت الجاهلية إلى أرض البلاد الإسلامية، وضربت أطنابها، وتمكنت من قيادة المؤسسات السياسية، والأجهزة التربوية، والبيوت التجارية والمالية، واستطاعت بذلك من دخول القلوب بالترغيب والترهيب.
وبعودة الجاهلية، عادت الحاجة إلى من يجاهدها ويعيد حكم الإسلام.
مبادرة عاكستها الظروف
وحين أذهلت المخلصين بدعة الانحراف الضخمة التي جاء بها حزب الاتحاد والترقي حاول بعض السذج منهم مناهضتها فورا، ففشلوا، في قصص مشهورة، إلا أن المحاولة الواعية جاءت بعد سنين من بغداد على يد رجل من كبار العسكريين أيام عبد الحميد، ويعرفه العراقيون بالنبل والتقوى والشجاعة، ذلكم هو (محمد فاضل باشا الداغستاني) رحمه الله، إذ أنه أسس مع بعض خيار من أعيان بغداد من آل الخطيب وغيرهم ما سموه بـ(الحزب الإسلامي) سرًا، ونص منهاجهم على مناهضة حكم الاتحاديين، وإعادة الحكم إلى سمت إسلامي شرعي واضح على نحو ما كان سابقا(2).
كانت مبادرتهم هذه سنة 1913م.
__________
(2) تجد الإشارة خبر هذا الحزب في كتاب (البغداديون أخبارهم ومجالسهم) إبراهيم الدروبي.(1/95)
ولذلك أجبرتهم ظروف الحرب العالمية على التريث والإلتهاء بصد الخطر العام الذي دهم الأمة، ثم مات البطل الداغستاني فيما نحسبه شهادة بشظايا طلقة مدفع خلال معركة حصار الكوت، تلك المعركة الظافرة الرائعة التي اتهت بهزيمة الإنكليز أما بعض بقايا جيش الأمة الإسلامية، واستسلام أربعة عشر ألف جندي إنكليزي وأخذهم أسرى، وكان الداغستاني رحمه الله قائد المتطوعين غير النظاميين في تلك المعركة وما سبقها، ودفن جوار قبر الإمام أبي حنيفة ببغداد، ودفنت معه تلك الهمة الكبيرة العالمية النبيلة.
تجدد الذهول
ولكن انتهاء الحرب العالمية، وتسلط الجاهلية، تركا عمومًا المسلمين في ذهول شديد وحيرة.
كان الوضع الجديد بحاجة إلى رجل يبدأ فيعيد من أفراد المسلمين أمة إسلامية يقودها إلى حكم الإسلام ثانية، بأسلوب يناسب الواقع.
لكن الرياح الجاهلية كانت تصفر صفيرا شديدًا في ديار الإسلام الخالية وما هناك من يصرخ بالمسلمين مستنهضا، فيعلو هتافه على صفيرها.
نعم، كانت هناك أصوات مخلصة كثيرة في بقاع الإسلام، لكنها ما كانت تعرف طريق العمل الصحيح، ولا الصفاء الإسلامي الكامل، وتتوهم الطريق مقالات تكتب أو مؤتمرات تجتمع فتقرر عودة الإسلام على الورق فحسب، ولذلك بدت صيحات على ورق الصحف أو المنابر أو في المؤتمرات كمجموعة نغمات نشاز أمام نغمة الأوج الهدارة لنشيد الإسلام الجديد الذي كان المسلمون بشوق إلى سماعة.
كان الإسلام بحاجة إلى من يعرف طريق العودة الصحيح، ويفقه أصول العمل الجماعي عند السلف، فيدق صدره، ويعلي صوته ليسمعه المسلمون، ويقول: ها أنا، فيلفون حوله، ويميزون صيحته، ونبرة تكبيره.
إدراك الذات
"ها أنا" هذه عرف إقبال رحمه الله حاجة الأمة لها.
إنها التعبير عن "إدراك الذات" عنده.(1/96)
وهي في مثل فترة الذهول تلك، التي كانت يعيشها المسلمون، تغنى إدراك الطريق الصحيح، الذي يبدأ من تربية الفرد، على معاني العقيدة الإسلامية الصافية، ويتطور إلى تجمع له قيادة لها خطة.
وقد صور إقبال إدراك الأمة لذاتها الحقيقية الإسلامية من بعد ذهولها كإدراك الطفل لذاته من بعد عجزه أيام طفولته الأولى.
ولأن هذه الأمة تولد من دعوة رجل واحد فقيه ذي همة، كما قال في ديوانه الذي خصصه لبيان الذات: "تولد الأمة من قلب جليل..." (1)، فقد تحددت صفة الخطوة الأولى في طريق انتشال الأمة من الذهول وإرجاعها إلى الإسلام.
إنها الخطوة الأولى: عنوانها: أن يبادر قلب جليل فيدق صدره أمام جماهير المسلمين، ويقول: هاآنذا، على صفاء عقائدي، وتجرد سلوكي تلحظونه فتجمعوا حولي.
أو، بأحرف إقبال في تصوير هذا البشير النذير حين يستفيق من الذهول:
أرأيت الطفل يا ذا البصر
ما له عن نفسه من خبر
ليس تدري أذنه ما النغمة
لحنه ثورته والضجة
وبعين الكون إنسانا يرى
كل شيء ما عدا أبصرا
بعد لأي طرف الخيط بدا
بعد ما حلت يداه العقدا
فتراه عينه مستعلنا
فيدق الصدر يعني: ها أنا
(أنا) هذي بدء مقصود الحياة
نغمة اليقظة في عود الحياة(2)
هذا هو "المجدد" باصطلاح الإسلامي، فالإسلام لا يعرف (أن تكون السلطة بيد الجاهلية ويقف الإسلام منها موقف التابع المتخلف، ولا كان يكفيه أن يكون هنا وهناك رجال متمسكون بالإسلام في حياتهم الفردية المحدودة، وتشيع في الحياة الجماعية الواسعة أخلاط شتى من الجاهلية والإسلام.
ولذلك كان –ولا يزال- الدين الإسلامي في كل عصر في حاجة إلى رجال أقوياء يأتون ويسددون خطى الزمان ويوجهون مسيره إلى الإسلام، سواء أكان عملهم في ذلك محيطا شاملا أو كان على بعض نواحي الأمر مقتصرا، وهؤلاء هم الذين يدعون بالمجددين) (3).
__________
(1) شطر من ديوان الأسرار والرموز/108.
(2) ديوان الأسرار والرموز/133.
(3) موجز تاريخ تجديد الدين للمودودي/28.(1/97)
ولأن طريقهم يقتضي البذل، كان من شروطهم أن يكونوا أبطالا من الشجعان، إذ أن (الذين لا يقوون على البذل في سبيل المقصد الأعلى، ولا يشجعون على مقاومة الأخطار والمشكلات، والذين لا يطلبون في هذه الدنيا إلا الراحة والسهولة والرغد، وهم ينسكبون لذلك في كل قالب ويطاوعون لكل ضغط: لا تجد لهم فعالا يذكر في التاريخ الإنساني، وإنما تشكيل التاريخ يكون من شأن الأبطال وحدهم، وهم الذين قد غيروا أبدا مجرى الحياة بجهادهم وتضحياتهم، وبدلوا أفكار العالم) (1).
ها أنا... يقولها حسن البنا
وكان هذا البطل الشجاع الذي دق صدره وقال: هاأنذا، هو الإمام حسن البنا رحمه الله، ورفع صوته عاليا معلنا بداية التجمع والمسير سنة 1928. بعد عشر سنوات كاملات من الذهول الذي أصاب الأمة من جراء نتيجة الحرب العظمى، وسرعان ما تكاتفت معه تلك الطليعة المؤمنة من عمال شركة قناة السويس، فكانت الدعوة الوارثة لجماعات السف الآمرة بالمعروف.
وكان الأستاذ المودودي يمهد آنذاك ببحوثه القيمة لمثل هذه المسيرة في الهند، ثم بدأ التجميع فعلا سنة 1938.
وتلقف بعض الميامين هذه الدعوة في بعض البلاد العربية عن الإمام البنا، فكان في كل مكان رائد شجاع تجمعت حوله طليعة وبدأوا المسير المبارك في السودان، وسوريا، وفلسطين والعراق، والأردن ولبنان.
وبذلك رسم هؤلاء القادة بريادة الإمام البنا، مع الطلائع المقدامة الذين سارعوا للعمل معهم: الصورة العملية لأصول فقه العمل الجماعي الإسلامي في العصر الحديث، وأتاحوا لبلاغة سيد قطب رحمه الله أن تنطق فتصف الطريق الدائم لمسيرة الدعوات.
يدعونا أن نتذكر (كيف وقع هذا الأمر أول مرة! لقد وقف رجل واحد يواجه البشرية كلها بمنهج الله ويقول لها –كما أمر-: إنها ي جاهلية، وإن الهدى هدى الله.
__________
(1) نحن والحضارة الغربية للمودودي/251.(1/98)
ثم تحول التاريخ.. تحول حين استقرت هذه الحقيقة الهائلة في قلب ذلك الرجل الواحد. تحول على النحو الذي يعرفه الأصدقاء الأعداء!
هذه الحقيقة التي استقرت في قلب ذلك الرجل الواحد ما تزال قائمة قيام السنين الكونية الكبرى.. وهذه البشرية الضالة قائمة كذلك وقد عادت إلى جاهليتها!
وهذا هو الأمر في اختصار وإجمال...
توجد نقطة البدء، نقطة استقرار هذه الحقيقة في قلب.. في عدة قلوب.. في قلوب العصبة المؤمنة.. ثم تمضى القافلة في الطرق. في الطريق الطويل.. الشائك.. الغريب اليوم على البشرية غربته يوم جاءها الهدى أول مرة -فيما عدا بعض الاستثناءات- ثم تصل القافلة في نهاية الطريق الطويل الشائك كما وصلت القافلة الأولى.
لست أزعم أنها مسألة هينة، ولا أنها معركة قصيرة.. ولكنها مضمونة النتيجة.. كل شيء يؤيدها.. كل شيء حقيقي، وفطري، في طبيعة الكون، وفي طبيعة الإنسان.. ويعارضها ركام كثير، ويقف في ريقها واقع بشري ضخم، ولكنه غثاء!
ضخم نعم.. ولكنه غثاء!) (1).
(إن نقطة البدء الآن هي نقطة البدء في أول عهد الناس برسالة الإسلام.. أن يوجد في بقعة الأرض ناس يدينون دين الحق، فيشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.. ومن ثم يدينون لله وحده بالحاكمية والسلطان والتشريع، ويطبقون هذا في واقع الحياة.. ثم يحاولون أن ينطلقوا في الأرض بهذا الإعلان العام لتحرير الإنسان) (2).
(إنه لا بد من طليعة تعزم هذه العزمة، وتمضى في الطريق).
(والثلاثة يصبحون عشرة، والعشرة يصبحون مئة، والمئة يصبحون ألفا، والألف يصبحون اثنى عشر ألفا) (3).
__________
(1) الإسلام ومشكلات الحضارة لسيد قطب/191.
(2) في ظلال القرآن 10/191.
(3) معالم في الطريق 9/118.(1/99)
فهذا هو أسلوب الطلائع في محاولة البعث الإسلامي لتحقيق المنهج الإسلامي، فالمنهج (إنما يتحقق بأن تحمله جماعة من البشر، تؤمن به إيمانًا كاملا، وتستقيم عله –بقدر طاقتها- تجتهد لتحقيقه في قلوب الآخرين، وفي حياتهم كذلك)(1).
ولا بد من (البعث الإسلامي مهما تكن المسافة شاسعة بين محاولة البعث، وبين تسلم القيادة، فمحاولة البعث الإسلامي هي الخطوة الأولى التي لا يمكن تخطيها) (2).
وهذه الطلائع، هي الطلائع الموفقة الفائزة التي سيندم من لم يلتحق بها منذ الآن، وسيتوجع كما توجع الصحابي ذو الجوشن الضبابي رضي الله عنه حين لم يسلم إلا بعد فتح مكة، وقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعاه إلى الإسلام بعد بدر فقال له:
(هل لك إلى أن تكون من أوائل هذا الأمر؟
قال: لا
قال: فما يمنعك منه؟
قال: رأيت قومك كذبوك وأخرجوك وقاتلوك، فأنظر، فإن ظهرت عليهم آمنت بك واتبعتك، وإن ظهروا عليك لم أتبعك.
فكان ذو الجوشن يتوجع على تركه الإسلام حين دعاه إليه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ)(3).
وكم من أناس اليوم لا يعدو منطقهم منطق ذي الجوشن؟ يدعوهم واقع المعركة الإسلامية إلى أن يكونوا الأوائل والمقدمة، والنبلاء، والقادة، ورأس النفيضة، فيأبون إلا أن يكونوا مؤخرة.
وكم من إصبع سيعض ندما يوم يختار الله الطلائع السائرة لإتمام نوره؟
__________
(1) هذا الدين لسيد قطب/7.
(2) معالم في الطريق/7.
(3) طبقات ابن سعد 6/47.(1/100)
ولا تزال اليوم في العالم الإسلامي بلاد كثيرة فيها عناصر من الأفراد الدعاة جيدة، وجمعيات إسلامية متعددة، وتجمعات لدراسة الحديث النبوي الشريف وكلام السلف، وطرق صوفية وطلاب دراسات شرعية، وأحزاب إسلامية انتخابية لا تعتمد طريق التربية، ولكن ليس في أي من هذه الأحزاب والطرق والتجمعات والجمعيات والعناصر التصميم على سلوك طريق الدعوة التي تتجمع على أساس طاعة لأمير، وتلح في التربية، وتخطط لتغيير الواقع الذي يضغط عليها واستبدال حكم إسلامي به، فهذه الجماعات مدعوة، أينما وجدت، في شمال أفريقيا أو شرقها أو غربها، أو في جزيرة العرب، أو في بلاد الأفغان وإيران والهند، أو جنوب شرقي آسيا، أو في بلاد الصين والطاجيك والأزبك والتركمان والداغستان إلى أن يراجع أفرادها أنفسهم، فيصححوا عقائدهم إن كان فيها نوع من بدع، ويعلوا هممهم إن كان يعتريهم نوع خوف، ويتخلوا عن الأنانية وحب التزعم إن كان قد ولدهما فيهم طول العمل في تجمعات صغيرة، ثم يبايعوا حرا يتميز بهم في حركة إسلامية واضحة الهدف التغييري، متينة التوجيه التربوي، رصينة الصف التنظيمي.
فإذا بادر مقدار فقال: هاأنا، فإذا لأفراد هذه الجماعات أسوة وقدوة في الحوار الشريف بين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام حين أمر الله إبراهيم ببناء الكعبة.
قال إبراهيم عليه السلام:
(يا إسماعيل: إن الله أمرني بأمر.
قال: فاصنع ما أمرك ربك.
قال: وتعينني؟
قال: وأعينك) (1).
فهذا هو جواب المؤمنين دومًا، بلا تلكؤ ولا تلعثم.
وإن الله قد أمر بإعادة الحكم الإسلامي.
ويجب أن تكون من الأعوان.
لا تتخلف، وامض، وبادر، وكن وريث إسماعيل.
لا تقعد في بيتك.
لا تسمع نداء مستقبلك الوظيفي والتجاري.
فهنا، في هذه الإجابة الإسماعيلية رأسمالك الحقيقي.
فإن استغربت أسلوب الطلائع، وأبيت إلا فتاوى القدماء، فاستمع إلى الإمام ابن تيمية بشرحه لك ويقول في معرض شرحه لحديث الغربة:
__________
(1) صحيح البخاري 4/175.…(1/101)
(كثير من الناس إذا رأى المنكر، أو تغير كثير من أحوال الإسلام، جزع وكل وناح كما ينوح أهل المصائب، وهو منهي عن هذا، بل هو مأمور بالصبر والتوكل والثبات على دين الإسلام، وأن يؤمن بالله مع الذين اتقوا): ثم يقول: (وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ثم يعود غريبا كما بدأ): أعظم ما تكون غربته إذا ارتد الداخلون فيه عنه، وقد قال تعالى: (مَن يَّرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ).
فهؤلاء يقيمون إذ أرتد عنه أولئك.
وكذلك بدأ غريبا ولم يزل يقوى حتى انتشر، فهكذا يتغرب في كثير من الأمكنة والأزمنة ثم يظهر حتى يقيمه الله عز وجل، كما كان عمر بن عبد العزيز لما ولي قد تغرب كثير من الإسلام على كثير من الناس حتى كان منهم من لا يعرف تحريم الخمر، فأظهر الله به في الإسلام ما كان غريبًا) (1).
الرواد يصفون الطريق
فإن هداك الله، وكنت في الطلائع، فاسمع الرواد في العصر الحديث يشرحن لك الطريق.
فأول ما ينبه إليه الإمام البنا هو: (وجوب الجد والعمل، وسلوك طريق التكوين بعد التنبيه، والتأسيس بعد التدريس) (2).
ثم شرح ذلك ف قال:
(إن كل دعوة لا بد لها من مراحل ثلاث:
مرحلة الدعاية والتعريف والتبشير بالفكرة، وإيصالها إلى الجماهير من طبقات الشعب.
ثم مرحلة التكوين وتخير الأنصار وإعداد الجنود وتعبئة الصفوف من بين هؤلاء المدعوين.
ثم بعد ذلك كله مرحلة التنفيذ والعمل والإنتاج.
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 18/297.
(2) المؤتمر الخامس/ المجموعة/ 239.(1/102)
وكثيرا ما تسير هذه المرحلة الثلاث جنبا إلى جنب، نظرا لوحدة الدعوة وقوة الارتباط بينها جميعا، فالداعي يدعو، وهو في القت عينه يعمل وينفذ كذلك، ولكن لا شك في أن الغاية الأخيرة، أو النتيجة الكاملة، لا تظهر إلا بعد عموم الدعاية وكثرة الأنصار ومتانة التكوين) (1).
وأم الأستاذ المودودي فيدعوك إلى التأمل في سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لترى كيف (قام ذلك الرجل الوحيد فتحدى الدنيا كلها، ورفض كل تلك الأفكار الخاطئة والطرق المعوجة التي كانت رائجة في الدنيا، وعرض بإزائها عقيدة من عند الله مخصوصة وطريقة معينة، وفي مدة قليلة من السنين حول مجرى التيار، وغير لون الزمان بقوة تبليغه وجهاده)(2).
(إن إقامة الإمام الصالحة في أرض الله لها أهمية جوهرية وخطورة بالغة في نظام الإسلام، فكل من يؤمن بالله ورسوله ويدين دين الحق، لا ينتهي عمله إلا بأن يبذل الجهد المستطاع لإفراغ حياته في قالب الإسلام.
__________
(1) المؤتمر الخامس/ 254.
(2) نحن والحضارة الغربية/250.(1/103)
ثم إذا لم يكن من الممكن تحقق هذا المقصد الأسمى إلا بمساعي الجماعة، لم يكن بد من أن تكون في الأرض جماعة صالحة تؤمن بمبادئ الحق، وتحافظ عليها، ولا تكون لها غاية في الحياة إلا إقامة نظام الحق وإدارة شؤونه بغاية من الاهتمام والعناية، ولعمر الحق إنه لو لم يكن على وجه الأرض إلا رجل واحد مؤمن، لما جاز له أن يرضي على نفسه بتسلط نظام الباطل، حينما يجد نفسه وحيدًا فاقدًا للوسائل اللازمة، أو أن يحاول التستر وراء الحيل الشرعية، كالاقتناع بأهون البليتين، بل الحق أنه لا يكون أمامه إلا طريق واحد، وهو: أن يدعو الناس كافة إلى منهاج الحياة الذي يرضى به الرب تعالى، فإن لم يجب لدعوته أحد، فإن قيامه على الصراط المستقيم، واستمراره في دعوة الناس حتى يلقى ربه خير له ألف مرة من أن يتنكب الصراط الحق ويهتف بنعرات تهش لها وتفرح بها الدنيا المتسكعة في بيداء الضلالة والغواية)(1).
ولكن هذه الحقائق ذهل عنها الفرديون وظنوا أنه طريق خطب، وصيحات منابر، وقرارات ومؤتمرات، وحاول الداعية الإسلامي الكبير شكيب أرسلان رحمه الله تعليمهم الطريق الصحيح فلم يفلح.
يقول رحمه الله في نص ثمين جدا خلال رسالة أنشأها سنة 1931 ونشرت مجلة (المسلمون) صورتها، يخاطب أحد أبناء فلسطين:
(تأتيني كتب كثيرة من المغرب وجاوا ومصر وسورية والعراق ونفس فلسطين بلدكم، مقترحا أصحابها عقد مؤتمر إسلامي أو انتخاب خليفة أو ما أشبه ذلك. ويكون جوابي دائما: يجب أن نؤسس من تحت يجب أن نربي الفرد).
ثم يتابع فيقول:
(أما أن نعقد مؤتمرا مجموعا من ضعفاء ليس لهم إرادة مستقلة وهم لا يقدرون أن ينفذوا قرارا، فما فائدة ذلك، أتريد أن نجمع أصفارًا؟)(2).
وهذه كلمات تكشف عن قمة الوعي وعن آخر تجارب الدعاة، ولكن أصحاب شكيب خذلوه، وكانوا أقصر همما.
__________
(1) الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية/18.
(2) المسلمون/2/263.(1/104)
ولا زلنا هؤلاء الخطاب المساكين على منابر الجمعة والاحتفالات يتألمون، وينادون المسلمين بالعمل والجهاد، ويختمون خطبهم بمثل قولهم: الإسلام يناديكم. ولا يسألون أنفسهم: بأي متصد للزعامة نثق، وما ثم فيهم إلا قائد مقود، ومتبجح مملوك؟
إنهم جهلوا طريق العمل الصحيح، فلا تؤدي خطبهم إلا إلى زيادة آلامهم وآلام السامعين، ولو علموهم اليأس من قادة اليوم، وأرشدوهم إلى وجوب التجمع والأمر بالمعروف الذي جاء به الإسلام، والنهي عن المنكر الذي تقترفه الأحزاب والزعامات المملوكة، لحصل لهم المطلوب الذي يتمنونه، ولكن ما زلنا نسمع نشيج الجمعيات وقرارات المؤتمرات منذ عشرات السينين، وما ثم إلا جمع الأصفار.
إنه التأسيس نم تحت كما يقول شكيب، ليس غير، وإنها خيمة التنظيم لا قاعات المؤتمرات.
تنصب خيمتك ي صحراء جاهلية القرن العشرين، وتضرم نارك ليراها التائهون والمنقطعون فيقصدونها وينزلون خيمتك وتنادي ابنتك لبيني لتزيد لهب النار، وتعلمها:
يا لبيني أوقدي طال المدى
أوقدي عل على النار هدى
أوقدي يا لبن قد حار الدليل
أوقدي النار لأبناء السبيل
إرفعي النار وأذكي جمرها
عل هذا الركب يعشو شطرها
شردي هذا الظلام الجاثما
أرشدي هذا الفراش الهائما
حبذا النار بليل توقد
حبذا المؤنس هذا الموقد
حبذا عندك هذا النزل
لو حوانا في سفار منزل
ما لذا المنزل قد سار الفريق
إنما النيران أعلان الطريق
زودينا بهيام ووجيب
زودي يا لبن من هذا اللهيب (1)
[10] تنسيق وشمول
سمتان ما زال الإسلام يعرف بهما.
سمت الاستعلاء على المبادئ الأخرى، جازمًا بضلالها. وسمت وليد هذا الترفع، يطبعه بالتبرؤ من الأغيار، ومفاصلتهم، وهجر كل صاحب هوى.
وفي هذين السمتين تعبير عن فطرة التغيير التي طبع الله الإسلام عليها، المتعدية بالتالي إلى طبيعة الحركات الإسلامية.
__________
(1) لعزام، من قصيدة اللمعات، التي الحقها بترجمته لديوان رسالة المشرق لإقبال.(1/105)
وأمام هذه الفطرة، غدت مناهج المهادنة، والمصالحة والتعايش بين الإسلام والكفر: فاشلة.
اختلاف المنطق ينفي اللقاء
ولذلك، فإن شعراء الدعوة ركزوا على بيان هذه الفطرة التغييرية الإسلامية.
فيؤكد الشاعر الداعية محمود آل جعفر ذلك فيقول:
وكيف لا يكون ذلك واضحًا؟
هذه دعائمنا تشع كشمسنا
الله غايتنا، نقول ونجزم
دستورنا القرآن، لا نرضي سوى
القرآن تشريعا يسود ويحكم
لم نعرف الإسلام إلا دعوة
وضاءة تحيي الأنام وتلهم
لم نعرف الإسلام إلا قوة
تهوى على الرأس العنيد وتحطم(1)
أندع الأمر لكل ضال؟
حالة من الواجب أن نرفضها.
فرهط الحكومات قد جانبوا
هداهم وضلوا صراط السداد
وقد أركبتم سياساتهم
مراكب تجري بوحي العناد
فبعض تظاهر في غيه
وبعض تستر خلف الحياد
نسوا واجب الخلق واستكبروا
فعم البلاء وطم الفساد
فكيف النجاة وكيف الحياة
وكل له في هواه اجتهاد؟
وكل يريد استياق القطيع
إلى مبتغاه، وبئس المراد
فهلا ابتدرنا إلى نجده
وهلا استجبنا لداعي الجهاد؟
فإما حياة الهدى والإباء
وإما الشهادة يوم الجلاد(2)
ولقد كان العيش المتصالح ممكنا لي أنا الداعية،
ولكنهم ركبوا مسلكا
يحيد عن الجدد المشرق
وقد ملك الأمر منهم رجال
يخالف منطقهم منطقي
نأوا عن هدى الله في نهجهم
وساروا، وسرت، فلم نلتق(3)
فهذه مفاصلة حتمية، لمجرد هذا المنطق المختلف والطريق المتعاكس، فكيف وقد صار العدوان؟
الانسياب الموزون وليد المركز الثابت
وفي هذا ما يوجب على الدعاة الابتدار، والخروج إلى عمل جماعي يعيد من ضل إلى الجدد المشرق وصراط السداد.
__________
(1) ديوان حنين إلى الفجر/72.
(2) ألوان طيف للأميري/94.
(3) ألوان طيف للأميري/94.(1/106)
فقد يكون الدعاة دعاة فكرة مجردة، تراهم كأروع الدعاة فهما للإسلام وعقيدته وأنظمته وقوانينه، وأكثرهم قراءة للكتب، ولعلهم من أشد المسلمين حماسة، وأخشعهم في الصلاة، ولكنهم ينفرون من التقيد بخطة ونظام، ما وقر في نفوسهم اعتقدوه، وما تبين لهم من طرق سلكوها، فهم قادة نفسهم، لا يبالون إن وافقت أعمالهم الدعاة الآخرين، أم خالفوها منفردين.
أولئك أبعد الناس عن الوصول إلى ثمرة إيجابية، وأولئك هم المراوحون.
أما الذين يفتحون للأمة اليوم نافذة تطل بها على نوع أمل، فإنما هم المنسقون.
إذ ما زالت التجارب والتطبيقات تظهر الأهمية العظمى لدور التنظيم في إحلال الانسجام والتنسيق بين جهود العاملين، مع استثمار أدنى درجات إمكانية إفادة الإسلام لدى الأشخاص استثمارًا إيجابيا مباشرًا.
وإن الخطة البارعة بإمكانية أن تجعل التنظيم مركزًا تسير في فلكه جهود الأفراد في انسيابية هندسية جميلة ليس فيها اضطراب، كانسيابية محيط الدائرة الجميل الاستدارة بالنسبة لمركزها.
إنما المركز روح الدائرة
نقطة فيها محيط، ضامره
ومن المركز للقوم نظام
ومن المركز للقوم دوام(1)
فليس في الجهود المبذولة ما هو صغير إذا جاء في حينه المناسب، ومكانه المناسب، وللدعوة متطلبات واحتياجات متكاملة، بعضها يكمل بعضا، والجهود المبذولة للوفاء بها متكاملة: صغيرها يكمل ويقوى كبيرها.
وإن العمل الذي يديم سير الجماعة الداعية:
(تراه كالدائرة: يصعد بك محيط ويحبط، لا من أنه نازل أو عال، ولكن من أنه ملتف، مندمج، موزون، مقدار) (2).
فليس ثمة جهد في هذا العمل تظنه في قيمته وأهميته نازلا، فيسوغ إهماله، وإنما كل الأعمال على بعد واحد من المركز إذا كانت ضمن الخطة موزونة مقدرة.
تكامل في التطبيق
ثم يكون الشمول ثانيا.
__________
(1) ديوان الأسرار والرموز/123.
(2) من تشبيهات الرافعي لبعض الأمور خلال وحي القلم 3/426.(1/107)
وهو شمول بالسعة التي بلغها الإمام البنا رحمه الله في الأصول العشرين، فاسلامنا:
(دولة ووطن، أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة، أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون، أو علم وقضاء. وهو مادة وثروة، أو كسب وغنى. وهو جهاد ودعوة، أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة)(1).
إنها سعة في الفهم، توجب على تجمع العاملين سعة أخرى في الأسلوب والتطبيق.
فليست الدعوة الإسلامية حزبا سياسيا، وإن كانت ساعية إلى الحكم، في انتباه تحذر معه أن تلهيها الأحداث عن خطها التربوي، وواجبها العبادي.
ولا هي مجمعا فقهيا محضا، أو كلية شريعة، أو دار للإفتاء، وإن كانت تحرص على الثقافة الشرعية، والسير على بينة من السنة الغراء، في بعد عن الجدل في الفروع، وعن الترف الفكري المثبط لهمتها في التجميع وقيادة العامة.
ولا هي دار نشر، أو وكالة إعلامية، وإن كانت الصحافة وملاحقة الأحداث وبيان حكم الإسلام فيها من تمام واجباتها.
ولا هي بعد ذلك منظمة فدائية، أو مؤسسة عسكرية، أو فرقة كشفية، وإن كان الجهاد أصلا من أصولها، والألعاب الرياضية أسلوبا من أساليبها، في غير ما تورط في عنف ومجازفة واستعجال.
كما أنها ليست جمعية خيرية، أو وزارة أوقاف، وإن كانت تأخذ بيد اليتيم والفقير، وتسعف المريض، وتساهم في بناء بيوت الله.
نعم ليست الدعوة شيئا من ذلك، ولكنها كل ذلك، فإن تزاحمت الحاجات، وقصرت الطاقات: كان تقديم الأهم وفق نظرة نسبية، تبعا لميزان التوفيق بين المصالح والمفاسد المتعارضة، بإهدار كل مصلحة صغيرة يؤدي الحرص عليها إلى تفويت مصلحة أكبر منها، واحتمال اليسير من المفاسد، لدرء ما هو أعظم.
قيادة المسلمين أولى من زيادة البر
ويبدو من تجاربنا، أن الأكثرين ممن نخاطبهم اليوم ينقصهم الوعي السياسي، والمنهج الفقهي، ولم تتوهج فيهم بعد روح الجهاد.
__________
(1) رسالة التعاليم.(1/108)
ولكن الجانب الخيري هو الذي مازال يحتل شطرا واسعا في تفكيرهم، وإن نقصت الأموال التي بأيديهم –في الحقيقة- عن مجاراة هذه السعة في التفكير، ولذلك فإنهم بحاجة إلى مزيد خطاب يفهمهم تكامل الدعوة وامتيازها عن أساليب الجمعيات الخيرية.
ولا شك أن مما يساعد على ترجيح هذا التفكير عندهم: تلك القلوب الرقيقة التي يملكونها، المفعمة بالإيمان الفطري، والتي مازال يؤجج تركيز الوعظ على معاني البر ومكارم الأخلاق حماستها للمساهمة في كفالة الأيتام، وبناء المدارس ورفع المساجد.
ووالله ما نطق واعظ بغير الحق، ولا كذبت أحاديث الفضائل، ولا غفلنا عن أثر ذلك في ترويج الدعوة بالتربية الميدانية التي تحطم الحواجز ويعامل الدعاة المربون خلالها عموم الناس مباشرة إذ الناس في جوانب حياتهم منغمسون.
ولكن داعية الإسلام قد رصدته صفته لأهم من مجرد ذلك وأجل، وعليه أن يسد ثغرات ما نرى في الأمة من يسدها إلا هو، ليس أجرها بأقل من أجر أبواب الخير، إن لم يكن أضعافها.
إن إمام الداعية تنفيذ هذا الواجب التجميعي التربوي الثقافي الإعلامي السياسي الجاهدي الخيري، في شموله الواسع وتكامله المترابط.
وهم التميز الثاني، من بعد التميز الأول عن عامة المسلمين بواسطة الجماعية في العمل.
وهو تميز قديم لا نبتدع القول به، أمر به إمام دعاة زمانه أحمد بن حنبل رحمه الله.
وذلك لما سأله تلميذه زهير بن أبي زهير، فقال:
(إن فلانا ربما سعى في الأمور، مثل المصانع، والمساجد، والآبار؟
قال: فقال لي أحمد:
لا، نفسه أولى به.
وكره أن يبذل الرجل نفسه ووجهه)(1).
فها هنا مسألتان كشف عنهما الإمام أحمد:
الأولى: كشفتها ألفاظ هذه الحروف، وهي أن لا يبذل الداعية وجهه، بالتعرض إلى جمع المال من الأغنياء، ولو لمصلحة عامة، فقد يحبس هذا النشاط لسان الداعية عن قول الحق.. أمرًا أو نهيًا.
__________
(1) طبقات الحنابلة لابن ابن يعلي 1/159.(1/109)
والثانية: يكشفها مجمل قصده من حفظ الوجه، وهو التفرغ، بهيبة كافية، لقيادة جمهور المسلمين، ومصاولة الابتداع وأعداء الإسلام، والأمر بالمعروف، ونشر العلم، مما تفصح سيرته هو عن مثل ذلك.
وهذا الإفتاء قريب مما ذكره فقهاء الأحكام السلطانية، حين أوجبوا على الخليفة أن لا يتشاغل عن سياسة الدولة وتدبير الجيوش بالعبادة وأعمال البر الشخصية، كما قال الماوردي، حين جعل من واجبات الخليفة:
(أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور، وتصفح الأحوال، لينهض بسياسة الأمة، وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلا بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين، ويغش الناصح وقد قال الله تعالى: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ).
فلم يقتصر الله سبحانه على التفويض دون المباشرة، ولا عذره في الاتباع حتى وصفه بالضلال.
وهذا وإن كان مستحقا عليه بحكم الدين ومنصب الخلافة، فهو من حقوق السياسة لكل مسترع.
قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"(1).
وإنها لرعاية حقا، ومسؤولية صدقا.
معهما يلمس المرء تماما البعد الشاسع بين جهدين:
جهد السعي المجرد في مصالح الناس، مهما أتعب البدن.
وجهد مواكبة الدعوة في شمولها، مواكبة تستهلك البدن، وترهق الفكر، وتمتص رحيق الروح.
ولذلك كانت حالة الشمول سموا، لا يقوى عليها إلا أشداء المؤمنين.
[11] راية الخير
وبعد:
"فقد افتضحت الجاهلية، وبدت سوأتها للناس، واشتد تذمر الناس منها، فهذا طور انتقال العالم من قيادة الجاهلية إلى قيادة الإسلام"(2).
بهذه البساطة عبر سيد قطب رحمه الله عما يرى.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي /16 الطبعة الثانية.
(2) مقدمة سيد قطب لكتاب الندوى: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين/20.(1/110)
إنه يتحدث عن أمر عظيم جليل، وانتقال ضخم، لكنه من أمر الحقائق.
ولهذا حفته البساطة، وكذلك شأن الحقائق دومًا.
فحينما يكون الأمر حقيقة لا يحتاج إلى كثير بلاغة، ولا إلى إطناب، أو يهرج وتزويق.
إنها الحقيقة التي يعيشها الغرب، فهذا الخواء الروحي، والانحدار الجنسي، والتمييز العنصري، والظلم الاستعماري، لم يعد إفلاسا مجردًا، بل فضيحة كبيرة للحضارة الغربية.
وهي الحقيقة التي ترهق المجتمعات الشيوعية، ولو لم يكن فيها إلا الإرهاب وكبت الحريات لكفتها فضيحة.
كما أنها الحقيقة التي تشير إلى عدل الإسلام، وسماحته، وسكينته التي يهديها إلى القلوب التي أتعبها قلق المادة.
إن تأملا قصيرًا يرينا بوضوح أن شعوب الأمة الإسلامية قد ملت وسئمت ما اقتبسوه لها من مادية الغرب ونظمه، وما فطنوا له فقلدوه من أساليب الإرهاب والتجويع الشيوعي، وأصبحت القلوب والعقول على أتم الاستعداد لمسيرة إياب إلى الإسلام ثانية.
ولكن بينها وبين الوصول إلى دار السلام مفازة.
ولابد للمفازة من دليل.
وشرط الدليل أن يكون خبيرا مميزا للأثر، متفرسا، ناظرا في أبراج السماء.
فإن وجد الدليل فإن الوصول قريب.
جاذبية الدعاة
وخير ما يكون الدليل إذا كان حاديا يجيد الترنم.
إنه يطرب الذين وراءه، فيتبعونه.
وهذا هو ما تصوره بلاغتنا القاهرة، لأن من يتبع طربا قد تعتريه غفلة، أو تفجؤه عثرة، أو تغلبه إغفاءة، فيتوقف.
أما بلاغة إقبال فأتم وأكمل وأبدع.
إنه يجد في إدراك الذات قوة جذب تجبر الآخرين على الارتباط بها، فإذا جمع المسلم الحر الفطن ذاته فكان داعية فإنه يدير من يريد في فلكه.
يقول إقبال:
شدت الأرض قواها، فالقمر
في طواف حولها، لا مستقر(1)
فلأن الأرض تحفزت، وخزنت من قوة الجذب ما استطاعت: أجبرت القمر على الارتباط بها، والدوران حولها، حتى بات لا يحدث نفسه بفرار.
__________
(1) ديوان الأسرار والرموز/15.(1/111)
فكذلك التفاف الناس حول دعوة الإسلام يكون حتميا إذا شد الدعاة قواهم، حتى يعتاد الناس الدوران في فلكهم، ويجدون في ارتباطهم بالدعوة نوع اضطرار.
فأنتم أنتم أيها الدعاة من يتحكم في الأمر.
لا نماء لأحزاب الضلال أن شددتم قواكم.
ولا مناص للناس آنذاك، إنما هم أسراكم.
وإنما شد القوة في الاجتماع.
ونتيجة الاجتماع أن يكون الصف.
ومن أتى صفا غلب، إلا أن يشاء الله غير ذلك.
(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ).
وتنادي السحرة الذين عارضوا موسى قبل إيمانهم، فقالوا: (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) كما أخبر الله تعالى، وبذلك عبروا عن التجمع المنظم للجاهلية في كل عصورها من خلال هذا الشعار الذي يعطي درسا بليغا لمن يحزن على مصير المسلمين وليس لديه إلا التأوه.
إن الجاهلية المنظمة لا يغلبها إلا إسلام منظم.
ولا ينتصر دعاة الإسلام اليوم إلا إذا جمعوا خيرهم ثم أتوا صفا واحدًا متراصًا مقتحمًا.
ارفع للخير راية
ولكن كيف يتم التجمع بلا مبادأة من صاحب خير؟
إنها المبادأة اللازمة، تارة تكون تكبيرًا ينبه، وتارة تكون نارًا تلفت، وتارة تكون راية يبصر أهل الخير فيتجمعون حولها، ولا ينقص المسلمين اليوم في كثير من البلاد إلا هذه الراية، فإنهم كثير عددهم غزير عملهم، جميل ذكرهم، إنما أضعفهم التشتت والضياع.
وقد زار عبد الوهاب عزام رحمه الله معظم بلاد الإسلام، وساح في بلاد العرب وتركيا والهند، ودرس واقع المسلمين عن قرب، فما خرج بغير هذه النتيجة، فعاد ينادي الخيرين أن:(1/112)
(لا يخدعنكم الفساد الظاهر والشر المستشري، ولا يهولنكم ذكر فلان وفلان من المفسدين، ففي الأمة أخيار أكثر ممن تعدون من الأشرار، ولكنها راية رفعت للشر فأوى إليها أشرارها، وهرع نحوها أنصارها، ونفر منها الأخيار فلم ينحازوا إليها، ولم نسمع أصواتهم حولها، ولو رفعت للخير راية لانحاز إليها الأخيار وحفوا بها وسكنت أمة الأشرار وقل جمعهم وخفت ذكرهم.
إن في الأمم خيرا وشرًا، وفسادًا وصلاحًا، ومفسدين، فإن رفعت راية للخير انضوى إليها الأخيار في كل طائفة، وغلب بها الخير في الأنفس التي يغلب شرها خيرها، ونبت خير في نفوس لا خير فيها، فإن الإنسان لا يخلو –وإن عظم شره واستشرى داؤه- من نزعة للحق كامنة، وعاطفة للخير مستسرة) (1).
وهذا الكلام من الحق والصواب الظاهر.
وكثير من أهل الخير إنما وقعوا في الأوهام من هاهنا، رأوا ضخامة الفساد في بلادهم، وتغير الموازين والمقاييس، وتسلط الأشرار، فظنوا أن الأمر قد فلت، واستحكم الكفر، واختاروا إما السكوت وإما الهجرة إلى بلد أخف شرًا يتعطلون فيه.
الهجرة المفضولة
وقبل، حين استحكم أمر الجهمية والمعتزلة والشعوبية أيام المأمون والمعتصم، والواثق، ووسدت الأمور إلى غير أهلها، تألم القائد العربي الغيور أبو دلف القاسم العجلي، وكان من كبار أهل الخير، صحيح العقيدة، ظاهر النبل، مناهضا للشعوبية التي يرعاها بعض القادة، فاندفع يقول:
ومقام الكريم في بلد الهون
إذا أمكن الرحيل محال
حيث لا رافعا لسيف من الضيم
ولا للكماة فيها مجال
في بلاد يذل فيها عزيز القوم
حتى يناله الأنذال(2)
ثم هاجر في معسكره بمدينة الكرخ التي تقع أطلالها اليوم على الطريق الذاهب من العراق إلى خراسان، قبيل كرمانشاه، وهي غير الكرخ المعروفة ببغداد.
__________
(1) الشوارد لعبد الوهاب عزام/173.
(2) كتاب (بغداد) لابن طيفور/133.(1/113)
كان حرًا، لكنه كان فردًا، ولذلك لم يأب الهجرة، أما الإمام أحمد بن حنبل، فكان في تلك الأزمة حرًا داعية، ولذلك أبي الهجرة وأقام ببغداد، ورفع الراية، فكان الثبات، والتثبيت، فهزم جمع البدعة.
وهكذا شان الحر الداعية دومًا، يصبر على العيش والمقام في بلده، ليلتقط من مجتمع مستخذ فتيانا صباح الوجوه، لم يصب قلوبهم وأبدانهم شيء من دنس الجاهلية وأمراضها وحرامها، ويربيهم ويغرز فيهم عزة الإسلام، ويجعلهم صفوفًا.
نعم، في المجتمع المستخذي الذي طال خضوعه للطغيان، تجد (النفس تميل إلى الإسفاف، وتخلد إلى الراحة، وتهوى الهين من كل أمر.
ولكن في النفس –على هذا- نزوعا إلى العلاء، وشغفا بالارتقاء، وحنينا إلى المكارم، وشوقا إلى العظائم.
إن فيها لجمرة يغطيها الرماد، وشرارة يقدحها الزناد، فإن وجدت نافخا في جمرها وقادحا لشرارها: استيقظت، وتحفزت، وعملت، وصعدت. وكلما ذاقت لذة العمل والرقي زادت حبا له، وهياما به) (1).
ولهذا فإن المهاجر مخطئ، إلا هجرة صاحب سر يخشى عليه، أو هجرة صاحب فقه إلى من يحتاج إليه، أو هجرة من يخشى الفتنة في دينه.
أما السكوت فأبعد عن الصواب، (والذين يبصرون بالظلم في كل طريق، ويلتقون بالبغي في كل ثنية، لا يحركون يدًا ولا لسانًا، وهم قادرون على تحريك اليد واللسان أولئك لم يعمر الإسلام قلوبهم، فلو عمرها لانقلبوا مجاهدين)(2).
ومن هاهنا لا يكون المؤمن العامر القلب إلا متحركا محركًا، أما المتباطئ الذي يعد بالالتحاق بعدما تظهر بوادر النجاح فإنما يعد وعد الضعاف.
صاح ما الحر من يثور على الظلـ
ــم وقد ثارت لحقها الأقوام
إنما الحر من يسير إلى الظلـ
ــم فيصميه والأنام نيام(3)
إنما تقدسنا الدعوة
__________
(1) الشوارد لعزام /353.
(2) دراسات إسلامية لسيد قطب/29.
(3) ديوان المثاني لعزام/80.(1/114)
وكان أعيان الفقهاء القدماء يميزون مثل هذه المعاني أكثر من المتأخرين، وأرجعوا العز الذي عرفه صدر الإسلام إلى وجود الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن ثم قالوا إنه (هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوى بساطه وعمله لتعطلت النبوة، واضمحلت الديانة، وعمت الفترة، وفشت الضلالة، وشاعت الجهالة، واستشرى الفساد، واتسع الخرق، وخربت البلاد وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد، وقد كان الذي خفنا أن يكون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، إذ قد أندرس من هذا القطب عمله وعلمه)(1).
قال ذلك الغزالي رحمه الله.
فللذي رآه، فتش عن المخرج والمستدرك فلم يجد إلا أسلوب الطلائع، وراح يحلي الأجر لمن يكون طليعة، ويحكر له درجات القرب، ويرفع الأبصار إلى ذراها، ويصيح أن أيها الناس:
(من سعى في تلافي هذه الفترة، وسد هذه الثلمة، إما متكلفلا بعملها، أو متقلدا لتنفيذها، مجددًا لهذه السنة الدائرة، ناهضا بأعبائها، ومتشمرًا في إحيائها: كان مستأثرا من بين الخلق بإحياء سنة أفضى الزمان إلى إماتتها، ومستبدًا بقربة تتضاءل درجات القرب دون ذروتها) (2).
وأما الذي قررناه من أمر الهجرة فقد سبق إليه الصحابة رضي الله عنهم.
قال ابن تيمية:
(قال أبو هريرة: لأن رابط ليلة في سبيل الله أحب إلى من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود. ولهذا كان أفضل الأرض في حق كل إنسان:
أرض يكون فيها أطوع لله ورسوله، وهذا يختلف باختلاف الأحوال، ولا تتعين أرض يكون مقام الإنسان فيها أفضل، وإنما يكون الأفضل في حق كل إنسان بحسب التقوى والطاعة والخشوع والخضوع والحضور، وقد كتب أبو الدرداء إلى سلمان: هلم إلى الأرض المقدسة ! فكتب إليه سلمان:
__________
(1) إحياء علوم الدين2/306.
(2) إحياء علوم الدين 2/306.(1/115)
إن الأرض لا تقدس أحدًا، وإنما يقدس العبد عمله، وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد آخي بين سلمان وأبي الدرداء، وكان سلمان أفقه من أبي الدرداء في أشياء من جملتها هذا)(1).
فالعمل هو الذي يقدس صاحبه، وأفضل العمل: أمر بمعروف ونهي عن منكر، وأفضل الأمر والنهي: ما كان في بلد يحتاج إليه ويثمر فيه، فلا تخدع نفسك بزهد مجرد يقودك إلى الهجرة عن موطن النفع بل أصغ لابن القيم يشرح لك أمر حين يقول:
(ليس الدين بمجرد ترك المحرمات الظاهرة، بل بالقيام مع ذلك بالأوامر المحبوبة لله، وأكثر الدينين لا يعبأون منها إلا بما شاركهم فيه عموم الناس، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لله ورسوله وعباده، ونصرة الله ورسوله ودينه وكتابه، فهذه الواجبات لا تخطر ببالهم فضلا عن أن يريدوا فعلها، وفضلا عن أن يفعلوها. وأقل الناس دينا، وأمقتهم إلى الله: من ترك هذه الواجبات، وإن زهد في الدنيا جميعها، وقل أن ترى منهم من يحمر وجهه ويمعره لله ويغضب لحرماته، يبذل عرضه في نصرة دينه)(2).
والنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (كانت ساعاته موقوفة على الجهاد بقلبه ولسانه ويده، ولهذا كان أرفع العالمين ذكرًا، وأعظمهم عند الله قدرًا)(3).
ولك فيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسوة وقدوة.
سس(4)(5)
[12] معادلة يفهمها الرجال
من ظواهر تاريخ الدعاة أنك تجد جمهرتهم العظمى قد عملت وبذلت للدعوة الإسلامية الشيء الكثير بصمت وسكون، وشغلهم الإنغماس في العمل اليومي والتربوي والتجميعي عن تدوين كثير مما تكشف لهم من فقه الدعوة الذوقي والتجريبي، وقليل هم أولئك الذين حبوا الدعاة بتدوين وشروح.
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 18/283.
(2) عدة الصابرين/121.
(3) زاد المعاد 2/38.(1/116)
لكنك أيضًا، بازاء هذه الظاهرة، تجد أن الله سبحانه يلهمهم بلاغة وفصاحة غير اعتيادية، يتاح لهم بها أن يوجزوا ويجمعوا مذهبهم في الدعوة في بضع كلمات قليلات تكون لأجيال الدعاة الآتية من بعدهم أصلا فقهيا مهما، ومعلما بارزًا من معالم الطريق، ويكون قائلها أستاذًا في الدعوة.
قد لا تتعدى كلماتهم الأسطر، لكنها تكتسب أهميتها من كونها تقيم علاقة وارتباطًا بين جزئيات إسلامية على وجه يضخم حجم هذه الجزئيات تضخيمًا تغدو به عظيم الأثر.
مثلما في ذلك مثل الأعداد المجردة، ليست تحمل من القيمة المجردة إلا قليلا، ثم أتي علماء الرياضيات وتمكنوا من إقامة إشكال من العلاقات المختلفة بين هذه الأعداد في معادلات رياضية كشفت لهم أسرار الطاقات واستخدامها، حتى أن آينشتين قد كشف على الورق المجرد، بالقلم المجرد، في أرقام مجردة، سر الطاقة الذرية، وكيفية إخراجها من مكمنها إلى مجالات الاستخدام.
وكذلك هؤلاء الدعاة، أقاموا أشكالا من العلاقات بين الآداب والأوامر الإسلامية كشفت عن درب واسع لمن يريد أن يسير، وحددت العوامل الحاسمة ونقاط التأثير، ودللت على ما منحهم الله تعالى من عميق الوعي، وما اكتسبوه من طويل التجربة.
ولكن كما أن معادلات الأرقام لا يفهمها إلا رياضي تأمل وحلل، فإن معادلات الدعوة لا يفهمها، ولا يدرك قيمتها إلا داعية ذاق وتحمل، ويظل بمنأى عنها وعن فقهها من قبع وتعلل.
إنكار المنكر دليل الفراسة
من هؤلاء الدعاة لبيب من الفحول، تدل المعادلة التي وضعها على كمال عقله، ونفاذ بصره، لكنه مغمور مجهول، اسمه أبو بكر بن يزداينار، رحمه الله.
سئل عن الفراسة الإيمانية ما هي؟ فقال:
(نظر الصالح، بالصلاح الذي فيه نور التقي والإيمان والحقائق والصدق، بالزهد في الدنيا، والرغبة في العقبة، فينكر على أهل المنكر منكرهم).
فانظر المعنى الكبير في هذا المتن الصغير.(1/117)
فهو قد جعل الفراسة شدة يقين الداعي إلى الله بثوابه يوم القيامة، ومعرفته تفاهة هذه اللذات الدنيوية المحدودة المقطوعة الممنوعة، فيحمل نفسه على تغيير المنكر، ومنازعة أهل المنكر بشجاعة يمدها إياه هذا اليقين.
ووالله إنها لفراسة عالية تصغر عندها كل فراسة أخرى مهما كانت صادقة.
وانظر العناصر الأربعة التي تجتمع فتكون الصلاح الذي يدفع بصاحبه إلى صيحة الحق.
تقوى: تلبي الأمر، وتقف عند الشبهة.
وإيمان: يرى به من اليقين الأخروي ما يحجب عن أموات القلوب.
وحقائق: يعيش معها صاحبها حياة الواقع، لا أوهام الدنيا القصرة الزائلة.
وصدق القلب في ظنه، واللسان في نطقه.
وانظر دقة اتجاه إنكاره وشموله.
إنه لا ينكر المنكر فحسب، بل ينكر على أهل المنكر منكرهم.
أي أنه لا يعرف التعميم، ولا التورية.
إنه يمد إصبعه يشير إلى الطاغوت بالاتهام، ويرفع صوت يعلن فضيحة الكفر الذي أمامه، باسمه، ورقمه وعنوانه، ثم لا تلبث الإصبع الواحدة حتى تنفتح معها بقية الخمس، فتكون يد التغيير من بعد إصبع الاتهام.
ثم انظر الربط الرائع بين المقدمات الست في طرف المعادلة الأول، وبين التخصيص في الطرف الثاني: ينكشف لك طريق استخدام الطاقة الإسلامية في الحياة البشرية وإسالتها من ينبوعها لتروى ظمأ المتعطشين.
إنها طاقات كالطاقات.
إنها مثل الضوء، والحرارة، والكهرباء. وكما خلق الله سبحانه وتعالى هذه الطاقات في الكون، وأتاح من علماء الرياضيات والفيزياء من يكشف أسرارها، ويذللها لخدمة الإنسان، فإنه سبحانه أنزل أيضا هذا القرآن، وجعله من مكملات سنن الكون، وأتاح من الدعاة من يكشف أسراره.
وكما يعهد الرياضي إلى المختبرات والمصانع أن تترجم معادلات وتصميماته إلى أجهزة توضع في الاستخدام، فإن فقهاء الدعوة، من مثل أبي بكر بن يزداينار هذا، يعهدون إلى الحركات المنظمة أن تترجم معادلاتهم إلى عمليات تصحيحية لتخبطان الإنسان.(1/118)
ومن هنا تنكشف أهمية البحوث في فقه الدعوة، وما ينبني عليها من تخطيط حركي.
إن دور فقه الدعوة دوما أن يضع الوصف الصحيح، باللفظ الصريح، للعمل الفصيح.
روعة الفقه الحركي تكمن في الأمانة والاجتهاد
ومثلما لا يليق بعلماء الذرة الآن أن يتطاولوا على أرخميدس وفيثاغورس وغيرهم من قدماء علماء اليونان، لما نجده من تقارب قوة وأهمية معادلات أولئك ومعادلات هؤلاء في دفع عجلة العلم، وأن كلا من الجمهرتين أتت رائعا بديعا في عصرها، فإنه لا يليق أيضا بالمتأخر ممن يفتش للدعوة الإسلامية عن معادلاتها الجديدة أن يتطاول على من سلف من فقهاء الأمة وقادة الدعوة، ولا أن يتنكر لهم، ولا أن يدلس على من يخاطبهم، بل يجب عليه أن يكون وفيا أمينا، فيذكر نص حروفهم حيث أغنت وكفت للتغبير عما يريد، ويكون له دور الإحياء، والربط، والتحليل، وإبراز المهم، وشرحه، وبيان حصول الإجماع فيما أجمعوا عليه. والأسطر الخفية المنسية إن أرجعها الباحث إلى ميدان التداول، وأوقع الأبصار عليها، وفتح أبواب القلوب إليها، فكأنما أحياها من بعد موت، واصطادها من بعد فوت.
وواجب المتفقه أن ينتبه لمثل هذا السمت الواجب لبحوث الدعوة، فلا يضيق صدرًا بالنقول، بطرا وترفا، ولا يسأم تكرر المراجع، فإن الفقه منحة الوهاب، حبا به قوما قليلين.
وأثناء ذلك، لا تخف الاجتهاد والرأي الجديد، فإن فقه الدعوة لا ينمو إن حرصت على التعميم الذي يبقيك في دائرة ما لا خلاف فيه، ولكن تصلب في منهج البحث لا تتسامح فيه، واحرص على الأصول لا تدع مستعجل السير أو هياب الصراع أن يتلاعب فيها، فيخرج إلى نوع تهور أو تخذيل، ولا من استفزه الرعاع أن يسارع إلى تكفير.(1/119)
ويعجبني جدا في هذا المجال استعراض داعية في مجلة (المجتمع) لدور سيد قطب في توضيح وتحديد المنهج التربوي الحركي، ودور عبد القادر عودة في تحديد المنهج التشريعي، من بعد اليقظة التي أوجدها الإمام البنا في تعميماته ومهد لهما بها، والتثبيت الذي قام به الهضيبي بصلابته في موقفه، ثم استعراضه لما يصاحب كل توضيح، وتحديد، وتفصيل من اختلاف اجتهادي بدافع الحرص، والإخلاص، والاستجابة للواقع المتغير، ودور الإجماع دائمًا في حل الخلاف. وختم كلامه بأن تساؤل: (ترى، أتعود الحركي إلى التبسيط والتعميم خروجًا من المتاعب وأمانة من المخاوف، أم تمضى شوطًا أبعد في التفصيل وتتحمل ضريبة هذا التقدم والانتشار؟؟)(1)، وهو تساؤل يكمن خلفه وعي صحيح لدور بحوث فقه الدعوة في تقدم الدعوة حتى وإن ردت بعض اجتهادات الباحثين من بعد.
فإن لم تقدم هذه البحوث اجتهادًا جديدًا فإنها لا تخلو من تعبير يزيد الوضوح، أو اصطلاح يخصص الدلالة، أو فتوى فقيه قديم مهاب يبين أصل ما نظنه جديدًا، أو –على الأقل- تقريب اجتهاد الآخرين، بالإقرار والموافقة، من تناوش الإجماع.
وحين تصدأ القلوب، وتتعكر النفوس، وتبرد الهمم، يكون ما تحمله هذه البحوث في ثناياها من قصص الحماسة، ومجاز الخطاب، ومنظوم الألفاظ، نعم العلاج اللطيف، فيه التجلية، والترقيق، والتصفية، والإشعال.
نبدأ بالمنكر الأكبر
وهو المنكر الأكبر يعنونه في كلامهم.
منكر الحكم بغير الإسلام.
(إن الأمر بالمعروف يجب أن يتجه أولا إلى الأمر بالمعروف الأكبر، وهو تقرير ألوهية الله وحده سبحانه، وتحقيق قيام المجتمع المسلم.
__________
(1) مجلة المجتمع الكويتية، العدد 115، ص11.(1/120)
والنهي عن المنكر يجب أن يتجه أولا إلى النهي عن المنكر الأكبر، وهو حكم الطاغوت وتعبيد الناس عن طريق حكمهم بغير شريعة الله. والذين آمنوا بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ هاجروا وجاهدا ابتداء لإقامة الدولة المسلمة الحاكمة بشريعة الله، وإقامة المجتمع المسلم المحكوم بهذه الشريعة، فلما تم لهم ذلك كانوا يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر في الفروع المتعلقة بالطاعات والمعاصي، ولم ينفقوا قط جهدهم، قبل قيام الدولة المسلمة، والمجتمع المسلم في شيء من هذه التفريعات التي لا تنشأ إلا بعد قيام الأصل الأصيل! ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد أن يدرك وفق مقتضى الواقع، فلا يبدأ بالمعروف الفرعي والمنكر الفرعي قبل الانتهاء من المعروف الأكبر والمنكر الأكبر، كما وقع أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم)(1).
لا يعني ذلك أن يمتنع الدعاة عن تعليم أنفسهم وتعليم من معهم آداب الإسلام وأحكام العبادات، ولا النهي عن منكر فرعي يمكن إزالته بهذا النهي، لكنها دعوة واضحة لعدم خداع النفس وتلهيتها بالاكتفاء بالنهي عن المنكرات الصغيرة والعزوف عن منكر الحكم بغير الإسلام، والقناعة برتبة الوعظ في مباحث إزالة النجاسة وسجود السهو دون الجهر بالحق، والإشارة إلى الطاغوت، وتجميع المسلمين، وتربيتهم، وتنسيق جهودهم وتوجيهها للنهضة الشاملة.
لقد أرسل الله تعالى نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليحرر الناس (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)، وإنها أغلال أي أغلال، ثم أعاد اليهود هذه الإنسانية إلى عذابها وأغلالها مرة أخرى بهذه الأحزاب التي زرعوها في كل مكان. ولا بد أن تقوم نهضة إسلامية لتضع هذا الأغلال عن المغلولين، وترفع هذا الحرج والضيق الذي يرهق أبناء المسلمين.
__________
(1) في ظلال القرآن 11/50.(1/121)
(إنه الأمر الهائل العظيم، أمر رقاب الناس. أمر حياتهم ومماتهم. أمر سعادتهم وشقائهم. أمر ثوابهم وعقابهم. أمر هذه البشرية، التي إما أن تبلغ إليها الرسالة فقبلها وتتبعها فتسعد في الدنيا والآخرة، وإما إلا تبلغ إليها فتكون لها حجة على ربها، وتكون تبعة شقائها في الدنيا وضلالها معلقة بعنق من كلف التبليغ فلم يبلغ.
فأما رسل الله عليهم الصلاة والسلام فقد أدوا الأمانة وبلغوا الرسالة، ومضوا إلى ربهم خالصين من هذا الالتزام الثقيل، وهم لم يبلغوها دعوة باللسان، ولكن بلغوها –مع هذا- قدوة ممثلة في العمل، وجهادًا مضنيا بالليل والنهار لإزالة العقبات والعوائق، سواء كانت هذه العقبات والعوائق شبهات تحاك، وضلالات تزين، أو كانت قوة طاغية تصد الناس عن الدعوة وتفتنهم، كما صنع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاتم النبيين.
وبقي الواجب الثقيل على من بعده، على المؤمنين برسالته، فهناك أجيال وراء أجيال جاءت وتجئ بعده ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتبليغ هذه الأجيال منوط بعده بأتباعه، ولا فكاك لهم من التبعة الثقيلة –تبعة إقامة حجة الله على الناس، وتبعة استنفاذ الناس من عذاب الآخرة، وشقوة الدنيا- إلا بالتبليغ والأداء، على ذات المنهج الذي بلغ به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأدى. فالرسالة هي الرسالة، والناس هم الناس، وهناك ضلالات، وأهواء وشبهات، وشهوات، وهناك قوى عاتية طاغية تقوى دون الناس، ودون الدعوة، وتفتنهم كذلك عن دينهم بالتضليل، وبالقوة.
الموقف هو الموقف، والعقبات هي العقبات، والناس هم الناس، ولا بد من بلاغ، ولا بد من أداء. بلاغ بالبيان، وبلاغ بالعمل حتى يكون المبلغون ترجمة حية واقعة مما يبلغون.
إنه الأمر المفروض الذي لا حيلة في النكوص عن حمله، وإلا فهي التبعة الثقيلة، تبعة ضلالة البشرية كلها، وشقوتها في هذه الدنيا، وعدم قيام حجة الله عليها في الآخرة، وحمل التبعة في هذا كله، وعدم النجاة نم النار.(1/122)
فمن ذا الذي يستهين بهذه التبعية؟ وهي تبعة تقصم الظهر وترعد الفرائض وتهز المفاصل؟)(1).
هو شأن الرجال
فكذلك هو الأمر الواقع.
الإسلام هو الإسلام، لا زال مستعدًا أن ينهي شقاء البشر، ولكن تبليغ هذا الإسلام والقيام به هو الذي ضعف، ولذلك (كان بعض السلف الصالح يقول: يا له من دين لو أن له رجالا) (2).
الرجال الذين هم بمستوى هذا الإسلام في شموله.
وهذا الواحد المتأسف إنما كان في عصر السلف، أي أنه كان يري أمامه جحافل فقهاء الفروع، وجحافل الزهاد، لكنهم لم يكونوا ليملأوا نظره.
كان يريد آخرين، الفقه والزهد من صفاتهم، لكن يذهبون إلى مرحلة أبعد.. يريدهم دعاة، همهم هداية الخلق، وإنفاذ حكم الله، والإنكار على من يحكم الناس بهواه، وهي مرحلة لا يبلغها إلا من أوتى من أخلاق الرجولة مقدارًا، ويأنف من كان رجلا أن يقف دونها، مهادنا ومصالحًا، أو مكتفيا بالتوريات، وذلك لما قيل لأحد فحول الرجال: (لنا حويجة)، تصغير حاجة، أي جئناك تقضيها لنا، أبي وقال:
(أطلبوا لها رجيلا) (3)
فالرجيل تشبع نفسه بعمل اليسير.
أما هو فهمته عالية، فقد رصد نفسه لضخام الأعمال، ويأنف من صغارها.
وإن هذه الدعوة والله لهي شأن الرجال حقا، الذين يضم سربهم كل مقدام.
أما أهل الحذر والهلع من الصدام وعقباته، فليس فيهم إلا رويجل.
فعند الرجال، لا يكون الخوف إلا من الغفلة، كما قال العمري الزاهد:
(إن من غفلتك عن نفسك، وإعراضك عن الله، أن ترى ما يسخط الله فتتجاوزه، ولا تأمر فيه ولا تنهي عنه، خوفا ممن لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعا)(4).
__________
(1) في ظلال القرآن 6/31.
(2) مفتاح در السعادة لابن القيم 1/302.
(3) صيد الخاطر لابن الجوزي/251 طبعة الغزالي.
(4) الجواب الكافي لابن القيم/44.(1/123)
فمن ثم كان ابن تيمية يكثر تقريع الخائفين من الصالحين، وبين مرارا أن (هؤلاء وإن كانوا من المهاجرين الذين هجروا السيئات فليسوا من المجاهدين الذين يجاهدون في إزالتها، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
فتدبر هذا، فإنه كثيرًا ما يجتمع في كثير من الناس هذان الأمران، بغض الكفر وأهله، وبغض الفجور وأهله، وبغض نهيهم وجهادهم، كما يحب المعروف وأهله ولا يحب أن يأمر به ولا يجاهد عليه بالنفس والمال، وقد قال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) وقال تعالى: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)(1).
وربما تظن أنك بحاجة إلى مزيد نقاش مع مثل هؤلاء المفرطين، لكن يوسف القرضاوى قد سبق وجادل، وحج وفند، ببلاغة وجمال لفظ، فكفاك...
قالوا: السعادة في السكون
وفي الخمول وفي الخمود
في العيش بين الأهل لا
عيش المهاجر والطريد
في المشى خلف الركب في
دعة وفي خطو وئيد
في أن تقول كما يقال
__________
(1) مجموعة فتاوى ابن تيمية 15/340.(1/124)
فلا اعتراض ولا ردود
في أن تسير مع القطيع
وأن تقاد ولا تقود
في أن تصيح لكل وال:
عاش عهدكم المجيد
قلت: الحياة هي التحرك
لا السكون ولا الهمود
وهي الجهاد، وهل يجا
هد من تعلق بالقعود؟
وهي التلذذ بالمتاعب
لا التلذذ بالرقود
هي أن تذود عن الحياض
وأي حر لا يذود؟
هي أن تحس بأن كأس
الذل من ماء صديد
هي أن تعيش خليفة
في الأرض شأنك أن تسود
وتقول: لا، ونعم، إذا ما
شئت في بصر حديد
[13] الميثاق
كل سطر إلى زوال، إلا هذا القرآن، فإنه خالد.
وكل نتاج عقول البشر في تغير وتبدل دائمين، وتعتريه الرجرجة، إلا نتاج عقل يقتبس من مشكاة هذا القرآن، فإنه يقتبس أيضا شيئا من ذلك الخلود، ويكون فيه الاستقرار والثبات.
فمن ثم تجد وحدة الفهم، ووحدة الوصف والتشخيص والمعالجة تجمع من تكلم في الإسلام ونقد المجتمع، ابتداء بمن رأى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وانتهاء بمن آمن به ولم يره في هذا القرآن، بل حتى إنك لتجد في كلامهم بوضوح وحدة الأسلوب البلاغي، ووحدة الاصطلاح.
إن هذا الحفاظ والثبات وإن رآه الواهمون جمودًا، ووقوفا، إلا أنه في الحقيقة هو الإبداع كله.
فحين يضع الفيلسوف نظرية، أو حلولا لمشكلة إنسانية، تكون حماسته، والحماسة التي يتمكن أن يبعثها في تلامذته بسحر بيانه من عوامل تغطية ما يعتور حلوله من العيب، وينسيهم الإرهاق الذي ترهقهم به مثالياته، ثم يفضح طول التطبيق نظرياته، فينتدب مغرور آخر نفسه ليغير الأوصاف والحلول، ويأتي بنظريات جديدة، ويظن هو ومن معه أن ذلك هو الإبداع ودليل الحيوية.
لكن حلول الإسلام، لأنها تنطلق من حقائق الفطرة، ومنزلة ممن خلق الفطرة، لا يزيدا طول التطبيق وتبدل المجتمعات إلا رسوخًا، ويبز في كل جيل مثل تطبيقي يشير للناس إلى مصداقها، وهذا هو عنصر الإبداع، فإن ثبات الإسلام وتقلب غيره في التخبط والتبدل: إبداع في الإسلام وإعجاز.(1/125)
ولهذا، فإن عرض الأقوال المتشابهة التي فاه بها السلف والخلف نم فقهاء الأمة، وإن كان يكرر المعنى والمبنى، فإنه من جانب آخر ينبه على وحدة المنهج والفهم والأداء، وإبراز الوحدة بحد ذاته عنصر يجب على بحوث فقه الدعوة أن تحرص عليه، لما يتضمنه من الإشارة إلى أصالة الخلف، وعراقة مذهبه.
صراحة الإسلام لا استفزاز الظروف
فانظر من قول السلف الأول القديم مثالا:
قالوا: (سئل حذيفة رضي الله عنه عن ميت الأحياء، فقال: الذي لا ينكر المنكر بيده ولا بلسانه ولا بقلبه)(1).
وانظر معه تعابير سيد قطب في وصف من لا ينكر.
هل تستطيع بعد النظر أن تقر من يطيل لسانه على حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ويتهمه بأن كلماته وليدة استفزازات الظروف الصعبة التي كان يعيشها؟
إنه يصف غافل القلب الأخرس بالموت.
فإن تنبه قلبه وظل صامتًا، فإن حاله عند حذيفة يقتضي أن نصفه بالمرض الشديد، والشلل القريب من الموت.
وما زادت تعابير سيد والمعاصرين فيما يظن أنه من عنف التعبير على حروف حذيفة.
إنه ليس من إفراط في حماسة الدعاة، بل هو وضوح الدعوة الذي يفرض نفسه، ولذلك نرى المعتنق لها بصدق سرعان ما ينشأ نشأة أخرى غير التي كان عليها تماما، وتتحور مفاهيمه، ويخرج من صومعته ليقود الناس، كالذي كان من أمر التابعي وهب بن منبه اليماني، عرفه اليمن راهبا معنيا بسجع الرهبان وعلوم أهل الكتاب المحرفة، فلما أسلم وسئل عن صفه المسلم قال: (يقتدي بمن قبله، وهو إمام لمن بعده) (2).
__________
(1) إحياء علوم الدين 2/311.
(2) كتاب الزهد للإمام أحمد/372.(1/126)
فوصفه بالإمامة والتصدي للقيادة بعد إذ كان هو نفسه منعزلا، وما هو بفهم يبتدعه، لكنه حين أسلم لم يجد مهمة المسلم المتعلم إلا بهذه الصفة، ووجد القرآن يصف إبراهيم عليه السلام بأنه كان أمة، وفي أحد تفسيري هذا الوصف أنه من الاقتداء والائتمام، كما ذكر ابن القيم، فإنه قال: (الأمة هو القدوة الذي يؤتم به، قال ابن مسعود: والأمة: المعلم للخير: وهي فعلة في الائتمام، كقدوة، وهو الذي يقتدي به) (1).
البيعة القديمة الحديثة
وما كان جيل من أجيال المؤمنين القدماء الذين أحاطوا بالأنبياء القدماء يفهم إيمانه على أن تصديق قلب مجرد، إنما فهموه إعانة ومساعدة باليد والمال، ونصر بضم قوة المؤمن إلى قوة جماعة المؤمنين في معاركها وصراعها مع الكافرين، وكان إبراهيم، وموسى، وعيسى، وكل النبيين عليهم السلام يأخذون البيعة ممن يؤمن بهم على أن يؤمنوا بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وينصرونه في صراعه مع الكفر إذا بعث نبيا وهم أحياء يرزقون، كما أخبر الله تعالى عن ذلك في قوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ).
(قال ابن عباس: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به وينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه)(2).
وإذن، فالبيعة علينا نحن الآن من ورثة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ أوجب وأظهر إلزامًا وأولوية.
__________
(1) مفتاح دار السعادة 1/174.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 10/12.(1/127)
واعتمادًا على هذا الميثاق القديم فهم ابن تيمية( أن الصادقين في دعوى الإيمان: المؤمنون الذين لم يعقب إيمانهم ريبة، وجاهدوا في سبيله بأموالهم وأنفسهم، وذلك هو العهد المأخوذ على الأولين والآخرين)(1).
لا مناص ولا فكاك من تأييد الدعاة
ومن لم تسعفه ظروفه أو كفاءته أو مقدار علمه في أن يكون داخل الصف المجاهد فإنه لا يعذر بالقعود، بل عليه أن يعين من يأمر وينهي ويجاهد، ويكون مؤيدًا مساندًا.
وبذلك قال افقيه الإمام الشاطبي، فإنه يتصدي لشرح معنى قول الفقهاء: إن فروض الكفاية إن قام بها البعض سقط الإثم عن الباقين، وخصص وسمى من فروض الكفاية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطلب العلم، والولاية والإمامة، أي الخلافة وطلبها وسياسة الناس بالشرع وبين رحمة الله إنها وإن سقط وجوبها عن غير القادر عليها، فإنه مطالب بالتفتيش عن القادر وحثه وإعانته على القيام بها، بل إجباره على القيام بها، وساق أمر الولاية كمثل ينسحب ليشمل ما نص عليه هو من العلم والأمر والنهي، وعلى ما لم ينص عليه مما يوصف عند الفقهاء بأنه من فروض الكفاية.
(لكن قد يصح أن يقال: إنه –أي فرض الكفاية- واجب على الجميع على وجه من التجوز، لأن القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة، فهم مطلوبون بسدها على الجملة، فبعضهم هو قادر عليها مباشرة وذلك من كان أهلا لها، والباقون وإن لم يقدروا عليها قادرون على إقامة القادرين، فمن كان قادرًا على الولاية فهو مطلوب بإقامتها، ومن لا يقدر عليها مطلوب بأمر آخر، وهو إقامة ذلك القادر، وإجباره على القيام بها، فالقادر إذن مطلوب بإقامة الفرض، وغير القادر مطلوب بتقديم ذلك القادر، إذ لا يتوصل إلى قيام إلا بالإقامة، من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)(2).
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 10/12.
(2) الموافقات للشاطبي 1/114.(1/128)
وهذا كلام صريح لا يعذر أحدًا من المسلمين في قعوده عن تأييد الدعوة الإسلامية مهما كان له من ظروف العائلية والصحية والوظيفية والدراسية وأمثالها عذر يمنعه من الانتساب الفعلي.
عرف الشاطبي ذلك لمتانة منهجه في البحث، وفهمه السليم لمقاصد الفقهاء، الأوائل وهم يضعون القواعد العامة. ولأن عبد القادر عودة كان يسير على نفس المنهج، ولم يكن ليحرفه هو النفس، فقد توصل إلى نفس النتيجة، وأوجب على الجماهير في كل وقت أن تؤيد الحركة الإسلامية الآمرة بالمعروف، وحمل الجماهير مسؤولية تسلط أعداء الإسلام، فقال:
(إن جماهير المسلمين قد ألفت الفسق والكفر والإلحاد حتى أصبحت ترى كل ذلك فتظنه أوضاعًا لا تخالف الإسلام، أو تظن أن الإسلام لا يعنى بمحاربة الفسق والكفر والإلحاد، ولا يعنيه من أمر ذلك كله شيء.
إن الإسلام يوجب على المسلمين أن يتعلموا الإسلام وأن يتفقهوا فيه وأن يعلم بعضهم بعضا، (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ). ولقد طالما نفرت طوائف من المسلمين فأنذروا قومهم وحاولا تفقيههم في الدين، ولكن الحكومات الإسلامية أخذت على نفسها أن تحارب هذه الطوائف، وأن تحول بينها وبين ما يوجبه الإسلام، إرضاء للاستعمار، وإطاعة للطواغيت، وموالاة لأعداء الإسلام، ورضيت الجماهير هذا الوضع من الحكومات، وما كان لها أن ترضاه، فشارك الجمهور في خنق الإسلام، وهدم الجماعات العاملة للإسلام)(1).
ومثلما يكشف هذا القول عما كان في قلب عبد القادر عودة من لذعات، فإنه يشير أيضا إلى أن قادة الدعة لا يصطنعون ولا يغتصبون لأنفسهم حقوقا يطالبون بها جماهير المسلمين، وإنما يبنون مطالباتهم على أساس، وبينات، ومستندات، تثبت لهم حقهم، كهذا البيان الشاطبي الثمين.
قمة الوعي يرتقيها الإمام البنا
__________
(1) الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه/68.(1/129)
وبتدبر كلام الشاطبي تفهم أيضًا سر اعتداد الإمام البنا رحمه الله بطريقته ومنهجه حين فاصل المضطرين وصارحهم أن:
(إن أبيتم إلا التذبذب والاضطراب، والتردد بين الدعوات الحائرة والمناهج الفاشلة، فإن كتيبة الله ستسير غير عائبة بقلة ولا بكثرة، وما النصر إلا من عند الله)(1).
فبين مفاصلة الأسلوب ومنهج العمل مع الواهمين ممن يعمل للإسلام، وهي غير مفاصلة العقيدة مع أهل الكفر والبدعة، فإنه هنا يتحدث عن المنهج الفاشل الذي يزينه الخوف لأصحابه أو توقعهم فيه البساطة والسذاجة، والمنهج الفاشل عنده ما غاير منهجه، أو اكتفى بجزئية من منهجه فحسب دون ما يكملها، فإن عرفت منهجه عرفت ما يخالفه، وإن أحطت بشمول وسائله استبنت قصور وسائل الآخرين.
وهو، لذلك، يوجز سمت الجد العام لمنهجه في العمل، فيقول: (إن رواسب القرون الماضية، ونتائج الحوادث الخالية، لا يمكن أن تزول بأمنية تختلج في الصدور، أو كلمة تكتب في الصحف، أو خطب تلقي على الجماهير، بل لا بد من طول الأناة، ودام المثابرة، وعظيم المصابرة، والدأب على العمل) (2).
إذن ليست هي كلمة أو خطبة أو غير ذلك من وسائل الفرديين، بل لا بد من وسيلة أوجبها الإسلام لظهور أحكامه في التطبيق يجب أن تجعلها الحركة الإسلامية هدفا لها.
لابد عنده (أن تقوم في هذا الوطن الحر دولة إسلامية حرة تعمل بأحكام الإسلام، وتطبق نظامه الاجتماعي، وتعلن مبادءة القويمة، وتبلغ دعوته الحكيمة للناس، ا لم تقم هذه الدولة فإن المسلمين جميعا آثمون مسؤولون بين يدي الله العلي الكبير عن تقصيرهم في إقامتها وقعودهم في إيجادها، ومن العقوق للإنسانية في هذه الظروف الحائرة أن تقوم فيها دول تهتف بالمبادئ الظالمة وتنادي بالدعوات الغاشمة ولا يكون في الناس من يعمل لتقوم دولة الحق والعدالة والسلام)(3).
__________
(1) إلى الشباب، للإمام البنا/16.
(2) مجلة (الدعوة) المصرية في العدد 67.
(3) بين الأمس واليوم، المجموعة/225.(1/130)
وكرر هذا المعنى بحروف وأوضح فقال:
(قد يكون مفهوما أن يقنع المصلحون الإسلاميون برتبة الوعظ والإرشاد إذا وجدوا من أهل التنفيذ إصغاء لأوامر الله وتنفيذًا لأحكامه، وإنصاتًا لآياته وأحاديث نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ. أما والحال كما نرى: التشريع الإسلامي في واد، والتشريع الفعلي والتنفيذي في واد آخر، فإن قعود المصلحين الإسلاميين عن المطالبة بالحكم جريمة إسلامية لا يكفرها إلا النهوض واستخلاص قوة التنفيذ من أيدي الذين لا يدينون بأحكام الإسلام الحنيف) (1).
وتعتبر سيرة الإمام العملية، وبناؤه للحركة الواسعة المنظمة، خير شرح يفهم منه العاملون مذهبه في العمل الجماعي لتحقيق قيام هذه الدولة.
المودودي يشرح المراحل
وقد شارك الأستاذ المودودي في رسم صورة الحركة الإسلامية التي يظنها أهلا لتحقيق مهمة الاستخلاف في الأرض وبناء دولة الإسلام.
وهو يوجب على الجماعة الحركية أن تلتزم بتربية:
(مبنية على نظرية الحياة الإسلامية وفكرتها، وعلى قواعد وقيم خلقية وعملية توافق روح الإسلام، وتوائم طبيعته)(2).
__________
(1) المؤتمر الخامس، المجموعة/272.
(2) منهاج الانقلاب الإسلامي، مجموعة نظرية الإسلام وهدية في السياسة والقانون/82/83.(1/131)
ثم تلح الجماعة على نفسها في تربية أفرادها على هذا الأساس لتنتج دعاة يقومون بمهمة نشر الفكرة من الذين (لهم حظ وافر في القانون، والسياسة، وفي كل فروع العلوم والفنون، من الذين امتزجت الفكرة الإسلامية بلحومهم ودمائهم، والذين تثقفت أذهانهم واتسعت مداركهم اتساعًا يؤهلهم لتدوين نظام للأفكار والنظريات، ومنهاج كامل للحياة العملية مبني على مبادئ الإسلام وقواعده، والذين آتاهم الله من الموهبة والمقدرة ما يمكنهم أني قارعوا به أئمة الفكر ممن لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ويجاذبون بحبل، حتى يبسطوا سلطان سموهم الفكري على عقولهم وأذهانهم ويرغموهم على الاستسلام لزعامتهم الفكرية والعقلية)(1).
فإذا ما سارت الحركة شوطا في هذا المضمار التربوي والتبشيري تدخل مرحلة الصراع مع الفكر (مكافحة ومقاومة للنظام الباطل المعوج السائد في المجتمع الإنساني) (2)، ذلك (أن نظام الإمامة لن يحدث فيه أي تغير بمجرد وجود فئة مثل هذه في الأرض، بحيث أنها إذا تألفت وأخذت في الوجود مكانها تنزلت من السماء الملائكة ونحت الفاسفين الفاجرين عن كرسي السيطرة والسلطان وبوؤوه هؤلاء الصالحين المؤمنين، بل مما لا مندوحة عن لهذه الفئة المؤلفة أن تستمر في المكافحة والمناضلة لقوى الكفر والفسق)(3).
وخلال هذا الصراع (يمتحن القائمون بالدعوة وحاملوا لوائها بأنواع من المصائب والشدائد، وفيقاسون الآلام والأهوال، ضربا وقتلا وإجلاء عن الوطن، ويبذلون مهجهم وأرواحهم بكل صبر، وجلد، وإخلاص، وعزم قوى، ويبتلون بالشدائد.، ويفتنون) (4).
__________
(1) منهاج الانقلاب الإسلامي، مجموعة نظرية الإسلام وهدية في السياسة والقانون/82/83.
(2) الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية/34.
(3) منهاج الانقلاب الإسلامي/84.
(4) منهاج الانقلاب الإسلامي/84.(1/132)
ولكن ثباتهم يؤدي إلى احتدام صراع معاني الحق والباطل في نفوس أفراد المجتمع الذي يرقبون ثباتهم، وصل الصراع إلى أوجه وذروته في نفوس بضعة أفراد كل يوم جديد، فيقررون بشجاعة الانحياز إلى جماعة الدعاة الثابتين، وهكذا تستمر جمهرة الدعاة في ازدياد مطرد، (أما أصحاب الطباع الفاسدة والذين في قلوبهم مرض ممن يتبعون الأهواء والشهوات فسوف تختفي أصواتهم، ويضمحل نفوذهم شيئا فشيئا بازاء تيار الحركة الجارف، وسيرها الحثيث)(1).
أنس الطريق
وإنها لمسيرة طويلة، لكن يسلي أثناءها حداء الحادين.
وإنها لمهمة صعبة، لكن تهونها وتبدد تعبها بلاغة الصادقين حين ينادون..
قم نعد عدل الهداة الراشدين
قم نصل مجد الأباة الفاتحين
قم نفك القيد قد آن الأوان
شقي الناس بدنيا دون دين
فلنعدها رحمة للعالمين
لا تقل: كيف؟ فأنا مسلمون
…يا أخا الإسلام في كل مكان
……………أصعد الربوة واهتف بالأذان
وارفع المصحف دستور الزمان
واملأ الآفاق: أنا مسلمون
مسلمون مسلمون مسلمون
حيث كان الحق والعدل نكون
نرتضي الموت ونأبي أن نهون
في سبيل الله ما أحلى المنون(2)
[14] صفة جيل التأسيس
حقيقتان بازغتان تصفان الداعية المسلم دومًا، وفي ظلالهما يعيش سعيدًا.
إنه:
لا الأرض تحده.
ولا العذاب يرهبه.
يرددهما مع المرددين.
نحن عصبة الإله……دينه لنا وطن
نحن جند مصطفاه ……تستخف بالمحن
إنه يعمل أني هاجر وطرد، لا يعشق تراباه، ولا يضيق ضمن حدود أوهم الاستعمار غيره أنها حدودهم، ويتآخي مع كل بني الإسلام، فإن لم تكن الهجرة وكان السجن، كان سجنه سياحة لروحه وفكره، وإذا شنق كان هبوط الحبل به علوا ينقله إلى منزل جميل كريم.
__________
(1) منهاج الانقلاب الإسلامي/84.
(2) ليوسف القرضاوي، مما أغيد نشره في مجلة التربية الإسلامية ببغداد في مجلدها السادس/395.(1/133)
الداعية (ينظر إلى غالبه من عل ما دام مؤمنا، ويستيقن أنها فترة وتمضي، وأن للإيمان كرة لا مفر منها. وهبها كانت القاضية فإنه لا يحني لها رأسًا. إن الناس كلهم يموتون، أما هو فيستشهد، وهو يغادر هذه الأرض إلى الجنة، وغالبة يغادرها إلى النار، وشتان شتان، وهو يسمع نداء ربه الكريم:
(لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ* مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ* لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِنْدِ اللهِ وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِّلأبْرَارِ)(1).
والجاهليون يغفلون عن هذه الحقائق التي ينطلق منها دعاة الإسلام، فيشردونهم، ويضيقون عليهم، لكنهم يخسرون كل جولة في النهاية، بما صادموا من الفطرة التي جبل الله عليها الدعاة إليه.
وكل واحد من هاتين الحقيقتين هي الوجه الآخر للحرية والأمل. الحرية التي ترفع الدعاة عن ثقل المطامع، والأمل الذي يدفعهم إلى البذل.
فإن شئت أن تقول إن هاتين الحقيقتين نتاج لهذه الحرية، ولهذا الأمل، كان لك ذاك.
وإن شئت أن تقول إنهن أربع: الحرية، والآمال، وهاتان: لم تعد الصواب، وإن لبين يديك في تاريخ الدعوة المثل من بعد المثل.
درس من القاضي الزبيري
ولم يشحن تاريخ حركة بالأمثال مثلما شحن تاريخ الحركة الإسلامية قديما وحديثا، ولكثرتها خفي بعضها على الناشئة الجدد.
وفي الخفي ما هو أروع من الجلي، ومصداق ذلك قصة تصديق الداعية القاضي محمد محمود الزبيري رحمه الله لأقواله ووعوده وعهوده بسيرة عملية.
نشأ في بقية الإرث الموروث من الإيمان اليماني والحكمة اليمانية التي أقرأ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بها لأهل عصره ممن باليمن، وعزم على الإصلاح، ووثب وثبة خير سنة 1948 مع الواثبين.
__________
(1) معالج في الطريق /168.(1/134)
لم تكن وثبته تلك وثبة انتقام، ولا حب تسلط، ولكنه نظر النظر البعيد، ورأى أن لا بد من تغيير يحفظ اليمن في يد الإسلام قبل أن تمد له يد تغيير تقلد موجة الشرور، وتحاكي انقلابات الآبقين.
ولكن شاء الله ما لم يحسب الزبيري وصحبه، فهاجر طريدا متنقلا في البلاد.
لقد فقد جهدًا، وضيعت عليه فرصة، لكنه احتفظ بملك حرية قلبه، ففخر بما ملك وازدهي، واستعلي وتباهي وأنشأ يقول:
خذوا كل دنياكم واتركوا
فؤادي حرا وحيدًا غريبا
فأني أعظمكم دولة
وإن خلتموني طريدا سليبا(1)
إن دولته القلبية الحرة لأعظم من كل دولة أرض كان يمر بها تقام على تزوير، أو دولة أخرى انقلب عليها، صدقت، لكنها تورطت في تقصير حق عليها به قول التغيير.
إنه فخر ولا ككل فخر تحمله هذه الأشطر.
إنه فخر داعية يتجاوز أن يكن مجرد فخر بحرية القلب.
إنه عهد عمل صاغه في كلمات من لغة الدعاة.
وللدعاة في عهودهم سمت أخذوه عن الزاهد جعفر الخلدي البغدادي، وسنة في الوفاء ابتدعها لهم، من حين أن قال:
(ما عقدت لله علي نفسي عقدًا فنكثته)(2).
بهذه النفس كان الزبيري، أديب اليمن الفذ، يستعد استعداد من يملك الحرية، ويحركه الأمل، ويتعالى على حدود الأقطار، ويستخف بالمحن.
خصال أربع منحته الصبر في فترة الصبر، ووهبته التصميم على المناداة بالإسلام في فترة العمل، فأسس الحزب الإسلامي في اليمن المتصارع يوم كان وزيرا للمعارف والتربية بعد الثورة في الستينات، فتلقي رصاصات في صدره نقلته إلى ما نحسبها شهادة له.
حسبوا أن الرصاصات ستنهي عمله، فكانت رصاصات قدمت لظهور المد الإسلامي الواعي الكفيل بإعادة السعادة إلى اليمن الباكي المعروف بالسعيد.
حرص على البيع
ترى: أكان الزبيري يجهل أن جهره سيجلب الرصاصات إلى صدره؟
كلا، لكنها كذلك تضرب اليمن الأمثال....
إنها سنة الدعاة في الحرص على الموت...
__________
(1) مجلة (المسلمون) 2/821.
(2) تاريخ بغداد 7/229.(1/135)
لقنهم إياها خالد بن الوليد رضي الله عنه لما وصف من معه ممن فتح بهم العراق، فغدت شرطا في كل داعية، في كل جيل.
قال للفرس:
(قد أتيتكم بأقوام هم أحرص على الموت منكم على الحياة)(1).
وصاغها لهم عبد الله بن المبارك إمام الحديث، وبطل الجهاد، في بيتين كان يتمثل بهما كلما خرج لصالحة فيقول:
بغض الحياة وخوف الله أخرجني
وبيع نفسي بما ليست له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله
ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا(2)
لا تشتغل بترهات
فكذلك قاموس لغة الدعاة، يتطور ويتنامى، ويضيف كل جيل منهم جديدًا إلى اصطلاحات صفاتهم.
وضع بعضهم كلمة الحرية في الاستعمال لما قال:
* كن أبدًا حرًا أبيا*
وأضاف آخر الأمل لما قال:
* لنا غد والأمل *
وزاد الثالث:
* دينه لنا وطن *
* ونستخف بالمحن *
وقبلهم وضع خالد اصطلاح: (الحرص على الموت).
وأضاف ابن المبارك: (بيع النفس).
ويطالعنا الآن الزاهد رويم باصطلاح لما طلب منه صاحبه أن يوصيه فقال:-
(هو بذل الروح، وإلا فلا تشتغل بترهات) (3).
والأمر كذلك والله.
لا تعود هذه الأمة إلى إسلامها إلا بدعوة تؤسس ابتداء على بذل الروح، وإلا فإن الأماني مما دون ذلك، والتعويل على احتمال سماع أئمة الكفر لوعظنا، واللغة الدبلوماسية، لا تعدو أن تكون ترهات فحسب.
ويا لها من صرخة في المشرق كان يمد ابن الجوزي بها صوته على شاطئ دجلة ببغداد، ويهتف:
(أول قدم في الطريق: بذل الروح....
هذه الجادة، فأين السالك؟)(4).
ولا زالت أجيال فتيان صباح الوجوه في كل قطر تجيبه أن: نحن السالكون، إلا قد بلغت، وأنا لنشهد.. بلغتنا فانتظمنا وخرجنا عن التهور، وهاهي أرواحنا ملك التخطيط الموزون، نبذلها متى شاء بإذن الله.
وفي زمنها كانت تجاوبها فصاحة مغربية تنطلق من لسان لسان الدين ابن الخطيب تؤكد أن: نعم. إن:
__________
(1) تاريخ الطبري 3/344.
(2) تاريخ بغداد 10/166.
(3) تلبيس إبليس لابن الجوزي/183.
(4) المدهش لابن الجوزي/299.(1/136)
(طريق القوم مبنية على الموت)
وهي (قطرة الدم) أيضا، كذلك سماه داعية بسيط من الرعيل الأول، لا يحمل شهادة، ولا له اسم مشتهر، فقال لأميرة بلسان الإيمان:
(إن قطرة الدم لا زالت غالية على المسلمين، وما دامت قطرة الدم غالية فإنهم لن يصلوا إلى شيء، لأن ثمن العزة والحرية قطرة الدم فقط)(1).
وهكذا تكون قوة بلاغة لسان الصدق وإن كان صاحبه لا يعرف الجرجاني ولا الجاحظ.
وهي الحدة والجرأة عند محمد إقبال: قرن الثنتين في بيت فقال:
حديد: إذا ما طغي باطل……جرئ لدى المعرك: المؤمن(2)
وهي التضحية في اصطلاح وليد الأعظمى حين يقول:
هو الإسلام تضحية يريد
وعند آخر: لن تكون العظمة مع هوى العيش. ويصوغها نشيدًا يردد:
إن نفسا ترضى الإسلام دينا
ثم ترضى بعده أن تستكينا
أو ترى الإسلام في أرض مهينا
ثم تهوى العيش نفس لن تكونا …في عداد المسلمين العظماء
ويجمع داعية فقيه كل هذه الاصطلاحات في فتوى فقهية واضحة بعيدة عن تهمة فرط الحماسة، يقول فيها:
__________
(1) مذكرات الدعوة والداعية/114.
(2) ديوان ضرب الكليم/29.(1/137)
(الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر فرض كفائي يجب أن يكون في الأمة، ولكن إذا كان الحاكم ظالما باغيا لا يتسع صدره لسماع النصيحة إلى درجة أن يقتل من يأمره وينهاه، فإن هذا الفرض يسع الفرد تركه، لا الأمة، ولكن من المندوب إليه، بالنسبة للفرد، القيام بهذا الفرض ولو أدى ذلك إلى موته، يدل على ذلك الحديث الشريف: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قال كلمة حق لسلطان جائر فقتله" فيفهم من هذا الحديث أن من المندوب إليه: القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو أدى ذلك إلى قتل الآمر، ولا يعترض علينا بأن إلقاء النفس في التهلكة لا يجوز، وهذه تهلكة، قال تعالى: (وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)، لأن الاستشهاد في سبيل الله ليس بالتهلكة، وإنما هو ضرب من ضروب الجهاد، وما يترتب عليه من تقوية نفوس المحقين وخذلان المبطلين وإيقاف الظالمين عند حدهم، فحسن لهذه المعاني، وندب الشرع إليه) (1).
المراحل الثلاث
إن هذه الفتوى، والثروة اللغوية التي في قاموس الدعاة، وأقدام الهول الموصوفة من قبل، وهذا المثال اليماني، وعشرات الأمثلة في التاريخ الحديث والقديم، لا تعني الاستعجال، ولكنها تثبت بندا في قانون التربية الحركية للقاعدة الصلبة، عنوانه: غرس الاستعداد وشرح التبعة منذ البداية.
الاستعداد النفسي لبذل الروح وقطرة الدم عند الحاجة، فليست الدعوة جمعية خيرية تقنع بالقليل.
والاستعداد للتعب اليومي، فدون غاية الدعوة رحلة طويلة، وليست هي مجرد تصفيق في احتفال أو استحسان لمقال.
والاستعداد بإنفاق السرور، وتحمل ثقل مصائب الأمة، ابتداء بقضية فلسطين، وانتهاء بمآسي التنصير في إندونيسيا، ومذابح المسلمين في البنغال والفليبين.
وهذه الثلاث هي وجه للمرحلية التي ذكرها أحد الوعاظ قديما في قوله:
(يا هذا: أول الطريق سهل، ثم يأتي الحزن.
في البداية: إنفاق السرور
__________
(1) مجلة التربية الإسلامية 5/760.(1/138)
وفي التوسط: إنفاق النفس).
وهذا يقتضي أن تكون هناك نهاية أيضا، وأن يكون في النهاية ما هو أكبر من إنفاق النفس، ولم يذكره، لكن الدعاة، يميزونه في صورة لعلها هي (إنفاق ما بعد النفس) وأظنها صورة الشوق الشديد إلى الحوريات السبعين، فهو اجتماع الشوق بدرجة تنسى الداعية طعم الراحة، ولذة الطعام، وأنس الزوجة، وتجعله هائما راكضا بلا التفات.
ومن هذا الوصف القديم للمرحلية، الذي جاء على لسان الواعظ، ومن وجهها الآخر الذي رسمته الاستعدادات الثلاث: يتضح الوصف الحركي الحديث للمرحلية المتدرجة المتناسبة مع القوة والواقع المحيط، المنسابة مع انسيابية سير الحاضر نحو المستقبل، وانسيابية الاقتران الكامن في فقه الدعوة بين تفقهنا الشرعي، وخبرتنا التجريبية.
حديث من استراح
هذا، كما يقول الإمام أحمد، أو هو حديث ذي العقل المستريح.
كان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله داعية نبها يقود تجمع دعاة من أهل التضحية والبذل، وكان يعرف قيمة ثبات الداعية في المحن، وأثر عدم إجابته لما يدعونه إليه من القول بخلق القرآن في تثبيت المسلمين، فمن ثم لم يجد لمن لا يفهم معاني لغة الدعاة واصطلاحات قواميسهم غير اصطلاح:
(أصحاب العقول المستريحة)
إنه لا يكرههم، ولا يزدريهم، بل يحبهم ويحرص عليهم، ويستفيد من خيرهم مهما قل، ولكنه لا يدخلهم صفه ما دامت عقولهم تتمتع بالراحة، ولا تحركها مصائب المسلمين.
قال أحمد بن داود أبو سعيد الواسطي:
(دخلت على أحمد الحبس قبل الضرب، فقلت له في بعض كلامي:
يا أبا عبد الله: عليك عيال، ولك صبيان، وأنت معذور.
كأني أسهل عليه الإجابة:
فقال لي أحمد بن حنبل:
إن كان هذا عقلك يا أبا سعيد فقد استرحت)(1).
__________
(1) طبقات الحنابلة، لابن أبي يعلي 1/43.(1/139)
وما أكثر ما يقال مثل هذا للدعاة اليوم، وما أكثر من يفهم الإسلام ثم يحدث نفسه بمثل هذا، فيجبن وينزوي ولا يشارك الدعاة سيرهم، وإنما هو حديث من استراح، كما يقول الإمام أحمد، وأما من ذع واقع الإسلام قلبه فأني له الراحة؟ وأني يدع لصبيانه وزوجه مجال تخذيله وتقييده عن الاندفاع مع الدعاة؟ وهل الموت إلا في آجال؟
هذا داعية المنصورة بمصر صلاح الشربيني رحمه الله، لم يمته رصاص الإنكليز لما قاتلهم على قناة السويس، ولكنه مات على سرير مستشفي بعد أيام الحج بمكة.
وهذا داعية البصرة قيس القرطاس رحمه الله، لم يمته عذاب السجن، الرهيب، ولكنه مات مخنوقا بالغاز ي حمام بعد خروجه من السجن بأيام.
وهذا داعية غزة عمر أبو جبارة رحمه الله، صاحب الدعوة منذ صباه ودخل السجن فلم يمته تعب البذل اليومي ومات من سقطة بسيطة.
وإن عهد الدعوة لن يقدم أجلا، ولكنه يرفع إلى الفراديس. فإن لم يكن المسلم مع أحمد، أو مع ورثة أحمد اليوم، وقعد لعذر أو شبه عذر، فإنه مطالب بالأسف وازدراء نفسه على الأقل، ألا يكون مع القوم العاملين، كما قيل للزاهد الثقة بشر بن الحارث الحافي يوم تعذيب أحمد:
(قد ضرب أحمد بن حنبل إلى الساعة سبعة عشر سوطًا
فمد بشر رجله، وجعل ينظر إلى ساقيه ويقول:
ما أقبح هذا الساق أن لا يكون القيد فيه نصرة لهذا الرجل)(1).
مع أنه شهر وأذاع حبه لأحمد، لكن الخليفة تركه لشهرته بالزهد وحب العامة له، وخاف أن يوسع دائرة النقمة عليه.
فالمؤمن الصادق إن عذر نفسه وأفتاها بالتخلف، لنوع ضرورة أو ضعف يدريه من نفسه أو شبهة: عرف ما يوجبه ذلك من التواضع وترك التطاول على الدعاة، ويظل يتهم نفسه في اجتهاده، ويمنح الصابرين المقتحمين لسانا جميلا يكون لهم فهي نوع سلوة وراحة. وأما أسير هواه فيجادل ويثرثر، ويقذف لسانه بكل لفظ صلب، ألا يوصف بتخلف، فيجمع بجدالة نقصا إلى نقص، والعياذ بالله.
__________
(1) مناقب أحمد، لابن الجوزي/119.(1/140)
ولن يزول المتخلف المستريح عن منازل الملومين حتى يفقه الوصف الحركي، وينطق بلغة الدعاة، وينشد معهم ينقد على نفسه حاله الأول:
برئ الإسلام من شاك مضيم
لا يراه غير صوم وصلاة
ذروة الدين جهاد في الصميم
فلنجاهد، أو لتلفظنا الحياة
فهذا هو القول الموجز والحكم الأخير في حالة المسلمين اليوم في جميع أقطار الإسلام.
إما جهاد وتعاهد على إرخاص قطرات الدم.
وأما أن تلفظهم الحياة، ويستبدل الله تعالى بهم آخرين، أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبي…ل الله، ولا يخافون لومة لائم، ولا يغريهم جمال نساء ومال، ولا يرهبهم طغيان طاغية، واستئساد جاهلية.
نعم.... هذا أو لقب ذي العقل المستريح.
هذا.... وإلا فإنها الترهات.
[15] التوسع الموزون والانتشار المتأني
أول ثمرات العزة الإيمانية التي يحسها المؤمن: إدراكه ما في الإسلام من قوة الحقيقة التي يكفي لكي تعلن عن نفسها أن تتمثل في فرد واحد، وما في الآراء الجاهلية المخالفة من زيف الباطل، واحتياجاتها إلى سواد كثير وعدد كبير من الأفراد، يأسر منظرهم كل ساذج، فيغتر، وينطلي زيف الباطل عليه، دون أن يدرك ما هم فيه من الضلال.
ومن هاهنا رأينا تمثل الأمة الإسلامية أكثر من مرة بمؤمن واحد فقط، كما قال الله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا) قال ابن تيمية: (أي كان مؤمنًا وحده، وكان الناس كفارا جميعهم)(1).…
وفي صحيح البخاري أنه قال لزوجه سارة: (يا سارة: ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك)(2).
ثم كما تمثلت حينا بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحده.
ومن هاهنا أيضًا انسد باب شعور المؤمن بالغربة، فهو -لأنه يمثل الإيمان والحقيقة: يشعر بأن الناس جميعا وهم في ضلالهم هم الغرباء التائهون.
ولذلك، فإنه لما توهم واهم فوصف عبد الوهاب عزام بالغربة، كان جوابه سريعًا، فقال:
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 11/436.
(2) صحيح البخاري 4/171.(1/141)
قال لي صاحب: أراك غريبا
بين هذا الأنام دون خليل
قلت: كلا، بل الأنام غريب
أنا في عالمين وهذي سبيلي(1)
أما غربة الغرباء الذين ذكروا في الحديث الشريف: (طوبى للغرباء) فهي غربة بالنسبة للواقع، أي لندرتهم وقلتهم بين غثاء ضال، أما في عالم الضمير والشعور فإن للمؤمن الفرد من إيمانه أنيسا ورفيقا وخليلا يبعد الغربة.
ليس علينا غير البلاغ
وهذا التباين في شعور الداعية إلى الإيمان، عن شعور الداعية إلى الباطل: جعل دعاة الباطل في تعب دومًا، وفي تبديل لصور باطلهم حين لا تنطلي على الناس، ويسوغون ذلك بالتطور الفكري والديالكتيك، ويرون –بعلقية تجارية بحتة تضع حساب الأرباح والخسائر المادية فحسب- أن من يتكلم ويكتب لإشاعة فكرة معينة ولا يستجيب له الناس عليه أن يسارع إلى تبديلها بأخرى تجد لها تصريفا. أما الداعية المسلم فهو يعتقد بأن عليه تحري القول الصائب الموافق للشرع، واتباع الأسلوب الملائم حسب اجتهاده، ثم الله هو الذي يتولى ما بعد ذلك، فإن لم يستجب أحد فلحكمه ربانية، ولو شاء الله لهداهم، ولكن كره الله انبعاثهم مع الدعاة، ولا يسع الداعية المسلم إلا الثبات على ما يعتقد.
وبهذا الوعي لهذه الحقيقة الإيمانية أجاب يوسف القرضاوي من اعترض عليه، فقال:
عجبت لهم قالوا: تماديت في المني
وفي المثل العليا وفي المرتقى الصعب
فأفصر ولا تجهد يراعك إنما
ستبذر حبا في ثرى ليس بالخصب
فقلت لهم: مهلا، فما اليأس شيمتي
سأبذر حبي والثمار من الرب
إذا أنا أبلغت الرسالة جاهدًا
ولم أجد السمع المجيب فما ذنبي؟(2)
وهذا من قوانين الدعوة الإسلامية.
إننا إذا لم نصل إلى ما نبغي ونريد، فحسب عملنا أن يشجع الجيل اللاحق على مواصلة السير، فإن النجاح في الابتداء دليل على إمكان الانتهاء، أو كما يقول الرافعي:
__________
(1) مجلة (المباحث المصرية) عدد 31 لسنة 1951.
(2) وحي القلم 1/21.(1/142)
(البدء في تحقيق الشيء العسير: حسبه أن يثبت معنى الإمكان فيه)(1)
ووجود هذه النماذج الجيدة من دعاة الإسلام في كل مدينة من مدن الإسلام حسبه أن يثبت معنى إمكان تطبيق المثل العليا الإسلامية من خلال تجمع حركي في وسط مظلم قاتم.
وهذا الإثبات هو منطلقنا لمواصلة السير، والإكثار، من تربية مثل هذه النماذج، حتى نصل حدا عدديا كافيا لهداية من حولنا.
فإن لم يستطع الدعاة اليوم النصر فحسبهم أنهم كانوا –كما يقول سيد قطب-: (أجراء عند الله، أينما وحيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا: عملوا وقبضوا الأجر المعلوم! وليس لهم ولا عليهم أن تتجه الدعوة أي مصير، فذلك شأن صاحب الأمر لا شأن الأجير)(2).
نريد أن نكون أئمة
وإنما ذاك ما يقتضيه الإيمان.
وإلا فإن الفطرة ميلا إلى كثرة الأنيس، والعين تحب أن تقر بتسلط الإيمان على الكفر، ويومئذ يفرح المؤمنين بنصر الله.
وهذا ما يجعل الداعية حريصا كل الحرص على تعلم فنون الدعوة، لينجح في نقل مزيد من الشباب من التيه إلى الطريق المستقيم، وتراه ينتشى ويبلغ أقصى اللذة حين يأخذ بيعة جديدة، ويكون من أحب أدعية القرآن لديه أن يقول: (واجعلنا للمتقين إماما).
وما دعاؤه هذا من الاستشراف للمسؤولية والتزعم وحب الظهور بحيث يكون مكروها، بل كما قال ابن القيم:
__________
(1) معالم في الطريق/ 181.(1/143)
(هو يحب الإمامة في الدين، بل يسأل ربه أن يجعله للمتقين إماما، يقتدي به المتقون، كما اقتدي هو بالمتقين. فإذا أحب هذا العبد الداعي إلى الله أن يكون في أعينهم جليلا، وفي قلوبهم مهيبا، وإليهم حبيبا، وأن يكون فيهم مطاعًأ لكي يأتموا به ويقتفوا أثر الرسول على يده: لم يضره ذلك، بل يحمد عليه، لأنه داع إلى الله يحب أن يطاع ويعبد ويوحد، فهو يحب ما يكون عوناًا على ذلك موصلا إليه، ولهذا ذكر سبحانه عباده الذين اختصهم لنفسه واثنى عليهم في تنزيله وأحسن جزاءهم يوم لقائه، فذكرهم بأحسن أعمالهم وأوصافهم ثم قال: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)، فسألوه أن يقر أعينهم بطاعة أزواجهم وذرياتهم له سبحانه، وأن يسر قلوبهم باتباع المتقين لهم على طاعته وعبوديته، فإن الإمام والمؤتم متعاونان على الطاعة، وإنما سألوه ما يعينون به المتقين على مرضاته وطاعته، وهو دعوتهم إلى الله بالإمامة في الدين)(1).
سعة التجميع تتناسب مع طاقة التربية
ولكن حب الإمامة في الدين يجب أن لا يخرجنا إلى نوع تساهل في الصفات الإيمانية والطبيعية التي نشترطها لمن يريد أن يكون مع الركب، وجيب أن يكون هناك –على طول الخط- تناسق وتوازن بين سعة التجميع وسعة طاقة التوجيه التربوي التي نملكها، فإن من أخطر الأخطار أن تتوغل الدعوة في تجميع واسع قبل أن تكون هناك صفوة من الدعاة قادرة على أن تتولى تربية كل الذين يتجمعون حولها، بل يجب أيضًا أن يبي رجال الصفوة بعض أوقاتهم لمواصلة تربية أنفسهم هم بالعلم والعبادة، وإلا قست قلوبهم من بعد لذة الابتداء، وإذا قست القلوزب فقدت شيئا من معاني الأخوة.
هذا التوازن ليس بخاص في بداية الدعوة، وإنما يجب أن يكون هو المسيطر على سعة التجميع في أدوار الدعوة كلها، وإلا تسرب الخطر.
__________
(1) الروح، لابن القيم/252.(1/144)
ومن هنا فإن الخطة لا تتصور في مراحلها الأولى احتمال حيازة رجل الشارع واستقطاب الجماهير الواسعة، بل لا يمكن أن يكون ذلك إلا إذا خرجنا إلى نوع تساهل في الشروط، ومن المزالق أن تسير الدعوة وراء رجل الشارع حريصة عليه قبل حصول المقدار اللازم من الوعي الإسلامي، والعدد الكافي من أصحاب التربية الصلبة.
إن المتولعين بالسياسة من الدعاة يريدون للدعوة أن تدخل في سباق مع الأحزاب لاكتساب رجل الشارع، في الوقت الذي أبان رجل الشارع في البلاد الإسلامية كلها عن طبيعته في قلة استعداد للسير الطويل مع جماعة معينة.
رجل الشارع، والغوغاء، والدهماء، والمصفقون: هم مادة الأحزاب الجاهلية الأرضية وعنصر حياتها، لأن هذه الأحزاب تستطيع أن تبدل وتحور مناهجها وفق طلبات هؤلاء وتبعا لاستهلاك السوق.
أما الدعوة الإسلامية فما بمثل هؤلاء تنتصرن وما بمثل هؤلاء تغير مجرى الحياة.
إن التجميع القطيعي ممكن، لكنه لا يستمر طويلا.
هذا فضلا عن أن التجميع الواسع ينتقل بالدعوة إلى وضع جديد تحتاج فيه إلى كفايات ضخمة تستخدمها في الإدارة، وإلى قدوات عالية المستوى لإدامة بقاء التجمع في رحاب الحياة الروحية أثناء انغماس الجميع بكثرة الأحداث، وإن لم توجد مثل هذا الكفايات والقدوات قبل بدء التجميع الواسع والعمل مع رجل الشارع فإن الدعوة تكون قد عملت على إيجاد جماهير تنتسب إلى الإسلام، لكنها ذات رغبات ساذجة تنفر من الخطوات الحكيمة وتندفع اندفاعات غير موجهة ولا هادفة، وربا طوعت الإسلام لقبول ما ليس منه وحملت مفاهيم مشوية بنظريات الكفر وعقائد مختلطة بالبدع.
اتزان التوسع الميداني(1/145)
وكما يولد التساهل في الانتقاء، والتكاثر الذي يلهي عن التركيز، أنواع التورط والاندفاع العفوي غير الهادف، فإن حماسة الدعاة في استدراك التقصير، والربا بنفوسهم أن يسبقهم الأرضيون والمنحرفون والملاحدة، والحرص على شمول ميادين العمل الثقافي والسياسي التي يتم فيها توجيه الناس، كل ذلك قد يدعوهم وينقلهم إلى تقليد الأحزاب الأرضية في خطط عملها بلا مراجعة للرصيد، ويقذفهم إلى مواجهة أهل الضلال في جميع الميادين، والجبهات قبل الاستعداد الكافي، فيحصل (تشعب العمل)، و(توزع جهود ذوي الكفاية)، فيقل التأثير في كل الميادين، ويكون التعب والإرهاق المستنفد للطاقة، تمامًأ كالذي يحدث في المعارك الحربية، فإن التاريخ الحربي، يظهر نماذج كثيرة لقادة فقدوا دقة التخطيط الاستراتيجي، ففتحوا جبهات متعددة في آن واحد وزعت قواتهم، ولم يصفوا أعداءهم واحدًا بعد الآخر، فكانت الهزيمة، ولا تزال فنون التعبئة العسكرية توصى القادة بألا يطيلوا جبهة المعركة الواحدة، وأن يهاجموا بالعمق الذي يكفل تعدد وجبات الهجوم إن أخفق الهجوم الأول، ويضمنوا وجود الاحتياطي لدرء المفاجآت وحركات الالتفاف.(1/146)
وليس قولنا هذا دعوة للراحة، فإن الراحة موت، ولا للبرود، فإن فيه الفوت، ولا لتحريم الاستفادة من فنون العمل التي برع فيها الجاهليون، فإن الأمر يسع الاقتباس ما لم يصادم نصا شرعيا أو عرفا أخلاقيا استحسنه المؤمنون، ولكننا ندعو إلى تقدير واقعي لطاقاتنا، وتركيز لجهودنا، وتجزئة الاستدراك بملء المجالات حسب أهميتها، فإن الجهود المبكرة للكافر المستعمر في إنشاء الأحزاب أدى إلى أن تسبق الأحزاب الدعوة الإسلامية، وساعد على ذلك حيرة المخلصين بعد إسقاط الخلافة العثمانية الشرعية، ولا يكون الاستدراك بطفرة، بل بسير موزون، ومن ثم كان (اتزان التوسع الميداني) قرين ( اتزان التوسع العددي) في الوقاية من المصارع، وارتباط التأثير بكثافة المسموع والمنظور في الظاهرة التربوية يوجب مراعاة هذه الكثافة المتناسبة مع سعة الميادين التي تتوزع عليها تناسبا عكسيا، والتي تكثف كلما قلت الميادين.
والتاريخ القريب يرينا وقوع بعض أجزاء الحركة الإسلامية في مثل هذا التوزع والشمول المستعجل كرد فعل لكثافة الأحداث السياسية، والتنامي الحزبي إذا لجأ الدعاة إلى معاركة الجاهلين في النقابات، والاتحادات المهنية والنوادي الأدبية، وعموم المرافق الاجتماعية، في وقت كان عدد أصحاب الكفاية والدربة فيه قليلا، وكان النظر المتزن يوصي بالإلحاح في التربية الداخلية، وتعميق الإيمان، وتمتين الصف بغرس معاني الطاعة والالتزام، قبل ولوج جولات التنافس.
إن الداعية الفقيه لا يستفزه تغلب الملحد القوى إن كان هو ضعيفا، بل يكظم غيظه، ويصبر، ويبدأ يعمل في انتظام، ويطلب لرجله قبل الخطو موضعها من الأرض الصلبة.
التطوير ينطلق من المعاناة
وحماسة المتحمسة من الدعاة لا تثمر على إطلاقها، فإنها محكومة بالواقع في بعض جوانبها.(1/147)
وأهم ظواهر هذا الواقع الآسر عن مماشاة الحماسة وتنفيذ التمنيات: هو ضعف بعض الدعاة وقصور مستوياتهم عن التمكن من مجاراة الآخرين. فمجابهة الجاهلية في جميع الميادين التي يطوقونها الآن، يقتضي نوعا من المقدرة والصلابة لدى الدعاة يشير واقعنا في البلاد التي لا تزال فيها الدعوة ناشئة إلى قلة ن يتصف بها بالمستوى الذي يستطيع فيه أن يقود ويبتكر ويحرك ويستمر، ومن دون أن يتركز الثقل على عاتق أنفار معدودين من الدعاة.
إن النقطة التي يغفلها المتحمسة تتجلى في أن القسط الأعظم من فقه الانتقاء والتشدد المتولد عندهم، ومن صلابة النية والإصرار وعلو الهمة، إنما كونهما فيهم تفكير سنوات، وتفاعل قبلي عميق متوال مع أحطاء الماضي، ومعاناة يومية لعمل طويل، ولا يمكن لفاقد هذا الفقه وهذه المعاناة أن يكون بمثل مستواهم عند التنفيذ.
إنها حقيقة واقعة، تنقل التخطيط عن المثاليات والارتجال إلى التدرج المتناسب مع الطاقة، ومن الخطأ أن تطلب سيرة صلبة واعية لدعاة ضعفاء، ومجرد الإلحاح عليهم لا يكفي إن لم يسبق بتربية.
التركيز على مصنع الثقات..!
وهل رأيت الدول النامية كيف تركز حكوماتها على الصناعة الثقيلة في أول أمرها، لأنها مفتاح كل صناعة أخرى.
كذلك نحن في أول أمرنا، ولا نزل في مرحلة تشبه أول الأمر في كثير من البلاد، لكثرة الأخطاء وعنف حرب الكفر وعملائه لنا.
يجب التركيز على مصنع الثقات الذي يربي الداعة المسلحين بالإيمان والفقه الحركي وتكيسهم ليجابهوا الكفر في ميدان إثر ميدان، ولابد من أن ترصد الكفايات لخدمة الجهاز المربي للثقات وتمتينه وتقويته.(1/148)
إن الفترة منذ بداية أي جزء من أجزاء الحركة الإسلامية في ع مله إلى الأيام التي قارب فيها القوى الجاهلية المحيطة به يجب أن تكون فترة انتباه للتجميع وتربية وتفقيه، وكل فتح لميدان جديد، أو واجهة، أو تحول إلى الانغماس في المعترك السياسي كلية، فإن معناه حصول التصادم بين متطلبات الجهاز التربوي ومتطلبات الميادين الجديدة والنشاط السياسي، المتسبب من قلة أصحاب المقدرة والكفاية الذين يديمون تلبية هذه المتطلبات ويديرون الأجهزة المختلفة، ولا يسوغ في التخطيط أن تنفتح الدعوة انفتاحًا واسعًا في العمل قبل تأكدها من وجود ثقات بعدد كاف يديمون هذا الانفتاح، ويحولونه عن مجرد فورة سريعة ورد فعل لاستفزاز الجاهلين لنا، وإن كان هذا لا يمنع من تدريب بعض الدعاة، وبعدد قليل، بالمشاركة في هذه الميادين عمليا، ليكونوا روادًا مواجهين في أيام الانفتاح.
الكتاب.. والبأس الشديد..!
وإنه الحديد يكمل القرآن، حقًا
كلام مقدس قاله الله تعالى: محكم غير متشابه ماض غير منسوخ، أراده عزت إرادته أن يكون للدعوة الإسلامية شعارًا، ودستور عمل، ومعلم طريق، فجعله جل وعلا في آية تتلوها الملايين كل يوم، أن بسم الله الرحمن الرحيم: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).
فكل قلب أحكمت أقطاره ولم تتشابه، ومضت إلى الخير عزيمته ولم تنسخ، فهم هذه الآية فهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لها.
فهمها أبو بكر رضي الله عنه، فكانت حروب الردة.
وفهمها عمر الفاروق رضي الله عنه، المشتق لقبه من أسماء السيف، فكان منه إقرار لمن لوح له بالسيف أداة تقويم إن زاغ واتبع الهوى.(1/149)
وتواصت أجيا المسلمين بعدهما بهذا السلوك وتواصت بالقرآن، فبعدوا عن الخسران.
حتى إذا خسروا، وفق الله ابن تيمية رحمه الله يتلو عليهم هذه الآية، ويفسرها، ويقول لهم: (ذكر تعالى أنه أنزل الكتاب والميزان، وأنه أنزل الحديد لأجل القيام بالقسط، وليعلم الله من ينصره ورسوله، ولهذا كان قوام الدين بكتاب يهدين ,سيف ينصر، وكفى بربك هاديًا ونصيرًا)(1).
ويؤكد لهم أنه:
(إذا ظهر العلم بالكتاب والسنة، وكان السيف تابعا لذلك: كان أمر الإسلام قائمًا).,
ارتقاء المدارج مع السالكين.. لا الطفرة
ولكن الإمام البنا رحمه الله أوجب الابتعاد عن التهور، وحذر المتحمسة الملحاحين، وعلمهم أن:
(من خصائص هذه الدعوة كذلك:
التدرج في الخطوات.
وانتظار الزمن.
وعدم التسرع بالنتائج.
فلكل أجل كتاب)(2).
وكرر عليهم: أن الدعاة الفقهاء.
(شعارهم في ذلك: الزمن جزء من العلاج)(3).
وبذلك حدد الإمام علاجا رابعًا يحمي الدعوة من أنواع التورط والاندفاع غير الهادف، ويقيها المصارع، وأطلق عليه اسم: (الانتظار).
وهكذا، فإن من تمام واجب التربية الإسلامية الحركية في مراحل الابتداء والتأسيس: غرس الاستعداد النفسي للانتظار الذي تكمل أثناءه صناعة الاختصاصات التي تتولى الانتشار والتوسع الميداني، ثم ما يتطلبه هذا الانتظار الإيجابي من الإقلال المرحلي في ولوج السياسة.
إننا نجد أنفسنا في الحقيقة –ما دمنا نبذل الجهود التربوية بتواصل- أثبت من أن نأبه لشيوع هذه الأفكار الأرضية المستوردة، ونتقبل أخبار انتصارات هذه الأحزاب بشجاعة، فإنها ليست إلا من الانتصارات الوقتية غير المؤهلة للدوام، وستعصف بها جهودنا التربوية متى ما صدق عليها وصف التربية وخرجت عن حد الفورة والارتجال.
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 10/13.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية 20/393.
(3) مجلة (الدعوة) المصرية عدد 67.(1/150)
بل أبعد من ذلك، فلعلها حكمة الله في انتصار هذه الضلالات، لأنها عجزت عن صنع الواقع السعيد الذي وعدت الناس به، وعجزهم هذا معناه فشل لجهودهم التربوية، وإنها لفضيحة كبرى تعيشها الأنظمة الفاسدة والدكتاتوريات التي أرادت حرف الناس عن الإسلام هي في وجهها الآخر اختصار لطريق دعاة الإسلام.
إنه الطريق التربوي: صعب.. طويل.. بطئ.. يسبقنا فيه الأرضيون لوقت.. يسقط فيه بعضنا.. وتفوتنا بعض المغانم فيه.
لكنه طريق مأمون، ثابت، مضمون.
وقد يرى البعض أن هذا الطريق البطيء لا يعود الدعاة على التضحية، ويرى أننا نسقطها من حسابنا.
ولكن الأمر ليس كما رأى، فإن التضحيات مطلوبة، ولكن في وقتها، ولا تؤتي مفتعلة، وخير الدعاة من بذر بذورها في نفوس إخوانه منذ الآن.
إنه طريق واحد أصيل لا ثاني له: طريق التربية التدريجي الذي أوجزه الأستاذ المرشد حسن الهضيبي رحمه الله بقوله:
(أقيموا دولة الإسلام في صدوركم: تقم في أرضكم).
وخطواته: أن تشيع الوعي الإسلامي، وتجمع، وتربي، وتتوسع في اتزان، وتنتشر في تأن، وتنتظر حتى تكتمل الاختصاصات، وترقب ضعف من تسلط زورًا، وترفع يدك إلى الله داعيًا أن يرحم المسلمين، حتى يسقط رداؤك عن منكبيك، فإنه إن سقط: علوت.
أهمية الوعي الحركي في التعجيل
ولكن واقع الحركة الإسلامية يشير إلى إمكانية اختصار هذه الفترة اختصارًا كبيرًا، والتعجيل في الانفتاح المبتغي، بواسطة الإلحاح في نشر الفقه الحركي وترويجه وإيصاله إلى أصحاب الإخلاص الذين يعوزهم هذا الفقه، فإن الدعاة كثير عددهم في كل مكان، أو قل: من سلم زمامه للدعوة والدعاة، ولكن هذا الفقه الحركي هو الذي ينقصهم، ولو علمناهم إتعاب الأنفس وإرهاقها، والصبر على سهل الليالي وحني الظهور لتدارس هذا الفقه، لوعي منهم جيل كثير من أصحاب الاستعداد يسدون الشاغر، ويحلون محل الضعيف.(1/151)
إن من أبرز التقصيرات المأخوذة على الحركة الإسلامية في حقبتها الماضية: تقصيرها في تدوين أوليات الوعي الحركي وفقه الدعوة، وإطنابها في شرح أنظمة الإسلام وجزئياته، حتى بتنا نرى هذا العدد الكبير الضخم من المنتسبين للدعوة دون أن يكون إنتاجهم وتغييرهم للواقع بالمستوى الذي يظنه من يراهم لأول وهلة، لفوات فنون العمل وأصول العمل الجماعي عنهم، وإنما يبدأ الاستدراك من هذه الحقيقة.
الاستدراك بالتأليف في فقه الدعوة.
والاستدراك بجمع المتناثر الذي ألف فيه.
والاستدراك بالتفتيش عما تملكه أجزاء الحركة الأخرى منه.
والاستدراك بتنسيق تدريسه وتعويد الدعاة على أخذه مأخذ الجد لا تصفحه في مطالعات عابرة.
وإنما يكون ذلك من خلال منهج تطويري شامل.
[16] الانتقاء يقي المصارع
شتان ما بين سلوك العقيدي وسلوك الفائر.
العقيدي له موازين محددة، يزن ويقيس ويمحص ويستنتج قبل أن يخطو.
والفائر يغضب ويندفع،ويسرع ويستعجل، فيتورط.
ولهذه الصفات الفردية أصداء وانعكاسات في المجموع، فالمجموع يندف اندفاعات عفوية بإلحاح من أعضائه، فتتبد القوى، ويكون الفشل.
إنه الاندفاع العفوي الذي يسير فيه المجموع بلا خطة، أو خطة لا تلائم الواقع وبلا هدف، أو بهدف غير مركز ولا واضح، وتتحمل الأماني والمثاليات والأحلام لجعله هدفا.
وهذا وصف مرعب في الحركات، يرغمها على التفتيش عن حلول تقي مصارع العفوية.
صعود الثقات رأس الوقاية
وأول الحلول يتمثل في تواصي قادة الحركة وجنودها بسمت من التشدد في تسليم مراكز التوجيه داخل الحركة، وتأمين صعود الثقات إليها، من أصحاب الإيمان والعلم والعمل.(1/152)
كذلك فإن صعود الثقات إلى مراكز التوجيه هو الذي سيؤمن وضوح الأهداف البعيدة في أذهان المخلصين الفائرين من جنود الدعوة الجدد الذين لم تعركهم التجارب، وهو الذي سيؤمن تفسير السياسات المرحلية لهم وإيضاح مسوغاتها، وفي كل هذا مساهمة أكيدة في التأمين ضد الإندفاع المستعجل، وضد الاندفاع غير الهادف.
والداعية حين ينظر الحالة الراهنة للحركات الإسلامية المنبثة في العالم الإسلامي، وحين يرجع إلى تاريخها، تتجلى أمامه عظم رعاية الله سبحانه لها في اختيار قادتها، فيس فيهم إلا إمام له قدم راسخة في العلم والصدق والإخلاص، لكن قد تجد لهم نوع تساهل في اختيار الأعوان دفعوا ثمنا غاليا في انشقاقات وفتن، أو في مواقف لينة، وكأن ذلك من تمام العناية الربانية أيضًا، فإنهم من خلال التساهل تعلموا التشدد، ومن معاناة التعامل مع الضعفاء تعلموا الحرص على الانتقاء، وليس مثل العلم التجريبي مصدر وعي.
تجارب أبدلتني غير ما خلقي
…………وتوسع المرء إبدالا تجاربه(1)
ومنه نوع ما هو بتساهل، ولكنه ضرب من المجازفة في الاعتماد على السذج الذين ينقصهم أسلوب العصر ويعوزهم الوعي السياسي، حتى لكأن الدعوة تئن من كثرة أخطائهم، وتنادي:
* تطاول همي، فابغني ذا نباهة(2)*
وإنه لهم طويل، يعرفه ويميزه المنغمس في العمل اليومي الحركي، فإن تعقد المجتمع الحاضر، وتعدد الأحزاب ونشاطها، والتخطيط اليهودي والماسوني داخل أقطار العالم الإسلامي، كل ذلك يتطلب نوعا من الدعاة المسلمين يزيدون على إيمانهم وإخلاصهم وعلمهم الشرعي نوعا من الوعي السياسي، والخبرة بالأساليب التنظيمية، والمهارة في التخطيط المتزن الملائم للواقع الذي نعيشه والمناسب للقوة التي نملكها، وهؤلاء هم وحدهم أصحاب النباهة الذين يبددون هموم الدعوة.
لا نفصل بين الإدارة والتربية
__________
(1) للبحتري في ديوانه 1/226.
(2) شطر من خريدة القصر 1/258 القسم العراقي للعماد الاصبهاني.(1/153)
وباطل ظن من يتوهم عدم وجوب شرط القدوة لمن يشتغل في مراكز الدعة التي ليس فيها توجيه تربوي مباشر، فالبعض يفصل بين المربين الدعاة وغيرهم ممن ينفذون الأعمال التي يتطلبها شمول الدعوة، لكن تحليل الظاهرة التربوية ينفي ذلك، فإنهم جزء مرئي من هذه الدعوة يقلده الجدد والأنصار، ولسان ناطق يسمعه هؤلاء فيتأثرون به. ولذلك لم يفهم السلف فصل وظيفة رجل الدولة الإسلامية عن التعليم والتربية، وكانوا يرون أنه رجل تربية أيضًا.
قال ابن تيمية رحمه الله في شرح معنى (كونوا ربانيين).
(قال مجاهد: هم الذين يربون الناس بصغار العلم قبل كباره، فهم أهل الأمر والنهي).
قال: (وذلك هو المنقول عن السلف في الرباني).
نقل عن علي قال: هم الذين يغذون الناس بالحكمة ويربونهم عليها.
وعن ابن عباس قال: هم الفقهاء المعلمون.
قلت: أهل الأمر والنهي هم الفقهاء والمعلمون.
وقال قتادة وعطاء: واحدهم رباني، وهم العلماء المعلمون).
ثم ختم فقال إنهم: (منسوبون إلى التربية) (1).
وإذن، فإن جميع من يساهم في أعمال الدعوة إنما هو قدوة يحتمل تأثيرها، ويجب أن يجوز شرط القدوة العملية.
دقة مركز القدوة
ومركز القدوة حساس دقيق جدًا، ويجب أن لا يوضع فيه إلا من كان مستعدًا للأخذ بالعزيمة، والبعد عن الرخص، وإلا من كان يغلب عليه الجد والزهد والتجرد، ويشتاق إلى التعب والبذل، لأنه إمام لمن حوله يقلدونه، ولابد أن يكون فعله أبلغ في التعبير عن عقيدته ومعاني دعوته من قوله، لأن المنظر أعظم تأثيرًا من القول.
ومن هاهنا، لما هم إمام مصر الليث بن سعد بفعل مفضول ينافي العزيمة قال له إمام المدينة يحيي بن سعيد الأنصاري: (لا تفعل، فإنك إمام منظور إليك) (2).
وقيل:
"من لم تهذبك رؤيته فاعلم أنه غير مهذب".
ومن لم ينعشك عبيره على بعد، فاعلم أنه لا طيب فيه، ولا تتكلف لشمه.
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 1/63.
(2) تهذيب التهذيب 8/463.(1/154)
والداعية الصادق تستمر هيبته الإيمانية في تعاظم، وتظل في تصاعد ما تصاعدت هيبته لله تعالى، وتعاظمت اهتمامات قلبه بدعوته، حتى يغدو منظره قاطعا لغفلة ناظره.
وقال الشافعي:
"من وعظ أخاه بفعله كان هاديًا".
وكان عبد الواحد بن زياد يقول:
(ما بلغ الحسن البصري إلى ما بلغ إلا لكونه إذا أمر الناس بشيء يكون أسبقهم إليه، وإذا نهاهم عن شيء يكون أبعدهم منه).
وقال بعضهم:
"للمزيد بلقاء كل صادق مزيد، وفد ينفعه لحظ الرجال كما ينفعه لفظ الرجال، وقد قيل: من لا ينفعك لحظة لا ينفك لفظه.
ثم شرح هذا المعنى اللطيف فقال:
(إن الرجل الصديق يكلم الصادقين بلسان فعله أكثر مما يكلمهم بلسان قوله، فإذا نظر الصادق إلى تصاريفه في مورده، ومصدره، وخلوته، وكلامه وسكوته، وانتفع بالنظر إليه، فهو نفع اللحظ، ومن لا يكون حاله وأفعاله هكذا فلفظه أيضا لا ينفع، لأنه يتكلم بهواه، ونورانية القول على قدر نورانية القلب، ونورانية القلب بحسب الاستقامة والقيام بواجب حق العبودية وحقيقتها).
وهذا من جيد الكلام.
ومثله من كله التابعين قول شهر بن حوشب:
(إذا حدث الرجل القوم فإن حديثه يقع من قلوبهم موقعه من قلبه).
وقول مالك بن دينار:
(إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما تزل القطرة عن الصفا) أي قطرة الندى عن الصخرة الملساء.
ويروي أنه قيل لعيسي عليه السلام:
(من أشد الناس فتنة؟
قال: زلة العالم، إذا زل العالم زل بزلته عالم كثير) (1).
__________
(1) كتاب الزهد لابن المبارك/520.(1/155)
فلكل هذا كان من فقه الدعوة دقة اختيار من يكون قدوة، ولا تساهل في الأمر، ولا نخدع أنفسنا فنسوغ التساهل تجاه البعض بعدم تسميتهم قدوات، وبوصف مهمتهم بغير وصف التربية، فإن كل من يتعامل مع الدعاة إنما هو قدوة لهم، من حيث إمكانية رؤيته وسماع قوله، ووجود تأثير السمع به، فإن إنضاف إلى ذلك إيحاء وصف الداعية بأنه من المربين زاد التأثير ولا شك، وتفتحت القلوب لقبول كلامه ومواعظه، فإن عضدها فعله فنعمت المواعظ منه، وإن لم تترجمها حياته اليومية معهم إلى أفعال فإنها لا تعدوا أن تكون هذرًا منفرًا.
(إن الموعظة أن لم تتأد في أسلوبها الحي كانت بالباطل أشبه، وأنه لا يغير النفس إلا النفس التي فيها قوة التحويل والتغيير، كنفوس الأنبياء ومن كان في طريقة روحهم، وإن هذه الصناعة إنما هي وضع نور البصيرة في الكلام، لا وضع القياس والحجة، وإن الرجل الزاهد الصحيح الزهد إنما هو حياة تلبسها الحقيقة لتكون به شيئا في الحياة والعمل، لا شيئا في القول والتوهم، فيكون إلهامها فيه كحرارة النار في النار، من واتاها أحسها.
ولعمري، كم من فقيه يقول للناس: هذا حرام، فلا يزيد الحرام إلا ظهورًا وانكشافًا ما دام لا ينطق إلا نطق الكتب، ولا يحسن أن يصل بين النفس والشرع، وقد خلا من القوة التي تجعله روحا تتعلق الأرواح بها، وتضعه بين الناس في موضع يكون به في اعتبارهم كأنه آت من الجنة منذ قريب، راجع إليها بعد قريب.
والفقيه الذي يتعلق بالمال وشهوات النفس، ولا يجعل همه إلا زيادة الرزق بالمال وشهوات النفس، ولا يجعل همه إلا زيادة الرزق وحظ الدنيا، هو الفقيه الفاسد الصورة في خيال الناس، يفهمهم أول شيء ألا يفهموا عنه) (1).
وبإيجاز: إن (الأسوة وحدها هي علم الحياة) (2).
ودعوتنا هي الحياة.
فالأسوة وحدها هي علم الدعوة.
وعلم الدعوة كله هو الأسوة الصادقة.
__________
(1) للرافعي في وحي القلم 2/201..
(2) للرافعي في وحي القلم 2/111.(1/156)
اختبر عليم اللسان..!
ولو تفحصنا مدى تطبيق هذا العلم المهم لوجدنا ثغرات كبيرة في تاريخ الحركات الإسلامية الحديثة كان يحصل فيها انخداع بالخطباء، وأصحاب الشهادات العالية، والمشاهير، وكانوا يدفعون إلى الصدارة من دون طويل تجريب لهم، وتقع الدعوة في ورطة ربطهم باسمها، ولا يلبث المعدن الضعيف أن يفضح نفسه أثناء ترغيب أو ترهيب أو سياسة حركية تقتضي ف قها لفهمها، فيكون النكوص.
إن الإيمان، وفقه الدعوة، وشدة الانغماس في العمل التجميعي والتربوي، ووضوح الطاعة،هي المحكمات التي يجب أن تتحكم في عملية الانتفاء والتأمير، ولا شروط الوظائف الحكومية، وأعراف المجامع الأدبية.
بل إن على الدعاة أن يجفلوا ويخافوا ويحذروا من يكون عليم اللسان، الذي يكثر التشدق، ويتكلف اختيار الفصيح، فإن النفاق والضعف يكثر في هذا الصنف، ويجب أن لا يطمئن الداعية إلى أحد بهذه الصفة إلا من بعد أن يضمر في نفسه امتحانه، فيراقبه مراقبة دقيقة مدة، ويكون توثيقه له من بعد تجربة، ومن بعد رؤية قرائن إيمان وصدقه.
وللداعية في ذلك سلف، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما خلف الأحنف بن قيس رضي الله عنه –وكان الأحنف متكلما لبقا داهية: أبقاه عمر معه في المدينة سنة يراقبه، ثم قال له:
( يا أحنف، قد بلوتك وخبرتك فلم أر إلا خيرًا، ورأيت علانيتك حسنة، وأنا أرجو أن تكون سريرتك مثل علانيتك، فإنا كنا نتحدث: إنما يهلك هذه الأمة كل منافق عليم.
وكتب عمر إلى أبو موسى الأشعري: أما بعد: فأدن الأحنف بن قيس، وشاوره، وأسمع منه) (1).
وكم يحيط بالدعوة في العالم الإسلامي اليوم من رجال يجب على قادة الدعاة امتحانهم، وكم هي حاجة الدعاة إلى مثل علم عمر.
كم من المتكلمين بالإسلام ترى الدعاية ترفعه، فإذا عاملته وجدته مصلحيا جاف القلب والروح.
وحقا قال عبد الوهاب عزام:
إن في الناس أوجهات لامعات
تملأ العين زهرةورواء
ويراها البصير صورة زهر
__________
(1) طبقات ابن سعد 7/94.(1/157)
لم تهبها الحياة عطرا وماء(1)
ولمثل هذا دأب السلف الصالح على كثرة التوصية بضرورة مثل هذا الاختيار، كقول سيد التابعين الحسن البصري:
(اعتبروا الناس بأعمالهم ودعوا قولهم، فإن الله لم يدع قولا إلا جعل عليه دليلا من عمل يصدقه أو يكذبه، فإذا سمعت قولا حسنا فرويدا بصاحبه، فإن وافق قوله عمله فنعم، ونعمة عين، فآخه، وأحببه، وأودده، وإن خالف قولا وعملا فماذا يشبه عليه منه، أو ماذا يخفي عليك منه؟ إياك وإياه، لا يخدعنك) (2).
إنها الوصية القديمة، ولكن القلوب تغفل، وشهوة الوصول السريع، أو شهوة التكاثر بالأنصار، تلهي، وتدعو إلى التجاوز عن العلم الموروث.
البدعة ضعف أيضًا
وضعف الضعيف يكون من بدعة كما يكون من ذنب، هذا ما تعارف عليه العلماء منذ القدم، حتى إنهم كانوا ليهجرون الأخ الشقيق إذا اعتقد ببدعة، مثل علي بن حرب بن محمد الموصلي، هجر أخاه أحمد بسبب قوله أن لفظه بالقرآن مخلوق، مع ثقته وصدقه،(3) ومع سلامة قوله هذا، واشتهاره عن البخاري أيضًا، ولكنه أنكر عليه لقرب العهد من بدعة خلق القرآن، وأرادوا أن لا يدندن أحد بما يقرب من ألفاظ المعتزلة ويزيد حيرة العامة.
ولكن أدعياء وحدة الأمة في هذا العصر يدعون إلى التجاوز عن معاني البدعة، وسري هذا الوهم الدعاة، واسقطوا أمر البدعة كعامل من عوامل التمييز، فوقعوا في الخطأ.
إنه خلق جميل أن تعطف على المبتدع، وأن تنصره على كافر، وترفع الظلم عنه، وتقف معه في وجه من هو أكثر بدعة منه، لكنه أمر خطر أن تفتح له صفوف الدعوة قبل توبته، وأن تؤمره قبل سلامته، وأن تحبه قبل غسله الأدران التي علقت بعقيدته، فإنه ما أوهى أمر الأمة إلا البدع، كما قال الفضيل بن عياض:
(من أعان صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام).
وقال: (من أحب صاحب بدعة: أحبط الله عمله، وأخرج نور الإسلام من قلبه).
__________
(1) ديوان المثاني/81.
(2) الزهد لابن المبارك/26.
(3) تهذيب التهذيب 1/23.(1/158)
إن الدعة للأخذ بيد المذنب والعاصي في تصرفاته السلوكية، إذا كان أصل الإيمان في نفسه: أهون بكثير من التعاون مع المبتدعة حال تمسكهم ببدعهم، والمذنب أقل ضررًا من المبتدع من وجوه، منها:
(أن المذنب إنما ضرره على نفسه، وأما المبتدع فضرره على الناس.
وفتنة المبتدع في أصل الدين، وفتنة المذنب في الشهوة.
والمبتدع قد قعد للناس على صراط الله المستقيم يصدهم عنه، والمذنب ليس كذلك.
والمبتدع قادح في أوصاف الرب وكما له، والمذنب ليس كذلك.
والمبتدع مناقض لما جاء به -صلى الله عليه وسلم- والعاصي ليس كذلك.
والمبتدع يقطع على الناس طريق الآخرة، والعاصي بطيء السير) (1).
من فقه الفضيل في العمل
إن حذرالعمل الجماعي الإسلامي من المبتدعة أصبح قاعدة تؤكد نفسها يومًا بعد يوم.
وإنها لقاعدة قديمة، عمل بها الفضيل بن عياض، وأوجزها في كلمات رائعة فقال:
(لأن آكل عند اليهودي والنصراني أحب إلي من أن آكل عند صاحب بدعة، فإني إذا أكلت عندهما لا يقتدي بي، وإذا أكلت عند صاحب بدعة: اقتدي بي الناس.
أحب أن يكون بيني وبين صاحب البدعة حصن من حديد، وصاحب البدعة لا تأمنه على دينك، ولا تشاوره في أمرك).
إن هذا القول القديم، ترجمة كاملة للمعنى الذي نقصده، ولمبدأ التشدد في الانتقاء، صاغة الفضيل ي مثل من المؤاكلة، تقريبا للفهم.
أستر سمعة الإسلام
فقد بان إذن، أن التشدد في الانتقاء هو الحل الأسياسي للتأمين ضد الاندفاعات العفوية، وإن أجتزاء الحركة الإسلامية مدعوة إلى الاستدراك السريع في هذا المجال.
بل الحق أن الانتقال إلى هذا التشدد ستر واجب لسمعة الإسلام اليوم، كما قال الزاهد الوزير العباسي ابن هبيرة الدوري السامرائي لبعض من يأمر بالمعروف:
(اجتهد أن تستر العصاة، فإن ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام، وأولى الأمور: ستر العيوب) (2).
__________
(1) الجواب الكافي لابن القيم/127.
(2) ذيل طبقات الحنابلة 1/274.(1/159)
ومن أهم أوصاف الستر الذي يطلبه ابن هبيرة: أن تحرم أعداء الإسلام من فرصة الإشارة إلى مثل هؤلاء الضعفاء، والتشهير بالدعوة من جراء تصديهم لأمورها، وكلما دفعت التقي النقي إلى الظهور دون الضعيف والمصلحي والمبتدع: كنت أكثر صونا لسمعة الإسلام.
بل ينبغي ما هو أشد من هذا، فإنه من الواجب على الثقة أن يفوت الفرصة على الضعيف إذا جالسه بقصد أن يقال: جالسه الثقة فلان من الدعاة فهو ثقة، وإنه لو لم يكن ثقة لما جالسه.
وشبيه بهذا ما أخرجه الترمذي عن أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال:
(كان اليهود يتعاطسون عند النبي –صلى الله عليه وسلم- يرجون أن يقول لهم: يرحمكم الله. فيقول: يهديكم الله ويصلح بالكم) (1).
فلو قال لهم: يرحمكم الله، لقالوا للمسلمين: لو كنا ضالين لما دعا لنا بالرحمة.
وأيضًا فإن تنظيمنا ما هو بطبيب يداوي، وإنما هو مستدرك يغتنم الفرص قبل أن يحول طول تسلط الطغيان سلبية المسلمين إلى استخذاء دائم، ولذلك وجب عليه الانتقاء والتخير للأذكياء الشجعان، ومنع الجبناء وضعاف الشخصية وقليلي الذكاء من دخوله، توفيرًا للجهود التربوية، وإسراعًا في تحقيق الغايات، مع التعويض بتعاون معهم خارج عن الالتزامات الدقيقة.
وليس في هذا المنع عدوان على هؤلاء كما يظن البعض، ولا بخس لحقوقهم، ولا منع خير، وإنما هو باب من التقوى في أمر الدعوة توجبه المصلحة، وتؤكده التجارب، ولهؤلاء الضعاف إسلامهم، ولا نبخل عليهم بحبة ونصيحة، ولكن أمر الدعوة شديد لا يصلح له إلا الأشداء الأذكياء، فمنعنا تقوى وانتقاؤنا عزم، كما قال الشاعر:
منعت، وبعض المنع حزم وقوة……… صنيعة تقوى تلك ما دمت ناصحة
فبعض المنع، وسد الأبواب بوجه الضعفاء، إنما هو حزم وقوة تحركهما التقوى، من دون غلو في اتهام الناس، أو سوء ظن، أو شطط في التعامل.
أنت يوسف هذه الأحلام
__________
(1) سنن الترمذي 10/198..(1/160)
إن تجمعًا لا ينتقي أعضاءه قد ينهار، لا بأول عاصفة يتعرض لها، بل بأول نسمة خفيفة تفجؤه.
وهذا تعبير له تعبير، كما يقول الإمام البنا رحمه الله:
(وأنت يوسف هذا الأحلام، فإذا راقك ما نحن عليه فيدك مع أيدينا لنعمل سويا في هذا السبيل، والله ولي توفيقنا وتوفيقك)(1).
أنت يوسف هذه الأحلام أيها الغيور.
وبدونك يبقى هذا الفقه أحلامًا، وأنت أنت الذي عندك تأويلها العملي وتطبيقها الواقعي.
فدع السلبية، وبادر من فورك...
واخلع ثياب الأسى واليأس مرتديًا
ثوب الجهاد نشيطا غير كسلان
وأتقن الموت فنا كيف تجرعه…
إن لم يكن منه بد غير خشيان(2)
[17] تركيز لا تكاثر
كان في تدقيق الانتقاء ما يعصم من قواصم العفوية.
وتكمن العاصمة الثانية في تجميع متناسب مع جهود المربين، بحيث يمكن إسماعهم جميعا الكلام الموجه، بتركيز مؤثر، ومنع التأثيرات الخارجية عنهم.
ولا شك في صعوبة هذا الحل الثاني.
ويقصد بالصعوبة: صعوبة (السيطرة) على الرغبات النفسية الأصيلة في كل إنسان في حب (الثراء) في كل شيء، مما أشار إليها القرآن الكريم بإجمال في قوله تعالى: (ألهاكم التكاثر).
فالإنسان يحب الثراء الكمي العددي، في المال، والعلوم، والبنين، والأنصار، في كل شيء.
وهي نزعة أو غريزة لا يمكن السيطرة عليها إلا بالتربية العميقة.
وخطورة إهمالها تتأتي من أن إشباع الغريزة يؤدي إلى حصول (النشوة) في الإنسان، والنشوة حالة من حالات النفس تؤثر على العقل تأثيرًا سلبيًا، فتجعله في ركود.
إن النشوة ضد الخوف.
وفي النفس الإنسانية يقترن الاطمئنان مع النشوة، والحذر مع الخوف.
والمعروف أن العقل أقصى ما يكون تحفزًا واشتغالا وشحذًا في حالة الحذر.
__________
(1) رسالة دعوتنا/ مجموعة الإمام/ 122..
(2) ليوسف القرضاوي/ مجلة التربية الإسلامية 5/218..(1/161)
ومن هنا تصاحب النشوة اندفاعات غير مدروسة، يشترك فيها الجميع، القادة وتلاميذهم، لأن الإحساس بالثراء يولد الاطمئنان وإيحاءات الضمان.
معارك النفس
إن هذا التقرير يؤكد ما قلناه من صعوبة الحركة التي تخوضها الدعوة، فإن ميدان المعركة هو النفس الإنسانية بكل تعقيداتها ومتناقضاتها.
أنت لا تتعامل مع أحجار صلدة، ولا مع أصحاب طهر ملائكي.
أنت تعيش وتتعامل مع نفس إنسانية، فيها الغرائز، غرائز حب البقاء، وحب التكاثر والثراء، وإشباع الشهوات الجنسية، وفيها النزعات: نزعات الثأر، والحذر، والدفاع عن عقيدتها، وحب شيوعها.
والمجتمع الذي أمامك هو مجموع هذا الغرائز والنزعات المسمى بـ(المجتمع) فإن الفشل يصيبك حتمًا، وإذا غالطت نفسك وتجاهلت هذه الغرائز والنزعات فلن يضير وجودها شيء، وأنت تضار.
ستبقي هي لأنها وجدت بإذن الله لتبقى، أما أنت فستزول وتخونك حساباتك وتقديرات لأنك خالفت الفطرة.
إن النفس الإنسانية هي ميدان كل هذه الانقلابات الاجتماعية والسياسية الكثيرة المتواصلة التي يحدثنا عنها التاريخ القديم والحديث.
اندفاع وراء إشباع البطون، أو إشباع الشهوة الجنسية أو طلب الترف.
اندفاع ثأر ممن سلبها أرضها أو نساءها.
اندفاع وراء إشاعة عقيدة اعتقدتها، أو محاربة من يخالف هذه العقيدة، بالمفهوم الواسع للعقيدة، من مثل وقيم، حقة أو باطلة.
أنه اندفاعات مادية ومعنوية، قد تجتمع وقد تنفرد، هؤلاء هم البشر.
إن بعضهم قد وجد في نفسه المقدرة على توجيه الآخرين نحو قسم من هذه التصرفات التي تساعد عليها الغرائز والفطرة، فسيمنا عمله هذا: (تربية).
إن معارك السياسة والحروب صورة لمعارك النفس.
ألهاكم التكاثر بالأمس: فاتزنوا
وإذن، فإن معركتنا معركة تربوية، أي أنها تقوى وتشتد كلما تعمقت التربية، وأتقن المربي عمله، وتخبوا جذوتها كلما فترت التربية، وكانت سطحية.(1/162)
أي أن الجهود التربوية لعدد محدود من القادة المربين إذا تركزت على التلاميذ فإنها تكون أعمق تأثيرًا فيهم كلما قل عددهم، بتناسب طردي، وتفتر ويقل تأثيرها كلما زاد عددهم.
ومع هبوط كمية التأثير يحصل الاندفاع العفوي غير الهادف، ثم القاصمة والمصرع.
وإذن، فإن من صالح معركتنا أن لا يندفع الصنف القيادي المتولي لعملية التربية في تجميع عدد من التلاميذ أكبر مما تكفي له جهودهم التربوية، ما دامت الدعوة ف ي مراحلها الأولى، ولا يكون التوسع العددي إلا في المراحل المتقدمة بعدما نضمن وجود تأثير تربوي غير مباشر يأتينا عن طريق وسائل الإعلام الدعوية، من كتب وصحافة وأشرطة مريئة وصوتية، وعن طريق التحرك الواسع المعلن لبعض قادة الدعوة ومفكريها وخطبائها.
وهذا هو الحل الثاني للوقاية من مصارع العفوية يمليه تحليل الظاهرة التربوية.
ولقد شهد تاريخ الحركة الإسلامية بالأمس القريب تكاثرًا بالعدد على حساب النوعية أرهق والهي، وأجبر دعاة اليوم على الإتعاظ، وما اتزان التوسع إلا وصية الغد.
تقول: إنها وصية الغد، لما رأينا من نسيانها، وإلا فإنها الوصية القديمة للإمام البنان رحمه الله، شدد عليها منذ سنة 1938 في انعقاد المؤتمر الخامس، في صورة توضيح لأصناف الرجال، أمام أعباء العمل، وعدم إغناء الخيال من الصواب شيئا، وإنما هي (الصفوة) فحسب -كما سماها الإمام، واستعارها السيد من بعد- تحمل أعباء الجهاد.
يقول:
(أريد أن أكون صريحا معكم للغاية، فلم تعد تنفعنا إلا المصارحة: إن ميدان القول غير ميدان الخيال، وميدان العمل غير ميدان القول، وميدان الجهاد غير ميدان العمل، وميدان الجهاد الحق غير ميدان الجهاد الخاطئ.(1/163)
يسهل على كثير أن يتخيلوا، ولكن ليس كل خيال يدور بالبال يستطاع تصويره أقوالا باللسان، وإن كثيرين يستطيعون أن يقولوا، ولكن قليلين من هؤلاء يثبتون عند العمل، وكثير من هذا القليل يستطيعون أن يعملوا، ولكن قليلا منهم يقدرون على حمل أعباء الجهاد الشاق، والعمل العنيف، وهؤلاء المجاهدون، وهم الصفوة القلائل من الأنصار، قد يخطئون الطريق ولا يصيبون الهدف إن لم تتداركهم عناية الله، وفي قصة طالوت بيان لما أقول:
فاعدوا أنفسكم، وأقبلوا عليها بالتربية الصحيحة، والاختيار الدقيق، وامتحنوها بالعمل، القوى البغيض لديها، الشاق عليها، وافطموها عن شهواتها ومألوفتها وعاداتها)(1).
وورث سيد رحمه الله هذا الفقه، فجعله قلقا قبيل وفاته إزاء ما يري في السودان من التوسع وامتلاء الشوارع بمظاهرات المسلمين، فأوصى من زاره من دعاة الإسلام في السودان فقال:
(يجب ألا يشغلكم إقبال الجماهير عن تنظيم صفوفكم الداخلية وإعداد رجال يواجهون الشدائد ويثبتون)(2).
والحقيقة أن أهمية الصف الداخلي المتين لا تنحصر في معطيات صفته التنظيمية وسهولة استثمار طاقاته المنسقة، بل في تحقيقه (المجتمع التربوي) الذي يحتضن الجديد المتربي ويريه زيادة المناظر الإسلامية ويحجب عنه رؤية الجاهلية والجاهلين وسماع أقوالهم، فيبعد عن التأثر بتربية أخرى غير إسلامية، ولمثل هذا أوجب الغزالي رحمه الله المسارعة إلى كبت الفسق وحجبه لئلا يؤثر منظره في نفوس المسلمين، وقال:
(إن مشاهدة الفسق تهون أمر المعصية على القلب، وتبطل نفرة القلب عنها)(3).
__________
(1) المؤتمر الخامس/ مجموعة الإمام/ 258.
(2) كتاب الشهيد سيد قطب/91.
(3) إحياء علوم الدين 2/172.(1/164)
وهذا يعني أيضا أن بقاء بعض الفسق - بمعناه الشرعي- عالقا بالأشخاص الذين تجمعهم، لعجز كفاياتنا وطاقاتنا التربوية التوجيهية عن إزالته عنهم وتحويلهم عنه لكثرة عددهم، سوف يؤدي إلى احتمال سريان عدواه إلى العناصر النظيفة، لما في العيش الجماعي من المشاهدة التي تؤدي إلى التقليد.
وعلى ذلك، فإن جولات الداعية الضرورية بين الجماهير العامة مثلما تؤدي إلى تربيته عمليا، وإلى إغناء الدعوة بالعناصر الجديدة التي يكتشفها، فإنها تؤدي أيضًا إلى احتمال تهوين أمر المعصية على قلبه إذا انقطع إليهم انقطاعا طويلا، لكثرة المعاصي في حياة العامة، فوجب تردده على مجتمع الدعاة الصافي ليري من مناظر الإيمان ما يضاد مناظر الفسق، ويكون جائلا بين هذا المجتمع العام، وبين هذا المجتمع الخاص الذي يرفق قلبه إن أضر به الأول، وهذا ما يؤدي بالتالي إلى الحرص على نقاؤة هذا المجتمع الخاص ليؤدي مهمته التربوية هذه لكل داعية متجول بين العامة حين يفئ إليه، والنقاوة لا تحصل إلا باتزان التوسع.
فكما أن التوسع السريع يستهلك الطاقة الحاضرة، فإنه يضعف الناتج القديم.
دور التجمع في التربية التكميلية
والداعية الحر، المتفاعل مع التطورات والحاجات اليومية للحركة الإسلامية، يري عمر بن الخطاب رضي الله عنه واقفا أمامه في كل لحظة، وهو يدعو دعاءه المشهور:
(اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر، وعجز الثقة).
فترتعش عضلاته رهبة، ويهفو قلبه رغبة، ويسارع ليتخذ من الإمكانيات التربوية العمل الجماعي، ما يرضي به ظن أبي حفص الفاروق، فيعكف على توعية الأمين العاجز الساذج، وترقيق قلب ذي الجلادة الشغول المتهاون بأمر بعض الأعمال الإيمانية، ليزداد -بهذا السد للنقص- عدد الثقات الذين يجمعون بين الوعي والجلادة.(1/165)
وهذا العنصر القوى الأمين هو خير من ينهض بأعباء الدعوة، ولا بد من تكميل صف ة الجهاد في المؤمن، وتعميق إيمان المجاهد، كما قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ).
قال ابن تيمية:
(عقد الله سبحانه الموالاة بين المهاجرين والأنصار، وبين من آمن من بعدهم وهاجر إلى يوم القيامة: والمهاجر من هجر ما نهي الله عنه، والجهاد باق إلى يوم القيامة.
فكل شخص يمكن أن يقوم به هذان الوصفان، إذ كان كثير من النفوس اللينة يميل إلى هجر السيئات دون الجهاد، والنفوس القوية: قد تميل إلى الجهاد دون هجر السيئات.
وإنما عقد الله الموالاة لمن جمع بين الوصفين، وهم أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- الذين آمنوا به إيمانًا صادقا)(1).
وتمكين كل داعية من الجمع بين الوصفين، وتمكين القضية الإسلامية من استثمار حسنات الطائفتين، مهمتان أساسيتان لتربيتنا الحركية.
فللأول: صاحب الإيمان، القاعد، أو صاحب الوعي ذي القلب القاسي: بما تتيحه التربية من تكميل نقصه على يد من سبقه من الدعاة.
وللقضية الإسلامية: بما يكون من تنسيق جهود الطائفتين بنوع تكامل وتعادل، وجمعها، وتخطيط صرفها لتؤدي فائدتها مجتمعة مركزة.
ليس من الجهد ما يهدر، ولكن النجاح قد يتأخر
وتضيق الأرض بمتحمسة الدعاة حين نلح في بيان اتزان التوسع في وقت طال فيه المسير، ويرون أن هناك ثمة فشلا يصيب الدعوة إن تخلت عن سباق العدد.
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، لابن تيمية/49.(1/166)
ولا ننكر أن أخطاء الماضي قد حرمت الدعوة في أماكن متعددة من العالم الإسلامي من فرص توسع وانبثات مأمون في محيط مستعد لتقبل الكلمة، وأن أحزاب الضلال قد استغلت برود دعاة الإسلام فتقدمت بمراحل عليهم، ولكن الخطأ لا يستدرك بمثله، وتقييم فشل الدعوة ونجاحها في حقبة معينة لا يعتمد على إحصاء من استطاعت نقلهم من آلاف من الشباب وعصمتم من الفجور والزيع وإن لم يدخلوا صفوفها، لأسباب مختلفة، وهذا في ميزان الإسلام عظيم.
وطالما كانت الدعوة كالواحة في وسط الصحراء الموحشة المقفرة حين تأوي إليها جموع المسافرين فينعمون بظلها، ومائها ويأنسون بأهلها، وكثير عدد أولئك الشباب الذين احتضنتهم الدعوة في مراهقتهم، واجتازت بهم فترة الشباب بسلام، ورفلوا في ظلها، وأنسوا بأهلها، وإن أقعدهم الترغيب والترهيب عن مواصلة السير معها.
وكم نقلت الدعوة شاكًا إلى اليقين، ومؤمنا جاهلا إلى العلم، وهذا في الميزان الشرعي عظيم.
وكم أوضحت الدعوة من شك، وردت من تهمة، وأشادت بمناقب مظلوم، وكل ذلك في الميزان عظيم.
وإذن، فإننا يجب أن لا بالمنظار القاتم الذي يولد اليأس في نفوس العاملين، فإن الدعوة لم تفشل، وينتظر من عمل فيها أجر مدخر كبير إن شاء الله مثلما ينتظرهم جني ثمار كثيرة زرعوا بذورها بالأمس.(1/167)
إن أناسًا كثيرين، بتأثير عمل الدعاة الماضي والحاضر، تحتدم في نفوسهم معاني الإيمان والجاهلية، هم الآن في صراع نفسي داخلي عنيف غير منظور، أيؤمنون ويقرون بما يقول دعاة الإسلام أم يبقون على ما هم عليه؟. وهؤلاء مصيرهم إلى الإيمان حتما حين يتضح الحق أمامهم اتضاحا كافيا، في حادثة تهزهم هزا، وتخضهم خضا، فيتمحضون، وينخرق حجاب الران عن القلب، فيصل إليه النور، تماما كالإسلام المفاجئ المأثور عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، كعمر حين دنا من الصفا، فسمع أخته تتلو القرآن، فصفا، أو حمزة حين رجع من الصيد، فسمع كلام المؤامرة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فآمن وكسر القيد.
هل يقال إن كل أسباب إيمانهم جاءتهم في لحظة واحدة؟
كلا، فإن معاني الإيمان كانت تحتدم في نفوسهم، وكان هناك صراع نفقسي ظل يتنامي حتى فاض سيل الخير في تلك اللحظة.
ولئن حرصنا اليوم على عمق التربية، والاقتصار على الصفوة، واتزان التوسع، فللوفاء بحاجة جحافل أهل الاحتدام هؤلاء يكون هذا الحرص، وإنهم لفي سير إلينا، وعما قريب يكون الوصول، والحادثة الهازة الخاضة خبيئة عند الله، يرحم الله بها الصابرين، ومن لا يؤمن بمثلها فهو بحاجة إلى نظر في السيرة والتاريخ جديد...
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(1/168)