بق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فهذه هي المجموعة الثالثة من كتاب:
=المنتقى من بطون الكتب+
ولقد يسر الله جمعه وانتقاءه من كتب عديدة، وفي موضوعات متنوعة، ولمؤلفين مختلفين، وفي عصور متباينة.
ويُهدف من وراء ذلك أمور كثيرة منها: التعريف ببعض الكتب، وبيان ما تضمنته من علوم خصوصاً إذا كانت نادرة، أو قليلة الانتشار.
ومنها: الوقوف على مناهج بعض المؤلفين، وطرائقهم في الكتابة والتأليف خصوصاً وأن هذه المجموعة ستتضمن تعريفاً موجزاً بالمؤلفين ومناهجهم.
ومنها: _ وهو أعظمها _ إنهاض الهمم، وتوسيع المدارك، وزيادة الإيمان، وترسيخ الفضيلة، وإبهاج النفوس، والرقي بالأخلاق؛ وذلك من خلال النقول التي تتضمن حكماً بالغة، أو مواعظ حسنةً، أو تجاربَ ناضجةً، أو نظراتٍ ثاقبةً، أو أفكاراً ساميةً، أو عباراتٍ رائعةً رائقةً، أو تحريراتٍ عاليةً، أو أساليبَ بارعةً، أو معانيَ لطيفةً، أو قصصاً نادرةً مؤثرة، أو تعريفاتٍ جامعةً مانعة، أو غير ذلك مما جرى مجراه، مما يفيد الإنسانَ في معاشه ومعاده.
فأسأل الله _ بأسمائه الحسنى وصفاته العلى _ أن يجعل هذا العمل مباركاً نافعاً، خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجزي خير الجزاء من أعان على إخراج هذا الكتاب؛ إنه سميع قريب.
وإلى تلك النقول، والله المستعان، وعليه التكلان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
محمد بن إبراهيم الحمد
ص.ب 460
الرمز البريدي: 11932
الزلفي: 8/6/1425هـ
www.Toislam.Net
البريد الإلكتروني:
alhamad@toislam.net
=تعريف بالمؤلف وبالكتاب+:
هو أبو عبدالله محمد بن علي الحكيم الترمذي الحافظ المحدث المتوفى سنة320.
وله عدد من المؤلفات منها: منازل العباد من العبادة، وحقيقة الآدمية، والمعرفة، وإنبات العقل، والاحتياطات وغيرها.
ومنها هذا الكتاب الذي بين أيدينا وهو (أدب النفس).(1/1)
وهذا الكتاب يبحث في النفس الإنسانية وما يعتريها من الهوى، والشهوة، والجهل، وما تتأدب به النفوس، وتتهذب، وتصبح راضية مطمئنة.
وهذا الكتاب من القطع المتوسط، وعدد صفحاته 126، وقد قام بتحقيقه والتعليق عليه د. أحمد عبدالرحيم السَّايح ، وهذه الطبعة هي الأولى 1413هـ _ 1993م، وقد نشرته الدار المصرية اللبنانية.
_ =النقولات المنتقاة+: قال الحكيم الترمذي ×:
1_ إن الله أنشأ خلقه؛ لإظهار ربوبيته، ولبروز آثار قدرته، وتدبير حكمته، وليكون ذكره ومدحه مردداً على القلوب وعلى ألسنة الخلق والخليقة، لما علم في غيبه، فأنبأنا في تنزيله، فقال _جل ذكره_: [وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ] الجاثية:22.
فَأَعْلَمَنا لِمَا خلق، فقال: [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] الذاريات:56. فقال أهل اللغة: إلا ليوحدون، ومثل ذلك قوله _ تعالى _: [إِيَّاكَ نَعْبُدُ] الفاتحة:5 يعني نوحد. ص11
2_ وأباح ذكره على كل حال؛ تقديماً له على سائر الحالات وأعمال البر، وحصر ما سواه من الأفعال في أوقات مخصوصة، مع ما ذكر في الكتاب، وجرت به الأخبار عن الرسول " بتفضيل الذكر على سائر الطاعات؛ لأن في الذكر مدحه. ص12
3_ وندب العباد في غير آية من كتابه إلى أن ينشروا ذكره، ويذكروا عنه جميل صنائعه، فقال _تعالى_: [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا] الأعراف:180
في كل ذلك يحثهم على مدحه، وذكره بالجميل، والثناء الحسن، وفي كل اسم له مدحه، وجميل ذكره. ص13(1/2)
4_ ثم إن الله _ تعالى _ دعاهم إلى أن يوحدوه قلباً وقولاً وفعلاً؛ فمن قبل ذلك منه جملة، فاستقرت المعرفة بأنه واحد، فاطمأن به قلبه، وترجم به لسانه عما في ضميره، وعزم على الفعل مائلاً له _ فقد آمن به، وهذا كله من العبد في وقت واحد، فركب فيه الشهوات والهوى، وجعل للشياطين فيهم وساوس يجرون فيهم مجرى الدم، ويغوصون غوص النون في البحر. ص14
5_ وجعل القلب ملكاً على الجوارح، فالشهوة تحرك البدن الساكن، وتزعج القلب، والشيطان يمنِّيه، ويزين له، ويَعِدُه، والهوى يميل به، ويقوده؛ فالمؤمن قلبه مطمئن بالإيمان، والتوحيد ظاهر على لسانه.
فإذا جاء وقت فعل الأركان عمل فيه الشهوات، وزين له العدو، ومال به الهوى حتى يفعل الفعل الذي يخيل إليك في الظاهر أنه لم يؤمن بعد، فهو موحد بالقلب واللسان.
ولكن تغلبه الشهوة وقوتها، فبظلمة هذا الهوى، ووسوسة هذا العدو والتزيُّن غلب على القلب، لا على ما في القلب، مما في القلب من المعرفة، فالقلب به مطمئن، ولكن صار مأسوراً مقهوراً، وهو أبداً لمن غلب عليه، وقهره. ص14، 15
6_ فمَن نَوَّرَ الله قلبه بنور الإيمان قويت معرفته، واستنارت بنور اليقين، فاستقام به قلبه، واطمأنت به نفسه، وسكنت، ووثقت، وأيقنت، وائْتَمَنته على نفسها، فرضيت لها به وكيلاً، وتركت التدبير عليه. فإن وسوس له عدو بالرزق والمعايش لم يضطرب قلبه ولم يتحير؛ لأنه قد عرف ربه أنه قريب، وأنه لا يغفل، ولا ينسى، وأنه رؤوف رحيم، وأنه رب غفور رحيم، وأنه عدل لا يجور، وأنه عزيز لا تمنع منه الأشياء، وأنه يُجِير ولا يُجار عليه. ص16، 17
7_ فعامة أهل التوحيد قد أيقنوا بهذا، إيماناً به، وقبولاً له، ولم يستقر ذلك الإيمان في قلوبهم حتى إذا كانت وقت الحاجة اضطربت قلوبهم، وتحيرت، واشتغلت عن خالق الأشياء ومالك الملوك.(1/3)
وأهل اليقين الذين قد استنار الإيمان في قلوبهم فسكنت القلوب، واطمأنت النفوس إلى ضمان ربها، وقربه منهم، وقدرته عليهم. ص17
8_ وإنما تقع حلاوة صنع الصانع في قلبك على قدر حبك للصانع، وإنما تحب الصانع على قدر معرفتك بقدره، وكلما كنت به أعلم، وكان هو أرفع منزلة في الأشياء كان قدره عندك أعظم؛ فهو إليك أحب. ص26
9_ قال له القائل: وما رياضة النفس؟ وكيف يكون ذلك؟ قال: يسير على من يسره الله ووفقه؛ فأما الرياضة فهي مشتقة عربيَّتها من الرضِّ، وهو الكسر، وذلك أن النفس اعتادت اللذة والشهوة، وأن تعمل بهواها؛ فهي متحيِّرة، قائمة على قلبك بالإِمْرة، وهي الإمرة بالشهوة، فيحتاج إلى أن يفطمها، فإذا فطمها عن العادة انفطمت. ص34
10_ ويقال في اللغة: راض، ورضَّ، بمعنى واحد، فمن قال: رضَّ، فلما أدغم الألف في الضاد شدَّد، ومن أبرز الألف خفَّف الضاد، فقال راض، فالرَّض الكسر، فقيل في الأشياء المكسورة: رضَّ، وقيل في الأخلاق المكسورة: راض؛ فهذه النفس إذا فطمتها انكسرت عن الإلحاح عليك، ومنازعتك في الأمور؛ فإن النفس اعتادت اللذة والشهوة، وأن تعمل بالهوى، فإذا فطمتها عن العادة انفطمت، ألا ترى أن الصبي إنما اعتاد ثدي أمه،كيف سكوته بذلك الثدي، إنما يحنُّ إليه إذا فقده، وكيف يفرح به إذا وجده. فكذلك النفس الشهوانية، فإذا فطم الصبي انفطم؛ حتى لا يلتفت إلى الثدي بعد ذلك؛ لأنه وجد طعم ألوان الأطعمة، فلا يحن إلى اللبن، كذلك النفس إذا وجدت طيب اليقين، وروح قرب الله _ تعالى _ وحلاوة اختيار الله _ عز وجل _ وجميل نظره لها، لم تَحِنَّ إلى تلك الشهوات. ص34، 35
11_ قيل له: فبماذا يوجد اليقين؟ قال: بطهارة القلب؛ لأن اليقين طاهر؛ فيطهر مكانه ومستقره.(1/4)
قيل له: وما طهارته؟ قال: ترك ما اضطرب القلب عليه ورابك منه؛ تورُّعاً دق أو جل، ثم تطهره من التعلق بالشهوات والاشتغال بها، فإذا أنت فعلت ذلك صقلت قلبك فصار لك مرآة بالتورع، فكلما تفكرت شيئاً من أمر الآخرة، تمثَّل ذلك في مرآتك، حتى تصير الآخرة لك معاينة. ص35، 36
12_ ألا ترى أن البازي كيف كان نفاره من الآدميين في الجبال الشامخات، فلما رُبَّ وأُمْسِكَ على التربية أنس بصاحبه، وأخذت التربية بقلبه، واعتاد السكون معه؛ فنزع عن النفار، وترك همَّ الطيران، واطمأن إلى صاحبه، حتى إذا أرسله وحثَّه على الطيران طار، فأصاد وأمسك عليه صيده؛ تحرِّياً لموافقته مولاه، ثم إن دعاه من الطيران رجع، وآثر هواه على هوى موافقة نفسه، فأجابه منقضَّاً إلى حبله وسباقه.
أفلا يحق على مؤمن أبصر هذا أن يموت كمداً وعبرة، وأسفاً على فوت هذا من نفسه أن يكون طيره أسمع له وأطوع، وأشدَّ تحرِّياً لموافقته، وألزم لنصيحته من العبد المؤمن لربه؟ ص37، 38
13_ فكذلك يصير العبد إذا راض نفسه بترك الشهوات، وقطع الأسباب، وانقطع عن اللذات، ومجاهدة الهوى، وامتناعه عما يريد حتى تذلَّ، وتنقمع؛ فحينئذ ينقاد القلب والعقل، وتستقيم في سيرها على حدِّ ما أمر به، ولا تهاب أحداً في أموره، ولا تخاف فيه لومة لائم. ص41
14_ فإذا غفلت عن النفس بعد رياضتها فلا تأمن أن تعود إلى بعض عاداتها ما دامت الشهوات منها حية، والهوى قائماً، ألا ترى أن القوس إذا تُرك استعمالها وتعاهدها وعتقت(1)، وكيف يأخذ البيت الأسفل من البيت الأعلى؟ فكلما رميت بها سهماً أخطأ الغرض؛ كذلك النفس إذا تركتها حتى تقوى شهواتها، ويشتد حرُّها في الجوف، وتقوى ظلمة الهوى أخذت من البيت الأعلى، وهو نور العقل، ونور المعرفة، ونور الروح، ونور العلم، فتحرق بنيران الشهوات من هذه الأنوار التي في القلب بقدر قوتها.
__________
(1) _ عتقت من العتيق، وهو القديم من كل شيء.(1/5)
وإذا قويت بنيران الشهوات ضعفت الأنوار، فيظلم الهوى على اليقين، فيتولد الشك على القلب من هذه الآفات، فتغلب على القلب هذه الآفات. ص58
15_ أفلا ترى كيف تعالج القوس، وتحمى حتى تلين، فإذا لانت سويت، حتى يرجع البيت الأعلى إلى مكانه، وإنما زال عن مكانه؛ لأن البيت الأسفل لما قوي وصلب مُدَّ بالبيت الأعلى بفضل قوَّته، فكذلك النفس لما قويت وصلبت شهواتها، انتشرت وهاج هواها، فأحرقت أنوار القلب، والقلب هو رطب بالأنوار؛ لأن النور هو من الله _ تعالى _ رحمة، والرحمة باردة، والقلب ليِّن منقاد برطوبة تلك الأنوار.
فإذا احترق النور، صلب القلب، وقسا، ويبس، فخفَّ عن ذكر الله، ولها عنه. ص59، 60
16_ قال له قائل: فما بالنا نسمع هذا العلم فنفهمه، ونعقله، ولا يبقى على القلب منه شيء؟.
قال: لأن نيران الشهوات في الخوف قد التهبت، فهي نيران سود، مظلمة بالهوى، وهي مؤدية إلى نار الله الكبرى، فإذا التهبت ارتفع إلى القلب، وأحرق تلك الأنوار، فخلا القلب من الموعظة والعلم الذي عليه، وهي شبيهة بالنار التي تلهب حمرتها، فتحتاج إلى ماء كثير حتى تطفئه، كما ألقيت عليه قبضة من شيء، أو رششت عليه قليلَ ماءٍ، انطفأ قليلاً ثم التهب؛ فكذلك صاحب الشهوة، إذا سمع الموعظة ذَبُل قلبه، وتخسفت نفسه؛ لما يصل عليه من الخوف؛ لأن الوعيد مما تنكسر به النفس، وتخمد شهواتها.
ألا ترى أن الرجل يكون في لذَّة من لذَّات الدنيا ونشاط، فإذا بلغه وعيد من السلطان انكسر وذهب نشاطه؛ فوعيد الله _ تعالى _ لو خلص إلى القلب، لكانت النفس والشهوات أشدَّ انكساراً، ولكن لا يصل ذلك إلى القلب، فهو صلب أبداً، فرح مرح، أشرٌ بطرٌ، فهو ينور بلهب.
فإنما يطفأ بالماء الكثير الغالب وهو العلم المؤدي إلى الخوف والوعيد، وليس يوجد هذا، فما الحيلة في ذلك؟
قال: إنا لا نعلم له حيلة، إلا أن يمنع من إلقاء الحطب عليه؛ فإنه متى زاده وقوداً اتقد، وثار والتهب، وقوي.(1/6)
ومتى ما حبس عنه وقوده خمد، حتى يصير رماداً ويذهب حر التنور، كذلك ههنا يحبس عنها الشهوات حتى تخمد، فتذهب فورتها والتهابها، فحينئذ تتخلص أنوار القلب ويقوى، ويعمل العقل عمله. ص74، 75
17_ ترى الرجل يصلي بالليل، ويعق والديه، ويصوم النهار، ويسوء خلقه في شأن فطوره، وسحوره، ويغتاب الناس، وينفق في أعمال البر، ويكتسب الشهوات، ويعود المرضى، وينقل الجنائز، ويؤذي المسلمين، ويطلب عوراتهم، ويود الأباعد، ويقطع الأرحام، فهذا رجل جاهل بربه، يعبده بالهوى، كلما هوي أمراً ركبه، وكذب فيما يقول: إني أريد به الله. ص76، 77
18_ وإنما أتى فساد الخلق من إهمال النفس وترك تأديبها، وقلة النظر في أمر الله _ تعالى _، وجهلهم به، فلو عرفوه لاستراحوا من خدع النفس ودواهيها؛ لأن النفس إنما تطمع بمخادعة من يجهل ربه. ص77
19_ فالإنسان مطبوع على سبعة أخلاق: على الغضب، والرغبة، والرهبة، والشهوة، والغفلة، والشك، والشرك. ص82
20_ وكلما ازداد العبد في إيمانه نوراً وقوة وشعاعاً تنقَّص من الغضب والشهوة، والرغبة والرهبة؛ فكل مؤمن على قدر إيمانه يكون من هذه السبعة باقية فيه. ص86
21_ فإذا تركت المجاهدة على الحقيقة منعك النصرة، فبقيت مخذولاً، مأسوراً في يدي الشهوة والهوى، فإذا صار القلب مأسوراً، فهو كملك مأسور في يد العدو، فإذن تعذر عليه الأعوان والجند، بل يذلون وينهزمون في الملاهي والأباطيل. ص107
22_ قال له قائل: فكيف تكون المجاهدة على الحقيقة، إذ قال: (حق جهاده؟).(1/7)
فقال: اعتبر مجاهد الظاهر، وامتثل رجلين، أحدهما سلاحه تام، وحمل نفقة سنة، وتجهز بما يحتاج إليه، ورافق في الطريق رفقاء، وتبسَّط في مسيره وطرِب مع رفقائه، وتلذَّذ برؤية الكون ولقاء الناس،وفرح بما نسب إليه من الجهاد، والغزو، فقيل: هذا فلان الغازي، وطمعت نفسه في علو المرتبة، وارتفاع المنزلة عن الناس، واتخذ الجاه عندهم بذلك، ونال الكرامة في مسيره مقبلاً ومدبراً، وقلبه ههنا معلَّق بحب الدنيا، وما خلَّف فيها، فهذا حاله في الطريق حتى إذا بلغ المنتهى، فعلى وده أنه لا يلقى عدوَّاً أبداً، ولا يسمع بذكره، فهو مقيم هناك مع حنين قلبه إلى شهواته ومناه التي خلَّفها وراء ظهره. ص107، 108
23_ قال له قائل: وما الهوى؟.
قال: جوهرة النفس؛ لأن آدم _ عليه السلام _ خلق من تراب، فكان الهوى هو عنصره الذي فيه جوهريته الترابية، فكانت تلك الترابية متشعبة في النفس، وهو صفوة غذاء الأم، والهوى تنفس النفس، وهوكدورته، وأصل جوهريته، وهو مظلم،وهو قوة غذاء الأم.
لأن التراب مظلم، وأمك إنما ربتك من اللبن، ومما أَخْرَجَتِ الأرض؛ فلذلك قيل في الحديث: ( لكل شيء نفس، ونفس النفس الهوى)، فما دام الروح فيك فأنت كون الروح، فإذا خرج الروح منك صار وجهك وجميع جسدك كأنه ذر عليك التراب. ص114، 115
24_ فمن هاهنا هواك يميل بك إلى نعيم الأرض؛ لأنه من جنسه.
وإليه يحنُّ، وله يألف؛ فهذه النفس مضطربة إذا حملت عليها أمر الله _تعالى_ كذلك الأرض لما حمل عليها الخلق اضطربت؛ فأُسكِنت بالجبال الرواسي حتى سكنت. ص115، 116
25_ كذلك النفس، إذا اضطربت فإنما تسكن بالمعرفة؛ فكلما كانت معرفتك أعظم وأثقل على القلب، كانت النفس أسكن، ومنه قيل: الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي. ص116
=تعريف بالمؤلف+:
هو الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى، المعروف بأبي هلال العسكري.(1/8)
وقد أجمعت التراجم المختلفة على ذلك، كما اتفق الذين ترجموا له أنه ينسب إلى مدينة (عسكر مُكْرَم) من أعمال الأهواز.
وأبو هلال فارسي الأصل، ومع كثرة مؤلفاته وحسن تصانيفه إلا أن المراجع التي تحدثت عنه لم تذكر السنة التي ولد فيها، ولا التي مات فيها على وجه التحديد والإجماع.
وبعض الذين ترجموا له استنتجوا أنه ولد سنة310هـ على وجه التقريب، وأما وفاته فمنهم من قال إنه توفي عام395هـ، وهم الأكثر، ومال القفطي إلى أنه عاش حتى بعد سنة 400هـ.
ويعزى خمول ذكره _ مع طول باعه واتساع علمه _ إلى أسباب لعل جلَّها يعود إلى غلبة شهرة أستاذه أبي أحمد العسكري الذي يحمل الاسم ذاته، واسم الأب، والنسبة، مما أثر سلباً على التلميذ.
ولأبي هلال مؤلفات كثيرة في الحديث، والتفسير، والتاريخ، واللغة، والأدب.
ومنها: كتاب التلخيص، وجمهرة الأمثال، والأوائل، وديوان المعاني، والصناعتين، والفروق اللغوية، والمعجم في بقية الأشياء، ورسالة في العزلة والاستئناس بالوحدة، وغيرها من الكتب.
ومنها كتاب الحث على طلب العلم، والاجتهاد في جمعه.
=تعريف بالكتاب+:
هذا الكتاب ليس بالطويل، بل هو من الكتب المتوسطة أو أقل من المتوسطة.
وهذا الكتاب يُبيْن عن حسٍّ تربوي دقيق، وخبرة تربوية طويلة، يبرز ذلك من خلال ما أورده من حرص على تقدير المكانة السامية للعلم والعلماء والمتعلمين، مؤكداً على ما يُمْكِنُ عدُّه وسائل لطلب العلم، وعوامل لنجاحه توصل إلى تلك المكانة التي يراها، ومذكراً طالب العلم بجملة من أقوال العلماء، وما بذلوه من جهد جبار في سبيل تحصيل العلم.
وبالجملة فهذا الكتاب يمكن أن يعد إسهاماً فيما يسمى بـ =أدب الطلب+ أو =الأدب التربوي+.
وهذا الكتاب حقق وطبع أكثر من مرة، حيث طبع عام 1406هـ بتحقيق د.مروان قباني، وطبع عام 1418هـ بتحقيق د.عبدالمجيد دياب.
وقد أفدت من هذين التحقيقين.
_ =النقولات المنتقاة+: قال×:(1/9)
1_ والاجتهاد فيما يُكْسبُ العز، ويزيد في النباهة والقدر _ راحة العاقل، والتواني عنه عادة الجاهل.
وقلت في نحو ذلك:
وساهر الليل في الحاجات نائمُهُ ... وواهب المال عند المَحْل كاسِبُهُ
وقلت في نحو ذلك:
وليغدُ في تعب يَرُحْ في راحة ... إن الأمور مُريحُها كالمُتْعِبِ
وقلت:
ألا لا يَذمَّ الدهر من كان عاجزاً ... ولا يعذِلِ الأقدار من كان وانيا
فمن لم تُبَلّغْه المعاليَ نَفْسُهُ ... فغير جدير أن ينال المعاليا
ص45 _ 46
2_ ومِثْل العلو في المكارم مِثْل الصعود في الثنايا(1) والقُلَل(2)، و لا يكون إلا بشق النفس، ومن ظن أنه ينعم في قصد الذرى(3)، والتوقل(4) في القذفات (5) العلا، فقد ظن باطلاً، وتوهم محالاً.ص46
3_ وقال الجاحظ: العلم عزيز الجانب، لا يعطيك بعضه، حتى تعطيه كلك، وأنت إذا أعطيته كلك كنت من إعطائه إياك البعض على خطر.
وقد صدق؛ فكم من راغب مجتهد في طلبه لا يحظى منه بطائل على طول تعبه، ومواصلة دأبه ونصبه؛ وذلك إذا نقص ذكاؤه، وكَلَّ ذهنُه، ونَبَتْ قريحتُه.
والفهم إنما يكون مع اعتدال آلته، فإذا عدم الاعتدال لم يكن قبول، كالطينة إذا كانت يابسة، أو مُنْحلَّةً، لم تقبل الختم، وإنما تقبله في حال اعتدالها.
وإذا أكدى الطالب مع الاجتهاد فكيف يكون مع الهوينى والفتور؟! ص47
__________
(1) _ الثنايا: جمع ثنية وهي الطريق في الجبل.
(2) _ القلل: جمع قلة وهي قمة الجبل.
(3) _ الذرى: جمع ذروة وذروة كل شيء أعلاه.
(4) _ التوقُّل: الصعود.
(5) _ القذفات: جمع قُذفة وهي أعالي الجبل ونواحيه.(1/10)
4_ وإن كنت _ أيها الأخ _ ترغب في سمو القدر، ونباهة الذكر، وارتفاع المنزلة بين الخلق، وتلتمس عزاً لا تَثْلِمه الليالي والأيام، ولا تَتحيَّفُه الدهور والأعوام، وهيبةً بغير سلطان، وغنىً بلا مال، ومنفعةً بغير سلاح، وعلاءاً من غيرِ عشيرة، وأعواناً من غير أجرٍ، وجنداً بلا ديوان وفرض _ فعليك بالعلم؛ فاطلبه في مظانه تأتِك المنافع عفواً، وتلق ما تعتمد منها صفواً.
واجتهد في تحصيله ليالي قلائل، ثم تذوَّقْ حلاوة الكرامة مدة عمرك، وتمتع بلذة الشرف فيه بقية أيامك، واستبق لنفسك الذكر به بعد وفاتك.ص48
5_ وإذا تدبرت قول أمير المؤمنين علي÷فقال: =قيمة كل امرئ ما يحسنه+ كنت حقيقاً بالاجتهاد في طلب العلم أَوَانَ قدرتك عليه، غير معذور في التواني عنه، والتقصير فيه؛ لأن العاقل لا يعتمد تخسيس قيمته، ولا يغفل عما يرفع من قدره.ص50
6_ وقال بعض الأوائل: لا يتم العلم إلا بستة أشياء:
(1) ذهن ثاقب. ... (2) وزمان طويل. ... (3) وكِفاية.
(4) وعمل كثير. ... (5) ومعلِّم حاذق. ... (6) وشهوة.
وكلما نقص من هذه الستة شيء نقص بمقداره من العلم.ص52
7_ قال أبو هلال: فإذا كان العلم مؤنساً في الوحدة، ووطناً في الغربة، وشرفاً للوضيع، وقوةً للضعيف، ويساراً للمُقْتِر، ونباهة للمغمور، حتى يلحقه بالمشهور المذكور _ كان من حقه أن يُؤْثَرَ على أنفس الأعلاق، ويقدم على أكرم العقد، ومن حق من يعرفه حق معرفته أن يجتهد في التماسه؛ ليفوز بفضيلته؛ فإن من كانت هذه خصاله كان التقصير في طلبه قصوراً، والتفريط في تحصيله لا يكون إلا بعدم التوفيق، ومن أقصر عنه أو قَصَّر دونه فليأذن بخسران الصفقة، وليقرَّ بقصور الهمة، وليعترف بنقصان المعرفة، وليعلم أنه غُبِن الحظَّ الأوفر، وخُدع عن النصيب الأجزل، وباع الأرفع بالأدون، ورضي بالأخس عوضاً عن الأنفس، وذلك هو الضلال البعيد.ص54(1/11)
8_ ولِفَضْلِ العلم ما ذلت في التماسه الأعزاء، وتواضع الكبراء، وخضع لأهله ذوو الأحلام الراجحة، والنفوس الأبية، والعقول السليمة، واحتملوا فيه الأذى، وصبروا على المكروه، ومن طلب النفيس خاطر بالنفيس، وصبر على الخسيس.ص58
9_ قال أبو هلال: سميت الرياح: المؤتفكات؛ لأنها لا تتماسك، وأصل هذه الكلمة عدم التماسك، وسمي الكذب إفكاً؛ إذ كان يدل على نفسه بالفساد والبطلان، كأنه لا يتماسك.ص59
10_ وقال سعيد بن جبير: لا يزال الرجل عالماً ما تعلم، فإذا ترك، كان أجهل ما يكون.
قال الشيخ أبو هلال: ونحو هذا ما قلته:
أُحَقِّرُ نفسي وهي نفس جليلة ... تَكَنَّفها من جانبيها الفضائلُ
أحاول منها أن تزيد فترتقي ... إلى حيث لا يسمو إليه المحاول
وإن أنت لم تبغِ الزيادة في العلا ... فأنت على النقصان منهن حاصل
ص62
11_ وقيل لبزْرجمهر: بم جمعت هذا العلم الكثير؟!
قال: ببكور كبكور الغراب، وحرص كحرص الخنزير، وصبر كصبر الحمار.
ونحو هذا قول شعبة وقد قيل له: ما بال حديثك نقِيَّاً؟!
قال: لِتَرْكِيَ العصائد بالغدوات.ص65
12_ إن الكتب لا تحيي الموتى، ولا تحول الأحمق عاقلاً، ولا البليد ذكياً، ولكن الطبيعة إذا كان فيها أدنى قبول فالكتب تشحذ، وتفتق، وترهف.
ومن أراد أن يعلم كل شيء فينبغي لأهله أن يداووه؛ فإن ذلك إنما تصور له لشيء اعتراه.ص70
13_ وقال الزهري: إن الرجل ليطلب وقَلْبُه شِعْبٌ من الشعاب، ثم لا يلبث أن يصير وادياً، لا يوضع فيه شيء إلا التهمة.
قلنا: يريد أن أول الحفظ شديد يشق على الإنسان، ثم إذا اعتاد سهل.
ومصداق ذلك ما أخبرنا به الشيخ أبو أحمد، عن الصُّولي، عن الحارث ابن أسامة قال: كان العلماء يقولون: كل وعاء أفرغت فيه شيئاً فإنه يضيق إلا القلب؛ فإنه كلما أفرغ فيه اتسع.
وقال أبو السمح الطائي: كنت أسمع عمومتي في المجلس ينشدون الشعر، فإذا استعدتهم زجروني وسبوني، وقالوا: تسمع شيئاً ولا تحفظه!(1/12)
قال الشيخ: وكان الحفظ يتعذر عليّ حين ابتدأت أرومه، ثم عودته نفسي، إلى أن حفظت قصيدة رؤبة:
* وقاتم الأعماق خاوي المخترق* في ليلة وهي قريب من مائتي بيت.
وقد قال الشعبي: ما وضعت سوداء في بيضاء قطُّ، ولا حدثني أحدٌ بحديثٍ فاحتجتُ إلى أن يعيده علي.ص71 _ 72
14_ وينبغي للدارس أن يرفع صوته في درسه حتى يُسمع نفسه؛ فإن ما سمعته الأذن رسخ في القلب؛ ولهذا كان الإنسان أوعى لما يسمعه منه لما يقرأه، وإذا كان المدروس مما يفسح طرق الفصاحة، ورفع به الدارس صوته زادت فصاحته.ص73
15_ وحكي لي عن بعض المشايخ أنه قال: رأيت في بعض قرى النبط فتىً فصيحَ اللهجة، حسنَ البيان، فسألته عن سبب فصاحته مع لُكْنة أهل جلدته! فقال: كنت أعمِد في كل يوم إلى خمسين ورقة من كتب الجاحظ، فأرفع صوتي بها في قراءتها، فما مر لي إلا زمان قصير، حتى صرت إلى ما ترى.ص73
16_ وحكي لي عن أبي حامد أنه كان يقول لأصحابه: إذا درستم فارفعوا أصواتكم، فإنه أثبت للحفظ، وأذهب للنوم.
وكان يقول: القراءة الخفية للفهم، والرفيعة للحفظ والفهم، وكان بعضهم يقرأ الكتاب، ثم يذاكر به حرفاً حرفاً، كأن قارئاً يقرؤه عليه، فيفسره له.ص73
17_ واعلم أن الذكاء، وجودة القريحة، وثقوب الذهن جواهر نفيسةٌ، فإذا طلب صاحبها العلم فبلغ مبلغاً فقد حفظ جمالها على نفسه، وأحرز منفعتها لها.
ومن ترك الطلب حتى كَلَّ ذهنه، وعميت فطنته، وتبلدت قريحته، مع إدبار عمره _ كان كمن عَمَد إلى ما عنده من الياقوت والدر فرضَّه، وأبطل الجَمَال والنفعَ به.
وإذا كان ما جمعته من العلم قليلاً، وكان حفظاً كثرت المنفعة به، وإذا كان كثيراً غير محفوظ قلت منفعته.ص74 _ 75
18_ وقال المنصور بن المهدي للمأمون: أيحسن بمثلي أن يتعلم؟
فقال: والله لأن تموت طالباً للعلم خيرٌ من أن تموت قانعاً بالجهل.ص76(1/13)
19_ وحكي عن ثعلب أنه كان لا يفارقه كتاب يدرسه، فإذا دعاه رجل إلى دعوةٍ، شرط عليه أن يوسع له مقدار مِسْوَرة؛ يضع فيها كتاباً ويدرس. ص76_77
20_ وكان أبو بكر الخياط النحوي يدرس جميع أوقاته، حتى في الطريق، وكان ربما سقط في جرف، أو خبطته دابةٌ.ص77
21_ وحكي عن بعضهم أنه كان يشد في وسطه خيطاً إذا قام من الليل يدرسُ؛ خوفاً من أن يسقط إذا نعس.ص77
22_ وكان ابن الفرات لا يترك كل يوم إذا أصبح أن يحفظ شيئا وإن قل.
وكان بعضهم يقول: متى تبلغ من العلم مبلغاً يُرْضى، وأنت تؤثر النوم على الدرس، والأكل على القراءة؟ ص77
23_ وكان الأصمعي يحفظ اثنتي عشرة ألف أرجوزة، فيها ما كان عدد أبياتها المائة والمائتين.ص79
24_ قال الشيخ أبو هلال: وعند الحكماء أن من تبرم بالعلم والعلماء، ومن يقدر على حفظ العلم والأدب، وهو مقصر فيه _ فليس بإنسان كاملٍ، والكاملُ مِنَ الناس مَنْ عرف فضل العلم، ثم إن قدر عليه طلبه.ص82
25_ وقال الحسن: من ترك طلب العلم؛ حياءً ألبسه الجهل سرباله، ومن رق وجهه رق علمه.
وقال الخليل: منزلة الجهل بين الحياء والأنفة.ص84
26_ قال أبو هلال: وجعل الحكماء منزلة العلماء مثل منزلة الملوك.
فقالوا: من أدب الداخل على العالم أن يسلم على أصحابه عامةً، ويخصه بالتحية، ويجلس قدامه، ولا يشير بيده، ولا يغمز بعينه، ولا يقول بخلاف قوله، ولا يغتاب عنده أحداً، ولا يسارَّ في مجلسه، ولا يُلِحَّ عليه إذا كسل،ولا يعرض عن كلامه، فإنه بمنزلة النخلة، لا يزال يَسْقُطُ عليك منها شيء ينفعك.ص84
27_ وكان الخليل يقول: أثقل ساعات علي ساعة آكل فيها! ص88
28_ قال أبو هلال: ولو أن الجاهل تبين نقيصة الجهل من نفسه _ لفزع إلى مفارقته بالكد في التعلم، ولكنه كآكل الثوم، لا يشم من نفسه نتنه، وإنما يشمه غيره، ويتأذى به سواه.ص97
29_ والفضيحة بالجهل عظيمةٌ، والغبن به كثيرٌ لو عرفه الجاهل.ص97(1/14)
30_ ولا يرضى بالجهل إلا من هانت عليه نفسه، فلا يبالي أن يهجى، ويُسْتَخَفَّ به، ويُسخر منه، وأدنى حقه منه ذلك.
ومن أكرمه _ إلا عند ضرورة _ فقد وقع الإكرام في غير موضعه.ص97
=تعريف بالمؤلف+: هو أبو حيان علي بن العباس البغدادي ولد سنة 310هـ من أبوين فقيرين، وقد قضى حياته في بغداد، حيث أتيح له أن يتلقى العلم على بعض علماء عصره كأبي سعيد السيرافي 248هـ _ 367هـ، وعلي ابن عيسى الرماني 296هـ _ 384هـ وغيرهم.
قال عنه ياقوت الحموي × في معجم الأدباء 4/287: =التوحيدي: شيرازي الأصل وقيل نيسابوري، ووجدت بعض الفضلاء يقول له: الواسطي+.
وقال عنه 4/288: =وكان متفنناً في جميع العلوم من النحو، واللغة، والشعر، والأدب، والفقه، والكلام على رأي المعتزلة+.
إلى أن قال: =ومع ذلك فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاءً، وفطنة، وفصاحة، ومُكنة كثير التحصيل للعلوم في فن حفظه، واسع الدراية والرواية+ اهـ.
ولأبي حيان تصانيف كثيرة منها: رسالة الصداقة والصديق، والبصائر والذخائر، والإمتاع والمؤانسة، والمقابسات، وأخلاق الوزيرين إلى غيرها.
وسمي بالتوحيدي نسبة إلى التوحيد، وقيل: نسبة إلى نوع من تمر العراق؛ حيث كان أبوه يبيع التوحيد ببغداد.
وعلى كل حال فإن أبا حيان قد اخْتُلف في سيرته؛ فالناس فيه ما بين قادح ومادح، وإن اتفقوا على علوِّ كعبه، ونباوة قدره في علوم شتى.
وأما موضوع هذا الكتاب الذي بين أيدينا فلا علاقة له فيما يذم به أبو حيان، بل يكاد يكون أحسن كتبه؛ لأنه يتحدث عن موضوع يشترك فيه الناس على اختلاف طبقاتهم، وإن كان لا يخلو من ملحوظات عامة.
=تعريف بالكتاب+: هذا الكتاب يكاد يكون أحسن ما أُلِّف في هذا الباب؛ إذ الحديث عن الصداقة والصديق حديث حلو رائق، رائع شائق، تتجاوب فيه عواطف النفس البشرية، وعلى صفحاته تنعكس نفسيتها وروحها.(1/15)
ولقد عُني العلماء، والأدباء، والفلاسفة، والشعراء في موضوع الصداقة؛ فأمعنوا في استكناهِ هذه الرابطة العجيبة، وتعريفها، وتحديدها، وتحليل روابطها ودوافعها، ودوامها، وفسادها، وما إلى ذلك.
والصداقة قد تكون لمنفعة، وقد تكون لِلَذَّة، وقد تكون لفضيلة، وهذه الأخيرة هي التي عليها المدار، وهي التي لا تبلى بكرور الأيام.
وأبو حيان التوحيدي عاش عمراً مديداً يصل إلى مائة وأربع سنوات، وكتابه هذا بدأه سنة 371هـ، ولم يتمه إلا سنة 400هـ أي في العقد الأخير من عمره بعد أن =بلغت شمسه رأس الحائط+ على حد تعبيره.
وهذا مما يؤكد أهمية هذا الكتاب الذي صدر عن ذلك الأديب ذي النفس المرهفة، والتجربة الطويلة، كيف وقد بيَّن في كتابه هذا أن في حديث الصداقة =شفاءً للصدر، وتخفيفاً من البُرحاء، واطراداً للغيظ، وبرداً للغليل، وتعليلاً للنفس+.
ولقد ضَمَّن هذا الكتابَ نقولاً كثيرة، وتجارب فريدة فذة، توصل من خلالها إلى استنتاجات بديعة ممتعة، تفيد الإنسان في معاشه، وتعامله مع الأحداث، والمتغيرات، وتختصر عليه وقتاً طويلاً خصوصاً إذا كان ذا فطنة مستيقظة تعتبر بالحوادث، ولا تمر عليها مرور الكرام.
وقد طبع الكتاب أول مرة في القسطنطينية في مطبعة الجوائب سنة 1301هـ.
وطبع مرة ثانية في القاهرة سنة 1323هـ.
أما الطبعة التي بين أيدينا فقد عني بتحقيقها والتعليق عليها د.إبراهيم الكيلاني، وتقع في 416 صفحة، قياس الصفحة 17x25سم، وهي الطبعة الثانية من مطبوعات دار الفكر المعاصر في بيروت لبنان، ودار الفكر في دمشق سورية عام 1416هـ _ 1996م.
_ =النقولات المنتقاة+: قال أبو حيان التوحيدي في كتابه: الصداقة والصديق:(1/16)
1_ سُمع مني في وقت بمدينة السلام كلامٌ في الصداقة، والعشرة، والمؤاخاة، والألفة، وما يلحق بها من الرعاية، والحفاظ، والوفاء، والمساعدة، والنصيحة، والبذل، والمواساة، والجود، والتكرم، مما قد ارتفع رسمه بين الناس، وعفا أثره عند العام والخاص، وسُئلت إثباته ففعلت، ووصلت ذلك بجملةٍ مما قال أهل الفضل والحكمة، وأصحاب الديانة والمروءة؛ ليكون ذلك كلُّه رسالة تامة يمكن أن يستفاد منها في المعاش والمعاد.ص 29
2_ قال أبو سليمان السجستاني: =فأما الملوك فقد جَلُّوا عن الصداقة؛ ولذلك لا تصح لهم أحكامها، ولا توفي بعهودها، وإنما أمورهم جارية على القدرة، والقهر، والهوى، والشائق، والاستحلاء، والاستخفاف.
وأما خدمهم وأولياؤهم فعلى غاية الشبه بهم، ونهاية المشاكلة لهم؛ لانتشابهم بهم، وانتسابهم إليهم، وولوع طورهم بما يصدر عنهم، ويَرِدُ عليهم.
وأما التُّنَّاء وأصحاب الضياع فليسوا من هذا الحديث في عير ولا نفير.
وأما التجار فكسب الدوانيق سدٌّ بينهم وبين كل مروءة، وحاجزٌ لهم عن كل ما يتعلق بالفتوة.
وأما أصحاب الدين والورع _ فعلى قلتهم _ فربما خلصت لهم الصداقة؛ لبنائهم إياها على التقوى، وتأسيسها على أحكام الحرج، وطلب سلامة العقبى.
وأما الكتَّاب وأهل العلم فإنهم إذا خلوا من التنافس، والتحاسد، والتماري، والتماحك _ فربما صحت لهم الصداقة، وظهر منهم الوفاء، وذلك قليل، وهذا القليل من الأصل القليل.
وأما أصحاب المذاب والتطفيف فإنهم رجرجة بين الناس، لا محاسن لهم فتذكر، ولا مخازي فتنشر؛ ولذلك قيل لهم همج، ورعاع، وأوباش، وأوناش، ولفيف، وزعانف، وداصة، وسقاط، وأنذال، وغوغاء؛ لأنهم من دقَّة الهمم، وخساسة النفوس، ولؤم الطبائع على حال لا يجوز معها أن يكونوا في حومة المذكورين، وعصابة المشهورين.ص32_ 33(1/17)
3_ كان سبب إنشاء هذه الرسالة في الصداقة والصديق أني ذكرت شيئاً منها لزيد بن رفاعة أبي الخير، فنماه إلى ابن سعدان الوزير أبي عبدالله سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة قبل تحمله أعباء الدولة، وتدبيره أمر الوزارة، حين كانت الأشغال خفيفة، والأحوال على إذلالها جارية، فقال لي ابن سعدان: قال لي زيد عنك كذا وكذا، قلت: قد كان ذاك، قال: فدوِّن هذا الكلام، وصِلْهُ بصلاته مما يصح عندك لمن تقدم؛ فإنَّ حديث الصديق حلو، ووصف الصاحب المساعد مطرب؛ فجمعت ما في هذه الرسالة، وشُغل عن ردِّ القول فيها، وأبطأت أنا عن تحريرها إلى أن كان من أمره ما كان.
فلما كان هذا الوقت _ وهو رجب سنة أربعمائة _ عثرت على المسودة وبيضتها على نحيلها، فإن راقتك فذاك الذي عزمتُ بنيِّتي، وحولي، واستخارتي، وإن تزحلقتُ عن ذلك فللعذر الذي سحبتُ ذيله، وأرسلت سيله.ص 35
4_ واسترسال الكلام في هذا النمط شفاءٌ للصدر، وتخفيف من البُرَحاء، وانجياب للحرقة، واطراد للغيظ، وبرد للغليل، وتعليل للنفس، ولا بأس بإمرار كل ما لاءمه، ودخل في حوزته، وإن كان آخره لا يدرك، وغايته لا تملك.ص37 _ 38
5_ قال صالح بن عبدالقدوس:
بُنيَّ عليك بتقوى الإله ... فإنَّ العواقب للمتَّقي
وإنك ما تأتِ من وجهه ... تجدْ بابه غير مُستغلقِ
عدوك ذو العقل أبقى عليك من الصاحب الجاهل الأخرقِ
وذو العقل يأتي جميل الأمور ... ويعمدُ للأرشد الأوفقِ
ص 38
6_ فأما الذي قال في أصدقائه وجلسائه الخير، وأثنى عليهم الجميل، ووصف جدَّه بهم، ودلَّ على محبته لهم _ فغريب!.
قال بعضهم:
أنتم سروري وأنتم مُشتكى حَزَني
... وأنتم في سَواد الليل سُمَّاري
أنتم وإن بَعُدت عنَّا منازلكم
... نوازلٌ بين أسراري وتذكاري
فإن تكلمتُ لم أَلْفِظْ بغيركُمُ ... وإن سكتُّ فأنتم عَقْدُ إضماري
الله جارُكُم مما أحاذرُه ... فيكم وحبي لكم من هجركم جاري
ص38(1/18)
7_ أخبرنا أبو سعيد السِّيرافي، قال: أخبرنا ابن دُريد، قال: قال أبو حاتم السجستاني: =إذا مات لي صديق سقط مني عضوٌ+.ص39
8_ وقيل لأعرابي: مَنْ أكرمُ الناس عشرة؟ قال: مَنْ إن قَرُبَ مَنَح، وإن بَعُدَ مَدَح، وإن ظُلِمَ صفح، وإن ضويق فسح، فمن ظفر به فقد أفلح ونجح.ص39
9_ كان أبو داود السجستاني أيام شبابه وطلبه للرواية قاعداً في مجلس، والمستملي في حدَّته، فجلس إليه فتى، وأراد أن يكتب، فقال له: أيها الرجل استمدُّ من محبرتك؟ قال: لا، فانكسر الرجل، فأقبل عليه أبو داود، وقد أحسَّ بخجله: أما علمت أن من شرع في مال أخيه بالاستئذان، فقد استوجب بالحشمة الحرمان، فكتب الرجل من محبرته، وسمي أبو داود حكيماً.ص42 _ 43
10_ أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى، أخبرنا ابن دريد، عن عبدالرحمن، عن عمه الأصمعي، قال عبدالله بن جعفر: كمال الرجل بخلال ثلاث:
معاشرة أهل الرأي والفضيلة، ومداراة الناس بالمخالقة الجميلة، واقتصاد من غير بخل في القبيلة، فذو الثلاث سابق، وذو الاثنين زاهق، وذو الواحدة لاحق، فمن لم تكن فيه واحدة من الثلاث لم يسلم له صديق، ولم يتحنَّن عليه شفيق، ولم يتمتع به رفيق.ص44
11_ قال العتابي لصاحب له: ما أحوجك إلى أخ كريم الأخوة، كامل المروءة، إذا غبت خلفك، وإذا حضرت كنَفَك، وإذا نكرت عرفك، وإذا جفوت لاطفك، وإذا بررت كافأك، وإذا لقي صديقك استزاده لك، وإن لقي عدوك كفَّ عنك غرب العادية، وإذا رأيته ابتهجت، وإذا باثَثْتَهُ استرحت. ص44 _ 45
12_ وقال الخليل بن أحمد: الرجل بلا صديق كاليمين بلا شمال.ص45
13_ مرض قيس بن سعد بن عبادة فأبطأ إخوانه عنه، فسأل عنهم، فقيل: إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدَّين، فقال: أخزى الله ما يمنع الإخوان من العيادة، ثم أمر منادياً فنادى: ألا مَنْ كان لقيس عليه حق، فهو منه في حلٍّ وسعة، فكسرت درجته بالعشي؛ لكثرة من عاده.ص45(1/19)
14_ قال عمر بن شبَّة: الْتَقَى أخوان في الله، فقال أحدهما لصاحبه: والله يا أخي إني لأحبك في الله، فقال له الآخر: لو علمت مني ما أعلمه من نفسي لأبغضتني في الله.
فقال: والله يا أخي لو علمتُ منك ما تعلمه من نفسك لمنعني من بغضك ما أعلمه من نفسي.46 _ 47
15_ وقال إبراهيم بن أدهم: أنا منذُ عشرين سنة في طلب أخٍ إذا غضب لم يقل إلا الحق فما أجده.ص47
16_ قال بعض السلف: عليك بالإخوان، ألم تسمع قوله _ تعالى _: [فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ] الشعراء: 100 _ 101.ص48
17_ قال رجل لأبي مجنب: إني لأودُّك، فقال: إني لأجد رائد ذلك.ص49
18_ قال ابن عائشة: جزعُك في مصيبة صديقك أحسن من صبرك، وصبرك في مصيبتك أحسن من جزعك.ص51
19_ قال أبو جعفر المنصور: مَنْ أعطى إخوانه النَّصَفة، وعاشرهم بجميل العِشْرة قويَ بهم عضده، وزاد بهم جلده، وبذلوا دونه المهج، وخاضوا في رضاه اللُّجج.ص51
20_ قال الشعبي: تعايش الناس بالدين زماناً حتى ذهب الدين، ثم تعايشوا بالمروءة حتى ذهبت المروءة، ثم تعايشوا بالحياء حتى ذهب الحياء، ثم تعايشوا بالرغبة والرهبة، وسيتعايشون بالجهالة زمناً طويلاً.ص53
21_ قال الأحنف: من حق الصديق أن يحتمل له ظلم الغضب، وظلم الدالة، وظلم الهفوة.ص54
22_ وقال أبو بكر: قارب إخوانك في خلائقهم تسلم من بوائقهم، وترتع في حدائقهم.ص54
23_ قال عثمان بن عفان: ما ملك رفيقاً من لم يتجرَّع بغيظٍ ريقاً.ص55
24_ قال الأصمعي فيما روى لنا المرزباني، عن ابن دريد، عن عبدالرحمن، عن الأصمعي، قال أعرابي: أعجز الناس من قصَّر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم.ص55
25_ قيل لمسور بن مخرمة الزهري: أيُّ الندماء أحبُّ إليك؟ قال: لم أجد نديماً كالحائط، إن بصقتُ في وجهه لم يغضب عليَّ، وإن أسررتُ إليه شيئاً لم يفشه عني.ص55(1/20)
26_ قال ابن مناذر: كنت أمشي مع الخليل فانقطع شِسْعُ نعلي فخلع نعله، فقلت له: ما تصنع؟ قال: أواسيك بالحفاء.ص55
27_ قال بعض السلف: ابذل لصديقك دَمَك ومالَك، ولمعرفتك رِفْدك ومحضَرك، ولعدوك عدلَك وإنصافَك.ص57
28_ مرَّ بخالد بن صفوان صديقان، فعرَّج عليه أحدهما وطواه الآخر، فقيل له في ذلك، فقال: عرج علينا هذا لفضله، وطوانا ذاك لثقته.ص58
29_ قال العوامي: الصديق يرتفع عن الإنصاف، ويجلُّ _أيضاً_ عن الهجران؛ لأن الإنصاف ينبغي أن يكون عاماً مع الناس كلهم، وأما الهجران فالعاقل لا يسرع إليه لعدم الإنصاف بل يستأني، ويقف، ويكظم، ويتوقع، ويرى أن العارض في الأمر لا يُزال به الأمرُ الثابت، والعرقُ النابت.ص58
30_ وكان بين القاضي أبي حامد المرُّوذي وبين ابن نصرويه العداوة الفاشية، والشحناء الظاهرة(1)، فكان إذا جرى ذكر ابن نصرويه أنشد:
وأبى ظاهرُ العداوة إلا ... طغَياناً وقولَ ما لا يقالُ
وكان يقول: والله إني بباطنه في عداوته أوثقُ مني بظاهر صداقة غيره، وذاك لعقله الذي هو أقوى زاجر له عن مساءتي، إلا فيما يدخل في باب المنافسة؛ ولهذا استمر أمرنا أربعين سنة، من غير فحاشة ولا شناعة، ولقد دعيتُ إلى الصلح فأبيتُ، فقلت: لا نحرك الساكن منا، فَلِقَدِيمِ العداوة بالعقل، والحفاظ من الذمام والحرمة ما ليس لحديث الصداقة بالتكلف والملق.
ولقد وقفني مرة على ضربة تأتت له عليَّ كان فيها البوار، كفَّ عنها، وأخذ بالحسنى، فأريته أختها، وكانت خافيةً عنده، فقال: لولا علمي بأنك تسبق إلى مثل هذه ما قابلتك بتلك، فقلت: هو والله ذاك.
ووالله لقد ضرني ناس كانوا ينتحلون مودتي، ويتبارون في صداقتي؛ لضعف نحائزهم(2)، ولؤم غرائزهم، ولقد ثبت لي هو في عداوته على عقل وتذمم، أفضيا بهما إلى سلامة الدين، والنفس، والحال.
__________
(1) _ هذه قصة عجيبة تؤكد الحكمة القائلة: إن العدو العاقل خير من الصديق الجاهل.
(2) _ نحائز: جمع نحيزة، وهي الطبيعة.(1/21)
وورد معز الدولة هذا المِصْر، فسأله عني سراً، فأثنى خيراً، وقال: ما قطَنَ مصرنا غريب أعظم بركة منه، وإنه لَجَمالُنا عند المباهاة، ومَفْزَعُنا عند الخلاف!
ولقد سألني معز الدولة عنه سراً، فأثنيت خيراً، وقلت: أيها الأمير، والله ما نشأت فتنةٌ في هذا المصر إلا وهو كان سبب زوالها، وإطفاء ثائرتها، وإعادة الحال إلى غضارتها ونضارتها!
فقال معز الدولة لأبي مخلد سراً: كيف الحال بينهما؟ _ يعنينا _ فقال: بينهما نُبوٌّ لا ينادى وليدُه، وتعادٍ لا يلين أبداً شديدُه.
فقال: لئن كان كما تقول فإنهما ركنا هذا البلد، وعدَّتا هذا السواد، اجعلهما عينيَّ أبصر بهما أحوال الناس في هذا المكان، وأعوِّل عليهما في ما يريان ويشيران، فخلا بي أبو مخلد وبصاحبي، وتقدم إلينا عن صاحبه بما زادنا بصيرةً وتألفاً إلى هذه الغاية.
ثم قال أبو حامد: والله إن عداوة العاقل لألذُّ وأحلى من صداقة الجاهل؛ لأن الصديق الجاهل يتحاماك بعداوته، ويُهدي إليك فضل عقله ورأيه، ومن فضل عداوة الجاهل أنك لا تستطيع مكاشفته حياءاً منه، وإيثاراً للإرعاء عليه، ومن فضل عداوة العاقل أنك تقدر على مغالبته بكل ما يكون منه إليك.
ثم قال: وما أظن أنه كان فيما مضى إلى وقتنا هذا متصادقان على العقل والدين، مثل أبي بكر وعمر، ومن يتحرى أخبارهما، ويقفو آثارهما وقف على غورٍ بعيد، هذا مع العُنجهية المصحوبة أيام الجاهلية، والعَجْرفية المعتادة أوان الكفر، فلما أنار الله قلوبهما بالإيمان رجعا إلى عقل نصيح، ودين صحيح، وعرفان بالعرف والنكر، ونهوض بكل ثِقْل وخِف، وإني لأرحم الطاعن فيهما، والنائل منهما؛ لضعف عقله ودينه، وذهابه عما خصا به، وعَمَّا فيه، وميزا عنه، ورقيا إليه، واندفع في هذا وشبهه، وكان والله بليل الريق، يستحضر كيف شاء بالطويل والعريض، والجليل والدقيق.ص59 _ 61(1/22)
31_ قال محمد بن الحنفية: ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد بُدَّاً من معاشرته حتى يجعل الله له من ذلك مخرجاً.ص62
32_ قال أبو بكر: حقُّ الجليس إذا دنا أن يُرحب به، وإذا جلس أن يوسع له، وإذا حدث أن يُقْبَل عليه، وإذا عثر أن يقال، وإذا أُنقص أن ينال، وإذا جهل أن يُعَّلم.ص62
33_ قال عبدالملك بن صالح: مشاهدة الإخوان أحسن من إقبال الزمان، وألذ من نيل الأمان، وأحلى من رضا السلطان.ص64
ص65
35_ قيل لديوجانس(1): ما الذي ينبغي للرجل أن يتحفظ منه؟ قال: من حسد أصدقائه، ومكر أعدائه.ص71
36 _ قال انكساغورس: كيف تريد من صديقك خلقاً واحداً وهو ذو طبائع أربع(2)؟
وفي مثله قول الشاعر:
وأنَّى له خُُلُق واحد ... وفيه طبائعُه الأربعُ
ص71
37_ سمعت برهان الصوفي الدينوري يقول: سمعت الجُنَيْد يقول: لو صحبني فاجر حسن الخُلُق كان أحبَّ إلي من أن يصحبني عابد سيء الخلق.
قال برهان: لأن الفاجر الحسن الخلق يُصلحني بحسن خُلقه، ولا يضرني فجوره، والعابد السيئ الخلق يفسدني بسوء خلقه، ولا ينفعني بعبادته؛ لأن عبادة العابد له، وسوء خلقه عليَّ، وفجور الفاجر عليه، وحسن خلقه لي.ص72
ص73
39_ قيل للجنيد: ابن عطاء يدعي صداقتك فهل هو كما يقول؟.
قال: هو فوق ما يقول، وأجدُ ذلك له من قلبي بشواهد لا تَكْذِبُني عنه، ولا تَكْذِبُهُ عني.ص87
40_ توفي ابنٌ ليونس بن عبيد فقيل له: إن ابن عون لم يأتك.
فقال: إنا إذا وثقنا بمودة أخٍ لا يضرنا أن لا يأتينا.ص95
41_ قال بلال بن سعيد: أخ لك كلما لقيك ذكَّرك برؤيته ربك خيرٌ لك من أخٍ كلما لقيك وضع في كفك ديناراً.ص99
42_ قال يحيى بن معاذ: واشوقاه إلى حبيب إذا غضب عفا، وإذا رضي كفى.ص100
__________
(1) _ هو ديوجانس، أو ديوجينيس الكلبي من حكماء اليونان.
(2) _ يعني: الحرارة، والبرودة، والرطوبة، واليبوسة.(1/23)
43_ أخبرني المُرزباني، حدثنا الصُّولي، حدثنا المبرَّد، حدثنا أبو عمر، قال الأصمعي: دخلتُ على الخليل وهو جالس على حصير صغير فقال: تعال واجلس، فقلت: أضيِّقُ عليك.
فقال: مَهْ، فإن الدنيا بأسرها لا تسعُ متباغضين، وإن شبراً في شبر يسع متحابين.ص104 _ 105
ص108 _ 109
45_ سمعت أحمد بن محمد الكاتب يحكي: قال العتَّابي: لا أحبُّ رجلاً نَقَل إلي ما كرهتُ عن صديقي فغيَّرني له، ولا عن عدوٍّ فحملني على طلب الانتصار منه، ومع ذلك فلم يستحي بأن واجهني بما ساءَني سماعه.ص110
46_ بعث النَّضْر بن الحارث إلى صديق له بعبَّادان نعلين مخصوفتين وكتب إليه: إني بعثت بهما إليك، وأنا أعلم أنك عنهما غني، لكني أحببت أن تعلم أنك مني على بال، والسلام.
فأجابه: ما أنا بغني عن برِّك الذي يحثني على شكرك، ويخرطني في سِلْكك، ويزيدني بصيرةً بزيادة الله عندك، ومحبتك _لأَنْ أَعْلَم أني منك على بال؛ لأن يقيني بذلك راسخ، وحمدي عليه غادٍ ورائح، لا عدمتك لي أخاً باراً، ولا عدمتني لك قائلاً ساراً.ص113
47_ قال أبو غسان غناة بن كليب: اجتمعت أنا ومحمد بن النضر الحارثي وعبدالله بن المبارك والفضيل ورجل آخر، فصنعت لهم طعاماً، فلم يخالف محمد بن النضر علينا في شيء، فقال له ابن المبارك: ما أقلَّ خِلافكَ، فأنشد:
وإذا صاحبتَ فاصحبْ ماجداً ... ذا حياءٍ وعفافٍ وكرمْ
قوله للشيء لا إن قلت لا ... وإذا قلت نعم قال نعم
ص113 _ 114
48_ كتب أبو بكر لرجلٍ كتاباً في شيء جعله قطيعة له، فحمله الرجل إلى عمر بن الخطاب ليمضيه، فلما نظر عمر فيه بزق عليه ومحاه، فعاد الرجل مستعراً إلى أبي بكر فقال: فعل عمر كذا وكذا، والله ما أدري أأنت الخليفة أو عمر؟ فقال أبو بكر: هو، إلا أنه أنا!.
وكان الزهري يرويه: إلا أنه أبى، وعلى الوجهين المراد صحيح، والمرمى عالٍ، والغاية بعيدة.ص119(1/24)
49_ قيل لأعرابي: أبالصديق أنت آنس أم بالعشيق؟ فقال: يا هذا الصديق لكل شيء، للجد والهزل، وللقليل والكثير، ولا عاذل عليه، ولا قادح فيه، وهو روضة العقل، وغدير الروح.
فأما العشيق فإنما هو للعين، وبعض الريبة، والعذل إليه من أجله سريع، وفي الوُلُوع به إفراط مزجور عنه، وحد موقوف دونه، فأين هذا من ذاك؟!.ص119
ص122
51_ وقال بعض العلماء: التمس ودَّ الرجل العاقل في كل حين، وودَّ الرجل ذي النُّكر في بعض الأحايين، ولا تلتمس ودَّ الرجل الجاهل في حين.ص132
ص136 _ 137
ص138
54_ وسمعت أبا دُلَف الخزرجي يقول: أنا أستجفي الشاعر الذي يقول:
والله لا كنت في حسابي ... إلا إذا كنت في حسابكْ
فإن تزرني أزرك أو إن ... تقف ببابي أقف ببابكْ
وكان يقول: ما هذه الغلظة، والفظاظة؟! وما هذه المكايسة والمصادقة؟! أفليس لو قابلك صاحبك بمثل هذا الأمر وقف الأمر بينكما؟ وانتكث حبل المودة عنكما؟ ودبت الشحناء في طي حالكما؟ ص142
ص148
56_ قال أبو هاشم الحرَّاني: ومن طباع الكريم وسجاياه رعاية اللقاءة الواحدة، وشكر الكلمة الحسنة الطيبة، والمكافأة بجزيل الفائدة، وأن لا يوجد عند عَرْض الحاجة مستعملاً سَوْمَ عَالَّةٍ(1).ص148
__________
(1) _ عرض عليَّ سَوْم عالَّة: وهو بمعنى قول العامة عرض سابريّ يضرب هذا مثلاً لمن يعرض عليك ما أنت عنه غني كالرجل يعلم أنك نزلت دار رجل ضيفاً، فيعرض عليك القِرَى.
وفي أساس البلاغة للزمخشري ص226: (عرض عليَّ الأمر سوم عالة) أي: عرضاً سابرياً كما تسامُ العالة على الشرب لا يستقصى في ذلك لأنها رويت بالنهل.
السابري: نسبة إلى سابور وهي كورة بفارس، قال الشاعر:
* وعيش كمسِّ السابري
ومنه المثل: (عرض سابري) يقوله من يعرض عليه شيء عرضاً لا يبالغ فيه لأن السابري من أجود الثياب يرغب فيه بأدنى عرض.
العلل: الشرب الثاني، والنهل: الشرب الأول.(1/25)
57_ وقال أبو إسحاق السبيعي: ثلاث يصفين لك ود أخيك: السلام إذا لقيته، وأن تدعوه بأحب أسمائه، وأن لا تماريه.ص158
58_ سمعت العَوَّامي يقول لعلي بن عيسى الوزير: إن الحال بينك وبين ابن مجاهد صفيقة، فما الذي قربه منك، ونَفَّقه عليك، وأولعك به؟
قال: وجدته متواضعاً في علمه، هشاً في نسكه، كتوماً لسره، حافظاً لمروءته، شفيقاً على خليطه، حسن الحديث في حينه، محمود الصمت في وقته، بعيد القرين في عصره، والله لو لم يكن فيه من هذه الأخلاق إلا واحدة لكان محبوباً، ومقبولاً.ص158
ص164
ص165
61_ قال رجل لمحمد بن واسع: إني لأحبك في الله، قال: فأطع من تحبني فيه.ص170
62_ قال أبو خازم المدني(1) لسلمة بن دينار: لأنْ يبغضك عدوك المسلم خير من أن يحبك عدوك الفاجر.ص171
63_ قال أعرابي: البِشْر سِحْر، والهديِّة سحر، والمساعدة سحر.ص181
64_ وقال فيلسوف: اجتنب مصاحبة الكذاب، فإن اضطررت إليها فلا تصدقه، ولا تُعْلِمْهُ أنك تكذبه؛ فينتقل عن ودك، ولا ينتقل عن طبعه.ص183
65_ وقال فيلسوف: لا تقطع أحداً إلا بعد عجز الحيلة عن استصلاحه، ولا تتبعه بعد القطيعة وقيعة؛ فينسد طريقه عن الرجوع إليك، فلعل التجارب ترده إليك، وتصلحه لك.ص183
66_ قال سقراط: لا تكون كاملاً حتى يأمنك عدوك، فكيف بك إذا كنت لا يأمنك صديقك؟!.ص184
67_ وقال الأحنف: ما عاتبت أحداً إلا وما انثال عليَّ منه أكثر مما عاتبته عليه.ص185
68_ قالت امرأة عبدالله بن مطيع لعبدالله: ما رأيت ألأم من أصحابك، إذا أيسرت لزموك، وإذا أعسرت تركوك، فقال: هذا من كرمهم، يغشوننا في حال القوة منا عليهم، ويفارقوننا في حال العجز منا عنهم!.ص187
69_ وقلت للعباداني: مَنِ الصديق؟ قال: من شهد طرفه لك عن ضميره بالوفاء والود، فإن العين أنطق من اللسان، وأوقد من النيران.ص187
ص196
__________
(1) _ لعلها: قال أبو حازم المدني سلمة بن دينار؛ لأن أبا حازم هو سلمة بن دينار.(1/26)
71_ ولما جَفت سَعْدٌ سيدها الأضبط بن قُريع تحوَّل عنهم إلى قبيلة أخرى؛ فظلموه وآذوه فقال: =بكل واد بنو سعد+.ص208
72_ وقال رجل من قريش: خالطوا الناس مخالطةً إن غِبتم حنُّوا إليكم، وإن مُتم بكوا عليكم.ص212
ص216
74_ قال الفضل بن الربيع: احلفْ لأخيك أنك تحبه، واجتهدْ في تثبيت ذلك عنده؛ فإنه يستجدُّ لك حباً، ويزداد لك وداً.ص223
ص240
76_ وقال أعرابي: السؤال عن الصديق أحد اللقائين.ص243
77_ وقال الحسن: ما تحاب اثنان ففرق بينهما إلا ذنب يحدثه أحدهما. ص244
78_ وقال الحسن: لا تشتر مودة ألفٍ بعداوة واحد.ص244
79_ وأخبرنا ابن مقسم العطار النحوي قال: أنشدنا ثعلب لأعرابي(1):
وذي رحمٍ قلَّمتُ أظفار ضِغْنِهِ
... بحِلْميَ عنه وهو ليس له حلمُ
إذا سِمْتُه وصلَ القرابةِ سامني ... قطعيتَها تلك السفاهةُ والظلمُ
ويسعى إذا أبني ليهدمَ صالحي
... وليس الذي يبني كَمَنْ شأنُه الهدمُ
يحاول رَغْمي لا يحاول غيرَه ... وكالموت عندي أن يسوغَ له الرَّغْمُ
فإن أنتصر منه أكنْ مثل رائشٍ ... سهامَ عدوٍ يُستهاضُ بها العظمُ
وإن أعفُ عنه أُغْضِ عيناً على قذىً ... وليس له بالصفح عن ذنبه عِلمُ
فما زلت في لينٍ له وتعطُّفٍ ... عليه كما تحنو على الولد الأمُ
__________
(1) _ الأبيات لمعن بن أوس المزني كما في حماسة البحتري 241هـ، ومعن هذا شاعر من مخضرمي الجاهلية والإسلام، وله أخبار مع عمر÷، وكان معاوية ÷ يفضله ويقول: =أشعر أهل الجاهلية زهير وأشعر أهل الإسلام ابنه كعب، ومعن بن أوس+ راجع أخباره في الأغاني 12/54 _ 56، والإصابة 8445، والخزانة 3/258.
وجاء في الأغاني 12/60: =قال عبدالملك بن مروان يوماً وعنده عدة من أهل بيته وولده: لِيَقُلْ كل واحد منكم أحسن شعر سمع به، فذكروا لامرئ القيس، والأعشى، وطرفة، فأكثروا حتى أتوا على محاسن ما قالوا، فقال عبدالملك: أشعرهم _ والله _ الذي يقول: وذي رحم...+.(1/27)
لأستلَّ ذاك الضِّغنَ حتى استللتُه ... وقد كان ذا ضغنٍ يضيق له الحزمُ
فداويت منه الحقدَ والمرءُ قادرٌ ... على سهمه ما دام في كفه السهمُ
ص245
ص249
81_ قال ابن المعتز: إذا صحت النية، وتوكدت الثقة سقطت مؤونة التحفظ.ص261
ص268
83_ قال المدائني: يقال: من رمى أخاه بذنب قد تاب منه ابتلاه الله به.ص271
84_ وقال آخر: إنما تطيبُ الدنيا بمساعفة الإخوان، ونفع بعضهم بعضاً في كل باب، وإلا فعلى الصداقة الدمار، وما أرجو إذا كانت تنقطع في الدنيا، ولا تتصل بما أحب في الدنيا.ص272
85_ وقال آخر: التجني رسول القطيعة، وداعي القِلى، وسبب السلو، وأول التجافي، ومنزل التهاجر.ص274
86_ وقال آخر: من عاشر الناس بالمسامحة دام استمتاعه بهم.ص274
87_ وحدثني أبو طائع الطَّلْحي قال: كتب الجراحي إليَّ مرة: الله يعلم أنك ما خطرت ببالي في وقت من الأوقات إلا مَثَّل الذكرُ منك لي محاسن تزيدني صبابة إليك، وضنَّاً بك، واغتباطاً بإخائك.ص276
88_ قال أعرابي لآخر: وُدُّك لا يَنْضى ملبوسه، ولا يَتْوى محروسه، ولا يذوي مغروسه(1).ص280
89_ قال عمر بن الخطاب ÷: مما يصفي لك ود أخيك أن تبدأه بالسلام، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب الكنى إليه.ص284
90_ قال حاتم الأصم: أربعة تُذهب الحقد بين الإخوان: المعاونة بالبدن، واللطف باللسان، والمواساة بالمال، والدعاء في الغيب.ص285
91_ قال أرسطو طاليس في رسالة أفدناها(2) أبو سليمان: تعهَّد الإخوان بإحياء الملاطفة؛ فإن التارك متروك، ثم تعهد إخوان الإخوان؛ فإن إخوان الإخوان من الإخوان، وهم منزلة العَلَم المستدل به على الوفاء.
__________
(1) _ لا ينضى: أي لا يخلق، وقوله: لا يتوى: أي لا يضيع ولا يخسر، وقوله: لا يذوي: أي لا يذبل.
(2) _ لعلها: أفدناها من أبي...أو أفادناها أبو سليمان...(1/28)
ثم تعهد أهل المكاشرة المتشبهين بالإخوان بالصبر عليهم؛ إما طمعاً في تحويل ذلك منهم صدقاً، وإما اتقاء كلمة فاجر وقعت في سمع مائق ذي دولة.ص286_287
92_ قال لنا المرزباني: حدثنا القراطيسي قال: أنشدنا أبو العيناء قال: أنشدنا السدري:
وإني لأهوى ثم لا أتبع الهوى ... وأكرم خلاني وفيَّ صدودُ
وفي الناس عن بعض التضرع غلظةٌ ... وفي العين عن بعض البكاء جمودُ
ص290
93_ قال يونس النحوي: لا تعادين أحداً وإن ظننتَ أنه لا يضرك، ولا تزهدن في صداقة أحد وإن ظننت أنه لا ينفعك؛ فإنك لا تدري متى تخاف عدوك، وترجو صديقك.
ولا يعتذر أحد إليك إلا قبلت عذره وإن علمت أنه كاذب، ولْيَقِلَّ عتبُ الناس على لسانك.ص291 _ 292
94_ وقال أعرابي: خير الجلساء من إذا عَجَّبْتَهُ عجب، وإذا فكَّهته طرب، وإذا أمسكت تحدث، وإذا فكرت لم يلمك.ص292
95_ شاعر:
إني لأُلبسكم على علاتكم ... لبسَ الشفيقِ على العتيق المُخلقِ
ولقد أرى ما لو أشاء عتبتُه ... وأصدُّ عَنْهُ ببُغيتي وترفقي
ليرى العدوُّ قناتَنا لم تنصدعْ ... ويكونَ ذاك كأنه لم يُخلقِ
وإذا تُتُبعتِ الذنوبُ فلم تدعْ ... ذنباً قطعت قوى القرين المُشفقِ
وسمعتَ أو نُقلتْ إليك مقالةٌ ... عوراءُ نُطْقَتُها صموتُ المنطقِ
ص293
96_ وقال ابن عائشة: مجالسة أهل الديانة تجلو عن القلوب صدأ الذنوب، ومجالسة أهل المروءات تدل على مكارم الأخلاق، ومجالسة العلماء تزكي النفوس.ص293
97_ وقال كعب الأحبار لرجل أراد سفراً: إن لكل رفقة كلباً فلا تكن كلب أصحابك.ص295
98_ وقال الحسن بن أبي الحسن البصري: من وجد دون أخيه ستراً فلا يكشفه.ص300
99 _ وقال: اصحب الناس بما شئت، يصحبوك بمثله.ص300
100_ كاتب: لا تجمعنَّ دعوى السَّراة، وتكبر الولاة، وتحكم القضاة. ص333(1/29)
101_ كاتب: لو اعتصم شوقي بمثل سُلُوِّك عن صلتي لم أبتذل لك وجه الرغبة فيك، ولا تحسَّيت مرارة تماديك، ولكن استخفَّتني صبابة إليك؛ فاحتملت صعب قسوتك؛ لعظيم قدر مودتك، وأنت أحقُّ من انتصر لصلتي مِنْ جفائه، ولشوقي مِنْ إبطائه.ص337
102_ قال أبو العيناء: مودة الكريم غراس، وشكر الشريف أحسن لباس.ص351
103_ قال ابن عباس: إن الذباب ليقع على صديقي فيشق عليَّ.ص352
=تعريف بالمؤلف+:
هو الأمير أبو المظفر مجد الدين أسامة بن مرشد بن علي بن مقلَّد بن نصر ابن منقذ الشيزري الكناني الكلبي.
ولد يوم الأحد 27 من شهر جمادى الآخرة سنة488هـ، وتوفي ليلة الثلاثاء 23 رمضان سنة584هـ.
وهو من بني منقذ، وهي أسرة مجيدة نشأ فيها رجال كبار كلهم فارس شجاع، وشاعر أديب.
وكانوا ملوكاً في أطراف حلب.
أما أسامة فهو من الأبطال الشجعان، والأدباء الكبار، وقد وصفه الذهبي في تاريخ الإسلام بأنه =أحد أبطال الإسلام، ورئيس الشعراء الأعلام+.
وقال عنه العماد الأصبهاني الكاتب: =وأسامة كاسمه، في قوة نثره ونظمه، يلوح من كلامه أمارة الإمارة، ويؤسس بيت قريضه عمارة العمارة، حلو المجالسة، حالي المساجلة، ندي الندى بماء الفكاهة، عالي النجم في سماء النباهة، معتدل التصاريف، مطبوع التصاريف+.
ولأسامة بن منقذ مؤلفات عديدة منها: كتاب: الاعتبار، وكتاب: البديع في نقد الشعر، وكتاب: التأسي والتسلي، وكتاب: الشيب والشباب، وكتاب: النوم والأحلام، وكتاب: القضاء، وكتاب: أخبار النساء، وديوان شعره.
ومنها ما نحن بصدده وهو كتاب: لباب الآداب.
=تعريف بالكتاب+: هذا الكتاب ألفه أسامة بن منقذ وهو ابن إحدى وتسعين سنة، وقد طبعته دار الكتب العلمية ببيروت 1400هـ _1980م، وهي الطبعة التي أُخِذَتْ منها النقول في هذا المنتقى.
ويقع هذا الكتاب في مجلد يحوي 520 صفحة.(1/30)
وقد تضمن أبواباً وفصولاً في الوصايا والسياسة، والكرم، والشجاعة، والآداب، وكتمان السر، وأداء الأمانة، والتواضع، وحسن الجوار، والصمت، وحفظ اللسان، والقناعة، والحياء، والصبر، والنهي عن الرياء، والإصلاح بين الناس، والتعفف، والتحذير من الظلم، والإحسان وفعل الخير، والصبر على الأذى، ومداراة الناس، وحفظ التجارب، وغلبة العادة.
ومما تضمنه الكتاب، باب البلاغة، ومن محاسن الشعر، ومن محاسن المديح، ومن بليغ التشبيه، والشيب، والاعتذار، والعتاب والمراثي، وباب الحكمة، وفصل في كلام الحكماء إلى غير ذلك.
وكان في الغالب يبدأ الباب أو الفصل أو العنوان بعدد من الآيات القرآنية، ثم يثني بالأحاديث الشريفة، ثم بكلام العلماء والحكماء، والشعراء وهكذا.
والكتاب مليء بالحكم والمواعظ، والتجارب، والقصائد الرائعة، والأبيات الشاردة، والأمثال السائرة إلى غير ذلك لما هو جالب للفائدة والمتعة.
كيف إذا كان عن مجرب قد عَرَكَتْهُ السنون، ووسَمَتْه الأيام بميسمها؟
كيف إذا كان قد كتبه وهو في الحادية والتسعين من عمره؟.
_ =النقولات المنتقاة+: قال أسامة بن منقذ في كتاب لباب الآداب:
1-باب الوصايا
_ الوصيّة وصيّتان: وصيّة الأحياء للأحياءِ، وهي أدب، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وتحذير من زَلَل، وتَبْصِرةٌ بصالح عمل، ووصيّةُ الأموات للأحياء عند الموت _ بحق يجب عليهم أداؤه، ودَيْن يجب عليهم قضاؤه.ص1
_ وقال محمد بن علي _رضوان الله عليهما_ لابنه: يا بُنَيّ، لا تَكْسََل؛ فإنك إن كَسِلتَ لم تُؤَدِّ حقَّاً ولا تَضْجَرْ؛ فإنك إن ضَجِرْت لم تصبِر على حقٍّ ولا تمتنعْ من حقٍّ؛ فإنه ما من عبد يمتنع من حقّ إلا فتح الله عليه باب باطل؛ فأنفق فيه أمثاله.ص12(1/31)
_ قال عمر بن الخطاب _رضوان الله عليه_: =من عرّض نفسه للتُهْمة فلا يلُومَنَّ من أسَاءَ به الظنَّ؛ ومن كتم سرَّه كانت الخِيَرَةُ بيده، وَضَعْ أمر أخيك على أحسنِهِ حتى يأتيَك ما يغلبك عليه، ولا تَظُنَّنَّ بكلمة خرجت من امرئ مُسلم شرَّاً وأنت تَجِدُ لها في الخير مَخْرَجاً؛ وعليك بإخوان الصدق فَكِسْ(1) في اكتسابهم؛ فإنهم زينة في الرخاء، عُدة في البلاء، ولا تَهَاوَنْ في الحَلِفِ بالله فيُهينك، وعليك بالصدق ولو قَتَلك، ولا تَعتَز ِ إلى من لا يُغْنيك واعتزل عدوَّك؛ واحْذَرْ صديقك إلا الأمين: والأمين من خشي الله _تعالى_ ولا تَصْحَب الفاجر فتتعلَّم من فُجُوره، ولا تُطْلِعْه على سرّك فيفضحك, وتخَشَّع عند القبور وآخ الإخوان على قدر التقوى؛ ولا تَسْتَعِنْ على حاجتك من لا يُحِبُّ نَجَاحَهَا لك؛ وشاورْ في أمرك الذين يخافون الله _عز وجل_+.ص12
_ عن الشعبي عن ابن عباس _رضي الله عنهما_ قال: قال لي أبي: إني أرى أمير المؤمنين _يعني عمر بن الخطاب رضوان الله عليه_ يدنيك دون أصحاب محمد" فاحفظ عني ثلاثاً: لا يُجرِّبن عليك كذباً، ولا تغتابنَّ عنده أحداً، ولا تُفشيّن له سرّا.
قال: فقلت: يا أبا عبّاس كل واحدة خير من ألف دينار، قال: كل واحدة منهن خير من عشرة آلاف دينار.ص15
_ قال عبدالله بن الحسن بن الحسين _رضوان الله عليهم_ لابنه محمد÷: يا بُنيّ، احذر مشورة الجاهل وإن كان ناصحاً، كما تحذر العاقل إذا كان عدواً؛ فيُوشك أن يُورطك الجاهل بمشورته في بعض اغتراره،فيسبق إليك مكروه فكر العاقل.
وإياك ومعاداة الرجال؛ فإنها لن تُعَدِّيك مكرَ حليم أو مفاجأة جاهل.ص15
_ قال معاذ بن جبل÷في وصيته: إنه لا بُدّ لك من نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج؛ فابدأ بنصيبك من الآخرة فخُذْه؛ فإنه سيمُرُّ على نصيبك من الدنيا فينتظمه انتظاماً، ويزول(2) معك حيث ما زُلْت.ص16
__________
(1) _ الكَيْس: العقل والتوقد.
(2) _ يزول: يتحرك.(1/32)
_ عن الشعبي قال: قلت لابن هبيرة: عليك بالتُؤَدة فإنك على رَدّ ما لم تفعل أقدر منك على ردّ ما فعلت.ص18
_ وقال الحكيم: من التوفيق حفظُ التجربة.ص19
_ وقال بعض العلماء: صُن عفّتك بالحلم، ومروءتك بالعفاف، ونجدتك بمجانبة الخيلاء، وجهدك بالإجمال في الطلب.ص19
_ وأوصى بعض الحكماء بنيه فقال: أصلحوا ألسنتكم، فإن الرجل تنوبه النائبة فيستعير من أخيه ثوبه، ومن صديقه دابته، ولا يجد من يعيره لسانه.ص20
_ قال الصُّولي: كاتبت أبا حنيفة ×(1) فأغفلت التاريخ، فكتب إليّ: وصل كتابُك مبهم الأوان، مظلم البيان، فأدّى خبراً ما القرب فيه بأولى من البعد منه؛ فإذا كتبت _أعزك الله_ فلتكن كتُبك موسومة بالتاريخ، لأعرِفَ أدنى آثارك، وأقرب أخبارك.ص20
_ كان قس بن ساعدة يفد على قيصر ويزوره، فقال له: يا قس، ما أفضل العقل؟ قال: معرفة المرء بنفسه، قال: فما أفضل العلم؟ قال: وقوف المرء عند علمه، قال: فما أفضل المروءة؟ قال: استبقاء الرجل ماء وجهه، قال: فما أفضل المال؟ قال: ما قُضي به الحق.ص21
_ قال حاتم الطائي:
وما من شيمتي شتم ابن عمي ... وما أنا مُخْلِف من يرتجيني
وكِلْمَةِ حاسد من غير جُرم ... سمعتُ فقلت: مرّي فانفذيني
فعابوها عليه ولم تعبني ... ولم يَعْرَقْ لها يوماً جبيني
وذو اللونين يلقاني طليقاً ... وليس إذا تغيب يأتليني
بصرت بعيبه فكففت عنه ... محافظة على حسبي وديني
ص24
_ وقال آخر:
__________
(1) _ ليس أبو حنيفة هذا الإمام المشهور، بل أرجح جداً أنه أبو حنيفة الدينوري (واسمه أحمد بن داود) وهو الكاتب البليغ، جمع بين حكمة الفلاسفة وبيان العرب، والصولي أبو بكر محمد بن يحيى الكاتب المعروف مؤلف كتاب (أدب الكتاب)، وهو أدرك الدينوري قطعاً؛ لأنه أخذ العلم عن أبي داود السجستاني صاحب السنن المتوفى سنة 275هـ والدينوري مات سنة 282هـ أو سنة 290هـ، وأما الصولي فإنه مات سنة 335هـ.(1/33)
نظيرك لا تُظهر عليه تطاولاً ... فتملأ ضِغناً صدره بالتطاول
ولكن له لِنْ، وارعَ _إن كنت راعياً_ ... له الحق وارمم حاله بالنوافل(1)
ص31_32
_ وقال آخر:
ولا تَهْدِمَنْ بُنيانَ من قد وجدته ... بنى لك بُنياناً وكن أنت بانيا
ص32
2-باب السياسة
_ قال كسرى: إني ضبطت مُلكي بأني لم أهزل في أمر ولا نهي قط؛ وأعطيت للغناء لا للرضى، وعاقبتُ للأدب لا للغضب، وصدقتهم الوعد والوعيد، وعممتُ بالعدل والإنصاف، وكففتُ يدي عن دمائهم وأموالهم إلا بحقها. ص37
_ وغضب كسرى على رجل من أصحابه فأمر بحسبه وقطع ما كان جارياً عليه، فقال له بزرجمهر: إن الملوك تُؤدِّب بالهجران، ولا تعاقب بالحرمان.ص37
_ وقّع بعض العمال إلى كسرى قُباذ في أنطاكية: للملك، جماعة قد فسدت نياتهم، وخبُثت ضمائرهم، وقد هموا بما لم يفعلوا، وهم غير مأمونين على المملكة؛ وهم: فلان وفلان وفلان، فإن رأى الملك أن يعاجلهم فعل.
فوقَّع في رقعته: إنما أملك الأجساد لا النيات، بالعدل لا بالرضى، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر.ص37_38
_ روي أن الموبذ سمع ضحك الخدم في مجلس أنو شروان، فقال له: أما تمنع هؤلاء الغلمان؟ فقال له أنو شروان: إنما يهابنا أعداؤنا.ص38
_ وقال قتيبة بن مسلم: ملاك السلطان الشدة على المريب، والإغضاء عن المحسن، ولين القول لأهل الفضل.ص38
_ وقيل لملك قد زال عنه ملكه: ما الذي سلبك ما كنت فيه؟ قال: دفع عمل يوم إلى غد، والتماس عذر بتضييع عمل.ص39
_ وقالوا: إن اللئيم الجاهل لا يزال ناصحاً حتى يُرفع إلى المنزلة التي ليس لها بأهل، فإذا بُلِّغها التمس ما فوقها بالغش والخيانة.ص42
_ وقالوا: من أخذ بالحزم وقدم الحذر وجاءت المقادير بخلاف مراده_ كان أحمد رأياً، وأظهر عذراً ممن عمل بالتفريط، وإن اتفقت له الأمور على ما يريد.ص45
__________
(1) _ النوافل: جمع نافلة، وهي العطية.(1/34)
_ فليس على العاقل النظر في القدر الذي لا يدري ما يأتيه منه، وما ينصرف عنه؛ ولكن عليه العمل بالحزم في أمره، ومحاسبة نفسه في ذلك.ص46
_ وقال الحكماء: الحاكم من لا يشغله البطر بالنعمة عن العمل للعاقبة، والهمُّ بالحادثة عن الحيلة لدفعها.ص46
_ وقالت الحكماء: من كانت فيه ثلاث خلال لم يستقم له أمر: التواني في العمل، والتضييع للفرص، والتصديق لكل مخبر.ص46
_ وقد قيل: أربعة أشياء لا يُستَقَلُّ قليلها: المرض، والنار، والدَّين، والعداوة. ص46
_ وقالوا إن العاقل _وإن كان واثقاً بقوته وعقله_ فليس ينبغي أن يحمله ذلك على أن يجني على نفسه العداوة والبغضاء اتكالاً على ما عنده من الرأي والقوة، كما أن العاقل إذا كان عنده الترياق لا ينبغي له أن يشرب السم اتكالاً على ما عنده.ص46
_ وقالوا: احذر معاداة الذليل، فربما شَرِقَ العزيز بالذبابة.ص47
_ وقال بعض الحكماء: لا تُصغِّر أمر عدو تحاربه؛ فإنك إن ظفرت به لم تُحمد، وإن عجزت عنه لم تُعذر.ص53
_ وقال الحكيم: يجب على السلطان أن يعمل بثلاث خصال: تأخير العقوبة في سلطان الغضب، وتعجيل مكافأة المحسن، والعمل بالأناة فيما يحدث؛ فإن له في تأخير العقوبة إمكانَ العفو، وفي تعجيل المكافأة بالإحسان المسارعة في الطاعة من الرعية، وفي الأناة انفساح الرأي واتضاح الصواب.ص53
_ وقال الحكيم: ما استُعين على العزم بمثل مجانبة الهوى.ص54
_ وقال آخر: من جعل مُلْكَه خادماً لدينه انقاد له كل سلطان، ومن جعل دينه خادماً لمُلْكِه طمع فيه كل إنسان.ص54
_ وقال آخر: مِنْ تمام الكرم أن تذكر الخدمة لك، وتنسى النعمة منك، وتفطن للرغبة إليك، وتتغابى عن الجناية عليك.ص54
_ وقال آخر: كُن بعيد الهِمم إذا طلبت، كريم الظّفر إذا غلبت، جميل العفو إذا قدرت، كثير الشكر إذا ظهرت.ص54
_ وقال الحكيم: ليكن مَرْجِعُك إلى الحق، ومَنْزِعُك إلى الصدق، فالحق أقوى مُعين، والصدق أفضل قرين.(1/35)
وقال: استعن على العدل بخلَّتين: قلة الطمع، وشدة الورع.ص55
_ وقال آخر: لا تُعوِّدنَّ نفسك إلا ما يُكتب لك أجره، ويحسن عنك نشره.ص55
_ وقال آخر: ارفق بإخوانك، واكفهم غَرْبَ لسانك؛ فطعن اللسان أشد من طعن السِّنان، وجرح الكلام أصعب من جرح الحسام.ص55
_ قال العتابي: مما يُعين على العدل اصطناع من يُؤثر التقى، واطِّراح من يقبل الرُّشا، واستكفاء من يعدل في القضية، واستخلاف من يُشفق على الرعية.ص55
_ وقال أفلاطون: بالعدل ثبات الأشياء، وبالجور زوالها؛ لأن المعتدل هو الذي لا يزول.ص57
_ وقال الإسكندر: لا ينبغي لمن تمسَّك بالعدل أن يخاف أحداً.ص57
_ وقال أفلاطون: من بدأ بنفسه أدرك سياسة الناس.ص57
_ وقال الحكيم: من عدل في سلطانه، استغنى عن أعوانه.ص58
_ وقال: لأن تُحسن وتُكْفَر، خير من أن تسيء وتُشكر؛ فمن أحسن فبنفسه بدا، ومن أساء فعلى نفسه اعتدى.ص58
_ وقال: من أبلى جِدَّتَه في خدمتك، وأفنى مدته في طاعتك_ فارع ذِمامه في حياته، وتكفَّلْ أيتامه بعد وفاته؛ فإن الوفاء لك بقدر الرجاء فيك.ص59
_ وقال الحكيم: الصبر على ما تكرهه وتجتويه(1)، يُؤديك إلى ما تحبه وتشتهيه.ص60
_ وقال: من أعجبته آراؤه، غلبته أعداؤه، ومن ساء تدبيره، كذب تقديره، ومن جهل مواطئ قدمه، عثر بدواعي ندمه.ص60
_ وقال: من أتم النصح الإشارة بالصلح، ومن أضر الغدر الإشارة بالشر.ص60
_ وقال: من استصلح عدوه زاد في عدده، ومن استفسد صديقه نقص من عدده.ص60
_ وقال الشاعر:
إذا الأمر أشكل إنقاذه ... ولم تر منه سبيلاً فسيحا
فشاور بأمرك في سترة ... أخاك أخاك اللبيب النصيحا
فَرُبَّتَما فرج الناصحون ... وأبدوا من الرأي رأياً صحيحا
ولا يلبث المستشير الرجال ... إذا هو شاور أن يستريحا
ص75
وقال آخر:
تُهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت ... فإن تولت فبالإشرار تنقاد
لا يصلح القوم فوضى لا سَراة لهم ... ولا سراة إذا جُهَّالهم سادوا
ص75
3-باب الكرم
__________
(1) _ أي تكرهه.(1/36)
_ قال الله _عز وجل_ في سورة البقرة: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ (254)].ص76
_ ومنها: [وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272)].ص76
_ ومن سورة إبراهيم: [قُلْ لِعِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31)].ص77
_ ومن سورة بني إسرائيل: [قُلْ لَوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُوراً (100)].ص77
_ قال أبو الحسن المدائني: كان عبيدالله بن قيس الرقيات(1) منقطعاً إلى عبدالله بن جعفر _رضي الله عنهما_ فكان يصله ويقضي دينه، فجاءت صلة عبدالله ابن جعفر في بعض ما كانت تجيء، وعبيدالله بن قيس الرقيات غائب، وكان معاوية×يصل عبدالله بن جعفر في كل سنة بمائة ألف، فأمر عبدالله بديحاً(2) غلامه فخبأ لعبيدالله بن قيس صلته، فلما قدم أخذها، وقال:
__________
(1) _ عبيدالله، بالتصغير، وفي الأصل =عبدالله+ بالتكبير، وهو خلاف الصحيح كما نص عليه الفيروزبادي في القاموس. وقيس الرقيات سمي هكذا لأنه تزوج عدة نسوة وافق أسماؤهن كلهن =رقية+ فنسب إليهن، هذا قول الأصمعي، وقيل: إنه كان يشبب بعدة نساء بهذ الاسم، وقيل: كانت له عدة جدات أسماؤهن كذلك، ولعبيدالله هذا ترجمة حافلة في الأغاني (4/154_166).
(2) _ بديح _بالدال والحاء المهملتين بوزن زير_ وكان يقال له =بديح المليح+ وهو مولى عبدالله ابن جعفر، وله ترجمة في الأغاني (14/9_10).(1/37)
إذا زرت عبدالله _ نفسي فداؤه _ ... رجعت بفضل من يداه(1) ونائل
وإن غبت عنه كان للود حافظاً ... ولم يك عني بالمغيب بغافل
تداركني عبدالإله وقد بدت ... لذي الحقد والشنآن مني مقاتلي
حباني لما جئته بعطية ... وجارية حسناء ذات خلاخل
ص107
_ قيل اشترى عبدالله بن عامر من خالد بن عقبة بن أبي معيط داره التي في السوق بسبعين ألف درهم، فلما كان الليل سمع بكاء آل خالد، فقال لأهله: ما لهؤلاء؟ قال: يبكون من أجل دارهم، قال: يا غلام، إئتهم فأعلمهم أن المال والدار لهم جميعاً.ص127
_ قال الشافعي×: لا أزال أحب حماد بن أبي سليمان، لشيء بلغني عنه: أنه كان يوماً راكباً حماراً له، فحركه، فانقطع زِرٌّ له، فمر على خياط، فأراد أن ينزل، فسوى زره، فأخرج له صرة فيها عشرة دنانير، فسلمها إلى الخياط، واعتذر إليه من قِلَّتها.ص145
_ قال الحميدي: قدم الشافعي×من صنعاء إلى مكة بعشرة آلاف دينار، فضرب خباءه في موضع خارج عن مكة، ونثر الدنانير على ثوب، ثم أقبل على كل من دخل عليه، يقبض قبضة ويعطيه، حتى صلى الظهر، ونفض الثوب وليس عليه شيء.ص145
4-باب الشجاعة:
__________
(1) _ هكذا في الأصل، وهو جائز على لغة من يلزم المثنى الالف.(1/38)
_ قال الله _عز وجل_ في سورة البقرة: [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنْ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنْ انتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193)].ص148
_ ومنها: [كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216)].ص148
_ ومن سورة آل عمران: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإٍلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)].ص149(1/39)
_ ومنها: [وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)].ص149
_ عن هشام عن الحسن×أن النبي"قال: =لغدوة أو روحة في سبيل الله _تعالى_ أفضل من الأرض وما عليها، ولموقف رجل في الصف أفضل من عبادة ستين سنة+.ص155
_ وعن رسول الله"أنه قال: =والذي نفسي بيده لوددت أني أقاتل في سبيل الله فأقتل، ثم أحيا فأقتل، ثم أحيا فأقتل+. ص157
_ قال أبو زيد: يقال: رجل =شَُِجَاعٌ+(1) من قوم =شَُِجْعة+(2).
ويقال: =شجاع+ و =شَجيعٌ+ بمعنى واحد.
و=الشُِّجاع+(2): ضرب من الحيات.ص165
_ قال أبو بكر بن دريد: =رجل شُجاع: أي جريء، والأشجع من الرجال: بيِّن الشجاعة، وهو الذي كأن به جنوناً+.ص165
5-من اشتهر بالفتك في الجاهلية
_ عبيد بن نشبة بن مرة بن غيظ بن مرة بن سعد بن ذبيان، والحارث بن ظالم المري، والبراض بن قيس الكناني، وتأبط شراً، وهو: ثابت بن جابر بن سفيان الفهمي، وحنظلة بن قايد: أحد بني عمرو بن أسد بن خزيمة.ص171
6-ومن شهُر بالفتك في الإسلام
_ أبو حردبة، ومالك بن الريب المازني، وعبيدالله بن الحر الجعفي، وعقبة ابن هبيرة الأسدي، وعبدالله بن سبرة الحرشي، وعبدالله بن خازم السلمي، والقتَّال الكلابي، وقران بن بشار الفقعسي، وعبدالله بن حجاج الثعلبي، وعبيدالله بن زياد بن ظبيان أحد بني تيم الله بن ثعلبة بن عكابة.ص171
__________
(1) _ الشين في الكلمتين يجوز فيها الحركات الثلاث.
(2) _ بضم الشين أو كسرها.(1/40)
_ وقال خالد بن الوليد ÷: ما ليلة أقر لعيني من ليلة يهدى إلي فيها عروس، اللهم إلا ليلة أغدو فيها لقتال العدو.ص189
_ عن المدائني قال: كانت قريش تقول: ما استوسق أمر الجاهلية والإسلام لأحد غير خالد بن الوليد فإنه لم يهزم قط÷.ص189
_ وعن المدائني قال: كان سعيد بن الأوس بن أبي البختري من أجمل الناس وأشجعهم، وكان يختال في مشيته، فنظر إليه عبدالله بن الزبير÷يوماً وهو يتبختر بين الصفين، فقال: كنت أظن أن مشيته تخلق فإذا هي سجية.ص189
_ قال عبدالرحمن بن خالد بن الوليد _رضي الله عنهما_ يوم صفين لمعاوية:
ما رأيت أعجب منك يا أمير المؤمنين! إن كنت لتتقدم حتى أقول: أحب الموت، ثم تستأخر حتى أقول: أراد الهرب!!
قال: يا عبدالرحمن: إني والله ما أتقدم لأقتل، ولا أتأخر لأهرب، ولكن أتقدم إذا كان التقدم غُنماً، وأتأخر إذا كان التأخر حَزماً، كما قال الكناني:
شجاعٌ إذا ما أمكنتني فرصة ... فإن لم تكن لي فرصة فجبان
قلت: هذا كلام خبير بالحرب، وهو الذريعة إلى الظفر أو السلامة، إلا مع الاضطرار؛ فإن المضطر لا يليق به إلا الإقدام، فإن كان في الأجل فسحة فهو ينجو مشطوراً، وإن انتهت المدة فموت المُقْدِم أكرم من موت المُوَلِّي. ص193_194
_ وقال أفلاطون: الشجاعة من أقوى فضائل العالم؛ لأنها تبرز ما حوله من القول أو الفعل.ص195
_ والشجاعة تكون في الضعيف البدن، الخِِلوِ من العمل بشيء من السلاح؛ فيسمى صاحبها شجاعاً.ص195
_ نقلت من خط النَّجِيرمي قال: كان الفِنْدُ من الفرسان الشجعان القدماء، وهو شهل بن شيبان بن ربيعة بن زِمَّان، وإنما سمي =الفند+ لأنه شبه بالقطعة من الجبل، وكان عظيماً، وأمدت بنو حنيفة يوم قِضَة بكر بن وائل بالفند، وقالوا: قد أمددناكم بألف رجل، وكان شيخاً كبيراً يومئذ، فطعن مالك بن عوف بن الحارث بن زهير بن جشم وخلفه رديف له يقال له الثريار بن مازن بن جشم بن عوف ابن وائل بن الأوس، فانتظمهما برمحه وقال:(1/41)
أيا طعنةَ ما شيخٍ ... كبير يَفَنٍ بال(1)
كجيب الدِّفْنِسِ الْوَرْهَا ... ءِ رِيعت بعد إجفال(2)
تَفَتَّيتُ بها إذ كَـ ... ـرِهَ الشِّكَّةَ أمثالي(3)
وشهد الفِندُ الزَّمَّانيُّ حرب بكر وتغلب وقد قارب المائة سنة، فأبلى بلاء حسناً، وكان يوم التحالق الذي يقول فيه طرفة بن العبد:
سائلوا عنا الذي يعرفنا ... بِقُوَانَا يوم تَحْلاقِ اللِّمَمْ
يوم تبدي البيض عن أسْوُقِهَا ... وتَلُفُّ الخيل أعراج النَّعَمْ
ص205_207
_ وعن أبي حاتم الرازي قال: سمعت عبدة بن سليمان المروزي يقول: كنا في سرية مع عبدالله بن المبارك×في بلاد الروم، فصادفنا العدو، فلما التقا الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى البراز، فخرج إليه رجل فقتله، ثم خرج رجل آخر منهم فقتله، ثم آخر فقتله، ثم خرج إليه آخر فطارده فطعنه فقتله، فازدحم إليه الناس، فإذا هو يلثم وجهه بِكُمِّه، فأخذت بطرف كمه، فممدته فإذا هو عبدالله بن المبارك، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنِّع علينا؟!ص223
7-باب الآداب
_ قال الله _عز وجل_ في سورة البقرة: [وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (31)].
فمن لا شريعة له لا إيمان له ولا توحيد، والشريعة موجبة للأدب، فمن لا أدب له لا شريعة له، ولا إيمان، ولا توحيد.ص227
_ وقال ابن عطاء×: الأدب الوقوف مع المستحسنات، فقيل: وما معناه؟ قال: أن تعامل الله _تعالى_ بالأدب سراً وإعلاناً، فإذا كنت كذلك كنت أديباً وإن كنت أعجمياً.ص227
__________
(1) _ اليَفَن: الشيخ الهرِم.
(2) _ الدِّنفس: الحمقاء، الورهاء: المتساقطة العقل.
(3) _ تَفَتَّيتُ: أي تخلَّقت بأخلاق الفتيان، الشِّكَّةَ: هي ما يُلبس من السلاح.(1/42)
_ وكان يقال: من حسن الأدب أن لا تنازع من فوقك، ولا تقول ما لا تعلم، ولا تتعاطى ما لا تنال، ولا يخالف لسانك ما في قلبك، ولا قولك فعلك، ولا تدع الأمر إذا أقبل، وتطلبه إذا أدبر.ص228
_ ويقال: من أُدِّبَ صغيراً قرت عينه كبيراً، ومن أدب ابنه أرغم أنف عدوه.ص228
_ قال سقراط الحكيم: العقول مواهب، والآداب مكاسب.ص236
_ وقال: متواضع العلماء أكثرهم علماً، كما أن المكان المنخفض أكثر البقاع ماءاً.ص236
_ وقال: لستَ تُعَرِّض المسيء لمقت الله بمثل الإحسان إليه مع الإساءة منه إليك.ص236
_ وقالوا: الصبر على كتمان السر أيسر من الندامة على إفشائه.ص242
_ وقالوا: لا تفش سرك إلا عند من يضره نشره كما يضرك، وينفعه ستره كما ينفعك.ص242
_ وقالوا: كل سر تكتمه عدوك فلا تطلع عليه صديقك.ص242
_ وقالوا: أصبر الناس من صبر على كتمان سره، فلم يبده لصديقه؛ خوفاً من أن يصير عدواً، فيذيعه.ص242
_ وقال السري بن المغلس×: أربع من أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة: صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وعفاف الطعمة، وحسن الخليقة.ص249
8-فصل في حسن الجوار
_ قال الله _عز وجل_ في سورة النساء: [وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً (36)].ص258
_ وعن مجاهد: أن عبدالله بن عمرو _رضي الله عنهما_ أمر بشاة فذبحت، فقال لقيِّمه: هل أهديت لجارنا اليهودي شيئاً؟ مرتين فإني سمعت رسول الله " يقول: =ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه+.ص258_259
9-فصل في الصمت وحفظ اللسان(1/43)
_ قال الله _تبارك وتعالى_ في سورة النساء: [لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114)]ص269
_ وعن أبي هريرة÷عن النبي"أنه قال: =من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، وليكرم ضيفه، وليقل خيراً أو ليسكت+.ص271
10-فصل في التعفف
_ قال الشاعر:
أُقسم بالله لَرَضْخُ النوى ... وشربُ ماءِ القُلُبِ المالحهْ
أعز للإنسان من حرصه ... ومن سؤال الأوجه الكالحهْ
فاستشعر الصبر تَعِشْ ذا غنى ... مغتبطاً بالصفقة الرابحهْ
ص307
_ وقال آخر:
صن بعز اليأس عنهم أبداً ... ماء ديباجك عن بذل النوال
ليس شيء من نوال تبتغي ... قيمة للوجه من ذل السؤال
ص308
11-فصل في الصبر على الأذى ومداراة الناس
_ قال الله _تبارك وتعالى_ في سورة آل عمران: [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (186)].ص318
_ وعن مجاهد في قول الله _تبارك وتعالى_: [وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً] الفرقان:72 قال: إذا أُوذوا صفحوا.ص319
_ وقال حاتم الطائي:
تَحَلَّم عن الأدْنَيْنَ واستَبْقِ وُدَّهم ... ولن تستطيع الحِلْمَ حتى تَحَلَّما
ص321
_ وقال آخر:
لقد أسمع القول الذي كاد كلما ... تُذَكِّرُنِيهِ النفسُ قلبيْ يُصَدَّعُ
فأُبدي _ لمن أبداه _ مني بشاشة ... كأني مسرور بما منه أسمع
وما ذاك من عُجْبٍ به غير أنني ... أرى أن ترك الشر للشر أقطع
ص322
12-فصل في حفظ التجارب وغلبة العادة(1/44)
_ قالت الحكماء: التجارب عقل ثان، ودليل هاد، وأدب للدهر؛ فافهم عن الأيام أخبارها، فقد أوضحت لك آثارها، واتعظ بما وعظك منها، وتَأَملْ ما ورد عليك من أحوالها تَأَمُّلَ ذي فكرة منها؛ فإن الفكرة تدرأ عنك عمى الغفلة، وتكشف لك عن مستخفيات الأمور.ص325
_ وقالوا: الدهر أفصح المؤدبين؛ وكفاك من كل يوم خبر يورده عليك، وإنما الأيام مراقي الأدب، ودرجات إلى العلم الأكبر، فمن فهم عنها أورث زيادة، وسطع نور علمه، ولم يفتقر إلى غير نفسه، ولو صحب ذو الغفلة أيام الدنيا بعجائب ما تصرفت به على القرون لم يزل جذعاً في الغرة، ومتدلهاً فيما يحدث؛ لأن الغفلة ظلمة راكدة، والمعرفة مصباح الخلقة.ص325
_ وقد قيل: إذا رأيت ذا العمر الطويل والسن القديم يكثر التعجب مما يرى ويسمع_ فذلك لقلة حفظه للتجارب، ولسهوه عما مرت به عليه الليالي.
_ وقالوا: الفهم خزانة العقل؛ ونور يبصر به ما أمامه، وإنما نكص على عقبيه من خانه فهمه، وخذله عقله، وضيع ما استودعته الأيام، فكأنه ابن يومه، أو نتيج ساعته، وحسبك مؤدباً لخصالك، ومثقفاً لعقلك_ ما رأيته من غيرك: من حسن تغبط به، أو قبيح تذم عليه.ص325_326
_ وقد قيل: نفسك تقتضيك ما عودتها من خير أو شر.ص326
_ وقيل: لسانك يقتضيك ما عوَّدته.ص326
13-باب البلاغة
_ قلت _وبالله التوفيق_: كلام المخلوقين تتميز فيه البلاغة من العي، والفصاحة من اللَّكن، وأما كلام الخالق _تبارك وتعالى_ فعقول البلغاء تعجز عن تدبر بلاغته، وتحار في اطراد فصاحته، فماذا يورد المورد منه؟! وبماذا يترجم عنه؟!(1/45)
وقد تحدى الله _سبحانه_ به خلقه أجمعين، فقال _وهو أصدق القائلين_ في سورة يونس: [وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)].ص328
_ وقال _عز وجل_ في سورة الطور: [أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)].
وما يعجز الإنس والجن عن أن يأتوا بمثله؛ فماذا ينتزع منه وماذا ينتخب؟.ص329
_ وقد روي عن الأصمعي× قال: اجتزت ببعض أحياء العرب، فرأيت صبية معها قِرْبةٌ فيها ماء وقد انحلَّ وِكَاءُ فَمِها؛ فقالت: يا عم، أدرك فاها، غلبني فوها، لا طاقة لي بفيها؛ فأعنتها، وقلت: يا جارية، ما أفصحك! فقالت يا عم، وهل ترك القرآن لأحد فصاحة؟ وفيه آية فيها خبران وأمران ونهيان وبشارتان! قلت: وما هي؟ قالت: قوله _تبارك وتعالى_: [وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ] القصص:7
قال: فرجعت بفائدة، وكأن تلك الآية ما مرت بمسامعي!!ص329
_ وقال يحيى بن معاذ ×: طلب الخير شديد، وترك الشر أشد منه؛ لأن ليس كل الخير يلزمك عمله، والشر كله يلزمك تركه.ص339
_ وحذر رجل من الحكماء صديقاً له صحبه آخر، فقال: يا فلان، احذر فلاناً؛ فإنه كثير المسألة، حسن البحث، لطيف الاستدراج، يحفظ أول كلامك على آخره، ويعتبر ما أخرت بما قدمت؛ فلا تظهرن له المخافة، فيرى أنك قد تحرزت وتحفظت.(1/46)
واعلم أن من يقظة الفطنة إظهارَ الغفلة مع شدة الحذر، فباتِّه مباتَّة الآمن، وتحفَّظ منه تحفظ الخائف، فإن البحث يظهر الخفي، ويبدي المستتر الكامن. ص342
_ قال سويد بن أبي كاهل:
إني إذا ما الأمر بيَّن شكُّه ... وبدت بصائره لمن يتأمل
أَدَعُ التي هي أرفق الحالات بي ... عند الحفيظة للتي هي أجمل
ص355_356
وقال أُحَيْحَةُ بن الجُلاح:
استغن عن كل ذي قربى وذي رحم ... إن الغني من استغنى عن الناس
والبس عدوَّك في رفق وفي دعة ... لباس ذي إربة للناس لباس
ص356
14-باب في الحكمة
_ قال الله _تبارك وتعالى_ في سورة البقرة: [يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (269)].ص420
_ وقال البعيث:
فلا تكثرن في إثر شيء ندامة ... إذا نزعته من يديك النوازع
ص424
_ قيل: سمع كعب الأحبار×رجلاً ينشد قول الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
فقال: والذي نفسي بيده إن هذا مكتوب في التوراة.ص524
_ وقال الحكيم: المخذول من كانت له إلى الناس حاجة.ص429
_ وقال أرسطاطاليس الحكيم لصديق له وقد رآه ظالماً: هبنا نقدر على محاباتك في أن لا نقول: =إنك ظالم+، هل تقدر أنت على أن لا تعلم أنك ظالم؟! وقليل الحق أجدى عليك من كثير الظلم.ص429_430
_ وقال: ما أكثر ما نعاتب غيرنا على الظنون، ونترك عتاب أنفسنا على اليقين.ص430
_ وقال: ما أحرصنا على ستر أفعالنا الردية عن غيرنا وهي لنا منكشفة، فغيرنا أفضل عندنا من أنفسنا.ص430
_ وقال: القوةُ على الامتناع عن اتباع الشهوات أحدُ أشفيةِ أسقامِ النفس.ص432
_ وقال بعض الحكماء: ما أعجب من يطلب العفو ممن هو فوقه، ويمنعه من هو دونه.ص432
_ وقال سقراط: أَمَّا على الكلام فكثيراً ما ندمت، وأما على السكوت فلا.ص433
_ وقال أوجانس: كفاك موبخاً على الكذب علمك أنك كذاب.ص433(1/47)
_ وقال: لو سكت من لا يعلم لسقط الاختلاف.ص433
=تعريف بالمؤلف+:
هو الشيخ الزاهد الفقيه الإمام القدوة العلامة شيخ الإسلام موفق الدين عبدالله بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسي الجمَّاعيلي ثم الدمشقي الصالحي الحنبلي صاحب المغني أبو محمد.
ولد في شعبان بجمَّاعيل _ قرية في جبل نابلس من أرض فلسطين _.
كان والده من أهل العلم والفضل والصلاح والزهد.
ونشأ ابن قدامة محباً للعلم مجتهداً في طلبه، حيث أخذ عن علماء الشام، وسافر إلى بغداد، وله مصنفات عديدة منها: الاعتقاد والبرهان في مسألة القرآن، وكتاب التوابين، وذم الوسواس، والروضة في أصول الفقه، والعمدة، والمقنع، والمغني، وغيرها.
جاء في ترجمته: أنه كان×إماماً في فنون كثيرة، وكان كثير الحياء، عزوفاً عن الدنيا، هيناً، ليناً، متواضعاً، محباً للمساكين، حسن الأخلاق، جواداً سخياً من رآه كأنما رأى بعض الصحابة، وكأن النور يخرج من وجهه، كثير العبادة، يقرأ كل يوم وليلة سُبْعاً من القرآن، وكان إذا فرغ من صلاة العشاء يمضي إلى منزله، ويمضي معه مِنْ فقراء الحلقة مَنْ قدَّره الله _ تعالى _ فيقدم لهم ما تيسر؛ ليأكلوه.
وكان شجاعاً مقداماً مجاهداً في سبيل الله.
وكان مع تبحره في العلوم زاهداً تقياً ربانياً عليه هيبة ووقار، وفيه حلم وتؤدة.
وكان يفحم الخصوم بالحجج والبراهين، ولا يتحرج ولا ينزعج، وخَصْمُه يصيح ويحترق.
وكان _ أيضاً _ لا يكاد يناظر أحداً إلا وهو يبتسم، حتى قال بعض الناس: هذا الشيخ يقتل خصمه بتبسمه.
ولقد أثنى عليه العلماء ثناءاً عاطراً، قال عنه ابن الصلاح×: =ما رأيت مثل الشيخ الموفق+.
وقال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية×: =ما دخل الشام بعد الأوزاعي أفقه من الشيخ الموفق+.
كانت وفاته×يوم السبت يوم عيد الفطر أول شوال بدمشق سنة 620هـ.
=تعريف بالكتاب+:(1/48)
هذا الكتاب وصية كتبها ابن قدامة؛ استجابة لطلب بعض الصالحين؛ ليستفيد منها، فاعتذر الموفق؛ تواضعاً منه، ولكن بدا له أن يجيب؛ رجاء النفع بالوصية.
وقد ضمَّنها الوصاية بفعل الطاعات، واغتنام الأوقات، وبيَّن من خلالها بعض مفسدات الأعمال، ومثَّل على ذلك بالأمثلة، وبقصص وحكايات الصالحين.
والكتاب من القطع الصغير، ويقع في 160 صفحة، تحقيق د.محمد يوسف الشربجي، ومراجعة الأستاذ سعدي أبو حبيب، وتقديم الشيخ عبدالقادر الأرناؤوط، ط. دار الكلم الطيب _ دمشق _ بيروت، ط 1 _ 1417هـ _ 1996م.
_ =النقولات المنتقاة+: قال ×:
1_ أما بعد: فقد سألني بعض إخواني الصالحين أن أكتب له وصية، فامتنعت من ذلك؛ لعلمي أني غير مستوصٍ في نفسي، ولا عاملٍ بما ينبغي، ثم بدا لي أن أجيبه إلى مسألته؛ رجاء ثواب قضاء حاجة الأخ المسلم، ودعائه لي، وأن يجري لي أجراً إذا عمل بوصيتي، وأن أكون من الدالين على الخير حين عجزت عن عمله؛ لأكون بدلالتي عليه كفاعله، والأعمال بالنيات، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، وإليه أنيب، فأقول وحسبنا الله ونعم الوكيل.ص71 _ 72
2_ وألزم قلبك التفكير في نعم الله؛ لتشكرها، وفي ذنوبك؛ لتستغفرها، وفي تفريطك؛ لتندم، وفي مخلوقات الله وحكمه؛ لتعرف عظمته، وفيما بين يديك؛ لتستعد له، أو في حكم شيء تحتاج إليه؛ لتعليمه.ص87
3_ وألزم لسانك ذكر الله _ تعالى _ ودعاءه، واستغفاره، أو قراءة قرآن، أو علماً، أو تعليماً، أو أمراً بمعروف، أو نهياً عن منكر، أو إصلاحاً بين الناس. ص87
4_ وأشغل جوارحك بالطاعات، وليكن من أهمها الفرائض في أوقاتها على أكمل أحوالها، ثم ما يتعدى نفعه إلى الخلق، وأفضل ذلك ما نفعتهم في دينهم كتعليمهم الدين، وهدايتهم إلى الصراط المستقيم.ص87 _ 88(1/49)
5_ واحترز من مفسدات الأعمال؛ لئلا يفسد عملك، ويخيب سعيك، فلا تحصل على أجر العاملين، ولا راحة البطالين، وتفوتك الدنيا والآخرة، فمن ذلك الرياء والعمل لمحمدة الناس؛ فإن هذا شرك، وقد روي عن الله _ تعالى _ أنه قال: =مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيْهِ غَيْرِيْ، فَهُوَ لِلْذي أشرك، وَأَنَا مِنْهُ بَرِيْء+.
وقد لا يحصل للمرائي ما قصده؛ فيخيب بالكلية، فقد روينا: أن رجلاً كان يرائي بعمله، فإذا مرَّ بالناس قالوا: هذا مراءٍ، فقال يوماً في نفسه: والله ما حصلت على شيءٍ، فلو جعلت عملي لله، فما زاد على أن قلب نيته، فكان إذا مرَّ بهم بعد قالوا: هذا رجل صالح.ص88 _ 89
6_ ولا تحقرنَّ مسلماً، ولا تظنن أنك خيرٌ منه، فإن ذلك ربما أحبط عملك، وقد روينا أن عيسى _ عليه السلام _ خرج في سياحته معه حواريّه، فمرا بقلعة فيها لص، فلما رآهما قال لنفسه: هذا عيسى نبي الله، وهذا حواريّه، ومَنْ أنت يا شقي؟ لص تقطع الطريق، وتخيف السبيل، وتقتل النفس التي حرم الله، فنزل إليهما تائباً نادماً، فلما أراد أن يمشي معهما قال لنفسه: ما أنا بأهل أن أمشي معهما، ولكن أمشي خلفهما كما يمشي المذنب الذليل، فمشى خلفهما، فالتفت الحواري فرآه يمشي خلفهما فعرفه، فقال في نفسه: من هذا الكلب حتى يمشي خلفنا، فاطلع الله _ تعالى _ على ما في أنفسهما، فأوحى إلى عيسى _ عليه السلام _ أن قل للحواري واللص يستأنفان العمل؛ أما اللص فقد غفرت له بتوبته وإزرائه على نفسه، وأما الحواري فقد أحبطت عمله بازدرائه اللص التائب.ص91 _ 92
7_ وقال بعض أنبياء بني إسرائيل لقومه: إيتوني بخيركم، فأتوه برجل فقال له النبي: إيتني بشرّهم، فخرج بنفسه فقال: ما وجدت فيهم شراً مني، فقال: صدقوا أنت خيرهم.ص92(1/50)
8_ واعلم أن الله _ تعالى _ ناظر إليك، مطلع عليك، فقل لنفسك: لو كان رجل من صالحي قومي يراني لاستحييت منه، فكيف لا أستحي من ربي _تبارك وتعالى_ ثم لا آمن تعجيل عقوبته، وكشف ستره؟ص94 _ 95
9_ واعلم أنك لا تقدر على معصيته إلا بنعمته؛ فكم له عليك من نعمة في يدك التي مددتها إلى معصيته؟! وكم من نعمة في عينك التي نظرت بها إلى ما حرم عليك؟! وفي لسانك الذي نطقت به بما لا يحل لك؟! وليس من شكر إنعامه أن تستعين به على معاصيه.ص95
10_ وإن ابتليت بمعصية فبادر بالتوبة والاستغفار، والندم، وابك على خطيئتك؛ فإنك لا تدري على ما أنت منها؛ فإن بعضهم يقول: =لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عِظَم من عصيت+.
وشكا بعض عمال أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز إليه فكتب إليه: يا أخي! اذكر سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، واحذرْ أن يكون المنصرف بك من عند الله إلى النار، فيكون آخر العهد منك ومنقطع الرجاء، فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم عليه، فقال: ما أقدمك؟ قال: خلعتَ قلبي بكتابك، لا عَملْتُ لك، ولا لأحد بعدك.ص98 _ 100
11_ واعلم _رحمك الله_ أن حسن الخلق أثقل ما وضع في الميزان، وأنه يبلغ بصاحبه درجة الصائم القائم، وأن من وصل رحمه وصله الله، ومن قطعها قطعه الله، وأن أفضل الأعمال الصلاة لمواقيتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله، وأن أوثق عرى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله، وأن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، وملاك الأمر الدعاء؛ فإن الأمر كله بيد الله يهدي من يشاء، ويستعمله، ويضل من يشاء، ويخذله؛ فينبغي لك أن ترغب إلى مَنِ الأَمرُ بيديه، وتفوض أمرك إلى الله، وليكن دعاؤك بخضوع، وخشوع، وبكاء، وتضرع؛ فإن بعضهم قال: إني لأعلم حين يستجيب لي ربي _عز وجل_ إذا: وَجِلَ قلبي، واقشعرَّ جلدي، وفاضت عيناي، وفتح لي في الدعاء. ص106 _ 109(1/51)
12_ فاعتمد على الله اعتماد الغريق الذي لا يعلم لسبب نجاته غير الله _تعالى_.ص114
13_ وعليك بالورع، واجتناب الشبهات؛ فإن من واقَعَ الشبهات أوشك أن يقع في الحرام؛ فإن من يرتع حول الحمى أوشك أن يجسر، وعليك بالليل، فاخْلُ فيه بربك، واطلب منه حوائجك، وتضرع إليه، واخضع بين يديه. ص115 _ 116
14_ واعلم أن الله _ تعالى _ إذا نظر إليك، وعلم أنك قد جعلته معتمدك، وملجأك، وأفردته بحوائجك دون خلقه _ أعطاك أفضل مما سألته، وأكرمك بأكثر مما أردته، فإن عجل لك الإجابة فقد جمع لك بين قضاء الحاجة وخير الآخرة، وإن لم يجبك عاجلاً فقد عوضك عن ذلك خيراً كثيراً فيه؛ فأنت على خير في الحالتين.ص119 _ 120
15_ ومناجاة العباد لربهم كثيرة، ومن أحسنها: ما روي عن منصور ابن عمار×قال: سمعت عابداً بالليل يناجي ربه، وهو يقول:
وعزتك وجلالك! ما أردت بمعصيتي مخالفتك، ولا التعرض لغضبك، ولا أنا بِنَكَالِكَ جاهل، ولا لعذابك متعرض، ولا بنظرك مستخِفٌّ، ولكنْ زينت لي نفسي، وأعانتها شقوتي، وغرَّني سترك المُرْخَى عليَّ، فعصيتك بجهلي، وخالفتك بجُهدي، فالآن من عذابك من ينقذني؟ وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عني؟ وا سوأتاه من الوقوف بين يديك غداً إذا قيل للمُخفِّين: جوزوا، وللمثْقَلين: حُطّوا، فمع المخفين أجوز أم مع المثقلين أحط؟ يا سيدي! ويلي كلما طالت أيامي، وكثرت آثامي، ويلي كلما كبرت سني، وعظمت ذنوبي، فمن كم أتوب، وفي كم أعود، وا شباباه! وا شباباه!.ص122 _ 123
=تعريف بالمؤلف وبالكتاب+: أما المؤلف فهو الشيخ العلامة الأديب محمد الخضر الحسين التونسي 1293_1377هـ.
وقد مرت ترجمته في الجزء الأول من المنتقى.
أما الكتاب فهو رسالة مختصرة لطيفة طريفة، تتضمن خلاصة وافية لآداب الحرب في الإسلام، وتغني عن المطولات من البحوث التي تناولت هذا الموضوع.(1/52)
وهذه الرسالة ظهرت للمرة الأولى في الجزأين التاسع والعاشر من المجلد الثاني عشر لمجلة الهداية الإسلامية عام 1355 التي كان يصدرها الشيخ×.
وقد صدرت في رسالة مستقلة ضمن المنشورات الإسلامية التي كانت جمعية الهداية الإسلامية تقوم بنشرها، ولم تحمل تلك النشرة أي تاريخ لصدورها.
وقد عني بجمع هذه المادة وتحقيقها الأستاذ الفاضل علي الرضا الحسيني ابن أخي الشيخ.
والطبعة التي بين أيدينا هي الثالثة عام 1413هـ_1993م، طبع الدار الحسينية للكتاب، والكتاب من الحجم الصغير ويقع في 64 صفحة.
_ =النقولات المنتقاة+: قال ×:
-أما بعد: فقد ذكرت ما كان للجيوش الإسلامية من قوة، وما كان لها من الوقائع المكللة بالظفر، ولم أرتب في أن لتلك القوة والظفر أسباباً أقواها نور الإيمان الذي كان يتلألأ في صدورهم، وآداب الدين الذي كانوا يعتزون به في كل موطن، ونصائحه التي كانوا يرعونها بحق، فبدا لي أن أذكّر جيوشنا الإسلامية بجانب من تلك الآداب والنصائح، حتى إذا وجدت فطراً سليمة ونفوساً مشرقة بالإيمان قوي رجاؤنا في أنّا سنخرج من حمأة المهانة إلى صعيد طاهر من الكرامة، وأن الزمن الذي تخفق فيه رايتنا بالنصر على من يروم السيطرة على أوطاننا غير بعيد. ص7
1_ أسباب الحرب
_ طبعت نفوس على حب الاستئثار بالمنافع، وذلك ما يدعوها إلى أن تُمدّ أيديها إلى ما يتمتع به غيرها من خير ، وتنتزعه منه بقوة، كما أن في النفوس غيرةً على ما بيدها من حق، وإبايةً لأن يؤخذ منها هذا الحق وهي كارهة، وذلك ما يدعوها إلى أن تذود عن ساحتها، وتدافع عن حقوقها ولو كان خصمها أكثر جنداً وأتمَّ سلاحاً، بل تقف هذا الموقف من الرجولة والاحتفاظ بالكرامة، ولو غلَب على ظنها أنها ستُغلَب على أمرها؛ تفعل هذا إيثاراً لحياة العزة على حياة المهانة، وتحامياً لخزي ينقل من جيل إلى جيل.(1/53)
وهاتان الطبيعتان: طبيعة حب الاستئثار بالمنافع، وطبيعة إباء الضيم هما منشأ أكثر الحروب التي تقوم بين الأمم: الحريص على منافع في يد غيره يهاجم أو يستعد متحفزاً للهجوم، ومن بيده المنافع ينهض في وجه المهاجم، أو يبادر المتحفز للهجوم عليه قبل أن يستوفي وسائل الهجوم، =تغدّ بالحجّاج قبل أن يتعشى بك+.
وربما كان قوم على حق وسيرة من الرشد، فيحمل لهم الطغاة الفجّار ضغناً، ويرومون القبض على زمامهم ليصرفوهم عن سيرتهم الرشيدة، ولا يرضى المستقيمون على طريقة الرشد إلا أن يعيشوا أحراراً، فإذا الحرب ناشبة: أولئك يبغون فتنة، وهؤلاء يبغون سلاماً.
وقد تنشب الحرب بين طائفتين يعتقد كل منهما في نفسه أنه المظلوم وخصمَه الظالم، وهذا النوع من الحروب هو الذي يمكن تحاميه من طريق المفاوضات، وقرْع الحجّة بالحجّة، ويغني فيه القلم عن النار والحديد. ص8_9
2_ الاستعداد للحرب
_ إذا كانت طبيعة حب الاستئثار بالمنافع غالبة على النفوس، وإذا كان أصحاب الأهواء يحرصون على إطفاء نور الحق، وإذا كان في إقناع أحد الخصمين بأن الحق في جانب غيره صعوبة _ فمن الحزم أن تكون الأمة على استعداد كاف لدفاع من يريد الاعتداء على حق من حقوقها، بسوء قصد أو بسوء فهم.
وكذلك نرى الإسلام قد فرض على الأمة أن تنفق أقصى ما تستطيع في الاستعداد للدفاع، قال _تعالى_: [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ] الأنفال:60؛ فاستعداد الأمة للحرب يجعلها في مَنعَة من أن يهتضم ذو قوة حقاً من حقوقها، أو تحدِّثَه نفسه بأن يبسط سلطانَه على قيد شبر من أوطانها. ص10(1/54)
_ أمر الشارع الحكيم بإعداد وسائل الدفاع، وذكرها بلفظ عام وهو قوله: [مِنْ قُوَّةٍ] لتتناول كل ما يُحتاج إليه في الدفاع، ويكون له أثر في الفوز على العدو المحارب، فيدخل فيه آلات الطعن والضرب وآلات الرماية، وبناء الحصون، وتهيئة ما تحتاج إليه الجنود من نحو الملابس والمطاعم.
وقول النبي": =ألا إن القوة هي الرمي+ تنبيه على أن الرمي أهم الوسائل التي تكون بها القوة، فالطيارات والبارجات والدبابات والغواصات من أدوات الرمي. ص10_11
3_ التدريب على الحرب
_ لما كان في السباق على الخيل تدريب على خوض غمار الحروب، أذن فيه النبي"، وفعله، على الطريقة المعروفة في كتب الفقه؛ وأذن النبي" كذلك في اللعب بالسلاح، لما فيه من التمرين على الطعان بجد إذا التقى الجمعان.
ورد في الصحيح أن الحبشة كانوا يلعبون بالحراب في المسجد على مرأى من رسول الله"، ولما أنكر عليهم عمر بن الخطاب، وأهوى إلى الحصباء ليرميهم بها، قال له النبي": =دعهم يا عمر+. ص12
4_ محاكاة العدو في وسائل الدفاع
_ كان علينا استطلاع ما يهيؤه العدو من وسائل الحروب لنصنع ما يصنع، حتى نماثله في القوة، ونفضُلَه بأننا ندافع عن الحق، ونرجو من الله ما لا يرجو.
وفي وصية أبي بكر الصديق لخالد بن الوليد: =إذا لا قيت القوم فقاتلهم بالسلاح الذي يقاتلونك به: السهم للسهم، والرمح للرمح، والسيف للسيف+.
ولو ظهر في أيام أبي بكر نوع آخر من السلاح لَذَكَرَه، ونقول على طراز حكمته: الطيارة للطيارة، والحرّاقة للحرّاقة، والغوّاصة للغوّاصة.
وأشار سلمان الفارسي في واقعة الأحزاب على النبي"بحفر الخندق، فأذن بحفره، وعمل فيه بنفسه، وقال أبو سفيان يومئذ: =هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها+. ص13
5_ كتابة أسماء من يدعون إلى الحرب
_ من النظم الجارية في القديم والحديث، كتابة أسماء من فيهم كفاية للجندية، حتى يعرف أولو الأمر قوة الجند من جهة عددهم، وكان هذا أمراً متبعاً في عهد النبي".(1/55)
روى ابن عباس أن رجلاً جاء إلى النبي"، فقال: يا رسول الله إني كتبت في غزوة كذا، وامرأتي حاجة، فقال: =ارجع فحج مع امرأتك+.
وفي الصحيح عن حذيفة÷أن النبي"قال: =اكتبوا إلي من تلفظ بالإسلام من الناس+ فكتبنا له ألفاً وخمسمائة رجل.
وكان هذا عند خروجه إلى غزوة أحد، أو عندما كانوا بالحديبية. ص14
6_ إعلان الحرب
_ يوجب الإسلام علينا الوفاء لمن بيننا وبينهم عهد أو هدنة، فإن قامت شواهد على أنهم يريدون خيانتنا، ويتهيؤون للهجوم على أوطاننا لم يجز لنا مهاجمتهم وأخذهم على غرة، ولا بد من أن نشعرهم بأن العهد بيننا وبينهم قد انتقض، قال _تعالى_ في كتابه المجيد: [وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ] الأنفال: 58.
وكان أبو بكر الصديق÷يقول لقائد الجيش: =وقدم النّذُر بين يديك+. ص15
7_ رفع الرايات في الحرب
_ ترفع الرايات حيث يكون قائد الجيش، ليعلم بها مكانه، حتى يأوي إليها الناس عند الحاجة، واتخذ النبي"رايته مرة بيضاء، ومرة سوداء، ومرة صفراء، وروى أن بعض ألويته كان مكتوباً عليه =لا إله إلا الله محمد رسول الله+.
وقد يعطي كل قبيلة لواء يقاتلون تحته، وعقد لوفد سليم لواءاً أحمر، وعقد لسعد بن مالك راية على قومه سوداء وفيها هلال أبيض. ص16
8_ الشعار في الحرب
_ يتخذ الجنود شعاراً يتعارفون به في ظلمة الليل أو عندما يشتبك الفريقان، وكان هذا الضرب من الاحتراس متبعاً في غزواته " وفي فتوحات الخلفاء الراشدين من بعده، عن البراء بن عازب، أن رسول الله"قال: =إنكم تلقون عدوكم غداً، فليكن شعاركم: حم لا ينصرون+.
وكان شعار المسلمين في غزوة بني المصطلق: يا منصور أمِتْ،وغزا أبو بكر في زمن رسول الله"وكان شعار الجيش: أمِتْ أمِتْ =أمر من الإماتة+. ص17
9_ تعهد الجند بالموعظة(1/56)
_ قد يأخذ الجنود حظهم من الفنون الحربية كاملاً، ولا يستغنون بعد أن تغذّى نفوسهم بالموعظة الحسنة؛ فمن المثير لحماسة الجند قبل دخولهم في ملاحم الحروب إلقاء خطب تذكرهم فضل الإقدام والثبات، وما يأتي به الثبات في مواقف الدفاع من خير، وتنذرهم ما يجرّه الجبن والحرص على الحياة من خزي وشقاء. ص18
10_ النشيد الحماسي
_ نريد من النشيد الحماسي الشعر الذي يشتمل على تذكير الجنود بمجد قومهم الماضي أو الحاضر، وبما تقتضيه العزة من نحو إباية الضيم، والاستهانة بالخطوب، وشأن هذا الشعر تقوية القلوب، وإيقاد الغيرة، فيزداد الجند إقداماً وثباتاً في مواقع القتال، وكان الصحابة _رضي الله عنهم_ يقولون يوم حفر الخندق:
نحنُ الذين بايعوا محمدا ... على الجهادِ ما بَقينا أبدا
ص20
11_ الزحف في صفوف منظمة
_ كان العرب والبربر يحاربون على طريقة الكر والفر، وكان غيرهم من العجم والإفرنج يزحفون إلى الحرب صفوفاً، وقد جاء الإسلام باختيار طريقة الزحف، قال _تعالى_: [إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ] الصف:4.
ووجه هذا أن التقدم للقتال في صفوف منظمة أرهبُ للعدو، وأدعى إلى الثبات والدوام في المعترك، بخلاف قتال الكر والفر؛ فإنه لا يعطي الجيش مهابة، ويسهل فيه على ضعفاء النفوس المسارعة إلى الهزيمة.
ولو بدا لقائد الجيش في بعض المواطن أن يتخذ طائفة من الجند يحاربون على طريقة الكر والفر، ويكون من ورائهم الصفوف المنظمة يلجأون إليها عند الحاجة فقد فعل هذا ملوك المغرب؛ إذ كانوا يقدمون جنوداً تحارب على طريقة الكر والفر، ويضربون وراءها صفوفاً من المدربين على الثبات في الزحف. ص22
12_ الإقدام في الدفاع
_ لكثرة الجند أثر في الظفر، وقد ينتصر الجيش وهو قليل العدد متى كان أشد بسالة، وأثبت قدماً عند اللقاء.
وما السيفُ إلا بَزُّ غادٍ لزينة ... إذا لم يكن أمضى من السيف حامله(1/57)
ومن هنا نجد القرآن الكريم يُعنى بتربية الشجاعة في النفوس. ص23
_ ومن وجوه تربيته للشجاعة تذكيره الأمة بأن ما ينالهم في سبيل القتال قد ينال عدوَّهم مثله، قال _تعالى_: [إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً] النساء:104
وقال _تعالى_: [إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ] آل عمران: 140. ص23
_ ومن هذا القبيل تذكيره الأمة بأن العدو إذا استولى على أوطانهم كانت له العزة، وكانت عليهم الذلة، قال _تعالى_: [إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ] الممتحنة:2. ص23
13_ الثبات في مواقع الدفاع
_ قد يكون الرجل مقداماً لا يهاب الموت، ولكنه يبتلى بقلة الصبر على المكاره، فيسأمُ ما يلاقيه في حومات الحروب من مشاق، فَيَثني عِنانه عن الدفاع، وينقلبُ على عقبه مبتغياً _فيما يزعم_ راحة الحياة، أو جانحاً إلى صلح يضرب عليه ذلّة وصغاراً؛ فمن متمات الشجاعة الثبات في الدفاع إلى إدراك الغاية، قال _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا] الأنفال: 45
وقال": =لا تمنَّوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا؛ فإن الجنة تحت ظلال السيوف+. ص24
14_ الإخلاص في الحرب
_ نجاح كل عمل على قدر ما يقارنه من طيب السريرة وحسن القصد، وأحق ما يَقْصِد إليه الناهضون إلى الحرب حمايةُ أوطانهم؛ ليسلم لهم دينهم وأعراضهم وأموالهم، وتكون كلمة الحق هي العليا.(1/58)
وهذا القصد أكبر باعث على الثبات في مواقف الدفاع، فالذي يحارب ليُحرزَ منصباً أو مالاً، أو ليتحدث الناس عن شجاعته _ قد يقف في إقدامه عند حد، وما هو من الانهزام والفرار من مواقع الدفاع ببعيد.
أما الذي يقاتل دفاعاً عن شيء يرى الحياة بدونه شراً من الموت، وهو العزة والحرية اللتان يرى بهما الحق في إشراق وصعود _ فإنه يثبت في مواقع القتال، ولا يلوي عنقه عنه إلا أن يفوز أو يموت. ص25
15_ أثر الاستقامة في الانتصار
_ جرت سنّة الله بأن يكون تأييده في جانب القوم الذين يملؤون قلوبهم بالثقة به، ويحافظون على واجبات شريعته ما استطاعوا.
_ فصلاح حال الجيش ولا سيما من بيدهم قيادته، يستدعي تأييد الله _تعالى_ لهم تأييداً مؤزراً، وقد يأتيهم النصر بعد استعدادهم من حيث لا يحتسبون، فإذا تفشت فيهم المعاصي لم يأمنوا أن يكون من عقوبة معاصيهم ابتلاؤهم بالوهن والفشل أمام سطوة عدوهم. 26
16_ الدهاء في الحرب
_ للشجاعة وكثرة الجند وجودة السلاح أثر في الانتصار، ولكن للدهاء أعني _جودة الرأي _ الفضل الأكبر في الفوز والغلبة. ص28
17_ اطلاع ولي الأمر على سير الحرب يوماً فيوماً
_ يفوض ولي الأمر إلى قائد الجيش تدبير شؤون الدفاع، واتخاذ وسائل قهر العدو على وفق ما تقتضيه الفنون الحريبة.
وشأن ولي الأمر أن يكون على خبرة من أحوال الجند وسير الحرب، كما يكون على خبرة من أحوال العدو: يواصله بها قائد الجيش يوماً فيوماً، أو ساعة فساعة، حتى يصير كأنه يراها رأي العين.
ومن كتاب عمر بن الخطاب إلى سعد بن أبي وقاص: =اكتب إلي في كل يوم+.
وقال له في كتاب آخر: =فصف لي منازل المسلمين والبلد الذي بينكم وبين المدائن _عاصمة بلاد الفرس_ صفةً كأني أنظر إليها، واجعلني من أمركم على جلية+. ص30
_ واطلاع ولي الأمر على حال الجيش وموقف العدو أمامهم في كل ساعة، يدعوه إلى السهر والتفكير في وسائل سلامة الجيش، وإمداده بما يحتاج إليه من قوة. ص30(1/59)
_ ولا يمنع وليّ الأمر تفويضه لقائد الجيش في أمر الحرب أن يتتبع سيرته وينظر إليها بعين الناقد البصير، حتى إذا رأى فيها مأخذاً نبهه له، أو بدا له رأي أصوب من رأي القائد أبلغه إياه مصحوباً بالحجّة. ص30_31
18_ الشورى في الحرب
_ استطلاع الآراء نافع في كل أمر، وهو في الحرب أحق بأن لا يستهان به؛ فإنّ رأي الجماعة أبعد عن الخطأ من رأي الفرد، لذا عُني القرآن المجيد بالشورى، فقال _تعالى_ لرسوله الكريم وهو المؤيد بالوحي: [وَشاوِرْهُمْ في الأَمْرِ]
آل عمران: 159
والمراد من الأمر في الآية أمر الحرب ونحوها من أمور الدنيا التي يدركها الناس من طريق التجارب والممارسة، أما الأحكام الشرعية فإنما تجيء من طريق الوحي. ص32
19_ كيف يكون قائد الجيش
_ عرفنا قبل أن الدهاء مما يراعى في اختيار قائد الجيش، ويجب أن يكون قائد الجيش مع هذا شجاعاً قوي الجأش؛ فإن لشجاعته أثراً كبيراً في شجاعة الجيش أو جبنه.
قال أبو بكر الصديق في وصيته ليزيد بن أبي سفيان. =ولا تجبُن فيجبُن الناس+. ص33
_ وإذا كانت خصلة الثبات واحتمال المكاره مما يجب أن يغرس في نفوس الجند_ فنفس القائد أحق بأن تكون مطبوعة على هذه الخصلة المجيدة. ص33
_ ولا يكفي لقيادة الجيوش عندما تلتهب نار الحرب إلا الرجل الذي كان قد خاض غمار الحرب من قبل، فذاق حرها، وثبتت قدمه لملاقاة خطوبها، قال أبو تمام:
من لم يُسَسْ ويطير في خيشومِه ... رهج الخميس فلن يقود خميسا(1)
ص33
_ وإنما يختار لقيادة الجيش من عرف بالغيرة على الحق الذي قامت الأمة للدفاع عنه؛ فإن هذه الغيرة تزيد شجاعته قوة، وتفتح أمامه أبواباً من التدبير الناجح لا يبصرها قائد كان حظه من الغيرة ضئيلاً. ص34
20_ استكشاف حال العدو
__________
(1) _ الخيشوم: أقصى الأنف والجمع خياشيم، والرهج: الغبار أو ما أثير منه، والخميس: الجيش.(1/60)
_ إن معرفة قائد الجيش بحال عدوه المحارب، وما ينويه من أعمال حربية تدعوه إلى أن يستعد له على قدر ما يستطيع من قوة أو مكيدة، قال النبي"في واقعة الأحزاب: =من يأتيني بخبر القوم+؟ قال الزبير: أنا، فقال _عليه الصلاة والسلام_: =إن لكل نبي حواريّ وحواريي الزبير+. ص35
21_ التكتم في الحرب
_ من حزم قائد الجيش أن يكون تصريفه لشؤون الحرب محوطاً بستار، وتكون آراؤه مصونة بكتمان، وربّ نكبة تأتي الجيش في اطِّلاع عدوّه إلى ما بيّته قائد الجيش من أمر. ص36
_ بعث النبي"عبدالله بن جحش على رأس سرية وناوله كتاباً مختوماً، وقال له: لا تفتحه إلا في مكان كذا، ولما وصل إلى ذلك المكان فتحه، فإذا فيه: =امض حتى تنزل نخلة فتأتينا من أخبار قريش+. ص36
_ وكان"إذا أراد المسير إلى قوم ورَّى بغيرهم. ص36
22_ الاحتراس في الحرب
_ تقوم الحرب على المكيدة، فمن حزْم قائد الجيش أن يكون على حذر من الوقوع في مكيدة ينصبها له العدو. ص37
_ خرج بغاة بخراسان على قتيبة بن مسلم، فقيل له: وجّه إليهم وكيع بن أبي أسود فإنه يكفيهم، فقال: إن وكيعاً رجل به كبر، يحتقر أعداءه، ومن كان هكذا قَلّت مبالاته بعدوه، فلم يحترس منه، فيجد عدوه فيه غرة. ص37
_ وقال بعض الحكماء: =الضعيف المحترس من العدو القوي، أقرب إلى السلامة من القوي المغتر بالضعيف+. ص37
_ ومن أهم ما يتأكد الاحتراس منه: إذاعة الأخبار التي تبعث في النفوس ضعفاً، وفي العزائم وهناً، ولسدِّ مثل هذا الباب من الفساد نزل قوله _تعالى_: [وإذا جَاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أو الخَوْفِ أذاعُوا به وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسولِ وَإلى أُوْلي اَلأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ] النساء: 83.(1/61)
فالآية واردة في قوم كانوا يسمعون أراجيف المنافقين، فيذيعونها ويكون في إذاعتها ضرر على المسلمين، وقد أرشدتهم إلى أن يُرجعوا تلك الأنباء إلى الرسول، وإلى أولي الأمر منهم؛ حتى يعرفوا ما يذاع، وما لا ينبغي أن يذاع. ص37_38
23_ حكم الجاسوس في الإسلام
_ في التجسس على شؤون الحرب، والإفضاء بها إلى العدو شرٌّ كبير؛ فربما كان سببَ نكبة القوم وابتلائهم بالهزيمة جاسوسٌ يدل القوم على عورة من عوراتهم، أو يطلعه على خطة مبيتة من خططهم.
وكان رسول الله"قد قتل جاسوساً من المشركين، وأفتى طائفة من الأئمة كمالك بن أنس×، بإباحة دم المسلم إذا نقل شيئاً من أسرار شؤون الحرب إلى العدو. ص39
24_ الرفق بالجند ومعاملتهم بالعدل
_ لو تتبعنا سِيرَ القُوَّاد الذين أبلى الجنود تحت رايتهم بلاءاً حسناً، لوجدناهم القواد الذي يعاملون الجنود بالرفق والإحسان في دائرة الحزم. ص40
_ وفي وصية أبي بكر الصديق ليزيد بن أبي سفيان: =وإذا قدمت على جندك فأحسن صحبتهم، وابدأهم بالخير، وعِدْهم إياه+.
وقال لخالد بن الوليد حين أرسله إلى المرتدين: =يا خالد عليك بتقوى الله، والرفق بمن معك+. ص40
_ وجاء فيما عهد به عمر بن عبدالعزيز إلى منصور بن غالب، حين بعثه على قتال بعض المحاربين: =وأمرَه أن يرفق بمن معه في سفرهم ولا يجشِّمهم مسيراً يتعبهم، ويقصّر بهم عن منزل يرفِّه بهم حتى يلاقوا عدوهم، والسفرُ لم ينقص قوتهم+. ص40
25_ تَلَقِّيهم أوامرَ القائدِ بحسن الطاعة(1/62)
_ ذكرنا في وصف القائد أن يكون ذا رأي وشجاعة وإخلاص وحزم ورفق بالجند، ونقول هنا: إن الجيش الذي يحمي حمى الأمة، ويبني لها مجداً شامخ الذرى هو الجيش الذي يجمع إلى الشجاعة والمحافظة على آداب الشريعة استعدادَه لتلقي أوامر القائد الأمين بحسن الطاعة، وقد أشار النبي"إلى هذا الأدب السامي في خطبة حجة الوداع، فقال: =يا أيها الناس اتقوا الله وإن أُمِّر عليكم عبد حبشيّ مجدّع فاسمعوا له، وأطيعوا ما أقام لكم كتاب الله+. ص41
_ ومن أعظم ما يساق شاهداً على حسن الطاعة قصة خالد بن الوليد؛ إذ عزله عمر بن الخطاب عن الإمارة العامة للجيش الفاتح للشام، ووسد الأمر إلى أبي عبيدة بن الجراح، ورأى خالد أنه إنما يجاهد في سبيل الله؛ فسلم الإمارة إلى أبي عبيدة راضياً، واستمر على القتال تحت راية أبي عبيدة بإخلاص. ص41
26_ تحامي الاختلاف المؤدي إلى الشقاق
_ الشقاق يُبعد ما بين النفوس، ويذهب بروح التناصر، فيفعل بالجند ما لا يفعله به عدو شاكي السلاح، وقد حذر القرآن المجيد منه، فقال _تعالى_: [وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ واصْبِروا إنَّ الله مَعَ الصَّابِرينَ] الأنفال: 46.
والآية تحذر من أن يقع تنازع بين أمراء الجيش، أو بين أفراده، أو بين الجيش وأمرائه، فإن ذلك كله مُوقع في فشل، وليس بعد الفشل إلا التقهقر، ثم ملاقاة ما يعقب هذا التقهقر من صغار واستعباد. ص42
_ ويتحامى الاختلاف الممقوت بالإغضاء عن الهفوات، ومقابلة كثير من المكروه بسعة الصدر، وطرح المسائل التي تكون منشأ الخلاف على بساط المحاورة في هدوء وسكينة، والدخول إلى بحثها من باب الإنصاف والقصد إلى معرفة وجه الصواب. ص42
_ وأبعدُ المجاهدين عن التنازع مَنْ جعلوا نُصْبَ أعينهم ومناط هممهم رفع لواء الحجة، وسلامة الأوطان؛ فهؤلاء هم الذين يسابقون إلى كل ما يحقق هذا الغرض المجيد، ويتحامون كل ما يمكن أن يكون عثرة في سبيله. ص42
27_ التخلف عن الدفاع(1/63)
_ إنما ينهض الرجل للحرب دفاعاً عن قومه ووطنه ليسلم له دينه وعرضه، وليتمتع بحياة الكرامة؛ فتخلّفه عنها وهو يستطيع أن يشهدها دليل ضعف الإيمان وانحطاط الهمة، ومدعاة إلى تخاذل الأمة وانكسار شوكتها، لهذا كانت جنايته في نظر الشارع كبيرة، قال _تعالى_: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ] التوبة: 38.
وقال _تعالى_: [وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ] التوبة: 81. ص43
_ والخروج إلى جهاد العدو تفرضه الشريعة الغراء على الرجل بعينه متى دعاه إلى الخروج ولي الأمر المسلم.
ومتى هجم العدو فجأة؛ ففي هذا الحال يجب على كل مستطيع أن ينضم إلى المدافعين، ولو لم تبلغه دعوة ولي الأمر. ص43
28_ الفرار من صفوف القتال
_ الفرار من صفوف القتال كبير المفسدة، وَخِيْم العاقبة، ذلك أن الفار قد يكون كاللبنة تسقط من أسفل الجدار، فيتداعى لسقوطها الجدار كله، لهذا عد الشارع الحكيم الفرار من الزحف من أكبر الجنايات. ص44
_ نهى الله المقاتلين من المؤمنين أن يولوا العدو ظهورهم، وقال: [وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ] الأنفال: 16. ص44
_ وفي الفرار من وجه العدو عار يجعل الحياة بغيضة، قال يزيد بن المهلب: والله إني لأبغض الحياة بعد الهزيمة! ص44
29_ الوفاء بتأمين المحارب
_ إذا أعطى أحد الجند الأمان لأحد المحاربين، وجب احترام هذا التأمين، ولا يجوز لأحد أن يتعرض لذلك المحارب بأذى.(1/64)
وإلى هذا يشير قوله _ صلوات الله عليه _: =ويسعى بذمتهم أدناهم+.
وقد أمضى النبي"تأمين أم هانئ بنت أبي طالب لرجل من المشركين، وقال لها: =قد أجرنا من أمنت يا أم هانئ+.
_ وحدث في عهد عمر بن الخطاب أن عبداً أَمَّن أهل بلد بالعراق، فكتب قائد الجيش وهو أبو عبيدة إلى عمر يأخذ رأيه في هذا التأمين، فكتب إليه عمر =إن الله عظّم الوفاء، فلا تكونون أوفياء حتى تفوا؛ فوفوا لهم وانصرفوا عنهم+. ص45
_ ومن المعقول أن يكون لقائد الجيش رأي في تأمين غيره لأهل بلد تأميناً يقتضي الانصراف عنهم، فإذا رأى أن مثل هذا التأمين قد يأتي بضرر فله أن يبطله، ويجري على ما يتراءى له من المصلحة.
وذهب بعض الفقهاء وهو عبدالملك بن الماجشون إلى أن تأمين أحد الجنود لبعض المحاربين ينظر فيه القائد الأعلى، فإن لم ير في إمضائه ضرراً أمضاه، وإلا رده. ص45
30_ مجاملة رسل العدو وعدم التعرض لهم بأذى
_ رسول العدو قد يأتي في شأن الصلح أو غيره مما فيه تخفيف شر الحرب، فمن حسن الرأي أن لا يتعرض للرسل بأذى، وأن يكونوا في أمن حتى يعودوا إلى قومهم؛ فإن التعرض لهم بأذى يقطع صلة الرسالة بين الفريقين، ويسد طريق المفاوضات التي يُتَوسَّل بها إلى عدم الدخول في الحرب، أو إنهائها إذا كانت ناشبة.
ومكارم الأخلاق تأبى أن يُتَعَرَّض لرسول بأذى ولو أرسله قومه لإبلاغ ما عزموا عليه من محاربتنا، أو صدر منه كلام في تعظيم أمر قومه بقصد الفخر أو الإرهاب. ص46
_ وقد جرى نظام الإسلام في الحرب على هذا الأدب المقبول.
قدم أبو رافع بكتاب من قريش إلى رسول الله" فلما رأى رسول الله ألقِيَ في قلبه الإسلام، فقال: يا رسول الله: إني والله لا أرجع إليهم أبداً، فقال رسول الله": =أما أني لا أخيس بالعهد، ولا أحبسُ البُرُدَ، ولكن ارجع فإن كان في قلبك الذي في قلبك الآن، فارجع+ قال: فرجعت، ثم أقبلت إلى رسول الله"، وأسلمت. ص46
31_ تجنب قتل من لا يقاتل(1/65)
_ يُحَرِّم الإسلام قتل نساء المحاربين وصبيانهم والطاعنين في السن منهم ورهبانهم إن لم يحاربوا.
روى عبدالله بن عمر أن رسول الله"نهى عن قتل النساء والصبيان.
وروى ابن عباس أنه _عليه الصلاة والسلام_ كان إذا بعث جيوشاً، قال: =لا تقتلوا أصحاب الصوامع+ يعني الرهبان.
وقال أبو بكر الصديق في وصيته لجيش أسامة: =وسوف تمرون بأقوام قد فرّغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرّغوا أنفسهم له+.
وقال: =ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة+.ص47
_ ومن وصايا عمر بن الخطاب لأمراء الجيش: =ولا تقتلوا هرِماً، ولا امرأة، ولا وليداً، وتوقوا قتلهم إذا التقى الزحفان، وعند شن الغارات+.ص47
_ ويلحق بهؤلاء في تجنب قتلهم المريض والمقعد والأعمى والمجنون.
وكذلك روي عن النبي" النهي عن قتل العسيف، وهو الأجير، وبهذا يظهر أن الإسلام إنما يقصد من الحرب دفاع من يقصدون لأن يقاتلوا، ولا يصح القصد لقتل من ليس شأنه القتال. ص47
32_ معاملة الأسرى
_ إذا وقعت طائفة من العدو المحارب في أسرنا لم يجز لأحد من الجنود أو غيرهم أن يمسهم بأذى، وإنما يرجع أمرهم إلى رأي ولي الأمر الواسع الخبرة بوجوه المصالح، فيعاملهم بما تقتضيه خطة الحزم، وما تمليه سماحة الأخلاق.ص48
_ وذهب من علماء السلف الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح إلى أن ولي الأمر يخير في الأسرى بين أن يطلقهم على وجه المن، أو يطلقهم بفداء، وتمسكوا في هذا بقوله: [فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا] محمد:4. ص48
33_ الدفاع في البحر
_ لم يدخل المسلمون في قتال بحريّ إلى عهد عثمان بن عفان÷، وكان أول من ركب البحر فاتحاً معاوية بن أبي سفيان.(1/66)
وقد أخبر النبي" في حياته بما يقوم به المسلمون من فتوح على طريق البحر؛ نام رسول الله"في بيت أم حرام بنت ملحان وهي تحت عبادة بنت الصامت، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: =ناس من أمتي عرضوا عليّ غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر، ملوك على الأَسِرَّة، أو مثل الملوك على الأسِرَّة+.
فقلت يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: =ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله+ نحو ما قال في الأول، قالت: فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم! قال: =أنت في الأولين+.ص50
_ وقد أجاب الله دعاء النبي"لها، وعلم أن دعاءه قد استجيب، فقال لها: أنت في الأولين، وركبت أم حرام البحر مع زوجها عبادة بن الصامت في زمن معاوية لفتح =قبرص+ ولما خرجوا من البحر صُرِعت عن دابتها وتوفيت هناك. وقيل صرعت بعد عودتها إلى الشام.
_ وفي قوله"=ملوك على الأسرة+ مبالغة في فضل المحاربين في البحر، وترغيب في صرف الهمة إلى المهارة في ركوبه، وإنشاء أساطيل تكف أيدي الأعداء الممتدة من وراء البحار.ص50 _51
_ وأنشأ أمراء الإسلام من بعدُ أساطيل، واتخذوا لها مصانع، كما اتخذ حسان بن النعمان عامل أفريقية بإيعاز من عبدالملك بن مروان دار صناعة بتونس لإنشاء الآلات البحرية، وبلغ أسطول الأندلس أيام عبدالرحمن الناصر نحو مائتي مركب. ص51
34_ عقد الصلح
_ قد يقتضي الحال عقد صلح بيننا وبين العدو، وقد استحب الشارع الحكيم عدم رفض الصلح متى رغب فيه المحاربون، فقال _تعالى_: [وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ] الأنفال: 61.ص52
_ وكان النبي" عقد بينه وبين كفار قريش صلحاً أتى بخير كثير، وهو صلح الحديبية.(1/67)
_ وشروط الصلح تختلف باختلاف قوة الأمة وضعفها، ومِلاَكُها أن يكون في عقد الصلح مصلحةٌ عامة، وأن لا يكون من بين الشروط إباحة ما تحرمه الشريعة.ص52
_ والذي نريد التنبيه له في هذا الفصل أن الصلح الذي يلقي بالأمة في خزي، ويجعل بطن الأرض خيراً لها من ظهرها هو الصلح الذي يبعثها على السعي إليه أو على قبوله حبُّ الحياة، وكراهة الموت؛ فتحتمل مهانته وهي تستطيع دفعه بالرجال والسلاح، قال _تعالى_: [فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ] محمد: 35.
وهذا شاعر عربي يأبى لقبيلته أن تتقبل صلحاً إلا أن يكون لها السلطان في وطنها، وتبقى منابرها التي هي مصادر الأمر والنهي في قبضتها، فقال:
ولا صلحَ ما دامت منابرُ أرضِنا ... يقومُ عليها من ثقيفَ خطيبُ
ص53
35_ تخليص الأسرى من أيدي العدو
_ يقع الفرد أو الطائفة في أسر العدو، ولا يعد هذا وحده دليل الجبن أو التقصير في الدفاع حتى يجر إلى صاحبه عاراً، أو يسيغ لمن بيدهم الأمر أن يصرفوا عنه أنظارهم، ويتركوه في أيدي العدو، يلاقي المهانة أو سوء العذاب.ص54
_ فمن واجبات الدولة أو الأمة تخليص من يقع في أسر بالوسائل المستطاعة من مال أو غيره، وقد أرشد النبي"إلى هذا الواجب بقوله ": =فكّوا العاني _الأسير_ وأطعموا الجائع، وعودوا المريض+. ص55
36_ تقدير البطولة
_ البطل يقف المواقف الخطيرة، ويجود بحياته في دفاع العدو؛ لتعلو كلمة الحق، وتحيا الأمة حياة الكرامة؛ فهو جدير بأن يلاقي من الأمة التبجيل والتكريم.
وشعور البطل بأنه يعمل لخير أمة تقدر رجالها حق قدرهم مما يزيد إقباله وثباته على الدفاع قوة، وإذا شعر غيرُه بهذا التقدير فقد يقوى حرصه على أن يسلك سبيله، ويبذل كل ما يعز عليه.ص56(1/68)
_ ولتكريم الأبطال مظاهر: منها الاحتفال بتوديعهم عند الخروج للحرب، كما خرج الخليفة أبو بكر الصديق÷يشيع أسامة بن زيد والجيش المسافر معه إلى الشام، وكان أبو بكر ماشياً على قدميه، وأسامة راكباً راحلته.
وخرج عمر بن الخطاب÷يشيع سعد بن أبي وقاص والجيش المسافر إلى فتح فارس، حتى بلغ موضعاً يقال له الأعوص، وهناك خطب فيهم خطبة أوصاهم فيها بالعدل والرحمة، إلى نحو هذا، وعاد إلى المدينة.ص56_57
_ وكان اليوم الذي خرج فيه أسد بن الفرات(1) من القيروان لفتح صقلية يوماً مشهوداً.ص57
_ ويضاهي هذا استقبالهم، والاحتفاء بهم عند إيابهم من حرب أبلوا فيها بلاءاً حسناً.ص57
_ ومن مظاهر تقدير الأبطال المخلصين عنايةُ ولي الأمر بأن يكون عيشهم في رخاء، وأن يكونوا في أمن على إصلاح شأن أطفالهم إذا استشهدوا.
جمع رسول الله"لسلمة بن الأكوع في بعض مغازيه بين سهم الراجل والفارس، فأعطاه خمسة أسهم لعظم غنائه(2) في تلك الغزوة، وزاد عمر بن الخطاب في عطاء فتاة من بيت المال، وقال =إن أباها فتح حصناً+.ص57
_ ومن وجوه تقدير الأبطال صوغ عبارات الشكر والثناء عليهم في نظم أو نثر، وفي الأدب العربي قسم عظيم في الثناء على الأبطال والتنويه بذكر مقاماتهم المجيدة، قال أبو تمام:
كم بين قوم إنما نفقاتهم ... مالٌ وقومٌ ينفقون نفوسا
ص57
_ وبطولة الرجل تطلق الألسنة بتمجيده، حتى ألسنة خصومه الذين تجرعوا من شدة بأسه مرارة.
خرج يزيد بن المهلب على يزيد بن عبدالملك، فوجه لقتاله أخاه مسلمة بن عبدالملك، وثبت يزيد بن المهلب في قتاله، وأبى أن يفر وقد تسلل عنه أعوانه، حتى قتل، وأراد أحد جلساء يزيد بن عبدالملك أن ينال من المهلب، ويحط من شأنه، فقال له يزيد بن عبدالملك: =إن يزيد طلب جسيماً، وركب عظيماً، ومات كريماً+.57_58
__________
(1) _ توفي أسد في حصار سرقوسه شهيداً وهو أمير الجيش وقاضيه سنة 213هـ.
(2) _ لعلها: عنائه.(1/69)
_ ومن تقدير البطولة الإغضاء عن أخطاء تصدر من البطل وهو يحارب العدو بعزم صميم، وعدم مناقشته الحساب على مآخذ قد يشفع له فيها إخلاصه، والإخلاص القائم بجانب البطولة شفيع أي شفيع!
بعث النبي"خالد بن الوليد لدعوة بني جذيمة إلى الإسلام، فسبقت يد خالد على قتل رجال منهم باعتقاد أنهم يستحقون القتل، وبلغ ذلك النبي"، فأنكر ما فعل خالد، وقال: =اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد+ وأرسل إلى بني جذيمة مع علي بن أبي طالب ÷ ديات من قتلوا، وأعطاهم قيم ما أصيب من أموالهم، وزادهم على ما استحقوا من الديات وقيم الأموال، ولم يعزل خالداً عن قيادة الجيش. ص58
=تعريف بالمؤلف+:
هو العلامة اللغوي محمد المكي بن الحسين علم من أعلام الأدب واللغة ونادرة من نوادر اللغويين في زمانه، قل أن يوجد مثيل له في فكره الغواص في بحر العربية، يفتش في أعماقه عن أجمل ما في التراث العربي، ويبحث بجلد وصبر عن مكنوناته، فيصقلها صقل البارع في المهنة، السباق في ميدانها، ويضمها عقوداً متناسقة، في بحوث لها روعتها وجمالها.
ومع بالغ الأسف أن مثل هؤلاء الأعلام من أرباب الفكر الصافي، والأدب الأصيل يكون نصيبهم النسيان، والإهمال.
ولقد قيض الله لهذا العلم من يحرص على نشر علمه، والتعريف به، ألا وهو ابن أخيه: الأستاذ علي الرضا الحسيني.
وهذه نبذة يسيرة عن صاحبنا بقلم الأستاذ علي الرضا _ حفظه الله _ يقول فيها:
=ولد محمد المكي بن الحسين بن علي بن عمر في مدينة نفطة بالجنوب التونسي في شهر ربيع الأول 1301هـ، ونشأ في دوحة أصيلة وعريقة في العلم والفضل والأدب، ويزينها من فوق ذلك شرف الانتساب إلى آل البيت الأطهار.
خاله العلامة محمد المكي بن عزوز، وإخوته الإمام محمد الخضر حسين وزين العابدين بن الحسين, والجنيدي، وجميعهم كانوا من أفاضل العلماء المنصرفين إلى خدمة الإسلام وإعلاء رايته ونشر الدعوة المختارة أينما رحلوا وحيثما حلوا.(1/70)
انتقل إلى مدينة تونس مع عائلته سنة 1306هـ وأخذ في حفظ القرآن الكريم وتلقى مبادئ العلوم الشرعية عن والدته البارة السيدة حليمة السعدية بنت الصالح التقي مصطفى بن عزوز.
ثم التحق في الجامع الأعظم _ جامع الزيتونة _ وحصل على شهادة التطويع.
ومن شيوخه شقيقه الإمام محمد الخضر حسين، والشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، وعلي الشنوفي، وأحمد جعيط وغيرهم.
رافق أسرته في هجرتها إلى الشرق سنة 1330هـ بعد أن ضيق الباغي الفرنسي الخناق على أخيه الإمام محمد الخضر الذي لاحقه حكم بالإعدام؛ لنضاله ودعوته إلى الاستقلال والحرية.
واستقر في مدينة دمشق منصرفاً فيها إلى التدريس في مدارسها الأهلية والرسمية معلماً للغة العربية وآدابها.
والتقى بأعلام دمشق ومنهم خير الدين الزركلي، ومحمد بهجة البيطار، وسليم الجندي، والشيخ عبدالقادر المغربي، ومحمد المبارك الجزائري، ومحمد كرد علي.
بعد ما يقارب ثماني سنوات عاوده الحنين إلى تونس فرجع إليها سنة 1338هـ _1920م متفرغاً للمطالعة والتحقيق، واشتهرت لغوياته في مختلف الصحف والمجلات التونسية إلى جانب أحاديثه اللغوية والمستمرة من إذاعة تونس.
لم يتزوج طيلة حياته، وكانت أوراقه وأقلامه هي رفيق عمره الزاخر بالإنتاج والعطاء حتى وفاته في مدينة تونس يوم 20 شعبان 1382هـ الموافق 26 كانون الثاني 1963م.
وقد ترك آثاراً قيمة جمعتها وحققتها في عدة مؤلفات وهي: عادات عربية، نوادر في اللغة، نوادر في الأدب، أسماء لغوية، حكم وأخلاق عربية، أمثال عربية، كلمات للاستعمال.
وضعت عنه كتابي (محمد المكي بن الحسين _ حياته وشعره) ضممت فيه الشعر الذي نظمه في حياته وتوصلت إليه بالبحث، كما تناولت حياته المباركة بالقليل مما اتصلت به من أخباره.
ولعل الأبيات التي قالها الإمام محمد الخضر حسين في أخيه محمد المكي، وأشار فيها إلى فطنته وفراسته، وأدبه الجم ولا سيما خجله _ خيرُ ترجمةٍ لأخلاقه.(1/71)
يقول الإمام محمد الخضر حسين من ديوانه (خواطر الحياة):
دعتني إلى وده فطنةٌ ... يجيد بها إن سألت الجوابا
وما بين بُرديه إلا أخٌ ... يؤانسني إن فقدت الصحابا
أروم عليه عتاباً وكم ... تفرسَّ ما رمته فأصابا
يهبُّ على وجهه خجلٌ ... فيصفو ضميري وأنسى العتابا بالعتابا
رحمهما الله، وأجزل إليهما الثواب، والحمد لله رب العالمين+.
=تعريف بالكتاب+: كتاب =عادات عربية+ ينبئ عن نفسه؛ فهو يتكلم عن عادات العرب في شتى شؤونهم وأحوالهم سواء في حربهم, أو سلمهم، أو أفراحهم، أو أتراحهم، أو غير ذلك.
ولا ريب أن البحث في هذا الباب طريف لطيف، وأنه يحتاج إلى تحرٍّ ودقة، واستقصاء، وغوص.
وقد اعتنى بهذا الكتاب الأستاذ علي الرضا الحسيني ابن أخي المؤلف، وطبع في الدار الحسينية 1415هـ _1995م وجاء في 159 صفحة.
أما العادات التي تضمنها هذا الكتاب فهي كما يلي:
-عادات شعراء العرب.
-عادات العرب في الأموات والقتلى.
-ميز شجعان العرب بعلامات في الحرب.
-التصافن.
-عناية العرب بالضيف.
-عادات عربية خاصة بالأعراس.
-تنكيل العرب الجاهلية بالجناة.
-عناية السلف باللغة العربية وكتبها.
-أرخى عمامته.
-أبو الأضياف.
-تخيلات الأمة العربية في أطوار الجاهلية.
-عادات ملوك العرب في الجاهلية والإسلام.
-عادات نساء العرب في الأعصر الجاهلية.
-عادات العرب في الخيل.
-عادات العرب في الإبل.
-عادات العرب في الحروب والغزوات.
-عادات عربية خاصة بالأعراس.
-مجالس العرب في الجاهلية والإسلام.
-المئل والصيصة أو عادات عربية.
-قرع السن كناية عن الندم.
-عادة عربية.
-الأضياف والضيافة.
-عادات العرب بأمر الأضياف.
-عادات عربية.
_ =النقولات المنتقاة+: قال العلامة محمد المكي بن الحسين×:
1_ عادات شعراء العرب
_ كان شعراء العرب يمتازون عن سائر الناس بعادات, وقد مر بي في أثناء مطالعة كتب الأدب شيء منها فأفردته في هذا المقال:(1/72)
_ ومن عاداتهم في الجاهلية أن الواحد منهم إذا أراد الهجاء دهن أحد شقي رأسه, وأرخى إزاره، وانتعل نعلاً واحدة. ص9
_ وكانوا لا يتكسبون بالشعر، وإنما يضع أحدهم ما يضعه فكاهة، أو مكافأة عن يدٍ لا يستطيع أداء حقها إلا بالشكر, حتى نشأ النابغة الذبياني, فمدح الملوك وقبل الصلة على الشعر.ص9
_ ومن عاداتهم عرض أشعارهم على قريش، والاعتماد على حكمهم فيه بالرد، أو القبول.ص10
_ ومن عاداتهم المساجلة, وهي أن يتساجل الشاعران، فيضع هذا قسيماً, وهذا قسيماً؛ لينظر أيهما ينقطع قبل صاحبه, وأكثر ما تكون بأنصاف الأبيات.ص10
_ وكان كثير منهم يعملون القصيدة، ولا يظهرونها للناس حتى ينظروا فيها، ويهذبوها, ومن هؤلاء زهير الذي كان يعمل القصيدة، ولا يظهرها إلا بعد حول، وتسمى قصائده الحوليات.ص10
_ وكانوا إذا اجتمعوا يستنشد بعضهم بعضاً ما قاله من الشعر, وهذا معروف عنهم, حدَّث دعبل أنه اجتمع هو ومسلم بن الوليد وأبو الشيص, فقال لهم أبو نواس : إن مجلسنا هذا قد اشتهر باجتماعنا فيه, ولهذا اليوم ما بعده, فليأت كل امرئ منكم بأحسن ما قال فلينشد.ص11
_ وكان بعضهم يرى أخذ الصلة ممن دون الملوك عاراً، فضلاً عن العامة وأطراف الناس, قال ذو الرمة يفتخر بأنه لا يكسب المال إلا من صلات الأمير الأعلى:
عطايا أمير المؤمنين ولم تكن ... مقسمةً من هؤلا وأولئك
ص11
_ وكانوا يتعرضون بالشعر لحاجاتهم، ويستشفعون بتقديم الأبيات بين طلباتهم. ص11
_ وكان بعضهم يقول الشعر وهو يجود بنفسه.ص11
2 _ عادات العرب في الأموات والقتلى
_ ومن عادات العرب في الأموات ما جاء في الصحاح: =عن الأصمعي, قال: كانت العرب إذا مات منها ميت له قَدْرٌ ركب راكب فرساً، وجعل يسير في الناس, ويقول نعاءِ فلاناً, أي انْعَهْ، وأظهر خبر وفاته, وهي مبنية على الكسر مثل دراكِ ونزالِ بمعنى أدرك وأنزل+.ص12(1/73)
_ وفي (النهاية) لابن الأثير, قال: =كانوا إذا مات منهم شريف أو قتل بعثوا راكباً إلى القبائل ينعاه إليهم+.ص12
_ وكانوا في الجاهلية يغسلون موتاهم، ويصلون عليهم, وطريق صلاتهم أن يحمل الميت على سريره, ويقوم وليه، ويذكر محاسنه ويثني عليه, ويقول: عليك رحمة الله وبركاته.ص12
_ وكانوا يسودون باب الميت, ففي اللسان : =والتجوُّنُ : تسويد باب الميت+.ص13
_ وكانوا يحملون الموتى من ساداتهم وكبرائهم في تابوت عظيم ويسمى إراناً, قال طرفة يصف ناقة, والبيت من معلقته:
أمونٍ كألواح الإرانِ نَسَأْتُها ... على لاحب كأنه ظهر بُرْجَدِ
قال الخطيب التبريزي : =الإران : تابوت كانوا يحملون فيه ساداتهم وكبراءهم دون غيرهم+.ص13
_ ومن عاداتهم إذا قَتَل الرجل منهم رجلاً مشهوراً وضع سيفه عليه؛ ليعرف قاتله، قال متمم بن نويرة في أخيه مالك:
لقد كَفَّن المنهال تحت ردائه ... فتى غير مبطان العشيات أروعا
وكان المنهال قتل مالكاً، والرداء: السيف.ص13
_ وكانوا يغطون الميت قبل دفنه, بثوب أخضر, إلا أن هذه العادة لم أقف بعدُ على ما يثبت وجودها عندهم في الأعصر الجاهلية, والأظهر: أنها حدثت فيهم بعد الإسلام, قال الأصبهاني في المحاضرات: =قال أبو عمرو الشيباني: رأيت بالبصرة جنازة عليها مطرف خز أخضر, فسألت عنها, فقيل جنازة الطرماح فذكرت قوله:
فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن
... على شَرْجَعٍ يُعلى بخضر المطارف
ص13.
_ وكانوا يضجعون الميت في قبره، ويوسدونه إحدى يديه, دل على ذلك كثير من أشعارهم, قال أبو ذؤيب الهذلي يذكر قبره:
قضوا ما قضوا من رمِّها ثم أقبلوا
... إليَّ بطاءَ المشي غُبْرَ السواعد
فكنت ذنوب البئر حين تبسلت ... وسُرْبلت أكفاني وَوُسِّدت ساعدي
ص13.
_ وكانوا يعقرون الإبل على قبور الموتى, أي ينحرونها, ويقولون: إن صاحب القبر كان يعقر للأضياف أيام حياته؛ فنكافئه بمثل صنيعه بعد وفاته.ص14(1/74)
_ وكانت المرأة في الجاهلية إذا مات عنها زوجها اعتدت عليه سنة لا تخرج من بيتها, فإذا تم الحول, فمر كلب رمته ببعرة, ثم خرجت من بيتها, ذكر هذا المفضل ابن سلمة في كتاب (الفاخر) وقال: وقد ذكرت الشعراء هذه الإقامة، فمن ذلك قول لبيد:
وَهُمُ ربيعٌ للمجاور فيهم ... والمُرْملات إذا تطاول عامها
ص17
_ وكان ذوات المصائب من نسائهم, إذا قمن في المناحات يضربن وجوههن وصدورهن بالنعال, قال:
وقام بناتي بالنعال حواسراً ... وألصقن وقع السَّبْتِ تحت الفلائد
ص18
_ وكانت المرأة منهم إذا ناحت قائمة على زوجها عُلِم أنها لا تريد أن تتزوج بعده.ص20
_ وكانوا يزعمون أن المقتول إذا ثأروا به أضاء قبره, فإن أهدر دمه, أو قبلت ديته يبقى قبره مظلماً, ذكر هذا الخطيب التبريزي في تفسير قول كبشة أخت عمرو بن معد كرب _ (من شعراء الحماسة):
وأرسل عبد الله إذ حان يومه ... إلى قومه لا تعقلوا لهم دمي
ولا تأخذوا منهم أبلاً وأبكراً ... وأُتْرَكَ في بيت بصعدة مظلم
ص20
_ ومن مزاعمهم في المقتول: أن الإنسان إذا قتل من غير أن يطلب بثأره خرج من رأسه طائر كالبومة وهي الهامة, والذكر الصدى, فيأخذ يصيح على قبره, ويقول: اسقوني, اسقوني، قال إبراهيم بن هرمة:
فكيف وقد صاروا عظاماً وأقبراً ... يصيح صداها بالعشيِّ وهامُها
تفانوا ولم يبقوا وكل قبيلة
... سريع إلى ورد الفناء كرامها
وقال بعضهم:
ولا تزْقَونْ ليْ هامة فوق مرقب ... فإن زقاء الهام للمرء عاتب(1)
تنادي ألا اسقوني وكل صدىً به ... وتلك التي تبيضُّ منها الذوائب
وقال ذو الأصبع العدواني:
يا عمرو إن لا تَدَعْ شتمي ومنقصتي
... أضربْك حيث تقول الهامة اسقوني
ص21
3 _ ميز شجعان العرب بعلامات في الحرب
_ كان شجعان العرب يُعْلِمون أنفسهم بعلامات يعرفون بها في الحرب, وإلى ذلك يشير عمرو بن كلثوم في قوله:
على آثارنا بيضٌ كرامٌ ... نحاذرُ أنْ تفارقَ أو تهونا
__________
(1) _ الزقاء: الصياح.(1/75)
أخذنَ على بعولتهنَّ عهداً ... إذا لاقوا فوارسَ مُعْلِمينا
لَيَسْتَلِبُنَّ أبداناً وبيضاً
... وأسرى في الحديد مقرنينا
وقال عنترة _ والبيت من معلقته _ :
ومِشَكِّ سابغةٍ هتكت فروجها ... بالسيف عن حامي الحقيقة مُعْلِم
قال الزوزني في شرحه للمعلقات:
المعلم بكسر اللام: الذي أعلم نفسه، أي شهرها بعلامة يعرف بها في الحرب حتى ينتدب الأبطال لبرازه, والمُعْلَم بفتح اللام: الذي يشار إليه، ويُدَلُّ عليه بأنه فارس الكتيبة، وواحد السرية.اهـ.ص22
4 _ عناية العرب بالضيف
_ جاء في البيان والتبيين للجاحظ ما يأتي:
إن العرب تجعل الحديث والبسط والتأنيس والتلقي بالبشر من حقوق القِرى, ومن تمام الإكرام, وقالوا: تمام الضيافة: الطلاقة عند أول وهلة, وإطالة الحديث عند المؤاكلة, قال:
أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله
... ويخصب عندي والمحل جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ... ولكنما وجه الكريم خصيب
ولذلك قال عمرو بن الأهتم :
فقلت له أهلاً وسهلاً ومرحباً ... فهذا مبيت صالح وصديق
وجاء في كتاب غرر الخصائص الواضحة للعلامة برهان الدين الوطواط, ما نصه:
ومن المفاخر التي لا نزاع فيها ولا خلاف, بسط الوجه، وبذل القِرى للأضياف.اهـ.ص35
5 _ تنكيل العرب في الجاهلية بالجناة
_ كانت العرب إذا غدر منهم غادر يوقدون له بالموسم ناراً, و ينادون عليه, يقولون: ألا إن فلاناً غدر؛ ولذلك قال الغادرة الغطفاني:
أَسُمَيُّ ويحكِ هل سمعتِ بغدرة ... رُفِع اللواءُ لنا بها في المجمع
ص41
_ وكان الرجل في الجاهلية إذا غدر وأخفر الذمة جُعِل له تمثال من طين, ونصب, وقيل: ألا إن فلاناً غدر فالعنوه, كما قال عبد الله بن جعدة:
فلنقتلن بخالد سرواتكم ... ولنجعلن لظالم تمثالاً
يعني خالدَ بنَ جعفرٍ, وقَتْلَ الحارث بن ظالم له.اهـ.ص41
_ وكانوا يتركون الرمح في المطعون ليكون أعنت له, قال عنترة:
وغادرنَ نضلةَ في مَعْرَكٍ ... يجر الأسنة كالمحتطب
ص42(1/76)
_ وكانوا يقيدون الأسير بسير من جلد, قال أبو دهبل الجمحي يمدح الأزرق المخزومي:
ما زلت في العفو للذنوب وإطـ ... ـلاق لعانٍ بجرمه غلقِ
حتى تمنى البراةُ أنهم ... عندك أسرى في القِدِّ والحلق
ص43
_ وكانوا يحلقون رؤوس الأسرى, قال نافع بن خليفة الغنوي يخاطب بني نمير:
وإن تحلقوا منا الرؤوس فإننا ... حَلَقْنا رؤوساً باللحى والغلاصم
الغلاصم: جمع الغلصمة وهي رأس الحلقوم, وهو الموضع الناتئ في الحلق، وحَلَقْنا: يريد أزلنا بالسيوف.ص43
_ وكانت العرب تجز نواصي الأسرى من الفرسان إذا رامت أن تخلي سبيلها, وتمن عليها, ولو كف العربي عن جز ناصيته لوسمه الأسير من الشعر والقوافي الخالدات البواقي التي هي أبقى من الميسم بما هو أضر عليه من جز ناصيته, ولعله لا يبلغ أهله حتى يستوي مع سائر شعر رأسه, ولكن ذل الجز لا يزال يلوح في وجهه, ولا يزال له أثر في قلبه.ص43
_ وكانوا إذا أسروا الشاعر أخذوا عليه المواثيق, وربما شدوا لسانه بِنِسْعة كما صنعوا بعبد يغوث بن وقاص المحاربي, حين أسرته بني تميم يوم الكلاب, وهو الذي يقول:
أقول وقد شدوا لساني بِنِسعة ... أمعشر تيم أطلقوا من لسانيا
وتضحك مني شيخةٌ عبشمية
... كأن لم تر قبلي أسيراً يمانيا
ص44
_ وجاء في أمالي أبي علي القالي ما نصه:
قوله: =وقد شدوا لساني بنسعة+ قال: هذا مثل, لأن اللسان لا يشد بنسعة, وإنما أراد: افعلوا بي خيراً ينطلق لساني بشكركم, فإن لم تفعلوا فلساني مشدود لا يقدر على مدحكم.ص45
6 _ عناية السلف باللغة العربية وكتبها
_ كان أبو عمرو بن العلاء إماماً في القراءات والنحو واللغة, أخذ عن جماعة من التابعين, وكانت دفاتره ملء بيته إلى السقف, مات سنة أربع وقيل تسع وخمسين ومائة.ص46
_ وكان للأصمعي يد غراء في اللغة لا يُعْرف فيها مثله.
وكان كثير التطوف بالبوادي لاقتباس علومها, وتلقي أخبارها, قد استولى على الغايات في حفظ اللغات, وضبط العلوم الأدبيات.(1/77)
وقد أعانه على تبحره في العلم خزانة كتبه الواسعة التي تحدث عنها بقوله: لما خرجنا مع الرشيد إلى الرقة قال لي: هل حملت معك شيئاً من كتبك؟ فقلت نعم حملت منها ما خف حمله, فقال: كم؟ فقلت ثمانية عشر صندوقاً, فقال: هذا لما خففت, فلو ثقلت كم كنت تحمل؟فقلت أضعافها, فجعل يعجب. ص46
_ وهذا أبو العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب أو إمام الكوفيين في النحو واللغة في زمانه كان يقول: مات الكرخي معروف سنة مائتين، وفيها ولدت وطلبت العربية سنة ست عشرة ومائتين، وابتدأت بالنظر في حدود الفرّاء ولي ثمان عشرة سنة، وبلغت خمساً وعشرين سنة وما بقي للفرّاء عليّ مسألة إلا وأنا أحفظها، وأضبط موضعها من الكتاب، ولم يبق من كتب الفرّاء في هذا الوقت شيء إلا وأنا قد حفظته، ومات سنة إحدى وتسعين ومائتين ودفن بمقبرة باب الشام ببغداد.ص47 _ 48
_ وكان أبو الطيب أحمد بن الحسين المعروف بالمتنبي من المكثرين من نقل اللغة, والمطلعين على غريبها وحواشيها, ولا يسأل عن شي إلا واستشهد فيه بكلام العرب من النظم والنثر.
وكان إذا سافر لم يخلف في منزله درهماً ولا شيئاً يساويه, وكان أكثر إشفاقه على دفاتره؛ لأنه كان قد انتخبها، وأحكمها قراءة وتصحيحاً.ص48
_ وهذا العلامة مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزبادي صاحب القاموس المحيط في اللغة كان يقول: ما كنت أنام حتى أحفظ مائتي سطر, ولا يسافر إلا وصحبته عدة أحمال من الكتب, ويخرج أكثرها في كل منزلة, ينظر فيها، ويعيدها إذا رحل.
مات سنة ست عشرة وثمانمائة.ص52
7 _ أرخى عمامته
_ قولهم في الآمن المطمئن: أرخى عمامته أي أمن واطمأن؛ لأنه لا ترخى العمائم في الشدة.
وقال جرير يخاطب عتبة بن مسعود ÷وكان ذا منزلة من عمر بن عبد العزيز:
يا أيها القارئ المرخي عمامته ... هذا زمانك إني قد مضى زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه ... أني لدى الباب كالمشدود في قرن
لا تنس حاجتنا لا قيت مغفرة(1/78)
... قد طال مكثيَ عن أهلي وعن وطني
ص53
8 _ أبو الأضياف
_ من الكنى بالأب قولهم: أبو الأضياف للمطعام, والعرب تقول لكل من قام بشيء وتكفل به: هو أبو كذا, وكذا, وربما قالوا: أم كذا, وربما قالوا: ابن كذا.
قال العجير السلولي, من شعراء الحماسة,يرثي ابن عمه جالب بن يزيد:
تركنا أبا الأضياف في ليلة الصَّبا
... بمَرو ومرْدي كلِّ خصمٍ يجادله
ص55
_ وجاء في كتاب الآداب الشرعية للإمام ابن مفلح ج3 : 212 ما نصه: ويستحب لصاحب الطعام أن يباسط الإخوان بالحديث الطيب والحكايات التي تليق بالحال إذا كانوا منقبضين.ص56
9 _ تخيلات الأمة العربية في أطوار الجاهلية
_ كثيراً ما تتوق النفوس إلى الاطلاع على ما كان للأمة العربية من التخيلات والرموز والمعتقدات في أطوار الجاهلية. ولقد جمعت منه ما انتقيته مما أوقفني عليه البحث:
_ حذف السن نحو الشمس: فمن تخيلات الأمة العربية أن الغلام إذا سقطت سِنُّه، فحذفها نحو عين الشمس, وقال: أبدلني بها أحسن منها عادت، قال طرفة:
أبدلته الشمس من منبتها ... برداً أبيضَ مصقولَ الأشر
أشر الأسنان: التحريز الذي فيها, يكون خلقة ومستعملاً, والجمع أشور.ص57
_ الاهتداء إلى الطريق: ومنها أن المسافر إذا ضل في مفازة, قلب ثيابه، وصاح كأنه يومئ إلى إنسان؛ ليرشده , وصفق بيديه اهتدى إلى الطريق.ص57
_ الخوف على الصبي من النظرة: ومنها إذا خيف على الصبي النظرة يعلق عليه سن ثعلب أو سن هرة يسلم، وقيل: أرادت جنية صبياً فلم تقدر عليه, فلما رجعت قيل لها في ذلك فقالت:
كانت عليه نُفَرة ... ثعالب وهررة
والحيض حيض السَّمُرة
وحيض السمرة: شيء يسيل من السمرة, وهي شجرة يزعمون أن الجن يهربون منه.
والنفرة بالضم كتؤدة: شيء يعلق على الصبي لخوف النظرة.ص57 _ 58
_ تعليق التمائم: ومنها أن تعليق التمائم مما يحفظ من الآفات، قال أبو ذؤيب الهذلي يرثي أولاده:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... لرأيت كل تميمة لا تنفع
ص60(1/79)
_ الضب والعقرب: ومنها أنه ليس من ضب إلا وفي حجره عقرب, فهو لا يأكل ولد العقرب وهي لا تضر به, فهي مسالمة له وهو مسالم لها، وأُنْشِد:
وأخدع من ضب إذا خاف حارشاً
... أعدَّ له عند الذنابة عقربا
حرش الضب يحرشه, من باب ضرب: صاده، وذلك بأن يحرك يديه على باب حجره؛ ليظنه حية؛ فيخرج ذنبه؛ ليضربها؛ فيأخذه.ص61 _ 62
10 _ عادات ملوك العرب في الجاهلية والإسلام
_ من عادات ملوك العرب في الجاهلية, أن الواحد منهم كان إذا قام عن مجلس الحكم يُخَلِّف فيه من ينظر بين الناس بعده ويسمى رِدْفاً, وهو بمنزلة الوزير في الإسلام.ص64
_ ومنها إذا مرض أحدهم حملته الرجال على أكتافها يتعاقبونه، ويقفون به؛ لأنه عندهم أوطأ من الأرض.ص64
_ ومن عادات ملوك اليمن قبل الإسلام: أنهم كانوا يركبون الأفراس والمركبات, وكانوا يضربون النقود، وينقشون عليها صورهم وأسماءهم وأسماء المدن التي ضربت فيها.
أما بقية العرب في الجاهلية فقد كانوا يتعاملون بالنقود الرومية والفارسية, حتى جاء الإسلام وافتتحوا البلاد, فكان مما عمدوا إلى إنشائه ضرب الدراهم والدنانير، وقد كان سيف الدولة ضرب دنانير عليها اسمه وصورته.ص67
_ ومنها: في الجاهلية كانوا يختمون على الرسائل والصكوك بخاتم، وكان ذلك من الوظائف الملوكية المعروفة عندهم, وبعد ظهور الإسلام أصبح ذلك من شارات الملك في الدول العربية, وكانوا يستجيدون صوغه من الذهب, ويرصعونه بفصوص من الياقوت وغيره من الحجارة الكريمة.ص67
_ ومنها: جلوسهم على السرير وهو أعواد منصوبة، أو أرائك منضدة لجلوس السلطان عليها, وكان ذلك من سنن الملوك قبل الإسلام , وأول من اتخذه في الإسلام معاوية ÷ واستأذن الناس فيه, وقال لهم إني قد بدنت, فأذنوا له, فاتخذه, واتبعه ملوك الإسلام فيه قال البحتري يمدح المتوكل على الله:
فلك السيفُ والعمامةُ والخا ... تم والبرد والعصا والسرير
ص68
11 _ عادات نساء العرب في الأعصر الجاهلية(1/80)
_ طلاق الرجال: وكن أو بعضهن يطلقن الرجال, وعلامة طلاقهن أنهن يحولن أبواب بيوتهن, فإن كان الباب إلى المشرق جعلته إلى المغرب, وإن كان الباب قبل اليمن جعلته قبل الشام, فإذا رأى الرجل ذلك عرف أن امرأته طلقته.
وكذلك طلقت ماوية بنت عفزر زوجها حاتماً, حين أمعن به حب الكرم؛ فلم يبق لأبنائه ما يتبلغون به, وفي سبيل ذلك أرسل إليها قصيدته التي يقول في مطلعها:
هل الدهر إلا اليوم أو أمس أو غد
... كذاك الزمان بيننا يتردد
ص70
_ ذيل الثياب: وكن يرسلن ذيول ثيابهن, ولا سيما حللهن النفيسة التي يلبسنها في المواسم والأعياد.ص70
_ التزين بالحناء: كن يتزيّن بالحناء, فهي شائعة الاستعمال بينهن, فيصبغن بها الأكف والأصابع والأظافر، وأخامص القدمين، وأصابع الأرجل.ص71
_ الإثمد على الشفاه: وكن يذررن الإثمد على شفاههن ولثاتهن, ليكون ذلك أشد للمعان أسنانهن ونقائها.ص71
_ المساويك: وكن يستكن بقضبان المساويك على اختلاف أنواعها, وذلك كقضبان الأراك والإسحل والبشام وغيرها, وهي أشجار عطرة الريح، وعيدانها صالحة للاستياك.ص74
12 _ عادات العرب في الخيل
_ من عادات العرب في الخيل: أن الواحد منهم كان إذا أراد الركوب لثأر جزَّ ناصية فرسه وذنبها, وأول من فعل ذلك الحرث بن عِبَاد يوم تحلاق اللمم من أيام حرب البسوس, وذلك أنه لما سمع بقتل ولده =بحير+ دعا بفرسه النعامة، فجيء بها، فجز ناصيتها وذنبها, ونادى في قومه, وأنشد قصيدته التي مطلعها:
كل شيء مصيره للزوال ... غير ربي وصالح الأعمال
ومنها:
قربا مربط النعامة مني ... لقحت حرب وائل عن حيالي
لم أكن من جناتها علم الله ... وإني بِحَرِّها اليوم صالي
فاتخذ العرب ذلك سنة إذا أرادوا إدراك الثأر فعلوا ذلك بخيلهم, فلما بلغ المهلهل فعل الحرث, دعا بفرسه المشهّر وفعل به ما فعل الحرث بالنعامة, وقال قصيدته التي مطلعها:
هل عرفت الغداة من أطلال ... رهنَ ريحٍ وديمةٍ مهطال
ومنها:(1/81)
قربا مربط المُشَهَّر مني ... لكليب الذي أشاب قذالي
ص76
_ وكانوا يطعمون الجياد من الخيل اللبن, قال فارس جروة شداد بن معاوية العبسي:
ومن يك سائلاً عني فإني ... وجروة لا تباع ولا تعار
مقربة الشتاء ولا تراها ... أمام الحي يتبعها المهار
لها بالصيف جرجارٌ وجُلٌّ ... وستٌ من كرائمها غزار
قوله وست من كرائمها إلخ _ أي لها من كرائم الإبل ست نوق تشرب من ألبانها.ص76 _ 77
_ وكانوا يحبون الخيل ويبالغون في إكرامها, وكان الرجل منهم يبيت جائعاً ويشبع فرسه, ويؤثره على نفسه وعياله وولده, قال مالك بن نويرة:
أعلل أهلي عن قليل متاعهم ... وأسقيه محض الشول والحي ضائق
ص78
_ وكانوا يقلدونها أوتار القسي لئلا تصيبها العين, فنهاهم الإسلام عن ذلك, وأعلمهم أن الأوتار لا ترد شيئاً من قضاء الله _ تعالى _ ورخص بتقليدها الخرز لأجل الزينة.ص78
_ وكانوا يَسِمُونَها بنار الميسم _ وهي الحديدة التي يكوى بها _ قال الجاحظ في كتابه: ووسمت العرب الخيل وجميع أصناف النعم في الإسلام على مثل صنيعها في الجاهلية.اهـ ص78
_ وكانوا ينعلون الخيل بالحديد, وقد دل عليه قول مالك بن بلالة بن أرحب:
أمرت بإتيان اللجام فأبدعت ... وأنعلت خيلي في المسير حديدا
وأرحبُ جدي كان أحدث قبلنا
... ولو نطقت كانت بذاك شهودا
ص78
_ وكانوا يجعلون في عنق السكيت من الخيل حبلاً _ والسكيت اسم للعاشر من مراتب خيل السباق _ ويجعلون عليه قِرْدَاً، ويعطون للقرد سوطاً، فيركضه تنكيلاً بصاحبه وتعييراً له، قال الوليد بن حصين الكلبي:
إذا أنت لم تسبق وكنت مخلفاً ... سُبقت إذا لم تدع بالقرد والحبلِ
وإن كنت حقاً بالسكيت مخلفاً ... فتورث مولاك المذلة بالنبلِ
وسمي السكيت لأن صاحبه يسكت حزناً وحياء، وقوله فتورث مولاك إلخ: يشير إلى ما يفعله بعضهم من رمي السكيت بالنبل.ص78 _ 79(1/82)
_ وكانوا إذا ساروا لمحاربة عدو يقودون خيولهم ليريحوها ويركبون إبلهم, فإذا قربوا من عدوهم نزلوا عن إبلهم إلى خيلهم, ثم أغاروا.ص79
_ وكانت الخيل أعظم عددهم في الحروب, وعليها مدار أمرهم, وبها يجولون في كرهم وفرهم, قال طرفة بن العبد:
ونُكرُّ الخيلَ في أدبارها ... يوم لا يعطف إلا ذو كرم
ص79
_ وكانوا يستحبون إناث الخيل في الغارات والبيات ولما خفي من أمور الحرب, وكانوا يستحبون فحول الخيل في الصفوف، والحضور، والسير، والعسكر، ولما ظهر من أمور الحرب, وكانوا يستحبون خصيان الخيل في الكمين والطلائع؛ لأنها أصبر وأبقى في الجهد.ص79
_ وكان أشراف العرب يخدمون الخيل بأنفسهم لا يتكلون على أحد سواهم.
ومن الحكم: ثلاثة لا ينبغي لأحد أن يأنف منهن وإن كان شريفاً أو أميراً: قيامه عن مجلسه لأبيه, وخدمته لضيفه, وقيامه على فرسه.
وكتب سليمان بن هشام بن عبد الملك إلى والده أن فرسي قد ضعف, فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لي بغيره؟ فكتب إليه والده: إن أمير المؤمنين قد فهم ما ذكرت من ضعف فرسك, وظن ذلك من قلة تعهدك له, فقم عليه بنفسك.ص80
13 _ عادات العرب في الإبل
فمن عادات العرب في الإبل:
_ تسييب الإبل: إن البعير إذا أدرك نتاج نتاجه يُسَيَّب, أي يترك لا يركب, وكذلك الناقة كانت تسيب في الجاهلية لنذر ونحوه، أو كانت إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث سيبت، والسائبة في القرآن: كان الرجل في الجاهلية إذا قدم من سفر بعيد أو نجته دابته من مشقة أو حرب, قال: هي سائبة, وقيل: بل كان ينزع من ظهرها فقارة فتعرف بذلك, وكانت لا تحلأ عن ماء ولا كلأ، ولا تركب. ص81
_ الصرار والذئار: وكانوا إذا أرسلوا الحلوبات إلى المرعى, وخشوا أن ترضع شدوا ضروعها برباط يسمونه صراراً, فإذا راحت عشياً حُلَّت تلك الأصرة، وحلبت.ص82
_ الناقة الجرباء: وكانوا يبعدون الناقة الجرباء, ويفردونها عن الإبل؛ حتى لا تُجْرِبَها، ولا تعديها.ص82(1/83)
_ وليس شيء أبغض إلى العرب من الجرب؛ لأنه يعدي،ومن أمثالهم: (أبغض من الطلياء) والطلياء هي الناقة الجرباء المطلية بالقطران،ويقال: (أبغض من الجرباء ذات الهناء).ص83
_ ذبح ولد الناقة: وكانوا إذا أرادوا ذبح ولد الناقة جعل عليه ثوب يغطى به رأسه وظهره كله ما خلا سنامه, فيرضعها يوماً أو يومين, ثم يوثق وتنحى عنه أمه حيث تراه, ثم يؤخذ الثوب فيجعل على حوار آخر فترى أنه ابنها, وينطلق بالآخر فيذبح، ويقال في ذلك ناشغت لفلانة يعني الناقة.ص83
_ الصداق من الإبل: وكانوا يدفعون في الصداق إبلاً, ومن ذلك قولهم: ساق إلى المرأة صداقها، وتلك الإبل يقال لها النافجة قال شاعرهم:
وليس تلادي من وراثة والدي
... ولا شاد مالي مستفاد النوافج
وكانوا يقولون: تهنيك النافجة، فإذا كانوا يدفعون الصداق عيناً وورقاً فلا يقال ساق إليها الصداق.ص83
_ فظ الإبل: وكانوا يفتظون الإبل فيأخذون ما بقي في كروشها من الماء.ص83
_ غرز الريش والخرق بأسنمة الإبل: وكانوا إذا ظهرت دبرة بظهر بعير غرزوا في سنامه إما قوادم نسر أسود، وإما خرقة سوداء؛ لتفزع الغربان فلا تسقط عليه, لأن الغراب مولع بنقر القروح، وعقرها حتى يبلغ الدأبات(1).ص85
_ الناقة العصوب: ومن عاداتهم أن الناقة إذا لم تدر شدُّوا فخذها بعصاب, فعند ذلك تدر.ص85
_ توسد ذراع الناقة: وكان المسافر منهم إذا أراد النوم أناخ راحلته، وتوسد أحد ذراعيها،قال ذو الرمة:
رمى الإدلاج أيسر مرفقيها ... بأشعث مثل أشلاء اللجام
ص86
_ الضرب على ضرع الناقة: وكانوا يضربون على ضرع الناقة، لكي تبقى بقية من لبنها في خلفها, يريدون بذلك تغزيرها، قال الحارث بن حلزة في مكارم الأخلاق :
لا تكسع الشول بأغبارها ... إنك لا تدري من الناتج
واصبب لأضيافك ألبانها ... فإن شر اللبن الوالج
ص86
_ نحر الفصال: وكانوا في سنة الجدب ينحرون الفصال؛ لئلا ترضع فتضر بالأمهات.ص87
__________
(1) _ الدأبات: عظام الكاهل.(1/84)
_ ترويض البكرة: وكانوا إذا أرادوا أن يروضوا البكر الصعب حك الرائض أعلى خطمه _ أنفه _ بحبل, حتى يؤثر فيه كالوسم, ثم يجعل عليه حبلاً يقوده به فينقاد، قال ذو الرمة يصف بعيراً:
كأن جلد الوجه من حرير ... أملس إلا خطرة الجرير
الجرير : الحبل.ص87 _ 88
_ الناقة المذكره: وكانوا يتفاخرون بالنوق ،ويرغبون في ركوبها أكثر من الجمال, ومن أجل ذلك كانوا يبغضون الناقة التي تلد الذكور, وهو أفظع ما يكون من نتاج العرب، وأبغضه إليهم.ص88
_ نحر الناقة: وكانوا إذا أرادوا نحر الناقة, ضربوا ساقها بالسيف فخرت, ثم نحروها،قال أبو طالب بن عبدالمطلب يمدح رجلاً بالكرم:
ضروبٌ بنصل السيف سوقَ سِمانها
... إذا عدموا زاداً فإنك عاقرُ
ص88
_ الذرع: وكانوا يرسلون مع الوحش جملاً يرعى معها؛ حتى تأنس به، ولا تنفر منه, فإذا أراد مريد أن يصطاد الوحش, استتر بذلك الجمل حتى إذا دنى الوحش رمى.ص89
_ حادي الإبل: وكانوا إذا ساقوا الإبل, جعلوا من يغني لها, وهو المسمى بالحادي, أنشد ابن بري للراجز:
يا زيد زيد اليعملات الذُّبَّل ... تطاول الليل عليك فانزل
الذبل: الضوامر, واليعملات: النوق القوية على العمل.
وإنما أضيف زيد إليها لاشتهاره بالحداء أي الغناء لها عند سيرها، وقال الجوهري: الحدو: سوق الإبل، والغناء لها.ص89
_ تنعيل الإبل: ومن عادات العرب في الإبل: أنهم كانوا يشدون تحت خفافها قطعاً من الجلود؛ لتقيها الحجارة , وهو التنعيل المشار إليه في قول كعب ابن زهير÷:
سمر العجيات يتركن الحصا زِيَماً
... ولا يقيها رؤوسَ الأكْمِ تنعيل
العجيات:عصب الأرساغ, والزيم بكسر الزاي وفتح الياء: المتفرق : أي أنها لا تحفى في سيرها، فتفتقر إلى النعل.ص90
_ الفرسان والركبان: وكانوا يقاتلون على النجب والهجن من الإبل.ص90
_ وسم الإبل: وكانوا يسمون إبلهم بنار الميسم _ والميسم حديدة يكوى بها _ قال الراجز:
قد سقيت آبالهم بالنار ... والنار قد تشفي من الأوار(1/85)
يعني بالنار: السمة, يريد أن إبلهم وردت الماء, فلما رأى أصحابه سمتها علموا أنها لقوم أعزة؛ فسقوها لذلك.ص90
14 _ عادات العرب في الحروب والغزوات
-اشتهرت العرب بين بقية الأمم بمعالجة الحروب وأنواع المقاتلة, وقد انتهت إليهم القوة والشجاعة, كما يشهد بذلك تاريخهم المجيد، وآثارهم الأدبية الخالدة.
فالعرب ليوث الحرب، وأباة الضيم, ولم يزالوا في أيام جاهليتهم في كر وفر، وغارات، ومحاربات، كل ذلك في طلب العزة، وإشادة صروح المجد.
قال شاعرهم:
أدْنى الفوارسِ من يغير لمغنم ... فاجعل مغارَك للمكارم تُكرمِ
ومن أراد أن يطلع على أخبار حروب العرب وغزواتهم فهو لا غنى له عن معرفة ما كان لهم فيها من العادات والشعائر، وإن عثور الباحث على شيء منها لا يخلو من فائدة يزدان بها جيد تاريخ الأمة العربية.ص92
_ نار الحرب: فمن عادات العرب في الحروب: أنهم كانوا إذا أرادوا حرباً أوقدوا ناراً على جبل؛ ليبلغ الخبر أصحابهم فيأتوهم , فإن جد الأمر أوقدوا نارين.ص92
_ نحر الجزور: وكانوا ينحرون الجزور إذا أرادوا الغزو، ثم يطبخون لحمها, ثم يحشون جلد الجزور ويحملونه معهم , يستعينون على السفر, فمتى أرادوا لحماً أكلوا منه.ص93
_ الاستكثار من النيران والذبح: وكانوا إذا نزلوا منزلاً وهم جيش يريدون محاربة قوم استكثروا من النيران, وأكثروا من الذبح مخافة أن يحزرهم حازره _الحزر: التقدير والحرص(1)_ بقلة ذبحهم ونيرانهم, فيستدل على العورة منهم. ص93
_ لبس الدروع والأقنعة: وكانوا إذا أرادوا القتال لبسوا الدروع، وتكمموا بالأسلحة , وتقنعوا حتى لا يعرفوا.ص94
_ التخفيف بالحرب: وكانوا يتخففون للحرب, ويكرهون أن يقتل الرجل، وتصيبه طعنة في بطنه، أو ضربة؛ فيخرج منه الطعام؛ فَيُعَيَّر.ص95
_ الطليعة: وكانوا قبل مناجزة العدو يرسلون من يكشف لهم عنه ويسمى: طليعة.ص95
__________
(1) _ هكذا في الأصل ولعل الصواب: الخرص.(1/86)
_ حمل الألوية والرايات: وكانوا يقتحمون غمار الحرب حاملين الألوية والرايات.ص96
_ الرايات في أطراف الرماح: وكانوا يحملون الرايات في أطراف الرماح،ويتركونها حتى تصفقها الرياح.ص97
_ أمير الجيش: الوازع: وكانوا يجعلون لكل جيش منهم أميراً يأمرهم وينهاهم, ويقدم فيهم، ويؤخر, ويسمى وازعاً.ص99
_ علامات الفرسان: وكان الفارس منهم يعلم نفسه بعلامة يعرف بها في الحرب.ص99
_ النساء خلف المحاربين: وكانوا إذا حاربوا جعلوا النساء خلفهم،قال عمرو ابن كلثوم في معلقته:
على آثارنا بيض كرامٌ ... نحاذر أن تُقَسَّمَ أو تهونا
ص101
_ الغارة في الصباح: وكانوا لا يغيرون إلا في الصباح، ولذلك يقولون: فتيان الصباح؛ولهذا قالوا: يا صباحاه.ص101
_ الغارة من كل الجهات: وكانوا إذا أغاروا فرقوا أنفسهم؛ ليأتوا الأعداء من كل الجهات.ص102
_ مهاجمة يمين الأعداء: وكانوا يحبون أن يأتوا أعداءهم من شق اليمين, وذلك لعلمهم بأن طباع الإنسان داعية إلى الهرب من شق الشمال؛ ولذا قال شتيم بن خويد _ بالتصغير فيهما_:
فجئناهم من أيمن الشق غدوة
ويأتي الشقيَّ الحَيْنُ(1) من حيث لا يدري
وليس في الأرض هارب من حرب أو غيرها, فاستمل الحضر إلا أخذ عن يساره إذا ترك عزمه، وسوم طبيعته.ص103
_ ترك الرمح في المطعون: وكانوا يتركون الرمح في المطعون؛ ليكون أعنت له.ص103
15 _ عادات عربية خاصة بالأعراس
_ يقال: العروس للرجل والمرأة _ ما داما في أعراسهما.
فَجَمع المذكر عروس، وجمع الأنثى عرائس، وكل منهما عرس للآخر، ولا يسميان عروسين إلا أيام البناء.ص105
_ ومن أمثال العرب (كاد العروس يكون ملكاً) ويراد ههنا الرجل، أي: كاد يكون ملكاً لعزته في نفسه وأهله.ص105
_ الصداق: من عادات العرب أنهم كانوا يدفعون الصداق إبلاً، فمن ذلك قولهم: ساق إلى المرأة صداقها.ص105
__________
(1) _ الحين: الموت.(1/87)
_ العجاهن: العُجاهن بالضم: الماشطة إذا لم تفارق العروس حتى يُبْنَى بها، وتسمى _ أيضاً _: (المزينة) و (المقينة) من التقين وهو التزين؛ لأنها تزين النساء، وهي التي يسميها أهل تونس (الحنانة).
ويسميها أهل مصر (البلانة) وأما أهل الشام فما يزالون يسمونها (الماشطة) ويذكرونها في أغانيهم التي يتغنون بها في أعراسهم.ص106
_ الزفاف: من العادات التي كانت جارية عند الأمة العربية في الأطوار الجاهلية أنهم كانوا إذا زوجوا فتاة وأرادوا زفافها، تقدم إليها وليها بوصايا تنفعها في حياتها إذا عملت بها، فمن ذلك حكي أن قيس بن مسعود زوج ابنته من لقيط بن زرارة، ومما أوصاها به، قوله:
=واغلبي أحماءك بالخير، ولا تغلبيهم بالشر، وكوني لزوجك أمة يكن لك عبداً، وتتبعي من الطيب مواقع أنفه، واعلمي أن أطيب طيب النساء: الماء+.
وقد أقر الإسلام هذه العادة الجاهلية ولم يغيرها؛ وذلك لأنه دين النصيحة ومكارم الأخلاق.
وقد ذكر في كتب الأدب أن أبا الأسود الدؤلي، وهو من التابعين، لما زوج ابنته وأراد تحويلها، قال لها:
=عليك بالزينة، وأزين الزينة الكحل، وعليك بالطيب، وأطيب الطيب
إسباغ الوضوء+.
فقوله إسباغ الوضوء: أي إكماله، وإتمامه، والمبالغة فيه.ص106 _ 107
_ العمرة: العمرة: أن يبني الرجل على امرأته في أهلها، فإن نقلها إلى أهله فذلك العرس. قاله ابن الأعرابي.ص107
_ الدعاء للمتزوج: ويدعى للمتزوج، فيقال له: بالرفاء والبنين أي بالالتئام، والإنفاق، وجمع الشمل، وحسن الاجتماع: وهو من رفات الثوب إذا ضممت بعضه إلى بعض، أو من رفوت الرجل: إذا سكنته.
قال أبو زيد ×: هو من المرافاة _غير مهموز_: وهي الموافقة.
وتزوج عقيل بن أبي طالب، فقيل له: بالرفاء والبنين.
فقال: قال رسول الله " : إذا رفأ أحدكم أخاه، فليقل: على الخير والبركة، بارك الله لك، وبارك عليك.ص107
16 _ مجالس العرب في الجاهلية والإسلام(1/88)
_ لقد أعرب كثير من الشعراء عما كان في مجالس العرب من سكون، ووقار، وحسن أدب، ومحادثات تعود على الإنسان بما فيه سعادته وصلاح أمره، فمن ذلك ما أشار إليه زهير بن أبي سلمى في قوله يمدح آل سنان ويذكر مجالسهم:
إذا جئتَهمْ ألفيتَ حول بيوتهم
... مجالسَ قد يشفى بأحلامها الجهل
يقول: هم أهل حلوم وآراء، فمن شهد مجالسهم تحلَّم وإن كان جاهلاً.
وقال طرفة بن العبد يمدح قوماً:
يَزَعُونَ الجهلَ في مجلسهم ... وهمُ أنصارُ ذي الحلم الصمدْ
يزعون: أي يكفون، والجهل: السفه، يعني أن مجالسهم لا يتكلم فيها بالكلام المنافي للآداب وقوله: وهم أنصار ذي الحلم الصمد، الصمد: الذي يصمد إليه في الحوائج، أي يقصد، يعينون ذا المروءة على مروءته.ص108
_ وقال الآخر يصف مجالس بعض الرؤساء:
إذا انتدى واحتبى بالسيف دان له
... شوسُ الرجال خضوعَ الجُرْبِ للطالي
للطالي
كأنما الطير منهم فوق هامتهم ... لا خوفَ ظُلمٍ ولكن خوفَ إجلالِ
أراد أن مجالسهم مهيبة، وأن حاضريها يتوقرون ويسكنون، فكأن على رؤوسهم الطير، وقوله: لا خوف ظلم: أي يخافونه لا خوف ظلم وانتقام، ولكن خوف جلالة واحتشام.ص108
_ وقال شاعر قديم يمدح رجلاً بالكرم والاحتفاظ بكرامة جلسائه وتوقير مجلسهم:
فتى مثل ضوء الماء ليس بباخلٍ
... بخيرٍ ولا مهدٍ ملاماً لباخلِ
ولا قائلٍ عوراءَ تؤذي جليسَه ... ولا رافعٍ رأساً بعوراءِ قائلِ
العوراء: الكلمة القبيحة، يعني أنه لا يؤذي من يجلس إليه، ولا يسمعه ما يكره:
ولا مظهرٍ أحدوثةِ السوء معجباً ... بإعلانها في المجلس المتقابل
الأحدوثة: بالضم ما يتحدث به، يعني أن ممدوحه إذا جلس مع قوم راعى مجالسهم؛ فلا يحدثهم بحديث سيئ كغيبة أو نميمة، أو غير ذلك من الكلام المنافي للآداب والحشمة.ص109
_ وقال الفرزدق يصف مجالس قومه:
وما حُلَّ من جهلٍ حِبا حلمائنا
... ولا قائل المعروفِ فينا يعنَّف
وما قام منا قائمٌ في نديِّنا ... فينطقُ إلا بالتي هي أعرف(1/89)
أي إذا نطق منا ناطق في مجلس جماعة عُرف صواب قوله، فلم تردَّ مقالته.ص110
_ وقال أبو فراس الحمداني يصف مجلس قومه:
إذا مررتَ بوادٍ جاشَ غاربُه ... فاعْقِلْ قلوصَك وانزِلْ ذاك وادينا
وإن وقفتَ بنادٍ لا يطيفُ به ... أهلُ السفاهة فاجلسْ فهو نادينا
يعني أن مجالسهم لا يُلِمُّ بها أهل السفه والطيش، ولا يقربونها.ص111
_ هذا ولنكتف بما أوردناه في هذا المقال من الأشعار المشتملة على أوصاف مجالس العرب في الجاهلية والإسلام، والآن نجعل مسك ختامنا الكلام على مجلس النبي " ومجالس أصحابه _رضوان الله عليهم_ .
أما مجلس النبي " فقد وصفه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ÷فقال: =مجلس حلم، وحياء، وصبر، وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم: أي لا تقذف ولا تعاب، وتنشى فلتاته: أي لا تثبت هفواته.
إذا تكلم " أطرق جلساؤه كأن على رؤوسهم الطير+.
فقوله: =كأن على رؤوسهم الطير+ هذه عبارة عن سكونهم وإنصاتهم؛ لأن الطير إنما تقع على ساكن، قال الهذلي:
إذا حلَّتْ بنو ليثٍ عكاظاً
... رأيت على رؤوسهم الغُرابا
وقال بعض الصحابة: =إنا كنا مع النبي " وكأن الطير فوق رؤوسنا+.
أي كأن الطير وقعت فوق رؤوسنا، فنحن نسكن، ولا نتحرك؛ خشية من نفار ذلك الطير.
وفي صفة الصحابة _ رضوان الله عليهم _ : =كأن على رؤوسهم الطير+ أي ساكنون هيبة، ووصفهم بالسكون والوقار، وأنهم لم يكن فيهم خفة وطيش.
ويقال للقوم إذا كانوا هادئين ساكنين: كأنما على رؤوسهم الطير.ص111 _ 112
_ ومن أمثال العرب في مكارم الأخلاق قولهم في الحليم: إنه لواقع الطير وساكن الريح. ص112
_ وقولهم في الحلماء: كأن على رؤوسهم الطير. ص112
وأما أصحاب رسول الله " فإنهم كانوا إذا اجتمعوا، جعلوا يتحدثون بذكر ما سلف لهم من الحروب والوقائع، ويتناشدون الأشعار، ويتمازحون.
وفي حديث بكر بن عبدالله: كان أصحاب محمد يتمازحون، فإذا جاءت الحقائق كانوا هم الرجال.ص112(1/90)
_ وفي حديث الحسن البصري، قيل له: أكان أصحاب رسول الله " يمزحون؟ قال: نعم، ويتقارضون، أي يقولون القريض وينشدونه، والقريض هو الشعر.ص112
_ هذا ومن الأنسب أن نذكر هنا ما جرى في أحد مجالس أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب ÷وذلك ما رواه ابنه عبدالله، قال: كنت عند أبي يوماً وعنده نفر من الناس، فجرى ذكر الشعر، فقال: من أشعر العرب؟ فقالوا: فلان وفلان، فطلع عبدالله بن عباس، فسلم وجلس، فقال عمر: قد جاءكم الخبير من أشعر الناس يا عبدالله؟ قال زهير بن أبي سلمى، قال فأنشدني مما تستجيد له.
فقال: يا أمير المؤمنين إنه مدح قوماً من غطفان، يقال لهم بنو سنان، فقال:
قومٌ سنانٌ أبوهم حين تنسبهم ... طابوا وطابَ من الأنجال ما ولدوا
لو كان يَقْعُدُ فوق الشمس مِنْ كرمٍ
... قومٌ بأولهم أو مجدهم قعدوا
إنسٌ إذا أمنوا جِنٌّ إذا فَزِعوا
... مرزؤون بها ليلٌ إذا جهدوا
محسَّدونَ على ما كان من نعمٍ ... لا ينزع الله عنهم ما به حُسدوا
فقال عمر: والله لقد أحسن، وما أرى هذا المديح يصح إلا لهذا البيت من هاشم لقرابتهم من رسول الله " فقال ابن عباس: وفقك الله يا أمير المؤمنين؛ فلم تزل موفقاً.ص112 _ 113
_ وأما عبدالله بن عباس÷فقد كان يجلس يوماً للتأويل، ويوماً للفقه، ويوماً للشعر، ويوماً لأيام العرب.
ومعنى الشعر: أن يذكرها استشهاداً للغة العربية.ص113
_ وقال عطاء بن أبي رباح ×: ما رأيت قط أكرم من مجلس ابن عباس، أكثر فقهاً، وأعظم خشية، وإن أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر عنده، يصدرهم كلهم من واد واسع.ص113
17 _ قرع السن كناية عن الندم
_ يقال: قرع عليه سنه: ندم.
وقال تأبط شراً، واسمه ثابت بن جابر، من شعراء المفضليات:
لتقرعنَّ عليَّ السنَّ من ندمٍ
... إذا تذكرت يوماً بعض أخلاقي
ومن أمثال المولدين: (رب كلمة لبست عليها أذني؛ مخافة أن أقرع لها سني).ص118
18 _ الأضياف والضيافة(1/91)
_ هذا تحرير يشتمل على كلمات خاصة بالأضياف، والضيافة، وما له صلة بذلك:
_ السور: السّور بالضم: الضيافة وهي كلمة فارسية، وقد شرفها النبي " عن القاموس وشرحه _ قال الشارح: قلت: وهي إشارة إلى الحديث المروي عن جابر بن عبدالله الأنصاري ÷: أن النبي " قال لأصحابه:= قوموا فقد صنع جابر سوراً+.
قال أبو العباس: وإنما يراد من هذا أن النبي " تكلم بالفارسية، صنع سوراً أي طعاماً دعا الناس إليه.ص122
_ النُّدُل: الندل بضمتين: خدم الدعوة _ عن ابن الأعرابي.
قال الأزهري: سموا نُدُلاً لأنهم ينقلون الطعام إلى من حضر الدعوة.ص122
_ الصبير:الصبير كأمير: صبير الخِوَان وهو الرقاقة العريضة تبسط تحت ما يؤكل من الطعام.
ويقال: أكلوا صبير الخوان: وهو الرقاقة التي تبسط تحت الطعام الأساس.ص122
_ المُرْجِفان: المرجفان: الطست والإبريق، لأن لهما صوتاً بنقر أحدهما في الآخر، فكأن ذلك الصوت يرجف أي يخبر بتمام الطعام والحث على القيام.
قال أبو بكر الصفار: حضر مجنون بالكوفة قوماً فجلس يأكل، فجعل الغلام يحرك الطست والإبريق، فقال من ذا الذي يرجف بنا قبل انقضاء عملنا، وفي مقامات الحريري:= وإياك واستدناء المرجفين قبل استقلال حمول البين+.
قوله استقلال حمول البين: أي إبل الفراق، ويريد بها الموائد؛ لأنها إذا ارتفعت تفرق أهل المجلس فيقول: إياك أن تُقَرِّبها _ أي الطست والإبريق _ قبل أن ترتفع الموائد؛ فيتهيأ الناس للغسل والانصراف، فإن غسلت الأيدي _ والموائد باقية _ تُوهِّم أن ثمَّ طعاماً يستأنف أكله.ص122 _ 123
_ الحشماء: الحُشماء: الجيران والأضياف، كأنه جمع حشيم ككريم وكرماء.
والذي في المحكم: هؤلاء أحشامي أي جيراني وأضيافي.
إذا دعي قوم إلى طعام، فجاؤوا أربعة أربعة، قيل: جاؤوا وخزاً وخزاً، فإن جاؤوا عصبة، قيل: جاؤوا أفاجيج.
صاحب العين: مرَّ بنا فائج وليمة فلان، أي قوم مما كان في طعامه.ص123(1/92)
_ الوضيمة: الوضيمة: القوم ينزلون على القوم وهم قليل، فيحسنون إليهم ويكرمونهم.ص123
_ الهفيته، الدافة: قال: وردت هفيتة من الناس للذين أقحمتهم السَّنَةُ. 124
_ الصرِّم: الصرِّم بالكسر: الجماعة من الناس ليسوا بالكثير.ص124
_ التكرمة: التكرمة: الوسادة وما يجلس عليه الضيف.ص124
_ النزالة: النِّزالة بالكسر: الضياف _ اللسان.
ويقال: كنا في نزالة فلان _ بالكسر _ أي ضيافته _ مستدرك التاج.ص124
_ النزل: النُزُل بضمتين: ما هيئ للضيف.ص124
_ الأحبش: الأحبش: الذي يأكل طعام الرَّجُل،ويجلس على مائدته، ويزينه.
ص124
_ المرهَّق: المُرَهَّق كمعظَّم: من يغشاه الناس كثيراً، وتنزل به الأضياف،قال زهير: يمدح هرم بن سنان:
ومُرهَّقُ النيران يطعم في الـ
... لأواءِِ غيرَ مُلَعَّنِ القدر
وقال ابن هرمة:
خيرُ الرجالِ المرهقون كما ... خيرُ تلاعِ البلادِ أوطؤها
ص125
_ المقراء: المقراء: هو الرجل الكثير القرى للأضياف.
والمهداء: الرجل الكثير الإهداء.ص125
19 _ عادات العرب بأمر الأضياف
_ وقال المقنع الكندي من شعراء الحماسة:
يعاتبني في الدَّيْنِ قومي وإنما
... ديوني في أشياءَ تكسبهم حَمْدا
أسُدُّ به ما قد أخلّوا وضيّعوا ... ثغورَ حقوقٍ ما أطاقوا لها سدا
وفي جفنة ما يغلق الباب دونها
... مكلَّلَةٍ لحماً مدفَّقةٍ ثُرْدا
مكللة: أي عليها من اللحم مثل الأكاليل، والدفق: الصب، ويقال: ثريدة وثرائد وثُرُدٌ ثم يخفف فيقال: ثُرْد _ قاله الخطيب (ج100:3).ص126 _ 127
_ وقالت الخنساء ترثي صخراً:
يذكرني طلوع الشمس صخراً
... وأذكره لكل غروب شمس
وإنما اختصت هذين الوقتين؛ لأن طلوع الشمس يذكرها بغاراته على أعدائه، وغروبها يذكرها بإقرائه ضيفانه، فاختصت هذين الوقتين من بين سائر الأوقات لهذين المعنيين _ المشوق لابن قيم الجوزية ص154_ ص127
_ وكانوا ينحرون الإبل للأضياف، قال ذو الرمة:
وإنْ تعتذر بالمحْلِ من ذي ضروعِها(1/93)
... إلى الضيف يجرح في عراقيبها نصلي
ص127
20 _ عادات عربية
_ نار القرى: ومنها: أنهم كانوا يوقدون ناراً ترفع للسَّفْر، ولمن يلتمس القِرى، وربما أوقدوها بالعود ونحوه مما يتبخر به؛ ليهتدي إليها العميان.
وهذه النار من أعظم مفاخر العرب وأشرف مآثرهم.
والأشعار فيها كثيرة، منها قول الأعشى:
لعمري لقد لاحت عيونٌ كثيرةٌ
... إلى ضوءِ نارٍ في يَفاعٍ يُحَرِّقُ
تَشُبُّ لمقرورينِ يصطليانها ... وباتَ على النار الهدى والمحلِّقُ
قال العسكري: كان هذا البيت يستحسن في صفة نار القرى حتى قال الحطيئة:
متى تأتِه تعشو إلى ضوء ناره ... تجدْ خيرَ نارٍ عندها خَيْرُ مُوقِدِ
فعفى عن الأول، هكذا قالوا، قال: وعندي أن الأول أحسن وأعرب. ا_هـ.ص129
_ وقد جمع ابن الرومي نار القرى ونار الحرب في قوله لعبيدالله بن عبدالله ابن طاهر، حيث قال:
له ناران نارُ قِرىً وحربٍ
... تُرى كلتاهما ذاتُ التهابِ
ص127
_ لعب البنات بالتماثيل: ومن عاداتهم تمكين بناتهم من اللعب بالتماثيل الصغار، وإلى ذلك يشير امرؤ القيس بقوله:
وهي إذ ذاك عليها مئزر ... ولها بيت جوار من لعب
ومن حديث عائشة _ رضي الله عنها _: كنت ألعب مع الجواري بالبنات.
والبنات: التماثيل الصغار يلعب بها الجواري.
ونظراً لما ينتج عن هذه اللعبة من فائدة تعويد البنات وتمرينهن على مباشرة أعمال البيت وإدارة شؤونه _ فقد أقرها الإسلام وأباحها لنا.ص130
_ عادة البيع والشراء: ومن عاداتهم في البيع والشراء: أن المشتري يبسط يده، ويصفق براحته على راحة بائعه إذ اشترى منه شيئاً نفيساً.
قال ذو الرمة:
ودوٍّ ككف المشتري غير أنه
... بساطاً لأخماس المراسيل أوسع
الدو: المستوي من الأرض، والبساط: الأرض الواسعة، لأخماس: أي لسير الأخماس وهو جمع خِمس بالكسر، والخمس: ورد الماء في الخامس.ص130
_ السانح والبارح من الطير: ومنها: أنهم كانوا يتيمنون بالسانح من الطير، وهو ما مر من مياسرك إلى ميامنك.(1/94)
ويتشاءمون بالبارح وهو بعكس السانح.
ومن أمثالهم: (من لي بالسانح بعد البارح) أي: بالمبارك بعد المشؤوم.
قال الكميت:
ولا أنا ممن يزجر الطير همه ... أصاح غراب أم تعرض ثعلب
ولا السانحات البارحات عشية ... أمرَّ سليم القرن أم مر أعضبُ
سليم القرن: الذي يُتَيَمَّن به، والأعضب: المكسور أحد القرنين، وهو مما يتشاءم به.ص131
_ البناء بالطين والتبن: ومن عاداتهم أنهم يخلطون الطين بالتبن، ويطينون به الجدران.ص133
_ الجبيرة: ومن عاداتهم مداواة الساق الكسيرة بالجبيرة، وهي العيدان التي تجبر بها العظام.
وقد دل عليه قول أحد شعراء الحماسة:
ضممناكم من غيرِ فَقْرٍ إليكم
... كما ضَمَّتِ الساقَ الكسيرَ الجبائرُ
ص135
_ مد الحاجبين: مد الحاجبين: فعل الإنسان إذا تعجب من شيء.
ومن عاداتهم ذلك يدل عليه قول عبيد بن الأبرص:
ومطَّتْ حاجبيها أن رأتني ... كَبِرْتُ وأنْ قَدِ ابيضَّت قروني
ص135
_ التوقي من المطر: ومن عاداتهم توقيهم المطر بثوب من صوف يسمونه =مِمْطراً+.
ص135
التشاؤم بالعطاس: ومنها: تشاؤمهم بالعطاس، قال المسيب بن علس:
أَرَحَلْتَ من سلمى بغير مَتاعِ ... قبلَ العِطاسِ ودَعْتَها بوداع
وقوله: قبل العطاس؛ لأنهم كانوا يتشاءمون منه.ص135
_ الحمد لله وحده: ومما كان جارياً عند الموحدين هو أن السلطان كان يكتب بيده بخط غليظ في رأس المنشور =الحمد لله وحده+.ص136
_ عافي القِدْر: ومن عاداتهم في الجدب أن أحدهم إذا استعار قِدْراً رد فيها شيئاً من طبيخ، قال مضرس بن ربعي الأسدي:
فلا تسأليني واسألي عن خَلِيقَتي ... إذا ردَّ عافي القِدْرِ من يَسْتَعِيرُها
وعافي القدر: ما يبقي المستعير فيها لمعيرها.ص138
_ الإشارة باليد للسلام: ومما كان جارياً بينهم الإشارة باليد للسلام، كما هو مستعمل بين الناس في عصرنا هذا.ص138(1/95)
_ بيع الحصاة: ومن عاداتهم في الجاهلية أن أحد المتبايعين كان يقول لصاحبه: بعتك من السلع ما تقع عليه حصاتك إذا رميت بها، أو بعتك من الأرض إلى حيث تنتهي حصاتك، وقد نهى الإسلام عن ذلك لما فيه من الغرر والجهالة.ص139
_ بيع الفرس نقداً: وكانوا لكرامة الفرس عندهم ونفاستهم بها، لا يبيعونها إلا بثمن معجل.
ومن أمثالهم في ذلك قولهم: (النقد عند الحافر) أي عند بيع ذات الحافر.ص139
_ أهل الله: وكانوا يترافدون فيشترون الجزر والكعك والسويق، ويطعمون الحاج ويقولون: نحن أهل الله وجيران بيته، والحاج وفد الله وضيفانه، فنحن أولى بِقِراهم.ص139
_ دية القتيل: ومن عاداتهم في الجاهلية إذا يقتل الرجل من القبيلة، فيطالب القاتل بدمه، فتجتمع جماعة من الرؤساء إلى أولياء المقتول بدية مكملة ويسألونهم العفو وقبول الدية، فإن كان أولياؤه ذوي قوة أبوا ذلك، وإلا قالوا لهم: إن بيننا وبين خالقنا علامة للأمر والنهي، فيقول الآخرون: ما علامتكم؟ فيقولون: نأخذ سهماً فنرمي به نحو السماء، فإن رجع إلينا مضرجاً دماً فقد نهينا عن أخذ الدية وإن رجع كما صعد فقد أمرنا بأخذها.
قال أبو المكارم وغيره: فما رجع هذا السهم قط إلا نقياً، ولكنهم لهم في هذا المقال عذراً عند الجهال.
وقال الصاغاني في العباب: إن أولياء المقتول يمسحون لحاهم، إذا رجع السهم نقياً، ويصالحون على الدية، وكان مسح اللحى علامة على الصلح.
وقال الشاعر:
يا ليتني في القوم إذ مسحوا اللحى
ص139_140
_ سمر الليل: وكانوا يسمرون بالليل، أي يتحدثون، فإذا صاحت الديكة تفرقوا ولذلك قالوا في أمثالهم: (أثقل من الزواقي).
ذو الزواقي: الديكة، لأنها إذا صاحت بسحر تصرف السمار والأحباب. ص140
_ الشهر الأصم: ومن عاداتهم أنهم كانوا يكفون عن الحرب في شهر رجب؛ تعظيماً له ويسمونه الشهر الأصم؛ لأنه لا ينادى فيه بالثارات، ولا يسمع فيه صهيل الخيل، وصليل السيوف.(1/96)
وكانوا إذا دخل رجب، نزعوا أسنة الرماح ونصال السهام؛ إبطالاً للقتال فيه، وقطعاً لأسباب الفتن لحرمته.ص140 _ 141
_ الحض على الصلح والخير: ومن عاداتهم أن الرجل منهم كان يقوم في المجلس فيحض على الخير ويصلح بين الناس.ص141
_ ثالثة الأثافي: وكانوا إذا نزلوا بإزاء جبل جعلوا للقدر حجرين، وجعلوا أصل الجبل الحجر الثالث.ص141
_ وضع العمامة: وكان العرب يتلثمون من العمامة؛ لأجل حر الشمس، وإذا أرادوا أن يتكلموا كشفوا للثام، قال شاعرهم:
أنا ابنُ جلا وطلاَّعُ الثنايا ... متى أضَعِ العمامة تعرفوني
أي متى يزيل فضلها عن وجهه.ص141
_ الطلاق في الجاهلية: من عاداتهم أن الطلاق كان عندهم في الجاهلية ثلاثاً، دل عليه قول الأعشى الأكبر، وقد تزوج امرأة فلم يرضها، ولم يستحسن خلقها،فطلقها، وقال:
أيا جارتي بيني فإنك طالقة ... كذاك أمورُ الناس غادٍ وطارقةْ
وبيني فإن البين خيرٌ من العصا ... وألا تري لي فوق رأسك بارقةْ
وما ذاك من جُرْمٍ عظيمٍ جَنَيْتِهِ ... ولا أن تكوني جِئْتِ فينا ببائقةْ
وبيني حصانُ الجسم غيرُ ذميمةٍ
... وموموقة فينا كذاك ووامقةْ
البائقة: الجريمة. موموقة: معزوزة ومحبوبة.
فبهذه الأبيات استدل بعضهم على أن الطلاق في الجاهلية كان ثلاثاً؛ وذلك لأن الشاعر كرر لفظ =بيني+ في ثلاثة أبيات.ص143
_ الاحتباء: ومن عاداتهم الاحتباء: وهو أن يضم الإنسان رجليه على بطنه بثوب ويجمعهما به مع ظهره، ويشده عليهما، وقد يكون الاحتباء باليدين عوض الثوب.ص143
=تعريف بالمؤلف+: هو الأديب الكبير والكاتب الإسلامي الشهير الشيخ العلامة محب الدين الخطيب بن أبي الفتح محمد عبد القادر صالح الخطيب.(1/97)
ولد بدمشق عام 1303هـ، وتعلم بالإستانة، وحضر إلى القاهرة، وعمل في جريدة المؤيد، ثم قصد العراق، فاعتقله الإنجليز سبعة أشهر، ثم ذهب إلى مكة المكرمة عند إعلان الثورة العربية 1916م، فحكم عليه الأتراك بالإعدام غيابياً، ثم استقر في مصرسنة1920م، وعمل محرراً للأهرام، وأنشأ مجلتي الزهراء، والفتح، وأنشأ المطبعة السلفية ومكتبتها.
وقد عرف بغيرته الإسلامية، وكتاباته البارعة، ومعالجته لكثير من القضايا الأخلاقية، والعقدية، واللغوية وغيرها.
كان من أكابر الكتاب الإسلاميين في القرن الرابع عشر، حيث مارس الكتابة في سن مبكرة، وحرص على نشر الفضيلة، ومقاومة دعاة التغريب والرذيلة.
له مؤلفات عديدة، منها كتاب =الخطوط العريضة+، وكتاب =مع الرعيل الأول+.
ومن كتبه، ما نحن بصدده وهو كتاب الحديقة.
وكان×ذا علاقات كثيرة، وصداقات متينة مع أكثر علماء وأدباء عصره.
توفي×عام 1389هـ عن ست وثمانين سنة.
=تعريف بالكتاب+: كتاب الحديقة يعرف من مسماه، وهو كما قال مؤلفه:=مجموعة أدب بارع، وحكمة بليغة، وتهذيب قوي+
وقد قامت فكرة هذا الكتاب لدى المؤلف عام 1340هـ حيث كان يجمع ما يروقه من مقالات، أو حكم، أو قصائد، أو مواقف سواء مما يقرؤه في الصحف، أو في كتب التراث أو في غيرها.
كما أن الكتاب يحتوي على مقالات للمؤلف.
وكان يُخرج ما يجتمع لديه من ذلك ما بين الفينة والأخرى حتى بلغت أجزاء الكتاب أربعة عشر جزءاً أولها عام 1340هـ، وآخرها طبع بعد وفاته بعدة أشهر.
وهذه الأجزاء حديقة وارفة الظلال، دانية القطوف، تجد فيها الحكمة، والموعظة الحسنة، والطرفة النادرة والساخرة، والقصيدة الرائعة، والمقالة الرائقة، وفيها حديث عن عزة الإسلام، وأقوال المنصفين فيه من غير أهله، وفيه تطرق لقضايا المرأة وما يحاك حولها، وفيه تمجيد لهذه الأمة وسلفها، ولغتها.
وبالجملة فهو كاسمه حديقة مليئة بما لذ وطاب.
_ =النقولات المنتقاة+:
1_ هدية
إلى الرجل المجهول(1/98)
إلى الرجل الهادئ الثابت البصير، الذي لا يؤلمه الفشل، ولا يبطره الفوز.
إلى الرجل النزيه العزيز المتواضع، الذي لا يغره المجد العاجل، ولا يفتنه التنافس في سبيل الظهور.
إلى الرجل الذي يستطيع أن يذيب شهوته في مصلحة جامِعَته(1)، وأن يحتفظ بقواه لساعات الشدائد.
إلى الرجل الذي يحسن الوقوف في مواقف الشجاعة والإقدام، كما يحسن الوقوف في مواقف الحذر والحيطة.
إلى الرجل كبير النفس الذي _ إذا وجه وجهه نحو المطمح _ يمر بالصغائر فلا تعوقه عن مواصلة السير حتى يبلغ الغاية.
إلى هذا الرجل المجهول أهدي هذا الجزء من الحديقة. 7/1.
2_ مرض حب الشهرة
إن الذي يَكِل إلى الناس تقدير قيمته يجعلونه سلعة يتراوح سعرها بتراوحهم بين الحاجة إليها والاستغناء عنها.
والطريقة المُثْلَى أن يقوِّم لنفسه قيمتها، فإن المرء _ كما يقول بعضهم _ يساوي القيمة التي يضعها لنفسه، ذلك خيرٌ من أن يطرحها في المزاد على ألسنة الناس.
عباس العقاد. 7/10.
3_ الزوجة
قال أميلو: إن القلب يدفع طالب الزواج إلى الحسناء، والمصلحة تدفعه إلى الدميمة، والعقل وحده يسوقه إلى المرأة الفاضلة. 7/71.
4_ السفور بعد الحجاب
قل لمن بعد حجابٍ سَفَرتْ ... أبهذا يأمر الغيدَ الشرفْ؟
أسفوراً والحيا يحظره ... وتُقى الله وآدابُ السلفْ!
ليست المرأة إلا درَّةً ... أيكون الدرُّ إلاَّ في الصدف؟
أمين ناصر الدين. 7/74.
5_ الرجولة في نظر المتنبي
وما العشقُ إلاَّ غِرَّةٌ وطماعةٌ ... يُعرِّض قلبٌ نفسَه فيُصابُ
وللخُوْد منِّي ساعةٌ ثم بيننا ... فلاةٌ إلى غير اللقاء تُجاب
وللسِّر مني موضعٌ لا يناله ... صديقٌ ولا يُفضي إليه شراب
وغيرُ فؤادي للغواني رَمِيَّةٌ ... وغيرُ بَناني للرخاخ ركابُ
أعزُّ مكان في الدُّنَى سرجُ سابحٍ ... وخيرُ جليس في الزمان كتاب
7/197.
6_الاعتدال والبساطة
__________
(1) _ يعني : أمته.(1/99)
قال شارل وانير: من شاء أن يربي أبناءه على مبادئ الحرية فلينفث فيهم من روح الاعتدال والبساطة، ولا يخش تأثير ذلك في السعادة؛ فإن الاعتدال من أسباب الحصول عليها لا من الوسائل المؤدية إلى الشقاء والنكد. 8/24.
7_ الصابر العظيم
الأشقياء في الدنيا كثير، وأعظمهم شقاءاً ذلك الحزين الصابر الذي قضت عليه ضرورة من ضرورات الحياة أن يهبط بآلامه وأحزانه إلى قرارة نفسه، فيودعها هناك، ثم يغلق دونها باباً من الصمت والكتمان، ثم يصعد إلى الناس باشَّ الوجه، باسم الثغر، متطلِّقاً متهلِّلاً، كأنه لا يحمل بين جنبيه همَّاً ولا كمداً(1).
مصطفى لطفي المنفلوطي. 8/37.
8_ من اعترافاتهم
-يقول القس إسحاق تيلر رئيس الكنيسة الإنجليزية:=الإسلام ينشر المدينة التي تعلم الإنسان ما لم يعلم، والتي تقول بالاحتشام في الملبس، وتأمر بالنظافة، والاستقامة، وعزة النفس؛ فمنافع الإسلام لا ريب فيها، وفوائده من أعظم أركان المدنية ومبانيها+.
-قال واشنطون أرفنج: =القرآن قوانين زكية سنية+.
-قال جيبون: =القرآن مسلَّم به من حدود الافيانوس الاطلانطيكي إلى نهر الكانج بأنه الدستور الأساسي ليس لأصول الدين فقط، بل للأحكام الجنائية والمدنية، وللشرائع التي عليها مدار حياة نظام النوع الإنساني وترتيب شؤونه+.
-قال غوستاف لوبون: =إن العرب هم سبب انتشار المدنية ببلاد أوربا+. 8/80.
9_ ملك القلوب
قدم هارون الرشيد الرقة؛ فانجفل الناس خلف عبدالله بن المبارك، فقالت أُمُ ولدٍ لهارون كانت مشرفة على ذلك: من هذا؟ فقالوا لها: عالم أهل خراسان قدم الرقة يقال له عبدالله بن المبارك، فقالت: هذا والله الملك! لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بِشُرَطٍ وأعوان. 8/129.
10_ السعادة قريبة التناول
قال السر تشارلس ويفلد، الذي كان محافظ لندن:
__________
(1) _ ينطبق على هذا قول الحكيم الذي قيل: إنه أحكم بيت قالته العرب:
ولربما ابتسم الكريم من الأذى
وفؤاده من حرِّه يتأوه(1/100)
-انشُد راحة البال، وتذكرْ أنَّ أثمن الأشياء في العالم لا ثمن له.
-ادرسْ صحتك واعْنَ بها: بالرياضة، والهواء الطلق، والنور، والطعام البسيط، وكلُّ هذه أشياء في متناول يدك.
-لا تتأخر في الزواج.
-الإفراط في الحذر يزيل من الحياة بهجتها.
-احتفظ بصداقة أحبائك وأعزَّائك، وتذكر قيمتها على الدوام.
-لا تستصغرْ دخلك، وتذكر أنَّ آلافاً من الناس يعدُّون دخلك ثروة.
-ادفع ثمنَ كل ما تشتريه، ولا تستدنْ فإنَّ الدَّين شقاء.
-تذكر في عملك أن للدرس والاجتهاد قيمة.
-أتقنْ عملك واعرفْ تفاصيله.
-إذا كانت لك هموم خاصة بعملك فاقْصُرْها على ساعات العمل، واجعل عقلك طليقاً من قيودها وقت الفراغ.
-لا تسأل نفسك =هل أنت سعيد+ بل اعمل، وروِّح عن نفسك، وأحبَّ أصدقاءَك، واعمل عملك جهد طاقتك في نزاهة. 9/171_172.
11_ سبيل النجاح في نظر فورد
-النظافة.
-التثبُّت، والتدقيق.
-استخدام المرء كل ما لديه من القوى.
-ثقة المرء بمقدرته على إنجاز ما تصدَّى له.
-أن لا ينفق المال إلا في الوجوه المجدية والصالحة. 9/172.
12_ العمل رياضة العقل
من تفكير آرثر برزباين:
إن أعظم خطر ترتكبه هو إهمالك العمل المفروض عليك لمجرد تصوّرك (أنك تعمل لمصلحة سواك فلا يجب أن تعمل كثيراً).
ولكن اذكر أنَّ كلَّ أمانة تبديها في عملك هي خدمة لذاتك، أنت تعمل لنفسك، إنَّك إذا كنت أميناً في عملك المأجور فإنما تخدم نفسك قبل أن تخدم رئيسك، يوجد شيءٌ واحد فقط يفيدك، ويحسن حالك ويعليك ويرفع مقامك، وذلك الشيء الوحيد هو سعيك واجتهادك.
أنت تبدأ حياتك ولك قوى عقلية معلومة، وقوى جسدية معيَّنة، تلك القوى العقلية والجسدية لابد لها من المصير إلى إحدى الحالتين:
إما أن ترتقي وتزداد، وإما أن تنحط وتضعف، ومصير قواك هذه متوقف عليك، فإما إلى الارتقاء، وإما إلى الانحطاط.(1/101)
كل عمل تعمله يفيد مهما كان تافهاً، ولا يفيدك أن تهمل أي عمل توليته؛ فإنك إما أن لا تتولاه، وإما أن تتولاه فتحسن عمله.
قد تعمد إلى التكاسل ظنَّاً منك أنك تتمتع براحة الكسل على حساب الرجل الذي يستخدمك، وهذا الظن يدل على قلة أمانتك، وهو في الوقت نفسه دليل الحماقة. 9/212_213.
-مرِّن عقلك بواسطة العمل مهما كان نوع ذلك العمل، راجع تواريخ الرجال الذين نجحوا من قبل تجد أنهم أحسنوا كل عمل وُسِّد إليهم. 9/215.
-اعمل بقدر ما تستطيع الآن، ولا تحمِّل نفسك ما لا تطيق. 9/216.
-العمل وحده لا يكفي، بل لابد معه من الاجتهاد والأمانة. 9/216.
-قد لا تدرك منزلة سامية، ولكن ما دمت أميناً في عملك فأنت ضامنٌ لنفسك النجاة من الفشل، والبعد عن السقوط في الخمول. 9/216_217.
-إذا شئت أن تصلح العالم فابدأ بإصلاح نفسك؛ لأن العالم مؤلف من أفراد أنت واحد منهم. 9/217.
13_ من أقوال شوقي
-جئني بالنَّمِر العاقل أجئْك بالمستبد العادل. 11/128.
-ثقة العاطفة شهر، وثقة العقل دهر. 11/128.
-من أخلَّ بنفسه في السر أخلَّت به في العلانية. 11/128.
-الإنسان لولا العقل عجماء، ولولا القلب صخرة صمَّاء. 11/128.
-اثنان في النار دنيا وأخرى: الحاقد والحاسد. 11/128.
-بين الحلم والخَوَر جسر أدقُّ من الصراط. 11/128.
-يستريح النائم من قيود الحياة، كما يتروح السجين ساعة في فِناء السجن. 11/128.
-هلكت أمة تحيا بفرد، وتموت بفرد. 11/128.
-الصالحون يبنون أنفسهم، والمصلحون يبنون الجماعات. 11/129.
-يهدم الصدرُ الضيق ما يبني العقلُ الواسع. 11/129.
-القويُ من قوي على نفسه. 11/129.
-جلائل الرغائب مخبوءة في كبار الهمم. 11/129.
14_ كلمات للإمام أحمد بن حنبل
-ما شبَّهتُ سنَّ الشباب إلا بشيء كان في كمِّي فسقط. 11/130.
-ما قلَّ من الدنيا كان أقلَّ للحساب. 11/130.
-التوكل قطع الاستشراف باليأس من الناس. 11/130.(1/102)
-الفُتُوَّة ترك ما تهوى لما تخشى. 11/130.
-كلُّ شيءٍ من الخير تهتمُّ به فبادر به قبل أن يُحال بينك وبينه. 11/130.
-لا تزال بخير ما نويتَ الخير. 11/130.
-يؤكل الطعام بثلاث: مع الإخوان بالسرور، ومع الفقراء بالإيثار، ومع أبناء الدنيا بالمروءة. 11/130.
-لو أنَّ الدنيا اجتمعت حتى تكون في مقدار لقمة، ثم أخذها امرؤ مسلم فوضعها في فم أخيه المسلم لما كان مسرفاً. 11/130.
15_ ذكاء الأعراب
قال أحد عمال الدولة لأعرابي: ما أحسبك تدري كم تصلي في كل يوم وليلة، فقال له الأعرابي: إن أنبأتك بذلك تجعل لي عليك مسألة؟ قال: نعم، فقال الأعرابي:
إن الصلاة أربعٌ وأربعُ ... ثم ثلاثٌ بعدهنَّ أربعُ
ثم صلاة الفجرِ لا تضيَّعُ
قال: صدقت، فسل، قال: كم فَقَار ظهرك؟ قال: لا أدري: قال: أفتحكم بين الناس وأنت تجهل هذا من نفسك؟. 11/209.
16_ شمم العرب
دخل عمارة بن حمزة على أمير المؤمنين المنصور وقعد في مجلسه _ وكان ذا عزَّةٍ وثروة ونفس أبيَّة _ فقام رجل، وقال: مظلوم يا أمير المؤمنين، فقال: من ظلمك؟ قال: عمارة بن حمزة غصبني ضيعتي، فقال المنصور: يا عمارة قم فاقعد مع خصمك، فقال: يا أمير المؤمنين ما هو لي بخصم، إن كانت الضيعة له فلست أنازعه فيها، وإن كانت لي فقد وهبتها له، ولا أنزل عن مقام شرَّفني به أمير المؤمنين لأجل ضيعة. 12/19.
17_ من كلام الأحنف بن قيس
-الإنصاف يثبت المودة. 12/104.
-الرفق والأناة محبوبة إلا في ثلاث: تبادر في العمل الصالح، وتعجل إخراج ميتك، وتنكح الكفء أَيِّمَك. 12/104.
-أنصف من نفسك قبل أن يُنتصف منك. 12/104.
-لا تكوننَّ على الإساءة أقوى منك على الإحسان. 12/105.
-قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل. 12/105.
-العتاب خير من الحقد. 12/105.
-لأفعى تحكك في جوانب بيتي أحبُّ إليَّ من أيّم قد رددتُ عنها كفواً. 12/106.
-لو جلس إليَّ مائة، لأحببتُ أن ألتمس رضا كل واحد بما يسرُّه. 12/107.(1/103)
-جنِّبوا مجالسَنا ذكر النساء والطعام؛ فإني أبغض الرجل أن يكون وصافاً لفرجه وبطنه. 12/107.
-إياك والغضب، فإنه ممحقة لفؤاد الحكيم. 12/107.
18_ الرجل
-الرجل بصراحته في القول، وإخلاصه في العمل. سعد زغلول 14/130.
-الرجل بأعماله فكلما عظمت كبر مقامه في أعين غيره، وزادته قيمة. مصطفى كامل. 14/130.
-الرجل إذا تكلَّم كثيراً لا يعمل إلا قليلاً. فيكتور هيكور. 14/130.
-الرجل الشجاع هو الذي يعرف أن يصفح. سترين. 14/130.
-الرجل الذي يعمل لمصلحته فقط لا يستحق الاحترام. ميرابو. 14/130.
-الرجل الذي لا يرضى بالقليل لا يرضيه شيء. ابيقورس. 14/130.
19_ المرأة
-الحياء والصمت أجمل زينات المرأة. 14/131.
-إن امرأتي هي التي جعلتني من أنا. بسمارك. 14/131.
-امش وراء الأسد ولا تمش وراء المرأة. سليمان الحكيم. 14/131.
20_ من كلام سعيد بن المسيب سيد التابعين
-ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيبه. 14/153.
-من كان فضله أكثر من نقصه وُهب نقصه لفضله. 14/153.
-من استغنى بالله افتقر الناس إليه. 14/153.
-ما يئس الشيطان من شيء إلا أتاه من قبل النساء. 14/153.
21_ من كلام طاووس
-كان طاووس بن كيسان من سادة التابعين في اليمن، مات بمكة حاجاً فحمل نعشه عبدالله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وبعث هشام ابن عبدالملك ولي عهده حرساً في موكب جنازته، ولم يعلم بموته أحد من الحجاج إلا سار في موكبه، حتى لقد سقطت قلنسوة عبدالله بن الحسن، وتقطَّع رداؤه وهو يحمل النعش؛ لشدة الزحام.
ومن أقوال طاووس:
-لكل شيءٍ غاية، وغاية المرء حسن عقله. 14/180.
-لا يتم نسك الشاب حتى يتزوج. 14/180.(1/104)
-حج طاووس فخرج على القافلة التي هو فيها أسد أزعجها طول الليل فلم ينم من أهلها أحد، فلمَّا زال عنهم الخطر ساعة الفجر ناموا كلهم وقام طاووس يصلي ويتهجد، فقيل له لقد بت الليلة متعباً فهلاَّ تنام؟ فقال: هذه ساعة ما كنت أحسب أن أحداً ينام عنها ولو أوتي بها مثل جبل أبي قبيس ذهباً. 14/183.
22_ خصومة العظماء
قام رجل في أيام صفين إلى معاوية÷وقال له: اصطنعني فقد قصدتك من عند أجبن الناس وأبخلهم وألكنهم.
فقال معاوية: من الذي تعنيه؟
فقال الرجل: علي بن أبي طالب.
فقال معاوية: كذبت يا فاجر، أمَّا الجبن فلم يك قط فيه، وأمَّا البخل فلو كان له بيتان بيت من تبر وبيت من تبن لأنفق تبره قبل تبنه، وأمَّا اللكن فما رأيت أحداً يخطب أحسن من عليّ إذا خطب، قم قبَّحك الله.
ومحا معاوية اسم الرجل من ديوانه. 14/210.
نقولات من كتاب: مقام إبراهيم _عليه السلام_ ونبذة عن ترجمة إبراهيم الخليل وتاريخ الكعبة المشرفة والمسجد الحرام وفضل مكة.
=تعريف بالمؤلف+: هو محمد طاهر بن عبدالقادر الكردي المكي الخطاط بالمعارف العامة بمكة المكرمة، وكاتب مصحف مكة المكرمة ×.
هذا وإن له عدداً من المؤلفات منها ما ذكره في خاتمة الكتاب المذكور حيث ذكر في آخر صفحة من الكتاب عشرين كتاباً من مؤلفاته، ومنها:
1_ تاريخ القرآن وغرائب رسمه وحكمه.
2_ مقام إبراهيم _عليه السلام_.
3_ تاريخ الخط العربي وآدابه.
4_ تحفة العباد في حقوق الزوجين والوالدين والأولاد.
5_ حسن الدعابة فيما ورد في الخط وأدوات الكتابة.
6_ كراسة الحرمين في تعليم خط الرقعة (سبعة أجزاء).
7_ مجموعة الحرمين في تعليم خط النسخ (جزءان).
8_ رسالة في الدفاع عن الكتابة العربية في الحروف والحركات.
9_ منظومة في صفة بناء الكعبة المعظمة.
10_ إرشاد الزمرة لمناسك الحج والعمرة (شافعي).
11_ مختصر المصباح والمختار (في اللغة العربية).
12_ الهندسة المدرسية.
13_ بدائع الشعر ولطائف الفن.(1/105)
14_ المحفوظات الأدبية الممتازة.
15_ الموعظة الحسنة في عدم اليأس وفي الصبر والتفويض.
16_ تحفة الحرمين في بدائع الخطوط العربية.
17_ نفحة الحرمين في تعليم خطي النسخ والثلث.
18_ عجائب ما رواه التاريخ.
19_ تراجم من لهم قوة الحافظة.
=تعريف بالكتاب+: هذا الكتاب من الكتب النادرة، وعدد صفحاته 164 صفحة، وقد طبع طبعته الأولى وهي التي بين أيدينا عام 1368هـ _1948م.
وقد طبعته شركة مكتبة ومطبعة البابي الحلبي وأولاده بمصر.
وهذا الكتاب واضح من عنوانه، ومع ذلك فقد زاد على ما في العنوان لطائف وملح؛ ولهذا قال في خاتمة الكتاب ص153: =لقد فرغت من تأليف هذا الكتاب الوحيد القيم النفيس الفريد في اليوم الثامن من ربيع الأول سنة ألف وثلاثمائة وسبع وستين هجرية.
وذلك بمكة المكرمة بحارة الشامية_ زادها الله أمناً وأماناً، ورزقاً ورخصاً وعمراناً_ فكان اشتغالي به مدة أربعة أشهر وبضعة أيام، وقد سميته (مقام إبراهيم _عليه السلام_) مع أن شطره الأول يتعلق بالكعبة والمسجد الحرام، والشطر الثاني يتعلق بالمقام، لكن لا تعاب الزيادة على العنوان، وإنما يعاب فيه النقصان.
ومن حسن المصادفات أن يتلو طبعَ هذا الكتاب طبعُ مصحف مكة المكرمة الذي هو أول مصحف يطبع بها، والذي هو أول مصحف كتبته بيدي _بتوفيق الله وفضله_+. ا.هـ
ومع صغر حجم الكتاب وأن صفحاته ليست بتلك الكثرة إلا أنه احتوى على مباحث كثيرة نفيسة، يتضح ذلك من خلال استعراض فهرس الكتاب، فضلاً عما احتواه، وهذا سرد لما جاء في فهرس الكتاب:
مقدمة الكتاب.
صورة المسجد الحرام.
ما ورد في القرآن في فضل البيت الحرام ومقام إبراهيم _عليه السلام_.
أسماء السور وأرقام الآيات التي ورد فيها ذكر سيدنا إبراهيم _عليه السلام_.
صورة كتابة بخط المؤلف.
نبذة من ترجمة إبراهيم _عليه الصلاة والسلام_.
وفاته ومكان قبره.
الأنبياء الذين ليسوا من ذريته _عليه السلام_.(1/106)
صورة للكعبة المشرفة وحجر إسماعيل _عليه السلام_.
تتمة في ترجمة إبراهيم _عليه السلام أيضاً_.
قصة من نزل إلى قبره الشريف وشاهده مع بعض الأنبياء _عليهم الصلاة والسلام_.
بناء السور حول قبره الشريف وصفته.
هجرة إبراهيم إلى مكة بابنه إسماعيل وأمه هاجر.
بناء إبراهيم الكعبة المعظمة.
سبب ارتفاع الشوارع عن أرض المسجد الحرام، وذكر ما دفن من درجاته.
فضل الطواف.
عدد مرّات بناء الكعبة المشرفة.
شعر في مدح البيت الحرام =لأمير الشعراء شوقي بك+.
صفة بناء الكعبة المعظمة.
كيفية بناء إبراهيم _عليه السلام_.
كيفية بناء قريش وسببه.
كيفية بناء عبدالله بن الزبير _رضي الله عنهما_ وسببه.
كيفية بناء الحجاج بن يوسف الثقفي.
مقدار حجر إسماعيل _عليه السلام_.
سبب بناء الحجاج الكعبة.
كيفية عمارة السلطان مراد الرابع.
بيان ما مرّ من السنين بين كل بناء وبناء.
رسم الكعبة المعظمة على صفة كل بناء =للمؤلف+.
منظومة في صفة بناء الكعبة المعظمة =للمؤلف+.
مقاييس الكعبة وحدود المطاف بالأمتار.
تراجم بُناة الكعبة في أدوارها الأربعة.
ترجمة قريش.
ترجمة عبدالله بن الزبير _رضي الله عنهما_.
ترجمة الحجاج بن يوسف الثقفي.
ترجمة السلطان مراد الرابع.
اختلاف بنايات الكعبة وتعميرها.
منع مالك بن أنس هارونَ الرشيدَ من هدم الكعبة وبنائها ثانياً، ومنع العلماء السلطان أحمد من ذلك _أيضاً_.
وجوب تعمير الكعبة إن حدث فيها خراب.
بقاء الكعبة إلى قيام الساعة.
خزانة الكعبة.
وصف أمير الشعراء للكعبة والمسجد الحرام.
صورة للحجاج وهم في انتظار الصلاة بالمسجد الحرام.
الحوادث الواقعة في الكعبة والمطاف.
قصة حكيم بن حزام الذي ولد في الكعبة.
الثعبان الذي سكن في الكعبة خمسمائة سنة.
الحية التي طافت بالكعبة.
الطائر الذي أتى للطواف.
الجان الذي طاف بالكعبة.
الجمل الذي طاف بالكعبة.
الجمل الذي هرب من صاحبه وجعل يطوف بالكعبة.(1/107)
الرجل الذي التصق عضده بعضد امرأة في الطواف.
من مات في جوف الكعبة من الزحام.
قصة الصنمين: إساف ونائلة.
قتل الرجل الذي ضرب الحجر الأسود.
قتل الشريف أحمد بن محمد في المطاف.
عدد من قتلهم القرامطة في المسجد الحرام.
الحادثة التي وقعت في المطاف لحضرة صاحب الجلالة ملك المملكة العربية السعودية.
بعض ما كان معلقاً في جوف الكعبة.
حدود الحرم وأنصابه.
مكة في الجاهلية.
موضع دار الندوة.
سور مكة.
صورة جزء من المسجد الحرام وبعض بيوت مكة وجبالها.
الطواف في الجاهلية.
الجلوس في الحِجْر وفي المطاف.
ترجمة حرب بن أمية.
حرمة مكة المشرفة.
فضائل الحرم المكي.
فضائل الصلاة في المسجد الحرام.
المراد بالمسجد الحرام.
صورة للمسجد الحرام والناس فيه ساجدون في الصلاة.
حدود المسجد الحرام وذرعه بالأمتار.
رسم المسجد الحرام.
الزيادات التي حصلت في المسجد الحرام.
ما أنفقه المهدي العباسي في عمارته للمسجد الحرام.
عمارة باب الزيادة وباب القطبي.
عمارة باب إبراهيم.
رسم يبين تلك الزيادات التي وقعت في المسجد =للمؤلف+.
نادرة ظريفة في المحاورة التي وقعت بين أهل مكة وأهل المدينة.
حمام الحرم المكي.
صورة لوقوع الحمام بالمسجد الحرام.
وقوع الحمام على الكعبة المعظمة والكلام في ذلك.
تنظيف المسجد الحرام من الحمام.
صورة أخرى للحمام بالمسجد الحرام.
اقتراح المؤلف في ترحيل الحمام من المسجد.
مقام إبراهيم _عليه الصلاة والسلام_.
سنية الصلاة خلف المقام.
الحجر الأسود وحجر المقام من أقدم الآثار الإسلامية.
صفة المقام.
عبارة الأزرقي في ذلك.
عبارة ابن جبير الأندلسي في رحلته عن المقام.
عبارة الفاسي في شفاء الغرام.
عبارة الشيخ عبدالله باسلامة.
فتح مقصورة مقام إبراهيم _عليه السلام_ لمؤلف هذا الكتاب بأمر الحكومة.
صورة مقصورة مقام سيدنا إبراهيم.
وصف المؤلف للمقام بالتفصيل والتوضيح.
حجم المقام وقياسه بالسنتيمتر.(1/108)
مقدار غوص قدمي سيدنا إبراهيم _عليه السلام_ في حجر المقام.
قياس قدمي سيدنا إبراهيم بالسنتيمتر.
ما كتب على الفضة المحيطة بالمقام.
صورة مقام سيدنا إبراهيم ورسم قدميه الشريفين =للمؤلف+.
مقدار طول سيدنا إبراهيم _عليه السلام_.
ترجمة أبي جهم القرشي الذي حضر بناء الكعبة مرتين.
موضع المقام.
أرجح الأقوال في موضع المقام.
فضل الحجر الأسود.
وضع المقام في مكانه الحالي.
سيل أم نهشل أيام عمر؛ وسيل عام 1360هـ.
فضل عمر بن الخطاب وحسن رأيه في تأخير المقام.
زيادة عمر÷في المسجد الحرام.
أول من وضع الحصى وعمل المماشي في المسجد الحرام.
ردم عمر بن الخطاب÷لأعلى مكة جهة المدَّعى.
تطويق الحجر الأسود بالذهب والفضة.
صورة الحجر الأسود وهو مطوق بالفضة وهو عدة قطع.
صورة المؤلف واضعاً يده على الطوق الفضي للحجر الأسود.
تطويق المقام بالذهب والفضة.
وضع المقام في مقصورة.
عمارة وتجديد مقصورة المقام وسقفها.
هدم سعود بن عبدالعزيز قبة المقام سنة 1225هجرية.
كسوة المقام.
اقتراح المؤلف رفع ستارة المقام ليراه جميع الناس.
منبر المسجد الحرام.
ظهور رجلين مدفونين تحت المنبر.
صورة منبر المسجد الحرام.
أول من خطب فوق منبر بمكة.
وجوب صون المقام والمحافظة عليه.
فوائد وضع المقام في مقصورة.
سنية استلام الركنين بشرط عدم الأذية.
حِجر إسماعيل وقبره _عليه السلام_.
رأي المؤلف في دفن إسماعيل بالحِجر.
الرخامة الخضراء التي بداخل الحِجر.
علة وضع الرخامة الخضراء بداخل الحجر وتحت الميزاب.
الرخامات الصُّفر التي فوق الحفرة التي عند باب الكعبة.
تقدير تلك الرخامات وأنها من أبرك الآثار القديمة وأندرها.
أثمن هدايا الكعبة المعظمة.
فرش الحِجر بالبلاط.
وضع كسوة على جدار الحجر.
الحفرة التي عند باب الكعبة.
أول من غسل الكعبة.
الرد على من يقول إن القرامطة استبدلوا الحجر الأسود.
الرد على من يقول إن الحجر الأسود من النيازك.(1/109)
فضل إبراهيم وموسى على الأمة المحمدية.
كلمة ختامية للمؤلف.
من أقوال مؤلف الكتاب في الحكم والأمثال.
بعض قصائد من منظوماته.
والكتاب _ في الجملة _ نفيس في بابه، لطيف في وفرة مادته، وإن كان لا يخلو من إيراد الأحاديث الضعيفة، والروايات الواهية وما إلى ذلك من الملحوظات خصوصاً في شأن الخليل _عليه السلام_.
_ =النقولات المنتقاة+: قال×:
1_ ولقد أحصى الشيخ عبدالوهاب النجار×سور القرآن التي ورد فيها ذكر سيدنا إبراهيم _عليه السلام_ والآيات الكريمة، وفيما يلي هذا الإحصاء، نقلناه من كتاب أبي الأنبياء إبراهيم _عليه الصلاة والسلام_.
رقم مسلسل ... السورة ... رقم السورة ... رقم الآيات
1 ... البقرة ... 2 ... 124، 125، 126، 127، 130، 132، 133، 135، 136، 140، 258، 260
2 ... آل عمران ... 3 ... 33، 35، 67، 68، 74، 95، 97
3 ... النساء ... 4 ... 54، 125، 163
4 ... الأنعام ... 6 ... 74، 75، 83، 151
5 ... التوبة ... 9 ... 70، 114
6 ... هود ... 11 ... 69، 74، 75، 76
7 ... يوسف ... 12 ... 6، 38
8 ... إبراهيم ... 14 ... 36
9 ... الحجر ... 15 ... 51
10 ... النحل ... 16 ... 120، 123
11 ... مريم ... 19 ... 41، 46، 58
12 ... الأنبياء ... 21 ... 51، 60، 62، 69
13 ... الحج ... 22 ... 26، 43، 78
14 ... الشعراء ... 26 ... 69
15 ... العنكبوت ... 29 ... 16، 31
16 ... الأحزاب ... 33 ... 7
17 ... الصافات ... 37 ... 83، 104، 109
18 ... ص ... 38 ... 45
19 ... الشورى ... 42 ... 13
20 ... الزخرف ... 43 ... 26
21 ... الذاريات ... 51 ... 24
22 ... النجم ... 53 ... 27
23 ... الحديد ... 57 ... 26
24 ... الممتحنة ... 60 ... 4
25 ... الأعلى ... 87 ... 19
ص8_9(1/110)
2_ ويكنى إبراهيم _عليه السلام_ أبا الضيفان، قيل إنه ولد بغوطة دمشق في قرية يقال لها برزة في جبل يقال له قاسيون، والصحيح أنه ولد ببابل من أرض الكلدانيين، وإنما نسب إليه هذا المقام لأنه صلى فيه إذ جاء مُعيناً لابن أخيه لوط _عليه السلام_. ص12
3_ ثم إن إبراهيم _عليه السلام_ رجع إلى الأرض المقدسة التي كان فيها ومعه أنعام وعبيد ومال كثير، وصحبتهم هاجر القبطية المصرية، وكانت زوجته سارة عاقراً لا يولد لها فقالت لإبراهيم: إن الله قد أحرمني الولد؛ فادخل على أمَتي هذه لعل الله يرزقك منها ولداً، فلما وهبتها له دخل بها إبراهيم _عليه السلام_ فحملت منه ثم وضعت إسماعيل _عليه السلام_ ولإبراهيم من العمر ست وثمانون سنة، وذلك قبل مولد إسحاق بثلاث عشرة سنة، ولما ولد إسماعيل أوحى الله إلى إبراهيم يبشره بإسحاق من سارة فخرّ لله ساجداً. ص13
4_ ولقد ابتلى إبراهيم _صلوات الله وسلامه عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين_ بثلاث مصائب كل واحدة أكبر من أختها:
الأولى: أراد ذلك الجبار الكافر اغتصاب زوجته سارة، فعصمها الله _تعالى_ منه فرجعت إليه طاهرة نقية منصورة إكراماً له _عليه السلام_ فإنه كان يحبها حباً شديداً لدينها، وقرابتها منه، وحسنها الباهر.
الثانية: أمره الله _عز وجل_ بذبح ولده فاستسلم لأمر الله هو وابنه، فحين أضجعه كما تضجع الذبائح، وأمرّ السكينَ على حلقه لم تقطع شيئاً، فعند ذلك فداه الله _تعالى_ برحمته بكبش أبيض أعين أقرن قد رعى في الجنة أربعين خريفاً هبط عليه من ثبير وله ثغاء(1) فذبحه بمنى؛ فهذا البلاء المبين، وقد ورد ذلك صريحاً في القرآن الكريم.
__________
(1) _ الثغاء: صوت الشاة والمعز وما شاكلهما، والثاغية: الشاة، والراغية: البعير.
قال في مختار الصحاح، وثبير: جبل بين مكة ومنى، ويرى من منى وهو على يمين الداخل منها إلى مكة، قاله في المصباح المنير.(1/111)
الثالثة: إلقاؤه في النار بسبب مناظرته لأهل بابل الذين كانوا يعبدون الأصنام، وقد كانت مناظرة عقلية مفحمة انتصر بها عليهم حتى رجعوا إلى أنفسهم، وقالوا: إنكم أنتم الظالمون، ثم انقلبوا فقالوا: إنا وجدنا آباءنا لها عابدين، ثم أجمعوا على إحراقه بالنار فرموه فيها فكانت عليه برداً وسلاماً لم يمسسه سوء، بل كان على أحسن حال مدة إقامته فيها، والقصة مذكورة في القرآن العظيم. ص13_14
5_ وكذلك وقع لإبراهيم _عليه السلام_ كثير من الأمور العظيمة المدهشة، منها:
أ_ مناظرته مع نمرود المذكورة في القرآن حيث يقول الله _تعالى_: [أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ...] البقرة:258.
ب_ طلبه من الله _تعالى_ أن يريه كيف يحيي الموتى كما هو صريح في قوله _تعالى_: [وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ] البقرة:260.
جـ _ أنه أول من عمر مكة، وأسكن فيها من ذريته، وبنى بها الكعبة المعظمة؛ قال الله _عز شأنه_: [وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ. وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ] الحج:26_27. ص14_15(1/112)
6_ توفي إبراهيم الخليل _عليه الصلاة والسلام_ عن مائة وخمس وسبعين سنة، وقيل: وتسعين سنة، وقيل: عاش مائتي سنة، وتولى دفنه إسماعيل وإسحاق _عليهم الصلاة والسلام_ ودفن عند امرأته سارة، وكانت توفيت قبله بقرية (حَبْرون) بفتح الحاء المهملة ثم موحدة ساكنة، وهي البلدة المعروفة بالخليل اليوم، ولها من العمر مائة وسبع وعشرون سنة، فحزن عليها إبراهيم واشترى من رجل من بني حيث، يقال له عفرون بن صخر مغارة بأربعمائة مثقال ودفن فيها سارة هنالك. ص15
7_ وكان إبراهيم _عليه الصلاة والسلام_ يشبه نبينا محمداً" كما ورد ذلك صريحاً في بعض الأحاديث المذكورة في صحيح مسلم، وأن إبراهيم _عليه السلام_ أول من أضاف الضيف، وأول من رأى الشيب، وأول من قص شاربه، وأول من اختتن، وأول من استحدّ، وأول من لبس السراويل.
قال ابن عباس _رضي الله عنهما_: الإسلام ثلاثون سهماً، وما ابتلي أحد بهذا الدين فأقامه إلا إبراهيم، قال الله _تعالى_: [وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى] (النجم:37) فكتب الله له براءة من النار.
وعن ابن عباس _أيضاً_ في قوله _تعالى_: [وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ] (البقرة: 124) قال ابتلاه الله _عز وجل_ بالطهارة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد: في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس؛ وفي الجسد: تقليم الأظافر، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط، والبول بالماء. ا_هـ من تاريخ الطبري. ص15_16
8_ كانت صحف إبراهيم أمثالاً، ولم نعثر مع الأسف الشديد في المراجع التي اطلعنا عليها، والمؤلفات التي رجعنا إليها، واقتبسنا منها على هذه الأمثال كلها؛ وكم كنا نود أن نقرأ ويقرأ الناس صحف إبراهيم، لكن شاء الله أن تختفي تلك الصحف عن الأنظار؛ لتقادم العهد، وأن تصبح في غير متناول الأيدي. ص18(1/113)
9_ ولم يرو الرواة من هذه الصحف غير مثالين فقط من تلك الأمثال، وما أظن مُؤرخاً أو راوياً جاء بالأمثال كلها وفي ما يلي نص المثالين:
أ_ أيها الملك المغرور المبتلى إني لم أبعثك لتجمع بعضها إلى بعض، ولكن بعثتك لتنصر دعوة المظلوم؛ فإني لا أردها وإن كانت من كافر.
ب_ على العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن يكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، ويتفكر في صنع الله، وساعة يحاسب نفسه فيما قدم وأخر، وساعة يخلو فيها بحاجته من الحلال لا من الحرام في المطعوم والمشروب وغيرهما.
وعلى العاقل أن يكون بصيراً بزمانه، مقبلاً على شأنه، حافظاً للسانه، ومن علم أن كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه. ص18
10_ بُنيت الكعبة المعظمة إحدى عشرة مرة: بنتها. (1) الملائكة. (2) ثم آدم. (3) ثم شيث. (4) ثم إبراهيم. (5) ثم العمالقة. (6) ثم جرهم. (7) ثم قصي. (8) ثم قريش. (9) ثم عبدالله بن الزبير. (10) ثم الحجاج. (11) ثم السلطان مراد الرابع ابن السلطان أحمد من سلاطين آل عثمان، وذلك سنة أربعين وألف هجرية، وقد نظم بعضهم أسماء هؤلاء فقال:
بنى الكعبةَ الغراءَ عشرٌ ذكرتُهم ... ورتَّبتهم حَسْبَ الذي أخبر الثقه
ملائكةُ الرحمنِ، آدمٌ، ابنُه ... كذاك خليلُ اللهِ، ثم العمالقه
وجُرهمُ، يتلوهم قصيٌّ، قريشهم ... كذا ابنُ الزبيرِ، ثم حَجّاجُ لاحقه
ومن بعدهم من آل عثمان قد بنى ... =مرادٌ+ حماه الله من كل طارقه
ص33
11_ مقاييس الكعبة وحدود المطاف:
لقد قمنا في شهر رجب عام 1367هـ بأخذ أقيسة الكعبة، وما حولها من المطاف ما عدا ارتفاعها من سطحها للأرض؛ فإننا لم نتمكن من أخذ قياسه، وإنما ذكره إبراهيم رفعت باشا×في كتابه مرآة الحرمين، ولم نر من تعرَّض قبلنا لحدود المطاف بالمتر، وإليك بيان كل ذلك في هذا الجدول:
سنتيمتر ... متر ... بيان بارتفاع الكعبة وطولها، وحدود المطاف(1/114)
00 ... 15 ... مقدار ارتفاع الكعبة من الأرض للسماء =كما ذكره صاحب مرآة الحرمين+
58 ... 11 ... مقدار طول الكعبة المعظمة من الجهة الشرقية التي بها الباب =من غير الشاذروان+.
93 ... 11 ... مقدار طولها من الجهة الغربية =من غير الشاذروان+.
22 ... 10 ... مقدار طولها من الجهة الشامية أي من جهة حجر إسماعيل =من غير الشاذروان+.
13 ... 10 ... مقدار طولها من الجهة اليمانية أي ما بين الركنين =من غير الشاذروان+.
50 ... 1 ... مقدار ارتفاع الحجر الأسود عن الأرض (بحيث يمكن لكل إنسان تقبيله بسهولة).
00 ... 2 ... مقدار ارتفاع باب الكعبة عن الأرض.
00 ... 2 ... مقدار طول بابها.
65 ... 2 ... مقدار فتحة حِجْر إسماعيل من الجهة الشرقية.
58 ... 2 ... مقدار فتحة حِجْر إسماعيل من الجهة الغربية.
36 ... 8 ... طول ما بين ميزاب الكعبة إلى وسط جدار حِجْر إسماعيل.
10 ... 11 ... طول ما بين شاذروان الكعبة من الجهة الشرقية إلى شباك مقام إبراهيم.
00 ... 12 ... طول ما بين جدار حِجْر إسماعيل من وسطه من الجهة الشامية إلى دائر المطاف الذي أمام المقام الحنفي.
80 ... 15 ... طول ما بين شاذروان الكعبة من وسط جدار الجهة اليمانية إلى دائر المطاف الذي أمام المقام الحنبلي.
80 ... 15 ... طول ما بين شاذروان الكعبة من وسط جدار الجهة الغربية إلى دائر المطاف الذي أمام المقام المالكي.
ص49
12_ وكان السلطان مراد×كثير الإحسان لأهل الحرمين، وأمر مصر وغيرها من الجهات بإجراء حبوبهم، وإرسال غلات أوقافهم، وكان يحثهم بذلك على الدوام.
وكان _أيضاً_ كثير الالتفات إلى أخبار الرعية مطلقاً، وكان كثير البحث عن أحوال ولاة البلدان لا يغفل عنهم بحيث صار الولاة لا يجاوزون حداً.(1/115)
وفي زمانه وقع السيل العظيم بمكة المشرفة سنة تسع وثلاثين وألف ودخل المسجد الحرام، وبسببه انهدمت الكعبة المعظمة، فقام بتعميرها وبنائها السلطان مراد، وهذا من أعظم مناقبه وأفخر أعماله، وهو الذي أمر بإبطال القهاوي في جميع ممالكه، ومنع شرب الدخان، واستعمال النشوق، وكان يجازي على ذلك.56_57
13_ ولقد خصَّ الله _تعالى_ بيته الحرام بالمهابة والتعظيم، والإجلال والتكريم، وأحاطه بالأسرار القدسية، والأنوار الإلهية، يقف عنده الزائر خاشعاً خاضعاً، ويطوف به الجبار ذليلاً متواضعاً، ويقوم لديه المذنب منكسراً باكياً، ويبتهل المضطر إلى الله أمامه راجياً داعياً، فعندها تستجاب الدعوات، وتقال العثرات، وتسكب العبرات. ص61
14_ بمكة حَمَامٌ مملوك، وحَمَامٌ غير مملوك: أما الأول فأجناس مختلفة وأشكال متباينة يقتنيه الناس كما في البلدان الأخرى.
وأما الثاني فهو حمام الحرم الذي نعقد له هذا الفصل، وله شكل خاص، وخلقة لا تتغير ولا تتبدل، ولونه واحد لا يختلف، فمن رأسه إلى رقبته شديد الزرقة والبروق، وطرف جناحيه وذنبه أسود، وباقيه أزرق يضرب إلى البياض، وفي جناحيه مما يلي ذنبه خطان أسودان لا يوجدان في غير حمام الحرم فهما له بمثابة =ماركة مسجلة+ وشارة خاصة، ويقال لحمام الحرم حمام مكة، وحمام رب البيت، وهو منتشر بالحجاز، وبالأخص بمكة المشرفة؛ فإنها تكاد تكون موطنه ومنبعه.
أما في غير الحجاز فقد يوجد بها نادراً، فقد رأينا منه بمصر قليلاً يسمونه الحمام البري، ورأينا منه في بلد الموصل بالعراق، وهو في غير مكة لا يأوي كثيراً إلى المساجد، وإنما يكون مملوكاً، ويقال: إنه يوجد في بعض جهات الهند من هذا الحمام بعضه مملوك، وبعضه وحشي يصاد. ص98(1/116)
15_ ولقد تكلم بعضهم عن بدء وجود هذا الحمام بمكة، ولكن نرى أن كل ما ذكروه إنما هو من باب الحدس والتخمين؛ فإن الكلام عن بدء وجود أي حيوان لا بدّ من استناده إلى دليل قاطع، وبرهان ساطع؛ حتى لا يتطرق الشك والاحتمال إليه.
نعم يمكننا أن نقول: إن الحمام مطلقاً كان موجوداً بمكة أيام الجاهلية. أما كون حمام الحرم متى نشأ بمكة؟ أو متى جاء إليها؟ وهل هو من نسل الحمامتين التي عشّشتا على غار ثور حينما اختبأ فيه رسول الله"مع صاحبه أبي بكر الصديق÷؟ فكل ذلك لا يعلمه إلا الله _سبحانه وتعالى_.
ولما كان الدين الإسلامي الحنيف منع الصيد في الحرم صار هذا الحمام لا يخاف من الناس بل يقرب منهم، وربما وقع على رأس بعضهم أو كتفه إذا كان في يديه حبّ يلقيه إليه، وكان ابن عمر يغشاه الحمام على رحله وطعامه وثيابه ما يطرده، وإن رجلاً قال لعطاء: أجعل بيضة دجاجة تحت حمام مكة؟
قال: لا؛ أخشى أن يضر ذلك بيضها، وقتل غلام من قريش حمامة من حمام الحرم فقال ابن عباس: فيها شاة.
فهذا مما جعل حمام مكة لا يستوحش من الناس، ويا ليته ابتعد عنهم بُعدَ الصقر والغراب؛ فقد تضرروا منه ضرراً بليغاً؛ فإنه يدخل عليهم في منازلهم، ويقع على طعامهم، ويلوّث بِذَرْقِه الأرض والفراش، وكلما طردوه رجع إليهم ما دام يرى عندهم ما يؤكل، وهو يُرى كثيراً في طريق مكة وجدة، حيث يركب فوق الجمال المحملة بالحنطة والحبوب، ويخرق أكياسها بمنقاره القوي، ولا يطير من فوقها حتى يشبع. ص98_99
16_ وقد لاحظنا على حمام الحرم بمكة فقط، جملة أمور، منها:
أ_ أن حمام الحرم لا يألف حماماً من غير جنسه، ولا يتزاوج منه إلا إذا حبس شخص حمامة من حمام الحرم وحمامة من غيره في قفص مدة طويلة، وهذا نادر جداً.
ب_ حمام الحرم يشارك الحمام المملوك في أكله وشربه إذا وجد إلى ذلك سبيلاً، بخلاف العكس.(1/117)
جـ _ حمام الحرم أشد نَهَماً، وأكثر أكلاً من الحمام الآخر، وإذا طرد حين يأكل فلا يطير سريعاً، ويرجع حالاً إذا طار.
د_ حمام الحرم أعظم نشاطاً، وأسرع حركة من الحمام المملوك سواء في طيرانه، وحدّة نظره، وخصامه مع جنسه، وانقضاضه لالتقاط الحبوب؛ فلا تفوته الفرصة قط.
هـ _ إذا نثر أحد حبوباً في المسجد الحرام أو في أي مكان تجد حمام الحرم يسقط لالتقاطها بالآلاف من غير عدد، ولا تجد بينها حمامة واحدة من غير جنسه.
و_ إذا نثر شخص حبوباً أياماً متوالية في مكان مخصوص وفي وقت معلوم فإن حمام الحرم يأتي إلى ذلك المكان في نفس الوقت المحدد على الدوام.
ز_ حمام الحرم إذا بنى عشه لبيضه وفراخه لا يبنيه في الخرابات والجبال، وإنما يبنيه في وسط العمران ومنازل الناس، وفوق الأبواب والطاقات وبين الفجوات.
حـ _ حمام الحرم له شكل خاص، وخلقة ثابتة لا تتغير، ولا تتبدل على مر السنين والأعوام، كما ذكرنا ذلك في أول الكلام.
ط_ بهذه الأمور يمتاز حمام الحرم عن غيره، ويشترك معه في الصفات الخاصة بمطلق الحمام، كاتخاذه زوجة واحدة، وغيرته على أنثاه، وهيامه بها، وشوقه وحنينه إليها،...إلخ. ص99
17_ غالب الناس يظن أن حمام مكة لا يعلو الكعبة المشرفة حرمة لها، وإن وقع عليها فإنما ذلك للاستشفاء من مرض أصابه.
فهذا الظن في غير محله؛ لأن حمام الحرم قد يقع على الكعبة في النادر كما نشاهده؛ أما غيره من الحمام الأبيض فلا يقع على الكعبة مطلقاً، بل لا يأتي المسجد الحرام على سعته.
والسبب في عدم وقوع الحمام على الكعبة المعظمة بكثرة ما يأتي:
أ_ أن الحمام يتطلب العلو، والكعبة المشرفة بالنسبة لما حولها من البيوت قصيرة.(1/118)
ب_ جميع الطيور من حمام أو غيره لا يحب الجلوس على سطح مستو ناعم مفروش بالرخام إلا إذا كان فوقه حب فيأكله ويطير، وإنما يحب الجلوس على ما برز من الأخشاب، والأعواد، والحجارة، والشرفات، والأغصان، والحبال الممدودة، وغيرها من كل ما يمكنه أن يستمسك عليه بمخلبه كما يحب المشي والوقوع على التراب.
والكعبة ليس بها شيء بارز يستمسك عليه، بل إنها مغطاة بالكسوة الحريرية، وسطحها صغير مفروش بالرخام الأملس معرض لحرارة الشمس المحرقة، وليس عليه حبوب، حتى يلتقطها الحمام أما ميزابها فالحمام يقع عليه أحياناً لبروزه.
جـ _ الحمام من طبعه أن يدخل في كل فجوة وفي كل خرق بين الشبابيك والجدران، وليس في الكعبة شيء من ذلك يجلب الحمام. ص100_101
18_ وأما قولهم إذا شاهدوا حمامة فوق الكعبة: إنها ما وقعت عليها إلا للاستشفاء فهو غير صحيح وغير معقول لما يأتي:
أ_ أن جميع الحيوانات لا يعقلون، فكيف نسند إليهم طلب الاستشفاء؟
وأيضاً إنهم غير مكلفين، فكيف نقول: إن الحمام لا يعلو الكعبة حرمة لها؟
ثم من أين لنا أن نحكم بذلك، ونحن لا نفهم لغتها، وهي لا تفهم لغتنا.
ب_ لو كان وقوع الحمامة فوق الكعبة للاستشفاء يكون معناه أنها عرفت قدسية الكعبة، وشرف المكان؛ فكيف إذن ترمي ذرقها عليها وعلى كسوتها وعلى أرض المسجد الحرام؟
جـ _ لو كانت الحيوانات تعرف حرمة الكعبة فكيف إذن كانت القطط تصيد الحمام من المسجد، ثم تدخل في جوف الكعبة فتأكله، وتتلوث أرضيتها الطاهرة بدمه وريشه، وذلك حينما هدمها السيل سنة 1039 هجرية، وقبل أن يشرع السلطان مراد في عمارتها، وقبل أن يجعل أمير مكة يومئذ ستارة من الخشب وغيره حول ما سقط من البيت الشريف مؤقتاً إلى أن تتم عمارته، كما ذكره الغازي في تاريخ إفادة الأنام نقلاً عن رسالة للشيخ محمد علي بن علان الصديقي الشافعي في عمارة البيت الحرام؟(1/119)
ولقد روى الإمام الأزرقي: أن الحمام كان يقع على الكعبة فتتناثر حجارتها، وذلك حينما احترقت أيام ابن الزبير _رضي الله عنهما_.
فعلم مما ذكرناه أن ما يشاع لدى الناس: بأن حمام الحرم لا يعلو الكعبة المشرفة، وإن علاها فإنما هو للاستشفاء وَهْمٌ لا حقيقة له، ودعوى لا دليل عليها. ص101
19_ لم يتخذ الحمام المسجدَ الحرامَ مسكنه ومأواه في صدر الإسلام؛ حيث كان صغيراً، ولم يكن له سور ولا سقف، أما الآن ففي المسجد الحرام من الحمام ما لا يحصى ولا يعدّ؛ لاتساعه العظيم، ولكثرة ما فيه من الأروقة، والشرفات البارزة، والأعواد الممدودة، والفجوات العديدة.
والذي يغلب على الظن أن الحمام لم يستوطن المسجد الحرام إلا في عهد الدولة العثمانية حيث إنها خصصت له كل عام كمية كبيرة من الحبوب تنثر له في أرض المسجد، ولا يزال الناس إلى اليوم يرمون له الحبوب فيه خصوصاً الحجاج، فأصبح المسجد الحرام مرعى خصباً للحمام فيه الأمن، والطعام، والماء، والسكن.
ومن المؤلم حقاً أن نرى هذا المسجد الأعظم الذي هو أفضل المساجد على الإطلاق، والذي فيه أول بيت وضع للناس، وفيه آيات بينات مقام إبراهيم _ ملوثاً بذرق هذا الحمام، ومستقذراً بخرئه النجس في بعض المذاهب، حتى كاد أن يتعذر فيه المشي والصلاة، فتضايق منه الناس، وقد ينبعث من المسجد رائحة كريهة بسبب خرئه إذا جاء مطر قليل. ص101_102
20_ قال الله _سبحانه وتعالى_: [وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى] البقرة: 125، قال بعضهم عند هذه الآية: يحتمل أن تكون من تبعيضية أو زائدة في الإثبات على مذهب الأخفش، أو بمعنى في، وكل بعيد؛ والأقرب أنها بمعنى عند ا_هـ.
والمقام هو بفتح الميم من قام يقوم: موضع القيام، وأما المقام بالضم فهو من أقام يقيم.(1/120)
واختلفوا في المراد بالمقام فقيل: المسجد كله مقام إبراهيم، وقيل الحرم كله مقام إبراهيم، وقيل: جميع مشاهد الحج كمنى ومزدلفة وعرفة، وقيل: المقام هو الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم _عليه السلام_ حين غسلت رأسه،
وقيل: مقام إبراهيم هو الحجر الذي قام عليه إبراهيم _عليه السلام_ عند بناء الكعبة، وكان يرتفع به كلما ارتفع البناء(1) وإلى هذا أشار صاحب نظم عمود النسب بقوله:
وكلما طال البناء ارتفعا ... به المقام في الهوا ورفعا
به القواعد وفيه قدم ... تشبهها للهاشمي قدم
وحين بالحج الخليل أذَّنا ... وفي كلا أُذْنيه أصبعاً ثنى
أيضاً كأطوال الجبال ارتفعا ... به وكل من يحج أسمعا
فهذا القول الأخير هو الصحيح المعوّل عليه؛ حيث يفهم من الآية أنه مقام مخصوص، وذلك بالنظر إلى الأمر بالصلاة عنده؛ أما بالنظر إلى معناه اللغوي فإنه يصدق بجميع الأماكن التي قام عليها إبراهيم _عليه السلام_ ومن تأمل قوله _تعالى_: [إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ] آل عمران: 96_97 وقوله _تعالى_: [وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى] البقرة: 125 ظهر له ذلك جلياً.
ويؤيد صحة هذا القول الأخير: ما حدث جابر عن حجة النبي"قال: =لما طاف النبي _عليه الصلاة والسلام_ قال له عمر: هذا مقام أبينا؟ قال: نعم، قال: أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله _عز وجل_: [وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى]+.
وفي رواية: =أن رسول الله"مرّ بالمقام ومعه عمر، فقال: يا رسول الله أليس هذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال: بلى؛ قال: أفلا نتخذه مصلَّى؟ قال: لم أومر بذلك، فلم تغب الشمس حتى نزلت الآية+.
__________
(1) _ ارتفاع المقام بإبراهيم _عليه الصلاة والسلام_ عند بناء الكعبة وحين أذانه بالحج كان من معجزاته" فلا غرابة في ذلك.(1/121)
وفي البخاري عن أنس بن مالك قال: قال عمر بن الخطاب: =وافقت ربي في ثلاث، أو وافقني ربي في ثلاث قلت: يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: [وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى]...إلخ+ الحديث.
وعن جابر أنه قال: =استلم رسول الله" الركن، فرمل ثلاثاً، ومشى أربعاً، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ: [وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى] فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين+.
قال ابن كثير في تفسيره: وهذه قطعة من الحديث الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث حاتم بن إسماعيل. ص105_106
21_ فالخلاصة: أن مقام إبراهيم _عليه السلام_ هو الحجر الذي كان يقوم عليه لبناء البيت الحرام لما ارتفع جداره، وكان إسماعيل يناوله الحجارة ؛ فيضعها بيده وكلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه حتى انتهى إلى وجه البيت. ص106
22_ ولقد كان من معجزات إبراهيم _عليه السلام_ أن صار الحجر تحت قدميه رطباً فغاصت فيه قدماه، وقد بقي أثر قدميه ظاهراً فيه من ذلك العصر إلى يومنا هذا وإن تغير عن هيئته الأصلية بمسح الناس بأيديهم قبل وضع الحجر في المقصورة النحاسية، والعرب تعرف ذلك في جاهليتها، قال أبو طالب(1) في قصيدته اللامية المشهورة:
وثور ومن أرسى ثبيراً مكانه ... وراق لبرّ في حراء ونازل
وبالبيت حق البيت من بطن مكة ... وبالله إن الله ليس بغافل
وبالحجر المسودّ إذ يمسحونه ... إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافياً غير ناعل
ص106_107
__________
(1) _ أبو طالب: هو عم النبي"، وله قصيدة لامية مشهورة قالها حين تحالفت قريش على بني هاشم في أمر النبي _عليه الصلاة والسلام_ وأول هذه القصيدة:
ولما رأيت القوم لا ودّ عندهم
وقد قطعوا كل العرى والوصائل(1/122)
23_ ومما هو جدير بالذكر والالتفات: أن العرب في جاهليتها مع عبادتهم الأحجارَ، وبالأخص حجارة مكة والحرم _ لم يسمع عنهم أن أحداً عبد الحجر الأسود، أو حجر المقام مع عظيم احترامهم لهما، ومحافظتهم عليهما.
ولقد تأملنا في سر ذلك وسببه، فظهر لنا أن ذلك من عصمة الله _تعالى_ فإنهما لو عبدا من دون الله في الجاهلية، ثم جاء الإسلام بتعظيمهما باستلام الركن الأسود، والصلاة خلف المقام_ لقال المنافقون وأعداء الدين: إن الإسلام أقر احترام بعض الأصنام، وأنه لم يخلص من شائبة الشرك، ولتمسك بعبادتهما من كان يعبد أحدهما من قبل؛ فلهذا حفظ الله _تعالى_ هذين الحجرين الكريمين من أيام إبراهيم _عليه السلام_ إلى يوم القيامة من عبادة أهل الجاهلية لهما، كما حفظ بيته الحرام من عبادتهما _أيضاً_ ولا يخفى أن هذه نقطة دقيقة لا يتنبه لها كل أحد. ص107
24_ صفة المقام:
_ كنا نعتقد أن مقام إبراهيم _عليه الصلاة والسلام_ الموجود في باطن الصندوق الخشبي، والمغطى بستارة حريرية مكتوبة ومنقوشة، والذي يحيط بجوانبه الأربع شباك من الحديد المضروب باللون الأخضر المقابل لباب الكعبة المعظمة _هو حجر كبير لا يمكن أن يحمله أقل من خمسة رجال تقريباً، وكنّا نظن أن ما بقي من أثر قدمي خليل الله إبراهيم _عليه الصلاة السلام_ شيء يسير بقدر ما يظهر أقدام الإنسان في الأرض الترابية.
ولكن جاء الأمر بعكس ما كنا نعتقده ونظنه بعد مشاهدتنا له برؤية العين في السابع والعشرين من شهر شعبان سنة ألف وثلاثمائة وسبع وستين هجرية كما سنبين ذلك_. ص108(1/123)
_ إننا لما شرعنا في تأليف كتابنا هذا عن مقام إبراهيم _عليه السلام_ وما كان أحد سبقنا إلى مثله من قبل _حَصَلَتْ عندنا رغبةٌ شديدة وميل عظيم إلى مشاهدة نفس المقام الكريم، فالتمسنا فتح مقصورة المقام لنا من حضرة صاحب السمو الملكي ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير المعظم سعود بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل _حفظه الله_، فصدر أمر سموه الكريم بفتح مقصورة مقام إبراهيم _عليه الصلاة والسلام_ الذي هو أمام الكعبة المشرفة للنظر إليه ونكتب عنه الحقيقة بالتفصيل التام خدمة للدين والعلم؛ ليعرف المسلمون حقيقة المقام الكريم الذي هو مستور عن أعينهم فنقول: إنه في صباح يوم الأحد السابع والعشرين من شعبان سنة ألف وثلاثمائة وسبع وستين هجرية جاء إلى المسجد الحرام السادن الثاني لبيت الله المعظم صاحب السعادة الشيخ عبدالله ابن المرحوم الشيخ عبدالقادر الشيبي صحبة ابنه الفاضل الشيخ عبدالعزيز؛ لغسل الكعبة المشرفة حسب العادة، ولفتح مقام إبراهيم _عليه السلام_ لنا، فدخلنا أولاً بيت الله الحرام، وتشرفنا بغسل داخله بالزمزم بعطر، وكان معنا صاحب السعادة الشيخ محمد صالح قزاز ابن المرحوم عبدالرحمن قزاز مدير شؤون الحج، وحضرات الأفاضل الكرام السيد هاشم نائب الحرم رئيس مجلس إدارة الحرم، والشيخ عمر عبدالجبار رئيس شرطة الحرم، والشيخ صالح باخطمة رئيس القسم الإداري بالأمن العام، والسيد عبدالله ابن المرحوم السيد محمد علي الدباغ، والشيخ عبدالله ابن الشيخ أحمد الباز، وبعض الخدمة الخاصة، ثم بعد انتهائنا من غسل الكعبة المعظمة توجّه بنا سادنها سعادة الشيخ عبدالله الشيبي المذكور إلى مقصورة مقام إبراهيم _عليه الصلاة والسلام_ ففتحها بحضور مندوب رياسة القضاء الشيخ عبدالعزيز العقيلي، وحضور الشيخ عبدالله ابن المرحوم الشيخ أمين ميرداد، وحضور الجماعة المذكورين، وحضور جمع غفير من أهل مكة والحجاج القادمين إليها.(1/124)
وبعد تنظيف المقام من الأتربة والغبار دخلت أنا محمد طاهر الكردي المكي الخطاط مؤلف هذا الكتاب إلى داخل الصندوق الذي فيه نفس حجر مقام إبراهيم _عليه السلام_ لإجراء البحث الدقيق عليه، ومكثت في داخل الصندوق نحو ساعة ونصف أي تسعين دقيقة تقريباً وحجر المقام الشريف بهيئته بين يديّ، ثم طلبت من صديقنا الشيخ عمر عبدالجبار المذكور أن يجلس بجانبي داخل الصندوق؛ ليساعدني في مسك الأوراق وضبط القياسات، فجلس بجواري ملتصقاً بي لضيق الصندوق، وقد جلس أمامنا جَمْعٌ كثير ومن ذكرنا أسماءهم يشاهدون أبحاثنا الدقيقة حول المقام الكريم.
وإليكم بيان ذلك بالتفصيل التام والتحقيق الكامل بتوفيق الله _تعالى_:
لقد وجدنا حجر مقام إبراهيم الخليل _عليه الصلاة والسلام_ مثبتاً فوق قاعدة صغيرة من الرخام المرمر بقدر قياس نفس المقام الشريف طولاً وعرضاً.
وأما ارتفاعها فثلاثة عشر سنتيمتراً، وقد استمسك المقام بهذه القاعدة بوساطة الفضة التي تحيط بنفس المقام مع جزء من هذه القاعدة، حتى صار المقام ثابتاً فيها ثبوتاً قوياً بحيث لا يمكن تحريكه قط.
ثم إن هذه القاعدة الصغيرة ثابتة ثبوتاً محكماً جداً في وسط قاعدة كبيرة من الرخام المرمر _أيضاً_ تشبه الدكة طول ضلعها من جميع الجهات متر واحد، وارتفاعها من الأرض ستة وثلاثون سنتيمتراً ولون الرخامتين أبيض.(1/125)
ويحيط بهذه القاعدة الكبيرة صندوق من الخشب كهيئة الهرم الرباعي ارتفاعه نحو القامة، ليس به منافذ مطلقاً سوى الباب الذي يرى منه المقام الكريم، وهو في الجهة الشرقية، وهذا الصندوق ملبس كله من الظاهر بصفائح الفضة مكتوب عليه من الجهة الشرقية فقط ما يأتي: =بسم الله الرحمن الرحيم وبه الهداية _ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ . فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً+.
كتبه الحافظ إسماعيل الزهدي ادرنوى خوجه، كتبه عام ألف ومائتين وثمان وعشرين.
وباب الصندوق مصفح من الظاهر بالفضة _أيضاً_ وقد كتب عليه هذه العبارة: صاحب الخيرات والحسنات سلطان البرين وفاتح الحرمين الغازي السلطان محمود خان بن عبدالحميد خان دام ملكه سنة ألف ومائتين وثمان وعشرين هجرية.
والذي يظهر لنا من هذه العبارة: أن الذي أمر بتلبيس هذا الصندوق بصفائح الفضة هو السلطان محمود خان المذكور، وأما الصندوق من الداخل فهو خشب عادي بلونه الطبيعي لا أثر فيه لكتابة أو نقش.
وهذا الصندوق مغطى كله من قمته إلى الأرض بكسوة من الحرير مكتوب فيها بعض آيات قرآنية كتبها مؤلف هذا الكتاب سنة ألف وثلاثمائة وثمان وأربعين، وصنعت بدار الكسوة بمكة المشرفة في السنة المذكورة، ومن هذه السنة إلى الآن لم تغير الكسوة؛ ثم يحيط بهذا الصندوق الشباك الحديد المضروب باللون الأخضر من الجهات الأربع.(1/126)
أما مقام إبراهيم _عليه الصلاة والسلام_: فهو حجر لونه ما بين الصفرة والحمرة، وهو إلى البياض أقرب، ويمكن أن يحمله أضعف الرجال وهو حجر ليس بصوان(1).
وأما حجم حجر المقام الكريم: فهو يشبه المكعب، ارتفاعه عشرون سنتيمتراً، وطول كل ضلع من أضلاعه الثلاثة من جهة سطحه ستة وثلاثون سنتيمتراً وطول ضلعه الرابع ثمانية وثلاثون سنتيمتراً، فيكون مقدار محيطه من جهة السطح مائة وستة وأربعين سنتيمتراً.
وأسفل المقام أوسع بقليل من أعلاه، فيكون مقدار محيطه من جهة القاعدة نحو: مائة وخمسين سنتيمتراً.
وفي هذا الحجر الشريف غاصت قدما خليل الله _تعالى_ سيدنا إبراهيم _عليه الصلاة والسلام_ مقداراً كبيراً إلى نصف ارتفاع الحجر، فعمق إحدى القدمين عشرة سنتيمترات، وعمق الثانية تسعة سنتيمترات، ولم نشاهد أثراً لأصابع القدمين مطلقاً، فقد انمحى من طول الزمن ومسح الناس بأيديهم، وأما موضع العقبين: فلا يتضح إلا لمن دقق النظر وتأمل، وحافة القدمين الملبستين بالفضة أوسع من بطنها من كثرة مسح الناس بأيديهم.
__________
(1) _ روى الإمام الأزرقي في الجزء الثاني من تاريخه صحيفة 28 أن أمير المؤمنين المهدي حج سنة ستين ومائة فنزل دار الندوة، فجاء عبيد الله بن عثمان بن إبراهيم الحجي بالمقام مقام إبراهيم في ساعة خالية نصف النهار مشتملاً عليه، فقال للحاجب ائذن لي على أمير المؤمنين؛ فإن معي شيئاً لم يدخل به على أحد قبله وهو يسر أمير المؤمنين فأدخله عليه، فكشف عن المقام فسر بذلك وتمسح به، وسكب فيه ماءً، ثم شربه، وقال له: اخرج وأرسل إلى بعض أهله، فشربوا منه، وتمسحوا به، ثم أدخل؛ فاحتمله ورده مكانه وأمر له بجوائز عظيمة، وأقطعه خيفاً بنحلة يقال له ذات القوبع، فباعه من منيرة مولاة المهدي بعد ذلك بسبعة آلاف دينار. ا_هـ.(1/127)
وطول كل واحدة من القدمين من سطح الحجر والفضة سبعة وعشرون سنتيمتراً، وعرض كل واحدة منهما أربعة عشر سنتيمتراً، أما قياسهما من باطن القدمين من أسفل الفضة النازلة فيهما، فطول كل واحدة منهما اثنان وعشرون سنتيمتراً، وعرض كل واحدة منهما أحد عشر سنتيمتراً.
وما بين القدمين فاصل مستدق نحو سنتيمتر واحد، وقد استدق هذا الفاصل من أثر مسح الناس له بأيديهم للتبرك، وكذلك اتسع طول القدمين وعرضهما من أعلاهما بسبب المسح _أيضاً_ ومع أنه قد مر على حجر المقام الشريف أكثر من أربعة آلاف سنة فإن معالمه وهيئة القدمين واضحة بينة لم تتغير ولم تتبدل، وتبقى كذلك إلى يوم القيامة، مصداقاً لقوله _تعالى_: [فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ].
وحجر المقام كله ملبس بالفضة الخالصة، فلا تظهر حقيقة الحجر إلا من باطن حفرة القدمين وجوانبهما، وإن باطنهما غير مستو، بل فيهما بعض نتوءات صغيرة، وقد كتب على الفضة حول القدمين من سطح المقام آية الكرسي بخط الثلث الواضح الجميل، وكتب عليه من الجوانب بخط الثلث _أيضاً_ ما يأتي: [إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ].
ثم كتب بعد ذلك: =أمر بتجديد صحيفة القدم الشريف ابتغاء لمرضاة الله _تعالى_ ومحبة لصاحبه مولانا السلطان مصطفى خان ابن السلطان محمد خان دام عزه ونصره سنة 1113 سنة ألف ومائة وثلاثة عشر+.
ويوجد على الفضة شيء من النقش، أما ما نزل من الفضة في حفرة القدمين فليس عليه شيء لا من الكتابة ولا من النقش.(1/128)
ولما كان المقام الشريف ملبساً كله بالفضة، وثابتاً ثبوتاً قوياً لا يتحرك لم يظهر لنا هل فيه شطب وكسر أم لا؟ ونحمد الله _تعالى_ أن وفق سلاطين المسلمين وملوكهم للعناية والاهتمام بهذا المقام الإبراهيمي الشريف، ويحق للمسلمين والعرب أن يفخروا بهذا المقام الأثري القديم المقدس. ص110_114
_ والذي نستنتج من رؤيتنا للقدمين الشريفين أن طول سيدنا إبراهيم الخليل _صلوات الله وسلامه عليه_ هو كطول الرجل العادي في زماننا، لا بالطويل ولا بالقصير، ولذا كان نبينا محمد يشبه جده إبراهيم _صلى الله وسلم عليهما وعلى جميع الأنبياء والمرسلين_.
فقد ورد في صحيح البخاري في كتاب بدء الخلق عند وصف موسى وإبراهيم _عليهما السلام_ صريح قول نبينا محمد"ضمن الأحاديث مراراً، فمنها قال: =ورأيت إبراهيم وأنا أَشْبَهُ ولدِه به... إلخ+، ومنها: =وأنا أشبه ولد إبراهيم به... الخ+، ومنها: =أما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم... إلخ+.
ولقد ذكر بعض العلماء: أن قدم نبينا محمد يشبه قدم إبراهيم الخليل _صلوات الله وسلامه عليهما_ وإلى ذلك أشار ناظم عمود النسب بقوله:
وكلما طال البناء ارتفعا ... به المقام في الهوى ورفعا
به القواعد وفيه القدم ... تشبهها للهاشمي قدم
وهو حق لا شك فيه؛ لما تقدم من الأحاديث الصحيحة، ولما يدل عليه شكل القدمين اللتين على المقام الكريم.
وكان أبو جهم بن حذيفة القرشي الذي حضر بناء الكعبة المعظمة مرتين: بناء قريش، وبناء ابن الزبير_ يقول: ما رأيت شبهاً كشبه قدم النبي"بقدم إبراهيم التي كنا نجدها في المقام. ص116
25_ أرجح الأقوال في موضع المقام:
_ لقد ذكرنا هذه الأقوال المتقدمة في موضع المقام بنصها ولفظها من غير تعليق عليها، ثم رأينا أن نأتي هنا بأرجح الأقوال على رأينا، وما نميل إليه، فنقول وبالله العون والتوفيق:(1/129)
إذا لا حظت ما تقدم عن حدّ المسجد الحرام قديماً وأن مكان البيت كان ربوة مرتفعة عن الأرض ذات الرمال والحصى، وأن إبراهيم _عليه السلام_ ما بنى الكعبة بالطين ولا بالجص وإنما رضمها رضماً ولم يسقفها، وتصورت أن أهل الجاهلية كانوا يجلسون في ظل الكعبة ويقعدون حولها يتذاكرون شؤونهم العامة، وأنه لم يكن حينئذ للمسجد الحرام على صغره سور ولا حائط حتى بنى عليه عمر بن الخطاب جداراً قصيراً بعد أن زاد فيه ووسعه _ ظهر لك أن أرجح الأقوال المتقدمة وأقربها إلى الصواب هو ما رواه البيهقي في سننه من أن المقام كان في زمن النبي"وزمن أبي بكر ملصقاً بالبيت حتى أخره عمر بن الخطاب، وما ذكره _أيضاً_ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري بأن المقام كان في عهد إبراهيم _عليه السلام_ لَزْقَ البيت إلى أن أخره عمر إلى المكان الذي هو فيه الآن، وما قاله _أيضاً_ ابن كثير في تفسيره بأن المقام كان ملصقاً بجدار الكعبة قديماً، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحِجر.
وكان الخليل _عليه السلام_ لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة، أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك، وأنه أخره عن جدار الكعبة، أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب÷... إلخ كلامه المتقدم وهو كلام حسن جيد للغاية.
وما ذكره ابن كثير _أيضاً_ في تفسيره من رواية ابن مردويه أن مقام إبراهيم كان في الكعبة فأخرجه رسول الله"فألزقه في حائط الكعبة وذلك حينما دخل الكعبة يوم فتح مكة.
ولقد رجحنا هذه الأقوال الأربعة مما تقدم؛ لأن المعقول أن إبراهيم _عليه السلام_ لا بد أن يضع الحجر الذي قام عليه في بناء البيت بلزقه وجواره لا أن يضعه بعيداً عن البيت حيثما اتفق وهو ياقوتة من يواقيت الجنة ومقامه الذي كان يقوم عليه، _وأيضاً_ لا بد أن الله _تعالى_ أمره بحفظه، وعدم التفريط فيه؛ حيث يأتي في آخر الزمان خاتم النبيين محمد"فيؤمر هو وأمته بالصلاة عنده وقبلتهم البيت المعظم.(1/130)
ويؤيد كلامنا هذا ما جاء في الجزء الثاني من تاريخ الأزرقي أن إبراهيم _عليه السلام_ قام على المقام حينما أذن في الناس بالحج، فلما فرغ من التأذين أمر بالمقام فوضعه قبلة؛ فكان يصلي إليه مستقبل الباب ثم كان إسماعيل بعد يصلي إليه إلى باب الكعبة... إلخ.
فلدى التأمل في هذه النقطة يظهر جلياً أن إبراهيم _عليه السلام_ جعل الحجر الذي قام عليه لبناء الكعبة بلصقها ولا يبعده عنها بمسافة أذرع مخصوصة إلا لسبب وأي سبب لذلك في أيامه،_ وأيضاً_ أن أهل الجاهلية كانوا ألصقوا المقام بالبيت؛ خيفة السيل بل وضعوه في جوف الكعبة حتى أخرجه رسول الله "منها، فألزقه في حائطها كما تقدم بيان ذلك، فما الذي يدعو أهل الجاهلية إلى إبعاد ذلك الحجر الأثري المحترم عن الكعبة ووضعه في هذا المحل الذي هو عليه الآن كما في رواية السنجاري المتقدمة ولا أحد منهم يتعبد عنده، بل لو أبعدوه عن البيت لكان المعنى أنهم لم يعتبروه ولم يحترموه حيث رموه في آخر ساعته عند أبواب بيوتهم المحيطة بالبيت، وكيف يقع ذلك منهم وهم الذين يعتقدون أنه ذلك الحجر المقدس الذي عليه أثر قدمي إبراهيم الخليل _عليه السلام_؟ وقد قال أبو طالب فيه وفي الحجر الأسود.
وبالحجر المسودّ إذ يمسحونه ... إذا اكتنفوه بالضحى والأصائل
وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافياً غير ناعل
فلما جاء الإسلام أكد احترامهما وجعل لهما مغزى خاصاً، ورمزاً تعبدياً، وإن كان الحجر الأسود أعظم حرمة من المقام؛ فإنه يمين الله في الأرض، وإنه يبعث يوم القيامة وله عينان يبصر بهما، ولسان ينطق به يشهد لمن استلمه بالحق كما ورد ذلك.
وقد تقدم أن الحجر الأسود والمقام هما من ياقوت الجنة، وفي الأزرقي عن مجاهد أنه قال: يأتي يوم القيامة الركن والمقام كل واحد منهما مثل أبي قبيس يشهدان لمن وافاهما بالموافاة ا _ هـ. ص119_121
26_ زيادة عمر÷في المسجد الحرام:(1/131)
_ لما انتهى عمر بن الخطاب من أمر المقام رأى أن المسجد الحرام لا يسع الناس لكثرة المصلين، فاشترى الدور الملاصقة للمسجد، وأدخلها فيه، وأحاط عليه جداراً ارتفاعه دون القامة، وجعل فيه أبواباً يدخل الناس منها، لكنه لم يسقفه، وإنما سقفه عبدالله بن الزبير لما زاد في المسجد، ولم يُعْرَفْ مقدارُ ما سقفه هل كله أم بعضه؟
ثم إن عبدالملك بن مروان رفع جدرانه، وعمره عمارة حسنة من غير أن يزيد فيه شيئاً.
ومن أراد الاطلاع على ما وقع من الزيادات في المسجد الحرام فليراجع كتب التاريخ. ص123_124
_ ومن اللطائف: أن رجلاً سأل عمر بن القيس عن الحصاة يجدها الإنسان في ثوبه أو خفه أو جبهته من حصى المسجد؟ فقال: ارم بها، قال الرجل: زعموا أنها تصيح حتى ترد إلى المسجد، فقال: دعها تصيح حتى ينشق حلقها، فقال الرجل: سبحان الله، ولها حلق؟ قال: فمن أين تصيح؟. ص124_125
27_ رأى عمر بعد فراغه من أمر المقام أن المسجد الحرام وما حوله عرضة لخطر السيول، وأنه لا بدّ من وضع حاجز في وجه الماء يمنع دخوله، فعمل في هذه السنة _أيضاً_ الردم بأعلى مكة من جهة المدعى، وبناه بالضفائر(1) والصخور العظام، وكبسه بالتراب والأحجار، فلم يَعْلُهُ منها شيء كما ذكره أبو الوليد عن جده.
وفي سنة اثنتين ومائتين جاء سيل ابن حنظلة فكشف عن بعض أحجار ردم عمر، وشوهدت فيه صخار عظيمة، حتى قال بعضهم: ورأينا فيه صخراً ما رأينا مثله، وكان هذا السيل في خلافة المأمون، وعلى مكة يزيد بن محمد بن حنظلة المخزومي، فسمي السيل سيل ابن حنظلة، وكان سيلاً عظيماً أحاط بالكعبة، وبلغ دون الركن بذراع.
__________
(1) _ الضفيرة: الحائط يبنى في وجه الماء، قاله في المصباح المنير.(1/132)
فانظر _رحمك الله_ إلى قوة ردم عمر÷، ومكثه مائتي سنة لا تعلوه السيول، ولا تخربه، مع أنه كبسه بالتراب والأحجار، لا بالجصّ والنورة، ولا بالأسْمنت والبلاط(1) ولا بناه بالآلات الفنية والمقاييس المبتكرة الحديثة، وإنما بناه بإخلاص النية والتقوى على أيدي عمَّال خير القرون _رضي الله تعالى عنهم أجمعين_. ص125
28_ كان المقام في أرض المطاف من أيام إبراهيم _عليه السلام_ إلى ما بعد الإسلام معرضاً للتلف من تأثير السيول والأمطار والمس واللمس(2)، فلا بد بمرور هذه الأحقاب الطويلة والعصور البعيدة أن تضعف قوة صلابته، فيصبح رخواً قابلاً للتفتت والتلف خصوصاً وقد أظهر الإسلام فضله، وازدحم الناس لاستلامه، وإن لم يؤمروا بذلك ما لم يحفظ في مكان لا تصل إليه الأيدي؛ لذلك عملت له مقصورة عليها قبة، ووضعت فوق المقام؛ فبذلك صار في حرز مكين مأمون العاقبة.
ولقد كان حجر المقام موضوعاً على كرسي ملبّس بصفائح الرصاص، ثم في سنة إحدى وأربعين ومائتين أمر أمير المؤمنين محمد المستنصر بالله بإبدال صفائح الرصاص بصفائح فضة، كما ذكر ذلك الإمام الأزرقي في تاريخه أخبار مكة. ص128
__________
(1) _ البلاط: بفتح الباء معروف، أما الأسمنت فلم يكن ظهوره إلا في عصرنا، ويسمونه النورة الإفرنجية؛ لأنه من مخترعات الإفرنج وهو أنعم من الدقيق، وإذا عجنت به الحجارة والحصى، ثم وضعت في قالب فإنه يكون هذا الخليط صلباً شديداً متماسكاً مثل الحديد.
(2) _ المس واللمس: تقريباً بمعنى واحد إلا أن الفقهاء قالوا: المس لا يكون إلا بباطن الكف بخلاف اللمس فإنه يكون بأي جزء من البدن.(1/133)
29_ ولم يعرف بالضبط أول من وضع له تابوتاً، غير أنه قيل: إن أقرب وقت صنع فيه ذلك سنة عشر وثمانمائة، بمعنى أنه صنعت للمقام مقصورة ثابتة لا تنتقل ولا تتحرك، وإلا فقد كانت للمقام قبة قبل هذا التاريخ؛ فقد ذكر ابن جبير الأندلسي في رحلته _ وقد حج سنة خمسمائة وثمانية وسبعين للهجرة_ صفة المقام، ثم قال: لموضع المقام قبة مصنوعة من حديد موضوعة إلى جانب زمزم، فإذا جاءت أشهر الحج، وكثرت الناس رفعت القبة الخشب، ووضعت القبة الحديد ا_هـ. ص129
30_ أما وضع الكسوة على المقام فالذي يظهر أنه من اختراع دولة آل عثمان؛ فقد كان من عادة سلاطينهم أن يكسوا مقام إبراهيم الخليل _عليه الصلاة والسلام_ الذي هو بجوار الكعبة بكسوة سوداء مطرزة بأسلاك الفضة المموهة بالذهب على شكل ستارة باب الكعبة المعظمة، وتوضع هذه الكسوة على التابوت الخشبي الذي هو داخل الشباك الحديد فوق حجر المقام.
وكانت هذه الكسوة تأتي سنوياً مع كسوة الكعبة من مصر زمن الدولة العثمانية، وأحياناً كانت تأتي كسوة المقام في كل خمسين سنة مرة، ثم انقطعت كسوة المقام منذ سنوات عديدة إلى اليوم، والكسوة التي على المقام الآن هي قديمة لها أكثر من سبعة عشر سنة. ص130_131
31_ على أنه يشترط في مسحهما وتقبيلهما عدم حصول الأذية والضرر، فقد روى الأزرقي في تاريخه أن رسول الله"قال لعمر بن الخطاب: =يا عمر إنك رجل قوي، وإنك تؤذي الضعيف؛ فإذا رأيت خلوة فاستلمه، وإلا فكبر وامض+.
وروى فيه _أيضاً_ عن عطاء أنه سمع ابن عباس يقول: إذا وجدت على الركن زحاماً فلا تؤذ، ولا تؤذَ. ص135
32_ فينبغي للمسلم أن يكون على بصيرة من أمرِ دينه القويم، وأن يتبع منهج السلف الصالح الذين مشوا على الصراط المستقيم؛ حتى لا يقع فيما يقع فيه العوام والجهلة.
وإذا أمكنه إرشاد أحد بالتي هي أحسن لم يُحرم من الأجر والثواب؛ فالدال على الخير كفاعله.(1/134)
فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان باللطف واللين كان أسرع إلى القبول والامتثال، وإذا كان بالعنف والغلظة كان أدعى إلى النفور والعناد، قال الله _تعالى_ [ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] النحل: 125. ص135
33_ تكلم كثير من العلماء عن الحفرة التي على يمين باب الكعبة المشرفة التي يبلغ طولها 206 سنتيمتر، وعرضها 112 سنتيمتر، وعمقها 27 سنتيمتراً.
ونأتي هنا بخلاصة شافية نسأل الله الهداية إلى الصواب.
فقد قيل: إنها المعجن، عجن فيها إسماعيل _عليه السلام_ الطين لبناء البيت الحرام، فهذا القول غير صحيح وبعيد الاحتمال لأمرين:
الأول: أن إبراهيم وإسماعيل _عليهما السلام_ ما بنيا الكعبة المشرفة بالطين ولا بالجصّ، وإنما رضماها رضماً ولم يسقفاها، فعن ابن عباس _رضي الله عنهما_ قال: =أما والله ما بنياه بقَصّة ولا مَدَر(1)، ولا كان معهما من الأعوان والأموال ما يسقفانه، ولكنهما أعلماه، فطافا به+ رواه الأزرقي في تاريخه.
الثاني: لو فرض أن إسماعيل كان يعجن الطين للبناء للزم أن يعجنه عند كل جهة من الجهات الأربع للبيت، حتى لا يحمله ويدور حول البيت فيتعب، على أن هذا الموضع صغير لا يكفي لعجن الطين الكثير اللازم لبناء البيت الحرام.
فعلم مما ذكرناه بأن ما قيل: إن الحفرة هي معجن إسماعيل _عليه السلام_ غير صحيح.
وقيل: إن هذه الحفرة هي مصب لغسيل الكعبة قاله ابن جبير في رحلته، فهذا القول لا يطابق الحقيقة والواقع كما هو مشاهد عندنا، ولربما سأل ابن جبير عنها بعض من لا خبرة له فأفهمه ذلك، أو رأى بالمصادفة غسل الكعبة وامتلاء الحفرة من الماء فظنها كذلك، ولو كانت الحفرة لأجل تجمّع ماء غسيل الكعبة لكان المعقول أن تجعل عند بابها تحت العتبة.
__________
(1) _ القصة بالفتح: الجصّ، والمدر بفتحتين: الطين أو التراب المتبلد، قاله في المصباح المنير.(1/135)
وبهذه المناسبة نذكر استطراداً أن أول من غسل الكعبة رسول الله "، فقد روي عن ابن عمر _رضي الله عنهما_ أن رسول الله "لما دخل مكة يوم الفتح أمر بلالاً فرقِيَ على ظهر الكعبة، فأذن بالصلاة، وقام المسلمون، وتجردوا في الأزر، وأخذوا الدلاء وارتجزوا على زمزم، فغسلوا الكعبة ظهرها وبطنها، فلم يدعوا أثراً من آثار المشركين إلا محوه وغسلوه ا_هـ.
فمن هنا جرت العادة بغسل الكعبة من ذلك التاريخ إلى اليوم، وهي تغسل في العام مرتين بماء زمزم مضافاً إليه ماء الورد، ثم يطيبونها بالعطر، ويبخرونها بالعود والعنبر والندّ، وغالباً يكون ذلك بحضور ولاة الأمور، وكبار رجال الدولة.
وقد تشرفنا بغسلها_ ولله الحمد_ عام 1367هـ يوم أن فتحوا لنا مقصورة المقام.
وقيل: إن شطر الحفرة الملاصق للكعبة هو موضع مقام إبراهيم _عليه السلام_ قبل أن ينقله عمر ÷ وهو _أيضاً_ موضع المقام حينما أخذه سيل أم نهشل إلى أسفل مكة، فلما جاء عمر من المدينة نقله منه إلى موضعه الآن؛ فهذا القول غير بعيد، بل هو الصواب، كما علم ذلك مما سبق في تحقيق موضع المقام.
وقيل: إن الحفرة هي مصلى جبريل بالنبي"حين فرضت الصلوات الخمس، وقد ذكر ذلك كثير من العلماء منهم الأزرقي فروى بسنده عن ابن عباس أن النبي"قال: =أمّني جبريل عند باب الكعبة مرتين+.
فهذا القول أقرب إلى الصحة، بل هو الصواب _أيضاً_ ويطابق القول المتقدم؛ لأن مقام إبراهيم كان في شطر الحفرة الملاصق للكعبة كما ذكر، فوافقت صلاتهما عنده قبل نزول: =واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى+ فكأن صلاة جبريل بالنبي"هناك إشارة إلى أنه سيؤمر هو وأمته بالصلاة عند المقام، والله _سبحانه وتعالى_ أعلم. ص146_147(1/136)
34_ من المعروف في التاريخ أن أبا طاهر القرمطي وافى مكة في سابع ذي الحجة سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وفعل فيها هو وقومه أموراً منكرة، وأمر أبو طاهر جعفر ابن أبي علاج البنَّاء بقلع الحجر الأسود، فقلعه لأربع عشرة خلت من ذي الحجة من السنة المذكورة وذهب به معه إلى بلاد هجر، وبقي موضعه من الكعبة المعظمة خالياً يضع الناس فيه أيديهم للتبرك.
ثم إن سنبر بن الحسن القرمطي وافى مكة بالحجر الأسود سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، فوضعه بيده إلى موضعه من الكعبة وقال: أخذناه بقدر الله ورددناه بمشيئة الله، وذلك يوم النحر من السنة المذكورة... إلخ. ص148
35_ فبعض المغفلين يظن أن القرامطة استبدلوا الحجر الأسود بحجر آخر حينما ردوه إلى الكعبة، فهذا الظن في غير محله. ص148
36_ أما موسى الكليم _عليه السلام_: فإحسانه عظيم _أيضاً_ على الأمة المحمدية قاطبة؛ حيث طلب من نبينا محمد " ليلة عرج به واجتمع معه في السماء السادسة أن يراجع ربه _عز وجل_ في تخفيف الصلاة عن أمته التي فرضها الله _تعالى_ عليهم أولاً، وقال له: إن أمتك لا تطيق ذلك، فلم يزل رسول الله يرجع بين ربه _عز وجل_ وبين موسى _عليه السلام_ حتى بلغ التخفيف عنا خمس صلوات كل يوم وليلة بعد أن كانت خمسين صلاة. ص152
37_ فموسى _عليه السلام_ قد أحسن إلى جميع المؤمنين والمؤمنات في هذه المسألة إحساناً كبيراً، ووفق فيها أعظم توفيق، كيف لا؟ وهو الذي رأى من أحوال بني إسرائيل العجب العجاب.
والحق أننا قد وصلنا في هذا الزمان إلى حالة من العجز والتقصير، لا نقدر أن نقوم بأداء هذه الصلوات الخمس حق أدائها، بل تهاون الكثير بها في غير قطرنا حتى تركوها بتاتاً والعياذ بالله؛ فكيف لو لم يخفف الله عنا بفضله ورحمته؟ فجزى الله موسى وإبراهيم ونبينا عنا ما هو أهله. ص152
38_ كلمة ختامية:(1/137)
_ هذا، ولما كنت مشتغلاً بالتصنيف، مخالطاً للعلماء أرباب التأليف يمكنني أن أقول: إنني لم أجد أصعب، ولا أتعب، ولا أشغل للإنسان من تأليف الكتب مهما تنوعت واختلفت.
ولئن كان شيء يسرع في ضعف الإنسان وهرمه فذلك الشيء إنما هو الاشتغال بالتأليف وحده، وفي الوقت نفسه تجد المؤلف مع وهنه وضعفه قوياً في معلوماته، راسخاً في دراساته ومراجعاته، فكل شيء ينقص إذا أنفقت منه إلا العلم؛ فكلما أنفقت منه لغيرك بالإفادة زادت معرفتك مهما تكررت منك الإعادة. ص153
_ فالاشتغال بالتأليف أو بالفنون الجميلة، هو الشغل الذي لا شغل بعده، والعمل الذي ينقطع إليه المرء وحده، تجده يبحث عن مسألة إذا به يعثر على أخرى ولما يكمل الأولى بعد، تراه يحقق في بحث إذا به يصل إلى غيره؛ لتشعّب الكلام، وارتباط بعضه ببعض، وإنه كثيراً ما تطرأ عليه المسائل، وتنكشف له الدقائق وهو يأكل أو يمشي، أو يريد النوم، لذلك يكون المؤلف الخبير بالأحوال لا يخلو عن القلم والورق أنّى سار، وحيثما كان؛ ليقيد رؤوس المسائل التي تطرأ على فكره بغتة، حتى إذا ما رجع إلى حالة الاشتغال قتلها بحثاً وأشبعها درساً، تجده يبتعد عن الأهل والولد خوفاً من أن يقطع أحد عليه أفكاره، ينفرد عن الناس بنفسه، وقد يصطفي شخصاً من شكله وجنسه، يساعده في البحث والتنقيب، ويبيض له مسوداته بنظام وترتيب، وإلى هذا المعنى أشار بعضهم بقوله:
وأطيب أوقاتي من الدهر خلوة ... يقرّ بها قلبي ويصفو بها ذهني
ويأخذ لي من سَورة الفكر نشوة ... فأخرج من فنّ وأدخل في فنّ
ويفهم ما قد قال عقلي تصوري ... فنقلي عن أذني وسمعي بها مني
وأسمع من نجوى الدفاتر طُرفة ... أزيل بها همي وأجلو بها حزني
ينادمني قوم لديّ حديثهم ... فما غاب منهم غير شخصهم عني
ص154(1/138)
_ ولست مبالغاً إن قلت: إنه يقضي الساعات الطوال، ويسهر غالب الليالي بالاشتغال في المطالعة والكتابة، لا يسأل عن أكل ولا شرب، ولا يصغي لحديث أو خبر، ولا تجد الراحة إلى جسمه سبيلاً، قد يعتريه الملل، وتتعب أعصابه، وهو مع ذلك يتطلب برهاناً، ويستنبط دليلاً، وقد يريد النوم فيمتنع عليه لشدة تعبه المتواصل لإتمام ما لديه، فهو لذلك قد يكون مقصراً عن زيارات إخوانه وأحبائه؛ فإنه من لا يؤدي حقوق نفسه كيف يؤدي حقوق غيره؟ وهو في ذلك معذور مأجور، وفي عمله مغبوط مشكور. ص154
_ مسكين المؤلف، يشغل حواسه الخمس، ويصل يومه بالأمس، ليريح طلاب العلم والفنون، ولأن يصل في بحثه إلى نتيجة مرضية، وخلاصة شافية، وأجوبة سديدة، أحبّ إليه من الدنيا وما فيها، وأشد ما يكون فرحاً إذا ما اهتدى إلى حلّ مسألة عويصة كانت مستعصية عليه، أو أتى ببحث لم يسبقه إليه أحد. ص154
_ ومن أعظم نعم الله على المؤلف، أن يرى عند عزمه على التأليف أنه سهل ميسور، وأنه لا تمر عليه مدة وجيزة إلا أنجزه وأتمه، فإذا ما ابتدأ فيه وظهر جزء منه، تفتق ذهنه عن مسائل لم يحلم بها، وطرأت على باله أبحاث لم يكن يتخيلها، وإذا به في وادٍ متشعب، يرى من الواجب عليه أن يسلكه ويمهده، حتى يَخرج للناس بسِفرٍ هم في أمسّ الحاجة إليه.
فلو علم بادئ بدء ما سيلقاه من المشقة والتعب، والصعوبة والنصب لأبعد عن فكره خيال التأليف، وابتعد عن مسالك التكليف، مفضلاً الراحة والهناء على نيل الفخر بالعناء، لكنه حاز الشرف والفخار، وأتته رغماً عنه بعون الله وتوفيقه.
أما ثوابه على عمله وجزاؤه فهذا موكول إلى الله _عز شأنه_ فهو الذي لا يَضيع عنده عمل عامل من ذكر أو أنثى، على أنه _سبحانه وتعالى_ قد رفع ذكر العلماء، وأعلى شأنهم في الدارين، وحفظهم من التخريف مهما عمروا وتقدموا في سن الشيخوخة.(1/139)
وأما تقديره ومكافأته في المجتمع الإنساني، فهذا راجع إلى الوسط الذي يعيش فيه، وإلى القوم الذين ينتمي إليهم؛ فعلى قدر مكانتهم في العلم والأدب، وثقافتهم في مختلف الفنون، وخلوّهم من المكر والحسد يكون تقديرهم لمنزلته، ومعرفته لمكانته، وأكثر المؤلفين لا يظهر فضلهم إلا بعد الممات.
هذه بعض حالات المشتغلين بالتأليف =ولا ينبئك مثل خبير+.
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها
ص154_155
=تعريف بالمؤلف وبالكتاب+: أما مؤلف الكتاب فهو الشيخ المحقق البحاثة محمد بن إبراهيم الشيباني_حفظه الله_ فهو الذي انتقى هذه العجائب وعلق عليها.
أما الكتاب فهو صغير الحجم، ويقع في 96 صفحة.
وقد جمعه مؤلفه من كتب عديدة في السير والتواريخ وغيرها.
وقد قال في مقدمته: =وضعت لك هذا الكتاب الذي انتقيته من جملة الكتب التي تحدثت عن تواريخ الناس والبلدان والملوك والأمراء، سرائهم وضرائهم، أفراحهم وأتراحهم، فيه يطيب السمر، ويستعذب القارئ أبوابه وما فيها من لطيف الخبر، والجيد من حوادث الدهر، نوعت فيه الأخبار وشكلت فيه من المختارات، لترغب النفس في القراءة وتستمر في استعذابه، وتتذكر ما كان الناس فيه من أحوال حلوة ومُرَّة، وتتذكر بأن الرزاق يعطي ويمهل؛ فما على من فهم المراد إلا السير بالدُّلْجَة(1) على مهل، والسلامة من كل خطر، ومن كل عمل غير مدروس ينتج عن العجل والخلل، ويؤدي بعد ذلك بالإنسان إلى سوء المآل والحزن.
ولقد صنعت لموضوعات الكتاب عناوين لأبوابها استنبطتها من الموضوعات نفسها حتى تكون الترجمة لصيقة بالموضوع+. ص5_6
والكتاب من منشورات مركز المخطوطات والتراث والوثائق في الكويت.
_ =النقولات المنتقاة+:
1_ استجابة دعاء
__________
(1) _ الدلجة: الساعة المتأخرة من الليل.(1/140)
يقول ابن الجوزي: ومن الحوادث في هذه السنة (262هـ) ما أنبأنا به أبو بكر ابن محمد بن أبي طاهر البزار عن أبي الحسين بن المهتدي قال: رأيت بخط بن الفرات حدثنا القاضي أبو الحسن الجرامي حدثني عبدالخالق بن الحسن قال: سمعت أبا عون الفرائضي يقول: خرجت إلى مجلس أحمد بن منصور الزيادي سنة اثنتين وستين ومائتين، فلما صرت بطاق الحراني رأيت رجلاً قد أمر بالقبض على امرأة، وأمره بجرها فقالت له: اتق الله، فأمر أن تجر، فلم تزل تناشده الله وهو يأمر بجرها إلى باب القنطرة، فلما يئست من نفسها رفعت رأسها إلى السماء ثم قالت:[قُلْ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ] الزمر:46 إن كان هذا الرجل يظلمني فخذه.
قال أبو عون؛ فوقع الرجل على ظهره ميتاً وأنا أراه فحمل على جنازة وانصرفت المرأة. المنتظم5/34 ص11.
2_ ريح
هبت ريح شديدة بالديار المصرية غرّقت مئتي مركب، وهلك منها خلق كثير. (سنة667هـ). الشذرات 5/324 ص15.
3_ بَرَدة
وقع بَرَدٌ، وزنوا بردة فكانت مئة رطل بالبغدادي. (وقائع سنة 623هـ). الشذرات 6/337 ص15.
4_ سيل عظيم
في ربيع الآخر حصل بحلب سيل عظيم فساق جملة كثيرة من الوحوش والأفاعي فوجد ثعبان فمه يسع ابن آدم إذا بلعه، وكان طوله أكثر من سبعة أذرع. (حوادث سنة 795). الشذرات 6/337 ص15.
5_ كسوف
واجتمع في المحرم (سنة269هـ) كسوف الشمس والقمر، وغابت الشمس منكسفة. المنتظم 5/65 ص18.
6_ أكلوا بغلة الوزير
عام 462هـ .(1/141)
وفيه كان غلاء شديد بمصر فأكلوا الجيف، والميتات، والكلاب؛ فكان يباع الكلب بخمسة دنانير، وماتت الفيلة فأكلت ميتاتها، وأفنيت الدواب فلم يبق لصاحب مصر سوى ثلاثة أفراس، بعد أن كان له العدد الكثير من الخيل والدواب، ونزل الوزير يوماً عن بغلته، فغفل الفلاح عنها؛ لضعفه من الجوع، فأخذها ثلاثة نفر فذبحوها، وأكلوها، فأخذوا، فصلبوا فما أصبحوا إلا وعظامهم بادية قد أخذ الناس لحومهم فأكلوها، وظُهر على رجل يقتل الصبيان والنساء، ويدفن رؤوسهم وأطرافهم، ويبيع لحومهم، فقتل وأكل لحمه، وكانت الأعراب يقدمون بالطعام يبيعونه في ظاهر البلد، لا يتجاسرون يدخلون لئلا يخطف، وينهب منهم، وكان لا يجسر أحد أن يدفن ميته نهاراً، وإنما يدفنه ليلاً خفية؛ لئلا ينبش فيؤكل.
المنتظم 8/257
البداية والنهاية 12/99 ص19
7_ قصة سواك
وفي سنة 665هـ كما قال ابن خلكان بلغنا من جماعة يوثق بهم وصلوا إلى دمشق من أهل بصرى(1)
__________
(1) _ بصرى: هي البلدة التي خرجت منها النار التي تحدث عنها رسول الله"=لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز؛ تضيء أعناق الإبل ببصرى+ رواه البخاري ومسلم.
وكانت هذه النار في زمن ابن كثير الدمشقي.(1/142)
أن عندهم قرية يقال لها دير أبي سلامة كان بها رجل من العربان فيه استهتار زائد وجهل، فجرى يوماً ذكر السواك، وما فيه من الفضيلة، فقال: والله ما أستاك إلا من المخرج فأخذ سواكاً وتركه في دبره، فآلمه تلك الليلة ثم مضى عليه تسعة أشهر وهو يشكو من ألم البطن والمخرج، ثم أصابه مثل طلق الحامل، ووضع حيواناً على هيئة الجرذون ورأسه مثل رأس السمكة، وله أربع أنياب بارزة، وذنب طويل مثل شبر وأربع أصابع، وله دبر مثل دبر الأرنب ولما وضعه صاح ذلك الحيوان ثلاث صيحات فقامت ابنة ذلك الرجل، فشجت رأسه، فمات وعاش ذلك الرجل بعده يومين ومات، وهو يقول: هذا الحيوان قتلني وقطع أمعائي وشاهد ذلك الحيوان جماعة من تلك الناحية وخطيب المكان. الشذرات 5/317 ص19_20
8_ عجيبة
قال الذهبي: في نيسان مطرنا مطراً أحمر كأعكر ماء الزيادة، وبقي أثر الطين على التمر والورق نحو شهرين. (سنة710هـ). الشذرات 6/21 ص21
9_العلاج لبس سروال وشرط أذن
علاء الدين علي بن نجم الدين بن عبدالواحد بن شرف الدين محمد بن صغير رئيس الأطباء بالديار المصرية.
كان يصف الدواء للموسر(1) بأربعين ألفاً، ويصف الدواء في ذلك الداء للمعسر بفلس.
دخل عليه شيخ شكا ما به من السعال، فقال: لعلك تنام بغير سراويل. قال: إي والله، قال لا تفعل نم بسراويلك، فمضى فصدفت ذلك الشيخ بعد أيام فسألته عن حاله، فقال: عملت بما قال، فبرئت.
قال وكان لنا جار حدث لابنه رعاف حتى أفرط فانحلت قوى الصغير، فقال له: شرِّط آذانه؛ فتعجب، وتوقف، فقال: توكل على الله وافعل، قال: ففعل ذلك، فبرئ، وله من هذا النمط أشياء عجيبة. شذرات الذهب 6/346 ص22
10_ شيخ الوضوء
شهاب الدين أحمد بن محمد بن إبراهيم الصفدي (شيخ الوضوء) لأنه كان يتعاهد المطاهر، فيعلم العوام الوضوء. الشذرات 6/357 ص23
11_ طفل
__________
(1) _ الموسر: الذي يملك المال.(1/143)
أحضر بين يدي الظاهر طفل ميت له رأسان وأربعة أعين، وأربعة أيدٍ، وأربعة أرجل. (حوادث عام 662هـ). شذرات 5/307 ص24
12_ امرأة تتحول رجلاً
قال ابن كثير: كان في طرابلس بنت تسمى نفيسة زوجت بثلاثة أزواج ولا يقدرون عليها يظنون أنها رتقاء فلما بلغت خمس عشرة سنة غار ثدياها ثم جعل يخرج من محل الفرج شيء قليلاً إلى أن برز منه قدر إصبع وأنثيان، وكتبت ذلك في محاضر. (حوادث سنة 754هـ). شذرات الذهب 6/175 ص24
13_ دعاء بقي بن مخلد
يقول عبدالرحمن بن أحمد: سمعت أبي يقول: جاءت امرأة إلى ابن مخلد فقالت: إن ابني قد أسره الروم ولا أقدر على مال أكثر من دويرة، ولا أقدر على بيعها، فلو أشرت إلى من يفديه بشيء، فليس لي ليل ولا نهار ولا نوم ولا قرار.
فقال انصرفي حتى أنظر في أمره _إن شاء الله تعالى_.
قال وأطرق الشيخ وحرك شفتيه.
قال فلبثنا مدة فجاءت المرأة مع ابنها وأخذت تدعو له وتقول قد رجع سالماً وله حديث يحدثك به، فقال الشاب: كنت في يدي بعض ملوك الروم مع جماعة من الأسارى، وكان له إنسان يستخدمنا كل يوم نخرج إلى الصحراء، ثم يردنا وعلينا قيود، فبينا نحن نجيء من العمل بعد المغرب انفتح القيد من رجلي، ووقع على الأرض، ووصف اليوم والساعة فوافق اليوم الذي جاءت المرأة ودعاء الشيخ.
قال: فنهض إليّ الذي كان يحفظني وقال: قد كسرت القيد(1)، قلت: لا إنه سقط من رجلي، فتحيروا خبر صاحبه، وأحضر الحداد، وقيدني فلما مشيت خطوات سقط القيد من رجلي، فتحيروا في أمري فدعوا رهبانهم فقالوا لي: ألك والدة؟ قلت: نعم. قالوا: قد رافق دعاءَها الإجابةُ.
وقالوا: أطلقك الله لا يمكننا أن نقيدك، فردوني وأصبحوني إلى ناحية المسلمين. المنتظم 5/100،101 ص28_29
14_ قتلى أحد لم يتغيروا بعد 46 عاماً
عن جابر بن عبدالله÷:
__________
(1) _ القيد: السلاسل التي يربط بها يد ورجل الأسير.(1/144)
... فبينا أنا في خلافة معاوية بن أبي سفيان إذ جاءني رجل فقال يا جابر ابن عبدالله والله لقد أثار أباك عمال معاوية، فبدا فخرج طائفة منه، فأتيته فوجدته على النحو الذي دفنته لم يتغير إلا ما لم يدع القتل أو القتيل، ثم ساق الإمام قصة وفائه دين أبيه كما هو ثابت في الصحيحين.
وروى البيهقي من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن أبي الزبير عن جابر ابن عبدالله قال: لما أجرى معاوية العين عند قتلى أحد بعد أربعين عاماً استصرخناهم إليهم، فأتيناهم فأخرجناهم، فأصابت المسحاة قدم حمزة فانبعث دماً، وفي رواية ابن إسحاق عن جابر قال: فأخرجناهم كأنما دفنوا بالأمس.
وذكر الواقدي أن معاوية لما أراد أن يجري العين نادى مناديه من كان له قتيل بأحد فليشهد، قال جابر: فحضرنا عنهم، فوجدت أبي في قبره كأنما نائم على هيئته ووجدنا جاره في قبره عمرو بن الجموح ويده على جرحه فأزيلت عنه فانبعث جرحه دماً، ويقال: إنه فاح من قبورهم مثل ريح المسك _رضي الله عنهم أجمعين_ وذلك بعد ست وأربعين سنة من يوم دفنوا. البداية والنهاية 8/43 ص31_32
15_ الحاكم بأمر الله
ثم كان يركب حماره، وينزل عند باب جامعه، الذي عند باب النصر، ويأخذ من يختار من غلمانه، فيرقده على باب الجامع، ويشق بطنه بيده، ثم يخرج مصارينه بيده، ويرميهم إلى الكلاب، ويترك المقتول مكانه، حتى يدفنه أهله؛ وكان يعذب جماعة من غلمانه بالنار. تاريخ ابن إياس 1/1/201 ص35
16_ وجدتها عوراء عرجاء(1/145)
أخبرنا أبو منصور القزار أخبرنا أبو بكر بن ثابت قال أخبرني محمد بن أحمد ابن يعقوب قال حدثنا محمد بن نعيم الضبي قال سمعت أمي تقول سمعت مريم امرأة أبي عثمان(1) تقول صادفت من أبي عثمان خلوة فاغتنمتها فقلت يا أبا عثمان أي عملك أرجى عندك؟ فقال يا مريم لما ترعرعت وأنا بالري، وكانوا يريدونني على الزواج فأمتنع جاءتني امرأة فقالت: يا أبا عثمان قد أحببتك حباً أذهب نومي وقراري، وأنا أسألك بمقلب القلوب وأتوسل إليك أن تتزوج بي، قلت: ألك والد؟ قالت: نعم فلان الخياط في موضع كذا وكذا، فراسلت أباها أن يزوجها مني، ففرح بذلك، وأحضرت الشهود، فتزوجت بها فلما دخلت وجدتها عوراء عرجاء مشوهة الخلق فقلت: اللهم لك الحمد على ما قدرته لي! وكان أهل بيتي يلومونني على ذلك، فأزيدها براً وإكراماً إلى أن صارت بحيث لا تدعني أخرج من عندها، فتركت حضور المجالس، إيثاراً لرضاها، وحفظاً لقلبها، ثم بقيت معها على هذه الحال خمس عشرة سنة، وكأني في بعض أوقاتي على الجمر وأنا لا أبدي لها شيئاً من ذلك إلى أن ماتت! فما شيء أحب عندي من حفظي عليها ما كان في قلبها من جهتي. المنتظم 6/107 ص37_38
17_ أكل الناس بعضهم بعضاً
حوادث سنة 281هـ:
فيها غارت المياه بالري(2)، وطبرستان(3) وأصاب الناس بعد ذلك جهد جهيد، وقحط حتى أكل الناس بعضهم بعضاً، وأكل إنسان منهم ابنته.
__________
(1) _ هو أبو عثمان الحيري.
(2) _ الرّي: بفتح أوله، وتشديد ثانيه، وهي أكبر من أصبهان بناها المهدي في خلافة المنصور (معجم البلدان 3/118)، وتسمى طهران حالياً.
(3) _ طَبَرستان: بفتح أوله وثانيه، وكسر الراء، واستان: الموضع أو الناحية، كأنه الطبر، وهي بلدان واسعة كثيرة يشملها هذا الاسم، وطبرستان في البلاد المعروفة بحازَنَدْرَان، فتحت أيام عثمان ابن عفان÷ بوساطة عبدالله بن عامر كريز بن صبيب، وغزا سعيد بن العاص طبرستان وافتتح _أيضاً_ من طبرستان الرويان ودنباوند. (معجم البلدان 4/13).(1/146)
المنتظم 5/147 ص42
18_ ومن غرائب المنقول وعجائبه
الأمير بدر الدين أبو المحاسن يوسف المهمندار المعروف بمهمندار العرب أنه قال: حكى الأمير شجاع الدين محمد الشيرازي متولي (القاهرة) في الأيام الكاملية سنة ثلاث وستمائة، قال: بتنا عند رجل ببعض بلاد الصعيد، فأكرمنا وكان الرجل شديدَ السمرة، وهو شيخ مخضر له أولاد بيض الوجوه حسان الأشكال، فقلنا له هؤلاء أولادك؟ فقال: نعم؛ وكأني بكم وقد أنكرتم بياضهم وسوادي فقلنا له: نعم، قال: هؤلاء أمهم إفرنجية أخذتها في أيام الملك الناصر صلاح الدين وأنا شاب، فقلنا: وكيف أخذتها؟ قال: حديثي بها عجيب. قلنا: أتحفنا به قال: زرعت كتاناً في هذه البلدة، وقلعته، ونفضته، فانصرف عليه خمسمائة دينار، ولمَّ الثمن إلى أكثر من ذلك، فحملته إلى (القاهرة) فلم يصل إلى أكثر من ذلك، فأشير عليّ بحمله إلى (الشام) فحملته، فما زاد على تلك القيمة شيئاً، فوصلت به إلى (عكا) فبعت بالأجل، البعض تركته عندي واشتريت حانوتاً أبيع فيه على مهلي إلى حيث انقضاء المدة، فبينما أنا أبيع إذ مرت بي امرأة إفرنجية _ ونساء الإفرنج يمشون في الأسواق بلا نقاب في الأسواق _ فأتت تشتري مني كتاناً، فرأيت من جمالها ما بهرني، فبعتها، وسامحتها ثم انصرفَتْ، وعادتْ إليّ بعد أيام، فبعتها وسامحتها أكثر من المرة الأولى، فتكررت إليّ، وعلمت أني أحبها، فقلت للعجوز التي معها: إنني قد تلفت بحبها وأريد منك الحيلة، فقالت لها ذلك، فقالت تروح أرواحنا الثلاثة أنا وأنت وهي، فقلت لها قد سمحت بروحي في حبها واتفق الحال أن أدفع خمسين ديناراً صورية فوزنتها وسلمتها للعجوز فقالت نحن الليلة عندك، فمضيت وجهزت ما قدرت عليه من مأكول، ومشروب، وشمع وحلاوة، فجاءت الإفرنجية فأكلنا، وشربنا، وجن الليل ولم يبق غير النوم فقلت في نفسي: أما تستحي من الله وأنت غريب تعصي الله مع نصرانية! اللهم إني أشهدك أني قد عففت عنها في هذه الليلة؛ حياءً منك(1/147)
وخوفاً من عقابك، ثم نمت، ونامت إلى الصبح، وقامت في السحر وهي غضبى ومضت ومضيت أنا إلى حانوتي فجلست فيه وإذا هي قد عبرت عليّ هي والعجوز، وهي مغضبة وكأنها القمر؛ فهلكتُ فقلت في نفسي من هو أنت حتى تترك هذه البارعة في حسنها ثم لحقت، وقلت ارجعي، فقالت..(1)
__________
(1) _2_ عبارة شطبتها من النص لأن فيها حلفاً بالمسيح، وهذا مما لا يجوز شرعاً؛ لأنه من الشرك بالله سواء من حلف بالأنبياء أو بغيرهم، يقول _عليه الصلاة والسلام_: =من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك+ رواه مسلم. قاله المحقق الشيخ محمد الشيباني.
3_ أسبوع.(1/148)
ما أرجع إليك إلا بمائة دينار، فقلت: نعم رضيت، فوزنت مائة دينار، فلما حضرت الجارية عندي لحقتني الفكرة الأولى، وعففت عنها وتركتها؛ حياءً من الله _تعالى_ ثم مضت، ومضيت إلى موضعي ثم عبرت بعد ذلك عليّ وكانت مستعربة، فقالت..(2) ما بقيت تفرح بي عندك إلا بخمس مائة دينار أو تموت كمداً، فارتعدت لذلك، وعزمت أن أصرف عليها ثمن الكتان جميعه؛ فبينما أنا كذلك والمنادي ينادي: معاشر المسلمين إن الهدنة التي بيننا وبينكم قد انقضت، وقد أمهلنا من هنا من المسلمين إلى جمعة(3)، فانقطعت عني وأخذت أنا في تحصيل ثمن الكتان الذي لي والمصالحة على ما بقي منه وأخذت معي بضاعة حسنة وخرجت من (عكا) وفيّ قُلبة(1) من الإفرنجية فوصلت إلى (دمشق) وبعت البضاعة بأوفى ثمن؛ بسبب فراغ الهدنة، ومنّ الله بكسب وافر وأخذت أتجر في الجواري عسى أن يذهب ما بقلبي من الإفرنجية؛ فمضت ثلاث سنين وجرى للسلطان الملك الناصر ما جرى من (وقعة حطين) وأَخْذِه جميعَ الملوك، وفَتْحِه بلادَ الساحل _بإذن الله تعالى_ فطُلب مني جارية للملك الناصر، فأحضرت جارية حسناء، فاشْتُرِيَتْ له مني بمائة دينار فأوصلوا إلي تسعين ديناراً، وبقيت عشرة دنانير فلم يلتقوها في الخزانة ذلك اليوم؛ لأنه أنفق جميع الأموال فشاوروه على ذلك، فقال امضوا به إلى الخزانة التي فيها السبي من نساء الإفرنج في واحدة منهن يأخذها بالعشرة دنانير التي له، فأتيت الخيمة فعرفت غريمتي الإفرنجية، فقلت أعطوني هاتيك، فأخذتها، ومضيت إلى خيمتي وخلوت بها وقلت لها: أتعرفيني؟ قالت: لا، فقلت: أنا صاحبك التاجر الذي جرى لي معك ما جرى وأخذت مني الذهب، وقلت ما بقيت تبصرني إلا بخمسمائة دينار، وقد أخذتك ملكاً بعشرة دنانير، فقالت: مد يدك أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فأسلمت وحسن إسلامها، فقلت: والله ما وصلت إليها بأمر القاضي(2)
__________
(1) 4 _ حرة ولوعة وأثر.
(2) _ يقصد العقد عليها على سنة الله ورسوله، ولعل الصواب: والله ما وصلت إليها إلا بأمر... .(1/149)
، فرحت إلى ابن شداد وحكيت له ما جرى، فعجب، وعقد لي عليها، وباتت تلك الليلة عندي فحملت مني، ثم رحل العسكر، وأتينا دمشق وبعد مدة يسيرة أتى رسول الملك يطلب الأسارى والسبايا باتفاق وقع بين الملوك فردوا من كان أسيراً من الرجال والنساء، ولم يبق إلا التي عندي فسألوا عنها واتضح الخبر أنها عندي، وطلبت مني فحضرت، وقد تغير لوني وأحضرتها معي بين يدي مولانا السلطان الملك الناصر والرسول حاضر، فقال لها الملك الناصر بحضرة الرسول: ترجعين إلى بلادك أو إلى زوجك فقد فككنا أمرك وأمر غيرك، قالت: يا مولاي السلطان أنا قد أسلمت وحبلت وها بطني كما ترونه وما بقيت الإفرنج تنتفع بي فقال لها الرسول: أيما أحب إليك هذا المسلم أو زوجك الإفرنجي فلان؟ فأعادت عبارتها الأولى، فقال الرسول لمن معه من الإفرنج: اسمعوا كلامها ثم قال لي الرسول: خذ زوجتك، فولعت بها فطلبني ثانياً، وقال إن أمها أرسلت معي وديعة وقالت: إن ابنتي أسيرة، وأشتهي أن توصل لها هذه الكسوة، فتسلمت الكسوة، ومضيت إلى الدار، وفتحت القماش فإذا هو قماش بعينه قد سيرته لها أمها، ووجدت الصرتين الذهب الخمسين ديناراً والمائة دينار كما هي بربطتي لم يتغير، وهؤلاء الأولاد منها، وهي التي صنعت لكم هذا الطعام.
المستطرف (للابشيهي 790_850هـ)
(1/201_205) ص51_54
19_ مات فجأة
أبو سعيد الإسماعيلي:
توفي فجأة بجرجان في ربيع الآخر (396هـ) وهو قائم يصلي في المحراب، في صلاة المغرب، فلما قرأ [إياك نعبد وإياك نستعين] (الفاتحة: 5) فاضت نفسه فمات ×. البداية والنهاية 11/336 ص58
20_ سجود
في سنة (396هـ):
كانت الخطبة للحاكم العبيدي، وتجدد في الخطبة أنه إذا ذكره الخطيب يقوم الناس كلهم؛ إجلالاً له، وكذلك فعلوا بديار مصر مع زيادة السجود له، وكانوا يسجدون عند ذكره يسجد من هو في الصلاة، ومن هو في الأسواق يسجدون لسجودهم، لعنه الله وقبحه.
البداية والنهاية 11/336 ص58
21_ خنّاق النساء(1/150)
عام 257هـ
وفيها ظُفِر ببغداد بموضع يقال له بركة زَلْزَل برجل خنّاق قد قتل خلقاً من النساء كان يؤلف المرأة ثم يخنقها، ويأخذ ما عليها، فحمل إلى المعتمد، فضرب بين يديه بألفي سوط وأربعمائة، فلم يمت حتى ضربه الجلادون على أنثييه(1) بخشب العقابين(2) فمات ورد إلى بغداد وصلب هناك، ثم أحرقت جثته.
البداية والنهاية 11/28 ص60_61
22_ زلزال واسط
عام 258هـ
وقعت زلزلة شديدة، وهدَّة عظيمة، تهدمت فيها بيوت ودور كثيرة، ومات من الأناس نحو من عشرين ألفاً. البداية والنهاية 11/30 ص61
23_ الزبير يملك خمسين مليون درهم
قال ابن قتيبة: حدثنا محمد بن عتبة، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن أبيه أن الزبير ترك العُروض بخمسين ألف ألف درهم، ومن العين خمسين ألف درهم. (رجاله ثقات).
وقال ابن عيينة: عن هشام، عن أبيه قال: اقتسم مالُ الزبير على أربعين ألف ألف. سير أعلام النبلاء 1/65 ص63_64
24_ حامل كفنه
أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال بلغني المعروف بحامل كفنه _ محمد ابن يحيى أبو سعيد توفي، وغسل، وكفن، وصلي عليه، ودفن فلما كان في الليل جاء نباش فنبش عنه فلما حل أكفانه؛ ليأخذها استوى قاعداً فخرج النباش هارباً منه، فقام، وحمل كفنه، وخرج من القبر، وجاء إلى منزله وأهله يبكون، فدق الباب عليهم، فقالوا: من أنت؟ قال: أنا فلان! فقالوا له: لا يحل لك أن تزيدنا على ما بنا، فقال: يا قوم افتحوا فأنا والله فلان! فعرفوا صوته، ففتحوا، وعاد حزنهم فرحاً، وسمي من يومئذ حامل كفنه، توفي محمد بن يحيى في هذه السنة (299هـ).
ومثل هذه جرى لسعير بن الخمس الكوفي فإنه لما دلي في حفرته اضطرب، فحلت عنه أكفانه، فقام، ورجع إلى منزله، وولد له بعد ذلك ابنه مالك ابن سعير. ص76
25_ نهاية الظلم
حوادث سنة 516هـ
__________
(1) _ أنثييه: خصيتيه.
(2) _ العقابين: خشبتان يشبح الرجل بينهما للجلد. (لسان العرب 2/834).(1/151)
علي بن أحمد السميرمي: نسبة إلى قرية بأصبهان(1)، كان وزير السلطان محمود، وكان مجاهراً بالظلم والفسق، وأحدث على الناس مكوساً(2)، وجددها بعد ما كانت قد أزيلت من مدة متطاولة، وكان يقول: قد استحييت من كثرة ظلم من لا ناصر له، وكثرة ما أحدثت من السنن السيئة، ولما عزم على الخروج إلى همذان أحضر المنجمين فضربوا له تَخْتَ رملٍ لساعة خروجه ليكون أسرع لعودته، فخرج في تلك الساعة وبين يديه السيوف المسلولة، والمماليك الكثيرة بالعدد الباهرة، فما أغنى عنه ذلك شيئاً، بل جاءه باطني فضربه فقتله، ثم مات الباطني بعده، ورجع نساؤه بعد أن ذهبن بين يديه على مراكب الذهب، حاسرات عن وجوههن، قد أبدلهن الله الذل بعد العزة، والخوف بعد الأمن، والحزن بعد السرور والفرح جزاءً وفاقاً، وذلك يوم الثلاثاء سلخ صفر، وما أشبه حالهن بقول أبي العتاهية في الخيزران وجواريها حين مات المهدي:
رُحن في الوشى كسيرا ... ت عليهن المسوح
كل بطّاح من النا ... س له يوم بطوح
لتموتنّ ولو عمّر ... ت ما عُمِّر نوح
فعلى نفسك نحْ إن ... كنت لا بدّ تنوح
البداية والنهاية 12/191 ص78_79
المحتويات
المقدمة ... 3
أولاً: نقولات مختارة من كتاب =أدب النفس+ للحكيم الترمذي: ... 5
__________
(1) _ أصبَهان: منهم من يفتح الهمزة، وهم الأكثر وكسرها آخرون منهم السمعاني وأبو عبيد البكري الأندلسي: وهي مدينة عظيمة مشهورة من أعلام المدن وأعيانها ويسرفون في وصف عظمها حتى يتجاوزوا حدّ الاقتصاد إلى غاية الإسراف وأصبهان: اسم للإقليم بأسره (معجم البلدان 1/206).
(2) _ المكس: الجباية، مَكَسه يمكَسُه مكساً ومكستُه مَكساً. والمكس: دراهم كانت تؤخذ من بائع السّلع في الأسواق في الجاهلية. والمكس: الضريبة التي يأخذها الماكس وأصله الجباية. (لسان العرب 3/515).
وفي الحديث: =لا يدخل صاحب مكس الجنة+ حديث ضعيف رواه أحمد(4/150) وأبو داود والدارمي (1/393) والمشكاة (2/325) عن عقبة بن عامر.(1/152)
-تعريف بالمؤلف وبالكتاب ... 5
-النقولات المنتقاة _ 25 نقلاً _ ... 6
ثانياً: نقولات مختارة من كتاب =الحث على طلب العلم والاجتهاد في جمعه+ لأبي هلال العسكري: ... 15
-تعريف بالمؤلف ... 15
-تعريف بالكتاب ... 16
-النقولات المنتقاة _ 30 نقلاً _ ... 17
ثالثاً: نقولات مختارة من كتاب =الصداقة والصديق+ لأبي حيان التوحيدي: ... 25
-تعريف بالمؤلف ... 25
-تعريف بالكتاب ... 26
-النقولات المنتقاة _ 103 نقول _ ... 28
رابعاً: نقولات مختارة من كتاب =لباب الآداب+ تأليف الأمير أسامة ابن منقذ: ... 51
-تعريف بالمؤلف ... 51
-تعريف بالكتاب ... 52
-النقولات المنتقاة: ... 53
1-باب الوصايا ... 53
2-باب السياسة ... 56
3-باب الكرم ... 61
4-باب الشجاعة ... 63
5-من اشتهر بالفتك بالجاهلية ... 64
6-ومن شهر بالفتك في الإسلام ... 65
7-باب الآداب ... 67
8-فصل في حسن الجوار ... 68
9-فصل في الصمت وحفظ اللسان ... 69
10-فصل في التعفف ... 69
11-فصل في الصبر على الأذى ومداراة الناس ... 70
12-فصل في حفظ التجارب وغلبة العادة ... 70
13-باب البلاغة ... 71
14-باب في الحكمة ... 73
خامساً: نقولات مختارة من كتاب =الوصية المباركة+ لابن قدامة المقدسي: ... 75
-تعريف بالمؤلف ... 75
-تعريف بالكتاب ... 76
-النقولات المنتقاة _ 15 نقلاً _ ... 77
سادساً: نقولات مختارة من كتاب =آداب الحرب في الإسلام+ تأليف العلامة محمد الخضر حسين: ... 83
-تعريف بالمؤلف وبالكتاب ... 83
-النقولات المنتقاة: ... 84
1-أسباب الحرب ... 84
2-الاستعداد للحرب ... 85
3-التدريب على الحرب ... 86
4-محاكاة العدو في وسائل الدفاع ... 86
5-كتابة أسماء من يدعون إلى الحرب ... 87
6-إعلان الحرب ... 87
7-رفع الرايات في الحرب ... 88
8-الشعار في الحرب ... 88
9-تعهد الجند بالموعظة ... 89
10-النشيد الحماسي ... 89
11-الزحف في صفوف منظمة ... 89
12-الإقدام في الدفاع ... 90(1/153)
13-الثبات في مواقع الدفاع ... 91
14-الإخلاص في الحرب ... 91
15-أثر الاستقامة في الانتصار ... 92
16-الدهاء في الحرب ... 92
17-اطلاع ولي الأمر على سير الحرب يوماً فيوماً ... 92
18-الشورى في الحرب ... 93
19-كيف يكون قائد الجيش ... 93
20-استكشاف حال العدو ... 94
21-التكتم في الحرب ... 95
22-الاحتراس في الحرب ... 95
23-حكم الجاسوس في الإسلام ... 96
24-الرفق بالجند ومعاملتهم بالعدل ... 96
25-تلقيهم أوامر القائد بحسن الطاعة ... 97
26-تحامي الاختلاف المؤدي إلى الشقاق ... 97
27-التخلف عن الدفاع ... 98
28-الفرار من صفوف القتال ... 99
29-الوفاء بتأمين المحارب ... 99
30-مجاملة رسل العدو وعدم التعرض لهم بأذى ... 100
31-تجنب قتل من لا يقاتل ... 101
32-معاملة الأسرى ... 102
33-الدفاع في البحر ... 102
34-عقد الصالح ... 103
35-تخليص الأسرى من أيدي العدو ... 104
36-تقدير البطولة ... 105
سابعاً: نقولات مختارة من كتاب =عادات عربية+ تأليف محمد المكي
بن الحسين: ... 109
-تعريف بالمؤلف ... 109
-تعريف بالكتاب ... 111
-النقولات المنتقاة: ... 114
1-عادات شعراء العرب ... 114
2-عادات العرب في الأموات والقتلى ... 115
3-ميز شجعان العرب بعلامات في الحرب ... 118
4-عناية العرب بالضيف ... 119
5-تنكيل العرب في الجاهلية بالجناة ... 120
6-عناية السلف باللغة العربية وكتبها ... 122
7-أرخى عمامته ... 123
8-أبو الأضياف ... 124
9-تخيلات الأمة العربية في أطوار الجاهلية ... 124
10-عادات ملوك العرب في الجاهلية والإسلام ... 125
11-عادات نساء العرب في الأعصر الجاهلية ... 127
12-عادات العرب في الخيل ... 127
13-عادات العرب في الإبل ... 131
14-عادات العرب في الحروب والغزوات ... 135
15-عادات عربية خاصة بالأعراس ... 137
16-مجالس العرب في الجاهلية والإسلام ... 139
17-قرع السن كناية عن الندم ... 144
18-الأضياف والضيافة ... 144(1/154)
19-عادات العرب بأمر الأضياف ... 146
20-عادات عربية ... 147
ثامناً: نقولات مختارة من كتاب =الحديقة+ لمحب الدين الخطيب: ... 155
-تعريف بالمؤلف ... 155
-تعريف بالكتاب ... 156
-النقولات المنتقاة: ... 157
1-هدية ... 157
2-مرض حب الشهرة ... 157
3-الزوجة ... 158
4-السفور بعد الحجاب ... 158
5-الرجولة في نظر المتنبي ... 158
6-الاعتدال والبساطة ... 158
7-الصابر العظيم ... 159
8-من اعترافاتهم ... 159
9-ملك القلوب ... 160
10-السعادة قريبة التناول ... 160
11-سبيل النجاح في نظر فورد ... 161
12-العمل رياضة العقل ... 161
13-من أقوال شوقي ... 162
14-كلمات للإمام أحمد بن حنبل ... 163
15-ذكاء الأعراب ... 164
16-شمم العرب ... 164
17-من كلام الأحنف بن قيس ... 164
18-الرجل ... 165
19-المرأة ... 166
20-من كلام سعيد بن المسيب سيد التابعين ... 166
21-من كلام طاووس ... 166
22-خصومة العظماء ... 166
تاسعاً: نقولات مختارة من كتاب =مقام إبراهيم+ لمحمد طاهر الكردي المكي: ... 169
-تعريف بالمؤلف ... 169
-تعريف بالكتاب ... 170
-النقولات المنتقاة _ 38 نقلاً _ ... 179
عاشراً: نقولات مختارة من كتاب =عجائب من عصور متفرقة+ الجزء الأول لمحمد بن إبراهيم الشيباني: ... 213
-تعريف بالمؤلف وبالكتاب ... 213
-النقولات المنتقاة: ... 214
1-استجابة دعاء ... 214
2-ربح ... 214
3-بَرَدة ... 214
4-سيل عظيم ... 215
5-كسوف ... 215
6-أكلوا بغلة الوزير ... 215
7-قصة سواك ... 216
8-عجيبة ... 216
9-العلاج لبس سروال وشرط أذن ... 216
10-شيخ الوضوء ... 217
11-طفل ... 217
12-امرأة تتحول رجلاً ... 217
13-دعاء بقي مخلد ... 218
14-قتلى أحد لم يتغيروا بعد 46 عاماً ... 219
15-الحاكم بأمر الله ... 219
16-وجدتها عوراء عرجاء ... 220
17-أكل الناس بعضهم بعضاً ... 221
18-ومن غرائب المنقول وعجائبه ... 221
19-مات فجأة ... 225
20-سجود ... 225(1/155)
21-خنَّاق النساء ... 226
22-زلزال واسط ... 226
23-الزبير يملك خمسين مليون درهم ... 226
24-حامل كفنه ... 227
25-نهاية الظلم ... 227
المحتويات ... 229
1_ جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز ×.
2_ التوبة وظيفة العمر.
3_ رسائل في العقيدة.
4_ رسائل في التربية والأخلاق والسلوك.
5_ رسائل في الزواج والحياة الزوجية.
6_ أخطاء في مفهوم الزواج.
7_ من أخطاء الأزواج.
8_ من أخطاء الزوجات.
9_ كلمات متنوعة في أبواب متفرقة 1.
10_ كلمات متنوعة في أبواب متفرقة 2.
11_ كلمات متنوعة في أبواب متفرقة 3.
12_ كلمات متنوعة في أبواب متفرقة 4.
13_ سوء الخلق .. مظاهره .. أسبابه .. العلاج، قرأه سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز ×.
14_ الفاحشة (عمل قوم لوط) الأسباب _ العلاج.
15_ عقيدة أهل السنة والجماعة، قرأه وقدم له: سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز ×.
16_ الإيمان بالقضاء والقدر، قرأه وقدم له: سماحة الشيخ عبدالعزيز ابن باز ×.
17_ الهمة العالية، قرأه وقدم له: سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز ×.
18_ مع المعلمين.
19_ شرح وتحقيق الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية.
20_ شرح وتحقيق القصيدة التائية في القدر لشيخ الإسلام ابن تيمية.
21_ الصداقة بين العلماء (نماذج تطبيقية معاصرة).
22_ رمضان دروس وعبر تربية وأسرار.
23_ أخطاء في أدب المحادثة والمجالسة.
24_ من أقوال الرافعي في المرأة.
25_ من أحوال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز في الحج.
26_ الحج آداب وأسرار.
27_ الدعاء مفهومه _أحكامه_ أخطاء تقع فيه، قرأه وعلق عليه: سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز ×.
28_ الإيمان باليوم الآخر.
29_ الشيوعية.
30_ توبة الأمة.
31_ البابية.
32_ البهائية.
33_ القاديانية.
34_ الوجودية.
35_ الجوال آداب وتنبيهات.
36_ الإنترنت امتحان الإيمان والأخلاق والعقول.
37_ المنتقى من بطون الكتب (المجموعة الأولى).
38_ مختصر الإيمان بالقضاء والقدر.(1/156)
39_ لطائف في تفاضل الأعمال الصالحة.
40_ عقوق الوالدين .. أسبابه .. مظاهره .. سبل العلاج.
41_ قطيعة الرحم .. المظاهر .. الأسباب .. سبل العلاج.
42_ التقصير في تربية الأولاد .. المظاهر .. سبل الوقاية والعلاج.
43_ التقصير في حقوق الجار.
44_ الكذب .. مظاهره .. علاجه.
45_ لماذا تدخن؟.
46_ إلى بائع الدخان.
47_ الجريمة الخلقية.
48_ العشق .. حقيقته .. خطره .. أسبابه .. علاجه.
49_ الطريق إلى التوبة.
50_ رسالة إلى طالب نجيب، ترجم إلى الأردية.
51_ الهجرة دروس وفوائد.
52_ الأسباب المفيدة في اكتساب الأخلاق الحميدة.
53_ مختصر عقيدة أهل السنة والجماعة؛ المفهوم والخصائص.
54_ الإيمان بالله، ترجم إلى الإنجليزية.
55_ لا إله إلا الله: معناها _أركانها _ فضائلها _ شروطها.
56_ توحيد الربوبية.
57_ توحيد الألوهية.
58_ توحيد الأسماء والصفات.
59_ الإيمان بالكتب.
60_ الطريق إلى الإسلام، ترجم إلى عدة لغات.
61_ كلمات في المحبة والخوف والرجاء، ترجم إلى الإنجليزية.
62_ الطيرة.
63_ نبذة مختصرة عن الشفاعة، والشرك، والرقية، والتمائم، والتبرك.
64_ من صور تكريم الإسلام للمرأة.
65_ معالم في التعامل مع الفتن.
1-فقه اللغة مفهومه _ مناهجه _ موضوعاته.
2-رسائل في الفرق والمذاهب والأديان.
3-سلسلة: مقالات لكبار كتاب العربية.(1/157)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فهذه هي المجموعة الثانية من كتاب:
=المنتقى من بطون الكتب+
ولقد يسر الله جمعه وانتقاءه من كتب عديدة، وفي موضوعات متنوعة، ولمؤلفين مختلفين، وفي عصور متباينة.
ويُهدف من وراء ذلك أمور كثيرة منها: التعريف ببعض الكتب، وبيان ما تضمنته من علوم خصوصاً إذا كانت نادرة، أو قليلة الانتشار.
ومنها: الوقوف على مناهج بعض المؤلفين، وطرائقهم في الكتابة والتأليف خصوصاً وأن هذه المجموعة ستتضمن تعريفاً موجزاً بالمؤلفين ومناهجهم.
ومنها: _ وهو أعظمها _ إنهاض الهمم، وتوسيع المدارك، وزيادة الإيمان، وترسيخ الفضيلة، وإبهاج النفوس، والرقي بالأخلاق؛ وذلك من خلال النقول التي تتضمن حكماً بالغة، أو مواعظ حسنةً، أو تجاربَ ناضجةً، أو نظراتٍ ثاقبةً، أو أفكاراً ساميةً، أو عباراتٍ رائعةً رائقةً، أو تحريراتٍ عاليةً، أو أساليبَ بارعةً، أو معانيَ لطيفةً، أو قصصاً نادرةً مؤثرة، أو تعريفاتٍ جامعةً مانعة، أو غير ذلك مما جرى مجراه، مما يفيد الإنسانَ في معاشه ومعاده.
فأسأل الله _ بأسمائه الحسنى وصفاته العلى _ أن يجعل هذا العمل مباركاً نافعاً، خالصاً لوجهه الكريم، وأن يجزي خير الجزاء من أعان على إخراج هذا الكتاب؛ إنه سميع قريب.
وإلى تلك النقول، والله المستعان، وعليه التكلان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
محمد بن إبراهيم الحمد
ص.ب 460
الرمز البريدي 11932
الزلفي 17/1/1425هـ
www.Toislam.Net
ب
_ =تعريف بالكاتب و بالكتاب+:
كتاب (آداب النفوس) لأبي عبدالله حارث بن أسد المحاسبي أو المعروف بـ: الحارث المحاسبي، المتوفي سنة 240، وهو من معاصري الإمام أحمد بن حنبل _رحمهما الله_.
وهذا الكتاب يتحدث فيه مؤلفه عن أدواء النفوس، وما تنطوي عليه من خلائق السوء.(2/1)
ويحاول تشخيص تلك الأدواء، ويسعى في علاجها، وإعادتها إلى فطرتها، وصفائها، ونقائها.
كما أن الكتاب يحتوي على حكم بالغة، وكشفٍ عن دقائق النفس، ومواعظ تعين الإنسان على الاستعداد ليوم المعاد.
وهذا الكتاب من مطبوعات دار الجيل بيروت، ويقع في 200 صفحة.
_ =النقولات المنتقاة+: قال×:
1_ وإن إبليس إنما يُسَوَّرُ عليك في الآثام من وسوسة نفسك، وخراب قلبك.ص50
2_ ولا شيء أعجب إلى إبليس من ظلمة القلب، وسواده، وانطفاء نوره، وتراكب الرَّين عليه، ولا شيء أثقل على الخبيث من النور، والبياض، والنقاء، والصفاء، وإنما مأواه الظُّلمة، وإلا فلا مأوى له، ولا قرار في النور والبياض. ص51
3_ ومن أراد الزهد فليكن الكثير مما في أيدي الناس عنده قليلاً، وليكن القليل عنده من دنياه كثيراً، وليكن العظيم منهم إليه من الأذى صغيراً، وليكن الصغير منه إليهم عنده عظيماً.ص55
4_ ولو استغنيت بالله وحده، وبإطلاعه عليك، وبجزيل ثوابه لأهل طاعته، ومحبته لهم، وتوفيقه لهم، وتسديده إياهم، وراقبته _ لأغناك ذلك عمن لا يملك لك ولا لنفسه ضراً ولا نفعاً. ص60
5_ فاحذر _ رحمك الله _ من قَرُبَ منك وقَرُبْتَ منه، فإن الذين بَعُدوا منك وبَعُدْتَ منهم سلموا منك، وسلمت منهم.ص74
6_ فإن العبد إنما يؤتى من قبل التهاون باليسير، وهو الذي يوقع في الإثم الكبير، والتهاون باليسير هو الأساس الذي يبني عليه الكثير؛ فيكون أوله كان تحفظاً، ثم صار انبساطاً، ثم صار من الانبساط إلى ذكر اليسير، ثم صار من اليسير إلى ما هو أكثر منه، فلا تشعر حتى ترى نفسك حيث كنت تكره أن ترى فيه غيرك، ففي ترك اليسير ترك اليسير والكثير.ص86
7_ وأقوى الناس على ذلك، وأصدقهم عزماً هو الذي إذا عزم أمضى عزمه ولم يلْوِ، وأضعف الناس في ذلك أضعفهم عزماً، وهو الذي يعزم ثم يحل عزمه، ولا يكاد يمضي عزماً.ص86(2/2)
8_ وبعض الأمور تركها أشد على العبد من بعض، وصاحب الإرادة لا ينبغي أن يغلط في هذا، ولكن يفاتش أموره كلها مفاتشة شديدة، بالعناية وغائص الفهم، ودقائق لطائف الفِطَن، حتى يعلم ما هو أشد عليه في الترك، ويعلم ما هو أسلم له، وأنفع له، فيجعل جِدَّه وجديده، ومعرفته وعلمه، وفهمه وكياسته، وعنايته وفطنته فيما هو أشد عليه في الترك، وأكثر ضرراً عليه.
والناس في ذلك مختلفون، فرب رجل يهون عليه ترك شيء يشتد على غيره، ويشتد عليه ترك شيء يهون على غيره تركه، ويشتد عليه طلب ما يهون على غيره، ويهون عليه طلب ما يشتد على غيره؛ لأنه حُبّب إلى هذا من الأشياء ما لم يُحَبّب إلى غيره، وبُغّض إليه من الأشياء ما لم يُبَغّض إلى غيره.ص114
9_ وأما باب النصح فتكون نيته وسيرته ومذهبه في السر والعلانية: أن أمور الأمة كلها لو أجريت على ما في ضميره وسريرته لأحب أنها رشَدَتْ أمورها، وأطاعت ربها، وصار إلى كل واحد منهم حظه من الحق والعدل.
فإن كانت هذه سيرته في خاصته، وعلى هذا نيته في العامة _ رجوت أنه في كل أمر جليل، ونعمة عظيمة، لا يعلم قدرها إلا الله _ تعالى _.
وإن خالفت سيرته في خاصته وعامته هذا الوصف، فلا حظ له في النصح الخاص ولا العام، وكان ما يدعي أنه يضمر وينوي في سريرته، من نصح الخاصة والعامة مردوداً عليه، غير مقبول منه.ص125
10_ واعرف صمتك عند الخوف من سقوط جاهك عند من لك عنده الجاه والقدر.ص129
11_ واعرف صدقك عند الحالة التي يتصنع ويتزين في مثلها المتزينون والمتصنعون.ص129
12_ واعرف صبرك عند ترك شهوة قد ملَكتها، هل تستطيع تركها على ذلك أم لا؟.ص129
13_ واعرف عقلك عند ترك ما لا نفع لك فيه في الدنيا ولا في الآخرة، ولا ثواب لك فيه عند الله _ تعالى _ هل تستطيع ترك ذلك أم لا؟.ص130
14_ إن الناسك إن لم يقبل الحكمة، ولا الموعظة، ولا النصيحة من العدو والصديق، والسفيه والحليم _ فنُسكه نُسُك الملوك. ص138(2/3)
15_ واعلم أن لذتك فيما تجد من حلاوة طعم الحلوى، وغير ذلك، إنما تجدها عند أكلك إذا أكلتها، وحلاوة الهوى والشهوة في الفكر إذا تابعته على ما تريد، ليس له طعام ولا شراب، إنما لذته من الأشياء أن يتابع في فكره وأصله.ص146
16_ واعلم أن لذة الرياء وحلاوته لذة تخالط القلوب، وتجري في العروق، فاحذر ذلك في ابتداء أول العمل، وفاتش الهمة، وتقصَّ تصحيح الإرادة، وكن في ذلك كله مراقباً لله وحده.ص146
17_ وعلامة النصح للناس: أن تحب لهم ما تحب لنفسك من طاعة الله_تعالى_ وأن تكره لهم ما تكره لنفسك من معصية الله _ تعالى _.ص151
18_ وعلامة الصبر: ألا تشكو من جميع المصائب إلى أحد من المخلوقين شيئاً.
والصبر هو: الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على كتمان المصيبة، وهو من كنوز البر، والصبر على كتمان الطاعة، والصبر: حبس النفس عن ذلك كله. ص151
19_ ومن علامة التواضع: ألا يدعوك أحد إلى حق إلا قبلته ولم ترده، ولا ترى أحداً من المسلمين إلا رأيت نفسك دونه. ص152
20_ والحزم: الفرار من كل موضع فيه محنة.ص154
21_ احذر شهوة لا تبقى، وندامة لا تفنى.ص176
22_ احفظ الله عند هواك، يحفظك عند لقاك.ص179
23_ اجتهد ولا تيأس، ولا تقل عند ذكر الصالحين: لولا ذنوبي لرجوت طريقة الصالحين، فيُفَتِّرك ذكرُ ذنوبك عن العمل، فإن صاحب الحمل الثقيل أولى أن يجتهد في إسقاط ما قد حملَ من المُخِفِّ الذي ليس على ظهره شيء.ص179
24_ إن أردت أن ينظر الله إليك بالرحمة _ فانظر أنت إلى الصالحين بالغبطة، وإلى العاصين بالرأفة. ص176
25_ ما ظنك بمن يكره أن يطلع الناس منه على ما يكره الله، ولا يستحي أن يطلع الله منه على ما يكره. ص186
_ =نبذة عن المؤلف+:
هو الإمام الحافظ الشيخ أبو سليمان حَمْد _ بفتح الحاء وسكون الميم _ ابن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي البستي.
ولد في شهر رجب سنة 319 بمدينة بست.(2/4)
كان×فقيهاً، محدثاً، أديباً له التصانيف البديعة _ كما قال بن خلِّكان _.
وكان من المكثرين في التأليف، المجيدين فيه، فمن تآليفه القيمة: معالم السنة، وغريب الحديث، وأعلام السنن، وشأن الدعاء، وإصلاح خطأ المحدثين، وشرح أسماء الله الحسنى، والغنية عن الكلام وأهله، والعروس، وغيرها من الكتب.
ومنها: كتاب العزلة.
_ =تعريف بالكتاب+:
كتاب (العزلة) من منشورات مكتبة الثراث الإسلامي ويقع في مائتين وعشر صفحات.
وهذا الكتاب من أشهر مؤلفات الإمام الخطابي×.
ويدور هذا الكتاب حول العزلة والخلطة وضوابط كل منهما.
وتحت هذا المفهوم يذكر أبواباً تصل إلى سبعة عشر باباً يمكن إجمالها فيما يلي:
_ باب حكاية ما احتج به من أنكر العزلة.
_ باب ما جاء في العزلة.
_ باب ذكر أسباب تسهل على المرء العزلة، وتفطمه عن صحبة كثير من ذوي الخلطة.
_ باب في خفة الظهر، وقلق العيال والأهل.
_ باب في ترك الاستكثار من الأصدقاء، وما يستحب من قلة الالتقاء.
_ كتاب جامع في ترك ما لا يعني، ورفض الاشتغال بما لا يجدي.
_ باب في التحذير من قرناء السوء، وحسن ارتياد الجليس الصالح.
_ باب اختلاف طبقات الناس.
_ باب في ذكر أخلاق العامة، وما يوجد فيهم من قلة الاستفاضة(1).
_ باب التحذير من عوام الناس، والتحرز منهم بسوء الظن فيهم، وقلة الثقة فيهم، وترك الاستنامة إليهم.
_ باب في فساد الزمان وأهله.
_ باب فيمن يتمنى الموت، وآثر المرض والعمى على لقاء الناس.
_ باب في ترك الاعتداد بعوام الناس، وقلة الاكتراث بهم والتحاشي لهم.
_ باب في فساد الخاصة، وما جاء في علماء السوء، وذكر آفاتهم.
_ باب في آفات القراء.
_ باب في فساد الأئمة وما جاء في الإقلال من صحبة السلاطين.
_ باب في لزوم القصد في حالتي العزلة والخلطة.
هذه نبذة مختصرة لما جاء في الكتاب من أبواب.
__________
(1) _ لعلها: الاستقامة.(2/5)
والمؤلف×لم يرد بالعزلة اعتزال الناس بإطلاق، وإنما بيَّن ذلك، وقيده؛ فاعتزالهم إنما يكون في الشر، ولأجل الفرار عن الفتن.
أما اعتزالهم في الخير، وفي الجمع والجماعات وما جرى مجرى ذلك _ فلم يكن من قصد المؤلف.
والكتاب حافل بإيراد النصوص الشرعية، وأقوال العلماء والحكماء كما أنه تميز بجمال العبارة، وحسن السبك، كيف والخطابي يعد من أكابر أدباء عصره؟.
_ =النقولات المنتقاة+: قال ×:
1_ وأما عزلة الأبدان ومفارقة الجماعة التي هي العوام فإن من حكمها أن تكون تابعة للحاجة، وجارية مع المصلحة؛ وذلك أن عظم الفائدة في اجتماع الناس في المدن، وتجاورهم في الأمصار إنما هو أن يتضافروا، فيتعاونوا على المصالح، ويتآزروا فيها، إذا كانت مصالحهم لا تكمل إلا به، ومعايشهم لا تزكو إلا عليه.
وللإنسان أن يتأمل حال نفسه، فينظر في أي طبقة يقع منهم، وفي أية جنبة ينحاز من جملتهم؛ فإن كانت أحواله تقتضيه المقام بين ظهراني العامة؛ لما يلزمه من إصلاح المهنة التي لا غنية له به عنها، ولا يجد بداً من الاستعانة بهم فيها، ولا وجه لمفارقتهم في الدار، ومباعدتهم في السكن والجوار _ فإنه إذا فعل ذلك تضرر بوحدته، وأضر بمن وراءه من أهله وأسرته.
وإن كانت نفسه _ بكلها _ مستقلة، وحاله في ذاته وذويه متماسكة فالاختيار له في هذا الزمان اعتزال الناس، ومفارقة عوامهم؛ فإن السلامة في مجانبتهم، والراحة في التباعد منهم.ص15 _ 16(2/6)
2_ ولسنا نريد _ رحمك الله _ بهذه العزلة التي تختارها مفارقة الناس في الجماعات والجمعات، وترك حقوقهم في العبادات، وإفشاء السلام، ورد التحيات، وما جرى مجراها من وظائف الحقوق الواجبة لهم، ووضائع السنن والعادات المستحسنة فيما بينهم؛ فإنها مستثناة بشرائطها، جارية على سبلها، ما لم يحل دونها حائل شغل، ولا يمنع عنها مانع عذر، إنما نريد بالعزلة ترك فضول الصحبة، ونبذ الزيادة منها، وحط العلاوة التي لا حاجة بك إليها؛ فإن من جرى في صحبة الناس، والاستكثار من معرفتهم، على ما يدعو إليه شغف النفوس وإلف العادات، وترك الاقتصاد فيها، والاقتصار الذي تدعوه الحاجة إليه _ كان جديراً ألا يحمد غِبَّه، وأن يستوخم عاقبته، وكان سبيله في ذلك سبيل من يتناول الطعام في غير أوان جوعه، ويأخذ منه فوق قدر حاجته؛ فإن ذلك لا يلبث أن يقع في أمراض مدنفة، وأسقام متلفة، وليس من علم كمن جهل، ولا من جرب وامتحن كمن ماد وخاطر.ص16
3_ قال الشيخ أبو سليمان: وكان ابن عمر من أشد الصحابة حذراً من الوقوع في الفتن، وأكثرهم تحذيراً للناس من الدخول فيها، وبقي إلى أيام فتنة ابن الزبير، فلم يقاتل معه، ولم يدافع عنه، إلا أنه كان يشهد الصلاة معه، فإذا فاتته صلاها مع الحجاج، وكان يقول: إذا دعونا إلى الله أجبناهم، وإذا دعونا إلى الشيطان تركناهم.ص26
4_ لا يستوحش مع الله من عمر قلبه بحبه، وأنس بذكره، وألف مناجاته بسره، وشغل به عن غيره، فهو مستأنس بالوحدة، مغتبط بالخلوة.ص28 _ 29
5_ قال بعض الحكماء: إنما يستوحش الإنسان بالوحدة؛ لخلاء ذاته، وعدم الفضيلة من نفسه؛ فيكثر حينئذ بملاقاة الناس، ويطرد الوحشة عن نفسه بالكون معهم، فإذا كانت ذاته فاضلة طلب الوحدة؛ ليستعين بها على الفكرة، ويتفرغ لاستخراج الحكمة.ص29(2/7)
6_ أخبرنا أبو سليمان قال: أخبرنا إسماعيل بن أسد قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: بلغني عن الحسن×أنه كان يقول: كلمات أحفظهن من التوراة: قنع ابن آدم فاستغنى، اعتزل الناس فسلم، ترك الشهوات فصار حراً، ترك الحسد فظهرت مروءته، صبر قليلاً فتمتع طويلاً.ص30
7_ أخبرنا أبو سليمان قال: أخبرني المطهر بن عبدالله قال: حدثني أبو الحسن محمد بن العباس النحوي قال: كتب إلي ابن لمجة يستزيرني، فكتبت إليه:
أنست نفسي بنفسي ... فهي في الوحدة أنسي
وإذا آنست غيري ... فأحق الناس نفسي
فسد الناس فأضحى ... جنسهم من شر جنس
فلزمت البيت إلا ... عند تَأْدِيْتِيْ لخمسي
ص32 _ 33
8_ أخبرنا أبو سليمان قال: أخبرني محمد بن أحمد بن سليمان قال: حدثنا ابن شبيب قال: حدثنا إبراهيم بن محمد النحوي قال: حدثنا الرياشي قال: حدثنا الأصمعي قال: سألني الرشيد عن أعراب البادية، وعن أخبارها، فحدثته: أني كنت في مكان يقال له الطخفة، وهي قرية لبني كلاب، رأيت فيها أعرابياً في عنقه طوقٌ ملتوٍ من فضة، وبيده زكرة(1) ومعه قدح نبع(2) فتتبعت أثره فجاء إلى جذم حائط(3) فجمع رميلة ثم اتكأ عليها، وجعل يصب من شكوته نباذة له في قدح النبع ويشربه، ويرجز عليه، فسلمت عليه ووقفت عنده فقال: إن فيه(4) خلالاً ثلاثاً إن سمع مني حديثاً لم ينمه علي، وإن تفلت في وجهه احتمل، وإن عربدت عليه لم يغضب، قال الأصمعي: فقال الرشيد: زهدتني في الندماء.ص33
__________
(1) _ زكرة: وعاء من جلد يوضع فيه الخمر ونحوه.
(2) _ نبع: شجر مخصوص يتخذ منه القسي.
(3) _ جذم الشيء: أصله أو بقيته، والحائط: البستان.
(4) _ الضمير يعود على الشجر الذي في البستان.(2/8)
9_ قال أبو سليمان: أما ما شجر بين الصحابة من الأمور، وحدث في زمانهم من اختلاف الآراء _ فإنه من باب كلما قل التسرع فيه، والبحث عنه كان أولى بنا وأسلم لنا، ومما يجب علينا أن تعتقد في أمرهم أنهم كانوا أئمة علماء قد اجتهدوا في طلب الحق، وتحروا وجهته، وتوخوا قصده؛ فالمصيب منهم مأجور، والمخطئ معذور، وقد تعلق كل منهم بحجة، وفزع إلى عذر، والمقايسة عليهم، والمباحثة عنهم اقتحام فيما لا يعنينا، والله _ تعالى _ يغفر لنا ولهم برحمته.
وليس التهاجر منهم، والتصارم بأكثر من التقاتل في الحروب، والتواجه بالسيوف، ولا أعجب من التباهل فيما شجر بينهم من الاختلاف والتنازع في التأويل، وكل منهم في ذلك مأجور على قدر اجتهاده في طلب الحق، وحسن نيته، والله يغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ونسأله أن لا يجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا إنه رؤوف رحيم.
فأما من بعد الصحابة من التابعين، ومن وراءهم من طبقات المتأخرين _ فلنا مناظرتهم في مذاهبهم، وموافقتهم عليها، والكشف عن حججهم، والقول بترجيح بعضها على بعض، وإظهار الحق من أقاويلهم؛ ليقتدى بهم، والتنبيه على الخطأ منهم؛ لينتهى عنه. ص36 _ 37
10_ أخبرنا أبو سليمان قال: أخبرني إسماعيل بن محمد قال: سمعت ابن إبراهيم يقول: لو لم يكن في العزلة أكثر من أنك لا تجد أعواناً على الغيبة لكفى.(2/9)
قال أبو سليمان: صدق أبو محمد×فإنه ما من أحد جالس الناس في هذا الزمان وعاشرهم إلا قلت سلامته من الغيبة؛ فإن من شأنهم اليوم أن يقع بعضهم في بعض، وأن يشبع بعضهم بعضاً، وأن يتمضمضوا بذكر الأعراض، ويتفكهوا بها، ويتنقلوا بحلاوتها، فإما أن يساعدهم جليسهم على إثم وترك مروءة، وإما أن يخالفهم عن قلى وشنآن؛ فمجالستهم داء يعدي يضر ولا يجدي، قال: ولو لم يكن في العزلة إلا السلامة من آفة الرياء، والتصنع للناس، وما يدفع إليه الإنسان إذا كان فيهم من استعمال المداهنة معهم، وخداع المواربة في رضاهم _ لكان في ذلك ما يرغب في العزلة ويحرك إليها.ص41
11_ قال أبو سليمان: ومن مناقب العزلةِ السلامةُ من آفات النظر إلى زينة الدنيا وزهرتها، والاستحسان لما ذمه الله _ تعالى _ من زخرفها، وعابه من زِبْرِج غرورها، وفيها منع النفس من التطلع إليها والاستشراف لها، ومن محاكاة أهلها، ومنافستهم عليها، قال الله _ تعالى _ : [وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ] طه:131، ص42 _ 43
12_ قال: ومن مناقب العزلة أنها خالعة عنك ربقة ذل الآمال، وقاطعة رق الأطماع، ومعيدة عز اليأس عن الناس؛ فإن من صحبهم وكان فيهم ومعهم لم يكد يخلو من أن يحدث نفسه بنوع من الطمع فيهم؛ إما في مال، أو جاه، والطمع فقر حاضر، وذل صاغر.ص44
13_ قال أبو سليمان: وفي العزلة السلامة من التبذل لعوام الناس، وحواشيهم، والتصون عن ذلة الامتهان منهم، وأمان الملال عند الصديق، واستحداث الطراءة عند اللقاء؛ فإن كل موجود مملول، وكل ممنوع مطلوب.ص52(2/10)
14_ وفي العزلة أنها تستر الفاقة، وتكثف جلباب التحمل، فلا يظهر على عورة إن كانت وراءه تسوء صديقاً، أو تشمت عدواً؛ فإن التجمل من شيم الأحرار، وشمائل ذوي الهمم والأخطار، وقد وصف الله _ تعالى _ به الأبرار من عباده فقال _ تعالى ذكره _: [يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ]
البقرة: من الآية273، ص52
15_ وفي العزلة أنها معينة لمن أراد نظراً في علم، أو إثارة لدفين رأي، أو استنباطاً لحكمة؛ لأن شيئاً منها لا يجيء إلا مع خلاءِ الذرع، وفراغِ القلب، ومخالطةُ الناسِ ملغاةٌ ومشغلة.ص53
16_ أخبرنا أبو سليمان قال: حدثنا ابن الأعرابي قال: حدثنا أحمد بن عمر القطواني قال: حدثنا عمرو بن مرزوق قال: حدثنا زائدة عن الأعمش، عن مسلم بن صبيح، عن مسروق قال: المرء حقيق أن تكون له مجالس يخلو فيها؛ فيذكر ذنوبه، ويستغفر منها.
قال: وفي العزلة السلامة من صحبة الثقيل، ومؤونة النظر إليه؛ فإن ذلك هو العمى الأصغر.ص54
17_ قيل للأعمش: ممَّ عمشت عيناك؟ قال: من النظر إلى الثقلاء.ص54
18_ وقال الأعمش: قال جالينوس: لكل شيء حمَّى، وحمَّى الروح النظر إلى الثقيل.ص54
19_ قال أبو سليمان: وأنشدني ابن الزيبقي قال: أنشدنا الكديمي قال: أنشدني الأصمعي لأعرابي:
لقد زاد الحياة إلي حباً ... بناتي إنهن من الضعاف
مخافة أن يذقن الفقر بعدي ... وأن يشربن رنقاً بعد صافي
وأن يعرين إن كُسِي الجواري ... فتنبو العين عن كرم عجاف
ص58
20_ قال أبو سليمان: قوله =المرء على دين خليله+ معناه: أن لا تخالل إلا من رضيت دينه وأمانته؛ فإنك إذا خاللته قادك إلى دينه ومذهبه، ولا تُغَرِّر بدينك، ولا تخاطر بنفسك، فَتُخالِلَ من ليس مرضياً في دينه ومذهبه.
قال سفيان بن عيينة: وقد رُوي في هذا الحديث =انظروا إلى فرعون معه هامان، انظروا إلى الحجاج معه يزيد بن أبي مسلم شر منه، انظروا إلى سليمان بن عبدالملك صحبه رجاء بن حيوة؛ فقومه وسدده+.(2/11)
ويقال: إن الخلة مأخوذة من تخلل المودة القلب، وتمكنها منه، وهي أعلى درج الإخاء؛ وذلك أن الناس في الأصل أجانب، فإذا تعارفوا ائتلفوا، فهم أَوُدَّاء، وإذا تشاكلوا فهم أحباء، فإذا تأكدت المحبة صارت خلة.ص71 _ 72
21_ أخبرنا أبو سليمان قال: أخبرنا محمد بن مكي قال: حدثنا الصائغ قال: حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا ابن المبارك، عن حيوة بن شريح، عن سالم بن غيلان، عن الوليد بن قيس، عن أبي سعيد الخدري عن النبي" قال: =لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي+.
قال أبو سليمان: قوله"لا يأكل طعامك إلا تقي إنما أراد به طعام الدعوة دون طعام الحاجة؛ ألا تراه يقول _ تعالى ذكره _ : [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً] الإنسان:8.
ومعلوم أن أسراهم الكفار دون المؤمنين ودون الأتقياء من المسلمين، وإنما وجْهُ الحديث ومعناه: لا تَدْعُ إلى مؤاكلتك إلا الأتقياء؛ لأن المؤاكلة توجب الألفة، وتجمع بين القلوب.ص72
22_ أخبرنا أبو سليمان قال: حدثنا الكراني قال: حدثني ابن شبيب قال: حدثني المنقري، عن الأصمعي قال: قال أعرابي: عداوة الحليم أقل ضرراً عليك من مودة الجاهل.
وفي هذا لبعض الشعراء:
ولأن يعادي عاقلاً خيرٌ له ... من أن يكون له صديقٌ أحمق
فارغب بنفسك أن تصادق جاهلاً
... إن الصديق على الصديق مصدق
ص75
23_ أخبرنا أبو سليمان قال: أخبرني ابن أبي الدق قال: حدثنا محمد ابن المنذر قال: حدثنا محمد بن إدريس قال: حدثني عبدالرحمن بن أبي عطية الحمصي، عن الحطاب بن المعلى المخزومي أنه وعظ ابنه فقال: إياك وإخوان السوء؛ فإنهم يخونون من رافقهم، ويخرفون من صادقهم، وقُرْبُهم أعدى من الجرب، ورَفْضُهم من استكمال الأدب، والمرء يُعرف بقرينه.
قال: والأخوان اثنان؛ فمحافظ عليك عند البلاء، وصديق لك في الرخاء؛ فاحفظ صديق البلية وتجنب صديق العافية؛ فإنهم أعدى الأعداء.
وفي هذا قول الشاعر:(2/12)
وكل خليل بالهوينا ملاطف ... ولكنما الإخوان عند النوائب
ص75 _ 76
24_ أخبرنا أبو سليمان قال: حدثنا ابن الزيبق قال: حدثنا موسى بن زكريا التُّسْتَري قال: حدثنا أبو حاتم قال: حدثنا العتبي قال: كنا عند سفيان بن عيينة فتلا هذه الآية: [وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ] الأنعام: من الآية38.
وقال: ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من شبه البهائم؛ فمنهم من يهتصر اهتصار الأسد، ومنهم من يعدو عدو الذئب، ومنهم من ينبح نباح الكلب، ومنهم من يتطوس كفعل الطاووس، ومنهم من يشبه الخنازير التي لو ألقي لها الطعام الطيب عافته فإذا قام الرجل عن رجيعه ولغت فيه، فكذلك تجد من الآدميين من لو سمع خمسين حكمة لم يحفظ واحدة منها، وإن أخطأ رجل عن نفسه، أو حكا خطأ غيره تروَّاه وحفظه.
قال أبو سليمان: ما أحسن ما تأول أبو محمد _ رحمة الله عليه _ هذه الآية، واستنبط منها هذه الحكمة؛ وذلك أن الكلام إذا لم يكن حكمه مطاوعاً لظاهره وجب المصير إلى باطنه، وقد أخبر الله _ تعالى _ عن وجود المماثلة بيننا وبين كل دابة وطائر، وكان ذلك ممتنعاً من جهة الخلقة والصورة، وعدماً من جهة النطق والمعرفة، فوجب أن يكون مصرفاً إلى المماثلة في الطباع والأخلاق، وإذا كان الأمر كذلك فاعلم _ يا أخي _ أنك إنما تعاشر البهائم والسباع؛ فليكن حذرك منهم ومباعدتك إياهم على حسب ذلك. ص84(2/13)
25_ قال أبو سليمان: وسأفيدك فائدة _ يا أخي _ يجل نفعها؛ ويعظم عائدتُها، وما أقولها إلا عن ودٍّ لك، وشفقة عليك؛ فإن البلوى في معاشرة أهل زمانك عظيمة؛ فاستعن بها على ما يلقاك من أذاهم؛ فإنك لا تخلو من قليله وإن سلمت من كثيره، وذلك أنك قد ترى الواحد بعد الواحد منهم يتكالب على الناس، ويتسفَّه على أعراضهم، وينبح فيها نباح الكلب، فيهمك من شأنه ما يهمك، ويسوؤك منه ما يسوؤك أن لا يكون رجلاً فاضلاً يرجى خيره ويؤمن شره؛ فيطول في أمره فكرك، ويدوم به شغل قلبك؛ فأزح هذا العارض عن نفسك؛ بأن تعده على الحقيقة كلباً خِلْقَةً، وزد به في عدد الكلاب واحداً، ولعلك قد مررت مرة من المرار بكلب من الكلاب ينبح ويعوي، وربما كان _أيضاً_ قد يساور ويعض فلم تحدث نفسك في أمره بأن يعود إنساناً ينطق ويسبح؛ فلا تتأسف له ألا يكون دابة تركب، أو شاة تحلب، فاجعل أيضاً هذا المتكلب كلباً مثله واسترح من شغله، واربح مؤونة الفكر فيه، وكذلك فليكن عندك منزلة من جهل حقك وكفر معروفك؛ فاحسبه حماراً، أو زد به في عدد العانة(1) واحداً، فبمثل هذا تخلص من آفة هذا الباب وغائلته، والله المستعان.ص8 _87
26_ أخبرنا أبو سليمان قال: حدثني محمد بن منصور قال: حدثنا شكر قال: حدثنا أحمد بن بكر بن سيف المروزي قال: قال: حدثنا محمد بن الحسين، عن أبي زكريا، قال: كان أعرابي بالكوفة وكان له صديق، فكان يظهر له مودة ونصيحة، فاتخذه الأعرابي من عدده للنوائب، فأتاه فوجده بعيداً مما كان يظهر له، فأنشأ يقول:
إذا كان ود المرء ليس بزائد
ولم يك إلا كاشراً أو محدثاً
لسانك معسولٌ ونفسك بشةٌ
فأنت إذا همَّت يمينُكَ مرة ... على مرحباً أو كيف أنت وحالكا
فَأُفٍّ لِودٍّ ليس إلا كذلكا
وعند الثريا من صديقك مالُكا
لتفعل خيراً قابلتها شمالكا
ص94
27_ قال وأنشدني عبدالعزيز بن عبدالله لمحمد بن حازم:
__________
(1) _ يقصد بالعانة: الحمير.(2/14)
وإن من الإخوان إخوانَ كشرةٍ ... وإخوانُ حياك الإلهُ ومرحبا
وإخوانَ كيف الحالُ والأهلُ كلُّه ... وذلك لا يَسْوي نقيراً مترَّبا
جواداً إذا استغنيت عنه بماله ... يقول إلي القرضَ والقرضَ فاطلبا
فإن أنت حاولت الذي خلف ظهره ... وجدت الثريا منه في البعد أقربا
ص94 _ 95
28_ قال أبو سليمان: حدثنا إبراهيم بن فراس، حدثنا أحمد بن علي بن سهل قال: حدثنا العباس بن الحسين قال: أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة _ رضي الله عنها _ أنها كانت تتمثل بهذين البيتين:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خَلْف كجلد الأجرب
يتحدثون مخانة وملاذة ... ويعاب قائلهم وإن لم يشغب
قال أبو معاوية: قالت عائشة _ رضي الله عنها _ : ويح لبيد لو أدرك هذا الزمان.
قال عروة: وكيف لو عاشت عائشة _ رضي الله عنها _ إلى هذا الزمان.
قال هشام: فكيف لو بقي عروة إلى هذا الزمان.
وقال أبو معاوية: فكيف لو بقي هشام إلى هذا الزمان.
وقال العباس بن الحسين: نحو ذلك.
وقال أحمد بن علي: وقال ابن فراس مثله.ص103
29_ أ خبرنا أبو سليمان قال: أخبرني محمد بن الحسين بن عاصم قال: أخبرني محمد ابن الربيع بن سليمان، وابن حوصا قالا: سمعنا يونس ابن عبدالأعلى يقول: قال لي الشافعي _ رحمة الله عليه _ : يا أبا موسى رضاء الناس غاية لا تدرك، ليس إلى السلامة من الناس سبيل؛ فانظر ما فيه صلاح نفسك؛ فالزمه، ودع الناس وما هم فيه.ص 113
30_ قال أبو سليمان وأنشدني ابن مالك قال: أنشدني الدغولي في سياسة العامة:
إذا أمن الجهالُ جَهْلَكَ مرةً ... فَعِرْضُك للجهال غنم من الغُنْم
وإن أنت نازيت السفيهَ إذا نزا ... فأنت سفيهٌ مثلُه غيرُ ذي حلم
ولا تتعرض للسفيه ودارِه ... بمنزلة بين العداوة والسلم
فيخشاك تاراتٍ ويرجوك مرةً ... وتأخذ فيما بين ذلك بالحزم
ص119(2/15)
31_ قال أبو سليمان: وبلغني عن سفيان الثوري أنه قال: من ترأس في حداثته كان أدنى عقوبته أن يفوته حظ كبير من العلم.ص122
32_ أنشدنا أبو سليمان قال: أنشدني سهل بن إسماعيل قال: أنشدنا منصور بن إسماعيل لنفسه:
الكلب أكرمُ عشرةً
... وهو النهاية في الخساسةْ
ممن ينازع في الريا ... سة قبل أوقات الرياسةْ
ص122
33_ أخبرنا أبو سليمان قال: أخبرني أبو عمر الحيري قال: حدثنا مسلم ابن إبراهيم قال: حدثنا الحسن بن أبي جعفر قال: سمعت مالك بن دينار يقول: أجيز شهادة القراء في كل شيء إلا بعضهم على بعض؛ وجدتهم أشد تحاسداً من التيوس، توثق الشاة فيرسل عليها التيس، فيهب هذا، ويهب هذا.ص129
34_ قال أبو سليمان: إن من عادة الفتيان(1) ومن أخذ بأخذهم بشاشةَ الوجه، وسجاحةَ الخلق، ولين العريكة.
ومن شيمة الأكثرين من القراء الكزازة، وسوء الخلق، فمن انتقل من الفتوة إلى القراءة كان جديراً أن يتباقى معه تلك الذوقة والهشاشة، ومن تَقرَّأَ في صباه لم يخلُ من جفوة أو غلظة.
وقد يتوجه قول سفيان إلى وجه آخر؛ وهو إنه إذا انتقل من الفتوة إلى القراءة كان معه الأسف على ما مضى والندم على ما فرط منه، فكان أقرب له إلى أن لا يعجب بعمل صالح يكون منه، وإذا كان عارفاً بالشر كان أشد لحذره، وأبعد من الوقوع فيه. ص130
35_ أخبرنا أبو سليمان قال: حدثنا ابن الأعرابي قال: حدثنا أحمد بن زيد القزاز قال: حدثنا حسين المروزي قال: حدثنا ابن المبارك، عن سفيان قال: قال: أبو حازم: إن الرجل ليعمل السيئة إن عمل حسنة قط أنفع له منها، وإنه ليعمل الحسنة إن عمل سيئة قط أضر عليه منها.
قال أبو سليمان: قال ابن الأعرابي: معناه: أن يعمل الذنب فلا يزال منه مشفقاً حذراً أن يعاوده؛ فينفعه ذلك، ويعمل الحسنة؛ فيحتسب بها على ربه_تعالى_ ويعجب بها، ويتكل عليها، فتهلكه.ص130
__________
(1) _ يعني بالفتيان: جمع فتى من الفتوَّة وهو من يتصف بالشهامة، والمروءة، ومكارم الأخلاق.(2/16)
36_ فالعزلة إنما تنفع العلماء العقلاء، وهي من أضر شيء على الجهال.ص132
37_ قال: أنشدني بعض أهل العلم:
بذنوبنا دامت بليتنا ... والله يكشفها إذا تبنا
ص139
38_ وأنشدنا أبو سليمان:
تسامحْ ولا تستوفِ حقَّك كلَّه ... وأبقِ فلم يستوفِ قَطُّ كريمُ
ولا تغلُ في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم
ص141
39_ أخبرنا أبو سليمان قال: أخبرنا محمد بن هاشم قال: حدثنا الدبري عن عبدالرزاق قال: أخبرنا بشر بن رافع قال: أخبرني شيخ من أهل صنعاء يقال له أبو عبدالله قال: سمعت وهب بن منبه يقول: إني وجدت في حكمة آل داود: حق على العالم أن لا يُشْغَلَ عن أربع ساعات: ساعةٍ يناجي فيها ربه، وساعةٍ يحاسب فيها نفسه، وساعةٍ يفضي فيها إلى إخوانه الذين يَصْدُقونه عيوبه وينصحونه في نفسه، وساعةٍ يخلو فيها بين نفسه وبين لذاتها مما يحل ويجمل؛ فإن هذه الساعة عون لهذه الساعات، واستجمام للقلوب، وفصل، وبُلغة.
وعلى العاقل أن يكون عارفاً بزمانه، ممسكاً للسانه، مقبلاً على شأنه.ص142
40_ أخبرنا أبو سليمان قال: حدثنا الخلدي قال: حدثنا موسى بن هارون قال: حدثنا هدبة بن خالد قال: حدثنا حزم القطعي قال: سمعت الحسن يقول: يقولون المداراة نصف العقل، وأنا أقول هو العقل كله. ص142
_ =نبذة عن المؤلف+:
هو أحمد بن محمد بن يعقوب بن مسكويه.
أصله من الري، وسكن أصفهان، وتوفي بها عام 421 هـ.
اشتهر بـ: الخازن؛ لأنه كان أميناً على خزانة كتب ابن العميد، ثم عضد الدولة بن بويه، ألف كتباً كثيرة، منها: تجارب الأمم، وطهارة النفس، وآداب العرب والفرس، وغيرها من الكتب.
_ =تعريف بالكتاب+:
هذا الكتاب _ كما هو واضح من عنوانه _ يدور حول الدعوة إلى مكارم الأخلاق، والتحذير من مساوئها، ويشتمل على كثير من الضوابط والتقييدات التي تحد كثيراً من معالم الأخلاق، وتميزها عن غيرها.(2/17)
ولقد أفاد ممن سبقه، وأفاد منه كثير ممن جاء بعده كأبي حامد الغزالي وغيره ممن كتبوا في هذا المجال.
والكتاب مطبوع، ومتداول ومن أشهر طبعاته طبعة المطبعة المصرية، بتحقيق وشرح ابن الخطيب؛ وكذلك طبع ضمن منشورات دار مكتبة الحياة بيروت لبنان.
وقد أفدت من الطبعتين، أما العزو فهو إلى الأخيرة.
_ =النقولات المنتقاة+:
1_ قال أحمد بن مسكويه: غرضنا في هذا الكتاب أن نحصل لأنفسنا خلقاً تصدر به عنا الأفعال كلها جميلة، وتكون مع ذلك سهلة علينا، لا كلفة فيها، ولا مشقة، ويكون ذلك بصناعة، وعلى ترتيب تعلمي.
والطريق في ذلك أن نعرف أولاً نفوسنا ما هي، وأي شيء هي، ولأي شيء أوجدت فينا؟ أعني: كمالها، وغاياتها، وما قواها، وملكاتها التي إذا استعملناها على ما ينبغي بلغنا بها هذه الرتبة العلية.
وما الأشياء العائقة لنا عنها، وما الذي يزكيها فتفلح، وما الذي يدسيها فتخيب؟ فإنه _ عز من قائل _ يقول: [وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)]
الشمس: 7 _ 10. ص5 _ 6
2_ أما الذكاء: فهو سرعة انقداح النتائج، وسهولتها على النفس.ص23
3_ وأما الذكر: فهو ثبات صورة ما يخلصه العقل، أو الوهم من الأمور.ص23
4_ وأما التعقل: فهو موافقة بحث النفس عن الأشياء الموضوعة بقدر ما هي عليه.ص23
5_ وأما صفاء الذهن: فهو استعداد النفس للاستخراج المطلوب.ص23
6_ وأما جودة الذهن وقوته: فهو تأمل النفس لما قد لزم من المقدم.ص23
7_ وأما سهولة التعلم: فهي قوة للنفس، وحِدَّة في الفهم، بها تدرك الأمور النظرية.ص23 _ 24
8_ أما الحياء: فهو انحصار النفس؛ خوف إتيان القبائح، والحذر من الذم والسب الصادق.ص24
9_ أما الصبر: فهو مقاومة النفس الهوى؛ لئلا تنقاد لقبائح اللذات.ص24(2/18)
10_ وأما السخاء: فهو التوسط في الإعطاء: وهو أن ينفق الأموال فيما ينبغي، على مقدار ما ينبغي، وعلى ما ينبغي، وتحت السخاء_خاصة_أنواع كثيرة نحصيها فيما بعد، لكثرة الحاجة إليها.ص24
11_ وأما الحرية فهي فضيلة للنفس، بها يكتسب المال من وجهه، ويعطى في وجهه، ويمتنع من اكتساب المال من غير وجهه.ص24
12_ وأما القناعة: فهي التساهل في المآكل والمشارب والزينة.ص24
13_ وأما الدماثة: فهي حسن انقياد النفس لما يجمل، وتَسَرُّعها إلى الجميل.ص24
14_ وأما الانتظام: فهو حال للنفس تقودها إلى حسن تقدير الأمور، وترتيبها كما ينبغي.ص24
15_ وأما حسن الهدي: فهو محبة تكميل النفس بالزينة الحسنة.ص24
16_ وأما المسالمة: فهي موادعة تحصل للنفس عن ملكة لا اضطرار فيها. ص24
17_ وأما الوقار: فهو سكون النفس، وثباتها عند الحركات التي تكون في المطالب.ص24
18_ وأما الورع: فهو لزوم الأعمال الجميلة التي فيها كمال النفس.ص24
19_ أما كبر النفس: فهو الاستهانة باليسير، والاقتدار على حمل الكرائه والهوان، فصاحبه أبداً يؤهل نفسه للأمور العظام مع استخفافه لها.ص25
20_ وأما النجدة: فهي ثقة النفس عند المخاوف حتى لا يخامرها جزع.ص25
21_ وأما عظم الهمة: فهي فضيلة للنفس، تحتمل بها سعادة الجد، وصدها(1)حتى الشدائد التي تكون عند الموت.ص25
22_ وأما الثبات: فهو فضيلة للنفس تقوى بها على احتمال الآلام، ومقاومتها، وفي الأهوال خاصة.ص25
23_ وأما الحلم: فهو فضيلة للنفس تكسبها الطمأنينة، فلا تكون شَغِبَةً، ولا يحركها الغضب بسهولة وسرعة.ص25
24_ وأما السكون: _ الذي نعني به عدم الطيش _ فهو إما عند الخصومات، وإما في الحروب التي يذب بها عن الحريم، أو عن الشريعة، وهي قوة للنفس تُفَسَّر حركتها في هذه الأحوال لشدتها.ص25
25_ وأما الشهامة: فهي الحرص على الأعمال العظام؛ توقعاً للأحدوثة الجميلة. ص25
__________
(1) _ هكذا في الأصل ولعلها: ضدها.(2/19)
26_ وأما المواساة: فهي معاونة الأصدقاء والمستحقين، ومشاركتهم في الأموال والأقوات.ص26
27_ وأما السماحة: فهي بذل بعض ما لا يجب.ص26
28_ وأما المسامحة: فهي ترك بعض ما يجب، والجميع يكون بالإرادة والاختيار.ص26
29_ أما الحكمة: فهي وسط بين السفه والبله، وأعني بالسفه ههنا: استعمال القوة الفكرية فيما لا ينبغي، وكما لا ينبغي، وسماه القوم: الجربزة، وأعني بالبله، تعطيل هذه القوة واطراحها.
وليس ينبغي أن يفهم أن البله ههنا: نقصان الخلقة، بل ما ذكرته من تعطيل القوة الفكرية بالإرادة.ص31
30_ وأما الذكاء: فهو وسط بين الخبث والبلادة، فإن أحد طرفي كل وسط إفراط، والآخر تفريط، أعني: الزيادة عليه والنقصان منه.
فالخبث والدهاء والحيل الرديئة هي كلها إلى جانب الزيادة فيما ينبغي أن يكون الذكاء فيه.
وأما البلادة والبله والعجز عن إدراك المعارف فهي كلها إلى جانب النقصان من الذكاء.ص31
31_ وأما الذكر: فهو وسط بين النسيان: الذي يكون بإهمال ما ينبغي أن يحفظ، وبين العناية بما لا ينبغي أن يحفظ.
وأما التعقل: وهو حسن التصور _ فهو وسط بين الذهاب بالنظر في الشيء الموضوع إلى أكثر مما هو عليه وبين القصور بالنظر فيه عما هو عليه.ص31
32_ وأما سرعة الفهم: فهو وسط بين اختطاف خيال الشيء من غير إحكام لفهمه وبين الإبطاء عن فهم حقيقته.
وأما صفاء الذهن: فهو بين ظلمة النفس عن استخراج المطلوب وبين التهاب يعرض فيها فيمنعها من استخراج المطلوب.ص31 _ 32
33_ وأما جودة الذهن وقوته: فهو وسط بين الإفراط في التأمل لما لزم من المقدم حتى يخرج منه إلى غيره، وبين التفريط فيه حتى يقصر عنه.
وأما سهولة التعلم: فهو وسط بين المبادرة إليه بسلاسة لا تثبت معها صورة العلم وبين التصعب عليه وتعذره.ص32(2/20)
34_ وأما العفة: فهي وسط بين رذيلتين: وهما الشره، وخمود الشهوة، وأعني بالشره الانهماك في اللذات، والخروج فيها عما ينبغي، وأعني بخمود الشهوة: السكون عن الحركة التي تسلك نحو اللذة الجميلة التي يحتاج إليها البدن في ضروراته، وهي ما رخص فيه صاحب الشريعة.ص33
35_ الحياء: وسط بين رذيلتين: إحداهما الوقاحة: والأخرى الخُرْق.ص33
36_ وأما الشجاعة: فهي وسط بين رذيلتين: إحداهما الجبن، والأخرى التهور.ص33
37_ وأما الجبن: فهو الخوف مما لا ينبغي أن يخاف منه.ص33
38_ وأما السخاء: فهو وسط بين رذيلتين: إحداهما السرف والتبذير، والأخرى البخل والتقتير.ص33
39_ أما التبذير: فهو بذل ما لا ينبغي لمن لا يستحق، وأما التقتير فهو منع ما ينبغي عمن يستحق.ص33
40_ الخلق: حال للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا روية.ص36
41_ وإذا كانت القوى ثلاثاً كما قلنا مراراً، فأدونها النفس البهيمية، وأوسطها النفس السبعية، وأشرفها النفس الناطقة.
والإنسان إنما صار إنساناً بأفضل هذه النفوس _ أعني الناطقة _ وبها شارك الملائكة، وبها باين البهائم.
فأشرف الناس من كان حظه من هذه النفس أكثر، وانصرافه إليها أتم وأوفر، ومن غلبت عليه إحدى النفسين الأخريين انحط عن مرتبة الإنسانية، بحسب غلبة تلك النفس عليه، فانظر _ رحمك الله _ أين تضع نفسك، وأين تحب أن تنزل من المنازل التي رتبها الله _ تعالى _ للموجودات؛ فإن هذا أمر موكول إليك، ومردود إلى اختيارك؛ فإن شئت فانزل في منازل البهائم؛ فإنك تكون منهم، وإن شئت فانزل في منازل السباع، وإن شئت فانزل في منازل الملائكة، وكن منهم. ص49
_ =نبذة عن المؤلف+:
هو أبو الوليد سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التجيبي الأندلسي الباجي.
ولد في ذي الحجة سنة 403هـ حسبما وجد بخط أمه وكانت فقيهة.(2/21)
نشأ في وسط أسرة عريقة، مشهورة بالعلم والدين؛ فطلب العلم منذ نعومة أظفاره، وتنقل في سبيل ذلك بين عدد من المدن الأندلسية متردداً على شيوخها المبرزين.
رحل عن الأندلس سنة 426 إلى مصر والحجاز، والعراق، والشام ثم عاد سنة439 إلى الأندلس بعلم غزير، وكتب جمة أحضرها معه.
ولي قضاء أريولة، وكان يتكسب من عمل يده يضرب ورق الذهب للغزل، وعقد الوثائق والشروط.
حظي بالثناء العاطر من أهل العلم، وله منزلة رفيعة في وقته وبعد وفاته.
خلف آثاراً عظيمة من أشهرها: المنتقى شرح الموطأ، والتعديل والتجريح لمن خرج عنه البخاري في الجامع الصحيح، وإحكام الفصول، والإشارات في الأصول وغيرها.
توفي×في التاسع عشر من رجب عام أربع وسبعين وأربعمائة، وصلى عليه ابنه أبو القاسم.
_ =تعريف بالكتاب+:
الكتاب _ كما هو ظاهر من عنوانه _ وصية من المؤلف لولديه، حيث كتبها لهما؛ رجاء أن تقر عينه بهما، فيسيرا في خطى أهل العلم والفضل والصلاح، ويتجنبا طريق الغي والفساد.
وهي وصية جامعة نافعة أودعها كاتبها جملة من الوصايا التي تحث على الخير، ومكارم الأخلاق التي يجمل بالمرء أن يتحلى بها.
كما أنها اشتملت على كثير من أصول المعاملة التي ينبغي مراعاتها حال التعامل مع الآخرين.
وهذه الوصايا نابعة من حرصه على ولديه، كما أنها حصيلة تجربة طويلة في دروب الحياة، ودراية واسعة بمقاصد الشريعة.
وهي _ وإن كانت موجهة من الباجي لولديه _ فهي نموذج رائع لما ينبغي أن تكون عليه وصية كل مسلم لأبنائه؛ إذ هي جمعت حق الله، وحق الناس.
هذا وإن هذه الوصية تقع في 56 صفحة، ومن منشورات اضواء السلف، وقد قدم لها وحققها عبداللطيف بن محمد الجيلاني.
_ =النقولات المنتقاة+: قال×:(2/22)
1_ والْعِلْمُ سبيل لا تفضي بصاحبها إِلاَّ إلى السعادة والسلامة، ولا يَقْصُرُ به عن درجة الرِّفْعَةِ والكرامة، قَلِيلُهُ ينفع، وَكَثِيرُهُ يُعْلَي ويَرْفَع، كَنْزٌ يَزْكُو على كل حال، ويكثر مع الإنفاق، ولا يغصبه غاصب، ولا يُخاف عليه سارق ولا محارب؛ فاجتهدا في طلبه، واستعذبا التعب في حفظه، والسهر في درسه، والنصب الطويل في جمعه، وواظبا على تقييده وروايته، ثم انتقلا إلى فهمه ودرايته.
وانظرا أي حالةٍ من أحوال طبقات الناس تختاران، ومنزلةَ أيِّ صنف منهم تؤثران، هل تريان أحداً أرفع حالاً من العلماء؟ وأفضل منزلة من الفقهاء؟ يحتاج إليهم الرئيس والمرؤوس، ويقتدي بهم الوضيع والنفيس، يُرجع إلى أقوالهم في أمور الدنيا وأحكامها، وصحة عقودها وتبعاتها، وغير ذلك من تصرفاتها، وإليهم يلجأ في أمور الدين، وما يلزم من صلاة وزكاة وصيام، وحلال وحرام، ثم مع ذلك من التبعات والحظوة عند جميع الطبقات.ص32
2_ والعلم ولاية لا يُعْزل عنها صاحبها، ولا يَعْرَى من جمال لابسها، وكل ذي ولاية _ وإن جلت، وحرمت وإن عظمت _ إذا خرج عن ولايته، أو زال عن بلدته، أصبح من جاهه عارياً، ومن حاله عاطلاً، غير صاحب العلم؛ فإن جاهه يصحبه حيث سار، ويتقدمه إلى جميع الآفاق والأقطار، ويبقى بعده في سائر الأعصار.ص33
3_ وإياكما وقراءة شيء من المنطق وكلام الفلاسفة؛ فإن ذلك مبني على الكفر والإلحاد، والبعد عن الشريعة والإبعاد.
وإنما أحذركما من قراءتها ما لم تقرآ من كلام العلماء ما تقويان به على فهم فساده، وضعف شبهه، وقلة تحقيقه؛ مخافة أن يسبق إلى قلب أحدكما من شبه تمويههم مالا يكون عنده من العلم ما يقوى به على رده. ص34
4_ وعليكما بالأمر بالمعروف وكونا من أهله، وانهيا عن المنكر واجتنبا فعله.ص35(2/23)
5_ وعليكما بالصدق؛ فإنه زين، وإياكما والكذب؛ فإنه شين، ومن شهر بالصدق فهو ناطق محمود، ومن عرف بالكذب فهو ساكت مهجور مذموم، وأقل عقوبات الكذاب ألا يقبل صدقه ولا يتحقق حقه، وما وصف الله _ تعالى _ أحداً بالكذب إلا ذاماً له، ولا وصف الله _ تعالى _ أحداً بالصدق إلا مادحاً له، مرفِّعاً به.ص35
6_ وإياكما والعون على سفك دم بكلمة، أو المشاركة فيه بلفظة؛ فلا يزال الإنسان في فسحة من دينه ما لم يغمس يده أو لسانه في دم امرىء مسلم.ص36
7_ واجتناب الزنا من أخلاق الفضلاء، ومواقعته عار في الدنيا، وعذاب في الأخرى، قال الله _ تعالى _ [وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً] الإسراء 32.ص36
8_ وعليكما بطلب الحلال واجتناب الحرام، فإن عدمتما الحلال فالجآ إلى المتشابه.ص37
9_ وإياكما والظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، والظالم مذموم من الخالق مبغض إلى الخلائق.ص37
10_ وإياكما والنميمة؛ فإن أول من يمقت عليها من تنقل إليه، وقد روي عن النبي"أنه قال: =لا يدخل الجنة قتات+.ص38
11_ وإياكما والحسد؛ فإنه داء يهلك صاحبه، ويعطب تابعه.ص38
12_ وإياكما والفواحش؛ فإن الله تعالى حرم منها ما ظهر وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق.ص38
13_ وإياكما والغيبة؛ فإنها تحبط الحسنات، وتكثر السيئات، وتبعد من الخالق، وتبغض إلى المخلوق.ص38
14_ وإياكما والكبر؛ فإن صاحبه في مقت الله متقلب، وإلى سخطه منقلب.ص38
15_ وإياكما والبخل؛ فإنه لا داء أدوأ منه، لا تسلم عليه ديانة، ولا تتم معه سيادة.ص38
16_ وإياكما ومواقف الخزي، وكلما كرهتما أن يظهر عليكما فاجتنباه، وما علمتما أن الناس يعيبونه في الملأ فلا تأتياه في الخلاء.ص38
17_ وإياكما والرشوة؛ فإنها تعمي عين البصير، وتحط قدر الرفيع.ص39
18_ وإياكما والأغاني؛ فإن الغناء ينبت الفتنة في القلب، ويولد خواطر السوء في النفس.ص39(2/24)
19_ وليلتزم أكبركما لأخيه الإشفاق عليه، والمسارعة إلى كل ما يحبه، والمعاضدة فيما يؤثره، والمسامحة بكل ما يرغبه.ص41
20_ ويلتزم أصغرُكما لأخيه تقديمه عليه، وتعظيمه في كل أمر بالرجوع إلى مذهبه، والإتباع له في سره وجهره، وتصويب قوله وفعله، وإن أنكر منه في الملأ أمراً يريده، أو ظهر إليه خطأ فيما يقصده _ فلا يظهر إنكاره عليه، ولا يجهر في الملأ بتخطئته، وليبين له ذلك على انفراد منهما، ورفق من قولهما؛ فإن رجع إلى الحق وإلا فليتبعه على رأيه؛ فإن الذي يدخل عليكما من الفساد باختلافكما أعظم مما يحذر من الخطأ مع اتفاقكما ما لم يكن الخطأ في أمر الدين؛ فإن كان في أمر الدين فليتبع الحق حيث كان.ص41
21_ وليثابر على نصح أخيه وتسديده ما استطاع، ولا يُحِل يده عن تعظيمه وتوقيره.ص41 _ 42
22_ ولا يؤثر أحدكما على أخيه شيئاً من عرض الدنيا، فيخل بأخيه من أجله، أو يعرض عنه بسببه، أو ينافسه فيه.ص42
23_ ومن وُسِّع عليه منكما في دنياه فليشارك بها أخاه، ولا ينفرد بها دونه، وليحرص على تثمير مال أخيه كما يحرص على تثمير ماله.ص42
24_ وأظهرا التعاضد، والتواصل، والتعاطف، والتناصر حتى تعرفا به؛ فإن ذلك مما ترضيان به ربكما، وتغيظان به عدوكما.ص42
25_ وإياكما والتنافس، والتقاطع، والتدابر، والتحاسد، وطاعة النساء في ذلك؛ فإنه مما يفسد دينكما ودنياكما، ويضع من قدركما ويحط من مكانكما، ويحقر أمركما عند عدوكما، ويصغر شأنكما عند صديقكما.ص42
26_ ومن أسدى إلى أخيه معروفاً، أو مُكَارَمةً، أو مواصلة فلا ينتظر مقارضةً عليها، ولا يذكر ما أتى منها؛ فإن ذلك مما يوجب الضغائن، ويسبب التباغض، ويقبح المعروف، ويحقر الكبير، ويدل على المقت والفساد، ودناءة الهمة.ص42(2/25)
27_ وإن أحدكما زل وترك الأخذ بوصيتي في بر أخيه ومراعاته فليتلافَ الآخر ذلك بتمسكه بوصيتي، والصبر لأخيه والرفق به، وترك المقارضة له على جفوته، والمتابعة له على سوء معاملته؛ فإنه يحمد عاقبة صبره، ويفوز بالفضل في أمره، ويكون لما يأتيه أخوه كبير تأثير في حياته.ص42 _ 43
28_ واعلما أني قد رأيت جماعة لم تكن لهم أحوال ولا أقدار، أقام أحوالَهم ورفع أقدارَهم اتفاقُهم وتعاضُدُهم، وقد رأيت جماعة كانت أقدارهم سامية، وأحوالهم ظاهرة نامية، محق أحوالَهم ووضع أقدارَهم اختلافُهم وتنابُذهم؛ فاحذرا أن تكونا منهم.ص43
29_ وإياكما أن تحدثا أنفسكما أن تنتظرا مقارضةً ممن أحسنتما إليه، وأنعمتما عليه؛ فإن انتظار المقارضة يمسح الصنيعة، ويعيد الأفعال الرفيعة وضيعة، ويقلب الشكر ذماً، والحمد مقتاً، ولا يجب أن تعتقدا معاداة أحد، واعتمدا التحرز من كل أحد، فمن قصدكما بمطالبة، أو تكرر عليكما بأذية فلا تقارضاه جهدكما، والتزما الصبر له ما استطعتما؛ فما التزم أحد الصبر والحلم إلا عز ونصر [ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ] الحج60.
وقد استعملت هذا _ بفضل الله _ تعالى _ مراراً فحمدت العاقبة، واغتبطت بالكف عن المقارضة.
ولا تستعظما من حوادث الأيام شيئاً؛ فكل أمر ينقرض حقير، وكل أمد ينقضي قصير، وانتظرا الفرج؛ فإن انتظار الفرج عبادة، وعلقا رجاءكما بربكما وتوكلا عليه؛ فإن التوكل عليه سعادة، واستعينا بالدعاء، والجئا إليه في البأساء والضراء؛ فإن الدعاء سفينة لا تعطب، وحزب لا يغلب، وجند لا يهرب.ص45
30_ وإذا أنعم ربكما عليكما بنعمة فتلقياها بالإكرام لها، والشكر عليها، والمساهمة فيها، واجعلاها عوناً على طاعته، وسبباً إلى عبادته، والحذر الحذر من أن تهينا نعمة ربكما فتترككما مذمومين، وتزول عنكما ممقوتين.ص46
31_ ومن احتاج منكما فليجمل في الطلب؛ فإنه لا يفوته ما قُدِّر له، ولا يدرك ما لم يقدر له.ص48(2/26)
32_ واجتنبا صحبة السلطان ما استطعتما، وتحريا البعد منه ما أمكنكما؛ فإن الذل مع البعد عنه أفضل من العز مع القرب منه.ص48
33_ ولا يرغب أحدكما في أن يكون أرفع الناس درجة، وأتمهم جاهاً وأعلاهم منزلة؛ فإن تلك حالٌ لا يسلم صاحبها، ودرجةٌ لا يثبت من احتلها، وأسلم الطبقات الطبقة المتوسطة؛ لا تُهْتَضَمُ من ضعة، ولا تُرمق من رفعة، ومن عيب الدرجة العليا أن صاحبها لا يرجو المزيد، ولكنه يخاف النقص، والدرجة الوسطى يرجو الازدياد، وبينها وبين المخاوف حجاب؛ فاجعلا بين أيديكما درجة يشتغل بها الحسود عنكما، ويرجوها الصديق لكما.ص49
34_ ولا يطلب أحدكما الولاية؛ فإن طلبها شين، وتركها لمن دعي إليها زين، فمن امتحن بها منكما فلتكن حاله في نفسه أرفع من أن تحدث فيه بأواً، أو يبدي فيها زهواً، وليعلم أن الولاية لا تزيده رفعة، ولكنها فتنة ومحنة، وأنه معرض لأحد أمرين: إما أن يعزل فيعود إلى حالته، أو يسيء استدامة ولايته فيقبح ذكره، ويثقل وزره.
وإن استوت عنده ولايته وعزله كان جديراً أن يستديم العمل؛ فيبلغ الأمل، أو يعزل لإحسانه، فلا يحط ذلك من مكانه.ص49
35_ وأَقِلا ممازحة الإخوان، وملابستهم، والمبالغة في الاسترسال معهم.
فإن الأعداء أكثرهم ممن هذه صفته، وقل من يعاديك ممن لا يعرفك ولا تعرفه.ص49 _ 50
_ =نبذة عن المؤلف+:
هو محمد بن محمد بن محمد الطوسي الغزالي المعروف بأبي حامد.
ولد سنة 450هـ من أسرة صالحة فقد كان أبوه رجلاً صالحاً لا يأكل إلا من كسب يده في عمل غزل الصوف، وكان يجالس الفقهاء والوعاظ، ويحرص على الإحسان إليهم.(2/27)
وكان إذا حضر مجالس الفقهاء وسمع كلامهم بكى وتضرع إلى الله أن يرزقه ابناً ويجعله فقيهاً، وإذا حضر مجالس الوعظ بكى وسأل الله أن يرزقه ابناً واعظاً؛ فرزقه الله بأبي حامد حيث كان من فقهاء عصره، ورزقه الله أحمد فكان واعظاً ينفلق الصم الصخور عند استماع تحذيره، وترتعد فرائص الحاضرين من مجالس تذكيره _ كما قال ابن السبكي _.
تنقل أبو حامد في عدد من البلدان لطلب العلم، حيث سافر إلى جرجان، ونيسابور، وزار بغداد في طريق عودته إلى مسقط رأسه طوس.
له مؤلفات عديدة، أشهرها إحياء علوم الدين، وفيه فوائد ولطائف، وفيه مثالب، وعليه مآخذ.
توفي أبو حامد×عام 505هـ عن خمسة وخمسين عاماً.
التعريف بالرسالة: هذه الرسالة عنوانها (أيها الولد) والمراد بالولد هنا أحد تلامذة الغزالي؛ حيث طلب منه ذلك الطالب النصح والإرشاد؛ فكتب له تلك الرسالة التي احتوت على وصايا رائعة، وحكم جامعة.
والرسالة التي بين أيدينا حققها علي محيي الدين علي القره داغي، وتقع تلك الرسالة المحققة في 158 صفحة، وهي من مطبوعات دار البشائر الإسلامية ط2، 1405هـ _ 1985 م.
_ =النقولات المنتقاة+: قال أبو حامد الغزالي×:
1_ اعلم _ أيها الولد _ المحب العزيز أطال الله _ تعالى _ بقاءك بطاعته، وسلك بك سبيل أحبائه _ أن منشور النصيحة يكتب من معدن الرسالة _ عليه الصلاة والسلام _.
إن كان قد بلغك منه نصيحة فأي حاجة لك في نصيحتي؟ وإن لم تبلغك فقل لي: ماذا حصلت في هذه السنين الماضية؟! ص93
2_ أيها الولد، من جملة ما نصح به رسول الله"أمته قوله: =علامة إعراض الله _ تعالى _ عن العبد اشتغاله بما لا يعنيه، وإن امرءاً ذهبت ساعة من عمره في غير ما خلق له لجدير أن تطول عليه حسرته، ومن جاوز الأربعين ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار+.
وفي هذه النصيحة كفاية لأهل العلم.ص93 _ 94(2/28)
3_ أيها الولد، النصيحة سهل، والمشكل قبولها؛ لأنها في مذاق متبعي الهوى مرٌّ؛ إذ المناهي محبوبة في قلوبهم، على الخصوص لمن كان طالب العلم الرسمي مشتغلاً في فضل النفس ومناقب الدنيا، فإنه يحسب أن العلم المجرد له سيكون نجاته وخلاصه فيه، وأنه مستغن عن العمل، وهذا اعتقاد الفلاسفة.
سبحان الله العظيم! لا يعلم هذا القدر أنه حين حصَّل العلم إذا لم يعمل به تكون الحجة عليه آكد، كما قال رسول الله": =أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لا ينفعه الله بعلمه+.ص94 _ 95
4_ وتيقن أن العلم المجرد لا يَأْخُذُ باليد: مثاله لو كان على رجل في برية عشرة أسياف هندية مع أسلحة أخرى، وكان الرجل شجاعاً وأهل حرب، فحمل عليه أسد عظيم مهيب، فما ظنك؟ هل تدفع الأسلحة شره عنه بلا استعمالها وضربها؟
ومن المعلوم أنها لا تدفع إلا بالتحريك والضرب.
فكذا لو قرأ رجل مائة ألف مسألة علمية وتعلمها، ولم يعمل بها، لا تفيده إلا بالعمل.
ومثاله_ أيضاً _: لو كان لرجل حرارة ومرض صفراوي يكون علاجه بالسكنجبين والكشكاب، فلا يحصل البرء إلا باستعمالهما.ص98 _ 99
5_ كم من ليلة أحييتَها بتكرار العلم ومطالعة الكتب، وحرَّمَت على نفسك النوم، لا أعلم ما كان الباعث فيه؟ إن كانت نيتُك نيلَ عرض الدنيا، وجذبَ حطامها، وتحصيل مناصبها، والمباهاةَ على الأقرانِ والأمثالِ _ فويلٌ لك ثم ويل لك.
وإن كان قصدك فيه إحياء شريعة النبي"وتهذيب أخلاقك، وكَسْرَ النفس الأمارة بالسوء _ فطوبى لك ثم طوبى لك.
ولقد صدق من قال شعراً:
سهر العيون لغير وجهك ضائع ... وبكاؤهن لغير فقدك باطل
ص105 _ 106
6_ عش ما شئت؛ فإنك ميت، وأحبب من شئت؛ فإنك مفارقه، واعمل ما شئت؛ فإنك مجزي به.ص106
7_ أيها الولد، العلم بلا عمل جنون، والعمل بغير علم لا يكون.(2/29)
واعلم أن علماً لا يبعدك اليوم عن المعاصي، ولا يحملك على الطاعة، لن يبعدك غداً عن نار جهنم، وإذا لم تعمل اليوم، ولم تدارك الأيام الماضية تقول غداً يوم القيامة: [فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً] السجدة: 12، فيقال: يا أحمق أنت من هناك تجيء.ص108 _ 109
8_ لو كان العلم المجرد كافياً لك ولا تحتاج إلى عمل سواه _ لكان نداء الله _تعالى_ : =هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ هل من تائب؟+ ضائعاً بلا فائدة.ص112
9_ أيها الولد، [وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ] أمرٌ، [وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ] شكر، [وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ] ذكر.ص113
10_ أيها الولد، روي في بعض وصايا لقمان الحكيم لابنه أنه قال: يا بني لا يكونن الديك أكيس منك، ينادي بالأسحار وأنت نائم.ص115 _ 116
11_ أيها الولد، خلاصة العلم: أن تَعَلَمَ أن الطاعة والعبادة ما هي؟
اعلم أن الطاعة والعبادة متابعة الشارع في الأوامر والنواهي بالقول والفعل، يعني: كل ما تقول وتفعل، وتترك قوله وفعله يكون باقتداء الشرع، كما لو صمت يوم العيد وأيام التشريق تكون عاصياً، أو صليت في ثوب مغصوب _وإن كانت صورة عبادة _ تأثم.ص117
12_ أيها الولد، ينبغي لك أن يكون قولك وفعلك موافقاً للشرع؛ إذ العلم والعمل بلا اقتداء الشرع ضلالة.
وينبغي لك ألا تغتر بشطح الصوفية وطاماتهم؛ لأن سلوك هذا الطريق يكون بالمجاهدة وقطع شهوة النفس وقتل هواها بسيف الرياضة، لا بالطامات والتُرَّهات.ص117 _ 118
13_ واعلم أن اللسان المطلق، والقلب المطبق المملوء بالغفلة والشهوة _ علامة الشقاوة.ص118
14_ أيها الولد إذا علمت هذا الحديث لا حاجة إلى العلم الكثير، وتأمل في حكاية أخرى وهي: أن حاتم الأصم كان من أصحاب شقيق البلخي _ رحمة الله تعالى عليهما _ فسأله يوماً قال: صاحبتني منذ ثلاثين سنة ما حصَّلت فيها؟
قال: حصلت ثماني فوائد من العلم، وهي تكفيني منه؛ لأني أرجو خلاصي ونجاتي فيها.(2/30)
فقال شقيق: ما هي؟
قال حاتم:
الفائدة الأولى: أني نظرت إلى الخلق فرأيت لكل منهم محبوباً ومعشوقاً يحبه ويعشقه، وبعض ذلك المحبوب يصاحبه إلى مرض الموت، وبعضه يصاحبه إلى شفير القبر، ثم يرجع كله ويتركه فريداً وحيداً، ولا يدخل معه في قبره منهم أحد.
فتفكرت وقلت: أفضل محبوب المرء ما يدخل معه في قبره ويؤنسه فيه، فما وجدته غير الأعمال الصالحة، فأخذتها محبوبة لي؛ لتكون لي سراجاً في قبري، وتؤنسني فيه، ولا تتركني فريداً.
الفائدة الثانية: أني رأيت الخلق يقتدون أهواءهم، ويبادرون إلى مرادات أنفسهم، فتأملت قوله _ تعالى _ :[وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)] النازعات: 40 _ 41.
وتيقنت أن القرآن حق صادق، فبادرت إلى خلاف نفسي وتشمرت بمجاهدتها، وما متعتها بهواها، حتى ارتاضت بطاعة الله _ تعالى _ وانقادت.
الفائدة الثالثة: أني رأيت كل واحد من الناس يسعى في جمع حطام الدنيا ثم يمسكه قابضاً يده عليه، فتأملت في قوله _ تعالى _ : [مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ] النحل: 96 فبذلت محصولي من الدنيا لوجه الله _ تعالى _ ففرقته بين المساكين ليكون ذخراً لي عند الله _ تعالى _.
الفائدة الرابعة: أني رأيت بعض الخلق يظن أن شرفه وعزه في كثرة الأقوام والعشائر؛ فاعتز بهم، وزعم آخرون أنه في ثروة الأموال وكثرة الأولاد؛ فافتخروا بها، وحسب بعضهم أن العز والشرف في غصب أموال الناس وظلمهم وسفك دمائهم، واعتقدَتْ طائفة أنه في إتلاف المال وإسرافه، وتبذيره؛.فتأملت في قوله _ تعالى _ : [إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] الحجرات: 13 فاخترت التقوى، واعتقدت أن القرآن حقٌ صادق، وظنَّهم وحسبانهم كلها باطل زائل.(2/31)
الفائدة الخامسة: أني رأيت الناس يذم بعضهم بعضاً، ويغتاب بعضهم بعضاً، فوجدت أصل ذلك من الحسد في المال والجاه والعلم، فتأملت في قوله _تعالى_ : [نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] الزخرف: 32 فعلمت أن القسمة كانت من الله _ تعالى _ في الأزل، فما حسدت أحداً، ورضيت بقسمة الله _ تعالى _.
الفائدة السادسة: إني رأيت الناس يعادي بعضهم بعضاً لغرض وسبب؛ فتأملت في قوله _تعالى_: [إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً] فاطر:6 فعلمت أنه لا يجوز عداوة أحد غير الشيطان.
الفائدة السابعة: أني رأيت كل أحد يسعى بجد، ويجتهد بمبالغة لطلب القوت والمعاش، بحيث يقع به في شبهة وحرام، ويذل نفسه وينقص قدره؛ فتأملت في قوله _ تعالى _ : [وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا] هود: 6 فعلمت أن رزقي على الله _تعالى_ وقد ضمنه؛ فاشتغلت بعبادته، وقطعت طمعي عمن سواه.
الفائدة الثامنة: أني رأيت كل واحد معتمداً على شيء مخلوق، بعضهم على الدينار والدرهم، وبعضهم على المال والملك، وبعضهم على الحرفة والصناعة، وبعضهم على مخلوق مثله، فتأملت في قوله _تعالى_ : [وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً] الطلاق: 3 فتوكلت على الله _ تعالى _ فهو حسبي ونعم الوكيل.
فقال شقيق: وفقك الله _ تعالى _ إني قد نظرت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، فوجدت الكتب الأربعة تدور على هذه الفوائد الثماني، فمن عمل بها كان عاملاً بهذه الكتب الأربعة.ص121 _ 128
15_ وحسن الخلق مع الناس: ألا تحمل الناس على مراد نفسك، بل تحمل نفسك على مرادهم ما لم يخالفوا الشرع.ص131
16_ وسألتني عن الإخلاص: وهو أن تكون أعمالك كلها لله _ تعالى _ ولا يرتاح قلبك بمحامد الناس، ولا تبالي بمذمتهم.(2/32)
واعلم أن الرياء يتولد من تعظيم الخلق.
وعلاجه أن تراهم مسخرين تحت القدرة، وتحسبهم كالجمادات في عدم قدرة إيصال الراحة والمشقة؛ لتخلص من مرئياتهم.
ومتى تحسبهم ذوي قدرة وإرادة لن يبعد عنك الرياء.ص133
_ =نبذة عن المؤلف+:
هو الأمير أبو المظفر مجد الدين أسامة بن مرشد بن علي بن مقلَّد بن نصر ابن منقذ الشيزري الكناني الكلبي.
ولد يوم الأحد 27 من شهر جمادى الآخرة سنة، وتوفي ليلة الثلاثاء 23 رمضان سنة.
وهو من بني منقذ، وهي أسرة مجيدة نشأ فيها رجال كبار كلهم فارس شجاع، وشاعر أديب.
وكانوا ملوكاً في أطراف حلب.
أما أسامة فهو من الأبطال الشجعان، والأدباء الكبار، وقد وصفه الذهبي في تاريخ الإسلام بأنه =أحد أبطال الإسلام، ورئيس الشعراء الأعلام+.
وقال عنه العماد الأصبهاني الكاتب: =وأسامة كاسمه، في قوة نثره ونظمه، يلوح من كلامه أمارة الأمارة، ويؤسس بيت قريضه عمارة العمارة، حلو المجالسة، حالي المساجلة، ندي الندى بماء الفكاهة، عالي النجم في سماء النباهة، معتدل التصاريف، مطبوع التصاريف+.
ولأسامة بن منقذ مؤلفات عديدة منها: كتاب الاعتبار، وكتاب: لباب الآداب، وكتاب: البديع في نقد الشعر، وكتاب: التأسي والتسلي، وكتاب: الشيب والشباب، وكتاب: النوم والأحلام، وكتاب: القضاء، وكتاب: أخبار النساء، وديوان شعره.
_ =تعريف بالكتاب+:
كتاب الاعتبار كتاب طريف في سيرة أسامة وأحواله، وقد ألفه وهو ابن تسعين سنة.
والنسخة التي بأيدينا هي التي حققها د.قاسم السامرائي، ويقع في 265 صفحة، ط1407هـ مؤسسة دار الثقافة والنشر والإعلام، الرياض.
وهذا الكتاب يعد أشهر كتب أسامة بن منقذ.(2/33)
يقول د.قاسم السامرائي: =لم تحظ شخصية إسلامية، ولا كتاب إسلامي بالدراسة والتحليل والتحقيق والترجمة في حلقات المستشرقين، أو عند المعنيين بعصر الحروب الصليبية في جوانبه الثقافية والحضارية المتعددة من العرب أو المسلمين أو غيرها من الأوربيين _ مثل ما حظي الأمير مؤيد الدولة مجد الدين أبو المظفر أسامة بن مرشد بن منقذ الكناني الشيزري وكتابه الاعتبار+.
ويقول د.السامرائي متحدثاً عن لغة الكتاب: =والحق أن لغة الكتاب ليست أدبية، وهي ليست عامية _ أيضاً _ بالرغم من كثرة أخطائها النحوية+.
إلى أن يقول: =كل هذا أو أمثاله حمل بعض الدارسين على القول بأن أسامة في مذكراته هذه هجر لغته الأدبية، وكتب بالعامية التي كانت شائعة في الشام إذ ذاك+.
إلى أن قال: =فلعل أسامة كان يحدث جماعة من الناس فكتبه بعضهم بلغته الخاصة فأضاف إليه أسامة الفصلين الملحقين في نهايته+.
_ =النقولات المنتقاة+: قال×:
1_ وشاهدت فارساً من رجالنا يقال له: ندى بن تليل القشيري، وكان من شجعاننا، وقد التقينا نحن والإفرنج وهو مُعَرَّى؛ ما عليه غير ثوبين، فطعنه فارس من الإفرنج في صدره فقطع هذه العصفورة التي في الصدر وخرج الرمح من جانبه، فرجع وما نظنه يصل منزله حياً، فقدَّر الله _ سبحانه _ أن سلم وبرأ جرحه، لكنه لبث سنة إذا نام على ظهره لا يقدر يجلس إن لم يجلسه إنسان بأكتافه، ثم زال عنه ما كان يشكوه، وعاد إلى تصرفه وركوبه كما كان.
قلت: فسبحان من نفذت مشيئته في خلقه؛ يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير ص64 _ 65(2/34)
2_ كان عندنا رجل من المصطنعة يقال له: عتاب، أجسم ما يكون من الرجال وأطولهم، دخل بيته فاعتمد على يده عند جلوسه على ثوب بين يديه كانت فيه إبرة دخلت في راحته فمات منها، وبالله لقد كان يَئِنُّ في المدينة فيسمع أنينه من الحصن؛ لعظم خلقه وجهارة صوته، يموت من إبرة، وهذا القشيري تدخل في صدره قنطارية تخرج من جنبه لا يصيبه شيء!.ص65
3_ ومن عجائب الطعن أن رجلاً من الأكراد يقال له: حمدات كان قديم الصحبة قد سافر مع والدي×إلى أصبهان إلى دركاه السلطان ملك شاه، فكبر وضعف بصره، ونشأ له أولاد، فقال له عمي عز الدين×: يا حمدات، قد كبرت وضعفت، ولك علينا حق وخدمة، فلو لزمت مسجدك _ وكان له مسجد على باب داره _ وأثبتنا أولادك في الديوان، ويكون لك أنت كل شهر ديناران، وحمل دقيق وأنت في مسجدك.
قال: افعل يا أمير، فأجرى له ذلك مديدة.
ثم جاء إلى عمي وقال: يا أمير، والله ما تطاوعني نفسي على القعود في البيت، وقتلي على فرسي أشهى إلي من موتي على فراشي.
قال: الأمر لك وأمر برد ديوانه عليه كما كان.
فما مضى إلا الأيام القلائل حتى غار علينا السرداني _ صاحب طرابلس_ ففزع الناس إليهم، وحمدات في جملة الروع، فوقف على رقعة من الأرض مستقبل القبلة، فحمل عليه فارس من الإفرنج من غربيه، فصاح إليه بعض أصحابنا: يا حمدات، فالتفت فرأى الفارس قاصده، فرد رأس فرسه شمالاً، ومسك رمحه بيده، وسدده إلى صدر الإفرنجي فطعنه فنفذ الرمح منه.
فرجع الإفرنجي متعلقاً برقبة حصانه في آخر رمقه.
فلما انقضى القتال قال حمدات لعمي: يا أمير، لو أن حمدات في المسجد من كان طعن هذه الطعنة؟
فأذكرني قول الفِنْد الزماني:
أيا طعنة ما شيخ ... كبير يَفَنٍ بالي
تَفْتّيت بها إذ كـ ... ـره الشكة أمثالي
وكان الفند قد كبر وحضر القتال، فطعن فارسين مقترنين فرماهما جميعاً.ص72 _ 73
4_ إذا انقضت المدة لم تنفع الشجاعة ولا الشدة.ص112(2/35)
5_ وشاهدت من لطف الله _ تعالى _ وحسن دفاعه أن الإفرنج _ لعنهم الله _ نزلوا علينا بالفارس والراجل، وبيننا وبينهم العاصي(1) وهو زائد زيادة عظيمة، لا يمكنهم أن يجوزوا إلينا، ولا نقدر نحن نجوز إليهم، فنزلوا على الجبل بخيامهم، ونزل منهم قوم إلى البساتين، وهي من جانبهم، هملوا خيلهم في الفصيل وناموا، فتجرد شباب من رجالة شيزر، وخلعوا ثيابهم، وأخذوا سيوفهم، وسبحوا إلى أولئك النيام، فقتلوا بعضهم، وتكاثروا على أصحابنا، فرموا نفوسهم إلى الماء وجازوا، وعسكر الفرنج قد ركب من الجبل مثل السيل، ومن جانبهم مسجد يعرف: بمسجد أبي المجد بن سمية، فيه رجل يقال له: حسن الزاهد، وهو واقف على سطح بيوت في المسجد يصلي، وعليه ثياب سود صوف، ونحن نراه ومالنا إليه سبيل.
وقد جاء الإفرنج فنزلوا على باب المسجد، وصعدوا إليه ونحن نقول: لا حول ولا قوة إلا بالله الساعة يقتلونه، فلا والله ما قطع صلاته ولا زال من مكانه، وعاد الإفرنج نزلوا ركبوا خيولهم وانصرفوا وهو واقف مكانه يصلي، ولا نشك أن الله _ سبحانه _ أعماهم عنه وستره عن أبصارهم، فسبحان القادر الرحيم.ص114 _ 115
__________
(1) _ يعني: نهر العاصي.(2/36)
6_ ومن ألطاف الله _ تعالى _ أن ملك الروم لما نزل على شيزر في سنة اثنتين وثلاثين وخمس مئة _ خرج من شيزر جماعة من الرجالة للقتال، فاقتطعوهم الروم؛ فقتلوا بعضاً وأسروا بعضاً، فكان في جملة من أسروا زاهد من بني كردوس من الصالحية من مولدي محمود بن صالح صاحب حلب، فلما عاد الروم كان معهم مأسوراً، فوصل القسطنطينية فهو في بعض الأيام فيها إذ لقيه إنسان فقال: أنت ابن كردوس؟ قال: نعم، قال: سر معي أوقفني على صاحبك، فسار معه حتى أراه صاحبه، فقاوله على ثمنه حتى تقرر بينه وبين الرومي مبلغ أرضاه، فوزن له الثمن وأعطى ابن كردوس نفقة وقال: تبلغ بها إلى أهلك، وامض في دعة الله _ تعالى _ فخرج من القسطنطينية وتوصل إلى أن عاد إلى شيزر، وذلك من فرج الله _ تعالى _ وخفي لطفه، ولا يدري من الذي شراه وأطلقه.ص115
7_ ومن لطف الله _ تعالى _ ما حدثني به عبدالله المشرف قال: حبست بحيزان، وقُيِّدت وضُيِّق علي، فأنا في الحبس والموكلون على بابه، فرأيت النبي"في النوم فقال: اقلع القيد واخرج، فانتبهت جذبت القيد، فخرج من رجلي، وقمت إلى الباب أريد فتحه، فوجدته مفتوحاً، فتخطيت الرجال الموكلين إلى منفس في السور ما ظننت يدي تخرج منه، فخرجت منه، ووقعت على مزبلة، فبقي فيها آثار وقوعي وآثار رجلي، ونزلت في واد حول السور، ودخلت مغارة في سفح الجبل من ذلك الجانب وأنا أقول في نفسي: الساعة يخرجون ويرون أثري ويأخذوني، فأرسل الله _ سبحانه _ ثلجاً غطى ذلك الأثر، وخرجوا يطوفون عليَّ، وأنا أراهم نهارهم ذلك، فلما أمسيت وأمنت الطلب خرجت من تلك المغارة وسرت إلى مأمني، كان هذا الرجل مشرفاً على مطبخ صلاح الدين محمد بن أيوب الغسياني×.ص116 _ 117
8_ وعلى ذكر الخيل؛ ففيها الصبور كالرجال، وفيها الخوار.ص119
9_ وشهدت من الأسد ما لم أكن لأظنه، ولا اعتقدت أن الأسد كالناس فيها الشجاع وفيها الجبان.ص127(2/37)
10_ ومن عجيب أمور السباع أن أسداً ظهر عندنا في أرض شيزر، فخرجنا إليه ومعنا رجالة من أهل شيزر، فيهم غلام للمُفَنَّد الذي كان يطيعه أهل الجبل ويكاد أن يُعبد، ومع ذلك الغلام كلب له، فخرج الأسد على الخيل، فَجَلَتْ قُدَّامه جافلةً، ودخل في الرجالة، فأخذ ذلك الغلام وبرك عليه، فوثب الكلب على ظهر الأسد، فنفر عن الرجل وعاد إلى الأجمة، وخرج الرجل إلى بين يدي والدي×يضحك وقال: يا مولاي، وحياتك (1) ما جرحني ولا آذاني، وقتلوا الأسد، ودخل الرجل فمات في تلك الليلة من غير جرح أصابه إلا أنه انقطع قلبه.
فكنت أعجب من إقدام الكلب على الأسد، وكلُّ الحيوان ينفر من الأسد ويتجنبه.ص129
11_ ولقد رأيت رأس الأسد يحمل إلى بعض دورنا، فترى السنانير تهرب من تلك الدار، وترمي نفوسها من السطوحات، وما رأت الأسد قط، وكنا نسلخ الأسد ونرميه من الحصن إلى سفح الباشورة، فلا تقربه الكلاب ولا شيء من الطير، وإذا رأت القيقان اللحم نزلت إليه، ثم إذا دنت منه صاحت وطارت، وما أشْبَهَ هيبةَ الأسد على الحيوان بهيبة العقاب على الطير؛ فإن العقاب يُبْصِرُه الفرَّوجُ الذي ما رأى العقاب قط، فيصيح وينهزم؛ هيبة ألقاها الله _ تعالى _ في قلوب الحيوان لهذين الحيوانين.ص129 _ 130
12_ قاتلت السباع في عدة مواقف لا أحصيها، وقتلت عدة منها ما شركني في قتلها أحد سوى ما شاركني فيه غيري، حتى خبرت منها وعرفت من قتالها ما لم يعرفه غيري؛ فمن ذلك أن الأسد مثل سواه من البهائم يخاف ابن آدم ويهرب منه، وفيه غفلة وبله ما لم يُجرح فحينئذ هو الأسد، وذلك الوقت يُخاف منه، وإذا خرج من غاب أو أجمة وحمل على الخيل فلا بد له من الرجوع إلى الأجمة التي خرج منها، ولو أن النيران في طريقه.
وكنت أنا قد عرفت هذا بالتجربة، فمتى حمل على الخيل ووقفت في طريق رجوعه قبل أن يُجرح، فإذا رجع تركته إلى أن يتجاوزني وطعنته قتلته.ص130_131
__________
(1) _ هذا حلف بغير الله، فليته قال: والله.(2/38)
13_ فأما النمور فقتالها أصعب من قتال الأسود؛ لخفتها وبُعْد وثبتها، وهي تدخل في المغارات والمجاحر كما تدخل الضباع، والأسد ما يكون إلا في الغابات والآجام.ص131
14_ ومن خواص النمر أنه إذا جرح الإنسان وبالت عليه فأرة مات، ولا ترتد الفأرة عن جريح النمر، حتى إنه يعمل له سرير يجلس في الماء، ويربط حوله السنانير خوفاً عليه من الفأر.ص132
15_ والنمر لا يكاد يألف الناس، ولا يستأنس بهم، وقد كنت مرة مجتازاً بمدينة حيفا من الساحل، وهي للإفرنج، فقال لي إفرنجي منهم: تشتري مني فهداً جيداً؟ قلت: نعم، فجاءني بنمر قد رباه حتى صار في قَدِّ الكلب.
قلت: لا ما يصلح لي، هذا نمر ما هو فهد؛ فعجبت من أنسه وتصرفه مع الإفرنجي.ص132
16_ والفرق بين النمر وبين الفهد أن وجه النمر طويل مثل وجه الكلب وعيناه زرق، والفهد وجهه مدور وعيناه سود.ص132
17_ وفي ذلك اليوم فَرَّقت والدتي _رحمها الله_ سيوفي وكزاغنداتي، وجاءت إلى أخت لي كبيرة السن وقالت: البسي خفك وإزارك، فلبست وأخذتها إلى روشن في داري يشرف على الوادي من الشرق، أجلستها عليه وجلست إلى باب الروشن، ونصرنا الله _ سبحانه _ عليهم، وجئت إلى داري أطلب شيئاً من سلاحي، فما وجدت إلا جهازات السيوف وعِيَب الكزغندات، قلت: يا أمي، أين سلاحي؟ قالت: يا بني أعطيت السلاح لمن يقاتل عنا، وما ظننتك سالماً، قلت: فأختي أي شيء تعمل هاهنا؟ قالت: يا بني، أجلستها على الروشن وجلست براً منها، إذا رأيت الباطنية قد وصولوا إلينا دفعتها ورميتها إلى الوادي، فأراها قد ماتت ولا أراها مع الفلاحيين والحلاجين مأسورة، فشكرتها على ذلك، وشكرت الأخت وجزيتهما خيراً، فهذه النخوة أشدُّ من نخوات الرجال.ص145(2/39)
18_ وليس عندهم _ يعني الإفرنج _ شيء من النخوة والغيرة؛ يكون الرجل منهم يمشي هو وامرأته، يلقاه رجل آخر يأخذ المرأة، ويعتزل بها، ويتحدث معها، والزوج واقف ناحية ينتظر فراغها من الحديث، فإذا طولت عليه خلاها مع المتحدث ومضى.ص154
19_ ما فيهم _ يعني النصارى _ غيرة ولا نخوة، وفيهم الشجاعة العظيمة، وما تكون الشجاعة إلا من النخوة والأنفة من سوء الأحدوثة.ص155 _ 156
20_ ومن عجائب القلوب أن الإنسان يخوض الغمرات، ويركب الأخطار، ولا يرتاع قلبه من ذلك، ويخاف مما لا يخاف منه الصبيان ولا النسوان.
ولقد رأيت عمي: عز الدين أبا العساكر سلطان×وهو من أشجع أهله، له المواقف المشهورة والطعنات المذكورة، وهو إذا رأى الفأرة تغيرت صورة وجهه، ولحقه كالزمع من نظرها، وقام من الموضع الذي يراها فيه.
وكان في غلمانه رجل شجاع معروف بالشجاعة والإقدام اسمه صندوق، يفزع من الحية حتى يخرج من عقله، فقال له والدي×وهو واقف بين يدي عمي: يا صندوق، أنت رجل جيد معروف بالشجاعة ما تستحي تفزع من الحية؟ قال: يا مولاي، وأيُّ شيءٍ في هذا من العجب؟ في حمص رجل شجاع بطل من الأبطال يفزع من الفأرة ويموت _ يعني مولاه _ فقال له عمي×: قبحك الله يا كذا وكذا.ص160 _ 161
21_ فسبيل الرجل المحارب يتفقد عدة حصانه؛ فإن أيسر الأشياء وأقلها يودي ويهلك، كل ذلك مقرون بما تجري به الأقدار والأقضية.162
22_ وقد شهدت قتال الأسد في مواقف لا أحصيها، وقتلت عدة منها لم يشركني أحد في قتلها، فما نالني من شيء منها أذى.ص163
23_ وشاهدت من ضعف نفوس بعض الرجال وخورهم ما لا كنت أظنه بالنساء.ص163
24_ النصر في الحرب من الله _ تبارك وتعالى _ لا بترتيب وتدبير، ولا بكثرة نفير ولا نصير.
وقد كنت إذا بعثني عمي×لقتال أتراك أو إفرنج أقول له: يا مولاي، مُرْني بما أتدبر به إذا لقيت العدو فيقول: يا بني، الحرب تدبر نفسها، وصدق.ص166(2/40)
25_ فأما التغرير في الإقدام فما هو للزهد في الحياة، وإنما سببه أن الرجل إذا عرف بالإقدام ووسم بالشجاعة، وحضر القتال طالبته همته بفعل ما يذكر به، ويعجز عنه سواه، وخافت نفسه الموت، وركوب الخطر، فتكاد تغلبه وتصده عما يريد يفعله حتى يضطرها ويحملها على مكروهها، فيعتريه الزمع وتغير اللون لذلك، فإذا دخل في الحرب بطل روعه وسكن جأشه.ص173
26 _ ولم أدر أن داء الكِبَر عام يعدي كل من أغفله الحِمَامُ، فلما توقلت ذروة التسعين، وأبلاني مرُّ الأيام والسنين صرت كجواد العلاف لا الجواد المتلاف، ولصقت من الضعف بالأرض، ودخل من الكبر بعضي في بعض، حتى أنكرت نفسي وتحسرت على أمسي، وقلت في وصف حالي:
لما بلغت من الحياة إلى مدى ... قد كنت أهواه تمنيت الردى
لم يُبْقِ طولُ العمرِ مني مُنَّةً ... ألقى بها صرف الزمان إذا اعتدى
ضعفت قواي وخانني الثقتان من ... بصري وسمعي حين شارفت المدى
فإذا نهضت حسبت أني حامل ... جبلاً وأمشي إن مشيت مقيدا
وأدِبَّ في كفي العصا وعهدتها ... في الحرب تحمل أسمراً ومهندا
وأبيت في لين المهاد مسهداً ... قلقاً كأني ما افترشت الجلمدا
والمرء ينكس في الحياة وبينما ... بلغ الكمال وتم عاد كما بدا
ص179
27_ فلا يظن ظان أن الموت يقدمه ركوب الخطر، ولا يؤخره شدة الحذر، ففي بقائي أوضح معتبر، فكم لقيت من الأهوال، وتقحمت المخاوف والأخطار، ولاقيت الفرسان، وقتلت الأسود، وضربت بالسيوف، وطعنت بالرماح، وجرحت بالسهام والجروح وأنا من الأجل في حصن حصين إلى أن بلغت تمام التسعين، فرأيت الصحة والبقاء كما قال": =كفى بالصحة داءاً+ فأعقبت النجاة من تلك الأهوال ما هو أصعب من القتل والقتال، وكان الهلاك في كنه الجيش أسهل من تكاليف العيش، استرجعت مني الأيام بطول الحياة سائر محبوب اللذات، وشاب كدر النكد صفو العيش الرغد، فأنا كما قلت:
مع الثمانين عاث الدهر في جلدي ... وساءني ضعف رجلي واضطراب يدي(2/41)
إذا كتبت فخطي جِدُّ مضطربٍ ... كخطِّ مرتعشِ الكفين مرتعد
فأعجب لضعف يدي عن حملها قلماً ... من بعد حطم القنا في لبة الأسد
وإن مشيت وفي كفي العصا ثقلت ... رجلي كأني أخوض الوحل في الجلد
فقل لمن يتمنى طول مدته ... هذي عواقب طول العمر والمدد
ضعفت القوة ووهت، وتقضت بَلَهْنِيَةُ العيش وانتهت، ونَكَّسني التعمير بين الأنام، وإلى الخمود تَسَعُّر الضِّرام، حتى أصبحت كما قلت:
تناستني الآجال حتى كأنني ... رذيَّة سَفْرٍ بالفلاة حسير(1)
ولما تَدَعْ مني الثمانون مُنَةً ... كأني إذا رمت القيام كسير
أؤدي صلاتي قاعداً وسجودها ... علي إذا رمت السجود عسير
وقد أنذرتني هذه الحال أنني ... دنت رحلة مني وحان مسير
ص182
28_ وحضرته _ يعني الملك العادل نور الدين زنكي _ يوماً وقد أرسل كلبة على ثعلب، ونحن على قرا حصار بأرض حلب، فركض خلفه وأنا معه، فلحقت الكلبة أخذت ذنب الثعلب فرجع إليها برأسه فعض خيشومها، فصارت الكلبة تعوي ونور الدين×يضحك، ثم خلاها وانجحر فما قدرنا عليه.ص206
29_ وكان له _ يعني والده _ ترتيب في الصيد كأنه ترتيب الحرب والأمر المهم، لا يشتغل أحد بحديث مع صاحبه، ولا لهم هم إلا التبحر في الأرض؛ لنظر الأرانب أو الطير في أوكارها.ص209
_ =تعريف بالمؤلف والكتاب+:
مؤلف هذا الكتاب هو الأديب الأندلسي علي بن عبدالرحمن بن هذيل الفزاري، من أعيان القرن الثامن الهجري، وهو من علماء الاجتماع المشهود لهم بسعة الإطلاع ورجاحة الرأي.
وكان حافزه لتأليف هذا الكتاب هو أن يكون تقدمة إلى السلطان محمد ابن يوسف عام 763هـ.
وقد صدَّره بالآيات الكريمة, والأحاديث الشريفة التي تدل على ما يرمي إليه من آراء وأفكار.
__________
(1) _ رذية: وفي الحاشية ( دَرِيَّة) والأولى بمعنى: تعبى، ومهزولة من اليسر، ويعني الناقة.(2/42)
كما أنه ضمنه آراء العظماء، والحكماء، والعقلاء والشعراء وَوُزِّعَتْ في ثنايا الكتاب بأسلوب رائع، فجاءت في حلة قشيبة، تحمل في طياتها الحكم والتجارب، والمواعظ.
وهذا الكتاب يقع في311 صفحة، وهو من مطبوعات دار الكتب العلمية بيروت _ لبنان عام 1401هـ.
_ =النقولات المنتقاة+: قال×:
1_ التأليف خير موقوف على زمان، والتصنيف ليس بمقصور على أوان، لكنها صناعة ربما قصرت فيها سوابق الأفهام، وسبيل ربما حادت عنها أقدام الأوهام، قال بعض الحكماء: لكل شيء صناعة، وصناعة التأليف صناعة العقل.ص8
2_ قال أبو الحسين أحمد بن فارس، صاحب كتاب (مجمل اللغة): لو اقتصر الناس على كتب القدماء، لضاع علم كثير، ولذهب أدبٌ غزيرٌ، ولضلَّت أفهام ثاقبة، ولكَلَّت ألسنة لَسِنَة، ولمجَّت الأسماع كلَّ مردد، ولفظت القلوب كل مرجَّع.
قال الشاعر:
إذا تحدّثتَ في قوم لتؤنسهم ... مِنْ الحديث بما يمضي وما ياتي
فلا تعاود حديثاً إن طبعهم ... موكلٌ بمعاداة المعادات
ص8
3_ والذي عليه في التأليف المدار: هو حسن الانتقاء والاختيار، مع الترتيب والتبويب والتهذيب والتقريب.
قال بعض العلماء: اختيار الكلام أشد من نحت السهام.وقالوا: اختيارُ المرءِ وافدُ عقله، ورائدُ فضله.
وفضيلة هذا التأليف: هي في جمع ما افترق، مما تناسب واتسق، واختيار عيون، وترتيب فنون، من أحاديث نبوية، ومكارم أدبية، وحكم باهرة، وأبيات نادرة، وأمثال شاردة، وأخبار واردة، ووصايا نافعة، ومواعظ جامعة، ومروءات سَرِيَّة، وسياسات سَنِية، ومعانٍ مستظرفة، وحكاياتٍ مستطرفة، وجميع ذلك مطرد بكل شعر جزل، سهل بريء من الغزل والهزل.ص8 _ 9
4 _ وإنما يذم ويكره من الكلام ما كان لغواً غير نافع، وهزلاً عن منهج الجد مانع.(2/43)
وأما ما ينبه به غافل، ويعلم به جاهل، ويذكر به عاقل _ فذاك مما يحسن ويجمل، ويرجح به عقل سامعه وينبل، ويقرب ما بعد مأخذه عليه، ويسهل ما صعب تناوله بالتنبيه والإشارة إليه؛ إذ الشكل مضاف إلى شكله، والجنس إلى جنسه ومثله.ص9
5_ وقال أَبَانُ بن سليم: كلمة حكمة من أخيك خير لك من مال يعطيك؛ لأن المال يطغيك، والكلمة من الحكمة تهديك.ص13
6_ وقال بعض السلف: القلوب تحتاج إلى قُوْتِها، كما تحتاج الأبدان إلى قوتها من الغذاء.ص13
7_ وقال بعض الحكماء: الحكمة خلة عقل، وميزان العدل، ولسان الإيمان، وعين البيان، وروضة الأرواح، ومزاح الهموم عن النفوس، وأنس المستوحش، وأمن الخائف، ومتجر الرابح، وحظ الدنيا والآخرة، وسلامة العاجل والآجل.ص13
8_ وقال بعضهم: الحكمة نور الأبصار، وروضة الأفكار، ومطية الحلم، وكفيل النجاح، وضمين الخير والرشد، والداعية إلى الصواب، والسفير بين العقل والقلوب، لا تندرس آثارها، ولا تعفو ربوعها، ولا يهلك امرؤ بعد عمله بها.ص13
9_ وقال بقراط: من اتخذ الحكمة لجاماً اتخذه الناس إماماً.ص13
10_ قال بعض الحكماء: صلاح أسقام النفس أفضل من صلاح أسقام البدن؛ لفضل النفس على البدن.ص13
11_ إن حب الخير فعل، وإن عجزت عنه المقدرة.ص16
12_ إن الصواب في الأسدِّ لا الأشدِّ.ص16
13_ إن امرأً ليس بينه وبين آدم أحد لمعرق في الموت.ص16
14_ إن للأمور بغتات فكن منها على حذر.ص16
15_ إن ولاية المرء ثوبه؛ فإن قصر عنه عرى منه، وإن طال عليه عثر فيه.ص16
16_ إن أضعف الرأي ما سنح في البديهة.ص17
17_ إن أحق ما صبرت عليه ما لم تجد سبيلاً إلى دفعه.ص17
18_ إن المصيبة إذا نزلت إنما هي واحدة، فإن جزع صاحبها كانت اثنتين.ص17
19_ إن من الدلالة على أن الإنسان مصرف مغلوب ومدبر مربوب _ أن يتبلد رأيه في بعض الخطوب، ويعمى عليه الصواب المطلوب.ص17
20_ إن لكل قوماً كلباً؛ فلا تكن كلب أصحابك.ص17(2/44)
21_ إن الله _ عز وجل _ وسَّع أرزاق الحمقى؛ ليعتبر العقلاء، وليعلموا أن الدنيا لا ينال ما فيها بعقل ولا حيلة.ص17
22_ إن لكل فضل زكاة، وإن زكاة المال الصدقة على الفقير المحتاج، وإن زكاة القوة المدافعة عن الضعيف المظلوم، وإن زكاة البلاغة القيام بحجة من قد عجز عن حجته، وأن زكاة الجاه أن يُعاد به على من لا جاه له، وان زكاة العلم التعليم لمن قصر علمه.ص17
23_ إن الفاسق إذا كان حسن الخلق عاش بخلقه، وخف على الناس وأحبوه، وإن العابد إذا كان سيِّئ الخلق ثقل على الناس، وملّوه.ص18
24_ إن المرء لن ينال ما يحب حتى يصبر على كثير مما يكره.ص18
25_ ومن الشعر في هذا الفصل قولهم:
إن الليالي للأنام مناهلٌ ... تُطوى وتُبْسط بينها الأعمارُ
فقصارهن مع الهموم طويلةٌ ... وطوالهن مع السرور قصارُ
ص18
26_ إن الشدائد قد تغشى الكريم لأنْ ... تُبِيَنَ فضلَ سجاياهُ وتُوْضِحَهُ
كَمِبْرَدِ القين إذ يعلو الحديد بهِ ... وليس مقصدهُ إلا ليصلِحَهُ
ص18
27_ إن المروءة ما علمـ ... ـتَ لفي القناعةِ والخمولِ
تغدو وليسَ على يديـ ... ـك يدٌ تصولُ ولا تطولُ
ص18
28 _ ... إن المرايا لا تُريكَ خموشَ وجهكَ في صداها
وكذاك نفسكَ لا تريك عيوبَ نفسكَ في هواها
ص20
29_ إن العدو وإن أبدى مودتهُ ... إذا رأى فيك يوماً فرصةً وثبا
ص20
30_ إن المسرة للمساءة موعد ... حقاً ورهنٌ للعشيةِ أو غدِ
ص20
31_ إن التباعد لا يضـ ... ـرُّ إذا تقاربت القلوبُ
ص20
32_ إن الكرامَ إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كانَ يألفهم في المنزل الخشنِ
ص20
33_ ... إنما للناس منا ... حُسْن خُلْقٍ ومزاحِ
ولنا ما كان فينا ... من فسادٍ وصلاحِ
ص24
34_ إنما تعرف الصديق إذا ما ... جئتهُ منْ خلافِ ما يشتهيهِ
ص24
35_ ما يظهر الود المستقيم إلا من القلب السليم.ص29
36_ ما استُنْبط الصواب بمثل المشاورة، ولا اكتُسبت البغضاء بمثل الكبر. ص29(2/45)
37_ ما أقبح التكبر عند الاستغناء، وما أفضح الخضوع عند الحاجة.ص29
38_ ما لا ينبغي أن تفعله احذر أن يخطر ببالك.ص29
39_ ما تواضع في ولايته إلا من كبر عنها، ولا تكبر فيها إلا من كبرت عنه. ص29 _ 30
ص31
ص32
43_ لا يوجد العجول محموداً، ولا المغضوب مسروراً، ولا الحر حريصاً، ولا الكريم حسوداً، ولا الشره غنياً، ولا الملول ذا إخوان. ص34
44_ لا تظهرن إنكار ما لا عدة معك لدفعه، ولا تلهينك قدرة عن كيد وحيلة، ولا تتهاون بالأمر الصغير إذا كان يقبل النمو.ص34
45_ ولا تلاحِ رجلاً غضبان؛ فإنك تغلقه باللجاج، ولا ترده إلى الصواب.ص34
46_ ولا تفرح بسقطة غيرك؛ فإنه لا تدري ما يحدث الزمان بك.ص34
47_ لا تطمع في كل ما تسمع.ص34
48_ لا تطلب سرعة العمل، واطلب تجويده؛ فإن الناس لا يسألون في كم فرغ منه، وإنما يسألون عن جودة صنعته.ص34
49_ لا تطلبن الحاجة إلى كذوب؛ فإنه يقر بها وإن كانت بعيدة، ويبعدها وإن كانت قريبة، ولا إلى أحمق؛ فإنه يريد نفعك فيضرك، ولا إلى من له إلى صاحب الحاجة حاجة؛ فإنه يجعل حاجتك وقاية لحاجته.ص34 _ 35
54_ إياك والبخل؛ فإن البخيل خازن لأعدائه.ص43
55_ إياك والغضب؛ فإنه يضطرك إلى سوء الاعتذار.ص44
56_ إياك ومعاداة الرجال؛ فإنك لن تعدم مكر حليم، أو مفاجأة لئيم.ص44
57 _ إياك والعجلة؛ فإن العرب كانت تكنيها: أمَّ الندامة.ص44
ص44 _ 45
69_ إذا عثر عاثر فاحمد الله أن لا تكونه.ص47
60_ إذا أحببت فلا تفرط، وإذا أبغضت فلا تشطط.ص47
61_ إذا أقبلت الدنيا على الإنسان أعطته محاسن غيره، وإذا دبرت عنه سلبته محاسن نفسه.ص47
62_ إذا جهل عليك الأحمق فليس له صلاح إلا الرفق والتلطف. ص48_49
63_ إذا فتحت بينك وبين أحد باباً من المعروف فاحذر أن تغلقه ولو بالكلمة الجميلة.ص49
64_ إذا رضي المرء بالميسور ضُرب بينه وبين الأنكاد سور.ص49
65_ إذا أبصرت العين الشهوة عمي القلب عن الاختيار.ص49(2/46)
66_ إذا قبح السؤال حسن المنع.ص49
67_ إذا شاورت العاقل صار نصف عقله لك.ص49
68_ إذا كنت في غير بلدك فلا تنس نصيبك من الذل.ص50
73_ من أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يديه.ص59
74_ من عرف قدره علا أمره.ص60
75_ من نظر في العواقب نجا.ص61
76_ من فرح بمدح الباطل فقد أمكن الشيطان من نفسه.ص61
77_ من غضب من غير شيء فسيرضى من غير شيء.ص63
78_ من لم يمنع نفسه من الشهوات تسرعت إليه الهلكات.ص63
ص67
80_ ليس بخالص ولا لبيب من لم يعاشر بالمعروف من لم يجد من معاشرته بداً حتى يجعل الله _ تعالى _ له مخرجاً.ص69
81_ ليس من شرط الحليم أن لا يضجر، لكن أن يضجر بوزن.ص69
82_ إفشاء السر أحد المفسرين.ص77
83_ إدمان النظر أحد الفسقين.ص77
84_ القلم أحد اللسانين.ص77
85_ اثنان ظالمان يأخذان غير حقهما: رجل وُسِّع له في مجلس ضيق فتربع وانتفخ، ورجل أهديت له نصيحة فجعلها ذنباً.ص80
86_ خصلتان يحبهما العاقل، ويكرهما الجاهل: الصبر عند النوائب، والعفو عند المقدرة.ص80
87_ وأمران يستصلح بهما أخراه: عقل يعرف به خطأه من صوابه، ورشده من غيه، ونزاهة يقهر بها هواه، ويصرف بها شهوته.ص80
88_ أسباب الفتن ثلاثة: عين ناظرة، وصورة ناضرة، وشهوة قادرة.ص84
90_ أربعة يسود بها المرء: الأدب، والعلم، والعفة، والأمانة.ص90
91_ أربعة ينبغي للعاقل أن يمنع نفسه منها: العجلة، واللجاجة، والعجب، والتواني.ص90
92_ ست خصال من كن فيه فهو إنسان كامل: الألفة، والحياء، والأدب، والأنفة، والشكر، والرجاء.ص96(2/47)
96_ قال حكيم لحكيم: ما السؤدد؟ فقال: اصطناع العشيرة، واحتمال الجريرة، قال: فما الشرف؟ فقال: كف الأذى، وبذل الندى، قال: فما الثناء؟ فقال: استعمال الأدب، ورعاية الحسب، قال: فما المجد؟ فقال: احتمال المغارم، وابتناء المكارم، قال: فما المروءة؟ قال؟ عرفان الحق، وتعاهد الصنيعة، قال: فما السماحة؟ فقال: حب السائل، وبذل النائل، قال: فما الكرم؟ فقال: صدق الإخاء في الشدة والرخاء.ص105
97_ من وصية الرشيد للمأمون : لا تتكل على أن تقول: كان أبي الرشيد، واعمل على ما يتكل عليه من يقول: كان أبي المأمون.ص112
98_ وقيل لقيس بن عاصم: بم سودك قومك؟ قال: بكف الأذى، وبذل الندى، ونصرة المولى.ص113
99_ وكان عبدالله بن طاهر قد خلف أربعين ولداً ذكراً، فقال أبو العميثل الأعرابي الشاعر لمصعب بن عبدالله، وكان يختص بطاهر وينادمه: ألا أدلك على شيء تفعله فتتقدم به سائر إخوتك عند الأمير طاهر؟ قال : بلى، فأنشده هذه الأبيات، وقال اكتب بها إلى الأمير:
يا من يحاول أن تكون خلالهُ ... كخلال عبدالله أنصت واسمعِ
فلأقصدنك بالنصيحة والذي ... حج الحجيج إليه فاقبل أو دعِ
إن كنت تطمع أن تحل محلهُ ... في المجد والشرف الأشم الأرفعِ
فاصدُقْ وعَفَّ وبِرَّ وانصر واحتمل ... واحلُم ودارِ وكافِ واصبر واخشعِ
والطُفْ ولِنْ وتأنَّ وَارفِقْ واتئد ... واحزِمْ وجِدَّ وحامِ واحملْ وادفعِ
هذا الطريق إلى المكارم مهيعاً ... فأبصرْ فقد أسلكت قصد المهيعِ
فاستحسن طاهر الأبيات، وقال: والله لقد أفدتني بما يجب به شكرك علي، فقلده نيسابور وأعمالها ثلاث سنين، وأكسبه ألف ألف درهم.
وقد جمعت هذه الأبيات خلال المكارم، وموجبات السؤدد، وتفاريق المروءة.ص115
100_ قيل لعرابة الأوسي: بم سودك قومك؟ قال: بأربع خلال: أنخدع لهم في مالي، وأذل لهم عرضي، ولا أحقر صغيرهم، ولا أحسد كبيرهم، وفي عرابة الأوسي يقول الشاعر:(2/48)
رأيت عرابة الأوسيَّ يسمو ... إلى الخيرات منقطع القرينِ
إذا ما رايةٌ رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمينِ
ص115 _ 116
101_ وكان أسماء بن خارجة الفزاري سيد أهل الكوفة، فقال له يوماً عبدالملك بن مروان: ما أشياء تبلغني عنك يا أسماء؟ فقال: يحدثك غيري عني يا أمير المؤمنين، فقال له عبدالملك: وعلى ذلك فأحب أن أسمعها منك يا أسماء، فقال: نعم، يا أمير المؤمنين ما مددت رجلي بين يدي جليس لي قط، مخافة أن يرى أني تكبرت عليه، ولا سألني رجل قط حاجة فكان أكبر همي من الدنيا إلا قضاء حاجته، ولا أكل رجل قط عندي أكلة إلا كان له الفضل علي أيام حياتي، ولا ظلمني رجل قط بمظلمة إلا رأيت عقوبته العفو عنه، فقال عبدالملك: حسبك بهذا شرفاً يا أسماء! ثم أنشد عبدالملك يقول:
إذا ما ماتَ خارجةُ بن حصنٍ ... فلا مطرتْ على الأرضِ السماء
ولا رجعَ الوفودُ بغنمِ عيشٍ ... ولا حملتْ على الطهر النساء
لَيومٌ منك خيرٌ منْ أناسٍ ... كثيرٍ حولهمْ نَعَمٌ وشاء
فبورك في بنيكَ وفي بنيهم ... إذا ذكروا ونحن لك الفداء
ص116_ 117
102_ وقال بعضهم: إذا رغبت في المكارم، فاجتنب المحارم. ص119
ص119
104_ وقال عبدالله بن عمر بن عبدالعزيز: قال لي رجاء بن حيوة: ما رأيت رجلاً أكمل أدباً، ولا أجمل عشرة من أبيك؛ وذلك أني سهرت معه ليلة، فبينما نحن نتحدث إذا غشى المصباح، وقد نام الغلام، فقلت له: يا أمير المؤمنين، قد غشي المصباح، أفنوقظ الغلام ليصلح المصباح؟ فقال: لا تفعل، فقلت: أفتأذن لي أن أصلحه، فقال: لا؛ لأنه ليس من المروءة أن يستخدم الإنسان ضيفه، ثم قام هو بنفسه، وحط رداءه عن منكبيه، وأتى إلى المصباح فأصلحه، وجعل فيه الزيت، وأشخص الفتيل، ثم رجع وأخذ رداءه وجلس، ثم قال: قمت، وأنا عمر بن عبدالعزيز، وجلست، وأنا عمر بن عبدالعزيز.ص124(2/49)
105_ ووصف الشعبي أدب عبدالملك بن مروان، فقال: والله ما أعرفه قط، إلا آخذاً بثلاث تاركاً لثلاث: آخذاً بحسن الحديث إذا حَدَّث، وبحسن الاستماع إذا حُدِّثَ، وبأيسر المؤنة إذا خولف، تاركاً للمحاورة مع اللئيم، ومماراة السفيه، ومنازعة اللجوج.ص124
106_ ومن الواجب على من عري من الأدب، وتخلى عن المعرفة والفهم، ولم يتحل بالعلم _ أن يلزم الصمت، ويأخذ نفسه به؛ فإن ذلك حظ كبير من الأدب، ونصيب وافر من التوفيق؛ لأنه يأمن من الغلط، ويعتصم من دواعي السقط؛ فالأدب رأس كل حكمة، والصمت جماع الحكم.
قال الشاعر:
وفي الصمت سترٌ للعيي وإنما ... صحيفةُ لبِّ المرءِ أن يتكلما
ص128
107_ قال يحيى بن خالد: ما رأيت رجلاً قط إلا هبته حتى يتكلم، فإن كان نصيحاً عظم شأنه في صدري، وإن كان مقصراً سقط من عيني.
قال الشاعر:
لسانُ المرء ينبئُ عن حجاهِ ... وعي المرء يسترهُ السكوتُ
ص128 _ 129
108_ اعلم أن المروءة دالة على كرم الأعراق، باعثة على مكارم الأخلاق، وهي: مراعاة الأحوال التي يكون الإنسان على أفضلها.ص130
109_ قال ابن سلام: حد المروءة: رعي مساعي البر، ورفع دواعي الضر، والطهارة من جميع الأدناس، والتخلص من عوارض الالتباس، حتى لا يتعلق بحاملها لوم، ولا يلحق به ذم؛ وما شيء يحمل على صلاح الدين والدنيا ويبعث على شرف الممات والمحيا إلا وهو داخل تحت المروءة.ص130
110_ وقيل لبعض الحكماء: ما المروءة؟ قال: طهارة البدن، والفعل الحسن.ص130
111_ قيل للأحنف بن قيس: ما المروءة؟ قال: صدق اللسان، ومواساة الإخوان.ص131
112_ قال بعض الحكماء: لا تفارق الصبر؛ فتعظمَ عليك البلوى، ولا المروءة؛ فتشمت بك الأعداء.ص132
113_ وسئل عبدالله الفارسي عنها _ يعني المروءة _ فقال: هي التألف، والتظرف، والتنظف، وترك التكلف.ص135
114_ وأنشد ثعلب:
من عفَّ خفَّ على الصديق لقاؤه ... وأخو الحوائج وجهه مبذول(2/50)
وأخوك من وفرت ما في كيسه ... فإذا استعنت به فأنت ثقيل
ص137
115_ دواء المودة كثرة التعاهد.ص139
ص139
117_ أجمعت الحكماء وأهل الفضل على أن السيادة والمروءة وأجمع خلال العشرة _ في المسارعة إلى المعونة، وفي العفو مع المقدرة، وفي التودد إلى الناس، والتحبب لهم.ص152
118_ مكتوب في التوراة: لتكن كلمتك لينة، ووجهك بسيطاً، تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطاء.ص152
119_ وفي المثل: الكلام الحسن مصايد القلوب، والعبوس من طبعه البُؤس.ص152
120_ وقال أرسطاليس للإسكندر: أعظم من أوصيك به أن لا تتبغض إلى أحد من خلق الله، فرأس العقل _ بعد الإيمان _ التحبب إلى الناس كافة.ص153
121_ قال الشاعر:
البشرُ يُكسبُ أهلهُ ... صدقَ المودَّةِ والمحبةْ
والتيه يستدعي لصا ... حبه المذمة والمسبةْ
ص153
122_ قال أبو جعفر المنصور: إن أحببت أن يكثر الثناء الجميل عليك من الناس بغير نائل فالقهم ببشر حسن.ص154
123_ وقالوا: ثلاثة لا يقوم للمرء الرشد إلا فيهن: مشاورة ناصح، ومداراة حاسد، والتحبب إلى الناس.ص154
124_ وقال بعضهم: مداراة الناس نصف العقل.ص154
125_ وقال العتابي: المداراة سياسة لطيفة، لا يستغني عنها ملك، ولا سوقة يحتلبون بها المنافع، ويدفعون بها المضار، فمن كثرت مداراته، كان في ذمة الحمد والسلامة.ص154
126_ وقال بعضهم: ينبغي للعاقل أن يداري زمانه مداراة السابح الماء الجاري.ص154
127_ لما قدم حاتم الأصم إلى أحمد بن حنبل قال له أحمد بعد بشاشة به: أخبرني كيف التخلص إلى السلامة من الناس؟ فقال له حاتم: بثلاثة أشياء، فقال له أحمد: ما هي؟ قال: تعطيهم مالك ولا تأخذ مالهم، وتقضي حقوقهم ولا تطالبهم بقضاء حقوقك، وتصبر على أذاهم ولا تؤذهم، فقال أحمد: إنها لصعبة! قال له حاتم: وليتك تسلم.ص155 _ 156
128_ قالت الحكماء: من غض بصره عن عيوب الناس غضوا أبصارهم عنه.ص156
ص156(2/51)
130_ قال بعض الحكماء: استشعروا السلامة للناس، والبسوا لهم اللين، والقوهم بالبشاشة، وعاشروهم بالتودد، وتفضلوا عليهم بحسن الاستماع، وإن كان ما يأتون به نزراً؛ فإن لكل امرئ عند نفسه قدراً، فالقوهم بما يستنبطون به إليكم، وخرِّجوا عقولكم بأدب كل زمان، واجروا مع أهله على مناهجهم تَقِلَّ مساويكم، وتسلم لكم أعراضكم، وضعوا عنكم مؤنة الخلاف، واللجاجة في المنازعة، فربما ورثت الشحناء، ونقضت هرم المودة والإخاء، فليكن المرء مقبلاً على شأنه، راضياً عن زمانه، سلماً لأهل دهره، جارياً على عادة عصره، ولا يباينهم بالعزلة فيمقتوه، ولا يجاهرهم بالمخالفة فيعادوه، فإن موافقة الناس رشاد، ومخالفتهم ضلال وعناد.ص156
131_ وفي المثل: إدمان الخلاف من أسباب التلف.156
132_ وفي المثل: الأخلاق الصالحة ثمرة العقول الراجحة؛ فمن لقي الناس بالإحسان، وعاملهم بالأخلاق الحسان _ فهو الذي يخف عليهم جانبه، وتخمد أنحاؤه ومذاهبه، ولن يعدم منهم حسن الثناء، ومن الله جزيل الجزاء.ص157
ص157
134_ اعلم أن في الحكايات والأخبار سلوة للنفوس، وآداباً نافعة للرئيس والمرؤوس، والقلوب ترتاح إليها من شجونها، والآذان تصغي لسماع طُرفها وفنونها، والوحيد يأنس بمطالعتها، والجليس ينبسط بمذاكرتها ومحاضرتها، والطباع تجم بها من مللها، ويذهب عنها قلة نشاطها، وكثرة كسلها، والملوك يتحفون بها، وينال الجاه والرفعة منهم بسببها.ص158
135_ وقال عمر بن الخطاب÷: عليكم بطرائف الأخبار؛ فإنها من علم الملوك والسادة، وبها تنال المنزلة والحظوة منهم.
قال علي÷: قيمة كل امرئ ما يحسن.158
136_ وقال بعض ملوك الهند لبنيه: أكثروا من النظر في الكتب، وازدادوا في كل يوم حرفاً، فإن ثلاثة لا يستوحشون في غربة: الفقيه العالم، والبطل الشجاع، والحلو اللسان الكثير مخارج الرأي.ص158
137_ وقيل للمأمون: ما ألذ الأشياء؟ قال: التنزه في عقول الناس، يعني: قراءة أقوالهم.ص158(2/52)
138_ روي أن عمر بن الخطاب÷قدم الشام على حمار، ومعه عبدالرحمن بن عوف÷على حمار، فتلقاهما معاوية في مركب له ردء، فجاوز عمر، حتى أخبر فرجع إليه، فلما قرب منه نزل، فأعرض عنه عمر وتركه يمشي، فقال له عبدالرحمن: أتعبت الرجل يا أمير المؤمنين، فأقبل على معاوية فقال له: أنت صاحب المركب آنفاً مع ما بلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، وقال: ولم ذلك؟ قال: لأنا في بلاد لا نمتنع فيها من جواسيس العدو، ولا بد لهم مما يرهبهم من هيبة السلطان، فإن أمرتني بذلك أقمت عليه، وإن نهيتني انتهيت، فقال: يا معاوية، ما عاتبتك في شيء يبلغني عنك إلا تركتني منه في أضيق من رواحب الضرس، فإن كان الذي قلت حقاً فرأي أريب، وإن كان باطلاً فخدعة أديب، ولست آمرك به ولا أنهاك عنه، فقال عبدالرحمن: يا أمير المؤمنين، لَحَسَنٌ ما صدر هذا عما أوردته فيه، فقال عمر: لِحُسْنِ موارده ومصادره جشمناه ما جشمناه.ص183
139_ حكي أنه لما مرض الشافعي÷مرضه الذي مات منه، قال له لقومه: إذا أنا مت، فقولوا لفلان يغسلني، فلما توفي وبلغه الخبر، قال: ائتوني بتذكرته، فجيء بها إليه، فوجد فيها على الشافعي سبعون ألف درهم ديناً لفلان وفلان، فكتبها الرجل على نفسه، وقال: هذا هو الغسل الذي أراده.ص185
140_ مر الشافعي بسوق الحدادين بمصر، فسقط قوسه من يده، فقام رجل من دكانه، فأخذه ومسحه بكمه، وناوله إياه، فقال الشافعي÷لغلامه: كم معك؟ قال: سبعة دنانير، فقال له: ادفعها إليه.ص185
141_ خرج سعيد بن العاصي يوماً من عيادة مريض، فرآه شاب من قريش يمشي وحده، فماشاه حتى بلغ داره، فلما انتهى إلى باب الدار التفت إليه، فقال له: ألك حاجة؟ قال: ما لي حاجة، ولكني رأيتك تمشي وحدك فأحببت أن أصل جناحك، فقال: بارك الله فيك، مكانك، ثم دخل إلى منزله فأخرج إليه بدرة فيها عشرة آلاف درهم فدفعها إليه.ص185 _ 186(2/53)
142_ مر يزيد بن المهلب بأعرابية، عقب خروجه من سجن عمر ابن عبدالعزيز، يريد البصرة فَقَرَتْهُ عنزاً، فَقَبِلها، وقال لابنه معاوية: ما معك من النفقة؟ قال: ثمانمائة دينار، فقال: ادفعها إليها، فقال ابنه: إنك تريد الرجال، ولا يكون الرجال إلا بالمال، وهذه يرضيها اليسير، وهي بعد لا تعرفك، قال: فإن كانت ترضى باليسير فإنا لن نرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني، فأنا أعرف بنفسي، ادفعها إليها.ص186
143_ شتم رجل الشعبي، فقال له: إن كنت صادقاً يغفر الله لي، وإن كنت كاذباً يغفر الله لك.ص191
144_ أكب رجل من بني مرة على مالك بن أسماء يحدثه في يوم صيف، ويغمه ويثقل عليه، ثم قال: أتدري من قتلنا منكم في الجاهلية؟ قال: لا، ولكني أعرف من قتلتم منا في الإسلام، قال: ومن هم؟ قال: أنا، قتلتني اليوم بطول حديثك، وكثرة فضولك.ص192
145_ قيل للشافعي×: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت تطلبني ثمانية: الله _تعالى_ بالفرض، ورسوله " بالسنة، والدهر بصروفه، والعيال بقُوتِهم، والحفظة بما ينطق لساني، والشيطان بالمعاصي، والنفس بالشهوات، وملك الموت بقبض روحي.ص225
146_ قال الربيع بن خثيم: أقلوا الكلام إلا بتسع: تكبير، وتهليل، وتحميد، وسؤالك الخير، وتعوذك من الشر، وأمرك بالمعروف، ونهيك عن المنكر، وقراءة القرآن، وأن لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك من حيث أمرك. ص225
147_ قال بعض العلماء: ركّب الله _ تعالى _ الملائكة من عقل بلا شهوة، وركب البهائم من شهوة بلا عقل، وركب الآدميين من كليهما، فمن غلب عقله شهوته تشبه بالملائكة، ومن غلبت شهوته عقله تشبه بالبهائم.(2/54)
فالعاقل_ كل العاقل _من ميز نفسه، وعرف قدره، ونظر بعين الحقيقة، وأمعن الفكرة الصحيحة، وعلم أن جوارحه قد ركبت فيها جميع الشهوات، وأن طباعه قد حببت إليها صنوف اللذات، فلا يقدر على قسرها، ولا يتمكن من صرفها وقهرها إلا بالمجاهدة، وملك الشهوة بخطام التقوى، وما أشد وما أصعب! ألا ترى إلى قول النبي": =حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات+. ص235
148_ وقال لقمان لابنه: يا بني، أول ما أحذرك من نفسك؛ فإن لكل نفس هوى وشهوة، فإن أعطيتها شهوتها تمادت وطلبت سواها، فإن الشهوة كامنة في القلب ككمون النار في الحجر، إن قدح أورى، وإن ترك توارى.ص235
149_ قال أفلاطون: في الإنسان أربع طبائع: العقل، والهوى، والشهوة، والعفة، فالعقل يعاتب الهوى، والهوى يقاتل العفة، والعفة تعاتب الشهوة، والشهوة تقاتل العفة، والإنسان مسلط على مشيئته، فمن عمل خيراً جوزي به، ومن عمل شراً كوفئ عليه. ص235
150_ وقال سعيد بن جبير لابنه: يا بني إني أوصيك بوصية إن لم تحفظها مني كنت جديراً أن لا تحفظها من غيري، يا بني: أظهر للناس الجميل، وإياك وطلب الحاجة؛ فإنه فقر حاضر، وإذا صليت فصل صلاة مودع، وأنت ترى أن لا تصلي بعدها أبداً، وإن استطعت أن تكون غداً خيراً منك أمس فافعل، وإياك أن تيأس عن شيء أتى الله منه خيراً.ص251
151_ وقال بعض الحكماء في وصية: إذا أعجبك ما تواصفه الناس من محاسنك فانظر فيما بطن من مساويك، ولتكن معرفتك بنفسك أوثق عندك من مدح الناس لك.ص263
152_ وقال ابن عباس÷: لا يزهدنك في المعروف كفر من كفره؛ فإنه يشكرك عليه من لم تصطنعه إليه، وإني _ والله _ ما رأيت أحداً أسعفته في حاجة إلا أضاء ما بيني وبينه، ولا رأيت أحداً رددته عن حاجة إلا أظلم ما بيني وبينه.ص264 _ 265(2/55)
153_ وأوصى رجل ابنه، فقال له: يا بني، إذا كنت في قوم فدار بينهم تدبيراً، فلا تعجل بالجواب قبل أن تعرف ما عندهم، ولا تتكبر عن متابعتهم إذا ظهر لك الحق؛ فإن المتابعة على الصواب أحسن من الابتداء بالخطأ.ص266
154_ واعلم أن الشهوات حلوة الموارد، مرة المصادر.ص269
ص272
156_ لا تمازح حليماً ولا سفيهاً؛ فإن الحليم يقليك، والسفيه يؤذيك.ص278
157_ واعلم أن المراء يمرض قلبك، ويضعف رأيك، ويزرى بمروءتك عند جلسائك، ويفسد الصداقة القديمة، وفي ذلك قال الشاعر:
فإياك إياك المراء فإنه ... إلى الشر دعَّاء وللشر جالب
ص278
158_ إذا أتيت بلد أهلها على غير ما تعرف، فاترك كثيراً مما كنت تعرف، وخذ بما يعرفون؛ فإن ذلك من حسن المداراة، وكثير من دارى فلم يسلم فكيف بمن لم يدار؟. ص279
_ =نبذة عن المؤلف+:
هو الإمام القاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني، المولود عام 1173هـ، والمتوفى عام 1250هـ.
كان × من العلماء المتفننين، فقد كان مفسراً، ومحدثاً، وفقيهاً، وأصولياً، ومؤرخاً، وشاعراً، وأدبياً، ومحققاً، وناقداً، إلى غير ذلك من الأوصاف التي أطلقها عليه مترجموه.
ولد وعاش في اليمن، وتلقى العلم على علماء بلده، وساعده على ذلك تشجيع والده علي بن محمد الشوكاني ت1211هـ؛ فقد هيأ له كل الوسائل اللازمة للتفرغ لطلب العلم؛ فجنَّبه هم التفكير والبحث في أسباب المعيشة.
وبعد أن انتهى الشوكاني من دراسته على أيدي شيوخه، واستوفى بذلك جميع ما عندهم _ تفرغ للتدريس، والبحث، والتأليف، والتعليم، والإفتاء، والقضاء، والإشراف على إدارة الشؤون الخارجية لليمن؛ فقد كان يطلع على المراسلات الخارجية الموجهة إلى أئمة اليمن من الزعماء، ورؤساء الدول ويتولى الرد عليها باسمه، أو باسم الأئمة الذين عاصرهم.
وكان ذا همة، ودأب، ونهم في طلب العم.
وكان يعد في طليعة المجددين في عصره؛ حيث نهض بالعقول، وسعى في تخليصها من أسر الجمود والتقليد.(2/56)
وكان ذا خلق فاضل، وعزة نفس، وحب للخير، وحرص على نشر العلم.
أما مؤلفاته فكثيرة متنوعة منها: تفسير ه المعروف بـ (فتح القدير)، ومنها البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، وإرشاد الفحول، والسيل الجرار وغيرها.
ومنها هذا الكتاب: أدب الطلب ومنتهى الأرب.
_ =تعريف بالكتاب+:
هذا الكتاب يعد أهم مؤلفات الشوكاني×لأنه _ رغم صغر حجمه _ يفصح عن شخصية الشوكاني عالم موسوعي، ومجتهد مستقل، ومجدد بارع يتمتع بموهبة فذة، وبمقدرة كبيرة على العطاء والإبداع؛ إذ هو نابع من خلاصة تجربته العلمية الثرية كطالب، ومدرس، وقاض، ومجتهد كما أنه نابع عن تطلعاته ونزعته التجديدية والإصلاحية.
وهذا الكتاب يعد من أهم، الكتب التربوية، التي تعنى بطلب العلم، ومناهجه، وآداب أهله، وما جرى مجرى ذلك.
وقد عني أهل العلم بهذا الكتاب منذ صدور طبعته الأولى من مركز الدراسات والبحوث اليمنية بصنعاء عام 1979م بتحقيق الأستاذ عبدالله محمد الحبشي.
أما الطبعة التي بين أيدينا فهي الطبعة الأولى من تحقيق ودراسة الأستاذ عبدالله يحيى السريحي.
وقد اعتنى بالكتاب عناية فائقة؛ حيث قدم بدراسة وافية عن الشوكاني وعن كتابه هذا.
ولقد جاء الكتاب في مجلد واحد في 294 صفحة، وهو من مطبوعات دار ابن حزم ط1، 1419هـ _ 1998م بيروت _ لبنان _.
_ =النقولات المنتقاة+: قال ×:
1_ فأول ما على طالب العلم أن يحسن نيته، ويصلح طويته، ويتصور أن هذا العمل الذي قصد له، والأمر الذي أراده هو الشريعة التي شرعها الله _ سبحانه _ لعباده، وبعث بها رسله، وأنزل بها كتبه، ويجرد نفسه عن أن يشوب ذلك بمقصد من مقاصد الدنيا، أو يخلطه بما يكدره من الإرادات التي ليست منه، كمن يريد به الظفر بشيء من المال أو الوصول إلى نوع من الشرف أو البلوغ إلى رئاسة من رئاسات الدنيا، أو جاه يحصِّله به؛ فإن العلم طيب، لا يقبل غيره، ولا يحتمل الشركةَ.(2/57)
والروائحُ الخبيثةُ إذا لم تغلب على الروائح الطيبة _ فأقل الأحوال أن تساويها وبمجرد هذه المساواة لا يتبقى للطيب رائحة.
والماءُ الصافيْ العذبُ الذي يستلذه شاربه، كما يكدره الشيء اليسير من الماء المالح فضلاً عن غير الماء من القاذورات، بل يُنَغِّص لذته مجرد وجود القذاة فيه ووقوع الذباب عليه، هذا على فرض أن مجرد تشريك العلم مع غيره له حكم هذه المحسوسات وهيهات ذاك؛ فإن من أراد أن يجمع في طلبه العلم بين قصد الدنيا والآخرة فقد أراد الشطط، وغلط أقبح الغلط؛ فإن طلب العلم من أشرف أنواع العبادة وأجلها وأعلاها، وقد قال الله سبحانه: [وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ] البينة 5.
فقيَّد الأمر بالعبادة بالإخلاص الذي هو روحها، وصح عن رسول الله"حديث: =إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى+.ص82
2_ فإن وطنت نفسك أيها الطالب، على الإنصاف وعدم التعصب لمذهب من المذاهب، ولا لعالم من العلماء، بل جعلت الناس جميعاً بمنزلة واحدة في كونهم منتمين إلى الشريعة، محكوماً عليهم بها لا يجدوا لأنفسهم عنها مخرجاً، ولا يستطيعون متحولاً، فضلاً عن أن يرتقوا إلى ما هو فوق ذلك من كونه يجب على أحد من الأمة العمل على رأي واحد منهم، أو يلزمه تقليده، وقبول قوله _ فقد فزت بأعظم فوائد العلم، وربحت بأنفس فرائده.
ولأمر ما جعل _صلى الله عليه وآله وسلم_ المنصف أعلم الناس، وإن كان مقصراً؛ فإنه أخرج الحاكم في المستدرك، وصححه مرفوعاً =أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس، وإن كان مقصراً في العمل، وإن كان يزحف على أسته+.
هكذا في حفظي؛ فليراجع المستدرك؛ فانظر كيف جعل صلى الله عليه وآله وسلم المنصف أعلم الناس، وجعل ذلك هو الخصلة الموجبة للأعلمية، ولم يعتبر غيرها.ص89 _ 90.(2/58)
3_ ومن جملة الأسباب التي يتسبب عنها ترك الإنصاف، ويصدر عنها البعد عن الحق، وكتم الحجة وعدم ما أوجبه الله من البيان: حب الشرف والمال اللذين هما أعدى على الإنسان من ذئبين ضاريين، كما وصف ذلك رسول الله ".ص106
4_ ومن جملة الأسباب التي يتسبب عنها ترك الإنصاف، وكتم الحق، وغمط الصواب _ ما يقع بين أهل العلم من الجدال والمراء؛ فإن الرجل قد يكون له بصيرة، وحسن إدراك، ومعرفة بالحق، ورغوب إليه، فيخطئ في المناظرة، ويحمله الهوى، ومحبة الغلب، وطلب الظهور على التصميم على مقاله، وتصحيح خطئه، وتقويم معوجِّه بالجدال والمراء.
وهذه الذريعة الإبليسية، والدسيسة الشيطانية قد وقع بها من وقع في مهاوٍ من التعصبات، ومزالق من التعسفات عظيمةِ الخطر، مخوفة العاقبة.
وقد شاهدنا من هذا الجنس ما يقضي منه العجب؛ فإن بعض من يسلك هذا المسلك لا يجاوز ذلك إلى الحلف بالإيمان على حقيقة ما قاله، وصواب ما ذهب إليه، وكثيراً منهم يعترف بعد أن تذهب عنه سورة الغضب وتزول عنه نزوة الشيطان بأنه فعل ذلك تعمداً مع علمه بأن الذي قاله غير صواب.
وقد وقع مع جماعة من السلف من هذا الجنس ما لا يأتي عليه الحَصر وصار ذلك مذاهب تروى، وأقوال تحكى كما يعرف ذلك من يعرفه.ص110 _111.
5_ ومن الأسباب المقتضية للتعصب: أن يكون بعض سلف المشتغل بالعلم قد قال بقول، ومال إلى رأي؛ فيأتي هذا الذي جاء بعده؛ فيحمله حب القرابة على الذهاب إلى ذلك المذهب والقول بذلك القول، وإن كان يعلم أنه خطأ، وأقل الأحوال إذا لم يذهب إليه أن يقول فيه: إنه صحيح، ويتطلب له الحجج، ويبحث عما يقويه، وإن كان بمكان من الضعف، ومحل من السقوط، وليس له في ذلك حظ ولا معه فائدة إلا مجرد المباهاة لمن يعرفه، والتزين لأصحابه بأنه في العلم مُعْرِقٌ، وأن بيته قديم فيه.
ولهذا ترى كثيراً منهم يستكثر من: قال جدُّنا، قال والدُنا، اختار كذا، صنع كذا، فعل كذا.(2/59)
وهذا لاشك أن الطباع البشرية تميل إليه، ولا سيما طبائع العرب؛ فإن الفخر بالأنساب، والتحدث بما كان للسلف من الأحساب يجدون فيه من اللذة ما لا يجدونه في تعدد مناقب أنفسهم، ويزداد هذا بزيادة شرف النفس، وكرم العنصر، ونبالة الآباء.
ولكن ليس من المحمود أن يبلغ بصاحبه إلى التعصب في الدين، وتأثير الباطل على الحق؛ فإن اللذة التي يطلبها، والشرف الذي يريده قد حصل له بكون(1) من سلفه ذلك العالم، ولا يضيره أن يترك التعصب له، ولا يمحق عليه شرفه.
بل التعصب _ مع كونه مفسداً للحظ الأخروي _ يفسد عليه أيضاً الحظ الدنيوي؛ فإنه إذا تعصَّب لسلفه بالباطل فلا بد أن يعرف كل من له فهم أنه متعصب، وفي ذلك عليه من هدم الرفعة التي يريدها، والمزية التي يطلبها ما هو أعظم عليه وأشد من الفائدة التي يطلبها، بكون(2) له قريب عالم؛ فإنه لا ينفعه صلاح غيره مع فساد نفسه.
وإذا لم يعتقد فيه السامع التعصب اعتقد بلادة الفهم، ونقصان الإدراك، وضعف التحصيل؛ لأن الميل إلى الأقوال الباطلة ليس من شأن أهل التحقيق الذين لهم كمال إدراك، وقوة فهم، وفضل دراية، وصحة رواية.
بل ذلك دأب من ليست له بصيرة نافذة، ولا معرفة نافعة.
فقد حصل عليه بما تلذذ به، وارتاح إليه من ذكر شرف السلف ما حقق عند سامعه بأنه من خلف الخلف.ص111 _ 112.
6_ وبالجملة فالخاصة إذا بقي فيهم شيء من العصبية كان إرجاعهم إلى الإنصاف متيسر غير متعسر بإيراد الدليل الذي تقوم به الحجة لديهم؛ فإنهم إذا سمعوا الدليل عرفوا الحق، وإذا جادلوا وكابروا فليس ذلك عن صميم اعتقاد، ولا عن خلوص نية.
فرياضة الخاصة بإيراد الأدلة عليهم، وإقامة حجج الله، وإيضاح براهينه.
__________
(1) _ 2_ هكذا في الأصل، ولعلها: بكونه.(2/60)
وذلك يكفي؛ فإنهم لمِاَ قد عرفوه من علوم الاجتهاد، ومارسوه من الدقائق، لا يخفى عليهم الصواب، ولا يلتبس عليهم الراجح بالمرجوح، والصحيح بالسقيم، والقوي بالضعيف، والخالص بالمغشوش.ص118 _ 119.
7_ ورياضة العامة بإرشادهم إلى التعلم، ثم بذل النفس لتعليمهم ما هو الحق في اعتقاد ذلك المعلم بعد أن صار داعياً من دعاة الحق، ومرشداً من مرشدي المسلمين، ثم ترغيبهم بما وعد الله به، وإخبارهم بما يستحقه، من فعل كفعلهم من الجزاء والأجر، ثم يجعل لهم من القدوة بأفعاله مثل ما يجعله لهم من القدوة بأقواله أو زيادة؛ فإن النفوس إلى الاقتداء بالفعَّال أسرع منها إلى الاقتداء بالقوَّال.ص119
8_ والعقبة الكؤود، والطريق المستوعرة، والخطب الجليل، والعبء الثقيل_إرشادُ طبقة متوسطة بين طبقة العامة والخاصة، وهم قوم قلدوا الرجال، وتلقنوا علم الرأي ومارسوه، حتى ظنوا أنهم بذلك قد فارقوا طبقة العامة وتميزوا عنهم.
وهم لم يتميزوا في الحقيقة عنهم، ولا فارقوهم إلا بكون جهل العامة بسيطاً وجهل هؤلاء جهلاً مركباً، وأشد هؤلاء تغييراً لفطرته، وتكديراً لخلقته أكثرهم ممارسة لعلم الرأي، وأثبتهم تمسكاً بالتقليد، وأعظمهم حرصاً عيه؛ فإن الدواء قد ينجح في أحد هؤلاء في أوائل أمره، وأما بعد طول العكوف على ذلك، والشغف به والتحفظ له، فما أبعد التأثير وما أصعب القبول؛ لأن طبائعهم مازالت تزداد كثافة بازدياد تحصيل ذلك، وتستفيد غلظة وفظاظة باستفادة ذلك، وبمقدار ولوعهم بما هم فيه، وشغفهم به تكون عداوتهم للحق، ولعلم الأدلة، وللقائمين بالحجة.(2/61)
ولقد شاهدنا من هذه الطبقة ما لو سردنا بعضه لاستعظمه سامعه، واستفظعه؛ فإن غالبهم لا يتصور بعد تمرنه فيما هو فيه إلا مَنْصِباً يثب عليه، أو يتيماً يشاركه في ماله، أو أرملة يخادعها عن ملكها، أو فرصةً ينتهزها عند ملك أو قاض، فيبلغ بها إلى شيء من حطام الدنيا، ولايبقى في طبائع هؤلاء شيء من نور العلم، وهدى أهله وأخلاقهم، بل هم أشبه شيء بالجبابرة، وأهل المباشرة للمظالم، ومع هذا فهم أشد خلق الله تعصباً وتعنتاً وبُعداً من الحق، ورجوعهم إلى الحق من أبعد الأمور وأصعبها؛ لأنه لم يبق في أفهامهم فضلة لتعقّل ذلك وتدبّره، بل قد صار بعضها مستغرقاً بالرأي، وبعضها مستغرقاً بالدنيا.
فإن قلتَ: فهل بقي مطمع في أهل هذه الطبقة؟ وكيف الوصول إلى إرشادهم إلى الإنصاف وإخراجهم عن التعصب؟
قلتُ: لا مطمع إلا بتوفيق الله وهدايته؛ فإنه إذا أراد أمراً يسّر أسبابه، وسهّل طرائقه، وأحسن ما يستعمله العالم مع هؤلاء ترغيبهم في العلم، وتعظيم أمره، والإكثار من مدح علوم الاجتهاد، وأن بها يعرف أهل العلم الحق من الباطل، ويميّزون الصواب من الخطأ، وأن مجرد التقليد ليس من العلم الذي ينبغي عد صاحبه من جملة أهل العلم. ص119 _ 120
9_ ومن آفات التعصب الماحقة لبركة العلم أن يكون طالب العلم قد قال بقول في مسألة كما يصدر ممن يفتي، أو يصنف، أو يناظر غيره، ويشتهر ذلك القول عنه، فإنه قد يصعب عليه الرجوع عنه إلى ما يخالفه، وإن علم أنه الحق، وتبين له فساد ما قاله.ص141
10_ ومن الآفات المانعة عن الرجوع إلى الحق أن يكون المتكلم بالحق حدث السن بالنسبة إلى من يناظره، أو قليل العلم أو الشهرة في الناس، والآخر بعكس ذلك؛ فإنه قد تحمله حمية الجاهلية والعصبية الشيطانية على التمسك بالباطل؛ أنفةً منه عن الرجوع إلى قول من هو أصغر منه سناً، أو أقل منه علماً، أو أخفى شهرةً؛ ظناً منه أن في ذلك عليه ما يحط منه، وينقص ما هو فيه.(2/62)
وهذا الظن فاسد؛ فإن الحط والنقص إنما هو في التصميم على الباطل، والعلوّ والشرف في الرجوع إلى الحق بيد من كان وعلى أي وجه حصل. ص142_144.
11_ وبالجملة فالأسباب المانعة من الإنصاف لا تخفى على الفَطِن، وفي بعضها دقّة تحتاج إلى تيقظ وتدبر، وتتفق في كثير من الحالات لأهل العلم والفهم والإنصاف، فالمعيار الذي لا يزيغ أن يكون طالب العلم مع الدليل في جميع موارده ومصادره لا يثنيه عنه شيء، ولا يحول بينه وبينه حائل.ص143
12_ واعلم أنه كما يتسبب عن التعصب محق بركة العلم، وذهاب رونقه، وزوال ما يترتب عليه من الثواب_ كذلك يترتب عليه من الفتن المفضية إلى سفك الدماء وهتك الحرم، وتمزيق الأعراض، واستحلال ما هو في عصمة الشرع ما لا يخفى على عاقل، وقد لا يخلو عصر من العصور، ولا قطر من الأقطار من وقوع ذلك.ص145
13_ ومن الأسباب المانعة من الإنصاف ما يقع من المنافسة بين المتقاربين في الفضائل، أو في الرئاسة الدينية، أو الدنيوية؛ فإنه إذا نفخ الشيطان في أنفهما، وترقَّت المنافسة بلغت إلى حد يحمل كل واحد منهما على أن يرد ما جاء به الآخر إذا تمكن من ذلك وإن كان صحيحاً جارياً على منهج الصواب.
وقد رأينا وسمعنا من هذا القبيل عجائب صنع فيها جماعة من أهل العلم صنيع أهل الطاغوت، وردوا ما جاء به بعضهم من الحق، وقابلوه بالجدال الباطل والمراء القاتل.ص173
14_ وينبغي لمن كان صادق الرغبة، قوي الفهم، ثاقب النظر، عزيز النفس، شهم الطبع، عالي الهمة، سامي الغريزة _ أن لا يرضى لنفسه بالدون، ولا يقنع بما دون الغاية، ولا يقعد عن الجد والاجتهاد المُبلِّغين له إلى أعلى ما يراد، وأرفع ما يستفاد؛ فإن النفوس الأبية، والهمم العلية لا ترضى بدون الغاية في المطالب الدنيوية من جاه أو مال أو رئاسة أو صناعة أو حرفة حتى قال قائلهم:
إذا غامرت في شرف مروم
... فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير ... كطعم الموت في أمر عظيم(2/63)
وقال آخر مشيراً إلى هذا المعنى:
إذا ما لم تكن ملكاً مطاعاً ... فكن عبداً لخالقه مطيعا
وإن لم تملك الدنيا جميعاً ... كما تهواه فاتركها جميعا
هما شيئان من ملك ونسك ... ينيلان الفتى شرفاً رفيعا
وقال آخر:
فإما مكاناً يضرب النجم دونه
... سرادقه أو باكياً لحمام
وقد ورد هذا المعنى كثيراً في النظم والنثر، وهو المطلب الذي تنشط إليه الهمم الشريفة، وتقبله النفوس العلية.
وإذا كان هذا شأنهم في الأمور الدنيوية التي هي سريعة الزوال، قريبة الاضمحلال_ فكيف لا يكون ذلك من مطالب المتوجهين إلى ما هو أشرف مطلباً، وأعلى مكسباً، وأرفع مراداً، وأجل خطراً، وأعظم قدراً، وأعود نفعاً، وأتم فائدة.
وهي المطالب الدينية مع كون العلم أعلاها وأولاها بكل فضيلة، وأجلها وأكملها في حصول المقصود، وهو الخير الأخروي؛ فإن الله سبحانه قد قرن العلماء في كتابه بنفسه وملائكته فقال: [شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ] آل عمران:18.
وقصر الخشية له التي هي سبب الفوز لديه عليهم، فقال: [إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ] فاطر:28.
وأخبر عباده بأنه يرفع علماء أمته درجات، فقال: [يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ] المجادلة:11.
وأخبرنا رسول الله _ صلى الله عليه وآله وسلم _ =بأن العلماء ورثة الأنبياء+.
وناهيك بهذه المزية الجليلة، والمنقبة النبيلة؛ فأكرم بنفس تطلب غاية المطالب في أشرف المكاسب، وأحبب برجل أراد من الفضائل ما لا تدانيه فضيلة، ولا تساميه منقبة، ولا تقاربه مكرمة؛ فليس بعد ما يتصوره أهل الطبقة الأولى متصور؛ فإن نالوه على الوجه الذي تصوروه، فقد ظفروا من خير العاجلة والآجلة وشرف الدنيا والآخرة بما لا يظفر به إلا من صنع صنيعهم ونال نيلهم، وبلغ مبالغهم.(2/64)
وإن اخترمهم دونه مخترم، وحال بينهم وبينه حائل فقد أعذروا، وليس على من طلب جسيماً، ورام أمراً عظيماً أن منعته عنه الموانع، وصرفته عنه الصوارف من بأس، وما أحسن ما قاله الشريف الرضي الموسوي:
لابد أن أركبها صعبةً
... وقاحة تحت علام وقاح
أُجْهِدها أو تنثني بالردى
... دون الذي أملت أو بالنجاح
إما فتى نال المنى فاشتفى
... أو بطل ذاق الردى فاستراح
وكنت في أيام الطلب وعصر الشباب قد نظمت قصيدة في هذا المعنى على هذا النمط، أذكر منها الآن أبياتاً هي:
قد أتعب السير رحالي وقد
... آن لها بعد الوحى أن تُراح
فما يهاب العتْبَ مَنْ فاز مِنْ
... غايةِ أمنيَّته بالنجاح
سعى فلما ظفرت بالمنى
... يمينُه ألقى العصا واستراح
ص180 _ 182
15_ وعلى العاقل أن يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتبه الله له، ولا يعدوه ما قدّره له، وأنه قد فرغ من أمر رزقه الذي فرضه الله له؛ فلا القعود يصده، ولا السعي وإتعاب النفس يوجب الوصول إلى ما لم يأذن به الله.
وهذا معلوم من الشرع قد توافقت عليه صرائح الكتاب والسنة، وتطابقت عليه الشرائع.
وإذا كان الأمر هكذا فما أحق هذا النوع العاقل من الحيوان الذي دارت رحى التكليف عليه، ونيطت أسباب الخير والشر به _ أن يشتغل بطلب ما أمره الله بطلبه، وتحصيل ما خلقه الله لتحصيله، وهو الامتثال لما أمره به من طاعته، والانتهاء عما نهاه عنه من معاصيه.
ومن أعظم ما يريده الله منه ويقربه إليه ويفوز به عنده: أن يشغل نفسه، ويستغرق أوقاته في طلب معرفة هذه الشريعة التي شرعها الله لعباده، وينفق ساعاته في تحصيل هذا الأمر الذي جاءت به رسل الله إلى عباده ونزلت به ملائكته.ص184 _ 185(2/65)
16_ وإن لحسن النية وإخلاص العمل تأثيراً عظيماً في هذا المعنى؛ فمن تعكَّست عليه بعض أموره من طلبة العلم، أو أكْدَتْ عليه مطالبه، وتضايقت مقاصده _ فليعلم أنه بذنبه أصيب، وبعدم إخلاصه عوقب، أو أنه أصيب بشيء من ذلك محنة له وابتلاء واختباراً؛ لينظر كيف صبره واحتماله، ثم يفيض عليه بعد ذلك من خزائن الخير ومخازن العطايا في ما لم يكن بحسبان، ولا يبلغ إليه تصور؛ فليعض على العلم بناجذه، ويشد عليه يده، ويشرح به صدره؛ فإنه لا محالة واصل إلى المنزل الذي ذكرنا، نائل للمرتبة التي بيّنا.ص186
17_ وما أحسن ما حكاه بعض أهل العلم عن الحكيم أفلاطون فإنه قال: الفضائل مُرة الأوائل حلوة العواقب، والرذائل حلوة الأوائل مُرة العواقب.
وقد صدق؛ فإن من شغل أوائل عمره، وعنفوان شبابه بطلب الفضائل لا بد له أن يفطم نفسه عن بعض شهواتها، ويحبسها عن الأمور التي يشتغل بها أترابه ومعارفه من الملاهي ومجالس الراحة، وشهوات الشباب، فإذا انتهى إليه ما هم فيه من تلك اللذات والخلاعات وجد في نفسه بحكم الشباب، وحداثة السن، وميل الطبع إلى ما هناك مرارة، واحتاج إلى مجاهدة يرد جامح طبعه، ومتفلت هواه ومتوثِّب نشاطه، لا يتم له إلا بإلجام شهوته بلجام الصبر، ورباطها بمربط العفة.
وكيف لا يجد مرارة الحبس للنفس من كان في زاوية من زوايا المساجد ومقصورة من مقاصر المدارس، لا ينظر إلا في دفتر ولا يتكلم إلا في فن من الفنون، ولا يتحدث إلا إلى عالم أو متعلم، وأترابه ومعارفه من قرابته وجيرانه وذوي سنه وأهل نشأته وبلده يتقلبون في رفاهة العيش ورائق القصف!؟(2/66)
وإذا انضم لذلك الطالب إلى هذه المرارة الحاصلة له بعزف النفس عن شهواتها مرارة أخرى هي إعواز الحال، وضيق المكسب وحقارة الدخل _ فإنه لا بد أن يجد من المرارة المتضاعفة ما يعظم عنده موقعه، لكنه يذهب عنه ذلك قليلاً قليلاً؛ فأول عقدة تنحل عنه من عقد هذه المرارة عند أن يتصور ما يؤول به الأمر، وينتهي إليه حاله من الوصول إلى ما قد وصل إليه من يجده في عصره من العلماء، ثم تنحل عنه العقدة الثانية بفهم المباحث، وحفظ المسائل، وإدراك الدقائق؛ فإنه عند ذلك يجد من اللذة والحلاوة ما يذهب بكل مرارة، ثم إذا نال من المعارف حظاً، وأحرز منها نصيباً، ودخل في عداد أهل العلم كان متقلباً في اللذات النفسانية التي هي اللذات الحقيقية، ولا يعدم عند ذلك من اللذات الجسمانية ما هو أفضل وأحلى من اللذات التي يتقلب فيها كل من كان من أترابه.
وهو إذا وازن بين نفسه الشريفة وبين فرد من معارفه الذين لم يشتغلوا بما اشتغل به اغتبط بنفسه غاية الاغتباط، ووجد من السرور والحبور ما لا يقادر قدره. ص186 _ 187
18_ وكنت في أوائل أيام طلبي للعلم في سن البلوغ أو بعدها بقليل تصورت ما ذكرته هنا فقلت:
سددت الأُذْنَ عن داعي التصابي
... فلا داعٍ لدي ولا مجيبُ
وأنفقت الشبيبة غير وانٍ
... لمجد الشيب فليهن المشيب
وقلت _ أيضاً _ رامزاً إلى هذا المعنى:
وأبدي رغبة لنجود نجدٍ
... وشوقاً لانْتشاقي منه ريحاً
وما بسوى العقيق أقام قلبي ... وأضحى بين أهليه طريحاً
ص188(2/67)
19_ وأما كون الرذائل حلوة الأوائل مُرة العواقب فَصِدْقُ هذا غير خافٍ على ذي لب؛ فإن من أرسل عنان شبابه في البطالات، وحل رابط نفسه فأجراها في ميادين اللذات _ أدرك من اللذة الجسمانية من ذلك بحسب ما يتفق له منها ولا سيما إذا كان ذا مال وجمال، ولكنها تنقضي عنه اللذة، وتفارقه هذه الحلاوة إذا تكامل عقله، ورجح فهمه، وقوي فكره؛ فإنه لا يدري عند ذلك ما يدهمه من المرارات التي منها الندامة على ما اقترفه من معاصي الله، ثم الحسرة على ما فوَّته من العمر في غير طائل، ثم الكربة على ما أنفقه من المال في غير حلّه، ولم يفز من الجميع بشيء، ولا ظفر من الكل بطائل.
وتزداد حسرته، وتتعاظم كربته إذا قاس نفسه بنفس من اشتغل بطلب المعالي من أترابه في مقتبل شبابه؛ فإنه لا يزال عند موازنة ذاته بذاته، وصفاته بصفاته في حسرات متجددة، وزفرات متصاعدة، ولا سيما إذا كان بيته في العلم طويل الدعائم، وسلفه من المتأهلين لتلك المعالي والمكارم؛ فإنه حينئذٍ تذهب عنه سكرة البطالة، وتنقشع عنه عماية الجهالة بكروب طويلة، وهموم ثقيلة، وقد فاته ما فات وقد حيل بين العير والنزوان، وحال الجريض دون القريض، وفي الصيف ضيعت اللبن؛ فانظر _ أعزك الله _ أي الرجلين أربح صفقة، وأكثر فائدة، وأعظم عائدة؛ فقد بين الصبح لذي عينين، وعند الصباح يحمد القوم السرى.ص188 _ 189.(2/68)
20_ لا ينبغي لعالم أن يدين بغير مادان به السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم من الوقوف على ما تقتضيه أدلة الكتاب والسنة، وإبراز(1) الصفات كما جاءت، ورد علم المتشابه إلى الله سبحانه، وعدم الاعتداد بشيء من تلك القواعد المدونة في هذا العلم، المبنية على شفا جرف هار من أدلة العقل التي لا تعقل، ولا تثبت إلا بمجرد الدعاوي والافتراء على العقل بما يطابق الهوى، ولا سيما إذا كانت مخالفة لأدلة الشرع الثابتة في الكتاب والسنة؛ فإنها حينئذٍ حديث خرافة ولعبة لاعب، فلا سبيل للعباد يتوصلون به إلى معرفة ما يتعلق بالرب _ سبحانه _ وبالوعد والوعيد، والجنة والنار، والمبدأ والمعاد إلا ما جاءت به الأنبياء _ صلوات الله عليهم وسلامه _ عن الله _ سبحانه _.
وليس للعقول وصول إلى تلك الأمور، ومن زعم ذلك فقد كلف العقول ما أراحها الله منه ولم يتعبدها به، بل غاية ما تدركه، وجل ما تصل إليه هو ثبوت الخالق الباري، وأن هذه المصنوعات لها صانع، وهذه الموجودات لها موجد، وما عدا ذلك من التفاصيل التي جاءتنا في كتب الله _ عز وجل _ وعلى ألسن رسله فلا يستفاد من العقل، بل من ذلك النقل الذي منه جاءت، وإلينا به وصلت.ص198
21_ واعلم أني عند الاشتغال بعلم الكلام وممارسة تلك المذاهب والنحل لم أزدد بها إلا حيرة ولا استفدت منها إلا العلم بأن تلك المقالات خزعبلات فقلت إذ ذاك مشيراً إلى ما استفدته من هذا العلم.
وغاية ما حصّلته من مباحثي ... ومن نظري من بعد طول التدبر
هو الوقف ما بين الطريقين حيرة
... فما علم من لم يلق غير التحير
على إنني قد خضت منه غماره
... وما قنعت نفسي بدون التبحر
__________
(1) _ لعلها: إمرار.(2/69)
وعند هذا رميت بتلك القواعد من حالق، وطرحتها خلف الحائط، ورجعت إلى الطريقة المربوطة بأدلة الكتاب والسنة المعمودة بالأعمدة التي هي أوثق ما يعتمد عليه عباد الله، وهم الصحابة ومن جاء بعدهم من علماء الأمة المقتدين بهم، السالكين مسالكهم، فطاحت الحيرة، وانجابت ظلمة العماية، وانقشعت سحابة الجهالة، وانكشفت ستور الغواية، ولله الحمد، على أني _ ولله الشكر _ لم اشتغل بهذا الفن إلا بعد رسوخ القدم في أدلة الكتاب والسنة، فكنت إذا عرضت مسألة من مسائله، مبنية على غير أساس رجعت إلى ما يدفعها من علم الشرع، ويدمغ زائفها من أنوار الكتاب والسنة، ولكني كنت أقدر في نفسي أنه لو لم يكن لدي إلا تلك القواعد والمقالات فلا أجد حينئذ إلا حيرة، ولا أمشي إلا في ظلمة، ثم إذا ضربت بها وجه قائلها، ودخلت إلى تلك المسائل من الباب الذي أمر الله بالدخول منه كنت حينئذ في راحة من تلك الحيرة، وفي دعة من تلك الخزعبلات، والحمد لله رب العالمين عدد ما حمده الحامدون بكل لسان في كل زمان. ص198 _ 199
22_ وبالجملة فالمجتهد على التحقيق: هو من يأخذ الأدلة الشرعية من مواطنها على الوجه الذي قدمناه، ويفرض نفسه موجوداً في زمن النبوة، وعند نزول الوحي وإن كان في آخر الزمان وكأنه لم يسبقه عالم، ولا تقدمه مجتهد.
فإن الخطابات الشرعية تتناوله كما تناولت الصحابة من غير فرق.
وحينئذ يهون الخطب، وتذهب الروعة التي نزلت بقلبه من الجمهور، وتزول الهيبة التي تداخل قلوب المقصرين.ص206(2/70)
23_ ومما يزيد من أراد هذه الطبقات علواً ويفيده قوة إدراك، وصحة فهم، وسيلان ذهن _ الاطلاع على أشعار فحول الشعراء ومُجِيْديهم، والمشهورين منهم باستخراج لطائف المعاني، ومطربات النكات مع ما يحصل له بذلك من الاقتدار على النظم، والتصرف في فنونه؛ فقد يحتاج العالم إلى النظم لجواب ما يرد عليه من الأسئلة المنظومة، أو المطارحات الواردة إليه من أهل العلم، وربما ينظم في فن من الفنون لغرض من الأغراض الصحيحة؛ فإن من كان بهذه المنزلة الرفيعة من العلم إذا كان لا يقتدر على النظم كان ذلك خدشة في وجه محاسنه، ونقصاً في كماله.
وهكذا الاستكثار من النظر في بلاغات أهل الإنشاء المشهورين بالإجادة والإحسان المتصرفين في رسالاتهم ومكاتباتهم بأفصح لسان وأبين بيان؛ فإنه ينتفع بذلك إذا احتاج إلى الإنشاء، أو جاوب صديقاً، أو كاتب حبيباً؛ لأنه ينبغي أن يكون كلامه على قدر علمه، وهو إذا لم يمارس جيد النظم والنثر كان كلامه ساقطاً عن درجة الاعتبار عند أهل البلاغة، والعلم شجرة ثمرتها الألفاظ، وما أقبح بالعالم المتبحر في كل فن أن يتلاعب به في النظم والنثر من لا يجاريه في علم من علومه، ويتضاحك منه من له أدنى إلمام بمستحسن الكلام ورائق النظام، ويستعين على بلوغ ما يليق به ويطابق رتبته بمثل علم العروض والقوافي، وأنفع ما في ذلك منظومة الجزاز وشروحها، وبمثل المؤلفات المدونة لذلك، وأنفع ما ينتفع به (المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر) لابن الأثير.
ثم لا بأس على من رسخ قدمه في العلوم الشرعية أن يأخذ بطرف من فنون هي من أعظم ما يصقل الأفكار، ويصفي القرائح، ويزيد القلب سروراً، والنفس انشراحاً، كالعلم الرياضي والطبيعي والهندسة والهيئة والطب. ص206_207.
24_ وبالجملة فالعلم لكل فن خير من الجهل به بكثير، ولاسيما من رشح نفسه للطبقة العلية، والمنزلة الرفيعة.ص207(2/71)
25_ وإني لأعجب من رجل يدعي الإنصاف والمحبة للعلم، ويجري على لسانه الطعن في علم من العلوم لا يدري به، ولا يعرفه، ولا يعرف موضوعه، ولا غايته، ولا فائدته، ولا يتصوره بوجه من الوجوه.ص208
26_ وأما من كان أهلاً للعلم وفي مكان من الشرف فإنه يزداد بالعلم شرفاً إلى شرفه، ويكتسب به من حسن السِّمت وجميل التواضع ورائق الوقار وبديع الأخلاق ما يزيد علمه علواً وعرفانه تعظيماً، فيتخلق بأخلاق الأنبياء ومن يمشي على طريقهم، من عاملي العلماء وصالحي الأمة، ويعرف للعلم حقه، ويعظمه بما ينبغي من تعظيمه، فلا يكدره بالمطامع، ولا يشوبه بالخضوع لأهل الدنيا، ولا يُجَهِّمه بالتوصل به إلى ما في يد الأغنياء فيكون عنده مخدوماً لا خادماً، ومقصوداً لا قاصداً.ص216
27_ وبين هاتين الطائفتين طائفة ثالثة، ليست من هؤلاء ولا من هؤلاء، جعلوا العلم مكسباً من مكاسب الدنيا، ومعيشة من معايش أهله لا غرض لهم فيه إلا إدراك منصب من مناصب أسلافهم، ونيل رئاسة من الرئاسات التي كانت لهم، كما نشاهده في غالب البيوت المعمورة بالقضاء أو الإفتاء أو الخطابة أو الكتابة، أو ما هو شبيه بهذه الأمور؛ فإن من كان طالباً للوصول إلى شيء من هذه الأمور، ذهب إلى مدارس العلم يتعلم ما يتأهل به لما يطلبه، وهو لا يتصور البلوغ إلى الثمرة المستفادة من العلم، والغاية الحاصلة لطالبه فيكون ذهنه كليلاً، وفهمه عليلاً، ونفسه خائرة، ونيته خاسرة، بل غاية تصوره ومعظم فكرته في اقتناص المنصب والوصول إليه، فيخدم في مدة طلبه واشتغاله أهل المناصب ومن يرجو منهم الإعانة على بلوغ مراده أكثر مما يخدم العلم، ويتردد إلى أبوابهم ويتعثر في مجالسهم، ويذوق به من الإهانة ما فيه أعظم مرارة ويتجرع من الغصص ما يصغر قدر الدنيا بالنسبة إليه.
فإذا نال ذلك المنصب ضرب بالدفاتر وجه الحائط، وألقاها خلف السور لعدم الباعث عليها من جهة نفسه والمُنشِّط على العلم والمرغب فيه.ص216 _ 217(2/72)
28_ ومن هذه الحيثية تنازل منصب العلم، وتهاون الناس به؛ لأنهم يرون رجلاً قد لبس لباس أهل العلم، وتزيَّا بزيهم، وحضر مجالسهم، ثم ذهب إلى مجالس أهل الدنيا ومن لهم قدرة على إيصال أهل الأعمال الدنيوية إليها من وزير أو أمير، فتصاغر لهم، وتذلَّل، وتهاون، وتحقر، حتى يصير في عداد خدمهم ومن هو في أبوابهم.ص218
29_ ولا أقول: إن أهل العلم العارفين به المطلعين على أسراره يمنعون أنفسهم من المناصب الدينية، وكيف أقول بهذا وهذه المناصب إذا لم تربط بهم ضاعت، وإذا لم يدخل فيها الأخيار تتابع فيها الأشرار، وإذا لم يقم بها أهل العلم قام بها أهل الجهل، وإذا أدبر عنها أهل الورع أقبل إليها أهل الجور؟! وكيف أقول هذا وأهل العلم هم المأمورون بالحكم بين الناس بالحق والعدل والقسط، وما أنزل الله وما أراهم الله، والقيام بين الناس بحججه، والتبليغ لأحكامه، وتذكيرهم بما أمر الله بالتذكير به وإرشادهم إلى ما أرشدهم الله إليه، ولأهل القضاء والإفتاء ونحوهما من هذه الأمور أوفر نصيب وأكبر حظ؟!.
ولكني أقول: إنه ينبغي لطالب العلم أن يطلبه كما ينبغي، ويتعلمه على الوجه الذي يريده الله منه، معتقداً أنه أعلى أمور الدين والدنيا، راجياً أن ينفع به عباد الله بعد الوصول إلى الفائدة منه.
ومن جملة النفع إذا احتاج إليه الملوك وأهل الدنيا أن يلي منصباً من المناصب، فطلبوا منه ذلك، وعوَّلوا عليه في الإجابة معترفين بحق العلم منقادين إلى ما يوجبه الشرع معظمين لما أوجب الله تعظيمه، وكان قد بلغ إلى منزلة في العلم تصلح ذلك المنصب، وشهد له أهل العلم بكمال التأهل، وإحراز عدته _ فهذا إذا كان الحال هكذا لا يحل له أن يمتنع من الإجابة، أو يأبى من قبول ذلك؛ فإنه إذا فعل ذلك كان تاركاً لما أوجبه الله عليه من القيام بحجته، ونشر أحكامه، وإرشاد عباده إلى معالمه، ونهيهم عن تجاوز حدوده.
ولا شك أن ذلك من أوجب الواجبات على أهل العلم وأهم المهمات.(2/73)
ولو جاز ذلك لمن طلب منهم وعُوِّل عليه لجاز لغيره من أهل العلم أن يصنع كصنعه، ويسلك مسلكه؛ فتتعطل معاهد الشرع، وتذهب رسومه =ويتخذ الناس رؤساء جهالاً يقضون بغير علم فيضلون ويضلون+ وذلك من علامات القيامة، وأشراط الساعة_ كما ورد به الخبر الصحيح_.ص219 _ 220
30_ وبالجملة: فمن كان قاصداً إلى علم من العلوم كان عليه أن يتوصل إليه بالمؤلفات المشهورة بنفع من اشتغل بها، المحررة أحسن تحرير، المهذبة أبلغ تهذيب.ص227
31_ فالعالم المرتاض بما جاءنا عن الشارع، الذي بعثه الله _ تعالى _ متمماً لمكارم الأخلاق _ إذا أخذ نفسه في تعليم العباد وإرشادهم إلى الحق، وجَذْبهم عن الباطل، ودَفْعهم عن البدع، والأخذ بحجزهم عن كل مزلقة من المزالق ومدحضة من المداحض، بالأخلاق النبوية، والشمائل المصطفوية الواردة في الكتاب العزيز والسنة المطهرة، فيَسَّر ولم يعسر، وبشر ولم ينفر، وأرشد إلى ائتلاف القلوب واجتماعها، ونهى عن التفرق والاختلاف، وجعل غاية همه وأقصى رغبته جلب المصالح الدينية للعباد ودفع المفاسد عنهم _ كان من أنفع دعاة المسلمين، وأنجع الحاملين لحجج رب العالمين، وانجذبت له القلوب، ومالت إليه الأنفس، وتذلل له الصعب، وتسهل عليه الوعر، وانقلب له المتعصب منصفاً، والمبتدع متسنناً، ورغب في الخير من لم يكن يرغب فيه، ومال إلى الكتاب والسنة من كان يميل عنهما، وتردى بأثواب الرواية من كان متجلبباً بالرأي، ومشى في رياض الاجتهاد واقتطف من طيب ثمراته، واستنشق من عابق رياحينه من كان معتقلاً في سجن التقليد، مكبلاً بالقيل والقال، مكتوفاً بآراء الرجال.ص231 _ 232(2/74)
32_ ومن جملة ما ينبغي له تصوره، ويعينه استحضاره أن يعلم أن هذه الشريعة المباركة هي ما اشتمل عليه الكتاب والسنة من الأوامر والنواهي، والترغيبات والتنفيرات، وسائر ما له مدخل في التكليف، من غير قصد إلى التعمية والألغاز، ولا إرادة لغير ما يفيده الظاهر، ويدل عليه التركيب ويفهمه أهل اللسان العربي؛ فمن زعم أن حرفاً من حروف الكتاب والسنة لا يراد به المعنى الحقيقي والمدلول الواضح فقد زعم على الله ورسوله زعماً يخالف اللفظ الذي جاءنا عنهما، فإن كان ذلك لمسوغ شرعي تتوقف عليه الصحة الشرعية أو العقلية التي يتفق العقلاء عليها، لا مجرد ما يدعيه أهل المذاهب والنحل على العقل، مطابقاً لما قد حببه إليهم التعصب، وأدناه من عقولهم البعد عن الإنصاف _ فلا بأس بذلك، وإلا فدعوى التجوز مردودة مضروب بها في وجه صاحبها. ص235_236
33_ ومن جملة ما يستعين به على الحق، ويأمن معه من الدخول في الباطل وهو لا يشعر أن يقرر عند نفسه أن هذه الشريعة لما كانت من عند عالم الغيب والشهادة، الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ويعلم ما تكن الصدور وتخفيه الضمائر، ويحول بين المرء وقلبه _ كانت المخادعة بالحيل الباطلة، والتخلص مما طلبه بالوسائل الفاسدة، من أعظم المعاصي له، وأقبح التجاري(1) عليه.
وجميع هذه الحيل التي دوَّنها أهل الرأي هي ضد لما شرعه، وعناد له، ومراوغة لأحكامه، ومجادلة باطلة لما جاء في كتابه وسنة رسوله.
ومن تفكر في الأمر كما ينبغي، وتدبره كما يجب اقشعر له جلده، ووقف عنده شعره؛ فإن هذا الذي وضع للعباد هذه الحيل كأنه يقول لهم هذا الحكم الذي أوجبه الله عليكم أو حرمه قد وجدت لكم عنه مخلصاً، ومنه متحولاً بذهني الدقيق وفكري العميق، هو كذا وكذا.
__________
(1) _ لعلها: التجري.(2/75)
فهذا المخذول قد بلغ من التجري على الله _ تعالى _ مبلغاً يتقاصر عنه الوصف؛ لأنه ذهب يعانده ويضاد ما تعبدنا به بمجرد رأيه الفايل، وتخيله الباطل مقراً على نفسه بقبيح صنعه، وأنه جاء بما يريح العباد من الحكم الشرعي، فإن كان مع هذا معتقداً أن ذلك التحيل الذي جاء به يحلل الحرام ويحرم الحلال _ فهو _ مع كذبه على الله وافترائه على شريعته _ قد ضم ذلك إلى ما يستلزم أنه يدعي لنفسه أن يشرع للعباد من عند نفسه غير ما شرعه لهم، وذلك ما يكون إلا لله _سبحانه_ فإن كان هذا المخذول يدعي لنفسه الألوهية مع الله _سبحانه_ فحسبك من شرٍّ سماعُه.
وإن كان لا يدعي لنفسه ذلك فيقال له: ما بالك تصنع هذا الصنع؟ وأي أمر ألجاك إليه؟ وأوقعك فيه؟
فإن قال: رأيت الله _ عز وجل _ قد صنع مثل هذا في قصة أيوب، وصنعه رسول الله _ صلى الله عليه وآله وسلم _ في المريض الذي زنى.
فيقال له: ما أنت وهذا؟ لا كثر الله في أهل العلم من أمثالك، ومن أنت حتى تجعل لنفسك ما جعله الله لنفسه؟ فلو كان هذا الأمر الفظيع سائغاً لأحد من عباد الله لكان لهم أن يشرعوا كما شرع، وينسخوا من أحكام الدين ما شاءوا كما نسخ.
ثم أي جامع بين هذه أو بين ما شرعه الله من ذلك؟ فإنه مجرد خروج من مأثم، وتحلل من يمين قد شرع الله _ تعالى _ فيها إتيان الذي هو خير كما تواترت بذلك الأحاديث الصحيحة، حتى ثبت في الصحيح أن رسول الله _ صلى الله عليه وآله وسلم _ حلف على ذلك فقال: =والله لا أحلف على شيء فأرى غيره خيراً منه إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني+.
فأين هذا مما يصنعه أسراء التقليد من الكذب على الله _ تعالى _ وعلى شريعته وعلى عباده.ص237_238(2/76)
34_ ومن جملة هذه الوصايا الطاغوتية والنذور الشيطانية، ما يفعله كثير من الناس من النذور والوصايا على قبور الأموات؛ فإنه لا مقصد لهم بذلك إلا استجلاب الخير، واستدفاع الشر من صاحب القبر، وهو قد صار بين أطباق الثرى، يعجز عن نفع نفسه فضلاً عن نفع غيره؛ فلا يصح شيء من ذلك، بل يتوجَّب على أهل الولايات صرفه في مصالح المسلمين، ويعرِّفون الناس بقبح ما يصنعونه من ذلك، وأنه من الأمور التي لا يحل اعتقادها، وأن الضر والنفع واستجلاب الخير واستدفاع الشر بيد الله _ عز وجل _ ليس لغيره فيه حكم، ولا له عليه اقتدار.
فإن رجعوا عن ذلك وتابوا وإلا انتقل صاحب الولاية معهم إلى ما هو أشد من ذلك، ولا يدعهم حتى يتوبوا.
وهكذا ما يقع من الأوقاف على القبور؛ فإنها من الحُبَس الشيطانية، والدلس الطاغوتية.
ولا يحل تقرير شيء منها ولا السكوت عنه، بل صرفها في مصالح المسلمين من أهم الأمور وأوجبها؛ فإن في عدم إنكارها وإبطالها مفسدة عظيمة تنشأ عنها الاعتقادات الباطلة، المفضية بصاحبها إلى نوع من أنواع الشرك وهو لا يشعر. ص245_ 246
_ =تعريف بالكتاب+:
هذا الكتاب للشيخ العلامة محمد الخضر حسين
وقد مرت ترجمته في المجموعة الأولى من هذا المنتقى.
وقد سمى المؤلف × كتابه هذا: (مناهج الشرف).
وهذا الكتاب طريف في مسماه وفي مضمونه.
ومؤلفه ممن عرف بالعلم، والأدب، والتبحر في علوم الشريعة واللغة، والتواريخ، والاجتماع، وغيرها.
كما أن له أسلوباً مميزاً أخّاذاً يتجلى في شتى مؤلفاته، ومنها هذا الكتاب الذي بين أيدينا الذي طبع للمرة الأولى في مطبعة الترقي بدمشق في جمادى الثانية1331، ثم أعيدت طباعته مراراً.
والطبعة التي بين أيدينا من مطبوعات الدار الحسينية للكتاب ط4، 1413 هـ.
وقد اعتنى بها ابن أخي المؤلف الأستاذ علي الرضا الحسيني.(2/77)
أما موضوعات هذا الكتاب فتدور حول: معنى الشرف، ومناهجه، والتفاضل فيه، وشرف الإنسان، والقوة العاقلة، وفضيلة العلم، وأدب النفس، وفضيلة الإرادة، ومزية الاستطاعة، وفضيلة العمل، ودلائل الشرف، ومظاهر التشريف.
وقد استنار في هذه الرسالة بهدي الشرع، وما ورد عن السلف الصالح رضوان الله عليهم، وما جاء في أقوال الحكماء.
والحقيقة أن هذا الكتاب ماتع في بابه، رائع في أسلوبه، يحار فيه من يريد انتقاء جمل منه، فيكاد يأخذه برمته.
الكتاب يقع في 82 صفحة من القطع الصغير.
_ =النقولات المنتقاة+: قال ×:
1_ أما بعد: فإن معنى الشرف ومناهجه من أجمل الوجوه التي ينظر فيها الباحث عن حقائق الأشياء وأسرارها، وأعز ما يباكر إلى اجتناء معرفته قبل أن يدرج في حياته الاجتماعية ويسابق في مضمارها، وليست هذه المعرفة دانية القطوف، فيتناولها كل باع، من غير أن يفتقر في رسوخها إلى تحرير في العبارة واتساع، فإنك ترى كثيراً من الناس لم يستنبطوا المعنى الذي يضمه الشرف تحت اسمه، ولم يميزوا بينه وبين ما لا يضارعه في وسمه، ولا يدخل معه في رسمه. ص7
2_ تتشعب مداركهم في ذلك بحسب اختلاف أذواقهم وما يلائم طبائعهم، فربما ظنوا الرذيلة فضيلة؛ فأعنقوا إليها، أو حسبوا الفضيلة في قبيل ما يترفع عنه من الدنايا؛ فاعتزلوا ساحتها، وشددوا النكير على من احتفظ بها.
ونشأ عن هذا تطرفهم في مقام الحكم بالتفاضل بين الرجلين، إلى أن يذكر بعضهم في نعوت الشرف ما يعده غيرُه خسةً أو لاغية. ص7 _ 8
3_ هذا ما بعثني على أن أبحث في هذا الغرض، مستمداً في تحقيقه من دلائل الشريعة المقدسة، وسيرة علمائها الراشدين؛ فإن الإسلام لم يلق بهذا المعنى في يد العادات والأذواق، فَتُلْبِسُ ثوب الشرف من تشاء، وتنزعه عمن تشاء، بل أقام له قواعد، ورسم له معالم، من تخطى حدودها، وبنى على غير أساسها، كان في نظره سافلاً وضيعاً. ص8(2/78)
4_ وإذا تقصينا أثر ما يعد من أوضاع الشرف في عادات الأمم، واعتبرناه بنظر الإسلام، وجدناه على أربعة وجوه:
أحدها: ما وافق الشرع على اعتباره شرفاً في نفسه، فأثنى على صاحبه، ووعده بالمثوبة عليه، كسماحة اليد، وصدق اللهجة، والصبر للشدائد.
ثانيها: ما منحه التفاتة، وربط به بعض الأحكام، ولكنه يصرح بأنه غير معتد به لنفسه، وإنما هو وسيلة إلى غاية شرف، كسعة المال، أو أمارة تلوح إلى ما وراءها من فضل، كرفعة النسب.
ثالثها: ما تغاضى عنه، ولم ينزل به إلى عَدِّهِ نقيصة، كزيادة علم لا تنبني عليه فائدة علمية.
رابعها: ما أرشد إلى أنه يخدش في وجه الشرف، ويسقط بمن يرتكبه في جرف من المنكر، كبسط يد القوة إلى ما ليس بحق، ونصرة ذي القربى وإن كان مبطلاً.
قال عمرو بن الأهتم للأحنف في مجلس عمر بن الخطاب÷: إذ كنا نحن وأنتم في دار جاهلية، وكان الفضل فيها لمن جهل، فسفكنا دماءكم، وسبينا نساءكم، واليوم في دار الإسلام والفضل فيها لمن حلم.ص8 _ 9
5_ وأما ما لا يرونه شرفاً، ولا يسوقونه في مقام المفاخرة، فعلى ضربين:
أحدها: ما كانوا يتخيلونه نقيصة تحط من مكان الرجل، فكشف الشارع عن فساد تصورهم، وأيقظهم إلى أنه يلتئم بنظام الشرف، كالاحتفاظ بالبنات، والجلوس مع المساكين.
ثانيهما: ما حسبوه غير مناف للفضيلة، وقاسوه بالأعمال التي يسعها أن تقارن كرم الهمة، فنادى عليهم بالخطأ في قياسهم، وأشعرهم بأنه مما ينقض بناء الفضل، ويبلي أطلاله، كتعاطي الربا.ص9
6_ يطلق اسم الشرف، ويراد منه معنى الفضل، قال في لسان العرب: كل ما فُضِّل على شيء فقد شرف.
والفضل زيادة الشيء فيما هو كمال فيه، والشيء إنما يكمل بالوصف الذي يمتاز به، ويراد منه، كالصرامة في السيف، والعدْو في الفرس، والإضاءة في الكوكب، والحكمة في الإنسان، واستيفاء مطالب الحياة وشرائط السعادة في الأمة، وإجراء النظامات العادلة في الدولة.ص11(2/79)
7_ وأما الأمور المتمايزة بما هو كمال لها فإنها موضع الالتباس، فتستدعي إجالة نظر متسع، ولا يسهل وضعها في وزن مستقيم.
ومما يلقي الشبهة في تحقيق التفاضل بينها، أن الوصف الواحد قد يُعتبر في بعض الموجودات كمالاً، ويعد في غيره نقيصة، ومن هنا ترى بعض المحكَّمين في التفضيل بين أمرين، يتخذون افتراقهما في النوع عذراً يتخلصون به من القطع في المفاضلة بينهما.ص12
8_ يتفاضل البشر بحسب استعداداتهم الفطرية، وما يتهيأ لهم من وسائل الارتقاء؛ إلى رجل تصعد به محامده، حتى يسابق الملائكة في سماواتها العلى، وآخر يهوي إلى درك لو زحزح عنه إلى ما دونه التحق عند أولي البصيرة بمنازل الأنعام، وبين هذين المرتبتين مقامات أوسع من أن يحيط بكثرتها التفصيل. ص12 _ 13
9_ وإذا كان التفاضل في الخليقة وارداً على مقتضى الحكمة، فلا يجمُل بالرجل يأنس في نفسه المقدرة على إدراك منزلة، ولكنها دون الغاية البعيدة _ أن يحبس عِنانه، ويبقى عاكفاً في زوايا العجزة، بدعوى أنه لا يقنع إلا بالأمد الأسمى من السيادة.
ولو أخذ هذا بقبس من مراقبة أسرار الكون لأمضى عزمه، واندفع في سيره، ليبلغ إلى الغاية المستطاعة. ص13 _ 14
10_ وما كان ينبغي للرجل، حين تقوم له في سبيل مجده عقبات تقطع عنه وجهته_ أن يركن إلى خاطر اليأس، فينقض حبل رجائه، وينقلب إلى طبقات الأسافل، وليس له سوى أن يقف في مصارعتها حتى يكسر كعوبها، ويفت في جلمدها، فإن ما يتمخض به المستقبل، وتجري به صروف الأقدار أكبر من أن يضبطه قياس، أو تقضي عليه خواطر الإياس.ص14
11_ من ضرب بنظره في سيرة رجل ممن شهدت لهم العقول الراجحة، ورفعتهم في رتب السيادة إلى السنام، وأخذ يتبصر في الأحوال التي امتاز بها عن سائر الحيوان _ فأول ما يطالعه في صحيفة آثاره عملٌ منتظم، وسيرٌ لا عوج فيه، يتحرك فتتناثر الصالحات من خلال حركاته، ويسكن فتبتهج العيون بسكينته.(2/80)
وليست هذه الشؤون الظاهرة مما يعرض لأعضائه بغتة مثل ما يعرض الاختلاج للعين والارتعاش لليد، بل هي ناشئة عن قلب حاضر، ومنسوجة بإرادة ثابتة. ص18
12_ فتحرر بهذا الاستقراء: أن مدار كمال الإنسان على عقل، وعلم، وأدب، وإرادة، واستطاعة، وعمل. ص19
13_ القوة العاقلة: هي استطاعةُ النفسِ الانتفاعَ بالمعلومات عند الحاجة إليها.
ومما لا يحتمل الشبهة، أن حصص النفوس من هذه القوة متفاوتة؛ فمن الناس ذكي يقرأ من صفحات الوجوه، ولحظات العيون ما يُكِنِّه الرجل في خبايا سريرته، ومنهم غبي لا يصل إلى المعاني القريبة إلا بالعبارة الواضحة، وإعادتها عليه مرة بعد أخرى.ص20
14_ نوه الإسلام بشأن العقل، وشمله بعناية كبيرة، ونكتفي في تقرير هذه العناية بثلاثة شواهد:
أحدها: أنه منع من تناول ما يؤثر فيه خللاً، كالمسكرات، وأغلظ القول في تحريمه.
ثانيها: ما وضعه على من ضرب شخصاً فأزال عقله من دية مبلغها ألف دينار.
ثالثها: توسيع طرق النظر أمامه، واستدعاؤه إلى التدبر في أسرار الموجودات.
رفع الإسلام مكانة العقل، وأثبته في سجل الشرف، على شرط أن يواجهه صاحبه في البحث عن مكان الحقيقة، وينافس به لإحراز العلوم النافعة.
ومما ينبهك على هذا الشرط الوثيق، قوله _ تعالى _ في ذم قوم حبسوا عقولهم في ظلمة الباطل، ولم يطلقوها من أسر المتابعة والجمود: [إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً] الفرقان: 44.
فتمثيل حالهم بالأنعام، إنما ساقه إليهم إغفال عقولهم، وبقاؤها تائهة في أودية الجهالة، إلى أن حرموها حلاوة اليقين، وراحة الاعتقادات الراسية.
وقد مثل _ تعالى _ حال من نفروا عن العظة، ونأوا بجانبهم عن الإصاخة إليها بحال الحُمُر المتوحشة إذا عاينت أسداً امتلأت منه فزعاً، وطاشت عن ساحته فالتةً، فقال:[كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ] المدثر:50 _ 51.(2/81)
وفي إلحاقهم بالحمر، ووضعهم معها في قران التشبيه إيذان بأن منزلتهم في الحطّة ما برحت بإزاء منازلها، وأنَّ قُوى مداركهم لم تصعد بهم إلى مطالع الشرف قيد أنملة؛ حيث أصبحت عارية من إدراك ما فيه سعادة دائمة.
وقال _ تعالى _ في جملة ما قصه علينا من أقوال الضالين عن سنة هدايته: [وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ] الملك: 10 الآية.
فهؤلاء لم يريدوا سلب حقيقة العقل من أنفسهم بحسب الواقع، وإنما اعتبروه بمثابة المعدوم، وأطلقوا في نفيه؛ حيث لم يجتنوا به ثمرة الإيمان الواجب، ولم يستضيئوا به في البحث عن التعاليم المفيدة.ص22 _ 2315_ يذكر بعض الناس: أن واسع العقل يكون أنكد عيشاً في هذه الحياة، ممن قصرت أنظارهم، وجمدت مداركهم، ومنهم من يقول: إنما الراحة فيها على مقدار اتساع العقل، وبعد مراميه.
وقد فك ابن حزم التعارض بين المقالين: بأن استراحة العقلاء من جهة تلقي المكاره بعزيمة ثابتة، وعدم التأثر لصدمات المصائب، بخلاف صاحب النظر الفاتر؛ فإن خاطره ينزعج لأقل بلاء ينزل بساحته.
وأما نكد عيش العاقل فمن أجل ما يشاهده من إطفاء نور الحق، والنفخ في مزمار الباطل، أو الاستماع إلى ألحانه بطرب وارتياح.
وهذا بخلاف من انطفأت بصيرته؛ فإنه لا يهمه _ بعد انتظام شؤون بيته _ أن تنهض قائمة، أوتحز أعناقها على نُصب الشهوات.ص25
16_ إذا كانت العقول في مثال السيوف، تقطع الباطل أن يتشبث بأطراف الحقائق؛ فإن العلم ثقافها الذي يقوِّم أَوَدَها، ومِصْقَلَتُها التي تجلو أصداءها.
أترون السيف الذي احدودب متنه، أو تَكاثف الخبث على غراره، كيف يقبح منظره، وينبو عند الضراب به؟.27(2/82)
17_ كذلك العقل إذا غشيته الشبه، وانحدرت به في نواحي الضلالة، حتى التوى غصنه بالتواء شعبها، أو بقي في مستنقع من الجهالة، حتى التف عليه من سوادها حجاب كثيف _ فإنه يدنو من ذوي البصائر، فتشمئز فطرهم السليمة نفوراً منه، ويذهب إلى البحث عن الحقيقة، فلا يقع على مكامنها.ص27
18_ وما اللسان إلا مرآة؛ تمثل خواطر العقول، وتنقل مداركها من شعور إلى شعور، والمرآة إذا تكوَّر سطحها، أو تجهّم وجه زجاجها بغبش أخذت الصور على غير نظامها، وعرضتها في أشكال غير مطابقة.
كذلك اللسان؛ إذا ألقت عليه الفهاهة أثقالها، وشدت عليه اللّكنةُ عقدتها، فإنه لا يحتفظ بما يمليه عليه الفكر من المعاني، فيضبطها من سائر حواشيها، بل يؤديها في مثال شخص حذفت بعض أعضائه، أو تخاذلت هيأته، فتصوب رأسه إلى أسفل، وتصعدت قدماه إلى أعلى.ص27 _ 28
19_ تتفاضل العلوم بحسب أهمية ثمرتها، أو عموم نفعها، أو قوة براهينها، أو شرف موضوعها.ص28
20_ يثبت الشرف للعلم في اعتبار الإسلام، من جهة أنه يثمر عملاً نافعاً، فإذا لم يكن له أثر في عمل يشكر فإما أن يعد ضرباً من المباح، كمسائل الخلاف التي لا يترتب عليها فائدة، وإما أن يحسب فيما يصف صاحبه بوصف الحطة، كالسحر والطِّلَّسمات.ص29 _ 30
21_ قال الشيخ ابن عرفة في حديث =أو عِلْمٍ ينتفع به+: تدخل التآليف في ذلك، إذا اشتملت على فوائد زائدة، وإلا فذلك خسار للكاغد _أي القرطاس_.
قال الأبي: ويعني بالفائدة الزائدة على ما في الكتب السابقة عليها، وأما إذا لم يشتمل التأليف إلا على نقل ما في الكتب المتقدمة فهو الذي قال فيه خسار للكاغد، وهكذا كان يقول في مجالس التدريس: =إذا لم يكن في مجلس الدرس التقاط زيادة من الشيخ فلا فائدة في حضوري مجلسه، بل الأولى ممن حصلت له معرفة الاصطلاح، والقدرة على فهم ما في الكتب، أن ينقطع لنفسه، ويلازم النظر+.
وضمّن ذلك في أبيات نظمها وهي:(2/83)
إذا لم يكن في مجلس الدرس نكتةٌ ... وتقريرُ إيضاحٍ لمشكل صورةِ
وعزوُ غريبِ النقلِ أو حلُّ مقفلٍ ... أو اشكالٌ آبدتُه نتيجةُ فكرةِ
فَدَعْ سعيه وانظر لنفسك واجتهدْ ... ولا تتركن فالتركُ أقبحُ خَلَّةِ
ص31 _ 32
22_ يتعرض الكاتبون في الأخلاق إلى رسومها الفارقة بينها؛ بحيث تتمايز حقائقها ولا تختلط حدودها، والذي يعسر أحياناً إنما هو تطبيق تلك الرسوم على الأحوال الخاصة، ومعرفة أن هذا موقع الإقدام مثلاً؛ فنسمي الإحجام عنه جبناً، أو هو موقع الإحجام؛ فنسمي الإقدام عليه جرأة، وقد تلتبس بعض المواطن، فلا يدري الناظر هل يحسن فيها الترفع، فيكون التنازل ذلة، أو يليق بها التنازل، فيكون الترفع كبراً؛ فلا بد حينئذٍ من جودة الرأي، وإمعان النظر في تَعرُّف المواضع التي يصلح فيها مثل الإقدام، أو الصفح، أو البذل، أو الترفع، التي هي آثار الشجاعة، والحلم، والكرم، وعزة النفس.
وفي هذا المقام تظهر مزية التربية الخاصة، فإنها تعطي للإنسان ملكة التفرقة بين مواقع الأخلاق الفاضلة والأخلاق السافلة؛ فالأب والمؤدب يكرران على الصبي تمجيد الحلم، وعزة النفس مثلاً، ويزيدان على ذلك تنبيهه على مواقعهما حين يغضب بغير حق، أو يتنازل إلى غير أهل.ص39 _ 40
23_ قد يمر بك في أقوال الشعراء ما يحث أو يثني على بعض الأخلاق المعروفة بالمذمة، فلا يغرنك بما يمسح عليه من زخرف الفصاحة، كقول بعضهم يأمر بالحمق:
وكن أكيس الكيسى إذا كنت فيهم ... وإن كنت في الحمقى فكن أحمق الحمق
فعجز هذا البيت لا يتعلق بأذيال الأدب، إلا إذا قصد به ناظمه معنى مقاومة الأحمق، ومقابلته بشدة، تدفع في أذيته إذا لم يكف في مدافعتها اللين والمجاملة.
ويماثل هذا قول ابن الرومي يمدح طبيعة الحقد:
وما الحقد إلا توأم الشكر في الفتى
... وبعض السجايا ينتسبن إلى بعض
فحيث ترى حقداً على ذي إساءة ... فثمَّ ترى شكراً على حسن القرض(2/84)
فالحقد مما اتفق العقلاء على أنه خلق ذميم؛ لأنه طبيعة احتفاظ الإنسان على الجريمة، وإمساكها على ظهر قلب؛ ليجازي بها حيث تسنح الفرصة، وإن أصلحها المجرم ببسط المعذرة أو رجاء المغفرة؛ فإذا عنى ابن الرومي من الحقد الذي عقد النسب بينه وبين الشكر عدم نسيان الإساءة لمن لا يغني في رد شكيمته الأناة وسماحة الضمير _ كان شعره بمقربة من الحكمة السائرة.ص40 _ 41
24_ وقد اشتدت عناية الشريعة بالإرادة؛ فبعد أن أخذتها شرطاً في صحة الفعل، أو كماله نظرت إليها بانفرادها، ووضعتها بمقربة منه، فقدرت للنوايا الفاضلة نصيباً من المثوبة إذا لم يتمكن صاحبها من إنجاز ما عزم عليه، قال"فيما روى البخاري: =من همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة+.
كما فرضت للإرادات السيئة كفلاً من العقوبة، وإن لم يعقبها أثر في الظاهر، على ما ذهب إليه عامة السلف، واستشهدوا في هذا بقوله _ تعالى _ : [إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ] الآية النور: 19، فقد بنى استحقاقهم للعذاب الأليم على عمل قلبي، وهو محبة شيوع الفاحشة، واستدلوا بحديث: =إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار+ فقيل: يا رسول الله، هذا القاتل، وما بال المقتول؟ قال: =لأنه أراد قتل صاحبه+، وفي رواية =أما أنه كان حريصاً على قتل أخيه+ فإنه اعتبر في عِلَّة العقوبة نفس الإرادة.
وفسر هؤلاء الهم الذي ورد الحديث بعدم المؤاخذة فيه؛ على معنى حديث النفس بالفعل من غير قرار علة وتصميم. ص42 _ 43
25 _ يمثِّل لك شدة العزيمة أن عبدالملك بن مروان قصد الخروج إلى بعض الحروب، فلما استعد للرحيل، وقفت له عاتكة بنت يزيد بن معاوية تستعطفه إلى التخلف وترك الخروج لموقع الحرب بنفسه؛ ظناً منها أن سلطان الهوى أشد أثراً على قلب الرجل من عزيمته، فقال لها: هيهات، أما سمعت بقول الأول:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأطهار
ص34 _ 44(2/85)
26_ ينبهك على التفاضل في الإرادات الحسنة، أن الرجلين قد يتماثلان في درجة الفضل، وتتحد آثارهما، ولكنك تجد أحدهما قد تمكن من الأخذ بالمكارم، وتجمعت حوله وسائل الارتقاء، حينما احتاج الآخر إلى مصارعة الموانع، وصرف الوسع في تحضير الوسائل، فإنا نقطع لعزيمة الثاني بفضل قوة هي مجهولة في همة الأول؛ إذ من الجائز أن همة الأول لا تثبت لتسوية العقبات، ولا تشد حزامها لتحصيل ما يعوزها من الوسائل المتعاصية.
قال أبو الوليد الباجي يوماً مفاخراً لابن حزم: أنا أعظم منك همة في طلب العلم؛ لأنك طلبتَه وأنت تعان عليه تسهر بمشكاة الذهب _ يشير إلى ثروة ابن حزم وآبائه _ وطلبتُه وأنا أسهر بقنديل بائن السوق _ جمع ساق _.
فقال ابن حزم: هذا الكلام عليك لا لك؛ لأنك إنما طلبت العلم وأنت في تلك الحال؛ رجاء تبديلها بمثل حالي، وأنا طلبتُه في حين ما تعلمه وما ذكرته، فلم أرجُ به إلا علو القدر العلمي في الدنيا والآخرة.
ويؤيد ابن حزم في جوابه هذا أن من تربى في مهد الترف، وأحاطت به زخارف الدنيا من كل ناحية يسكن في قلبه الحرص على اللذائذ، ويصعب عليه التخلص من شواغلها؛ فمن خلع صدره من الشغف بمناظر النعيم، والميل إلى مضاجع الراحة، وهي طوع يمينه، ثم استبدلها بالتوجه في سبيل المجد الذي لا يخلص سالكه من متاعب، واقتحام أخطار _ فلا بد أن يكون قد ضم بين جنبيه همة سامية، وإرادة لنفس الفضيلة خالصة.ص45 _ 46
27_ والإسلام يثبت الفضل في المال، من جهة أنه معونة على المشروعات العظيمة، ومطية إلى كثير من المقامات العالية، فلو أوتي رجل سعة من الثروة، فركض بها ركض الوحوش في الفلاة، ولم ينفقها إلا في ملبس فاخر، ومطعم لذيذ، أو مطية سابقة، وقصر مشيد _ كان أحط رتبة من المسكين الذي يزيد عليه بمثقال ذرة من الخير.
قال": =إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من أعطاه الله خيراً، فنفح به يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيراً+.ص49(2/86)
28_ فنقول: إن الشارع فوض في أمر اللباس إلى حكم العادة، وما يليق بحال الإنسان، فإذا جرت العادة بلبس نوع من الثياب، وكان مستطيعاً له، فعدل إلى صنف أسفل منه أو أبلى، قبح به هذا الحال، وكره له؛ لأن بذاذة اللباس ورِّثته مما تقذفها العيون، وتنشز عنها الطباع، فتلقي بصاحبها إلى الهوان، والالتفات إليه بألحاظ الازدراء.
وهذا هو الوجه في إنكاره"على الرجل في الحديث السالف، وأما الخروج عن المعتاد، والتطلع إلى ما هو أنفس وأغلى، فهو الذي رفضناه من حواشي الفضل، ونفينا أن يقفز بصاحبه درجة، قال المعري:
إذا كان في لبس الفتى شرفٌ له ... فما السيف إلا غمده والحمائلُ
بل تجد أكثر الناس يستخفون بمن يتعدى طور أمثاله في ملبسه، ويعدونه سفهاً في العقل، وطيشاً مع الهوى.ص50
29_ وتوهَّم كثير من الأدباء أن الفصاحة وصف كمال في نفسه، فإذا اتفق لهم أن يبرزوا معنى في أسلوب فصيح، قذفوه بأفواههم، ولم يبالوا أن يكون ذلك المعنى عبثاً، أو خاذلاً لحق.
ونرفع مقالنا _ هذا _ أن نسوق فيه أمثلة من منظوماتهم السخيفة، ولا سيما أشعارهم التي قلبوا فيها بعض آداب شرعية، ومدائحهم التي وقعوا بها حول الشرك بواجب الوجود (1). ص52
30_ وفي الناس من لم يتفقهوا في فضيلة الفصاحة، فإذا سمعوا ناطقاً يجهر بالعبارة، ويطلقها من لسانه بدون حبسة أدخلوه باعتقادهم في زمرة الفصحاء، دون أن ينظروا في تحقيق المطابقة بينها وبين المعاني التي قصد إفهامها.
والدرّاكة _ الذي بلغ علمه أقصى الشيء _ قد يرجِّح ذا العقدة في نطقه، حين يفرغ العبارة في عين الغرض، ويفضله عمن يرمي بكلامه المتتابع، وهو لا يصيب المفصل من المراد.ص52
__________
(1) _ يعني به الله _ عز وجل _ فالوجود ممكن الوجود وهو المخلوق، وواجب الوجود وهو الخالق.(2/87)
31_ وأما الوجاهة: وهي أن يحصل للرجل شأن يستهوي إليه نفوس قوم بمودة أو رهبة أو رجاء _ فتارة تكتسب باستقامة السيرة، وخلوص الطوية؛ فقد جرت سنة الله أن من صفت سريرته، وغزرت صالحاته، أحدقت إليه الضمائر الحرة، وأولته وداً وانعطافاً، وهو ما وصف الله به عيسى _ عليه السلام _ في قوله: [وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ] آل عمران: 45.
وهذا الضرب من الوجاهة وصف شرف في نفسه، وإذا توسل به الوجيه إلى قضاء ما يهم الناس من المآرب كان سيادة فوق سيادة.
وتارة تدرك بحال تربي رهبة، كالقرب من ذي سلطة، أو تحدث رغبة، كثروة يطمع الطامعون أن يبلّوا صدى حاجاتهم من قطراتها، وهذا الضرب إنما يحتمله العد في مساق الفخر إذا خدم صاحبه المصلحة، وتناهى به إلى صنيع يشكر عليه.ص53
32_ وإذا اطلعت على أثر يقتضي البعد عن الوجاهة، فإنه مصروف إلى الحرص في طلبها، والتصنع لإحراز سمعة في المجامع الحافلة، والبلاد القاصية.
وأما إذا اندفعت همة الرجل إلى المكارم بجاذب ابتغاء الفضيلة، وطفق ذكره يتسع على حسب مساعيه المفيدة _ فذلك خير من العزلة والاختباء في زوايا الخمول.
قال _ تعالى _ فيما قصه من قول إبراهيم _ عليه السلام _ : [وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ] الشعراء:84، وقال في سياق أقوال لقوم صالحين: [وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً] الفرقان: 74.ص53 _ 54.
33_ يقولون: إن الولاية معيار همم الرجال، وعدالتهم؛ فإنهم بِعَدِّها ثلاثة أصناف: فمنهم من يتمادى على سيرته الأولى، ولا ينتقل إلى حال تبعد عما عهد له في الإساءة أو الإحسان.
وبعضهم ينطوي على نفسٍ عاطفةٍ إلى الخير، فإذا جلس في منصب استعظم مكان الحقوق، وأخذ يفحص بخاطره عما يلزم اتخاذه من النظامات الكاملة بحفظها، ومتى اهتزت هذه النفس العاطفة أنبتت من التدابير المثمرة ما يبعثها مقاماً محموداً.(2/88)
ومنهم من يحمل في مخبآت صدره خبائث، وقد طبع على صناعة المخاتلة والاحتيال، فيحتفظ في سيرته جهده، ويتحاشى بظاهر عرضه أن يلوث بفضيحة، فإذا قبض بيده على سلطة خلع ثوب عفته المستعار، وغشي من المخازي ما يجعله هدفاً لسهام الطاعنين.ص54 _ 55
34_ لا يفوت الرئيس الذي يحمل النية السوداء، ويركب في المظالم مَتْنَ عمياءَ_ أن ينساق إلى ذوي نفوس حرة ينقرون له على وجه نقيصته، ويصبون في أذنه أقوالاً تفيقه من نشوة السلطة، وتكدر عليه حلاوتها إلى مرارة، وإن ملك قوة ورجالاً، واتخذ سلاسلاً وأغلالاً.
قتل الحجاج عبدالله بن الزبير÷، ثم أرسل إلى أمه _ أسماء بنت أبي بكر الصديق _ فأبت أن تأتيه، فانطلق يتبختر حتى دخل عليها، وقال لها: كيف رأيتِيني صنعت بعدو الله _ يعني ولدها عبدالله _ قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك، أَمَا إن رسول الله حدثنا أن في ثقيف كذاباً ومبيراً _مهلكاً_ فأما الكذاب فرأيناه، وأما المبير فلا إِخالك إلا إياه.
فنفذ سهم هذه المقالة في فؤاده، فأفحمه وقام عنها.ص55
35_ العمل الفاضل ما دعا إليه منزّل الشرائع كلَّ واحد بعينه، كالعبادات، أو خاطب عليه الأمة لتقوم به طائفة منها، كالتعليم، وحماية الحقوق.
ولا يعد في محاسن الأعمال ما لا يُطَّلعُ له في دلائل الإسلام على ما يشهد باستحسانه. ص59
36_ وحطّ ابن خلدون من شأن التجارة، قال: لاستلزامها المكايسة في البيع والشراء، وخلقُ المكايسة بعيد عن المروءة التي تتخلق بها الملوك والأشراف، ثم ذكر ما يعرض لها من الغش والخِلابة، وتعاهد الأيمان الفاجرة.
وأنت إذا أمعنت في كلامه، واعتبرت المكايسة ضرورية للتجارة أخذت منه للتجارة حالين:
أحدهما: أن يرتكب صاحبها الغش والخلابة، وتعاهد الأيمان الكاذبة، وهي بالنظر إلى هذه الحالة نقيصة تنزع عنه ثوب المروءة، وتنزل به عن مرتبة الملوك والأشراف.(2/89)
ولكن هذه الحالة غير داخلة في حقيقة التجارة، ولا هي من مقتضياتها؛ فكيف يسري نقصها إلى أصل هذه الحرفة، ويجعل سبباً لإخلالها بالمروءة اللائقة بالأشراف؟.
ثانيهما: أن يترفع التاجر عن هذه الحالة المزرية، ولا يبقى معه سوى خلق المكايسة؛ فإن عنى ابن خلدون أنه يخل بالمروءة التي يحسن التحفظ عليها في نظر الشارع _ فغير صحيح، بل هي معدودة من فروض الكفايات، كسائر الصنائع التي يتوقف عليها حياة الأمة، وقد كان أكابر الصحابة يتجرون.
وإن أراد مروءة الأشراف بحسب بعض العوائد فمحتمل، ولكنا لا نعتد من حكم العادة بالشرف، أو ما ينافيه إلا بما قامت شواهد الشرع على صحة اعتباره.ص61 _ 62
37_ وإذا وثقنا بأن الأعمال الشريفة ما حسنت في نظر الإسلام انفتح لنا في طريق العلم بمعنى الشرف سبيلان:
أحدهما: أن العمل الفاضل ما ثبت حسنه بالدلائل المبثوثة في الكتاب والسنة، المأخوذة بأفهام المجتهدين على مقتضى وضع اللغة العربية، وأساليب بلاغتها؛ فينهدم فيما بناه الزنادقة تعليمٌ انطلى تمويهُه على أعين بعض العامة؛ فاستزلهم في غواية، وهو أن هناك أحكاماً يتلقاها بعض الأخيار من تعليم باطني؛ ليعمل بها في نفسه، أو يخلعها إن شاء على أتباعه، فيبصرون رجلاً يقلب رسوم الشريعة، ويحيد عن منهجها الصريح، ويستمرون على اعتقاد كماله؛ بزعم أن ما انتحله من الأوضاع المخالفة قد بلغ إليه بطريق غيب.
وترى كثيراً منهم يحمل في اعتقاده أن الرجل إذا ارتقى الذروة القاصية في الصلاح سقطت عنه تكاليف الشريعة، كأنهم لم يتعلموا أن رسوم الشرع من عبادات وغيرها هي الحافظة لأركان الشرف؛ فمن نبذها فقد نزع عن نفسه ثوب الكمال الإنساني، وأصبح عارياً من كل كرامة.
ثانيهما: أن العمل الذي يأمر به الإسلام، لا يحق لأحد أن يتركه ترفعاً، ويرى مباشرته له نقيصة تحط من جلالته.(2/90)
وترى بعض من ينتمي إلى العلم يعتقد الخير بما يصنعه طائفة من العامة في مظهر الطاعة، ويدافع عنهم صولة المنكرين بتحريف وتأويل، ولو قلت له أدخل يدك في أيديهم، وضُمَّ صوتك إلى أصواتهم، ونقِّر على ما ينقرون، فإما أن يستفيق من غفوته، أو يعتذر بأن هذا يقبح بمثله عادة.
والذي يقطع هذه المعذرة، أن صوت العادة أضعف صدى، وأحقر من أن يسمع في تقبيح ما يُحسِّنه منزّل الشريعة، ويجعله وسيلة يبتغي بها الفوز بالمثوبة، والزلفى عنده.ص62 _ 63
38_ يورد الواصفون لحال حياة الرجل شؤوناً تساعفه بها صروف الأقدار، ويقصدون بها الدلالة على عظم مكانه في الفضيلة، مثل صحبة العظماء؛ فقد جرت العادة أن من اتصل برجل خطير قاصداً الاستقاء من معارفه، أو الاقتداء بسيرته _ لا يفوته أن يفيض عليه من تحقيقات علومه، أو يخلع عليه بردة من ملابس آدابه.ص64
39_ ومن هذا ولاية منصب عظيم، كالقضاء والإمارة والوزارة؛ فإنه يجري في الظنون أن لا يستخلص لهذه المقامات إلا ذو كفاءة، وإنما يصح الاعتماد في شرف الرجل على مجرد الولاية بدون نظر في سيرته، أو تتبع آثاره _ إذا ثبت أن تقليده بها صدر من عارف بحقائق الرجال، ذي عدالة تصده أن يوسد الأمر إلى غير أهله.ص64
40_ إنما يكره العلماء السكنى بالقرى وإن كانت وطناً، ويقصدون إلى الإقامة بالحواضر؛ لأن سوق العلم فيها نافقة، والحرص على التعلم بها أقوى؛ فيجد العالم من الراغبين في الاستفادة سبلاً مفتوحة، ودواعي باعثة على المطالعة والتحرير.
كان الشيخ عز الدين بن عبدالسلام بدمشق، ثم خرج إلى الديار المصرية؛ لغضب الأمير إسماعيل أبي الخيش عليه، حين أنكر عليه الشيخ إعطاء بلد صيدا وقلعة الشفيف إلى الإفرنج، فلما مر بالكرك تلقاه صاحبها، وسأله الإقامة عنده، فقال له: بلدك صغير على علمي، ولما وصل إلى القاهرة عرف سلطانهم نجم الدين أيوب قيمته؛ فأكرم نزله.ص66(2/91)
41_ ويرجحون الرجل بكثرة أتباعه، ومعتقدي أفضيلته، وهذا وزن صحيح إن كان هؤلاء الأتباع من أولي الأحلام الراجحة، والألمعية المنقَّحة.
أما إذا كانوا فيمن عميت عليهم سبل السيادة، ولا فارِق عندهم بين المكارم وأضدادها _ فلا ترجح بهم صحيفته، وإن كانوا أكثر من الحصى.ص66
42_ وإذا اعترفوا بالفضل لرجلين: أحدهما: حاضر لديهم، والآخر لم تقع عليه أعينهم، جرى في ظنهم أن الغائب أوسع فضلاً، ورفعوه في اعتبارهم مرتبة.
ومن علل هذا أن المقررين لأحوال ذوي الفضل محادثة أو كتابة إنما يتعرضون في الغالب إلى محاسنهم، وقلما يذكرون لهم سيئة من أعمالهم؛ فإذا تلقى الإنسان ترجمة فاضل تصوره بصورة كامل خَلُصَ من كل عيب، بخلاف اعتقاده بفاضل شهد شخصه، وراقب سيرته؛ فإنه يطلع له أحوال لا يستحسنها بمقتضى ذوقه أو عادته، أو كانت مما يؤاخذ به الفضلاء، وشأنه أن يندمج في فضائلهم، وتغطي عليه محاسنهم، ومن هنا نشأت المقالة السائرة: =إن الخبر عن الغائب فوق المشاهدة+.ص66 _ 67
43_ ومن هذا حسن التركيب، وجمال المنظر، فلا يعد في نفس الفضيلة، وإنما هو كالعلامة الرامزة إلى حسن الخلق، فإنه _ كما يقول الحكماء _: دال على اعتدال المزاج، وإذا اعتدل المزاج كان منشأ للأفعال الجميلة غالباً، ومن هنا قال الفقهاء بتقديم صبيح الوجه إلى الإمامة، إذا ساوى غيره في شرائطها، وأوصاف كمالها.
فإن تخلف عن وسامة المحيا حريةُ الطبع، وشهامة الخاطر _ انفصل عن محل الاعتبار في نظر الشارِع وعادةِ الفضلاء، قال المتنبي:
وما الحسن في وجه الفتى شرف له ... إذا لم يكن في فعله والخلائقِ
ص67
44_ ووُضِعَ في الطبائع إجلالُ العالي في السن، وتفضيلُه على من هو أقصر أجلاً، أو أقرب عهداً بالحياة منه.
والسر في هذا أن الشيخ بامتداد حياته، وطول تجاربه _ صار مظنة لأن يكون أوسع علماً، وأرسخ في الأخلاق الفاضلة.
ما استقامت قناة فكريَ إلا ... بعد أن قوَّسَ المشيب قناتي
ص68(2/92)
45_ ولهذا ترى الأشيب أقدر على مقاومة الهوى، وأصوب رمية في وجه السياسة غالباً، بخلاف الشباب؛ فإنه يكثر فيهم الجهل بالعواقب، ويأخذهم السرف في اتباع الزينة والملاهي بسهولة؛ وبهذا كان للإقبال على الطاعة في حالة الشبيبة مزية على القيام بها في حال مشيب، كما قال " في حديث سبعة يظلهم الله في ظله: =وشاب نشأ في طاعة الله+.
فإذا عاش الطاعن في السن وهو يجري مع شهواته بغير عنان، ولم يستفد من تصاريف الزمان ملكة قياس الوقائع بأشباهها _ فلا يستحق لطول عمره تجلة.
إذا لم يكن مر السنين مُترجِماً ... عن الفضل في الإنسان سميته طفلا
وما تنفع الأيام حين تعدُّها ... ولم يستفد فيهن علماً ولا فضلا
ص68
46_ وينبهون على شأن الرجل بالحديث عن رحلته إلى الأقطار، والمدن الآهلة بالعلماء والفضلاء؛ فإن الناهض في الأسفار قلما يفوته أن يلاقي عالماً، أو فاضلاً يقتبس من لقائه مسائل أو أساليب أو شمائل لا يتوفَّق لها في وطنه. ص69
47_ وقد خففت كثرةُ التآليف، وقيام المطابع بنشرها شدةَ الحاجة إلى الرحلة من الجهة العلمية. ص69
48_ وجرى في قريض أبي الطيب المتنبي، أن من دلائل كمال الرجال رميَ الناقص له بسباب، حين يقول:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كاملُ
ووجه هذا: أن الوضيع لا تلتفت همته إلى من كان واقفاً في صفه من الأسافل، فتحدثه بأن يلغ في أعراضهم بالمذمة؛ لأنه غني في نشر مثالبهم بما تلبسوا به من الفضائح، حتى إذا ألقى نحوهم بسبة رماها على شفته من غير حرص وشدة اهتمام بالتحدث بها.
وإنما تتوجه همته بمجامعها إلى الرجل الكامل، حيث يقصد إنزاله في معتقد الجمهور إلى مدرجته، أو ما هو أسفل منها.ص69
49_ طبع البشر على أنهم إذا عرفوا رجلاً بنعت شرف أكبروه في قلوبهم، وهابوه في نفوسهم بمقدار ما يعتقدون فيه من الكمال.
ويشاهد أثر ذلك الإجلال في بعض أحوالهم الظاهرة عند مواجهته.ص77(2/93)
50_ تنوعت الهيئات التي يقصد بها إجلال الرجل العظيم؛ بحسب اختلاف عوائد الأمم، وأذواقهم إلى أنواع شتى لا داعي في هذه الورقات إلى استقرائها، وإنما نأتي على المنهج الذي يلائم النفوس الفاضلة، ويسعها أن تسلكه عن رِضاً وسماحة خاطر.ص77
51_ يتجلى لك هذا المنهج إذا أنست رجلاً سليم الفطرة، حاضر العقل، ولم يحدث له رجاء، ولا رهبة من الرجل الأفضل؛ فإنه لا يصدر عنه من شعائر الاحترام عندما يلاقيه أكثر من أن يبسط يده إلى مصافحته، ويطلق لسانه بتحيته، أو بما يستحق من التمجيد، وإذا تواصلت بينهما المحادثة سلك في خطابه سبيل الأدب الجميل، وتلقى مطالبه بحسن الطاعة.ص77
52_ طالعِ التاريخ ترَ الرجل من آحاد الرعايا يدخل في مجلس عمر ابن الخطاب÷فلا يزيد على التحية الإسلامية، فيقتنع الخليفة برسم هذه التحية، ويرد عليه بمثلها أو أحسن منها، وما كان ابن الخطاب يجهل أن الرجل يحترمه بقلبه لأنه لم يلثم راحته، ولم يلبس ثوب العبودية بين يديه، بل كان على خبرة بأن هذا الذي اقتصر في تحيته على ما أمر الإسلام يوقره في صدره، ويحافظ على طاعته في الغيب، كما يسارع إلى امتثال أمره عند الشهادة.
يعلم هذا، ولا نحتاج إلى أن نسند علمه إلى نور إيمانه، وصفاء سريرته، ولكنه كان على بصيرة من سيرة نفسه العادلة، وتصرفاته المحكمة، وهي لا تثمر في قلوب الرعية إلا المهابة والتعظيم.ص77 _ 78
53_ ترى الوجهاء الذين لم يبلغوا رشدهم في المعرفة، ولم يثقوا من أنفسهم بالعدالة_ أعلقَ همة، وأشد حرصاً على أن يحتفظ لهم الناس بهذه المظاهر البالغة، ولهذا لا تجدهم ينظرون إلى سليم الفطرة نيِّر القريحة بانعطاف وإعجاب؛ لأنه يجري في معتقدهم أن من كان بتلك الصفة لا تسمح به همته بأن يتمضمض عندهم بعبارات التملق والإطراء، وينعت نفسه باسم المملوك ومقبِّل الأعتاب.(2/94)
وهذا على خلاف سنة الوجيه، الذي امتلأ معارف، وتمكن من فضيلة العدل، فإنه يكون في غنىً بِلَذَّة الحكمة والاستقامة عن أن ينتصب الناس لرؤيته قائمين، أو يضعوا شفاههم على ظاهر راحته لاثمين.ص79
54_ وأما تنبيه الرجل عن محاسن نفسه، وتحدثه بمزاياه فإنما سوغه العلماء في مواضع ذكرها السيوطي في تقييده المسمى بـ: (نزول الرحمة في التحدث بالنعمة).
قال: ومنها إذا لم يُنْصف، أو نوزع، أو كان بين قوم لا يعرفون مقامه، ويستدل لذلك بعمل أبي بكر الصديق÷فإنه لما ولي الخلافة خطب فقال: أما بعد: أيها الناس، فإني قد وليت عليكم، ولست بخيركم.
فجرى على قاعدة التواضع، ثم بلغه عن بعض الناس كلام، فخطب وقال: ألست أحق الناس بها؟ ألست أول من أسلم؟ ألست صاحب كذا، ألست صاحب كذا؟. أخرجه الترمذي وابن حبان في صحيحه.
ثم قال(1): ووقائع العلماء في تحدثهم بمثل هذا لا تحصى.
ومن هذا ما حكى القاضي تاج الدين السبكي عن والده الشيخ تقي الدين: أنه طلب من خازن كتب المدرسة الظاهرية أن يعيره من الخزانة كتاباً، فتمنع عليه، فغضب السبكي وقال: مثلي لا يحتاج إلى كتب هذه الخزانة، بل كتب هذه الخزانة محتاجة إلى مثلي يحررها.
ومما ينتظم بهذا الصدد ما قصه الله _ تعالى _ في قول يوسف _ عليه السلام _ لمن لا يعرف صفة عدالته وعلمه: [اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ] يوسف: 55.ص79 _ 80
_ =نبذة عن المؤلف+:
هو العلامة اللغوي محمد المكي بن الحسين علم من أعلام الأدب واللغة ونادرة من نوادر اللغويين في زمانه، قل أن يوجد مثيل له في فكره الغواص في بحر العربية، يفتش في أعماقه عن أجمل ما في التراث العربي، ويبحث بجلد وصبر عن مكنوناته، فيصقلها صقل البارع في المهنة، السباق في ميدانها، ويضمها عقوداً متناسقة، في بحوث لها روعتها وجمالها.
__________
(1) _ يعني السيوطي.(2/95)
ومع بالغ الأسف أن مثل هؤلاء الأعلام من أرباب الفكر الصافي، والأدب الأصيل يكون نصيبهم النسيان، والإهمال.
ولقد قيض الله لهذا العلم من يحرص على نشر علمه، والتعريف به، ألا وهوابن أخيه: الأستاذ علي الرضا الحسيني.
وهذه نبذة يسيرة عن صاحبنا بقلم الأستاذ علي الرضا _ حفظه الله _ يقول فيها:
=ولد محمد المكي بن الحسين بن علي بن عمر في مدينة نفطة بالجنوب التونسي في شهر ربيع الأول 1301هـ، ونشأ في دوحة أصيلة وعريقة في العلم والفضل والأدب، ويزينها من فوق ذلك شرف الانتساب إلى آل البيت الأطهار.
خاله العلامة محمد المكي بن عزوز، وإخوته الإمام محمد الخضر حسين وزين العابدين بن الحسين والجنيدي، وجميعهم كانوا من أفاضل العلماء المنصرفين إلى خدمة الإسلام وإعلاء رايته ونشر الدعوة المختارة أينما رحلوا وحيثما حلوا.
انتقل إلى مدينة تونس مع عائلته سنة 1306هـ وأخذ في حفظ القرآن الكريم وتلقى مبادئ العلوم الشرعية عن والدته البارة السيدة حليمة السعدية بنت الصالح التقي مصطفى بن عزوز.
ثم التحق في الجامع الأعظم _ جامع الزيتونة _ وحصل على شهادة التطويع.
ومن شيوخه شقيقه الإمام محمد الخضر حسين، والشيخ محمد الطاهر ابن عاشور، وعلي الشنوفي، وأحمد جعيط وغيرهم.
رافق أسرته في هجرتها إلى الشرق سنة 1330هـ بعد أن ضيق الباغي الفرنسي الخناق على أخيه الإمام محمد الخضر الذي لاحقه حكم بالإعدام؛ لنضاله ودعوته إلى الاستقلال والحرية.
واستقر في مدينة دمشق منصرفاً فيها إلى التدريس في مدارسها الأهلية والرسمية معلماً للغة العربية وآدابها.
والتقى بأعلام دمشق ومنهم خير الدين الزركلي، ومحمد بهجة البيطار، وسليم الجندي، والشيخ عبدالقادر المغربي، ومحمد المبارك الجزائري، ومحمد كرد علي.(2/96)
بعد ما يقارب ثماني سنوات عاوده الحنين إلى تونس فرجع إليها سنة 1338هـ _1920م متفرغاً للمطالعة والتحقيق، واشتهرت لغوياته في مختلف الصحف والمجلات التونسية إلى جانب أحاديثه اللغوية والمستمرة من إذاعة تونس.
لم يتزوج طيلة حياته، وكانت أوراقه وأقلامه هي رفيق عمره الزاخر بالإنتاج والعطاء حتى وفاته في مدينة تونس يوم 20 شعبان 1382هـ الموافق 26 كانون الثاني 1963م.
وقد ترك آثاراً قيمة جمعتها وحققتها في عدة مؤلفات وهي: عادات عربية، نوادر في اللغة، نوادر في الأدب، أسماء لغوية، حكم وأخلاق عربية، أمثال عربية، كلمات للاستعمال.
وضعت عنه كتابي (محمد المكي بن الحسين _ حياته وشعره) ضممت فيه الشعر الذي نظمه في حياته وتوصلت إليه بالبحث، كما تناولت حياته المباركة بالقليل مما اتصلت به من أخباره.
ولعل الأبيات التي قالها الإمام محمد الخضر حسين في أخيه محمد المكي، وأشار فيها إلى فطنته وفراسته، وأدبه الجم ولا سيما خجله _ خيرُ ترجمةٍ لأخلاقه.
يقول الإمام محمد الخضر حسين من ديوانه (خواطر الحياة):
دعتني إلى وده فطنةٌ ... يجيد بها إن سألت الجوابا
وما بين بُرديه إلا أخٌ ... يؤانسني إن فقدت الصحابا
أروم عليه عتاباً وكم ... تفرسَّ ما رمته فأصابا
يهبُّ على وجهه خجلٌ ... فيصفو ضميري وأنسى العتابا
رحمهما الله، وأجزل إليهما الثواب، والحمد لله رب العالمين+.
_ =تعريف بالكتاب+:
هذا الكتاب من أنفس ما كتب في الأدب والأخلاق والحكم العربية في العصور المتأخرة؛ فقد توجه اللغوي الكبير محمد المكي ابن الحسين إلى العناية بهذا الباب، والبحث في ألفاظه، ومعانيه وكنوزه، وأخرجها للناس في مقالات تداولتها الصحف، والمجلات، والإذاعات، ولا سيما مجلة الهداية الإسلامية التي كان يصدرها أخوه العلامة محمد الخضر حسين _ رحمهما الله _.(2/97)
وقد قام الأستاذ الفاضل علي الرضا الحسيني بجمع ما نشر من تراث عمه محمد، سواء كان من البحوث، أو المخطوطات التي لم تنشر من قبل، وجعلها في هذا الكتاب (حكم وأخلاق عربية).
وذكر في مطلع كل مقال وهامشه المصدرَ الذي أخذ عنه مطبوعاً، أو مخطوطاً.
وقدم المطبوع والمنشور حسب تسلسل التواريخ، ثم أردفها بالمخطوط الذي عثر عليه بمكتبة عمه.
وهذا الكتاب يحتوي على غرر من الموضوعات ونفائس من التحريرات تذكر بصنيع الأوائل، إلا أنه يفوق كثيراً منها بسمو العبارة، ومجافاة الإسفاف.
ويكفي القارئ إطلالة على ما في الكتاب المذكور؛ لِيَعْلَمَ مدى الجهد المبذول، وليدرك أن كاتبه اعتنى بحسن الاختيار، وبراعة التحرير، وأمانة النقل وغير ذلك مما يغري بقراءة الكتاب مرة إثر أخرى.
ولقد يسَّر الله اختيار بعض عنوانات الكتاب، ومن ثَمَّ انتقي منها بعض ما تحت تلك العنوانات.
وهذه النقولات تحتوي على حكم بالغة، وعظات نافعة، ومعلومات قيمة، وتعليقات نادرة.
والكتاب يقع في 368 صفحة مقاس 17×25سم، وهو من جمع وتحقيق الأستاذ علي الرضا الحسيني، ومن نَشْر الدار الحسينية للكتاب 1416هـ _ 1995م.
_ =النقولات المنتقاة+: قال ×:
1 _ خفة النوم المحمودة وذم النومة
_ كانت العرب تَمْدح بخفة الرؤوس عن النوم، وتذم النومة، وأشعارهم في ذلك كثيرة، فمن ذلك ما أنشده التّوزي:
لقد علمتْ أم الصبيين أنني ... إلى الضيف قوام السِّنات خروج
أورده المبرد في (الكامل ج1 ص101: طبع مصر سنة 1339) ، وقال: قوله:قوام السنات: يريد سريع الانتباه، والسِّنة شدة النعاس، وليس النوم بعينه: قال الله _ عز وجل _ : [لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ] اليقرة: 255.ص5
_ ويقال: ما كان نوم فلان إلا غراراً أي: خفيف، والغرار: شفرة السيف والسهم.ص7
_ ومما يجدر بنا ذكره هنا قول عبد الملك لمؤدب ولده: علمهم العوم، وخذهم بقلة النوم.ص7(2/98)
_ هذا ولنكتف بما أوردناه هنا من أقوال العرب في تمدحهم بخفة النوم.
وأما ذمهم النومة، فمن ذلك قول عروة بن الورد (من شعراء الحماسة) :
لحا الله صعلوكاً إذا جنَّ ليله ... مصافي المشاش آنفاً كل مجزرِ
ينام عشاء ثم يصبحُ ناعساً
... يحت الحصا عن جنبه المتعفرِ
ص7
_ وقال حاتم الطائي:
لحا الله صعلوكاً مناه وهمه ... من العيش أن يلقى لبوساً ومغنما
ينام الضحى حتى إذا نومه استوى
... تنبه مثلوج الفؤاد مورَّما
ص8
_ وقال الآخر:
إذا ما قضيتم ليلكم بمدامكم
... وأفنيتموا أيامكم بمنام
فمن ذا الذي يلقاكم في ملمة
... ومن ذا الذي يلقاكم بسلام
ص8
2 _ لله درك، لله كذا، تبارك الله!
_ يقال في الدعاء للإنسان: لله درك، معناه: كثُر خيرك، وأصلُ الدَّرِّ اللبنُ، وجميع خير العرب في اللبن.ص17
_ وجاء في المخصص لابن سيده ج7: 181 ما يأتي:
وقولهم: لله درك، أي لله صالح عملك؛ لأن الدر أفضل ما يحتلب، وقيل: أصله أن رجلاً رأى آخر يحلب إبلاً؛ فتعجب من كثرة لبنها، فقال: لله درك!. ص17
_ وقال المفضل بن سلمة في كتاب الفاخر:
وقولهم: لله درك، قال الأصمعي وغيره: أصل ذلك أنه كان إذا حُمِد فعلُ الرجل وما يجيء منه، قيل له: لله درك أي: ما يجيء منك بمنزلة درِّ الناقة والشاة، ثم كثر في كلامهم حتى جعلوه لكل ما يتعجب منه.ص18
_ وقال أبو هلال العسكري في جمهرة الأمثال:
=...ويقولون عند المدح: لله در فلان، وعند الذم لا درَّ درُّه، ومعنى قولهم: لا در دره، أي: لا كان له خير يدر على الناس، من قولهم: درت الدَّرة: إذا انصبت، والدرة: اللبن تدر عند الحلب، وديمة درور: منصبة...+ ص20
_ وقولهم: لله كذا، كلمة تقال عند التعجب من الشيء على معنى لا يقدر على خلقه واختراعه إلا الله _ عز وجل _.
وقال زاهر بن أبو كرام التميمي: ويروى كدام =من شعراء الحماسة+ :
للهَ تيمٌ أي رمح طراد ... لاقى الحِمام به ونصلِ جلادِ
ص20
_ وقال الأخنس (من شعراء الحماسة) :(2/99)
فلله قومٌ مثلَ قومي عصابةً ... إذا اجتمعت عند الملوك العصائب
قال الخطيب التبريزي:
(فلله قوم) تعجب، والمعنى: أنه يظهر من عزهم وفخرهم في مجالس الملوك ما يستحق به التعجب منهم ا _ هـ.ص20
_ وتبارك الله أي: تقدس وتنزه، وتعالى وتعاظم، صفة خاصة بالله _تعالى_ لا تكون لغيره، وسئل أبو العباس عن تفسير تبارك الله، فقال: ارتفع، وقال الزجاج: تبارك: تفاعل من البركة، كذلك يقول أهل اللغة.
وقال ابن الأنباري: تبارك أي: يُتبرك باسمه في كل أمر، وقال الليث في تفسير تبارك الله: تمجيد وتعظيم، وقال الجوهري: تبارك الله أي: بارك مثل قاتل وتقاتل إلا أن فاعل يتعدى وتفاعل لا يتعدى.ص20 _ 21
3 _ لا تفتش عن زلة صديق
_ قيل: إن جعفر الصادق كان يقول: لا تفتش على عيب الصديق؛ فتبقى بلا صديق.ص22
_ وقيل: من عاتب في كل وقت أخاه فجدير بأن يمله ويقلاه، وعلى عكس ذلك قال الشافعي ×: ليس بأخيك من احتجت إلى مداراته.ص22
_ ومن كلام الإمام علي بن أبي طالب ÷:
=أَغْضِ على القذى ، وإلا لم ترض أبداً+.ص23
_ وأنشد ابن الأعرابي:
أغمض للصديق عن المساوي
... مخافة أن أعيشَ بلا صديقِ
ص23
_ وقال:
ومن تطلَّبَ خِلاً غير ذي عوج
... يكن كطالب ماءٍ من لظى الفحْمِ
ص23
_ وقال الصلاح الصفدي:
صديقك مهما جنى غطِّهِ
... ولا تُخِْف شيئاً إذا أحسنا
وكن كالظلام مع النار إذ
... يواري الدخان ويبدي السنا
ص23
_ قلت: ومن أمثالهم: (قرينك سهمك يخطئ ويصيب) قال الميداني: يضرب في الإغضاء على ما يكون من الأخلاء.ص23
_ وعن الأصمعي أنه قال: قال أكثم بن صيفي: اصحب من الأخوان من إن صحبته زانك، وإن خدمته صانك، وإن اختللت مانك، وإن رأى منك حسنة جازاك عليها، أو سقطة أغضى لك عنها، لا تختلف عليك طرائقه، ولا تخشى بوائقه.ص23
_ وقيل لخالد بن صفوان: أي إخوانك أوجب عليك حقاً؟ قال: الذي يسد خللي، ويغفر زللي، ويقبل عللي، ويبسط عنده أملي.ص23
4 _ مثال للعدالة(2/100)
من القضاة الذين يضرب بهم المثل في استخراج الحقوق، ورفع المظالم _ قاضي قضاة الأندلس: منذر بن سعيد البلوطي، كان يتفقه بفقه داود الظاهري، ويؤثر مذهبه، ويحتج لمقالته، فإذا جلس مجلس الحكم قضى بمذهب مالك وأصحابه، وكانت ولايته لقضاء الجماعة بقرطبة ستة عشر عاماً كاملة، لم تحفظ عليه مدة ولايته قضية جور، ولا عدت عليه في حكومته زلة، وكان قوالاً بالحق، ناصحاً للخلق، ومولده عام 265، وتوفي 355هـ.
هذا وأذكر قولي في قضية:
وقضية لو أنها رفعت إلى ... قاضي الجماعة منذر بن سعيد
لرأيت وجه العدل فيها وانبرى المـ
... ـظلوم يمرح في ثياب سعود
ص24
5 _ ما يمتدح به العرب
_ كانوا يمتدحون بخفة الرؤوس عن النوم، ويذمون النَّومَةَ.
ص30
_ ويمتدحون بخفة لحم الجسم؛ لأن كثرته داعية إلى الكسل والثقل، وهما يمنعان من الإسراع في دفع الملمات، وكشف المهمات، قال طرفة بن العبد:
أنا الرجل الضَّرْبُ الذي تعرفونه
... خشاشٌ كرأسِ الحية المتوقِّد
الضرب: الخفيف اللحم.ص30
_ ويمتدحون بخدمة الضيف وإكرامه ومؤانسته، قال أعرابي يخاطب امرأته، وقد نزل به أضياف فقام إلى الرحى، فطحن لهم:
لعمرُ أبيكِ الخير إني لخادمٌ ... لضيفي وإني إن ركبتُ لفارسُ
ص31
_ وكانوا يحتفلون بالضيف إذا مر بهم، ويهتمون به، ألا ترى إلى قول مرة بن محكاز السعدي:
أقول والضيف مخشيٌ ذمامتُه ... على الكريم، وحقُّ الضيف قد وجبا
يا ربةَ البيت قومي غيرَ صاغرةٍ ... ضمي إليك رحالَ القوم والقُرُبا
ص31
_ وكانوا يمدحون الجهير الصوت، ويذمون الضئيل الصوت، ولذلك تشادقوا في الكلام، ومدحوا سعة الفم، وذموا صغر الفم، قيل لأعرابي، ما الجمال؟ قال: طول القامة وضَخْم الهامة، ورَحَبُ الشِّدْقِ، وبعدُ الصوتِ.ص32
6 _ طيب الثناء
_ كان كعب الأحبار ÷ يقول: ما استقر لعبد ثناء في الأرض حتى يستقر له في السماء.ص35
7 _ قرناء السوء(2/101)
_ ومن كلام علي بن أبي طالب ÷: =توحشت في القفر البلقع، فلم أر وحشة أشد من قرين السوء+.ص40
_ قيل لبعضهم: ما حملك أن تعتزل عن الناس؟ فقال: خشيت أن أسلب ديني ولا أشعر، وهذا إشارة منه إلى مسارقة الطبع واكتسابه الصفات الذميمة من قرناء السوء.ص40
_ ومن كلام أفلاطون: لا تصحب الشرير؛ فإن طبعك يسرق من طبعه سراً وأنت لا تعلم.ص40
_ وفي غرر الخصائص ما يأتي:
=وقد تكتسب الأخلاق من معاشرة الكرام، وفسادها من مخالطة اللئام، وربَّ طبعٍ كريم أفسدته معاشرة الأشرار، وطبعٍ لئيمٍ أصلحته مصاحبة الأخيار+ ص40 _ 41
_ ومن أمثالهم: (تطأطأ لها تخطئك) الهاء للحادثة.
يقول: اخفض رأسك لها تجاوزْك، وهذا كقولهم: دَعِ الشرَّ يعبرْ، يُضْرَبُ في ترك التعرض للشر.ص44 _ 45
_ ومن أمثالهم (قيل للشقي: هلم إلى السعادة، قال: حسبي ما أنا فيه) يضرب لمن قنع بالشر وترك الخيرَ وقبولَ النصح.ص45
_ قال أفلاطون: لا تصحبوا الأشرار؛ فإنهم يمنون عليكم بالسلامة منهم.ص47
_ ويقال: أردى ما في الكريم منع الخير، وأحسن ما في الشرير كف الشر.ص47
_ الداغل:الباغي أصحابه الشر يدغل لهم الشر، أي: يبغيهم الشر ويحسبونه يريد لهم الخير.ص47
_ الِتمْسَحُ:التِمْسح والتِمساح _ بكسرهما من الرجال: المارد الخبيث، والكذاب الذي لا يصدق أثره، يكذبك من حيث جاء، والتمسح: المداهن المداري الذي يلاينك بالقول وهو يغشك.ص48
_ المذّاع:كشدّاد: من لا وفاء له، ولا يحفظ أحداً بالغيب.ص49
8 _ دهاء معاوية وحلمه
_ أخرج ابن عساكر عن الشعبي قال: دهاة العرب أربعة: معاوية، وعمرو ابن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد، فأما معاوية فللحلم والأناة، وأما عمرو فللمعضلات، وأما المغيرة فللمبادهات، وأما زياد فللكبيرة والصغيرة.ص65
_ وقال الأصمعي: كان معاوية × يقول: أنا للأناة، وعمرو للبديهة، وزياد للصغار والكبار، والمغيرة للأمر العظيم.ص65(2/102)
_ وأخرج ابن عساكر عن قبيصة بن جابر قال: صحبت معاوية فما رأيت رجلاً أثقل حلماً ولا أبطأ جهلاً، ولا أبعد أناة منه، وصحبت عمرو بن العاص فما رأيت رجلاً أنصع طرفاً ولا أحلم جليساً منه، وصحبت المغيرة بن شعبة فلو أن مدينة لها ثمانية أبواب لا يخرج من باب منها إلا بمكر _ أي احتيال _ لخرج من أبوابها كلها.ص65
_ وقال المقبري: تعجبون من دهاء هرقل وكسرى، وتَدَعُوَن معاوية؟! وذكروا أنه لم يكن في ملوك العجم أدهى من كسرى أنوشروان.ص66
_ وكان معاوية ÷ من أدهى الدهاة، رُوي أن عمر بن الخطاب ÷ قال لجلسائه: تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية.
وذكروا أن عمر بن الخطاب لما دخل الشام فرأى معاوية قال: هذا كسرى العرب.ص66
_ ولم يكد معاوية يتولى الأمر بالشام حتى أخذ بما أوتيه من علم وحلم يضع أساس الملك، ويسير في رعيته سيرة حسنة حببته إليهم، وكان يتأنى الأمور، ويداري الناس على منازلهم، ويرفق على طبقاتهم؛ فأوسع الناس من أخلاقه، وأفاض عليهم من بره وعطائه، وشملهم من إحسانه، فاجتذب القلوب، واستدعى النفوس حتى آثروه على الأهل والقرابات، وعُدَّ مربيَّ دولٍ، وسائسَ أمم، وراعيَ ممالك.ص66
_ وكان ÷ يُرمى بالمطاعن، ويُرشق بسهام الإنكار، فَيُسِرُّها في نفسه، ولا تبدو عليه سورة الغيظ الذي يتخبط كثيراً من المستبدين.
وأسمعه رجلٌ كلاماً شديداً فقيل له: لو عاقبته! فقال: إني لأستحي أن يضيق حلمي عن ذنب أحد من رعيتي، وأغلظ له رجل فحلم عنه، فقيل له: أتحلم عن هذا؟ فقال: إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين سلطاننا.ص66 _ 67
_ وقال ÷: لقد كنت ألقى الرجل من العرب أعلم أن في قلبه عليّ ضغناً، فأستشيره، فيشير إلي منه بقدر ما يجده في نفسه، فلا يزال يوسعني شتماً وأوسعه حلماً، حتى يرجع صديقاً أستعين به فيعينني، وأستنجده فينجدني.ص67(2/103)
_ وكان ÷ عاقلا في دنياه، لبيباً عالماً حليماً ملكاً قوياً، جيد السياسة، حسن التدبير لأمور الدنيا، عاقلاً حكيماً فصيحاً بليغاً يحلم في موضع الحلم، ويشتد في موضع الشدة، إلا أن الحلم كان أغلب عليه.ص68
_ وقال ÷: لا يبلغ العبد مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ ذلك إلا بقوة العلم.ص68
_ ويروى عنه أنه قال: لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت أبداً، قيل له: وكيف ذاك؟ قال كنت إذا جبذوها أرخيها، وإذا أرخوها جبذتها ص68
_ وقال لابنه يزيد: عليك بالحلم والاحتمال حتى تمكنك الفرصة، فإذا أمكنتك فعليك بالصفح؛ فإنه يدفع عنك معضلات الأمور، ويقيك مصارع المحذور.ص69
_ وقال _ أيضاً _ : أفضل ما أعطي الرجل الحلم، وقال: ما وجدت لذة هي عندي ألذ من غيظ أتجرعه، وسفه بحلم أقمعه.ص69
_ وقال له ابنه يزيد: لقد أفرطت في الحلم حتى خفت أن يُعدَّ ذلك منك ضعفاً وجبناً، فقال معاوية: أي بني، إنه لا يكون مع الحلم ندامة ولا مذمة؛ فامضِ لشأنك، ودعني ورأيي.
وبمثل هذه السيرة صار خليفة العالم، وخضع له من أبناء المهاجرين والأنصار كل من يعتقد أنه أولى منه بالخلافة.ص69
_ وقيل للأحنف: من أحلم الناس أنت أو معاوية؟ فقال: معاوية قد قدر فحلم، وأنا أحلم ولا أقدر؛ فكيف أقاس به؟! ص69
9 _ زينة العلم الحلم والوقار
_ كان الأحنف بن قيس × يقول: =ما أضيف شيء إلى شيء أحسن من علم إلى حلم+.ص70
_ وقال عمر بن عبد العزيز ×: =ما قرن شيء إلى شيء أحسن من علم إلى حلم ، ومن عفو إلى مقدرة+.ص70
_ ويروى عن علي ÷ أنه قال لرجل: =ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يعظم حلمك، ويكثر علمك+.ص71
_ وقال الإمام مالك × لفتى من قريش: =يا ابن أخي، تعلّم الحلم قبل العلم+.
وقال لفتى من قريش: =يا ابن أخي، تعلّم الأدب قبل أن تتعلم العلم+. ص71(2/104)
_ وكان الإمام الشافعي × يقول: =جمال العلماء كرم النفس، وزينة العلم الورع والحلم+.ص71
_ وقال الشعبي: =يا طلاب العلم، لا تطلبوا العلم بسفاهة وطيش، اطلبوه بسكينة ووقار وتؤدة+.ص71
10 _ البغي والبغاة
_ قال المتلمس:
ومنْ يبغِ أو يسعى على الناس ظالماً
... يَقَعْ غيرَ شكٍّ لليدين وللفم
ص74
_ ومن أمثال العرب: (البغي آخر مدة القوم) يعني: أن الظلم إذا امتد مداه أذَّن بانقراض مدتهم.ص75
_ وقال المنصور: الرعية لا يصلحها إلا العدل، وأنقص الناس مروءة وعقلاً من ظلم من هو دونه.ص76
11 _ أسباب العزل عند أهل العدل
_ يروى عن جعفر بن يحيى، أنه رُفع إليه كتاب يشتكي فيه عامل، فوقَّع على ظهره(1): يا هذا! قد قلَّ شاكروك، وكثر شاكوك، فإما عدلت، وإما اعتزلت.ص77
_ ووقع المأمون لعامل: لو استقامت لك الطريقة، لرضيت الخليقة، فإن لم تدع فيهم القذل(2)، راعينا فيك العزل.ص77
_ وفي الحديث =شر الرعاء الحطمة+ أخرجه مسلم في صحيحه.
قال ابن الأثير في النهاية: =هو العنيف برعاية الإبل في السوق، والإيراد والإصدار، ويلقي بعضها على بعض ويعسفها، ضربه مثلاً لوالي السوء، ويقال _ أيضاً _ حطم بِلا هاء+.ص78
_ قال بعض البلغاء: لتكن معاونتك أخاك بمهجتك عند البلاء أكثر من معاونتك إياه عند الرخاء، وقيل: أفضل المعروف نصرة الملهوف.ص79
_ وروي أن عمر بن الخطاب ÷ قال لزياد بن أبيه: يا زياد، هل أنت حامل كتابي إلى أبي موسى في عزلك عن كتابته؟
فقال: نعم يا أمير المؤمنين، إن لم يكن ذلك عن سخط، قال: ليس عن سخط، ولكني أكره أن أحمل فضل عقلك على الرعية.ص79
_ وقال رجل لسليمان بن عبد الملك، وهو جالس للمظالم: يا أمير المؤمنين، ألم تسمع لقول الله _ تعالى _ : [ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ] ؟ يوسف: 44
__________
(1) _ أي على ظهر الكتاب.
(2) _ يعني الميل والجور.(2/105)
فقال: ما خطبك؟ قال: وكيلك اغتصبني ضيعتي وضمها إلى ضيعتك الفلانية، قال: فإن ضيعتي لك، وضيعتك مردودة إليك، ثم كتب إلى الوكيل بذلك وبِصَرْفه عن عمله.ص79
12 _ وصايا صحية عن العرب
_ هذا تحرير يشتمل على كلمات من الوصايا الصحية الواردة عن العرب قديماً؛ إذ بها نعلم ما كان لهم في تلك العصور من العناية والدراية بكثير من القواعد الصحية، والإرشادات الطبية المتبعة في عصرنا هذا، وإليك البيان.ص80
_ قال الأصمعي: كانت امرأة من العرب تأتي بصبية لها قبل الصبح، فتقف على تلٍّ عالٍ هناك وتقول: أي بَنِيَّ! خذوا صفو هذا النسيم قبل أن تكدره الخلائق بأنفاسها.ص80
_ هارون الرشيد كان ليلة بالحيرة، فلما كاد أن يتنفس الصبح قال لجعفر ابن يحيى: قم بنا نتنفس هواء الحيرة قبل أن تكدره أنفاس العامة.
قلت: هذا مما يدل على ما كان للعرب في ذلك العهد من الاهتمام، والعناية بالخروج إلى المواضع النقية الهواء، الطيبة المناخ.ص80
_ ومما يدل على ذلك _ أيضاً _ ما كتب به عمر÷إلى أبي عبيدة يوم طاعون عمواس إذ قال: =سلام عليك، أما بعد فإنك أنزلت الناس أرضاً عميقة، فارفعهم إلى أرض مرتفعة نزهة+.ص81
_ قال عمر بن الخطاب ÷: لا تزالوا أصحاء ما نزعتم ونزوتم.
يريد ما نزعتم عن القسي، ونزوتم على ظهور الخيل، وإنما أراد الحركة.ص81
_ وفي حديث عمر: أن عمرو بن معدي كرب شكا إليه النقرس(1)، فقال: كذِّب عليك الظهائر _ أي عليك بالمشي في الظهائر _ وهي جمع ظهيرة، وهي ما ظهر من الأرض وارتفع. ص81
_ وفي حديث له آخر: أن عمرو بن معدي كرب اشتكى إليه المعص، فقال: كذب عليك العَسْل _ يريد العسلان، وهو مشي الذئب _ أي عليك بسرعة المشي.
__________
(1) _ النِّقرِس: ورم في مفاصل الكعبين وأصابع الرجلين، ويقال: إنه يأتي من جراء الإفراط في أكل اللحم، وهكذا كان عمرو بن معدي عرب ÷فقد كان يقول _كما ذكر في سيرته_: إني لأجلس على الجذع من الإبل فأنتقيه عظماً عظما!.(2/106)
والمعص بالعين المهملة: التواء في عصب الرجل.ص81
_ وقال عمر بن الخطاب ÷: =إياكم والبطنة في الطعام والشراب؛ فإنها مفسدة للجسم، مورثة للسقم، مكسلة عن الصلاة، وعليكم بالقصد فيهما؛ فإنه أصلح للجسد، وأبعد عن السرف+.ص81
_ ومن كلامه _ يعني علي بن أبي طالب _ ÷: =يضر الناس أنفسهم في ثلاثة أشياء: الإفراط في الأكل؛ اتكالاً على الصحة، وتكلف حمل مالا يطاق؛ اتكالاً على القوة، والتفريط في العمل؛ اتكالاً على القدرة+.ص83
_ ومن كلامه _ أيضاً _ : =كثرة الطعام تميت القلب كما تميت كثرة الماء الزرع، وإن من المروءة أن يترك الرجل الطعام وهو يشتهيه+.ص83
_ وقال عمرو بن العاص: فوالله، ما بطن قوم قط إلا فقدوا بعض عقولهم، وما مضت عزيمة رجل بات بطيناً.ص80
وقال بعض الحكماء: لكل شيء صدأ، وصدأ القلوب شبع البطون.ص83
_ وقال بعض أطباء السواد: الدواء الذي لا داء فيه أن تقعد على الطعام وأنت تشتهيه، وتقوم عنه وأنت تشتهيه.ص83
_ قال عبد الملك بن مروان يوماً لأبي الزعزعة: يا أبا الزعيزعة، هل أتخمت قط؟ قال لا، قال فكيف؟ قال: لأنا إذا طبخنا أنضجنا، وإذا مضغنا دقَّقنا، ولا نكظ المعدة، ولا نخليها.ص83
_ ومن وصايا الحارث بن كلدة الثقفي: لا تنم بالليل عرياناً، ولا تقعد على الطعام غضباناً، وارفق بنفسك؛ يكن أرخى لبالك، وقلل من طعامك؛ أهنأ لنومك.ص83
_ ومن وصاياه _ أيضاً _ : عليكم بتنظيف المعدة في كل شهر؛ فإنها مذيبة للبلغلم، مهلكة للمرة، منبتة للحم، وإذا تغدى أحدكم فلينم على إثر غدائه، وإذا تعشى فليمش أربعين خطوة.ص84
_ وبقي ابن كلدة إلى زمن معاوية ÷ فقال له معاوية: ما الطب يا حارث؟ فقال: الأزَمُ يا معاوية؛ يعني الجوع.ص84
_ قال أبو عثمان الثوري: لله در الحارث بن كلدة؛ إذ زعم أن الدواء هو الأزَمُ. فالداء كله من فضول الطعام، فكيف لا ترغب في شيء يجمع لك صحة البدن، وذكاء الذهن، وصلاح الدين والدنيا، والقرب من عيش الملائكة ؟. ص84(2/107)
13 _ قمع الشهوة
_ قال علي ÷: =إياك والشهوات! وليكن مما تستعين به على كفها علمك بأنها ملهية لعقلك، مُهَجِّنة لرأيك، شائنة لعرضك، شاغلة لك عن معاظم الأمور، مشتدة بها التبعة عليك في آخرتك.
إنما الشهوات لعب، فإذا حضر اللعب غاب الجد، ولن يقام الدين وتصلح الدنيا إلا بالجد+.ص85
_ وجاء في المدهش لابن الجوزي: يا تائهاً في بوادي الهوى، انزل ساعةً بوادي الفكر، يخبرك بأن اللذة قصيرة، والعقاب طويل، واعجباً لمن يشتري شهوة ساعة بغم الأبد، كانت المعصية ساعة _ لا كانت _ فكم ذلت بعدها النفس، وكم تصاعد لأجلها النفس....ص86
_ وقال معاوية ÷: لا يبلغ العبد مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ ذلك إلا بقوة العلم.ص86
_ وقال الحكيم: الحكمة جلاء العقل، وتمييزه بالأدب، وقمع الشهوات بالعفاف..ص87
_ وقال علي ÷: عبد الشهوة أذل من عبد الرق.ص87
_ وقال سقراط: الحرية هي الخروج عن استعباد الشهوات المذمومة في العقل.ص87
_ وقال أبو زكريا يحيى بن معاذ بن جعفر الرازي ×: الجوع نور، والشبع نار، والشهوة الحطب يتولد منه الإحراق؛ فلا تنطفئ ناره حتى يحرق صاحبه.ص87 _ 88.
14 _ الرأي السديد
_ كان زال بن سامٍ يقول: الرأي السديد أجدى من الأيّد الشديد.ص90
_ وقال آخر:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا تدبرٍ
... فإن فساد الرأي أن تتعجلا
ص91
_ ومن أمثالهم (الخطأ زاد العجول) يعني: قلَّ من عجل في أمر إلا أخطأ قصد السبيل _.ص91 _ 92.
_ وجاء في الألفاظ لابن السكيت ص184 ما لفظه: =والركين: الحليم الذي يطيل الفكر إذا وردت عليه الأمور+ ص92
_ والرأي: هو التفكر في مبادئ الأمور، ونظر عواقبها، وعلم ما تؤول إليه من الخطأ والصواب.ص92
15 _ أجواد أهل الحجاز في القرن الأول الهجري
_ أجود أهل الحجاز ثلاثة: عبد الله بن جعفر، وعبيد الله بن العباس، وسعيد بن العاص.ص95(2/108)
_ عبيد الله بن العباس ÷: كان لفرط جوده يسمى معلم الجود، وهو أول من وضع الموائد على الطرق، وكانت نفقته في كل يوم خمسمائة دينار، وكان إذا خرج من دوره طعام إلى رحابه ومساجده لا يرد إليها منه شيء، فإن لم يجد من يأكله ترك مكانه فربما أكلته السباع، وكان هو والناس في ماله سواء، من سأله أعطاه، ومن لم يسأله ابتدأه، فلا يرى أنه يفتقر فيقتصد، ولا يرى أنه يحتاج فيدخر _ (غرر الخصائص للبرهاني ص242).ص95
_ سعيد بن العاص كان سعيد بن العاص الصحابي ÷ يجمع إخوانه كل جمعةٍ فيصنع لهم طعاماً، ويخلع عليهم، ويرسل إليهم بالجوائز، ويبعث إلى عيالهم العطاء الكثير، وكان يبعث مولى له كل ليلة جمعةٍ إلى مسجد الكوفة ومعه الصررُ فيها الدنانير، فيضعها بين يدي المصلين.عن التهذيب للإمام النووي.
ومن جوده: أنه كان يسمر معه ليلةً قومٌ فانصرفوا وبقي رجل، فعلم أنه طالب حاجةٍ، ويمنعه الحياء من ذكرها، فأمر سعيد بإطفاء الشمعة، وقال: ما حاجتك يا فتى؟ فذكر أن عليه ديناً أربعة آلاف درهم، فأمر له بها، قال: وكان إطفاؤه الشمعة أكثر من عطائه.
وعوتب في كثرة العطاء، فقال: إن الله تعالى عوّدني أن يتفضل عليّ، وعوّدته أن أتفضل على عباده، فأخاف إن قطعت أن يقطع.ص96
_ عبد الله بن جعفر: كان عبد الله بن جعفر ÷ من الجود بالمكان المشهود، وله فيه أخبار يكاد سامعها ينكرها لبعدها عن المعهود، وكان معاوية يعطيه ألف درهم كل سنة فيفرقها في الناس ولا يُرى إلا وعليه دين (المستطرف ج1 ص129).ص97
_ وفي التهذيب للنووي: =وكان عبد الله بن جعفر يسمى بحر الجود، قال الحافظ عبد الغني: يقال: لم يكن في الإسلام أسخى منه، وقال ابن قتيبة في المعارف: كان عبد الله بن جعفر أجود العرب، وأخبار أحواله في السخاء والجود والحلم مشهورة لا تحصى+.ص97
_ وأُنشِد عبد الله بن جعفر قول الشاعر:
إن الصنيعة لا تكون صنيعة ... حتى تصيب بها طريق المصنع(2/109)
فقال: هذا رجل يريد أن يبخل الناس، أمطرِ المعروف مطراً فإن صادف موضعاً فهو الذي قصدت، وإلا كنت أحق به.
ويشبه هذا ما ينسب لأبي الحسين بن السراج:
بُثَّ الصنائعَ لا تَحفلْ بموقعها
... فيمن نأى أو دنا ما كنت مقتدرا
فالغيث ليس يبالي حيثما انسكبت ... منه الغمائم ترباً كان أو حجراً
ص98
16 _ إياك والغضب
_ قال جعفر بن محمد الصادق: خير السادة أعدلهم حلماً عند الغضب.ص99
_ وعن أبي هريرة _ رضي الله تعالى عنه _: أن رجلاً قال للنبي": أوصني، قال: =لا تغضب، فردّد مراراً قال: لا تغضب+ رواه البخاري. ص100
_ وفي الصحيحين عن النبي " أنه قال: =ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب+.ص100
_ وقيل لابن المبارك ×: اجمع لنا حسن الخلق في كلمة واحدة قال: ترك الغضب _ المستطرف.ص100
_ وقال أحدهم: أملك الناس جميعاً لنفسه: من استغنى عن الاعتذار بعد سكون الغضب _ اللباب.ص101
17 _ التخاصم والتشاتم
_ قال مسلم بن قتيبة: رآني بشير بن عبيد الله _ وأنا أخاصم بعض أهلي وأنا شاب _ فقال لي: يا ابن أخي، إني أراك ثَبْتَ المروءة، فإياك والخصومات؛ فإنها تذهب المروءة _ (طبقات الشعراء ص133).ص102
_ ومن أمثال المولدين: (شرُّ الناس من لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً).ص102
18 _ الصروع والصرعة
_ الصروع كصبور: الرجل الكثير الصراع للناس.ص133
_ والصرعة: الحليم عند الغضب _ وهو مثل، قال أبو علي: وذلك لأن حلمه يصرع غضبه، بضد قولهم: الغضب غول الحلم.ص133
_ وقال ابن مسعود: قال النبي ": =ما تعدّون الصرعة فيكم؟ قلنا: الذي لا تصرعه الرجال، قال: ليس ذلك، ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب+ وقال أبو هريرة: قال النبي ": =ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب+.ص133
_ وقال ": =أشدكم من غلب نفسه عند الغضب، وأحلمكم من عفا بعد القدرة+.ص133(2/110)
_ وكان أبو الدرداء يقول: أقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب، واحذر أن تَظْلِم من لا ناصر له إلا الله.ص134
_ ومن أمثالهم (الظفر بالضعيف هزيمة) يضرب لمن يستضعف.ص134
19 _ الساعي والسعاية
_ قال المهدي: ليس الساعي بأعظم عورة، ولا أقبح حالاً ممن قبل سعايته _(زهر الآداب للحصري ج2 ص16).
السعاية والإغراء والتضريب والوشاية والنميمة والوقيعة: كلها واحد _ الألفاظ للرواني.ص137
_ وقيل: الساعي غاش وإن قال قول متنصح.ص137
_ وكان الأحنف يقول: أبعد ما يكون الساعي من الله إذا صدق.ص137
_ ورفع إلى أنو شروان: لم عزلتم فلاناً عن الإنهاء مع قديم خدمته وحرمته، فوقع: لأنه لطخ سمعنا بقذر السعاية فعافته أنفسنا _ (خاص الخاص ص67) ص138
_ وكلم معاوية الأحنف في شيء بلغه عنه، فأنكره الأحنف، فقال له معاوية: بلغني عنك الثقة، فقال له الأحنف: إن الثقة لا يبلغ مكروهاً.ص139
20 _ لا تتكلف ما لا يليقك
_ يقال: هذا الأمر لا يليق بك، أي: لا يعلق بك.
ويقال: ما يليق بك أن تفعل كذا، أي: لا يزكو ولا يناسب ونحوه.ص141
_ إذا المرء لم يدر ما أمكنه
... ولم يأت من أمره أزينه
وأعجبه العجب فاقتاده ... وتاه به التيه فاستحسنه
فدعه فقد ساء تدبيره ... سيضحك يوماً ويبكي سنة
ص141
_ ومن أمثال العرب: (قيل للشقي: هلم إلى السعادة، قال: حسبي ما أنا فيه) _ يضرب لمن قنع بالشر، وترك الخير وقبول النصح _.ص141
21 _ عزيمة الصبر
_ العزم: ما عُقد عليه القلب من أمر يُراد.
وقال الزبيدي: والعزم في لغة هذيل: بمعنى الصبر، يقولون: مالي عنك عزم أي صبر.اهـ كلام الزبيدي.ص143
_ وقال المسعر لعبد الله بن طاهر:
ماذا تقول _ فدتك نفسي _ في امرئ
... ركب العزيمة في لجام الصبر
يعلو من الدنيا على أوعارها ... ويحل منها في محل السفر
ص143
_ على قدر فضل المرء تأتي خطوبه
... ويعرف عند الصبر فيما ينوبه
وعاقبة الصبر الجميل من الفتى ... إلى فرج من ذي الجلال يثيبه
ص144(2/111)
22 _ ينشدون الأشعار وهم يحتضرون
_ وفي ديوان أبي فراس (واسمه الحارث بن سعيد) أنه لما حضرته الوفاة كان ينشد مخاطباً ابنته:
أبنيَّتي لا تجزعي ... كلُّ الأنام إلى ذهاب
نوحي علي بحسرةٍ ... من خلف سترك والحجاب
قولي إذا كلمتني ... فعييت عن رد الجواب
زين الشباب أبو فرا ... س لم يمتع بالشباب
ص172
_ قال الإمام محمد بن إدريس _ رحمة الله عليه _ : دخلت على أبي نواس وهو يجود بنفسه، فقلت: ما أعددت لهذا اليوم؟! فقال:
تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما
ص172
_ يقول محرر هذا المقال: هذا البيت أذكرني في قول ابن أراكة الثقفي:
أقول لعبد الله إذ خنَّ باكياً ... تعزَّ وماءُ العينِ منهمرٌ يجري
تأملْ فإن كان البكا ردَّ هالكاً ... على أحد فاجهدْ بكاكَ على عمرو
ولا تبك ميتاً بعد ميت أجَنَّهُُ(1) ... عليٌ وعباسٌ وآل أبي بكر
يريد النبي ".ص173
_ وتمثل سيبويه عند الموت:
تومِّل دنيا لتبقى لنا ... فمات المؤمل قبل الأمل
حثيثاً يروي أصول النخيل
... فعاش الفسيل ومات الرجل
ص174
_ وكان أبو الفتح المنهي قد برع في الفقه، وتقدم عند العوام، وحصل له مال كثير، ودخل بغداد، وفُوِّض إليه التدريس بالمدرسة النظامية، وأدركه الموت بهمذان، فلما دنت وفاته قال لأصحابه: اخرجوا، فخرجوا، فطفق يلطم وجهه ويقول: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، ويقول: يا أبا الفتح، ضيعت العمر في طلب الدنيا، وتحصيل الجاه والمال، والتردد إلى أبواب السلاطين، وينشد:
عجبت لأهل العلم كيف تغافلوا
... يجرون ثوب الحرص عند المهالك
يدورون حول الظالمين كأنهم ... يطوفون حول البيت وقت المناسك
ص174 _ 175
_ وقال محمد بن زكرياء: دخلت على أبي نواس وهو يكيد بنفسه، فقال لي: تكتب؟ فقلت: نعم، فأنشأ يقول:
دبَّ فيَّ الفناءُ سُفلاً وعُلواً ... وأراني أموت عضواً فعضوا
ذهبت شرتي بحدة نفسي ... وتذكرت طاعة الله نضوا
__________
(1) _ معنى (أجنة): أي ستره في الأرض.(2/112)
ليس من ساعة مضت بي إلا
... نقصتني بمرها بثُّ جزْوا
لهف نفسي على ليالٍ وأيا
... مٍ تملَّيتهن لعباً ولهوا
وأسأنا كل الإساءة يا رب فصفحاً عنّا جميعاً وعفوا
ص175
23 _ العمل العمل
_ ومن أمثالهم: (جَمِّعْ له جراميزكَ) _ جراميز الرجل: جسده وأعضاؤه، يضرب لمن يؤمر بالجد في العمل.ص176
_ ومن أمثال العرب: (بغير اللهو ترتتق الفتوق) يضرب في الحث على استعمال الجد في الأمور.ص177
_ ومن أمثالهم (إياك والسآمة في طلب الأمور؛ فتقذفك الرجال خلف أعقابها).
قال الميداني: يضرب في الحث على الجد في الأمور، وترك التفريط فيها.اهـ كلامه.ص177
_ ومن أمثالهم (سِرْ وقمرٌ لك) أي اغتنم العمل ما دام القمر لك طالعاً، يضرب في اغتنام الفرصة، ويروى: أسرِ وقمر لك، من السُّرى الواو(1) في الروايتين للحال أي سِرْ مقمراً. اهـ. ص178
_ ومن أمثال المولدين: (من عمل دائماً أكل نائماً).ص178
24 _ النزاهة عن التعرض للأبواب
_ قال الشاعر:
يا أمَّ عقبةَ إني أيَّمَا رجلٍ ... إذا النفوس ادَّرعْنَ الرُّعبَ والرهبا
لا أمدح المرء أبغي من فضائله ... ولا أظل أداجيه إذا غضبا
ولا يراني على باب أراقبه ... أبغي الدخول إذا ما بابُه حُجِبا
ص181
_ وأنشد الجوهري لأبي الأسود الدؤلي:
ولا أقول لقدر القوم قد غليت
... ولا أقول لباب الدار مغلوق
أي إني فصيح لا ألحن، قال الزبيدي: قال شيخنا: ومنهم من فسرَّ بيت أبي الأسود بالنزاهة عن التعرض لأبواب الناس.ص181
_ وكان الشيخ عز الدين بن عبدالسلام إذا قرأ عليه الطالب وانتهى يقول: إقرأ من الباب الذي يليه ولو سطراً، فإني لا أحب الوقوف على الأبواب.ص181
_ قال الشيخ المكُّودي:
إذا عرضت لي في زماني حاجة
... وقد أشكلت فيها عليَّ المقاصد
وقفت بباب الله وقفة ضارع
... وقلت: إلهي إنني لك قاصد
ولست تراني واقفاً عند باب من
... يقول فتاه: سيدي اليوم راقد
ص182
25 _ ليس للفضيلة وطن
__________
(1) _ يعني بها: واو الحال.(2/113)
_ من كلمات أخينا وأستاذنا الشيخ سيدي محمد الخضر حسين، قوله: =إذا خلوت بموطن أغلق عيون رقبائك، وختم على أفواه عُذَّالك، ثم راودك على أن تنزع حلية أدبك، فقل: ليس للفضيلة وطن+.ص196
_ وقال آخر:
وما يزع النفسَ اللجوجَ عن الهوى ... من الناس إلا حازمُ الرأي كامله
ص196
_ وقال الحكيم: شَرُفَ العقل على الهوى، إن العقل يملكك الزمان، والهوى يستعبدك له.ص197
_ وقال الحكيم: من أطاع الشهوة خذلته عند الإصحار(1) به في دفع المكاره، وجعلته خادماً لمن كان ينبغي أن يتقدمه.ص198
26 _ مخالفة النفس وقدعها عن هواها
_ إن من العقل عدمَ الرضا عن النفس، واتهامَها في جميع الأحوال، ومخالفتها في جميع مطالبها، وأن لا ينظر إليها نظر استحسانٍ وكمالٍ.ص201
27 _ القناعة
_ قال آخر:
إذا المرء عوفي في جسمه ... وملكه الله قلباً قنوعا
وألقى المطامع عن نفسه
... فذاك الغني وإن مات جوعا
ص205
_ قيل: وحسم هذه المطامع شيئان: اليأس والقناعة، ولله درُّ من قال:
الحرص فقر والقناعة عزةٌ ... واليأس من صنع الإله قنوط
_ وقال آخر:
وجدت القناعة رأس الغنى
... فصرت بأذيالها ممتسكْ
فلا ذا يراني على بابه ... ولا ذا يراني به منهمكْ
فأورثني عزُّها خِلعةً ... يمر الزمان ولا تنهمكْ
ص205
_ وقال أبو فراس الحمداني:
إن الغنيَّ هو الغنيُّ بنفسه ... ولو آنه عاري المناكب حافِ
ما كل ما فوق البسيطة كافياً ... فإذا قنعت فكل شيء كافِ
ويعاف لي طبع الحريص أبُوَّتي ... ومروءتي وقناعتي وعفافي
ص206
28 _ عصيان الهوى
_ روي أن هشام بن عبد الملك لم يقل بيتاً من الشعر إلا قوله:
إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال
ولما سمعه أبو عمر(2) قال: لو قال: إلى كل ما فيه عليك مقال، لكان أبلغ وأحسن.ص207
__________
(1) _ الإصحار: أي البروز إلى الصحراء لا يواريه شيء.
(2) _ يعني به: ابن عبدالبر _ كما في كتابه بهجة المجالس _.(2/114)
_ وقال أبو الدرداء ÷: إذا أصبح الرجل اجتمع هواه وعمله؛ فإن كان عمله تبعاً لهواه فيومه يوم سوءٍ، وإن كان هواه تبعاً لعمله فيومه يومٌ صالح.ص208
29 _ المتحلون بأعلام مضافة إلى اسم الله _ عزّ وجل _
_ داعي الله: داعي الله: هو النبي "، وهو من قوله _ تعالى _ : [وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً (46)] الأحزاب، أي: إلى توحيده وما يقرب منه. ص210
_ خليل الله: خليل الله: عليه الصلاة والسلام.ص211
_ روح الله، وكليم الله: روح الله قال _ تعالى _ في ذكر عيسى _ عليه السلام_ : [وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ] النساء: 117.
فلذا قيل له: روح الله، كما قيل لإبراهيم خليل الله، ولموسى كليم الله _عليهم الصلاة والسلام_ والأرواح كلها منه وله، وإنما أضيف روح الله إليه على سبيل الاختصاص.ص211
_ أسد الله: كان يقال لحمزة بن عبد المطلب: أسد الله؛ لِتَقَدُّمِ قَدَمِه في الحرب، وشدة إقدامه على أعداء رسول الله ".ص212
_ سيف الله: سيف الله: خالد بن الوليد بن المغيرة أبو سليمان، سماه النبي" سيف الله؛ لحسن آثاره في الإسلام وصدقه في قتال المشركين.ص212
_ جار الله: كان الإمام أبو قاسم محمود بن عمر الزمخشري قد سافر إلى مكة
_ حرسها الله تعالى _ وجاور بها زماناً فصار يقال له: جار الله؛ لذلك.ص212
_ قواري الله:القارِيةُ: الصالحون من الناس.ص212
_ ظل الله: ظل الله: يروى عن النبي " أنه قال: =السلطان ظل الله في أرضه+ وفي حديث: =السلطان ظل الله في الأرض؛ لأنه يدفع الأذى عن الناس، كما يدفع الظل أذى حر الشمس+ وقد يكنى بالظل عن الكنف والناحية _ النهاية لابن الأثير.ص213(2/115)
_ أهل الله: كان يقال لقريش في الجاهلية أهل الله، تميزوا به عن سائر العرب من المحاسن والمكارم، والفضائل والخصائص، التي هي أكثر من أن تحصى...فلما جاء الله _ تعالى _ بالإسلام، وبعث منهم خير خلقه، وأفضل رسله محمداً رسول الله " وعلى آله وأصحابه _ تظاهر شرفهم، وتضاعف كرمهم، وصاروا على الحقيقة أهلاً لأن يدعوا أهل الله، فاستمر عليهم وعلى سائر أهل مكة، وعلى أهل القرآن هذا الاسم؛ حين قال النبي ": =أهل القرآن هم أهل الله وخاصته+ _ الثمار.ص214
_ عمال الله: عمال الله هم الذين يعملون لله، فإما يشتغلون بعبادته وإما يجاهدون في سبيله.ص214
_ حزب الله: قال الله _ تعالى _ : [أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ] المجادلة:22 جنده وأنصار دينه.ص215
_ جنود الله: الجنود: جمع جند، وهو العسكر، وكل مجتمع يقال له: جند، نحو: الأرواح جنود مجندة، وجنود الله: هم المحامون عن دينه، قال _ تعالى _ : [وَإِنَّ جُندَنَا لَهُم الْغَالِبُونَ (173)] الصافات. ص215
_ وفد الله: كتب الصاحب أبو القاسم: الحجيج وفد الله.ص216
30 _ الصبر
_ الصبر: حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع، أو عما يقتضيان حبسها عنه.ص221
_ وقيل: الصبر: حبس النفس لمصادفة المكروه، وصبر الرجل: حبس نفسه عن إظهار الجزع، والجزع: إظهار ما يلحق المصاب من المضض والغم.ص221
_ وعن علي ÷: الصبر يناضل الحدثان، والجزع من أعوان الزمان. ص221
_ ومن أشرف نعوت الإنسان: أن يُدعى حليماً؛ لأنه لا يدعاه حتى يكون عاقلاً، وعالماً، ومصطبراً محتسباً، وعَفُوَّاً، وصافحاً، ومحتملاً، وكاظماً، وهذه شرائف الأخلاق، وكرائم السجايا والخصال.ص222 _ 223
31 _ انتهاز الفرصة
_ من كلام ابن المعتز: إهمال الفرصة حتى تفوت عجز، والعجلة قبل التمكن خُرْق.ص224(2/116)
_ وقال علي بن أبي طالب ÷: =من الخُرْق المعالجة قبل الإمكان، والأناة بعد الفرصة+ _ الخرق _ بالضم _ الحمق وضدُّ الرفق، والأناةُ: التأني، والفرصةُ: ما يمكنك من مطلوبك، ومن الحكم: أن لا تتعجل حتى تتمكن، وإذا تمكنت فلا تهمل.ص224
_ وقال علي بن إسحاق الزاهي وقيل لغيره:
بادِرْ إذا حاجةٌ في وقتها عرضت
... فللحوائج أوقات وساعاتُ
إن أمكنت فرصة فانهض لها عجلاً ... ولا تؤخرْ فللتأخيرِ آفاتُ
ص224
_ سئل أنو شروان _ ما أعظم المصائب؟ فقال: أن تقدر على المعروف فلا تصنعه حتى يفوت.ص225
32 _ ما قاله أبو بكر الصديق عند موته
_ لما احتضر أبو بكر ÷، جاءت عائشة _ رضي الله عنها _ فتمثلت بهذا البيت:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاقَ بها الصدْرُ
فكشف عن وجهه وقال: ليس كذا، ولكن قولي: [وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ] انظروا ثوبيَّ هذين فاغسلوهما، وكفنوني فيهما؛ فإن الحيَّ إلى الجديد أحوج من الميت.ص228
_ وقالت عائشة _ رضي الله عنها _ عند موته:
وأبيضُ يستقي الغمام بوجههِ
... ربيعُ اليتامى عصمةٌ للأرامل
فقال أبو بكر: ذلك رسول الله ".ص228
_ ودخلوا عليه فقالوا: ألا ندعوا لك طبيباً ينظر إليك؟ قال: قد نظر إليَّ طبيبي، وقال: إني فّعَّال لما أريد.ص228
_ ودخل عليه سلمان الفارسي _ رضي الله تعالى عنه _ يعوده فقال: يا أبا بكر: أوصنا، فقال إن الله فاتح لكم الدنيا؛ فلا تأخذن منها إلا بلاغك.ص228
_ وقال عند موته لعمر _ رضي الله عنهما _ : والله ما نمت فحلمت، وما شبعت فتوهمت، وإني لعلى السبيل ما زغت، ولم آل جهداً، وإني أوصيك بتقوى الله، وأحذرك يا عمر نفسك، فإن لكل نفسٍ شهوةً إذا أُعطِيَتْها تمادت فيها، ورغبت فيها.ص230
33 _ زلة الرأي واللسان
_ الزلة: الخطيئة، والذنب، والسقطة في مقال، ونحوه.ص231
_ وقال بعضهم: رحم الله من أطلق ما بين كفيه، وحبس ما بين فكيه.ص232(2/117)
_ ومن الحكم: إذا زللت فارجع، وإذا أسأت فاندم، وإذا ندمت فاقلع.ص234
34 _ الإعراض عما يخل بالمروءة
_ قال الحماسي:
وأعرضُ عن مطاعمَ قد أراها ... فأتركها وفي بطني انطواء
يقول: تعرض لي مطاعم فيها دنس، فأتركها وبطني جائع؛ مخافة العار والإثم.ص236
_ وقيل: إن الخليل بن أحمد × أتى إليه رسول الخليفة يطلبه _ وهو جالس يبل خبزاً يابسًا في ماء، فإذا انتقع أكله _ فقال له: أجب أمير المؤمنين، فقال له: ما دمت أجد هذين فإني لا أحتاج إليه.ص238
_ وكان الخليل متقللاً من الدنيا، صبوراً على العيش الخشن الضيق، وكان يقول: لا يتجاوز همي ما وراء بابي.ص238
35 _ لا تهتم لرزق غدك
_ قال الشاعر:
إنَّ ربًّا كفاك بالأمس ما كا ... ن سيكفيك في غدٍ ما يكونُ
ص239
_ وقال آخر:
لو كان في صخرةٍ صماءَ راسيةٍ
... في البحر ملمومةٍ مُلْسٍ نواحيها
رزق لِعَبْدٍ يراه الله لانصدعت ... حتى يؤدى إليه كلُّ ما فيها
أو كان تحت طباق السبع مسلكُها ... لسهَّل الله من قرب مراقيها
حتى ينال الذي في اللوح خُطَّ له ... إما أتته وإلا كان يأتيها
ص239
_ وقال محمد بن إدريس الأندلسي (الوفيات ج1 ص278) :
مَثَلُ الرزقِ الذي تطلبه ... مَثَلُ الظلِّ الذي يمشي معكْ
ص240
_ وقال ابن زريق:
وما مجاهدةُ الإنسانِ واصلةٌ
... رزقاً ولا دعةُ الإنسان تَقْطَعهُ
قد قسَّمَ الله بين الخلقِ رِزْقَهُمُ
... لم يَخْلُقِ اللهُ مِنْ خلقٍ يضيِّعهُ
ص241
36 _ حلم الأحنف وقيس بن عاصم
_ كان الأحنف سيد قومه، موصوفًا بالعقل والدهاء، والعلم والحلم.
وكان من سادات التابعين، يضرب بحلمه المثل، فعن الحسن قال: ما رأيت شريف قوم أفضل من الأحنف.ص242
_ وقال زياد: إن الأحنف قد بلغ من الشرف والحلم والسؤدد ما لا تنفعه الولاية، ولا يضره العزل.ص242
_ وسئل خالد بن صفوان عن الأحنف بم ساد، فقال: بفضل سلطانه على نفسه.ص242(2/118)
_ وقيل للأحنف بم سدت، قال: بالخلق السجيح _ السهل _ والكف عن القبيح، وتجنب الدني، وترك اللسان البذي.ص242
_ وقيل له: ما أحلمك! قال لست بحليم، ولكني أتحالم، والله، إني لأسمع الكلمة فأحلم لها ثلاثاً ما يمنعني من الجواب عنها إلا خوفي من أن أسمع شراً منها.ص242 _ 243.
_ وقال الميداني: =كان الأحنف حليماً، موصوفاً بذلك، حكيماً مُعْتَرَفاً له به، ثم قال: =وسئل هل رأيت أحلم منك؟ قال: نعم، وتعلمت منه الحلم قيل: من هو؟ قال قيس بن عاصم المِنْقري+ ص243
_ وكان الأحنف بن قيس يقول: إنما تعلمت الحلم من قيس ابن عاصم.ص243
_ وقال ابن الأعرابي: قيل لقيس: بماذا سدت قومك؟ فقال بثلاثٍ: بَذْلِ الندى، وكفِّ الأذى، ونصر الولي.
_ وقال الأحنف: لقد اختلفنا إلى قيس بن عاصم في الحلم، كما نختلف إلى الفقهاء في الفقه.ص244
37 _ دع عنك من كره صحبتك
_ من أمثال العرب قولهم:
خل سبيل من وهى سقاؤُه ... ومن هُرِيقَ بالفلاة ماؤه
قال الميداني: يضرب لمن كره صحبتك وزهد فيك.ص245
_ وقال شاعر:
وكل خليلٍ ليس في الله ودُّه ... فإني به في وده غير واثقِ
ص246
_ ومما يتعلق بذكر الود قول بعضهم (اللباب لأسامة ص321) :
إذا ما أخي يوماً تولَّى بوده ... وأنكرت منه بعض ما كنت أعرفُ
عَطَفت عليه بالمودة إنني ... على مُدْبر الإخوان بالودِّ أَعْطِفُ
وإغضاؤك العينين عن عيب صاحبٍ ... لعمرك أبقى للوداد وأشرفُ
ص 247
_ وقال آخر:
إن الصديق إذا رآك مخالفاً ... لهواه بدَّل وده بعقوقٍ
فاخفض جناحك للصديق متابعاً
... أهواءه أو عشْ بغير صديقِ
ص247
38 _ كلمات للأحنف بن قيس
_ قال الأحنف: ما عرضتُ النَّصفَةَ قط على أحد فقبلها إلا دخلتني له هيبة، ولا ردها إلا اختبأتها في عقله.ص250
_ وقال له رجل: دلني على المروءة، فقال: عليك بالخلق الفسيح، والكف عن القبيح، ثم قال: ألا أدلك على أدوأ الداء، قال: بلى قال: اكتساب الذم بلا منفعة.ص250(2/119)
_ وسئل عن المروءة فقال: التفقه في الدين، وبر الوالدين، والصبر على النوائب.ص250
_ ويروى عن الأحنف قال: لا مروءة لكذوب، ولا إخاء لملول، ولا سؤدد لسيئ الخلق.ص250
_ ومن كلمات الأحنف قوله: إياكم ورأيَ الأوغادِ، قالوا: وما رأيُ الأوغاد؟ قال: الذين يرون الصفح والعفو عاراً.ص250 _ 251.
_ وأتى الأحنفُ بنُ قيسٍ مصعبَ بنَ الزبير فكلمه في قوم حبسهم، فقال: أصلح الله الأمير: إن كانوا حُبسوا في باطلٍ فالحق يخرجهم، وإن كانوا حُبسوا في حق فالعفو يسعهم، فخلاهم.ص251
_ وقال الأحنف: ما خان شريف، ولا احتجب كريم، ولا كذب عاقل.ص251
39 _ عزة النفس
_ قال المتنبي:
وإني لمن قومٍ كأن نفوسنا ... بها أنفٌ أن تسكن اللحم والعظما
فلا عَبَرت بي ساعة لا تُعِزُّني ... ولا صحبتني مهجة تقبلُ الظلما
ص253
_ ومن الكلم النوابغ: إن لم تكن ذا عرنين أشم، كنت لريح الذلّ أشم.ص253
_ وقال الفرزدق: من قصيدة يمدح بها علي بن الحسين _ رضي الله عنهما _:
في كفه خيزرانٌ ريحه عبق ... من كف أروع في عرنينه شمم
يُغْضي حياءً ويُغضى من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم
ص254
_ وقال علي بن الحسن الشهير بصرّ درّ: (عن ديوانه) :
كل النكال أطيق إلا ذلةً ... إن العزيزَ عذابه بالهوانِ
هذا البيت من قصيدة، منها:
يا عينُ مثل قذاكِ رؤيةُ معشرٍ ... عار على دنياهُمُ والدينِ
لم يشبهوا الإنسانَ إلا أنهم
... متكوّنون من الحما المسنونِ
نَجَس العيون فإن رأتهم مقلتي
... طهرتُها فنزحت ماء جفوني
أنا إن هُمُ حسبوا الذخائر دونَهم
... أو هم _ إذا عدّوا الفضائل _ دوني
ص255
40 _ علامات العاقل وأوصافه
_ يقال: من علامات العاقل حسن سمته، وطول صمته.ص256
_ وقالوا: من علامة العاقل ثلاثة: تقوى الله، وصدق الحديث، وترك ما لا يعني.ص256
_ وفي حكمة داود: على العاقل أن يكون عالماً بأهل زمانه، مالكاً للسانه، مقبلاً على شأنه.ص256(2/120)
_ وقال بعض الحكماء: أربعة تدل على صحة العقل: حب العلم، وحسن الحلم، وصحة الجواب، وكثرة الصواب.ص256
_ ومن رسالة للخوارزمي: =....والعاقل إذا أبغض أنصف، وإذا أحبّ ألطف+.ص256
41 _ المتغابي
_ المتجاهل عن الشيء وهو عارف به، وهو مما يحمد به الرجل.
قال حبيب(1):
ليس الغبي بسيدٍ في قومه ... لكن سيد قومه المتغابي
ص267
42 _ الهوى الهوان
_ الهوى بالقصر: العشق يكون في الخير والشر.قاله المجد.ص276
_ وفي أخبار الأول للإسحاقي ص70 ما لفظه: =تعريف الهوى: هو ميل النفس إلى الشهوة _ حلالاً أو حراماً _ +.ص276
_ وجاء في أدب الدنيا للماوردي ص8 ما يتلو: قال أعرابي: الهوى هوان ولكن غلط باسمه،فأخذه الشاعر وقال:
إن الهوان هو الهوى قُلب اسمه
... فإذا هويت فقد لقيت هوانا
ص277
_ وقال آخر:
نون الهوان من الهوى مسروقة ... وصريعُ كل هوىً صريعُ هوان
ص277
43 _ العقل والأدب
_ قيل: إذا جمع المعلم ثلاثاً تمت النعمة بها على المتعلم: الصبر، والتواضع، وحسن الخلق.
وإذا جمع المتعلم ثلاثاً تمت النعمة بها على المعلم: العقل، والأدب، وحسن الفهم.ص283
_ وقالوا: لا عقل إلا بأدب، ولا أدب إلا بعقلٍ.ص283
_ وقال الإمام مالك × لفتىً من قريش: يا ابن أخي، تعلم الأدب قبل أن تتعلم العلم.ص285
_ والأدب الذي تعرفه العرب: هو ما يحسن من الأخلاق، وفعل المكارم، مثل ترك السفه، وبذل المجهود، وحسن اللقاء.ص285
44 _ لا تتلهف على ما فات
_ يقول تلهَّفَ على الفائت: تحّسرَ _ الأساس.
ولهِفَ _ بالكسر _ يلهَفُ لهفاً أي: حَزِنَ وتحسَّرَ، وكذلك التلهف على الشيء، وقولهم: يا لهف فلانٍ: كلمةٌ يتحسر بها على ما فات.قاله الجوهري.ص291
_ قال أبو بكر ابن النطاح:
ولم أتنفس الصعداء لهفاً ... على عيش تداعى بانقضاب
أطالع ما أمامي بابتهاجٍ ... ولا أقفو المولّي باكتئاب
ص291
_ وقال عبد الرحمن بن يزيد الهمذاني:
باقٍ على الحدثات غير مكَذَّبٍ
__________
(1) _ يعني أبا تمام.(2/121)
... لا كاسفٌ بالي ولا متأسَّفُ
إن نلت لم أفرح بشيءٍ نلته ... وإذا سُبِقْتُ به فلا أتلهفُ
ص291
_ وقال عبد الله بن الزبير الأسدي:
ولا تراني على ما فات مكتئباً
... ولا تراني إلى ما قِيدَ مبتهجا
ص292
_ وقال كعب بن زهير: _ يصف الصحابة _ رضي الله تعالى عنهم _:
لا يفرحون إذا نالت رماحهم
... قوماً وليسوا مجازيعاً إذا نيلوا
ص292
45 _ تبادل الآراء
_ وقال الشاعر:
وإذا الأمور عليك يوماً أشكلت
... فاعمد لرأي أخٍ نصيح مرشدِ
واحفظ نصيحة من بدا لك ودُّهُ
... وبرأي أهل الخير جَهْدَكَ فاهتدِ
ص294
_ قال عبد الله بن المعتز: من شاور لم يعدم في الصواب مادحاً، ولا في الخطأ عاذراً.ص295
_ وقال بشار بن برد: المشاور بين إحدى الحسنين: صواب يفوز بثمرته، أو خطأ ويشارك في مكروهه.ص 295
_ قال الحسن÷: والله ما تشاور قوم قط إلا هداهم الله لأفضل ما يحضرهم.ص296
46 _ الورع
_ الورع محركة: التقوى والتحرج، والكف عن المحارم، وقيل: الورع: الكف عن الشبهات فضلاً عما لا يحل.ومن أمثال العرب (الشبهة أخت الحرام) ص299
_ وكان الحسن بن علي بن أبي طالب÷حليماً كريماً ورعاً، دعاه ورعه وحلمه إلى ترك الدنيا والخلافة لله _ عز وجل _.ص299
47 _ أفذاذ من أصحاب الهمم السامية
_ أخرج ابن المبارك، عن ابن عيينة، عن موسى بن أبي عيسى: أن رجلاً استقرض من قيس بن سعدٍ ثلاثين ألفاً، فلما ردها إليه أبى أن يقبلها.ص303
_ ومرض قيس بن سعد بن عبادة × فاستبطأ إخوانه عن عيادته، فسأل عنهم، فقيل: إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدَّين، فأمر منادياً نادى كل مَنْ كان لقيس عليه دينٌ فهو في حلّ منه، فكُسِرَتْ درجته بالعشيِّ لكثرة من عاده.ص303(2/122)
_ قيل: اشترى عبد الله بن عامر من خالد بن عقبة بن أبي معيط داره التي في السوق بسبعين ألف درهم، فلما كان بالليل سمع بكاء آل خالدٍ، فقال لأهله: ما لهؤلاء؟ قال: يبكون من أجل دارهم، قال: يا غلام ائتهم فاعلمهم أن المال والدار لهم جميعاً.ص303
48 _ المداراة
_ المدارة: حسن الخلق والمعاشرة مع الناس.ص313
_ ومن المقامة القهقرية الحريرية _ قوله: =واستعمال المداراة، يوجب المصافاة+.ص313
_ وقرأت في كتاب خاص الخاص للثعالبي ص12 _ كلمة بعنوان المداراة، وهي هذه: =العرب(1): إذا عَزَّ أخوك فَهنْ _ بكسر الهاء _: أي إذا عاسرك فياسره، الخاصةُ(2): لايِنْ إذا عَزَّكَ أي =غلبك+ من تخاشنه.ص314
49 _ الحج والحجيج
_ الحج في الأصل القصد، وقد خُصَّ في تعارف الشرع بقصد بيت الله _تعالى_ إقامة للنسك.ص321
_ الكريمان: الحج والجهاد.ص322
_ الحاجّ والداجّ: ومن أمثال العرب: (ما حج ولكنه دَجَّ) _ يقال: هم الحاج والداج، قالوا: الداج: الأعوان والمكارون، ويقال: الداج: الذي خرج للتجارة وهو من دج يدج دجيجاً أي دبَّ.
_ وجاء في مستدرك التاج ما يتلو: =وقولهم: أقبل الحاج والداج _ يمكن أن يراد به الجنس، وقد يكون اسماً للجمع كالجامل، والباقر، وروى الأزهري، عن أبي طالب في قولهم: ما حج ولكنه دج، قال: الحج: الزيارة والإتيان، وإنما سمي حاجاً بزيارة بيت الله تعالى، قال: والداج: الذي يخرج للتجارة+.ص323
_ الثجُّ: سيلان دم الهدْي والأضاحي.ص323.
_ العجُّ: رفع الصوت بالتلبية.ص323
_ لبيك وسعديك: قال الزجاج: إنما يستعمل هكذا في لفظ التثنية، قال سيبويه: سألت الخليل عن اشتقاقه ومعناه: فقال: لبيك من الإلباب، يقال: ألَبَّ الرجل بالمكان إلباباً إذا أقام به، فإذا قال لبيك: فكأنه قال: أنا مقيم عند أمرك.
وسعديك: مأخوذ من الإسعاد، والإسعاد والمساعدة سواء، فإذا قال لله
__________
(1) _ يعني قالت العرب.
(2) _ يعني قالت الخاصة.(2/123)
_عز وجل_ : لبيك وسعديك في التلبية، فكأنه قال: أنا مقيم عند أمرك ومتابع له، فقد تقرب منه بهواه لا ببدنه.اهـ كلامه.ص324
50 _ محاسن السفر ومعائبه
_ من فضل السفر: أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار، وبدائع الأقطار، ومحاسن الآثار، ما يزيده علماً، ويفيده فهماً بقدرة الله وحكمته، ويدعوه إلى شكر نعمته، ويسمع العجائب، ويفتح المذاهب، ويجلب المكاسب، ويشد الأبدان، وينشط الكسلان، ويسلي الأحزان، ويطرد الأسقام، ويشهي الطعام، ويحط سورة الكبر، ويبعث على طلب الذكر.ص333
_ وقال الشاعر:
سافر تجد رتب المفاخر والعلا ... كالدرّ سار فصار في التيجان
وكذا هلال الأفق لو ترك السرى ... ما فارقته معرة النقصان
ص333
_ وقال الطغرائي _ (واسمه الحسين بن علي) :
إن العلا حدثتني وهي صادقة ... فيما تحدث أن العز في النَّقَلِ
لو أن في شرف المأوى بلوغَ منىً
... لم تبرحِ الشمسُ يوماً دارةَ الحَمَل
ص333
_ وقال آخر:
تغرَّب عن الأوطان في طلب العلى
... وسافر ففي الأسفار خمس فوائدِ
تَفَرُّجُ همٍّ واكتسابُ معيشةٍ
... وعلمٌ وآدابٌ وصحبةُ ماجدِ
ص334
51 _ معائب السفر:
_ قال بعض الحكماء: معائب السفر سبعة، الأول: مفارقة الانسان من يألفه، الثاني: مقارنة من لايشاكله.
الثالث: المخاطرة بما يملكه.
الرابع: مخالفة عادته في مأكله ومنامه.
الخامس: مجاهدة الحَرّ والبرد بنفسه.
السادس: احتمال مِنَّةِ الملاح والمكاري.
السابع: السعي كل يوم في تحصيل منزل جديد.ص334
_ ومما نطقت به العرب على التثنية تقول: العذابان: السفر، والبناء.
_ وفي الآثار: عذابان لا يُشْعَر بهما: السفر والبناء؛ لأن السفر، ينهك البدن، والبناء؛ ينهك المال.ص335
52 _ عز التقى
_ جاء في الثمار للثعالبي ص548 ما يتلو: عزّ التقى: يقال: إنه لم يمدح عالم بأحسن من قول ابن خياط في الإمام مالك بن أنس _رحمة الله عليه_ :
يأبى الجوابَ فما يراجعُ هيبةً
... والسائلون نواكس الأذقان(2/124)
هذا التقيُّ وظلُّ سلطان التقى
... لهو المهيب وليس ذا سلطان
ص347
_ وجاء في الزهر للحصري ج1 ص69 ما لفظه: وقال ابن الخياط المكي، واسمه عبد الله بن سالم، في باب الهيبة في مالك بن أنس الفقيه _ رحمة الله عليه_ وقيل: إن هذا من قول ابن المبارك:
يأبى الجواب فما يراجع هيبة
... والسائلون نواكس الأذقان
أدب الوقار وعزُّ سلطان التقى ... لهو المهيب وليس ذا سلطان
ص347
53 _ العقل والهوى
_ قال وهب بن منبه: العقل والهوى يصطرعان فأيهما غلب مالَ لصاحبه. ص349
_ وقال بعض الحكماء: إذا غلبَ العقلُ الهوى صرف المساوئ إلى المحاسن؛ فجعل البلادة حلماً، والحدة ذكاءً، والمكر فطنة، والهذرَ بلاغة، والعيَّ صمتاً، والعقوبة أدباً، والجبنَ حذراً، والإسراف جوداً.ص349
_ وقال بعض الحكماء: العقل صديق مقطوع، والهوى عدو متبوع.ص349
_ وأنشد الزمخشري:
فالعقل هادٍ لا يزيغ إلى
... بصيرة عن سداد الرأي مأفوكة
ومن يَقُدْهُ هواه في خزامته ... فذاك بين ذوي الألباب أضحوكة
ص349 _ 350
_ وآفة العقل الهوى فمن علا
... على هواه عقله فقد نجا
ص350
_ وقال الشاعر:
إنارة العقل مكسوف بطوع هوى
... وعقل عاصي الهوي يزداد تنويرا
ص350
_ وقال طاووس: ما قلادة نظمت من در وياقوت بأزين لصاحبها من العقل، ولو ناصح المرء عقله لأراه ما يزينه مما يشينه، فالمغبون من أخطأ حظه من العقل.ص351
_ وقيل في المثل: العقل وزير ناصح، والهوى وكيل فاضح، أي: كاشف للمساوي ومظهر إياها.ص351
54 _ جود سعد بن قيس بن عبادة الصحابي ÷
_ جاء في (عيون الأخبار) لابن قتيبة ما لفظه: =وقعت عجوز على قيس ابن سعد، فقالت: أشكو إليك قلة الجرذان، قال: ما أحسن هذه الكناية! املؤا بيتها خبزاً ولحما وسمناً وتمراً+.ص353
المؤلف: سبقت ترجمته عند الحديث عن كتاب حكم وأخلاق عربية.
_ =تعريف بالكتاب+:
ما يقال عن الكتاب السابق _ حكم وأخلاق عربية _ يقال عن هذا الكتاب تقريباً.(2/125)
فهذا الكتاب يحتوي على مقالات في الأدب تتضمن تعليقات، أو تصويبات، أو استدراكات، أو تحقيقات، أو شروح لأبيات.
كما أنه يحتوي على مقالات ولطائف أخرى في هذا الشأن.
والكتاب يقع في 272، صفحة مقاس 17×25سم، وقد جمعه الأستاذ علي الرضا الحسيني، وهو من مطبوعات الدار الحسينية للكتاب 1416هـ _1995م.
_ =النقولات المنتقاة+: قال ×:
1 _ راحة المحزون
_ قال ذو الرمة:
خليلي عوجا من صدور الرواحل ... بجمهور حُزوى فابكيا في المنازل
لعل انحدار الدمع يعقب راحة ... إلى القلب أو يشفي نجيَّ البلابل
وجاء في المحاضرات للأصبهاني ج2: 36 ما يأتي:
وقال ابن عباس: كنت إذا حرجت أمتنع من البكاء حتى سمعت قول ذي الرمة:
لعل انحدار الدمع يعقب راحة ... من الوجد أو يشفي نجي البلابل
فصرت أشتفي من الوجد به.ص40.
_ وقال المتنبي:
إن خير الدموع عيناً لَدَمْعُ ... بعثته رعايةٌ فاستهلاً
قال العلامة العكبري:
يقول: إن خير الدموع لدمع سببه رعاية العهد، وهو عون على الحزن؛ وذلك أن الدمع يخفف برح الوجد؛ كما قال ذو الرمة:
لعل انحدار الدمع يعقب راحة ... من الوجد أو يشفي لداء البلابل
وجاء في الكامل للمبرد ج1: 61 ما لفظه:
قال أبو العباس: وقال أبو بكر بن عياش: نزلت بي مصيبة أوجعتني فذكرت قول ذي الرمة:
لعل انحدار الدمع يعقب راحة ... من الوجد أو يشفي نجي البلابل
فخلوت، فبكيت؛ فسلوت.ص40 _ 41.
2 _ أشعار كان يتمثل بها بعض السلف _ رضي الله عنهم _
_ قال ابن عباس: كان أبو بكر كثيراً ما ينشد:
إذا أردت شريف الناس كلهم ... فانظر إلى ملك في زي مسكين
ذاك الذي حسنت في الناس قالته ... وذاك يصلح للدنيا وللدين
ص44
_ وقال سفيان الثوري بلغني أن عمر بن الخطاب كان يتمثل:
لا يغرَّنْك عِشاءٌ ساكنٌ ... قد يوافي بالمنيات السَحَرْ
ص44
_ وكان معاوية كثيراً ما ينشد:
إنا إذا مالت دواعي الهوى ... وأنصت السامع للقائلِ
واعتلج الناس بألبابهم ... نقضي بحكم عادل فاصلِ(2/126)
نخاف أن تَسْفَهَ أحلامُنا ... فَنَخْمِلَ الدهرَ مع الخاملِ
ص44
_ وقال موسى بن عبد الله الخزاعي: بلغني أن عمر بن عبد العزيز كان لا يجف فوه من هذا البيت:
ولا خير في عيشِ امرءٍ لم يكن له ... مع الله في دار القرار نصيبُ
ص44 _ 45
_ وكان سفيان الثوري × كثيراً ما يتمثل بهذين البيتين:
ابلُ الرجالَ إذا أردت إخاءهم ... وتوسمنَّ إخاءهم وتفقَّدِ
فإذا وجدتَ أخا الأمانة والتقى ... فبه اليدينِ قريرَ عينٍ فاشددِ
كم من صديقٍ في الرخاء مُساعدٍ ... وإذا أردت حقيقةً لم توجدِ
ص45
_ وكان الشافعي × ينشد:
إذا رأيت شباب الحي قد نشأوا ... لا يحملون قلالَ الحبرِ والورقا
ولا تراهم لدى الأشياخ في حلق ... يعونَ من صالح الأخبار ما اتسقا
فعدِّ عنهم ودعهم إنهم هَمَجٌ ... قد بدلوا بعلوِّ الهمة الحُمُقَا
ص 45
_ وكان الحسن البصري يتمثل بهذين البيتين، أحدهما في أول النهار، والآخر في آخر النهار:
يسر الفتى ما كان قدم من تقى
... إذا عرف الداء الذي هو قاتله
والآخر:
وما الدنيا بباقية لحي ... ولا حي على الدنيا بباق
ص 45
_ وكان سيبويه كثيراً ما ينشد:
إذا بَلَّ من داء به ظن أنه ... نجا وبه الداء الذي هو قاتله
ص 46
3 _ سانحة
_ قال أبو تمام _ أحد شعراء القرن الثالث للهجرة _ يرثي بني حميد من قصيدة:
ويضحك الدهر منهم عن غطارفةٍ ... كأن أيامهم من حسنها جُمَعُ
هذا البيت يدل على أن المسلمين كانوا في القرون الأولى يحتفلون بيوم الجمعة احتفالاً عظيماً، ولعلنا لم نكن مخطئين إذا فهمنا من فحوى البيت أن احتفالهم بذلك اليوم كان لا يقل عن احتفالهم وابتهاجهم بيومي عيد الفطر والأضحى؛ ولو لم يكن ذلك كذلك لما شبه الشاعر أيام الممدوحين في حسنها بأيام الجمعات.
أما تظاهر المسلمين بجميع ما في وسعهم من العناية بيوم الجمعة فذلك لأسباب:(2/127)
منها: ما ماز به الدين الإسلامي في ذلك اليوم، وخص به المكلفين بأداء فريضة الجمعة، من اغتسال، وتحسين هيئة، وجميل ثياب، وتطييب لغير النساء.
ومنها _ أيضاً _ : حضور الخلفاء صلاة الجمعة، وخروجهم لها مصحوبين برجال دولتهم إلى المسجد الجامع، وكذلك يفعل أمراؤهم وعمالهم في البلاد القاصية عن مقر الخلافة.
وإن في اجتماع الأمة بكبرائها ما يبعث في النفوس بهجة وارتياحاً.
ومنها _ أيضاً _ : أن المدن والقرى تكتظ يوم الجمعة بالوافدين من ضواحيها لصلاة الجمعة، وغيرُ خفيٍّ ما ينتج عن ذلك الاجتماع من الإيناس، وتبادل الآراء، والمصالح الاجتماعية والاقتصادية.
وبذلك يتبين لنا أنه بوجود هذا اليوم في الإسلام لم تفقد المنافع التي كانت للعرب في سوق عكاظ وغيره من أسواقهم.
هذا وإن الأسباب التي بيناها _ آنفاً _ هي كافية وداعية إلى اهتمام المسلمين وعنايتهم بيوم الجمعة، الجامع بين مظاهر الدنيا والدين.ص 55 _ 56
4 _ تعلموا العربية
_ كتب عمر إلى أبي موسى _ رضي الله عنهما _: أما بعد: فتفقهوا في السنة، وتعلموا العربية.ص62
_ عن الحسن قال: قال عمر بن الخطاب: عليكم بالفقه في الدين، وحسن العبادة، والتفهم في العربية.
عن أبي عمر بن العلاء قال: قال عمر بن الخطاب: تعلموا العربية؛ فإنها تثبت العقول، وتزيد في المروءة.ص62
_ وقال عبد الملك بن مروان: أصلحوا من ألسنتكم؛ فإن المرء تنوبه النائبة؛ فيستعير الثوب والدابة، ولا يمكنه أن يستعير اللسان.ص63
5 _ بيتان من شعر الأعشى
_ وقال السيد مرتضى في شرح القاموس ج2: 398 ما نصه: ومما يستدرك عليه =شاجردى+ وقد جاء في شعر الأعشى:
وما كنت شاجردى ولكن حسبتي ... إذا مسحل سدَّى لي القول أنطق
شريكان فيما بيننا من هوادة ... صبيان جنيٌّ وإنسٌ موفق(2/128)
قال البكري: ورواه أبو عبيدة =شاقردي+(1) وهو المتعلم، ومسحل: شيطانه، و =حسبتي+ _ هنا _ : بمعنى اليقين، أورده شيخنا _ هكذا _ واستدركه في آخر المادة، قلت: وهو معرب عن شاكرد _ بكسر الكاف _ بالفارسية وهو المتعلم.اهـ كلام السيد.
وكان الأعشى يفد على ملوك فارس؛ ولذلك كثرت الفارسية في شعره.ص78
6 _ تفسير بيت من الشعر
_ من أمثالهم (أكل عليه الدهر وشرب) يضرب لمن طال عمره، يريدون أكل وشرب دهراً طويلاً، وقال:
كم رأينا من أناس قبلنا ... شرب الدهرُ عليهم وأكلْ
ص79
7 _ تعليقات على أبيات من شعر أبي تمام
_ ولم تزل الشعراء تذكر كراهيتها للوداع وهربها منه؛ لما يتصور فيه من ألم الفرقة، وغصص الوحشة؛ وهذا معروف مشهور، وقد قال فيه أبو تمام:
ءآلفة النحيب كم افتراق ... أضلَّ فكان داعية اجتماعِ
وليست فرحة الأوبات إلا ... لموقوفٍ على تَرَحِ الوداعِ
فجعل للوداع ترحاً يقابل فرح الإياب، وهذا صحيح.اهـ كلام السيد.ص86
8 _ لطائف الأدباء
_ ما زال المتأدبون يحنون إلى استماع ما يصدر عن الأدباء من اللطائف التي تبعث في الأرواح انتعاشاً، وفي الصدور انشراحاً.ص94
_ فمن ذلك ما حكي أن هارون الرشيد لما سمع قول الشاعر:
تراه في الأمْنِ في دِرْعٍ مُضاعفةٍ ... لا يأمن الدهرَ أن يُدعى على عَجَلِ
سأل عنه وعمن قيل فيه، فقيل له: لمسلم بن الوليد الشاعر، في قائد الجيوش يزيد بن مزيد الشيباني، وكان يزيد يقول للرشيد: والله يا أمير المؤمنين، لأحرصن على أن لا أكذب شعرائي فيما يمدحونني به، فأمر الرشيد بإحضار يزيد على الحالة التي يصادف عليها، فأحضروه وعليه ثياب خلوته ملونة، فلما نظر إليه الرشيد في تلك الحالة، قال: أكذبت شاعرك يا يزيد؟ قال: فيم يا أمير المؤمنين؟ قال في قوله:
تراه في الأمن في درع مضاعفة ... لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل
__________
(1) _ لعل هذا هو معنى الكلمة العامية (شِقَردي) فهم يقولونها إذا أرادوا الثناء على أحد بأنه متقن شهم.(2/129)
فقال يزيد: لا والله يا أمير المؤمنين، ما أكذبته، وإن الدرع عليَّ ما فارقتني، وكشف ثيابه، وإذا عليه درع مظاهرة.ص94
_ ومن اللطائف المستحسنة: ما حكاه المدائني، قال:
أتى عُويف القوافي باب عمر بن عبد العزيز × فحجب أياماً، ثم أذن له، فلما قام بين يديه، قال:
أجبني أبا حفصٍ لقيت محمداً ... على حوضه مستبشراً بدعاكا
فقال عمر:أقول: لبيك وسعديك، فقال:
وأنت امرؤ كلتا يديك طليقةٌ ... شمالك خيرٌ من يمين سواكا
وهذا مأخوذ من قولهم: شمالك أندى من يمين غيرك.
علام حجابي زادك الله رفعة ... وفضلاً وماذا للحجاب دعاكا
فقال عمر: ليس ذاك إلا لخير، وأمر له بصلة.ص95
_ ووفد إليه جرير وأقام ببابه أياماً لا يؤذن له، فبينما هو كذلك يوماً وقد أزمع على الرحيل، إذ مر به عديّ بن أرطاة، فقال جرير:
يا أيها الراكب المزجي مطيته ... هذا زمانك إني قد مضى زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه ... أني لدى الباب كالمصفود في قرن
فدخل عدي على عمر، وذكر أمر جرير، فأذن له، فدخل وهو يقول:
إن الذي بعث النبي محمداً ... جعل الخلافة في الإمام العادل
قد نال عدلك من أقام بأرضنا ... فإليك حاجة كل وفد راحل
فلما مثل بين يديه قال له: ويحك يا جرير، اتق الله، ولا تقل إلا حقاً، ثم أنشده قصيدة ختمها بقوله:
فما وجدت لكم نداً يعادلكم ... وما علمت لكم في الناس من خطر
إني سأشكر ما أوليت من حسن ... وخير من نلت معروفاً ذوو الشكر
وعندما استوفاها وصله بشيء من حر ماله، فخرج جرير وهو يقول: خرجت من عند أمير المؤمنين، وهو يعطي الفقراء ويمنع الشعراء، وإني عنه لراض.ص95 _ 96
_ ومن اللطائف النادرة ما روي عن ابن جريج أنه قال:
ما ظننت أن الله _ عز وجل _ ينفع أحداً بشعر عمر بن أبي ربيعة، حتى سمعت وأنا باليمن منشداً ينشد قوله:
بالله قولي له في غير معتبةٍ ... ماذا أردتَ بطول المكث في اليمنِ
إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها ... فما أخذت بترك الحج من ثمنِ(2/130)
فحركني ذلك على ترك اليمن والخروج إلى مكة، فخرجت؛ فحججت.ص97
_ ومن غرر اللطائف: ما حكاه أبو عبيدة، قال:
التقى جرير والفرزدق بمنى، وهما حاجان، فقال الفرزدق لجرير:
فإنك لاقٍ بالمنازل من منى ... فخاراً فخبرني بما أنت فاخرُ
فقال له جرير: بـ: لبيك اللهم لبيك، قال أبو عبيدة: أصحابنا يستحسنون هذا الجواب من جرير، ويعجبون منه.ص97
_ قلت: ومما ينخرط في سلك هذه النادرة ما حاكاه الإمام المبرد، قال: =التقى الحسن البصري والفرزدق في جنازة، فقال الفرزدق للحسن: أتدري ما يقول الناس يا أبا سعيد؟ قال: وما يقولون؟ قال: يقولون اجتمع في هذه الجنازة خير الناس، وشر الناس، فقال الحسن: كلا، لستُ بخير الناس ولستَ بشرهم، ولكن ما أعددت لهذا اليوم؟ فقال: =شهادة أن لا إله إلا الله منذ ستين سنة، وخمس نجائب لا يدركن، يعني الصلوات الخمس+.
وقد روى ابن سلام أنها جنازة النَّوار امرأة الفرزدق، وقد أوصت أن يصليّ عليها الحسن، ويروى أنها جنازة أبي رجاء العطاري.ص 97/98.
9 _ نوادر أدبية خاصة بأناس أحرزوا بغيتهم
بإنشاد بيتين من الشعر
_ هذا تحرير يشتمل على نوادر أدبية خاصة بأناس قد أحرز كل منهم بغيته بإنشاد بيتين من الشعر، سواء أكان ذلك الشعر له أم لغيره من الشعراء، وإليكم البيان:
أنشد النابغة الجعدي بحضرة رسول الله ":
ولا خير في حلم إذا لم يكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
ولا خير في جهل إذا لم يكن له ... حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا
فقال _ عليه الصلاة والسلام _ : =لا يَفْضُضِ الله فاك+ ، فيقال: إن النابغة عاش عشرين ومائة سنة لم تسقط له سن ولا ضرس، وكان كلما سقطت له ثنية تنبت له أخرى مكانها، وهو أحسن الناس ثغراً.ص99
_ وحكى أبو الوليد المكي، قال: بينما عمر بن الخطاب÷جالس إذ أقبل رجل أعرج يقود ناقة تظلع، حتى وقف عليه، فقال:
وإنك مسترعٍ وإنا رعيةٌ ... وإنك مدعو بسيماك يا عمرْ(2/131)
إذا يوم شرٍّ شره لشراره ... فقد حملتك اليوم أحسابها مضر
فقال عمر: لا حول ولا قوة إلا بالله، وشكى الرجل ظلع ناقته، فقبض عمر الناقة، وحمله على جمل أحمر، وزوده، وانصرف.ص99
_ ووفد حصين بن المنذر على معاوية في جماعة من أهل العراق، فتأخر دخوله، ودخل غيره ممن كان بالباب، فقال الحصين:
وكلُّ خفيف الحاذ(1) يسعى مشمراً ... إذا فتح البوّاب بابك أصبعا
ونحن الجلوس الماكثون رصانة ... وحلماً إلى أن يفتح الباب أجمعا
فبلغ قوله معاوية ÷ فأمر بإدخاله في أول الناس.ص100
_ ودخل شاعر على خالد بن عبد الله القسري يوم جلوسه للشعراء وقد مدحه ببيتين _ فلما رأى اتساع الشعراء في القول استصغر ما قال فسكت حتى انصرفوا، فقال له خالد: ما حاجتك؟ فقال: مدحت الأمير، فلما سمعت قول الشعراء احتقرت بيتيّ، فقال: وما هما، فأنشده:
تبرعتَ لي بالجود حتى نعشتني ... وأعطيتني حتى حسبتك تلعبُ
فأنت الندى وابن الندى وأبو الندى ... حليف الندى ما للندى عنك مذهبُ
فقال: ما حاجتك، فقال عليّ دين، فأمر بقضائه، وأعطاه مثله. ص100_101
_ ودخل الفرزدق على يزيد بن المهلب وهو محبوس، فلما رآه مقيداً قال له:
أصبح في قيدك السماحة والجو ... دُ وحمل الديات والحسبُ
لا بَطِرٌ إن ترادفت نِعَمٌ ... وصابرٌ في البلاء محتسبُ
فقال له يزيد: ويحك، أتمدحني وأنا في هذه الحالة! فقال: وجدتك رخيصاً فاشتريتك! فرمى إليه يزيد بخاتم كان في أصبعه قيمته ألف دينار، وقال: هو ربحك أمسكه إلى أن يأتيك رأس المال.ص101
10 _ أعرابية ترتجز
_ وفي البيان والتبيين للجاحظ ج3 : 250 ، ما يأتي:
تزوج شيخ من الأعراب جارية من رهطه، وطمع أن تلد له غلاماً، فولدت له جارية، فهجرها وهجر منزلها، وصار يأوي إلى غير بيتها، فمر بخبائها بعد حول وإذا هي ترقص بنيتها منه وهي تقول:
ما لأبي حمزة لا يأتينا ... يظل في البيت الذي يلينا
__________
(1) _ خفيف الحاذ: قليل المال.(2/132)
غضبان أن لا نلد البنينا ... تالله ما ذلك في أيدينا
وإنما نأخذ ما أعطينا
فلما سمع الأبيات مرَّ الشيخ نحوهما حضراً حتى ولج عليهما الخباء، وقال: ظلمتكما ورب الكعبة.ص105
11 _ الجارة _ الضرة
_ العرب تكني عن المرأة بالنعجة، والشاة، والقلوص، والسرحة، والحرث، والفراش، والعتبة، والقارورة، والقوصرة، والنعل، والغل، والقيد، والظلة، والجارة، وبكل جاءت الأخبار، ونطقت الأشعار.ص116
_ والمرأة: جارة زوجها؛ لأنه مؤتمن عليها، وأمرنا أن نحسن إليها، وأن لا نعتدي عليها؛ لأنها تمسكت بعقد حرمة الصهر، وصار زوجها جارها؛ لأنه يجيرها، ويمنعها، ولا يعتدي عليها.ص116
_ وقال أبو هلال في جمهرة الأمثال: =قولهم: بينهم داء الضرائر+ يضرب مثلاً للقوم بينهم عداوة لا تنقطع، وحسد الضرائر وعداوة بعضهن بعضاً دائمة، قال الشاعر:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا شأوه ... فالكل أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها ... حسداً وبغضاً إنه لدميم
ص118 _ 119
12 _ تداول بعض الشعراء للمعنى الواحد
_ كتب رجل إلى صديق له: مَثَلُنَا _ أعزك الله _ في قُرْبِ تجاورنا وبُعْدِ تزاورنا ما قال الأول:
ما أقرب الدار والجوار وما ... أبعدَ معْ قربنا تلاقينا
ص129
_ وكتب رجل إلى صديق له يستزيره: =طال العهد بالاجتماع حتى كدنا نتناكر عند التلاقي+.ص129
_ وقال الحكيم: أقرب القرب موادت القلوب وإن تباعدت الأجسام، وأبعد البعد تنافر القلوب وإن تدانت الأجسام.ص130
_ وقال الأصفهاني ج15: 149 _ طبع مصر :
حدثنا حماد، عن إسحاق الموصلي، قال: حدثني أبي، قال: كان العباس بن الأحنف إذا سمع شيئاً يستحسنه أطرفني به، وأفعل مثل ذلك، فجاءني يوماً فوقف بين البابين، وأنشد لابن الدمينة:
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد
الأبيات
ثم ترنح ساعة ودَبَّخَ أخرى، ثم قال: أنطح العمود برأسي من حسن هذا، فقلت: لا، ارفق بنفسك. ص131
13 _ القلم(2/133)
_ قال المأمون: لله در القلم كيف يحوك وَشْيَ المملكة.ص187
_ وقال أحمد بن عبد الله: القلم راقد في الأفئدة، مستيقظ في الأفواه.ص187
_ وقيل: عقول الرجال تحت أقلامها.ص187
_ وقال أبو الفضل الميكالي: القلم أحسنُ مطيةٍ يمشي راكبها رَهْواً، ويكسو الأنامل زهواً.ص187
_ وقال سهل بن هرون: القلم أنف الضمير، إذا رعف أعلن أسراره، وأبان آثاره.ص187
_ وقال بعضهم ملغزاً في القلم:
وذي خضوع راكع ساجدٍ ... ودمعه من جفنه جاري
مواظب الخمس لأوقاتها ... منقطع في خدمة الباري
الباري: يعني الذي يبري القلم.ص189
_ الأسماء اللغوية للقلم:
اليراعة _ المذبر _ الأرقم _ المزبر _ الملمول.ص189
_ وقال ابن سنا الملك: (الخزانة للحموي ص64) :
ولي قلمٌ في أنملي إن هززته ... فما ضرني أن لا أهز المهندا
إذا جال فوق الطِّرس وقعُ صريره ... فإن صليلَ المشرفي له صَدا
ص191
14 _ قولهم هلمّ جرا
_ قالوا في هلمَّ: أصله لُمَّ _ مُثَقَّل _ وها التنبيه، أسقط ألفها؛ لكثرة الاستعمال، فمعنى هَلُمَّ: لُمَّ نفسك إلينا وقرّب.ص218
_ ومن أمثال العرب (هلم جرَّ) _ قال المفضل: أي تعالوا على هينتكم كما يسهل عليكم _ من غير شدة وصعوبة _ وأصل ذلك: من الجرِّ في السَّوق، وهو أن تترك الإبل والغنم ترعى في سيرها _الميداني_.
وقال العسكري في جمهرة الأمثال: =قولهم: =هلم جرا+ : معناه: سيروا على هينتكم، فلا تَشُقُّوا على أنفسكم وركابكم، وأصل الجر: أن تترك الإبل والبقر ترعى وتسير+.ص220
15_ أبيات المعاني
_ أبيات المعاني هي في اصطلاح الأدباء: ما كان باطنه يخالف ظاهره، وإن لم يكن فيه شيء من غريب اللغة _ قاله السخاوي في سفر السعادة _ شفاء الغليل للخفاجي ص27.ص228
_ وقد وقفت أثناء المطالعة في كتب الأدب على جملة من أبيات المعاني التي لم أجدها في كتاب معاني الشعر لأبي عثمان الأشناندان المطبوع بدمشق1340هـ ولذلك أجردتها بهذا التحرير.ص228(2/134)
_ جاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج4: 429 ما نصه: =من أبيات المعاني:
وحللت من مضرٍ بأمنع ذَروةٍ ... مُنعت بحدِّ الشوك والأحجار
قالوا: يريد بالشوك أخواله، وهم قتادة وطلحة وعوسجة، وبالأحجار أعمامه، وهم صفوان وفهر وجندل وصخر وجرول+ ص228
_ وجاء في شرح مقصورة حازم للشريف الغرناطي ج1: 65 وقال الشاعر _وهو دعبل_ :
إذا القوس وترُها أيِّدٌ ... رمى فأصاب الكلا والذُّرى
وهذا البيت من أبيات المعاني، ذكر أن دعبلاً وقف عليه أعرابي وهو ينشد هذا البيت، فقال الأعرابي: يا هذا، ما عنيت بقولك؟ قال دعبل: القوس: قوس الله التي تسمى قوس قزح، مطرت الأرض بها، وأعشبت، فرعتها الإبل فسمنت كلاها وأسنمتها، فقال الأعرابي: لله دركم يا حاضرة، إنكم لتسيرون معنا فتساوون، وتتنكبون عنا فتفوتون.اهـ بشرح المقصورة.ص223_ 229
_ =تعريف بالمؤلف والكتاب+:
هذا الكتاب من تأليف: ديل كارنيجي مؤسس معهد العلاقات الإنسانية في نيويورك.
وقد ترجمه إلى العربية عبد المنعم الزيادي.
هذا الكتاب ألف قبل ما يزيد على خمسين عاماً، ويعد من أشهر الكتب العالمية انتشاراً، حيث طبع عشرات الطبعات، بملايين النسخ، وبلغات مختلفة.
وميزة هذا الكتاب سلاسته، ووضوحه، وكثرة أمثلته، وبعده عن التعقيد.
بل يكاد أن يكون جميع ما في الكتاب معلوماً للقراء، غير أن مؤلفه صاغه بأسلوب قريب من جميع الطبقات.
يقول الزيادي _ معرِّب الكتاب _ ص13: =وأفاق كارنيجي من دهشته على حقيقة جعلها محور رسالته في الحياة؛ تلك هي أن الناس إذا عمدوا إلى تطبيق هذه المبادئ الحكيمة المعروفة، والأمثال السائرة التي طالما جرت على ألسنة أجدادهم وجداتهم وآبائهم، وأمهاتهم، بل ربما جرت على ألسنتهم هم أنفسهم في صغرهم، ثم نسوها، أو تناسوها في كبرهم _ إذا عمدوا إلى تطبيق هذه المبادئ والأمثال استحالت حياتهم نعيماً مقيماً، واستمتعوا في حياتهم بالسعادة والفلاح.(2/135)
ومنذ ذلك الحين راح كارنيجي ينشر رسالته هذه، ويدعو الناس عامة، وطلبة معهده خاصة إلى اعتناقها إذا شاءوا أن يعيشوا في وئام مع أنفسهم ومع الناس.
ومنذ وقت ليس ببعيد أدرك كارنيجي أنه لا عناء لطلبة معهده، بل لا عناء لإنسان كائناً من كان إذا كان يرجو السعادة في الحياة، وينشد النجاح فيها أن يقهر عدواً له، يسكن في نفسه، فيقلل أمنها، ويسلبها طمأنينتها، ويقوض سلامتها، ويقف سداً منيعاً دونها وأسباب السعادة والصحة، والنجاح، ذلك العدو اللدود: هو القلق+.
وبعد ذلك _ كما يقول المعرِّب _ : =أكبَّ كارنيجي على وضع مرجع في قهر القلق، وسلَخَ من عمره قرابة سبع سنوات في البحث عما جرى على ألسنة الأنبياء، والحكماء، والعظماء من حكم ومبادئ وأقوال تصلح لأن تكون علاجاً للقلق إذا هي اتُخذت طابعاً علمياً، وخرجت من نطاق الأقوال إلى حيز الأفعال، ثم عكف على صوغ هذه المبادئ في قالب علمي، وأسلوب حماسي يستثير العزائم على تطبيقها، والعمل بمقتضاها مستشهداً على فائدتها وجدواها بشخصيات، منها ما أفرد له التاريخ مكاناً مرموقاً، ومنها ما لم يفرغ التاريخ بعد من تدوين سيرته.
وكانت ثمرته هذا العناء الطويل، والمجهود الشاق هذا الكتاب+ ا.هـ
ولا ريب أن الحكمة ضالة المؤمن، وأن الإفادة من التجارب الإنسانية أمر مطلوب، والشريعة لم تأت بما يمنع ذلك، بل أذنت به، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها ما كان في غزوة الخندق؛ حيث أفاد النبي"من الفرس في حفر الخندق عندها أشار عليه سلمان الفارسي÷ بذلك، فلم يمانع _ عليه الصلاة والسلام _ من أن يأخذ بتلك الخطة مع أنها فارسية.(2/136)
ولو لم يأت من استعراض هذا الكتاب _ مع ما فيه من فائدة _ إلا أن القارئ يكبر ما كتبه علماؤنا الذين سبقوا كارنيجي بقرون طويلة؛ فإن هذا الكتاب قد نال هذه الشهرة العظيمة ما نال مع أنه لا يقارن بكتب علماء المسلمين الذين كتبوا في هذا الشأن، سواء ممن تم النقل عنهم في هذا المنتقى أو غيرهم.
هذا وإن الكتاب ليحتوي على نقص، يمكن تداركه لو كتبه بنَفَسَ مُسْلمٍ، يستضيء من خلاله بأنوار الشريعة الغراء،وينظر إلى ما وراء هذه الحياة الدنيا.
ومما تجدر الإشارة إليه أن كثيراً من أهل العلم والفضل قد قرأوا هذا الكتاب وأشادوا به.
ولعل من أقدم من قرأه وأعجب به من أهل العلم الشيخ العلامة عبدالرحمن السعدي×.
فلقد سمعت ذلك في أكثر من مناسبة، ومن أكثر من شخص.
وممن حدثني بذلك أخي فضيلة الشيخ سامي بن محمد الصقير _ حفظه الله _.
حيث يذكر عن الشيخين العالمين الجليلين الشيخ عبدالله البسام، والشيخ محمد بن صالح العثيمين _ رحمهما الله _.
أنهما قالا: إن الشيخ عبدالرحمن السعدي لما كان في بيروت إبان فترة علاجه اطلع على كتاب (دع القلق وابدأ الحياة) فأعجب به، وقال: هذا كتاب رائع، وفيه فوائد جمة، ولكن الذي كتبه ليس مسلماً، ففاته أصول عظيمة من السعادة كقراءة القرآن، والأذكار، واحتساب الأجر، ونحو ذلك مما جاءت به الشريعة؛ فكان ذلك سبباً لتأليف الشيخ عبدالرحمن رسالته الماتعة الرائعة المختصرة التي تعد _ بحق _ عيادة نفسية ألا وهي: الوسائل المفيدة للحياة السعيدة.
_ =النقولات المنتقاة+:
1_ قال الأديب الإنجليزي توماس كارليل: ليس علينا أن نتطلع إلى هدف يلوح لنا باهتاً على البعد، وإنما علينا أن ننجز ما بين أيدينا من عمل واضح بيَّن.ص24 _ 25
2_ قال د.أوسلر: إن أفضل الطرق للاستعداد للغد، هي أن نركز كل ذكائنا وحماسنا في إنهاء عمل اليوم على أحسن ما يكون، هذا هو الطريق الوحيد الذي نستعد به للغد.ص26(2/137)
3_ لو أنني استمررت في القلق فإن من أسوأ مميزات القلق، أنه يبدد القدرة على التركيز الذهني، فنحن عندما نقلق نشتت أذهاننا، ونفقد كل قدرة على البت، أو اتخاذ قرار حاسم، لكنا عندما نعد أنفسنا على مواجهة أسوأ الاحتمالات، ونعد أنفسنا ذهنياً لمواجهته _ فإننا بذلك نضع أنفسنا في موقف يسعنا فيه أن نركز أذهاننا في صميم المشكلة.ص39
4_ إن مرض القلب من الأسباب الرئيسية التي حَدَتْ بالدكتور الكسيس كاريال إلى أن يقول: إن رجال الأعمال الذين لا يعرفون كيف يكافحون القلق يموتون موتاً مبكراً.ص54 _ 55
5_ افعل شيئاً للقضاء على القلق، فما لم تفعل شيئاً فإن محاولتك استخلاص الحقائق ليست إلا مضيعة للوقت والجهد.ص66
6_ استغرق في العمل إذا ساورك القلق انشغل عنه بالعمل، وإلا هلكت يأساً وأسىً.ص88
7_ لا تسمح لنفسك بالثورة من أجل التوافه، وتذكر أن الحياة أقصر من أن نقصرها.ص96
8_ استعن على طرد القلق بالإحصاءات والحقائق الثابتة سائل نفسك: هل هناك ما يبرر مخاوفي؟ وما مدى احتمال حدوث ما أخشاه؟ ص104
9_ ارض بما ليس منه بد.ص116
10_ إنني أعتقد مخلصاً أن تقدير الأشياء بقيمتها الصحيحة سر عظيم من أسرار الطمأنينة النفسية، والراحة الذهنية.
كما أعتقد أن في وسعنا التخلص من نصف القلق الذي يساورنا في التو واللحظة، لو أن كلاً منا اتخذ هذا المبدأ الذهبي، مبدأ تقدير الشيء بقيمته الحقة.ص124
11_ لا تفكر في محاولة الاقتصاص من أعدائك؛ فإنك بمحاولتك هذه تؤذي نفسك أكثر مما تؤذي أعداءك.ص159
12_ فإذا أردت أن تقهر القلق وتبدأ الحياة، فإليك القاعدة رقم (4):
أحص نعم الله عليك بدلاً من أن تحصي متاعبك.ص173
13_ فلكي تتخذ اتجاهاً ذهنياً يجلب لك الطمأنينة، ويجنبك القلق، إليك القاعدة رقم (5):
اعرف نفسك، وكن كما خلقك الله، ولا تحاول التشبه بغيرك.ص181(2/138)
14_ وهب أننا أصابنا اليأس، فأفقدنا كل أمل في إحالة حياة الكدرة إلى حياة عذبة صافية، فهناك سببان يدفعاننا إلى المحاولة، فقد نكسب كل شيء، ولكننا من المؤكد لن نخسر شيئاً:
السبب الأول: أننا قد ننجح في محاولتنا.
السبب الثاني: أنه على فرض إخفاقنا، فإن المحاولة ذاتها _ محاولة استبدال السالب بالموجب _ ستحفزنا على التطلع إلى الأمام بدلاً من الالتفات إلى الوراء، وستحل الأفكار الإنشائية في أذهاننا محل الأفكار الهدامة، وتولد فينا طاقة من النشاط تدفعنا إلى الانشغال بالعمل، فلا يغدو أمامنا متسع من الوقت للتحسر على الماضي الذي ولى وانتهى.ص 189
15_ عندما تلقي المقادير بين يديك ليمونة ملحة (1)، حاول أن تصنع منها شراباً سائغاً حلواً.ص190
16_ وإني ليسعني أن أملأ كتاباً كاملاً بقصص أناس نسوا أنفسهم، فاكتسبوا الصحة، والسعادة، والاطمئنان.ص198
17_ إن ثلث أولئك الذين يهرعون إلى عيادات الأطباء النفسيين يسعهم على الأرجح أن يشفوا أنفسهم بأنفسهم إلى الانشغال بالآخرين، أتراني أتيت بهذه الفكرة من جعبة ذكرياتي؟ بل إنها أشبه بما يقوله العالم النفساني كارل يونج:
إن ثلث عدد مرضاي لا يشكون من أمراض نفسية معلومة محددة، بقدر ما يشكون من فراغ حياتهم، وخلوها من البهجة والمتعة.199 _ 200
18_ مهما تكن حياتك متشابهة متشاكلة الأيام فإنك على التحقيق تقابل ناساً كل يوم فما الذي تفعله معهم؟ خذ ساعي البريد مثلاً؛ إنه يقطع مئات الأميال كل يوم حاملاً إليك بريدك، فهل تكلفت يوماً عناء البحث عن مسكنه؛ لترى كيف يعيش؟ وهل سألته إن كانت قدماه قد كلَّتا من السعي، أو أن الملل داخله من عمله المتشابه؟
__________
(1) _ لو قال: حامضة.(2/139)
وقل مثل هذا القول عن صبي البقال، وبائع الصحف، وماسح الأحذية، هؤلاء آدميون تثقل عليهم _ ولا ريب _ الهموم والمشكلات، وتراودهم الأحلام والآمال، وهم _ بلا شك _ يتحرقون لهفة إلى أن يشاركهم الناس حمل همومهم، ويشاطرونهم آمالهم؛ فهل حققت لهم شيئاً من هذه الرغبة، وهل أبديت اهتمامك يوماً بحياتهم الخاصة؟ هذا هو ما أعني.
ليس عليك أن تصبح فلورنس تيتنجيل، ولا أن تغدو مصلحاً اجتماعياً لكي تساهم في تحسين أحوال الناس، أبدأ بمن تقابلهم كل يوم.
ثم تسألني: وما جدوى ذلك كله؟ جدواه السعادة والرضا، واكتساب الثقة بنفسك، وقد كان أرسطو يسمي هذا الضرب من معاونة الناس: الأنانية المستنيرة.
وقد قال زورد ستار: إن معاونة الناس ليس واجباً محتوماً، ولكنها متعة تزيدك صحة وسعادة.
وقال: بنجامين فرانكلين: عندما تسعد الناس تسعد نفسك.ص200 _ 201
19_ واعلم أن الانشغال بالناس لن يجديك خلاصاً من القلق وحسب، ولكن سيعينك أيضاً على اكتساب أصدقاء جدد، والاستمتاع بأوفر قسط من المتعة.ص201
20_ انس نفسك، وصب اهتمامك على الآخرين.
اصنع في كل يوم عملاً طيباً يرسم الابتسامة على وجه إنسان.ص205
21_ وإني لأذكر الأيام التي لم يكن للناس فيها حديث سوى التنافر بين العلم والدين، ولكن هذا الجدال انتهى إلى غير رجعة، فإن أحدث العلوم _ وهو الطب النفسي _ يبشر بمبادئ الدين، لماذا؟
لأن أطباء النفس يدركون أن الإيمان القوي، والاستمساك بالدين، والصلاة _ كفيلة بأن تقهر القلق، والمخاوف، والتوتر العصبي، وأن تشفى أكثر من نصف الأمراض التي نشكوها، نعم إن أطباء النفس يدركون ذلك وقد قال قائلهم الدكتور أ.أ بريل: إن المرء المتدين حقاً لا يعاني قط مرضاً نفسياً.ص211 _ 212(2/140)
22_ حين تستنفذ الخطوب كل قوانا أو تسلبنا الكوارث كل إرادة، غالباً ما نتجه في غمرة اليأس إلى الله، فلماذا _ بالله _ ننتظر حتى يتولانا اليأس؟ لماذا لا نجدد قوانا كل يوم بالصلوات، والحمد، والدعاء؟.ص216
23_ فلماذا لا نتجه إلى الله إذا استشعرنا القلق؟ ولماذا لا نؤمن بالله ونحن في أشد الحاجة إلى هذا الإيمان؟.ص222
24_ لماذا لا تغلق الكتاب عند هذا الحد، وتذهب إلى غرفة نومك وتركع لله، وتفتح له مغاليق قلبك؟.ص223
25_ بقدر قيمتك يكون النقد الموجه إليك.ص224
26_ تذكر أن النقد الظالم إنما هو اعتراف ضمني بقدرتك، وأنه بقدر أهميتك وقيمتك يكون النقد الموجه إليك.ص227
27_ وإني لأعلم علم اليقين أن الناس لا يشغلهم التفكير في زيد أو عمرو من الناس أكثر من لحظات، فهم مشغولون بالتفكير في أنفسهم منذ يفتحون أعينهم على اليوم الجديد، حتى يأوون إلى مضاجعهم، وأن صداعاً خفيفاً يلم بهم لهو كفيل بأن يلهيهم عن خبر موتي أو موتك.ص229
28_ وحتى لو نالنا من الناس كذب وافتراء، وطعن يوجه إلى ظهورنا جهراً أو في الخفاء، فلا ينبغي أن يحزننا هذا.ص229
29_ لقد اكتشفت منذ سنوات أنني _ وإن عجزت عن اعتقال ألسنة الناس حتى لا يطلقوها فيَّ ظلماً وعدواناً _ إلا أنه وسعني أن أفعل ما هو خير من هذا؛ أن أتجاهل لوم الناس ونقدهم.ص229
30_ ودعني أوضح لك ما أعني: إنني لا أطلب إليك أن تتجاهل النقد إطلاقاً، وإنما أقصد النقد الظالم المغرض.ص229
31_ وتتجلى فائدة هذا الشعار حين تغدو هدفاً لنقد ظالم مغرض.
فأنت _ ولا ريب _ قدير على رد الصاع صاعين للرجل الذي يتصدى للرد على انتقادك له، ولكن ماذا عساك تفعل للرجل الذي يضحك من انتقادك له؟ لقد كان لنكولن خليقاً بأن ينهار تحت وطأة التوتر الذي ساير الحرب الأهلية الأمريكية، لو لم يدرك أن محاولة الرد على كل نقد يصيبه سخافة وحماقة.(2/141)
قال لنكولن: =لو أنني حاولت أن أقرأ _ لا أن أرد وحسب _ كل ما وجه إلي من نقد لشغل هذا كل وقتي، وعطلني عن أعمالي، إنني أبذل جهدي في أداء واجبي؛ فإذا أثمرت جهودي فلا شيء من النقد الذي وجه إلي يهمني من بعد ذلك، وإذا خاب مسعاي، فلو أقسمت الملائكة على حسن نواياي لما أجدى هذا فتيلاً، فحسبي أنني أديت واجبي وأرضيت ضميري+.
وإذن فعندما يوجه إليك النقد ظلماً وعدواناً، تذكر القاعدة رقم (2):
ركز جهودك في العمل الذي تشعر من أعماقك أنه صواب، وصم أذنيك بعد ذلك عن كل ما يصيبك من لوم اللائمين.ص230
32_ في أحد أدراج مكتبي ملف خاص مكتوب عليه (حماقات ارتكبتها) وأنا أعتبر هذا الملف بمثابة سجل واف للأخطاء والحماقات التي ارتكبتها.
وبعض هذه الأخطاء أمليته، وأما بعضها الآخر، فقد خجلت من إملائه، فكتبته بنفسي، ولو أنني كنت أميناً مع نفسي لكان الأرجح أن يمتليء مكتبي بالملفات المكتوب عليها (حماقات ارتكبتها).ص231
33_ وعندما أستخرج سجل أخطائي، وأعيد قراءة الانتقادات التي وجهتها إلى نفسي، أحس أنني قادر، مستعيناً بِعِبَرِ الماضي على مواجهة أقسى وأشد المشكلات استعصاءاً.ص231
34_ لقد اعتدت _ فيما مضى _ أن أُلقي على الناس مسؤولية ما ألقاه من مشكلات، لكني وقد تقدمت بي السن، وازددت حنكة وتجربة فيما أخال أدركت آخر الأمر؛ أنني وحدي المسؤول عما أصابني من سوء، وفي ظني أن كثيراً من الناس يدركون ما أدركت، ولقد قال نابليون وهو في منفاه بجزيرة سانت هيلانة: =لا أحد سواي مسئول عن هزيمتي؛ لقد كنت أنا أعظم عدو لنفسي+.ص231
35_ وإنك لتجد الحمقى وحدهم هم الذين ينساقون وراء الغضب لأتفه ما يوجه إليهم من اللوم.(2/142)
أما العقلاء فيتلهفون على إدراك ما ينطوي عليه اللوم من الحقيقة؛ ليعملوا على تلافيه، وفي هذا الصدد يقول والت ويتمان: =أتراك تعلمت دروس الحياة من أولئك الذين امتدحوك وآزروك، وحنوا عليك؟ أم تعلمتها من أولئك الذين هاجموك، وانتبذوك، وقست قلوبهم عليك؟+.ص232 _ 233
36_ ليت شعري، لماذا ننتظر حتى يلومنا الناس على عمل اقترفناه؟ أفليس الأكرم لنا أن نكون نحن نقاداً ولائمين لأنفسنا؟ دعنا إذاً نفتش عن أخطائنا، ونجد لها الدواء الشافي، قبل أن يفتح أعداؤنا أفواههم بكلمة لوم، أو بعبارة نقد.ص233
37_ افترض أن أحداً اتهمك بأنك غر أحمق! فماذا عساك تفعل؟ أتغضب؟ أتثور؟ لا تجب..وإنما انظر إلى ما فعله لنكولن في مثل هذا الموقف؛ فقد وصفه (ادوارد ستانتون) وزير الحربية في عهده بأنه غِرٌّ أحمقُ، وكان مبعث غضب ستنانتون أن لنكولن لا يحسن سياسة الأمور؛ إذ إنه _ أي لنكولن _ لكي يرضي أسرة لأحد السياسيين وقَّع أمراً بنقل بعض فرق الجيش من مواقعها.
ورفض ستانتون أن ينفذ هذا الأمر، بل زاد على ذلك، فوصف لنكولن: بأنه غر أحمق؛ لأنه وقع في هذا الأمر.
فلما تناهى قول ستانتون إلى لنكولن، قال الأخير: =إذا كان ستانتون يقول أنني غر أحمق فلا بد أنني كذلك، فإنه يوشك أن يكون صائباً في كل ما يقول، سأذهب إليه لأتحقق من الأمر بنفسي+.
وذهب إليه لنكولن، فأقنعه ستناتون بأن توقيع هذا الأمر كان في غير محله، فحسب لنكولن الأمر! نعم هذا هو كل ما حدث! فقد رحب لنكولن بالنقد حين عرف أنه نقد نزيه، قائم على الحقائق المجردة، وهدفه وضع الأمور في نصابها.ص233 _ 234
38_ وأخلق بك وبي أن نرحب _ نحن أيضاً _ بمثل هذا النقد؛ فإننا على التحقيق =لا نأمل أن نكون على صواب ثلاث مرات من كل أربع+.ص234
39_ فلكي تتقي القلق الذي يجلبه لك النقد، إليك القاعدة رقم (3):(2/143)
احتفظ بسجل تدون فيه الحماقات والأخطاء التي ارتكبتها واستحققت النقد من أجلها، وعد إليه بين حين وآخر؛ لتستخلص منه العبر التي تفيدك في مستقبلك، واعلم أن من العسير أن تكون على صواب طوال الوقت، فلا تستنكف أن تفعل مثلما فعل (أ هـ ليتل): اسأل الناس النقد النزيه الصريح.ص235
40_ النقد الظالم ينطوي غالباً على إطراء متنكر، فمعناه _ على الأرجح _ : أنك أثرت الغيرة والحسد في نفوس منتقديك.ص236
41_ أكثر من الراحة، واسترح قبل أن يفاجئك التعب.ص238
42_ أخل مكتبك مما عليه من أوراق خلا ما كان منها متعلقاً بالمسألة التي بين يديك.ص254
43_ إن ثمة شيئين لا يشتريان بالمال: القدرة على التفكير، والقدرة على إنجاز الأشياء بحسب ترتيبها في الأهمية.ص255
44_ إذا ظهرت لك مشكلة فاعمد إلى حسمها فور ظهورها.
لا تؤجل قراراً تستطيعه اليوم إلى غد.ص255
45_ فالرجل الذي يؤسس عملاً، ثم لا يتعلم كيف ينظمه، ويوزع أعباءه على الغير، بينما هو يشرف على إدارته _ غالباً ما تراه في الحلقة الخامسة من عمره أشبه بشيخ فان؛ من فرط ما ركبه من القلق والتوتر.ص256
46_ القلق الذي يصاحب الأرق هو أخطر بكثير من الأرق ذاته.ص262
47_ إذن لكي تتفادى القلق الناشئ عن الأرق، إليك خمس قواعد:
1_ إذا استعصى عليك النوم، فافعل كما كان يفعل (صمويل ارتماير): قم إلى مكتبك واكتب، أو اقرأ، حتى يتسلل النعاس إلى عينيك.
2_ تذكر ألا أحد مُطْلقاً مات أرقاً، وإنما القلق الذي يلازم الأرق هو مبعث الضرر.
3_ جرب الصلاة قبل النوم؛ فإنها خير أداة لبث الأمن في النفوس، والراحة في الأعصاب.
4_ أرح جسدك، وحدث كل عضلة من عضلاتك بالاسترخاء حتى تسترخي.
5_ زاول أحد أنواع الرياضة البدنية، فإذا شعرت بالتعب فثق أنك ستنام.ص265
48_ تذكر أن اليوم هو الأمس الذي أشفقت من مواجهته، واسأل نفسك على الدوام: كيف أعلم أن ما أشفق منه سوف يحدث؟.ص284(2/144)
49_ وحين أخذ الأطباء على عاتقهم رعاية حياة (روكفلر) أوصوه: باتباع ثلاث قواعد..فاتبعها ( روكفلر) إلى آخر حياته، وإليك هذه القواعد الثلاث:
1_ تجنب القلق مهما تكن الظروف والأحوال.
2_ استرخ وتنزه ما أمكن في الهواء الطلق.
3_ قلل من غذائك، انهض عن المائدة وأنت تشعر بالجوع.ص306
_ =تعريف بالكتاب+:
هذا الكتاب من تأليف ديل كارنيجي، وتعريب عبدالمنعم بن محمد الزيادي.
ومضمون الكتاب واضح من عنوانه؛ فهذا الكتاب يحوي ما خرج به مؤلفه من مطالعاته العديدة، وبحوثه الواسعة في التراجم، وعلم النفس، والتربية، والتاريخ، وغيرها فضلاً عما توصَّل إليه من نتائج بعد تجارب دامت أكثر من عشرين سنة في معهده للعلاقات الإنسانية الذي أسسه بنفسه، والذي يعد أول معهد من نوعه في العالم أجمع.
وغرض هذا الكتاب _ كما يقول المعرِّب _: أن يوضح لك أقصر الطرق وأضمنها للحصول على النجاح، والمقدرة على مواجهة الحياة.
_ =النقولات المنتقاة+:
1_ فاللوم عقيم؛ لأنه يضع المرء في موقف الدفاع عن نفسه، ويحفز إلى تبرير موقفه، والذود عن كبريائه وعزته.
وفي وسعك أن تجد ألف مثل على عقم اللوم مسطرة في ألف صفحة من صفحات التاريخ ص8
2_ ينبغي أن تذكر في معاملتك للناس أنك لا تعامل أهل منطق، بل أهل عواطف، وشعور، وأنفس حافلة بالأهواء، ملأى بالكبرياء، والغرور.
واللوم شرارة خطيرة في وسعها أن تضرم النار في وقود الكبرياء، وأن تضرمها ناراً قد تعجل بالموت أحياناً.ص17 _ 18
3_ وإن أي أحمق يسعه أن يلوم، وأن يتهم، وأن ينتقد؛ بل هذا أغلب ما يفعله الحمقى! فدعنا بدلاً من أن نلوم الناس نحاول أن نفهم، وننتحل لهم الأعذار فيما فعلوا، فهذا أمنع من اللوم, وهو يعقب الشفقة، والرحمة، والاحتمال.ص18 _ 19
4_ ليس ثمة إلا طريقة واحدة تحمل بها شخصاً على أن يقبل على عمل ما؟ تلك هي ترغيب الشخص في هذا العمل.ص20(2/145)
5_ وإنك لتجد كثيراً من الناس يصيبهم المرض إذا أعجزهم اكتساب عطف الناس عليهم، واهتمامهم بهم.ص24
6_ وقد وجدت بالتجربة، أن في وسع المرء أن يفوز باهتمام أرفع الناس قدراً، وأعظمهم درجة، لو أنه أبدى بهم اهتماماً.ص56
7_ إذا نحن أردنا أن نكتسب الأصدقاء، فلنضع أنفسنا في خدمة غيرنا من الناس، ولنمد لهم يداً مخلصة نافعة، مجردة عن الأنانية والمصلحة الذاتية.ص58
8_ إن تعبيرات الوجه تتكلم بصوت أعمق أثراً من صوت اللسان، وكأني بالابتسامة تقول لك عن صاحبها: =إني أحبك، إنك تمنحني السعادة، إني سعيد برؤيتك+ !.ص65
9_ ولا تحسب أنني أعني بالابتسامة مجرد علامة ترنم على الشفتين، لا روح فيها ولا إخلاص، كلا! فهذه لا تنطلي على أحد، وإنما أتكلم عن الابتسامة الحقيقية التي تأتي من أعماق نفسك، تلك هي الابتسامة التي تجلب الربح الجزيل في ميادين المال والأعمال.ص65 _ 66
10_ فالطريق المؤدية إلى الابتهاج، إذا فقدنا الابتهاج، هي أن نتصرف كما لو كنا مبتهجين حقاً.ص69
11_ كانت لأهل الصين القدامى حكم رائعة، ومنها هذه الحكمة التي يجمل بنا أن نعلقها على صدورنا؛ كي لا ننساها أبداً:
=إن الرجل الذي لا يعرف كيف يبتسم لا ينبغي له أن يفتتح متجراً+ ص72
12_ إنها لا تكلف شيئاً، ولكنها تعود بالخير الكثير، إنها تغني أولئك الذين يأخذون، ولا تفقر أولئك الذين يمنحون!.
إنها لا تستغرق أكثر من لمح البصر، لكن ذكراها تبقى إلى آخر العمر !.
لن تجد أحداً من الغنى بحيث يستغني عنها، ولا من الفقر في شيء وهو يملك ناصيتها !.
إنها تشيع السعادة في البيت، وطيب الذكر في العمل، وهي التوقيع على ميثاق المحبة بين الأصدقاء.
إنها راحة للتعب، وشعاع الأمل للبائس، وأجمل العزاء للمحزون.
وبرغم ذلك فهي لا تشترى، ولا تستجدى ولا تقترض، ولا تسلب ! إنها شيء ما يكاد يؤتي ثمرته المباركة حتى يتطاير شعاعاً !.(2/146)
فإذا أتاك رجالنا ليبيعوك ما يحتاج إليه، وألفيتهم من التعب والإرهاق بحيث عز عليهم الابتسام _ فكن أخا كرمٍ، وامنحهم ابتسامة من لدنك؛ فوالله إن أحوج الناس إلى الابتسامة هو الذي لم يبق له شيء من الابتسام ليهبه !.
فإذا أردت أن يحبك الناس فاتبع القاعدة رقم 2: ابتسم.ص73 _ 74
13_ لقد كان الرئيس روزفلت يعرف أن إحدى الطرق السهلة المضمونة لاكتساب قلوب الناس هي تذكر أسماءهم، وجعلُهم بهذا يشعرون بأهميتهم؛ فكم منا يفعل ذلك ؟!.
إننا نقضي نصف الوقت الذي نتعرف فيه على غريب نتبادل بضع كلمات جوفاء، ثم لا نستطيع حتى أن نذكر اسمه عندما يحيينا لينصرف !.ص83 _ 84
14_ فإذا أردت أن يحبك الناس، فاتبع القاعدة رقم3:
اذكر أن اسم الرجل هو أجمل وأحب الأسماء إليه.ص85
15_ كن مستمعاً طيباً، وشجع محدثك على الكلام عن نفسه.ص98
16_ فإذا أردت أن يحبك الناس، فاتبع القاعدة رقم 5:
تكلم فيما يسر محدثك، ويلذ له.ص103
17_ تذكر قول إيمرسون: =كل شخص ألقاه يفوقني في ناحية واحدة على الأقل، وفي هذه الناحية يمكن أن آخذ عنه وأتعلم منه+.ص110
18_ فلكي تجذب الناس إلى وجهة نظرك، اتبع القاعدة رقم واحد:
لا تجادل..واعلم أن أفضل السبل لكسب جدال هو أن تتجنبه.ص128
19_ إذا كنت مخطئا فسلِّم بخطئك.ص141
20_ إذا كنت مهتاج الخاطر، محنقاً مغيظاً، وصببت جام حنقك وغيظك على الشخص الآخر _ فلا شك أنك ستزيح عن كاهلك عبثاً كان يرهقك، ولكن ما بال الشخص الآخر ؟ أيشاركك راحتك؟! أتجعله لهجتُك الحادةُ، وموقفك العدائي منه أقرب إلى موافقتك، ومشاطرتك الرأي؟!ص142
21_ إذا كان قلب الرجل مفعماً بالحنق عليك، والبغضاء لك فلن يسعك أن تكسبه إلى وجهة نظرك بكل ما في الوجود من منطق؛ فليدرك هذا الآباء اللائمون، والأزواج المنتقدون، والمديرون الطاغون.
ولكن الأقرب إلى الاحتمال أن يصل هؤلاء إلى أغراضهم إذا توسلوا باللطف، والرفق واللين.ص145(2/147)
22_ قد يكون الشخص الآخر مخطئاً، ولكنه لن يسلم بخطئه أبداً؛ فلا تلمه؛ إن أي أحمق يسعه أن يلوم، ولكن حاول أن تفهمه، واستعن عليه بالصبر الجميل، وسوف تجد أن هناك سبباً خفياً قد أوحى للرجل أن يفكر كما يفكر، أو يتصرف كما يتصرف، فإذا عرفت هذا السبب ألفيت بين يديك مفتاح شخصيته جميعاً.
حاول مخلصاً أن تضع نفسك مكانه، قل لنفسك:
=ترى كيف أحس، وكيف أتصرف لو أنني كنت في مكانه ؟+
وسوف ترى عندئذٍ أنك وفرت على نفسك وقتاً طويلاً، وعناء شديداً، فضلاً عن أنك ستكسب خبرة بفن معاملة الناس.ص176
23_ أتريد أن تتعلم عبارة سحرية تصفِّي جو الحديث في الحال مما قد يعتكره، وتشيع فيه روحاً طيبة، وتحدو بالشخص الآخر إلى الإنصات إليك باهتمام ؟
ها هي ذي: قل لمحدثك: =إنني لا ألومك مثقال ذرة لوقوفك هذا الموقف، وإحساسك هذا الإحساس، ولو كنت مكانك لأحسست تماماً مثلما تحس، واتخذت مثل الموقف الذي تتخذ.
عبارة كهذه كفيلة بأن تكسر حدّة أطول الناس باعاً في السفاهة والجدل ! وفي وسعك أن تقول هذه العبارة، وتكون مخلصاً صادقاً مائة في المائة؛ لأنك لو كنت مكانه لصنعت فعلاً مثلما صنع.ص181
24_ إن كل من تلقاه من الناس، حتى الشخص الذي تطالعك صورته في المرآة، يحمل لنفسه تقديراً كبيراً، ويجب _ مع هذا _ أن يقال عنه إنه متحرر من الأنانية، متبرئ من حب اللذات.
فإذا شئت أن تغير طباع الناس وجب أن تتوسل إلى الدوافع النبيلة في نفوسهم، أفترى هذا أمراً عسيراً يتعذر تطبيقه في الحياة العملية ؟ ص189_190
25_ فإذا أردت أن تكسب الناس ذوي الروح الوثابة، والشجاعة الأدبية إلى وجهة نظرك _ فاتبع القاعدة رقم 12:
ضع الأمر موضع التحدي.ص205
26_ فلكي تسلس قيادة الناس _ إذن _ دون أن تسيء إليهم أو تستثير عنادهم، إليك القاعدة رقم1:
إبدأ بالثناء المستطاب، والتقدير المخلص.ص213
27_ فلكي تملك زمام الناس دون أن تسيء إليهم أو تستثير عنادهم، إليك القاعدة رقم2:(2/148)
الفت النظر إلى الأخطاء من طرف خفي.ص216
28_ فلكي تملك زمام الناس دون أن تسيء إليهم أو تستثير عنادهم، اتبع القاعدة رقم3:
تكلم عن أخطائك قبل أن تنتقد الشخص الآخر.ص221
29_ قدم اقتراحات مهذبة، ولا تصدر أوامر صريحة.ص223
30_ دع الرجل الآخر يحتفظ بماء وجهه !ص224
31_ فإذا أردت أن تؤثر في سلوك إنسان دون أن تستثير عناده، أو تسيء إليه فاذكر القاعدة رقم7:
أسبغ على الرجل ذكراً حسناً يقم على تدعيمه! ص235
32_ فإذا أردت أن تسلس قيادة الناس دون أن تسيء إليهم أو تستثير عنادهم، فاتبع القاعدة رقم8:
اجعل الغلطة التي تريده إصلاحها تبدو ميسورة التصحيح، واجعل العمل الذي تريده أن ينجز يبدو سهلاً هيناً.ص239
33_ حبب الشخص الآخر في العمل الذي تقترحه عليه.ص242
1_ الأدب الصغير والأدب الكبير لابن المقفع.
2_ صيد الخاطر لابن الجوزي.
3_ الأخلاق والسير في مداواة النفوس لابن حزم.
4_ العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية.
5_ الاستقامة لابن تيمية.
6_ جامع الرسائل لابن تيمية.
7_ الفوائد لابن القيم.
8_ إغاثة اللهفان لابن القيم.
9_ الحرية في الإسلام للشيخ محمد الخضر حسين.
10_ نقض كتاب في الشعر الجاهلي لمحمد الخضر حسين.
11_ هدى ونور لمحمد الخضر حسين.
12_ أليس الصبح بقريب للشيخ محمد الطاهر بن عاشور.
13_ وحي القلم لمصطفى صادق الرافعي.
14_ آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي.
15_ مواعظ الإمام عمر بن عبد العزيز.
16_ مواعظ الإمام مالك بن دينار.
17_ مواعظ الإمام أبي حازم سلمة بن دينار.
18_ مواعظ الإمام سفيان الثوري.
19_ مواعظ الإمام إبراهيم بن أدهم.
20_ مواعظ الإمام عبد الله بن المبارك.
21_ مواعظ الإمام الفضيل بن عياض.
وهذه الكتب الأخيرة للشيخ صالح الشامي.
22_ طاقتك الكامنة لسمير شيخاني.
23_ قوة الاعتزاز بالنفس سامويل أ. سيبرت.
وسيصدر قريباً _ إن شاء الله _ ( المجموعة الثالثة ).
المحتويات
المقدمة ... 3(2/149)
أولاً: نقولات مختارة من كتاب =آداب النفوس+ للمحاسبي: ... 5
_تعريف بالكاتب وبالكتاب. ... 5
…_ النقولات المنتقاة _ 25 نقلاً _ ... 6
ثانياً: نقولات مختارة من كتاب =العزلة+ للخطابي: ... 11
_ نبذة عن المؤلف. ... 11
_ تعريف بالكتاب. ... 11
_ النقولات المنتقاة _ 40 نقلاً _ ... 14
ثالثاً: نقولات مختارة من كتاب =تهذيب الأخلاق+ لابن مسكوية: ... 29
…_ نبذة عن المؤلف. ... 29
…_ تعريف بالكتاب. ... 29
_ النقولات المنتقاة _ 41 نقلاً _ ... 30
رابعاً: نقولات مختارة من كتاب =وصية أبي الوليد الباجي لولديه+: ... 36
_ نبذة عن المؤلف ... 36
_ تعريف بالكتاب ... 37
_ النقولات المنتقاة _ 35 نقلاً _ ... 38
خامساً: نقولات مختارة من كتاب =أيها الولد+ لأبي حامد الغزالي: ... 45
_ نبذة عن المؤلف ... 45
_ التعريف بالرسالة ... 46
_ النقولات المنتقاة _ 16 نقلاً _ ... 47
سادساً: نقولات مختارة من كتاب =الاعتبار+ لأسامة بن منقذ: ... 54
_ نبذة عن المؤلف ... 54
_ تعريف بالكتاب ... 55
_ النقولات المنتقاة _ 29 نقلاً _ ... 56
سابعاً: نقولات مختارة من كتاب =عين الأدب والسياسة وزين الحسب والرياسة+لأبي الحسن علي بن هذيل: ... 67
_ تعريف بالمؤلف وبالكتاب ... 67
_ النقولات المنتقاة _ 158 نقلاً _ ... 68
ثامناً: نقولات مختارة من كتاب =أدب الطلب+ للشوكاني: ... 92
_ نبذة عن المؤلف ... 92
_ تعريف بالكتاب ... 93
_ النقولات المنتقاة _ 34 نقلاً _ ... 94
تاسعاً: نقولات مختارة من كتاب =مناهج الشرف+لمحمد الخضر حسين: ... 119
_ تعريف بالكتاب ... 119
_ النقولات المنتقاة _ 54 نقلاً _ ... 121
عاشراً: نقولات مختارة من كتاب =حكم وأخلاق عربية+ لمحمد المكي بن الحسين: ... 146
_ نبذة عن المؤلف ... 146
_ تعريف بالكتاب ... 148
_ النقولات المنتقاة:
1_ خفة النوم المحمودة وذمة النومة ... 151
2_ لله درك، لله كذا، تبارك ... 152(2/150)
3_ لا تفتش عن زلة صديق ... 154
4_ مثال العدالة ... 155
5_ ما يمتدح به العرب ... 156
6_ طيب الثناء ... 157
7_ قرناء السوء ... 157
8_ دهاء معاوية وحلمه ... 158
9_ زينة العلمِ الحلمُ والوقار ... 161
10_ البغي والبغاة ... 162
11_ أسباب العزل عند أهل العدل ... 162
12_ وصايا صحية عند العرب ... 163
13_ قمع الشهوة ... 166
14_ الرأي السديد ... 167
15_ أجواد أهل الحجاز في القرن الأول الهجري ... 168
16_ إياك والغضب ... 170
17_ التخاصم والتشاتم ... 170
18_ الصروع والصرعة ... 171
19_ الساعي والسعاية ... 171
20_ لا تتكلف ما لا يليقك ... 172
21_ عزيمة الصبر ... 172
22_ ينشدون الأشعار وهو يحتضرون ... 173
23_ العمل العمل ... 175
24_ النزاهة عن التعرض للأبواب ... 176
25_ ليس للفضيلة وطن ... 177
26_ مخالفة النفس وقدعها عن هواها ... 177
27_ القناعة ... 177
28_ عصيان الهوى ... 178
29_ المتحلون بأعلام مضافة إلى اسم الله _ عز وجل _ ... 179
30_ الصبر ... 181
31_ انتهاز الفرصة ... 181
32_ ما قال أبو بكر الصديق ÷ عند موته ... 182
33_ زلة الرأي واللسان ... 183
34_ الإعراض عما يخل بالمروءة ... 183
35_ لا تهتم لرزق غدك ... 184
36_ حلم الأحنف وقيس بن عاصم ... 185
37_ دع عنك من كره صحبتك ... 186
38_ كلمات للأحنف بن قيس ... 187
39_ عزة النفس ... 188
40_ علامات العاقل وأوصافه ... 189
41_ المتغابي ... 189
42_ الهوى والهوان ... 189
43_ العقل والأدب ... 190
44_ لا تتلهف على ما فات ... 191
45_ تبادل الآراء ... 192
46_ الورع ... 192
47_ أفذاذ من أصحاب الهمم السامية ... 192
48_ المداراة ... 193
49_ الحج والحجيج ... 194
50_ محاسن السفر ومعائبه ... 195
51_ معائب السفر ... 196
52_ عز التقى ... 196
53_ العقل والهوى ... 197
54_ جودة سعد بن قيس بن عبادة ÷ ... 198(2/151)
الحادي عشر: نقولات مختارة من كتاب: =نوادر في الأدب+ لمحمد المكي بن الحسين: ... 199
_ تعريف بالكتاب ... 199
_ النقولات المنتقاة:
1_ راحة المحزون ... 200
2_ أشعار كان يتمثل بها بعض السلف _ رحمهم الله _ ... 201
3_ سانحة ... 203
4_ تعلموا العربية ... 204
5_ بيتان من شعر الأعشى ... 204
6_ تفسير بيت من الشعر ... 205
7_ تعليقات على أبيات من شعر أبي تمام ... 205
8_ لطائف الأدباء ... 206
9_ نوادر أدبية خاصة بأناس أحرزوا بغيتهم بإنشاد بيتين من الشعر ... 209
10_ أعرابية ترتجز ... 211
11_ الجارة _ الضرة ... 211
12_ تداول بعض الشعراء للمعنى الواحد ... 212
13_ القلم ... 213
14_ قولهم هلمَّ جرا ... 214
15_ أبيات المعاني ... 214
الثاني عشر: نقولات مختارة من كتاب =دع القلق وابدأ الحياة+ لديل كارنيجي: ... 216
…_ تعريف بالمؤلف وبالكتاب ... 216
…_ النقولات المنتقاة _ 49 نقلاً _ ... 220
الثالث عشر: نقولات مختارة من كتاب =كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس+ لديل كارنيجي: ... 231
_ تعريف بالكتاب ... 231
_ النقولات المنتقاة _ 33 نقلاً _ ... 232
_ المحتويات ... 241
1_ جوانب من سيرة الإمام عبدالعزيز بن باز ×.
2_ التوبة وظيفة العمر.
3_ رسائل في العقيدة.
4_ رسائل في التربية والأخلاق والسلوك.
5_ رسائل في الزواج والحياة الزوجية.
6_ أخطاء في مفهوم الزواج.
7_ من أخطاء الأزواج.
8_ من أخطاء الزوجات.
9_ كلمات متنوعة في أبواب متفرقة 1.
10_ كلمات متنوعة في أبواب متفرقة 2.
11_ كلمات متنوعة في أبواب متفرقة 3.
12_ كلمات متنوعة في أبواب متفرقة 4.
13_ سوء الخلق .. مظاهره .. أسبابه .. العلاج، قرأه سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز ×.
14_ الفاحشة (عمل قوم لوط) الأسباب _ العلاج.
15_ عقيدة أهل السنة والجماعة، قرأه وقدم له: سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز ×.(2/152)
16_ الإيمان بالقضاء والقدر، قرأه وقدم له: سماحة الشيخ عبدالعزيز ابن باز ×.
17_ الهمة العالية، قرأه وقدم له: سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز ×.
18_ مع المعلمين.
19_ شرح وتحقيق الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية.
20_ شرح وتحقيق القصيدة التائية في القدر لشيخ الإسلام ابن تيمية.
21_ الصداقة بين العلماء (نماذج تطبيقية معاصرة).
22_ رمضان دروس وعبر تربية وأسرار.
23_ أخطاء في أدب المحادثة والمجالسة.
24_ من أقوال الرافعي في المرأة.
25_ من أحوال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز في الحج.
26_ الحج آداب وأسرار.
27_ الدعاء مفهومه _أحكامه_ أخطاء تقع فيه، قرأه وعلق عليه: سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز ×.
28_ الإيمان باليوم الآخر.
29_ الشيوعية.
30_ توبة الأمة.
31_ البابية.
32_ البهائية.
33_ القاديانية.
34_ الوجودية.
35_ الجوال آداب وتنبيهات.
36_ الإنترنت امتحان الإيمان والأخلاق والعقول.
37_ المنتقى من بطون الكتب (المجموعة الأولى).
38_ مختصر الإيمان بالقضاء والقدر.
39_ لطائف في تفاضل الأعمال الصالحة.
40_ عقوق الوالدين .. أسبابه .. مظاهره .. سبل العلاج.
41_ قطيعة الرحم .. المظاهر .. الأسباب .. سبل العلاج.
42_ التقصير في تربية الأولاد .. المظاهر .. سبل الوقاية والعلاج.
43_ التقصير في حقوق الجار.
44_ الكذب .. مظاهره .. علاجه.
45_ لماذا تدخن؟.
46_ إلى بائع الدخان.
47_ الجريمة الخلقية.
48_ العشق .. حقيقته .. خطره .. أسبابه .. علاجه.
49_ الطريق إلى التوبة.
50_ رسالة إلى طالب نجيب، ترجم إلى الأردية.
51_ الهجرة دروس وفوائد.
52_ الأسباب المفيدة في اكتساب الأخلاق الحميدة.
53_ مختصر عقيدة أهل السنة والجماعة؛ المفهوم والخصائص.
54_ الإيمان بالله، ترجم إلى الإنجليزية.
55_ لا إله إلا الله: معناها _أركانها _ فضائلها _ شروطها.
56_ توحيد الربوبية.
57_ توحيد الألوهية.
58_ توحيد الأسماء والصفات.
59_ الإيمان بالكتب.(2/153)
60_ الطريق إلى الإسلام، ترجم إلى عدة لغات.
61_ كلمات في المحبة والخوف والرجاء، ترجم إلى الإنجليزية.
62_ الطيرة.
63_ نبذة مختصرة عن الشفاعة، والشرك، والرقية، والتمائم، والتبرك.
1-المنتقى من بطون الكتب، (المجموعة الثالثة).
2-فقه اللغة مفهومه _ مناهجه _ موضوعاته.
3-رسائل في الفرق والمذاهب والأديان.
4-سلسلة: مقالات لكبار كتاب العربية.
5-من صور تكريم الإسلام للمرأة.(2/154)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد ومن والاه أما بعد:
فهذه هي المجموعة الأولى من هذا الكتاب، وهو عبارة عن نقولٍ منتقاة من بعض الكتب.
وقد يسر الله جمعها من خلال بعض القراءة المتنوعة؛ حيث كنت أدوِّن بعض ما يمر بي أثناء القراءة، سواء في أوراق خاصة، أو على أغلفة الكتب المقروءة؛ فأدوِّن ما أستحسنه من حكمة بالغة، أو موعظة حسنة، أو نظرة ثاقبة، أو فكرة سامية، أو تجربة ناضجة، أو عبارة رائعة رائقة، أو تحرير عالٍ، أو أسلوب بارع، أو معنى لطيف، أو نحو ذلك وما جرى مجراه مما يبهج النفس، ويوسع المدارك، ويرقى بالهمة، ويزيد في الإيمان، ويدعو إلى لزوم الفضيلة.
وهذه النقولات تركتها على سجيتها؛ حيث لم أحرص على ملئها بالحواشِي والزيادات، ولم أترجم لجميع المؤلفين، كما أن بعض النقولات لم تذكر فيها أرقام الصفحات؛ لأنه لم يخطر في البال أثناء تدوينها أنها ستنشر.
هذا وقد جاء ذلك الكتاب حاملاً المسمى التالي:
=المنتقى من بطون الكتب+
أما الكتب التي تضمنها الانتقاء في هذه المجموعة فهي كما يلي:
1_ الأدب الصغير والأدب الكبير لابن المقفع.
2_ صيد الخاطر لابن الجوزي.
3_ الأخلاق والسير في مداواة النفوس لابن حزم.
4_ العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية.
5_ الاستقامة لابن تيمية.
6_ جامع الرسائل لابن تيمية.
7_ الفوائد لابن القيم.
8_ إغاثة اللهفان لابن القيم.
9_ الحرية في الإسلام للشيخ محمد الخضر حسين.
10_ نقض كتاب في الشعر الجاهلي لمحمد الخضر حسين.
11_ هدى ونور لمحمد الخضر حسين.
12_ أليس الصبح بقريب للشيخ محمد الطاهر بن عاشور.
13_ وحي القلم لمصطفى صادق الرافعي.
14_ آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي.
15_ مواعظ الإمام عمر بن عبد العزيز.
16_ مواعظ الإمام مالك بن دينار.
17_ مواعظ الإمام أبي حازم سلمة بن دينار.
18_ مواعظ الإمام سفيان الثوري.
19_ مواعظ الإمام إبراهيم بن أدهم.(3/1)
20_ مواعظ الإمام عبد الله بن المبارك.
21_ مواعظ الإمام الفضيل بن عياض.
وهذه الكتب الأخيرة للشيخ صالح الشامي.
22_ طاقتك الكامنة لسمير شيخاني.
23_ قوة الاعتزاز بالنفس سامويل أ. سيبرت.
فإلى تلك النقول، والله المستعان، وعليه التكلان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
محمد بن إبراهيم الحمد
19/7/1424هـ
الزلفي 11932
ص ب: 460
www. Toislam. Net
شرح ودراسة د. مفيد قميحة.
=تعريف موجز بالكتاب+:
الأدب الصغير والأدب الكبير رسالتان غايتاهما الإصلاح النفسي، والسياسي، والأخلاقي، والاجتماعي؛ فالأدب الكبير تركز حول نقطتين رئيسيتين هما:
السلطان، وما يتبعه من شؤون تتعلق به، والصداقة وما يتعلق بها من روابط ومعاملات.
وأما الأدب الصغير فهو عبارة عن شذرات متفرقة، وخواطر متعددة، مستوحاة من تجارب ماضية، مختزلة في ألفاظ موجزة، منتقاة من حكم الأسلاف ومواعظهم وآرائهم في الحياة.
والمتأمل لها يفيد منها خبرة، ونضجاً، ودَرَبة، وحسن تعامل مع الأحداث.
أ: نقولات من كتاب الأدب الصغير:
1_ غاية الناس، وحاجتهم صلاح المعاش والمعاد، والسبيل إلى دَرَكِها العقل الصحيح، وأمارة صحة العقل اختيار الأمور بالبصر، وتنفيذ البصر بالعزم. ص43
2_ للعقول سجيات وغرائز، بها تقبل الأدب، وبالأدب تنمي العقول، وتزكو. ص 43
3_ الواصفون أكثر من العارفين، والعارفون أكثر من الفاعلين؛ فلينظر امرؤ أين يضع نفسه. ص48
4_ على العاقل أن يذكر الموت في كل يوم وليلة مراراً، ذكراً يباشر به القلوب، ويقدع الطماح؛ فإن في كثرة ذكر الموت عصمةً من الأشر، وأماناً_ بإذن الله_ من الهلع. 53_54
5_ على العاقل أن يحصي على نفسه مساويها في الدين وفي الأخلاق وفي الآداب؛ فيجمع ذلك كله في صدره، أوفي كتاب، ثم يكثر عرضه على نفسه، ويكلِّفها إصلاحه، ويوظف ذلك عليها توظيفاً من إصلاح الخلَّة والخلتين والخلال في اليوم أو الجمعة أو الشهر.(3/2)
فكلما أصلح شيئاً محاه، وكلما نظر إلى محو استبشر، وكلما نظر إلى ثابت اكتأب. 54
6_ على العاقل أن يؤنس ذوي الألباب بنفسه، ويجرِّئهم عليها؛ حتى يصيروا حرساً على سمعه وبصره، ورأيه؛ فيستنيم إلى ذلك، ويريح له قلبه، ويعلم أنهم لا يغفلون عنه إذا هو غفل عن نفسه. 55
7_ على العاقل_ ما لم يكن مغلوباً على نفسه أن لا يشغله شغل عن أربع ساعات: ساعة يرفع فيها حاجته إلى ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعةٍ يفضي فيها إلى إخوانه وثقاته الذين يصدقونه عند عيوبه وينصحونه في أمره، وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذتها مما يحل ويجمل؛ فإن هذه الساعة عونٌ على الساعات الأخر، وإن استجمام القلوب وتوديعها زيادة قوة لها، وفضل بلغة. ص56
8_ على العاقل أن لا يكون راغباً إلا في إحدى ثلاث: تزودٍ لمعاد، أو مرمَّةٍ لمعاش، أو لذة في غير محرم. ص56
9_ على العاقل أن يجبن عن المضي على الرأي الذي لا يجد عليه موافقاً وإن ظن أنه على اليقين. ص57
10_ الدنيا دول فما كان لك منها أتاك على ضعفك، وما كان عليك لم تدفعه بقوتك. ص60
11_ أشد الفاقة عدم العقل، وأشد الوَحْدة وحدة اللجوج، ولا مال أفضل من العقل، ولا أنيس آنس من الاستشارة. ص61
12_ كان يقال: إن الله_ تعالى_ قد يأمر بالشيء ويبتلي به بثقله، وينهى عن الشيء، ويبتلي به بشهوته؛ فإذا كنت لا تعمل من الخير إلا ما اشتهيته، ولا تترك من الشر إلا ما كرهته_ فقد أطلعت الشيطان على عورتك، وأمكنته من رُمَّتك (1)؛ فأوشك أن يقتحم عليك فيما تحب من الخير؛ فيكرِّهه إليك، وفيما تكره من الشر فيحببه إليك.
ولكن ينبغي لك في حب ما تحب من الخير التحامل على ما يستثقل منه، وينبغي لك في كراهة ما تكره من الشر التجنب لما يحب منه. ص64
13_ إذا هممت بخير فبادر هواك لا يغلبْك، وإذا هممت بشر فسوِّف هواك؛ لعلك تظفر؛ فإن ما مضى من الأيام والساعات على ذلك هو الغُنم. ص69
__________
(1) _ الرمة: الحبل الذي يمكن أن يقودك به .(3/3)
14_ العلم زين لصاحبه في الرخاء، ومنجاة له في الشدة، بالأدب تعمر القلوب، وبالعلم تستحكم الأحلام. 69
15_ حياة الشيطان ترك العلم، وروحه وجسده الجهل، ومعدنه في أهل الحقد والقساوة، ومثواه في أهل الغضب، وعيشه في المصارمة (1)، ورجاؤه في الإصرار على الذنوب. ص 73
16_ لا ينبغي للمرء أن يعتد بعلمه ورأيه ما لم يذاكره ذوو الألباب، ولم يجامعوه عليه؛ فإنه لا يستكمل علم الأشياء بالعقل الفرد. ص 73
17_ أعدل السِّيَرِ أن تقيس الناس بنفسك؛ فلا تأتي إليهم إلا ما ترضى أن يؤتى إليك. ص 73
18_ أنفع العقل أن تحسن المعيشة فيما أوتيت من خير، وألا تكترث من الشر بما لم يصبك. ص 73
19_ حقٌّ على العاقل أن يتخذ مرآتين، فينظر من إحداهما في مساوئ نفسه، فيتصاغر بها، ويصلح ما استطاع منها.
وينظر في الأخرى في محاسن الناس، فيحلِّيهم بها، ويأخذ ما استطاع منها. ص 76
20_ لا يوقعنَّك بلاء خلصت منه في آخر لعلك لا تخلُص منه. ص76
21_ الورِع لا يَخْدَع، والأريب لا يُخْدَع. ص 76
22_ المروءات تبع للعقل، والرأي تبع للتجربة، والغبطة تبع لحسن الثناء، والسرور تبع للأمن، والقرابة تبع للمودة، والعمل تبع للقَدَر، والجِدَة تبع للإنفاق. ص 78
23_ أصول العقل التثبت، وثمرته السلامة، وأصل الورع القناعة، وثمرته الظفر، وأصل التوفيق العمل، وثمرته النُّجح. ص 78
24_ لا يُذْكَرُ الفاجر في العقلاء، ولا الكذوب في الأعفَّاء، ولا الخذول في الكرماء، ولا الكفور بشيء من الخير. ص 78
25_ لا تؤاخينَّ خِبَّاً_ خداعاً_ ولا تستنصرن عاجزاً، ولا تستعينن كسلاً. ص 78
26_ من أعظم ما يروح به المرء نفسه أن لا يجري لما يهوى وليس كائناً، ولا لما لا يهوى وهولا محالة كائن. ص 78
27_ اغتنم من الخير ما تعجلت، ومن الأهواء ما سوَّفت، ومن النَّصَب ما عاد عليك، ولا تفرح بالبطالة، ولا تجبن عن العمل. ص79
__________
(1) _ المصارمة: المنازعة والخصام اللذان يؤديان إلى الشر .(3/4)
28_ ذو العقل لا يستخف بأحد؛ فإنه من استخف بالأتقياء أهلك دينه، ومن استخف بالولاة أهلك دنياه، ومن استخف بالإخوان أفسد مروءته. ص 79
29_ يسلم العاقل من عظام الذنوب والعيوب بالقناعة ومحاسبة النفس. ص80
30_ لا تجد العاقل يحدث من يخاف تكذيبه، ولا يسأل من يخاف منعه، ولا يَعِدُ بما لا يجد إنجازه، ولا يرجو ما يُعنَّف برجائه، ولا يقدم على ما يخاف العجز عنه. ص 80
31_ لا عقل لمن أغفله عن آخرته ما يجد من لذة دنياه، وليس من العقل أن يحرمه حظه من الدنيا بصره بزوالها. ص 80
32_ أغنى الناس أكثرهم إحساناً. ص 82
33_ من أشد عيوب الإنسان خفاء عيوبه عليه؛ فإن من خفي عليه عيبه خفيت عليه محاسن غيره، ومن خفي عليه عيب نفسه ومحاسن غيره فلن يقلع عن عيبه الذي لا يعرف، ولن ينال محاسن غيره التي لا يبصر أبداً. ص 82
34_ خمول الذكر أفضل من الذكر الذميم. ص 82
35_ خصال يُسَرُّ بها الجاهل كلها كائن وبالاً عليه، منها أن يفخر من العلم والمروءة بما ليس عنده، ومنها أن يرى بالأخيار من الاستهانة والجفوة ما يُشْمِتُهُ بهم. ص 82
36_ لا يؤمننَّك شر الجاهل قرابةٌ ولا جوار ولا إلف. ص 84
37_ كان يقال: قارب عدَّوك بعض المقاربة تنلْ حاجتك، ولا تقاربْه كل المقاربة؛ فيجترئ عليك عدوك، وتُذِلَّ نفسك، ويرغب عنك ناصرك. ص 84
38_ الحازم لا يأمن عدوه على حال. ص 85
39_ الظفر بالحزم ِ، والحزم ُ بإجالة الرأي، والرأي بتحصين الأسرار. ص 85
40_ المستشير_ وإن كان أفضل من المستشار رأياً_ فهو يزداد برأيه رأياً، كما تزداد النار بالودك ضوءاً. ص 85
41_ لا يطمعن ذو الكِبْر في حسن الثناء، ولا الخب في كثرة الصديق، ولا السيئ الأدب في الشرف، ولا الشحيح في المحمدة، ولا الحريص في الإخوان، ولا الملك المعجب بثبات الملك. ص 85_86
42_ صرعة اللِّيْن أشد استئصالاً من صرعة المكابرة. ص 86(3/5)
43_ أربعة أشياء لا يستقلُّ منها قليل: النار، والمرض، والعدو، والدَّين. ص 86
44_ المودة بين الأخيار سريع اتصالها، بطيء انقطاعها، ومَثَلُ ذلك مَثَلُ كوب الذهب الذي هو بطيء الانكسار، هيِّن الإصلاح، والمودة بين الأشرار سريع انقطاعها، بطيء اتصالها كالكوز الفخار يكسره أدنى عبث، ثم لا وصل له أبداً. ص 87
45_ الكريم يمنح الرجل مودته عن لَقْية واحدة، أو معرفة يوم، واللئيم لا يصل أحداً إلا عن رغبة أو رهبة. ص 87
46_ لا يتم حسن الكلام إلا بحسن العمل، كالمريض الذي علم دواء نفسه؛ فإذا هو لم يتداوَ به لم يغنه علمه. ص 89
47_ الرجل ذو المروءة قد يكرم على غير مال، كالأسد الذي يهاب وإن كان عقيراً، والرجل الذي لا مروءة له يهان وإن كثر ماله كالكلب الذي يهون على الناس وإن طُوِّق وخُلخِل. ص 89_90
48_ إن أولى الناس بفضل السرور وكرم العيش، وحسن الثناء_ من لا يبرح رَحْلُه من إخوانه وأصدقائه من الصالحين مَوْطُوءاً، ولا يزال عنده منهم زحام، ويسرهم ويسرونه، ويكون من وراء حاجاتهم وأمورهم؛ فإن الكريم إذا عثر لم يستقل_ أي لم يستطع النهوض_ إلا بالكرام، كالفيل إذا وَحِل لم يستخرجه إلا الفيلة. ص 90_91
49_ من المعونة على تسلية الهموم، وسكون النفس_ لقاء الأخ أخاه، وإفضاء كل واحد منهما إلى صاحبه ببثه.
وإذا فرق بين الأليف وأليفه فقد سلب قراره، وحرم سروره. ص91
50_ قلَّ ما ترانا نُخلّف عقبةً من البلاء إلا صرنا في أخرى. ص92
ب: نقولات من كتاب الأدب الكبير لابن المقفع:
1_ لا تتركن مباشرة جسيم أمرك فيعودَ شأنك صغيراً، ولا تُلزِمنَّ نفسك مباشرة الصغير فيصير الكبير ضائعاً. ص 104
2_ ابذل لصديقك دمك، ومالك، ولمعرفتك رفدك_ عطاءك_ ومحضرك_ مشهدك_.
وللعامة بِشْرَك، وتحننك، ولعدوك عدلك وإنصافك، واضنن بدينك وعرضك على كل أحد. ص 131(3/6)
3_ إذا سمعت من صاحبك كلاماً، أو رأيت منه رأياً يعجبك_ فلا يعجبك أن تنتحله تزيناً به عند الناس، واكتفِ من التزين بأن تجتني الصواب إذا سمعته، وتنسبه إلى صاحبه.
واعلم أن انتحالك ذلك مسخطة لصاحبك، وأن فيه مع ذلك عاراً وسخفا ً.
فإن بلغ بك ذلك أن تشير برأي الرجل، وتتكلم بكلامه وهو يسمع جمعت مع الظلم قلة الحياء.
وهذا من سوء الأدب الفاشي في الناس.
ومن تمام حسن الخلق والأدب في هذا الباب أن تسخو نفسُك لأخيك بما انتحل من كلامك ورأيك، وتنسب إليه رأيه وكلامه، وتزينه مع ذلك ما استطعت .
ص 132
4_ لا يكوننَّ من خلقك أن تبتدئ حديثاً ثم تقطعه وتقول: =سوف+ كأنك روَّأت(1) فيه بعد ابتدائك إياه.
وليكن تروِّيك فيه قبل التفوُّه به؛ فإن احتجان الحديث بعد افتتاحه سخف وغم. ص 132
5_ اخزن عقلك وكلامك إلا عند إصابة الموضع؛ فإنه ليس في كل حين يحسن كل صواب، وإنما تمام إصابة الرأي والقول بإصابة الموضع. ص 132
6_ ليعرف العلماء حين تجالسهم أنك على أن تسمع أحرص منك على أن تقول. ص 132
7_ لا تخلطن بالجد هزلاً، ولا بالهزل جداً؛ فإنك إن خلطت بالجد هزلاً هجَّنته، وإن خلطت بالهزل جداً كدَّرته.
غيرَ أني قد علمت موطناً واحداً إن قدرت أن تستقبل فيه الجد بالهزل أصبت الرأي، وظهرت على الأقران.
وذلك أن يتورَّدك متورد (2) بالسفه والغضب وسوء اللفظ تجيبه إجابة الهازل المداعب برحب من الذُّرع، وطلاقة من الوجه، وثبات من المنطق. ص 133
8_ إذا رأيت صاحبك مع عدوِّك فلا يغضبنك ذلك؛ فإنما هو أحد رجلين:
إن كان رجلاً من إخوان الثقة فأنفع مواطنه لك أقربها من عدوك لشر يكفه عنك، أو لعورة يسترها منك، أو غائبه يطَّلع عليها لك، فأما صديقك فما أغناك أن يحضره ذو ثقتك.
وإن كان رجلاً من غير خاصة إخوانك فبأي حق تقطعه عن الناس، وتكلفه ألا يصاحب ولا يجالس إلا من تهوى. ص 133
__________
(1) _ أي أطلت النظر وتمهلت الجواب .
(2) _ يتوردك متورد: يحملك على أن تغتاظ .(3/7)
9_ تحفظ في مجلسك وكلامك من التطاول على الأصحاب، وطب نفساً عن كثير مما يعرض لك فيه صواب القول والرأي؛ مداراة ً؛ لئلا يظن أصحابك أن دأبك التطاول عليهم. ص 133_134
10_ إذا أقبل عليك مقبل بودِّه فسرك ألا يدبر عنك_ فلا تنعم الإقبال عليه، والتفتح له؛ فإن الإنسان طبع على ضرائب لؤم؛ فمن شأنه أن يرحل عمن لصق به، ويلصق بمن رحل عنه إلا من حفظ بالأدب نفسه، وكابر طبعه؛ فتحفظ من هذا فيك وفي غيرك. ص 134.
11_ وإن آنست من نفسك فضلاً فتحرَّج أن تذكره، أو تبديه، واعلم أن ظهوره منك بذلك الوجه يقرر لك في قلوب الناس من العيب أكثر مما يقرر لك من الفضل.
واعلم أنك إن صبرت، ولم تعجل ظهر ذلك منك بالوجه الجميل المعروف عند الناس.
ولا يَخْفَينَّ عليك أن حرص الرجل على إظهار ما عنده، وقلة وقاره في ذلك _ باب من أبواب البخل واللؤم، وأن خير الأعوان على ذلك _ السخاءُ والتكرم. ص 135
12_ إذا رأيت رجلاً يحدث حديثاً قد علمته، أو يخبر خبراً قد سمعته _ فلا تشاركه فيه، ولا تتعقبه عليه؛ حرصاً على أن يعلم الناس أنك قد علمته؛ فإن في ذلك خفةً، وشحَّاً، وسوء أدب، وسخفاً. ص 136
13_ احفظ قول الحكيم الذي قال: لتكن غايتك فيما بينك وبين عدوك العدل، وفيما بينك وبين صديقك الرضاء. ص 136
14_ لا تعتذرن إلا إلى من يحب أن يجد لك عذراً، ولا تستعينن إلا بمن يحب أن يُظْفِرك بحاجتك، ولا تحدثن إلا من يرى حديثك مغنماً، ما لم يغلبك اضطرار. ص 140
15_ إذا اعتذر إليك معتذر فتلَقّّهُ بوجه مشرق، وبشرٍ ولسانٍ طلق إلا أن يكون ممن قطيعته غنيمة. ص 140
16_ إذا غرست من المعروف غرساً، وأنفقت عليه نفقة فلا تضنَّن في تربية ما غرست واستنمائه، فتذهب النفقة الأولى ضياعا ً. ص 140
17_ إذا كانت لك عند أحد صنيعة، أو كان لك عليه طَوْل _ فالتمس إحياء ذلك بإماتته، وتعظيمه بالتصغير له.(3/8)
ولا تقتصرنَّ في قله المنَّ به على أن تقول: لا أذكره، ولا أصغي بسمعي إلى من يذكره؛ فإن هذا قد يستحيي منه بعض من لا يوصف بفعل ولا كرم.
ولكن احذر أن يكون في مجالستك إياه، وما تكلمه به، أو تستعينه عليه، أو تجاريه فيه شيء من الاستطالة؛ فإن الاستطالة تهدم الصنيعة، وتكدر المعروف. ص 141 _ 142
18_ احترس من سورة الغضب، وسورة الحمية، وسورة الحقد، وسورة الجهل.
وأعدد لكل شيء من ذلك عدة تجاهده بها من الحلم والتفكر، والروية، وذكر العاقبة، وطلب الفضيلة. ص 142
19_ ذلل نفسك بالصبر على جار السوء، وعشير السوء، وجليس السوء؛ فإن ذلك مما لا يكاد يخطئك. ص 143
20_ اللئام أصبر أجساداً، والكرام أصبر نفوساً. ص 143
21_ الصبر الممدوح أن يكون للنفس غلوباً، وللأمور محتملاً، وفي الضراء متجملاً، ولنفسه عند الرأي والحفاظ (1) مرتبطاً، وللحزم مؤثراً، وللهوى تاركاً، وللمشقة التي يرجو حسن عاقبتها مستخفاً، وعلى مجاهدة الأهواء والشهوات مواظباً، ولبصيرته بعزيمته منفِّذاً. ص 143
22_ عوِّد نفسك السخاء، واعلم أنه سخاءان: سخاوة نفس الرجل بما في يديه، وسخاوته عما في أيدي الناس.
وسخاوة نفس الرجل بما في يديه أكثرهما وأقربهما من أن تدخل فيه المفاخرة، وتركه ما في أيدي الناس أمحض في التكرم، وأبرأ من الدنس؛ فإنْ هو جمعهما فبذل، وعفَّ فقد استكمل الجود والكرم. ص 144
23_ ليكن مما تصرف به الأذى والعذاب عن نفسك ألا تكون حسوداً؛ فإن الحسد خلق لئيم، ومن لؤمه أنه موكل بالأدنى فالأدنى من الأقارب، والأكفاء والمعارف والخلطاء والإخوان. ص144
24_ لا تتخذن اللعن والشتم على عدوك سلاحاً؛ فإنه لا يجرح في نفس، ولا منزلة، ولا مال، ولا دين. ص146
25_ إذا أردت أن تكون داهياً فلا تُحِبنَّ أن تسمى داهياً؛ فإن من عرف بالدهاء خاتل علانية، وحذره الناس، حتى يمتنع منه الضعيف، ويتعرض له القوي. ص 146
__________
(1) _ الغضب .(3/9)
26_ إن من إرب الأريب دفنَ إربه ما استطاع؛ حتى يعرف بالمسامحة في الخليقة، والاستقامة في الطريقة. ص 147
27_ إذا أردت السلامة فأشعر قلبك الهيبة للأمور من غير أن تَظْهَر منك الهيبة، فتُفَطِّن الناس بنفسك، وتُجرِّئهم عليك، وتدعو إليك منهم كل الذي تهاب.
فأشْعِبْ (1) لمداراة ذلك من كتمان الهيبة وإظهار الجرأة والتهاون _ طائفةً من رأيك. ص 147
28_ اعلم أن من أوقع الأمور في الدين، وأنهكها للجسد، وأتلفها للمال، وأقتلها للعقل، وأزراها للمروءة، وأسرعها في ذهاب الجلالة والوقار _ الغرام َ بالنساء.
ومن البلاء على المغرم بهن أنه لا ينفك يأجم (2) ما عنده، وتطمح عيناه إلى ما ليس عنده منهن، وإنما النساء أشباه. ص 149
29_ ومن العجب أن الرجل الذي لا بأس بلبه ورأيه يرى المرأة من بعيد متلففةً في ثيابها؛ فَيُصَوِّر لها في قلبه الحسن والجمال، حتى تعْلقَها نفسُه من غير رؤية ولا خبر مخبر، ثم لعله يهجم منها على أقبح القبح، وأَدَمِّ الدمامة؛ فلا يعظه ذلك، ولا يقطعه عن أمثالها، ولا يزال مشغوفاً بما لم يذق، حتى لو لم يبق في الأرض غير امرأة واحدة لظن أن لها شأناً غير شأن ما ذاق.
وهذا هو الحمق، والشقاء، والسفه. ص 150
30_ إن استطعت أن تضع نفسك دون غايتك في كل مجلس، ومقام، ومقال، ورأي، وفعل _ فافعل؛ فإن رفع الناس إياك فوق المنزلة التي تحط إليها نفسك، وتقريبهم إياك إلى المجلس الذي تباعدت منه، وتعظيمهم من أمرك ما لم تُعظِّم، وتزيينهم من كلامك ورأيك وفعلك ما لم تزيِّن _ هو الجمال. ص 151
31_ احذر المراء، وأغْرِبْه(3)، ولا يمنعنك حذرُ المراء من حسن المناظرة والمجادلة. ص 151
__________
(1) _ أشعب: اجعل .
(2) _ يأجم: يمل .
(3) _ أغربه: أبعده .(3/10)
32_ اعلم أنك ستُبْتَلى من أقوام بسفهٍ، وأن سفه السفيه سيُطلع له منك حقداً؛ فإن عارضته، أو كافأته بالسفه فكأنك قد رضيت ما أتى به؛ فأحببت أن تحتذي على مثاله؛ فإن كان ذلك عندك مذموماً فحقق ذمك إياه بترك معارضته.
فأما أن تذمه، وتمتثله فليس في ذلك لك سداد. ص 155
33_ لا تلتمس غلبةَ صاحبك، والظفر عليه عند كل كلمة ورأي، ولا تجترئن على تقريعه بظفرك إذا استبان، وحجتك عليه إذا وُضَحت. ص 156
34_ إذا أُكْرِمت على دين أو مروءة فذلك فليعجبك؛ فإن المروءة لا تزايلك في الدنيا، وإن الدين لا يزايلك في الآخرة. ص 156
35_ اعلم أن الجبن مقتلة، وأن الحرص محرمة. ص 156
36_ إذا بدهك أمران لا تدري أيهما أصوب فانظر أيهما أقرب إلى هواك فخالفه؛ فإن أكثر الصواب في خلاف الهوى. ص 158
37_ لُطفُك بصاحب صديقك أحسن عنده موقعاً من لطفك به في نفسه. ص 159
38_ اتق الفرح عند المحزون، واعلم أنه يحقد على المنطلق، ويشكر للمكتئب. ص 159
39_ البُغْضَةُ خوف، والمودة أمن. ص 159
40_ اعلم أن المستشار ليس بكفيل، وأن الرأي ليس بمضمون. ص 160
41_ إذا أشار عليك صاحبك برأي ثم لم تجد عاقبته على ما كنت تأمل _ فلا تجعل ذلك عليه ذنباً، ولا تلزمه لوماً وعذلاً. ص 160
42_ إذا كنت أنت المشير فعمل برأيك أو تركه فبدا صوابك _ فلا تمنن به، ولا تكثرن ذكره إن كان فيه نجاح، ولا تلمه عليه إن كان قد استبان في تركه ضرر بأن تقول: ألم أقل لك: افعل هذا؛ فإن هذا مجانب لأدب الحكماء. ص 160
43_ تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام، ومن حسن الاستماع إمهال المتكلم حتى ينقضي حديثه، وقلة التلفت إلى الجواب، والإقبال بالوجه، والنظر إلى المتكلم، والوعي لما يقول. ص 160
44_ إذا كنت في جماعة قوم أبداً فلا تعمَّنَّ جيلاً من الناس، أو أمة من الأمم بشتم ولا ذم؛ فإنك لا تدري لعلك تتناول بعض أعراض جلسائك مخطئاً؛ فلا تأمن مكافئتهم، أو متعمداً؛ فتنسب إلى السفه.(3/11)
ولا تذمن _ مع ذلك _ اسماً من أسماء الرجال أو النساء بأن تقول: إن هذا لقبيح من الأسماء؛ فإنك لا تدري لعل ذلك غير موافق لبعض جلسائك، ولعله يكون بعض أسماء الأَهْلِين والحُرَمِ.
ولا تستصغرن من هذا شيئاً؛ فكل ذلك يجرح القلب، وجرح اللسان أشد من جرح اليد. ص 162
45_ اعلم أن بعض شدة الحذر عونٌ عليك في ما تحذر، وأن بعض شدة الاتقاء مما يدعو إليك ما تتقي. ص 163
46_ واعلم أن الناس يخدعون أنفسهم بالتعريض والتوقيع بالرجال في التماس مثالبهم ومساويهم و نقيصتهم.
وكل ذلك أبين عند سامعيه من وضح الصبح؛ فلا تكونن من ذلك في غرور، ولا تجعلن نفسك من أهله. ص 163
47_ اعلم أن مِنْ تنكُّب(1) الأمور ما يسمى حذراً ومنه ما يسمى خوراً؛ فإن استطعت أن يكون جبنك في الأمر قبل مواقعتك إياه فافعل؛ فإن هذا الحذر.
ولا تنغمس فيه ثم تتهيَّبه؛ فإن هذا هو الخور؛ فإن الحكيم لا يخوض نهراً حتى يعلم مقدار غَوْرِه. ص 163
تحقيق عامر بن علي ياسين دار ابن خزيمة
=تعريف موجز بالكتاب+:
صيد الخاطر من أشهر كتب ابن الجوزي المولود × سنة 508 أو 509، أو 510.
وهذا الكتاب روضة غناء، وارفة الظلال، دانية القطوف، متنوعة الثمار.
وهذا الكتاب لا يختص بموضوع أو فن معين، بل هو متنوع الموضوعات، متعدد الفنون؛ ففيه تذكير، وتحذير، ونصح وإرشاد، وتوجيه لأهل العلم والعبادة، وكلام على الزواج، وأسراره، وعلاقة الرجل بالمرأة.
وفيه تحذير من الفتن، والذنوب، والمعاصي.
وفيه وعظ يلين القلوب، ويدنيها من علام الغيوب.
وفيه حث على إصلاح السرائر، ومراقبة الخلوات، وتجنب الريب، والموبقات.
وفيه حديث عن الحكم والمصالح، والحذر من الغفلة، إلى غير ذلك مما فيه صلاح المعاش والمعاد.
كل ذلك بعبارة مشرقة، وبيان خلاب.
=نقولات مختارة من كتاب صيد الخاطر+:
__________
(1) _ التنكب: التباعد .(3/12)
1_ من قارب الفتنة بعدت عنه السلامة، ومن ادعى الصبر وُكِلَ إلى نفسه، ورب نظرة لم تناظر(1).
وأحق الأشياء بالضبط والقهر: اللسان، والعين؛ فإياك أن تغتر بعزمك على ترك الهوى مع مقاربة الفتنة؛ فإن الهوى مُكَايد، وكم من شجاع في صف الحرب اغتيل، فأتاه ما لم يحتسب، ممن يأنف النظر إليه. ص 41
2_ ما رأيت أعظم فتنة من مقاربة الفتنة، وقل أن يقاربها إلا من يقع فيها، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه. ص350
فتبصر ولا تشم كل برق
واغضض الطرف تسترح من غرام
فبلاء الفتى موافقة النفس ... رب برق فيه صواعق حَيْنِ (2)
تكتسي فيه ثوبَ ذلٍّ وشينِ
وبدء الهوى طموح العينِ
3_ فكل ظالم معاقب في العاجل على ظلمه قبل الآجل، وكذلك كل مذنبٍ ذنباً، وهو معنى قوله _ تعالى _: [ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ] النساء 123.
وربما رأى العاصي سلامة بدنه؛ فظن ألا عقوبة، وغفلته عما عوقب به عقوبة.
وقد قال الحكماء: المعصية بعد المعصية عقاب المعصية، والحسنة بعد الحسنة ثواب الحسنة.
وربما كان العقاب العاجل معنويا ً، كما قال بعض أحبار بني إسرائيل: يا رب! كم أعصيك، ولا تعاقبني؟ فقيل له: كم أعاقبك، وأنت لا تدري؟ أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي؟ ص103 _ 104.
4_ الواجب على العاقل أن يحذر مغبة المعاصي؛ فإن نارها تحت الرماد، وربما تأخرت العقوبة، وربما جاءت مستعجِلة. ص339
5_ قد تَبْغَتُ العقوبات، وقد يؤخرها الحلم، والعاقل من إذا فعل خطيئة بادرها بالتوبة؛ فكم مغرور بإمهال العصاة لم يمهل.
وأسرع المعاصي عقوبةً ماخلا عن لذة تنسي النُهَى، فتكون كالمعاندة، والمبارزة، فإن كانت اعتراضاً على الخالق، أو منازعة له في عظمته، فتلك التي لا تُتلافى، خصوصا ً إذا وقعت من عارف بالله؛ فإنه يندر إهماله. ص500
__________
(1) 1_ أي لم تمهل؛ فأصابته بسهم، أو أوقعته في فتنة.
(2) _ الحَيْن : الهلاك.(3/13)
6_ أعجب الأشياء اغترار الإنسان بالسلامة، و تأميله الإصلاح فيما بعد، وليس لهذا الأمل منتهى ولا للاغترار حد؛ فكلما أصبح وأمسى معافى زاد الاغترار، وطال الأمل. ص532
7_ نظرت في الأدلة على الحق _ سبحانه وتعالى _ فوجدتها أكثر من الرمل، ورأيت من أعجبها: أن الإنسان يخفي مالا ير ضاه الله _ عز وجل _ فيظهره الله _ سبحانه _ عليه، ولو بعد حين، ويُنْطِق به الألسنة وإن لم يشاهده الناس، وربما أوقع صاحبه في آفة يفضحه بها بين الخلق؛ فيكون جوابا ً لكل ما أخفى من الذنوب؛ وذلك ليعلم الناس أن هنالك من يجازي على الزلل، ولا ينفع من قَدَرِه وقدرته حجاب، ولا استتار، ولا يضاع لديه عمل.
وكذلك يخفي الإنسان الطاعة، فتظهر عليه، ويتحدث الناس بها، وبأكثر منها، حتى إنهم لا يعرفون له ذنباً، ولا يذكرونه إلا بالمحاسن؛ ليُعلم أن هنالك رباً لا يُضِيع عَملَ عاملٍ.
وإن قلوب الناس لتعرف حال الشخص، وتحبه، أو تأباه، وتذمه، أو تمدحه وَفْقَ ما يتحقق بينه وبين الله _ تعالى _ فإنه يكفيه كل هم، ويدفع عنه كل شر.
وما أصلح عبد ما بينه وبين الخلق دون أن ينظر إلى الحق إلا انعكس مقصوده وعاد حامده ذاما ً. ص108 _ 109
8_ إن للخلوة تأثيراتٍ تَبِيْنُ في الجلوة؛ كم من مؤمن بالله _ عز وجل _ يحترمه عند الخلوات فيترك ما يشتهي حذراً من عقابه، أو رجاء لثوابه، أو إجلالاً له؛ فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عوداً هندياً على مجمر، فيفوح طيبه، فيستنشقه الخلائق، ولا يدرون أين هو.
وعلى قدر المجاهدة في ترك ما يهوى تقوى محبته، أو على مقدار زيادة دفع ذلك المحبوب المتروك يزيد الطيب، ويتفاوت تفاوت العود.
فترى عيون الخلق تعظم هذا الشخص، وألسنتهم تمدحه، ولا يعرفون ولا يقدرون على وصفه؛ لبعدهم عن حقيقة معرفته.(3/14)
وقد تمتد هذه الأراييح (1) بعد الموت على قدرها؛ فمنهم من يذكر بالخير مدة مديدة، ثم ينسى، ومنهم من يذكر مائة سنة ثم يخفى ذكره، وقبره (2)، ومنهم أعلام يبقى ذكرهم أبداً.
وعلى عكس هذا من هاب الخلق، ولم يحترم خلوته بالحق؛ فإنه على قدر مبارزته بالذنوب، وعلى مقادير تلك الذنوب يفوح منه ريح الكراهة؛ فتمقته القلوب؛ فإن قل مقدار ما جنى قل ذكر الألسن له بالخير، وبقي مجرد تعظيمه
وإن كثر كان قصارى الأمر سكوت الناس عنه، لا يمدحونه ولا يذمونه. ص 301 _ 302
9_ إنه بقدر إجلالكم لله _ عز وجل _ يجلكم وبمقدار تعظيم قدره واحترامه يُعظِّم أقداركم، وحرمتكم.
ولقد رأيت _ والله _ من أنفق عمره في العلم إلى أن كبرت سنه، ثم تعدى الحدود؛ فهان عند الخلق، وكانوا لا يلتفتون إليه مع غزارة علمه، وقوة مجاهدته.
ولقد رأيت من يراقب الله _ عز وجل _ في صبوته مع قصوره بالإضافة إلى ذلك العالم؛ فعظم الله قدره في القلوب، حتى عَلِقَتْهُ (3) ووصفته بما يزيد على ما فيه من الخير.
ورأيت من كان يرى الاستقامة إذا استقام، وإذا زاغ مال عنه اللطف.
ولولا عموم الستر، وشمول رحمة الكريم _ لافتضح هؤلاء المذكورون، غير أنه في الأغلب تأديب، أو تلطف في العقاب. ص336 _ 337
10_ في قوة قَهرِ الهوى لذة تزيد على كل لذة؛ ألا ترى إلى كل مغلوب بالهوى كيف يكون ذليلاً؛ لأنه قُهِرَ، بخلاف غالب الهوى؛ فإنه يكون قوي القلب عزيزاً؛ لأنه قَهَر. ص115
11_ بالله عليك! يا مرفوع القدر بالتقوى، لا تبع عزها بذل المعاصي، وصابر عطش الهوى في هجير المشتهى، وإن أمضَّ وأرمضَّ (4). ص252
12_ بالله عليك! تذوق حلاوة الكف عن المنهي؛ فإنها شجرة تثمر عز الدنيا وشرف الآخرة، ومتى اشتد عطشك إلى ما تهوى فابسط أنامل الرجاء إلى من عنده الرِّيُّ الكامل، وقل:
__________
(1) 1_ الأراييح: يعني الروائح الزكية.
(2) 2_ لا يضره إن خفي قبره.
(3) - يعني أحبته، وتعلقت به.
(4) 1_ أمض: آلم، وأرمض: أحرق.(3/15)
=قَدْ عِيلَ صَبْرُ الطَّبْعِ في سنيّه العجاف؛ فعجل لي العام الذي فيه أُغاث وأَعْصِر+. ص253
13_ إخواني! احذروا لجة هذا البحر، ولا تغتروا بسكونه، وعليكم بالساحل، ولازموا حصن التقوى؛ فالعقوبة مرة واعلموا أن في ملازمة التقوى مرارات من فقد الأغراض، والمشتهيات غير أنها في ضرب المثل كالحِمْيَةِ تُعْقِبُ صحة، والتخليط ربما جلب موت الفجأة. ص315
14_ ما من عبد أطلق نفسه في شيء ينافي التقوى _ وإن قل _ إلا وجد عقوبته عاجلة، أو آجلة.
ومن الاغترار أن تسيء؛ فترى إحساناً؛ فتظن أنك قد سومحت، وتنسى: [مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ] النساء: 123 ص313
15_ واعلم أن من أعظم المحن الاغترار بالسلامة بعد الذنب؛ فإن العقوبة تتأخر، ومن أعظم العقوبة ألا يحس الإنسان بها، وأن تكون في سلب الدين وطمس القلوب، وسوء الاختيار للنفس؛ فيكون من آثارها سلامة البدن، وبلوغ الأغراض. ص 314 _ 315
16_ فالحذر الحذر من عواقب الخطايا، والبدارَ البدارَ إلى محوها بالإنابة؛ فلها تأثيرات قبيحة إن أسرعت، وإلا اجتمعت، وجاءت. ص502
17_ لو ميز العاقل بين قضاء وطره لحظة، وانقضاء باقي العمر بالحسرة على قضاء ذلك الوطر _ لما قرب منه، ولو أعطي الدنيا، غير أن سكرة الهوى تحول بين الفكر وبين ذلك. ص321
18_ فأجود الأشياء قطع أسباب الفتن، وترك الترخص فيما يجوز إذا كان حاملا ًومؤديا ًإلى مالا يجوز. ص351
19_ فإياك أن تنظر إلى صورة نعيمهم يعني _ أرباب الدنيا _ فإنك تستطيبه لبعده عنك، ولو قد بلغته كرهته، ثم في ضمنه من محن الدنيا والآخرة مالا يوصف؛ فعليك بالقناعة مهما أمكن؛ ففيها سلامة الدنيا والدين.
وقد قيل لبعض الزهاد _ وعنده خبز يابس _: كيف تشتهي هذا؟ فقال: أتركه حتى أشتهيه. ص372(3/16)
20_ إخواني! لنفسي أقول؛ فمن له شِربٌ معي فَلْيَرِدْ: أيتها النفس! لقد أعطاكِ الله مالم تؤملي، وبلَّغكِ مالم تطلبي، وستر عليك من قبيحك ما لو فاح ضجت المشامُّ،(1) فما هذا الضجيج من فوات كمال الأغراض أمملوكة أنتِ أم حرة؟! أما علمتِ أنك في دار التكليف؟!
وهذا الخطاب ينبغي أن يكون للجهال؛ فأين دعواكِ المعرفة؟!
أتراه لو هبَّت نفحةٌ فأخذتِ البصرَ، كيف كانت تطيب لك الدنيا؟!
وا أسفاً عليكِ! لقد عشيتِ البصيرة التي هي أشرف، وما علمت كم أقول : عسى، ولعل، وأنت في الخطأ إلى قُدام.
قرُبتْ سفينة العمر من ساحل القبر، ومالكِ في المركب بضاعةٌ تربح، تلاعبت في بحر العمر ريحُ الضعف؛ فغرَّقتْ تلفيق القوى، وكأنْ قد فَصَلَتِ المركب، بلغتِ نهايةَ الأجل، وعينُ هواك تتلفَّتُ إلى الصبا!
بالله عليك، لا تُشْمِتي بكِ الأعداء!
هذا أقل الأقسام، وأوفى منها أن أقول: بالله عليك لا يفوتنَّكِ قَدَمُ سابقٍ مع قدرتك على قطع المضمار.
الخلوةَ الخلوةَ، واستحضري قرين العقل، وجولي في حيرة الفكر، واستدركي صُبابة الأجل قبل أن تميل بك الصَّبابة (2) عن الصواب.
واعجباً! كلما صعِد العُمُرُ نزلتِ! وكلما جدَّ الموتُ هزلتِ!
أتراك ممن خُتم له بِفتنةٍ، وقضيت عليه عند آخر عمره المحنة؟!
كان أولُ عُمُركِ خيراً من الأخير، كنتِ في زمن الشباب أصلح في زمن أيام المشيب...[وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ] العنكبوت:43
نسأل الله _ عز وجل _ ما لا يحصل إلا به، وهو توفيقه؛ إنه سميع مجيب. ص340 _ 342.
21_ ولقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مائتي ألف، وأسلم على يدي أكثر من مائتي نفس، وكم سالت عين متكبر بوعظي لم تكن تسيل، ويحق لمن تَلمَّحَ هذا أن يرجو التمام.
وربما لاحت أسباب الخوف بنظري إلى تقصيري وزللي.
__________
(1) _ المشام: الأنوف.
(2) _ صُبابة الأجل: بقية العمر، والصَّبابة: الهوى.(3/17)
ولقد جلستُ يوماً فرأيت حولي أكثر من عشرة آلاف ما فيهم إلا مَن رقَّ قلبه، أو دمعت عينه فقلت لنفسي: كيف بك إن نجوا وهلكتِ؟! فصحت بلسان وَجْدِي: إلهي وسيدي! إن قضيت عليَّ بالعذاب غداً فلا تعلمهم بعذابي؛ صيانة لكرمك، لا لأجلي؛ لأن لا يقولوا عَذَّبَ من دلَّ عليه.
إلهي قد قيل لنبيك " اقتل ابن أبيّ المنافق فقال: =لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه+.
إلهي! فاحفظ حسن عقائدهم فيَّ بكرمك أن تُعْلِمهم بعذاب الدليل عليك(1)، حاشاك _ والله يارب _ من تكدير الصافي. ص340_ 342
22_ بلغني عن بعض فساق القدماء أنه كان يقول: ما أرى العيش غير أن تتبع النفس هواها، فمخطئاً، أو مصيباً.
فتدبرت حال هذا وإذا به ميت النفس، ليس له أنفة على عرضه، ولا خوف عار، ومثل هذا ليس في مسلاخ (2) الآدميين. ص499
23_ قد جاء في الأثر: اللهم أرنا الأشياء كما هي.
وهذا كلام حسن غايةً، وأكثر الناس لا يرون الأشياء بعينها؛ فإنهم يرون الفاني كأنه باقٍ، ولا يكادون يتخايلون زوال ما هم فيه _ وإن علموا ذلك _ إلا أن عين الحس مشغولة بالنظر إلى الحاضر، ألا ترى زوال اللذة، وبقاء إثمها. ص 668
24_ تذكرت في سبب دخول جهنم فإذا هو المعاصي، فنظرت في المعاصي فإذا هي حاصلة في طلب اللذات، فنظرت في اللذات فإذا هي خِدَعٌ ليست بشيء، وفي ضمنها من الأكدار ما يصيِّرها نغصاً، فتخرج عن كونها لذاتٍ؛ فكيف يتبع العاقل نفسه، ويرضى بجهنم؛ لأجل هذه الأكدار؟. ص684
25_ إنما فضل العقل بتأمل العواقب، فأما القليل العقل فإنه يرى الحال الحاضرة، ولا ينظر إلى عاقبتها؛ فإن اللص يرى أخذ المال، وينسى قطع اليد، والبطال يرى لذة الراحة، وينسى ما تجني من فوات العلم، وكسب المال؛ فإذا كَبِرَ، فسئل عن علم لم يدر، وإذا احتاج سأل، فذل؛ فقد أربى ما حصل له من التأسف على لذة البطالة، ثم يفوته ثواب الآخرة بترك العمل في الدنيا.
__________
(1) _ يعني ابن الجوزي نفسه.
(2) _ مسلاخ: جلد(3/18)
وكذلك شارب الخمر يلتذُّ تلك الساعة، وينسى ما يجني من الآفات في الدنيا، والآخرة.
وكذلك الزنا فإن الإنسان يرى قضاء الشهوة، وينسى ما يجني من فضيحة الدنيا والحد، وربما كان للمرأة زوج، فألحقت الحمل من هذا به، وتسلسل الأمر.
فقس على هذه النبذة، وانتبه للعواقب، ولا تؤثر لذة تُفوِّت خيراً كثيرا ً، وصابر المشقة تُحَصِّلْ ربحاً وافراً. ص 754 _ 755
26_ من تفكر في عواقب الدنيا أخذ الحذر، ومن أيقن بطول الطريق تأهب للسفر. ص40
27_ رأيت كثيراً من الناس يتحرزون من رَشاسِ نجاسةٍ، أولا يتحاشَوْنَ من غِيبةٍ، ويكثِرونَ من الصَّدَقَةِ ولا يُبَالونَ بمعاملاتِ الرَّبا، ويتهجَّدون بالليل ويؤخِّرون الفريضةَ عن الوقتِ في أشياءَ يطول عدَدُها من حِفظِ فروعٍ وتضييع أصولٍ؛ فبحثت عن سبب ذلك، فوجدته من شيئين:
أحدُهُما: العادةُ.
والثاني: غَلَبَةُ الهوى في تحصيل المطلوبِ؛ فإنه قد يَغْلِبُ فلا يَتْرُكُ سَمعاً ولا بَصراً. ص290
28_ مَنْ رُزِقَ قلْبَاً طَيِّبًا، وَلذَّةَ مناجاةٍ فليراع حالَه، ولْيَتحَرَّزْ من التغييرِ، وإنما تدوم حاله بدوام التَّقوى. ص643
29_ مِنْ المخاطراتِ العظيمةِ تحديثُ العوامِّ بما لا تَحتمِلُهُ قلوبُهم، أَو بِما قد رَسَخَ في نفوسِهِم ضدُّه. ص674
30_ فَالله الله أََنْ تحدِّث مخلوقاً من العوام بما لا يتحمله دون احتيال وتلطف؛ فانه لا يزول ما في نفسه، أو يخاطر المحدِّث له بنفسه. ص675
31_ من اقتصر على ما يعلمه، فظنه كافياً استبد برأيه، وصار تعظيمه لنفسه مانعاً له من الاستفادة، والمذاكرةُ تبين له خطأه، وربما كان معظماً في النفوس فلم يُتَجاسر على الرد عليه، ولو أنه أظهر الاستفادة لأهديت إليه مساويه؛ فعاد عنها. ص206 _ 207
32_ غير أن اقتصار الرجل على علمه إذا مازجه نوع رؤيةٍ للنفس حبس عن إدراك الصواب، نعوذ بالله من ذلك. ص208(3/19)
33_ ينبغي للعاقل أن لا يتكلم في الخلوة عن أحد بشيء حتى يمثِّل ذلك الشيء ظاهراً مُعلَناً به ثم ينظر فيما يجني. ص453
34_ مما أفادتني تجارِبُ الزمان أنه لا ينبغي لأحد أن يظاهر بالعداوة أحداً
ما استطاع؛ لأنه ربما يحتاج إليه مهما كانت منزلته.
ولقد احتجتُ في عمري إلى ملاطفة أقوام ما خطر لي قط وقوعُ الحاجة إلى التلطف بهم. ص369
35_ اعلم أن المظاهرة بالعداوة قد تجلب أذىً من حيث لا يعلم، لأن المظاهرَ بالعداوة كشاهر السيف ينتظر مضرباً، وقد يلوح منه مضربٌ خفيٌّ إن اجتهد المتدرِّع في ستر نفسه، فيغتنمه ذلك العدو.
فينبغي لمن عاش في الدنيا أن يجتهد في أن لا يظاهر بالعداوة أحداً؛ لما بيَّنْتُ من وقوع احتياج الخلق بعضهم إلى بعض، وإقدار بعضهم على ضرر بعض.
وهذا فصل مفيد، تَبِيْنُ فائدته للإنسان مع تقلب الزمان. ص369 _ 370
36_ رأيت من الرأي القويم أن نفع التصانيف أكثر من نفع التعليم بالمشافهة؛ لأني أشافه في عمري عدداً من المتعلمين، وأشافه بتصنيفي خلقاً لا تحصى ما خلقوا بعد.
ودليل هذا أن انتفاع الناس بتصانيف المتقدمين أكثر من انتفاعهم بما يستفيدون من مشايخهم. ص386
37_ فينبغي للعالم أن يتوفر على التصانيف إن وفق للتصنيف المفيد؛ فإنه ليس كل من صَنَّفَ صَنَّفَ، وليس المقصود جمع شيء كيف كان، وإنما هي أسرار يطلع الله _ عز وجل _ عليها من شاء من عباده ويوفقه لكشفها؛ فيجمع ما فُرِّقَ، أو يرتب ماشُتِّتَ، أو يشرح ما أهمل، هذا هو التصنيف المفيد. ص386
38_ ومتى رزق العالمُ الغنِى عن الناس والخلوة؛ فإن كان له فهم يجلب التصانيف؛ فقد تكاملت لذته، وإن رزق فهماً يرتقي إلى معاملة الحق ومناجاته فقد تعجل دخول الجنة قبل الممات. ص394
39_ فإياك أن تساكن من آذيته، بل إن كان ولا بد فمن خارج، فما تؤمن الأحقاد. ص432
40_ ومن الخور إظهار العداوة للعدو. ص432(3/20)
41_ ومن أحسن التدبير التلطف بالأعداء إلى أن يمكن كسر شوكتهم، ولو لم يمكن ذاك كان اللطف سبباً في كفِّ أكفِّهم عن الأذى، وفيهم من يستحي لحسن فعلك؛ فيتغير قلبه لك. ص432
42_ رأيت أكثر الناس لا يتمالكون من إفشاء سرهم؛ فإذا ظهر؛ عاتبوا من أخبروا به.
فوا عجباً! كيف ضاقوا بحبسه ذرعاً، ثم لاموا من أفشاه؟ ! ص433
43_ ستر المصائب من جملة السر، لأن إظهارها يسر الشامت، ويؤلم المحب. ص434
44_ الحازم من عامل الناس بالظاهر، فلا يضيق صدره بسره؛ فإن فارقته امرأة أو صديق أو خادم _ لم يقدر أحدٌ منهم أن يقول فيه ما يكره. ص435
45_ من خلق له عقل ثاقب دلَّه على الصواب قبل الوصايا. ص435
46_ ما أبله من لا يعلم متى يأتيه الموت؛ وهو لا يستعد للقائه! ص438
47_ لقد غفل طلاب الدنيا عن اللذة فيها، وما اللذة فيها إلا شرف العلم، وزهرة العفة، وأنفة الحمَّية، وعز القناعة، وحلاوة الإفضال على الخلق. ص442
48_ متى رأيت صاحبك قد غضب، وأخذ يتكلم بما لا يصلح فلا ينبغي أن تعقد على ما يقول خِنصراً _ أي لا تأخذ ما يقول بعين الاعتبار _ ولا أن تؤاخذه به؛ فإن حاله حال السكران، لا يدري ما يجري، بل اصبر لفورته، ولا تعول عليها؛ فإن الشيطان قد غلبه، والطبع قد هاج، والعقل قد استتر.
ومتى أخذت في نفسك عليه، وأجبته بمقتضى فعله كنت كعاقل واجه مجنوناً، أو كمفيق عاتب مغمىً عليه، فالذنب لك.
بل انظر بعين الرحمة، وتلمَّح تصريف القدر له، وتَفَرَّج في لعب الطبع به، واعلم أنه إذا انتبه ندم على ما جرى، وعرف لك فضل الصبر.
وأقل الأقسام أن تسلمه فيما يفعل في غضبه إلى ما يستريح به.
وهذه الحالة ينبغي أن يتعلمها الولد عند غضب الوالد، والزوجة عند غضب الزوج؛ فتتركه يشتفي بما يقول، ولا تعول على ذلك؛ فسيعود نادما معتذراً.
ومتى قوبل على حالته، ومقالته، صارت العداوة متمكنة، وجازى في الإفاقة على ما فُعِلَ في حقه وقت السكر.(3/21)
وأكثر الناس على غير هذا الطريق؛ متى رأوا غضباناً قابلوه بما يقول ويعمل، وهذا على غير مقتضى الحكمة، بل الحكمة ما ذكرته [وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ]. ص468 _ 469
49_ كل من لا يتلمح العواقب، ولا يستعد لما يجوز وقوعه فليس بكامل العقل ص470
50_ فالعاقل من أخذ بالحزم في تصوير ما يجوز وقوعه، وعمل بمقتضى ذلك؛ فإن امتد به الأجل لم يضره، وإن وقع المخوف كان محترزاً. ص471
51_ بقدر صعود الإنسان في الدنيا تنزل رتبته في الآخرة. ص471
52_ الكمال عزيز، والكامل قليل الوجود.
فأول أسباب الكمال: تناسب الأعضاء، وحسن صورة الباطن؛ فصورة البدن تسمى خَلْقَا، وصورة الباطن تسمى خُلُقَاً.
ودليل كمال صورة البدن: حسن الصمت، واستعمال الأدب.
ودليل صورة الباطن: حسن الطبائع، والأخلاقِ؛ فالطبائع: العفة، والنزاهة، والأنفةُ من الجهل، ومباعدة الشَّرَه.
والأخلاق: الكرم، والإيثار، وستر العيوب، وابتداء المعروف، والحلم عن الجاهل.
فمن رزق هذه الأشياء: رَقَّتْهُ إلى الكمال، وظهر عنه أشرف الخلال، وإن نقصت خلة أوجبت النقص. ص477
53_ من الابتلاء العظيم إقامة الرجل في غير مقامه. ص479
54_ وليس في الابتلاء بقوة الأشياء إلا التسليم واللجأ إلى المُقَدِّر في الفرج، فيُرَى الرجل المؤمن الحازم يثبت لهذه العظائم، ولا يتغير قلبه، ولا ينطق بالشكوى لسانه. ص479
55_ سبحان من شغل كل شخص بفنٍّ؛ لتنام العيون. ص493
56_ ويندر من الخلق من يُلهمه الكمالَ وطلبَ الأفضل، والجمع بين العلوم والأعمال، ومعاملات القلوب، وتتفاوت أرباب هذه الحال؛ فسبحان من يخلق ما يشاء ويختار. ص493_494
57_ قد تتأخر العقوبة وتأتي في آخر العمر؛ فيا طول التعثير مع كبر السن لذنوب كانت في الشباب! ص501
58_ قد رُكِّبَ في الطباع حب التفضيل على الجنس؛ فما أحدٌ إلا وهو يحب أن يكون أعلى درجة من غيره.(3/22)
فإذا وقعت نكبة أوجبت نزوله عن مرتبة سواه؛ فينبغي له أن يتجلد بسَتْرِ تلك النكبة؛ لئلا يُرى بعين نقص، وليتجمل المتعفف حتى لا يُرى بعين الرحمة، وليتحامل المريض لئلا يَشْمَتَ به ذو العافية. ص504 _ 505
59_ وإنما العبد حقاً من يرضى ما يفعله الخالق؛ فإن سأل فأجيب رأى ذلك فضلاً، وإن منع رأى تصرف مالكٍ في مملوك؛ فلم يَجُلْ في قلبه اعتراض بحال. ص518
60_ رأيت سبب الهموم والغموم: الإعراض عن الله _عز وجل _، والإقبال على الدنيا، وكلما فات منها شيء وقع الغمُّ لفواته. ص542
61_ من البله أن تبادر عدواً أو حاسداً بالمخاصمة.
وإنما ينبغي إن عرفت حاله أن تظهر مما يوجب السلامة بينكما، إن اعتذر قبلتَ وإن أخذ في الخُصومة صفحتَ، وأريته أن الأمر قريب، ثم تبطن الحذر منه؛ فلا تثق به في حال، وتتجافاه باطناً مع إظهار المخالطة في الظاهر.
فإن أردت أن تؤذيه فأول ما تؤذيه به إصلاحك واجتهادك فيما يرفعك.
ومن أعظم العقوبة له الصفح عنه لله.
وإن بالغ في السب فبالغ في الصفح تَنُبْ عنك العوامُّ في شتمه، ويحمدك العلماء على حلمك.
وما تؤذيه به من ذلك، وتورثه به من الكمد ظاهراً وغيره في الباطن أضعافٌ وخيرٌ مما تؤذيه به من كلمة إذا قلتها سمعت أضعافها.
ثم بالخصومة تُعَلِّمُهُ أنك عدوه، فيأخذ الحذر، ويبسط اللسان.
وبالصفح يجهل ما في باطنك، فيمكنك حينئذ أن تشتفي منه.
أما أن تلقاه بما يؤذي دينك فيكون هو الذي قد اشتفى منك.
وما ظَفِر قط من ظفر به الإثم، بل الصفح الجميل.
وإنما يقع هذا ممن يرى أن تسليطه عليه: إما عقوبة لذنبٍ، أو لرفع درجةٍ، أو للابتلاءِ؛ فهو لا يرى الخصمَ، وإنما يرى القدر. ص555 _ 556
62_ العجب من الذي أنف الذل كيف لا يصبر على جافِّ الخبز، ولا يتعرض لمِنَنِ الأنذال؟ ! ص566
63_ وأعجب من هذا من يقدر أن يستعبد الأحرار بقليل العطاء الفاني ولا يفعل؛ فإن الحُرُّ لا يُشترى إلا بالإحسان، قال الشاعر:(3/23)
تفضل على من شئت واعْنَ بأمره
وكن ذا غنىً عمن تشاء من الورى
ومن كنت محتاجاً إليه وواقفاً ... فأنت ولو كان الأميرَ أميرُه
ولو كان سلطاناً فأنت نظيرُه
على طمع منه فأنت أسيره
ص567
64_ تفكرتُ في سبب هداية من يهتدي، وانتباه من يتيقظ من رقاد غفلته، فوجدت السبب الأكبر اختيار الحق عز وجل لذلك الشخص؛ كما قيل: إذا أرادك لأمر هيأك له. ص577
65_ عجبت لمن يعجب بصورته، ويختال في مشيته، وينسى مبدأ أمره! ص579
66_ وعلامة إثبات الكمال في العلم والعمل: الإقبال بالكلية على معاملة الحق ومحبته، واستيعاب الفضائل كلها، وسناء الهمة في نشران الكمال الممكن. ص584
67_ عجبت لمن يتصنع للناس بالزهد، يرجو بذلك قربه من قلوبهم، وينسى أن قلوبهم بيد من يعمل له؛ فإن رضي عمله ورآه خالصاً لفت القلوب إليه، وإن لم يره خالصاً أعرض بها عنه. ص 588
68_ من ضرورة الإخلاص ألا يقصد التفات القلوب إليه؛ فذاك يحصل لا بقصده، بل بكراهته. ص 588
69_ وليعلم الإنسان أن أعمالَه كُلَّها يعلمها الخلق جملةً، وإن لم يطلعوا عليها للصالح بالصلاح وإن لم يُشاهد منه ذلك. ص589
70_ فليتق اللهَ العبدُ، ويقصد مَنْ ينفعه قصده، ولا يتشاغل بمدح عَنْ قليل يبلى هُوَ وَهُمْ. ص589
71_ إياك والتأويلاتِ الفاسدةَ، والأهواءَ الغالبةَ؛ فإنك إن ترخصت بالدخول في بعضها جرًّك الأمر إلى الباقي، ولم تقدر على الخروج؛ لِموضع إلف الهوى. ص591
72_ ينبغي للعاقل أن يحترز غاية ما يمكنه؛ فإذا جرى القَدَرُ مع احترازه لَمْ يُلَمْ. ص601
73_ ما اعتمد أحدٌ أمراً إذا هم بشيء مثل التثبُّت؛ فإنه متى عمل بواقعةٍ من غير تأمل للعواقب _ كان الغالب عليه الندم، ولهذا أُمِرَ بالمشاورة؛ لأن الإنسان بالتثبت يفتكر، فتعرِض على نفسه الأحوال، وكأنه شاور، وقد قيل: خمير الرأي خير من فطيره.(3/24)
وأشد الناس تفريطاً من عمل مبادرة في واقعة من غير تثبت واستشارة، خصوصاً فيما يوجبه الغضب؛ فإنه طلب الهلاك أو الندم العظيم. ص605
74_ فالله الله! التثبت التثبت في كل الأمور! والنظر في عواقبها! خصوصاً الغضب المثير للخصومة، وتعجيل الطلاق. ص 625
75_ لو علم المرائي أن قلوب الذين يرائيهم بيد من يعصيه_لما فعل. ص625
76_ ينبغي للإنسان أن يجتهد في جمع همه؛ لينفرد قلبُه بذكر الله _ سبحانه وتعالى _ وإنفاذ أمره والتهيؤ للقائه، وذلك إنما يحصل بقطع القواطع والامتناع عن الشواغل، وما يمكن قطع القواطع جملة؛ فينبغي أن يقطع ما يمكن منها. ص 637
77_ دليل صحة نبينا محمد " أجلى من الشمس. ص 656
78_ إني أعجب من عاقل يرى استيلاء الموت على أقاربه وجِيرانه؛ كيف يطيب عيشه؟ ! خصوصا إذا علت سنُّه. ص661
79_ إذا رأيت قليل العقل في أصل الوضع؛ فلا ترجُ خيره.
فأما إن كان وافر العقل، لكنه يغلب عليه الهوى؛ فارجه. ص681
80_ لا ينبغي للإنسان أن يحمل على بدنه ما لا يطيق؛ فإن البدن كالراحلة إن لم يرفق بها لم تصل بالراكب. ص713
81_ المصيبة العظمى رضا الإنسان عن نفسه، واقتناعه بعلمه، وهذه محنة قد عمت أكثر الخلق. ص729 _ 730
82_ تفكرت في نفسي يوماً تَفكُّرَ مُحَقِّقٍ فحاسبتها قبل أن تحاسب، ووزنتها قبل أن توزن؛ فرأيت اللطف الرباني.
فمنذ الطفولة وإلى الآن أرى لطفاً بعد لطف، وستراً على قبيح، وعفواً عما يوجب عقوبة، وما أرى لذلك إلا شكراً باللسان.
ولقد تفكرت في خطايا لو عوقبت ببعضها لهلكت سريعاً، ولو كُشِفَ للناس بعضُها لاستحييت.
ولا يعتقد معتقد عند سماع هذا أنها من كبائر الذنوب حتى يظن فيَّ ما يظن في الفساق، بل هي ذنوب قبيحة في حق مثلي وقعت بتأويلات فاسدة؛ فصرت إذا دعوتُ أقول: اللهم بحمدك وسترك عليَّ اغفرلي.
ثم طالبت نفسي بالشكر على ذلك فما وجدته كما ينبغي.(3/25)
ثم أنا أتقاضى القدرَ مراداتي، ولا أتقاضى بصبر على مكروه، ولا بشكر على نعمة؛ فأخذت أنوح على تقصيري في شكر المنعم، وكوني أتلذذ بإيراد العلم من غير تحقيق عمل به، وقد كنت أرجو مقامات الكبار فذهب العمر وما حصل المقصود؛ فوجدت أبا الوفاء ابن عقيل قد ناح نحو ما نحتُ؛ فأعجبتني نياحته(1) فكتبتها ههنا.
قال لنفسه:يا رعناءُ! تقوِّمين الألفاظ؛ ليقال: مناظرٌ، وثمرة هذا أن يقال: يا مناظر، كما يقال للمصارع: الفاره.
ضيعت أعز الأشياء وأنفسها عند العقلاء _وهي آخر أيام العمر_ حتى شاع لك بين من يموت غداً اسم مناظر، ثم يُنسى الذاكر والمذكور إذا درست القلوب، هذا إن تأخر الأمر إلى موتك، بل ربما نشأ شابٌّ أفَرَهُ منكِ، فموَّهوا له، وصار الاسم له، والعقلاء(2) عن الله تشاغلوا بما إذا انطووا نَشَرَهم(3)، وهو العمل بالعلم، والنظر الخالص لنفوسهم.
أفٍّ لنفسي! وقد سطرت عدة مجلدات في فنون(4) العلم، وما عبق بها فضيلة.(5)
إن نوظِرَتْ شَمَخَتْ، وإن نوصِحَتْ تَعَجْرَفتْ (6)، وإن لاحت الدنيا طارتْ إليها طيرانَ الرَّخَمِ، وسقطتْ عليها سقوطَ الغراب على الجيف؛ فليتها أَخَذَتْ أخذَ المضطر من الميتة، توفر في المخالطة عيوباً تُبلى، ولا تحتشم نَظرَ الحقِّ إليها، وإن انكسر لها غَرَضٌ تضجرت(7)، فإن أمِدَّت بالنعم اشتغلت عن المنعم.
أف والله مني، اليوم على وجه الأرض، وغداً تحتها.
__________
(1) _ يعني بكاءه على نفسه، ولومها لتقصيرها في جنب الله.
(2) _ يعني بهم: الذين يعقلون عنه أمره ونهيه.
(3) _ يعني إذا ماتوا أحياهم، وجعل الناس يذكرونهم.
(4) _ لعله يشير إلى كتابه (الفنون ) الذي بلغ ثمانمائة مجلد كما ذكر ذلك ابن رجب الحنبلي في كتابه ذيل طبقات الحنابلة 1/ 156.
(5) _ يعني أنه ما استفاد مما علم، ولم يعلق به شئ من ذلك، وهذا من تواضعه.
(6) _ يعني تكبرت واستنكفت عن قبول الحق.
(7) _ يعني أن نفسه تضجر وتسخط إذا لم تأتها الأمور كما تريد.(3/26)
والله إن نَتَنَ جسدي بعد ثلاث تحت التراب أقل من نتن خلائقي وأنا بين الأصحاب.
والله إنني قد بهرني حِلْمُ هذا الكريم عني؛ كيف يستُرني وأنا أتهتك، ويجمعني وأنا أتشتَّت؟! وغداً يقال: مات الحبر العالم الصالح، ولو عرفوني حق معرفتي بنفسي ما دفنوني.
والله لأنادِيَنَّ على نفسي نداء المُكَشِّفين معائب الأعداء، ولأنوحنَّ نوح الثاكلين للأبناء؛ إذ لا نائح لي ينوح علي هذه المصائب المكتومة، والخلال المغطاة التي قد سترها مَنْ خَبَرَها، وغطَّاها من علمها.
والله ما أجد لنفسي خَلَّةً أستحسن أن أقول متوسلاً بها: اللهم اغفر لي كذا بكذا.
والله ما التفتُّ قط إلا وجدت منه _سبحانه_ بِرَّاً يكفيني، ووقاية تحميني مع تسلط الأعداء، ولا عَرَضَتْ حاجةٌ فمددت يدي إلا قضاها.
هذا فعله معي وهو ربٌّ غني عني، وهذا فعلي وأنا عبد فقير إليه!!
ولا عذر لي فأقول: ما دريتُ، أوسهوتُ، والله لقد خلقني خلقاً صحيحاً سليماً، ونوَّر قلبي بالفطنة، حتى إن الغائباتِ والمكنوناتِ تنكشف لفهمي.
فواحسرتاه على عمر انقضى فيما لا يطابق الرضا، واحِرْمَاني لمقامات الرجال الفطناء، ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله، وا شَماتَة العدو بي، وا خيبةَ من أحسن الظن بي إذا شهدت الجوارحُ عليّ، وا خذلاني عند إقامة الحجة.
سخر _ والله _ مني الشيطان وأنا الفطِن.
اللهم توبةً خالصةً من هذه الأقذار، ونهضةً صادقةً لتصفية ما بقي من الأكدار، وقد جئتك بعد الخمسين وأنا من خَلَقِ المتاع، وأبى العلم إلا أن يأخذ بي إلى معدن الكرم، وليس لي وسيلةٌ إلا التأسف والندم؛ فوالله ما عصيتك جاهلاً بمقدار نعمك، ولا ناسياً لما أسلفت من كرمك؛ فاغفرلي سالف فعلي+. ص736_739.
83_ قلَّ أن يجري لأحد آفة إلا ويستحقها؛ غير أن تلك الآفات المجازى بها غائبة عنا، ورأينا الجزاء وحده؛ فَسلِّم تَسْلَم، واحذر كلمة اعتراض، أو إضمار؛ فربما أخرجتك من دائرة الإسلام. ص744 _ 745(3/27)
ط. دار الكتب العلمية
= تعريف بالكتاب +:
هذه رسالة تمثل عصارة تجارب ابن حزم في الحياة، وفي شؤون الناس، وهي _كما يقول د. إحسان عباس_: نوع من المذكرات، والخواطر التي دونت على مر الزمن، وكانت حصيلة التجربة المتدرجة.
ولعل أكثرها إنما دوِّن في سن كبيرة؛ لأنها تشير إلى الهدوء، والنضج في محاكمة الناس، والأشياء.
=مختارات من الكتاب+:
قال ×:
1_ لا تبذل نفسك إلا فيما هو أعلى منها، وليس ذلك إلا في ذات الله _ عز وجل _ في دعاء إلى حق، وفي حماية للحريم، وفي دفع هوان لم يوجبه عليك خالقك _ تعالى _ وفي نصر مظلوم.
وباذلُ نفسِه في عرض دنيا كبائع الياقوت بالحصى. ص16
2_ العاقل لا يرى لنفسه ثمنا ًإلا الجنة. ص16
3_ لإبليس في ذم الرياء حِبَالةُ؛ وذلك أنه رب ممتنع من فعل خير؛ خوف أن يظن به الرياء. ص16
4_ العقل والراحة هو اطراح المبالاة بكلام الناس، واستعمال المبالاة بكلام الخالق _ عز وجل _ بل هذا باب العقل والراحة كلها. ص17
5_ من قدَّر أن يسلم من طعن الناس وعيبهم فهو مجنون. ص17
6_ ليس بين الفضائل والرذائل، ولا بين الطاعات والمعاصي إلا نفار النفس وأنسها فقط؛ فالسعيد من أنست نفسه بالفضائل والطاعات، ونفرت نفسه من الرذائل والمعاصي.
والشقي بالعكس من ذلك، وليس هاهنا إلا صنع الله _ تعالى _ وحفظه. ص18
7_ إذا نام المرء خرج عن الدنيا، ونسي كل سرور وكل حزن؛ فلو رتب نفسه في يقظته على ذلك _ أيضاً _ لسَعُدَ السعادة التامة. ص20
8_ لو لم يكن من فضل العلم إلا أن الجهال يهابونك ويجلونك، وأن العلماء يحبونك ويكرمونك لكان ذلك سببا ًفي وجوب طلبه؛ فكيف بسائر فضله في الدنيا والآخرة؟
ولو لم يكن من نقص الجهل إلا أن صاحبه يحسد العلماء، ويغبط نظراءه من الجهال _ لكان ذلك سببا ً إلى وجوب الفرار عنه؛ فكيف بسائر رذائله في الدنيا والآخرة؟ ص21(3/28)
9_ الباخل بالعلم ألأم من الباخل بالمال؛ لأن الباخل بالمال أشفق من فناء ما بيده، والباخل بالعلم بخل بما لا يفنى على النفقة، ولا يفارقه مع البذل. ص22
10_ أجلُّ العلوم ما قربك من خالقك _ تعالى _ وما أعانك على الوصول إلى رضاه. ص22
11_ انظر في المال، والحال، والصحة إلى من دونك، وانظر في الدين، والعلم والفضائل إلى من فوقك. ص 23
12_ وقف العقل عند أنه لا ينفع إن لم يؤيد بتوفيق في الدنيا، أو بسعد في الدنيا. ص23
13_ العلوم الغامضة كالدواء القوي، يصلح الأجساد القوية، ويهلك الأجساد الضعيفة، وكذلك العلوم الغامضة تزيد العقل القوي جودةً، وتصفيه من كل آفة، وتهلك ذا العقل الضعيف.
14_ احرص على أن توصف بسلامة الجانب، وتَحَفَّظْ من أن توصف بالدهاء؛ فيكثر المتحفظون منك، حتى ربما أضر ذلك بك، وربما قتلك. ص26
15_ إذا تكاثرت الهموم سقطت كلها. ص26
16_ وطن نفسك على ما تكره _ يَقِلَّ همك إذا أتاك، ويعظم سرورك ويتضاعف إذا أتاك ما تحب مما لم تكن قدَّرتَه. ص26
17_ طوبى لمن علم من عيوب نفسه أكثر مما يعلم الناس منها. ص26
18_ لا تحقر شيئا ًمن عمل غد ٍأن تحققه بأن تُعَجِّله اليوم وإن قلَّ؛ فإن قليل الأعمال يجتمع كثيرها، وربما أعجز أمرها عند ذلك؛ فيبطل الكل. ص27 _ 28
19_ لا تحقر شيئا ً مما ترجو به تثقيل ميزانك يوم البعث أن تعجله الآن وإن قلَّ؛ فإنه يحط عنك كثيراً، ولو اجتمع لقذف بك في النار. ص28
20_ إنما تأنس النَّفسُ بالنفس؛ فأما الجسد فمستثقل مهرومٌ به، ودليل ذلك استعجال المرء بدفن جسد حبيبه بعد أن فارقته نفسه، وأسفه لذهاب النفس، وإن كانت الجثة حاضرة بين يديه. ص30
21_ من استخف بحرمات الله فلا تأمنه على شيء مما تشفق عليه. ص29
22_ لم أر لإبليس أصيد ولا أقبح من كلمتين ألقاهما على ألسنة دعاته:
إحداهما: اعتذار من أساء بأن فلاناً أساء قبله.(3/29)
والثانية: استسهال الإنسان أن يسيء اليوم؛ لأنه قد أساء أمس، أو أن يسيء في وجه ما؛ لأنه قد أساء في غيره؛ فقد صارت هاتان الكلمتان عذراً مسهلتين للشر، ومدخلتين في حد ما يعرف، ويجمُل، ولا ينكر.
23_ حد العفة أن تغض بصرك وجميع جوارحك عن الأجسام التي لا تحل لك؛ فما عدا ذلك فهو عهر، وما نقص حتى يمُسِك عما أحل الله _ تعالى _ فهو ضعف وعجز. ص32
24_ حد العدل أن تعطي من نفسك الواجب وتأخذه، وحد الجور أن تأخذه ولا تعطيه. ص32
25_ حد الكرم أن تعطي من نفسك الحق طائعاً، وتتجافى عن حقك لغيرك قادراً، وهو فضل _ أيضاً _. ص32
26_ إهمال ساعة يفسد رياضة سنة. ص33
27_ لو علم الناقص نقصه لكان كاملاً. ص38
28_ لا يخلو مخلوق من عيب؛ فالسعيد من قلت عيوبه ودقت. ص38
29_ استبقاك من عاتبك. ص39
30_ لا ترغب فيمن يزهد فيك؛ فتحصل على الخيبة والخزي. ص39
31_ لا تزهد فيمن يرغب فيك؛ فإنه باب من أبواب الظلم، وترك مقارضة الإحسان، وهذا قبيح. ص39
32_ لا تنصح على شرط القبول، ولا تشفع على شرط الإجابة، ولا تهب على شرط الإثابة، ولكن على سبيل استعمال الفضل، وتأدية ما عليك من النصيحة والشفاعة وبذل المعروف. ص41
33_ أصول الفضائل كلها أربعة عنها تتركب كل فضيلة، وهي العدل، والفهم، والنجدة، والجود. ص59
34_ أصول الرذائل كلها أربعة عنها تتركب كل رذيلة وهي الجور، والجهل، والجبن، والشح. ص59
35_ وبالجملة فكلما نقص العقل توهم صاحبه أنه أوفر الناس عقلاً، وأكمل تمييزاً ص76
36_ العاقل هو من لا يفارق ما أوجبه تمييزه. ص77
37_ من العجائب أن الفضائل مستحسنة ومستثقلة، والرذائل مستقبحة ومستخفة. ص80
38_ من أراد الإنصاف فليتوهم نفسه مكان خصمه؛ فإنه يلوح له وجه تَعَسُّفه. ص80
39_ مِن بديع ما يقع في الحسد قول الحاسد إذا سمع إنساناً يُغْرِب في علم ما: هذا شيء بارد لم يُتَقَدَّم إليه، ولا قاله قبله أحد.(3/30)
فإن سمع من يبين ما قد قاله غيره قال: هذا بارد وقد قيل قبله.
وهذه طائفة سوء قد نصبت أنفسها للقعود على طريق العلم، يصدون الناس عنها؛ ليكثر نظراؤهم من الجهال. ص77 _ 78
40_ لا عيب على من مال بطبعه إلى بعض القبائح، ولو أنه أشد العيوب وأعظم الرذائل ما لم يظهره بقول أو فعل، بل يكاد يكون أحمد ممن أعانه طبعه على الفضائل.
ولا تكون مغالبة الطبع الفاسد إلا عن قوة عقل فاضل. ص78 _ 79
41_ الثبات الذي هو صحة العَقْد، والثبات الذي هو اللجاج مشتبهان اشتباهاً لا يفرق بينهما إلا عارف بكيفية الأخلاق.
والفرق بينهما أن اللجاج هو ما كان على الباطل، أو ما فعله الفاعل نصراً لما نشب فيه، وقد لاح له فساده، أو لم يَلُحْ له صوابه ولا فساده، وهذا مذموم، وضده الإنصاف.
وأما الثبات الذي هو صحة العقد فإنما يكون على الحق، أو على ما اعتقد المرء حقا ًما لم يلح له باطله، وهذا محمود، وضده الاضطراب.
وإنما يلام بعض هذين لأنه ضيع تدبر ما ثبت عليه، وترك البحث عما التزم أحق هو أم باطل. ص57
42_ لا تكلف صديقك إلا مثل ما تبذله له من نفسك؛ فإن طلبت أكثر فأنت ظالم، ولا تكسب إلا على شرط الفقد، ولا تتولَّ إلا على شرط العزل، و إلا فأنت مضرٌّ بنفسك خبيث السيرة. ص44
43_ إذا نصحت ففي الخلاء، وبكلام ليِّن، ولا تسند سب من تحدثه إلى غيرك؛ فتكون نمَّاماً؛ فإن خشَّنت كلامك في النصيحة فذلك إغراء وتنفير، وقد قال الله_ تعالى _: [فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً] وقال رسول الله ": =ولا تُنَفِّرا+.
وإذا نصحت بشرط القبول منك فأنت ظالم، ولعلك مخطئ في وجه نصحك؛ فتكون مطالباً بقبول خطئك، وبترك الصواب. ص48
44_ لكل شيء فائدة؛ ولقد انتفعت بمحك أهل الجهل فائدة عظيمة، وهي أنه توقد طبعي، واحتدم خاطري، وحمي فكري وتهيج نشاطي، فكان ذلك سبباً إلى تواليف عظيمة المنفعة، ولولا استثارتهم ساكني، واقتداحهم كامني ما انبعثت لتلك التواليف ص48(3/31)
45_ لا تصاهر إلى صديق، ولا تبايعْه؛ فما رأينا هذين العملين إلا سبباً للقطيعة _ وإن ظن أهل الجهل أن فيهما تأكيداً للصلة_ فليس كذلك؛ لأن هذين العقدين داعيان كلَّ واحدٍ منهما إلى طلب حظ نفسه، والمؤثرون على أنفسهم قليل جداً؛ فإذا اجتمع طلب كل امرئ حظَّ نفسه وقعت المنازعة، ومع وقوعها فساد المروءة ص48 _ 49
46_ الطمع أصل لكل ذل، ولكل هم، وهو خلق سوء ذميم، وضده نزاهة النفس. ص52
47_ من امتُحن بقرب من يكره كمن امتُحن ببعد من يحب، ولا فرق. ص53
48_ إذا دعا المحبُّ في السلوِّ فإجابته مضمونة، ودعوته مجابة. ص53
49_ اقتنع بمن عندك يقنع بك من عندك ص53
50_ السعيد في المحبة هو من ابتلى بمن يقدر أن يلقي عليه قفله، ولا تلحقه في مواصلته تبعة في الله _ عز وجل _ ولا ملامة الناس. ص53
51_ اثنان عظمت راحتهما: أحدهما في غاية المدح، والآخر في غاية الذم، وهما مطَّرح الدنيا، ومطرح الحياء. ص60
52_ من عجيب تدبير الله _ عز وجل _ للعالَم أن كل شيء اشتدت الحاجة إليه كان ذلك أهون له، وتأمل ذلك في الماء فما فوقه.
وكل ما شيء اشتد الغنى عنه كان ذلك أعزَّ له، وتأمل في الياقوت الأحمر فما دونه. ص61
53_ الخيانة في الحُرُم أشد من الخيانة في الدماء. ص79
54_ غاية الخير أن يسلم عدوك من ظلمك، ومن تركك إياه للظلم. ص80
55_ قلما رأيت أمراً أمكن فضيِّع إلا فات؛ فلم يمكن بعد. ص81
56_ كل من غلبت عليه طبيعة فإنه _ وإن بلغ الغاية من الحزم والحذر _ مصروع إذا كويد من قبلها. ص81
57_ كثرة الريب تعلمها صاحبها الكذب، لكثرة ضرورته إلى الاعتذار بالكذب؛ فَيَضْرى عليه، ويستسهله. ص82
58_ أعدل الشهود على المطبوع على الصدق: وجهه؛ لظهور الاسترابة عليه إن وقع في كذبة، أوهم بها.
وأعدل الشهود على الكذاب لسانه؛ لاضطرابه، ونقض بعض كلامه بعضاً. ص82(3/32)
59_ اللقاء يذهب بالسخائم؛ فكأن نظر العين للعين يصلح القلوب؛ فلا يسؤك لقاء صديقك بعدوك؛ فإن ذلك يفتِّر أمره عنده. ص82
ط. المكتب الإسلامي
1_ وكلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته لقضاء حاجته، ودفع ضرورته _ قويت عبوديته له، وحريته مما سواه؛ فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه. ص59
2_ فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن؛ فإن من استُعبد بدنُه، واسْتُرقَّ، وأسر _ لا يبالي إذا كان قلبه مستريحاً من ذلك، مطمئناً، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص.
وأما إذا كان القلب الذي هو ملك البدن رقيقاً، مستعبداً، مُتيماً لغير الله _ فهذا هو الذل، والأسر المحض، والعبودية الذليلة لما استعبد القلب. ص96
3_ فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس.
قال النبي ": =ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس+ رواه الشيخان.
وهذا _ لعمر الله _ إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة، فأما من استعبد قلبه صورةٌ محرمة: امرأة، أو صبي _ فهذا هو العذاب الذي لا يدانيه عذاب. ص97
4_ وهؤلاء عشاق الصور من أعظم الناس عذاباً، وأقلهم ثواباً؛ فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقاً بها، مستعبداً لها _ اجتمع له من أنواع الشر و الفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى؛ فدوام تعلق القلب بها بلا فعل الفاحشة أشد ضرراً عليه ممن يفعل ذنباً ثم يتوب، ويزول أثره من قلبه.
وهؤلاء يشبهون بالسكارى، والمجانين كما قيل:
سُكرانِ: سُكْرُ هوىً وسكر مدامةٍ
وقيل: ... ومتى إفاقة من به سُكران
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم:
العشق لا يستفيق الدهرَ صاحبُه ... العشق أعظم مما بالمجانين
وإنما يصرع المجنون في حين
ص98(3/33)
5_ ومن أعظم أسباب هذا البلاء _ يعني العشق _ إعراض القلب عن الله؛ فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله، والإخلاص له لم يكن عنده شيءٌ قطُّ أحلى من ذلك، ولا ألذُّ، ولا أمتع، ولا أطيب.
والإنسان لا يترك محبوباً إلا بمحبوب آخر يكون أحبَّ إليه منه، أو خوفاً من مكروه؛ فالحب الفاسد إنما ينصرف عن القلب بالحب الصالح، أو بالخوف من الضرر.
قال الله _ تعالى _ في حق يوسف:[كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ] يوسف 24.
فالله يصرف عن عبده ما يسوؤه من الميل إلى الصور، والتعلق بها، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله.
ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية لله، والإخلاص له بحيث تغلبه نفسه على اتباع هواها؛ فإذا ذاق طعم الإخلاص، وقوي في قلبه انقهر بلا علاج. ص99
6_ قال _تعالى_: [إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ] العنكبوت 45.
فإن الصلاة فيها دفع مكروه، وهو الفحشاء والمنكر، وفيها تحصيل محبوب، وهو ذكر الله.
وحصول هذا المحبوب أكبر من دفع ذلك المكروه؛ فإن ذكر الله عبادة، وعبادة القلب مقصودة لذاتها، وأما اندفاع الشر فهو مقصود لغيره على سبيل التبع. ص99 _ 100
7_ فجعل _ سبحانه _ غض البصر، وحفظ الفرج هو أقوى تزكية للنفوس، وزكاة النفوس تتضمن زوالَ جميع الشرور من الفواحش، والظلم، والشرك، والكذب، وغير ذلك. ص100 _101
8_ فالقلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا ينعم، ولا يسر، ولا يلتذ، ولا يطيب، ولا يسكن، ولا يطمئن إلا بعبادة ربه، وحبه، والإنابة إليه.
ولو حصل له كلُّ ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن، ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه من حيث هو معبوده، ومحبوبه، ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح، والسرور، واللذة، والمتعة، والسكون، والطمأنينة.(3/34)
وهذا لا يحصل إلا بإعانة الله له؛ فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله؛ فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة [إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] فإنه لو أعين على حصول كل ما يحبه، ويطلبه، ويشتهيه، ويريده، ولم يحصل له عبادة ربه _ فلن يحصل إلا على الألم، والحسرة، والعذاب، ولن يَخْلُصَ من آلام الدنيا، ونكد عيشها إلا بإخلاص الحب له؛ بحيث يكون الله غاية مراده، ونهاية مقصوده. ص138
9_ وبذلك يصرف الله عن أهل الإخلاص لله السوء والفحشاء كما قال _تعالى _: [كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ] يوسف 24 فإن المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته ما يمنعه من محبة غيره؛ إذ ليس عند القلب السليم أحلى، ولا ألذُّ، ولا أطيب، ولا أسر، ولا أنعم من حلاوة الإيمان المتضمن عبوديته لله، وإخلاص الدين له، وذلك يقتضي انجذاب القلب إلى الله، فيصير القلب منيباً إلى الله، خائفاً منه، راغباً، راهباً. ص139 _ 140
10_ وإذا كان العبد مخلصاً له اجتباه ربه، فأحيا قلبه، واجتذبه إليه، فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء، ويخاف ضد ذلك.
بخلاف القلب الذي لم يخلص لله؛ فإنه فيه طلباً، وإرادة، وحباً مطلقاً، فيهوى كلَّ ما يسنح له، ويتشبث بما يهواه، كالغصن أي نسيم مرَّ به عطفه، وأماله، فتارة تجتذبه الصور المحرمة، وغير المحرمة، فيبقى أسيراً عبداً لمن لو اتخذه هو عبداً له لكان ذلك عيباً ونقصاً وذماً.
وتارة يجتذبه الشرف والرئاسة، فترضيه الكلمة، وتغضبه الكلمة، ويستعبده من يثني عليه ولو بالباطل، ويعادي من يذمه ولو بالحق.
وتارة يستعبده الدرهم والدينار، وأمثال ذلك من الأمور التي تستعبد القلوبَ، والقلوبُ تهواها، فيتخذ إلهه هواه، ويتبع بغير هدى من الله.(3/35)
ومن لم يكن خالصاً لله، عبدا ًله، قد صار قلبه مُعَبَّداً لربه وحده، لا شريك له بحيث يكون الله أحب إليه مما سواه، ويكون ذليلاً له خاضعاً، وإلا استعبدته الكائنات، واستولت على قلبه الشياطين، وصار فيه من السوء و الفحشاء ما لا يعلمه إلا الله، وهذا أمر ضروري لا حيلة فيه. ص140 _ 142
وهو من مجلدين، بتحقيق الدكتور محمد رشاد سالم ×
1_ فإن الله أمر بالعدل في الحكم، والعدل قد يعرف بالرأي، وقد يعرف بالنص. 1/8
2_ النصوص دالة على عامة الفروع الواقعة، كما يعرفه من يتحرى ذلك ويقصد الإفتاء بموجب الكتاب والسنة ودلالتها، وهذا يعرفه من يتأمل، كمن يفتي في اليوم بمائة فتيا، أو مائتين، أو ثلاثمائة، أوأكثر، أو أقل، وأنا قد جربت ذلك.
ومن تدبر ذلك رأى أهل النصوص دائماً أقدر على الإفتاء، وأنفع للمسلمين في ذلك من أهل الرأي المُحْدَث؛ فإن الذي رأيناه دائماً أن أهل رأي الكوفة من أقل الناس علماً بالفتيا، وأقلهم منفعة للمسلمين مع كثرة عددهم، وما لهم من سلطان وكثرة بما يتناولونه من الأموال الوقفية والسلطانية وغير ذلك.
ثم إنهم في الفتوى من أقل الناس منفعة، قل أن يجيبوا فيها، وإن أجابوا فقل أن يجيبوا بجواب شافٍ، وأما كونهم يجيبون بحجة فهم من أبعد الناس عن ذلك. 1/12
3_ جميع الرسل أخبرت بيوم القيامة، خلاف ما تزعم طوائف من الفلاسفة وأهل الكلام: أن المعاد الجسماني لم يخبر به إلا محمد وعيسى، ونحو ذلك. 1/17
4_ كل علم دين لا يطلب من القرآن فهو ضلال، كفاسد كلام الفلاسفة والمتكلمة والمتصوفة والمتفقهة.
وكل عاقل يترك كتاب الله مريداً للعلو في الأرض والفساد فإن الله يقصمه؛ فالضال لم يحصل له المطلوب بل يعذب بالعمل الذي لا فائدة فيه، والجبار حصَّل لذة فقصمه الله عليها؛ فهذا عذب بإزاء لذاته التي طلبها بالباطل، وذلك يعذب بسعيه الباطل الذي لم يفده. 1/ 21(3/36)
5_ والوُسْعُ: هو ما تسعه النفس، فلا تضيق عنه، ولا تعجز عنه؛ فالوسع فعْل بمعنى مفعول، كالجهد. 1/27
6_ وإذا كان كذلك فما عجز الإنسان عن عمله واعتقاده حتى يعتقد ويقول ضده خطأ أو نسياناً _ فذلك مغفور له. 1/28
7_ والبدعة مقرونة بالفرقة، كما أن السنة مقرونة بالجماعة؛ فيقال: أهل السنة والجماعة، كما يقال: أهل البدعة والفرقة، وقد بسطنا هذا كله في غير هذا الموضع. 1/42
8_ الفقه: هو معرفة أحكام أفعال العباد سواء كانت تلك المعرفة علماً أو ظناً، أو نحو ذلك. 1/55
9_ علم الفرائض من علم الخاصة، حتى إن كثيراً من الفقهاء لا يعرفه. 1/58
10_ والمسلم الصادق إذا عبد الله بما شرع فتح الله عليه أنوار الهداية في مدة قريبة. 1/100
11_ وأما حديث السبعين ألفاً، فلم يَصِفْهُمْ بترك سائر التطبب، وإنما وصفهم بترك الاكتواء والاسترقاء، والاكتواءُ مكروهٌ، وقد نهى عنه في غير هذا الحديث لما قال: =وأنا أنهى أمتي عن الكي+.
والمسترقي لم يفعل شيئاً إلا اعتماده على الراقي؛ فتوكله على الله _ سبحانه وحده لا شريك له _ أنفع له من ذلك.
وهذا الجواب الآخر، وهو أن المسترقى يضعف توكله على الله؛ فإنه إنما طلب دعاء الغير ورقيته؛ فاعتمادُ قلبِه على الله وحده، وتوكله عليه أكمل لإيمانه، وأنفع له. 1/156_ 157
12_ أهل السنة في كل مقام أصح نقلاً وعقلاً من غيرهم. 1/205
13_ قال عبدالله بن المبارك: رب رجل في الإسلام له قدم حسن، وآثار صالحة، كانت منه الهفوة والزلة، لا يقتدى به في هفوته وزلته. 1/219
14_ قال الشافعي: الشعر كلام، فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيحه. 1/243
15_ ولهذا لما سئل القاسم بن محمد عن الغناء، فقال للسائل: يا ابن أخي أرأيت إذا ميز الله يوم القيامة بين الحق والباطل؛ ففي أيهما يجعل الغناء؟ فقال: في الباطل، قال: فماذا بعد الحق إلا الضلال؟. 1/278
16_ الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل. 1/308(3/37)
17_ فإن الصلاة _ كما ذكر الله _ تنهى عن الفحشاء والمنكر.
وهذا مجرب محسوس يجد الإنسان من نفسه أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ويجد أهل هذا السماع =يعني الغناء+ أن نفوسهم تميل إلى الفحشاء والمنكر. 1/318 _ 319
18_ فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مستلزماً من الفساد أكثر مما فيه من الصلاح لم يكن مشروعاً. 1/330
19_ بخلاف من أحب المحرمات مؤمناً بأنها من المحرمات؛ فإن من أحب الخمر، والغناء، والبَغِيَّ، والمخنَّثَ مؤمناً بأن الله يكره ذلك ويبغضه، فإنه لا يحبه محبة محضة، بل عقله وإيمانه يبغض هذا الفعل ويكرهه، ولكن قد غلبه هواه _ فهذا قد يرحمه الله: إما بتوبة إذا قوي ما في إيمانه من بغض ذلك وكراهته حتى دفع حب الهوى، وإما بحسنات ماحية، وإما بمصائب مكفرة، وإما بغير ذلك. 1/348
20_ فالرجال إذا اختلطوا بالنساء كان بمنزلة اختلاط النار والحطب. 1/361
21_ وهذا الحسن والجمال الذي يكون عن الأعمال الصالحة في القلب يسري إلى الوجه.
والقبح والشين الذي يكون عن الأعمال الفاسدة في القلب يسري إلى الوجه كما تقدم.
ثم إن ذلك يقوى بقوة الأعمال الصالحة والأعمال الفاسدة؛ فكلما كثر البر والتقوى قوي الحسن والجمال، وكلما قوي الإثم والعدوان قوي القبح والشين، حتى ينسخ ذلك ما كان للصورة من حسن وقبح؛ فكم ممن لم تكن صورته حسنة، ولكن من الأعمال الصالحة ما عظم به جماله وبهاؤه حتى ظهر ذلك على صورته؛ ولهذا يظهر ذلك ظهوراً بيّناً عند الإصرار على القبائح في آخر العمر عند قرب الموت؛ فنرى وجوه أهل السنة والطاعة كلما كبروا ازداد حسنها وبهاؤها، حتى يكون أ حدهم في كبره أحسن وأجمل منه في صغره.
ونجد وجوه أهل البدعة والمعصية كلما كبروا عظم قبحها وشينها، حتى لا يستطيع النظر إليها من كان منبهراً بها في حال الصغر، لجمال صورتها. 1/365(3/38)
22_ وشهوات الغي مُسْتَكِنَّةٌ في النفوس، فإذا حصلت القدرة قامت المحنة، فإما شقي وإما سعيد، ويتوب الله على من تاب؛ فأهل الامتحان إما أن يرتفعوا، وإما أن ينخفضوا. 1/373
23_ وأما الجمال الخاص فهو _ سبحانه _ جميل يحب الجمال، والجمال الذي لِلْخُلُق من العلم، والإيمان والتقوى أعظم من الجمال الذي لِلْخَلْق وهو الصورة الظاهرة.
وكذلك الجميل من اللباس الظاهر؛ فلباس التقوى أعظم وأكمل، وهو يحب الجمال الذي للباس التقوى أعظم مما يحب الجمال الذي للباس الرِّياش، ويحب الجمال الذي للخُلُق أعظم مما يحب الجمال الذي للخَلْق. 1/441 _ 442
24_ وكذلك الصور الجميلة من الرجال أو النساء؛ فإن أحدهم إذا كان خلقه سيئاً بأن يكون فاجراً، أو كافراً معلناً، أو منافقاًَ _ كان البغض، والمقت لِخُلُقِه، ودينه مستعلياً على ما فيه من الجمال، كما قال _ تعالى _ عن المنافقين: [وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ] المنافقون 4 .
وقال: [وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا] البقرة 204.
فهؤلاء إنما أعجبه صورُهم الظاهرةُ للبصر، وأقوالُهم الظاهرةُ للسمع؛ لما فيه من الأمر المعجب.
لكن لما كانت حقائق أخلاقهم التي هي أَمْلَكُ بهم مشتملة على ما هو من أبغض الأشياء، وأمقتها إليه _ لم ينفعهم حسن الصورة والكلام. 1/445
25_ فالذي يورثه العشق من نقص العقل، والعلم، وفساد الدين والخلق، والاشتغال عن مصالح الدين والدنيا _ أضعاف ما يتضمنه من جنس المحمود.
وأصدق شاهد على ذلك ما يعرف من أحوال الأمم، وسماع أخبار الناس في ذلك؛ فهو يغني عن معاينة ذلك وتجربته.
ومن جرب ذلك، أو عاينه اعتبر بما فيه كفاية؛ فلم يوجد قط عشق إلا وضرره أعظم من منفعته. 1/459
26_ التوبة هي جماع الرجوع من السيئات إلى الحسنات، ولهذا لا يحبط جميع السيئات إلا التوبة.(3/39)
والردة هي جماع الرجوع من الحسنات إلى السيئات، ولهذا لا يحبط جميع الحسنات إلا الردة عن الإيمان. 1/463
27_ فأعظم المراتب ذكر الله بالقلب واللسان، ثم ذكر الله بالقلب، ثم ذكر الله باللسان. 2/ 17
28_ فبعض الواجب خير من تركه كله. 2/27
29_ وكم ممن يتشوف إلى الدرجات العالية التي لا يقدر أن يقوم بحقوقها؛ فيكون وصوله إليها وبالاً في حقه.
وهذا في أمر الدنيا، كما قال _تعالى _:[وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنْ الصَّالِحِينَ [75] فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [76] فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ] التوبة 2/55
30_ وغالب من يتعرض للمحن والابتلاء ليرتفع بها ينخفض بها؛ لعدم ثباته في المحن، بخلاف من ابتلاه الحق ابتداءاً، كما قال _تعالى _: [وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْن الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ]آل عمران: 143.
وقال: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ [2] كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ] الصف.
وقال النبي ": =يا عبدالرحمن لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها+.
وقال: =إذا سمعتم بالطاعون ببلد فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منها+. 2/56
31_ والغلط مع حسن القصد وسلامته، وصلاح الرجل وفضله ودينه، وزهده وورعه وكراماته _كثير جداً؛ فليس من شرط ولي الله أن يكون معصوماً من الخطأ والغلط، بل ولا من الذنوب. 2/93(3/40)
32_ النفس لها أهواء وشهوات تلتذ بنيلها وإدراكها، والعقل والعلم بما في تلك الأفعال من المضرة في الدنيا والآخرة يمنعها عن ذلك، فإذا زال العقل الحافظ انبسطت النفس في أهوائها. 2/144
33_ فاعلم أن اللذة، والسرور أمر مطلوب، بل هو مقصود كل حي. 2/148
34_ وإذا كانت اللذة مطلوبة لنفسها فهي إنما تذم إذا أعقبت ألماً أعظم منها، أو منعت لذة خيراً منها، وتحمد إذا أعانت على اللذة المستقرة، وهو نعيم الآخرة، التي هي دائمة عظيمة. 2/151
35_ ليس كل الخلق مأمورين بالكمال، ولا يمكن ذلك فيهم، فإذا فعلوا ما به يدخلون الجنة لم يحرم عليهم مالا يمنعهم من دخولها.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي " أنه قال: =كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع+.
هذا مع العلم بأن الجنة يدخلها كثير من النساء والرجال أكثر من الذين كملوا من الطائفتين. 2/156 _ 157
36_ ومن العلم ما يضر بعض النفوس؛ لاستعانتها به على أغراضها الفاسدة، فيكون بمنزلة السلاح للمحارب، والمال للفاجر. 2/160
37_ من الناس من لو جنَّ لكان خيراً له، فإنه يرتفع عنه التكليف، وبالعقل يقع في الكفر والفسوق والعصيان. 2/161
38_ وأما الكفار فزوال عقل الكافر خير له وللمسلمين، أما له فلأنه لا يصده عن ذكر الله وعن الصلاة، بل يصده عن الكفر والفسق، وأما للمسلمين فلأن السكر يوقع بينهم العداوة والبغضاء؛ فيكون ذلك خيراً للمؤمنين.
وليس هذا إباحة للخمر والسكر، ولكنه دفع لشر الشرين بأدناهما؛ ولهذا كنت آمر أصحابنا ألا يمنعوا الخمر عن أعداء المسلمين من التتار والكرج ونحوهم، وأقول: إذا شربوا لم يصدهم ذلك عن ذكر الله وعن الصلاة، بل عن الكفر والفساد في الأرض، ثم إنه يوقع بينهم العداوة والبغضاء، وذلك مصلحة للمسلمين، فَصَحْوُهم شرٌّ من سكرهم، فلا خير في إعانتهم على الصحو، بل قد يستحب _أو يجب _ دفع شر هؤلاء بما يمكن من سكر وغيره. 2/165 _ 166(3/41)
39_ فإن الذنوب التي يبتلى بها العباد يسقط عنهم عذابها إما بتوبة تجبُّ ما قبلها، وإما باستغفار، وإما بحسنات يذهبن السيئات، وإما بدعاء المسلمين وشفاعتهم، أو بما يفعلونه له من البر، وإما بشفاعة النبي " وغيره فيه يوم القيامة، وإما أن يكفر الله خطاياه بما يصيبه من المصائب، فقد تواتر عن النبي " أن ما يصيب المسلم من أذى شوكةٍ فما فوقها، إلا حط الله بها خطاياه كما تحط الشجرة اليابسة ورقها. 2/184 _ 185
40_ وأصناف الحسنات التي تُكَفَّر بها السيئات كثيرة أكثر من السيئات، من أنواع البر جميعها، كما جاء ذلك في الأحاديث النبوية المطابقة لكتاب الله _ تعالى_. 2/185
41_ فإن الفقيه كل الفقيه لا يُؤِّيس الناس من رحمة الله، ولا يجرِّؤهم على معاصي الله، واستحلالُ المحرماتِ كفرٌ، واليأسُ من رحمة الله كفر. 2/190
42_ ولهذا يؤمر المؤمنون أن يقابلوا السيئات بضدها من الحسنات، كما يقابل الطبيب المرض بضده، فيؤمر المؤمن بأن يصلح نفسه، وذلك بشيئين: بفعل الحسنات، وبترك السيئات، مع وجود ما ينفي الحسنات، ويقتضي السيئات وهذه أربعة أنواع.
ويؤمر أيضاً بإصلاح غيره بهذه الأنواع الأربعة بحسب قدرته وإمكانه، قال _تعالى _: [وَالْعَصْرِ [1] إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [2] إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [3] العصر: 1_3 2/259
43_ وإذا عظمت المحنة كان ذلك للمؤمن الصالح سبباً لعلو الدرجة، وعظيم الأجر. 2/260
44_ فلا بد من الصبر على فعل الحسن المأمور، وترك السيئ المحظور، ويدخل في ذلك الصبر على الأذى وعلى ما يقال، والصبر على ما يصيبه من المكاره، والصبر على البطر عند النعم، وغير ذلك من أنواع الصبر. 2/261
45_ ولا يمكن العبد أن يصبر إن لم يكن له ما يطمئن له ويتنعم به، ويغتذي به، وهو اليقين. 2/261(3/42)
46_ ولهذا يقرن الله _ تعالى _ بين الصلاة والزكاة تارة، وهي الإحسان إلى الخلق، وبينها وبين الصبر تارة.
ولا بد من الثلاثة الصلاة، والزكاة، والصبر؛ لاتقوم مصلحة المؤمنين إلا بذلك في صلاح نفوسهم وإصلاح غيرهم، لاسيما كلما قويت الفتنة والمحنة؛ فإن الحاجة إلى ذلك تكون أشد، فالحاجة إلى السماحة والصبر عامة لجميع بني آدم، لا تقوم مصلحة دينهم ولا دنياهم إلا بهما. 2/262 _ 263
47_ ولما كان صلاح بني آدم لا يتم في دينهم ودنياهم إلا بالشجاعة والكرم بيَّن الله _ سبحانه _ أنه من تولَّى عنه بترك الجهاد بنفسه أبدل الله به من يقوم بذلك، ومن تولى عنه بإنفاق ماله أبدل الله به من يقوم بذلك، فقال: [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ [38] إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [39] التوبة. 2/269
48_ وبالشجاعة والكرم في سبيل الله فضَّل الله السابقين فقال: [ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ] الحديد: 10. 2/270
49_ وملاك الشجاعة الصبر الذي يتضمن قوة القلب وثباته ولهذا قال_ تعالى_: [ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ] البقرة: 249.(3/43)
وقال _ تعالى _: [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [45] وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [46] الأنفال.
والشجاعة ليست هي قوةَ البدن؛ فقد يكون الرجل قوي البدن ضعيف القلب، وإنما هي قوة القلب وثباته، فإن القتالَ مدارُه على قوة البدن، وصنعته للقتال، وعلى قوة القلب، وخبرته به.
والمحمود منهما ما كان بعلم ومعرفة، دون التهور الذي لا يفكر صاحبه ولا يميز بين المحمود والمذموم؛ ولهذا كان القوي الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب حتى يفعل ما يصلح دون مالا يصلح.
فأما المغلوب حين غضبه فليس هو بشجاع ولا شديد. 2/270 _ 271
50_ ولهذا كان الناس أربعة أصناف: من يعمل لله بشجاعة وبسماحة، فهؤلاء هم المؤمنون المستحقون للجنة.
ومن يعمل لغير الله بشجاعة وسماحة، فهذا ينتفع بذلك في الدنيا، وليس له في الآخرة من خلاق.
ومن يعمل لله لكن بلا شجاعة ولا سماحة، فهذا فيه من النفاق ونقص الإيمان بقدر ذلك.
ومن لا يعمل لله ولا فيه شجاعة ولا سماحة فهذا ليس له دنيا ولا آخرة. 2/285
تحقيق د. محمد رشاد سالم ويتكون من مجلدين
1_ ثم أخبر عنهم _ أي عن الأبرار في سورة الإنسان _ بإطعام الطعام على محبتهم له، وذلك يدل على نفاسته عندهم، وحاجتهم إليه.
وما كان كذلك فالنفوس به أشح، والقلوب به أعلق، واليد له أمسك؛ فإذا بذلوه في هذه الحال فهم لما سواه من حقوق العباد أبذل. 1/72(3/44)
2_ ولما كان لا سبيل إلى الصبر إلا بتعويض القلب بشيء هو أحب إليه من فوات ما يصبر على فوته _ أمره بأن يذكر ربه _ سبحانه _ بكرة وأصيلا؛ فإن ذكره أعظم العون على تحمل مشاق الصبر، وأن يصبر لربه بالليل؛ فيكون قيامه بالليل عوناً على ما هو بصدده بالنهار، ومادة لقوته ظاهراً وباطناً، ولنعيمه عاجلاً وآجلاً. 1/75
3_ والعبد هو فقير دائماً إلى الله من كل وجه؛ من جهة أنه معبوده، وأنه مستعانه، فلا يأتي بالنعم إلا هو، ولا يَصْلُح حال العبد إلا بعبادته.
وهو مذنب _ أيضاً _ لا بد له من الذنوب؛ فهو دائماً فقير مذنب؛ فيحتاج دائماً إلى الغفور الرحيم؛ الغفور الذي يغفر ذنوبه، والرحيم الذي يرحمه، فينعم عليه، ويحسن إليه؛ فهو دائماً بين إنعام الرب، وذنوب نفسه. 1/116
4_ والمحبة المحمودة هي النافعة، وهي التي تجلب لصاحبها ما ينفعه وهو السعادة.
والضارة هي التي تجلب لصاحبها ما يضره، وهو الشقاء. 2/202
5_ ففي قلوب بني آدم محبة وإرادة لما يتألهونه، ويعبدونه، وذلك هو قوام قلوبهم، وصلاح نفوسهم، كما أن فيهم محبةً لما يَطْعمونه، وينكحونه، وبذلك تصلح حياتهم، ويدوم شملهم.
وحاجتهم إلى التألُّه أعظم من حاجتهم إلى الغذاء؛ فإن الغذاء إذا فُقِد يفسد الجسم، وبفقد التأله تفسد النفس. 2/242
6_ قيل: إن العشق هو الإفراط في الحب حتى يزيد على القدر الواجب؛ فإذا أفرط كان مذموماً فاسداً مفسداً للقلب والجسم كما قال _ تعالى _: [ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ] الأحزاب32.
فمن صار مُفْرِطاً صار مريضاً كالإفراط في الغضب، والإفراط في الفرح، وفي الحزن. 2/240
7_ وقيل: إن العشق هو فساد الإدراك، والتخيلِ، والمعرفةِ؛ فإن العاشق يخيل له المعشوق على خلاف ما هو به حتى يصيبَه ما يصيبُه من داء العشق، ولو أدركه على الوجه الصحيح لم يبلغ إلى حد العشق وإن حصل له محبة وعلاقة. 2/243(3/45)
8_ ولهذا لا يبتلى بالعشق إلا من فيه نوع شرك في الدين، وضعف إخلاص لله. 2/266
9_ ولهذا تجد القوم الظالمين من أعظم الناس فجوراً، وفساداً، وطلباً لما يُرَوِّحون به أنفسهم من مسموع، ومنظور، ومشموم، ومأكول، ومشروب.
ومع هذا فلا تطمئن قلوبهم بشيء من ذلك.
هذا فيما ينالونه من اللذة، وأما ما يخافونه من الأعداء فهم أعظم الناس خوفاً، ولا عيشة لخائف.
وأما العاجز منهم فهو في عذاب عظيم، لا يزال في أسف على ما فاته، وعلى ما أصابه.
وأما المؤمن فهو _ مع مقدرته _ له من الإرادة الصالحة، والعلوم النافعة ما يوجب طمأنينة قلبه، وانشراح صدره بما يفعله من الأعمال الصالحة، وله من الطمأنينة وقرة العين ما لا يمكن وصفه.
وهو مع عجزه _ أيضاً _ له من أنواع الإرادات الصالحة، والعلوم النافعة التي يتنعم بها _ ما لا يمكن وصفه. 2/362 _ 363
10_ وكل هذا محسوس مجرب، وإنما يقع غَلَطُ أكثرِ الناس أنه قد أحس بظاهر من لذات أهل الفجور، وذاقها، ولم يذق لذات أهل البر، ولم يخبرها. 2/263
11_ فالذين يقتصدون في المآكل نعيمهم بها أكثر من نعيم المسرفين فيها؛ فإن أولئك إذا أدمنوها وألفوها لا يبقى لهذا عندهم كبير لذة مع أنهم قد لا يصبرون عنها، وتكثر أمراضهم بسببها. 2/240
ط. دار الكتاب العربي، تحقيق محمد عثمان الخشت
1_ للعبد ستر بينه وبين الله، وستر بينه وبين الناس؛ فمن هتك الستر الذي بينه وبين الله هتك الله الستر الذي بينه وبين الناس.
2_ للعبد ربٌ هو ملاقيه، وبيت هو ساكنه؛ فينبغي له أن يسترضي ربه قبل لقائه، ويعمر بيته قبل انتقاله إليه.
3_ إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن اللهِ والدارِ الآخرةِ، والموتُ يقطعك عن الدنيا وأهلها.
4_ الدنيا من أولها إلى آخرها لا تساوي غم ساعة؛ فكيف بغم العمر؟ !
5_ محبوب اليوم يعقب المكروه غداً، ومكروه اليوم يعقب الراحة غداً.(3/46)
6_ أعظم الربح في الدنيا أن تشغل نفسك كل وقت بما هو أولى بها، وأنفع لها في معادها.
7_ كيف يكون عاقلاً من باع الجنة بشهوة ساعة؟.
8_ يخرج العارف من الدنيا ولم يقض وطره من شيئين: بكائه على نفسه، وثنائه على ربه.
9_ المخلوق إذا خفته استوحشت منه، وهربت منه، والرب _ تعالى _ إذا خفته أنست به، وقربت إليه.
10_ لو نفع العلم بلا عمل لما ذم الله _ سبحانه _ أحبار أهل الكتاب، ولو نفع العمل بلا إخلاص لما ذم المنافقين.
11_ دافع الخطرة؛ فإن لم تفعل صارت شهوة وهمة؛ فإن لم تدافعها صارت فعلاً، فإن لم تتداركه بضده صار عادة؛ فيصعب عليك الانتقال عنها.
12_ مَنْ عَظُم وقار الله في قلبه أن يعصيه _ وقَّره الله في قلوب الخلق أن يذلوه.
13_ مثال تولُّد الطاعة، ونموِّها، وتزايدها _ كمثل نواة غرستها، فصارت شجرة، ثم أثمرت، فأكلتَ ثمرها، وغرستَ نواها؛ فكلما أثمر منها شيء جنيت ثمره، وغرست نواه.
وكذلك تداعي المعاصي؛ فليتدبر اللبيب هذا المثال؛ فمن ثواب الحسنةِ الحسنةُ بعدها، ومن عقوبة السيئة السيئةُ بعدها.
14_ ليس العجب من مملوك يتذلل لله، ولا يمل خدمته مع حاجته وفقره؛ فذلك هو الأصل.
إنما العجب من مالك يتحبب إلى مملوكه بصنوف إنعامه، ويتودد إليه بأنواع إحسانه مع غناه عنه.
15_ إياك والمعاصي؛ فإنها أذلت عزَّ[اسجدوا ]وأخرجت إقطاع[اسكن].
16_ الذنوب جراحات، ورب جرح وقع في مقتل.
17_ لو خرج عقلك من سلطان هواك عادت الدولة له.
18_ إذا عرضت نظرة لا تحل فاعلم أنها مسعر حربٍ؛ فاستتر منها بحجاب [ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ ] فقد سلمت من الأثر، وكفى الله المؤمنين القتال.
19_ اشتر نفسك؛ فالسوق قائمة، والثمن موجود.
20_ لا بد من سِنَةِ الغفلة، ورُقاد الهوى، ولكن كن خفيفَ النوم.
21_ اخرج بالعزم من هذا الفناء الضيق، المحشوِّ بالآفات إلى الفناء الرحب، الذي فيه ما لا عين رأت؛ فهناك لا يتعذر مطلوب، ولا يفقد محبوب.(3/47)
22_ قيل لبعض العباد: إلى كم تتعب نفسك؟ قال: راحَتها أريد.
23_ القواطع محنٌ يتبين بها الصادق من الكاذب؛ فإذا خضتها انقلبت أعواناً لك، توصلك إلى المقصود.
24_ الدنيا كامرأة بغيٍّ لا تثبت مع زوج، وإنما تخطب الأزواج؛ ليستحسنوا عليها؛ فلا ترضَ بالدياثة.
25_ من أعجب الأشياء أن تعرفه، ثم لا تحبه، وأن تسمع داعِيَهُ ثم تتأخر عن الإجابة، وأن تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره، وأن تعرف قدر غضبه ثم تتعرض له، وأن تذوق ألم الوحشة في معصيته ثم لا تطلب الأنس بطاعته، وأن تذوق عصرة القلب في غير حديثه والحديث عنه ثم لا تشتاق إلى انشراح الصدر بذكره و مناجاته، وأن تذوق العذاب عند تعلق القلب بغيره، ولا تهرب منه إلى نعيم الإقبال عليه، والإنابة إليه.
26_ و أعجب من هذا علمك أنك لا بد لك منه، وأنك أحوج شيء إليه وأنت عنه معرض، وفيما يبعدك عنه راغب.
27_ لما رأى المتيقظون سطوةَ الدنيا بأهلها، وخداع الأمل لأربابه، وتملك الشيطان، وقياده النفوس،
ورأوا الدولة للنفس الأمارة _ لجئوا إلى حصن التعرض، والالتجاء كما يلتجأ العبد المذعور إلى حرم سيده.
28_ اشتر نفسك اليوم؛ فإن السوقَ قائمة، والثمن موجود، والبضائع رخيصة، وسيأتي على تلك السوق والبضائع يومٌ لا تصل فيه إلى قليل، ولا كثير [ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ] [ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ ].
29_ العمل بغير إخلاص، ولا اقتداء كالمسافر يملأ جرابه رملاً يثقله، ولا ينفعه.
30_ إذا حملت على القلب هموم الدنيا وأثقالها، وتهاونت بأوراده التي هي قوته وحياته كنت كالمسافر الذي يحمِّل دابته فوق طاقتها، ولا يوفيها علفها؛ فما أسرع ما تقف به.
31_ من تلمح حلاوة العافية هانت عليه مرارة الصبر.
32_ ألفتَ عجز العادة؛ فلو علت بك همتك ربا المعالي لاحت لك أنوار العزائم.
33_ في الطبع شَرَهٌ، والحِمْية أَوْفَقُ.
34_ البخيل فقير لا يؤجر على فقره.(3/48)
35_ الصبر على عطش الضر، ولا الشرب من شِرْعة مَنٍّ.
36_ لا تسأل سوى مولاك؛ فسؤال العبد غير سيده تشنيع عليه.
37_ غرس الخلوة يثمر الأنس.
38_ استوحش ممالا يدوم معك، واستأنس بمن لا يفارقك.
39_ إذا خرجت من عدوك لفظةُ سفهٍ فلا تُلْحِقْها بمثلها تُلْقِحها، ونسل الخصام مذموم.
40_ أوثق غضبك بسلسلة الحلم؛ فإنه كلب إن أفلت أتلف.
41_ يا مستفتحاً باب المعاش بغير إقليد التقوى! كيف توسع طريق الخطايا، وتشكو ضيق الرزق؟
42_ لو وقفت عند مراد التقوى لم يفتك مراد.
43_ المعاصي سد في باب الكسب، وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه.
44_ من أراد من العمال أن يعرف قدره عند السلطان فلينظر ماذا يوليه من العمل، وبأي شغل يشغله.
45_ الدنيا لا تساوي نقل أقدامك إليها؛ فكيف تعدو خلفها.
46_ الدنيا جيفة، والأسد لا يقف على الجيف.
47_ ودع ابن عون رجلاً فقال: عليك بتقوى الله؛ فإن المتقي ليس عليه وحشه.
48_ قال زيد بن أسلم: كان يقال: من اتقى الله أحبه الناس وإن كرهوا.
49_ قال الثوري لابن أبي ذئب: إن اتقيت الله كفاك الناس، وإن اتقيت الناس فلن يغنوا عنك من الله شيئاً.
50_ قال سليمان بن داود: أوتينا مما أوتي الناس، ومما لم يؤتوا، وعلِّمنا مما علِّم الناس ومما لم يعلموا؛ فلم نجد شيئاً أفضل من تقوى الله في السر والعلانية، والعدل في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى.
51_ جمع النبي " بين تقوى الله، وحسن الخلق؛ لأن تقوى الله تصلح ما بين العبد وبين ربه، وحسن الخلق يصلح ما بينه وبين خلقه؛ فتقوى الله توجب له محبة الله، وحسن الخلق يدعو الناس إلى محبته.
52_ من عرف نفسه اشتغل بإصلاحها عن عيوب الناس.
53_ من عرف ربه اشتغل به عن هوى نفسه.
54_ أخسر الناس صفقة من اشتغل عن الله بنفسه، بل أخسر منه من اشتغل بالناس عن نفسه.
55_ ما ضُرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، والبعد عن الله.
56_ خلقت النار؛ لإذابة القلوب القاسية.(3/49)
57_ أبعد القلوب عن الله القلب القاسي.
58_ إذا قسا القلب قحطت العين.
59_ قسوة القلب من أربعة أشياء، إذا جاوزت قد الحاجة: الأكل، والنوم، والكلام، والمخالطة.
60_ كما أن البدن إذا مرض لم ينفع فيه الطعام والشراب _ فكذلك القلب إذا مرض بالشهوات لم تنجع فيه المواعظ.
61_ من أراد صفاء قلبه فليؤثر الله على شهوته.
62_ القلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عن الله بقدر تعلقها بها.
63_ القلوب آنية الله في أرضه، فأحبه إليه أرقها، وأصلبها، وأصفاها.
64_ خرابُ القلب من الأمن والغفلة، وعمارتُه من الخشية والذكر.
65_ من وطن قلبه عند ربه سكن واستراح، ومن أرسله في الناس اضطرب واشتد به القلق.
66_ القلب يمرض كما يمرض البدن، وشفاؤه في التوبة والحمية، ويصدأ كما تصدأ المرآة، وجلاؤه بالذكر، ويعرى كما يعرى الجسم، وزينته التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن، وطعامه وشرابه المعرفة، والتوكل، والمحبة، والإنابة.
67_ للقلب ستة مواطن يجول فيها لا سابع لها: ثلاثة سافلة، وثلاثة عالية؛ فالسافلة دنيا تتزين له، ونفس تحدثه، وعدوٌ يوسوس له؛ فهذه مواطن الأرواح السافلة التي لا تزال تجول فيها.
والثلاثة العالية علم يتبين له، وعقل يرشده، وإله يعبده، والقلوب جوالة في هذه المواطن.
68_ إذا استغنى الناس بالدنيا فاستغن أنت بالله، وإذا فرحوا بالدنيا فافرح أنت بالله، وإذا أنِسُوا بأحبابهم فاجعل أنسك بالله.(3/50)
69_ الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة؛ فإنها إما أن توجب ألماً وعقوبةً، وإما أن تقطع لذة أكمل منها، وإما تضيع وقتاً إضاعتُه حسرةٌ وندامة، وإما أن تثلم عرضاً توفيرُه أنفعُ للعبد من ثلمه، وإما أن تذهب مالاً بقاؤه خير له من ذهابه، وإما أن تضع قدراً وجاهاً قيامُه خير من وضعه، وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ و أطيب من قضاء الشهوة، وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقاً لم يكن يجدها قبل ذلك، وإما أن تجلب هماً، وغماً، وحزناً، وخوفاً لا يقارب لذة الشهوة، وإما أن تنسي علماً ذكره ألذ من نيل الشهوة، وإما أن تشمت عدواً، أو تحزن ولياً، وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة، وإما أن تحدث عيباً يبقى صفة لا تزول؛ فإن الأعمال تورث الصفات، والأخلاق.
70_ للعبد بين يدي الله موقفان: موقف بين يديه في الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه؛ فمن قام بحق الموقف الأول هون عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف، ولم يوفِّه حقَّه شدد عليه ذلك الموقف، قال _ تعالى _: [وَمِنْ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً [26] إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ].
تحقيق و تعليق مجدي فتحي السيد
1_ وقد اختلفت عبارات الناس في معنى القلب السليم، والأمرُ الجامع لذلك أنه الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره. ص 11
2_ فالقلب السليم: هو الذي سلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما، بل لقد خلصت عبوديته لله _ تعالى _. ص 11
3_ القلب الميت: هو الذي لا حياة فيه، بل هو لا يعرف ربه، ولا يعبده بأمره وما يحبه ويرضاه.
بل هو واقف مع شهواته ولذاته ولو كان فيها سخط ربه وغضبه؛ فهو لا يبالي إذا فاز بشهوته وحظه رضي ربه أم سخط. ص 12
4_ القلب المريض: قلب له حياة، وبه علة؛ فله مادتان: تمده هذه مرة، وهذه أخرى، وهو لما غلب عليه منهما. ص 13(3/51)
5_ فالقلب الأول حيٌّ مخبتٌ ليِّن واعٍ، والثاني يابس ميت، والثالث مريض؛ فإما إلى السلامة أدنى، وإما إلى العطب أدنى. ص 13
6_ الفتن التي تُعرض على القلوب هي أسباب مرضها، وهي فتن الشهوات، وفتن الشبهات؛ فتن الغي والضلال، فتن المعاصي والبدع، فتن الظلم والجهل؛ فالأولى توجب فساد القصد والإرادة، والثانية توجب فساد العلم والاعتقاد. ص 15
7_ فأهل الإيمان لهم شرح الصدر واتساعه وانفساحه، وأهل الضلال لهم ضيق الصدر والحرج. ص 27
8_ حياةُ القلبِ وإضاءتُه مادةُ كلِّ خير فيه، وموته وظلمته مادة كل شر فيه. ص 27
9_ فليس في الكائنات شيء غير الله _عز وجل _ يسكن القلب إليه، ويطمئن به، ويأنس به، ويتنعم بالتوجه إليه. ص 35
10. فقر العبد إلى أن يعبد الله _ سبحانه _ وحده لا يشرك به شيئاً ليس له نظير فيقاس به، لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الغذاء والشراب والنّفَس؛ فيقاس بها، لكن بينهما فروق كثيرة. ص 35
11. وليس المقصودُ بالعباداتِ والأوامِر المشقةَ والكلفةَ بالقصد الأول، وإن وقع ذلك ضمناً وتبعاً في بعضها؛ لأسباب اقتضته لا بد منها، وهي لوازم هذه النشأة.
فأوامره _ سبحانه _ وحقه الذي أوجبه على عباده، وشرائعه التي شرعها لهم_ هي قرة العيون، ولذة القلوب، ونعيم الأرواح، وسرورها، وبها شفاؤها، وسعادتها، وفلاحها، وكمالها في معاشها، ومعادها.
بل لا سرور لها، ولا لذة، ولا نعيم في الحقيقة إلا بذلك كما قال _ تعالى_: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [57] قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ]. ص 36
12. فالمخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول، بل إنما يقصد انتفاعه بك.
والرب _ تعالى _ إنما يريد نفعك لا انتفاعه بك، وذلك منفعة محضة لك خالصة من المضرة.(3/52)
بخلاف إرادة المخلوق نفعك؛ فإنه يكون فيه مضرة عليك، ولو بتحمل مِنته.
فتدبَّر هذا؛ فإن ملاحظته تمنعك من أن ترجو المخلوق، أو تعامله دون الله _ عز وجل _ أو تطلب منه نفعاً، أو دفعاً، أو تعلق قلبك به. ص 47
13. فالقلب الطاهر؛ لكمال حياته ونوره، وتخلُّصُه من الأدران والخبائث لا يشبع من القرآن، ولا يتغذى إلا بحقائقه، ولا يتداوى إلا بأدويته، بخلاف القلب الذي لم يطهره الله _ تعالى _ فإنه يتغذى من الأغذية التي تناسبه بحسب ما فيه من النجاسة؛ فإن القلب النجس كالبدن العليل المريض، لا تلائمه الأغذية التي تلائم الصحيح. ص 63
14. وسألت شيخ الإسلام _ يعني ابن تيمية _ عن معنى دعاء النبي ": =اللهم طهرني من خطاياي بالماء والثلج و البرد+.
كيف يطهر الخطايا بذلك؟ وما فائدة التخصيص بذلك؟ وقوله في لفظ آخر =والماء البارد+ والحار أبلغ في الإنقاء؟
فقال: الخطايا توجب للقلب حرارة، ونجاسة، وضعفاً؛ فيرتخي القلب، وتضطرم فيه نار الشهوة وتنجسه؛ فإن الخطايا والذنوب له بمنزلة الحطب الذي يمد النار ويوقدها؛ ولهذا كلما كثرت الخطايا اشتدت نارُ القلب وضعفُه، والماء يغسل الخَبث، ويطفئ النار، فإن كان بارداً أورث الجسم صلابة وقوة، فإن كان معه ثلج وبرد كان أقوى في التبريد، وصلابة الجسم وشدتِه؛ فكان أذهب لأثر الخطايا.
هذا معنى كلامه، وهو محتاج إلى مزيد بيان وشرح. ص 64
15. وقريب من هذا أنه "كان إذا خرج من الخلاء قال:=غفرانك+.
وفي هذا من السر_ والله أعلم _ أن النجوَ يثقل البدن، ويؤذيه باحتباسه، والذنوبَ تثقل القلب، وتؤذيه باحتباسها فيه؛ فهما مؤذيان مضران بالبدن والقلب؛ فحمد اللهَ عند خروجه على خلاصه من هذا المؤذي لبدنه، وخفةِ البدن وراحتهِ، وسأل أن يخلصه من المؤذي الآخر، ويريح قلبه منه ويخففه.
وأسرار كلماته، وأدعيته " فوق ما يخطر بالبال. ص 66
16. فالأعيان النجسة إما أن تؤذي البدن أو القلب، أو تؤذيهما معاً.(3/53)
والنجس قد يؤذي برائحته، وقد يؤذي بملابسته، وإن لم تكن له رائحة كريهة.
و المقصود أن النجاسة تارة تكون محسوسة ظاهرة، و تارة تكون معنوية باطنة، فيغلب على الروحِ والقلبِ الخبثُ والنجاسة ُ، حتى إن صاحبَ القلبِ الحي لَيَشُمُّ من تلك الروح والقلب رائحة خبيثة يتأذى بها، كما يتأذى من شم رائحة النتن، ويظهر ذلك كثيراً في عرقه، حتى ليوجد لرائحة عرقه نتناً؛ فإن نتن الروح والقلب يتصل بباطن البدن أكثر من ظاهره.
والعرق يفيض من الباطن؛ ولهذا كان الرجل الصالح طيب العرق، وكان رسول الله _ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم _ أطيب الناس عرقاً.
قالت أم سليم وقد سألها رسول الله _ عليه الصلاة والسلام _ عنه وهي تلتقطه: =هو من أطيب الطيب+.
فالنفس النجسة الخبيثة يقوى خبثها ونجاستها حتى يبدو على الجسد.
والنفس الطيبة بضدها؛ فإذا تجردت، وخرجت من البدن وجد لهذه كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، ولتلك كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض. ص 67
17. فلا تجد مشركاً قط إلا وهو متنقص لله _ سبحانه _ وإن زعم أنه يعظمه بذلك.
كما أنك لا تجد مبتدعاً إلا وهو متنقص للرسول _ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم _ وإن زعم أنه معظم له بتلك البدعة؛ فإنه يزعم أنها خير من السُّنة، وأولى بالصواب، أو يزعم أنها هي السنة إن كان جاهلاً مقلداً، وإن كان مستبصراً في بدعته فهو مشاق لله ورسوله. ص 69
18. فالبصير الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق، ولا من فقده إذا استشعر قَلْبُه مرافقَة الرعيل الأول الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، فَتَفَرُّدُ العبد في طريق طلبه دليلٌ على صدق الطلب. ص 76(3/54)
19. فالنفس إذا سكنت إلى الله، واطمأنت بذكره، وأنابت إليه، واشتاقت إلى لقائه، وأنست بقربه؛ فهي مطمئنة، وهي التي يقال لها عند الوفاة: [ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [27] ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ]. ص 84
20. والنفس قد تكون تارة أمَّارة، وتارةً لوامة، وتارة مطمئنة.
بل في اليوم الواحد والساعة الواحدة يحصل منها هذا وهذا، والحكم للغالب عليها من أحوالها؛ فكونها مطمئنةً وصفُ مدحٍ لها، وكونها أمارةً بالسوء وصفُ ذمٍّ لها، و كونها لوامةً ينقسم إلى المدح والذم بحسب ما تلوم عليه. ص 86
21. ويعينه على هذه المراقبة والمحاسبة معرفة أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غداً إذا صار الحساب إلى غيره، وكلما أهملها اليوم اشتد عليها الحساب غداً. ص 89
22. فكل نَفَسٍ من أنفاس العمر جوهرة نفيسةٌ لا حظ لها يمكن أن يشترى بها كنز من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبد الآباد؛ فإضاعة هذه الأنفاس، أو اشتراء صاحبها بها ما يجلب هلاكه _ خسران مبين، لا يسمح بمثله إلا أجهل الناس، وأحمقهم وأقلهم عقلاً. ص 89
23. وذكر ابن أبي الدنيا عن الخلد بن أيوب قال: =كان راهب في بني إسرائيل في صومعة منذ ستين سنة؛ فَأُتِيَ في منامه، فقيل له: إن فلاناً الإسكافي خير منك _ ليلة بعد ليلة _ فأتى الإسكافي، فسأله عن عمله فقال: إني رجل لا يكاد يمر بي أحد إلا ظننت أنه في الجنة وأنا في النار؛ فَفَضُل على الراهب بإزرائه على نفسه+. ص 95
24. فالنفس داعية إلى المهالك، معينة للأعداء، طامحة إلى كل قبيح، متبعة لكل سوء، فهي تجري بطبعها في ميدان المخالفة. ص 95
25. ومن كيده _ أي الشيطان _ للإنسان: أنه يورده الموارد التي يخيل إليه أن فيها منفعته، ثم يصدره المصادر التي فيها عطبه، ويتخلى عنه ويسلمه ويقف يشمت به، ويضحك منه، فيأمره بالسرقة والزنا والقتل، ويدل عليه، ويفضحه. ص 117(3/55)
26. ومن كيده العجيب: أنه يُشَامُّ النَّفْسَ، حتى يعلم أي القوتين تغلب عليها: قوة الإقدام والشجاعة، أم قوة الانكفاف والإحجام والمهانة؟.
فإن رأى الغالب على النفس المهانة والإحجام أخذ في تثبيطه وإضعاف همته وإرادته عن المأمور به، وثقَّله عليه، فهوَّن عليه تركه، حتى يتركه جملة، أو يقصر فيه، ويتهاون به.
وإن رأى الغالب عليه قوة الإقدام، وعلو الهمة أخذ يقلل عنده المأمور به، ويوهمه أنه لا يكفيه، وأنه يحتاج معه إلى مبالغة وزيادة فيقصِّر بالأول، ويتجاوز بالثاني، كما قال بعض السلف: =ما أمر الله _تعالى_ بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وتقصير، وإما إلى مجاوزة وغلو، ولا يبالي بأيهما ظفر +. ص 124
27. فالفتنة قسمت الناس، إلى صادق وكاذب، ومؤمن ومنافق، وطيب وخبيث؛ فمن صبر عليها كانت رحمة في حقه، ونجا بصبره من فتنة أعظم منها، ومن لم يصبر عليها وقع في فتنة أشد منها. ص 532
28. فالعبد في هذه الدار مفتون بشهواته ونفسه الأمارة، وشيطانه المغوي المزين، وقرنائه وما يراه، ويشاهده، مما يعجز صبره عنه.
ويتفق مع ذلك ضعفُ الإيمانِ واليقينِ، وضعفُ القلب، ومرارةُ الصبر، وذوقُ حلاوةِ العاجل، وميلُ النفسِ إلى زهرة الحياة الدنيا، وكونُ العوضِ مؤجلاً في دار أخرى غير هذه الدار التي خلق فيها، وفيها نشأ؛ فهو مكلف بأن يترك شهوته الحاضرة المشاهدة لغيب طُلِب منه الإيمانُ به:
فوالله لولا الله يسعد عبده
لما ثبت الإيمان يوماً بقلبه
ولا طاوعته النفس في ترك شهوة
ولا خاف يوماً من مقام إلهه ... بتوفيقه والله بالعبد أرحم
على هذه العلات والأمر أعظم
مخافة نار جمرها يتضرم
عليه بحكم القسط إذ ليس يظلم
ص 533_ 534
29. وقد جاء في حديث مرسل: =إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات+.
فبكمال العقل والصبر تدفع فتنة الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تدفع فتنة الشبهة، والله المستعان. ص 537(3/56)
30. إذا سلم العبد من فتنة الشبهات والشهوات حصل له أعظم غايتين مطلوبتين، بهما سعادته وفلاحه وكماله، وهما الهدى، والرحمة. ص 537
31. وهكذا الرجل كلما اتسع علمه اتسعت رحمته، وقد وسع ربنا كل شيء رحمةً وعلماً؛ فوسعت رحمته كل شيء، وأحاط بكل شيء علماً؛ فهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، بل هو أرحم بالعبد من نفسه، كما هو أعلم بمصلحة العبد من نفسه.
والعبد لجهله بمصالح نفسه وظلمه لها يسعى فيما يضرها ويؤلمها، وينقص حظها من كرامته وثوابه، ويبعدها من قربه، وهو يظن أنه ينفعها ويكرمها، وهذا غاية الجهل والظلم، والإنسان ظلوم جهول. ص 543
32. وكان سقراط يقول: إذا أقبلت الحكمة خدمت الشهوات العقول، وإذا أدبرت خدمت العقول الشهوات.
وقال: لا تكرهوا أولادكم على آثاركم؛ فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم. ص 622
طبعة دار الاعتصام وهو محاضرة ألقاها المؤلف مساء يوم السبت 17/4/1324هـ وهو يومئذ القاضي بمدينة بنزرت بتونس.
=نبذة في سيرة المؤلف+:
ولد × في بلدة نفطة بتونس عام 1293 هـ من أسرة علم وصلاح، ولما بلغ الثانية عشرة من عمره انتقل مع والده إلى العاصمة تونس، والتحق بطلاب العلم بجامعة الزيتونة؛ وحصل على الشهادة العالية في العلوم الدينية والعربية.
أوتي بياناً ساحراً، وقلماً سيالاً، قلما يوجد له نظير في العصور المتأخرة، بل إنه يضارع أرباب البيان الأوائل.
وكان هادئ الطبع، حسن المعشر، لين العريكة، جم التواضع، وكان متفنناً في علوم الشريعة واللغة.
أصدر مجلة السعادة العظمى عام 1321، وتولى القضاء في مدينة بنززت، ولم يَرُقْه ميدان القضاء، فتركه إلى التدريس في جامعة الزيتونة.
حكم عليه الاستعمار الفرنسي بالإعدام، فهاجر إلى دمشق، ثم إلى مصر، وانضم إلى علماء الأزهر، وأخيراً عام 1952 عُيِّن إماماً لمشيخة الأزهر، فقام به خير قيام، وهو آخر عالم تولى الأزهر بترشيح العلماء.
توفي عام 1377 هـ ودفن بالمقبرة التيمورية.(3/57)
خلف آثاراًكثيرة منها: رسائل الإصلاح، ومحاضرات إسلامية، ونقض كتاب الشعر الجاهلي، ونقض كتاب الإسلام وأصول الحكم وغير ذلك.
وله ديوان شعر اسمه =خواطر الحياة+، وله كتاب =الحرية في الإسلام+ وهو الكتاب الذي بين أيدينا نقولٌ منه.
وقد كتبه مبيناً مفهوم الحرية الحقة، موضحاً قسوة الاستبداد خصوصاً في وقته حيث كان الاستعمار محكماً قبضته على كثير من البلدان العربية الإسلامية.
ولا تكاد تظفر بكتاب مثله في هذا الباب من جهة قوة التحرير، وشدة الأسر، وجزالة الأسلوب.
هذه نبذة عن سيرته، وتفصيل سيرته موجود في الكتب التي ترجمت له، ومنها كتاب:
=الصداقة بين العلماء+ لكاتب هذه الأوراق
=نقولات من كتاب الحرية في الإسلام+:
1_ وإذا علمت نفسٌ طاب عنصرها، وشرف وجدانها أن مطمح الهمم إنما هي غاية، وحياة وراء حياتها الطبيعية _ لم تقف بسعيها عند حد غذاء يقوتها، وكساء يسترها، ومسكن تأوي إليه.
بل لا تستفيق جهدها، ويطمئن بها قرارها إلا إذا بلغت مجداً شامخاً يصعد بها إلى أن تختلط بكواكب الجوزاء. ص10
2_ يقوم فسطاط الحرية على قاعدتين عظيمتين هما: المشورة، والمساواة؛ فبالمشورة تتميز الحقوق، وبالمساواة ينتظم إجراؤها، ويطرد نفاذها.
وكل واحدة من هاتين القاعدتين رفع الإسلام سمكها، وسواها. ص 18
3_ وهكذا ما ساد الأدب، وانتشرت الفضيلة بين أمة إلا اتبعوا شرعة الإنصاف من عند أنفسهم، والتحفوا برداء الصدق والأمانة بمجرد بث النصيحة، والموعظة الحسنة، فيخفت ضجيج الضارعين، وصخب المبطلين، ولا تكاد تسمع لهما في أجواف المحاكم حسيساً. ص20
4_ أذن الله له " بالاستشارة وهو غني عنها بما يأتيه من وحي السماء؛ تطييباً لنفوس أصحابه، وتقريراً لسنة المشاورة للأمة من بعده. ص21
5_ وكان أبو بكر الصديق ÷من العلم بقوانين الشريعة، والخبرة بوجوه السياسة في منزلة لا تطاولها سماء. (1)
__________
(1) _ هذا تضمين لبيت البوصيري:
كيف ترقى رقيك الأنبياء
يا سماء ما طاولتها سماء
والشيخ محمد الخضر × من أرباب البيان، خصوصاً في باب الاقتباس و التضمين؛ فهو فارس لا يشق له غبار في هذا الميدان، وسترى نماذج لذلك فيما سيأتي.(3/58)
ومع هذا لا يبرم حكماً في حادثة إلا بعد أن تتداولها آراء جماعة من الصحابة.
وإذا نَقَل له أحدُهم نصاً صريحاً ينطبق على الحادثة قال: =الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا+. ص21
6_ لا تكون قاعدة الشورى من نواصر الحرية وأعوانها إلا إذا وضع حجرها الأول على قصد الحنان والرأفة بالرعية.
وأما المشاركة في الرأي وحدها _ ولا سيما رأي من لا يطاع _ فلا تكفي في قطع دابر الاستبداد. ص25
7_ وأهم فوائد المشورة تخليص الحق من احتمالات الآراء.
وذهب الحكماء من الأدباء في تصوير هذا المغزى وتمثيله في النفوس إلى مذاهب شتى، قال بعضهم:
إذا عنّ أمر فاستشر فيه صاحباً
فإني رأيت العين تجهل نفسها ... وإن كنت ذا رأي تشير على الصحب
وتدرك ما قد حلَّ في موضع الشهب
وقال آخر:
اقرن برأيك رأي غيرك واستشر
والمرءُ مرآةٌ تريهِ وجهه ... فالحق لا يخفى على الآثنين
ويرى قفاه بجمع مرآتين
وقال آخر:
الرأي كالليل مسوداً جوانبه
فاضمم مصابيحَ آراءِ الرجال إلى ... والليل لا ينجلي إلا بمصباح
مصباحِ رأيك تزددْ ضوءَ مصباحِ
ص25
8_ ومن فوائد الشورى استطلاع أفكار الرجال، ومعرفة مقاديرها؛ فإن الرأي يمثِّل لك عقل صاحبه كما تمثل لك المرآةُ صورةَ شخصه إذا استقبلها. ص26
9_ الحرية في الأموال هي إطلاق التصرف لأصحابها يذهبون في اكتسابها، والتمتع بها على الطريق الوسط دون أن تلم بها فاجعة الاغتصاب، أو تخطفها خائنة كيد واحتيال.ص31
10_ فلا حرج في جمع الدنيا من الوجوه المباحة ما لم يكن صاحبها عن الواجبات في شغل شاغل.
وقد ذكر الله _تعالى _ التجارة في معرض الحط من شأنها حيث شغلت عن طاعة في قوله _ تعالى _: [ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ]. الجمعة: 11(3/59)
ولما رجعوا عن صنيعهم، وأخذوا بأدب الشريعة في إيثار الواجبات الدينية، وعدم الانقطاع عنها إلى الاشتغال بالتجارة ونحوها _ ذكرها، ولم يهضم من حقها شيئاً، فقال _ تعالى _: [ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ]. النور: 37
فأثبت لهؤلاء الكُمَّل أنهم تجار وباعة، ولكنهم لم يشتغلوا بضروب منافع التجارة عن فرائض الله، وهذا قول المحققين في الآية. ص32
11_ بيد أن الشريعة أمرت العامل بأن يكون قلبه حال عمله مطوياً على سراج من التوكل والتفويض؛ فإن اعتماد القلب على قدرة الله وكرمه يستأصل جراثيم اليأس، ومنابت الكسل، ويشد ظهر الأمل الذي يلج به الساعي أغوار البحار العميقة، ويقارع به السباع الضارية في فلواتها. ص33
12_ لم تغادر الشريعة صغيرة ولا كبيرة من وجوه التصرفات في الأموال إلا أحصتها، وعلقت عليها حكماً عادلاً. 34
13_ كما أذن الإسلام في اكتساب الأموال، واستثمار أرباحها من وجوهها المعتدلة أذن في الاستمتاع بها، وترويح الخاطر بنعيمها؛ شريطة الاقتصاد. 37
14_ وأما الآيات الواردة في سياق التزهيد، والحط من متاع الحياة الدنيا فلا يقصد منها ترغيب الإنسان؛ ليعيش مجانباً للزينة، ميت الإرادة عن التعلق بشهواته على الإطلاق.
وإنما يقصد منها _ فيما نفهمه _ حكم أخرى كتسلية الفقراء الذين لا يستطيعون ضرباً في الأرض، ومَنْ قَصُرَتْ أيديهم عن تناولها؛ لئلا تضيق صدورُهم على آثارها أسفاً.
ومنها تعديل الأنفس الشاردة، وانتزاعُ ما في طبيعتها من الشَّرَهِ، والطمع؛ لئلا يخرجا بها عن قصد السبيل، ويتَطَوَّحا بها في الاكتساب إلى طرق غير لائقة.
فاستصغارُ متاع الدنيا، وتحقيرُ لذائذها في نفوس الناس يرفعهم عن الاستغراق فيها، ويُكْبِرُ بهممهم عن جعلها قبلةً يولون وجوههم شطرها حيثما كانوا.(3/60)
وقد بين لنا العيان أن الإنسان متى عكف على ملاذِّ الحياة، ولم يَصْحُ فؤاده عن اللهو بزخارفها ماتت عواطفه، ونسي، أوتناسى من أين تؤتى المكارم، والمروءة، ودخل مع الأنعام في حياتهم السافلة. 38
15_ وأما ما ثبت عن بعض السلف من نبذ الزينة، والإعراض عن العيش الناعم عند القدرة عليه، أو في حال وجوده _ فلا يريدونه قربة بنفسه، ولكن يبتغون به الوسيلة إلى رياضة النفس، وتدريبها على مخالفة الشهوات؛ لتستقر تحت طوع العقل بسهولة، وتتمكن من طرح أهوائها الزائغة بدون كلفة؛ فلو وثق الإنسان من نفسه بحسن الطاعة لم تكن في مجانبته للطيبات مزية ولا مؤاخذة. ص39
16_ ولا ننسى أن كثيراً من الشعراء قد طغى بهم الإبداع في المقال إلى أن نسقوا في مديح الخمر صفات الجمال، وضربوا للتنويه بشأنها الأمثال؛ فاستهووا لمعاقرتها عبيد الخيال، والشعراء يتبعهم الغاوون. ص41
17_ فالإسلام _ وإن عني بتزكية الأرواح، وترقيتها في مراقي الفلاح _ لم يبخس الحواس حقها، وقضى لبانتها من الزينة، واللذة بالقسطاس المستقيم. ص41
18_ وروي أن عبد الله بن أبي السمط أنشد بين يدي المأمون أبياتاً يمتدحه بها، فلما انتهى عند قوله:
أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلاً ... بالدين والناس بالدنيا مشاغيل
قال له المأمون: ما زدت على أن جعلتني عجوزاً في محراب، وبيدها سبحة! !
أعجزت أن تقول كما قال جرير في عمر بن عبد العزيز:
فلا هو في الدنيا مُضِيعٌ نصيبَه ... ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله
ص41
19_ هذا الباعث _حب المال_ يقذفه الله في نفوس قوم، فيدعوهم إلى تسوية طرائق العمران، وتشييد أركانه، ويسلكه في قلوب آخرين فيترامى بهم إلى بث الفساد على وجه البسيطة، وإثارة غبار التوحش في أرجائها. ص43
20_ حب المال هو الذي ينزع من فؤاد الرجلِ الرأفةَ ويجعل مكانها القسوة والفظاظة، حتى إذا أظلم الأفق، واسودّ جناح الليل(1)
__________
(1) _ هذا تضمين من المؤلف × لقول عمر بن أبي ربيعة:
إذا اسود جنح الليل فلتأت ولتكن
خطاك خفافاً إن حراسنا أسدا(3/61)
تأبط خنجراً، أو تقلد سيفاً، وذهب يخطو خطاً خفافاً؛ ليأتي البيوت من ظهورها، ويمد بسبب إلى أمتعتها، فإذا دافعه صاحبها أذاقه طعم المنون، وانصرف ثملاً بلذة الانتصار. ص43 _ 44
21_ ولهذا افتقرت داعية حب المال إلى وازع يسدد طيشها، ويكسر من كعوبها إلى أن تستقيم قناتها. (1)
والوازع ما ورد في مجمل الشريعة ومُفصَّلها من الأصول القابضة على أيدي الهداجين حول اختلاسها، والعاملين على اغتصابها، أو التصرف فيها بغير ما يأذن به صاحبها. ص44
22_ الرشوة أخت السرقة، وابنة عم الاغتصاب، وإن شئت فقل: تزوج الاغتصاب بالسرقة، فتولدت بينهما الرشوة؛ لأنها عبارة عن أخذ مال معصوم خفية، ولكنه بسلطة على حين علم من صاحبه. ص45
23_ ولما كانت الرشوة عقبة كؤوداً في سبيل الحرية _ أخذت الشريعة في تحريمها بالتي هي أحوط؛ فلا يسوغ للقاضي قبول الهدية إلا من خواص قرابته؛ لئلا تزل به مدرجاتها إلى أكل الرشوة، أو يتخذ اسم الهدية غطاءًا للرشوة يسترها به عن أعين المراقبين لأحواله السرية. ص45
24_ فمن تحيز عن أمته، وطفق يرمي في وجوههم بعبارات الازدراء، وينفث في كأس حياتهم سُمَّاً ناقعاً _ لا نَصِفُه بصفة الغيرة، والوطنية، وإن شُغِفَ بحب ديارهم، وقبَّلها جداراً بعد جدار. (2) ص49
25_ يريد كل امرئ أومضت فيه بارقةٌ من العقل أن يكون عِرْضُه محلَّ التمجيدِ والثناء، وحرماً مصوناً لا يرتع حوله اللامزون.
__________
(1) _ هذا تضمين للشاهد النحوي في باب نصب المضارع:
وكنت إذا غمزت قناة قوم
كسرت كعوبها أو تستقيما
(2) _ هذا تضمين لقول الشاعر:
أمر على الديار ديار ليلى
وما حبُّ الديار شغفن قلبي
أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
ولكن حب من سكن الديارا
ولو تتبع أحد هذا الفن _ أعني الاقتباس والتضمين _ في مؤلفات الشيخ × لخرج بمادة علمية كبيرة.(3/62)
وهاته الإرادة هي التي تبعثه على أن يبدد فريقاً من ماله في حل عقال ألسنة؛ لتكسوه من نسج آدابها حلة المديح، أو يسد بها أفواهاً يخشى أن تصب عليه مرائر أحدوثتها علقماً، قال أحدهم:
أصون عرضي بمالي لا أدنسه ... لا بارك الله بعد العرض بالمال
وقد تتقوى هذه الداعية فتبلغ به أن يخاطر بحياته، وينصب جنبه لسهام الرزايا عندما يرجم بشتيمة تلوث وجه كرامته، ويتجهم بها منظر حياته، يقول أبو الطيب المتنبي:
يهون علينا أن تصاب جسومنا ... وتسلم أعراض لنا وعقول
ولا يتفاضل الناس في مراقي الشرف والمجادة، أو تتسفل هممهم إلى هاوية الرذالة إلا بمقدار ما تجد بينهم من التفاوت في عقد هذه الإرادة قوة وانحلالاً؛ فبقوة هذه الإرادة يتجلى لنا في مظاهر الإنسانية مطبوعاً على أجمل صورة من الكمال، وبسبب ضعفها تنزل به شهواته من سماء الإنسانية إلى أن يكون حيواناً مهملاً. ص53
26_ لا يحق للطاعن أن يتخطى المصائب التي يجهر بها صاحبها إلى النقائص التي يحرزها بغطاء الستر والكتمان. ص54
27_ في قوله _ تعالى _: [وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ] الحجرات 12.
وفي هذا التشبيه إشارة إلى أن عرض الإنسان كدمه ولحمه، وهو من باب القياس الظاهر؛ لأن عرض المرء أشرف من بدنه؛ فإذا قبح من العاقل أكل لحوم الناس لم يحسن منه قرض أعراضهم بالطريق الأولى؛ فالمذام التي تلتصق بالشخص خُفْيَةً لا يسوغ لآخر تَكَشَّف عليها أن يحرك بها لسانه، ويتمضمض بإذاعتها في المجامع إلا في مواضع يدور حكم الاستباحة فيها على درء مفسدة تنشأ عن عدم التعريف بها. 54(3/63)
28_ ولما تجاسر كثير من أهل الأهواء على اختلاق أحاديث يفترونها كذباً، ويسندونها إلى رسول الله " ليؤيدوا بها مزاعمهم، أو يقضوا بها حاجة في نفوسهم _ قام العلماء بحق الوراثة المنوطة بعهدتهم من قبل صاحب الشريعة، وأخذوا في نقد ما يروى من الأحاديث؛ حتى يتميز الخبيثُ من الطيب، والصحيح من غير الصحيح؛ فاحتاجوا إلى التعرض لحالة الرواة، وإذا علموا من أحد سوءاً بادروا إلى الجهر به، وتعيين اسمه؛ ليحذِّروا الناس، ولا يتلقون روايته بالقبول. ص55
29_ وقد دارت هذه الكلمة _ كلمة الحرية _ على أفواه الخطباء، ولهجت بها أقلام الكاتبين ينشدون ضالتها عند أبواب الحكومات، ويقفون عند مكانها، وتمكين الراحة من مصافحتها _ وقوفَ شحيحٍ ضاع في الترب خاتمه. (1) ص16
30_ ينصرف هذا اللقب الشريف _ الحرية _ في مجاري خطابنا اليوم إلى معنى يقارب معنى استقلال الإرادة، ويشابه معنى العتق الذي هو فك الرقبة من الاسترقاق.
وهو أن تعيش الأمة عيشةً راضية تحت ظل ثابت من الأمن، على قرار مكين من الاطمئنان.
ومن لوازم ذلك أن يعيَّن لكل واحد من أفرادها حدٌّ لا يتجاوزه، وُتَقَّرَر له حقوق لا تعوقه عن استيفائها يدٌ غالبة؛ فإن في تعدي الإنسانِ الحدَّ الذي قضت عليه أصولُ الاجتماع بالوقوف عنه _ ضرباً من الإفراط.
ويقابله في الطرف الآخر حرمانه من التمتع بحقوقه؛ ليستأثر غيره بمنفعتها، وكلا الطرفين شعبة من شعب الرذائلِ، والحريةُ وسطٌ بينهما على ما هي العادة في سائر الفضائل. ص16
31_ ومن كشف عن حقيقتها _ يعني الحرية _ المفصِّلةِ ستارَ الإجمالِ أَشْرَفَ على أربع خصال مندمجة في ضمنها:
__________
(1) _ هذا تضمين لقول أبي الطيب المتنبي:
بَلَيْتُ بِلِى الأطلال إن لم أقف بها
وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه(3/64)
أحدها: معرفة الإنسان ماله وما عليه؛ فإن الشخص الذي يجهل حقوق الهيئة الاجتماعية، ونواميسها لا يبرح في مضيق الحجر مقيد السواعد عن التصرف حسب إرادته واختياره، حتى يستضيء بها خبرة، ويقتلها علماً؛ إذ لا يأمن أن تطيش أفعاله عن رسوم الحكمة والسداد، فيقع في خطيئة تحدث في نظام تلك الهيئة علة وفساداً.
ولا يخالط الضمائر من هذا أن الحرية مقصورة على علماء الأمة العارفين بواجباتها؛ إذ للأميين منها مَخْلَصٌ فسيحٌ، وهو باب الاستفتاء، والاسترشاد، قال _ تعالى _: [ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ] النحل: 42.
ثانيها: شرفُ نفس يزكي طويَّتها، ويطهر نواياها من قصد الاعتداء على ما ليس بحق لها؛ فلا ترمي بهمتها إلا في مواضع تشير إليه العفة ببنانها.
ثالثها: إذعانٌ يدخل به تحت نظر القوانين المقامة على قواعد الإنصاف، ويستنزله ريثما تَحَرَّرُ ذمتُه من المطالب التي توجه إليها باستحقاق.
رابعها: عزة جانب، وشهامة خاطر يشق بها عصا الطاعة للباطل، ويدفع بها في قوةٍ من يسوم عنقه بسوء الضيم والاضطهاد.
ولا يقيم على ضيم يراد به ... إلا الأذلان عيرُ الحيِّ والوتدُ
نستنتج من هذا البيان أن الأساس الذي ترفع عليه الحرية قواعدها ليس سوى التربية والتعليم؛ فيتأكد على الحكومة التي تنظر إلى فضيلة الحرية بعين الاحترام أن تسعى جهدها في تهذيب أخلاق الأمة، وتنوير عقولها بالتعليمات الصحيحة قبل كل حساب. ص17
32_ قال _تعالى _: [وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ] البقرة 179.(3/65)
لأن القصاص يكف يد العالم به عن إراقة الدماء، ونهب الأعمار؛ موافقة لداعية الهوى والضغائن الواغرة في الصدور؛ فيكون سبباً لحياة نفسين في هذه الناشئة، ولأن العرب كانوا يقتلون غير القاتل أحياناً؛ فإذا قتل عبد أو امرأة من قبيلة، وكانت القبيلة ذات شوكة وحمية لا ترضى إلا أن تقتل في مقابل العبد حراً، والمرأة رجلاً، وربما قتلوا جماعة بواحد، فتهيج الفتنة، وتشتعل بينهم حرب البسوس؛ فإذا كان القصاص مقصوراً على القاتل فاز الباقون بالحرية في حياتهم، واطمأنوا بها. ص59
33_ وشرع الإسلام الدية على القاتل؛ تخفيفاً ورحمة، وأقامها مقام القصاص إذا رضي بها أولياء القتيل، وآثروها على الأخذ بالثأر؛ فقد تكون الدية أصلح لهم من القصاص، وأجدى نفعاً، زيادة عما فيها من بقاء نفس مسلمة تتناسل ذريتها في الإسلام. ص60
34_ لا يحل دم امرئ إلا لأسباب تكون الفتنة فيها أشد من القتل مثل الزنا من المحصن؛ فإن الزاني يبذر نطفته على وجه تجعل النسمة المُخَلَّقة منها مقطوعةً عن النسب إلى الآباء، والنسبُ معدودٌ من الروابط الداعية إلى التعاون والتعاضد؛ فكان السِّفاح سبباً لوجود الولد عارياً من العواطف التي تربطه بأولى قربى يأخذون بساعده إذا زلت به نَعْلُه، ويتقوى به اعتصابهم عند الحاجة إليه.
وفيه جناية عليه، وتعريض به لأن يعيش وضيعاً بين الأمة، مدحوراً من كل جانب؛ فإن الناس يستخِّفون بولد الزنا، وتنكره طبائعهم، ولا يرون له في الهيئة الاجتماعية اعتباراً.(3/66)
ثم إن الغيرة التي طبعت في الإنسان على محارمه، والحرج الذي يملأ صدره عند مزاحمته على موطوءته مظنةٌ لوقوع المقاتلات، وانتشار المحاربات؛ لما يجلبه هتك الحرمة للزوج، وذوي القرابة من العار الفظيع، والفضيحة الكبرى؛ فاقتضى هذا الفاسد الناقض للعمران أن يُفْرَضَ له حدٌّ وجيعٌ وهو الرجم إن كان ثيباً، وهذا من الحدود المتوارثة في الشرائع السماوية كالقصاص والقطع في السرقة، وأما إن كان بكراً فيجلد مائة جلدة. ص 61 _ 62
35_ وشدد الإسلام العقوبة على من ارتد عن الدين بعد أن لبس هديه القويم؛ فأمر بدعوته إلى الإنابة والتوبة، فإن رجع وإلا ضرب بالسيف على عنقه. ص65
36_ وإنما جُبِرَ المرتدُّ على البقاء في الإسلام؛ حذراً من تفرق الوحدة، واختلال النظام؛ فلو خُلِّي السبيل للذين ينبذون الدين جهرة _ ونحن لا نعلم مقدار من يريد الله أن يضله _ نخشى من انحلال الجامعة، وضعف الحامية.
وأهل الردة _ وإن أصبحوا كاليد الشلاء لا تعمل في الجامعة خيراً _ لا يخلوا بقاؤهم في شمل المسلمين _ وهم في صورة أعضاء صحيحة _ من إرهاب يلقيه كثرة السواد في قلوب المحاربين. ص65
37_ ثم إن لكل أمة سرائرَ من حيث الدولة لا ينبغي لها أن تطلع عليها غير أوليائها.
ومن كان متلبساً بصفة الإسلام شأنُهُ الخبرةُ بأحوال المسلمين، والمعرفة بدواخلهم؛ فإذا خلع ربقة الدين _ وقد كان بِطانةً لأهله يلقون إليه سرائرهم _ اتخذه المحاربون أكبر مساعد، وأطول يد يمدونها لنيل أغراضهم من المؤمنين.
هذا تأثير أهل الردة على الإسلام من جهة الدولة والسياسة.
وأما تأثيرهم عليه من جهة كونه ديناً قَيَّماً فإن المرتد يحمله المقلدون من المخالفين على معرفته بحال الدين، والخبرة بحقيقته تفصيلاً، فيتلقون منه كلَّ ما ينسبه إليه من خرافات وضيعة، أو عقائد سخيفة يختلقها عليه؛ بقصد إطفاء نوره، وتنفير القلوب منه.(3/67)
ولما كان عثرة في سبيل انتشار الدين وجبت إماطته كما يماط الأذى عن الطريق. ص65
38_ وفي جعل عقوبة المرتد إباحةَ دمه زاجرٌ للأمم الأخرى عن الدخول في الدين؛ مشايعةً للدولة، ونفاقاً لأهله، وباعثٌ لهم على التثبت في أمرهم؛ فلا يتقلدونه إلا على بصيرة، وسلطان مبين؛ إذ الداخل في الدين مداجاةً، ومشايعةً يتعسر عليه الاستمرار على الإسلام، وإقامة شعائره. ص66
39_ وأنت إذا جئت تبحث عن حال من ارتد بعد الإسلام لا تجد سوى طائفتين:
منهم من عانق الدين منافقاً؛ فإذا قضى وطره، أو انقطع أمله انقلب على وجهه خاسراً.
وبعضهم ربي في حجور المسلمين، ولكنه لم يدرس حقائق الدين، ولم يتلق عقائده ببراهين تربط على قلبه؛ ليكون من الموقنين؛ فمتى سنحت له شبهة من الباطل _ تزلزلت عقيدته، وأصبح في ريبه متردداً.
وارجع بصرك إلى التاريخ كرتين؛ فإنك لا تعثر على خبر ارتداد مسلم نبت في بلد طيب نباتاً حسناً. 66
40_ لا يخفى على متشرع بصير أن الملك والدين إخوان يشد كل منهما بعضد الآخر.
بل الدين رائد للمُلك، والملك تابعٌ للدين خادم له، وإن شئت فقل: هما كمثل إنسان: الدين عقله المدبر، والملك جسمه المُسَخَّر له، وذلك الإنسان هو ما نسميه الآن بالإسلام.
فبمقدار ما ترتبط الإدارة السياسية بالإدارة الدينية يكمل شبابه، وتجري روح الاستقامة في أعضائه، فتصدر أعماله قرينةَ الحكمة، سالمةً من العيوب.
ومتى انفكت أولاهما عن أخراهما انحلت حُِبْوته، وتناثرت أجزاؤه تناثرَ خَرَزِ مِكْوَرِةٍ على سطح محدَّب. ص67
41_ فمن صعَّد نظره في عصر الخلفاء الراشدين يجد السبب الذي ارتقى بالإسلام، وانسجم به في سبيل المدنية _ هو ما انعقد بين الدين والخلافة من الاتحاد والوفاق.
ومن ضرب بنظره فيما يشاء من الدول التي حمي فيها وطيس الاستبداد يجد المحرك لتلك الريح السموم، والعِثْير المشوم _ ما اعترض بين هاتين السلطتين من الاختلاف. ص67(3/68)
42_ كان موضع العناية، ومحل القصد من الإمارة في نظر أولئك الخلفاء، ومن حذا حذوهم كعمر ابن عبد العزيز _ هو خدمة الدين، الذي هو خادم للعدالة، التي هي خادمة للصلاح، قال الشيخ قبادو التونسي:
وما الجاه إلا خادم الملك لائذاً
وما الشرع إلا خادم الحق مرشداً ... وما الملك إلا خادم الشرع حزمه
وبالحق قام الكون وانزاح ظلمه
ص67
43_ولما انطوت أحشاؤهم على هذا المقصد الجميل أطلقوا سراح الرعية في أمرهم بالمعروف،وإحضارهم النصيحة، مثل ما سبق في خطبة أبي بكر الصديق÷ وكقول عمر بن الخطاب: =أعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف، وإحضاري النصيحة، وأعينوني على أنفسكم بالطاعة+.
وكانوا يوسِّعون صدورهم للمقالات التي توجه إليهم على وجه النصيحة، والتعريض بخطأ الاجتهاد وإن كانت حادةَ اللهجة، قارصةَ العبارة. ص68
44_ ثم خلف من بعد أولئك خَلْف عرفوا أن فطرة الدين وطبيعته لا تتحمل شهواتِهم العريضةَ، وألفوا بلاط الملك فسيح الأرجاء، بعيدَ ما بين المناكب.
ولكنه لا يسعفهم على أغراضهم، وتتبع خطواتهم مادامت أوصاله ملتحمة بالإدارة الدينية، ولم يهتدوا حيلة إلى فارق بينهما سوى أن يسدوا منافس الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر دون دعاة الإصلاح، وابتكروا ضروباً من الخسف، وأفانين من الإرهاق كانوا يهجمون بها على الناس هجوم الليل إذا يغشى، وإذا سمعوا منادياً ينادي؛ ليحق الحق، ويبطل الباطل كلَّموه بألسنة السيوف. ص69(3/69)
45_ ولما أبق الملك من حضانة الدين، وخفقت عليه رايةُ الاستبداد خالط الأفئدة رعبٌ و أوجال كأنما مُزِجت بطينتها؛ فبعد أن كان راعي الغنم يفِدُ من البادية، وعصاه على عاتقه، فيخاطب أمير المؤمنين بـ: يا أبا بكر، ويا عمر، ويا عثمان، ويتصرف معه في أساليب الخطاب بقرارة جأش، وطلاقة لسان، وسكينة في الأعضاء _ أصبح سيد قومه يقف بين يدي أحد الكبراء في دولة الحجاج فينتفض فؤاده رعباً، ويتلجلج لسانه رهبة، وترتعد فريصتُه وجلاً؛ يخشى أن يكون فريسة لبوادر الاستبداد. ص69
46_ إذا أنشبت الدولة برعاياها مخالب الاستبداد نزلت عن شامخ عزها لا محالة، وأشرفت على حضيض التلاشي والفناء؛ إذ لا غنى للحكومة عن رجال تستضيء بآرائهم في مشكلاتها، وآخرين تثق بكفاءتهم وعدالتهم إذا فوضت إلى عهدتهم بعض مهماتها. ص71
47_ والأرض التي اندرست فيها أطلال الحرية إنما تؤوي الضعفاء والسفلة، ولا تنبت العظماء من الرجال إلا في القليل، قال صاحب لامية العرب:
ولكن نفساً حرة لا تقيم بي ... على الذل إلا ريثما أتحول
فلا جرم أن تتألف أعضاء الحكومة وأعوانها من أناس يخادعونها، ولا يبذلون لها النصيحة في أعمالهم، وآخرين مقرنين في أصفاد الجهالة يدبرون أمورها على حد ما تدركه أبصارهم.
وهذا هو السبب الوحيد لسقوط الأمة؛ فلا تلبث أن تلتهمها دولة أخرى، وتجعلها في قبضة قهرها، وذلك جزاء الظالمين. ص71
48_ ثم إن الاستبداد مما يطبع نفوس الرعية على الرهبة والجبن، ويميت ما في قوتها من البأس والبسالة.
فمن في كفه منهم قناةٌ ... كمن في كفه منهم خضابُ
فإذا اتخذت الدولة منهم حامية، أو ألَّفت منهم كتيبةً عجزوا عن سد ثغورها، وشُلَّت أيديهم من قبل أن يشدوا بعضدها. ص71
49_ وإذا أردت مثلاً يثبت فؤادك، ويؤيد شهادة العيان فاعتبر بما قصه الله(3/70)
_ تعالى _ عن قوم موسى _ عليه السلام _ لما أمرهم بالدخول للأرض المقدسة، ومِلْكِها كيف قعد بهم الخوف عن الطاعة، والامتثال، وقالوا: [ إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا ] المائدة 22.
فمتى جئت تسأل عن الأمر الذي طبع في قلوبهم الجبن، وتطوَّح بهم في العصيان، والمنازعة إلى قولهم: [فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ] المائدة24.
وجدْتَه خلف الانقياد المتمكن في نفوسهم من يوم كانت الأقباط ماسكة بنواصيهم، وتذيقهم من سوء الاستعباد عذاباً أليماً. 72
50_ والأمَّة مفتقرة إلى الكاتب، والشاعر، والخطيب.
والاستبداد يعقد ألسنتهم على ما في طيِّها من الفصاحة، وينفث فيها لُكْنَةً، وعِيَّاً، فتلتحق لغتهم بأصوات الحيوانات ولا يكادون يفقهون قولاً. 72
51_ وإذا أضاءت على الأمة شموس الحرية، وضربت بأشعتها في كل وادٍ _ اتسعت آمالهم وكبرت هممهم، وتربت في نفوسهم ملكة الاقتدار على الأعمال الجليلة.
ومن لوازمها اتساع دائرة المعارف بينهم، فتنفتق القرائح فهماً، وترتوي العقول علماً، وتأخذ الأنظار فسحة ترمي فيها إلى غايات بعيدة، فتصير دوائر الحكومة مشحونة برجال يعرفون وجوه مصالحها الحقيقية، ولا يتحرفون عن طرق سياستها العادلة. 72
52_ والحرية تؤسس في النفوس مبادئ العزة والشهامة، فإذا نظَّمت الحكومة منهم جنداً استماتوا تحت رايتها مدافعة لا يرون القتل سُبَّةً إذا ما رآه الناكسو رؤوسهم تحت راية الاستبداد. 72 _ 73(3/71)
53_ ثم إن الحرية تعلم اللسان بياناً، وتمد اليراعة بالبراعة، فتزدحم الناس على طريق الأدب الرفيع، وتتنوَّر المجامع بفنون الفصاحة، وآيات البلاغة؛ هذا خطيب يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، وذلك شاعر يستعين بأفكاره الخيالية في نصرة الحقيقة، ويحرك العواطف، ويستنهض الهمم لنشر الفضيلة، وآخر كاتبٌ، وعلى صناعة الكتابة مدار سياسة الدولة. 73
54_ ولم تكن ينابيع الشعر في عهد الخلفاء الراشدين فاغرةً أفواهها بفن المديح والإطراء، وإنما ترشح به رشحاً؛ وتمسح به مسحاً لا يضطهد من فضيلة الحرية فتيلاً.
وما انْفَلَّتْ وكاؤها، وتدفقت بالمدائح المتغالية إلا في الأعصر العريقة في الاستبداد. 73
55_ ولما وقر في صدر عمر بن عبد العزيز من تنظيم أمر الخلافة على هيئته الأولى لم يواجه الشعراء بحفاوة وترحاب، وقال: مالي وللشعر، وقال مرة: إني عن الشعر لفي شغل.
انتجعه جرير بأبيات، فأذن له بإنشادها، وقال له: اتق الله يا جرير ولا تقل إلا حقَّاً.
وعندما استوفاها واصله بشيء من حُرِّ ماله، فخرج جرير وهو يقول: خرجت من عند أمير يعطي الفقراء، ويمنع الشعراء، وإني عنه لراضٍ، ثم أنشد يقول:
رأيت رقى الشيطان لا تستفزه ... وقد كان شيطاني من الجن راقياً
ص73
56_ ومن مآثر الاستعباد ما تتجشَّأ به اللُّها، وتسيل به الأقلام من صديد الكلمات التي يفتضح لك من طلاوتها أنها صدرت من دواخل قلب استشعر ذلة، وتدثر صغاراً نحو =مُقَبِّل أعتابكم+ =المتشرف بخدمتكم+ =عبد نعمتكم+ ولا إخال أحداً يصغي إلى قول أحد كبراء الشعراء:
وما أنا إلا عبد نعمتك التي ... نسبت إليها دون أهلي ومعشري
إلا ويمثِّل في مرآة فكره شخصاً ضئيلاً يحمل في صدره قلباً يوشك أن ينوء بحمله بما فيه من الطمع والمسكنة. ص74(3/72)
57_ ومن سوء عاقبة الخضوع في المقال أن يوسم الرجل بلقب وضيع ينحته الناس من بعض أقوالٍ له أفرغ فيها كثبةً من التذلل، وبذلِ الهمة، كما سموا رجلاً باسم =عائد الكلب+ لقوله:
إني مرضت فلم يعدني واحد ... منكم ويمرض كلبكم فأعود
ص74
58_ ولا نجهل أن بعض من سلك هذا المسلك من التملق والمديح اتخذه سلماً؛ ليظفر بحق ثابت، ولكنه لا ينافي الغرض الذي نرمي إليه من أن الحقوق في دولة الحرية تؤخذ بصفة الاستحقاق، وفي دولة الاستبداد لا تطالب إلا بصفة الاستعطاف؛ وذلك الوزر الذي يحبط بفضل العزة التي نبهنا الله عليها، وأرشد من يريدها إلى أنها تطلب بالطاعة من الكلم الطيب، والعمل الصالح فقال _ تعالى _:
[مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ] فاطر10. ص74
وهذا الكتاب رد على كتاب: في الشعر الجاهلي لطه حسين، وهذه نبذة مختارة من بعض ما جاء فيه:
1_ نهضت الأمم الشرقية فيما سلف نهضة اجتماعية ابتدأت بطلوع كوكب الإسلام، واستوثقت حين سارت هدايته سيرها الحثيث، وفتحت عيون هذه الأمم في طريقة الحياة المثلى. ص هـ
2_ تمتع الشرف بنهضته الاجتماعية والأدبية حقباً، ثم وقف التعليم عند غاية، وأخذ شأناً غير الشأن الذي تسمو به المدارك، وتنمو به نتائج العقول، فإذا غفوةٌ تدِب إلى جفون هذه الأمم، ولم تكد تستفيق منها إلا ويدٌ أجنبيةٌ تقبض على زمامها. ص هـ
3_ هَبَّ بعضُ أولي الحكمة منا يقلبون وجوههم في العلل التي مسَّت أمم الشرق فقعدت بهم سنين عدداً، وبعثوا أقلامهم من مراقدها تصف هذه العلل، وتنذر الناس موتة اليأس، والجبن، والخمول، وتلقي عليهم دروساً في أسباب الحياة، ووسائل الخلاص. ص هـ _ و(3/73)
4_ التفت الشرق إلى ما كان في يده من حكمة، وإلى ما شاده من مجد، وإلى ما شاب في مهده من أعاظم الرجال، أخذ ينظر إلى ماضيه؛ ليميز أبناؤه بين ما هو تراث آبائهم، وبين ما يقتبسونه من الغرب، وليشعروا بما كان لهم من مجد شامخ؛ فتأخذهم العزة إلى أن يضموا إلى التالد طريفاً، وليذكروا أنهم ذرية أولئك السَّراة، فلا يرضوا أن يكونوا للمستبدين عبيداً. ص و
5_ أنشأ أولو الأحلام الراجحة من الزعماء والكتاب يأخذون بما يظهر من جديد صالح، ولا ينكثون أيديهم من قديم نافع؛ فاستطاعوا بهذه الحكمة والروية أن يسلكوا قلوب الأمة في وَحْدَةٍ، ويخطوا بها إلى حياة العلم، والحرية، والاستقلال. ص و
6_ نظر إلى هذه النهضة الزاكية مَنْ لا يرغبون في تقدم هذه الأمم إلى خلاصها ولو خطوة، وعرفوا أن بأيدي هذه الأمم كتاباً فيه نظم الاجتماعية، وآيات تأخذ _ في شرط إيمانهم به _ ألا يلينوا لسلطة شأنُها أن تسوسهم على غير أصوله؛ فما كان من هؤلاء القوم الذين يستحلون إرهاق الأمم إلا أن يبتغوا الوسيلة إلى فتنة القلوب، وصرفها عن احترام ذلك الكتاب.
والغاية تقويضُ بناء هذه الوحدة السائرة بنا إلى حياة سامية، وعز لا يبلى. ص و
7_ فسقت طائفة عن أدب الإسلام، أو أرهفت أقلامها؛ لتعمل على هذه الخطة الخاذلة غير مبالية بسخط الأمة، ولا متحرجة بما سينطق به التاريخ من وضع يدها في يد خفية لا شأن لها إلا نصب المكايد لأمة كان لها العزم النافذ، والكلمة العليا. ص ز
8_ تلهج هذه الطائفة باسم حرية الفكر، وهي لا تقصد إلا هذا الفن الذي أكبَّت عليه صباحها، ومساءها وهو النيل من هداية الإسلام، والغض من رجال جاهدوا في سبيله بحجة وعزم وإقدام.
ويكفي شاهداً على رياء هؤلاء الرهط أنهم يقيمون مآتم يندبون فيها حرية الفكر، ثم ينصرفون ويقولون فيما يكتبون: للحكومة أن ترهق الشعب، وترغمه على ما تراه أمراً لائقاً.(3/74)
ولو سبق إلى ظنك أن مؤلف كتاب =في الشعر الجاهلي+ هو عينهم الناظرة، وسهمهم الذي يرمون به في مقاتل أمتهم الغافلة لخلَّيت بينك وبين هذا الظن؛ إذ ليس لي على هذه الظنون الغالبة من سبيل. ص ذ
9_ فالقلم الذي يناقش كتاب =في الشعر الجاهلي+ إنما يطأ موطئأً يغيظ طائفة احتفلت بهذا الكتاب، وحَسِبْته الطعنة القاضية على الإسلام وفضل العرب [وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً]. ص ز
10_ وقع نظري تحت هذا الكتاب، وكنت على خبرة من حذق مؤلفه في فن التهكم ولو بالقمر إذا اتَّسق، والتشكيك ولو في مطلع الشمس الضاربة بأشعتها في كل واد؛ فأخذت أقرأه بنظر يزيح القشر عن لبابه، وينفذ من صريح اللفظ إلى لحن خطابه.
وما نفضت يدي عن مطالعة فصوله، حتى رأيتها شديدة الحاجة إلى قلم ينبِّه على علاَّتها، ويردُّ كل بضاعة على مستحقها.
وما هو إلا أن ندبت القلم لقضاء هذه المآرب، وسداد هذا العوز فلم يتعاصَ عليَّ. ص1
11_ و إنا لا نغمض لذلك الكتاب في مقال ينهبه، أو غمز في الإسلام يستعذبه؛ فإنا وجَدْتَنا نحاوره في نهب أو غمز فإنا لم نخرج عن دائرة نقده، ولم نتجاوز حد الباحث في مقتضيات لفظه؛ فإن كان في فمك مَلامٌ فَمُجَّهُ في سمعه؛ فهو الذي ألقى على سمعك نحواً من حديث قوم لا يتدبرون. ص2
12_ جِدَّةُ البحث لا تكفي لإعلاء شأن التأليف، وإحرازه في نفوس القراء موقع القبول.
وإنما يرجح وزن الكتاب بمقدار ما يتجلى فيه من حكمة النظر، وصدق المقدمات، ووضوح النتيجة. ص3
13_ كنا نتمنى أن يهتدي المؤلف إلى نحو من البحث =لم يألفه الناس عندنا من قبل+ وقد أبت الليالي أن تسمح بهذه الأمنيَّة، فلم يكن منه إلا أن أغار على كتب عربية، وأخرى غربية، فالتقط منها آراءاً، وأقوالاً نظمها في خيوط من الشك والتخيل، وقال: =هذا نحو من البحث في تاريخ الشعر العربي جديد+. ص3 _ 4(3/75)
14_ فإعجاب الرجل ببحثه، وإيمانه به إيماناً لا يعرف أنه شعر بمثله _ لا يكسبان البحث ذرة من قوة، ولا يدنيانه من الحقيقة فتيلاً. ص4
15_ كم كتابٍ صُنع ليطعن حقاً، وكم كتاب صنع ليمحو أدباً، ولا يعجز أحد من صانعي هذه الكتب أن يقول: وأنا مطمئن إلى أن هذا البحث وإن أسخط قوماً فسيرضي هذه الطائفة المستنيرة، ويأتي في وصف هذه الطائفة على كل ما تحمله اللغة من ألقاب المديح والإطراء.
ولكن الذي يعجز عنه، ولا يهتدي إليه طريقاً أن يصدق اطمئنانه، ويأخذ كتابه في نفوس الطائفة المستنيرة مأخذ الرضا؛ فإن هذه الطائفة إنما تقاد بزمام الحجة، وصدق اللهجة، لا بكلمات تُحرَّف عن مواضعها، وشُبَهٍ من الباطل تخرج في غير براقعها. ص4 _ 5
16_ وما على العلماء النقاد إلا أن يكونوا لهؤلاء الكتاب بالمرصاد، ويعرضوا أقوالهم على قانون العلم الصحيح؛ فإما أن يرجح وزنها؛ فيرفعوا لها ذكراً، وإما أن يطيش وزنها، فينسفوها بالحجج الرائعة نسفاً. ص6
17_ وأبى قلمه أن يسلو حِرفةَ الغمز، فسلك في كثير من المواضع طرق المهرة من الكتاب في صوغ عباراتٍ ظاهرُها البحث في الشعر الجاهلي، وباطنها الدعاية إلى غير سبيل المؤمنين.
ولو صح أن تعصر هذه العبارات لتقاطر من خلالها قذفٌ فاحش، وفسوق كثير. ص16 _ 17
18 _ ألم يكن من أدب الأستاذ أن يربي نفوس التلاميذ على عزة ونخوة.
ومن أسباب عظمة النفس ومقامرتها في الشرف شعورها بأنها غصن من شجرة نبتت نباتاً حسناً، وآتت أكلها ضعفين. ص134
19_ إن شعور نشأنا بما كان للشرق من حلوم راجحة، وحياة علمية زاهرة لَيجعلهم من سمو الهمة، وقوة العزم بمكان لا تحظى به نفوس يقال لها: انسلخي من شرقيتك؛ إنها مرذولة، اخرجي في صبغة غربية؛ إنها أخذت الكمال من جميع أطرافه؛ ص135(3/76)
20_ تدرس الأمم الراقية تاريخها؛ لأنه علم، وتعنى بدرسه؛ لأنه يفضي إلى أبنائها بما كان لسلفهم من مآثر فاخرة؛ فيدخلون معترك هذه الحياة بشعور سامٍ، وهمم يصغر لديها كل خطير.
أما المؤلف فإنه يدس في محاضراته فقراتٍ شَأْنُها الإزراء بأي قومية شرقية، وقد نفذت هذه الدسيسة في نفر حتى تيسر لها أن تجمع في نفوسهم بين المهانة والغرور. ص135
21_ فالتاريخ يشهد بأن في العرب رجالاً أنفقوا في سبيل الإسلام كل ما استطاعوا من قوة، وسيرتهم تنطق بأنهم أقاموا الدعوة إليه بعقيدة أنه هداية، ومنبع سعادة.
وسواء عليهم بعد ذلك الجهاد الحق أن يعيشوا به أعزة سعداء، أو يموتوا شهداء. ص140
22_ فإن في الإسلام حجةً وحكمة تأخذان ذوي الفطر السليمة، والعقول السامية إلى أن يتصلوا به، ويرضوه، ولو نسلت عليهم الخطوب من كل حدب. ص141
23_ أما الضغائن التي ظهرت، والفتن التي استيقظت فلم يكن منشؤها نقصاً في التشريع كما يزعم المؤلف، بل سببها قلة العلم بالتشريع، وعدم القدرة على التطبيق، أو تغلب الأهواء؛ إذ لا عصمة إلا لأنبياء الله المصطفين. ص150
24_ يسهل على المؤلف أن يضع إصبعه في سيرة يزيد بن معاوية، أو حماد الراوية؛ لأنه يجد في التاريخ الصحيح، أو الباطل ما يَعْبُر به إلى الحديث عنهما بغلو أو إغراق، ثم لا يعدم أذناً تصغي إليه، أو قلباً يتلهى به.
أما عمر بن الخطاب فإن سيرته متجلية تحت نبراس من التاريخ الصحيح لا يستطيع القلم أن يغير منها لوناً، أو يسومها كيداً، وإن ركب منهج ديكارت، وتناول زاده من حقيبة مرجليوث. ص156
25_ ومن لا يدري ما الإيمان ولا الإخلاص قد يجيء على باله أن يشتري سكوت المؤمنين المخلصين بكلمة مديح أو إطراء. ص247
26_ إننا أمة بحث ونظر نذهب مع العلم كل مذهب، ولا نقف لحرية الفكر في طريق، وإنما نحن بشر، والبشر تأبى قلوبهم إلا أن تزدري أقلاماً تثب في غير علم، وتحاور في غير صدق.(3/77)
وإنما نحن بشر، والبشر تأبى لهم أقلامهم إلا أن تطمس على أعين الكلمات الغامزة في شريعة محكمة، أو عقيدة قيمة. ص362
=تعريف مختصر بالكتاب+:
هذا كتاب للمؤلف × أعده وضبطه ابن أخيه الأستاذ علي الرضا الحسيني، والفقرات الآتية مقال كتبه المؤلف بعنوان =خواطر+ وقد نشرت هذه الخواطر على حلقتين في مجلة =البدر+الصادرة باسم =العرب+ الجزء الرابع من المجلد الثالث في شهر ربيع الثاني عام 1342، والجزء السابع من المجلد الثالث الصادر في شهر رجب 1343هـ.
يقول ×:
إن كبر عقلك، فأصبح يعلمك ما لم تعلم، واتسع خيالك، فبات يلقي عليك من الصور البديعة ما يلذه ذوقك _ فأنت ما بين أستاذ يمحض نصيحته، ونديم لا تمل صحبته.
يعلمك الأستاذ كيف تغوص في عميق البحار، ويريك نموذجاً من الدر يتميز بينه وبين الأحجار، وهمتك تخلد بك إلى الإملاق، أو تجعلك المجلّي في حلبة السباق.
سميت الاستخفاف بالشرع حرية، فقلت: برع في فن المجاز، وتهكم بمن أصبح عبداً للهوى، وسميت النفاق كياسة، فقلت: خان الفضيلة في اسمها، أو خانه النظر في فهمها.
تنظر النفس في سيرة الرجل العظيم كما تنظر العين في الزجاجة النقية، فتدرك مساويها؛ أفلا تصنع بمآثرك الحميدة مرآة يبصر بها الناشئ بعدك صورته الروحية فيصلحها.
سرت والنورُ أمامك، فانطلق ظلك على أثرك، ثم وليته قفاك، فكان الظل يسعى وأنت على أثره، وهكذا العقل، يتقبل فيتبعه الخيال، فإذا أدبر عنها انقلب الخيال إلى الأمام، وقاده في شُعب الباطل بغير لجام.
تبسط لسانك بالنكير على من يقلد في الدين، ولولا أنك تتلقى قول الفيلسوف على غير هدى، لقلت: باكورة الاجتهاد قد أينعت.
هذه الدنيا كالعدسة الزجاجية في الآلة المصورة، تضع الرأس بموطئ القدم، وترفع القدم إلى مكان الرأس؛ فزنوا الرجل بمآثره لا بما يبدو لكم من مظاهره.(3/78)
يبسط الشجر ظله للمقيل، ويقف بعد موته بقناديل الكهرباء على سواء السبيل؛ أفانت تجير البؤس وهو أحر من الرمضاء، وتوقد سراج حكمة يهدي بعد موتك إلى المحجة البيضاء.
يصنع الصانع الحلي، وتضع ما تتجمل به النفوس في محافل العلى، فإن ظلت تتهافت على صانع الخواتم والسلاسل فاعلم أنها ما برحت لاهية عن هذه المحافل.
10_ حسبت العلم ضلالاً فناديت إلى الجهل، وآخر يزعم التقوى بلهاً فكان داعية الفجور، ولولا ما تلقيناه في سبيلنا من هذه الأرجاس، لكنا خير أمة أخرجت للناس.
11_ ربما كان صانعُ الأسنّة أرقَّ عاطفةً من الطبيب، والسفيه أحفظ للحكم البالغة من الأديب، ولكني أطلب نفس الرجل حثيثاً، وأناجيها فلا تكتمني حديثاً.
12_ كان هذا الغصن رطيباً، وعيش البلبل به خصيباً ولكنه سحب عليه ذيل الخيلاء، فأصبح يتقلب في ذلك البلاء، ويرتجف كما ترتجف اليد الشّلاء.
13_ كل جوهرة من عقد حياة محمد _عليه السلام_ معجزة؛ فإن أساليب دعوته ومظاهر حكمته لا يربطها بحال الأمية إلا قدرة تتصرف في الكائنات بحكمة أبلغ مما تستدعيه طبائعها.
14_ العفاف نور تستمده النفس من مطلع العقل، فإن ضرب عليها الهوى بخيمته السوداء، خسفت كما يخسف القمر إذا حجزت الأرض بينه وبين الشمس.
15_ ينزوي البحر؛ فتضع السفينة صدرها على التراب، وينبسط؛ فتمر على الماء مرَّ السحاب.
والعقل يظل في موقعه من النفس طريحاً، فإن فاضت عليه الحكمة سار في سبيل النظر عَنَقاً فسيحاً.
16_ إن تخبطك السفه أهانوك، وإن قعد بك البله أعانوك؛ لأنك تستطيع أن تكون تقياً، وليس في يدك أن تكون ألمعياً.
17_ تتجلى فضيلتك؛ فتنسج في هذه النفس عاطفة أرق من النسيم، وتوقد في أخرى حسداً أحر من الجحيم، وكذلك المزن ينسكب على أرض؛ فتبتسم بثغر الأُقحوان، وينزل على أخرى؛ فتقطِّب بجبهة من حَسَكِ السعدان.(3/79)
18_ جنيتُ وردةً لأُخَلِّصها من الشوك الذي يساورها من كل جانب، فما لبث أن طفئت بهجتها، وسكنت أنفاسُها؛ فعلمت أن النفوس الزاكية لا تتخلص من النوائب إلا يوم تموت.
19_ الشر نار كامنة في قلوب تحملها صدور المستبدين، فإن قَدَحْتَها بنقد سياستهم كنتَ لها قوتاً، إلا أن تكون بإخلاصك وحكمتك البالغة ياقوتاً.
20_ إذا قلت في السياسة ما لا تفعل، أوهِمْتَ في واد لا تعرُج فيه على حقيقة_ فانفض ثوبك من غبارها؛ فإنه ليس من الغبار الذي يصيبك في سبيل الله.
21_ إنما يقطف الفيلسوف من المنافع ما تتفتق عنه أكمام الحقيقة، ولا يعرج السياسي بنظره على الحقائق إلا إذا أطلِّت عليه المنفعة من ورائها.
22_ لا تجادل المعاند قبل أن يأخذ الاستهزاء به في نفسك مكان الغضب عليه؛ فالغضب دخان يتجَّهم به وجهُ الحجةِ المستنيرة، وابتسامُ التهكمِ بَرْقُهُ يخطف البصرَ قبل أن تقع صاعقة البرهان على البصيرة.
23_ لا يمنعك من وضع المقال على محك النظر أن تتلقاه ممن هو أصفى منك ذهناً أو أرجح وزناً؛ فإن الورق لا يقبل ما يرتسم في الزجاجة من الصور إلا بعد إصلاح خطئها، وإعادته الألوان إلى مبدئها.
24_ أرى موقع الليل من هذه البسيطة لا يفوت مقدار نهارها، فرجوت أن لا يكون الباطل أوسع مجالاً من الحقيقة، ولكن الشمس ترمز بكسوفها إلى أن أخطأت في القياس، وبنيت رجائي على غير أساس.
25_ العالم بستان، تجوَّل فيه الفيلسوفُ فقال: كيف نشأت هذه الأزهار والثمار؟ ولماذا اختلفت في النعوت والآثار؟ وطاف فيه السياسي فقال: متى يقطف هذا الثمر؟ وتؤتي تلك الشجرة أكلها؟
26_ سكبت ماءاً حاراً في زجاجة؛ فتأثر أحد شطريها بالحرارة، واستمر الآخر على طبيعة البرودة؛ فتصدع جدارها.
وكذلك النفوس الناشئة على طبائع مختلفة لا يمكن التئامها.(3/80)
27_ كان لسان الدين بن الخطيب جنة أدب تجري تحتها أنهار المعارف فآتت أُكلها ضعفين، ولكن تنفست عليه السياسة ببخار سام؛ فخنقته، وشب نار الحسد في القلوب القاسية؛ فأحرقته.
28_ تلهج بأن الشيخ لا يسوس المصلحة بحزم، فإن بَلِيَ بَرْدُ شبابك ولم تُلْقِ زمامَها من تلقاء نفسك، فقد فندت رأيك، أو أضمرت العبث في السياسة.
29_ في الناس من لا يلاقيك بثغر باسم إلا أن تدخل عليه من باب البله، أو تلطخ لسانك بحمأة التملق؛ فاحتفظ بألمعيتك وطهارة منطقك، فإنما يأسف على طلاقة وجهه قوم لا يعقلون.
30_ بين جناحك قوة تجذب إلى جوارك العمل وهي الإرادة؛ فاستعذ بالله أن تكون كالجاذبية الأرضية تستهوي الصخرة الصماء إلى النفس المطمئنة؛ فتمحقها.
31_ شَدَدْتَ وصلَك إلى سوق العرفان؛ ليقتني ما يَلَذُّ ذوقَك من درر حسان؛ فإذا اغبرت لؤلؤة إيمانك بوسواس المفتون فقد خسرت تجارتك ولو أصبحت تتهكم على آراء أفلاطون، وكشف لك من الكيمياء والزراعة عن كنوز قارون.
32_ لا ترسل فكرك وراء البحث عن حقيقة قبل أن ينفخ فيه روح الاستقلال؛ فإن التقليد موت، وما كان لجثث الموتى أن تغوص الأبحر العميقة.
33_ لا عجب أن يتفجر بين أيديهم ينبوع الآداب صافياً، وتهوى أنفسهم أن تغترف غُرْفَةً من مستنقعها الأقصى؛ فإن من الأبصار المعتلة ما لا يقع نظره إلا على شبح بعيد.
34_ النفس راحلةٌ تحمل أثقالك إلى بلد السعادة؛ فإن لم تسر بها إثْرَ الشريعة القيمة، أولجت بك في مهامِهَ مُغْبَرَّةٍ، وإن بلغت في الفلسفة ما بلغ شاعر المعرة.
35_ سيروا في تهذيب الفتاة على صراط الله المستقيم؛ فإن منزلتها من الفتى منزلةُ عَجُزِ البيت من صدره، ولا يحسن في البيت أن يكون أحدُ شطريه محكماً والآخر متخاذلاً.
36_ لا يدرك أعشى البصيرة من الحدائق المتناسقة غير أشجارِ ذات أفنان، وثمار ذات ألوان، وإنما ينقِّب عن منابتها وأطوار نشأتها ذو فكرة متيقِّظة.(3/81)
37_ لا تداهنوا المولعَ بقتل حريتكم؛ فأبخس الناس قيمة من تصرعه الخمر، كالذي يتخبطه الشيطان من المس، ثم لا يلبث أن يلبسها من تسبيح مدحه حللاً ضافية.
38_ إن من الجهّال من يرمي به الزمن على مقام وجيه؛ فَعَلِّمْه بسير تلك القيمة أن الجهالة لا ترجح على العلم وزناً وإن وضع بإزائها السلطة الغالبة، أو الثروة الطائلة.
39_ بذرت أيام الشباب آمالاً لم تقطف ثمرها إلا حين أقبل المشيب، وهل يتمنى الحاصد للثمار يعود إلى أيام الحراثة والزراعة والانتظار؟ !
40_ يكفي الذي يسير في سبيل مصلحة الأمة، وهو يرقب من ورائها منفعة لنفسه أن يكون في حل من وخزات أقلامها، وإنما يحمد الذي يجاهد لسعادتها، وهو لا يرجو نعماء ينفرد بها في هذه الحياة.
41_ لا تنقل حديث الذي يفضي به إليك عن ثقة بأمانتك، ويمكنك _ متى كان يرمي إلى غاية سيئة _ أن تجعل مساعيك عرضة في سبيله؛ فتحفظ للمروءة عهدها، وتقضي للمصلحة العامة حقها.
42_ لو فكرت في لسانك حين يتعرض لإطراء نفسك لم تميزه عن ألسنة تقع في ذمها إلا بأنة يلصق بك نقيصه، لا يحتاج في إثباتها إلى بينة.
43_ ألا ترى الماء الذي تقع في مجارية الأقذار، كيف يتهجَّم منظُره، ويخبُثُ طعمُه؛ فاطرد عن قلبك خواطر السوء؛ فإنه المنبع الذي يصدر عنه عملك المشهود.
45_ قد يقف لك الأجنبي على طرف المساواة، حتى إذا حل وطنك متغلباً طرحك في وهدة الاستبعاد، واتخذ من عنقك الحر موطئاً.
46_ لا يحق للرجل أن يكاثر بمن يتقلد رأيه على غير بينة، إلا إذا وازنه وقارنه بالصحف المطوية على آثارهم في نسخ متعددة.
=نبذة عن المؤلف+:
هو محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور، ولد في ضاحية المرسى في تونس سنة 1296هـ بقصر جده للأم الصدر الوزير محمد العزيز بو عتور.(3/82)
وقد شب في أحضان أسرة علمية، ونشأ بين أحضان والد يأمل أن يكون على مثال جده في العلم والنبوغ والعبقرية، وفي رعاية جده لأمه الوزير الذي يحرص على أن يكون خليفة في العلم والسلطان والجاه.
تلقى العلم كأبناء جيله؛ حيث حفظ القرآن، واتجه إلى حفظ المتون السائدة في وقته، ولما بلغ الرابعة عشرة التحق بجامع الزيتونة سنة 1310، وشرع ينهل من معينه في تعطش وحب للمعرفة، ثم برز ونبغ في شتى العلوم سواء في علوم الشريعة، أو اللغة، أو الآداب أو غيرها.
وله مؤلفات عديدة في شتى الفنون، منها تفسيره المسمى بالتحرير والتنوير، ومقاصد الشريعة، وأصول النظام الاجتماعي في الإسلام، وكشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ، ورد على كتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق، وأصول التقدم في الإسلام، وأصول الإنشاء والخطابة، وغيرها كثير.
توفي × يوم الأحد 13 رجب 1393هـ.
وإذا أردت التوسع في ترجمته فارجع إلى كتاب شيخ الجامع الأعظم محمد الطاهر بن عاشور حياته وآثاره، تأليف د. بلقاسم الغالي.
=تعريف بالكتاب+:
هذا الكتاب الذي بين أيدينا سماه مؤلفه: =أليس الصبح بقريب+
وقد كتبه × عام 1321هـ وعمره أربع وعشرون سنة.
وقد قصد من كتابه إصلاح التعليم العربي والإسلامي، وتكلم من خلاله على أحوال العلوم الإسلامية، وطرائق تعليمها، وأسباب النهوض والانحطاط العارضين لها.
ويمكن إجمال ما تكلم عليه في ذلك الكتاب الماتع بما يلي:
1ـ أطوار التعليم في الأمة العربية قبل الإسلام، وفي أشهر الأمم المعاصرة للعرب.
2_ أطوار التعليم العربي عند ظهور الإسلام وبعد ظهوره.
3_ نقل العلوم الفارسية والهندية واليونانية.
4_ وصف التعليم الإسلامي وأساليبه، ومناهجه.
5_ الطريقة في معرفة أهلية المتصدي للعلم.
6_ صفة الدروس، ومواضع التعليم.
7_ الكتاتيب، وأوليتها في الإسلام.
8_ معاهد تعليم المرأة.
9_ تعليم المرأة.(3/83)
10_ انبثات العلوم الإسلامية في الأقطار: في مصر وأفريقية، والأندلس، وبلاد الفرس، والمغرب الأقصى.
11_ مواضع التعليم فيها، وأسلوب التعليم.
12_ طور التفكيرالعلمي، والمشاركة في العلوم.
13_ الكتب التي كانت تزاول.
14_ تفصيل لمواضع التعليم في تونس، وأسماء علماء تونس.
15_ حديث التآليف، وتاريخ أطوارها ووجوه إصلاحها.
16_ حديث عن العلوم، وتفصيل في تقسيمها.
17_ تفصيل عن علوم الشريعة وعلوم اللغة، والمنطق والتاريخ، والفلسفة والرياضيات.
18_ حديث عن المعلمين ومراتبهم.
19_ حديث عن الامتحانات.
20_ تطرقُ الانتقاد للنظام التدريسي.
إلى غير ذلك من المباحث الرصينة، والتحريرات العالية، والتحقيقات الرائعة الماتعة التي قل أن توجد في غير هذا الكتاب.
ولقد أودع المؤلف × هذا الكتاب نظراته الفاحصة، وانتقاداته الموفقة، وآراءه السديدة، ومقترحاته الدقيقة، وملاحظاته القيمة التي كانت سبباً للنهوض بالتعليم في بلاده وغيرها.
كل ذلك بأسلوب أخَّاذ، ولغة عالية، ونَفَس مستريض.
وما أجدر دعاة إصلاح التعليم أن يدرسوا هذا الكتاب، ويفيدوا مما فيه من العلم، والتجارب.
والكتاب يقع في 276 صفحة، توزيع الشركة التونسية للتوزيع.
=نقول من كتاب أليس الصبح بقريب+:
1_ قد كان حدا بي حادي الآمال، وأملَى عليّ ضميري، من عام واحد وعشرين وثلاثمائة وألف، للتفكر في طرق إصلاح تعليمنا العربي الإسلامي الذي أشعرتني مدة مزاولته متعلِّماً ومعلِّماً بوافر حاجته إلى الإصلاح الواسع النطاق؛ فعقدت عزمي على تحرير كتاب في الدعوة إلى ذلك وبيان أسبابه، ولم أنشَبْ أن أزجيت بقلمي في ابتداء التحرير فإذا هو يسابقني كأنه من مطايا أبى العلاء القائل:
ولو أن المطي لها عقول ... وجَدِّك لم نَشُدَ لها رحالا
ص5(3/84)
2_ وصادفتُ أيام عطلة التدريس الصيفية في ذلك العام، فقضيتُ هواجِرَها الطويلة، وبُكَرها الجميلة، في هذا العمل، مشتغلاً به عن محادثة الأحباب، وعن دَعة التنعم بمغتَسَلٍ بارد وشراب، حتى وقف بي القلم عند انتهاء الاستراحة في مدة شهرين إلى تحرير جملة كانت مشجّعتي على مراجعة عملي هذا في ثلاثة أصياف وعنونته =أليس الصبح بقريب+.
وكان من العزم تهذيبه وإصداره، فحالت دون ذلك موانع جمة، لم تزل تطفو وتركد، وتغفو وتسهد، غير أني لم أدع فرصة إلا سعيت إلى إصلاح التعليم فيها بما ينطبق على كثير بحسب ما سمحت به الظروف، وما تيسر من مقاومة صانع منكر ومانع معروف، ما حرك سواكني إلى إبراز هاته الآراء التي كنت أمليتها، ونشر الأوراق التي خشيت عليها عواصف الأهواء؛ فطويتها. ص5
3_ وهاأنذا متقدم إلى خوض بحر أرى هول أمواجه قد حاد بعقول كثير من ذوي الألباب، فولوا عنه مدبرين، وتكلموا في إصلاحات نافعة من مصالح المسلمين، لكنها كلها كانت متوقفة على هذا المقصد الجليل المغفول عنه =مبدأ إصلاح التعليم+.
ولطالما كنت أقدم رجلاً وأؤخر أخرى، وأعلم أن نور عقلي هو دون إضاءة هاته المجاهل التي صفدت عليها منافذ الأنوار والأهوية الخالصة، فامتلأت بالحوامض الرديئة منذ أزمان.
وإذ قد كان من المعلومات المسلمة أن الله _ تعالى _ استخلفنا في الأرض ومنَّ علينا بنور العقول ونبهنا باختلاف النظام في الدنيا إلى أحوال الرقي والانحطاط، وقال: [انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ] فما طَمَاعِيَتُنا من هذا السكوت الطويل، وما إغراقُنا في هذا السبات العميق؟ ص6(3/85)
4_ إذاً قد كان واجباً علينا؛ خدمةً للملة، وتهيئة للنشأة العلمية التي تزيِّن مستقبلنا وتمجِّد ماضينا أن ندخل تلك المجاهل نرفع بإحدى يدينا مشاعل النور، ونقطع بالأخرى ما يمانع من حجرات العثور، فإن لم نصل بعدُ إلى غاياتها فعسى أن لا نبعد، وإن سلمنا من أن نشقى باللئام فما ضرنا أن لا نسعد، ولنا في ذلك كله معذرةُ العارفين، وشهادةُ أو تزكيةُ المنصفين. ص6
5_ نحن نشتغل في هذا العالم؛ لنحصل السعادة حيثما توجهنا وذلك بجلب المنافع واتقاء المضار.
فنحن _ إذاً _ في أشد الاحتياج إلى العلم بوجوه استقامة الأشغال وهي المراد من التعليم؛ ليكون المتعلم بذلك راضياً عن نفسه، واثقاً بحصول مبتغاه من عمله، ترى ذلك في كل العلوم؛ فكما ترى الرضا عن نفسك في معاشرتك بما اكتسبته من علم تهذيب الأخلاق ترى الرضا عنها في صنائعك إن كنت تصنع وفي سائر أكوانك التي تدخل تحت سلطان إرادتك؛ فلا يسوء ظنك بشيء ما، ولا تكون مكدوداً من القصور عندما ترى نفوساً يسمو بها الارتقاء في أوج المعالي، بل إما أن تسابق معها بجناح، أو تَعْلَمَ _ بالأقل _ أن للطيران فرصَ استكمالِ قوةٍ أو مساعدة رياح، كما قال الزمخشري:
يا من يحاول بالأماني رتبتي
أأبيتُ ليلي ساهراً وتضيعه ... كم بين منخفضٍ وآخرَ راقي
نوماً وتأْملُ بعد ذاك لحاقي
ناهيك بما يجده المتعلم إن بلغ حدَّ أن يكون معلماً من الابتهاج بما يبيِّن للمتعلمين من الحقائق، وما يعالجه من إنشاء أمة مستقلة.
هاته منافع العلوم الحاجية التي تدعو إلى معرفتها حاجة الحياة الاجتماعية، وهي تختلف أعدادها باختلاف الحاجات الداعية ولا يَقْدر أن يحدد عددها أحد، لكنُ لا شك أن تقدم الحضارة يوفر كثرتها.(3/86)
لأجل هذا كان من واجب كل داع إلى التعليم أن يوضح لطالبيه الغايات التي يحصلونها من مزاولة ذلك التعليم سواء كانت غاية دنيوية أو أخروية؛ لأن لكلتا الغايتين طُلاباً، فتلك الغاية هي التي يجتني منها المحصل على نهاية ذلك التعليم نفعاً لنفسه دنيوياً وأخروياً، ووراء هاتين غاية هي أسمى وأعظم مما يبدو منها وهي إنتاج قادةٍ للأمة في دينها ودنياها، وهداةٍ هم مصابيح إرشادها، ومحاصد قتادها، ومهدئوا نفوسِها إذا أقلقها اضطراب مِهاَدها. ص7 _ 8
6_ فالتعليم الصحيح _ إذاً _ يرمي إلى إنشاء أرقى أصناف الناس من كل من تمرس بالأشغال والأعمال، أو رُزِقَ المواهبَ الحسنةَ، ورَغِبَ في سلوك خير السبل، وشغف بالمعرفة، وامتاز بحب الواجب والتعقل. ص9
7_ إني على يقين أنني لو أتيح لي في فجر الشباب التشبع من قواعد نظام التعليم والتوجيه لاقتصدت كثيراً من مواهبي ولاكتسبت جَمَّاً، من المعرفة ولسلمت من التَّطَوُّح في طرائق تبين لي بَعدَ حينٍ الارتدادُ عنها، مع أني أشكر ما منحت به من إرشاد قيم من الوالد والجد ومن نصحاء الأساتذة، ولا غنى عن الاستزادة من الخير. ص9
8_ نبحث عن تعليم يفيد ترقية المدارك البشرية، وصقل الفِطَر الطيبة؛ لإضاءة الإنسانية، وإظهارها في أجمل مظاهرها فيخرج صاحبها عن وصف الحيوانية البسيط وهو الشعور بحاجة نفسه خاصة، إلى ما يفكر به في جلب مصلحته ومصلحة غيره بالتحرز من الخلل والخطأ بقدر الطاقة، وبحسب منتهى المدنية في وقته. ص12
9_ كان العرب في الجاهلية يلقنون أبناءهم وبناتهم ما هم في احتياج إليه من المعارف يُعِدُّونهم بها إلى الكمال المعروف عندهم. ص17
10_ وسبب اشتهار الشعراء هو أن الشعر ضرب مستحدث من الكلام وأسلوب من المعنى غريب، وهو بجودة وزنه، والتزام قوافيه يتنزل منزلة التوقيعات الموسيقية، فكان يستفز الحليم، ويجرئ الجبان. ص21(3/87)
11_ حفظ العرب لغتهم من التغيير؛ فعدُّوا الخطأ فيها عيباً يُتعيَّر به، وشهَّروا بأصحاب الفهاهة واللثغة، وأعلنوا بدائع شعرهم وخطبهم في أسواقهم المشهورة أيام مواسم الحج، فكان عِلْمُهُمُ الحقُّ هو أدبَ لُغتِهم، وهو علمهم العقلي الوحيد.
ولهم معارف وتقاليد حافظوا عليها كانوا يعدون العلم بها من صفات الكمال، أهمها معرفة أنسابهم واتصال قبائلهم بعضها ببعض. ص21
12_ وكان لنسائهم عناية بتعليم البنات تدبيرَ البيت، وحسنَ التبعل للأزواج، والشفقةَ في تربية صغار إخوتهن. ص21
13_ وأما علم البلاغة، فلم يدوَّن ويُفْرُد بالتسمية والتأليف إلا في القرن الخامس؛ لأنه كان مندرجاً في جملة علم الأدب.
ويقول بعض الناس إن الجاحظَ أولُ من ألَّف فيه، لكنِّي أرى ما ألفه الجاحظ كان غير مصنف وإنما كانت مسائل البلاغة شعبةً من شعب النحو والأدب. ص32
14_ ولكن الذي خص علم البلاغة بالتدوين هو الشيخ عبد القاهر الجرجاني (ت سنة 471هـ) في كتابيه: كتاب دلائل الإعجاز، وكتاب أسرار البلاغة؛ فهو أعطى ألقاباً للمسائل، وأخرج الكلام في الإعجاز عن الصفة الجزئية إلى قواعد كلية مسهبة مبرهنة.
على أن علم البلاغة لم يصِر فَنَّاً مهذباً إلا منذ صنف فيه الإمام يوسف السَّكَّاكي(ت سنة 626هـ)القسم الثالث من كتابه مفتاح علوم العربية. ص33
15_ وكان معاذ هذا _ يعني الهرَّاء _ يدَّعي أنه يرى الجن، وَوَضَعَ في أخبارهم كتباً أدبية أثبت فيها شعرهم ومُلَحَهم يريد بذلك الطريقة الروائية والمقامات غير أنه يظهره في صورة جد، فقال له الرشيد: =إن كنت رأيت ما ذكرت لقد رأيت عجباً، وإن كنت ما رأيت لقد وضعت أدباً+. ص33(3/88)
16_ ومما تقدم إلى هنا: تعلم أن العلوم التي كانت تدرس، وتدون يومئذ تنتهي إلى اثنين وثلاثين علماً هي: التفسير، الحديث، السيرة، اللغة، النحو، الصرف، التصوف، العَروض، الفقه، أصوله، التاريخ، الطب، آداب العرب، البلاغة، الفلك، المنطق، الفلسفة، الهندسة، الحساب، الهيئة، الجغرافيا، الموسيقى، علم الحيوان، الطبيعة، الرواية والقصص، الكلام، الصيدلة، الكيمياء، الفلاحة، المساحة، الجبر، جر الأثقال والتحرك، وتتبعها علوم تتفرع عن بعضها مثل مصطلح الحديث، والجدل، وآداب البحث، ونقد الشعر. ص39
17_ تثبت أهلية القارئ لأن يؤخذ عنه القرآن، والعالم لبث العلوم الإسلامية _ بالاشتهار بين أهل ذلك العلم بأن فلاناً عالم ضابط حافظ. ص52
18_ وكان من الآداب أن تكون بين الحلقة القريبة من الأستاذ وبين أستاذهم مسافة قوس، ويعدون القرب من الأستاذ أكثر من ذلك من سوء التربية. ص54
19_ كان العلم الإسلامي في مصر قد استقر منذ الفتح الإسلامي سنة 16 إذ سكن في مصر كثير من الصحابة مثل عمرو بن العاص، وابنه عبد الله بن عمرو، وقيس بن عبادة، وعبيد الله بن محمد المعافري _ وهو أول من قرأ القرآن بمصر _. ص62
20_ السبب الرابع من أسباب تأخر التعليم: عُرُوُّ التعليمِ عن مادة الآداب وتهذيب الأخلاق، وشرح العوائد النافعة، وغيرها.
وهو السبب الذي قضى على المسلمين بالانحطاط في الأخلاق والعوائد.
وقد اعتنى المسلمون في صدر الإسلام بذلك فتلقوا آداب القرآن، وهدي الرسول، ثم عززوه في عصور نهضتهم بعلوم آداب الشريعة والمواعظ.
أما إهماله بعد ذلك فسببه تأخر المسلمين وقصور أنظارهم واعتقادهم أن العلم منحصر فيما تتضمنه القواعد العلمية كالنحو، والفقه وبعبارة أخرى ميل طائفة العلماء إلى الحفظ والاستكثار من فروع المسائل ومن عدد العلوم.
ومن العار الكبير أن ترى كثيراً ممن ينتصب لتعليم النشأة تعجبك أجسامهم، وتبهجك بزَّتُهم، وتعظم صورهم.(3/89)
ولكن ما بينك وبين أن ترمقهم بضد ذلك إلا أن تُحَاكَّهم وتعاشرهم أو تجادلهم؛ فترى تلك الهياكلَ العظيمةَ فارغةً من الفضيلة ومكارم الأخلاق والمروءة، وبذلك رزئت الأمة أنفع عنصر في حياة الأمم وكمالها وهو الأخلاق.
وإذا كانت تلك حالةَ خاصةِ الناس فما ظنك بعامتهم؟ وإذا ذهب وقت التعليم عن الطلبة ولم يتلقوا فيه فضائل الأخلاق فمن العسير أو المتعذر تلقينها لهم من بعد؛ لأن فيما يدخل فيه المحصل على الشهادة أو نحوه من معترك الحياة شغلاً شاغلاً عن ذلك. ص124
21_ والواجب من حيث خطتنا التي نريد أن تسير فيها أبناؤنا وتلامذتنا هو التدريب على ضروب الحكمة، ونقد مقتضيات الزمان، وعلو الهمة، والغيرة للحق، والترفعُ عن سخائف المطامع، وعن ضيق الصدر الذي ينشأ عنه الحسد، والظلم، والخصام، والتلطي من كل ما يخالف المقصد، والإقدام، والحزم وأصالة الرأي، وحب النظام في جميع أحوال الحياة، والعمل، وحب التناسب في المظاهر كلها، وإدراك الأشياء على ما هي عليه، والتباعد عن الخفة والطيش، وعن الجمود والكسل، وسوء الاعتقاد، والأمور الوهمية بحيث يكون العدل في جميع الأشياء صفة ذاتية لهم. ص 125
22_ نعم نحن نرى أن لا يقع النقد إلا في الدروس العالية، أما التلامذة المبتدئون والمتوسطون في أول الرتبة فإنا نلقي إليهم القواعد، وما كان من رأي فيه نظر ننقحه ونلقيه لهم من غير إشعار بما كان فيه من الخلل وكيف وقع تنقيحه، حتى إني كنت أصرفهم عن سرد الشرح مثلاً متى علمت أن في ذلك الموضع ما لا يصلح تَلَقِّيه. ص127
23_ والمشائخ المدرسون _ وإن بلغوا ما بلغوا من الاجتهاد في التعليم _ فإن ثمرة اجتهادهم لا تظهر إلا بمقدار نجابة تلامذتهم. ص141(3/90)
24_ ونسبة النباهة والتحصيل في التلامذة قليل؛ بسبب إهمال التمرين وترك مراجعة ما يقرؤونه قبل الدرس وبعده، وترك مطالبتهم باستذكار ما تعلموه، وترك تكليفهم بحفظ المتون حفظاً جيداً، وترك تعويدهم على فهم معنى المتن الذي يحفظونه؛ فإنك لتسأل التلميذ عن المسألة فيعجز عن الجواب، ويتذكر عبارة المتن، ولكنه يبقى يلوكها ولا يكاد يبين عن المراد منها. ص158
25_ يؤلِّف في علمٍ مَنْ كان قويَّ الساعد فيه؛ ليمكنه أن يأتي في تأليفه بغرض من أغراض التأليف السبعة التي جمعت في أبيات:
ألا فاعلمن أن التآليف سبعة
فشرحٌ لإغلاقٍ وتصحيحُ مخطئٍ
وترتيبُ منثورٍ وجمعُ مفرقٍ ... لكل لبيب في النصيحة خالصِ
وإبداعُ حَبرٍ مقْدمٍ غيرِ ناكصِ
وتقصيرُ تطويلٍ وتتميمُ ناقصِ
ص170
26_ التفسير شرح مراد الله _ تعالى _ من القرآن ليفهمه من لم يصل ذوقه وإدراكه إلى فهم دقائق العربية، وليعتاد بممارسة ذلك فهمَ كلام العرب، وأساليبهم من تلقاء نفسه. ص184
27_ يُقْصد من علم الأصول ضبطُ القواعد التي يستطيع العالم بها فهمَ أدلة الشريعة؛ ليأخذ منها الأحكام التفريعية.
أرادوا أن يجمعوا فيه ما تتفق فيه الآراء؛ ليرتفع الخلاف في الفقه بعد أن كانت هاته القواعد متفرقة وموكولة لنباهة المجتهدين. ص203
28_ في طبع الإنسان كراهيةُ الرجوعِ إلى من يجترئ عليه، والخلافُ بين العقلاء نادر لو رامو التقارب. ص210
29_ وللغة المُضرية شَبهٌ بالعبرانية والبابلية وسائر اللغات السامية. ص212
30_ هل نرجو من تلامذتنا اليوم أن يكونوا فصحاء بلغاء وهم لا يقرع سمعهم إلا سقط الكلام، ورعونة التعبير، ولا يعرفون معنى الإنشاء والفصاحة؟ ص215
31_ لا عُدة لنا اليوم في الفصاحة إلا القرآن، وناهيك به عدة، ولكن قراءة الناس إياه في الصغر، وإهمال التذكير بمعانيه في المكاتب، والشغل عن درسه في الكبر _ أرزا الناس فائدة عظيمة يبلغون بها رتبة مكينة من علم اللسان. ص215(3/91)
32_ فإن كتاب سيبويه اشتمل على مسائل من التقديم، والتأخير، ومعاني الحروف، ومحاسن العطف، ونحوها؛ فكان عمدة علماء البلاغة من بعده وقد قال فيه الزمخشري:
ألا صَلَّى الإله صلاة صدق
فإن كتابه لم يُغْنَ عنه ... على عمروِ بنِ عثمانَ بن قُنْبَرْ
بنو قلم ولا أعوادُ مِنْبَرْ
33_ علم البلاغة المعاني والبيان والبديع: تكاثرت الأسماء له؛ فمن الناس من سماه علم البديع لأنه مبدع، ومنهم من سماه البيان لأنه يبين عن المراد، والمتأخرون هم الذين قسموه إلى ثلاثة أقسام:
المعاني: وهو ما يبحث فيه عن مطابقة الكلام لمقتضى حال التعبير.
والبيان: وهو كاسمه يعرف به إيرادُ المعنى بطرق مختلفة في وضوح الدلالة من حقيقة أو مجاز.
والبديع: وهو تحسين المعاني أو الألفاظ بما يجعلها مستظرفة للسامع.
ص222 _ 232
34_ يريدون من المنطق علماً يعصم الأفكار عن الخطأ في المطلوب التصوري الذي تتعرف منه حقيقةُ شيء، وفي المطلوب التصديقي الذي يُتَعرف منه العلمُ مع دليل ما، وهو من جملة العلوم التي نقلها العرب من اليونانية في عصر النهضة العلمية، وختْمه بالصناعات الخمس: =البرهان، والجدل، والخطابة، والشعر، والسفسطة+. ص225
35_ من أخص واجبات الأساتذة أن يكونوا قدوة لتلاميذهم؛ فمن الواجب أن يعرفوهم حب العمل، والسعي لإصلاح أنفسهم وأمتهم، وأن ينشِّؤوهم على خلال المصابرة والشجاعة، والحرية والمروءة، واحترام الحق والعدالة، والعفاف وكرم الأخلاق؛ حتى يكونوا كلهم أعضاءً نافعةً عاملةً سواءٌ منهم من بقي في صناعة العلم، أو من انصرف إلى الأشغال الأخرى وعساهم أن لا يكونوا بعداء عن هذا في مقبل الزمان؛ فإن علماء الأمة زينتها في كل أوان. ص235
36_ ليس العلم رموزاً تُحل، ولا كلماتٍ تُحفظ، ولا انقباضاً وتكلفاً، ولكنه نورُ العقلِ، واعتداله، وصلاحيته لاستعمال الأشياء فيما يحتاج إليه منها؛ فهو استكمال النفس، والتطهر من الغفلة، والتأهل للاستفادة والإفادة.(3/92)
وما كانت العلوم المتداولة بين الناس إلا خادمةً لهذين الغرضين وهما ارتقاء العقل لإدراك الحقائق، واقتدار صاحبه على إفادة غيره بما أدركه هو. ص239
37_ هذا ما عنَّ إثباته من أحوال العلوم الإسلامية، وطرائق تعليمها، وأسباب النهوض والانحطاط العارضين لها في عديد الأعصر، وقد مضى بعد تقييده زمنٌ غيرُ قصيرٍ تطورت فيه الأحوال إلى أحسنَ تارةً وإلى أسوأَ أخرى، وفي العيان غُنيةٌ عن الإبانة لمن كانت له زكانة.
وقد تحقق العمل بكثير من الملاحظات والمقترحات التي اشتمل عليها هذا الكتاب، فأسفر بها وجه الصبح الذي رجوت له قرباً، ولم أَفْتَىءْ كلما وجدت فجوةً أن أرتقي بالتعليم مرتقىً وإن كان صعباً، حتى قلتُ إن الصبح أعقب بضحاه، ورأيت كثيراً من الناصحين توخى سبيلنا وانتحاه، واللبيب لا يعوزه تنظير الأحوال، وفي الخبر أن ابن آدم لا ينتهي ما له من آمال، ونسأل الله عون المسلمين على إصلاح الأحوال. ص260
نبذة عن المؤلف:
وهو كتاب من ثلاثة أجزاء قال ×:
النقول المنتقاة:
1_ من سقوط النفس أن يغتر الشاب فتاة حتى إذا وافق غرتها مكر بها، وتركها بعد أن يلبسها عارها الأبدي. 1/ 212
2_ الذي يجد طهارة قلبه يجد سرور قلبه، وتكون نفسه دائماً جديدة على الدنيا. 1/ 232
3_ الإيمان وحده هو أكبر علوم الحياة يبصرك إذا عميت في الحادثة، ويهديك إذا ضللت عن السكينة، ويجعلك صديق نفسك تكون وإياها على المصيبة، لا عدوَّها تكون المصيبةُ وإياها عليك. 1/ 233
4_ إن الشقاء في هذه الدنيا إنما يجره على الإنسان أن يعمل في دفع الأحزان عن نفسه بمقارفة الشهوات، وبإحساسه غرور القلب؛ وبهذا يبعد الأحزان عن نفسه؛ ليجلبها على نفسه بصورة أخرى. 1/ 239
5_ فكل ما تراه من أساليب التجميل والزينة على وجوه الفتيات وأجسامهن في الطرق _ فلا تَعدَّنَّهُ من فَرْط الجمال، بل من قلة الحياء. 1/ 302(3/93)
6_ ويقول × متحدثا عن اللقطاء:=ههنا باعث الشهوة قد عجز أن يَسْمُوَ سموَّه _ وما سُمُوُّه إلا الزواج _ فتسفَّل وانحط، ورجع فسقاً، وعاد أوله على آخره، كان أوله جُرْماً، فلا يزال إلى آخره جرماً، ولا يزال أبداً يعود أوله على آخره؛ فلما حملت المرأة، وفاءت إلى أمرها، وذهب عنها جنون الرجل والرجل معاً _ انطوت على الثأر، والحقد، والضغينة؛ فلا يكون ابن العار إلا ابن هذه الشرور أيضاً.
والأمهات يعدون لأجنتهن الثياب والأكسية قبل أن يولدوا ويهيئن لهم بالفكر آمالاً وأحلاماً في الحياة؛ فيكسبنهم في بطونهن شعور الفرح، والابتهاج، وارتقاب الحياة الهنيئة، والرغبة في السمو بها.
ولكن أمهات هؤلاء يعدون لهم الشوارع، والأزِقَّة منذ البدء، ولا ترتقب إحداهن طول حملها أن يجيئها الوليد، بل أن يتركها حياً، أو مقتولاً، فيورثنهم بذلك _ وهم أجنة _ شعور اللهفة، والحسرة، والبغض، والمقت، ويَطْبَعْنَهُمْ على فكرة الخطيئة، والرغبة في القتل؛ فلا يكون ابن العار إلا ابن هذه الرذائل.
وتظل الفاسقة مدة حملها تسعة أشهر في إحساس خائف مترقب منفرد منعزل عن الإنسانية ناقم متبرم متستر منافق.
ومتى ألقت الفاسقة ذا بطنها قطعته لتوه من روابط أهله وزمنه، وتاريخه، ورمت به؛ ليموت، فإن هلك فقد هلك، وإن عاش لمثل هذه الحياة فهو موت آخر شر من ذلك.
ومهما يتوله الناس، والمحسنون، فلا يزال أوله يعود على آخره؛ مما في دمه، وطباعه الموروثة، ولا يبرح جريمة ممتدة، متطاولة، ولا ينفك قصة فيها زانٍ وزانية، وفيها خطيئة ولعنة.
فهؤلاء كما رأيت أولاد الجرأة على الله، والتعدي على الناس، والاستخفاف بالشرائع، والاستهزاء بالفضائل.
وهم البغض الخارج من الحب، والوقاحة الآتية من الخجل، والاستهتار المنبعث من الندامة.
وكل منهم مسألة شر تطلب حلها، وتعقيدها من الدنيا، وفيهم دماء فوارة تجمع سمومها شيئاً فشيئاً كلما كبروا سَنَةً فسنة. 1/309 _310(3/94)
7_ ويا حسرتا على هؤلاء الصغار المساكين؛ إن حياة الأطفال فيما فوق مادة الحياة _ أي في سرورهم وأفراحهم _ وحياة هؤلاء البائسين فيما هو دون مادة الحياة، أي في وجودهم فقط.
وكِبَرُ الأطفال يكون منه إدخالهم في نظام الحياة، وكِبَرُ هؤلاء إخراجهم من الملجأ، وهو كل النظام في دنياهم ليس بعده إلا التشريد، والفقر، وابتداء القصة المحزنة. 1/ 311
8_ وهؤلاء اللقطاء في حياة العامة قد نزعت منها الأم والأب؛ فليس لهم ماض كالأطفال، وكأنهم يبدؤون من أنفسهم لا من الأباء والأمهات. 1/ 312
9_ عجباً! إن سيئات اللصوص والقتلة كلها يُنسى، ويتلاشى، وسيئات العشاق والمحبين تكبر. 1/ 312
10_ ولكن المرأة هي التي خلقت؛ لتكون للرجل مادة الفضيلة، والصبر، والإيمان، فتكون له وحياً، وإلهاماً، وعزاءً، وقوة، أي زيادة في سروره، ونقصاً في آلامه.
ولن تكون المرأة في الحياة أعظم من الرجل إلا بشيء واحد، هو صفاتها التي تجعل رجلها أعظم منها. 2/ 151
11 _ فمهما تكن الزوجة شقية بزوجها فإن زوجها قد أولدها سعادتها، وهذه وحدها مزية ونعمة. 1/ 292
12_ أما الفتاة فكانت في الأكثر للزواج، فعادت في الأقل للزواج، وفي الأكثر للهو والغزل.
وكان لها في النفوس وقار الأم، وحرمة الزوجة، فاجترأ عليها الشبان اجترائهم على الخليعة الساقطة.
وكانت مقصورة لا تنال بعيب، ولا يتوجه عليها ذم، فمشت إلى عيوبها بقدميها، ومشت إليها العيوب بأقدام كثيرة.
وكانت بجملتها امرأة واحدة، فعادت مما ترى، وتعرف، وتكابد كأن جسمها امرأة، وقلبها امرأة أخرى، وأعصابها امرأة ثالثة. 1/ 162 _ 163(3/95)
13_ انظر ما فعلت كلمة الحرية بكلمة التقاليد، وكيف أصبحت هذه الكلمة السامية من مبذوء الكلام، ومكروهه، حتى صارت غير طبيعية في هذه الحضارة، ثم كيف أحالتها، فجعلتها في هذا العصر أشهر كلمة يتهكم بها على الدين، والشرف، وقانون العرف الاجتماعي في خوف المعرة والدنيئة، والتصاون من الرذائل، والمبالاة بالفضائل؛ فكل ذلك =تقاليد+.
وقد أخذت الفتيات المتعلمات هذه الكلمة بمعانيها تلك، وأجرينها في اعتبارهن مكروهة وحشية، وأضفن إليها من المعاني حواشي أخرى، حتى ليكاد الأب والأم يكونان عند أكثر المتعلمات من =التقاليد+.
أهي كلمة أبدعتها الحرية؟ أم أبدعها جهل العصر وحماقته، وفجوره، وإلحاده؟
أهي كلمة تَعْلَقُها الفتيات المتعلمات لأنها لغة من اللغة؟ أم لأنها لغة ما يحببن؟
=تقاليد+ ؟ فما هي المرأة بدون هذه التقاليد؟ إنها البلاد الجميلة بغير جيش، إنها الكنز المخبوء مُعَرَّضاً لأعين اللصوص تحوطه الغفلة لا المراقبة.
هب الناس كلهم شرفاء متعففين متصاونين _ فإن معنى كلمة =كنز+ متى تركت له الحرية، وأغفل من تقاليد الحراسة أوجدت حريته هذه بنفسها معنى كلمة =لص+. 1/ 163 _ 164
14_ العلم للمرأة، لكن بشرط، أن يكون الأب وهيبة الأب أمراً مقرراً في العلم، والأخ وطاعة الأخ من حقائق العلم، والزوج وسيادة الزوج شيئاً ثابتاً في العلم، والاجتماع وزواجره الدينية والاجتماعية قضايا لا ينسخها العلم.
بهذا وحده يكون النساء في كل أمة مصانع عملية للفضيلة، والكمال، والإنسانية، ويبدأ تاريخ الطفل بأسباب الرجولة التامة؛ لأنه يبدأ من المرأة التامة.
بغير هذا الشرط فالمرأة الفلاحة في حجرها طفل قذر هي خير للأمة من أكبر أديبة تخرج ذرية من الكتب. 1 / 169
15_ شرف المرأة رأس مال للمرأة. 1/ 171(3/96)
16_ يجاهدن مجاهدة كل شريف عظيم النفس، همه أن يكون الشرف أو لا يكون شيء، ويرى الغافل أن مثلهن هالكات في تعب الجهاد، ويعلمن من أنفسهن غير ما يرى ذلك المسكين، يعلمن أن ذلك التعب هو لذة النصر بعينها.
كانت أنوثتهن أبداً صاعدة متسامية فوق موضعها بهذه القناعة، وبهذه التقوى، ولا تزال متسامية صاعدة على حين تنزل المطامع بأنوثة المرأة دون موضعها، ولا تزال أنوثتها تنحدر ما بقيت المرأة تطمع، ورب ملكة جعلتها مطامع الحياة في الدرك الأسفل، وهي باسمها في الوهم الأعلى. 1/ 131
17_ احذري تهوس الأوربية في طلب المساواة بالرجل، لقد ساوته في الذهاب إلى الحلاق، ولكن الحلاق لم يجد اللحية. 1/ 264
18_ احذري أن تخسري الطباع التي هي الأليق بأم أنجبت الأنبياء في الشرق، أمٍّ عليها طابعُ النفس الجميلة، تنشر في كل موضع جوَّ نفسها العالية؛ فلو صارت الحياة غيماً، ورعداً، وبرقاً لكانت الشمسَ الطالعةَ.
ولو صارت قيظاً، وحروراً، واختناقاً _ لكانت هي النسيمَ يتخطَّر.
أم لا تبالي إلا أخلاق البطولة، وعزائمها؛ لأن جداتها ولدن الأبطال. 1/ 264 _ 265
19_ يظنون أننا في زمن إزاحة العقبات النسائية واحدة واحدة من حرية المرأة وعلمها.
أما أنا فأرى حرية المرأة وعلمها لا يوجدان إلا في العقبات النسائية عقبة بعد عقبة. 1/162
21_ إن نفس الأنثى لرجل واحد؛ لزوجها وحده. 1/ 131
22_ وما هو الحجاب إلا حفظ روحانية المرأة للمرأة، وإغلاء سعرها في الاجتماع، وصونها من التبذل الممقوت؛ لضبطها في حدود كحدود الربح من هذا القانون الصارم: قانون العرض والطلب، والارتفاع بها أن تكون سلعة بائرة ينادى عليها في مدراج الطرق والأسواق. 1 / 190(3/97)
23_ ولقد جاءت إلى مصر كاتبة إنجليزية، وأقامت أشهراً تخالط النساء المتحجبات، وتدرس معاني الحجاب، فلما رجعت إلى بلادها كتبت مقالاً عنوانه: =سؤال أحمله من الشرق إلى المرأة الغربية+ قالت في آخره: إذا كانت هذه الحرية التي كسبناها أخيراً، وهذا التنافس الجنسي، وتجريد الجنسين من الحجب المشوقة الباعثة التي أقامتها الطبيعة بينهما _ إذا كان هذا سيصبح أثره أن يتولى الرجال عن النساء، وأن يزول من القلوب كل ما يحرك أوتار الحب الزواجي _ فما الذي نكون قد ربحناه؟ ! لقد _ والله _ تضطرنا هذه الحال إلى تغيير خططنا، بل تستقر طوعاً وراء الحجاب الشرقي؛ لنتعلم من جديد فن الحب الحقيقي. 1/ 205
24_ ليس لامرأة فاضلةٍ إلا رجلها الواحد؛ فالرجال جميعاً مصائبها إلا واحداً. 1/ 265
25_ احذري أن تخدعي عن نفسك؛ إن المرأة أشد افتقاراً إلى الشرف منها إلى الحياة.
إن الكلمة الخادعة إذ تقال لك هي أخت الكلمة التي تقال ساعة إنفاذ الحكم للمحكوم عليه بالشنق؛ يغترونك بكلمات: الحب، والزواج، والمال كما يقال للصاعد إلى الشنَّاقة ماذا تشتهي؟ ماذا تريد؟.
الحب؟ الزواج؟ المال؟ هذه صلاة الثعلب حين يتظاهر بالتقوى أمام الدجاجة.
الحب؟الزواج؟المال؟يا لحم الدجاجة! بعض كلمات الثعلب هي أنياب الثعلب.
أيتها الشرقية! احذري، احذري. 1/ 266
26_ لو كان العار في بئر عميقة لقلبها الشيطان مئذنة ووقف عليها يؤذن.
يفرح اللعين بفضيحة المرأة خاصة كما يفرح أب غني بمولود جديد في بيته.
واللص، والقاتل، والسكير، والفاسق كل هؤلاء على ظهر الإنسانية كالحر والبرد.
أما المرأة حين تسقط فهذه من تحت الإنسانية؛ هي الزلزلة، ليس أفظع من الزلزلة المُرْتَجَّة تشق الأرض إلا عار المرأة حين يشق الأسرة.
أيتها الشرقية! احذري، احذري. 1/ 267(3/98)
27_ إن الساقطة لا تنظر في المرآة أكثر ما تنظر إلا ابتغاء أن تتعهد من جمالها، وجسمها مواقع نظرات الفجور، وأسباب الفتنة، وما يستهوي الرجل، وما يفسد العفة عليه؛ فكأن الساقطة، وخيالها في المرآة رجل فاسق، ينظر إلى امرأة فاسقة لا امرأة تنظر إلى نفسها. 1/ 77
28_ احذري السقوط؛ إن سقوط المرأة؛ لهوله، وشدته ثلاث مصائب في مصيبة: سقوطها هي، وسقوط من أوجدها، وسقوط من توجدهم.
نوائب الأسرة قد يسترها البيت إلا عار المرأة. 1/ 266 _ 267
29_ والمرأة التي لا يحميها الشرف لا يحميها شيء، وكل شريفة تعلم أن لها حياتين: إحداهما العفة.
وكما تدافع عن حياتها الهلاك تدافع السقوط عن عفتها؛ إذ هو هلاك حقيقتها الاجتماعية.
وكل عاقلة تعلم أن لها عقلين: تحتمي بأحدهما من نزوات الآخر، وما عقلها الثاني إلا شرف عرضها. 1/ 93
30_ وأساس الفضيلة في الأنوثة الحياء؛ فيجب أن تعلم الفتاة أن الأنثى متى خرجت من حيائها، وتهجمت _ أي توقحت أي تبذلت _ استوى عندها أن تذهب يميناً أو شمالاً، وتهيأت لكل منهما، ولأيٍّ اتفق.
وصاحبات اليمين في كنف الزوج وظل الأسرة، وشرف الحياة...
وصاحبات الشمال ما صاحبات الشمال... 1/ 302
31_ إن السعادة الإنسانية الصحيحة هي العطاء دون الأخذ، وإن الزائفة هي الأخذ دون العطاء، وذلك آخر ما انتهت إليه فلسفة الأخلاق. ص3/ 13
32_ متى ما وقع الخلاف بين اثنين وكانت النية صادقة مخلصة _ لم يكن اختلافهما إلا من تنوع الرأي، وانتهيا إلى الاتفاق بغلبة أقوى الرأيين، ما من ذلك من بد. 2/ 315
33_ وأما ضعف الهمة، فمنزلة الحيوان الذي لا هم له إلا أن يوجد كيفما وجد، وحيثما جاء موضعه من الوجود؛ إذ هو يولد ويكدح، ويكد؛ ليكون لحماً، وعظماً، وصوفاً، ووبراً، وشعراً أثاثاً، ومتاعاً، وكأنه ضرب من النبات إلا أنه نوع آخر من المنفعة. 3 / 379(3/99)
34_ الأشياء الكثيرة لا تكثر في النفس المطمئنة، وبذلك تعيش النفس هادئة مستريحة، كأن ليس في الدنيا إلا أشياؤها الميسرة.
أما النفوس المضطربة بأطماعها، وشهواتها فهي التي تبتلى بكثرة الهموم الخيالية. 1/ 31
35_ في جمال النفس ترى الجمال ضرورة من ضرورات الحياة؛ ويْ كأن الله أمر العالم ألا يعبس للقلب المبتسم. 1/ 48
36_ ليس اللذة في الراحة، ولا الفراغ، ولكنها في التعب، والكدح، والمشقة؛ حين تتحول أياماً إلى راحة وفراغ. 1/ 48
37_ إذا استقبلت العالم بالنفس الواسعة رأيت حقائق السرور تزيد وتتسع، وحقائق الهموم تصغر وتضيق، وأدركت أن دنياك إذا ضاقت فأنت الضيق لا هي. 1/ 50
38_ من مصائبنا _ نحن الشرقيين _ أننا لا نأخذ الرذائل كما هي، بل نزيد عليها ضعفنا فإذا هي رذائل مضاعفة. 1/ 204
39_ إن سمو الرجل بنفسه عن الزوجة والولد طيران إلى الأعلى، ولكنه طيران على أجنحة الشياطين، طيران بالرجل إلى فوهة البركان الذي في الأعلى. 1/ 288
40_ إن الذي تكتنفه رحمة الله يملك بها دنيا نفسه؛ فما عليه بعد ذلك أن تفوته دنيا غيره، وإن الذي يجد طهارة قلبه يجد سرور قلبه، وتكون نفسه دائماً جديدة على الدنيا، وإن الذي يحيا بالثقة تحييه الثقة، وإن الذي لا يبالي بالهم لا يبالي الهم به، وأن زينة الدنيا ومتاعها وغرورها، وما تجلب من الهم _ كل
ذلك من صغر العقل في الإيمان حين يكبر العقل في العلم. 1/ 232
41_ بعض الشياطين يخدع الناس عن جهنم بتبريد معانيها. 1/ 256
42_ القلب المسالم يخلع الدنيا، ويسمو بكل مضنون فيها، فيعف عن كثير، ويعرف الإنسانية، ويطمع في غاياتها العليا فيعفو عن كثير، ويدرك أن الحلال
_ وإن حل _ فوراءه حسابه، وإن الحرام _ وإن غرَّ _ ليس إلا تَعَلُّلُ ساعةٍ ذاهبة، ثم وراءه عقاب الأبد. 2 / 7(3/100)
43_ ولا يضطرب من شيء؛ وكيف يضطرب ومعه الاستقرار؟ لا يخاف من شيء؛ وكيف يخاف ومعه الطمأنينة؟ لا يخشى مخلوقا ً؛ وكيف يخشى ومعه الله؟. 2 / 171
44_ فمن ألزم نفسه الجود، والإنفاق راضها رياضة عملية كرياضة العضل بأثقال الحديد، ومعاناة القوة في الصراع و نحوه.
أما الشح فلا يناقض تلك الطبيعة، ولكنها يدعها جامدة مستعصية، لا تلين، ولا تستجيب، ولا تتيسر. 3 / 145
45_ إن يوماً باقياً من العمر هو للمؤمن عُمُرٌ ما ينبغي أن يستهان به. 1 / 235
46_ بكلمة يكون الإحساس فاسداً، وبكلمة يكون شريفاً. 1 / 266
47_ وما هو الحجاب الشرعي إلا أن يكون تربية عملية على طريقة استحكام العادة لأسمى طباعِ المرأةِ وأخصُّها الرحمةُ، هذه الصفة النادرة التي يقوم الاجتماع الإنساني على نزعها، والمنازعة فيها ما دامت سنة الحياة نزاع البقاء، فيكون البيت اجتماعاً خاصاً مسالماً للفرد، تحفظ المرأة به منزلتها، وتؤدي فيه عملها، وتكون مغرساً للإنسانية، وغارسة لصفاتها معاً. 1 / 196
48_ وما كان الحجاب مضروباً على المرأة نفسها، بل على حدود الأخلاق أن تجاوزَ مقدارَها، أو يخالطها السوء، أويتدسس إليها؛ فكل ما أدى إلى هذه الغاية فهو حجاب، وليس يؤدي إليها شيء إلا أن تكون المرأة في دائرة بيتها، ثم إنساناً فقط فيما وراء هذه الدائرة إلى آخر حدود المعاني. 1 / 197
49_ فوراء الحجاب الشرعي الصحيح معاني التوازن، والاستقرار، والهدوء، والاطراد، وأخلاق هذه المعاني وروحها الديني القوي الذي ينشئ عجيبة الأخلاق الإنسانية كلها، أي صبر المرأة وإيثارها.
وعلى هذين تقوم قوة المدافعة، وهذه القوة هي تمام الأخلاق الأدبية كلها، وهي سر المرأة الكاملة؛ فلن تجد الأخلاق على أتمها، وأحسنها، وأقواها إلا في المرأة ذات الدين، والصبر، والمدافعة. 1 / 197
50_ يا ويل المرأة حين تنفجر أنوثتها بالمبالغة؛ فتنفجر بالدواهي على الفضيلة. 1 / 264(3/101)
51_ وحقيقة الحجاب أنه الفصل بين الشرف فيه الميل إلى النزول، وبين الخسة فيها الميل إلى الصعود.
فيك طبائع الحب، والحنان، والإيثار، والإخلاص، كلما كَبِرتِ كَبُرتْ.
طبائع خطرة إن عملت في غير موضعها جاء بعكس ما تعمله في موضعها.
فيها كل الشرف ما لم تنخدع، فإذا انخدعت فليس إلا كل العار. 1/265_266
52_ احذري كلمة شيطانية تسمعينها: هي فنية الجمال، أو فنية الأنوثة، وافهميها أنت هكذا: واجبات الأنوثة، وواجبات الجمال. 1 / 266
53_ على أن هذا الذي يسميه القوم حرية ليس حرية إلا في التسمية، أما في المعنى فهو كما ترى: إما شرود المرأة في التماس الرزق، حين لم تجد الزوج الذي يعولها، أو يكفيها، ويقيم لها ما تحتاج إليه؛ فمثل هذه حرية النكد في عيشها، وليس بها حرية، بل هي مستعبدة للعمل شر ما تستعبد امرأة.
وإما انطلاق المرأة في عبثاتها، وشهواتها مستجيبة لشهواتها بذلك إلى انطلاق حرية الاستمتاع بالرجال بمقدار ما يشتريه المال، أو تعين عليه القوة، أو يسوِّغه الطيش، أو يجلبه التهتك، أو تدعو إليه الفنون؛ فمثل هذه هي حرة حرية سقوطها، وما بها الحرية، بل يستعبدها التمتع.
والثالثة: حرية المرأة في انسلاخها من الدين وفضائله؛ فإن هذه المدنية قد نسخت حرام الأديان وحلالها بحرام وحلال قانوني؛ فلا مَسْقَطة للمرأة، ولا غضاضة عليها قانوناً فيما كان يعد من قبل خزياً أقبح الخزي، وعاراً أشد العار؛ فمثل هذه هي حرة حرية فسادها، وليس بها الحرية، ولكن تستعبدها الفوضى.
والرابعة: غطرسة المرأة المتعلمة، وكبرياؤها على الأنوثة والذكورة معاً، فترى أن الرجل لم يبلغ بعد أن يكون الزوج الناعم كقفاز الحرير في يدها، ولا الزوج المؤنث الذي يقول لها: نحن امرأتان؛ فهي من أجل ذلك مطلقة مُخَلاة؛ كيلا يكون عليها سلطان، ولا إمْرة؛ فمثل هذه حرة بانقلاب طبيعتها وزيفها، وهي مستعبدة لهوسها، وشذوذها، وضلالها.(3/102)
حرية المرأة في هذه المدنية أوَّلها ما شئت من أوصاف وأسماء، ولكن آخرها دائماً: إما ضياع المرأة، وإما فساد المرأة. 1 / 294 _ 295
54_ وما أول الدعارة إلا أن تمد المرأة طَرْفَها من غير حياء كما يمد اللص يده من غير أمانة. 1 / 297
55_ وهذه الزينة تتصنع بها المرأة تكاد تكون صورة المكر و الخداع، والتعقد وكلما أسرفت في هذه أسرفت في تلك.
بل الزينة لوجه المرأة وجسمها سلاح من أسلحة المعاني كالأظافر، والمخالب، والأنياب، غير أن هذه لوحشية الطبيعة الحية المفترسة، وتلك لوحشية الغريزة الحية التي تريد أن تفترس. 2 / 63
وقد طبعت مؤخراً طبعة جديدة بعنوان: =آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي+ في 5 مجلدات، والنقول الآتية من الطبعة الأولى وعيون البصائر.
=نبذة عن المؤلف+:
هو الشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي ولد عند طلوع الشمس من يوم الخميس الثالث عشر من شهر شوال عام 1306 هـ، وتوفي عام 1385هـ.
وهبه الله حافظة خارقة، وذاكرة عجيبة تشهدان بصدق ما يحكى عنه السلف.
وكانتا معينتين له في العلم في سن مبكرة.
تلقى التعليم في بيت أسرته، وقام على تربيته وتعليمه عمُّه الشيخ محمد المكي الإبراهيمي الذي كان علامة زمان في العربية.
بدأ في حفظ القرآن والتعليم في الثالثة من عمره، وأتقن القرآن حفظاً في السابعة من عمره، وحفظ كثيراً من المتون في مختلف الفنون، وحفظ العديد من الدواوين الشعرية، وكان يحفظ من سماع واحد.
كان من أبرز علماء الجزائر، ومن طليعة المجاهدين للاستعمار، والدجل، والبدع، والخرافات.
وكان من الشجعان المغاوير، وكان في طليعة العاملين على إحياء العلوم الدينية والعربية في الجزائر.
ويرجع الفضل _ بعد الله _ إليه وإلى الشيخ عبد الحميد بن باديس في تكوين جمعية العلماء في الجزائر.
وكان شديد العناية بأمور المسلمين وقضاياهم.
كان خطيباً مِصْقَعَاً، وشاعراً مُفْلِقَاً، وكاتباً بارعاً.(3/103)
وقد خلف آثاراً جمعت في خمس مجلدات، اسمها =آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي+.
وإذا أردت مزيداً من ترجمته فارجع إلى تلك الآثار، وارجع إلى:
=الصداقة بين العلماء+ لكاتب هذه الصفحات.
=نماذج لما جاء في كتب الشيخ محمد البشير+
1_ العاقل من جارى العقلاء في أعمالهم في دائرة دينه، ووجدانه. 1/14
2_ والحازم من لم يرض لنفسه أخسَّ المنازل، وأخسُّ المنازل للرجل منزل القول بلا عمل، وأخسُّ منها أن يكون الرجل كالدفتر يحكي ما قال الرجال، وما فعل الرجال دون أن يضرب معهم في الأعمال الصالحة بنصيب، أو يرمي في معترك الآراء بالسهم المصيب. 1/14
3_ إنَّ تغافل الإنسان عن عيبه لمن دواعي الغرورِ، والغرور من دواعي التمادي في الغي، والتمادي في الغي من موجبات الهلاك، وهل نقيصة أعظم من فقد الإحساس؟ 1/15
4_ إن الكمال، والنقص وَصْفَانِ يتعاقبان على الفرد كما يتعاقبان على المجموع. 1/139
5_ فحرر القرآن أرواحها من العبودية للأوثان الحجرية والبشرية، وحرر أبدانها من الطاعة والخضوع لجبروت الكسروية القيصرية، وجلا عقولها على النور الإلهي؛ فأصبحت تلك العقول كشافة عن الحقائق العليا، وطهر نفوسها من أدران السقوط والإسفاف إلى الدنايا؛ فأصبحت تلك النفوس نزّاعة إلى المعالي، مقدمة على العظائم. 1/88
6_ وعَلَّمها لأول مرة في التاريخ كيف يستغل الإنسان استعداده، وفكره، ففتح أمامه ميادين التفكر والاعتبار، وأمره أن يسير في الأرض، ويمشي في جوانبها، ويتفكر في ملكوت السماوات والأرض. 1/89
7_ وبهذه الروح القرآنية اندفعت تلك النفوس بأصحابها تفتح الآذان قبل البلدان، وتمتلك بالعدل والإحسانِ الأرواح قبل الأشباح. 1/89
8_ فلم يزل بها هذا القران، حتى أخرج من رعاة النعم رعاة الأمم، ومن خمول الجهل والأمية أعلام العلم والحكمة. 1/93(3/104)
9_ فالقرآن هو الذي رباها، وأدبها، وزكى منها النفوس، وصفى القرائح، وأذكى الفِطَن، وجلا المواهب، وأرهف العزائم، وهذب الأفكار، وأعلى الهمم، واستفز الشواعر، واستثار القوى، وصقل الملكات، وقوى الإرادات، ومكن للخير في النفوس، وغرس الإيمان في الأفئدة، وملأ القلوب بالرحمة، وحفز الأيدي للعمل النافع، والأرجل للسعي المثمر، ثم ساق هذه القوى على ما في الأرض من شر، وباطل، وفساد فطهرها منه تطهيراً، وعمرها بالخير والحق تعميراً. 1/252 _ 253
10_ إننا مرضى، ومن بلاء المريض رفق الطبيب به؛ إن رفق الطبيب خيانة لفنِّه، وقدح في أمانته، وزيادة في البلاء على مريضه؛ وما خير رفق ساعة يتجرع المريض بسببه آلام السنين؟ 1/351
11_ إن القيم المعنوية في الرجال من زكا ء النفس، وعلو الهمة، وإطاعة أوامر الله _ هو الجانب المعتبر في حياة الرجال. 3/188
12_ وشتان بين من يسترخص الموت من أجل الحياة، وبين من يحاولها لإرضاء الشهوات: شهوات القلب، ومحبة السمعة الزائفة. 3/188
13_ إن الحياة بلا سعادة قدر مشترك بيننا وبين النمل على ضعفه، والحمار على ذله وخسفه، والجمل على إذلاله وتسخيره؛ فإذا كنتم اليوم تُسَمَّون أحياءاً فمن هذا النوع. 3/239
14_ الأعمال الكبيرة إذا توازعتها الأيدي، وتقاسمتها الهمم _ هان حملها، وخف ثقلها، وإن بلغت من العظم ما بلغت. 3/245
15_ سيقول القانعون باليسير من جبناء العزائم، وقصار النظر، المكتفون بالمخايل وهي سراب عن المعصرات وهي شراب إن هذا هول هائل، وقول لا تسعه إلا لهاة القائل، ومرام صعب تضيق به قدرة الشعب. 3/248
16_ الإسلام روح تجري، ونفحة تسري، وحقيقة ليس بينها وبين قبولها إلا مواجهتها لها، وليس بين النفوس وبين الإذعان لها إلا إشرافها عليها من مجاليها الأولى. 3/27
17_ وإنما مكنت للإسلام طبيعته، ويسره، ولطف مدخله على النفوس، وملاءمته للفطر، والأذواق، والعقول.(3/105)
ولو بقي الإسلام على روحانيته القوية، ونورانيته المشرقة، ولو لم يفسده أهله بما أدخلوه عليه من بدع، وشانوه به من ضلال _ لطبق الخافقين، ولجمع أبناءه على القوة، والعزة، والسيادة، حتى يتملكوا به الكون كله.
ولكنهم أفسدوه، واختلفوا فيه، وفرقوه شيعاً، ومذاهب؛ فضعف تأثرهم به؛ فضعف تأثيره فيهم؛ فصاروا إلى ما نرى، ونسمع. 3/273
18_ إن أمة تنفق مئات الملايين في الشهر على القهوة والدخان، وتنفق مثلها على المحرمات، وتنفق مثلها على البدع الضارة، وتنفق أمثال ذلك كله على الكماليات التي تنقص الحياة، ولا تزيد فيها، ثم تدعي الفقر إذا دعاها داعي العلم لما يحيها _ لأمة كاذبة على الله، سفيهة في تصرفاتها. 3/345
19_ وأوصيه بالروية في الرأي، والأناة في الحكم على الأشياء؛ فإن الارتجال مجلبة ندم. 3/355
20_ المال الذي تنفقه في المحرمات يسوقك إلى النار، والمال الذي تبدده في الشهوات يجلب لك العار، والمال الذي تدخره للورثة الجاهلين تهديه إلى الأشرار، وتبوء أنت بالتبار و الخسار.
أما المال الذي تحيي به العلم، وتميت به الجهل _ فهو الذي يتوجك في الدنيا بتاج الفخار، وينزلك عند الله منزلة الأبرار. 3/365 _ 366
21_ ليس من سداد الرأي أن يضيع الضعيف وقته في لوم الأقوياء، وليس من المجدي أن يدخل معهم في جدل؛ إن من تمام معنى اللوم أن يتسبب في توبة، أو يجر إلى إنابة. 3/385
22_ ولا نقول ربحنا أو خسرنا؛ فالربح والخسارة من مفردات قاموس التجار.
أما الجهاد الذي غايته تثبيت الحقائق الإلهية في الأرض، وغرس البذور الروحية في الوجود _ فلغته سماوية لا تحمل معنى التراب، متسامية لا تسف إلى ما تحت السحاب. 4/276
23_ خدرنا الغرب بالوطنيات الضيقة؛ فأصبح كل فريق قانعاً بجحر الضب، يناضل بمثل سلاح الضب، وهيهات إذا مزقت الأطراف أن يُحْفظ القلب. 4/287(3/106)
24_ ولأن يسكت العاقل مختاراً في وقت يحسن السكوت فيه خيرٌ من أن ينطق مختاراً في وقت لا يحسن الكلام فيه. عيون البصائر ص17
25_ وكلُّ نَطْقَةٍ تمليها الظروف لا الضمائر تثمر سكتة عن الحق، ما من ذلك من بد. عيون البصائر 17
26_ أما وظيفة السيف والرمح فهي الإنكاء في العدو، والإنكاء في العدو هو الغاية التي تنتهي إليها شجاعة الشجاع.
كذلك حملة الألسنة والأقلام يجب أن يكونوا؛ ليحققوا التشبيه الذي تواطأت عليه الأمم؛ فلتأتِهم المصائب من كل صوب، ولتنزل عليهم الضرورات من كل سماء، وليخرجوا من كل شيء إلا شيئين: القلم، واللسان؛ إن بيع القلم، واللسان أقبح من بيع الجندي لسلاحه. عيون 18
27_ ولكن الخذلان الذي لا غاية وراءه أن غَنِيَّنا ينفق مئات الألوف على لذاته وشياطينه؛ فإذا سئل بذل القليل في مشروع جليل أعرض ونأى بجانبه. عيون 278
28_ أوصيكم بتقوى الله؛ فهي العدة في الشدائد، والعون في الملمات، وهي مهبط الروح، والطمأنينة، وهي متنزل السكينة، وهي مبعث القوة واليقين، وهي معراج السمو إلى السماء، وهي التي تثبت الأقدام في المزالق، وتربط على القلوب في الفتن. عيون 291
29_ أي أبنائي(1) إن هذا القلب الذي أحمله يحمل من الشفقة عليكم والرحمة بكم، والاهتمام بشؤونكم ما تنبتُّ به الحبال، وتنوء بحمله الجبال، وهو يرثي لحالكم في الغربة، وإلحاح الأزمات، ويود _بقطع وتينه_ لو أزيحت عللكم، ورقع بالسداد خللكم، ولكنكم جنود، ومتى طمع الجندي في رفهنية العيش؟ وأسود، ومتى عاش الأسد على التدليل، وهو يشعر أن التدليل تذليل؟ عيون 292
30_ ثم احرصوا على أن يكون ما تلقونه لتلامذتكم من الأقوال منطبقاً على ما يرونه، ويشهدونه منكم من الأعمال؛ فإن الناشئ الصغير مرهفُ الحس، طُلَعَةٌ إلى مثل هذه الدقائق التي تغفلون عنها، ولا ينالها اهتمامكم.
__________
(1) 1_ يعني المعلمين التابعين لجمعية العلماء.(3/107)
وإنه قوي الإدراك للمعايب والكمالات؛ فإذا زينتم له الصدق فكونوا صادقين، وإذا حسنتم له الصبر فكونوا من الصابرين.
واعلموا أن كل نقشٍ تنقشونه في نفوس تلامذتكم من غير أن يكون منقوشاً في نفوسكم فهو زائل، وأن كل صبغ تنفضونه على أرواحهم من قبل أن يكون متغلغلاً في أرواحكم فهو _لا محالة_ ناصل حائل، وأن كل سحر تنفثونه؛ لاستنزالهم غير الصدق فهو باطل.
ألا إن رأس مال التلميذ هو ما يأخذه عنكم من الأخلاق الصالحة بالقدوة.
وأما ما يأخذ عنكم بالتلقين من العلم والمعرفة فهو ربح وفائدة. عيون 291
31_ أما إن السياسة تكون خيراً لأقوام، وشراً لآخرين، وتكون عقود حليةٍ كما تكون عقود خَنْقٍ_فهذا ما قرأناه في قاموس الاستعمار، وعلمناه من مذاهبه. عيون 39
32_ إن الطليق الذي لا يمد يده لإنقاذ الأسير _ وهو قادر على إنقاذه _ يوسم بواحدة من اثنتين: إما أنه راضٍ مغتبطٌ، وإما أنه شامتٌ متشفٍّ. عيون 123
33_ إن ضعف الضعيف لا يكون في سنة الله إلا زيادة في قوة القوي، وإن اختلافكم لا يكون إلا زيادة في قوة خصومكم، وخصوم قضيتكم. عيون 332
=نبذة عن عمر بن عبدالعزيز+:
هو أمير المؤمنين الإمام، العادل، العالم، الفقيه، الخائف، الخاشع عمر بن عبد العزيز بن مروان الأموي.
قال عبيد الله بن عبد الله: كانت العلماء عند عمر بن عبد العزيز تلامذة.
وقال مجاهد: أتينا عمر نعلمه فما برحنا حتى تعلمنا منه.
وقال ميمون بن مهران: كان عمر يعلم العلماء.
وقال أحمد بن حنبل: إذا رأيت الرجل يحب عمر بن عبد العزيز فاعلم أن وراء ذلك خيراً.
والحديث عن عمر بن عبد العزيز يطول، وهناك كتب كثيرة في سيرته.
=من مواعظ الإمام عمر بن عبد العزيز+:
1_ لا تصحبْ مِنَ الأصحاب مَنْ خَطَرُك عنده على قدر قضاء حاجته، فإذا انقضت حاجته انقطعت أسباب مودته، واصحب من الأصحاب ذا العلا في الخير، والإفادة في الحق.(3/108)
2_ صلى عمر الجمعة، وعليه قميص مرقوع الجيب، فلما انتهى من الصلاة قال له رجل: يا أمير المؤمنين: إن الله أعطاك، فلو لبست؛ فنكس عمر رأسه ملياً، ثم رفع رأسه، وقال: أفضل القصد عند الجدة، وأفضل العفو عند المقدرة.
3_ كتب إلى بعض أهله: أما بعد فإنك إذا استشعرت ذكر الموت ليلك أو نهارك بغَّض إليك كل فانٍ، وحبب إليك كل باق ٍ.
4_ وقال لعنبسة بن سعيد بن العاص: أبا خالد! أكثر من ذكر الموت؛ فإن كنت في ضيق من العيش وسَّعه عليك، وإن في كنت في سعة من العيش ضيقه عليك.
5_ أصلحوا آخرتكم تصلحْ لكم دنياكم، وأصلحوا سرائركم تصلح لكم علانيتكم، والله إن عبداً ليس بينه وبين آدم أبٌ حيٌّ لمغرقٌ في الموت.
6_ قال مسلمة: دخلت على عمر بعد الفجر في بيت كان يخلو فيه بعد الفجر؛ فلا يدخل عليه أحد، فجاءت جارية بطبق عليه تمر صبحاني، وكان يعجبه التمر، فرفع بكفه منه، فقال: يا مسلمة! أترى لو أن رجلاً أكل هذا ثم شرب عليه الماء فإن الماء على التمر طيب _ أكان يجزيه إلى الليل؟
قلت: لا أدري، فرفع أكثر منه، قال: فهذا؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين كان كافيه دون هذا حتى ما يبالي أن لا يذوق طعاماً غيره.
قال: فعلام ندخل النار؟
قال مسلمة: فما وقعت مني موعظة ما وقعت هذه.
7_ أوصى عمر رجلاً فقال: أوصيك بتقوى الله الذي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها؛ فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل.
8_ وقال لرجل: أوصيك بتقوى الله تخف عليك المؤونة، وتحسن لك من الله المعونة.
9_ عليك بالذي يبقى لك عند الله؛ فإن ما بقي عند الله بقي عند الناس، وما لم يبق عند الله لم يبق عند الناس.
10_ قال ميمون بن مهران: ولاني عمر بن عبد العزيز عمالة، ثم قال لي: إذا جاء الكتاب مني على غير الحق فاضرب به الأرض.
11_ قال عمر بن مهاجر: قال لي عمر: إذا رأيتني قد ملت عن الحق فضع يدك في تلبابي، ثم هزني، ثم قل: يا عمر! ما تصنع؟.(3/109)
12_ أيها الناس! إنما يراد الطبيب للوجع الشديد، ألا فلا وجع أشد من الجهل، ولا داء أخبث من الذنوب، ولا خوف أخوف من الموت.
13_ قال رباح بن عبيدة: كنت قاعداً عند عمر، فذكر الحجاج، فشتمته، ووقعت فيه، فقال عمر: مهلاً يا رباح؛ إنه بلغني أن الرجل لَيَظْلِمُ بالمظلمة، فلا يزال المظلوم يشتم الظالم، وينتقصه، حتى يستوفي حقه، فيكون للظالم الفضل.
14_ لا ينفع القلب إلا ما خرج من القلب.
15_ قد أفلح من عصم من المراء، والغضب، والطمع.
16_ لقد بورك لعبد في حاجة أكثر فيها سؤال ربه، أُعطي، أو منع.
17_ ما حسدت الحجاج على شيء حسدي إياه على حبِّه القرآن، وإعطائه أهله، وقوله حين حضرته الوفاة: اللهم اغفر لي؛ فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل.
18_ قيل لعمر: ما بدءُ إنابتك؟ قال: أردت ضرب غلام لي، فقال: يا عمر! اذكر ليلةً صبيحتُها يومُ القيامة.
19_ من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل.
20_ دخل رجل على عمر يعوده في مرضه، فسأله عن علته، فلما أخبره قال الرجل: من هذه العلة مات فلان، ومات فلان، فقال عمر: إذا عدت المرضى فلا تَنْعَ إليهم الموتى، وإذا خرجت عنا فلا تعد إلينا.
21_ ما أنعم الله على عبد نعمةً، فانتزعها منه، فعاضه من ذلك الصبر إلا كان ما عاضه الله أفضل مما انتزع منه، ثم قرأ [إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ].
22_ كتب إلى بعض عماله: اجتنبوا الأشغال عند حضرة الصلاة؛ فمن أضاعها فهو لما سواها من شعائر الإسلام أشد تضييعاً.
23_ إن ابتلاك الله _عز وجل_ بفقر فتعفف في فقرك، وأخبت لقضاء ربك، واغتفر بما قسم لك من الإسلام ما زوى عنك من نعمة دنيا؛ فإن في الإسلام خلفاً من الذهب، والفضة، والدنيا الفانية.
=نبذة عن مالك بن دينار+:(3/110)
ولد مالك بن دينار أيام ابن عباس، وأسند عن أنس بن مالك عدة أحاديث وروى عن جلة من الصحابة، وكان من أعيان كتبة المصاحف، ومن تلامذة الحسن البصري، وكان له قدرة صبر على التقلل، وكان مسكنه خالياً ليس فيه متاع، ولهذا فهو لا يحتاج إلى قفل ولا مفتاح.
قال الذهبي: مالك بن دينار، علم من العلماء الأبرار، معدود من ثقات التابعين.
=من مواعظ مالك بن دينار ×+:
1_ خرج أهل الدنيا ولم يذوقوا أطيب ما فيها، قالوا: وما هو يا أبا يحيى؟ قال: معرفة الله.
2_ ما تنعم المتنعمون بمثل ذكر الله _ عز وجل _.
3_ إن الصديقين إذا قرىء عليهم القرآن طربت قلوبهم إلى الآخرة.
4_ ما من أعمال البر شيء إلا دونه عقبه؛ فإن صبر صاحبها أفضت به إلى رَوْح، وإن جزع رجع.
5_ كم من رجل يحب أن يلقى أخاه ويزوره فيمنعه من ذلك الشغل، والأمر يعرض له، عسى الله أن يجمع بينهما في دار لا فرقة فيها.
ثم قال: وأنا أسأل الله أن يجمع بيننا وبينكم في ظل طوبى ومستراح العابدين.
6_ قيل له: ادع لنا ربك، قال: إنكم تستبطئون المطر، وأنا أستبطأ الحجارة.
7_ إن لله _ تعالى _ عقوبات في القلب، والأبدان: ضنكاً في المعيشة، ووهناً في العبادة، ومسخطة في الرزق.
8_ سمع مالك رجلاً يقول: لو أعطاني الله _ تعالى _ بيتاً صغيراً لرضيت به.
فقال له مالك: ليتك يا ابن أخي زهدت في الدنيا كما زهدت في الجنة.
9_ الخوف من العمل ألا يتقبل أشد من العمل.
10_ كفى بالمرء شراً ألا يكون صالحاً، ويقع في الصالحين.
11_ وجد في بعض الكتب: سبحوا الله _ أيها الصديقون _ بأصوات حزينة.
12_ قال لقمان لابنه: يا بني اتخذ طاعة الله تجارة تأتك الأرباح من غير بضاعة.
13_ ليس بحليم من نفذ غضبه في حمار، أو هرة.
14_ أشد ما على السفيه الإعراض عن جوابه، وإظهار عدم التأثير له.
15_ مثل الدنيا مثل الحية، مسُّها ليِّنٌ، وفي جوفها السم القاتل، يحذرها ذوو العقول، ويهوي إليها الصبيان.(3/111)
16_ قال موسى _ عليه السلام _: يا رب أين أبغيك! قال: أبغني عند المنكسرة قلوبهم.
17_ ما أشد فطام الكبير.
18_ لو استطعت أن لا أنام لم أنم؛ مخافة أن ينزل العذاب وأنا نائم، ولو وجدت أعواناً لفرَّقْتُهم في سائر الدنيا كلها: يا أيها الناس! النارَ النارَ.
19_ ما عاقب الله _ تعالى _ قلباً بأشد من أن يسلب منه الحياء.
20_ لم يبق لي من رَوْح الدنيا إلا ثلاثة: لقاء الإخوان، وتهجد بالقرآن، وبيتٌ خالٍ يُذْكَر الله فيه.
=نبذة عن أبي حازم ×+:
أبو حازم هو سلمة بن دينار، الإمام القدوة، الواعظ، شيخ المدينة النبوية، ولد أيام ابن الزبير وابن عمر، وسمع من الصحابي سهل بن سعد، وروى عنه، وروى عن كثير من التابعين، وثَّقه أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، وقال ابن خزيمة: ثقة لم يكن في زمانه مثله.
مات في خلافة أبي جعفر سنة140، وقيل135.
قال الذهبي: =وأحاديثه في الكتب الستة+.
وكانت مواعظه مؤثرة تأخذ طريقها إلى القلوب، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ما رأيت أحد يفرفر (1) الدنيا فرفرة هذا الأعرج، يعني أبا حازم.
وكان على درجة كبيرة من الفطنة، والذكاء، وله أقوال مأثورة تنطق بالحكمة، ومن ذلك ما يلي:
1_ أفضل خصلة ترجى للمؤمن أن يكون أشد الناس خوفاً على نفسه، وأرجاه لكل مسلم.
2_ يسير الدنيا يشغل عن كثير الآخرة؛ فإنك تجد الرجل يشغل نفسه بهم غيره، حتى لهو أشد اهتماماً من صاحب الهم بهم نفسه.
3_ عند تصحيح الضمائر تغفر الكبائر، وإذا عزم العبد على ترك الآثام أَمَّه الفتوح.
4_ ينبغي للمؤمن أن يكون أشد حفظاً للسانه منه لموضع قدميه.
5_ وقال مخاطباً نفسه: يا أعرج! ينادى يوم القيامة: يا أهل خطيئة كذا وكذا، فتقوم معهم، ثم ينادى:
يا أهل خطيئة كذا وكذا فتقوم معهم؛ فأراك يا أعرج تريد أن تقوم مع أهل كل خطيئة؟ !
6_ كل نعمة لا تقرب من الله فهي بلية.
7_ ما مضى من الدنيا فحلم، وما بقي فأماني.
__________
(1) 1_ أي ينال منها، ويبين حقارتها وخطرها.(3/112)
8_ من عرف الدنيا لم يفرح فيها برخاء، ولم يحزن على بلوى.
9_ انظر الذي تحب أن يكون معك في الآخرة فقدمه اليوم، وانظر الذي تكره أن يكون معك ثَمَّ فاتركه اليوم.
10_ انظر كل عمل كرهت الموت من أجله فاتركه، ثم لا يضرك متى مت.
11_ لا يُحْسِنُ عبدٌ فيما بينه وبين الله _ تعالى _ إلا أحسن الله فيما بينه وبين العباد ولا يُعَوِّر(1) فيما بينه وبين الله _ تعالى _ إلا عَوَّر الله فيما بينه وبين العباد.
ولَمُصَانَعَةُ وجهٍ واحدٍ أيسرُ من مصانعة الوجوه كلها؛ إنك إذا صانعت الله مالت الوجوهُ كلُّها إليك، وإذا أفسدت ما بينك وبينه شنأتك(2) الوجوه كلها.
12_ قال عبد الرحمن بن أسلم: قلت لأبي حازم يوماً: إني لأجد شيئاً يحزنني، قال: وما هو يا بني؟ قلت: حُبَّيْ الدنيا، فقال لي: اعلم يا ابن أخي أني ما أعاتب نفسي على حب شيء حَبَّبه الله لي؛ لأن الله _ عز وجل _ حبب هذه الدنيا إلينا، ولكن لتكن معاتبتنا أنفسنا في غير هذا، ألا يدعونا حبها إلى أن نأخذ من شيء يكرهه الله، ولا أن نمنع شيئاً أحبه الله؛ فإذا نحن فعلنا ذلك لا يضرنا حبنا إياها.
13_ وقيل لأبي حازم: ما مالك؟ قال: ثقتي بالله _ تعالى _ وإياسي مما في أيدي الناس.
14_ ليس للملول صديق، ولا للحسود راحة، والنظر في العواقب تلقيح العقول.
15_ السيئ الخلق أشقى الناس به نفسه التي بين جنبيه، هي منه في بلاء، ثم زوجته، ثم ولده، حتى إنه ليدخل بيته وإنهم لفي سرور، فيسمعون صوته فينفرون عنه؛ فرقاً منه، حتى إن دابته تحيد مما يرميها بالحجارة، وإن كلبه ليراه فينزوي علىالجدار، حتى إن قطَّه ليفر منه.
16_ ابن آدم: بعد الموت يأتيك الخبر.
17_ اكتم حسناتك أشد مما تكتم سيئاتك.
18_ وقال لجلسائه: لقد رضيت منكم أن يبقى أحدكم على دينه كما يبقى على نعليه.
19_ يا بني لا تقتد بمن لا يخاف الله بظهر الغيب، ولا يعفُّ عن العيب، ولا يصلح عند الشيب.
__________
(1) 1_ يعور: يفسد.
(2) 2_ شنأتك: أبغضتك.(3/113)
20_ قاتل هواك أشد مما تقاتل عدوك.
21_ وكتب أمير المؤمنين إلى أبي حازم: ارفع إلي حاجتك، قال: هيهات، رفعت حاجتي إلى من لا يختزن الحوائج؛ فما عطاني منها قنعت، وما أمسك عني منها رضيت.
22_ إن كان يغنيك ما يكفيك فأدنى عيشك يكفيك، وإن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس في الدنيا شيء يغنيك.
23_ لَمَا يلقى الذي لا يتقي الله من تَقِيَّةِ الناس أشد مما يلقى الذي يتقي الله
_ عز وجل _ من تقاته.
24_ قال عمر بن عبد العزيز لأبي حازم: عظني يا أبا حازم، قال: اضطجع، ثم اجعل الموت عند رأسك، ثم انظر ما تحب أن تكون فيه تلك الساعة، فخذ فيه الآن، وما تكره أن يكون تلك الساعة، فدعه الآن.
25_ وقال: أوحى الله _ عز وجل _ إلى الدنيا: من خدمك فأتعبيه، ومن خدمني فاخدميه.
26_ مر أبو حازم بسوق الفاكهة فقال: موعدك سوق الجنة.
27_ قال أبو معشر: رأيت أبا حازم يقص في المسجد، ويبكي، ويمسح بدموعه وجهه، فقلت: يا أبا حازم: لِمَ تفعل هذا؟
قال: بلغني أن النار لا تصيب موضعاً أصابته الدموع من خشية الله.
28_ وقال: إبليسُ، وما إبليس؟ لقد عصي فما ضر، ولقد أطيع فما نفع.
29_ مر أبو حازم بأبي جعفر المدني وهو مكتئب حزين، فقال: مالي أراك مكتئباً حزيناً؟ قال: ذكرت ولدي من بعدي، قال: فلا تفعل؛ فإن كانوا أولياء لله فلا تخف عليهم الضيعة، وإن كانوا لله أعداءاً فلا تبالِ ما لقوا بعدك.
=نبذة عن سفيان الثوري+:
سفيان الثوري هو الإمام، الثقة، الحافظ.
قال عنه شعبة، وابن عيينة، وأبو عاصم، ويحيى بن معين، وغيرهم: سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث.
والأقوال في الثناء عليه يصعب حصرها، قال الإمام أحمد: أتدري من الإمام؛ الإمام سفيان الثوري، لا يتقدمه أحد في قلبي.
وقال: قال لي ابن عيينة: لن ترى عينك مثل سفيان الثوري حتى تموت.(3/114)
وقال الذهبي: قد كان سفيان رأساً في الزهد، والتأله، والخوف، رأساً في الحفظ، رأساً في معرفة الآثار، رأساً في الفقه في الدين، لا يخاف في الله لومة لائم، من أئمة الدين.
=من مواعظ سفيان الثوري+:
1_ أصلحْ سَرِيْرَتَك يصلح اللهُ علانيتَك، وأصلح فيما بينك وبين الله يصلحِ الله فيما بينك وبين الناس، واعمل لآخرتك يكفِك الله أمر دنياك، وبع دنياك بآخرتك تربَحْهما جَميعاً، ولا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعاً.
2_ اعمل للدنيا بقدر بقائك فيها، و للآخرة بقدر بقائك فيها.
3_ يأتي على الناس زمان تموت القلوب، وتحيى الأبدان.
4_ ما أحسن تذلل الأغنياء عند الفقراء، وما أقبح تذلل الفقراء عند الأغنياء.
5_ ما عالجت شيئاً أشد علي من نفسي؛ مرة عليَّ، ومرة لي.
6_ قال بشر بن الحارث: قيل لسفيان: أيكون الرجل زاهداً، ويكون له مال؟
قال: نعم؛ إذا ابتلي صبر، وإذا أعطي شكر.
7_ احذر سخط الله في ثلاث: احذر أن تقصر فيما أمرك، احذر أن يراك وأنت لا ترضى بما قسم لك، وأن تطلب شيئاً من الدنيا فلا تجده أن تسخط على ربك.
8 _ لو أن اليقين استقر في القلب كما ينبغي لطار فرحاً، وحزناً، وشوقاً إلى الجنة، أو خوفاً من النار.
9_ ثلاثة من الصبر: لا تحدث بمصيبتك، ولا بوجعك، ولا تُزَكِّ نفسك.
10_ إذا زارك أخوك فلا تقل له: أتأكل؟ أو أقدم إليك؟ ولكن قدِّم، فإن أكل وإلا فارفع.
11_ إذا عرفت نفسك فلا يضرك ما قيل فيك.
12_ لا تتكلم بلسانك، ما تكسر به أسنانك.
13_ إني لأريد شرب الماء، فيسبقني الرجل إلى الشربة، فيسقينيها، فكأنما دق ضلعاً من أضلاعي، لا أقدر على مكافئته.
14_ عليك بالمراقبة ممن لا تخفى عليه خافية، وعليك بالرجاء ممن يملك الوفاء، وعليك بالحذر ممن يملك العقوبة.
15_ إلهي؛ البهائم يزجرها الراعي فتنزجر عن هواها، وأراني لا يزجرني كتابك عما أهواه؛ فيا سوأتاه.
16_ ما أعطي رجل من الدنيا شيئاً إلا قيل له: خذه، ومثله حزناً.(3/115)
17_ لو أن البهائم تعقل ما تعقلون من الموت _ ما أكلتم منها سميناً.
18_ إنما مثلُ الدنيا مثلُ رغيفٍ عليه عسلٌ مرَّ به ذبابٌ، فقطع جناحيه، وإذا مر برغيف يابس مرَّ به سليماً.
19_ لم أَنْهَكُمْ عن الأكل، ولكن انظر من أين تأكل؛ كيف أنهاكم عن الأكل، والله _ تعالى _ يقول: [خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا].
20_ لأن تلقى الله بسبعين ذنباً فيما بينك وبينه أهون عليك من أن تلقاه بذنب واحد فيما بينك وبين العباد.
21_ إذا هممت بأمر من أمور الآخرة فشمر إليها وأسرع من قبل أن يحول بينها وبينك الشيطان.
22_ لا تبغض أحداً ممن يطيع الله، وكن رحيماً للعامة والخاصة، ولا تقطع رحمك وإن قطعك، وتجاوز عمن ظلمك تكن رفيق الأنبياء والشهداء.
23_ عليك بقلة الأكل تملك سهر الليل، وعليك بالصوم؛ فإنه يسد عليك باب الفجور، ويفتح عليك باب العبادة، وعليك بقلة الكلام يلين قلبك، وعليك بالصمت تملك الورع.
24_ لا تكن طعاناً تنجُ من ألسنة الناس، وكن رحيماً محبباً إلى الناس.
25_ عليك بالسخاء تستر العورات، ويخفِّف الله عليك الحساب والأهوال.
26_ عليك بكثرة المعروف يؤنسك الله بقبرك، واجتنب المحارم تجدْ حلاوة الإيمان.
27_ ارض بما قسم الله تكن غنياً،وتوكل على الله تكن قوياً.
=نبذة عن إبراهيم بن أدهم ×+:
هو إبراهيم بن أدهم بن يزيد التميمي، ويقال له العجلي، أصله من بلخ، ثم سكن الشام، ودخل دمشق.
كان من الأشراف، وكان أبوه كثير المال، والخدم، ومع ذلك آثر إبراهيم الآخرة، وآثر العلم والزهد.
وقد روى الحديث عن الأعمش، ومحمد بن زياد، وأبي إسحاق السبيعي، وحدث عنه خلق كثير منهم بقية، والثوري.
وكان حريصاً على الكسب الحلال؛ ليسلم بذلك من مذلة السؤال.(3/116)
كان أميناً في عمله، ومما يذكر عنه أنه قد عمل في بستان، فطلب منه صاحبه أن يحضر له عنباً، فأحضر له عنباً حامضاً، فقال له: من هذا تأكل، قال: ما أكل من هذا ولا من غيره، قال: لم؟ قال لأنك لم تأذن لي.
توفي سنة162 هـ، وقال عنه الثوري: كان إبراهيم بن أدهم يشبه إبراهيم الخليل، ولو كان في الصحابة لكان رجلاً فاضلاً.
وقال ابن كثير: إبراهيم أحد مشاهير العباد، وأكابر الزهاد، كانت له همة عالية في ذلك.
وقال مضاء بن عيسى: ما فاق إبراهيم بن أدهم أصحابه بصوم، ولا صلاة، ولكن بالصدق والسخاء.
=من مواعظ إبراهيم بن أدهم وأقواله+:
1_ قد رضينا من أعمالنا بالمعاني، ومن التوبة بالتواني، ومن العيش الباقي بالعيش الفاني.
2_ ما ألهم الله عبداً الاستغفار وهو يريد أن يعذبه.
3_ من لم يواسِ الناس بماله وطعامه، وشرابه _ فليواسهم ببسط الوجه، والخلق الحسن.
4_ لا تكونوا بكثرة أموالكم تتكبرون على فقرائكم، ولا تميلون إلى ضعفائكم، ولا تبسطون إلى مساكينكم.
5_ تريد تدعو؟ كل الحلال، وادع بما شئت.
6_ قال أبو عبد الله الملطي: كان عامة دعاء إبراهيم: اللهم انقلني من ذل معصيتك إلى عز طاعتك.
7_ الزهد في الرياسة أشد من الزهد في الذهب والفضة؛ لأنك تبذلهما في تحصيلها.
9_ عجباً للرجل اللئيم!؛ يبخل بالدنيا على أصدقائه، ويسخو بالجنة لأعدائه. …
10_ شكى رجل إلى إبراهيم كثرة عياله، قال إبراهيم: ابعث إلي منهم من لا رِزْقُه على الله؛ فسكت الرجل.
11_ من علامة صدق المتحابين في الله _ عز وجل _ أن يبادر كل منهم إلى مصالحة صاحبه إذا أغضبه؛ فإنا لم نجد قط محبوباً إلى إخوانه وهو لا يواصلهم، كما أنا لم نجد قط غضوباً مسروراً.
12_ الهوى يردي، وخوف الله يشفي.
13_ اعلم أن ما يزيل عن قلبك هواك إذا خفت من أن تعلم أنه يراك.
14_ إذا كنت بالليل نائماً، وبالنهار سائماً، وفي المعاصي دائماً؛ فكيف ترضي من هو بأمرك قائماً.(3/117)
15_ مالنا نشكو فقرنا إلى مثلنا، ولا نسأل كشفه من ربنا.
16_ نحن والله الملوك الأغنياء، نحن الذين قد تعجلنا الراحة، لا نبالي على أي حال أصبحنا، وأمسينا إذا أطعنا الله _ عز وجل _.
17_ لا يقل مع الحق فريد، ولا يقوى مع الباطل عديد.
18_ الكلام يظهر حمق الأحمق، وعقل العاقل.
19_ من عرف ما يطلب هان عليه ما يبذل، ومن أطلق بصره طال أسفه، ومن أطلق أمله ساء عمله، ومن أطلق لسانه قتل نفسه.
=نبذة عن عبد الله بن المبارك ×+:
هو عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي مولاهم، وأمه خوارزمية، ولد سنة 118 هـ في مدينة مرو _ أشهر مدن خراسان _ كان أبوه رجلاً صالحاً يعمل في بستان مولاه، وجاءه مولاه يوماً، وطلب منه رماناً حلواً، فأحضر له رماناً، فوجده حامضاً، فقال له: أطلب الحلو فتحضر الحامض؛ هات حلواً.
فذهب مبارك إلى شجرة أخرى، فلما كسره وجده حامضاً، فقال له بعد ذلك: أنت ما تعرف الحلو من الحامض؟ فقال: لا قال: وكيف ذلك؟ قال: لأني ما أكلت منه شيئاً حتى أعرفه، فقال: ولماذا؟ قال: لأنك ما أذنت لي بالأكل منه؛ فعجب من ذلك صاحب البستان، وتأكد بعد ذلك من صدقه.
وكان لمولاه بنتٌ خُطِبَتْ كثيراً، فقال له يا مبارك من ترى نزوج هذه البنت؟
فقال: أهل الجاهلية يزوجون للحسب، واليهود للمال، والنصارى للجمال، وهذه الأمة للدين.
فأعجبه عقله، ثم زوجه ابنته.
وهكذا جاء ابن المبارك من هذه الأسرة التي قامت على الورع، والتقوى.
نشأ ابن المبارك في مرو، وكان شديد الذكاء، قوي الحافظة، خرج في طلب العلم سنة141هـ، وأكثر من الترحال، والتطواف في طلب العلم، وفي الغزو، والتجارة، فرحل إلى الحرمين، والشام، والعراق، والجزيرة، وخراسان، وحدث بأماكن، وصنف التصانيف الكثيرة النافعة.(3/118)
كان يعمل في التجارة، وكان رأس ماله نحو أربعمائة ألف يدور يتَّجر به في البلدان، فحيث اجتمع بعالم أحسن إليه، وكان يربو كسبه في كل سنة على مائة ألف ينفقها كلها في أهل العلم، والعبادة، والزهد، وربما أنفق من رأس ماله.
وكان الباعث له على العمل بالتجارة أمرين:
1_ صيانة الوجه أن ينكسف بسواد المطالب، وذلة السؤال.
قال له الفضيل بن عياض: أنت تأمرنا بالزهد، والتقلل، والبلغة، ونراك تأتي بالبضائع كيف ذا؟
قال يا أبا علي! إنما أفعل ذلك؛ لأصون وجهي، وأكرم عرضي، وأستعين به على طاعة ربي.
2_ الإنفاق على العُبَّاد، والزهاد، وأهل العلم؛ فقد قال للفضيل: لولاك وأصحابك ما اتّجرت.
ولهذا كان كثير من العبَّاد لا يقبلون إلا عطاياه.
كان ابن المبارك كريماً، وأخباره أشهر من أن تذكر، وكان شجاعاً، مجاهداً، حافظاً، محدثاً، شاعراً، فقيهاً.
توفي سنة 181هـ وله ثلاث وستون سنة.
قال العباس بن مصعب: جمع ابن المبارك الحديث، والفقه، والعربية، وأيام الناس، والشجاعة، والسخاء، والتجارة، والمحبة عند الفرق.
وقال يحيى بن آدم: كنت إذا طلبت دقيق المسائل، فلم أجده في كتب ابن المبارك أيست منه.
وقال سفيان الثوري: لو جهدت جهدي أن أكون في السنة ثلاثة أيام على ما عليه ابن المبارك _ لم أقدر.
وقال ابن عيينة: نظرت في أمر الصحابة، وأمر عبد الله فما رأيت لهم عليه فضلاً إلا لصحبتهم النبي " وغزوهم معه.
وعن عبد الله بن سنان قال: قدم ابن المبارك مكة، وأنا فيها، فلما خرج شيعه سفيان بن عيينة والفضيل، وودعاه، فقال أحدهما: هذا فقيه أهل المشرق، فقال الآخر: وفقيه أهل المغرب.
ملحوظة: هذه الشهادات لابن المبارك من أفاضل السلف وأكابرهم تدل على نفوس طاهرة زكية؛ إذ إن بعضهم يشهد لبعض دونما تحرج أو حسد؛ فما النتيجة إذاً؟
لقد رفعهم الله جميعاً، ونحن إذ نسمع مثل هذه الشهادات نهتز لها طرباً، وربما كان إعجابنا بالشاهد أعظم من إعجابنا من المشهود له.(3/119)
من أخبار ابن المبارك: أنه خرج مرة إلى الحج، فمر ببعض البلاد، فمات طائر معهم، فأمر بإلقائه على مزبلة هناك، وسار أصحابه، وتخلف وراءهم، فلما مر بالمزبلة إذا جارية قد خرجت من دار قريبة منها فأخذت ذلك الطائر الميت، ثم لَفَّّتْهُ، ثم أسرعت به إلى الدار، فجاء ابن المبارك، فسألها عن أمرها، وأخذها الميتة.
فقالت: أنا وأخي هنا ليس لنا شيء إلا هذا الإزار وليس لنا قوت إلا ما يلقى على هذه المزبلة، وقد حلَّتْ لنا الميتةُ منذ أيام، وكان أبونا له مال، فظُلم، وأخذ ماله، وقتل، فأمر ابن المبارك برد الأحمال، وقال لوكيله: كم معك من النفقة؟ قال: ألف دينار، فقال: عد منها عشرين ديناراً تكفينا إلى مرو، وأعطها الباقي؛ فهذا أفضل من حجنا هذا العام ثم رجع.
=من مواعظ ابن المبارك+:
1_ أكثركم علماً ينبغي أن يكون أشدكم خوفاً.
2_ كيف يدَّعي رجل أنه أكثر علماً، وهو أقل خوفاً، وزهداً؟.
3_ ما أعياني شيء كما أعياني أني لا أجد أخاً في الله _ عز وجل _.
4_ لا يقع موقع الكسب على العيال شيء، ولا الجهاد في سبيل الله.
5_ ما بقي في زماننا أحدٌ أعرف أنه أخذ النصيحة بانشراح قلب.
6_ قال رجل لعبد الله: أوصني، قال: اترك فضول النظر توفق للخشوع، واترك فضول الكلام توفق للحكمة، واترك فضول الطعام توفق للعبادة، واترك النظر في عيوب الناس توفق للاطلاع على عيب نفسك.
7_ قال رجل لعبد الله: إني لأرى نفسي أحسن حالاً ممن قتل نفساً ظلماً.
فقال له: إن أَمْنَك على نفسك لشر ممن قتل نفسا ًظلماً.
8_ رب عمل صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تصغره النية.
9_ لو أن رجلين اصطحبا في الطريق، فأراد أحدهما أن يصلي ركعتين، فتركهما؛ لأجل صاحبه _ كان ذلك رياءاً، وإن صلاهما لأجله فهو شرك.
10_ سئل ابن المبارك عن قول لقمان لابنه: إن كان الكلام من فضة فإن الصمت من ذهب فقال: معناه لو كان الكلام بطاعة الله من فضة فإن الصمت عن معصيته من ذهب.(3/120)
11_ إن الرحمة تنزل عند ذكر الصالحين.
12_ قال رجل لابن المبارك: هل بقي من ينصح؟ قال: فهل تعرف من يقبل؟
13_ قال رجل لابن المبارك: أوصني، قال: اعرف قدرك.
14_ كاد الأدب يكون ثلثي الدين.
15_ قال حبيب الجلاب: سألت ابن المبارك: ما خير ما أعطي الإنسان؟ قال: غريزة عقل، قلت: فإن لم يكن؟ قال: حسن أدب، قلت: فإن لم يكن؟ قال: أخ شفيق يستشيره، قلت: فإن لم يكن؟ قال: صمت طويل، قلت: فإن لم يكن؟ قال: موت عاجل.
16_ إن البصراء لا يأمنون من أربع: ذنب قد مضى لا يدرى ما يصنع فيه الرب _ عز وجل _ وعمر قد بقي لا يدرى ما فيه من الهلكة، وفضل قد أعطي العبد لعله مكر واستدراج، وضلالة يراها هدى، وزيغ قلب ساعة؛ فقد يسلب المرء دينه ولا يشعر.
17_ رأس التواضع أن تضع نفسك عند من دونك في نعمة الدنيا؛ حتى تعلمه أنه ليس لك بدنياك عليه فضل، وأن ترفع نفسك عمن هو فوقك في الدنيا؛ حتى تعلمه أنه ليس له بدنياه فضل عليك.
19_ اغتاب رجل في مجلس عبد الله شخصاً، فقال: إذا أردتم أن تغتابوا فاغتابوا أبويكم؛ لئلا يرد أجر عملكم على الأجنبي، بل إليهما.
وقال: لو كنت مغتاباً لاغتبت والديَّ؛ لأنهما أحق بحسناتي.
=تعريف بالفضيل بن عياض ×+:
الفضيل بن عياض التميمي ولد بسمرقند، ونشأ بخراسان، وتذهب بعض الروايات أنه كان يقطع الطريق ثم هداه الله بسب سماعه آية من كتاب الله.
جاء في سير أعلام النبلاء، عن الفضل بن موسى، قال: كان الفضيل بن عياض شاطراً _ يقطع الطريق _ بين أبيورد، وسرخس، وكان سبب توبته أنه عشق جارية، وبينما هو يتسلق الجدران إليها إذ سمع تالياً يتلو [أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ] فلما سمعها قال: بلى يا ربي قد آن، فأواه الليل إلى خربة، فإذا فيها سابلة _عابرُ طريق_ فقال بعضهم:نرحل، وقال بعضهم: حتى نصبح؛ إن فضيلاً يقطع الطريق علينا.(3/121)
قال: ففكرت وقلت: أنا أسعى بالليل في المعاصي، وقوم من المسلمين هاهنا يخافونني، أرى الله ساقني إليهم؛ لأرتدع، اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام.
كان الفضيل إماماً في الزهد والورع، قال إبراهيم بن الأشعث: ما رأيت أحداً كان الله في صدره أعظم من الفضيل، كان إذا ذكر الله، أو ذكر عنده، أو سمع القرآن ظهر به من الخوف والحزن، وفاضت عيناه، وبكى حتى يرحمه من بحضرته.
وقال: كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة لا يزال يعظ، ويذكِّر، ويبكي، حتى لكأنه يودع أصحابه ذاهب إلى الآخرة حتى يبلغ المقابر، فيجلس، فكأنه بين الموتى.
وقال سفيان بن عيينة: ما رأيت أحداً أخوف من الفضيل وابنه علي.
وقال إسحاق بن إبراهيم: ما رأيت أحداً أخوف على نفسه، ولا أرجى للناس من الفضيل.
كان صحيح الحديث، صدوق اللسان، وقال ابن المبارك: ما بقي على ظهر الأرض عندي أفضل من الفضيل.
وقال الذهبي: الإمام، القدوة، الثبت، شيخ الإسلام أبو علي.
وعده ابن تيميه من أئمة السلف، ومن أكابر المشايخ.
ومن الأقوال العظيمة المأثورة عن الفضيل ما يلي:
1_ قال في قوله _ تعالى _: [لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً].
قال: أخلصه، وأصوبه، قيل: يا أبا علي! ما أخلصه، وأصوبه؟ فقال: إن العمل إذا كان خالصاً، ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً، ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة.
2_ إذا ظهرت الغيبة ارتفعت الأخوة في الله.
3_ حيث ما كنت فكن ذَنَباً، ولا تكن رأساً؛ فإن الرأس تهلك، والذنب ينجو.
4_ كامل المروءة من بر والديه، وأصلح ماله، وأنفق من ماله، وحسن خلقه، وأكرم إخوانه، ولزم بيته.
5_ ما أجد لذة، ولا راحة، ولا قرة عين إلا حين أخلو في بيتي.
6_ صبر قليل، ونعيم طويل، وعجلة قليلة، وندامة طويلة.(3/122)
7_ كفى بالله محباً، وبالقرآن مؤنساً، وبالموت واعظاً، وكفى بخشية الله علماً، وبالاغترار به جهلاً.
8_ لا تستوحش طريق الهدى؛ لقلة أهله، ولا تغتر بكثرة الناس.
9_ إذا أتاك رجلاً يشكو رجلاً، فقل: يا أخي اعف عنه؛ إن العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمل قلبي العفو، ولكن أنتصر كما أمرني الله _ عز وجل _ فقل: فإن كنت تحسن تنتصر بمثل، وإلا فارجع إلى باب العفو؛ فإنه باب واسع؛ فإنه من عفى وأصلح فأجره على الله؛ فصاحب العفو ينام الليل على فراشه، وصاحب الانتصار يقلب الأمور.
10_ خصلتان تقسيان القلب: كثرة النوم، وكثرة الأكل.
11_ المؤمن يزرع نخلاً، ويخاف أن يثمر شوكاً، والمنافق يزرع شوكاً، ويطلب أن يثمر رطباً.
12_ نعمت الهدية الكلمة الطيبة من الحكمة يحفظها الرجل حتى يلقيها إلى أخيه.
13_ إنما تقاطع الناس بالتكلف، يزور أحدهم أخاه، فيتكلف له، فيقطعه ذلك عنه.
14_ خوف العبد من الله على قدر معرفته به.
15_ من وقي خمساً وقي شر الدنيا و الآخرة: العجب، والرياء، والكبر، والإزراء، والشهوة.
16_ لأعلمنك كلمة هي خير لك من الدنيا وما فيها: والله لئن علم الله منك إخراج الآدميين من قلبك حتى لا يكون في قلبك مكان لغيره _ لم تسأله شيئاً إلا أعطاك.
17_ ما أحب عبدٌ الرياسة إلا أحب ذكر الناس بالنقائص، والعيوب؛ ليتميز هو بالكمال، ويكره أن يذكر الناس أحداً عنده بخير.
ومن عشق الرياسة فقد تُودِّع من صلاحه.
18_ أهل الفضل هم أهل الفضل ما لم يروا فضلهم.
19_ لم يدرك عندنا من أدرك بكثرة صيام، ولا صلاة، وإنما أدرك بسخاء الأنفس، وسلامة الصدور، والنصح للأمة.
20_ رب ضاحك، وأكفانه قد خرجت من عند القصار (1).
21_ من خاف الله لم يضره أحد، ومن خاف غير الله لم ينفعه أحد.
22_ لم يتزين الناس بشيء أفضل من الصدق، وطلب الحلال.
23_ بقدر ما يصغر الذنب عندك يعظم عند الله، وبقدر ما يعظم عندك يصغر عند الله.
__________
(1) 1_ القصار: المغسل.(3/123)
24_ عاملوا الله _ عز وجل _ بالصدق في السر؛ فإن الرفيع من رفعه الله، وإذا أحب الله عبداً أسكن محبته في قلوب العباد.
25_ من المعروف أن ترى المنة لأخيك عليك إذا أخذ منك شيئاً؛ لأنه لولا أخذه منك ما حصل لك الثواب، وأيضاً فإنه خصك بالسؤال، ورجا فيك الخير دون غيرك.
26_ من علامة المنافق أن يحب المدح بما ليس فيه، ويكره الذم بما فيه، ويبغض من يبصره بعيوبه، ويفرح إذا سمع بعيب أحد من أقرانه.
27_ إن الله _ عز وجل _ ليتعاهد عبده المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالخير.
28_ المؤمن يغبط، ولا يحسد، والمنافق يحسد، ولا يغبط.
1_ لا تهدم شيئاً ما لم تكن مستعداً لبناء شيء أفضل منه. ص262
2_ السبيل الوحيد لتجنب النقد هو ألا تفعل شيئاً، وألا تكون أحداً، عندها لا يفعل العالم شيئاً لإزعاجك. ص264
3_ إذا كنت لا تتحمل النقد فلا يحق لك أن تقدمه إلى سواك. ص265
4_ أخفق أديسون عشرة آلاف مرة قبل أن يصنع المصباح الكهربائي؛ لا تقلق إذا أنت أخفقت مرة. ص270
5_ لا يعد المرء مخفقاً حتى يتقبل الهزيمة كأنما هي دائمة، ويتخلى عن المحاولة. ص271
6_ أخطاء الآخرين هي عذر ضعيف لخطئك. ص271
7_ الإخفاق ليس عاراً إذا كنت بذلت جهدك بإخلاص. ص271
8_ الأشخاص ذوو النية الصادقة قلما يخافون شيئاً. ص272
9_ في كل مرة تؤثِّر على امرئ ما؛ لكي يقوم بعمل أفضل _ فإنك تفيده، وتضاعف قيمتك الشخصية. ص281
10_ لا تكتفِ بأن تكون ممتازاً في عمل، كن الأفضل، وسرعان ما تصبح شخصاً لا يستغنى عنه. ص281
11_ أنت دائماً على الرحب والسعة إذا ما حملت معك الابتسامة، وتركت الهموم في البيت. ص292
12_ تذكر جيداً أنه ليس من الضرورة أن يخفق الآخرون لكي تنجح. ص300
13_ يستحسن التفوق على الشخص الآخر عوضاً عن إضاعة الوقت في حسده. ص300
14_ سلم الشهرة ليس مزدحماً عند قمته. ص300
15_ إذا كنت تتوقع شيئاً مقابل لا شيء فإنه محكوم عليك بخيبة الأمل. ص300(3/124)
16_ لا تجادل مطلقاً في تفاصيل غير مهمة؛ لأنك إذا كسبت فإنك لن تكون كسبت أي مصلحة. ص300
17_ عندما تغضب غضباً شديداً، ولا تدري ما العمل _ فالأفضل ألا تفعل شيئاً. ص303
18_ لو أن الإنسان أفصح عن كل فكرة خطرت بباله _ لما بقي له أصدقاء. ص303
19_ الإنسان السليم الخلق لا يقلق عموماً على سمعته. ص307
20_ اهتم جيداً بخلقك؛ فتهتم سمعتك بنفسها. ص307
21_ الأوهام تتجه عموماً حيث يُرَحَّب بها. ص308
المؤلف: سامويل أ. سيبرت
=تعريف بالكتاب+:
هذا الكتاب من إصدار مكتبة جرير وترجمتها ويقع في 113 صفحة، ويدور حول تجارب إنسانية تقوي الثقة بالنفس، وتبعث على مزيد من الجد، وتحارب القصور والإخفاق وتعظيم شأن الخوف.
كما أنه يعين على أن يتعرف الإنسان على اكتشاف مواطن الضعف والقوة في نفسه، وعلى العناصر التي تؤثر فيه.
كما أنه يعرفه على كيفية تحديد الأهداف وطريقة الوصول إليها، فإلى مقولات الكتاب المختارة.
1_ يتسم البارزون في عملهم بالثقة الشديدة، وربما يدعي بعضهم أنهم يقومون بهذه السلوكيات الناجحة بشكل طبيعي؛ وذلك لثقتهم بأنفسهم.
ولا شيء أبعد عن الحقيقة من هذا الافتراض؛ إننا جميعاً نتسم بالضعف، وقد نتأثر تأثراً بالغاً من فعل أو قول غير واعٍ أو بسيط، وإن لم يكن مقصوداً، كما أننا نكتسب الثقة بالنفس من أجل تحققه. ص1
2_ عندما نتعرض للهزيمة أو عند ما يجرحنا الآخرون فإننا نعلم جيداً أن هذه المشاعر مؤقتة، وسرعان ما نتماثل للشفاء.
كما أننا نتعلم من التجارب، ونتحسن عادة كلما خضنا تجارب أكثر. ص2
3_ إذا انخفض تقديرنا لذاتنا إلى حدٍّ يجعلنا نشكك في قدراتنا على النجاح فلن نقدم أبداً على المحاولة. ص2
4_ إذا اعتقدنا أننا سنخفق فسوف نخفق في أغلب الأحيان. ص2
5_ يمكننا أن نستريح عندما نعرف أن كل إنسان تقريباً يمر بلحظات من الشك في النفس. ص2(3/125)
6_ يمكن أن نتعلم من حياة الآخرين الذين مروا بتجارب فاشلة كثيرة، ولكنهم تغلبوا عليها، ووصلوا إلى مناصب قيادية في التجارة والسياسة بل في كل المجالات الأخرى. ص2
7_ لا يوجد اثنان متشابهان؛ لذلك يجب أن نتعلم من البداية أن نقيس أداءنا وفقاً لقدراتنا، لا وفقاً لقدرات زملائنا أو أقاربنا. ص6
8_ يميل كل البشر إلى التأثر ذاتياً بتجارب الفشل، وغالباً ما يعطونها اهتماماً أكثر مما تستحقه؛ لأن أية تجربة فاشلة تترك في الذاكرة أثراً لا يمحى؛ فإننا نسمح لها بان تؤثر على حاضرنا ومستقبلنا أكثر مما ينبغي، بغض النظر عن حجم هذا الفشل؛ فإن أية هزيمة تعد مؤقتة إذا لم نجعلها دائمة. ص7
9_ إذا تعلمنا من التجربة فقد قمنا بخطوة صغيرة نحو النجاح في المستقبل؛ حيث لن نكرر هذا الخطأ ثانية. ص7
10_ إذا نظرت بعمق إلى حياة الناجحين فسوف تكتشف أنها تمتلئ بتجارب الفشل المثيرة؛ سنجد _ مثلاً_ أبراهام لينكولن قد فشل كأمين مستودع، وكجندي وكمحامي.
ومع ذلك ساعدته كل هذه التجارب على نحو خاص في أن يقود الولايات المتحدة في أسوأ أزماتها وهي الحرب الأهلية.
لقد أصبح لينكولن واحداً من أعظم رؤساء أمريكا، وذلك لتعاطفه الشديد مع الآخرين؛ نتيجة الصعوبات التي واجهته في حياته. ص7
11_ لا يمكن أن تغير الماضي، ولكن يمكنك أن تغير الطريقة التي يؤثر بها عليك، يجب أن تترك الماضي خلف ظهرك. ص8
12_ اعلم جيداً أننا لا نستطيع أن نتحكم في الآخرين، أو الطريقة التي يتعاملون بها معنا، ولكن نستطيع أن نتحكم في رد فعلنا تجاههم. ص8
13_ لا يمكن لأحد أن يغضبك أو يضايقك، كما لا يمكن لأحد أن يشعرك بعدم الأهمية أو الدونية إلا إذا سمحت له بذلك، وساعدته عليه. ص8
14_ يستحيل ببساطة أن يؤثر أي إنسان على أي من آرائك أو مشاعرك، أو عواطفك ما لم تسمح له بذلك. ص8(3/126)
15_ خذ على نفسك عهداً بأنك لن تسمح لأحد بعد الآن أن يتحكم في حياتك أو رد فعلك تجاهه، أو تجاه الأحداث التي يفتعلها، أمسك بزمام الأمور. ص8
16_ اعلم أنك وحدك تختار الطريقة التي تمارس بها حياتك، لا تتطلب هذه الأمور تغيراً جوهرياً في شخصيتك، وإنما تحتاج فقط إلى التزام تام بأن تلقي الماضي وراء ظهرك، وأن تنسى المرات التي عاملك فيها الآخرون بشكل سيئ أو آذوك، وأن تفكر في إمكانيات المستقبل لا في تجارب الماضي الفاشلة. ص8
17_ ينبغي أن نحقق انتصارات صغيرة متوالية إلى أن يأتي يوم ندرك فيه أننا قد فزنا بالحرب. ص13
18_ لقد مر كل فرد منا بتجارب ناجحة و أخرى فاشلة؛ فأحياناً نعتلي القمة، وأحياناً نجد الحياة مجرد شراك نقع فيها.
ولكننا نشعر بعدم الأمان، لاعتقادنا الخاطئ بأننا سبب كل المشكلات.
والأسوأ من ذلك أن كلاً منا يشعر بشكل ما بأنه الشخص الوحيد على وجه الأرض الذي مر بهذه التجارب الفاشلة، مع أننا نعلم جيداً أن هذا الاعتقاد سخيف. ص13_ 14
19_ إذا لم يكن لديك قيم ومبادئ واضحة محددة تعيش لأجلها _ فإنه من السهل أن تسيطر عليك آراء الآخرين الذين يستغلونك لتحقيق أهدافهم، تأكد من وقوفك على أرض صلبة. ص17
20_ لا تغرق في الماضي بإحياء التجارب الفاشلة، أو تحاول أن تعود بذهنك إلى إنجازاتك السابقة، ولكن انظر ماذا تعمله الآن، وماذا تنوي تقديمه في المستقبل. ص17
21_ لا تبذِّر وقتك مع الذين يقللون من شأنك. ص17
22_ نادراً ما يمنح الاحترام بلا مقابل؛ فلا بد أن يكون له ثمن. ص17
23_ عندما يعلم الآخرون أنه لم يعد في استطاعتهم أن يقللوا من شأنك فسوف يتوقفون عن المحاولة. ص17
24_ لن يهزمك أحد إلا إذا اعتقدت أنه يستطيع ذلك. ص20
25_ التغيير يتطلب شجاعة وتصميماً ومثابرة. ص25
26_ امتلك الشجاعة لتكون مختلفاً، ولكن لا تكن متناقضاً، أو متباهياً باستقلالك. ص26
27_ الشجاعة التي تميزنا عن غيرنا أن نكون صادقين مع أنفسنا. ص26(3/127)
28_ خالط الأشخاص الإيجابيين. ص26
29_ تعلم من التجارب. ص27
30_ خصص وقتاً للتفكير. ص27
31_ تعلم أن تتعاطف مع الآخرين. ص27
32_ كن كريماً في المجاملة الصادقة. ص27
33_ عندما تنزعج من الآخرين أو المواقف التي لا تستطيع أن تسيطر عليها فابتعد عن هؤلاء الأفراد، وعن تلك المواقف لفترة قصيرة. ص28
34_ فكِّر قبل أن تتحدث. ص29
35_ لا تحبَّ ما أنت عليه، بل حبَّ ما يجب أن تكون عليه. ص31
36_ السعادة تحتاج حقاً إلى أن تتخلى عن أشياء معينة. ص43
37_ لن يصبح أحدٌ عظيماً بتقليد غيره. ص47
38_ ليس من المعقول أن تتخذ قرارات سريعةً في قضايا هامة فعلاً. ص53
39_ كن قائداً، أو تابعاً، أو تنحَّ عن الطريق. ص53
40_ خذ الوقت الكافي؛ لتصدر قرارات هامة، فنادراً ما تحتاج هذه القرارات إلى أن تُتَّخذ فوراً، نَمْ ودَعِ الليل يمر عليها، فسوف تكون أكثر موضوعية إذا انتظرت أربعاً وعشرين ساعة. ص54
41_ تذكر أن لكل قرار نتائجه، إذا حدَّدت هذا النتائج فسوف يساعدك ذلك على اتخاذ قرار صائب. ص54
42_ اعلم جيداً أن القراراتِ نادراً ما تكون نهائية، إذا أخطأت فعادة ما يمكنك الرجوع فيه، وتصحيح الأخطاء. ص55
43_ إذا كنت متحمساً لفكرة، أو فرصة جديدة فلا تتوقع من الآخرين نفس الشيء بالضرورة، وربما يحقدون عليك، أو ربما لا يعنيهم الموضوع بأي حال من الأحوال. ص55
44_ إن هؤلاء الذين يحققون نجاحاً كبيراً في الحياة هم الذين يعطون أكثر مما يتوقع منهم. ص55
45_ إن الرجل الشجاع يمثل أغلبية في حد ذاته. ص55
46_ الشدائد تزيدك قوة. ص58
47_ تنطوي كل المحن على احتمالات لتحقيق فوائد مساوية لها أو أكبر. ص58
48_ لا تدوم الهزيمة إلى الأبد إلا إذا سمحت لها بذلك. ص61
49_ أصعب جزء في أي وظيفة هو البداية. ص62
50_ تزداد قوتنا كلما واجهنا مشكلات، فكما تُقَوِّي الرياضةُ العضلات فإن التغلب على العقبات يعلمنا الإصرار، والعمل بجد واجتهاد، والنجاح في النهاية. ص62(3/128)
51_ تحديد الهدف يساعدك في تركيزك على طاقاتك وأفكارك على ما تريد أن تحققه. ص72
52_ إذا كان لديك هدف محدد وتمتلك الإصرار والقدرة على تحقيقه _ فلن يطول تأخرك. ص72
53_ إن العوائق ما هي إلا مصادر إزعاج مؤقتة لا بد أن تتغلب عليها؛ لكي تصوب مسارك. ص72
54_ العقبات هي تلك الأشياء المرعبة التي تبعد عينك عن المهمة. ص79
55_ معظم الناس لا يهتمون بما لديك من معرفة إلا أن يعرفوا قدر ما لديك من اهتمام بهم. ص89
56_ إن أصعب سرٍّ يحتفظ به الإنسان هو رأيه الخاص في نفسه. ص100
57_ من الأشياء العجيبة في هذه الحياة أنك إذا لم تقبل أي شيء سوى الأفضل فإنك ستحصل عليه في كثير من الأحيان. ص101
58_ من مقتضيات الحكمة أن تعرف ما يجب أن تتغاضى عنه. ص106
59_ إذا اعتدت على ألا تفعل أيَّ شيء يضر الآخرين، وعلى أن تساعدهم بشكل عملي ومعقول _ فسوف تستفيد من هذه العادة أكثر من الآخرين. ص106
60_ عندما تكون إنساناً رحيماً عطوفاً ومراعياً لشعور الآخرين فسوف تحترم نفسك بشكل أفضل، وتصبح أكثر ثقة، كما يزداد تقديرك لذاتك. ص106
المحتويات
المقدمة ... 3
أولاً: نقولات من كتاب =الأدب الصغير، والأدب الكبير+ لابن المقفع:
_تعريف موجز بالكتاب.
…أ_ 50 نقلاً من الأدب الصغير.
…ب_ 46 نقلاً من الأدب الكبير. ... 6
ثانياً: نقولات من كتاب =صيد الخاطر+ لابن الجوزي:
_ تعريف موجز بالكتاب.
_83 نقلاً من كتاب صيد الخاطر. ... 22
ثالثاً: نقولات من كتاب =الأخلاق والسير+ لابن حزم:
…_ تعريف بالكتاب.
…_ 59 نقلاً من الكتاب. ... 45
رابعاً: 10نقول من كتاب =العبودية+ لابن تيمية. ... 53
خامساً: 50 نقلاً من كتاب =الاستقامة+ لابن تيمية. ... 57
سادساً: 11 نقلاً من كتاب =جامع الرسائل+ لابن تيمية. ... 68
سابعاً: 69 نقلاً من كتاب =الفوائد+ لابن القيم. ... 71
ثامناً: 32 نقلاً من كتاب =إغاثة اللهفان+ لابن القيم. ... 78(3/129)
تاسعاً: نقولات من كتاب =الحرية في الإسلام+ للشيخ محمد الخضر حسين:
…_ نبذة من سيرة المؤلف.
…_ 58 نقلاً من الكتاب. 86
عاشراً: نقولات من كتاب =نقض كتاب: في الشعر الجاهلي+ للشيخ محمد الخضر حسين. ... 107
الحادي عشر: نقولات من كتاب =هدى ونور+ للشيخ محمد الخضر حسين بعنوان خواطر، وفيه 48 خاطرة. ... 114
الثاني عشر: نقولات من كتاب =أليس الصبح بقريب+ للشيخ محمد الطاهر بن عاشور:
_ نبذة عن المؤلف.
_ تعريف بالكتاب.
_ 47 نقلاً من الكتاب. ... 121
الثالث عشر: نقولات من كتاب =وحي القلم+ لمصطفى صادق الرافعي:
…_ 55 نقلاً من الكتاب. 136
الرابع عشر: نقولات من كتاب: =آثار الشيخ محمد الإبراهيمي+:
…_ نبذة عن المؤلف.
…_ 33 نقلاً من الكتاب. 150
الخامس عشر: نقولات من كتاب =مواعظ الإمام عمر بن عبدالعزيز+ للشيخ صالح الشامي.
…_ نبذة عن عمر بن عبدالعزيز.
…_ 23 نقلاً من مواعظ عمر بن عبدالعزيز. 158
السادس عشر: نقولات من كتاب =مواعظ اللإمام مالك بن دينار+ للشيخ صالح الشامي.
…_ نبذة عن مالك بن دينار.
…_ 20 موعظة لمالك بن دينار. 162
السابع عشر: نقولات من كتاب =مواعظ الإمام سلمة بن دينار أبو حازم+ للشيخ صالح الشامي.
…_ نبذة عن أبي حازم.
…_ 29 موعظة لأبي حازم. 164
الثامن عشر: نقولات من كتاب =مواعظ الإمام سفيان الثوري+ للشيخ صالح الشامي.
…_ نبذة عن سفيان الثوري.
…_ 27 موعظة من مواعظه. 168
التاسع عشر: نقولات من كتاب =مواعظ الإمام إبراهيم بن أدهم+ للشيخ صالح الشامي.
…_ نبذة عن إبراهيم بن أدهم.
…_ 19 موعظة من مواعظه. 171
العشرون: نقولات من كتاب =مواعظ الإمام عبدالله بن المبارك+ للشيخ صالح الشامي:
…_ نبذة عن عبدالله بن المبارك.
…_ 19 موعظة من مواعظه. 174
الحادي والعشرون: نقولات من كتاب =مواعظ الإمام الفضيل بن عياض+ للشيخ صالح الشامي:
…_ تعريف بالفضيل بن عياض.
…_ 28 موعظة من مواعظه. 179(3/130)
الثاني والعشرون: نقولات من كتاب =طاقتك الكامنة+ لسمير شيخاني:
…_ 21 فقرة من الكتاب. 184
الثالث والعشرون: نقولات من كتاب =قوة الاعتزاز بالنفس+ لسامويل أ. سيبرت:
…_ تعريف بالكتاب.
…_ 60 نقلاً من الكتاب. 186
…_ المحتويات. ... 193(3/131)