المنتقى
للحديث في رمضان
تأليف
إبراهيم بن محمد الحقيل
الطبعة الأولى
1427هـ
الردمك
للل(1/1)
مقدمة
...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
أما بعد: فإن شهر رمضان هو شهر هذه الأمة الخاتمة المختارة التي فضلها الرب جل جلاله على سائر الأمم، واختصها بخاتم رسله ?، والمسلمون يتنافسون فيه على الخيرات والطاعات، ويقبلون على سماع الحديث والمواعظ؛ ولذلك خصص كثير من أهل العلم والدعوة مجالس ودروساً لرمضان، تقرأ على المصلين في صلاتي العصر والعشاء، وهي على أنواع، ومنها الطويل ومنها القصير، ومنها المقتصر على المواعظ والرقاق، ومنها المعتني بالمسائل والأحكام، ومنها الدروس التربوية التوجيهية. وبعضها قد اعتنى أصحابها بسرد الأدلة من الكتاب والسنة، وأخرى أقل من ذلك.
وكنت أعمل على جمع كل أحاديث الصيام، والاعتكاف، وقيام رمضان، وليلة القدر، وذكر بعض فوائدها وأحكامها باختصار؛ لتكون معيناً للدعاة وأئمة المساجد في استذكار أحاديث الصيام ومسائله، ثم رأيت أن أنتقي منها ما يشكل ثلاثين درساً يناسب قراءتها بعد صلاة العصر - لا تزيد عن صفحتين وهي الدروس التي رقمت بالأرقام الفردية - وثلاثين درساً يناسب قراءتها قبل صلاة العشاء – لا تزيد عن أربع صفحات وهي الدروس التي رقمت بالأرقام الزوجية - كما جرت عليه عادة أكثر أئمة المساجد في رمضان، وكان منهجي فيها ما يلي:
أولاً: جعلت أصل كل درس نصوص الكتاب والسنة، فإن كان في الموضوع الذي عنونت له آيات ذكرتها ثم أعقبتها بالأحاديث؛ وإن لم يكن فيه آيات ذكرت الأحاديث الواردة فيه.
ثانياً: لم أستوعب الأحاديث المذكورة في الموضوع، وإنما انتقيت منها ما رأيته أجمع وأنسب.
ثالثاً: خرَّجت الأحاديث تخريجاً مختصراً بدلالة القارئ والسامع على من رواه، وتوثيق ذلك في الحاشية.
رابعاً: اقتصرت في انتقاء الأحاديث على ما يحتج به من الصحيح والحسن وأعرضت عن الضعيف، وبعض الأحاديث فيها خلاف اجتهدت في تحري الصواب فيها، وهي قليلة جداً.(1/1)
خامساً: في ترتيب الأحاديث ابتدأت بذكر المتفق عليه، ثم ما انفرد به أحد الشيخين، ثم روايات السنن الأربع، ولم أخلّ بهذا الترتيب إلا لمعنى اقتضى الإخلال بذلك. وابتدأت أيضاً بالمرفوع ثم بالموقوف ثم بالآثار عن السلف الصالح.
سادساً: ذكرت جملة من الفوائد والأحكام الفقهية عقب ذكر الأحاديث استنبطت بعضها، واستقيت أكثرها من كتب الشروح والفتاوى وغيرها. وتحريت ما ظهر لي رجحانه عند الاختلاف دون ذكر الخلاف، مع المراعاة التامة لما عليه الفتوى في المملكة؛ لئلا يحصل تشويش على الناس بسماع ما يرونه مخالفاً لما يعلمونه من الفتوى.
سابعاً: احتوت الأحكام والفوائد على جملة كبيرة من الدروس التربوية واللفتات الجميلة التي استنبطها العلماء من الأحاديث؛ مما يجعل هذه الدروس ليست قاصرة على مجرد الأحكام المتعلقة بالصيام فحسب، بل فيها ما يفيد الفرد في نفسه ومع أسرته ومع المسلمين عموماً. وقد دأب أكثر الذين كتبوا في دروس رمضان على تنويع الدروس بحيث تكون فيها موضوعات ورقائق وآداب ونحوها. ورغم أن هذه الدروس احتوت على أحاديث متعلقة برمضان فإنها لم تخل في معظمها مما يرقق القلوب، ويهذب النفوس، مع تقرير العقيدة الصحيحة، وذكر الأحكام المهمة.
ثامناً: اجتهدت في ضبط النص المقروء بالشكل؛ تلافياً للحن؛ وليسهل على إمام المسجد والسامعين له استظهار المعنى.
تاسعاً: كثير من المسائل حذفتها قاصداً الاختصار لأثبتها إن شاء الله تعالى في الكتاب الأصل المسمى «الجامع في أحاديث رمضان وفوائدها وأحكامها».
عاشراً: سميت هذا الكتاب «المنتقى للحديث في رمضان».
الحادي عشر: اقتصرت على ذكر كشاف للموضوعات لأثبت بقية الكشافات في الكتاب الأصل إن شاء الله تعالى.
وآمل من إخواني أئمة المساجد وغيرهم ممن يطلع على هذا الكتاب وله ملاحظات أو اقتراحات أو تعقبات أن يزودني بها للاستفادة منها، شاكراً له تعاونه على البر والتقوى.(1/2)
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات
الاثنين 13/7/1427هـ
المؤلف
جوال: 0505289675
ص.ب 1252 الرياض 11321
hogail55@gawab.com(1/3)
1- النَهيُّ عن الصومِ قبلَ رمضان
...
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبيِّ ? قَالَ: «لا يَتَقَدَّمَنَّ أحَدُكُم رَمَضَانَ بصَومِ يومٍ أو يومَينِ إلا أنْ يَكونَ رَجُلٌ كان يَصُومُ صَومَه فَليَصُمْ ذَلكَ اليَوم» رواه الشيخان (1) .
وفي لفظٍ للترمذيِّ: قَالَ النبي ? : «لا تَقَدَّمُوا الشَّهرَ بِيَوْمٍٍ ولا بِيَومَين إلا أن يُوَافِقَ ذَلكَ صَوْماً كَانَ يَصُوُمُهُ أَحَدُكُم...».
الفوائد والأحكام:
الأول: النَّهْيُ عَنْ الصِّيامِ قَبْلَ رَمَضَانَ احتِياطاً لِرَمَضَانَ. قَالَ العلماء: معنى الحديث: لا تَستَقبلُوا رَمَضَانَ بِصيَامٍ على نِيَّة الاحتِياطِ لِرَمَضَانَ (2) .
قَالَ الترمذي: «والعَمَل على هَذا عندَ أَهلِ العِلمِ: كَرِهُوا أن يَتَعَجَّل الرَّجلُ بِصِيامٍ قبل دخُولِ شَهْرِ رَمَضَانَ لمعنَى رَمَضَانَ، وإن كَان رَجُلٌ يَصومُ صَوماً فَوَافق صِيَامُهُ ذَلكَ فَلا بَأسَ به عِندَهُم» (3) .
الثاني: النَّهيُ عَنْ التَّنَفُّلِ المُطلَقِ قَبْلَ رَمَضَانَ (4) .
الثالث: أَنَّهُ يُسْتَثنَى مِنْ ذَلكَ مَنْ وَافَقَ صَومَهُ المعُتادَ كالكَفَّارَةِ والنَّذْرِ، ومَنْ لَه تَطَوعٌ مُسْتَمرٌ عَليْهِ كَصِيامِ الاثْنَيْنِ والخَمِيس.
الرابع: أَقْربُ ما قِيلَ في حِكمَةِ هَذَا النَّهي: أنَّ الصِّيامَ عُلِّقَ بالرُّؤيَةِ الشَّرعيَّةِ لِلْهِلالِ، فَمَن صَامَ قَبلَ ثُبُوتِ الرُّؤيَةِ بِيَومٍ أو بِيَومَينِ فَهُوَ يَطعَنُ في هَذَا الحُكْمِِ، ويَرُدُّ النُّصوصَ التي عَلَّقَتْ الصِّيامَ بالرُّؤيَةِ (5) .
الخامس: أن في هذا الحَدِيثِ رَداً على الرَّافِضَةِ، فهُم يَرونَ تَقدِيمَ الصَّومِ على الرُّؤيَةِ (6) .
__________
(1) البخاري (1815) ومسلم (1082).
(2) فتح الباري (4/128).
(3) سنن الترمذي (684).
(4) المصدر السابق (4/128).
(5) انظر: الفتح (4/128).
(6) المصدر السابق (4/128).(1/1)
السادس: أفَادَ الحَديثُ مَشرُوعِيَّةَ الفَصْلِ بينَ الفَرْضِ والنَّفلِ في العِبَادَاتِ، فَفي الصِّيَام: الفَصْلُ بين التَّنَفُّل في شَعْبَانَ والفَرْضِ في رَمَضَانَ بتَحْرِيمِ صِيامِ الشَّكِّ، وفي آخِرِ رَمَضَانَ وأَوَّلِ شَوَّالَ بتَحْرِيمِ صَوْمِ يَوْمِ العِيدِ، كَما اسْتَحَبَّ ابنُ عَبّاسٍ رَضيَ الله عَنْهُما وجَماعَةٌ منَ السَّلَفِ الفَصْلَ بينَ الفَريضَةِ في الصَّلاةِ والنَّافِلةِ بكَلامٍ أو قِيامٍ أو مَشيٍ أو تَقدُّمٍ أَوْ تَأَخُّرٍ مِنَ المكَانِ (1) .
السابع: وُجُوبُ الالتِزامِ بالشَّريعَةِ، وعَدَمِ الزِّيادَةِ عَلَيها أو النُّقْصَانِ مِنْهَا؛ فَإِنَّ ذَلكَ يُؤَدي إلى الغُلُوِّ في الدِّين، أو التَّفَلُّتِ منه، ويُؤْخَذُ ذَلكَ مِنَ النَّهْي عَنْ قَصْدِ الصَّومِ قَبلَ رَمَضَانَ احْتِياطاً لَه.
( ( (
__________
(1) الاستذكار (3/371).(1/2)
2- بم يثبتُ دخولُ الشهر وخروجُه
عَنْ عَبدِالله بنِ عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُما أَنَّ رَسُولَ الله ? ذَكَرَ رَمَضَانَ فقَالَ: «لا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوا الهِلال، ولا تُفْطِروا حَتَّى تَروْهُ، فَإِنْ غُمَّ عليكُمُ فاقْدُرُوا لهُ» رواه الشيخان.
وفي رِوايةٍ لِلْبُخَاري: «إِذا رَأَيتُمُوهُ فصُومُوا، وإِذا رَأَيتمُوهُ فأفطِرُوا، فَإِنْ غَمَّ عَلَيكُم فاقدُرُوا له» (1) .
وَمَعْنَى: فَاقْدُرُوا له: أَيْ: ابْلُغُوا به قَدْرَهُ، وقَدْرُ الشَّهْرِ ثَلاثُونَ يَوْماً، والمعْنَى: إِتْمامُهُ، وهَذَا هُوَ قَوْلُ جُمْهورِ السَّلَفِ والخَلَفِ (2) بِدَلِيلِ الرِّوَايَاتِ الأُخْرَى، ومِنْهَا: رِوايةُ: «فَإِنْ أُغْمِىَ عَلَيْكُم فَاقْدُروا لَهُ ثَلاثِين»، ورِوايةُ: «فَعُدُّوا ثَلاثينَ» ورِوايَةُ: «فَأَكْمِلُوا العَدَدَ» وكُلُّها في صَحِيحِ مُسْلِمٍ (3) .
وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ?: «إِذا رأَيتُم الهِلالَ فصُومُوا، وإِذا رَأيتُمُوهُ فَأَفْطِروا، فإن غُمَّ عَلَيكُمْ فصُومُوا ثلاثِينَ يَوماً».
وفي رِوايةٍ: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِن غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاثينَ».
وفي رِوايةٍ: «فَإِن غَبِيَ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلاثِينَ» رواه الشيخان (4) .
__________
(1) رواه البخاري (1807) والرواية الثانية له (1801) ومسلم (1080).
(2) انظر: شرح النووي على مسلم (7/186).
(3) انظر: صحيح مسلم (1080-1081).
(4) رواه البخاري (1810) ومسلم (1081) والروايتان الأولى والثانية لمسلم والثالثة للبخاري.(1/1)
وعَنْ عَبْدِالله بنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُما قَالَ: «تَرَاءَى النَّاسُ الهلالَ فَأَخْبَرْتُ رَسُولَ الله ? أَني رَأَيْتُهُ فَصَامَهُ وأَمَرَ النَّاسَ بِصيَامِهِ» رواه أبو داود وصححه ابن حبان والحاكم (1) .
الفوائد والأحكام:
الأول: أَنَّ صيَامَ رَمَضَانَ مُعَلَّقٌ بِرُؤْيَةِ هِلالِهِ الرُّؤْيَةَ الشَّرعيَّةَ، فَإِنْ حَالَ دُونَ رُؤْيَتِهِ غَيْمٌ أو غُبَارٌ أو دُخَانٌ أَوْ نَحْوُه وجَبَ إِكْمالُ شَعْباَنَ ثَلاثِين يَوْماً.
الثاني: أنه لا يُصَامُ آخرُ يَوْمٍ من شَعبَانَ على الاحتِيَاطِ ولو لم يُرَ الهلالُ بِسَبَبِ الغيمِ والغُبارِ وغَيرِهِ؛ لِنَهْيِ النَّبيِّ ? عَنْ ذَلكَ بِقَوْلِهِ: «لا تَصُومُوا حَتَّى تَرَوا الهِلالَ» والنَّهيُ يَقْتَضِي التَّحْريمَ.
الثالث: إذا ثبَتَتْ رَؤْيَةُ الهِلَالِ وجَبَ الصَّوْمُ، ولا يُلْتَفتُ إِلى أقَاويلِ أهلِ الحِسَاب (2) .
الرابع: أَنَّ مِنْ يُسْرِ الشَّريعَةِ الإسْلامِيَّةِ تَعلِيقَ الصَّوْمِ والإفْطَارِ على الرُّؤيَةِ التي لا تَحتَاجُ إلى تعَلُّمٍ، ويُدْرِكُهَا مَنْ كَانَ قَويَّ الإِبْصَارِ، وَلَو كَانَتْ بالحِسَابِ الفلَكيِّ لَشَقَّ ذَلكَ عَلى كَثيرٍ من المُسْلِمينَ في كَثيرٍ من الأقطَارِ التي لا يُوجَدُ فيهَا مَنْ يُتْقِنُ الحِسَابَ الفَلَكيّ (3) .
__________
(1) رواه أبو داود (2343) والدارمي (1691) والدارقطني (2/156) والبيهقي (4/212) والطبراني في الأوسط (3877) وصححه ابن حبان (3447) والحاكم وقال: على شرط مسلم (1/585) وصححه النووي في المجموع (6/276).
(2) انظر: شرح ابن الملقن على العمدة (5/178).
(3) انظر: شرح ابن بطال على البخاري (4/27).(1/2)
الخامس: أَنَّ الصَّومَ يلزَمُ مَنْ كَانَ في البَلَدِ التي رُؤِي فيها الهِلالُ، أمَّا إذا كَانَ في بلَدٍ لم يُرَ فيها الهِلالُ فَلا يَصُومُ؛ لأنَّ الصَّومَ عُلِّقَ بالرُّؤيةِ، ولاخْتِلافِ مَطَالِعِ الهِلالِ بَينَ البُلْدَان (1) .
السادس: أَنَّ دُخُولَ شَهْرِ رَمَضَانَ يُقْبَلُ فيهِ شَهَادَةُ عَدْلٍ وَاحِدٍ كَما دَلَّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابنِ عُمَرَ، وَأَمَا خُرُوجُ رَمَضَانَ فَلا بُدَّ فِيهِ مِنْ شَاهِدَيْنِ عَدْلَينِ، لِدَلالَةِ أَحَادِيثَ أُخْرَى عَلى ذَلك (2) .
السابع: أَنَّ الإِمَامَ هُوَ الَّذي يَجيءُ الإِعْلانُ بِالصِّيَامِ أَوْ العِيدِ مِنْ جِهَتِهِ (3) .
الثامن: أَنَّهُ يَنْبَغي لمنْ رَأَى الهلالَ أَنْ يُخبِرَ الإِمَامَ أَوْ نَائِبَهُ بِرُؤْيَتِهِ.
التاسع: أَنَّهُ يَجِبُ اعْتمادُ خَبَرِ وَسَائِلِ الإِعْلامِ الحَدِيثَةِ في إِعْلانِ دُخُولِ الشَّهْرِ وَخُرُوجِهِ إِذَا كَانَتْ تُعْلِنُ عَنْ أَمْرِ الإِمَامِ أَوْ نَائِبهِ (4) .
العاشر: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلمُسْلِمينَ تَرَائي الهِلالِ لَيْلَةَ الثلاثينَ مِنْ شَهْرِ شَعْبَانَ، وَمِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ لمعْرِفَةِ دُخُولِ الشَّهْرِ وَخُرُوجِهِ.
__________
(1) انظر: شرح ابن الملقن (5/181-182).
(2) قال الترمذي في جامعه (3/74) «ولم يختلف أهل العلم في الإفطار أنه لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين». وقال النووي في شرح مسلم (7/190): « المراد رؤية بعض المسلمين، ولا يشترط رؤية كل إنسان بل يكفي جميع الناس رؤية عدلين، وكذا عدل على الأصح هذا في الصوم، وأما الفطر فلا يجوز بشهادة عدل واحد على هلال شوال عند جميع العلماء إلا أبا ثور فجوزه بعدل» اهـ. وانظر: مجموع فتاوى ابن باز (15/62).
(3) البلوغ بتعليق أبي قتيبة الفاريابي (1/412) وانظر: الفتاوى السعدية (216).
(4) انظر: مجموع فتاوى ابن باز (15/86-87).(1/3)
الحادي عشر: إِذَا رَأَت المرْأَةُ الهلالَ فَقَبُولُ شَهَادَتِهَا في ذَلِكَ مَحَلُّ خِلافٍ بَيْنَ العُلَماءِ، وَرَجَّحَ الشَّيْخُ ابنُ بَازٍ رَحِمَهُ الله تَعَالى عَدَمَ قَبُولِ شَهَادَتِها؛ لأَنَّ هَذا المقَامَ مما يَخْتَصُّ بِهِ الرِّجَالُ وُيُشَاهِدُونَهُ، وَهُمْ أَعْلَمُ بالنِّسَاءِ مِنْهُ وَأَعْرَفُ (1) .
( ( (
__________
(1) من أخذ بحديث ابن عمر رضي الله عنهما في قبول إخبار الواحد برؤية الهلال فإنه يجيز إخبار المرأة والعبد كما ذكر الخطابي في معالم السنن بهامش سنن أبي داود (2/753) ورجح الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى عدم قبول شهادة المرأة في رؤية الهلال كما في مجموع فتاواه (15/62).(1/4)
3- الصومُ من أركانِ الإسلام
...
عَنْ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ? : «بنُيَ الإسْلامُ على خمَسْ:ٍ شهَادةِ أنَّ لا إلَه إلَّا اللهُ وأنَّ مُحمَّداً رَسُولُ الله، وإِقَامِ الصَّلاةِ، وإيتَاءِ الزَّكَاة، والحجِّ وَصَومِ رَمَضَانَ» رواه الشيخان (1) .
وعَنْ أَبي جَمْرَةَ نَصْرِ بنِ عِمْرَانَ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى قَالَ: «كُنتُ أُتَرْجِمُ بينَ ابنِ عَباسٍ وبينَ النَّاسِ فقَالَ: إنَّ وفدَ عبدِالقيْسِ أَتَوا النَّبيَّ ? فَقَالَ: مَنْ الوَفْدُ؟ أَو مَن القَومُ؟ قَالُوا: رَبيعَةُ، فقَالَ: مَرحَباً بالقَومِ أو بِالوَفدِ غيرَ خَزَايَا ولا نَدَامى، قَالَوا: إنَّا نَأتِيكَ مِنْ شُقَّةٍ بعِيدةٍ وبَيننَا وبَينَكَ هذا الحَيُّ مِنْ كُفَّارِ مُضَر، ولا نَستَطِيعُ أَنْ نَأتِيَكَ إلا في شَهْرٍ حَرَامٍ فَمُرْنَا بأَمْرٍ نُخْبِرُ به مَن وَرَاءَنا نَدْخُلُ به الجَنَّة، فَأَمَرَهُم بأَربَعٍ... : أَمَرهم بالإيمانِ بالله عزَّ وجَلَّ وَحْدَهُ، قَالَ: هَل تَدْرُونَ ما الإِيمانُ بالله وَحْدَه؟ قَالَوا: اللهُ ورَسُولُهُ أَعْلَم، قَالَ: شَهَادَةُ أَنَّ لا إِله إلَّا الله وأَنَّ مُحمداً رَسُولُ الله، وإِقَامُ الصَّلاةِ، وإيتَاءُ الزَّكَاةِ، وصَومُ رَمَضَانَ، وتُعْطُوا الخُمُسَ من المَغْنَم... قال: احْفَظُوهُ وأَخْبِرُوهُ مَنْ وَرَاءَكُم» رواه الشيخان (2) .
الفوائد والأحكام (3) :
الأول: بَيانُ أصْلِ الإيمَانِ وأَصْلِ الإسْلامِ، وأنَّ الإيمَانَ هُوَ الإقرَارُ البَاطِنُ والإسْلامَ هُوَ الاسْتِسْلامُ والانْقِيَادُ الظَّاهِرُ، هَذَا إِذا اجْتَمَعَا في نَصٍّ واحِدٍ، وأَمَا إِذَا افْترَقَا فَيُطْلَقُ الإيمَانُ عَلى الإسْلامِِ والعَكس.
__________
(1) رواه البخاري (8) ومسلم (16).
(2) رواه البخاري (87) ومسلم (17).
(3) انظر: شرح النووي على مسلم (1/148).(1/1)
الثاني: ثُبُوتُ الإسْلامِ بالشَّهَادتينِ، وإِضَافَةُ الصَّلاةِ والزَّكَاةِ والصَّومِِ والحَجِّ إلى الشَّهادَتينِ لكَوْنِها أَظْهَرَ شَعَائِرِ الإسْلامِ وأَعْظَمَهَا.
الثالث: أنَّ تَرْكَ هذِهِ الأَركَانِ الخَمسَةِ أَوْ بَعضِهَا يَدُلُّ عَلى عَدَمِ الاسْتِسْلامِ لله تَعَالَى، وعَدَمِ الانْقيادِ لَهُ عَزَّ وجَلَّ.
الرابع: شَرفُ صِيامِ رَمَضَانَ، وعُلُوُّ مَنزِلَتِهِ عِنْدَ الله تَعَالَى؛ إِذْ جَعَلَهُ مِنْ أَركَانِ الإسْلامِ.
الخامس: وجُوبُ تَعلُّمِ الضَّرُورِيِّ مِنَ الدِّينِ كالوَاجِبَاتِ لفِعلِهَا، والمُحَرَّمَاتِ لاجْتِنَابِها، وتَبْلِيغِها للنَّاسِ؛ أَخْذَاً من قولِ النَّبيِّ ? : «احْفَظُوهُ وأَخْبِرُوهُ مَنْ وَرَاءَكُمُ».
( ( ((1/2)
4- من فضائلِ رمضان
...
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ?: «إذا دَخَلَ شَهرُ رَمَضَانَ فُتِحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَغُلِّقَتْ أَبوَابُ جَهَنَّمَ، وسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ» رَوَاهُ الشَّيخَان (1) .
وفي رِوَايَةٍ : «إذا كَانَ أَوَّلُ ليْلَةٍ من شَهرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّياطِينُ ومَرَدَةُ الجِنِّ، وغُلِّقَتْ أبوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ منْهَا بَابٌ، وفُتِحَتْ أَبوَابُ الجَنَّةِ فلمْ يُغْلَقْ منْها بَابٌ، ويُنَادِي مُنَادٍ: يا بَاغِيَ الخَيرِ: أَقْبِلْ، ويا بَاغِيَ الشَّر: أَقْصِرْ، ولله عُتَقَاءُ مِنَ النَّار وذَلكَ كُلَّ لَيْلَةٍ» (2) .
- قَولُه: يا بَاغِيَ الخَيرِ أَقْبِل، مَعنَاهُ: يا طَالِبَ الخَيرِ أَقْبِلْ عَلى فِعْلِ الخَيْرِ فَهَذَا وَقْتُكَ فَإِنَّك تُعْطَى جَزيلاً بِعمَلٍ قَلِيلٍ، ويا طَالِبَ الشَّرِّ أَمْسِكْ وتُبْ فَإِنَّهُ أَوَانُ التَّوبَة (3) .
وفي رِوَايَةٍ أُخْرى قَالَ النَّبيُّ ? يُبَشِّرُ أَصْحَابَهُ رَضيَ الله عَنْهُم: «أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهرٌ مُبارَكٌ فَرَضَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ صِيَامَهُ، تُفَتَّحُ فيه أَبوَابُ السَّمَاءِ، وتُغْلَّقُ فِيهِ أَبْوَابُ الجَحِيمِ، وتُغَلُّ فيه مَرَدَةُ الشَّياطِينِ، لله فيهِ لَيلَةٌ خَيرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيرَهَا فَقَدْ حُرِم» (4) .
__________
(1) رواه البخاري (1800) ومسلم (1079).
(2) هذه الرواية للترمذي (682) وابن ماجه (1642) وصححها ابن خزيمة (1883) وابن حبان (3435) والحاكم وقَالَ: على شرط الشيخين (1/582) وصححه الألباني في صحيح الترمذي.
(3) حاشية السندي على سنن النسائي (4/130).
(4) هذه الرواية للنسائي (4/129) وأحمد (2/230) وعبد بن حميد (1429).(1/1)
وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ أَوْ أَبي سَعِيدٍ رَضيَ الله عَنْهُمَا قَالَا: قَالَ رَسُولُ الله ?: «إِنَّ لله عُتَقَاءَ في كُلِّ يَوْمٍٍ ولَيلَةٍ، لكُلِّ عَبدٍ مِنْهُم دَعوَةٌ مُستَجَابَةٌ» رواه أحمد (1) .
وعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ?: «إنَّ لله عِنْدَ كُلِّ فِطْرٍ عُتَقَاءَ، وذَلكَ كُلَّ لَيلَة» رواه ابن ماجه (2) .
الفوائد والأحكام:
الأول: فَضيلَةُ شَهْرِ رَمَضَانَ حَيثُ تَقعُ فيهِ هَذهِ الأعْمَالُ العَظيمَةُ مِنْ فَتْحِ أَبوَابِ الجَنَّةِ، وغَلْقِ أبوَابِ النَّارِ، وسَلْسَلَةِ الشَّياطِينِ، وأنَّ ذَلكَ يَقَعُ في أَوَّلِ لَيلَةٍ من رَمَضَانَ ويَستَمِرُّ كَذَلكَ إلى آخِرِ الشَّهْر.
الثاني: دَلَّ الحَدِيثُ الأَوَّلُ عَلى أنَّ الجَنَّةَ والنَّارَ مَخلُوقَتَانِ، وعلى أَنَّ فَتْحَ أَبوَابِهما أَوْ غَلْقِهَا على الحَقِيقَةِ (3) .
الثالث: أنَّ المَواسِمَ الفَاضِلةَ وما يَعمَلُ العِبَادُ فيهَا مِنْ أَعْمالٍ صَالِحةٍ سَبَبٌ لِرِضَى الله تَعَالَى، ويَنْتُجُ عَنْ ذَلكَ: فَتْحُ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، وغَلقُ أَبْوابِ النَّارِ.
الرابع: أَنَّ التَّبشِيرَ بِقُدُومِ رَمَضَانَ والتَهْنِئةَ بإِدْرَاكِهِ مَشْرُوعٌ، فَقَدْ كَانَ النَّبيُّ ? يَذْكُرُ هَذهِ المَزَايا في رَمَضَانَ؛ تَبشِيراً لِأصْحَابِهِ، وحَثاً لَهم على أَعْمَالِ البِرِّ فِيهِ، وهَكَذا التَّبشِيرُ بِكُلِّ خَيْرٍ.
الخامس: أَنَّ مَرَدَةَ الشَّياطينِ تُسَلْسَلُ فِيهِ، فَيَضْعُفُ تَأْثيرُهَا عَلى بَني آدَمَ بما يَقُومُونَ بهِ مِنْ أَعْمالٍ صَالحةٍ فيهِ.
__________
(1) هذه الرواية لأحمد (2/254) والطبراني في الأوسط (6/257) بإسناد صحيح.
(2) رواه ابن ماجه (1643) وقال الألباني في صحيح ابن ماجه: حسن صحيح.
(3) انظر: شرح ابن بطال (4/20) والمفهم (3/136).(1/2)
السادس: فَضْلُ الله تَعَالى، وإِحْسَانُهُ لعِبَادِهِ؛ إِذْ يَحْفَظُ لهم صِيَامَهُمْ، ويَدْفَعُ عَنْهُم أَذَى المَرَدَةِ مِنَ الشَياطِين؛ لِئَلا يُفْسِدُوا عَلَيْهِم عِبَادَتَهُمْ في هَذَا الشَهْرِ المبَارَكِ (1) .
السابع: إِثْبَاتُ وُجُودِ الشَياطِين، وَأَنَّهم أَجْسَامٌ يُمْكِنُ شَدُّهَا بِالأَغْلالِ، وَأَنَّ مِنْهُم مَرَدَةً يُغَلُّونَ بِالأَغْلالِ في شَهْرِ رَمَضَانَ (2) .
الثامن: مَا اخْتُصَ بِه رَمَضَانُ مِنْ هَذِهِ الخصَائِصِ العَظِيمَةِ يَنَالُهُ المؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَظَّمُوا رَمَضَانَ، وقَامُوا بِحَقِّ الله تَعَالى فِيهِ، وَأَمَا الكُفَّارُ الَّذِينَ يَسْتَحِلُّونَ الإِفْطَارَ فيه، ولا يَرَوْنَ له حُرْمَةً، فَلا تُفْتَحُ لهم فيه أَبْوابُ الجنَّةِ، ولا تُغْلَقُ عَنْهُمْ فيه أَبْوابُ النَّارِ، ولا تُصَفَّدُ شَيَاطِينُهُم، ولا يَسْتَحِقُّونَ العِتْقَ مِنَ النَّارِ (3) . وعَلَيهِ فَإِنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُم في رَمَضَانَ أَوْ في غَيْرِهِ فَهُوَ مُسْتَحِقٌّ لِعَذَابِ الله تَعَالى ونَائِلُهُ.
التاسع: مَنْ شَابَهَ الكُفَّارَ مِنَ المسْلِمِينَ في انْتِهَاكِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ، وَإِتْيَانِ المفْطِرَاتِ، أَوْ فِعْلِ مَا يُبْطِلُ الصَّيامَ أَوْ يُنقِصُ أَجْرَهُ مِنَ الغِيبَةِ والنَّمِيمَةِ، وَقَوْلِ الزُّورِ وَشُهُودِ مَجالِسِهِ، فَيُخْشَى عَلَيْهِم مِنْ فَوَاتِ هَذا الفَضْلِ العَظِيمِ، وَأَنْ تُغْلَقَ دُونَهُم أَبْوابُ الجنَّةِ، وَأَنْ تُفْتَحَ لَهُمْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَأَنْ تُطْلَقَ شَيَاطِينُهُم.
__________
(1) ذخيرة العقبى (20/255).
(2) المرجع السابق.
(3) انظر: فتاوى شيخ الإسلام (5/131-474).(1/3)
العاشر: لا يُنافي فَتْحُ أَبْوابِ الجنَّةِ، وإِغْلاقُ أَبْوابِ النَّارِ في رَمَضَانَ قَوْلَ الله تَعَالى: [جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ] {ص:50} لأَنَّ ذَلكَ لا يَقْتَضي دَوَامَ كَوْنِهَا مُفَتَّحَةً؛ ولأَنَّ الآيَةَ تُخبِرُ عَنْ يَوْمِ القِيَامَةِ، ولا يُنَافي كَذَلكَ قَوْلَهُ تَعَالى في شَأْنِ النَّارِ [حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا] {الزُّمر:71} لجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ غَلْقٌ لأَبْوابِ النَّارِ قَبْلَ ذَلكَ (1) .
الحادي عشر: فَضِيلَةُ لَيلَةِ القَدْرِ، وَأَنَّها خَيرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فيهَا لَيْلَةُ القَدْرِ، وأَنَّ مَنْ ضَيَّعَها فَهُوَ مَحرُومٌ مِنْ خَيْرٍ عَظِيم.
الثاني عشر: أنَّ لله تَعَالَى عُتَقَاءَ مِنَ النَّارِ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ، وأَوْلَى النَّاسِ بِالعِتقِ مِنَ النَّارِ مَنْ صَامَ فَصَانَ الصِّيامَ، وقَامَ فَأَحْسَنَ القِيَام، وأَكثَرَ مِنَ الأَعمَالِ الصَّالِحة؛ مَحَبةً لله تَعَالَى، ورَجَاءً لِثَوَابِهِ، وَخَوْفاً مِنْ عِقَابِهِ.
الثالث عشر: أنَّ لِهَؤلاءِ العُتَقَاءِ مِنَ النَّارِ دَعَوَاتٍ مُستَجَابةً عِنْدَ الله تَعَالَى، فَجَمَعَ اللُه تَعَالَى لهُم بَينَ أَجْرَينِ عَظِيمَينِ: العِتقِ من النَّار، واسْتِجَابَةِ دُعَائِهِم.
الرابع عشر: أَنَّهُ يَنبَغِي للمُسلِم المُحافَظَةُ على صِيَامِهِ مما يُبْطِلُهُ أو يُنقِصُ أَجْرَهُ، وحِفْظُ سَمعِهِ وبصَرِهِ ولسَانِهِ مما حَرَّمَ الله عزَّ وجَلَّ عَلَيه؛ لِيَنَالَ العِتْقَ مِنَ النَّار.
الخامس عشر: أَنَّهُ يَنبَغِي للصَّائِمِ الإكثَارُ مِنَ الدُّعاءِ؛ لأنَّ دَعوَةَ الصَّائِمِ مَرْجُوَّةُ الإِجَابَةِ.
( ( (
__________
(1) ذخيرة العقبى (20/253).(1/4)
5- النيةُ في صيام الفرض
...
عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُما أَنَّ رَسُولَ الله ? قَالَ: «مَنْ لم يُجْمِعِ الصِّيامَ قَبلَ الفَجْرِ فَلا صِيامَ لَه» رَوَاهُ أَبو داودَ والترمذيُّ والصوابُ وقفه.
وفي لفظٍ لِلنسائيِّ: «مَنْ لم يُبَيِّتْ الصِّيامَ قَبْلَ الفَجْرِ فَلا صِيامَ لَهُ» (1) .
وعَنْ عَبْدِالله بنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُما أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «لا يَصُومُ إِلَّا مَنْ أَجْمَعَ الصِّيامَ قَبْلَ الفَجْرِ» رواه مالك (2) .
قَوْلُهُ: «مَنْ لَم يُجْمِع الصِّيامَ» هُوَ مِنَ الإِجْمَاعِ وَهُوَ إِحْكَامُ النِّيَّةِ والعَزِيمَةِ، والمعنى: مَن لم يُصَمِّم العَزمَ على الصَّوْمِ قَبلَ الفَجْرِ فَلا صِيامَ له (3) .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى: وإنَّمَا مَعنَى هذا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ: لا صِيامَ لمن لم يُجْمِعْ الصِّيامَ قَبْلَ طُلُوع الفَجْرِ في رَمَضَانَ، أَوْ في قَضَاءِ رَمَضَانَ، أَوْ في صِيَامِ نَذْرٍ إِذَا لم يَنوِهِ مِنَ اللَّيْلِ لم يُجزِْه، وَأمَّا صِيَامُ التَّطَوُّعِ فَمُباحٌ لَهُ أَنْ يَنْوِيَهُ بَعْدَمَا أَصْبَحَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافعيِّ وَأَحْمَدَ وإِسْحَاقَ (4) .
الفوائد والأحكام:
الأول: أَنَّ الصِّيامَ لابدَّ له من نيَّةِ التَّعَبُّدِ لله تَعَالَى، فلوَ أَمسَكَ عَنْ المُفطِرَاتِ حِميَةً أَو طِبَّاً أَو لِعَدَمِ شَهْوتِهِ للطَّعامِ أَو نَحْوِ ذَلكَ، فَلا يُعَدُّ صَائماً صَوماً شرعِيَّاً يُثابُ عَليهِ.
الثاني: أَنَّ النيَّةَ محلُّها القَلْبُ فَمَنْ خَطَرَ ببَالهِ أَنَّهُ صَائِمٌ غَداً فَقَدْ نَوَى.
__________
(1) رواه أبوداود (2454) والترمذي (730) والنسائي (4/196) وابن ماجه (1700) وأحمد (6/287) وصححه ابن خزيمة (1933) وقد روي مرفوعاً وموقوفاً والصحيح وقفه.
(2) موطأ مالك (1/288).
(3) تحفة الأحوذي (3/352).
(4) جامع الترمذي (3/108).(1/1)
الثالث: أَنَّ الصِّيَامَ الوَاجِبَ كرَمَضَانَ والنَّذرِ والكَفَّارَةِ لابدَّ أَنْ يَشمَلَ الصَّومُ جَميعَ النَّهارِ مِنْ طُلُوعِ الفَجْرِ إِلى غُرُوبِ الشَّمسِ، ولا يَتَأَتَى ذَلكَ إِلَّا لمن نَوَى الصَّومَ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْر، وَأَما مَنْ نَوى أَثنَاءَ النَّهَارِ فإِنَّ صَوْمَهُ لم يَشْمَلْ جَميعَهُ فَلا صَومَ له؛ ولِذا كَانَ الوَاجِبُ في نِيَّةِ الصِّيامِ الوَاجِبِ أَنْ تَكُونَ قَبلَ طُلُوعِ الفجرِ.
الرابع: يَجوزُ تَبييتُ نيَّةِ الصَّومِ واجباً كَانَ أَم تَطَوعاً مِنْ أَيِّ جُزءٍ مِنَ اللَّيلِ، ولو أَتى بَعْدَ النيَّةِ بِمُنافٍ للصَّوم فلا تَنْقَطِعُ نِيَّتُهُ بهذَا الُمفَطِّرِ، ولا يَلْزَمُهُ تَجدِيدُها عَقِبَه.
...
... ... ( ( ((1/2)
6- آدابُ الصيام
...
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله ? قَالَ: «الصِّيامُ جُنَّةٌ، فإذا كَانَ أَحَدُكُم صَائِماً فلا يَرْفُثْ ولا يَجهَلْ، فَإِنْ امْرُؤٌ شَاتَمَه فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ، إني صَائِم» رواه الشيخان (1) .
وفي رِوايَةٍ: «وإِذا كَانَ يَوْمُ صَوْمِِ أَحَدِكُمْ فلا يَرفُثْ ولا يَصْخَبْ فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أو قَاتَلَه فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرؤٌ صَائِم» (2) .
وفي رِوايَةٍ: «لا تُسَابَّ وَأَنْتَ صَائِمٌ، وَإِنْ سَابَّكَ أَحَدٌ فقُلْ: إنِّي صَائِم، وَإِنْ كُنتَ قَائِماً فاجْلِس» (3) .
وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ?: «مَنْ لَم يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ وَالجَهْلَ فَلَيسَ لله حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ» رواه البخاري (4) .
المُرَادُ بِقَولِ الزُّوُرِ: الكَذِب، وبالجَهْلِ: السَّفَه، وبالعَمَلِ بِهِ: العَمَلُ بِمُقْتَضَاهُ (5) .
وعَنْ عَائِشَةَ رَضيَ اللُه عَنْهَا عَنْ النَّبيِّ ? قَالَ: «الصِّيامُ جُنَّةٌ مِنَ النَّار، فَمَنْ أَصْبَحَ صَائِماً فلا يَجْهَلْ يومَئِذٍ، وإِنْ امْرُؤٌ جَهِلَ عَلَيهِ فلا يَشْتُمْهُ، ولا يَسُبُّه، وَلْيَقُلْ: إِني صائِم...» رواه النسائي (6) .
__________
(1) رواه مالك واللفظ له (1/310) والبخاري (1795) ومسلم (1151).
(2) هذه الرواية للبخاري (1805) ومسلم (1151).
(3) هذه الرواية للنسائي في الكبرى (3259) والطيالسي (2367) وصححها ابن خزيمة (1994) وابن حبان (3483).
(4) رواه البخاري (5710) وأبو داود (2362) والنسائي في الكبرى (3245-3248) والترمذي (707).
(5) فتح الباري (4/117).
(6) رواه النسائي (4/167) والطبراني في الأوسط (4179) وصححه الألباني في صحيح النسائي.(1/1)
وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - : «أَنَّهُ كَانَ وأَصْحَابُهُ إِذَا صَامُوا قَعَدُوا في المَسْجِدِ، وقَالَوا: نُطَهِّرُ صِيَامَنَا» (1) .
الفوائد والأحكام:
الأول: أَنَّ الصِّيامَ سَبَبٌ للوِقَايَةِ مِنَ النَّارِ؛ لأن فيه كَفَّاً عَنْ الشَّهوَاتِ، والنَّارُ حُفَّتْ بالشَّهَوَات.
الثاني: تَحْريمُ الرَّفَثِ على الصَّائِمِ، والرَّفَثُ هُوَ الكَلامُ الفَاحِشُ، ويُطلَقُ على الجِماعِ ومُقدِّمَاتِهِ (2) ، وكُلُ ذَلكَ يُنهَى عنه الصَّائِمُ، إِلَّا القُبلَةَ والمُبَاشَرَةَ لمن يَمْلِكُ شَهوَتَه.
الثالث: تَحريمُ أَفْعَالِ الجَاهِلِينَ على الصَّائِمِ؛ كالصِّياحِ والسَّفَهِ والجِدَالِ بالباطِلِ ونَحْوِ ذَلكَ.
الرابع: إذا ابْتُلِيَ الصَّائِمُ بِمَنْ يَصيحُ عليْهِ ويَسُبُهُ ويَشتُمُهُ فَيَنبغِي لَه ما يلي:
1- أَنْ لا يُقَابِلَ من بَدَأَهُ بذَلكَ بالمثلِ؛ بل يَتَحَلَّى بالحِلْمِ والصَّبرِ.
2- أَنْ لا يُكلِّمَهُ حتى لا يُخطِيءَ عَليهِ، وَقَدْ جَاءَ في بَعْضِ الرِّواياتِ: «وإنْ شَتَمَهُ إِنسَانٌ فلا يُكَلِّمْهُ» (3) .
__________
(1) رواه أحمد في الزهد (178) وأبو نعيم في الحلية (1/382).
(2) انظر فتح الباري (4/104).
(3) هذه الرواية ذكرها الحافظ في الفتح ولم أقف عليها عند غيره (4/104).(1/2)
3- أَنْ يَرُدَّ عليه بقولِهِ «إنِّي صَائِمٌ» يَقُولُها جَهْرَاً يُخاطِبه بها لِيَردَعه عَنْ غَيِّه، وليُبَيِّنَ له العُذْرَ في عَدَمِ الرَّدِّ عليه، سَوَاءٌ كَانَ الصِّيامُ فَرِيضَةً أم كَانَ نَفْلاً (1) .
4- إذا لم يَنزَجِرْ خَصِيمُه فيُكَرِّرُ عليهِ قوله « إني صَائِم»؛ ولذَا جَاءَتْ مُكَرَرةً في الحَدِيثِ «فليقل: إني صائِم، إني صائِم».
5- إِنْ كَانَ الصَّائِمُ قَائمَاً وأَمْكَنَهُ الجُلُوسُ فَإِنَّهُ يَجلِس؛ أَخذَاً بالرِّوَايَةِ الأُخْرَى، ولِكَيْ يَسْكُنَ غَضَبُهُ، ولِيقْطَعَ الحِيلَةَ عَلَى خَصِيمِهِ وعلى الشَّيْطَان.
الخامس: لا يُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الأَحَادِيثِ أَنَّ الشَّتْمَ والسَّفَهَ، والجِدَالَ بالبَاطلِ وغَيرَ ذَلكَ مِنْ أَفعَالِ الجَاهِلِينَ مُباحَةٌ في حَالِ الفِطْرِ؛ بل هيَ دَائِرَةٌ بينَ التَّحْريمِ والكَرَاهَةِ بِحَسَبِهَا؛ لكنْ يَتأكَّدُ النَّهيُ عنها حَالَ الصِّيامِ؛ لأَنَّها تُنَافي المَقصُودَ منه (2) .
السادس: عِظَمُ الشريعَةِ الإِسلاميَّةِ وشُمُولِيتُها، وتَربِيَتُهَا لأَتبَاعِهَا على مَكارِمِ الأَخْلاقِ، وبَيانُ كَيْفيَّةِ التَّعامُلِ مع الجَاهِلِين، فالحَمْدُ لله الَّذي شَرَعَهَا وهَدَانا لها.
__________
(1) هذه المسألة محل خلاف بين العلماء وقد بحثت الخلاف فيها بالأدلة والتعليلات في «المفيد في خطب الجمعة والعيد» (2/126-127) فيراجعه من شاء الاستزاده، والراجح ما ذكرته هنا وهو ظاهر كلام القرطبي في المفهم (3/315) ورجحه شيخ الإسلام في المنهاج (5/197) وفي الفتاوى الكبرى (4/460) ونقله ابن مفلح في الفروع عن الأصحاب (3/66).
(2) انظر: المفهم (3/214) والفتح (4/104).(1/3)
السابع: إذا هُوجِمَ الصَّائِمُ مِمَّنْ يُريدُ الاعتِداءَ عَلَيهِ بِاليَدِ ضَرْباً أو قَتْلاً فَحُكمُهُ حُكمُ الصَّائِلِ، يَدفَعُهُ بِالأخَفِّ فالأَخَفِّ، وليسَ الصَّائمُ مَنْهِيَّاً عَنْ رَدِّ هذا النَّوعِ من الاعْتِدَاءِ عَليْه (1) .
الثامن: أَنَّ الصَّومَ المقْبولَ حَقاً هو صَومُ الجَوارِحِ عَنْ الآثَامِ، واللِّسانِ عَنْ الكَذِبِ والفُحْشِ، والبطنِ عَنْ الطَّعامِ والشَّرابِ، والفَرْجِ عَنْ الرَّفَثِ ومُبَاشَرَةِ النِّساء (2) .
التاسع: جُمْهُورُ العُلَماءِ عَلى أَنَّ مَنْ وَقَعَ في الغِيبَةِ أَو قَوْلِ الزُّورِ أَو الجَهْلِ فَلا يُفْطِرُ بِذَلِكَ لَكنْ يَنْقُصُ أَجْرُ صِيَامِهِ، ويَأْثَمُ بِارْتِكَابِ هَذِهِ المُحَرَّمَاتْ (3) .
العاشر: في هَذَا الحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الغَرَضُ مِنْ إِيجَابِ الصَّومِ لَيْسَ نَفْسَ الجُوعِ والظَّمَأ، بَلْ مَا يَتْبَعُهُ مِنْ كَسْرِ الشَّهْوَةِ، وإِطْفَاءِ ثَائِرَةِ الغَضَبِ، وَقَمْعِ النَّفْسِ الأَمَّارَةِ بالسُّوءِ، وتَطْويعِهَا لِلنَّفْسِ المطْمَئِنَّةِ، فَإِذَا لَم يَتَحَقَّقْ ذَلكَ بالصَّوْمِ فَوُجُودُ الصَّوْمِ كَعَدَمِهِ؛ لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ في نَفْسِ صَاحِبِهِ (4) .
__________
(1) انظر: الفتح (4/105).
(2) أحاديث الصيام، عبدالله الفوزان (75).
(3) انظر: الفتح (4/104) وعمدة القاري (10/276).
(4) هذا منقول عن البيضاوي كما في الفتح (4/117) وفيض القدير (6/224).(1/4)
الحادي عشر: في الحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلى أَنَّ الْكَذِبَ والزُورَ أَصْلُ الفَوَاحِشِ، ومَعْدِنُ النَّوَاهِي؛ ولِذلكَ قُرِنَ بالشَّرْكِ، في قَوْلِ الله تَعالَى [فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ] {الحج:30} وقَدْ عُلِمَ أَنَّ الشِّرْكَ مُضَادٌ للإِخْلاصِ، وللصَّوْمِ مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِالإِخْلاصِ فَيَرْتَفِعُ بما يُضَادُهُ (1) .
... ... ( ( (
__________
(1) نقله المناوي عن الطيبي، انظر: فيض القدير (6/224).(1/5)
7- الصيامُ والفِطْرُ معَ الجماعَة
...
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ النَّبيَّ ? قَالَ: «الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ والفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ والأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ غَريبٌ.
وفي رِوايَةٍ لأَبي دَاوُدَ: «وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ» (1) .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله ?: «الفِطْرُ يَوْمَ يُفْطِرُ النَّاسُ، وَالأَضْحَى يَوْمَ يُضَحِّي النَّاسُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ (2) .
الفوائد والأحكام:
الأول: سَمَاحَةُ الشَّريعَةِ الإِسْلامِيَّةِ، ويُسْرُهَا، وَرَفْعُ الحَرَجِ عَنِ المكَلَّفِ، وَإِثْبَاتُ أَوْقاتِ العِبَادَاتِ بما يَسْتَطِيعُونَهُ مِنَ الرُّؤْيَةِ.
الثاني: حِرْصُ الشَّريعَةِ عَلى اجْتِماعِ كَلِمَةِ المسْلِمِينَ بِتَوْحِيدِهِمْ في صَوْمِهِمْ وفِطْرِهِمْ وَأَعْيَادِهِمْ.
__________
(1) رواه أبو داود (2324) والترمذي (697) وابن ماجه (1660) والدارقطني (2/164) وعبدالرزاق (7304) وإسحاق (496).
(2) رواه الترمذي وقال: حسن غريب صحيح من هذا الوجه (802) وإسحاق (1172).(1/1)
الثالث: أَنَّ الخَطَأَ في إِثْبَاتِ دُخُولِ الشَّهْرِ أَوْ خُرُوجِهِ مَغْفُورٌ إِذا عَمِلَ النَّاسُ بِما أَوْجَبَ اللهُ تَعَالى مِنَ الرُّؤْيَةِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْهِلالِ، أَوْ إِكْمالِ الشَّهْرِ إِذَا تَعَذَّرَتِ الرُّؤْيَةُ. قَالَ الحَافِظُ ابنُ عَبْدِالبرِ رَحِمَهُ الله تَعَالى: «قَدْ أَجْمعُوا عَلى أَنَّ الجَماعَةَ لَوْ أَخْطَأَتْ الهلالَ في ذو الحِجَّةِ فَوَقَفَتْ بِعَرَفَةَ في اليَوْمِ العَاشِرِ أَنَّ ذَلِكَ يُجْزِئُهَا، فَكَذلكَ الفِطرُ والأَضْحَى والله أَعْلَمُ» (1) .
الرابع: في هَذَين الحَدِيثَينِ دَليلٌ عَلى أَنهُ يُعْتَبَرُ في ثُبوتِ العِيدِ مُوَافَقَةُ النَّاسِ، وَأَنَّ المنْفَرِدَ بِمَعْرفَةِ يَوْمِ العِيدِ بِالرُّؤْيَةِ يَجِبُ عَلَيهِ مُوافَقَةُ الجَماعَةِ، ويَلْزَمُهُ حُكْمُهُم في الصِّيَام والإِفْطَار والأُضْحِيَةِ. قَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ الله تَعَالى: «وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أَنَّ المنْفَرِدَ بِالرُّؤْيَةِ لا يَلْزَمُهُ حُكْمُهَا لا في الصَّومِ وَلا في الفِطْرِ وَلا في التَّعْريفِ» (2) . وبِناءً عَلى مَا سَبَقَ فإنَّ الإِنْسَانَ إِذا رَأَى الهلالَ لِوَحْدِهِ وَلم تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ فَإِنهُ لا يَصُومُ لِوَحْدِهِ؛ بَلْ يَصُومُ مَعَ النَّاسِ، وحُكْمُهُ حُكْمُهُمْ؛ لظَاهِرِ هَذِهِ الأَحَادِيث (3) .
... ... ( ( (
...
__________
(1) التمهيد (14/356) وقال الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى: «لو أخطأ الناس وقد عملوا بالرؤية الشرعية كانوا مأجورين مشكورين» اهـ مجموع فتاواه ورسائله (15/133).
(2) تهذيب السنن (6/317).
(3) انظر: الفتاوى السعدية (216) ومجموع فتاوى ورسائل ابن باز (15/64-72-73).(1/2)
8- مشروعيةُ صلاةِ التراويح
عن عبدِالرَّحمنِ بنِ عبدٍ القَارِئ رَحِمه الله تعالى أنه قَالَ: «خَرَجتُ مع عُمرَ ابن الخطَّاب - رضي الله عنه - لَيلَةً في رَمَضَانَ إلى المسجدِ، فإذا النَّاسُ أوزاعٌ مُتَفَرِّقونَ يُصلِّي الرَّجلُ لِنَفْسِهِ، ويُصَلِّي الرَّجلُ فَيُصَلِّي بِصَلاتِهِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عُمرُ: إنِّي أَرَى لَو جَمعتُ هَؤلاءِ على قَارِئٍ وَاحِدٍ لكَانَ أَمثَلَ، ثم عَزَمَ فَجَمَعهُم على أُبَيِّ بِنِ كَعبٍ، ثمَّ خَرَجْتُ مَعَهُ لَيلَةً أُخْرَى والنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاةِ قَارِئِهم، قَالَ عُمَرُ: نِعْمَ البِدْعَةُ هذهِ، والتي يَنَامُونَ عنْهَا أَفضَلُ مَنَ الَّتي يَقُومُونَ، يُرِيدُ آخِرَ اللَّيلِ، وَكَانَ النَّاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَه» رواه البخاري (1) .
وفي رِوايةٍ لمالكٍ: «أنَّ عُمرَ بنَ الخطَّابِ - رضي الله عنه - أَمَرَ أُبَيَّ بن كَعبٍ وتَميماً الدَّاريَّ أنْ يَقُومَا بالنَّاسِ بإِحدَى عَشَرَةَ رَكعَةٍ، قال: وَقد كانَ القَارئُ يَقَرَأُ بالمَئِينِ، حتَّى كنَّا نَعتَمِدُ على العِصيِّ من طُولِ القِيامِ، وما كنَّا نَنْصَرفُ إلا في فُرُوعِ الفَجْرِ» (2) .
__________
(1) رواه البخاري (1906) ومالك (1/114) وعبد الرزاق (7723) وابن أبي شيبة (2/165).
(2) رواه من حديث السائب بن يزيد: مالك (1/115) وعبد الرزاق (7730) وابن أبي شيبة (2/162).(1/1)
وفي رِوايةٍ لابنِ خُزَيْمَةَ: فَقَالَ عُمَرُ - رضي الله عنه - : «والله إِنِّي أَظُنُّ لَو جَمَعْنَا هَؤُلاءِ على قَارِئ واحِدٍ لَكَانَ أَمْثَلَ، ثُم عَزَمَ عُمَرُ على ذَلك، وأَمَرَ أُبَيَّ بنَ كَعْبٍ أَنْ يَقُومَ لهُم في رَمَضَانَ، فَخَرَجَ عُمَرُ عَلَيهِم والنَاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاةِ قَارِئِهِم فَقَالَ عُمَرُ: نِعْمَ البِدْعَةُ هِيَ، والَّتي تَنَامُونَ عَنْها أَفْضَلُ مِنَ الَّتي تَقُومُونَ – يُريدُ آخِرَ الَّليلِ – فَكَانَ النَاسُ يَقُومُونَ أَوَّلَه، وَكَانُوا يَلْعَنُونَ الكَفَرَةَ في النِّصْفِ: الَّلهُمَّ قَاتِلْ الكَفَرَةَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِك، ويُكَذِّبونَ رُسُلَكَ، ولا يُؤْمِنُونَ بِوَعْدِك، وخَالِفْ بينَ كَلِمَتهِم، وأَلْقِ في قُلُوبِهِم الرُّعْبَ، وأَلْقِ عَلَيْهِم رِجْزَكَ وعَذَابَكَ إِلهَ الحَقِّ، ثُم يُصَلِّي عَلى النَّبيِّ ?، ويَدْعُو لِلمُسْلِمينَ بما اسْتَطَاعَ مِنْ خَيرٍ، ثُم يَسْتَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنين، قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ إِذَا فَرَغَ مِنْ لَعْنَةِ الكَفَرَةِ، وصَلاتِهِ على النَّبيِّ، واسْتِغْفَارِهِ للمُؤْمِنينَ والمؤْمِنَاتِ، ومَسْأَلَتِه: الَّلهُمَّ إِياكَ نَعْبُدُ، ولَكَ نُصَلِّي ونَسْجُدُ، وإِلَيكَ نَسْعَى ونَحْفِدُ، ونَرْجُو رَحمَتكَ رَبَّنا، ونَخَافُ عَذَابَكَ الجِدَّ، إِنَّ عَذَابكَ لمن عَادَيتَ مُلْحِق، ثُم يُكَبرُ ويَهْوي سَاجِداً» (1) .
الفوائد والأحكام (2) :
__________
(1) هذه الرواية لابن خزيمة (1100) وصححها الألباني في تعليقه عليه.
(2) شرح ابن بطال على البخاري (4/146-147) وإكمال المعلم (3/114) وفتح الباري (4/252).(1/2)
الأول: أنَّ صَلاةَ التَّراوِيحِ سُنةٌ سَنَّهَا النَّبيُّ ?، ثمَّ تَرَكَهَا خَشْيَةَ أن تُفرَضَ على المُسلِمِين، وبَقِيَ النَّاسُ يُصلُّونَ مُتَفَرِّقينَ في عَهدِهِ عليه الصَّلاةُ والسَّلام، وفي خِلافَةِ أَبِي بَكْر، فَلما كَانت خِلافَةُ عُمَرَ جَمَعَهُم على إِمَامٍ وَاحِدٍ، فَأَحيَا بِذَلك سُنَّةَ النَّبيِّ ?، وقَدْ أَجْمعَ المسْلِمُونَ في زَمَنهِ وبَعْدَهُ عَلى اسْتِحْبابهَا (1) .
الثاني: أَنَّ المفْضُولَ قَدْ يُحيي سُنَّةً، ويَأْتي بِفَضِيلَةٍ لم يَأْتِ بها مَنْ هُوَ أَفْضَلُ منه؛ كَما أَلهَمَ اللهُ تَعَالى عُمَرَ - رضي الله عنه - لإِحْياءِ هَذِهِ السُّنَّةِ العَظِيمَةِ، وَلم يُلْهِم إِلَيها أَبَا بَكْرٍ - رضي الله عنه - مَعَ أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ عُمَرَ، وأَشَدُّ سَبْقاً إِلى كُلِّ خَيرٍ، حتَّى قَالَ عُمَرُ - رضي الله عنه - : «والله لا أَسْبِقُهُ إِلى شَيءٍ أَبَداً» (2) . وكَانَ عليٌّ - رضي الله عنه - يَمُرُّ عَلى المسَاجِدِ وفيهَا القَنَادِيلُ في شَهْرِ رَمَضَانَ فَيقُولُ: «نَوَّرَ اللهُ على عُمَرَ في قَبْرهِ كَما نَوَّرَ عَلَيْنا مَسَاجِدَنا» (3) . أَيْ: بِصَلاةِ التَّراويِحِ، وهَكَذَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ لا يَحْقِرَ نَفْسَهُ في عَمَلِ الخَيرِ؛ فَقَدْ يَفْتَحُ اللهُ تَعَالى له باباً مِنَ الخَيرِ لا يَفْتَحُهُ لمنْ هُوَ أَفْضَلُ منه، وذَلكَ فَضْلُ الله يُؤْتيهِ مَنْ يَشَاءُ واللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيم.
__________
(1) نقل الإجماع على ذلك غير واحد من العلماء منهم: النووي في تهذيب الأسماء واللغات (2/332) .
(2) رواه أبو داود (1618) والترمذي وقال: حسن صحيح (3675) من حديث عمر - رضي الله عنه - .
(3) رواه ابن عساكر في تاريخه (44/280) وابن عبدالبر في التمهيد (8/119).(1/3)
الثالث: أنَّ اجْتماعَ المسْلمِين، وتَوَحُّدَ كَلِمَتِهِم أَولَى مِن تَفَرُّقِهِم، وأنَّه يَجبُ على وُلاةِ أُمُورِ المُسلِمينَ العَمَلُ على تَحقِيقِ ذَلك.
الرابع: أَنَّ اجْتِهَادَ الإِمَامِ في السُّنَنِ مُلْزِمٌ، وتَجِبُ طَاعَتُهُ في ذلك؛ كَما ائْتَمَرَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم لِعُمَرَ - رضي الله عنه - لما جَمَعَهُمْ على إِمَامٍ وَاحِد.
الخامس: أَنَّ اتِّفَاقَ الجَماعَةِ على إِحْياءِ السُّنَّةِ، واجْتِماعَهَم على الطَّاعَةِ تُرْجَى بَرَكَتُه؛ إِذ دُعَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُم يَشْمُلُ جَمَاعَتَهُم؛ ولِذَلكَ صَارَتْ صَلاةُ الجَماعَةِ تَفْضُلُ صَلاةَ الفَذِّ بِسَبْعٍ وعِشْرينَ دَرَجَة، قَالَ سَعِيدُ بنُ جُبَيرٍ رَحِمهُ اللهُ تَعَالى: «لأَنْ أُصَلِّي مَعَ إِمَامٍ يَقْرَأُ بِهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيةِ أَحَبُّ إِليَّ مِنْ أَنْ أَقْرَأَ مِئَةَ آيَةٍ في صَلاتي لِوَحْدِي» (1) .
السادس: أَنَّ الأَعْمالَ إِذا تُرِكَتْ لِعِلَّةٍ، وزَالَتْ تِلكَ العِلَّةُ فَلا بَأْسَ بِإعَادَةِ العَمَلِ، كَما أَعَادَ عُمَرُ - رضي الله عنه - صَلاةَ التَّراويحِ في رَمَضَانَ جَمَاعَةً.
السابع: أَنَّهُ يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُم لِكِتابِ الله تَعَالى إِذَا أَمْكَنَ ذَلك، وَكَانَ أُبَيٌّ أَقْرَأَهَمْ فَقَدَّمَهُ عُمَرُ - رضي الله عنه - ، وهَذا هُو الأَفْضَلُ ولَيْسَ واجِباً؛ لأَنَّ عُمَرَ - رضي الله عنه - قَدَّمَ تَميماً الدَّارِيَّ - رضي الله عنه - وفي الصَّحَابَةِ مَنْ هُوَ أَقْرَأُ منه.
الثامن: أنَّه يُشْرَعُ للنِّسَاءِ حُضُورُ صَلاةِ التَّرَاوِيحِ معَ المُسلِمِين في مَسَاجِدِهم، كما يَجُوزُ أن يَؤُمَّ النِّسَاءَ لِوَحْدِهِنَّ رَجُلٌ إذا أُمِنَتِ الفِتنَةُ.
التاسع: جَوازُ الائْتِمامِ بالمصَلِّي وإن لم يَنوِ الإِمَامَة.
__________
(1) رواه ابن عبدالبر في التمهيد (8/118).(1/4)
العاشر: إِذا كَانَ مِنْ عَادَةِ الإِمَامِ الاسْترَاحَةُ بَينَ تَسليمَتَينِ أَو أَرْبَعٍ مِنْ صَلاةِ التَّراويحِ أَو القِيامِ؛ فلا يُشْرعُ لِلمَأْمُومِ التَّنَفُّلُ بينهُما بِصَلاةٍ، وقَدْ كَرِهَ ذَلكَ الإِمَامُ أَحْمدُ، ونَقَلَ كَرَاهِيَتَهُ عَنْ ثَلاثَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وهُم: عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ وأَبُو الدَّرْدَاءِ وعُقَبةُ بنُ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم (1) .
الحادي عشر: إِذا صَلَّى التَّراويحَ مَعَ إِمَامهِ حتَّى انْصَرَفَ، ثُم أَدْرَكَ جَماعَةً أُخْرَى يُصَلُّونَ التَّراويحَ وَأَرَادَ الدُّخُولَ مَعَهُم فَلا بَأْسَ بِذلك (2) .
الثاني عشر: أَنَّهُ لا يُجتَمَعُ لِلنَّوافِلِ على التَّرتِيبِ والتَّوَالي إِلَّا في قِيَامِ رَمَضَانَ (3) ، وأَما غَيرُهُ فَتَرْتِيبُ الاجْتِماعِ عَلَيهَا مِنَ البِدَعِ؛ كَما لَو اجْتَمَعَ نَفَرٌ لِصَلاةِ الَّليْلِ طِوَالَ العَام، أَو في لَيالٍ مَخصُوصَةٍ يَقْصِدُونَها بالقِيَام؛ وذَلكَ لأَنَّ النَّبيَّ ? ما جَمَعَ أَصْحَابَهُ على نَافِلةٍ إِلا في رَمَضَانَ، وهَكَذا أَحيَا هَذِهِ السُّنَّةَ عُمَرُ - رضي الله عنه - لما تَرَكَهَا النَّبيُّ ? خَشْيةَ أَنْ تُفْرَضَ على النَّاس.
( ( (
__________
(1) الاستذكار (2/72).
(2) هذا الفعل يسمى التعقيب، وقد أجازه أنس بن مالك - رضي الله عنه - وقال: «ما يرجعون إلا لخير يرجونه، أو لشر يحذرونه»، وقال الإمام أحمد: «لا بأس به». انظر: المغني (1/457) .
(3) انظر: إكمال المعلم (3/114) .
.(1/5)
9- اغتسالُ الصائمِ وتبرُّده
عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: «كانَ رَسُولُ الله ? يُصْبِحُ جُنُباً ثُم يَغتَسِلُ ثم يَغْدُو إلى المسْجِدِ ورَأسُهُ يَقطُرُ ثم يَصُوم ذَلكَ اليَوم» رواه أحمد (1) .
وعَنْ أَبي بَكرِ بنِ عَبدِالرَّحمنِ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ النَّبيِّ ? قَالَ: «لَقَدْ رَأَيتُ رَسُولَ الله ? بِالعَرْجِ يَصبُّ على رَأْسِهِ الماءَ وهُو صَائِمٌ مِنَ العَطَشِ أو من الحَرِّ» رواه أبو داود (2) .
قَالَ البُخَاريُّ رَحِمهُ الله تَعَالى: «بَلَّ ابنُ عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُما ثَوباً فَألقَاهُ عَلَيهِ وهُوَ صَائِمٌ، ودَخَلَ الشَّعبيُّ الحمَّامَ وهوَ صائِمٌ، وَقَالَ ابنُ عَباسٍ رَضيَ الله عَنْهُما: لا بأْسَ أَنْ يَتَطَعَّمَ القِدْرَ أَو الشَيءَ، وقَالَ الحسَنُ رَحِمهُ الله تَعَالى: لا بَأْسَ بالمضْمَضَةِ والتَّبَرُّدِ للصَّائم، وقَالَ ابنُ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - : إِذا كَانَ صَومُ أَحَدِكُمْ فَليُصْبِحْ دَهِينَاً مُتَرجِّلاً، وقَالَ أَنَسٌ - رضي الله عنه - : إِنَّ لي أَبْزنَ أَتَقَحَّمُ فيه وأَنَا صَائِم» (3) .
والأَبْزَنُ: الحَوضُ الصَّغِيرُ يُوضَعُ فيهِ الماءُ، وهي كَلِمَةٌ فَارسيَّة (4) .
الفوائد والأحكام:
__________
(1) رواه أحمد (6/99) والنسائي في الكبرى (2986-2987) وأبو يعلى (4708) والبزار (1552) والطيالسي (1503) وإسناده صحيح، وهو في الصحيحين بلفظ آخر.
(2) رواه أبوداود (2365) ومالك في الموطأ (1/294) وعنه الشافعي في مسنده (1/157) وأحمد (3/475) والحاكم (1/598) وصححه ابن عبد البر في التمهيد (22/47)والحافظ في تغليق التعليق (3/153) والعيني في عمدة القاري (11/11) والألباني في صحيح أبي داود.
(3) صحيح البخاري (2/681) وانظر: تغليق التعليق (3/151).
(4) انظر: مقدمة فتح الباري (1/74) ومشارق الأنوار للقاضي عياض (1/12).(1/1)
الأول: أَنَّهُ يَجُوزُ للصَّائِم أَنْ يُخفِّفَ الحرَّ والعَطَشَ بِصَبِّ المَاءِ عَلى بَعضِ بَدَنِهِ أو كُلِّهِ، سَواءٌ كَانَ ذَلك في غُسْلٍ وَاجِبٍ أَوْ مَنْدوبٍ أو مُباح (1) .
الثاني: أَنَّهُ يَجوزُ للصَّائِمِ الانْغِماسُ في المَاءِ، لكِن يَنبَغِي له الحَذَرُ مِنْ تَسَرُّبِ شَيءٍ إلى جَوفِهِ (2) .
الثالث: أَنَّ تَخفِيفَ ما يَلْحَقُ المكَلَّفَ مِنْ مَشَقَّةِ العِبَادَةِ بأُمُورٍ مَشرُوعةٍ لا يُعَدُ ضَجَراً مِنها، ولا يُشرَعُ التَّنزُّهُ عَنْه.
الرابع: عجزُ الإنْسانِ وَضَعفُه، وحَاجَتُه إلى ما أَنعَمَ اللهُ تَعَالى عَلَيهِ من وَسَائِلِ تَخفِيفِ العَنَتِ والمَشَقَّةِ عَليه.
الخامس: جَوازُ دُخُولِ حَمَّامَاتِ البُخَارِ ونَحوِهَا للصَّائِم، ومَشرُوعِيَّةُ تَطَيُّبِ الصَّائِمِ وادِّهانِهِ وتَجَمُّلِه، فالرَّوَائِحُ لَيسَت من المُفْطِراتِ، ولا تُكرَه للصَّائِم.
السادس: جَوازُ اتخَاذِ الصَّائِمِ حَوْضاً أَوْ بِرْكَةَ ماءٍ أو مَسْبحٍ للتَّبَرُّدِ أو للنِّظَافَةِ، أَو الرِّياضَةِ ولا يُفْطِرُ بذلك.
السابع: يَجوُزُ لمنْ يَطْبَخُ تَذَوُّقُ الطَّعَامِ بِلِسانِهِ مِنْ غَيرِ أَنْ يَبْتَلِعَهُ إذا احْتَاجَ إلى تَذَوُّقِهِ، قَالَ الإمَامُ أَحمدُ رَحِمَهُ الله تَعَالى «أَحَبُّ إليَّ أَنْ يَجتَنِبَ ذَوقَ الطَّعامِ، فإِنْ فَعَلَ لم يَضُرُّه ولا بَأسَ بِهِ» (3) . وأَفْتَتْ اللَّجنَةُ الدَّائِمَةُ بِجَوَازِ ذَلك (4) .
__________
(1) عون المعبود (6/352).
(2) مرقاة المفاتيح (4/441).
(3) المغنى (3/19).
(4) فتاوى اللجنة الدائمة رقم (9845) وكذلك أفتى الشيخ العثيمين بذلك، انظر: فتاوى أركان الإسلام (484).(1/2)
10- مراحلُ فَرْضِ الصيام
عَن الْبَرَاءِ - رضي الله عنه - قَالَ: «كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ? إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائماً فَحَضَرَ الإِفْطَارُ فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِي، وإِنَّ قَيْسَ بنَ صِرْمَةَ الأَنْصَاريَّ كَانَ صَائماً فَلَما حَضَرَ الإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ لها: أَعِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لا، ولَكن أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ، وَكَانَ يَوْمَهُ يَعْمَلُ فَغَلَبَتْهُ عَينَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُه، فَلَما رَأَتْهُ قَالتَ: خَيْبَةً لَكْ – أَيْ فَاتَكَ ما تَطْلُبُهُ وهُوَ الطَّعَامُ- فَلَما انْتصفَ النَّهارُ غُشِيَ عَلَيه، فَذُكِرَ ذَلكَ لِلنَّبيِّ ?، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ] {البقرة:187}. فَفَرحُوا بِها فَرَحاً شَدِيداً، وَنَزَلَتْ: [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ] {البقرة:187} رواه البخاري (1) .
__________
(1) رواه البخاري (1816) وأبو داود (2314) والترمذي (2968) وأحمد (4/295) وما بين الحاصرتين ليس من الحديث بل هو بيان مني للمعنى.(1/1)
وعَنْ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ - رضي الله عنه - قَالَ: «أُحِيْلَتِ الصَّلاةُ ثَلاثَةَ أَحْوَالٍ، وأُحِيلَ الصِّيامُ ثَلاثةَ أحوالٍ... - فذكَرَ أحوالَ الصَّلاةِ - ثُمَّ قَالَ في الصَّومِ: إنَّ رسولَ الله ? كانَ يَصُومُ ثَلاثَةَ أيامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، ويَصُومُ يومَ عَاشُورَاءَ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] {البقرة:183} إِلى قَولِه: [طَعَامُ مِسْكِينٍ] فَكَانَ مَنْ شَاءَ أن يَصُومَ صَامَ، ومَنْ شَاءَ أن يُفْطِرَ ويُطعِمَ كلَّ يومٍ مِسكِيناً أَجْزَأَهُ ذَلك، وهَذا حَلالٌ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالى: [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآَنُ] إِلى [أَيَّامٍ أُخَرَ] فَثبَتَ الصِّيامُ على مَنْ شَهِدَ الشَّهْرَ، وعلى المُسَافرِ أَنْ يَقضِي، وثَبَتَ الطَّعامُ للشَّيْخِ الكَبيرِ والعَجُوزِ الَّلذَيْنِ لا يَستَطِيعَانِ الصَّومَ» رواه أبو داود (1) .
__________
(1) رواه أبوداود (507) وأحمد (5/246) والطبراني في الكبير (20/132) رقم (270) والحاكم وصححه ووافقه الذهبي (2/301) والرواية الثانية لأحمد وصححها الحاكم ووافقه الذهبي وفيها ضعف، لكن تشهد لها أحاديث أخرى.(1/2)
وفي رِوايةٍ لأَحمد: «وَأَما أَحْوَالُ الصِّيامِ فإِنَّ رَسُولَ الله ? قَدِمَ المدِينةَ فَجَعَلَ يَصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أَيامٍ – وَقَالَ يَزِيدُ بنُ هَارُون: فَصَامَ تِسْعَةَ عَشَرَ شَهْراً مِنْ رَبيعٍ الأَولِ إِِلى رَمَضَانَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةَ أَيامٍ – وَصَامَ يَوْمَ عَاشُورَاء، ثُم إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ عَلَيهِ الصِّيامَ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] إِلى هَذِهِ الآيةِ [وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ] قَالَ: فَكَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَطْعَمَ مِسْكيناً، فَأَجْزَأَ ذَلكَ عنه، قَالَ: ثُم إِن اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ الآيَةَ الأُخْرَى [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآَنُ] إِلى قَوْلِهِ [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] قَالَ: فَأَثْبَتَ اللهُ صِيامَهُ على المقِيمِ الصَّحِيحِ، وَرَخَّصَ فيهِ لِلْمَريضِ والمسَافِرِ، وثَبَتَ الإِطْعَامُ لِلكَبيرِ الَّذِي لا يَسْتَطِيعُ الصِّيامَ، فَهَذَانِ حَوْلان، قَالَ: وكَانُوا يَأْكُلونَ ويَشْرَبُونَ ويَأْتُونَ النِّسَاءَ ما لم يَنَامُوا، فإِذا نَامُوا امْتَنَعُوا، قَالَ: ثُم إِنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ له: صِرْمَة ظَلَّ يَعْمَلُ صَائِماً حتَّى أَمْسَى، فَجَاءَ إِلى أَهْلِهِ فَصَلَّى العِشَاءَ، ثُم نَام فَلَم يَأْكُل ولم يَشْرَبْ حَتَّى أَصْبَح، فَأَصْبَحَ صَائِماً، قَالَ: فَرَآهُ رَسُولُ الله ? وقَدْ جُهِدَ جَهْداً شَدِيداً قَالَ: مَالي أَرَاكَ قَدْ جُهِدْتَ جَهْداً شَدِيداً؟ قَالَ: يا رَسُولَ الله، إِنِّي عَمِلْتُ أَمْسِ فَجِئْتُ حِينَ جِئْتُ فَأَلْقَيتُ نَفْسي، فَنِمْتُ وَأَصْبَحْتُ حِينَ أَصْبَحْتُ صَائِماً، قَالَ:(1/3)
وَكَانَ عُمَرُ قَدْ أَصَابَ مِنْ النِّسَاءِ مِنْ جَارِيَةٍ أَو مِنْ حُرَّةٍ بَعْدَما نَامَ، وَأَتَى النَّبيَّ ? فَذَكَرَ ذَلكَ له، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ] إِلى قَوْلِه: [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ]».
الفوائد والأحكام: ...
الأول: أَنَّ مِنْ رَحْمَةِ الله تَبَارَكَ وتَعالَى التَّخْفيفَ عَنْ عِبَادِه المؤْمِنينَ؛ إِذْ كَانَ مِنْ مَراحِلِ فَرْضِ الصِّيامِ: أَنَّ مَنْ نَامَ عَقِبَ غُروبِ الشَّمْسِ أَوْ صَلَى العِشَاءَ أَمْسَكَ عَن المفْطِراتِ إلى غُروبِ شَمْسِ اليَومِ الثَاني، ولَحِقَهُمْ في ذَلِكَ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ كَما في قِصَّةِ هَذا الصَّحَابي - رضي الله عنه - ؛ فَخَفَّفَ اللهُ تَعالى عَنْهُم بِإبَاحَةِ الأَكْلِ والشُّربِ والنِّسَاءِ في لَيالي رَمَضَانَ سَواءٌ نَامَ الصَّائِمُ عَقِبَ الغُروبِ أمْ لَم يَنَم، فَكَانَ ذَلكَ رُخْصَةً مِنَ الله تَعالى فَلَهُ الحَمْدُ ولَهُ الشُّكْرُ.
الثاني: خِدمَةُ المرْأَةِ زَوْجَهَا، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ العِشْرَةَ والتَبَعُّل.(1/4)
الثالث: وَرَعُ الصَّحَابَةِ رَضي الله عَنْهَم، وامْتِثَالُهم لأَوَامِرِ الله تَبَارَكَ وتَعَالى، وخَوفُهُمْ مِنْ مُخالَفَتِها، ومُرَاقَبَتُهمْ لله عَزَّ وَجَلَّ في السِّرِّ والعَلَن، وقَدْ جَاءَ في بَعْض رِوايَاتِ الحَديثِ: «فَأَبْطَأتْ عَلَيه – أيْ: زَوْجَتُهُ – فَنَامَ، فَأَيْقَظَتْهُ فَكَرِهَ أَنْ يَعْصيَ الله وَرسُولَهُ وَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ، وأَصْبَحَ صَائماً» (1) وفي رِوايَةٍ أُخْرى: «فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَأَغْفَى، وجَاءَتْهُ امْرأَتُهُ بِطَعَامِهِ، فَقالَتْ لَه: كُلْ، فَقالَ: إِنّي قَدْ نِمْتُ، قَالتْ: إِنَّكَ لَم تَنَم، فَأَصْبَحَ جَائِعاً مَجهُوداً» (2) .
الرابع: مَشروعِيَّةُ الفَرَحِ بِرُخْصَةِ الله عَزَّ وجَلَّ، وأَنَّ ذلِكَ لا يُنَافي الأَخْذَ بِعَزائِمِه؛ فَالكُلُّ منْ عِنْدِ الله تَعَالى وَهُوَ عَزَّ وجَلَّ يُحِبُّ أَنْ تُؤتَى رُخَصُهُ كما يُحبُّ أن تُؤتَى عَزَائِمُه.
الخامس: رَحْمةُ الله تَبَارَكَ وتَعَالى بِعبَادِهِ؛ إِذْ يَشرَعُ لَهمْ مَا يَنفَعُهُم مِنْ العَبَادَاتِ التي فيها صَلاحُ قُلوبِهِم، وزَكَاءُ نُفُوسِهِم.
السادس: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ يأَخُذُهُم بالتَّدرجِ فيما لم يَعتَادُوا عَلَيه؛ كَما جَاءَ فَرضُ الصَّلاةِ عَلى أَحْوَالٍ ثَلاثَةٍ وكَذلِكَ الصَّومُ، وَكَذَلِكَ النَّهيُ عَنِ الخَمرِ وَقَدْ اعْتَادُوهَا جَاءَ تَحرِيمُهَا بالتَّدَرُّجِ رَحْمَةً مِنْهُ عَزَّ وَجَلَّ وتَخفِيفاً عَلى عِبَادِهِ، فَلَهُ الحَمْدُ كَثيراً.
__________
(1) هذه الرواية للطبري في تفسيره من حديث السري (2/167).
(2) هذه الرواية للطبري في تفسيره من حديث محمد بن يحيى بن حبان (2/168).(1/5)
السابع: أَنَّ فَريضَةَ الصِّيامِ جَاءَتْ بالتَّدَرُّجِ؛ لأن النَّاسَ مَا كَانُوا مُعْتَادِينَهُ في أوَّلِ الإِسْلامِ، كَما جَاءَ في الرِوايةِ الثَّانيةِ للحَدِيثِ أنَّ مُعَاذاً - رضي الله عنه - قَالَ: «وَكَانوا قَوماً لم يتَعَوَّدُوا الصِّيام، وكَانَ الصِّيامُ عَليهِم شَدِيداً» (1) .
الثامن: أَنَّ الصِّيامَ فُرِضَ على ثَلاثِ مَراحِلَ:
الأولى: صِيامُ ثَلاثةِ أيامٍ مِنْ كُلِّ شَهرٍ وعاشُورَاءَ.
الثانية: التَّخييرُ في صومِ رمضانَ بينَ الصِّيامِ وبينَ الإِطْعَامِ لمن لا يريدُ الصِّيام.
الثالثة: فَرضُ الصيامِ على المُستَطِيعِ، والتَّخْفِيفُ عَنْ الشَّيخِ الكَبيرِ، والعَجُوزِ الَّلذَيْنِ لا يَستَطِيعانِ الصِّيامَ بالإِطْعَامِ، ويَدْخُلُ في ذلك المريضُ مرَضَاً لا يُرجَى بُرْؤُهُ.
__________
(1) هذه الرواية لأبي داود (506) والبيهقي في السنن (4/201) وفي فضائل الأوقات (30) وصححها الألباني في صحيح أبي داود.(1/6)
11- مشروعيةُ صلاةِ التراويح
عن زَيدِ بنِ ثَابتٍ - رضي الله عنه - قَالَ «احتَجَرَ رَسُولُ الله ? حُجَيرَةً مُخَصَّفَةً - أو حَصِيرَاً - فَخَرَجَ رَسُولُ الله ? يُصَلِّي فيهَا فَتَتَّبعَ إليه رِجَالٌ وجَاؤُوا يُصَلُّون بِصَلاتِهِ، ثمَّ جَاؤُوا لَيلَةً فَحَضَرُوا وَأَبطَأَ رَسُولُ الله ? عَنْهُم فَلَم يَخرُجْ إِلَيْهم فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُم وحَصَبُوا البَابَ، فَخَرجَ إِلَيْهِم مُغضَبَاً فَقَالَ لهم رَسُولُ الله ?: ما زَالَ بِكُم صَنِيعُكُم حتَّى ظَننتُ أنَّه سَيُكْتَبُ عَلَيكُم، فَعَليكُم بالصَّلاةِ في بُيُوتِكُم فإنَّ خَيرَ صَلاةِ المَرءِ في بَيتِهِ إلا الصَّلاةَ المَكتوبةَ» متفق عليه (1) .
وَفي رِوَايةٍ: «خَشِيتُ أَنْ يُكْتَبَ عَلَيْكُمْ، وَلَوْ كُتِبَ عَلَيْكُم مَا قُمْتُمْ» (2) .
الفوائد والأحكام:
الأول: زُهْدُ النَّبيِّ ? في الدُّنيَا؛ حتَّى إِنَّهُ يَتَّخِذُ أَبْسَطَ الأَثاثِ والمَتَاع.
الثاني: كَثرَةُ عِبَادَةِ النَّبيِّ ? لِربِّهِ عزَّ وجَلَّ، مَعَ أنَّه مَغْفُورٌ لَه مَا تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ ومَا تَأَخَّر.
الثالث: حِرصُ الصَّحَابَةِ رَضيَ الله عَنْهُمْ عَلى الخَيرِ، وتَأَسِّيهِم بالنَّبيِّ ?.
الرابع: فَضِيلَةُ قِيامِ اللَّيلِ عَامَّةً، وفي رَمَضَانَ خاصَّةً.
الخامس: جَوَازُ صَلاةِ النَّافِلَةِ في المَسْجِدِ (3) .
السادس: أنَّ صَلاةَ التَّراوِيحِ في رَمَضَانَ من سُنَّةِ النَّبيِّ ? الَّتي فَعَلهَا، ثمَّ تَرَكَهَا خَشْيَةَ أَنْ تُفرَضَ على الأُمَّةِ، ثمَّ أَحْيَاها عُمَرُ - رضي الله عنه - بَعْدَ ذَلك (4) .
__________
(1) رواه البخاري (5762) ومسلم (781).
(2) هذه الرواية للبخاري (6860) ومسلم (781).
(3) شرح النووي على مسلم (6/69).
(4) انظر: فتح الباري لابن حجر (3/14).(1/1)
السابع: أنَّ القَائِدَ أو الأَميرَ إذا فَعلَ شَيئاً خِلافَ ما اعْتَادَ مِنهُ أَتبَاعُهُ فَينبَغِي أنْ يَذْكُرَ لَهم عُذْرَهُ وحُكْمَهُ والحِكْمَةَ فيهِ كَمَا فَعَل النَّبيُّ ? (1) .
الثامن: شَفَقَةُ النَّبيِّ ? عَلى أُمَّتِهِ وَرَحْمَتُهُ بِهم، وتَخْفِيفُهُ عَنْهُم فَجَزَاهُ الله عنَّا خَيرَ الجَزَاءِ، ويَنبغِي لِوُلاةِ الأُمورِ وكِبَارِ النَّاسِ المَتبوعِين في عِلْمٍ وغَيرِهِ الاقتِدَاءُ بِهِ في ذَلك (2) .
التاسع: أنه يَجوزُ تَركُ بَعضِ المَصَالِحِ لِدَرءِ المَفَاسِد، وتَقدِيمُ أهَمِّ المَصلَحَتَين (3) .
العاشر: أنَّ النَّوافِلَ إذا صُلِّيَت جَمَاعَةً فَلَيس لَها أَذَانٌ ولا إِقَامَةٌ، كمَا في صَلاةِ التَّراوِيح (4) .
الحادي عشر: أنَّ صَلاةَ النَّافِلَةِ في البَيتِ أَفضَلُ مِنْ صَلاتِهَا في المَسجِدِ، إلا مَا كانَت السُّنَّةُ فِيهِ الجَمَاعَةَ مِثْلَ: الاسْتِسقَاءِ والتَّراوِيحِ، فالأَفضَلُ أَنْ تُصَلَّى جَمَاعَة (5) .
( ( (
__________
(1) المصدر السابق (3/14) وطرح التثريب (3/90).
(2) الفتح (3/14).
(3) شرح النووي على مسلم (6/69) والفتح (3/14).
(4) المصدر السابق (3/14) وطرح التثريب (3/90).
(5) شرح النووي على مسلم (6/70) ومرقاة المفاتيح (3/334).(1/2)
12- الصيامُ مكفرٌ للسيئات
...
قَالَ الله تَعَالَى: [إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ] {التغابن:15}.
وقَالَ تَعَالَى: [وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ] {الأنبياء:35} .
الفِتْنَة: هِيَ الابْتِلاءُ والامْتِحَانُ والاخْتِبَارُ.
قَالَ ابنُ عباسٍ رَضيَ اللهُ عَنْهُما: «نَبتَليكُم بالشِّدَّةِ والرَّخَاءِ، والصِّحَّةِ والسَّقَم، والغِنَى والفَقْرِ، والحَلالِ والحَرَام، والطَّاعَةِ والمَعصِيَةِ، والهُدَى والضَّلال» (1) .
وعَنْ حُذَيفَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ عُمَرُ - رضي الله عنه - : «مَنْ يَحفَظُ حَدِيثاً عَنِ النَّبيِّ ? في الفِتنَة؟ قَالَ حُذَيْفَةُ: أَنا سَمِعْتُهُ يَقُولُ: فِتنَةُ الرَّجُلِ في أَهْلِهِ ومَالِهِ وجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلاةُ والصِّيامُ والصَّدَقَةُ» رواه الشيخان (2) .
وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبيِّ ? يَرْويِهِ عَنْ رَبِّكُمْ قَالَ: «لِكُلِّ عَمَلٍ كَفَّارَةٌ، والصَّوْمُ لي وَأَنَا أَجْزِي به...» رواه البخاري (3) .
وفي رِوايةٍ لأَحمد: «كُلُّ العَمَلِ كَفَّارَةٌ والصَّوْمُ لي وَأَنَا أَجْزِي به...» (4) .
وفي رِوايةٍ: «كُلُّ العَمَلِ كَفَّارَةٌ إِلَّا الصَّوْمَ لي وَأَنَا أَجْزِي به...» (5) .
__________
(1) تفسير ابن كثير (3/286).
(2) رواه البخاري (1796) ومسلم (144).
(3) رواه البخاري (7100) وأحمد (2/504).
(4) هذه الرواية لأحمد (2/457) والطيالسي (2485).
(5) هذه الرواية لابن راهويه (58) وعزاها الهيثمي في مجمع الزوائد (3/179) لأحمد وقال: ورجاله رجال الصحيح، وصححها الحافظ في الفتح (4/109).(1/1)
وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله ? كَانَ يَقُولُ: «الصَّلَواتُ الخَمسُ، والجُمعَةُ إلى الجُمُعةِ، ورَمَضَانُ إلى رَمَضَانَ، مُكَفِّراتٌ مَا بَينَهنَّ إذا اجْتُنِبَتْ الكَبَائرُ» رواه مسلم (1) .
وعَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْريِّ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله ? يَقُولُ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وعَرَفَ حُدُودَهُ وتَحفَّظَ مما كَانَ يَنبَغِي لَه أَنْ يَتَحَفَّظَ فيهِ كَفَّرَ ما قَبْلَه» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابنُ حِبانَ (2) .
الفوائد والأحكام:
الأول: أنَّ الإنسَانَ قَدْ يُفتَنُ بالخَيرِ، وقَدْ يُفْتَنُ بالشَّرِّ، ومِنَ الفِتْنَةِ بالخَيرِ: بَسطُ الأَمْوالِ، وتَوَارُدُ النِّعَمِ على الإِنسَانِ، ومِنَ الفِتنَة بالشَّر: ما يُصيبُ الإنْسَانَ مِنْ هُمُومٍ وأَوصَابٍ وأَمْرَاض.
الثاني: أنَّ الأَوْلادَ والأَموَالَ فِتنةٌ للرَّجُلِ، وَوَجْهُ كَونِهِم فِتْنَةً أنَّ الإنْسَانَ قد يُضَيِّعُ حُقُوقَ الله تَعَالَى مِن أَجلِهِم؛ مَحَبَّةً لهَم، وشُحَّاً عَلَيهم، فَيَكُونُ ذَلكَ سَبَباً لِعِقَابِهِ في الآخِرَةِ، ومن فِتْنَتِهِ أَيضاً بِهِم: أنَّ لَهم عليهِ حُقُوقاً أَوْجَبَها الشَّارِعُ الحَكِيمُ، كَتَعْلِيمِهِم وتَربِيَتِهم والنَّفَقَةِ عَلَيهِم، وغيرِ ذَلكَ، فَيُضَيِّعُ هذه الحُقُوقَ أَو يُقَصِّرَ في أدَائِهَا فَيَأثَمُ بذَلكَ (3) .
__________
(1) رواه مسلم (233).
(2) رواه أحمد (3/55) وأبو يعلى (1058) والبيهقي (4/304) وصححه ابن حبان (3433).
(3) انظر: شرح النووي على مسلم (2/171).(1/2)
الثالث: المَعَاصِي والذُّنُوبُ فِتنَةٌ، ومَن فُتِنَ بِشَيءٍ مِنهَا كامْرَأَةٍ لا تَحِلُّ له، أو مَالٍ حَرامٍ فَهُو مَفتُون، وقَدْ يَقَعُ في ذَلكَ بَعضُ الصَّالِحين (1) كما قَالَ الله تَعَالَى: [إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ] {الأعراف:201}. وقَالَ تَعَالَى: [وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ] {آل عمران:135}.
الرابع: يَنبغِي لمِنَ فُتِنَ بِمَعصِيةٍ من المَعَاصِي مُصِرَّاً عَلَيهَا أَنْ يُكثِرَ مِنَ الأَعمَالِ الصَّالحَة؛ لأَنَّ الأَعمَالَ الصَّالحَةَ تُكَفِّرُ السَّيئَات، قَالَ الله تَعَالَى: [إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ] {هود:114} ولَعَلَّ إِكثَارَهُ مِنَ الطَّاعَاتِ يكُونُ سَبَباً في عِتْقِهِ مِنَ أَسْرِ تِلكَ المَعصِيةِ، فَيُوَفِّقُهُ الله تَعَالَى بِسَبَبِ طَاعَتِهِ لِتَوبَةٍ نَصُوح.
الخامس: دَلَّتْ هَذهِ الأَحَادِيثُ على أَنَّ الصِّيَامَ كَفَّارَةٌ، ونَفَى في حَدِيثِ أَبي هُرَيْرَةَ أَنْ يَكُونَ الصِّيَامُ كَفَّارَةً، والمرَادُ: أَنَّ الأَعْمَالَ كَفَّارَةٌ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ كَفَّارَةٌ وزِيَادَةُ ثَوَابٍ عَلى الكَفَّارَةِ، ويَكُونُ المرَادُ بِالصِّيَامِ الَّذِي هَذَا شَأْنُهُ مَا وَقَعَ خَالِصاً سَالماً مِنَ الرِّيَاءِ والشَّوَائِب (2) .
__________
(1) التمهيد لابن عبدالبر (17/394).
(2) انظر: الفتح (4/111).(1/3)
السادس: قَالَ النوويُ رَحِمهُ اللهُ تَعَالَى: «قَدْ يُقَال: إذَا كَفَّرَ الوُضُوءُ الذُّنُوبَ فَمَاذا تُكفِّر الصَّلاة؟ وإِذا كَفَّرَتِ الصَّلاةُ فَمَاذا تُكفِّرُ الصَّلاةُ في الجَمَاعات، ورَمَضَانُ وصَومُ يَومِ عَرَفَةَ ويَومِ عَاشُورَاء، ومُوَافَقَةُ تَأْمِينِ المَلائِكَة؟فقد وَرَدَ في كُلِّ ذَلكَ أَنَّهُ يُكفِّرُ. والجَوابُ ما أَجَابَ به العُلماءُ: أنَّ كلَّ واحِدٍ مِنَ المذْكُورَاتِ صَالحٌ للتَّكْفِير، فَإِنْ وَجَدَ ما يُكَفِّرُهُ مِنَ الصَّغَائِرِ كَفَّرَه، وإنْ لمْ يُصَادِفْ لا صَغِيرةً ولا كَبِيرَةً كُتِبَ بهِ حَسَناتٌ، ورُفِعَت به دَرَجَات، وإنْ صَادَفَ كَبِيرَةً أو كَبَائِرَ رَجَونَا أنْ يُخَفِّفْ مِنَ الكبَائِر» (1) .
السابع: أَنَّ حُقوقَ العِبادِ لا يُعفَى عَنهَا بهذِهِ المُكَفِّرَاتِ، فَلا تُكَفِّرُها الأَعْمَالُ الصَّالِحةُ سَواءً كَانَت هَذه الحُقُوقُ مِنَ الصَّغَائِرِ أَمْ كَانتْ مِنَ الكَبَاِئر؛ بل لا بُدَّ من إِبرَاءِ الذِّمَّةِ مِنهَا، أَو التَّحَلُّلِ من أَصْحَابِها (2) .
الثامن: فَضِيلَةُ الصِّيامِ وأَنَّهُ سَببٌ لِتَكفِيرِ الذُّنُوب.
التاسع: أَنَّ هَذا الفَضْلَ مِنَ التَّكْفِيرِ وغيرِهِ يَحوزُهُ مَنْ حَفِظَ صِيامَهُ مما يُفْسِدُهُ، بِدَليلِ قَوْلهِ في حَدِيثِ أَبي سَعِيدٍ: «وَعَرَفَ حُدُودَهُ وتَحَفَّظَ مما كَانَ يَنبَغِي له أنْ يَتَحَفَّظ فِيه».
__________
(1) شرح النووي (3/113) وانظر: الديباج على مسلم (2/17).
(2) انظر: تنوير الحوالك (2/42) وتحفة الأحوذي (1/535).(1/4)
وعَليهِ فَيَجِبُ على المُسلِمِ أَنْ يَحفَظَ لَيلَهُ ونَهَارَهُ في رَمَضَانَ مِنْ أيِّ قَولٍ مُحرَّمٍ كالغِيبَةِ والنَّميمَةِ، والنَّظَرِ إلى ما حرَّمَ الله عزَّ وجَلَّ مما يُعرَضُ في وَسَائِلِ الإعْلامِِ مِنْ مُسَلسَلاتٍ وبَرامِجَ تَرفِيهيَّةٍ مُحرَّمَةٍ وغَيرِها؛ مما يَزدَادُ في رَمَضَانَ أَكْثرَ مِنْ غَيرِهِ، نَسْأَلُ الله تَعَالى لَنَا وللمُسْلِمينَ الهِدَايَةَ والرَشَاد.
( ( ((1/5)
13- معنى الخيطِ الأبيضِ والخيطِ الأسود
...
قَالَ اللهُ تَعَالى: [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ] {البقرة:187}.
وعَنْ عَدِيِّ بنِ حَاتَمٍ - رضي الله عنه - قَالَ: «لما نَزَلَتْ: [حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ] عَمَدْتُ إلى عِقَالٍ أَسْوَدَ – أَيْ: حَبْلٍ أَسْوَدَ – وَإِلى عِقَالٍ أَبْيَضَ فَجَعَلْتُهُما تَحْتَ وسَادَتي، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ في اللَّيلِ فلا يَسْتَبِينُ لي، فَغَدَوْتُ على رَسُولِ الله ? فذَكَرْتُ له ذَلكَ، فقَالَ: إنَّما ذَلكَ سَوادُ اللَّيل وبَيَاضُ النَّهَارِ» متفق عليه (1) .
الفوائد والأحكام:
الأول: حِرْصُ الصَّحَابَةِ رَضيَ الله عَنْهُم عَلى تَطْبِيقِ الأَوامِرِ الرَّبَّانيَّةِ، والمُباَدَرَةِ للعَمَلِ بمَا يتَنَزَّلُ عَلى النَّبيِّ ? مِنَ القُرآنِ؛ وجَاءَ في بَعْضِ رِواياتِ الحَديثِ أنَّ عَدِيَّاً - رضي الله عنه - قَالَ: «يا رَسُولَ الله، قَدْ حَفِظْتُ كلَّ شيءٍ أَوْصَيْتَنِي به غَيرَ الخيْطِ الأَبْيَضِ مِنَ الخيْطِ الأَسْوَدِ، إنِّي بِتُّ البَارِحَةَ مَعِيَ خَيْطَانِ أَنظُرُ إلى هَذَا مَرَّةً وإلى هَذَا مَرَّةً، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ الله ? وقَالَ: إنَّما الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخيْطِ الأَسْوَدِ الَّذي في السَّمَاءِ» (2) . وبَلَغَ مِنْ حِرْصِ عَدِيٍ - رضي الله عنه - وَعِنَايَتِهِ بِهَذَا الأَمْرِ أَنْ جَعَلَ العِقَالَينِ تَحْتَ وِسَادَتِهِ (3) .
__________
(1) رواه البخاري (1817) ومسلم (1090).
(2) هذه الرواية للطبراني في الكبير (17/79) رقم (175).
(3) انظر: المفهم (3/148-150) وذكر القرطبي أن بين نزول قوله تعالى: [مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ] وقوله تعالى: [مِنَ الفَجْرِ] عاماً كاملاً.(1/1)
الثاني: عَدَمُ تَكَلُّفِ الصَّحَابَةِ رَضيَ اللهُ عَنْهُم في السُّؤَالِ، إِلا إِذَا أَشْكَلَتْ عَلَيهِمُ المسَائِلُ الَّتي تَتَعَلَّقُ بِعِبَادَتِهِم؛ ولذلِكَ اجْتَهَدُوا في فَهْمِ الآيَةِ القُرْآنِيةِ، فَلَما أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ ذَلكَ سَألُوا النَّبيَّ ? ؛ وهَكذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ المُسلمُ مُمْتَثِلاً للنُّصُوصِ، غَيْرَ مُتَكَلِّفٍ لِلسُّؤَالِ، وَيَسْألُ عَما أَشْكَلَ عَلَيهِ مما يَتَعلَّقُ بِالعَمَلِ الَّذي يُقرِّبُهُ إلى الله تَعَالى.
الثالث: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالى: [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ] أَيْ: حَتَّى يَظهَرَ بَياضُ النَّهَارِ مِنْ سَوادِ اللَّيلِ، وهَذَا البَيَانُ يَحصُلُ بِطُلوعِ الفَجْرِ الصَّادِقِ (1) .
الرابع: أَنَّ المسَائِلَ المشْكِلَةَ، والأَلفَاظَ المُشْتَبِهَةَ، يُسْأَل عَنْها أَهْلُ العِلْمِ الرَّاسِخِين.
الخامس: في هَذِهَ النُّصُوصِ دلالَةٌ على أنَّ مَا بَعْدَ الفَجْرِ مِنَ النَّهَارِ ولَيْسَ مِنَ اللَّيل (2) .
السادس: أَنَّ غَايَةَ الأَكْلِ والشُّرْبِ طُلُوعُ الفَجْرِ، فَلَوْ طَلَعَ الفَجْرُ وَهُوَ يَأكُلُ ويَشْرَبُ فَنَزَعَ تَمَّ صَوْمُهُ، ولو اسْتَمَرَّ فسَدَ صَوْمُه (3) .
( ( (
__________
(1) انظر: تفسير ابن كثير (1/222) وفتح الباري (4/134).
(2) شرح النووي على مسلم (7/201) وفتح الباري (4/134).
(3) انظر: الفتح (4/135).(1/2)
14- إِفطَارُ الحائضِ وقضاؤُها
عَنْ مُعَاذَةَ بنْتِ عَبدِالله العَدَويّةِ رحِمَهَا الله تَعالى قَالَتْ: سَألْتُ عَائِشةَ رَضيَ اللهُ عَنْهَا فَقُلتُ: «مَا بَالُ الحَائِضِ تَقْضِي الصَّومَ ولا تَقضِي الصَّلاة؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ قُلْتُ: لَستُ بِحَرُورِيّةٍ، ولَكِنّي أَسأَل، قَالَتْ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ فَنُؤْمَرُ بِقضَاءِ الصّومِ ولا نُؤْمَرُ بِقضاءِ الصَّلاة» رواه الشيخان (1) .
وفي رِوايةٍ للتّرمِذِيِّ عَنْ مُعَاذَةَ سَأَلَتْ عَائِشَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهَا فقَالَتْ: «أَتقضِي إِحْدَانا صَلاتُها أَيّامَ مَحِيضِها؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيّةٌ أَنْتِ؟ قدْ كَانَت إِحْدَانَا تَحيضُ فَلا ُنؤمَرُ بقَضَاء» (2) .
وعَنْ عَائِشَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كُنّا نَحِيضُ على عهدِ رسُولِ الله ? ثمَّ نَطْهُرُ، فَيأْمُرُنَا بِقَضَاءِ الصِّيامِ ولا يَأْمرُنَا بِقَضَاءِ الصَّلاة» رَوَاهُ التِرمذِيُّ وقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. ثُم قَالَ التِرمذِيُّ: «والعَمَلُ عَلَى هَذا عِندَ أَهْلِ العِلْمِ لا نَعلمُ بينهَم اختِلافاً أنَّ الحَائِضَ تَقضِي الصّيامَ ولا تَقضِي الصَّلاة» (3) .
__________
(1) رواه البخاري (315) ومسلم واللفظ له (335).
(2) هذه الرواية للترمذي (130).
(3) رواه الترمذي وقَالَ: حديث حسن (787).(1/1)
وقولُ عائِشَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهَا: أَحَرُورِيَّةٌ أنتِ: هوَ استِنكَارٌ لِسُؤالِها هذا؟ والحَرُورِيّةُ فِرقَةٌ مِن الخَوارِجِ مَنسُوبة إلى بَلدَةٍ تُسَمَّى (حَرُوْرَاء) وهي بَلْدَةٌ قَريبَةٌ مِنَ الكُوفَةِ، كَانَ أَوَّلُ خُرُوجِهِم مِنها، وكَانَ عِندَهُم تَنَطُعٌ وتَشَدُّد (1) ، وَبَعضُهم كَانَ يُوجِبُ عَلى الحَائِضِ قَضَاءَ الصَّلاةِ الفَائِتَةِ زَمَن الحَيضْ، خِلافاً للأَحَادِيثِ والإِجمْاعِ؛ (2) ولذلك سَأَلَتهَا عَائِشَةُ بهذه الصِّيغَةِ الاستِنكَارِيَّة، أيْ: هَلْ أَنْتِ مِنهُم؟
الفوائد والأحكام:
الأول: تَحرِيمُ التَّنَطُّعِ والغُلُوِ في الدِّين، ووجُوبُ الوُقُوفِ عِندَ النُّصُوصِ والعَمَلِ بها، والأَخذِ بِرُخَصِ الله تَعَالى التي رَخَّصَهَا لِعِبَادِهِ، وكَما أَنَّ الغُلُوَ مَذْمُومٌ، فَالتَفَلُّتُ من الدّينِ مَذمُومٌ أيْضاً، والخِيَارُ في ذلك الوَسَطُ، وهوَ الأَخذُ بالنُّصُوصِ كُلِّها.
الثاني: مَشرُوعيَّةُ الإِنكَارِ على مَن تَشَدَّدَ في الدِّين بِالأُسلوبِ المنُاسِبِ الَّذي يُحقِقُ المقصُودَ ولا يَترتَّبُ عَليهِ مَفَاسِدُ أَعْظَم.
الثالث: أَنَّهُ يَنبَغِي للسَّائلِ إذا ظَنَّ بِه المُفتِي تَعَنُتاً بِسَببِ سُوءِ مَسْأَلَتِه، أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ مُسْتَرشِدٌ لا مُتَعَنِّت، كما قَالَتْ مُعَاذةُ: «لَستُ بِحَرُورِيةٍ ولكنِّي أَسْأَل» وحِينَئذٍ يَجبُ على المُفْتِي إِجَابَتهُ بالدَّليلِ الَّذي يُزيلُ الإِشْكَال، كَما فَعَلَتْ عَائِشَةُ رَضيَ اللهُ عَنْهَا.
__________
(1) انظر: فتح الباري (1/422).
(2) انظر: المغني (1/188) وحاشية السندي على سنن النسائي (4/191) وعمدة القاري (3/300).(1/2)
الرابع: أَنَّ أَعْظَمَ عِلَّةٍ تُعَلَّلُ بِها الأَحكَامُ الشَّرعيَّةُ هي أَوَامِرُ الله تعالى وأوَامِرُ رَسولِه ?، وبِذَلِكَ عَلَّلَتْ عَائِشَةُ رَضيَ اللهُ عَنْهَا هذا الحُكْمَ، وأجَابَتْ السَّائِلَةَ بأَنَّ النَّبِيَّ ? كَانَ يَأمُرُهُنَّ بِقضَاءِ الصَّومِِ ولا يَأمُرُهُنَّ بِقضَاءِ الصَّلاة، يَعنِي: لَو كَانَ قَضَاءُ الصّلاةِ وَاجِباً لأَمَرَهُنَّ بِذلكَ رَسُولُ الله ?؛ لأنَّهُ عَليْه الصّلاةُ والسَّلامُ أَنْصَحُ الأُمَّةِ للأُمَّة، ومَا تَرَكَ شَيْئاً إلاَّ بَيّنهُ ووضَّحَه (1) . وَهَكَذَا يَجبُ أَنْ يَكُونَ المسْلِمُ مُسْتَسْلماً لله تَعَالى، مُعَظِّماً لِشَرِيعَتِه، وَقّافاً عِنْدَ النُصُوصِ الثَّابِتَةِ، يَفْعَلُ المأْمُورَاتِ لأَنَّ الشَرِيعَةَ أَمَرَتْ بها، ويَجْتَنِبُ المحْظُوراتِ لأنَّ الشَرِيعَةَ نَهَتْ عَنْهَا، ولَوْ لَم يُدْرِكْ حِكْمَةَ ذَلكَ وعِلَّتَه.
الخامس: قَالَ ابنُ عبْدِ البرِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى: «وهَذا إِجمَاعٌ: أَنَّ الحَائِضَ لا تَصُومُ في أيَّامِ حَيْضَتِها وتقْضِي الصَّومَ ولا تَقْضِي الصَّلاةَ، لا خِلافَ في شَيءٍ مِنْ ذَلِكَ والحَمْدُ لله، وَمَا أَجْمعَ المُسْلمُونَ عَلَيهِ فَهُو الحَقُّ والخَبَرُ القَاطِعُ لِلْعُذْرِ» (2) .
السادس: أنَّ عَدَمَ تَكْلِيفِ الحَائِضِ بقَضَاءِ الصّلاَةِ مِنْ يُسْرِ الشَّريعَةِ وسَمَاحَتِهَا، ومِنْ رَحْمَةِ الله تَعَالى بالنِّسَاءِ؛ إذْ إِنَّ الصّلاةَ مُتَكرِّرَةٌ، ويَشُقُّ على النِّسَاءِ قَضَاؤُهَا، وواجِبٌ على النِّسَاءِ شُكْرُ الله عَزَّ وَجَلَّ عَلى هَذَا اليُسْرِ والتَّخْفِيفِ عَلَيْهِنَّ.
__________
(1) عمدة القاري (3/301).
(2) التمهيد (22/107).(1/3)
السابع: إذا طَهَرتِ المرْأَةُ بَعْدَ طُلُوعِِ الفَجْرِ مُبَاشَرَةً فَلا يَصِحُّ مِنْها صِيَامُ ذَلِكَ اليَومِ، وعَلَيْهَا القَضَاءُ؛ لأنَّ الفَجْرَ دَخَلَ عَلَيْها وهيَ حَائِضٌ.
الثامن: إِذا حَاضَتِ المرْأَةُ قبْلَ الغُرُوبِ بِلَحْظَةٍ بَطَلَ صِيَامُهَا وَعَليْها القَضَاء (1) .
التاسع: إِذا حَاضَتِ المرْأَةُ بَعْدَ الغُرُوبِ بِلَحْظَةٍ صَحَّ صَوْمُهَا ذَلكَ اليَوم.
العاشر: إِذا أَحَسَّت المرْأَةُ بانْتِقَالِ دَمِ الحَيْضِ وَهيَ صَائِمَةٌ، أَو بآلامِهِ لَكنْ لم يَخْرُجْ مِنْهَا إِلَّا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ صَحَّ صَوْمُها (2) .
الحادي عشر: يُسْتَفَادُ مِنْ الحَدِيثِ أَنَّ لِلْمَريضِ تَرْكَ الصِّيامِ وَلَوْ كَانَ فيه بَعضُ القُوَّةِ إِذا كَانَ يَدْخُلُ عَليهِ المشَقَةُ والخَوْفُ مِنْ ازْدِيادِ المرَضِ، فَالحَائِضُ لَيسَتْ تَضْعُفُ عَنِ الصِّيامِ ضَعْفاً وَاحِداً، وإِنَّما يَشُقُّ عَليهَا مِنْ أَجْلِ نَزْفِ دَمِها، وَنَزْفُ الدَّمِ مَرَض (3) .
... ... ( ( (
__________
(1) فتاوى اللجنة الدائمة (10/155) فتوى رقم (10343).
(2) هذه الفتوى لابن عثيمين، انظر: الفتاوى الجامعة للمرأة المسلمة (1/325).
(3) شرح ابن بطال على البخاري (4/97-98).(1/4)
15- فضلُ تفطيرِ الصائم
عَنْ زَيدِ بنِ خَالِدٍ الجُهْنيِّ - رضي الله عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ الله ? : «مَن فَطَّرَ صَائماً كَانَ له مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لا يَنقُصُ مِن أَجْرِ الصَّائِمِ شَيئاً» رواه الترمذي وقَالَ: حسن صحيح (1) .
وفي رِوايةٍ: «مَنْ فَطَّر صَائماً أَطعَمَهُ وسَقَاهُ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنقُصَ مِنْ أَجْرِهِ شَيء» (2) .
وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّهُ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ لِيُفْطِرَ عِنْدَهَا فَفَعَل، وقَالَ : «إنِّي أُخْبِرُكِ أَنَّهُ لَيسَ مِنْ رَجُلٍ يُفْطِرُ عِنْدَ أَهْلِ بَيْتٍ إلاّ كَانَ لهم مِثْلُ أَجْرِهِ، فقَالَتْ: وَدِدْتُ أَنَّك تَتَحيَّنُ - أَو نَحْوَ ذَلكَ - لِتفطِرَ عِندِي، قَالَ: إِني أُرِيدُ أَنْ أَجْعَلَهُ لأَهْلِ بيتِي» (3) .
الفوائد والأحكام:
الأول: فَضْلُ الله عَزَّ وَجَلَّ بِفَتْحِ مَيَادِينِ الخَيراتِ، واكتِسَابِ الحَسَناتِ لهم، ومِنْ ذَلكَ: النَّدبُ إلى الإحسَانِ إلى النَّاسِ، وتَرتِيبُ الأُجُورِ العَظِيمَةِ على ذلك (4) .
الثاني: فَضِيلَةُ تَفْطِيرِ الصَّائِمِ، وأَنَّ مَنْ فَطَّرَهُ كَانَ له مِنَ الأَجْرِ مِثلُ أَجرِهِ.
__________
(1) رواه الترمذي (807) وابن ماجه (1746) والنسائي في الكبرى (3330-3331) وصححه ابن خزيمة (2064) وابن حبان (3429) وجاء موقوفاً على عائشة رضي الله عنها عند النسائي في الكبرى (3332) وعلى أبي هريرة - رضي الله عنه - عند عبدالرزاق (7906).
(2) هذه الرواية لعبدالرازق (7905) والطبراني في الكبير (5/256) رقم (5269).
(3) رواه عبدالرزاق في مصنفه (7908).
(4) انظر: عارضة الأحوذي (4/21).(1/1)
الثالث: أَنَّ اللهَ تَعَالى يُكافِئُ المُفَطِّرَ لِلصَّائِمِ على ذَلكَ مِنْ عِندِهِ عَزَّ وَجَلَّ، لا مِنْ أَجْرِ صِيامِ الصَّائمِ، فلا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيء، وهَذَا مِنْ دَلائِلِ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ جَلَّ في عُلاه (1) .
الرابع: فيهِ مَشْرُوعِيَّةُ قَبُولِ الدَّعْوةِ على الإِفْطَارِ، وأَنَّ رَدَّهَا تَوَرُّعاً، أَو خَوْفاً مِنْ نَقْصِ الأَجْرِ يُعَدُّ مِنَ التَّنَطُّعِ والغُلُوِّ؛ لأَنَّ أَجْرَ الصَّائِمِ لا يَنقُصُ بإِفطَارِهِ عندَ غيِرهِ، إِلَّا إِذا كَانَت الدَّعْوَةُ إِلى الإِفطَارِ مَقْصُورةً على الفُقَرَاءِ وهو غَنِي.
الخامس: فيه مَشْرُوعِيَّةُ بِرِّ الأَهْلِ والأقرَبِينَ، وتَطْييبِ خَوَاطِرِهِم بِقَبُولِ دَعْوَتِهم، والإِفطَارِ عِندَهُمْ؛ ليَنَالُوا الأجْرَ كما فَعَل أَبو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - .
السادس: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَصْدُ المُفَطِّرِ للصَّائِمِ: نفعَ نفسِهِ بحصولِ أَجْرِ التَّفطِيرِ، وإِكْرَامَ أَخِيهِ بِتَقْدِيمِ الطَّعامِ والشَّرابِ له، لاسِيَّما إِذا كَانَ فَقِيراً.
السابع: أَنَّ التَّفْطِيرَ يَحْصُلُ بِدَعْوةِ الصَّائِمِ إِلى المنزِلِ، أَوْ صُنْعِ الطَّعَامِ وإِرْسَالهِ له، أَو شِرَاءِ الطَّعَامِ له، ويَنْبغِي الحَذرُ مِنْ الإِسْرَافِ في ذلك، ولاسيَّما مع انتشَارِ موَائِدِ التَّفْطِيرِ في هَذِهِ الأَزْمِنَة.
الثامن: لو أَعْطَى الفَقِيرَ مالاً ليَشتَريَ به طَعَامَاً، فَاشْتَرى بِبَعْضِهِ طَعَامَاً وادَّخَرَ بَعضَهُ لحَاجَاتِهِ، فالظَّاهِرُ أَنَّ أحَادِيثَ التَّفْطيرِ تَتَناولُهُ، مَعَ مَا يَتَحقَّقُ منَ المصلَحَةِ الرَّاجِحَةِ للفَقِيرِ بادِّخارِ مالٍ يَنفَعُهُ.
__________
(1) انظر: فيض القدير (6/187).(1/2)
16- فضلُ العمرةِ في رمضان
عَنِ ابنِ عَباسٍ رَضيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: «لما رَجَعَ النَّبيُّ ? من حَجَّتِه قَالَ لأُمِّ سِنَانٍ الأَنْصَارِيَّةِ: مَا مَنَعَكِ مِنَ الحجِّ؟ قَالَتْ: أَبُو فُلان – تَعْني: زَوْجَهَا – كَانَ لَهُ نَاضِحَان – أَيْ: بَعِيران يَسْقِي عَلَيهِما - حَجَّ على أَحَدِهِمَا، والآخَرُ يَسقِي أَرضَاً لَنَا، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «فَإِنَّ عُمْرَةً في رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً مَعي». رواه الشيخان (1) .
وفي رِوايةٍ لهما: قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ : «فإِذا جَاءَ رَمَضَانُ فاعتَمرِي فإنَّ عُمْرةً فيه تَعْدِلُ حَجَّة» (2) .
وعَنْ أُمِّ مَعْقِلٍ رَضيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبيَّ ? قَالَ لها: «اعْتَمرِي في رَمَضَانَ فإنَّها كَحَجَّة» رواه أبو داود (3) .
وَجَاءَ مِثْلُهُ عَنْ جَابرٍ وَأَنَسٍ وَأَبي هُرَيْرَةَ وَوَهْبِ بنِ خَنْبَشٍ رَضيَ الله عَنْهُمْ (4) .
قَوْلُهُ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «فإنَّ عُمْرةً فيه تَعدلُ حَجَّة» قَالَ ابنُ بَطَّال رَحِمهُ اللهُ تَعَالى: «يَدُلُّ على أَنَّ الحَجَّ الَّذِي نَدَبَها إِليهِ كَانَ تَطَوُّعاً؛ لإِجْماعِ الأُمَّةِ على أَنَّ العُمْرَةَ لا تُجْزيءُ مِنْ حَجَّةِ الفَريضَةِ... وقَوْلُهُ (كَحَجَّة) يُرِيدُ في الثَّوابِ، والفَضَائِلُ لا تُدْرَكُ بِالقِياس، واللهُ يُؤْتي فَضْلَهُ مَنْ يَشَاء» (5) .
الفوائد والأحكام:
__________
(1) رواه البخاري (1764) ومسلم (1256) وما بين الحاصرتين ليس من الحديث.
(2) هذه الرواية للبخاري (1690) ومسلم (1256).
(3) رواه أبوداود (1989) والنسائي في الكبرى (4226) والترمذي وقال: حديث حسن غريب (939) وصححه ابن خزيمة (3075) والحاكم وقَالَ: على شرط مسلم (1/656).
(4) انظر جامع الترمذي (3/276).
(5) شرح ابن بطال (4/428) وانظر: منحة الباري (4/233).(1/1)
الأول: رَحمةُ الله تَعَالى بِعِبَادِهِ وفَضْلُهُ عَلَيهِم؛ إذْ رَتَّبَ أُجُورَاً عَظِيمَةً عَلى أَعْمالٍ قَليلةٍ فَنَحْمِدُ اللهَ تَعَالى كَثيراً.
الثاني: فيه حِرْصُ النَّبيِّ ? عَلى أُمَّتِّهِ، وتَفَقُّدُ رَعِيَّتِهِ، والسُّؤالُ عَنْهُم، وقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أَنْصَحَ النَّاسِ للنَّاسِ، وهَكَذَا يَجِبُ عَلى كُلِّ مَنْ وَلاَّهُ الله تَعَالَى رَعِيَّةً أَنْ يَرْفُقَ بِهم، وَيَنْصَحَ لَهم، وَيَتَفَقَّدَ أَحْوَالَهم، وَيَعْمَلَ مَا يُحقِّقُ مَصَالحَهُم الدِينِيَّة والدُّنْيَوِيَّة.
الثالث: أَنَّ العُمرَةَ في رَمَضَانَ لا تُجزيءُ عَنْ حَجَّةَ الإِسْلامِ، فَهي تَعدِلُ حَجَّةً في الثَّوابِ، ولا تَقُومُ مَقَامَهَا في إِسْقَاطِ الفَرْضِ، وَقَدْ أَجْمعَ العُلماءُ على ذلك (1) .
الرابع: أَنَّ ثوَابَ العَمَلِ يَزيدُ بِزيَادَةِ شَرَفِ الوَقْتِ، كَما يَزيدُ بِحُضُورِ القَلْبِ وبِخُلُوصِ القَصْدِ (2) .
الخامس: أَنَّ هَذا الحَديثَ وأَمثَالَهُ، مِثْلُ مَا جَاءَ أَنَّ (قُلْ هُوَ الله أَحَدٍ)، تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرآنِ أَيْ: في الثَّوَابِ، ولا تَقُومُ مَقَامَ قِرَاءَةِ القُرآن (3) .
السادس: أَنَّ العُمرَةَ هُنَا أَدْرَكَتْ مَنْزلَةَ الحَجِّ، لِكونِهَا في رَمَضَانَ وهُوَ مَوسِمٌ عظيمٌ، «فاجتَمَعَ للمُعتَمِرِ في رَمَضَانَ: حُرمَةُ شَهْرِ رَمَضَانَ، وحُرمَةُ العُمْرةِ، وصَارَ مَا في ذَلكَ مِنْ شَرَفِ الزَّمَانِ والمَكَانِ يُنَاسِبُ أَنْ يُعْدَلَ بما في الحجِّ من شرَفِ الزَّمانِ وهُو أَشْهُرُ الحَجِّ وشَرَفُ المَكَانِ» (4) .
__________
(1) انظر: فتح الباري لابن حجر (3/604) وتحفة الأحوذي (4/7).
(2) انظر: فتح الباري (3/604) وعون المعبود (5/323) وفيض القدير (4/361).
(3) ذكره الترمذي في جامعه عن إسحق بن راهويه (3/276).
(4) انظر: مجموع الفتاوى (26/293).(1/2)
إِضَافَةً إِلى مَا في العُمْرَةِ في رَمَضَانَ مِنَ المشَقَّةِ، وشِدَّةِ النَّصَبَ مِنْ عَمَلِ العُمْرَةِ في الصَّوْمِ، أَو الفِطْرِ لأَجْلِ السَّفَرِ إِلى ذَلكَ ثُمَّ القَضَاءِ، ولَيْسَ في العُمْرَةِ في غَيرِ رَمَضَانَ مِثلُ هَذهِ المشَقَّةِ. وقَدْ قَالَ النَّبيُّ ? لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا وقَدْ أَمَرَهَا بالعُمْرَة: «إِنَّها عَلى قَدْرِ نَصَبِك، أَو قَالَ: عَلى قَدْرِ نَفَقَتِك» رواه مسلم (1) .
السابع: أَنَّ هذا الفَضلَ يَحوزُهُ من أدَّى مَنَاسِكَ العُمرَةِ في رَمَضَانَ ولَوْ لمَ يَبقَ في مَكَّةَ بَلْ رَجَعَ فَورَاً بَعدَ عُمرَتِهِ.
الثامن: لا يَصِحُّ أَنْ يُفْهَمَ مِنْ هَذهِ الأحَاديثِ الإِكثَارُ مِنَ العُمْرَةِ في رَمَضَانَ بِالخُرُوجِ إلى الحِلِّ والإتيَانِ بِعُمْرَاتٍ كَثيرَةٍ في الشَّهْرِ الوَاحِدِ، أو رُبَّما كَرَّارَهَا في اليَومِ الواحِدِ، وهَذَا العَمَلُ الَّذِي انتَشَرَ في هذا الزَّمَنِ خِلافُ السُّنَّةِ، وخِلافُ فِعْلِ الصَّحَابةِ رَضيَ اللهُ عَنْهُمْ، فَلم يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُم أَنَّهُ كَانَ يُكْثِرُ من الاعْتمارِ في السَّفَرِ الوَاحِدِ (2) .
التاسع: أَنَّهُ يَجبُ عَلى مَنْ اعْتَمَرَ في رَمَضَانَ، واخْتَارَ المجَاورَةَ عِنْدَ بَيتِ الله الحرَامِ في رَمَضَانَ أَو في العَشْرِ الأَخِيرَةِ مِنْهُ أَنْ يَحفَظَ جَوَارِحَهُ مما حَرَّمَ اللهُ تَعَالى؛ لأَنَّ السَّيئَةَ في مَكَّةَ أَعْظَمُ مِنْهَا في غَيْرِهَا، فَكَيفَ وَقَدْ انْضَمَّ إلى ذَلكَ حُرمَةُ رَمَضَانَ؟
__________
(1) رواه مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها (1211) وانظر: المفهم (3/370).
(2) انظر: مجموع الفتاوى (26/292) وزاد المعاد (2/93) وتهذيب السنن (7/36).(1/3)
العاشر: أَنَّهُ يَجبُ عَلى مَنْ اصْطَحَبَ أَهْلَه وَأَوْلَادَهُ مَعَهُ للمُجَاوَرَةِ عِنْدَ الحَرَمِ في رَمَضَانَ أَنْ يحفَظَهُم مِنَ الوُقُوعِ في المحَرَّمَاتِ؛ لِئلَّا يُجاوِرَ عِنْدَ الحرَمِ يُرِيدُ الأَجْرَ، فَيَحْمِلُ مِنَ الوِزْرِ أَكْثَرَ مِنَ الأَجْرِ بِسَبَبِ تَفْريطِهِ وتَضْييعِهِ لأَهلِهِ وَأَوْلادِه.
الحادي عشر: إِذَا أَحْرَمَ بالعُمْرَةِ، وَوَصَلَ مَكَّةَ وهُو صَائِمٌ، وَكَانَ بَينَ أَمْرَين: أَنْ يُفْطِرَ ويُؤَدِّيَ العُمْرَةَ، أَوْ يَنْتَظِرَ إِلى الغُرُوبِ، فَإِذَا أَفْطَرَ أَدَّاهَا، فَالأَفْضَلُ أَنْ يُفْطِرَ في النَّهَارِ ويُؤَدِّيَ عُمْرَتَه؛ لأَنَّ الأَفْضَلَ في العُمْرَةِ أَنْ تُؤَدَّى حِينَ الوُصُولِ إِلى مَكَّةَ كَما فَعَلَ النَّبيُّ ?.
( ( ((1/4)
17- فضلُ السُّحور (1)
...
عَنْ أَبي سَعيدٍ الخُدْريِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ?: «السَّحُورُ أَكْلُهُ بَرَكَةٌ فَلا تَدَعُوهُ وَلَو أَنْ يَجرَعَ أحَدُكُمْ جُرْعَةً مِنْ مَاءٍ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ ومَلائِكتَهُ يُصَلُّونَ عَلى المُتسَحِّرينَ» رَوَاهُ أَحْمَد (1) .
وعَنْ عَبْدِالله بنِ الحَارِثِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبيِّ ? : «أنَّ رَجُلاً دَخَلَ عَلى النَّبيِّ ? وَهُوَ يَتَسَحَّرُ فقَالَ: إِنَّ السَّحُورَ برَكَةٌ أَعْطَاكُمُوهَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ فَلا تَدَعُوهَا» رَوَاهُ أَحْمَدُ والنَّسَائي (2) .
وعَنْ أَبي سَوَيدٍ - رضي الله عنه - وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبيِّ ? - أَنَّ رَسُولَ الله ? قَالَ: «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى المُتسَحِّرينَ» قَالَ عُبَادةُ بنُ نَسي: وكَانَ يُقَالُ: «تَسَحَّرُوا ولَوْ بِمَاءٍ فإِنَّهُ كَانَ يُقَالُ: إِنَّهَا أكلَةُ بَرَكَة» رَوَاهُ ابنُ أَبي عَاصِمٍ (3) .
وعَنْ ابنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ?: «إنَّ اللهَ ومَلائِكتَهُ يُصَلُّونَ عَلى المُتسَحِّرِين» رواه ابن حبان (4) .
__________
(1) رواه أحمد (3/12) وصححه السيوطي في الجامع الصغير (4801) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3683).
(2) رواه أحمد (5/370) والنسائي (4/145) وصححه الألباني في صحيح الجامع (1636).
(3) رواه البزار (974) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني واللفظ له (2758) والطبراني في الكبير (22/337) برقم (845) وحسنه الحافظ ابن حجر في مختصر زوائد مسند البراز (691).
(4) رواه أبو نعيم في الحلية (8/320) وصححه ابن حبان (3467) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1844) وذكره في الصحيحة (1654).(1/1)
وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبيِّ ? قَالَ: «نِعْمَ سَحُورُ المؤْمِنِ التَّمْر» رَوَاهُ أَبو دَاودَ (1) .
الفوائد والأحكام:
الأول: فَضْلُ السَّحُورِ وأَنَّهُ بَرَكَةٌ، ورُخصَةٌ من الله تَعَالَى فنَحمَدُ الله عز وجل عَلَيهَا.
الثاني: أَنَّ مِن بَرَكَتِه: صَلاةُ الله تَعَالَى ومَلائِكتِهِ عَلَيْهم السَّلامُ على المُتَسَحِّرين، والصَّلاةُ مِنَ الله تَعَالَى على المُتَسَحِّرين معناها: رَحمَتُهُم والرِّضى عَنْ فِعلِهِم، والثَّنَاءُ عَلَيْهِم به، وصَلاةُ الملائِكَةِ عَلَيْهِم مَعْنَاهَا: استِغفَارُهُم لَهم (2) .
الثالث: نهيُ النَّبيِّ ? عَنْ تَركِ السَّحُور؛ وهَذَا يقتَضِي تَأْكِيدَه.
الرابع: أَنَّ السَّحُورَ يَقَعُ بِأَيِّ شَئٍ مَهْمَا قلَّ، وَلَوْ كَانَ جُرْعَةَ مَاءٍ كَما هُوَ ظَاهِرٌ في الأحادِيثِ.
الخامس: أَنَّ مِنْ أَفْضَلِ السَّحُورِ السَّحُورَ على التَّمْرِ؛ إِذ أَثنَى النَّبيُّ ? عَلَيه.
السادس: يَنْبغِي لِلْمُسْلمِ المُحَافظةُ عَلى هَذِهِ السُّنَّةِ العَظِيمةِ، والتَّسحُّرُ وَلَو بشَيءٍ قَلِيلٍ.
... ... ( ( (
__________
(1) رواه أبو داود (2345) والبيهقي (4/236) وصححه ابن حبان (3475) والألباني في صحيح أبي داود.
(2) انظر: شرح قصيدة ابن القيم (20) وفتح الباري لابن حجر (11/156) وفيض القدير (3/137).(1/2)
18- فضلُ السُّحُور (2)
...
عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبيُّ ? : «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ في السَّحُور بَرَكَةً» رواه الشيخان (1) .
وعَنْ عَمْروِ بنِ العَاصِ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله ? قَالَ: «فَصْلُ مَا بَينَ صِيامِنَا وصِيَامِ أَهْلِ الكِتَابِ أَكَلَةُ السَّحَر» رواه مسلم (2) .
وعَنِ العِرْبَاضِ بنِ سَارِيَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: «دَعَاني رَسُولُ الله ? إلى السَّحُور في رَمَضَانَ فقَالَ: هَلُمَّ إلى الغَدَاءِ المُباركِ» رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان (3) .
وعَنِ المقْدَامِ بنِ مَعْدِ يَكْرِبَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبيِّ ? قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِغَدَاءِ السَّحُور؛ فَإِنَّهُ هُوَ الغَدَاءُ المبَارَك» رواه النسائي (4) .
والمعنى: الزموه ولا تتركوه.
وقَوله: «فَإِنَّ في السُّحُورِ بَرَكَة» السَّحُور بِفَتْحِ السِّينِ اسمٌ للطَّعَامِ الَّذي يُتَسَحَّرُ به، وبِضَمِّهَا يَكونُ مَصْدَراً أي: التَّسَحُّر، وهوَ مُشْتَقٌّ من السَّحَر وهوَ آخرُ اللَّيل (5) .
__________
(1) رواه البخاري (1823) ومسلم(1095) وقد جاء عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم منهم: أبو هريرة وأبو سعيد وابن مسعود وجابر وعائشة وعمرو بن العاص، وحذيفة، والعرباض، وأبو ليلى وطلق واليعيش بن طلق، وجاء أيضاً عن عمر وعتبة بن عبد وأبي الدرداء وسلمان رضي الله عنهم، انظر: شرح ابن الملقن على العمدة (5/189) ومجمع الزوائد (3/154).
(2) رواه مسلم (196).
(3) رواه أحمد(4/126) وأبو داود (2344) والنسائي(4/145) وصححه ابن خزيمة (1938) وابن حبان (3465) والألباني في صحيح أبي داود.
(4) رواه النسائي (4/146) وأحمد (4/142) وصححه الألباني في صحيح النسائي.
(5) انظر: فتح الباري لابن حجر(4/140) وتوضيح الأحكام (3/155).(1/1)
والبَرَكَةُ هي ثُبُوتُ الخَيرِ الإلَهي في الشَّيءِ وكَثرَتُهُ واسْتِمْرَارُهُ شَيْئاً بَعْدَ شَيء (1) .
وقوله ?: «هَلُمَّ إلى الغَدَاءِ المُبارَكِ» سُمِّيَ السُّحُورُ غَدَاءً؛ لأَنَّ الغَدَاءَ مَأْكُولُ الصَّبَاحِ فَيقُومُ السُّحُورُ مَقَامَهُ.
قَالَ الخطَابيُّ رَحِمهُ اللهُ تَعَالَى: «إنَّما سَمَّاه غَدَاءً لأنَّ الصَّائِمَ يتقَوَّى به على صِيَامِ النَّهارِ فكَأَنَّهُ قد تَغَدَّى، والعَرَبُ تَقُولُ: غَدَا فُلانٌ لِحَاجَتِهِ إِذا بَكَّر فيها، وذَلكَ مِنْ لَدُنْ وَقتِ السَّحُورِ إِلى طُلُوعِ الشَّمس» (2) .
الفوائد والأحكام:
الأول: ثُبوتُ البَرَكَةِ في السُّحُورِ، واللهُ تَعَالَى يُبَارِكُ مَا شَاءَ مِنْ خَلقِهِ، ومن ذَلكَ: مبُاركَةُ السُّحُور.
الثاني: أَجْمَعَ العُلَماءُ على اسْتِحْبَابِ السُّحُور، وأَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وهُو مِنْ خَصَائِصِ هَذهِ الأُمَّةِ في صَوْمِها (3) .
الثالث: من بَركَاتِ السُّحُور:
1- الامْتِثَالُ لِلأَمْرِ الشَّرْعِيِّ؛ إِذ أَمَرَ النَّبيُّ ? به، وأَكَّدَ عَلَيهِ، وَطَاعَةُ الرَّسُولِ ? فيهَا صَلاحُ حَالِ العَبدِ في مَعَاشِهِ ومَعَادِهِ (4) .
2- أَنَّ في السُّحُورِ مُخالَفَةً لأهْلِ الكِتابِ؛ لأَنَّهُم لا يَتَسَحَّرُون (5) ، ومُخَالَفَتُهُم أَصْلٌ عَظِيمٌ من أُصُولِ دِينِنا؛ ولِذا حُرِّمَ التَّشبُّه بهم في شَعَائِرِهِم ومَا اخْتُصُّوا به مِنْ عَادَاتِهِم وأخْلاقِهِم.
__________
(1) انظر: المفردات للراغب (44) وتفسير القرطبي (4/139) وبدائع الفوائد (2/182-183).
(2) انظر: معالم السنن بهامش أبي داود (2/758) وعون المعبود (6/337).
(3) انظر: شرح ابن الملقن على العمدة (5/188) وذخيرة العقبى (20/366).
(4) انظر: فتح الباري (4/140) وتوضيح الأحكام (3/155).
(5) المصدران السابقان، وشرح النووي على مسلم (7/207).(1/2)
3- أَنَّ في السُّحُورِ قوَّةً على الصِّيَامِ، وعلى طَاعَةِ الله عَزَّ وَجَلَّ في النَّهارِ، ومُدَافَعَةَ سُوءِ الخُلُقِ الَّذِي يَنتُجُ عَنْ الجُوعِ والعَطَشِ (1) .
4- أَنَّهُ يَتهيَّأُ للمُتَسَحِّرِ مِنَ الاسْتِغْفَارِ والذِّكرِ والدُّعَاءِ في وَقْتٍ هُوَ مَظِنَّةُ إجَابَةٍ ما لا يَتَهَيأُ لِلنَّائِمِ، وقَدْ أَثْنَى اللهُ تَعَالَى على المُستَغْفِرِينَ بالأَسْحَار.
5- أَنَّ المُتَسَحِّرَ سَيَأتِي بِصَلاةِ الفجرِ في وقتِهَا مع جَماعةِ المُسلِمِين، ولَرُبَّما بَكَّرَ إِلى المسْجِدِ فَنَالَ فَضِيلَةَ الصَّفِّ الأوَّلِ والقُرْبِ مِنَ الإِمَام، مَعَ فَضِيلَةِ متابَعَةِ الأذانِ، والإتيانِ بسنَّةِ الفَجرِ الرَّاتِبَةِ في وَقتِها، وهِيَ مِنْ آكَدِ السُنَنِ، وجَاءَ في الحَديثِ أَنَّهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيا ومَا فيهَا.
6- أَنَّهُ يَتَهَيَّأُ لِلمُتَسَحِّرِ الصَّدَقةُ بِبَعْضِ طَعَامِهِ مَنْ يَسأَلُه، أَو يَجتمِعُ لِلأَكْلِ مَعَه فَيَنَالُ أَجْرَهُ مَعَ أَجْرِهِ (2) .
7- أَنَّ في السُّحُورِ شكراً لِنعمَةِ الله تَعَالَى، وأَخْذَاً بِرُخْصَتِهِ؛ إِذْ أَبَاحَ لنَا الأَكْلَ مِنَ الغُرُوبِ إِلى الفَجْرِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُحرَّماً في أَوَّلِ الأَمرِ (3) .
الرابع: يَنْبَغِي لِلمُسلِمِ أَنْ لا يُفَرِّطَ في هَذهِ السُنَّةِ العَظيمَةِ، ولا سِيَّما أَنَّ النَّبيَّ ? قَالَ: «فَلا تَدَعُوه» وأَنْ يَحتَسِبَ الأجْرَ فيها مُستَحْضِراً النيَّةَ الصَّالحةَ، وأَنْ لا يَكُونَ سُحُورُهُ مِنْ بَابِ العَادَة (4) .
__________
(1) انظر: فتح الباري (4/140).
(2) انظر: المصدر السابق (4/140).
(3) انظر: عون المعبود (6/336).
(4) انظر: توضيح الأحكام (3/156) والصارف للأمر عن الوجوب أحاديث وصاله عليه الصلاة والسلام، وأنه واصل بأصحابه رضي الله عنهم، ولو كان السحور واجباً ما واصل بهم، وانظر: ذخيرة العقبى (20/366).(1/3)
الخامس: مَشْرُوعِيَّةُ الدَّعوَةِ إلى السُّحُورِ، وإِجَابَةِ الدَّاعِي، فَإِنَّ النَّبيَّ ? دَعَا العِربَاضَ بنَ سَارِيَة - رضي الله عنه - إِلى التَّسَحُّرِ مَعَهُ، والاجْتِماعِ عَلى الأَكْل، وفي بَعْضِ أَلفَاظِ الحَدِيثِ «هَلُمُّوا إلى الغَدَاء المُبارَكِ» (1) .
السادس: قَالَ الخَطَابيُّ رَحِمهُ اللهُ تَعَالَى: «وفيه إِعْلامٌ بأَنَّ هذا الدِّينَ يُسْرٌ لا عُسْرَ فيه، وكَانَ أَهْلُ الكِتابِ إذا نَامُوا بَعْدَ الإِفطَارِ لم يَحِلَّ لهُم مُعَاوَدَةُ الأَكلِ والشُّرْبِ إِلى وَقتِ الفَجْرِ، وقَدْ يَسَّرَ اللهُ تَعَالَى عَلَينا بِقَولِهِ عَزَّ وَجَلَّ: [وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ] {البقرة:187} (2) فنَحْمَدُ اللهَ تَعَالَى حَمْداً كَثِيراً عَلَى نِعَمِهِ الَّتي لا تُحْصَى.
( ( (
__________
(1) هذه الرواية للنسائي من حديث العرباض - رضي الله عنه - (4/145) وصححها الألباني في صحيح النسائي.
(2) معالم السنن (2/757) وعون المعبود (6/336).(1/4)
19- وَقْتُ السَّحُور
...
عَنْ ابنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ?: «لا يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ أَذَانُ بِلالٍ مِنْ سُحُورِهِ فَإِنَّهُ يُؤَذِّنُ أَوْ قَالَ: يُنَادِي لِيَرْجِعَ قَائِمُكُمْ وَيُنَبِّهَ نَائِمَكُمْ وَلَيْسَ الفَجْرُ أَنْ يَقُولَ هَكَذا - وجَمَعَ يَحيَى بنُ سَعِيدٍ القَطَانُ كَفَّيْهِ - حَتَّى يَقُولَ هَكَذَا - ومَدَّ يَحيى إِصْبَعَيْهِ السَّبَابَتَينِ». رواه الشيخان (1) .
وعَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ - رضي الله عنه - قَالَ: «كُنْتُ أَتَسَحَّرُ في أَهْلي ثُمَّ يَكُونُ سُرْعَةٌ بي أَنْ أَدْرِكَ صَلاةَ الفَجْرِ مَعَ رَسُولِ الله ?».
وفي رِوَايَةٍ للبُخَاريِّ: «ثُمَّ تَكُونُ سُرْعَتِي أَنْ أُدْرِكَ السُّجُودَ مَعَ رَسُولِ الله ?» (2) .
وعَنْ زِرِّ بنِ حُبَيشٍ رَحِمَهُ الله تَعَالى قَالَ: «تَسَحَّرْتُ مَعَ حُذَيْفَةَ، ثُمَّ خَرَجْنَا إِلى الصَّلاةِ، فَلما أَتَيْنَا المسْجِدَ صَلَّيْنا رَكْعَتَينِ، وَأُقِيمَتْ الصَّلاةُ، وَلَيْسَ بَيْنَهُما إِلاّ هُنَيْهَةٌ» رَوَاهُ النّسائي (3) .
قَوْلُهُ: «لِيَرْجِعَ قَائِمُكُمْ» مَعْناهُ: أَنَّ بِلالاً - رضي الله عنه - إِنَّما يُؤَذِّنُ بِلَيلٍ لِيُعْلِمَكُمْ بِأَنَّ الفَجْرَ لَيْسَ بِبَعيدٍ، فَيَرُدَّ القَائِمَ المتَهَجِّدَ إِلى رَاحَتِهِ لِيَنَامَ غَفْوَةً لِيُصْبحَ نَشِيطاً، أَوْ يُوتِرَ إِنْ لم يَكُنْ أَوْتَرَ، أَوْ يَتَأَهَّبَ لِصَلاةِ الفَجْرِ إِنْ احْتَاجَ إِلى طَهَارَةٍ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ مَصَالحِهِ المتَرَتِبةِ عَلى عِلْمِهِ بِقُرْبِ الصُّبْحِ (4) .
__________
(1) رواه البخاري (6820) ومسلم (1093).
(2) رواه البخاري (552) والرواية الثانية للبخاري (1820) وأبي يعلى (7533).
(3) رواه النسائي (4/124) وصححه الألباني في صحيح النسائي.
(4) شرح النووي على مسلم (7/204) وانظر: المفهم (3/153).(1/1)
قَوْلُهُ: وَيُوقِظَ نَائِمَكُمْ: أَيْ لِيَتَأَهَّبَ لِلصُّبْحِ بِفِعْلِ مَا أَرَادَ مِنْ تَهَجُّدٍ قَلِيلٍ، أَوْ إِيتَارٍ إِنْ لم يَكُنْ أَوْتَرَ، أَوْ سُحُورٍ إِنْ أَرَادَ الصَّوْمَ، أَوْ اغْتِسَالٍ أَوْ وُضُوءٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلكَ مما يَحتَاجُ إِلَيْهِ قَبْلَ الفَجْرِ (1) .
الفوائد والأحكام:
الأول: أَنَّ النَّبيَّ ? وصَحَابَتَهُ رَضيَ اللهُ عَنْهُمْ كَانُوا يُؤَخِّرُونَ السُّحُورَ إِلى قُرْبِ الفَجْرِ، حَتَّى جَاءَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنهُم يَختَصِرُونَ فِيهِ، ويَسْتَعْجِلُونَ خَوْفَ الفَوَاتِ، فَالسُّنةُ إذاً تَأْخِيرُ السُّحُورِ إِلى قُرْبِ الفَجْرِ (2) .
الثاني: جَوازُ العَجَلَةِ في الأَكْلِ عِنْدَ الحَاجَةِ، وبَوَّبَ عَلَيْهِ البُخَارِيُ فَقَالَ: بَابُ تَعْجِيلِ السُّحُورِ أَيْ: الإِسْرَاعِ بِالأَكْلِ (3) ، وَرَوَى مَالِكٌ عَنْ عَبدِالله بنِ أَبي بَكْرٍ عَنْ أَبيهِ قَالَ: «كُنَّا نَنَصَرِفُ في رَمَضَانَ – أَيْ مِنْ صَلاةِ الَّليلِ – فَنَسْتَعْجِلُ الخَدَمَ بالطَّعَامِ مَخافَةَ الفَجْرِ» (4) .
( ( (
...
__________
(1) السابق (7/204) والمفهم (3/153).
(2) فتح الباري (4/138).
(3) صحيح البخاري (2/678) وانظر: الفتح (4/137).
(4) رواه مالك (1/116) والبيهقي (2/497).
.(1/2)
20- وَقْتُ السُّحُور (2)
... ...
عَنْ عَبْدِالله بنِ عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ الله ? قَالَ: "إِنَّ بِلالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ثُمَّ قَالَ: وَكَانَ رَجُلاً أَعْمَى لا يُنَادي حَتَّى يقَالَ لَهُ: أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ" رواه الشيخان.
وفي رِوَايَةٍ لمسْلِمٍ: "كَانَ لِرَسُولِ الله ? مُؤَذِّنانِ: بِلالٌ وابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الأَعْمَى فَقَالَ رَسُولُ الله ?: إِنَّ بِلالاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا واشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُوم قَالَ: وَلم يَكُنْ بَيْنَهُما إِلاّ أَنْ يَنْزِلَ هَذا ويَرْقَى هَذَا" (1) .
وَعَنْ سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ?: "لا يَغُرَّنكُمْ مِنْ سُحُورِكُم أَذانُ بِلالٍ ولا بَياضُ الأُفِقِ المسْتَطِيلِ هَكَذا، حَتَّى يَسْتَطيرَ هَكَذا" وَحَكَاهُ حَمادُ بنُ زَيْدٍ بِيَدَيْهِ، قَالَ: يَعْنِي مُعْتَرِضاً. رواه مسلم
وفي رِوَايَةٍ للنسائي: "لا يَغُرَّنكُمْ أَذانُ بِلالٍ، ولا هَذَا البَيَاضُ حَتَّى يَنْفَجِرَ الفَجْرُ هَكذَا وَهَكَذا" يَعْني: مُعْتَرضاً. قَالَ أَبو دَاوُدَ الطَيالِسيُ: وَبَسَطَ بِيدَيْهِ يَمِيناً وشِمالاً مَادَّاً يَدَيْهِ (2) .
وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ?: "إِذَا سَمِعَ أَحَدُكُمْ النِّدَاءَ والإِنَاءُ عَلى يَدِهِ فَلا يَضَعْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنهُ" رواه أبو داود وصححه الحاكم (3) .
__________
(1) رواه البخاري (592) ومسلم (1092).
(2) رواه مسلم (1094) وأبو داود (2346) والترمذي (706) والنسائي (4/148).
(3) رواه أبو داود (2350) وأحمد (2/510) والدارقطني (2/165) والبيهقي (4/218) وصححه الحاكم وقال: على شرط مسلم ووافقه الذهبي (1/588).(1/1)
وَزَادَ في رِوَايَةٍ لِلإِمامِ أحْمَدَ: "وَكَانَ المؤَذِّنُ يُؤَذِّنُ إِذا بَزَغَ الفَجْرُ" (1) .
الفوائد والأحكام: (2)
الأول: جَوَازُ الأَكْلِ والشُّرْبِ والجِماعِ وَسَائِرِ المفْطِرَاتِ إِلى طُلوعِ الفَجْرِ.
الثاني: جَوَازُ أَذَانِ الأَعْمَى إِذا كَانَ يَعْرِفُ الوَقْتَ، أَوْ يُعْلِمُهُ بهِ مَنْ يَعْرِفُهُ.
الثالث: مَشْرُوعِيَّةُ أَذَانَينِ لِلصُّبْحِ: أَحَدُهُما: قَبْلَ الفَجْرِ، والآخَرُ: عِنْدَ أَوَّلِ طُلُوعِهِ.
الرابع: جَوَازُ الأَكْلِ بَعْدَ النِّيةِ، وَلا تَفْسُدُ نِيةُ الصَّوْمِ بِالأَكْلِ بَعْدَهَا؛ لأَنَّ النَّبيَّ ? أَبَاحَ الأَكْلَ إِلى طُلُوعِ الفَجْرِ، ومَعْلُومٌ أَنَّ النِّيةَ لا تَجُوزُ بَعْدَ طُلوعِ الفَجْرِ، فَدَلَّ عَلى أَنَّها سَابِقَةٌ، وَأَنَّ الأَكْلَ بَعْدَهَا لا يَضُرُّ، فَلَوْ نَوَى الصَّومَ غَداً في مُنْتَصَفِ الَّليْلِ، وَأَكَلَ في آخِرِهِ لَم تَنْتَقِضْ نِيَّتُهُ.
__________
(1) مسند أحمد (2/510) ورواه الطبري في تفسيره (2/175) والبيهقي (4/218).
(2) المفهم (3/150) وشرح النووي (7/204) وفتح الباري (2/99-100) والديباج (3/194).(1/2)
الخامس: جَوَازُ الأَكْلِ مَعَ الشَّكِّ في طُلُوعِ الفَجْرِ؛ لأَنَّ الأَصْلَ بَقَاءُ الَّليْلِ؛ لِلآيَةِ الكَريمَةِ { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا 4س®Lxm يَتَبَيَّنَ لَكُمُ نفّsƒù:$# الْأَبْيَضُ مِنَ إفّsƒù:$# الْأَسْوَدِ مِنَ حچôfxےّ9$# } والشَّاكُ لم يَتَبينْ، وَجَاءَ عَنِ ابنِ عباسٍ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: "كُلْ مَا شَكَكَتَ حتى يَتَبَينَ لكَ" رواه البيهقي (1) ، هَذَا إِذَا كَانَ هُوَ يَرْقُبُ الْفَجْرَ وَشَكَّ في طُلُوعِهِ، وَأَما إِذَا كَانَ يَعْتَمِدُ عَلى الأَذَانِ أَو السَّاعَةِ فَلا مَجالَ لِلشَّكِّ؛ إِذْ يَسْتَطِيعُ التَأَكُدَ بِالسُّؤَالِ والاطِلاعِ عَلى الوَقْتِ.
السادس: اسْتِحْبَابُ السُّحُورِ واسْتِحْبَابُ تَأْخِيرهِ.
السابع: قَوْلُهُ: "وَلم يَكُنْ بَيْنَهُما إِلا أَنْ يَنْزِلَ هَذَا وَيَرْقَى هَذا" قَالَ النَوويُّ رَحِمهُ الله تَعَالى: "مَعْنَاهُ: أَنَّ بِلالاً كَانَ يُؤَذِّنُ قَبْلَ الفَجْرِ وَيَتَرَبَّصُ بَعْدَ أَذَانِهِ لِلدُعَاءِ وَنَحْوِهِ، ثُم يَرْقُبُ الفَجْرَ، فَإِذا قَارَبَ طُلُوعَهُ نَزَلَ فَأَخْبَرَ ابنَ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَيَتأَهَّبُ ابنُ أُمِّ مَكْتُومٍ بِالطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا، ثُم يَرْقَى وَيَشْرُعُ في الأَذَانِ مَعَ أَولِ طُلُوعِ الفَجْرِ" (2) .
الثامن: فيهِ دَلِيلٌ عَلى أَنَّ مَا بَعْدَ الفَجْرِ لا يُقَالُ عَليهِ لَيْلٌ وإِنما هُوَ مِنْ حُكْمِ النَّهارِ (3) .
__________
(1) قال النووي: "ولو شك في طلوع الفجر جاز له الأكل والشرب والجماع وغيرها بلا خلاف حتى يتحقق الفجر..." اهـ من المجموع (6/313) وانظر: ذخيرة العقبى (20/355).
(2) قال القرطبي بعد أن ذكره وهو الأشبه، المفهم (3/151) وانظر: شرح النووي (7/204) والديباج (3/194) .
(3) المفهم (3/151) وعنه في الديباج (3/194) وانظر: الفتح (2/101).(1/3)
التاسع: جَوَازُ نِسْبَةِ الرَّجُلِ إِلى أُمِّهِ إِذا اشْتُهِرَ بِذلكَ، واحْتِيجَ إِلَيهِ (1) .
العاشر: الفُرُوقُ بَينَ الفَجْرِ الأَولِ وبَينَ الثَاني ثَلاثةٌ:
الفَرْقُ الأَوَلُ: أَنَّ الفَجْرَ الثَّانيَ يَكُونُ مُعْتَرِضَاً في الأُفُقِ، أَيْ: مُمتَدَّاً مِنَ الشَّمالِ إِلى الجنُوبِ، وَأَما الفَجْرُ الأَوَلُ فَيكُونُ مُسْتَطِيلاً، أَيْ: مُمتدَّاً مِنَ المشْرِقِ إِلى المغْرِبِ.
الفَرْقُ الثَّاني: أَنَّ الفَجْرَ الثَّانيَ لا ظُلْمَةَ بَعْدَهُ، بَل يَسْتَمِرُّ النُّورُ في الازْدِيَادِ حَتَّى طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَأَما الفَجْرُ الأَولُ فيُظْلِمُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ لهُ شُعَاعٌ.
الفَرْقُ الثَّالِثُ: أَنَّ الفَجْرَ الثَّانيَ مُتَّصِلٌ بَيَاضُهُ بِالأُفُقِ، وَأَما الفَجْرُ الأَولُ فَبَينَهُ وبَيْنَ الأُفُقِ ظُلْمَةٌ (2) .
الحادي عشر: إِذا أَذَّنَ المؤَذِّنُ لِلْفَجْرِ وَالإِنَاءُ في يَدِ مَنْ يُرِيدُ الصِّيَامَ فَلهُ رُخْصَةٌ أَنْ يُكمِلَ شُرْبَهُ أَوْ أَكْلَهُ وَلا يَقْطَعْهُ؛ لِظَاهِرِ الحَدِيثِ، وَهَذا تَيْسِيرٌ مِنَ الشَّارِعِ الحَكِيمِ فَلِلهِ الحَمْدُ والشُّكْرُ (3) .
ُ ُ ُ
__________
(1) الفتح (2/101).
(2) فقه العبادات للشيخ ابن عثيمين (172-173).
(3) انظر: حاشية الشيخ أحمد شاكر على مختصر المنذري بسند أبي داود (3/233) وتمام المنة للألباني (417-418).(1/4)
21- قَدْرُ مَا بَينَ الأَذَانِ والسَّحُورِ
...
عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - عَنْ زَيْدِ بنِ ثَابِتٍ - رضي الله عنه - قَالَ: «تَسَحَّرْنَا مَعَ النَّبيِّ ? ثُمَّ قَامَ إِلى الصَّلاةِ، قَلْتُ: كَمْ كَانَ بَينَ الأَذَانِ والسَّحُورِ؟ قَالَ: قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً» رواه الشيخان (1) .
وفي رِوَايَةٍ للبخاريِّ عَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - : «أَنَّ النَّبيَّ ? وَزَيْدَ بنَ ثَابِتٍ تَسَحَّرا فَلَما فَرَغَا مِنْ سَحُورِهِمَا قَامَ نَبيُّ الله ? إِلى الصَّلاةِ فَصَلَّى، قُلْنَا لأَنَسٍ: كَمْ كَانَ بَيْنَ فَراغِهِما مِنْ سَحُورِهِمَا وَدُخُولهما في الصَّلاةِ؟ قَالَ: قَدْرُ مَا يَقْرَأُ الرَجُلُ خَمسينَ آيَةً» (2) .
الفوائد والأحكام (3) :
الأول: أَنَّ السُّنَّةَ تَأْخِيرُ السَّحُورِ، لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إِلى حُصُولِ المقْصُودِ مِنَ التَقَوِّي به، وَأَبْلَغَ في مُخَالَفَةِ أَهْلِ الكِتابِ.
الثاني: أَنَّ أَوْقَاتَ الصَّحَابَةِ رَضيَ الله عَنْهُمْ كَانَتْ مُسْتَغْرَقَةً بِالعِبَادَةِ؛ لِذَا قَدَّرَ زَيْدٌ - رضي الله عنه - الوَقْتَ بِقَدْرِ القِرَاءَةِ.
الثالث: جَوَازُ تَقْدِيرِ الأَوْقَاتِ بِأَعْمالِ البَدَنِ، وَكَانَتْ العَرَبُ تُقَدِّرُ الأَوْقَاتَ بِالأَعْمالِ كَقَوْلهم: قَدْرَ حَلْبِ شَاةٍ، وقَدْرَ نَحْرِ جَزُورٍ، ونَحْوِ ذَلكَ.
__________
(1) رواه البخاري (1821) ومسلم (1097) والترمذي (703) والنسائي (4/134) وابن ماجه (1694).
(2) هذه الرواية للبخاري (551).
(3) شرح النووي على مسلم (7/207-208) وفتح الباري (4/138-139) وتحفة الأحوذي (3/317) وشرح ابن الملقن على العمدة (193-194) وأوجز المسالك إلى موطأ مالك للكاندهلوي (5/58) وذخيرة العقبي للأتيوبي (20/357-377).(1/1)
الرابع: أَنَّ مِقْدَارَ مَا بينَ الأَذَانِ والسَّحُورِ في هَذا الحَدِيثِ قَدْرُ قِرَاءَةِ خَمسينَ آيَةً مُتَوَسِّطَةً لا طَويلةً ولا قَصِيرَةً، بِقِراءَةٍ مُتَوَسِّطَةٍ لا سَرِيعَةٍ وَلا بَطِيئَةٍ (1) .
الخامس: أَنهُ يُسْتَثْنَى مِنْ اسْتِحْبابِ تَأْخِيرِ السَّحُورِ تَأْخِيرُ الجِماعِ فَلا يُسْتَحَبُّ؛ لأَنَّهُ لَيْسَ مما يُتَقَوَّى به، وفيهِ خَطَرُ وُجُوبِ الكَفَّارةِ وحُصُولِ الفِطْرَ بهِ؛ لأَنهُ قَدْ يَطْلُعُ الفَجْرُ ولا يَنْزِعُ لِغَلَبَةِ شَهْوَتهِ.
السادس: الحِرْصُ عَلى طَلَبِ العِلْمِ، وتَحريرِ المسَائِلِ، وتَتَبُّعِ السُّنَنِ، ومَعْرِفَةِ أَوْقَاتِها، والمحَافَظَةِ عَلَيْها؛ لِقَوْلِ أَنَسٍ - رضي الله عنه - : «كَمْ كَانَ بَينَ السَّحُورِ والأَذانِ» وَقَوْلِ زَيْدٍ - رضي الله عنه - : «قَدْرُ خَمْسِينَ آيَةً».
السابع: رَأْفَةُ النَّبيِّ ? بِأُمَّتِهِ؛ إِذْ شَرَعَ لهُمْ السَّحُورَ لِيَتَقَووا به على الصِّيامِ، ثُمَّ قَصَدَ تَأْخِيرَهُ لِيَقْتَدُوا به، ولَوْ لم يَتَسَحَّرْ لاقْتدَى به أَصْحَابُهُ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيهِم، وَلَو قدَّمَّهُ إِلى أَوَّلِ الَّليلِ أَوْ إِلى وَسْطِهِ لَتَخَلَّفَ كَثِيرٌ مِنْ مَقْصُودِهِ.
الثامن: الأَدَبُ مَعَ الرَّسُولِ ?، وحُسْنُ العِبَارَةِ؛ لِقَوْلِ زَيْدٍ - رضي الله عنه - : «تَسَحَّرْنَا مَعَ رَسُولِ الله ?»، وَلم يَقُلْ: «تَسَحَرنَا نَحْنُ ورَسُولُ الله ?»، وَلَفْظُ المعِيَّةِ يُشْعِرُ بالتَّبَعِيَّةِ. ...
__________
(1) انظر: الفتح (4/138) وتحفة الأحوذي (3/317).(1/2)
22- القبلةُ والمباشرةُ للصائم
...
عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ الله ? يُقَبِّلُ وهوَ صَائِمٌ، ويُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ، ولَكنَّهُ أَمْلَكُكُمْ لأَرَبِهِ» أَيْ: أَمْلَكُكُمْ لِحَاجَتِهِ.
وفي روايةٍ قَالَتْ رَضيَ اللهُ عَنْهَا: «كَانَ رَسُولُ الله ? يُقَبِّلُ في رَمَضَانَ وهوَ صَائِمٌ» رواه مسلم.
وفي رِوايةٍ له أَيْضاً قَالَتْ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ أَرَبَهُ كَما كَانَ رَسُولُ الله ? يَمْلِكُ أَرَبَهُ».
وفي رِوايةٍ لأَبي دَاودَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ الله ? يُقَبِّلُنِي وهُو صَائِمٌ وأَنا صَائِمَةٌ».
وفي رِوايةٍ لابنِ حِبانَ عَنْ أَبي سَلَمَةَ بنِ عَبدِالرحمنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ الله ? يُقَبِّلُ بَعضَ نِسائِهِ وهوَ صَائِمٌ، قُلتُ لعائِشَةَ: في الفَريضَةِ والتَّطوُّعِ؟ قَالَتْ عَائِشَةُ: في كُلِّ ذَلكَ في الفَريضَةِ والتَّطَوُّع» (1) .
وَعَنْ حَفْصَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهَا: «أَنَّ النَّبيَّ ? كَانَ يُقبِّلُ وَهُوَ صَائِم» رَوَاهُ مُسْلمٌ (2) .
__________
(1) رواه البخاري (1826) ومسلم واللفظ له (1106) وأبو داود (2384) وأحمد (6/44) والرواية الثالثة لمسلم، والرابعة لأبي داود وأحمد، والخامسة لابن حبان (3545) وقولها: «لأَرَبه» أكثر المحدثين يروونها بفتح الهمزة والراء، ومعناها: حاجته، ورجح ذلك البخاري، وبعض المحدثين يرويها بكسر الهمزة وسكون الراء، ويطلق على الحاجة وعلى الذكر، انظر: النهاية في الغريب (1/36) وتحفة الأحوذي (3/351).
(2) رواه مسلم (1107) وابن ماجه (1685) وأحمد (6/286).(1/1)
وَعَنْ عُمَرَ بنِ أَبي سَلَمَةَ - رضي الله عنه - أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ الله ? : «أَيُقَبِّلُ الصَّائِمُ؟ فقَالَ له رَسُولُ الله ? : سَلْ هذه - لأُمِّ سَلَمَةَ - فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ الله ? يَصنَعُ ذَلكَ، فقَالَ: يا رَسُولَ الله، قَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنبِكِ ومَا تأَخَّرَ، فقَالَ له رَسُولُ الله ?: أَمَا والله إِنِّي لأَتْقَاكُم لله وأَخْشَاكُمْ لَه» رواه مسلم (1) .
وعَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ - رضي الله عنه - قَالَ: «هَشَشْتُ فَقَبَّلْتُ وأَنَا صَائِمٌ، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ الله، صَنَعْتُ اليَوْمَ أَمْراً عَظِيماً، قَبَّلْتُ وَأَنا صَائِمٌ، قَالَ: أَرَأَيْتَ لَو مَضْمَضْتَ مِنَ الماءِ وأَنْتَ صَائِمٌ، قُلْتُ: إِذاً لا يَضُرُ، قَالَ: فَفِيم» رواه أبو داود (2) .
الفوائد والأحكام:
الأول: جَوازُ القُبْلَةِ والمبَاشَرةِ للصَّائِمِ سواءٌ كَانَ صِيَامُه فَرْضاً أَم نَفلاً، في رَمَضَانَ وفي غَيرِهِ، للشَّابِ والشَّيْخِ إِذا أَمِنَ على نَفسِهِ انفِلاتَ شَهوَتِهِ والوُقُوعَ في المَحظُورِ من الجِماعِ أو الإنزِالِ وهو صَائِم.
الثاني: المقصُودُ بالمُباشَرَةِ في الحَدِيثِ التِقاءُ البَشَرَتَينِ كَاللَّمْسِ والضَّمِّ، ولا يُقصَدُ به ها هنا الجِماعُ؛ لأنَّ الجِماعَ مُفسِدٌ للصَّومِ (3) .
__________
(1) رواه مسلم (1108) ومالك بنحوه (1/291).
(2) رواه أبو داود (2385) والدارمي (1724) وعبد بن حميد (21) وصححه ابن حبان (3544) والحاكم وقال: على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي (1/596) والألباني في صحيح أبي داود.
(3) قال الطبري في تفسيره: « أما المباشرة في كلام العرب فإنه ملاقاة بشرة ببشرة وبشرة الرجل جلدته الظاهرة» (2/168) وانظر: فتح الباري (4/149).(1/2)
الثالث: إِذا قَبَّل الصَّائِمُ أَو بَاشَرَ زَوجَتَه بِلَمسٍ أَو ضَمٍّ أَو نَحوِهِ فَأَنزَلَ فَسَدَ صَومُهُ، ويُمْسِكْ وعَليهِ القَضَاءُ مَعَ التَّوبَةِ والاستِغْفَارِ، كَيفَ واللهُ تَعَالى يَقُولُ في الحَدِيثِ القُدْسِيِّ «يَدَعُ شهْوَتَه وأَكْلَهُ وشُرْبَهُ مِنْ أَجْلي» (1) وفي رِوايةٍ «ويَدَعُ لَذَّتَه مِنْ أَجْلي، ويَدَعُ زَوجَتَه مِنْ أَجْلي» (2) .
وأمَا إِذا أَمذَى فلا يَفْسُدُ صَومُه، ولا شَيءَ عَلَيه على الصَّحِيحِ مِنْ قَولَي العُلماء (3) ، إِلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي له اجْتِنَابُ المُثِيرَاتِ الَّتي قَدْ تُوصِلُهُ إلى الحَرَام.
الرابع: دَلَّت الأَحَادِيثُ على أنَّ جَوازَ القُبْلَةِ للصَّائِمِ ليسَتْ مِنْ خَصَائِصِ النَّبيِّ ? ، وإِنَّما هي مُبَاحَةٌ لِعُمُومِ الأُمَّةِ بشَرطِ أَلَّا تُوقِعَ في المحْظُورِ مِنْ إِنزَالٍ أَوْ جِماع (4) .
الخامس: أَنَّ النَّبيَّ ? أَشَدُّ النَاسِ خَشْيَةً لله تَعَالى؛ لأَنَّهُ أَعْظَمُهُم له مَعْرِفَة (5) .
__________
(1) رواه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : البخاري (7054) ومسلم (1151).
(2) هذه الرواية لابن خزيمة في صحيحه (1897) وانظر: فتاوى الشيخ ابن باز، كتاب الدعوة (2/164) ومجموع فتاواه ورسائله (15/315).
(3) انظر: فتاوى ابن باز، كتاب الدعوة (2/164) ومجموع فتاواه ورسائله (15/268-315) وفتاوى الصيام لابن جبرين (54).
(4) انظر: شرح ابن بطال (4/56) ومنحة الباري (4/364) وتحفة الأحوذي (3/350).
(5) المفهم (3/165).(1/3)
السادس: يُؤْخَذُ مِنَ الأَحَادِيثِ وُجُوبُ تَركِ التَّنَطُّع والغُلُوِّ، أَو اعْتِقَادِ أنَّ النَّبيَّ ? حَلَّ له تَقْبِيلُ نَسائِهِ وهو صَائِمٌ دُونَ سَائِرِ الأُمَّة؛ ولِذَلكَ غَضِبَ النَّبيُّ ? لما نُوقِشَ في ذَلِكَ وقَالَ: «أمَا والله إنِّي لأَتْقَاكُم لله وأَخْشَاكُم له» (1) وفي الحَدِيثِ الآخَرِ: «وَأَعْلَمُكُم بِحُدُودِ الله».
السابع: حِرْصُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم عَلى مَعْرِفَةِ الحَلالِ والحَرَام، وتَقْوَاهُم لله تَعَالى، وخَوْفُهُم مما يَخْدِشُ العِبَادَةَ أَو يُخِلُّ بها.
الثامن: في هَذِهِ الأَحَاديثِ رَدٌّ على غُلاةِ المتَصَوِّفَة، الَّذِينَ أَسْقَطُوا التَكَاليفَ الشَّرْعِيَّةَ أَو بَعْضَهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ أَو مَشَائِخِهِم بِحِجَّةِ أَنَّهم بَلَغُوا مَنْزِلَةً مِنَ التَّرَقِّي في الإِيمانِ والسُّلُوكِ تُبيحُ لهم ذَلك، والنَّبيُّ ? وهُو أَكْمَلُ النَّاسِ إِيماناً كَانَ أَشَدَّهُم تَمسُّكاً بالشَّرِيعَةِ، وإِعْمالاً لها، وَقَدْ صَحَّحَ خَطَأَ مَنْ خَطَرَ بِبالهِ أَنَّهُ يَلزَمُ مِنْ كَوْنِهِ مَغْفُوراً له مُسَامَحتُهُ في بَعْضِ الممْنُوعَات (2) .
__________
(1) انظر: شرح النووي على مسلم (7/219).
(2) ومثل ذلك: ما قد يتبادر لذهن البعض من حديث التائب بعد المعصية الثالثة وقول الله عز وجل «اعمل ما شئت فقد غفرت لك» قال القرطبي: وهذا الخاطر باطل بدليل قوله ? «إني لأتقاكم لله وأشدكم له خشية» وبدليل الإجماع المعلوم على أن التكاليف لا تسقط عمن حصلت له شروطها... المفهم (3/164-165).(1/4)
التاسع: في حَدِيثِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ - رضي الله عنه - إِثْبَاتُ القِياسِ، والجَمْعُ بينَ الشَيْئَينِ في الحُكْمِ الوَاحِدِ؛ لاجْتِماعِهِما في الشَبَه؛ وذَلكَ أَنَّ المضْمَضَةَ بالماءِ ذَرِيعَةٌ لِنُزولهِ إِلى الحَلْقِ، ووصُولهِ إِلى الجَوْفِ، فَيكُونُ به فَسَادُ الصَّوْمِ؛ كَما أَنَّ القُبْلَةَ ذَرِيعَةٌ إِلى الجِماعِ المفْسِدِ لِلصَّوْمِ، فَإِذا كَانَ أَحَدُ الأَمْرَينِ مِنْهُما غَيرَ مُفْطرٍ للصَّائِمِ فَالآخَرُ بِمَثَابَتهِ (1) .
( ( (
__________
(1) معالم السنن بهامش أبي داود (2/780).(1/5)
23- عقوبةُ الإفطارِ في رمضان
عَنْ أَبي أُمَامَةَ البَاهِليِّ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله ? يَقُولُ: «بينَا أنَا نَائِمٌ إذْ أَتَاني رَجُلانِ فأخَذَا بضَبْعِي - أي: عَضُدِي - فَأَتَيَا بي جَبَلاً وَعْراً فَقَالَا لي: اصْعَدْ، فقلت: إني لا أُطِيقُه، فقَالَا: إنا سَنُسَهِّلُه لك، فَصَعَدتُ حتى إذا كُنتُ في سَواءِ الجَبَل إذا أنا بِأصْواتٍ شدِيدَةٍ، فَقُلْتُ: مَا هَذهِ الأَصْواتُ؟ قَالَوا: هَذا عِوى أَهْلِ النَّارِ، ثمَّ انْطُلِقَ بي فَإِذا أَنا بِقَومٍ مُعَلَّقِين بِعَرَاقِيبهِم، مُشَقَّقَةٍ أَشْدَاقُهُم تَسِيلُ أشْداقُهُم دَماً، قَالَ: قُلتُ: مَن هَؤُلاءِ؟ قَالَ: هؤُلاءِ الَّذين يُفطِرُون قَبلَ تَحِلَّة صَوْمِهِم» رَوَاهُ النِّسَائي وَصَحَّحَهُ الحَاكِم (1) .
الفوائد والأحكام:
الأول: فيه إِثبَاتُ عَذَابِ القَبْرِ، وَهُوَ ثَابِتٌ بالْكِتابِ والسُّنَّةِ وإِجْمَاعِ الأُمَّةِ؛ حتَّى قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ الله تَعَالى «عَذابُ القَبْرِ حَقٌّ لا يُنكِرُهُ إلاَّ ضَالٌ مُضِلٌ» (2) .
__________
(1) رواه النسائي في الكبرى(3286) والطبراني في الكبير (8/157) رقم (7667) وفي مسند الشاميين (577) والبيهقي (4/216) وصححه ابن خزيمة (1986) وابن حبان (7491) والحاكم وقَالَ: على شرط مسلم واللفظ له ووافقه الذهبي (1/595).
(2) الروح لابن القيم (57) وانظر: السنة للالكائي (6/1127) وإثبات عذاب القبر للبيهقي (1/110).(1/1)
الثاني: أَنَّ عَذَابَ القَبْرِ يَكُونُ عَلى الرُّوحِ والبَدَنِ على كَيْفِيةٍ لا يَعْلَمُهَا إلاّ اللهُ تَعَالى، قَالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمُهُ اللهُ تَعَالى: «مَذْهَبُ سَلَفِ الأُمَّةِ وأَئِمَتِهَا أنَّ الميِّتَ إذَا مَاتَ يَكُونُ في نَعِيمٍ، أو عَذَابٍ، وأَنَّ ذَلكَ يَحصُلُ لرُوحِهِ وبَدَنِهِ، وأَنَّ الرُّوحَ تَبقَى بَعْدَ مُفَارَقَةِ البَدَنِ مُنْعَّمَةً، أَوْ مُعَذَّبَةً، وأَنَّها تَتَّصِلُ بِالبَدَنِ أَحْيَاناً، ويَحْصُلُ لَهُ مَعَهَا النَّعيمُ أَوْ العَذَابُ، ثُم إِذا كَانَ يَومُ القِيَامَةِ الكُبْرى أُعِيدَتِ الأَرْوَاحُ إلى الأَجْسَادِ، وقَامُوا مِنْ قُبُورِهِمْ لِرَبِّ العَالَمينَ» (1) .
الثالث: أَنَّ النَّبيَّ ? أُرِيَ في منامِهِ صُوَراً من عذابِ القبرِ، ورُؤْيَا الأَنْبِيَاءِ عَلَيْهم السَّلامُ حقٌّ، وهي جزُءٌ من الوحْي.
الرابع: فيه بَيَانُ شِدَّةِِ عَذَابِ القَبْرِ، وأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ الخَوْفُ مِنْهُ، واجْتِنَابُ أسْبَابِهِ، والأخْذُ بِأسبابِ النَّجاةِ منه.
الخامس: أنَّ الحديثَ فيه وعيدٌ شديدٌ لمنْ أفْطَرَ في رمضَانَ قَبْلَ وقتِ الإفطَارِ عَالماً عَامِداً بلا عُذْرٍ، وأَنَّ فِعْلَ ذلك من كبَائرِ الذنوبِ، وقد رُتِّبَ عليه عذابٌ شديدٌ.
السادس: إِذا كَانَ هَذا العَذَابُ في حَقِّ من أَفْطَرَ قَبلَ الغُرُوبِ فَمِنْ بَابِ أَوْلَى أَنْ يلْحَقَ من لم يَصُمْ رَمَضَانَ أو أَفْطَرَ أَياماً مِنْهُ بِلا عُذْرٍ شَرْعيٍّ يُبيِحُ لَه الفِطْرَ، وأنَّ مَنْ وَقَعَ في شَيءٍ مِنْ ذَلكَ فَيَجِبُ عليهِ المُبَادَرَةُ بالتوبةِ النَّصوحِ؛ لِئلاَّ يَلْحَقَهُ هَذا الوَعِيدُ بالعَذابِ الشَّديدِ في القبرِ.
( ( (
__________
(1) الروح لابن القيم (52) وانظر: مجموع الفتاوى (4/282).(1/2)
24- فضلُ تعجيلِ الفِطْرِ
...
قَالَ اللهُ تَعَالَى: [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ] { البقرة:187 } .
وعَنْ سَهْلِ بنِ سَعْدٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله? قَالَ: "لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلوا الفِطْرَ" رواه الشيخان (1) .
وفي روايةٍ لابنِ مَاجَه: قَالَ رَسُولُ الله ?: "لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الفِطرَ، عَجِّلُوا الفِطرَ فَإِنَّ اليَهودَ يُؤَخِّرُونَ" (2) .
وفي روايةٍ لابنِ خُزْيمَةَ وابنِ حِبَّانَ: "ما يَزَالُ الدِّينُ ظَاهِراً ما عَجَّلَ النَّاسُ الفطْرَ، إِنَّ اليَهودَ والنَّصارى يُؤَخِّرُونَ" (3) .
وفي رِوايةٍ أُخْرى: "لا تَزَالُ أُمَّتِي على سُنَّتِي مَا لم تَنتَظرْ بفِطْرِهَا النُّجوم" (4) .
وَعَنْ أَبي عَطِيةَ الهَمْدَانيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى قَالَ: "دَخَلْتُ أَنَا ومَسْرُوقٌ على عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا فَقُلْنا: يا أمَّ المُؤمنِين، رَجلانِ مِنْ أَصْحَابِ مُحمَّدٍ ? أَحَدُهُما يُعجِّلُ الإِفْطَارَ ويُعجِّلُ الصَّلاةَ، والآخَرُ يُؤخِّرُ الإِفْطَارَ ويُؤَخِّرُ الصَّلاةَ، قَالَتْ: أيُّهما الَّذي يُعَجِّلُ الإِفْطَارَ، ويُعجِّلُ الصَّلاةَ، قَالَ: قُلْنا: عَبدُالله، يعني: ابنَ مَسعُود، قَالَتْ: كَذَلكَ كَانَ يَصْنَعُ رَسُولُ الله ?" زَادَ أَبو كُريبٍ "والآخَرُ أَبو مُوسَى" رَواهُ مسلم (5) .
__________
(1) رواه البخاري (1856) ومسلم (1098).
(2) سنن ابن ماجه (1698).
(3) صحيح ابن خزيمة (2060) وصحيح ابن حبان (3503).
(4) هذه الرواية لابن خزيمة (2061) وصححها ابن حبان (3520) والحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي (1/599).
(5) رواه مسلم (1099) وأبوداود (2354) والترمذي (702) والنسائي (4/144) وأحمد (6/48).(1/1)
وَعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: "مَا رَأَيْتُ رَسُولَ الله ? قَطُ صَلَّى صَلاةَ المغْرِبِ حَتَّى يُفْطِرَ وَلَو عَلى شَرْبَةٍ مِنْ مَاء" رواه أبو يعلى وصححه ابن حبان (1) .
وعَنْ عَمْروِ بنِ مَيمونَ الأَوْدِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: "كَانَ أَصْحَابُ مُحمَّدٍ ? أسْرَعَ النَّاسِ فِطْرَاً وأَبطَأَهُ سَحُوراً" رَوَاهُ عَبدُالرزاق (2) .
الفوائد والأحكام:
الأول: اسْتِحْبابُ تَعْجِيلِ الفِطْرِ إِذا تَحقَّقَ غُروبُ الشَّمْسِ بِرُؤيةٍ، أو خَبَرِ ثِقَةٍ أَو غَلَبَ على ظَنِّهِ الغُرُوب (3) ، وَقَدْ دَلَّت السُّنَّةُ على ذلكَ، وهو هَدْيُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم. قَالَ الحَافِظُ ابنُ عَبدِالبرِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى: "أَجمَعَ العُلَماءُ على أَنَّهُ إذا حَلَّت صَلاةُ المَغرِبِ فقد حَلَّ الفِطرُ للصَّائِمِ فَرضاً أو تَطَوُّعاً، وَأَجمَعُوا على أنَّ صَلاةَ المغرِبِ من صَلاةِ اللَّيلِ، والله تَعَالَى يقول: { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } [البقرة 187] (4) .
الثاني: أَنَّ تَعجِيلَ الفِطْرِ دليلُ بَقاءِ الخَيِر عِنْدَ مَنْ عَجَّلَهُ، وَزَوَالُ الخَيْرِ عَمَّنْ أَخَّرَهُ (5) .
__________
(1) رواه أبو يعلى (3792) والبزار (984) والبيهقي (4/239) وصححه ابن خزيمة (2063) وابن حبان (3504-3505) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/155): ورجال أبي يعلى رجال الصحيح.
(2) رواه عبد الرزاق (7591) والبيهقي (4/238) وصححه الحافظ في الفتح (4/199).
(3) توضيح الأحكام من بلوغ المرام (3/153).
(4) الاستذكار (3/288).
(5) المصدر السابق (3/153).(1/2)
الثالث: أَنَّ مِنْ خَيريَّةِ الأُمَّةِ تَعجِيلَهُمُ الفِطْرَ مُخَالفَةً لأَهْلِ الكِتَابِ: اليَهودِ والنَّصارى؛ إِذْ إِنَّهُم يُؤخِّرُون إِفطَارَهُم إِلى أَنْ تَظْهَرَ النُّجُوم (1) ، ومُخالفَةُ أَهْلِ الكِتَابِ أَصْلٌ عَظيمٌ من أُصولِ دِينِنَا جَاءَ في تَشْرِيعَاتٍ كَثِيرةٍ، وهو دَليلٌ على تَميُّزِ هَذِهِ الأُمَّةِ، وأَفضَلِيَّتِها على سَائِرِ الأُمَم؛ ولذَلكَ كَانَ التَّشَبُّهُ بالكُفَّارِ مُحرَّماً.
الرابع: أَنَّ تأْخِيرَ الفُطُور عَنْ الغُروبِ دَليلٌ على الحَيْدَة عَنْ سُنَّةِ النَّبيِّ ? ، والابتدَاعِ في دِينِ الله تَعَالَى.
الخامس: في هَذِه الأحَادِيثِ رَدٌّ على الرَّافِضَةِ ومَنْ وَافَقَهُم، ممن يُؤَخِّرُونَ الفِطْرَ عَنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلى اشْتِبَاكِ النُّجُوم (2) .
السادس: أَنَّ الالتِزامَ بالوَقْتِ المُؤَقَّتِ لِلعِبَادَةِ دُونَ زِيَادةٍ أَو نُقصَانٍ فيه وقَايَةٌ مِنَ التَّنَطُّعِ والتَّفَلُّتِ مِنَ الدِّينِ، ورَدَّاً لوَسْوَسَةِ الشَّيطَانِ، ومن ذَلكَ: تَعجِيلُ الإفطَارِ بَعْدَ تحقُّقِ غُرُوبِ الشَّمْس (3) .
السابع: أَنَّ في تَعْجِيلِ الفِطْرِ إِظهَارَ العَبْدِ عَجْزَهُ وعُبُودِيَّتَه لله تَعَالى، ومُبَادَرَتَهُ إِلى قَبُولِ الرُّخْصَةِ مِنْ ربِّه جَلَّ وَعَلا (4) .
الثامن: يُؤْخَذُ مِنَ الأحَادِيثِ كَرَاهَةُ الوِصَالِ في الصَّوْمِ، وتَقْدِيمُ الفِطْرَ على الصَّلاةِ؛ لأَنَّهُ أَبْلَغُ في التَّعْجِيل (5) .
__________
(1) فتح الباري (4/199).
(2) المصدر السابق (4/199).
(3) انظر: المفهم (3/157) تحفة الأحوذي (3/314).
(4) انظر: المصدر السابق (3/315).
(5) شرح ابن الملقن على العمدة (5/311).(1/3)
التاسع: الحَثُّ على اتِّباعِ السُّنَّةِ وتَرْكُ مُخالَفَتِها، وأَنَّ فَسَادَ الأُمُورِ بِتَرْكِهَا، وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم إِذا خُذِلُوا في أَمْرٍ فَتَّشُوا عَمَّا تَرَكُوا مِنَ السُّنَّةِ، فَإِذا وَجَدُوهُ عَلِمُوا أَنَّ الخُذْلانَ إِنَّما وَقَعَ بِتَرْكِ السُّنَّة (1) .
العاشر: فَضْلُ هَذهِ الأُمَّةِ؛ إِذْ هُدِيَتْ إِلى السُّنَّةِ، ومُتابَعَةُ السُّنَّةِ تُوجِبُ محبَّةَ الله تَعَالَى؛ وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: [قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] { آل عمران:31 } (2) .
ُ ُ ُ
__________
(1) المصدر السابق (5/310-311).
(2) تحفة الأحوذي (3/316).(1/4)
25- الفِطْرُ للمسافرِ والحاملِ والمرضع
عَنْ أَنسِ بنِ مَالِكٍ الكَعْبيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: «أَغَارَت عَلَينا خَيْلُ رَسُولِ الله ? فَأَتَيتُه وَهُوَ يَتغَدَّى، فَقَالَ: اُدْنُ فَكُل، قُلْتُ : إنِّي صَائِمٌ، قَالَ: اجلِس أُحدِّثْكَ عَنِ الصَّومِِ أو الصِّيامِ، إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَضَعَ عَنِ المسَافِرِ شَطْرَ الصَّلاةِ، وعَن المُسافِرِ والحَامِلِ والمرضِعِ الصَّومَ أو الصِّيامَ، والله لَقَدْ قَالَهما رَسُولُ الله ? كِلاهُما أو أَحَدَهُمَا، فَيَا لَهفَ نَفْسِي هَلاَّ كُنتُ طَعِمْتُ مِنْ طَعَامِِ رَسُولِ الله ?» رواه أبو داود (1) .
الفوائد والأحكام:
الأول: رَحْمةُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالى بِعِبَادِهِ؛ إِذْ وَضَعَ بَعْضَ الأَحْكامِِ الشَّرْعِيَّةِ عَنْ العَاجِزِينَ عَنْ أَدَائِهَا، أَوْ مَن يَلحَقُهُم بِأَدَائِهَا ضَرَرٌ أَوْ مَشَقَّةٌ.
الثاني: حُسْنُ خُلُقِ النَّبيِّ ? وكَرَمُهُ إذْ دَعَا أَنَسَاً إلى غَدَائِهِ، وحِرصُهُ ? عَلى أُمَّتِهِ؛ إِذْ بَيَّنَ لهُم مَا يَحْتَاجُونَ إلى بَيَانِهِ.
الثالث: أَنَّ المشرُوعَ في حَقِّ المُسَافرِ الفِطْرُ وقَصْرُ الصَّلاةِ، وَهُمَا رُخْصَةٌ مِنَ الله تَعَالى، واللهُ تَعَالى يُحِبُّ أَنْ تُؤتَى رُخَصُهُ كَما يُحبُّ أَنْ تُؤتَى عَزَائِمُهُ.
__________
(1) رواه أحمد (4/347) وأبو داود (2408) والترمذي وقَالَ: حديث حسن(715) وابن ماجه (1667) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1493) والطبراني الكبير (1/263) رقم (765) والبيهقي (4/231) وقال الألباني في صحيح أبي داود: حسن صحيح، وصححه الشيخ ابن باز في مجموع فتاويه (15/224).(1/1)
الرابع: أَنَّ اللهَ تَعَالى رَخَّصَ للحَامِلِ الفِطْرَ في رَمَضَانَ؛ وذَلكَ أَنَّ جَنِينَهَا يَتَغذَّى مِنْ طَعَامِهَا فَقَدْ تَتَضَرَّرُ بالصِّيامِ، أَوْ يَلْحَقُهَا مَشَقَّةٌ بِهِ، أَوْ يَتَضَرَّرُ جَنِينُهَا، فَأَبَاحَ الشَّارِعُ الحكِيمُ لها الفِطْرَ.
الخامس: أَنَّ اللهَ تَعَالى رَخَّصَ للمُرضِعِ الفِطْرَ؛ والمرضِعُ تَحْتَاجُ إلى الطَّعَامِِ باسْتِمرَارٍ بِسَبَبِ الرَّضَاعَةِ، وقَدْ يَضُرُّهَا الصَّوْمُ أَوْ يُشَقُّ عَلَيْهَا أَوْ يَضُرُّ جَنِينَهَا فأُبِيحَ لها الفِطْرُ.
السادس: يُلْحَقُ بِذَلكَ مَن احْتَاجَ إلى الفِطْرِ لإطْفَاءِ حَريقٍ، أَوْ رَدِّ صَائِلٍ، أَوْ إِنْقَاذِ مَعْصُومٍ لا يَسْتَطِيعُ إنقَاذَهُ إِلاّ بِفِطْرٍ، فَإِنَّهُ يُفطِرُ لأجْل ذَلكَ (1) .
السابع: إِذَا أَفْطَرَتِ الحَامِلُ والمرْضِعُ خَوْفاً عَلى نَفسِيْهِمَا، أَوْ عَلى نَفْسَيْهِما وَوَلَدَيهِمَا فَعَلَيْهِمَا القَضَاءُ فَقَطْ وهَذا لا خِلافَ فيهِ؛ لأَنَّهُما بِمَنْزِلَةِ المريضِ الخائِفِ عَلى نَفْسِهِ (2) . وإِذا أَفطرَتَا خَوْفاً عَلى ولَدَيْهِما فَمَحَلُّ خِلافٍ بين العُلَماءِ، والَّذِي عَلَيهِ الفَتوَى في هَذِهِ البِلادِ وهُوَ الصَّحيحُ إن شاء الله تعالى عَلى أَنَّ عَلَيْهِمَا القَضَاءُ فَقَطْ؛ لأَنَّهُما في حُكْمِ المرِيضِ؛ وَلأَنَّ النَّبيَّ ? سَوَّى بَيْنَهُما وبَيْنَ الُمسَافِرِ في وَضْعِ الصَّوْمِ عَنْهُمْ، ومَعْلُومٌ أَنَّ المُسَافِرَ يَقْضِي، وَلا إِطْعَامَ عَلَيهِ، فَكَذَلِكَ الحَامِلُ والمرْضِعُ.
( ( (
__________
(1) انظر: الشرح الممتع (6/350-351) والمنتقى من فتاوى الشيخ الفوزان (3/141).
(2) انظر: المغني (4/393-394) وذخيرة العقبى (211/214).(1/2)
26- الصومُ والإفطارُ في السفر
عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا: «أنَّ حَمزَةَ بنَ عَمْروٍ الأَسلَميِّ - رضي الله عنه - قَالَ للنَّبيِّ ?: أَأَصُومُ في السَّفَرِ؟ وَكَانَ كَثيرَ الصِّيامِ، فقَالَ: إنْ شِئْتَ فَصُمْ وإنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ» رواه الشيخان (1) .
وَعَنْ ابنِ عَباسٍ رَضيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: «سَافَرَ رَسُولُ الله ? في رَمَضَانَ فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ عُسْفَانَ، ثُم دَعَا بإِناءٍ مِنْ مَاءٍ فَشَرِبَ نَهَاراً لِيرَاهُ النَّاسُ، فَأَفْطَرَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، وَكَانَ ابنُ عَباسٍ يَقُولُ: صَامَ رَسُولُ الله ? في السَّفَرِ وَأَفْطَر، فَمَنْ شَاءَ صَامَ ومَنْ شَاءَ أَفْطَر» رواه الشيخان (2) .
وَعَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: «كُنَّا نُسَافِرُ مَعَ النَّبيِّ ? فَلَم يَعِبِ الصَّائِمُ على المُفْطِرِ ولا المُفْطِرُ عَلى الصَّائِمِ» متفق عليه (3) .
وعَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: «كُنَّا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ الله ? في رَمَضَانَ فَمنَّا الصَّائِمُ ومنَّا المُفطِرُ، فلا يَجِدُ الصَّائمُ على المُفطِرِ، ولا المُفطِرُ على الصَّائِمِ، يَرونَ أنَّ مَنْ وَجَدَ قُوَّةً فصَامَ فَإِنَّ ذَلكَ حَسَنٌ، ويرَونَ أنَّ من وَجَدَ ضَعْفَاً فَأَفْطَرَ فَإِنَّ ذَلكَ حَسَن» رواه مسلم (4) .
__________
(1) رواه البخاري (1841) ومسلم (1121).
(2) رواه البخاري (4029) ومسلم (1113).
(3) رواه البخاري (1845) ومسلم (1118).
(4) رواه مسلم (1116) والترمذي (713) وأحمد (3/12) .(1/1)
وَعَنْهُ - رضي الله عنه - قَالَ: «سافَرْنا مَعَ رَسُولِ الله ? إلى مكَّةَ ونَحْنُ صِيامٌ، فنَزَلْنَا مَنْزِلاً فَقَالَ رَسُولُ الله ?: إنَّكُم قدْ دَنَوتُم من عَدُوِّكُم والفِطْرُ أَقْوَى لَكُمْ، فكانَتْ رُخصَةً، فمِنَّا مَنْ صَامَ، ومنَّا مَنْ أَفطَر، ثُم نَزَلْنَا مَنْزِلاً آخَرَ فقَالَ: إِنَّكُم مُصَبِّحُو عدُوِّكُم والفِطرُ أَقْوَى لكم فأفْطِرُوا، وكَانَت عَزْمَةً فَأَفْطَرنَا، ثم قَالَ: لقَد رَأَيْتُنَا نَصُومُ مَعَ رَسُولِ الله ? بَعْدَ ذَلكَ في السَّفَرِ» رواه مسلم (1) .
الفوائد والأحكام (2) :
الأول: سَماحَةُ الإسْلامِِ، ويُسْرُ الشَّريعَةِ، ومُرَاعَاةُ أَحْوالِ المُكَلَّفينَ، فلِلهِ الحَمْدُ كَثيراً.
الثاني: أنَّ المُسافِرَ مُخيرٌ بَينَ الفِطْرِ والصَّوْمِِ، والسُّنَةُ في حَقِّهِ أَنْ يَفْعَلَ الأَرْفَقَ بهِ، وهَذِهِ الأَحَادِيثُ تَدلُّ عَلى تَخييرِه في ذلك.
الثالث: أَنَّ الأفضَلَ في حقِّ من يَشُقُّ عليهِ الصَّومُ الفطرُ، وأمَّا مَنْ كَانَ يَشُقُّ عَلَيهِ القَضَاءُ، ولا يَشُقُ عليه الصومُ في السَّفَرِ فَالأَفْضَلُ أَنْ يَصُومَ في السَّفَرِ؛ لإبرَاءِ ذمَّتِهِ، ورَفْعِ المَشَقَّةِ عَنْهُ.
الرابع: أنَّ الأفْضَلَ في حَقِّ مَنْ هُوَ دَائِمُ السَّفَرِ، أَوْ أَسْفَارُهُ كَثيرةٌ، بِسَبَبِ مَا يَقْتَضِيهِ عَمَلُهُ كَأصْحَابِ النَّقلِيات ونَحْوهِم أنْ يَصُومُوا الفَرْضَ في أسْفَارِهِم، إذا كَانَ الصِّيامُ لا يَضُرُّهُم ولا يَشُقُّ عَلَيهِم؛ لإبرَاءِ ذِمَمِهِم، بَل قَدْ يَجِبُ عَلَيْهِم إذا لَم يَتَيسَّرْ لَهم أَوْقَاتٌ للقَضَاءِ، كَمَنْ يَكُونُ السَّفَرُ دَأْبَهُم.
__________
(1) رواه مسلم (1120) وأبوداود (2406) وأحمد (3/35).
(2) انظر: شرح ابن الملقن على العمدة (5/268-272) وتهذيب السنن (3/284).(1/2)
الخامس: أنهَّ يَنبَغي لِلمُكَلَّفِ إِبرَاءُ ذِمَّتِهِ من التَّكاليفِ الشَّرعيَّة قَدْرَ المُستَطَاع.
السادس: أنَّ المنقُولَ عَنِ النَّبيِّ ? في أَسْفَارِهِ الفِطْرُ والصِّيامُ بِحَسَبِ ما يُحَقِقُ المَصْلَحَةَ الرَّاجِحَةِ، ويَدْفَعُ المفْسَدَةَ، وَيَرْفَعُ الضَّرَرَ والمَشَقَّة، وعَلى المسْلِمِ أَنْ يَلْتَزمَ هَدْيَه عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في ذَلك.
السابع: في حَدِيثِ حَمْزَةَ الأَسْلَمِيِّ - رضي الله عنه - دَلِيلٌ على السُّؤَالِ عَنِ العِلْمِ في كُلِّ مَا يَعْرِضُ للإِنْسانِ مِنْ جَوَازِهِ وَأَفْضَلِيتهِ، كَما كَانَ الصَّحَابَةُ رِضْوانُ الله تَعَالى عَلَيهِم يَفْعَلُون.
الثامن: أَنَّ للإمامِ أَنْ يَأْمُرَ الناسَ بالرُّخْصَةِ فَتَكُونُ حِينَئذٍ عزيمَةً، لا يَجوزُ مُخالَفَتُهُ فيها؛ لوُجُوبِ طَاعَتِهِ، وطَاعَتُهُ في هذه الحَالةِ ليسَت طَاعَةً في المعصِية.
التاسع: أَنَّهُ يَجِبُ على الإمامِ الرِّفْقُ برَعِيَتِهِ، ومُرَاعَاةُ أَحْوالِ الضُّعَفَاءِ منهم؛ فَالنَّبيُّ ? أَمَرَ الجمِيعَ بالفِطْرِ ليَكُونَ أَقوَى لهم في لِقاءِ عَدُوِّهِم، مع أَنَّ فيهم مَنْ لا تَتَأثَّرُ قُوَّتُهُ بالصِّيامِ لاعتِيادِه عليه، لَكنْ فِيهم من يُضعِفُهُ الصِّيامُ، فأمَرَ الجَمِيعَ بالإفْطَارِ مرَاعَاةً لمن يُضْعِفُهُم الصِّيام.
العاشر: أَنَّ الأَحْكَامَ التي يُخيَّرُ فيها المُكلَّفُ فيها سَعَةٌ، فلا إِنكارَ فيهَا، وهكَذَا المسَائِلُ الخِلافِيَّةُ التي لم يَتَبَيَّنْ دَليلُهَا، فَالأَمرُ فيها وَاسِعٌ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
الحادي عشر: أَنَّ اختلافَ المسلِمِينَ في الأَخْذِ بالرُّخَصِ الشَّرعِيَّةِ، أَو فَهْمِ النُّصوصِ يَجب ألَّا يَكُونَ سببَ فُرقَةٍ وعَدَاوَة.(1/3)
الثاني عشر: دَلَّتْ هَذِهِ الأَحَاديثُ عَلى مَا كَانَ عَلَيهِ الصَّحابَةُ رَضيَ اللهُ عَنْهُم من الأُخُوَّةِ والمَحَبَّةِ، والفِقْهِ في الدِّينِ، فَمَنْ أخَذَ بالرُخْصَةِ لم يَعِبْ على مَنْ صَامَ، ومن صَامَ لم يَعِبْ على مَنْ تَرَخَّصَ بالفِطْرِ.
الثالث عشر: جَوَازُ السَّفَرِ في رَمَضَانَ، لأنَّ النبيِّ ? سَافَرَ فيهِ عامَ الفَتْحِ (1) .
الرابع عشر: مَنْ أَرَادَ السَّفرَ غدَاً فلا يَجوزُ له أَنْ يُبيِّتَ نِيَّةَ الفِطْرِ؛ لأَنَّهُ لا يكُونُ مُسَافراً بالنيَّةِ، وإنما بإنشَاءِ السَّفر (2) .
الخامس عشر: مَنْ كَانَ يُؤَمِّلُ السَّفَرَ فلا يَجُوزُ له أَنْ يُفطِرَ في الحَضَرِ حتى يَخْرُجَ مُسَافِراً، أَو يَركَبَ رَحْلَه (3) .
( ( (
__________
(1) التمهيد (22/48).
(2) التمهيد (22/49).
(3) التمهيد (22/49).(1/4)
27- تخفيفُ الشهوةِ بالصيام
عَنْ ابنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبيِّ ? فَقَالَ: «مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْج، ومَنْ لم يَسْتَطِعْ فَعَلَيهِ بالصَّومِ فَإِنَّهُ له وِجَاء» متفق عليه (1) .
وعَنْ جَابرِ بنِ عبدِالله رَضيَ الله عَنهُما: «أنَّ رَجُلاً شَاباً أَتَى النَّبيَّ ? يَستَأْذِنُه في الخِصاءِ، فقال: صُمْ وسَلِ الله عَزَّ وجَلَّ مِنْ فَضْلِه» رواه أحمد (2) .
وعنْ عَبْدِالله بنِ عَمْروٍ رَضيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: «جَاءَ رَجلٌ إلى رَسُولِ الله ? فَقالَ: يا رَسُولُ الله، ائْذِنْ لي أَنْ أَخْتَصِي، فَقَالَ رَسُولُ الله ?: خِصَاءُ أُمَّتِي الصِّيامُ والقِيام» رواه أحمد (3) .
الفوائد والأحكام:
الأول: حِرصُ الصَّحَابةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ على طَاعَةِ الله تَعَالى، وخَوفُهُم من مَعصِيَتِهِ، وسُؤَالُهم عن أُمُورِ دِينِهِم، وتَوَجُّهُ هِمَّتِهِم إلى الآخرة.
الثاني: النَّهيُ عنِ الخِصَاءِ لِقطْعِ الشَّهْوَةِ، والنَّهيُ يَقتَضِي التَّحرِيمَ فَلا يَجُوزُ فِعْلُه.
__________
(1) رواه البخاري (1806) ومسلم (1400).
(2) رواه أحمد (3/382) وابن المبارك في الزهد (1107) ورجاله ثقات إلا أن راويه عن جابر - رضي الله عنه - مجهول، لكن يشهد له الحديثان الآخران.
(3) رواه أحمد (2/173) والبغوي في شرح السنة (2238) وعزاه الهيثمي للطبراني وقال: ورجاله ثقات وفي بعضهم كلام (4/253) وصححه الشيخ أحمد شاكر (6612) والألباني بطرقه في السلسلة الصحيحة (1830) دون اللفظه الأخيرة «والقيام» فإنها زيادة ضعيفة كما نبه على ذلك الألباني رحمه الله تعالى.(1/1)
الثالث: أَنَّه يَجُوزُ لمن لا يَجِدُ مَؤُنَةَ النِّكَاحِ أَنْ يَتَعَاطَى الأَدْوِيَةَ التي تُسَكِّنُ الشَّهوَة؛ لأَمْرِ النَّبيِّ ? بِالمُعَالَجَةِ لِتَسْكِينِهَا بالصِّيام (1) .
الرابع: فَضِيلَةُ النِّكاحِ لمنْ قَدَرَ عَلَيه، وأَنَّهُ عِبَادَةٌ وفَضْلٌ مِنَ الله تَعَالى.
الخامس: أَنَّهُ يَنبَغِي لمنْ عَجَزَ عَنْ مَؤُنَةِ النِّكاحِ الدُّعاءُ، وسُؤَالُ الله تَعَالى مِنْ فَضْلِهِ مَعَ الصَّومِ حتى يُيَسِّرَ اللهُ تَعَالى له مَؤُنَةَ النِّكاح.
السادس: أَنَّ مِنْ هَدْيِ النَّبيِّ ?: التَّمتُّعُ بالطَّيباتِ مِن المآكِل والمَشَارِب والنِّساء، واعتِزَالُ ذَلك تَوَرُّعاً وعِبادةً مُخالِفٌ لِسُنَّتِهِ عَلَيهِ الصَلاةُ والسَلام.
( ( (
__________
(1) انظر: شرح السنة للبغوي (9/6).(1/2)
28- عددُ ركعاتِ التراويح
عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: «مَا كَانَ رَسُولُ الله ? يَزيدُ في رَمَضَانَ وَلا في غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعَاً فَلا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعَاً فَلا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاثاً، قَالَتْ عَائشَةُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ؟ فَقَالَ: يَا عَائِشَة، إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلا يَنَامُ قَلْبي» رواه الشيخان (1) .
وَفي رِوَايَةٍ لَهُمَا: «كَانَ النَّبيُّ ? يُصَلِّي مِنَ الَّليْلِ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، مِنْهَا: الوِتْرُ وَرَكعَتَا الفَجْرِ» (2) .
وعَنْ مَسْرُوقٍ رَحِمَهُ الله تَعالى قَالَ: «سَأَلْتُ عَائشةَ رَضيَ الله عَنْهَا عَنْ صَلاةِ رَسُولِ الله ? بِالَّليْلِ، فَقَالَتْ: سَبْعٌ وَتِسْعٌ وإِحْدَى عَشْرَةَ سِوى رَكْعَتَيْ الفَجْرِ» رواه البخاري (3) .
وعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ الله عَنْهُما قَالَ: «كَانَ رَسُولُ الله ? يُصَلِّي مِنَ الَّليْلِ ثَلاثَ عَشْرةَ رَكْعَةً» رواه الشيخان (4) .
__________
(1) رواه البخاري (1096) ومسلم (738).
(2) هذه الرواية للبخاري (1089) ونحوها عند مسلم (738).
(3) هذه الرواية للبخاري (1088).
(4) رواه البخاري (1087) ومسلم (764).(1/1)
وَعَنْ عَبْدِالرَّحمنِ بنِ هرْمزَ الأَعْرج رَحِمهُ اللهُ تَعَالى قَالَ: «مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ إِلَّا وَهُمْ يَلْعَنُونَ الكَفَرَةَ في رَمَضَانَ، قَالَ: وَكَانَ القَارِئُ يَقْرأُ سُورَةَ البَقَرَةِ في ثَمانِ رَكْعَات، فَإِذا قَامَ بها في اثْنَتَي عَشْرَةَ رَكْعَةً رَأَى النَّاسُ أَنهُ خَفَّف» رواه مالك (1) .
الفوائد والأحكام:
الأول: أَنَّ صَلاةَ النَّبيِّ ? مِنَ الَّليْلِ في رَمَضَانَ وفي غَيْرِ رَمَضَانَ سَوَاء (2) .
الثاني: أَنَّ الأَنْبيَاءَ عَلْيهِمُ السَّلامُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلا تَنَامَ قُلُوبُهُم؛ ولهذَا كَانَتْ رُؤْيَا الأَنْبِيَاءِ حَقٌ، وَهَذَا مِنْ خَصَائِصِهِم عَلَيْهِم السَّلام (3) .
الثالث: أَجْمَعَ العُلَماءُ عَلَى أَنَّ صَلاةَ الَّليْلِ في رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ سُنَّةٌ، وَلا شَيءَ مُقَدَّرٌ فيهَا، فَمَنْ شَاءَ أَطَالَ القِيَامَ وَقَلَّلَ الرَّكَعَات، وَمَنْ شَاءَ خَفَّفَ القِيَامَ وَأَكْثَرَ الرَّكَعَات (4) .
الرابع: أَنَّ هَدْيَ النَّبيِّ ? في صَلاةِ الَّليلِ إِطَالَةُ القِرَاءَةِ والرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَعَدَمُ الزِّيَادَةِ عَلى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَة، وَهَذا أَفْضَلُ مِنْ التَّخْفِيفِ مَعَ زِيَادَةِ الرَّكَعَات (5) .
__________
(1) رواه مالك (1/115) وعبدالرزاق (7734) والبيهقي (2/497) وإسناده صحيح، وعبدالرحمن ابن هرمز تابعي جليل يحكي في أثره هذا فعل أهل المدينة في وقته. وانظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (5/69).
(2) الاستذكار (2/98).
(3) الاستذكار (2/101) وشرح النووي (6/21).
(4) الاستذكار (2/102) والتمهيد (21/70).
(5) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (23/69-72).(1/2)
الخامس: أَنَّ النَّبيَّ ? قَدْ يَزِيدُ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةٍ فَيُصَلِّي ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَة، وَقَدْ يَنْقُصُ عَنْ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةٍ فَيُصَلِّي سَبْعاً أَوْ تِسْعاً كَما دَلَّت عَلى ذَلكَ الأَحَادِيثُ الأُخْرى، لَكنَّ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا تَحكيَ الأَغْلَبَ مِنْ فِعْلِهِ عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وَهُوَ الدَّيْمُومَةُ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَة (1) .
السادس: أَنَّ النَّبيَّ ? كَانَ يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَينِ، وَأنَّ سَرْدَ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ أَوْ أَكْثَرَ بِسَلامٍ وَاحِدٍ ِخِلافُ سُنَّتِهِ الَّتي دَاوَمَ عَلَيْهَا، وَدَليلُ ذَلكَ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا تَصِفُ صَلاةَ النَّبيِّ ? في الَّليْلِ: «يُسَلِّمُ بَينَ كُلِّ رَكْعَتَينِ وَيُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ» رواه مسلم (2) ، وَقَالَ النَّبيُّ ? : «صَلاةُ الَّليْلِ مَثْنَى مَثْنَى» (3) وَهَذَا غَيْرُ الوِتْرِ، فَلِلْمُسْلِمِ أَنْ يُوتِرَ بِثَلاثٍ أَوْ خَمْسٍ لا يَجْلِسُ إِلا في آخِرِهَا كَما جَاءَ في حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ الله ? يُصَلِّي مِنَ الَّليْلِ ثَلاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةٍ يُوتِرُ مِنْ ذَلكَ بِخَمْسٍ لا يَجْلِسُ في شَيءٍ إِلا في آخِرِهَا» (4) .
__________
(1) انظر: الفتوى (9353) من فتاوى اللجنة الدائمة، وفتح الباري لابن حجر (3/20) وشرح النووي (6/18) وسبل السلام (2/13).
(2) صحيح مسلم (736).
(3) رواه البخاري (946) ومسلم (749) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقد أصدر الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى تنبيهاً ينكر فيه على من سرد أربعاً بسلام واحد في صلاة التراويح من أئمة المساجد بتاريخ 19/9/1414هـ. وكذلك أنكره الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى في فقه العبادات (203-205).
(4) رواه مسلم (737).(1/3)
السابع: أَنَّ فِعْلَ الصَّحَابَةِ والتَّابِعينَ لهم بإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم في المدِينةِ كَانَ إِطَالَةَ صَلاةِ التَّرَاويحِ على نَحْوِ مَا ذَكَرَ التَّابِعيُّ الجلِيلُ عَبْدُالرَّحمنِ بنُ هرْمزَ رَحِمهُ اللهُ تَعَالى.
الثامن: إِبَاحَةُ لَعْنِ الكَفَرَةِ والدُّعَاءِ عَلَيْهِم في القُنُوتِ مِنْ صَلاةِ التَّراويح، سَوَاءٌ كَانَتْ لهم ذِمَّةٌ أَمْ لم تكُنْ لهم ذِمَّة؛ لاسْتِحْقَاقِهِم ذَلكَ بِكُفْرِهِم، وَلَيْسَ ذَلكَ بِوَاجِبٍ، والهَدْيُ النَبَويُ في ذَلكَ هُوَ الدُّعَاءُ على المحَارِبينَ بالهلاكِ والعَذَابِ، والدُّعَاءُ لِلمُسالِمينَ ومَنْ يُرْجَى إِسْلامُهُ بِالهدَايَةِ والرَّشَادِ (1) .
التاسع: أَنَّ قُنُوتَ الصَّحَابَةِ والتابِعينَ في المدِينةِ على الكُفَارِ في رَمَضَانَ أَخَذُوهُ مِنْ دُعَاءِ النَّبيِّ ? في قُنُوتِ النَّوَازِلِ عَلى قَتَلَةِ القُرَّاءِ مِنْ رِعْلٍ وذَكْوَانَ وبَني لِحْيَانَ وعُصَيَّة (2) . وأَنَّ أَهْلَ المدِينةِ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلكَ في النِّصْفِ الأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ إِلى أَنْ يَنْسَلِخَ الشَّهْرُ.
__________
(1) انظر: الاستذكار (2/73) وقد بوب البخاري في صحيحه في كتاب الدعوات باب رقم (58) وفي كتاب الجهاد والسير باب رقم (98) فقال: «باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة» وذكر تحته أحاديث تدل على ذلك، كما بوب البخاري بالدعاء للمسالمين منهم في الدعوات باب (59) وفي الجهاد باب (100) فقال: «باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم» وقد نقلت أقوال العلماء حول هذا الموضوع في بحث مختصر في المفيد في خطب الجمعة والعيد (3/279-294).
(2) الاستذكار (2/73).(1/4)
العاشر: أَنَّ الدُّعَاءَ عَلى الكُفَّارِ في الخُطْبةِ الثَّانِيةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ فِعْلِ الصَّحَابةِ وَجِلَّةِ التَّابِعينَ بالمدِينةِ في لَعْنِ الكَفَرَةِ في القُنُوتِ، قَالَ الحَافِظُ ابنُ عَبدِالبرِ رَحِمهُ اللهُ تَعَالى بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ ذَلك: «والأَعْرَجُ أَدْرَكَ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ وكِبارِ التَّابِعينَ، وهَذَا هُوَ العَمَلُ بِالمدِينة» (1) .
( ( (
__________
(1) السابق (2/75).(1/5)
29- متى يفطرُ المسافر؟!
عَنْ جَعْفَرِ بنِ جَبْرٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَالَ: «كُنْتُ مَعَ أَبي بَصْرَةَ الغِفَاريِّ صَاحِبِ النَّبيِّ ? في سَفِينَةٍ مِنْ الفُسْطَاطِ في رَمَضَانَ، فَرُفِعَ ثُم قُرِّبَ غَدَاؤُهُ، قَالَ جَعْفَرٌ في حَدِيثِهِ: فلمْ يُجَاوِزِ البُيُوتَ حَتَّى دَعَا بِالسُّفْرَةِ، قَالَ: اقْتَرِبْ، قُلْتُ: أَلَسْتَ تَرَى البُيُوتَ، قَالَ أبو بَصْرَةَ: أَتَرْغَبُ عنْ سُنَّةِ رَسُولِ الله ?، قَالَ جَعْفَرٌ في حَدِيثِهِ: فَأَكَل» رواه أبو داود وأحمد (1) .
وَعَنْ مُحمَدِ بنِ كَعْبٍ رَحمهُ اللهُ تَعَالى أَنه قَالَ: «أَتيتُ أَنسَ بنَ مَالِكٍ في رَمضَانَ وهوَ يُريدُ سَفراً وقَد رُحِّلَتْ لهُ رَاحِلَتُه، ولَبِسَ ثِيَابَ السَّفَرِ، فَدَعَا بِطَعَامٍٍ فَأَكَلَ، فقُلْتُ لَهُ: سَنَّةٌ؟ قَالَ: سَنَّةٌ، ثُمَّ رَكِب» رواه الترمذيُ وحسنه (2) .
الفوائد والأحكام:
الأول: أَنَّ مِنْ سُنَّةِ النَّبيِّ ?: الإفْطَارَ في السَّفَرِ، وقدْ جاءَ عنه ? أ َنَّهُ صَامَ في السَّفَرِ، كَما جاءَ عَنْهُ عليه الصلاةُ والسلامُ أَنَّهُ أَفْطَرَ، وهَكَذا جاءَ عنْ الصَّحَابَةِ - رضي الله عنهم - أَنَّهم صَامُوا مَعَه في بَعْضِ أَسْفَارِهِ، وَأَفْطَرُوا في بَعْضِها.
__________
(1) رواه أبو داود (2412) وأحمد (6/398) والدارمي (1713) والطبراني في الكبير (2/279-280) رقم (2169- 2170) وقَالَ الشوكاني: رجاله ثقات، نيل الأوطار (4/311) وانظر: تحفة الأحوذي (3/430) وصححه الألباني في الإرواء (4/163) رقم (928).
(2) رواه الترمذي وقَالَ: حديث حسن (799-800) والضياء في المختارة (2602) والدار قطني (2/187) والبيهقي (4/247) وصححه الألباني في الإرواء (4/64) وفي صحيح الترمذي.(1/1)
الثاني: أَنَّ هَذِهِ الأحادِيثَ تُفِيدُ أَنَّ مَنْ أَنْشَأَ السَّفَرَ جَازَ لهُ الفِطْرُ وَلَو لمْ يُجَاوِزْ المدِينة أو القَرْيَةَ الَّتي أَنْشَأَ السَّفَرَ مِنْهَا، قَالَ ابنُ القيِّم رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى: «وكَانَ الصَّحَابَةُ - رضي الله عنهم - حِينَ يُنْشِئُونَ السَّفَرَ يُفْطِرُونَ منْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مُجَاوَزَةِ البُيوتِ، وَيُخْبِرونَ أنَّ ذلكَ سُنَّتُهُ وَهَدْيُهُ ?» (1) .
الثالث: أَفَادَتْ هذِهِ الأحَادِيثُ أنَّ منْ أصْبَحَ صَائِماً ثمّ أَنشأَ السَّفَرَ حَلَّ لَهُ الفِطْرُ في أَثنَاءِ يَومِهِ؛ خِلافاً لمن مَنَع ذلك، قَالَ ابنُ القَيمِ رَحِمهُ اللهُ تَعَالى: «وَهذِه الآثارُ صرِيحَةٌ في أَنَّ مَنْ أَنشَأَ السّفَرَ في أَثنَاءِ يَوْمٍ مِنْ رَمضَانَ فَلَهُ الفِطْرُ فِيهِ» (2) .
( ( (
__________
(1) زاد المعاد (2/56) وهذه المسألة خلافية، وقد جاء عن الإمام أحمد أنه يفطر إذا برز من البيوت، قَالَ إسحاق بن راهويه: بل حين يضع رجله فله الإفطار كما فعل ذلك أنس - رضي الله عنه - ، وينظر: المغني (4/345- 348) والفتح (4/180-182).
(2) زاد المعاد(2/57) وانظر: تهذيب السنن(7/39) وهو قول الشعبي وأحمد وإسحاق وداود وابن المنذر، خلافاً للأئمة الثلاثة والأوزاعي؛ إذ يرون أن من أصبح صائماً وأراد السفر فلا يفطر يومه ذلك، وانظر: مختصر السنن للمنذري (3/291).(1/2)
30- الجماعُ في نهارِ رمضان
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: «بَيْنَما نَحنُ جُلوسٌ عِنْدَ النَّبيِّ ? إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقالَ: يَا رَسُولَ الله، هَلَكْتُ، قَالَ: مَا لَكَ؟ قَالَ: وَقَعْتُ عَلى امْرَأَتي وأَنَا صَائِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله ?: هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ قَالَ: لا، قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَين؟ قَالَ: لا، فَقَالَ: فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِيناً؟ قَالَ:لا، قَالَ: فَمَكَثَ النَّبيُّ ?، فَبَينَا نَحْنُ عَلى ذَلكَ أُتيَ النَّبيُّ ? بِعَرَقٍ فِيهِ تَمْرٌ - والعَرَقُ المِكْتَلُ - قَالَ: أَيْنَ السَّائِلُ؟ فَقَالَ: أَنَا، قَالَ: خُذْ هَذَا فَتَصَدَّقْ بِه، فَقَالَ الرَّجُلُ: أَعَلى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ الله؟ فَوَالله ما بَيْنَ لابَتَيْهَا - يُريدُ الحرَّتَين - أَهْلُ بَيتٍ أَفْقَرَ مِنْ أَهْلِ بَيتي، فَضَحِكَ النَّبيُّ ? حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُم قَالَ: أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ» متفق عليه (1) .
الفوائد والأحكام:
__________
(1) رواه البخاري (1834) ومسلم (1111).(1/1)
الأول: أَنَّ مَنْ جَامَعَ في نَهارِ رَمَضَانَ بِلا عُذْرٍ كَسَفَرٍ ونِسْيَانٍ وإِكْرَاهٍ فَهُوَ عَاصٍ لله عَزَّ وَجَلَّ، يَأْثَمُ بِذَلِكَ، وَيَجبُ عَلَيهِ التَّوبَةُ مَعَ إِمْسَاكِ بَقِيةِ يَوْمِهِ، ويَفْسُدُ صَوْمُهُ في ذَلكَ اليَومِ، وعَلَيهِ الكَفَّارَة (1) .
الثاني: أَنَّ الكَفَّارَةَ مُرَتَّبَةٌ ابْتِدَاءً بِعِتْقِ رَقَبَةٍ، فَإِنْ لَم يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَينِ مُتَتَابِعَينِ، فَإِنْ لَم يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً.
الثالث: فيهِ جَوَازُ أَنْ يُخْبِرَ الرَّجُلُ عَما يَقَعُ بَينَهُ وبَينَ أَهْلِهِ لِلْحَاجَة (2) .
الرابع: أَنَّ اسْتِفْتَاءَ العَاصي عَنْ حُكْم مَعْصِيَةٍ ومَا يَجِبُ عَلَيهِ فِيهَا لَيْسَ مِنَ المُجَاهَرَةِ بالمَعْصِيَةِ (3) .
الخامس: الرِّفْقُ بالمُتَعَلِّم، والتَّلَطُّفُ في التَّعْليم، والتَّألُّفُ عَلى الدّين، والنَّدَمُ عَلى المَعْصِيَةِ، واسْتِشْعَارُ الخَوفِ مِنَ الله تَعالى (4) .
السادس: جَوَازُ إِعْطَاءِ الكَفَّارَةِ أَهْلَ بَيْتٍ وَاحِدٍ (5) .
__________
(1) فتاوى أركان الإسلام لابن عثيمين (474) والشرح الممتع (6/401) والجمهور على أنه يقضي انظر: المفهم (3/172) وجاء في ذلك رواية أبي داود (2287) ومالك (1/297) والدارقطني (2/190) أنه أمره بالقضاء وهي رواية معلولة، والرواية الأخرى عند أبي داود (2393) التي فيها القضاء شاذة خالف فيها أربعة رواة أربعين راوياً، وينظر فيها تهذيب السنن لابن القيم (7/18-19) والقول الثاني: لا يقضي، ورجحه شيخ الإسلام فقال: «ولو كان أمره بذلك لما أهمله هؤلاء كلهم وهو حكم شرعي يجب بيانه ولما لم يأمره به دلّ على أن القضاء لم يبق مقبولاً منه» أهـ من حقيقة الصيام (25-26).
(2) فتح الباري لابن حجر (4/173).
(3) شرح ابن الملقن على العمدة (5/215).
(4) الفتح (4/173).
(5) السابق (4/174).(1/2)
السابع: حِرْصُ أَصْحَابِ رَسُولِ الله ? على طَهَارَةِ نُفُوسِهِم، وتَخلِيصِهَا مِنْ أَسْبَابِ العَذَاب (1) .
الثامن: جَوَازُ الأَكْلِ مِنْ طَعَامِ الكَفَّارَةِ لمنْ وَجَبَتْ عَلَيهِ إِذَا كَانَ مُعْسِراً والتَّصَدُّقِ بهَا عَلَى أَهْلِهِ (2) .
التاسع: أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ على الزَّوْجِ ولَو كَانَ مُعْسِراً وقَدْ تَرْجَمَ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى على هَذا الحَدِيثِ بِقَوْلِه: «بَابُ نَفَقَةِ المعْسِرِ على أَهْلِه» (3) .
العاشر: أَنَّ هَذِهِ الكَفَّارَةَ المغَلَّظَةَ خَاصَةٌ بِمَنْ أَفْطَرَ بالجِماعِ دُونَ مَنْ أَفْطَرَ بالأَكْلِ أَو الشُّرْبِ وعلى هَذَا الفَتْوَى (4) .
الحادي عشر: فَرَحُ الإِمَامِ بِقَضَاءِ حَاجَاتِ الرَّعِيَّةِ الدُّنْيَويَّةِ والأُخْرَويَّةِ (5) .
الثاني عشر: أَنَّهُ يَجُوزُ للإنْسَانِ أَنْ يَشْكُوَ حَالَهُ إِلى مَنْ يَقْدِرُ عَلى مُسَاعَدَتِهِ عَلى بَلوَاهُ إِذَا لم يَكُنْ على سَبيلِ التَّسَخُّطِ.
الثالث عشر: إِذا جَامَعَ في يَومٍ مِنْ رَمَضَانَ مَرَّتَينِ فَأَكْثَرَ ولم يُكَفِّر فَعَلَيْهِ كَفَّارَة وَاحِدَةٌ بِلا خِلافْ (6) .
__________
(1) بلوغ المرام بشرح الفاريابي (1/426).
(2) بلوغ المرام بشرح الفاريابي (1/426).
(3) صحيح البخاري (5/2053) وينظر: شرح ابن الملقن على العمدة (5/254) .
(4) خلافاً للحنفية والمالكية إذا قالوا بالكفارة على من أكل أو شرب انظر: المفهم (3/173) وقيل: إنها لا تجب وهو مذهب الشافعية والحنابلة لظاهر النص، ولأن الأصل البراءة من موجب الكفارة حتى يثبت الموجب بدليل واضح. انظر: فتاوى اللجنة (9393).
(5) البلوغ بشرح الفاريابي (1/426).
(6) المجموع (6/349) والأشباه والنظائر للسيوطي (127).(1/3)
الرابع عشر: إِذا جَامَعَ في يَوْمَيْنِ مِنْ رَمَضَانَ أَو أَكثَرَ فَعَلَيهِ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ كَفَّارَة (1) .
الخامس عشر: إِذا جَامَعَ في قَضَاءِ رَمَضَان فَسَدَ صَوْمُهُ وعَلَيهِ القَضَاءُ دُونَ الكَفَّارَة؛ لأَن الكَفَّارَةَ لانْتِهَاكِ حُرْمَةِ شَهْرِ رَمَضَانَ على الصَّحِيح، بِخِلافِ القَضَاءِ (2) .
السادس عشر: مَنْ طَلَعَ عَلَيهِ الفَجْرُ وَهُوَ مُجَامِعٌ فَنَزَعَ في الحَالِ فَلا شَيءَ عَلَيهِ، وإِنْ اسْتَمَرَّ فَهُوَ آثِمٌ وعَلَيهِ التَّوبَةُ والكَفَّارَةُ مَعَ إِمْسَاكِ يَوْمِهِ ذَاكَ (3) .
السابع عشر: مَنْ أَفْطَرَ بِشُرْبٍ أَو أَكْلٍ لِكَيْ يُجَامِعَ فَهُوَ آثِمٌ عَلى فِطْرِهِ بلا عُذْرٍ، وعَلى احْتِيَالِهِ عَلى الشَّرعِ، ولا تَسْقُطُ الكَفَّارَةُ عَنهُ (4) .
__________
(1) المغني (4/386) والمجموع (6/348) وبه أفتت اللجنة الدائمة، رقم الفتوى (13548) وابن عثيمين في فقه العبادات (198) وأفتى الشيخ ابن جبرين أنه إذا جامع في يومين ولم يكفر عن واحد منهما فعليه كفارة واحدة عن اليومين. فتاوى الصيام (70).
(2) انظر: الأم (2/100) وتفسير القرطبي (2/284) والمغني، ونقله ابن قدامه عن جمهور العلماء عدا قتادة (4/378) وبه أفتت اللجنة (13475).
(3) انظر: المجموع (6/316) وروضة الطالبين (2/365) وفي المغني (4/379) وكشاف القناع (2/325) أنه يفطر لأنه يلتذ بالنزع كما يلتذ بالإيلاج، وروى البيهقي في سننه (4/219) عن ابن عمر رضي الله عنهما قوله: «لو نودي بالصلاة والرجل على امرأته لم يمنعه من ذلك أن يصوم، إذا أراد الصيام قام واغتسل ثم أتم صيامه» اهـ وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.
(4) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (25/260) وإعلام الموقعين (3/247).(1/4)
الثامن عشر: سَمَاحَةُ الشَّريعَةِ ويُسْرُهَا، وذَلكَ في حَالِ هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي ارْتَكَبَ هَذا الذَّنْبَ العَظِيمَ في رَمَضَانَ، وَجَاءَ خَائِفاً إِلى النَّبيِّ ? يَقُولُ: «هَلَكْتُ» وفي رِوايةٍ: «مَا أَرَاني إِلا هَلَكْتُ» وهَذا يَدُلُّ عَلى نَدَمِهِ وتَوْبَتِهِ، فَتَابَ اللهُ عَلَيهِ، وَأَعْطَاهُ النَّبيُّ ? مَا يُكَفِّرُ بِهِ، فَأَنْفَقَهُ عَلى أَهْلِهِ لِفَقْرِهِم؛ ولِذلكَ ضَحِكَ النَّبيُّ ? (1) .
التاسع عشر: إِذا لم يَعْلَم أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ فَجَامَعَ فَالصَّوابُ أَنَّهُ لَيْسَ عَليهِ كَفَّارَة (2) .
العشرون: إِذا جَامَعَ نَاسِياً فَصِيَامُهُ صَحِيحٌ ولا كَفَارَةَ عَليهِ ولا قَضَاء (3) .
( ( (
__________
(1) انظر: منحة الباري (4/379) وفتح الباري (4/171).
(2) وهذا اختيار ابن تيمية في الفتاوى (25/228) وابن إبراهيم في فتاواه (4/195).
(3) انظر: الأم (2/99) والاستذكار (10/111) والمفهم (3/169) وشرح ابن الملقن على العمدة (5/217).(1/5)
31- فضلُ التراويحِ جماعة
عَنْ أَبي ذَرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: »صُمْنَا معَ رَسُولِ الله ? رَمَضَانَ فَلَمْ يَقُمْ بنا شَيءٌ مِنَ الشَّهرِ حَتَّى بَقيَ سَبعٌ فَقَام بنا حتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيلِ، فلمَّا كَانتْ السَّادسَةُ لم يَقُم بِنَا، فلمَّا كانت الخَامِسَةُ قام بِنَا حتَّى ذَهَبَ شطْرُ اللَّيلِ فَقُلتُ: يا رَسُولَ الله، لو نَفَلْتَنَا قِيَامَ هذهِ اللَّيلةِ، قَالَ: فَقَالَ: إنَّ الرَّجُلَ إذا صَلَّى مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنصَرِفَ حُسِبَ له قِيَامُ لَيلَةٍ، قالَ: فلمَّا كانَت الرَّابِعَةُ لم يَقُمْ، فلمَّا كانت الثَّالثَةُ جَمَعَ أَهْلَهُ ونِسَاءَهُ والنَّاسَ فقَامَ بنَا حتَّى خَشِينَا أن يَفُوتَنَا الفَلاحُ. قَالَ: قُلتُ: مَا الفَلاحُ؟ قَالَ: السَّحُورُ، ثمَّ لم يَقُم بنَا بَقِيَّة الشَّهر» رواه الأربعة وصححه الترمذي (1) .
الفوائد والأحكام:
الأول: سُنِّيةُ صَلاةِ التَّرَاوِيحِ، وأنَّ النَّبيَّ ? صَلَّاهَا ثم تَركَهَا خَشيَةَ أَنْ تُفرَضْ على المُسلِمِين.
الثاني: مَشرُوعِيَّةُ صَلاةِ الترَاوِيحَ للنِّسَاءِ مع جَمَاعةِ المُسلِمِين في المَسَاجِد؛ لأنَّ النَّبي ? جَمَع أَهلَه ونِسَاءَهُ والنَّاسَ وصَلَّى بِهِم.
__________
(1) رواه أبوداود (1375) والترمذي وقال: حسن صحيح (806) والنسائي (3/83) وابن ماجه (1327) وأحمد (5/163) وصححه ابن خزيمة (2205) وابن حبان (2547).(1/1)
الثالث: أَنَّ مَنْ قَامَ مَعَ إِمَامِهِ حَتَّى يَنصَرِفَ مِنْ صَلاتِهِ كُتِبَ له قِيَامُ اللَّيْلةِ الَّتي قَامَهَا مَعهُ، فَيَنبَغِي لِلمُسْلِم أَلَّا يُفَرِّط في هذا الخَيرِ العَظِيم، وأَنْ يَحرِصَ على إِكْمَالِ صَلاةِ التَّراوِيحِ مَعَ المُسلِمِين في كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَان. وَقَدْ سُئِلَ الإِِمَامُ أَحمَدُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى: «يُعجِبُكَ أنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ مَعَ النَّاسِ في رَمَضَانَ أَوْ وَحْدَه، قال: يُصَلِّي مَعَ النَّاسِ، يُحيِيّ السُّنَّة، قَالَ: ويُعجِبُنِي أنْ يُصَلِّيَ مع الإِمَامِ ويُوتِر» (1) .
الرابع: أَنَّ السُّنَّةَ في التَّراوِيحِ أنْ تُصَلَّى في أَوَّلِ اللَّيلِ كما فَعَلَ النَّبيُّ ? وصحابَتُهُ رَضيَ اللهُ عَنْهُم، وقَدْ سُئِلَ الإمَامُ أَحمَدُ رَحِمهُ اللهُ تَعَالى: »تُؤخِّر القِيَام - يعني: التَّراوِيح - إلى آخِرِ اللَّيل، قال: لا، سُنَّةُ المُسلِمِينَ أَحَبُّ إليّ» (2) . وسُئِلَ الشَّيخُ ابنُ بَازٍ رَحِمهُ اللهُ تَعَالى: لَو اتَّفَقُوا على تَأخِيرِ الوِتْرِ آخِرَ اللَّيلِ؛ فَقَالَ: صَلاتُهُم مُجتَمِعينَ مَعَ النَّاسِ أوَّلَ اللَّيلِ أَفضَل.
الخامس: إِذا كَانَ في الإِنسَانِ نَشَاطٌ وقُوَّةٌ على العِبَادَةِ، فَيُكْمِل صَلاتَهُ مَعَ المُسلِمِينَ أَوَّلَ اللَّيل، ويُصلِّي آخِرَهُ لِنَفسِهِ مَا شَاء، فَيكُونُ جَمعَ بينَ الخَيرَين: خَيرِ صَلاتِهِ مع الإمَامِ حتى يَنصَرفَ، وخَيرِ الصَّلاةِ في آخِرِ اللَّيل.
( ( (
__________
(1) تحفة الأحوذي (3/448) وانظر: المغني (1/457).
(2) المغني (1/457).(1/2)
32- وقتُ الإفطار
...
عَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ?: «إِذا أَقْبَلَ الَّليْلُ مِنْ هَا هُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدَ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» رَوَاهُ الشَّيْخَان (1) .
وَفي رِوَايَةٍ لِلتِرمِذِيِّ: «وَغَابَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرْتَ» (2) .
وَفي رِوَايَةٍ لأَبي دَاوُدَ: «إِذا جَاءَ الَّليْلُ مِنْ هَا هُنَا، وَذَهَبَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا، وغَابَتِ الشَّمْسُ فَقَدَ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» (3) .
وَعَن عَبدِالله بنِ أَبي أَوْفَى - رضي الله عنه - قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله ? في سَفَرٍ وَهُوَ صَائِمٌ، فَلما غَرَبَتِ الشَّمْسُ قَالَ لِبَعْضِ القَوْمِ: يَا فُلانُ، قُمْ فَاجْدَحْ لنا، فقَالَ: يَا رَسُولَ الله، لَوْ أَمْسَيْتَ، قَالَ: انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنا، قَالَ: يَا رَسُولَ الله، فَلَوْ أَمْسَيْتَ، قَالَ: انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنا، قَالَ: إِنَّ عَلَيْكَ نَهَاراً، قَالَ: انْزِلْ فَاجْدَحْ لَنا، فَنَزَلَ فَجَدَحَ لهُمْ، فَشَرِبَ النَّبيُّ ? ثُم قَالَ: إِذَا رَأَيْتُم الَّليْلَ قَدْ أَقْبَلَ مِنْ هَا هُنَا فَقَدَ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» رَوَاهُ الشَّيْخَان.
وفي رِوَايَةٍ لمسْلِمٍ: «وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ المشْرِقِ» ولأَحْمَدَ: «فَقَدْ حَلَّ الإِفْطَارُ».
وفي رِوَايَةٍ لأَبي دَاوُدَ: أَنهُ قَالَ ذَلِكَ لِبلالٍ - رضي الله عنه - (4) .
__________
(1) رواه البخاري (1853) ومسلم (1100).
(2) جامع الترمذي (698) وقَالَ: حسن صحيح، ورواه أحمد (1/35) والدارمي (1700).
(3) سنن أبي داود (2351) ورواه أحمد (1/54) وابن أبي شيبة (2/277).
(4) رواه البخاري (1854) ومسلم (1101) وأبو داود (2352) وأحمد (4/382).(1/1)
والجَدْحُ مَعْنَاه: خَلْطُ الشَيءِ بِغَيْرِهِ بِعُودٍ يُقَالُ لَه المِجْدَح، والمرَادُ هُنا خَلْطُ السويقِ بِالماءِ وَتَحْريكُهُ حَتى يَسْتَوي (1) . قَالَ المازِرِيُّ: المِجْدَحَةُ هِيَ المِلْعَقَةُ (2) .
والسويقُ: طَعَامٌ يُتَّخَذُ مِنَ الحِنْطَةِ والشَّعِيرِ، سُمِّيَ بِذلِكَ لانْسِياقِهِ عَلى الحَلْقِ (3) .
الفوائد والأحكام (4) :
الأول: أَنهُ مَتَى غَرَبَتِ الشَّمْسُ حَلَّ الفِطْرُ، وَهُوَ المعَبَّرُ عَنهُ بِإِقْبَالِ الَّليلِ، وإِدْبارِ النَّهَارِ، وهُوَ غِيَابُ قُرْصِ الشَّمْسِ وَلَوْ بَقِيَ الضِّياءُ في الأُفُقِ أَوْ في الطُرُقِ (5) .
__________
(1) شرح النووي على مسلم (7/209) وفتح الباري (4/197) والنهاية لابن الأثير (1/243) وقَالَ القرطبي «فاجدح لنا» أي: اخلط اللبن بالماء، المفهم (3/159).
(2) المعلم بفوائد مسلم (2/49).
(3) المعجم الوسيط (1/465) وانظر: اللسان.
(4) شرح ابن بطال على البخاري (4/103) وشرح النووي (7/209-211) والمفهم (3/158-159) والفتح (4/196-198) وعون المعبود (6/343).
(5) قَالَ القرطبي: «وإنما قَالَ له ذلك – أي بلال – لأنه رأى ضوء الشمس ساطعاً، وإن كان جرمها غائباً، فأعرض رسول الله ? عن الضوء، واعتبر غيبوبة جرم الشمس ، ثم بين ما يعتبره من لم يتمكن من رؤية جرم الشمس ، وهو إقبال الظلمة من المشرق» أهـ من المفهم (3/159).(1/2)
الثاني: حِرْصُ النَّبيِّ ? عَلى إِيْضَاحِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالأَحْكَامِ الشَّرْعِيةِ، وبَيَانِهِ بأَبْلغِ العِبَارَةِ؛ إِذ ذَكَرَ النَّبيُّ ? أُمُوراً ثَلاثَةً يَحِلُّ بهَا الفِطْرُ وَهِيَ: إِقْبَالُ الَّليلِ، وَإِدْبَارُ النَّهَارِ، وَغُرُوبُ الشَّمْسِ ، وَإِذا حَصَلَ أَحدُهَا حَصَلَ سَائِرُهَا، وإِنما جَمَعَهَا في الذِّكْرِ – والله أَعْلَمُ – لأَن النَاظِرَ قَدْ لا يَرَى عَيْنَ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَي: قُرْصِهَا لحَائِلٍ، وَيَرَى ظُلْمَةَ الَّليْلِ في المشْرِقِ فَيَحِلُّ لَهُ إِذْ ذَاكَ الفِطْرُ.
الثالث: إِذا غَابَ جَميعُ قُرْصِ الشَّمْسِ أَفْطَرَ الصَّائِمُ، وَلا عِبْرَةَ بِالحُمْرَةِ الشَدِيدَةِ البَاقِيَةِ في الأُفُقِ، وَإِذا غَابَ جَميعُ القُرْصِ ظَهَرَ السَّوادُ مِنَ المشْرِقِ.
الرابع: أَنهُ لا يجِبُ إِمْسَاكُ جُزْءٍ مِنَ الَّليْلِ مُطْلَقاً، وَهُوَ مَحلُّ إِجْماعٍ بَينَ العُلَماءِ (1) ؛ وَلا يُسْتَحَبُّ تَأْخِيرُ الفِطْرِ، إِذ المسْتَحَبُّ تَعْجِيلُهُ كَما دَلَّتْ عَلى ذَلكَ الأَحَادِيثُ.
الخامس: أَنَّ النَّاسَ سِرَاعٌ إِلى إِنْكَارِ مَا يَجْهَلُونَ، كَما تَوَقَّفَ بِلالٌ - رضي الله عنه - عَنْ إِنْفَاذِ أَمْرِهِ عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لما جَهِلَ مَا كَانَ النَّبيُّ ? يَعْلَمُهُ مِنْ حِلِّ الإِفْطَارِ في ذَلكَ الوَقْت.
__________
(1) نقل الإجماع على ذلك ابن بطال في شرحه على البخاري (4/102).(1/3)
السادس: أَنَّ الصَحَابَةَ رَضيَ الله عَنْهُمْ كَانُوا يُراجِعُونَ النَّبيَّ ? مِنْ بابِ الاحْتِياطِ، أَو اسْتِكْشَافِ الحُكْمِ، وَزِيادَةِ العِلْمِ، ثُم يُبَادِرُونَ إِلى الامْتِثَالِ فَوْراً، كَما رَاجَعَهُ بِلالٌ في الفِطْرِ لما رَأَى آثَارَ الضِّياءِ والحُمْرَةِ الَتي بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَظَنَّ أَنَّ الفِطْرَ لا يَحِلُّ إِلّا بَعْدَ ذَهَابِهَا، وَظَنَّ أَنَّ النَّبيَّ ? لم يَرَهَا، فَأَرَادَ تَذْكيرَهُ وَإِعْلامَهُ بِذَلكَ.
السابع: تَذْكِيرُ العَالمِ أَوْ الإِمَامِ بما يُخشَى أَنَّهُ نَسِيَهُ أَوَغَفَلَ عَنهُ، وَتَرْكُ مُرَاجَعَتِهِ بَعْدَ المرَّةِ الثَّالِثَةِ.
الثامن: أَنَّ مَنْ يَجهَلُ الحكْمَ يُسمَحُ لَه بالمرَاجَعَةِ والمنَاقَشَةِ حَتَّى يَتَعَلَّمُ، وَيَبْلُغَهُ الحُكْمُ.
التاسع: الإِيمَاءُ إِلى مُخالَفَةِ أَهْلِ الكِتَابِ؛ إِذْ كَانُوا يُؤَخِّرُونَ الفِطْرَ عَنِ الغُرُوبِ، وَفيهِ الرَّدُّ عَلى الرَّافِضَةِ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَهُ إِلى اشْتِباكِ النُّجُومِ.
العاشر: جَوَازُ الصَّوْمِ في السَّفَرِ لمن لا تَلحَقُهُ مَشَقَّةٌ تَضُرُّهُ.
الحادي عشر: يُشْرَعُ لِلصَّائِمِ وَهُوَ يُفْطِرُ أَنْ يُتَابِعَ المؤَذِّنَ، ويَذْكُرَ الأَذْكَارَ عَقِبَ الأَذانِ؛ لِعُمُومِ الأَدِلَّةِ عَلى اسْتِحْبابِ ذَلكَ، وَعَدَمِ اسْتِثْناءِ مَنْ هُوَ مَشْغُولٌ بِالفِطْرِ (1) .
__________
(1) فتاوى ابن عثيمين (1/531-532).(1/4)
الثاني عشر: الأَصْلُ أَنَّ لِكُلِّ شَخْصٍ في إِمْسَاكِهِ في الصِّيامِ، وَإِفْطَارِهِ، وَأَوْقَاتِ صَلاتِهِ حُكْمَ الأَرْضِ الَّتي هُوَ عَلَيْهَا، أَو الجوِّ الَّذِي يَسِيرُ فِيهِ، فَمَنْ غَرَبَتْ عَلَيهِ الشَّمْسُ وَهُوَ في المطَارِ، أَو صَلَّى المغْرِبَ، ثُم أَقْلَعَتْ بِه الطَّائِرَةُ باتِّجاهِ الغَرْبِ فَرَأَى الشَّمْسَ فَلا يَلْزَمُهُ الإِمْسَاكُ، وَصَلاتُهُ وصِيَامُهُ صَحِيحَانِ؛ لأَنهُ وَقْتَ الإِفْطَارِ والصَّلاةِ لَهُ حُكْمُ الأَرْضِ الَّتي هُوَ عَلَيْهَا، وَإِنْ أَقْلَعَتْ بهِ الطَّائِرَةُ قَبْلَ الغُرُوبِ بِدَقَائِقَ، وَاسْتَمَرَّ مَعَهُ النَّهَارُ فَلا يَجُوزُ لَهُ الفِطْرُ ولا الصَّلاةُ حَتَّى تَغْرُبَ شَمْسُ الجوِّ الَّذي يَسِيرُ فيهِ، ولَوْ مَرَّ بِسَماءِ بَلَدٍ أَهْلُهَا قَدْ أَفْطَرُوا وَصَلُّوا المغْرِبَ، وَهُوَ في سَمائِهَا يَرَى الشَّمْسَ فَلا يَحلُّ لَهُ الفِطْرُ ولا الصَّلاةُ إِلَّا بَعْدَ غُرُوبها (1) .
__________
(1) فتاوى اللجنة الدائمة (2254) وانظر: مجموع فتاوى ابن باز (15/293-300-322).(1/5)
33- حكمُ استقاءِ الصائم
عَنْ أَبي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ?: «مَنْ ذَرَعَهُ قَيءٌ وهُو صَائمٌ فَليسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَإِن اسْتَقَاءَ فلْيَقض» رواه أبو داود (1) .
وعَنْ مِعْدانَ بنِ طَلْحَةَ رَحِمَهُ الله تَعَالى: «أَنَّ أَبا الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - حَدّثَهُ أنَّ رَسُولَ الله ? قَاءَ فَأَفْطَرَ، فَلَقِيتُ ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ الله ? في مَسْجدِ دِمَشقَ فَقُلْتُ: إنَّ أبا الدَّرْدَاءِ حَدَّثَني أنَّ رَسُولَ الله ? قَاءَ فَأَفطَرَ، قَالَ: صَدَق، وأنَا صَبَبتُ لَه وَضُوءَهُ ?» رواه أبو داود (2) .
الفوائد والأحكام:
الأول: مِنْ رَحمَةِ الله تَعَالى بِعِبَادِهِ: أَنَّ مَا يَقَعُ بلا اخْتِيارِ المُكَلَّف لا يُحاسَبُ عَلَيهِ، وإِنما يُؤاخَذُ بأَفعَالهِ، ومنهُ: القئُ، وَهُوَ اسْتدْعَاءُ خروجِ ما في جَوفهِ بإِصْبَعهِ أَو إِدْخَالِ شيءٍ في حَلْقِهِ، أَو شَمِّ رائِحَةٍ كَريهَةٍ، أَو رُؤْيةِ مَنْظَرٍ مُزعجٍ أو أيِّ وَسِيلةٍ كانَتْ، فإذا قَصَدَ ذَلكَ أَفطَر، وإنْ وقَعَ بلا اختيارِهِ فلا يُفطرُ، وقد نَقَل العُلماءُ الإجماعَ على ما دَلَّتْ عَلَيهِ هَذه الأَحَادِيث.
__________
(1) رواه أبو داود (2380) وأحمد (2/498) وابن الجارود (385) وصححه ابن خزيمة (1960) وابن حبان (3518) والحاكم وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي (1/589-590).
(2) رواه أبو داود (2381) وأحمد (6/19) والنسائي في الكبرى (3210-3129) وابن الجارود (8) وصححه ابن حبان (1097) والحاكم، وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي (1/588-589).(1/1)
الثاني: أنّ مَا وَردَ عن النَّبي ? أنه قاءَ فأَفطرَ مَحْمُولٌ على أنَّه عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ضَعُفَ بِسَبَبِ القَيءِ فأَفطرَ لأجْلِ ذلك، لا أنَّه أَفطَرَ لأنَّ القيءَ مُفَطِّرٌ، هَكَذا فَهِم العُلماءُ الحَديثينِ الوَارِدينِ في ذَلك. وقَد جَاءَ في روايةٍ عندَ الطحاويِّ أنَّه عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قال: «ولَكني قِئْتُ فَضَعُفْتُ عن الصَّومِ فأَفطرتُ» (1) .
الثالث: أَنَّ هَذِه الأَحَاديثَ تَدُلُ على أنَّ من استقاءَ أَفْطرَ سَواءٌ كَانَ قَيْئُهُ طَعَاماً أو مُرَاراً أو بَلغَماً أو دَمَاً أَو غيرَ ذلك؛ لأَن الجَميعَ داخلٌ تَحتَ عُمومِ الحديثِ والمَعنى (2) .
الرابع: لا يَجوزُ للصَّائمِ أَنْ يَسْتَقئَ في نَهارِ رَمَضَانَ؛ لأنهُ يُفطِرُ باسْتقائِهِ، إِلَّا إِذا كَانَ مَريضاً يَحتاجُ إلى ذلك، فَهوَ مَعذورٌ بمَرَضهِ، وقَدْ قَالَ الله عزَّ وجلَّ [فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ] {البقرة:184} فيُفطرُ ويَقضي (3) .
الخامس: أنَّ هَذَا الحُكمَ الشَّرعِيَ بإِفْطَارِ مَن استَقاءَ يَدُلُ عَلى عَدْلِ الشَّريعَةِ، وأَنَّ أَحْكَامَ الله تَعالى كُلُها عَدلٌ ورَحمَةٌ للمُكَلَّفين، قَالَ شَيخُ الإِسْلامِ ابنُ تَيمِية رَحِمَهُ الله تَعَالى: «الصَّائِمُ قَدْ نُهيَ عَنْ أَخْذِ ما يُقوِّيهِ ويُغذِّيهِ مِنَ الطَّعَامِ والشَّرابِ فيُنهَى عَنْ إِخْرَاجِ ما يُضْعِفُه، ويُخرجُ مادَتَه التي بها يَتَغَذَّى، وإلا فَإِذا مُكِّنَ مِنْ هَذا أضَرَّهُ، وكَانَ مُتَعَدِياً في عِبادَتهِ لا عَادِلاً» (4) .
__________
(1) شرح معاني الآثار (2/97) وانظر: عمدة القاري (11/36).
(2) المغني لابن قدامة (3/24).
(3) انظر: الصلاة لابن القيم (134).
(4) مجموع الفتاوى (25/250-251).(1/2)
34- السِّواكُ والكُحلُ للصائم
...
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله ? قَالَ: «لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلى أُمَّتي لأَمَرْتُهُمْ بالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاةٍ» متفق عليه (1) .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ الله ?: «السِّوَاكُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ» رواه النسائي وصححه ابن خزيمة (2) .
وَقَالَ ابنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: «يَسْتَاكُ أَولَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ» (3) .
وَعَنهُ - رضي الله عنه - قَالَ: «لا بَأْسَ أَنْ يَسْتَاكَ الصَّائِمُ بِالسِّوَاكِ الرَّطْبِ وَاليَابِسِ» (4) .
وَجَاءَ عَنْ مُعاذٍ - رضي الله عنه - قَوْلُهُ: «لَقَدْ أَمَرَهُمْ رَسُولُ الله ? بِالسِّوَاكِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنهُ لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِفَمِ الصَّائِمِ خُلُوفٌ وَإِنْ اسْتَاكَ، وَمَا كَانَ بالَّذي يَأْمُرُهُمْ أَنْ يُنْتِنُوا أَفْوَاهَهُمْ عَمْداً، ما في ذَلكَ مِنَ الخَيْرِ شَيءٌ بَلْ فِيهِ شَرٌّ إِلاّ مَنْ ابْتُليَ بِبَلاءٍ لا يَجِدُ مِنْهُ بُدَّاً» (5) .
__________
(1) رواه البخاري (847) ومسلم (252).
(2) رواه أحمد (6/62) والنسائي (1/10) والدارمي (684) وأبويعلى (4916) وصححه ابن خزيمة (135) وابن حبان (1067).
(3) علقه البخاري مجزوماً به (2/681) ووصله ابن أبي شيبة فيما ذكر الحافظ في الفتح (4/154) وانظر: تغليق التعليق (3/151) والصحيح وقفه على ابن عمر خلافاً لمن رفعه كما في خلاصة البدر المنير (1149).
(4) رواه ابن أبي شيبة (2/296).
(5) رواه الطبراني في الكبير (20/70) رقم (133) وفي مسند الشاميين (2250) وجوَّد إسناده الحافظ في التلخيص (2/202) لكن ضعفه الهيثمي ببكر بن خنيس وذكر أن ابن معين وثقه (3/165).(1/1)
وَعَنْ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - «أَنَّهُ كَانَ يَكْتَحِلُ وَهُوَ صَائِمٌ» (1) .
وَعَنِ الحَسَنِ رَحِمَهُ الله تَعَالى: «أَنَّه كَانَ لا يَرَى بَأْساً أَنْ يَكْتَحِلَ الرَّجُلُ وَهُوَ صَائِمٌ» (2) .
وَعَنِ الزُّهْرِيِّ رَحِمَهُ الله تَعَالى قَالَ: «لا بَأْسَ بِالكُحْلِ لِلصَّائِمِ» (3) .
الفوائد والأحكام:
الأول: فَضِيلَةُ السَّوَاكِ، وَتَأَكُّدُهُ حَتى كَادَ النَّبيُّ ? أَنْ يَأْمُرَ بهِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ.
الثاني: رَأْفَةُ النَّبيِّ ? بِأُمَّتِهِ، وَرَفْعُ المشَقَّةِ عَنْهُمْ.
الثالث: أَنهُ يُشرَعُ للصَّائِمِ الاسْتِيَاكُ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ، وَلا فَرْقَ في الاسْتِياكِ بَينَ الصَّائِمِ وَغَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ سُنِّيتُهُ لِكِلَيْهما؛ لِعُمُومِ الأَحَادِيثِ في ذَلكَ.
الرابع: لا فَرْقَ في حَقِّ الصَّائِمِ بَينَ السِّوَاكِ الرَّطْبِ واليَابِسِ (4) .
الخامس: لَوْ اسْتَاكَ فَخَرَجَ مِنْ بَينِ أَسْنَانِهِ أَوْ لُثَتِهِ دَمٌ فَلا حَرَجَ عَلَيْهِ، ولا يَفْسُدُ صِيامُهَ، لَكِنْ لا يَبْتَلِعُ الدَّمَ (5) .
__________
(1) رواه أبو داود (2378) وابن أبي شيبة (2/304) وهو موقوف، وأما المرفوع فلا يصح فيه شيء عن النبي ? كما قال الترمذي في سننه (3/105).
(2) رواه ابن أبي شيبة (2/304).
(3) رواه ابن أبي شيبة (2/304).
(4) بوب البخاري على ذلك في صحيحه فقال: باب السواك الرطب واليابس للصائم (2/682) وذكر الحافظ في الفتح أن البخاري أشار بهذه الترجمة إلى الرد على من كره للصائم الاستياك بالسواك الرطب كالمالكية والشعبي، ثم ذكر عن ابن سيرين قياسه السواك الرطب على الماء الذي يتمضمض به، أهـ الفتح (4/158) وانظر: التمهيد (19/58).
(5) انظر: فتاوى اللجنة (10/265) الفتوى رقم (3785).(1/2)
السادس: جَوازُ اكْتِحَالِ الصَّائِمِ، والتَقْطِيرِ في عَيْنَيهِ أَوْ أُذُنِهِ، وَلَوْ وَجَدَ طَعْمَ ذَلكَ في حَلْقِهِ؛ لأَنَّ العَيْنَ والأُذُنَ لَيْسَ مَنْصُوصاً عَلَيْهما، ولا بِمَعْنَى المنْصُوصِ عَلَيهِ، وَلَيْسَتَا مَنْفَذاً لِلأَكْلِ والشُّرْبِ (1) .
السابع: قَطْرَةُ الأَنْفِ إِذا كَانَتْ تَصِلُ إِلى المعِدَةِ فَإِنهَا تُفَطِّرُ؛ لِنَهْيِّ النَّبيِّ ? الصَائِمَ أَنْ يُبَالِغَ في الاسْتِنْشَاقِ، وَأَما إِذا لم تَصِلْ إِلى المَعِدَةِ فَلا حَرَجَ عَلَيْهِ (2) .
الثامن: اسْتِخْدَامُ بَخَّاخِ الرَّبْوِ وَنَحْوِهِ مما يَصِلُ إِلى الرِّئَةِ يَجُوزُ لِلصَّائِمِ وَلا يُفَطِّرُهُ (3) .
التاسع: الإِبَرُ العِلاجِيَّةُ لا تُفَطِّرُ الصَّائِمَ وَلَو وَجَدَ طَعْمَهَا في حَلْقِهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ في ِالعَضَلِ أَوْ الوَرِيدِ، أَما الإِبَرُ المغَذِيَةُ التي يُسْتَغْنَى بها عَنِ الطَّعَامِ والشَّرَابِ فَهيَ تُفَطِّرُ الصَّائِمَ (4) .
العاشر: إِذا احْتَاجَ الصَّائِمُ إِلى الإِبَرِ المغَذِّيَةِ أَوْ غَيْرِهَا مما يُفَطِّرُ، فَإِنهُ يُفْطِرُ لمرَضِهِ، ويَقْضي.
الحادي عشر: إِذا ادَّهَنَ الصَّائِمُ بما لهُ رَائِحَةٌ قَوِيَّةٌ يَجدُ طَعْمَهَا في حَلْقِهِ فَإنهُ لا يُفْطِرُ؛ لأَن الرَّوَائِحَ لا تُفطِّرُ وَلَو كَانَتْ قَوِيَّة (5) .
__________
(1) انظر: مجموع فتاوى الشيخ ابن باز (15/260-261) وهو اختيار شيخ الإسلام كما ذكر الشيخ ابن عثيمين في فقه العبادات ورجحه (191-192).
(2) انظر: فتاوى ابن باز (15/260) وفتاوى ابن عثيمين (1/520).
(3) انظر فتاوى ابن باز (15/265) وفتاوى ابن عثيمين (1/500).
(4) انظر: مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (19/213-215).
(5) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (19/225-228) .(1/3)
الثاني عشر: التَّحَامِيلُ التي تُعْطَى لِلْمَريضِ لَيْسَتْ مُفَطِّرَةً، وعَلَيهِ فَيَجُوزُ للصَّائِمِ اسْتِخْدَامُهَا (1) .
الثالث عشر: مَعْجُونُ الأَسْنَانِ لا يُفَطِّرُ كَالسِّوَاكِ، لَكنْ يَجبُ التَّحَرُّزُ مِنْ وُصُولِهِ إِلى الجَوْفِ، فَإِذا تَسَرَّبَ منهُ شَيءٌ إِلى جَوْفِهِ بِلا قَصْدٍ فَلا شَيءَ عَلَيْهِ (2) ، وَإِنْ أخَّرَهُ إِلى الَّليْلِ كَانَ أَحْوَط.
الرابع عشر: دَوَاءُ الغَرْغَرَةِ لا يُفَطِّرُ ما لم يَبْتَلِعْهُ، ويَنْبَغي للصَّائِمِ تَأْخِيرُهُ إِلى الَّليلِ إِلا إِذا دَعَتْ الحَاجَةُ إِلى اسْتِعْمالهِ في النَّهَار (3) .
الخامس عشر: لا بَأْسَ باسْتِعْمالِ البَخَّاخِ لإِزَالَةِ رَوَائِحِ الفَمِ إِذا لم تَصِلْ مادَتُه إِلى حَلْقِهِ (4) .
السادس عشر: لا حَرَجَ في بَلْعِ الرِّيقِ وَلا خِلافَ في ذَلِكَ، أَما النُّخَامَةُ والبَلْغَمُ فَلا يَجُوزُ بَلْعُهُما؛ لإِمْكَانِ التَّحَرُّزِ مِنْهُما (5) .
السابع عشر: الحُقْنَةُ الشَّرَجِيَّةُ لا حَرَجَ فيها، ولا يُفْطِرُ بها الصَّائِمُ (6) .
... ... ( ( (
...
__________
(1) فتاوى ابن عثيمين (1/205).
(2) مجموع فتاوى ابن باز (15/260-261).
(3) انظر: مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (19/290).
(4) المنتقى من فتاوى الفوزان (3/130).
(5) فتاوى اللجنة الدائمة (9584) وفتاوى ابن باز (3/251).
(6) تحفة الإخوان لابن باز (82).(1/4)
35- فضلُ صيامِ التطوع
عَنْ أَبي أُمَامَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: «أتيتُ رسُولَ الله ? فَقُلْتُ: مُرْني بأَمْرٍ آخُذُهُ عَنْكَ، قَالَ: عَلَيْكَ بالصَّومِِ فَإِنَّهُ لا مِثْلَ لَه».
وفي لَفْظٍ آخَرَ أَنَّ أَبا أُمَامَةَ - رضي الله عنه - سَأَلَ رَسُولَ الله ? فقَالَ: «أَيُّ العَمَل أَفْضَلُ؟ قَالَ: عَلَيْكَ بالصَّومِِ فَإِنَّهُ لا عِدْلَ لَهُ».
وفي رِوَايَةٍ أَنَّ أَبَا أُمَامَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: «يا رسُولَ الله، مُرْنِي بِعَمَل أَدْخُلُ به الجَنَّةَ، فقَالَ: عَلَيكَ بالصَّوم فَإِنَّهُ لا مِثْلَ له، قَالَ: فكَانَ أبو أُمَامَةَ لا يُرى في بَيتِهِ الدُّخَّانُ نَهاراً إلا إذا نَزَلَ بِهمْ ضَيفٌ، فإذا رَأُوا الدُّخانَ نَهاراً عَرَفوا أَنهُ قَدْ اعَترَاهُم ضَيفٌ».
وفي رِوَاية فقلت: «يا رَسُولَ الله، مُرْنِي بِعَمَلٍ، قَالَ: عَليكَ بالصَّومِ فإِنَّه لا مِثْلَ له، قَالَ: فَما رُئِي أَبو أُمَامَةَ ولا امرَأَتُهُ ولا خَادِمُهُ إلاّ صِيَاماً، قال: فَكَانَ إِذا رُئِيَ في دَارِهم دُخانٌ بالنَّهارِ قيل: اعترَاهُم ضَيفٌ، نزَلَ بهم نَازِل، قَالَ: فلَبِث بذلك مَا شَاءَ الله ثُمَّ أتَيتُهُ فقلت: يا رَسُولَ الله أَمَرْتَنا بالصِّيام فأرَجو أن يكونَ قد بَاركَ اللهُ لنَا فيه. يا رسُولَ الله، فَمُرْنِي بِعَمَلٍ آخَرَ قَالَ: اعْلَمْ أنَّكَ لنْ تَسْجُدَ لله سَجْدَةً إلا رَفَعَ اللهُ لَكَ بها دَرجَةً وحَطَّ عَنْكَ بها خَطِيئَةً» رَوَاهُ النسائيُ وأَحمدُ وصححه ابنُ خزيمةَ وابنُ حبانَ والحاكم (1) .
الفوائد والأحكام:
الأول: حِرْصُ الصَّحابَةِ - رضي الله عنهم - على السُّؤالِ عمَّا يَنفعُهُم في الآخرة.
__________
(1) رواه النسائي (4/165) وأحمد (5/248) وصححه ابن خزيمة (1893) وابن حبان (3425) والحاكم (1/582) والحافظ في الفتح (4/104)، والروايتان الأولى والثانية للنسائي والثالثة لابن حبان، والرابعة لأحمد.(1/1)
الثاني: أنَّ الصومَ من أفضَلِ الأعمالِ، وهَذَا الحَدِيثُ يَدلُّ على أنَّه أفضَلُهَا، وَقَدْ جَاءَ أَنَّ أَفْضَلَهَا الصَّلاةُ في حَديثِ «واعلَمُوا أنَّ خيرَ أعمالِكُمُ الصَّلاة»، والظاهِرُ أَنَّ الأفضليَّةَ لكلِّ إنسانٍ بِحَسَبِهِ، فقد يكونُ الصيَامُ في حقِّ بعضِ النَّاسِ أفضَلَ لأَنَّهُ يَردَعُهُ عن الشَّهَواتِ المُحرَّمَةِ، ويصَفِّي قَلبَهُ لعبادَةِ الله تعالى، وتكونُ الصَّلاةُ أفضلَ لآخَرين؛ لأنَّ أجسَامَهُمُ لا تُطِيقُ الصيَامَ، أو تَضْعُفُ بِسَبَبِهِ عَنْ أَدَاءِ الوَاجبَاتِ الأُخْرى، قَالَ ابنُ القَيمِ رَحِمَهُ الله تَعَالى: «وَمَنْ غَلَبتْ عَلَيهِ شَهْوَةُ النِّساءِ فَصَومُهُ لهُ أفضَلُ مِنْ غيره».
الثالث: أَنَّ الصيَامَ سببٌ لقطعِ دواعِي الشَّهواتِ التي هي سببٌ للإثْمِ، وتصُدُّ عن الطَّاعاتِ؛ وقد أُمِرَ به الشَّابُ الذي لا يَجِدُ مَؤُنةَ الزَّواجِ، ويخافُ على نفسِهِ الحرَامَ؛ ولِذَا كَانَ لا عِدْلَ له ولا مَثِيلَ في هَذهِ النَّاحِيَةِ.
الرابع: امْتثالُ أَبي أُمَامَة وآلِ بَيتِهِ - رضي الله عنهم - لأَمْرِ النَّبيِّ ? إيَّاهُم بالصِّيَام، وهَذَا يَدُلُّ عَلى سُرْعَةِ امْتِثَالِ الصَحَابَةِ - رضي الله عنهم - لأَوَامَرِ الشَّرْعِ الحَنِيِف .
الخامس: مَشْرُوعيَّةُ إِكْرَامِ الضيَّفِ، ومِن إِكْرَامِهِ تَرْكُ صَومِ التَّطَوِّعِ لأَجلِه.
( ( ((1/2)
36- الحجامةُ للصائم
...
عَنْ شَدَّادِ بنِ أَوْسٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله ? أَتَى عَلى رَجُلٍ بِالبَقِيعِ وَهُوَ يَحْتَجِمُ وَهُوُ آخِذٌ بِيَدِي لِثَمانِ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمضَانَ فَقَالَ: «أَفْطَرَ الحَاجِمُ والمحْجُومُ» رواه أبو داود وصححه أحمد والبخاري (1) .
وجَاءَ عَنْ ثَوْبَانَ (2) ورَافِعِ بن خَدِيج (3) ، وعَنْ جَمْعٍ مِنَ الصَحَابةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم مِثْلُه حَتى ذَكَرَ بَعضُ العُلَماءِ أَنه حَدِيثٌ مُتَواتِر.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضيَ الله عَنْهُمَا «أَنَّ النَّبيَّ ? احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ».
وفي رِوَايَةٍ لأَبي دَاوُدَ: «احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ» (4) .
وعَنْ شُعْبَةَ قَالَ: «سَمِعْتُ ثَابِتاً البُنَاني يَسْأَلُ أَنَسَ بنَ مَالِكٍ - رضي الله عنه - : أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ الحِجَامَةَ لِلْصَائِمِ؟ قَالَ: لا، إلا مِنْ أَجْلِ الضَّعْفِ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
__________
(1) رواه أبو داود (2369) والنسائي في الكبرى (3126) وابن ماجه (1681) وأحمد (4/123) وصححه علي بن المديني والبخاري كما في التلخيص الحبير (2/193) ونقل عبدالله بن الإمام أحمد في مسائله عن أبيه: هذا من أصح حديث يروى عن النبي ? في إفطار الحاجم والمحجوم (682) وصححه ابن حبان (3533) والحاكم وذكر أن ابن راهويه صححه (1/592) وصححه النووي في المجموع وقال: على شرط مسلم (6/350) .
(2) رواه أبو داود (2371) وابن ماجه (1680) والدارمي (1731) وأحمد (5/276) والطيالسي (989) وصححه ابن حبان (3532) وابن خزيمة (1962-1963).
(3) رواه الترمذي وقال: حسن صحيح (774) وأحمد (3/465) وصححه ابن حبان (3535).
(4) رواه البخاري (1836) ومسلم (1202) وأبو داود (2372-2374) والترمذي (775-777).(1/1)
وفي رِوَايَةٍ لأَبي دَاوُدَ عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: «مَا كُنَّا نَدَعُ الحِجَامَةَ لِلصَّائِمِ إِلا كَرَاهِيَةَ الجَهْدِ» (1) .
الفوائد والأحكام:
الأول: دَلَّتْ أَحَادِيثُ كَثِيرةٌ عَلى أَنَّ الحِجَامَةَ تُفَطِّرُ الحَاجِمَ والمحْجُومَ، ودَلَّتْ أَحَادِيثُ أُخْرى عَلى أَنَّ النَّبيَّ ? احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ؛ وَلأَجْلِ ذَلِكَ اخْتَلَفَ العُلَماءُ في الحِجَامَةِ، فَالجُمْهُورُ عَلى جَوازِهَا لَلصَّائِمِ، وَأَنَّ أَحَادِيثَ النَّهي مَنْسُوخَةٌ بِأَحَادِيثِ الجَوَازِ (2) ، ومَذْهَبُ الإِمامِ أَحْمَدَ عَلى أَنها تُفَطِّرُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِ الإِسْلامِ ابنِ تَيْمِيةَ وتِلمِيذِهِ ابنِ القَيِّمِ (3) ،
__________
(1) رواه البخاري (1838) والرواية الثانية لأبي داود (2375).
(2) جاء الترخيص في الحجامة للصائم عن أبي سعيد الخدري وابن مسعود وأم سلمة - رضي الله عنهم - ، وبه قال عروة وسعيد بن جبير، وهو مذهب الأئمة الثلاثة أبي حنيفة ومالك والشافعي، انظر: المغني (4/350) والاستذكار وذكر فيه ابن عبدالبر أن أحاديث المنع منسوخة بأحاديث الرخصة (3/324-326) والمحلى (6/204-205) وفتح الباري لابن حجر (4/174-178) وسبل السلام (2/158-160) ونيل الأوطار (4/275).
(3) ممن قال: إن الحجامة تفطر الصائم: عطاء وعبدالرحمن بن مهدي، وهو مذهب أحمد، وقال به إسحاق وابن المنذر وابن خزيمة، ونقل ابن قدامة عن جماعة من الصحابة أنهم يحتجمون ليلاً في الصوم منهم: ابن عمر وابن عباس وأبو موسى وأنس - رضي الله عنهم - ، انظر: المغني (4/350) ومجموع الفتاوى (25/257) ورسالة حقيقة الصيام (81-84) وتهذيب السنن (6/354-368) وإعلام الموقعين (2/52).
وقال ابن القيم في الزاد (4/61-62): «لا يتم للقائلين بجواز الحجامة للصائم إلا بأربعة أمور:
أحدها: أن النبي ? احتجم وهو صحيح غير مريض.
الثاني: أنه احتجم وهو مقيم غير مسافر.
الثالث: أنه احتجم في صوم الفرض لا صوم النفل.
الرابع: أنه احتجم بعد النهي عن الحجامة لا قبلها، فإذا تمت هذه الأمور الأربعة أمكن القول بجوازها للصائم وإلا فلا» أهـ .(1/2)
وَأَفْتَتْ بِهِ الَّلجْنَةُ الدَّائِمَةُ لِلْبُحوثِ العِلْمِيةِ في الممْلَكَةِ (1) وهُوَ اخْتِيَارُ أَكْثَرِ عُلِماءِ الممْلَكَةِ (2) ، وعَلَيْهِ فَالأَحْوَطُ أَنْ لا يَحْتَجِمَ الصَّائِمُ؛ بَرَاءَةً لِذِمَّتهِ وخُرُوجاً مِنَ الخِلافِ.
الثاني: دَلَّ حَدِيثُ أَنَسٍ - رضي الله عنه - عَلى أَنَّ الحِجامَةَ تُضْعِفُ الصَّائِمَ؛ ولِذَلكَ نُهيَ عَنْهَا، وهَذّا مِنْ مَحاسِنِ الشَّريعَةِ أَنها تَرْفَعُ الضَّرَرَ عَنِ المكَلَّفِينَ.
الثالث: أَنَّ مِنَ الحِكَمِ في تَفْطِيرِ المحْجُومِ ضَعْفَهُ بالحِجَامَةِ، وأَما الحَاجِمُ فلأَنهُ لا يَأْمَنُ وُصُولَ الدَّمِ إلى حَلْقِهِ، وَإذَا حَجَمَهُ بِالآلاتِ الحَدِيثَةِ دُونَ مَصِّ الدَّمِ بفَمِه فَإِن الحَاجِمَ لا يُفْطِرُ بِذلكَ (3) .
الرابع: الفَصْدُ والشَّرْطُ مِثْلُ الحِجَامَةِ فَيُفْطِرُ المفْصُودُ، وَأَما الفَاصِدُ فلا يُفْطِر (4) .
__________
(1) انظر فتاوى اللجنة (10/261-262) الفتوى رقم (11917) .
(2) اختار القول بأن الحجامة تفطر: ابن سعدي في اختياراته (62) ومحمد بن إبراهيم في فتاويه (4/191) وابن باز في مجموع فتاويه ورسائله (15/217) وابن عثيمين كما في الشرح الممتع (6/378-381) وفتاويه (1/521) وابن جبرين في فتاوى الصيام (54-56).
(3) انظر: الشرح الممتع (6/382).
(4) وبذلك أفتت اللجنة الدائمة (10/262) الفتوى رقم (547) وهو قول شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (25/268) ورجحه الشيخ محمد بن إبراهيم في فتاويه (4/191) .(1/3)
الخامس: إِذا تَعَمَّدَ الإِرْعَافَ بالعَبَثِ في أَنْفِهِ لِيَخفَّ رَأْسُهُ، أَوْ لأَيِّ غَرَضٍ فَأَرْعَفَ فَإنَّهُ يُفْطِر، وإِذَا أَرْعَفَ بِلا اخْتِيَارِهِ فَلا يُفْطِرُ وَلَو كَانَ الدَّمُ كَثِيراً (1) إِلاّ إِذا ضَعُفَ واحْتَاجَ إِلى الفِطْرِ لِتَعْويضِ نَزِيفِ الدَّمِ فَلَهُ رُخْصَةٌ لأَنهُ مَريضٌ.
السادس: التَّحْليلُ إِذا كَانَ قَليلاً لا يُؤَثِّرُ عَليهِ فَلا يُفطِرُ بِهِ، وَالأَوْلى أَنْ يَجْعَلَهُ في الَّليْلِ خُرُوجاً مِنَ الخِلافِ، وَإِذا كَانَ كَثِيراً فَإِنهُ يُفْطِرُ، فَلا يَفْعَلْهُ إِلَّا في الَّليْلِ، لَكِنْ إِنْ احْتَاجَ إِلى ذَلِكَ لمرَضٍ، فَيُفْطِرُ لأَنهُ مَريضٌ ويُحلِّلُ ويَقْضي (2) .
السابع: إِذَا خَرَجَ مِنْهُ دَمٌ كَثيرٌ بِلا اخْتِيارِهِ بِسَبَبِ حَادِثٍ أَوْ جُرْحٍ فَإِنهُ لا يُؤَثِّرُ عَلى صِيامِهِ؛ إِلاّ إِذَا احْتَاجَ إِلى الفِطْرِ لِضَعْفِ بَدَنِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ المريضِ يُفْطِرُ وَيقْضي (3) .
الثامن: إِذَا خَلَعَ ضِرْسَهُ فَلا يُفْطِرُ وَلَو خَرَجَ مِنْهُ دَمٌ كَثِيرٌ؛ لأَنهُ لم يَخْلَعْهُ لِيُخْرجَ الدَّمُ، فَخَرَجَ بِغَيْر اخْتِيارِهِ، وَلكِنْ لا يَبْتَلِعُ الدَّمَ، فَإِن ابْتَلَعَهُ مُختاراً أَفْطَرَ (4) .
__________
(1) وهو اختيار ابن تيمية في الاختيارات الفقهية (108) وابن إبراهيم (4/191) والعثيمين في مجموع فتاواه (19/249) وانظر: فتاوى اللجنة (10/264) الفتوى رقم (3455) .
(2) انظر: فتاوى اللجنة الدائمة (10/263) الفتوى رقم (56) ومجموع فتاوى ابن باز (3/238-239) ومجموع فتاوى ابن عثيمين (19/250-251).
(3) انظر: فتاوى ابن عثيمين (1/514).
(4) انظر: مجموع فتاوى ابن عثيمين (19/249-253).(1/4)
التاسع: غَسيلُ الكِلَى بِالآلاتِ الطِّبِيةِ الَّتي تَتَولَى تَنْقِيَةَ الدَّمِ ثُم إِعَادَتَهُ لِلْجِسْمِ بَعْدَ ذَلكَ مَعَ إِضَافَةِ بَعْضِ الموَادِ الكيماوِيَّةِ والغِذَائِيةِ كَالسُّكَرِياتِ وَالأَمْلاحِ وَغَيْرِهَا إِلى الدَّمِ مُفْسِدٌ لِلصِّيامِ (1) .
العاشر: التَّبَرعُ بِالدَّمِ يُفْطِّرُ مِثْلَ الحِجَامَةِ فَلا يَفْعَلُهُ إِلا في الَّليْلِ، وَإِذَا احْتَاجَ إِلى ذَلكَ لإِنْقَاذِ مَعْصُومٍ فَإِنهُ يَجُوزُ ويُفْطِرُ ويَقْضي (2) .
الحادي عشر: الحِقَنُ المغَذِّيَةُ تُفَطِّرُ (3) .
( ( (
__________
(1) انظر: فتاوى اللجنة الدائمة (9944).
(2) انظر: فتاوى ابن عثيمين (1/511) .
(3) فتاوى اللجنة (5176).(1/5)
37- من فضائلِ الصيام
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله ? قَالَ: «الصِّيَامُ جُنَّة» رواه الشيخان (1) .
وفي رِوايةٍ لأَحْمَدَ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ وحِصْنٌ حَصِينٌ من النَّار» (2) .
وعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبيِّ ? قَالَ: «إنَّ الصِّيامَ جُنَّةٌ يَستَجِنُّ بها العَبدُ من النَّارِ» (3) .
وَعَنْ عُثْمانَ بنِ أَبي العَاصِ الثَقَفِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله ? يَقُولُ: «الصِّيامُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ كَجُنَّةِ أَحَدِكُم من القِتَال» (4) .
وَعَنْ أَبي عُبَيْدَةَ بنِ الجَراحِ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله ? يَقُولُ: «الصَّومُ جُنَّةٌ ما لم يَخْرِقْهَا» (5) .
الجُنَّةُ بِضَمِّ الجِيم، هي الوِقَايَةُ والسِّترُ، والمعنى: أنَّ الصِّيامَ سِترٌ من النَّار (6) .
__________
(1) رواه البخاري (1795) ومسلم (1151).
(2) هذه الرواية لأحمد (2/402).
(3) رواه أحمد (3/396).
(4) رواه أحمد (4/22) والنسائي(4/167) وابن ماجه (1639) وصححه ابن خزيمة (2125) وابن حبان (3649).
(5) رواه النسائي (4/167) وأحمد (1/195) والطيالسي (227) وأبويعلى (878) والدرامي (1732) وحسنه المنذري (2/940) رقم (1643) وصححه الشيخ أحمد شاكر (1690) وفي سنده بشار بن أبي سيف الجرمي لم يوثقه إلا ابن حبان وقد ضعف الألباني الحديث في ضعيف سنن النسائي فلعل تضعيفه له بسبب ذلك، وتقويه الأحاديث الأخرى.
(6) ذكر القرطبي في معنى (جنة) بعد أن قرر أن الصيام ستر ما حاصله:
أ ) أن يكون جنة بحسب مشروعيته، والمعنى ينبغي للصائم أن يحفظه مما يفسده وإليه أشار بقوله عليه الصلاة والسلام «فلا يرفثْ...».
ب) أن يكون جنة بحسب فائدته وهي إضعاف الشهوات، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام «يذر شهوته وطعامه من أجلي».
جـ) أن يكون جنة بحسب ثوابه، وإليه التصريح في حديث «من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً».(1/1)
الفوائد والأحكام:
الأول: أنَّ الصِّيامَ سبَبٌ لِقَمْعِ الشَّهواتِ التي تُورِد أصْحَابَها النَّارَ، ولِذلكَ كَانَ سِتراً مِنَ النَّارِ، قَالَ العِرَاقيُّ: «إنَّما كانَ الصَّومُ جُنَّةً مِنَ النَّارِ لأَنَّهُ إمْسَاكٌ عن الشَّهَوات، والنَّارُ مَحْفُوفَةٌ بالشَّهَواتِ» (1) .
الثاني: فَضِيلَةُ الصَّومِ، وأَنَّهُ يَنبغِي للمُسلِمِ الإكثَارُ من صَومِ التَّطَوُّعِ إذا كان يُطِيقُهُ، ولا يُشغِلُهُ عَنْ أَعْمَالٍ فَاضِلَةٍ أَوْلى مِنْهُ كالجِهَادِ ونَحْوِهِ.
الثالث: أنَّ الصَّومَ الذي يَكونُ وقَايةً مِنَ النَّارِ هُوَ الصَّومُ الَّذِي لم يَتَلَطَّخْ بما يُذهِبُ أَجْرَهُ أو يُنْقِصُهُ كَالغِيبَةِ والنَّمِيمَةِ والكَذِبِ والشَّتْمِ؛ لما جَاءَ في رواية أبي عبيدة - رضي الله عنه - «الصَّومُ جُنَّةٌ ما لم يَخْرِقْهَا» وتَخريقُهَا يكُونُ بِفِعلِ المُحَرَّمَاتِ، وعَلَيهِ فإِنَّهُ يَنبغِي للصَّائِمِ حِفْظُ صِيامِهِ مما يُذهِبُ أَجْرَهُ أَو يُنقِصُهُ من المُحَرَّمَاتِ؛ لِيكونَ سِتراً من النَّار.
الرابع: أنَّ المَقصُودَ بالصِّيامِ تَهذِيبُ النُّفُوسِ، وإصْلاحُ القُلوبِ، لا مُجرَّدَ الإمْساكِ عَنِ الطَّعامِ والشَّرابِ.
( ( (
__________
(1) طرح التثريب في شرح التقريب (4/90).(1/2)
38- صيامُ مَن أَصْبَحَ جُنُبَاً
قَالَ اللهُ تَعَالَى: [أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ] { البقرة:187 } .
وقَالَ تَعَالَى: [فَالآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ] { البقرة:187 } .
وعَنْ عَائشَةَ وأمِّ سَلَمةَ رَضيَ الله عَنْهُمَا أنَّ رَسُولَ الله ?: "كَانَ يُدْرِكُهُ الفَجْرُ وهُو جُنُبٌ مِنْ أَهْلِهِ ثُم يَغتَسِل ويَصُومُ" رواه الشيخان.
وفي رِوَايَةٍ لمُسلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: "كان رسُولُ الله ? يُصْبِحُ جُنُباً من جِماعٍ لا مِن حُلُمٍ، ثم لا يُفطِر ولا يَقْضِي" (1) .
__________
(1) رواه البخاري (1825) ومسلم (1109).(1/1)
وَفي رِوايَةٍ لمسْلِمٍ: عَنْ أَبي بَكْرِ بنِ عَبْدِالرَحمنِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى قَالَ: "سَمِعْتُ أَبا هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - يَقُصُ يَقُولُ في قَصَصِه: مَنْ أَدْرَكَهُ الفَجْرُ جُنُباً فَلا يَصُمْ، فَذَكَرْتُ ذَلكَ لِعَبْدِالرَحمنِ بنِ الحَارِثِ لأَبيهِ فَأَنْكَرَ ذَلكَ، فَانْطَلقَ عَبْدُالرَحمنِ، وانْطَلَقْتُ مَعَهُ، حَتَّى دَخَلْنَا عَلى عَائِشَةَ وأُمِ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فَسَأَلهُما عَبْدُالرَحمنِ عَنْ ذَلك، قَالَ: فَكِلتَاهُما قَالَتْ: كَانَ النَّبيُّ ? يُصْبِحُ جُنُباً مِنْ غَيرِ حُلُمٍ ثُم يَصُومُ، قَالَ: فَانْطَلَقْنَا حَتَّى دَخَلْنَا عَلى مَرْوَان، فَذَكَرَ ذَلكَ له عَبْدُالرَحمنِ، فَقَالَ مَرْوَانُ: عَزَمْتُ عَلَيْكَ إِلَّا مَا ذَهَبْتَ إِلى أَبي هُرَيْرَةَ فَرَدَدْتَ عَلَيهِ مَا يَقُول، قَالَ: فَجِئْنا أَبا هُرَيْرَة، وَأَبو بَكْرٍ حَاضِرُ ذَلكَ كُلِّهِ، قَالَ: فَذَكَرَ له عَبْدُالرَحمنِ، فَقَالَ أَبو هُرَيْرَةَ: أَهُمَا قَالَتَاهُ لَك؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: هُمَا أَعْلَمُ، ثُم رَدَّ أَبو هُرَيْرَةَ مَا كَانَ يَقُولُ في ذَلكَ إِلى الفَضْلِ ابنِ العَبَاسِ، فَقَالَ أَبو هُرَيْرَة: سَمِعْتُ ذَلكَ مِنَ الفَضْلِ ولم أَسْمَعْهُ مِنَ النَّبيِّ ?، قَالَ: فَرَجَعَ أَبو هُرَيْرَة عَما كَانَ يَقُولُ في ذَلك، قُلْتُ لِعَبْدِالملك: أَقَالَتا في رَمَضَانَ، قَالَ: كَذَلكَ كَانَ يُصْبِحُ جُنُباً مِنْ غَيرِ حُلُمٍ ثُم يَصُوم" رواه مسلم (1) .
__________
(1) هذه الرواية لمسلم (1109) وقد ذكر أبو هريرة - رضي الله عنه - أنه سمع ذلك من الفضل، وفي رواية النسائي أنه سمعه من أسامة بن زيد، انظر: سننه الكبرى (2931-2931) وقد حمل على أنه سمعه من الاثنين، انظر: شرح النووي (7/222) والمفهم (3/168) وشرح ابن الملقن (5/197).(1/2)
وَعَنْ عَائِشةَ رَضيَ اللهُ عَنْهَا: "أنَّ رَجلاً جَاءَ إِلى النَّبيِّ ? يَستَفتِيه وهِيَ تَسْمَعُهُ مِنْ وَرَاءِ البَابِ فقَالَ: يا رَسُولَ الله، تُدْرِكُني الصَّلاةُ وأَنَا جُنُبٌ أَفأَصُوم؟ فقَالَ رَسُولُ الله ?: وأنا تُدْرِكُني الصَّلاةُ وأَنَا جُنُبٌ فَأَصُومُ، فقَالَ: لَسْتَ مِثْلَنَا يا رَسَولَ الله، غَفَرَ الله لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ ومَا تَأخَّرَ، قَالَ: والله إنِّي لأَرجُو أن أكُونَ أخْشَاكُمْ لله وأَعْلَمَكُم بما أَتَّقِي" رواه مسلم (1) .
الفوائدُ والأحكام:
الأول: فِيهِ جَوَازُ مُبَاشَرةِ النِّساءِ بِالجِماعِ في لَيَالي رَمَضَانَ، وَأَنَّ التَّوَرُّعَ عَنْ ذَلِكَ خِلافُ الهَديِ النَّبويِّ سِوى العَشْرِ الأَواخِرِ للمُعْتَكِفِ.
الثاني: أَنَّ مَنْ جَامَعَ أَوْ احتَلَمَ في لَيالِي رَمَضَانَ وَأخَّرَ الاغتِسَالَ إلى مَا بَعدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ يَمْضِي في صَوْمِهِ وَلا شَيءَ عَلَيْهِ، وهَذَا مَحلُّ إجْمَاعٍ بَينَ العُلَمَاءِ (2) .
الثالث: فَضْلُ أُمَّهَاتِ المؤْمِنينَ رَضيَ اللهُ عَنْهُنَّ عَلى هَذِهِ الأمَّةِ في حِفْظِ العِلْم ِالمختَصِّ بَأَحْوالِ النَّبيِّ ? في بَيتِهِ وَمَعَ نِسَائِهِ، وتَبلِيغِ النَّاسِ هَذَا العِلْمَ الَّذي تَشْتَدُّ حَاجَتُهُم إلَيهِ.
الرابع: أنَّ أَقْوَالَ أُمَّهَاتِ المؤْمِنينَ رضِيَ اللهُ عَنْهُنَّ فيما لا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ سِوَاهُنَّ مِنْ أَحْوالِ النَّبيِّ ? في بَيتِه يُقَدَّمُ عَلى أَقْوَالِ غَيرِهِنَّ (3) .
__________
(1) رواه مسلم (1110) ومالك (1/289) وابن حبان (3495).
(2) شرح ابن بطال على البخاري (4/49) وشرح العمدة لابن الملقن (5/195) وفتح الباري لابن حجر (4/147) ونيل الأوطار (4/91).
(3) المصدر السابق (4/148) وانظر: الفتح (4/144).(1/3)
الخامس: أَنْ تَأْخيرَ الاغْتِسَالِ مِنَ الجَنَابَةِ ِإلى مَا بَعْدَ طُلُوعِ الفَجْرِ لَيْسَ مِنْ خَصَائصِ النَّبيِّ ? بَلْ هُوَ عَامٌّ لجَميعِ الأمَّة.
السادس: قَوْلُ أمِّ سَلَمَةَ رَضيَ الله عَنْهَا: "يُصْبِحُ جُنُباً من جِماعٍ لا مِنْ حُلُم" فيه فائدتان:
أَحَدُهُما: أَنَّهُ عَلْيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كَانَ يُجامِعُ في رَمضَانَ، ويُؤخِّرُ الغُسْلَ إلى ما بَعْد طُلُوعِ الفَجْرِ بَياناً لِلجَوَازِ.
والثَّانِيَةُ: أَنَّ ذَلكَ كَانَ مِنْ جِمِاعٍ لا مِنْ احتِلامٍ؛ لأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كَانَ لا يَحْتَلِم؛ إِذْ الاحْتِلامُ مِنَ الشَّيطَانِ وَهُوَ مَعصُومٌ مِنْهُ (1) .
السابع: أَنَّ النَّبيَّ ? أَخْشَى النَّاسِ وأَتقَاهُم لله تَعَالى، وأَعَلَمُهُم بما يَتقِّي.
الثامن: يُسْتَفَادُ مِن هَذِهِ الأحَادِيثِ أَنَّ الحَائِضَ والنَّفْسَاءَ إِذَا طَهَرَتَا قَبْلَ الفَجْرِ فَلَمْ تَغْتَسِلا إِلَّا بَعْدَ الفَجْرِ صَحَّ صَوْمُهُما سَوَاءً تَرَكَتَا الاغْتَسَال سَهْواً أَمْ عَمْداً، بعُذرٍ أَمْ بغَيرِهِ كَالجُنُب (2) .
__________
(1) انظر: المفهم (3/167) والفتح (4/144) وجاء في ذلك أثر ضعيف عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: "ما احتلم نبي قط، إنما الاحتلام من الشيطان" رواه الطبراني في الكبير (11/225) رقم (11564) وفي الأوسط (8062) وفي سنده عبدالعزيز بن أبي ثابت مجمع على ضعفه كما ذكر الهيثمي في الزوائد (1/267) وقد رجح النووي امتناع الاحتلام عن الأنبياء، ووجه الحديث بأن المراد يصبح جنباً من جماع ولا يجنب من احتلام لامتناعه منه، ويكون قريباً من قول الله تعالى { وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ } ومعلوم أن قتلهم لا يكون بحق. أهـ من شرحه على مسلم (7/222) وكذا ابن الملقن في شرح العمدة (5/201).
(2) انظر: الاستذكار (10/48) وشرح النووي (7/222) وشرح ابن الملقن (5/200).(1/4)
التاسع: أَنَّ في هَذِه الأَحادِيثِ الحَثَّ عَلى التَّأَسَّي بالنَّبيِّ ?، وذَمَّ التَّعمُّقِ والتَّنَزُهِ عَنِ المُباحَاتِ والتَّكَلُّفِ في السُّؤَال (1) .
العاشر: أنَّ صِحَّةَ صَوْمِ الجُنُبِ والحَائِضِ والنَّفْسَاء إذا لم يَغتَسِلُوا إلا بَعْدَ الفَجْرِ يَشْمَلُ كُلَّ صِيَامٍٍ في رَمَضَانَ وَفي غَيْرِهِ، لا فَرْقَ في ذَلكَ بَينَ الصِّيامِ الوَاجِبِ أَوْ النَّذْرِ أَوْ القَضَاءِ أَوْ النَّفْلِ.
الحادي عشر: أَنَّ الشَيءَ إِذا نُوزِعَ فيهِ وَجَبَ رَدُّهُ إِلى مَنْ يُظَنُّ عِلْمهُ عِندَه؛ ولِذلكَ قَالَ أَبو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - : "هُما أَعْلَم" يَعْني: عَائِشَةَ وأُمَّ سَلَمَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهُما؛ لأَنهُما أَعْلَمُ بِهذَا المعْنَى مِنْ غَيْرِهِما.
الثاني عشر: أَنَّ الحَقَّ القَاطِعَ والحِجَّةَ الدَامِغَةَ عِنْدَ الاخْتِلافِ سُنَّةُ النَّبيِّ ?.
الثالث عشر: اعْتِرَافُ المخْطِىءِ بِخَطَئِه، وإِنْصَافُهُ إِذا سَمِعَ الحُجَة؛ إِذ أَقَرَّ أَبو هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنهُ لَم يَسْمَعْ ذَلكَ مِنَ النَّبيِّ ? وإِنَّما سَمِعَهُ مِنْ غَيرِه.
ُ ُ ُ
__________
(1) التمهيد (17/420) والفتح (4/149).(1/5)
39- مشروعيةُ الاعتكاف
قَالَ اللهُ تَعَالى: [وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ] {البقرة:125}.
وقَالَ تَعَالى: [وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] {البقرة:187}.
وعَنْ عَبْدِالله بنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: «كَانَ رَسُولُ الله ? يَعتَكِفُ العَشَرَ الأَوَاخِرَ من رَمَضَانَ» متفق عليه (1) .
وعن عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا أَنَّ النَّبيَّ ? كَانَ يَعْتَكفُ العَشرَ الأَواخِرَ من رَمَضَانَ حتى تَوَفَّاهُ اللهَ، ثمَّ اعْتَكَفَ أَزواجُهُ من بَعدِهِ» متفق عليه (2) .
الفوائد والأحكام:
الأول: أنَّ الاعتِكَافَ كَانَ مَشْرُوعاً في الأُمَمِ السَّابِقَة.
الثاني: مَشْرُوعِيَّةُ الاعْتِكَافِ وأَنَّه سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وهُوَ مِنَ العِبَادَاتِ العَظِيمَةِ الَّتي يُتَقَرَّبُ بها إلى الله تَعَالى؛ ولِذَا وَاظَبَ عَليهِ النَّبيُّ ?. قاَلَ الزُّهَريُّ رَحِمهُ اللهُ تَعَالى: «عَجَباً لِلمُسْلِمينَ، تَرَكُوا الاعْتِكَافَ، وإِنَّ النَّبيَّ ? لم يَتْرُكْهُ مِنْذُ دَخَلَ المدِينَةَ كُلَّ عَامٍ في العَشْرِ الأَوَاخِرِ حتَّى قَبَضَهُ اللهُ تَعَالى» (3) . وعَنْ عَطَاءٍ الخراسَانيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ يُقَالُ: مَثَلُ المعْتَكِفِ كَمَثَلِ عَبْدٍ أَلْقَى نَفْسَهُ بَينَ يَدَي رَبِّهِ ثُم قَالَ: رَبِّ لا أَبْرَحُ حَتَّى تَغْفِرَ لي، رَبِّ لا أَبْرَحُ حَتَّى تَغْفِرَ لي» (4) .
__________
(1) رواه البخاري (1921) ومسلم (1171).
(2) رواه البخاري (1922) ومسلم (1172).
(3) شرح ابن بطال على البخاري (4/181).
(4) المرجع السابق (4/182).(1/1)
الثالث: أَنَّ الاعْتِكَافَ لا يَكُونُ إِلَّا في المسْجِدِ ولو في غَيرِ الجَامِعِ، ولا يَقْطَعُهُ الخُروجُ لصَلاةِ الجُمعةِ، ولو بَكَّرَ إلى الجُمُعَةِ فَيَجُوز.
الرابع: يَجوزُ أَنْ يَعْتَكِفَ مَنْ لا تَجِبُ علَيهِ الجَماعَةُ في المَسجِدِ الَّذِي لا تُقَامُ فيه الجَمَاعَةُ، كالمَسَاجِدِ المَهجُورةِ ومَسَاجِدِ الأَسواقِ والمزَارِعِ ونَحْوِها (1) .
الخامس: أنَّ النَّبيَّ ? كَانَ يَعتَكِفُ في العَشرِ الأَوَاخِرِ من رَمَضَانَ، وهَكذَا أَزْوَاجُه رَضِيَ الله عَنهُنَّ. وأنَّ مِنْ غَايَاتِ اعْتكَافِهِ ? التِمَاسَ لَيلَةِ القَدر.
السادس: أنَّهُ لا يَجوزُ مُبَاشَرةُ النِّسَاءِ حَالَ الاعْتِكَافِ، ولَوْ جَامَعَ زَوجَتَه بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، ولا كَفَّارَةَ عَلَيهِ ولا قَضَاءَ. وقد صَحَّ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عَنْهُما أَنَّهُ قَالَ: «إذا جَامَعَ المُعتَكِفُ أَبْطَلَ اعْتِكَافَهُ واسْتَأنَف» (2) .
السابع: إذَا جَامَعَ زَوجَتَهُ نَاسِياً اعْتكَافَه، فلا يَبْطُلُ كَمَا لا يَبْطُلُ صِيامُهُ (3) .
( ( (
__________
(1) انظر: الشرح الممتع (6/509).
(2) رواه ابن أبي شيبة (2/338) وصححه الألباني في الإرواء وقال: على شرط الشيخين (4/148).
(3) انظر: الاستذكار (3/404).(1/2)
40- التماسُ ليلةِ القدرِ في إحدى وعشرين
عَن أَبي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِالرَحمنِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى قَالَ: «تَذَاكَرْنَا لَيْلةَ القَدرِ فَأَتيتُ أَبا سَعِيدٍ الخُدَريِّ - رضي الله عنه - وكانَ لي صَدِيقاً، فَقُلتُ: أَلا تَخرُجُ بنا إلى النَّخْلِ؟ فَخَرَجَ وعلَيهِ خَمِيصَةٌ، فقلتُ له: سَمِعْتَ رَسُولَ الله ? يَذكُرُ لَيلَةَ القَدْرِ؟ فَقَالَ: نعم، اعْتَكَفْنَا مَعَ رَسُولِ الله ? العَشرَ الوُسْطَى من رَمَضَانَ، فَخَرَجنا صَبِيحَةَ عِشرِينَ، فَخَطَبَنَا رَسُولُ الله ? فَقَالَ: إني أُرِيتُ لَيلَةَ القَدرِ، وإنِّي نَسِيتُها أو أُنْسِيتُها، فَالتَمِسُوهَا في العَشْرِ الأَوَاخِرِ من كُلِّ وِتْرٍ، وإنِّي أُرِيتُ أَنِّي أَسْجُدُ في ماءٍ وطِين فَمن كَانَ اعْتَكَفَ مع رَسُولِ الله ? فَليَرجِع، قَالَ: فَرَجَعْنَا ومَا نَرَى في السَّماءِ قَزَعَةً، قَالَ: وجَاءَت سَحَابَةٌ فَمُطِرْنَا حَتَّى سَأَلَ سَقفُ المَسجِدِ، وكانَ من جَرِيدِ النَّخلِ، وأُقِيمتْ الصَّلاةُ فَرأيتُ رَسُولَ الله ? يَسجدُ في الماءِ والطين، قَالَ: حتى رَأيتُ أَثَرَ الطينِ في جَبْهَتِهِ» رواه الشيخان (1) .
__________
(1) رواه البخاري (1912) ومسلم واللفظ له (1167).(1/1)
وفي رِوايَةٍ عَنً أَبي سَعِيدٍ - رضي الله عنه - قَال: «اعْتَكَفْنَا مَعَ رَسُولِ الله ? العَشْرَ الأَوْسَطَ، فَلَما كَانَ صَبِيحَةَ عِشْرينَ نَقَلْنَا مَتَاعَنَا؛ فَأَتَانَا رَسُولُ الله ? فَقَالَ: مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ فَلْيَرجِعْ إِلى مُعْتَكَفِهِ فَإِنِّي رَأَيْتُ هَذهِ الَّليْلَةَ وَرَأَيْتُنِي أَسْجُدُ في مَاءٍ وَطِينٍ، فَلَما رَجَعَ إِلى مُعْتَكَفِهِ قَالَ: وَهَاجَتِ السَّمَاءُ فَمُطِرْنَا، فَوَالَّذي بَعَثَهُ بِالحَقِّ لَقَدْ هَاجَتِ السَّماءُ مِنْ آخِرِ ذَلكَ اليَومِ وَكَانَ المَسْجِدُ عَرِيشاً، فَلَقَدْ رَأَيْتُ عَلى أَنْفِهِ وَأَرْنَبَتِهِ أَثَرَ الماءِ وَالطِّينِ» (1) .
__________
(1) هذه الرواية لمسلم، وانظر: البخاري (1935).(1/2)
وَفي رِوَايَةٍ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخُدَرِيُّ - رضي الله عنه - : «كَانَ رَسُولُ الله ? يُجَاوِرُ في رَمَضَانَ العَشَرَ الَّتي في وَسَطِ الشَّهْرِ، فَإِذا كَانَ حِينَ يُمْسي مِنْ عِشْرينَ لَيْلَةً تَمضي وَيَسْتَقْبِلُ إِحْدَى وَعِشْرينَ رَجَعَ إِلى مَسْكَنِهِ، وَرَجَعَ مَنْ كَانَ يُجاوِرُ مَعَهُ، وَأَنَّهُ أَقَامَ في شَهْرٍ جَاوَرَ فِيهِ الَّليْلَةَ الَّتي كَانَ يَرْجِعُ فِيهَا، فَخَطَبَ النَّاسَ فَأَمَرَهُمْ مَا شَاءَ اللهُ ثُمَّ قَالَ: كُنْتُ أُجَاوِرُ هَذِهِ العَشْرَ، ثُمَّ قَدْ بَدَا لي أَنْ أُجَاوِرَ هَذِهِ العَشْرَ الأَوَاخِرَ، فَمَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعِيَ فَلْيَثْبُتْ في مُعْتَكَفِهِ، وَقَدْ أُريتُ هَذَهَ الَّليْلَةَ ثُمَّ أُنْسيتُهَا فَابْتَغُوهَا في العَشْرِ الأَوَاخِرِ، وابْتَغُوهَا في كُلِّ وِتْرٍ، وَقَدْ رَأَيْتُني أَسْجُدُ في مَاءٍ وَطِينٍ، فَاسْتَهَلَّت السَّماءُ في تِلْكَ الَّليْلَةِ فَأَمْطَرَتْ، فَوَكَفَ المَسْجَدُ في مُصَلَّى النَّبيِّ ? لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرينَ فَبَصُرَتْ عَيْنَيَّ رَسُولَ الله ?، وَنَظَرْتُ إِلَيهِ انْصَرَفَ مِنَ الصُّبْحِ وَوَجْهُهُ مُمْتَلِئٌ طِيناً وَمَاءً» رواه البخاري (1) .
الفوائد والأحكام (2) :
الأول: المَشيُ في طَلَبِ العِلمِ، وإِيثارُ المَوَاضعِ والأَزمَانِ الُمناسِبةِ لِسُؤَالِ أَهلِ العِلم.
الثاني: تَأنيسُ الطَّالبِ لشَيخِهِ في طَلبِ الاخْتِلاءِ به لِيتَمكَّن مما يُريدُ من مسْألَتِهِ.
__________
(1) هذه الرواية للبخاري (1914).
(2) انظر: التمهيد (23/51-66) وشرح النووي على مسلم (8/61) وفتح الباري لابن حجر (4/257-259) وعمدة القاري (11/133) وحاشية السندي على النسائي (3/80) وعون المعبود (4/182) ومرقاة المفاتيح (4/512-513).(1/3)
الثالث: تَركُ المُصلِّي مَسحَ جَبهَتِهِ مما يَعْلَقُ بها في سُجُودِهِ أثْنَاءَ الصَّلاةِ إلاَّ إذا كَانَ يُؤذِيهِ ويَشْغَلُهُ عنهَا (1) . وَجَوازُ السُّجودِ في الطِّينِ، والصَّلاةِ فيه (2) .
الرابع: إثباتُ بشَريةِ النبي ?، وأنَّه يَنسَى إلا فِيمَا أَمَرَه اللهُ تعالى بِتَبْلِيغِهِ فإنَّ الله تَعَالى يَحفَظُه من نِسيَانِه. وَأَنَّ رُؤيَا الأَنبيَاءِ حَقٌّ، وتقَعُ كما رَأَوا.
الخامس: أَنَّ رُؤْيَةَ النَّبيِّ ? لِلَيْلَةِ القَدْرِ يُحتَمَلُ أَنهُ عَلِمَهَا، ويُحتَمَلُ أَنهُ أَبْصَرَ عَلامَتَهَا، وَقَدْ جَاءَ عِنْدَ البُخَاريِّ مِنْ حَدِيثِ أَبي سَعِيدٍ - رضي الله عنه - : أَنَّ جِبرِيلَ أَخْبَرَهُ بأَنها في العَشْرِ الأَوَاخِرِ (3) .
السادس: أَنَّ العَالمَ إِذا كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ شَيءٍ ثُم نَسِيَهُ أَنْ يُخبِرَ أَصْحَابَهُ بِنِسْيانِهِ، ويُقِرَّ به (4) .
السابع: في الحَدِيثِ دِلالَةٌ على اسْتِحْبابِ الاعْتِكَافِ في رَمَضَانَ، وَأَنَّ العَشْرَ الوُسْطَى منه للاعْتِكَافِ أَفْضَلُ مِنَ العَشْرِ الأُوْلى، والعَشْرَ الأَخِيرَةَ أَفْضَلُ مِنَ الوُسْطَى (5) .
الثامن: مشروعيةُ خُطْبةِ الإمامِ في الرَّعيَّةِ، وبيانُ الأمُورِ المهِمَّةِ لهم.
التاسع: حِرْصُ النَّبيِّ ? على تَعْلِيمِ أُمَّتِهِ ما يَنفَعُهُم، وجِدُّهُ ? وصَحَابَتُهُ رَضيَ الله عَنْهُمْ في طَلَبِ لَيلَةِ القَدرِ.
__________
(1) ونقل البخاري عن الحميدي: أن السنة للمصلي أن لا يمسح جبهته في الصلاة، قال النووي: وكذا قال العلماء: يستحب أن لا يمسحها في الصلاة، شرح مسلم (8/61)، وقال ابن الملقن في شرح العمدة: وهو محل اتفاق (5/423) وانظر: إكمال المعلم (4/148).
(2) انظر: شرح ابن الملقن على العمدة (5/425).
(3) انظر: صحيح البخاري (780)، والمنتقى للباجي (2/87).
(4) شرح ابن الملقن على العمدة (5/424).
(5) انظر: السابق (5/422) .(1/4)
العاشر: فَضِيلةُ الاعْتِكافِ في العَشرِ الأَوَاخِرِ من رَمَضَانَ، وأنَّهُ سنَّةٌ مُؤَكَّدةٌ؛ لموَاظَبَةِ النَّبيِّ ? عَلَيه.
الحادي عشر: أنَّ لَيلَةَ القَدْرِ تُطلَبُ في العَشرِ الأَوَاخِرِ، وأَرجَاهَا الأَوتَارُ، ومِنْ أَرْجَى الأَوتَارِ لَيلَةُ إِحدَى وعِشرِين.
الثاني عشر: أنَّه يَجبُ في السُّجُودِ تَمكِينُ الجَبهَةِ والأَنْفِ من الأَرضِ كما فَعَل النبي ?.
الثالث عشر: يُبَيِّنُ هَذا الحَديثُ مَا كَانَ عليهِ المُسلِمونَ في عَهدِ النبي ? من التَّقَلُلِ في أُمُورِ الدُّنيَا، وبَسَاطَةِ العَيشِ، حتى كَانَ المَسجِدُ من جَريدِ النَّخلِ، وإذا أَمطَرتِ السَّماءُ خَرَّ عَليهِمُ المَاءُ وهم في صَلاتِهم.
الرابع عشر: فَضْلُ لَيْلَةِ إِحْدَى وعِشْرينَ، وَأَنَّهَا مَظِنَّةُ لَيْلَةِ القَدْرِ فَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَلاَّ يُفَرِّطَ في إِحْيَائِهَا.
... ... ( ( ((1/5)
41- إحياءُ العَشرِ الأَواخِر
عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبيُّ ? إذا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئزَرَهُ وأَحيَا لَيلَهُ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» رَوَاهُ الشيخان (1) .
وعَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ الله ? يَجتَهِدُ في العَشْرِ الأوَاخِرِ مَا لا يَجتَهِدُ في غَيْرهِ» رَوَاهُ مسلم (2) .
وعَنْ عَليٍّ - رضي الله عنه - : «أَنَّ النَّبيَّ ? كَانَ يُوقِظُ أَهْلَهُ في العَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ» رَوَاهُ الترمذي وقَالَ: هذا حَديثٌ حَسَنٌ صَحيح (3) .
وفي لَفْظٍ لِلإمَامِ أَحْمَدَ: «كَانَ الرَّسُولُ ? إذا دَخَلَ العَشْرُ أَيْقَظَ أَهْلَهُ ورَفَعَ المِئزَرَ، قِيلَ لأَبي بَكْرِ ابْنِ عَيَّاشٍ: مَا رَفْعُ المِئزَرِ؟ قَالَ: اعْتِزَالُ النِّسَاءِ» (4) .
الفوائد والأحكام:
الأول: شِدَّةُ اجْتِهَادِ النَّبيِّ ? في العِبَادَةِ مَع أَنَّ الله تَعَالَى قَدْ غَفرَ لَهُ مَا تَقدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ ومَا تَأَخَّرَ، وأَنَّ اجْتِهَادَهُ في لَيَالِي العَشْرِ أَكْثَرُ مِنْ اجْتِهَادِهِ في غَيرِهَا مِنْ الَّليالي.
الثاني: أَنَّ الهَديَ النَّبَويَّ في العَشْرِ الأخِيرَةِ مِنْ رَمَضَانَ: إِحْياءُ الَّليْلِ بِالصَّلاةِ والذِّكْرِ، واعْتِزَالُ النِّسَاءِ.
الثالث: استِحبَابُ إيقَاظِ الأَهْلِ لِصَلاةِ الَّليْلِ في العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَإِنْ كَانَ مِن عَادَتِهم السَّهَرُ في رَمَضَانَ كَما في هَذِهِ الأَزمَانِ فَلْيَكُنْ عَلى الصَّلاةِ والذِّكْرِ لا على الَّلهْوِ والَّلعِبِ.
__________
(1) رواه البخاري (1920) ومسلم (1174).
(2) رواه مسلم (1175).
(3) رواه الترمذي (795).
(4) هذه الرواية للإمام أحمد (1/132).(1/1)
الرابع: أَنَّهُ يَجوزُ لِلرَّجُلِ حَمْلُ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ عَلى فِعْلِ النَّوَافِلِ، وإِلزَامُهُم بها، وتَجِبُ طَاعَتُهُ في ذَلكَ (1) .
الخامس: اسْتِحْبَابُ استِغرَاقِ الَّليلِ كُلِّهِ في العَشْرِ الأوَاخِرِ بالصَّلاةِ والذِّكْرِ ما أَمْكَنَ ذَلكَ؛ لأَنَّه فِعْلُ النَّبيِّ ? كَما هُوَ ظَاهِرُ الأحَادِيثِ، ومَا وَرَدَ مِنَ النَّهْيِّ عَنْ قِيَامِِ الَّليلِ كُلِّهِ فَمَحْمُولٌ عَلى المُدَاوَمَةِ عَلى ذَلِكَ طِوَالَ العَامِِ، وأَمَّا الَّليالي الَّتي لَها مَزيدُ فَضْلٍ كَالعَشْرِ الأَوَاخِرِ فمَخْصُوصَةٌ مِنَ العُمُومِِ (2) .
السادس: أَنَّ الحِكْمَةَ مِنَ الاجْتِهَادِ في لَيَالي العَشْرِ طَلَبُ لَيْلةِ القَدْرِ، ومِنْ رَحْمَةِ الله تَعَالى بِعِبَادِهِ أَنْ جَعَلَهَا مَحصُورَةً في تِلْكَ الَّليالي، وَلَوْ كَانَتْ في كُلِّ العَامِ لَلَحِقَهُمْ في طَلَبِهَا مَشَقَّةٌ عَظِيمَةٌ، ولما أَدْرَكَهَا أَكْثرُ النَّاسِ (3) .
( ( (
__________
(1) انظر: شرح ابن بطال (4/159) والمفهم (3/249).
(2) انظر: شرح النووي على مسلم (8/71) والفتاوى الكبرى لابن تيمية (2/498) والديباج (3/264) وعون المعبود (4/176) والدراري المضيئة للشوكاني (1/234).
(3) انظر: شرح ابن بطال (4/159).(1/2)
42- عَلامَاتُ ليلةِ القَدر
قَالَ اللهُ تَعَالى: [تَنَزَّلُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ(4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ(5)] {القدر}.
وعَنْ زِرِّ بنِ حُبَيْشٍ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى قَالَ: «سَمِعْتُ أُبيَّ بنَ كَعْبٍ يَقُولُ، وقِيلَ لَهُ: إِنَّ عَبدَالله بنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَنْ قَامَ السَّنَةَ أَصَابَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، فَقالَ أُبيٌّ: والله الَّذي لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِنَّها لَفِي رَمَضَانَ - يَحلِفُ مَا يَسْتَثْني - ووالله إِنِّي لأَعْلَمُ أَيَّ لَيْلَةٍ هِيَ، هِيَ الَّليْلَةُ الَّتي أَمَرَنَا بها رَسُولُ الله ? بِقِيَامِهَا، هِيَ لَيْلَةُ صَبيحَةِ سَبْعٍ وعِشْرينَ، وأَمَارَتُها أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ في صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لا شُعَاعَ لها»رواه مسلم.
وفي رِوايَةٍ لابنِ حِبَّان: «وَأَمَارَتُها أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ في صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لا شُعَاعَ لها كَأَنهَا طَسْت» (1) .
وعَنْ ابنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله ? قَالَ: «إِنَّ لَيْلَةَ القَدْرِ في النِّصْفِ مِنَ السَّبْع الأَوَاخِرِ من رَمَضَانَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ غَدَاةَ إِذْ صَافِيَةً لَيْسِ لها شُعَاعٌ، قَالَ ابنُ مَسْعُودٍ: فَنَظَرْتُ إِلَيها فَوَجَدْتُها كَما قَالَ رَسُولُ الله ?» رواه أحمد (2) .
__________
(1) رواه مسلم (762) وابن حبان (3690).
(2) رواه أحمد (1/406) وابن أبي شيبة (2/250) وصححه الشيخ أحمد شاكر (3857).(1/1)
وعَنْ أَبي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله ? قَالَ في لَيْلَةِ القَدْرِ: «إِنَّها لَيْلَةُ سَابِعَةٍ أَوْ تَاسِعَةٍ وعِشْرينَ، إِنَّ المَلائِكَةَ تِلْكَ الَّليلَةَ في الأَرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الحَصَى» رواه أحمد (1) .
وَعَنْ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله ? قَالَ: «إِنَّ أَمَارَةَ لَيْلَةِ القَدْرِ أَنَّها صَافِيَةٌ بَلْجَةٌ - أَيْ مُسْفِرَةٌ مُشْرِقَةٌ- كَأَنَّ فِيهَا قَمَراً سَاطِعاً، سَاكِنَةٌ سَاجِيَةٌ - أَيْ فيهَا سُكُونٌ- لا بَرْدَ فيهَا وَلا حَرَّ، وَلا يَحِلُّ لِكَوْكَبٍ أَنْ يُرْمَى به فيهَا حَتى يُصْبِحَ، وإِنَّ أَمَارَتَها أَنَّ الشَّمْسَ صَبيحَتَهَا تَخْرُجُ مُسْتَويَةً لَيسَ لها شُعَاعٌ مِثْلَ القَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لا يَحِلُّ لِلشَّيْطَانِ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا يَوْمَئِذٍ» رواه أحمد (2) .
وعَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ?: «إِنِّي كُنْتُ أُريتُ لَيْلَةَ القَدْرِ ثُم نَسيتُهَا وَهِيَ في العَشْرِ الأَوَاخِرِ، وَهِيَ طَلْقَةٌ بَلْجَةٌ لا حَارَّةٌ ولا بَارِدَةٌ، كَأَنَّ فيهَا قَمَراً يَفْضَحُ كَوَاكِبَهَا لا يَخْرُجُ شَيْطَانُها حَتى يَخْرُجَ فَجْرُهَا» رواه ابن خزيمة وابن حبان (3) .
__________
(1) رواه الطيالسي (2545) وأحمد (2/519) وصححه ابن خزيمة (2194) وقال ابن كثير في تفسيره (4/535) وإسناده لا بأس به، وقال الهيثمي: رواه أحمد والبزار والطبراني في الأوسط ورجاله ثقات (3/175-176) وحسنه الألباني في تعليقه على صحيح ابن خزيمة (3/332) وفي الصحيحة (2205).
(2) رواه أحمد (5/324) والطبراني في مسند الشاميين (1119) والضياء في المختارة (342). وقال الهيثمي في الزوائد (3/175): ورجاله ثقات، وما بين الحاصرتين من كلامي بياناً للمعنى.
(3) رواه ابن خزيمة (2190) وابن حبان (3688) وصححه الألباني بشواهده.(1/2)
وعنْ ابنِ عَباسٍ رَضيَ اللهُ عَنْهُما عَنْ النَّبيِّ ? في لَيْلَةِ القَدْرِ: «لَيْلَةٌ طَلْقَةٌ لا حَارَّةٌ ولا بَارِدَةٌ تُصْبِحَ الشَّمْسُ يَوْمَهَا حَمْرَاءُ ضَعِيفَة» رواه ابن خزيمة (1) .
الفوائد والأحكام:
الأول: جَوَازُ أَنْ يُخفِيَ العَالمُ بَعضَ مَا يَعْلَمُ إِذَا رَأَى المصْلَحَةَ في ذَلكَ، كَما أَخْفَى ابنُ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - عِلْمَهُ بِلَيْلَةِ القَدْرِ لِئَلا يَتَكِلَ النَّاسُ، ويَتَقَاعَسُوا عَنْ قِيَامِ العَشْرِ كُلِّهَا.
الثاني: أَنَّ العَالمَ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَا يَحتَاجُونَ إلى العِلْمِ به؛ كَما بَيَّنَ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ - رضي الله عنه - لَيْلَةَ القَدْرِ لِلنَّاسِ.
الثالث: جَوَازُ اجْتِهَادِ العُلَمَاءِ واخْتِلافِهِم في تَقْدِيرِ المصَالِحِ والمفَاسِدِ، ولَيْسَ ذَلكَ مما يُنْهَى عَنْهُ إِذَا كَانَ عَنْ اجْتِهَادٍ صَحِيحٍ، وبَحْثٍ عَنِ الحَقّ.
الرابع: أَنَّ لَيْلَةَ القَدْرِ في العَشْرِ الأَوَاخِرِ، وَأَرْجَاهَا الأَوْتَارُ مِنْهَا، وَأَرْجَى الأَوْتَارِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وعِشْرينَ كَما أَقْسَمَ عَلى ذَلكَ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ - رضي الله عنه - .
الخامس: دَلَّتْ هَذِهِ النُّصوصُ عَلى أَنَّ لِلَيْلَةِ القَدْرِ عَلامَاتٍ هِيَ:
العلامة الأولى: كُثْرَةُ تَنَزُّلِ المَلائِكَةِ فيهَا، وفي مُقَدِّمَتِهِم جِبْريلُ عَلَيهِ السَّلامُ لِيَشْهَدُوا المصَلينَ في مَسَاجِدِهِم، حتَّى إِنَّ الملائِكَةَ أَكثَرُ منْ عَدَدِ الحَصَى، وهَذِهِ العَلامَةُ لا تَظْهَرُ لِلنّاس.
العلامة الثانية: أَنَّ السَّلامَةَ تَكْثُرُ فيهَا بما يَقُومُ بِهِ العِبَادُ مِنْ طَاعَةِ الله عَزَّ وَجَلَّ.
__________
(1) رواه ابن خزيمة (2192) وصححه الألباني بشواهده .(1/3)
العلامة الثالثة: أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ صَبِيحَتَهَا بَيْضَاءَ لا شُعَاعَ لها. وسَبَبُ ذَلِكَ فيما ذَكَرهُ العُلَماءُ: أَنَّ المَلائِكَةَ يَصْعَدُونَ إِلى السَّماءِ فَتَحْجُبُ أَجْنِحَتُهُم أَو أَنْوَارُهُم أَشِعَةَ الشَّمْسِ (1) ، وذَلكَ مِنْ كَثْرَةِ تَنَزُلِهَم تِلْكَ الَّليْلَة.
العلامة الرابعة: أَنَّ مِنْ صِفَاتِهَا أَنَّها لَيْلَةٌ صَافِيَةٌ سَاكِنَةٌ لا بَارِدَةٌ ولا حَارَةٌ، وهَذَا أَمْرٌ نِسْبِيٌ يَخْتَلِفُ باخْتِلافِ البُلْدَانِ بُرودَةً وحَرَارَةً، والمَعْنَى: أَنَّها لا بَارِدَةٌ ولا حَارَّةٌ بالنِّسْبَةِ لِلَّيَالي الَّتي قَبْلَهَا والَّتي بَعْدَهَا.
العلامة الخامسة: أَنَّ الشَّيْطَانَ لا يَخْرُجُ مَعَ شَمْسِ صَبيحَتِهَا؛ ذَلكَ أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ بَينَ قَرْنَي الشَّيْطَانِ إِلا صَبيحَةَ لَيْلَةِ القَدْرِ.
السادس: أَنَّ أَكْثَرَ العَلامَاتِ المذْكُورَةِ لا تَبِيْنُ لِلنَّاسِ إلا بَعْدَ انْتِهَاءِ لَيْلَةِ القَدْرِ، وفَائِدَةُ ذَلكَ: أَنْ يَشْكُرَ مَنْ أَدْرَكَهَا رَبَّهُ عَلى تَوْفِيقِهِ لِقِيامِهَا، ويَنْدَمَ المُفَرِّطُ فِيهَا، ويَعْزِمَ عَلى تَدَارُكِهَا في السَّنَةِ القَادِمَةِ.
السابع: أَنَّ هَذِهِ العَلاماتِ رَاتِبةٌ لِكُلِّ لَيْلَةِ قَدْرٍ تَأْتي، ولَيْسَتْ خَاصَّةً بِوَقْتِ النَّبيِّ ? (2) .
الثامن: أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ الاجْتِهَادُ في تَحَرِّيهَا؛ لما فيهَا مِنَ الخَيْرِ العَظِيمِ.
( ( (
__________
(1) انظر: إكمال المعلم (4/148) وشرح النووي على مسلم (8/65) والمفهم (2/391) والديباج (3/259) وفيض القدير (5/396).
(2) وذكر القرطبي أنه الأولى، المفهم (2/391).(1/4)
43- التماسُ ليلةِ القَدْرِ في ثلاثٍ وعشرين
عَنْ عَبدِالله بنِ أُنيسٍ الجُّهَنيِّ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله ? قَالَ: «أُرِيتُ لَيْلَةَ القَدْرِ ثُم أُنْسيتُها وأَرَاني صُبْحَهَا أَسْجُدُ في مَاءٍ وطِينٍ، قَالَ: فَمُطِرنَا لَيْلَةَ ثَلاثٍ وعِشرينَ، فَصَلَّى بنا رَسُولُ الله ? فَانْصَرفَ وإِنَّ أَثَرَ الماءِ والطِّينِ عَلى جَبْهَتِهِ وَأَنْفِهِ، قَالَ: وَكَانَ عَبدُالله بنُ أَنيسٍ يَقُولُ: ثَلاثٍ وعِشرينَ» رواه مسلم (1) .
وفي رِوايَةٍ لمالكٍ أَنَّ عَبدَالله بنَ أُنَيْسٍ قَالَ لِرسُولِ الله ?: «يَا رَسُولَ الله إِنّي رَجُلٌ شَاسِعُ الدَّارِ فَمُرْني لَيْلَةً أَنْزِلُ لها، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله ?: انْزِل لَيْلَةَ ثَلاثٍ وعِشْرينَ مِنْ رَمَضَانَ» (2) .
وعَنْ ابنِ عَباسٍ رَضيَ الله عَنْهُما قَالَ: «أُتِيْتُ وأَنا نَائِمٌ في رَمَضَانَ فَقيلَ لي: إِنَّ الَّليلةَ لَيْلَةُ القَدْرِ، قَالَ: فَقُمْتُ وَأَنا نَاعِسٌ فَتَعَلَّقْتُ بِبَعْضِ أَطْنَابِ فُسْطَاطِ رَسُولِ الله ? فَأَتَيْتُ رَسُولَ الله ? فَإِذَا هُوَ يُصَلي، قَالَ: فَنَظَرْتُ في تِلْكَ الَّليْلَةِ فَإِذا هِيَ لَيْلَةُ ثَلاثٍ وعِشرينَ» رواه أحمد (3) .
__________
(1) رواه مسلم (1168) وأحمد (3/495) وأبو داود مطولاً (1379).
(2) موطأ مالك (1/320).
(3) رواه أحمد (1/255) وابن أبي شيبة (2/250) والطبراني في الكبير (11/292) رقم (11777) وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/76) «ورجال أحمد رجال الصحيح».(1/1)
وعَن أَبي حُذَيْفَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبيِّ ? عَنْ النَّبيِّ ? قَالَ: «نَظَرْتُ إِلى القَمَرِ صَبِيحَةَ لَيْلَةِ القَدْرِ فَرَأَيْتُهُ كأَنَّهُ فِلْقُ جَفْنَة، قَالَ أبو إِسحقَ السَبِّيعِي: إِنَّما يَكُونُ القَمَرُ كَذَاكَ صَبيحَةَ لَيْلَةِ ثَلاثٍ وعِشْرينَ» (1) .
والجَفْنَةُ هِيَ القَصْعَةُ العَظِيمَةُ، وفَلْقُهَا: نِصْفُهَا (2) .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ: «تَذَاكَرْنا لَيْلَةَ القَدْرِ عِنْدَ رَسُولِ الله ? فَقَالَ: أَيُّكُم يَذْكُرُ حِينَ طَلَعَ القَمَرُ وَهُوَ مِثْلُ شِقِّ جَفْنَة» رواه مسلم (3) .
الفوائد والأحكام:
الأول: أَنَّ النَّبيَّ ? أُنسِيَ لَيْلَةَ القَدْرِ، ولَعَلَ حِكْمَةَ ذَلكَ: أَلَّا يَتَّكِلَ النَّاسُ، ويَتَثَاقَلُوا عَنِ العِبَادَةِ في غَيْرِهَا.
الثاني: حِرصُ الصَّحابَةِ رَضيَ الله عَنْهُمْ عَلَى تَحَرِّي الَّليالي الفَاضِلَةِ، والسُّؤَالِ عَنْهَا؛ بِقَصْدِ إِحْيائِهَا بالعِبَادَةِ والذِّكْرِ.
الثالث: فَضَيلَةُ لَيْلَةِ ثَلاثٍ وعِشْرينَ، وأَنَّها مَظِنَّةُ لَيْلَةِ القَدْرِ فَيَنْبَغي للمُسْلِم إِحْيَاؤُهَا بالعِبَادَةِ، والاجْتِهَادُ فِيهَا.
الرابع: أَنَّ القَمَرَ في لَيْلةِ ثَلاثٍ وَعِشْرينَ يَكُونُ مِثْلَ القَصْعَةِ العَظِيمَةِ، وَكَانَتْ هِيَ لَيْلةَ القَدْرِ في ذَلكَ العَامِ المذْكُورِ في هَذِهِ الأَحَاديث.
...
( ( (
__________
(1) رواه أحمد (5/369) والنسائي في الكبرى (3411) وإسناده صحيح ، ورواه أحمد من حديث أبي حذيفة عن علي - رضي الله عنه - (1/101) وحسنه الشيخ أحمد شاكر (793).
(2) لسان العرب (10/309) مادة (فلق).
(3) رواه مسلم (1170). ...(1/2)
44- فضلُ ليلةِ القدر
قَالَ اللهُ تَعَالَى: [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ(3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ(4)] {الدُخان}.
وقَالَ تَعَالَى: [إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ(1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القَدْرِ(2) لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ(3) تَنَزَّلُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ(4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ(5)] {القدر}.
وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ?: «مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمَاناً واحتِسَاباً غُفِرَ لهُ مَا تَقدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» رَوَاهُ الشَيْخَان (1) .
وفي لَفْظٍ: «مَنْ قَامَ لَيْلةَ القَدرِ إيماناً واحتِسَاباً غُفِرَ له مَا تَقَدَّمَ من ذَنبِهِ» (2) .
وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله ? قَالَ في لَيْلَةِ القَدْرِ: «إنَّهَا لَيْلَةُ سَابعةٍ أو تَاسِعَةٍ وعِشْرِينَ إِنَّ الملائِكَةَ تِلْكَ اللَّيلةَ في الأرْضِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ الحَصَى» رَواهُ أَحْمَد (3) .
الفوائد والأحكام:
الأول: فَضِيلَةُ لَيْلَةِ القَدْرِ ويَظْهرُ فَضلُهَا فيما يلي:
1- أنَّها ذَاتُ قَدْرٍ عَظِيمٍ عِنْدَ الله تَعَالَى.
2- أَنَّها خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ القَدْرِ وذَلكَ يُعَادِلُ ثَلاثاً وثَمانِينَ سَنَةً وأَرْبعَةَ أَشْهُرٍ .
3- كَثْرَةُ تَنزُّلِ الملائِكَةِ فيهَا حَتَّى يَكُونُوا أَكْثَرَ مِنْ حَصَى الأرْضِ.
4- أَنَّ القُرْآنَ العَظِيمَ أُنْزِلَ فيهَا.
__________
(1) رواه البخاري (35) ومسلم (760).
(2) هذا اللفظ للبخاري (1802) ومسلم (760).
(3) رواه أحمد (2/519) والطيالسي (2545) وصححه ابن خزيمة (2194).(1/1)
5- أَنَّ السَّلامةَ مِنَ العَذابِ تَكْثرُ فيهَا بما يَقومُ بهِ العِبَادُ مِنْ أَعْمالٍ صَالحةٍ، وبما يُفيضُهُ اللهُ تَعَالى عَلى عِبادِهِ مِنَ الرَّحْمَةِ والمغْفِرَةِ والعِتْقِ مِنَ النَّار.
6- أَنَّها لَيْلَةٌ تُوصَفُ بالبَركةِ؛ لِكَثْرةِ فَضَائِلِهَا، وتَعَدُّدِ مَزَايَاهَا.
7- أَنَّ مَنْ قَامَهَا تَصْدِيقاً بهَا وبِمَوْعُودِ الله تَعَالى فيهَا، واحْتِسَاباً لأَجْرِهَا غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ الَّتي كَانَتْ قَبْلَهَا.
8- أَنَّ كِتابَةَ مَقَادِيرِ السَّنةِ تَكُونُ فيها.
9- أَنَّ مَنْ أَحْيَاهَا لَهُ قَدْرٌ عَظِيمٌ عِنْدَ الله تَعَالى؛ وهُوَ جَدِيرٌ برَحمَتِهِ ومَغْفِرَتِه.
الثاني: يَنْبغِي للمُسْلِمِ أَنْ يَتَحرَّى لَيْلَةَ القَدْرِ؛ وذَلكَ بالمحَافَظَةِ عَلى قِيامِ العَشْرِ كُلِّهَا، والاجْتِهادِ في الصَّلاةِ والدُّعاء والذِّكْر؛ فَلَيلَةٌ هَذا فَضْلُها لا يُفرِّطُ فيهَا إلا مَحرُومٌ، نَسْأَلُ الله تَعَالى أَلَّا يَحرِمَنَا فَضْلَهُ.
الثالث: الخَيريَّةُ في لَيْلَةِ القَدْرِ هِيَ خَيْريَّةُ العَمَلِ فيهَا؛ لأَنَّ المُجْتَهِدَ في العِبَادَةِ فِيهَا يَكُونُ عَمَلُهُ خَيْراً مِنْ عَمَلِ أَلْفِ شَهْرٍ في سِوَاهَا؛ وذَلكَ فَضْلٌ عَظِيمٌ مِنَ الله تَعَالى.
الرابع: فَضْلُ الله تَعَالى عَلى هَذِهِ الأمَّةِ بِأَنْ أَعْطَاهَا هَذِهِ الَّليْلَةَ المبَارَكَةَ في كُلِّ عَامٍ فَالحَمْدُ لله كَثِيراً.
الخامس: أَنَّ لَيْلَةَ القَدْرِ أَفْضَلُ الَّليَالي على الإِطْلاق، وَلَيْسَ صَحِيحاً أَنَّ لَيْلَةَ الجُمُعَةِ أَفْضَلُ مِنْها، فإِذا صَادَفَتْ لَيْلةَ الجُمُعَةِ ازْدَادَتْ فَضْلاً إِلى فَضْلِهَا.(1/2)
السادس: أَنَّ عَينَ لَيْلَةِ الإِسْرَاءِ والمعْرَاجِ أَفْضَلُ مِنْ لَيْلَةِ القَدْرِ بالنِّسْبَةِ لِلنَّبيِّ ?؛ لأَنهُ عُرِجَ به إِلى السَّماءِ وَكَلَّمَهُ الرَّبُّ تَبَارَكَ وتَعَالى، وَهَذا أَعْظَمُ الشَّرَفِ، وأَعْلى المنْزِلَةِ، وأَما بالنِّسْبَةِ لِسَائِرِ المسْلِمِينَ فإِنَّ حَظَّهُمْ مِنْ لَيْلَةِ القَدْرِ أَكْمَلُ وَأَعْظَمُ مِنْ حَظِّهِم مِنْ لَيْلَةِ المعْرَاجِ (1) .
السابع: ذَكَرَ بَعْضُ العُلَماءِ أَنَّ هَذِهِ الَّليْلَةَ العَظِيمَةَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الأُمَّةِ، وجَاءَ ذَلكَ في أَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ، كَما جَاءَ في أَحَادِيثَ أُخرَى أَنَّها كَانَتْ لِلأُمَمِ السَّابِقَةِ قَبْلَنا أَو لأَنْبيائِهِم عَلَيْهِم السَّلام، لَكنهَا أَيضاً أَحَادِيثُ ضَعِيفَة (2) .
__________
(1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (25/286).
(2) من الأحاديث التي ورد فيها أنها كانت فيمن قبلنا حديث أبي ذر - رضي الله عنه - وفيه: «قلت: تكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبضوا رفعت أم هي إلى يوم القيامة؟ قال: بل إلى يوم القيامة» رواه أحمد (5/171) والنسائي في الكبرى (3427) وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي (1/307) ولكن ضعفه الألباني في تعليقه على صحيح ابن خزيمة (2170) وذكر أن في سنده مرثد الزِّمَّاني فيه جهالة وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه.
وأما ما جاء أنها مختصة بهذه الأمة فحديث رواه مالك بلاغاً: «أن النبي ? أُريَ أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل مثل الذي بلغ غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر خيراً من ألف شهر» رواه مالك في الموطأ بلاغاً (1/321) قال الحافظ ابن عبدالبر: «لا أعلم هذا الحديث يروى مسنداً من وجه من الوجوه، ولا أعرفه في غير الموطأ مرسلاً ولا مسنداً» أهـ من التمهيد (24/373). وحديث جاء عن أنس: «إن الله عز وجل وهب لأمتي ليلة القدر ولم يعطها من كان قبلكم» رواه الديلمي (647) وهو حديث موضوع كما في ضعيف الجامع (1669) وقال النووي وهو يعدد خصائص ليلة القدر: «أنها مختصة بهذه الأمة زادها الله شرفاً فلم تكن لمن قبلها... وهو الصحيح المشهور الذي قطع به أصحابنا كلهم وجماهير العلماء...» أهـ من المجموع (6/457-458).(1/3)
الثامن: جَاءَ في رِوايةٍ لمسْلم: «مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ القَدْرِ فَيُوَافقُها إيمَاناً واحتِسَاباً غُفِرَ لهُ» وَقَدْ اسْتَدَلَّ بِهذِهِ الرِّوايةِ مَنْ قَالَ: إِنَّ لَيْلَةَ القَدْرِ لا تَكُونُ إِلا لمن عَلِمَ أَنَّها لَيْلَةُ القَدْرِ، وظَاهِرُ الحَدِيثِ لا يَدُلُّ عَلى ذَلكَ؛ بَل يَدُلُّ على أَنَّه يُدْرِكُهَا مَنْ قَامَهَا بِقَصْدِ أَنَّهُ يَقُومُ لَيلَةَ القَدْرِ وهيَ لَيْلةُ القَدْرِ في نَفْسِ الأَمْرِ وإِنْ لم يَعْلَمْ هُو ذَلك (1) ؛ وعَليهِ فَيَنْبَغِي لِلمُسْلِم أَنْ يَجْتَهِدَ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيالي العَشْرِ عَلى أَنَّها لَيْلَةُ القَدْرِ؛ لاحْتِمالِ أَنْ تَكُونَ كَذلك، فَيكُونُ مُوافِقاً لها.
( ( (
__________
(1) انظر: طرح التثريب (4/164) وعنه ذخيرة العقبى (21/51-52).
تنبيه: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - : «من صلى العشاء الآخرة في جماعة فقد أدرك ليلة القدر» رواه ابن خزيمة وضعفه الألباني في التعليق عليه (3/333) وجاء عن أنس عند الخطيب (5/332) لكنه موضوع، فيه أحمد بن الحجاج بن الصلت وهو متهم، انظر: زوائد تاريخ بغداد على الكتب الستة للشيخ خلدون الأحدب (4/594) رقم (792) وجاء في الموطأ من مراسيل سعيد بن المسيب (1/321).(1/4)
45- التماسُ ليلةِ القَدْرِ في السبعِ الأواخر
عَن ابنِ عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُما أَنَّ رِجَالاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبيِّ ? أُرُوُا لَيْلَةَ القَدْرِ في السَّبْعِ الأَوَاخِرِ فَقَالَ رَسُولُ الله ?: «أَرَى رُؤْيَاكُمْ قَدْ تَوَاطَأَتْ في السَّبْعِ الأَوَاخِرِ، فَمَنْ كَانَ مُتَحَرِيْها فَلْيَتَحَرَاها في السَّبْع الأَوَاخِر» متفق عليه.
وفي رواية: «التَمِسُوهَا في العَشْرِ الأَوَاخِر، فَإِنْ ضَعُفَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَجَزَ فَلا يُغْلَبَنَّ على السَّبْع البَواقِي».
وفي رواية: «تَحَرُّوا لَيْلَةَ القَدْرِ في السَّبْعِ الأَوَاخِر» (1) .
الفوائد والأحكام:
الأول: أَنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ مَعصُومَةٌ مِنَ الخَطَأِ في رِوَايَتِها وَرَأْيِها ورُؤْيَاهَا؛ لأَنَّ النَّبيَّ ? قَدْ اعْتَبَرَ تَوَاطُأَ رُؤْيَاهُم (2) .
الثاني: أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ يَنْبَغي تَحَرِيْهَا وقِيامُهَا؛ لما فيهَا مِنَ الخَيْرِ والفَضْل، وَلَيْسَ ذَلكَ بِوَاجَبٍ ولَكنَّهُ سُنَّة (3) .
الثالث: فِيهِ دَليلٌ عَلى عَظِيمِ قَدْرِ الرُّؤْيَا، وجَوَازُ الاسْتِنَادِ إِليهَا في الاسْتِدْلال على الأُمُورِ الوُجُوديَّة بِشَرطِ أَنْ لا يُخالفَ القَواعِدَ الشَّرْعِيَّة (4) ، وأَنْ لا يُبَالَغَ في الأَخْذِ بِها مُبَالَغَةً تَخرُجُ بها عَن المقْصُودِ، وتَكونُ سَبَباً في القُعُودِ عَن العَمَلِ.
__________
(1) رواه البخاري (1911) ومسلم (1165) والروايتان الأخريان لمسلم.
(2) إعلام الموقعين (1/84) والروح (136) وانظر: الفتح (12/380).
(3) انظر: الاستذكار (3/416).
(4) شرح ابن الملقن على العمدة (5/411) وفتح الباري (4/257).(1/1)
الرابع: أَنَّ الرُّؤْيا قَدْ تَكُونُ مِنَ الله تَعَالى، وقَدْ تَكُونُ مِنْ حَديثِ النَّفْسِ، وقَدْ تَكُونُ مِنَ الشَّيطَان، فَإذَا تَواطَأَتْ رُؤْيا المؤْمِنينَ عَلى أَمْرٍ كَانَ حَقاً، كَما إِذَا تَواطَأَت رِواياتُهم أو رَأْيُهم؛ فَإِنَّ الوَاحِدَ قَدْ يَغْلَطُ أَو يَكْذِبُ وقَدْ يُخْطئُ في الرَأْي، أَوْ يَتَعَمَّدُ البَاطِل، فَإذا اجْتَمَعوا لم يَجتَمعُوا عَلى ضَلالَةٍ (1) .
الخامس: فِيهِ دَلالَةٌ على العَمَلِ بقَوْلِ الأَكْثَرِ بشَرْطِ أَنْ لا يُخالِفَ نصَاً ولا إِجْماعاً، ولا قِياساً جَلِياً (2) .
السادس: أَنَّ رُؤْيا الصَّحَابَةِ رَضيَ اللهُ عَنْهُم تَواطَأَتْ عَلى أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ في السَّبع الأَواخِرِ من رَمَضَان، وَأَمَرَ النَّبيُّ ? بتَحَرِيهَا فيهَا ذَلكَ العَام، فَهِيَ مِنْ آكدِ الَّليالي (3) .
السابع: أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدرِ قَدْ تُكْشَفُ لبَعْض النَّاس في المنَامِ أَو اليَقَظَةِ فَيَرى أَنْوارَهَا، أَو يَرى مَنْ يَقولُ لَه: هَذهِ لَيلَةُ القَدْرِ، وقَد يَفْتَحُ اللهُ تَعالى عَلى قَلْبِهِ مِن المُشَاهَدَةِ مَا يَتَبيَّنُ به الأَمْر (4) .
__________
(1) منهاج السنة النبوية (3/500) وانظر: مدارج السالكين (1/51).
(2) شرح ابن الملقن على العمدة (5/414).
(3) قال ابن بطال رحمه الله تعالى في شرحه على البخاري (4/151): على حديث ابن عمر «فليتحرها في السبع الأواخر» قال: يريد في ذلك العام الذي تواطأت فيه الرؤيا على ذلك وهي ليلة ثلاث وعشرين، لأنه قال في حديث أبي سعيد: «فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر، وإني رأيت أني أسجد في ماء وطين فمطرنا في ليلة إحدى وعشرين» وكانت ليلة القدر في حديث أبي سعيد في ذلك العام في غير السبع الأواخر، قال الطحاوي: وعلى هذا التأويل لا تتضاد الأخبار» أهـ.
(4) مجموع الفتاوى (25/286).(1/2)
46- اعتكافُ النساء
عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهَا: «أَنَّ رَسُولَ الله ? ذَكَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ العَشْرَ الأَوَاخِرَ من رَمَضَانَ فَاسْتأْذَنَتهُ عَائِشَةُ فَأَذِنَ لَهَا، وسَأَلَتْ حَفْصَةُ عَائِشَةَ أَنْ تَستَأْذِنَ لَها فَفَعَلَتْ، فَلَما رَأَتْ ذَلِكَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ أَمَرَتْ بِبِنَاءٍ فَبُنِيَ لَها، قَالَتْ: وكَانَ رَسُولُ الله ? إِذَا صَلَّى انْصَرَفَ إِلى بِنَائِهِ، فَبَصُرَ بِالأَبْنِيَةِ فَقَالَ: مَا هَذا؟ قَالُوا بِنَاءُ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ وزَيْنَب، فَقَالَ رَسُولُ الله ?: آلبِّرَ أَرَدْنَ بِهَذَا؟! مَا أَنَا بِمُعْتَكِفٍ، فَرَجَعَ، فَلَما أَفْطَرَ اعْتَكَفَ عَشْراً مِنْ شَوَّال» متفق عليه.
وَفي رِوَايَةٍ لمُسْلمٍ: «كَانَ رَسُولُ الله ? إِذَا أَرادَ أَنْ يَعْتَكِفَ صَلَّى الفَجْرَ ثُمَّ دَخَلَ مُعْتَكفَهُ، وإِنَّهُ أَمَرَ بِخِبَائِهِ فَضُرِبَ أَرَادَ الاعْتِكَافَ في العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، فَأَمَرَتْ زَيْنَبُ بِخِبائِهَا فَضُرِبَ، وَأَمَرَ غَيْرُهَا مِنْ أَزْوَاجِ النَّبيِّ ? بِخِبائِهِ فَضُرِبَ، فَلَما صَلَّى رَسُولُ الله ? الفَجْرَ نَظَرَ فَإِذَا الأَخْبِيَةُ، فَقَالَ: آلبِّرَ تُرِدْنَ؟ فَأَمَرَ بِخِبَائِهِ فَقُوِّضَ، وَتَرَكَ الاعْتِكَافَ في شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى اعْتَكَفَ في العَشْرِ الأُوَلِ مِنْ شَوَّال» (1) .
الفوائد والأحكام:
الأول: أَنَّهُ يَجُوزُ اعْتِكَافُ النِّسَاءِ في المَسْجِدِ إِذَا أُمِنَتْ الفِتْنَةُ بِهِنَّ (2) .
__________
(1) رواه البخاري (1940) ومسلم (1172).
(2) انظر: شرح النووي (8/70) والمفهم (3/248) وشرح ابن الملقن على العمدة (5/429) «ونقل ابن عبدالبر عن الأثرم قال: سمعت أحمد بن حنبل يسأل عن النساء يعتكفن؟ قال: نعم، قد اعتكف النساء» انظر: التمهيد (1/195).(1/1)
الثاني: أَنَّ المَرْأَةَ لا تَعْتَكِفُ إِلاّ بِإِذْنِ زَوْجِهَا، وهَذَا مَحَلُّ إِجْمَاعٍ (1) وَإِذَا اعْتَكَفَتْ بِدُونِ إِذْنِهِ فَلَهُ أَنْ يُخْرِجَهَا، وَإِذَا أَذِنَ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ في الاعْتِكَافِ ثُمَّ بَدَا لَهُ مَنعُهَا لمَصْلَحَةٍ جَازَ لَهُ ذَلكَ (2) .
الثالث: أَنَّهُ يَجُوزُ قَطْعُ الاعْتِكافِ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهِ إِذَا احْتَاجَ إِلى ذَلكَ (3) .
الرابع: أَنَّ الاعْتِكَافَ لا يَصِحُّ إِلّا في المَسْجِدِ، وَلَوْ صَحَّ في غَيْرِهِ لَجَازَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَعْتَكِفَ في مُصَلاهَا مِنْ بَيْتِهَا (4) .
الخامس: أَنَّهُ يُشْرَعُ لِلزَّوْجِ تَأْدِيبُ زَوْجَاتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ إِذَا رَأَى مِنْهُم مَا يَسْتَوجِبُ التَّأْدِيبَ؛ إِذْ إِنَّ النَّبيَّ ? مَنَعَهُنَّ مِنَ الاعْتِكَافِ بَعْدَمَا أَذِنَ لَهُنَّ فِيهِ؛ خَشْيَةً عَلَيْهِنَّ مِنَ المبَاهَاةِ والتَّنَافُسِ النَاشِىءِ عَنْ الغَيرَةِ (5) .
السادس: أَنَّهُ يُشْرَعُ قَضَاءُ النَّوافِلِ إِذَا فَاتَتْ (6) .
السابع: شُؤْمُ الغَيرَةِ الزَّائِدَةِ عَنْ حَدِّهَا؛ لأَنَّهَا نَاشِئَةٌ عَنِ الحَسَدِ وَهُوَ مَذْمُوم.
الثامن: أَنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُ الأَفْضَلِ إِذَا كَانَ في تَرْكِهِ مَصْلَحَة (7) .
__________
(1) نقل الإجماع على ذلك ابن الملقن في شرح العمدة (5/429).
(2) انظر: شرح النووي (8/70) والمفهم (3/245) والفتح (4/277).
(3) قال الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى: «الصواب أنه لا يجب بالشروع فيه، ولا ينتقض بالجمعة».
(4) انظر: شرح النووي (8/68) والفتح (4/277).
(5) شرح النووي (8/69) والمفهم (3/245) ومنحة الباري (4/464) وحاشية السندي على النسائي (2/45).
(6) السابق (4/277).
(7) شرح ابن بطال (4/182) والفتح (4/277).(1/2)
التاسع: أَنَّ الاعْتِكَافَ لا يَجِبُ بِالنِّيةِ (1) .
العاشر: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَتَخِذَ لِنَفْسِهِ مَوضِعاً مِنَ المَسْجِدِ يَنْفَرِدُ فِيهِ مُدَّةَ اعْتِكافِهِ مَا لَم يُضَيِّق عَلى النَّاسِ، وَإِذَا اتَّخَذَهُ يَكُونُ في آخِرِ المَسْجِدِ وَرِحَابِهِ؛ لِئَلاّ يُضَيِّق عَلى غَيْرِهِ، ولِيَكونَ أَخْلَى لَهُ وَأَكْمَلَ في انْفِرَادِهِ (2) .
الحادي عشر: حُسْنُ خُلُقِ النَّبيِّ ?، وطِيبُ عِشْرَتِهِ لِنِسَائِه؛ فإِنَّه لما مَنَعَهُنَّ مِنَ الاعْتكَاف؛ تَأْديباً لهنَّ، وخَشْيةً عَلْيهِنَّ مِنَ الرِّياء، تَرَكَ هُو الاعْتكَافَ، مَعْ أَنَّ له مَنْعَهُنَّ والاعْتِكَافَ لِوَحْدِه، لَكنهُ تَرَكَهُ مُوَاسَاةً لهنَّ، وتَطييباً لِقُلوبهنَّ، وتَحسِيناً لِعِشْرَتهنَّ (3) ؛ وهَكذا يَنْبَغي لِلمُسْلِمِ مَعَ أَهْلِه أَنْ لا يَتَجَاوَزَ حُدُودَ التَأْدِيبِ إِلى الانْتِقَامِ والتَّشَفِي.
الثاني عشر: إِذا حَاضَتِ المعْتكِفَةُ فإِنها تَقْطَعُ اعْتِكافَها، وتَخْرُجُ مِنَ المسْجِد، فإِذا طَهَرَتْ تَبْني عَلى مَا مَضَى مِنْ اعْتِكافِهَا (4) .
__________
(1) نقل الإجماع عليه النووي في شرحه على مسلم (8/68).
(2) شرح النووي (8/69).
(3) ذكر ذلك القرطبي رحمه الله تعالى ثم قال: «أو لعله توقع من تماديه على الاعتكاف ظن أنه هو المخصوص بالاعتكاف دونهن» أهـ من المفهم (3/246) وقال ابن بطال رحمه الله تعالى: «أخره تطييباً لقلوبهن لئلا يحصل معتكفاً وهن غير معتكفات» أهـ شرح البخاري (4/169) وذكر الشيخ زكريا الأنصاري أنه إنما ترك الاعتكاف مبالغة في الإنكار عليهن أو خوف ضيق المسجد، انظر: منحة الباري (4/44).
(4) وهو قول الجمهور: الزهري وربيعة ومالك والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي، نقله عنهم ابن بطال (4/174) ونص عليه أحمد كما في المغني (4/487).(1/3)
الثالث عشر: أَنَّ مَنْ نَوى شَيئاً مِنَ الطَّاعَاتِ، ولم يَبْدَأ بَعدُ بالعَمَل فيه، فَلهُ تَركُهُ إِنْ شَاءَ أَبداً، وإِنْ شَاءَ أخَّرَهُ إِلى وَقْتٍ آخَر (1) .
الرابع عشر: أَنَّ مَنْ عُلِمَ منه الرِّياءُ في شَيءٍ مِنَ الطَّاعَاتِ فلا بأْسَ أَنْ يُقطَعَ عَليهِ فيه، ويُمنَعَ منه؛ اسْتِدلالاً بِقَولهِ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ «آلبرّ تُرِدْن» يَعْني: أَنكُنَّ إِنما أَرَدْتُنَّ الحظْوَةَ والمنْزِلَةَ منه عَليهِ السَّلام؛ فَلذلك قَطَعَ عَلَيهِنَّ ما أَرَدْنَه، وأخَّرَ ما أَرَادَهُ لِنَفْسِه (2) .
الخامس عشر: اسْتِحْبابُ الانْفِرادِ عَنِ النَّاسِ والأَهْلِ وغَيرِهِم في الاعْتِكافِ إِلَّا فيما لابدّ منه مِنْ اجْتماعٍ على صَلاةٍ أَو أَكلٍ أَو ضَرورةٍ (3) .
السادس عشر: يُشْرَعُ الاعْتِكافُ في رَمَضَانَ وَهُو هَدْيُ النَّبيِّ ? وسُنَّتُه، ويَجوزُ الاعْتكافُ في غَيرِ رَمَضَانَ لهذا الحدِيثِ وَهُوَ أَنَّ النَّبيَّ ? اعْتَكَفَ في شَوال (4) .
السابع عشر: الاعْتِكافُ في الغُرَفِ التي في دَاخِلِ المسْجِدِ، وَأَبْوابُها مُشْرَعَةٌ على المسْجِدِ لها حُكْمُ المسْجِد، أَما إِنْ كَانَتْ خَارِجَ المسْجِدِ فَلَيْسَتْ مِنَ المسْجِدِ وإِنْ كَانَتْ أَبْوابُها دَاخِلَ المسْجِد (5) .
... ... ( ( (
__________
(1) انظر: شرح ابن بطال (4/183).
(2) المرجع السابق (4/183).
(3) شرح ابن الملقن على العمدة (5/435).
(4) انظر: فقه العبادات لابن عثيمين (208).
(5) فتاوى اللجنة (6718).(1/4)
47- التماسُ ليلةِ القَدْرِ في الأوتار
عَنْ عُبَادَةَ بنِ الصامتِ - رضي الله عنه - قَالَ: «خَرَجَ النَّبيُّ ? لِيُخْبرَنا بلَيْلَةِ القَدْرِ فَتَلاحَى رَجُلانِ من المُسلِمِين، فقَالَ: خَرجْتُ لأُخْبِرَكُم بلَيْلَةِ القَدْرِ فَتلاحَى فُلانٌ وفُلان، فَرُفِعَتْ، وعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيرَاً لَكُم، فَالتَمِسُوها في التَّاسِعَةِ والسَّابِعةِ والخَامِسَة» رواه البخاري (1) .
وَعَنْ أَبي سَعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه - قَالَ: «اعْتَكَفَ رَسُولُ الله ? العَشرَ الأَوسَطَ من رَمَضَانَ يَلتَمِسُ لَيْلَةَ القَدْرِ قَبلَ أَنْ تُبَانَ لَه، فلَمَّا انْقَضَينَ أَمَرَ بالبِنَاءِ فقُوِّض، ثم أُبِينَت له أنَّها في الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، فأَمَر بالبِنَاءِ فأُعِيدَ، ثمَّ خَرَجَ على النَّاسِ فقال: يا أيُّها النَّاس: إنَّها كَانَت أُبِينَت لي لَيْلَةُ القَدْرِ، وإنِّي خَرَجْتُ لأُخبِرَكُم بها، فَجَاءَ رَجُلانِ يَحْتَقَّانِ – أي: يَخْتَصِمان- مَعَهُما الشَّيطَانُ، فَنُسِّيتُها فَالتَمِسُوها في الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ من رمَضَان، فالتَمِسُوها في التَّاسِعَةِ والسَّابِعَةِ والخَامِسَة» رواه الشيخان واللفظ لمسلم (2) .
الفوائد والأحكام:
__________
(1) رواه البخاري (1919) والنسائي في الكبرى (3394) وأحمد (5/313).
(2) رواه البخاري (1912) ومسلم (1167) وما بين الحاصرتين مني وليس من الحديث.(1/1)
الأول: النَّهْيُ عَنِ الفُرْقَةِ والاخْتِلاف، وأنَّ التَّلاحِيَ بين المُسْلِمين، والخُصُومَاتِ التي بالبَاطِل قد تُسبِّبُ شَرَّاً على المُتَلاحِين وغَيْرِهم، وهي من أَسبَابِ نَزْعِ الخَير، وهنا رُفِعَتْ لَيْلَةُ القَدْرِ إلى لَيلَةٍ أُخرَى بِسَببِ ذَلك (1) . ومن هذا البَابِ مَنعُ المَغفِرَةِ عن المُتَشَاحِنِينَ، وتَأجِيلُ النَّظَرِ في أَعَمالِهِم إلى أن يَصْطَلِحُوا (2) .
الثاني: يُسْتَفَادُ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ العَامَةَ قَد يُؤَاخَذُونَ بِذَنْبِ الخاصَّةِ (3) .
الثالث: أن لَيْلَةَ القَدْرِ بَاقِيةٌ، وهَذَا مَحَلُّ إِجْمَاعٍ، وإنَّمَا الذي رُفِعَ: العِلَمُ بها؛ ولذا نُسِّيَهَا النَّبيُّ ? (4) .
الرابع: أنَّ مِنَ الخَيرِ للمُسلِمِينَ في رَفْعِ العِلْمِ بلَيْلَةِ القَدْرِ: الاجْتِهادَ في الْعَشْرِ كُلِّها (5) .
الخامس: أنَّ الأَوتَارَ من الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ هي أَرجَى اللَّيالِي تَحرِّياً للَيْلَةِ القَدْرِ.
السادس: أنَّ لَيْلَةَ القَدْرِ كَانت خَافِيَةً على النبي ? ثمَّ أُبِينَت له، ثم أُنْسِيهَا.
السابع: حِرْصُِ النَّبيِّ ? على تَحرِّي لَيْلَةِ القَدْرِ، والتِماسِها في الْعَشْرِ الوُسْطَى من رَمَضَانَ قبلَ أَنْ يَبيْنَ له أَنَّها في الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، مع أنَّ الله تَعَالى قَد غَفَرَ لَه ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِه وما تَأَخَّر.
__________
(1) انظر: إكمال المعلم (4/148).
(2) انظر: الاستذكار (3/412).
(3) إكمال المعلم (4/146).
(4) انظر: شرح ابن بطال (4/157) وقال ابن الملقن في شرح العمدة (5/397): «أجمع من يعتد به من العلماء على دوام ليلة القدر، ووجودها إلى آخر الدهر» أهـ وانظر: التمهيد (2/200). ...
(5) انظر: منحة الباري (4/455) وشرح ابن بطال (4/158).(1/2)
الثامن: أنَّ الحِرصَ على تحَرِّي لَيْلَةِ القَدْرِ، والتِماسِهَا فيه تأَسٍّ بالنَّبيِّ ?، ولا يَحصُلُ ذَلكَ إِلَّا بإحْيَاءِ العَشْرِ كُلِّها، خاصَّةً الأوتَارَ مِنها.(1/3)
48- ما يُباحُ للمعتكف
عن عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا: «أنها كانت تُرَجِّلُ النبيَّ ? وهي حَائِضٌ وهُوَ مُعْتَكِفٌ في المَسْجِدِ وَهِيَ في حُجْرَتِهَا يُنَاوِلُها رَأسَهُ» رواه الشيخان.
وفي رواية لمسلم: «وكانَ لا يَدخُلُ البَيتَ إلا لحَاجَةِ الإِنسَان».
وفي رِوايَةٍ لأَبِي دَاودَ عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ الله ? يَكُونُ مُعْتَكِفَاً في المَسْجِدِ فَيُنَاوِلُنِي رَأْسَهُ من خَلَلِ الحُجْرَةِ فَأَغْسِلُ رَأْسَهُ».
وفي رِوَايَةٍ: «فَأُرَجِّلُه وأنا حَائِض» (1) .
وعَنْهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَنِ النَّبيِّ ? «أَنَّهُ كَانَ إذَا اعْتكَفَ لم يَدخُلْ بَيتَهُ إلا لِحَاجَةِ الإنسَانِ التي لابدَّ مِنهَا» رواه النسائي (2) .
وعَنْهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: »إنِّي كُنتُ لأدْخُلُ البَيتَ للحَاجَةِ والمَرِيضُ فيه فَما أَسأَلُ عَنْهُ إلاّ وأنَا مَارَّة» رواه مسلم (3) .
وقالت رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: »السُّنَّةُ على المُعتَكِفِ ألا يَعُودَ مَريضَاً، ولا يَشهَدَ جَنَازَة، ولا يَمَسَّ امرَأةً، ولا يُبَاشِرَهَا، ولا يَخرُجَ لحَاجَةٍ إلا لما لابدَّ مِنه، ولا اعْتِكَافَ إِلا بِصَومٍ، ولا اعْتكَافَ إِلا في مَسجِدٍ جَامِع» رواه أبو داود (4) .
الفوائد والأحكام:
__________
(1) رواه مالك (1/60) والبخاري (1941) ومسلم (297) وأبو داود (2469) والرواية الأخيرة للبخاري (1924) ومسلم في المقدمة (1/31).
(2) أصل الحديث عند البخاري (1941) ومسلم (297) وهذه الرواية للنسائي في الكبرى (3369).
(3) صحيح مسلم (297).
(4) سنن أبي داود (2473) ورواه الدار قطني وأفاد أنه مدرج من كلام الزهري رحمه الله تعالى (2/201)، وذكر البيهقي في السنن (4/321) أنه من كلام عروة رحمه الله تعالى، وانظر: فتح الباري (4/273) والتمهيد (8/320).(1/1)
الأول: أنَّ الحَائِضَ طَاهِرَةٌ غَيرُ نَجِسَةٍ إِلَّا مَوضِعَ الحَيضِ مِنهَا (1) ، وكَذَا الجنُبُ مِنْ بَابِ أَوْلَى (2) .
الثاني: أنَّ خُرُوجَ جُزءٍ من جِسمِ المُعتَكِفِ خَارِجَ الَمسجِدِ لا يُسَمَّى خُرُوجَاً، ولا يُؤثِّرُ في الاعْتكَافِ، كما لَو أَرَادَ أَخَذَ شَيءٍ أَو مُنَاوَلَتَهُ مِنْ نَافِذَةِ المَسجِدِ أو بَابِهِ فلا حَرَجَ في ذَلِك كُلهِ (3) .
الثالث: مَشرُوعِيَّةُ غَسْلِ رَأسِ المُعتَكِفِ، وتَرجِيلِ شَعْرِهِ، والتَّطَيُّبِ والغُسلِ والحَلق والتَّزَيْن (4) .
الرابع: أنَّ النَّبي ? كَانَ ذَا شَعرٍ كَثِيفٍ.
الخامس: أنَّ من لَه شَعرٌ كَثِيفٌ فَالسُّنَّةُ في حَقِّه العِنَايَةُ بِنَظَافَتِهِ وتَرجِيلِهِ، ولَيسَ منَ السُّنَّةِ ولا مِنَ الشَّرِيعَةِ ما خَالَفَ النَّظَافَةَ وحُسنَ الهَيئَةِ في اللِّباسِ والزِّينَةِ (5) .
السادس: يُسْتَفَادُ مِنْ تَرْجِيلِ شَعْرِهِ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ جَوَازُ اسْتِعْمالِ الإِنْسَانِ كُلَّ مَا فيهِ صَلاحُ بَدَنِهِ مِنَ الغِذَاءِ والادِّهَانِ وغَيرِه (6) .
السابع: أنَّه يَجُوزُ لِلمُعتَكِف نَظَرُهُ إلى زَوجَتِهِ، ولَمسُهَا شَيئاً مِنه بغَيرِ شهْوَة (7) .
الثامن: مَشرُوعِيَّةُ خِدمَةِ الزَّوجَةِ لِزوجِهَا بِغسْلِ رَأسِهِ وتَرجِيلِهِ، وغسلِ ثِيابِهِ، وغَيرِ ذَلك (8) .
__________
(1) انظر: التمهيد (8/324) ونقل الإجماع عليه في (22/137) وكذا النووي في شرحه على مسلم (1/134) وانظر: شرح ابن بطال (4/164).
(2) شرح ابن الملقن على العمدة (5/437).
(3) انظر: شرح النووي (3/208) وعون المعبود (7/102).
(4) عون المعبود (7/102).
(5) الاستذكار (1/330) وشرح ابن الملقن (5/438).
(6) انظر: شرح ابن بطال على البخاري (4/165) .
(7) شرح النووي (1/134).
(8) انظر: شرح النووي (3/208).(1/2)
التاسع: أنَّه لا يَجوزُ لِلمُعتَكِفِ الخُروجُ منَ المَسجِدِ إلا لِلحَاجَةِ الاعْتِيَادِيَّة من البَولِ والغَائِطِ، أو الأَكلِ والشُّربِ إِنْ لم يَتَيَسَّرْ له من يُحضِرُهُ له في المسْجِدِ، وهكذا كلُّ شَيءٍ لابُدَّ له مِنه ولا يُمكِن فِعلُهُ في المَسجِدِ فَلَه الخُروجُ لأَجلِهِ ولا يَفْسُدُ اعْتِكَافُه (1) .
العاشر: أنَّ من حَلَف لا يَدخُلُ بَيتاً فَأدْخَلَ رَأْسَهُ فيه، وسَائِرُ بَدَنِهِ خَارِجَهُ لم يَحنَث (2) .
الحادي عشر: إذا خَرَجَ المُعتَكِفُ لحَاجَتِهِ الضَّرُورِيَّةِ فلا يَلْزَمُه أن يَسْتَعْجِلَ في مَشيِهِ بل يَمْشِي عَلى عَادَتِهِ؛ ولكن يَجِبُ علَيهِ الرُّجُوعُ فَورَ قَضَاءِ حَاجَتِهِ (3) .
الثاني عشر: لا يَخرُجُ المعْتكِفُ لِعِيَادَةِ المريضِ أَوْ شُهُودِ جَنازَةٍ، وَهُو قَولُ الجمْهُورِ (4) ، وله أَنْ يَسْأَلَ عَنِ المرِيضِ وَهُو مَارٌّ ولا يُعَرِّجُ عَلَيهِ (5) .
الثالث عشر: لَوْ خَرَجَ لِعُذْرٍ ضَرُورِيّ كَمَوْتِ وَالِدِهِ أَوْ ابْنهِ، وَهُو لم يَشْتَرِطْ، فَإِنهُ يَسْتَأْنِفُ اعْتِكَافَهُ بَعْدَ انْتهَاءِ حَاجَتِه (6) .
__________
(1) انظر: التمهيد (8/327) وطرح التثريب (4/169) والفروع (3/134) والمغني (3/68).
(2) معالم السنن بهامش أبي داود (2/834) وشرح ابن بطال (4/166) وشرح ابن الملقن على العمدة (5/437)وعون المعبود (7/102).
(3) انظر: المغني (3/69).
(4) انظر: شرح ابن بطال على البخاري (4/166).
(5) شرح ابن الملقن على العمدة (5/439).
(6) شرح ابن بطال على البخاري (4/166).(1/3)
الرابع عشر: في الحَدِيثِ اسْتِقْرَارُ المرْأَةِ في بَيتِ الزَّوْجِ، وإِنْ لم يَكُنْ لَه حَاجَةٌ في الدُّخُولِ إِليهَا، أَوْ كَانَ له مَانِعٌ شَرْعيٌّ يَمْنَعُهُ مِنْ بَيتهِ كَالسَّفَرِ والاعْتكافِ، ولا تَخرُجُ زَوْجتُهُ مِنْ بَيتهِ إِلَّا بإِذْنه (1) .
الخامس عشر: إذا خَرَجَ من مُعْتَكَفِهِ بِلا حَاجَةٍ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ (2) .
السادس عشر: أَنَّ مَسأَلَتي اشتراطِ الصَّومِ في الاعْتِكَافِ، وكَونِ الاعْتِكافِ في المسْجِدِ الجَامِع محَلُ خِلافٍ بَينَ العُلَماءِ، والصَّوَابُ أنَّ الاعْتِكَافَ لا يُشْتَرَطُ له الصَّومُ؛ لأنَّ النَّبيَّ ? اعْتَكَفَ في شَوَّال، ويَجوزُ في المَسجِدِ الذي تُقَامُ فيه الجَمَاعَةُ دُونَ الجُمعَة، ويَخرُجُ لِصَلاةِ الجُمُعَةِ ولا يَبطُلُ اعْتِكَافُه بذلك، وإنْ كَانَ الأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ اعْتِكَافُه في المَسجِدِ الجَامِع (3) .
( ( (
__________
(1) شرح ابن الملقن على العمدة (5/440).
(2) انظر: المغني (3/70).
(3) انظر: الفتوى رقم (6718) من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.(1/4)
49- الدعاءُ ليلةَ القدر
عَنْ عَائشةَ رَضيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: قُلتُ: «يا رَسولَ الله، أَرأَيتَ إنْ عَلِمْتُ أيَّ ليلَةٍ ليلَةَ القدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: قولي: اللَّهُمَّ إنَّك عَفُوٌّ كَريمٌ تُحبُّ العَفوَ فَاعْفُ عنِّي» رَوَاهُ التِرمِذيُّ وقَالَ: هَذا حَديثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ (1) .
وفي لَفْظٍ لابنِ مَاجَه: عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا أَنَّها قَالَتْ : «يا رَسُولَ الله، أَرأيتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيلَةَ القَدْرِ ما أَدْعُو؟ قَالَ: تقولين: اللَّهُمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ كَريمٌ تُحبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي».
الفوائد والأحكام:
الأول: فَضيلَةُ لَيْلَةِ القَدْرِ، وحِرصُ أُمِّ المُؤمِنينَ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا على تَحرِّيها وقِيامِهَا والدُّعاءِ فِيهَا.
الثاني: حِرْصُ الصَّحابَةِ رَضيَ الله عَنْهُمْ على السُّؤالِ عمَّا يَنفَعُهُم.
الثالث: فَضيلَةُ الدُّعَاءِ لَيْلَةَ القَدْرِ، وأَنَّهُ حَريٌّ بالإجَابَةِ.
الرابع: اسْتِحبَابُ الدُّعَاءِ بِجَوَامِعِ الكَلِم، وعَدَمُ تَكَلُّفِ الأَدعِيةِ التي فِيهَا سَجْعٌ أَوْ لا يُفهَمُ مَعْنَاهَا.
الخامس: أنَّ هَذا الدُّعَاءَ الَّذي أَرْشَدَ إليه النَّبيُّ ? مِن أَجْمَعِ الدُّعَاءِ وأَنْفعِه، وأنَّهُ جَامعٌ لخَيرَيْ الدُّنيَا والآخِرَةِ؛ ذَلِكَ أنَّ الله تَعَالى إذا عَفَا عَنِ العِبادِ في الدُّنيا رَفَعَ عَنهُمُ العُقُوباتِ، وتَابَعَ عَلَيهمُ النِّعَمَ، وإذا عَفَا عَنهُم في الآخِرةِ سَلَّمَهُم مِنَ النَّارِ، وأَدْخَلَهُم الجَنَّة.
السادس: فيه إثبَاتُ صِفَةِ المَحبَّةِ لله تَعَالى على وَجْهٍ يليقُ بِجَلالِهِ وعَظَمَتِهِ، وأَنَّهُ سُبْحَانَهُ يُحبُّ العَفْوَ.
__________
(1) رواه الترمذي (3513) وابن ماجه (3850) والنسائي في الكبرى (10708) وأحمد (6/171) وصححه الحاكم وقَالَ: على شرط الشيخين (1/712).(1/1)
السابع: فَضِيلَةُ العَفْو عَنِ النَّاسِ؛ لأنَّ الله تَعَالى يُحِبُّ العَفْوَ، والعَافِينَ عَنِ النَّاسِ.
الثامن: نُصْحُ النَّبيِّ ? لأُمَّتهِ وتَعلِيمُهُ إِيَّاهُم ما يَنفَعُهُم.
( ( ((1/2)
50- زيارةُ المعتكف
عَنْ صَفِيةَ بنتِ حُيَّيٍّ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ الله ? مُعتَكِفاً فَأَتَيتُهُ أَزُورُه ليلاً فَحَدَّثْتُهُ ثم قُمْتُ فانْقَلَبتُ فَقَامَ مَعي لِيَقْلِبَنِي، وَكَانَ مَسْكَنُهَا في دَارِ أُسَامَةَ ابنِ زَيدٍ فَمَرَّ رَجُلانِ منَ الأَنصَار، فلَمَّا رَأَيَا النَّبيَّ ? أَسرَعَا، فَقَال النَّبيُّ ?: علَى رِسْلِكُما، إنَّها صَفِيَّةُ بنتُ حُيَّيٍّ فقَالا: سُبحانَ الله يا رَسُولَ الله، قال: إنَّ الشَّيطَانَ يَجرِي من الإنسَانِ مَجرى الدَّمِ، وإنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقذِفَ في قُلُوبِكُمَا سُوءَاً، أو قَالَ: شَيْئاً" وفي رواية: "إِنَّ الشَّيطانَ يَبلُغُ مِنَ الإنسَانِ مَبلَغَ الدَّم" متفق عليه (1) .
وَعَنْ عَلي بنِ الحُسَينِ رَضيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: "كَانَ النَّبيُّ ? في المسْجِدِ، وعِنْدَهُ أَزْواجُهُ، فَرُحْنَ، فَقَالَ لِصَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيٍّ: لا تَعْجَلي حَتى أَنْصَرِفَ مَعَكِ، وَكَانَ بَيتُها في دَارِ أُسَامَةَ، فَخَرَجَ النَّبيُّ ? مَعَهَا، فَلَقِيَهُ رَجُلانِ مِنَ الأَنْصَار، فَنَظَرا إِلى النَّبيِّ ? ثُم أَجَازَا، وقَالَ لهُما النَّبيُّ ?: تَعَالَيا، إِنها صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ، قَالا: سُبْحَانَ الله يا رَسُولَ الله، قَالَ: إِنَّ الشَّيطانَ يَجري مِنَ الإِنْسَانِ مَجرَى الدَّمِ، وإِني خَشِيتُ أَنْ يُلْقِيَ في أَنْفُسِكُمَا شَيْئاً" رواه الشيخان (2) .
__________
(1) رواه البخاري (3107) ومسلم (2175) والرواية الثانية للبخاري (2934) ومسلم (2175).
(2) رواه البخاري (2038) ومسلم (2175) وهو من حديث علي عن صفية رضي الله عنها كما في الروايات الأخرى، وهذه الرواية للبخاري.(1/1)
الفوائد والأحكام (1) :
الأول: رحْمَةُ النَّبيِّ ? بِأُمَّتِهِ، ومُراعَاتُهُ لِمصَالِحِهِم، وتَوْجيهُهُم إِلى ما فيهِ صِيانَةُ قُلُوبِهِم وجَوَارِحِهِم؛ إذ خَافَ عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أَنْ يُلْقِيَ الشَّيطَانُ في قَلْبِي هَذَينِ الرَّجُلينِ سُوءَ الظَّنِّ بالنَّبيِّ ?، وسُوءُ الظَّنِّ بالأَنْبِياءِ كُفْرٌ (2) . قَالَ الشَّافِعِي رَحِمَهُ الله تَعَالَى: "إِنَّما قَالَ لَهما ذَلِكَ لأَنَّهُ خَافَ عَلَيهِما مِنَ الكُفْرِ إِنْ ظَنَّا بِهِ التُّهْمَةَ فَبَادَرَ إِلى إِعْلامِهِما نَصِيحَةً لَهما قَبْلَ أَنْ يَقْذِفَ الشَّيْطَانُ في نُفُوسِهِما شَيْئاً يَهْلَكَانِ بِه" (3) .
الثاني: جَوازُ زِيَارَةِ المُعتَكِفِ، وأَنَّ لِلْمَرأَةِ أن تَزُورَ زَوجَها في المَسجِدِ وتُحادِثَه في لَيلٍ أو نَهَارٍ، ولا يَضُرُّ ذلك اعْتِكافَه؛ لكنَّ الإِكثَارَ مِنْ ذلك سَببٌ للانْشِغَالِ عَنْ العِبَادَة، وقَدْ يُفْضِي إلى ما يَنْقُضُ الاعتكَافَ مِنَ الوُقُوعِ على زَوْجَتِهِ.
__________
(1) انظر: شرح النووي على مسلم (14/56) وشرح ابن بطال (4/172-175) وشرح ابن الملقن على العمدة (5/452-456) وفتح الباري لابن حجر (4/280) وعمدة القاري (11/152) وعون المعبود (7/103) والشرح الممتع (6/530).
(2) شرح النووي على مسلم (14/56).
(3) فتح الباري لابن حجر (4/280).(1/2)
الثالث: أَنَّهُ يَنبَغِي للمُسلِم التَّحَرُّزُ من مَوَاطِن التُّهَمِ، ومَوَاضعِ الرِّيَبِ، وإِذا خَشِيَ سُوءَ الظَّنِ وضَّحَ للنَّاس ما يَرفَعُ ذلك، وَخَاصَّةً مَنْ يُقْتَدى بهم مِنَ العُلَماءِ والصُلَحَاءِ، فَلا يَجوزُ لهم أَنْ يَفْعَلُوا فِعْلاً يُوجِبُ ظَنَّ السُّوءِ بهم، وإِنْ كَانَ لهم فيهِ مَخْلَصٌ؛ لأَن ذَلكَ سَبَبٌ إِلى إِبطَالِ الانْتِفَاعِ بِعِلْمِهِم، ومِنْ ذَلِك: بَيانُ الحَاكِمِ وَجْهَ الحُكْمِ لِلمَحْكُومِ عَلَيْهِ إِذا خَفِيَ عَليهِ الحُكْم؛ لِنَفْي التُّهْمَةِ بالنِّسْبةِ لِلجَورِ في الحُكْم.
الرابع: وُجُوبُ الحَذَرِ مِنَ الشَّيطَانِ ومَكَائِدِهِ؛ لأَنَّهُ يَجري مِنْ ابنِ آدَمَ مَجرَى الدَّم.
الخامس: جَوازُ التَّسْبِيحِ تَعظِيماً للشَّيءِ وتَعَجُّبَاً منه، وفي ذِكرِحادِثَةِ الإِفكِ في القُرآنِ الكَرِيم { y7sY"ysِ6ك™ هَذَا ي`"tG÷kو5 عَظِيمٌ } [النور: 16].
السادس: جَوَازُ اشْتِغَالِ المُعتَكِفِ بالأُمُورِ المُباحَةِ مِنْ تَشْييعِ زَائِرِهِ، والقِيامِ مَعَهُ، والحدِيثِ مَعَ غَيرِهِ، لكن لا يُكثِر مِنْ ذَلك.
السابع: يجُوزُ لِلمُعْتَكفِ التَّدْرِيسُ وحُضُورُ الدُّرُوسِ العِلمِيَّةِ، وكِتابَةُ أُمُورِ الدِّين، لَكِن لا يُكثِر مِنْ ذَلك؛ لأَن المَقصِدَ مِنَ الاعْتِكَافِ التَّفَرُّغُ لِلعِبَادَاتِ المَحْضَة.
الثامن: أَنَّه يَجوزُ لِلمُعتَكِفِ شِرَاءُ ما لابُدَّ لَهُ منه أَثنَاء اعْتِكَافِهِ كالطَّعَامِ ونحوِهِ.
التاسع: إبَاحَةُ خُلوَةِ المُعتَكِفِ بِزَوجَتِهِ مع حَذَرِهِ من مُبَاشَرَتِها.
العاشر: جَوَازُ خُرُوجِ المرأةِ لَيلاً إذا أَمِنَت على نَفسِها.(1/3)
الحادي عشر: جَوَازُ التَّسلِيمِ على رَجُلٍ مَعَه امْرَأَتُهُ؛ لأنَّه جَاءَ في بَعضِ رِواياتِ الحَدِيثِ أنَّهُما سَلَّمَا على النَّبيِّ ? (1) وَلَم يُنْكِرْ ذَلِك عَلَيْهِما.
الثاني عشر: جَوَازُ خِطَابِ الرِجَالِ الأَجَانِبِ إِذا كَانَ مَعَ المخَاطِبِ زَوْجَتُهُ أَو إِحْدَى مَحارِمِهِ خُصُوصاً إِذا دَعَتْ إِلى المُخَاطِبِ حَاجَةٌ مِنْ بَيانِ حُكْمٍ أَو دَفْعِ شَرٍّ ونَحْوِهِما، وَأَنَّ ذَلكَ لا يكونُ نَقْصاً لِلْمُروءَة.
الثالث عشر: كَما أَنهُ يَجوزُ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَدْرَأَ عَنْ نَفْسِهِ سُوءَ الظَّنِّ به بالقَولِ والبَيانِ كَما فَعَلَ النَّبيُّ ? فإِنهُ يَجوزُ لَه أَنْ يَدْرَأَ عَنْ نَفْسِهِ بالفِعْلِ ممنْ يُريدُ أَذَاه، وَلَيْسَ المعْتَكِفُ أَكْثَرَ مِنَ المصَلي، وقَدْ أُبيحَ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَدْرَأَ عَنْ نَفْسِهِ في صَلاتِهِ مَن يَمُرُّ بينَ يَدَيْه، فَكذَلكَ المعْتَكفُ له أَنْ يُدَافِعَ عَنْ نَفْسِهِ ممنْ يُريدُ الاعْتِداءَ عَلَيهِ باليَد، ولا يَنْتَقِضُ اعْتِكَافُه بِذَلك.
الرابع عشر: الأَمْرُ بِالتَؤُدَةِ وَتَرْكِ العَجَلَةِ في الأمُوُرِ إِذا لم تَدْعُ إِليهِ الضَرُورَة، وذَلكَ لِقَوْلِهِ عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ "على رِسْلِكُما".
__________
(1) كما في رواية البخاري (1930) وابن ماجه (1779).(1/4)
الخامس عشر: عَدْلُ النَّبيِّ ? بينَ زَوْجَاتِه؛ إِذ إِنَّ أَزْوَاجَهُ رِضْوَانُ الله عَلَيْهِنَّ زُرْنَهُ في مُعْتكَفِهِ، فَلَما أَرَدْنَ الانْصِرَافَ قَالَ لِصَفِيةِ: لا تَعْجَلي، والَّذي يَظْهَرُ أَنَّ اخْتِصَاصَ صَفِيَّةَ بِالبَقَاءِ لِكَوْنها تَأَخَّرَتْ في المجِيءِ عَنِ الأُخْرَيات، فَأَمَرَهَا بالتَأَخُّرِ في الانْصِرَاف؛ لِيَحْصُلَ لها التَّسَاوي في مُدَّةِ جُلوسِهِنَّ مَعهُ، أَو أَنَّ بُيوتَ رِفْقَتِهَا كَانَتْ أَقْرَبَ مِنْ مَنْزِلها فَخَشِيَ النَّبيُّ ? عَلَيهَا، وهَكذَا يَنْبَغي لِلمُسْلِمِ العَدْلُ بَينَ الزَّوْجَاتِ، والحِرْصُ عَلَيْهِن.
ُ ُ ُ(1/5)
51- التماسُ ليلةِ القَدْرِ في سبعٍ وعشرين
عَنْ زِرِّ بنِ حُبَيْشٍ رَحِمَه اللُه تَعَالى قَالَ: «سَأَلْتُ أُبيَّ بنَ كَعْبٍ - رضي الله عنه - فَقُلْتُ: إِنَّ أَخَاكَ ابْنَ مَسْعُودٍ يقولُ: مَنْ يَقُم الحَوْلَ يُصِبْ لَيْلَةَ القَدْرِ، فقالَ: رَحِمَهُ الله أَرَادَ أَنْ لا يَتَّكِلَ النَّاسُ، أَمَا إِنَّهُ قَدْ عَلِمَ أَنَّها في رَمَضَانَ وأَنها في العَشْرِ الأَوَاخِرِ، وأَنها لَيْلَةُ سَبْعٍ وعِشْرينَ، ثُم حَلَفَ لا يَسْتَثْنِي أنَها لَيْلَةُ سَبْعٍ وعِشْرينَ، فقلتُ: بِأَيِّ شَيءٍ تَقُولُ ذَلكَ يَا أَبَا المنْذِرِ، قَالَ: بالعَلامَةِ أو بالآيَةِ الَّتي أَخْبَرنَا رَسُولُ الله ? أَنَّها تَطْلُعُ يَوْمَئذٍ لا شُعَاعَ لها» رواه مسلم (1) .
وفي رِوايةٍ لأَحمد: «أَنَّ الشَّمْسَ تَطْلُعُ غَدَاةَ إِذْ كَأَنَّها طَسْتٌ لَيْسَ لَها شُعَاعٌ» (2) .
وفي رِوايةٍ لِلترمذيِّ قَالَ أُبَيٌّ - رضي الله عنه - : «والله لَقَدْ عَلِمَ ابنُ مَسْعُودٍ أَنَّها في رَمَضَان، وأَنَّها لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرينَ، ولَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُخبِرَكُمْ فَتَتَكِلُوا» (3) .
وعَنْ مُعَاويَةَ - رضي الله عنه - عَن النَّبِيِّ ? قَالْ: «لَيْلَةُ القَدْرِ لَيْلَةُ سَبْعٍ وعِشْرينَ» رواه أبو داود (4) .
__________
(1) رواه مسلم (762) وأبو داود (1378) والترمذي (3351) وأحمد (5/130).
(2) هذه الرواية لأحمد (5/130) وصححها ابن حبان (3690).
(3) هذه الرواية للترمذي وقال: حسن صحيح (793).
(4) رواه أبوداود (1386) وصححه ابن حبان (3680) والألباني في صحيح أبي داود.(1/1)
وعَنْ عَبْدِالله بنِ عَبّاسٍ رَضيَ الله عَنْهُما أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبيَّ ? فَقَالَ: «يا نَبيَّ الله، إِنّي شَيْخٌ كَبيرٌ عَلِيلٌ يَشُقُّ عَلَيَّ القِيَامُ، فَأْمُرْني بِلَيْلَةٍ لَعَلَّ الله يُوَفِّقُني فيهَا لَيْلَةَ القَدْر، قالَ: عَلَيْكَ بالسَّابِعَةِ» رواه أحمد (1) .
الفوائد والأحكام:
الأول: حِرْصُ السَّلَفِ رَحِمَهُمُ الله تَعَالَى عَلى الخَيْرِ، ومَعْرِفَةِ المَواسِمِ الفَاضِلَةَ مِنْ أَجْلِ الاجْتِهَادِ فيها بالعِبَادَةِ.
الثاني: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْعَالِم إِخْفَاءُ بَعْضِ مَا يَعْلَمُ إِذَا رَأَى المَصْلَحَةَ في ذَلِكَ؛ كخَشْيَتِهِ على النَّاسِ الاتِّكَالَ والتَّقْصيرَ في العَمَلِ الصَّالِح.
الثالث: جَوَازُ حَلِفِ الإنْسَانِ عَلى ما يَتَيَقَّنهُ أَوْ يَغْلُبُ على ظَنِّهِ.
الرابع: أَنَّ مِنْ عَلامَاتِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ شُرُوقُ الشَّمْسِ صَبِيحَتَها بَيْضَاءَ لا شُعَاعَ لَها.
الخامس: أَنَّهُ يَنْبَغِي للْمُسْلِمِ أَنْ يُفَرِّغَ نَفْسَهُ للمَواسِمِ الفَاضِلَةِ، كَعَشْر رَمَضَانَ طَلَباً لِلَيْلَةِ الْقَدْر؛ كَيْ يَحُوزَ خَيْراً كَثِيراً بِعَمَلٍ قَلِيلٍ.
السادس: الصَّحِيحُ مِنْ أَقْوَالِ المُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مُتَنَقِّلَةٌ، وأَنَّ أَرْجَاهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وعِشْرينَ كَما أَقْسَمَ على ذَلِكَ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ - رضي الله عنه - .
__________
(1) رواه أحمد (1/240) والبيهقي (4/312) والطبراني في الكبير (11/311) رقم (11836)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (3/176): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وصححه الشيخ أحمد شاكر (2149).(1/2)
السابع: أَنَّ إِخْبَارَ النَّبيِّ ? لِذَلكَ الشَّيْخِ الْكَبيرِ العَليلِ بأَنَّها في سَبْعٍ وعِشْرينَ لا يُعَارِضُ الأَحَاديثَ الأُخْرى الَّتي جَاءَ فِيهَا أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ في غَيْرِهَا؛ إِذْ إِخْبَارُ النَّبيِّ ? عَنْ تِلْكَ الَّليْلَةِ كَانَ في تِلْكَ السَّنَةِ الَّتي سَأَلَهُ السَّائِلُ عَنْهَا؛ وذَلكَ جَمْعاً بَينَ النُّصُوصِ المخْتَلفَةِ في ذَلك.(1/3)
52- للصومِ بابٌ في الجنة
...
عَنْ سِهْلِ بنِ سَعْدٍ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبيِّ ? قَالَ: «في الجنَّةِ ثَمَانِيَةُ أبْوَابٍ فيهَا بَابٌ يُسَمَّى الرَّيَّانُ لا يَدْخُلُهُ إِلاّ الصَّائِمُونَ» رَوَاهُ الشَّيخَان (1) .
وفي لَفْظٍ لِلْبُخَاريّ: «إِنَّ في الجَنَّةِ بَاباً يُقَالُ لهُ الرَّيَّانُ يَدخُلُ منهُ الصَّائِمونَ يَوْمَ القِيامَةِ لا يَدخُلُ منْهُ أحَدٌ غَيرُهُمْ، يقَالُ: أَيْنَ الصَّائِمونَ؟ فَيَقُومُونَ، لا يَدخُلُ منْهُ أَحَدٌ غَيرُهُم، فَإِذا دَخَلُوا أُغْلِقَ فَلَم يَدخُلْ مِنْهُ أَحَدٌ» (2) .
وفي لَفْظٍ للتِّرمِذِيّ: «إِنَّ في الجنَّةِ لبَاباً يُدعَى الرَّيَّانُ، يُدعَى لهُ الصَّائِمُونَ، فَمَنْ كَانَ مِنَ الصَّائِمِينَ دَخَلَهُ، وَمَنْ دَخَلَهُ لم يَظْمَأْ أَبَداً» (3) .
وعَنْ أبي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله ? قَالَ: «مَنْ أَنفَقَ زَوجَينِ في سَبيلِ الله نُودِيَ مِنْ أبْوابِ الجَنَّةِ: يا عَبدَالله: هَذَا خَيْرٌ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاةِ، ومَنْ كَانَ منْ أهْلِ الجِهادِ دُعِيَ من بَابِ الجِهادِ، ومَنْ كَانَ مِنْ أهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ من بَابِ الرَّيَّانِ، ومَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ من بَابِ الصَّدَقَةِ، فقَالَ أَبو بَكْر - رضي الله عنه - : بِأَبي وأُمِّي يا رَسُولَ الله، مَا عَلى مَن دُعِيَ من تلكَ الأَبوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ من تِلكَ الأَبوَابِ كلِّها؟ قَالَ: نَعَم، وأَرجُو أن تَكُونَ مِنهُم» رواه الشيخان (4) .
__________
(1) رواه البخاري (3084) ومسلم (1155) والترمذي (765) والنسائي (4/168) وابن ماجه (1640) وأحمد (5/335).
(2) هذه الرواية للبخاري (1797).
(3) هذه الرواية للترمذي (765) وقال: حسن صحيح غريب.
(4) رواه البخاري (1798) ومسلم (1027).(1/1)
وفي لَفظٍ لَهُما: «دُعَاه خَزَنَةُ الجَنَّةِ، كُلُّ خَزَنَةِ بَابٍ أَيْ: فُلْ، هَلُمَّ» (1) .
وفي لَفظٍ للإِمامِ أَحْمدَ: «لِكلِّ أَهْلِ عَمَلٍ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ يُدْعَونَ بذَلكَ العَمَل، ولأَهْلِ الصَّيامِ بَابٌ يُدْعَوْنَ مِنهُ، يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّان، فقَالَ أَبو بَكر: يا رَسُولَ الله، هَلْ أَحَدٌ يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الأَبْوابِ كُلِّها؟ قَالَ: نَعَم، وأَرجُو أنْ تَكُونَ مِنهُم يا أَبا بَكْر» (2) .
وأَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - حِينَ سَأَلَ النَّبيَّ ? يَقصِدُ بذَلكَ أنَّ مَنْ دُعِيَ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ مِنْ أَبوَابِ الجَنَّةِ فَإِنَّ ذَلكَ يَكفِيهِ، وليسَ مُحْتَاجَاً إلى أنْ يُدْعَى منْ كُلِّ الأَبْوابِ، إذْ يَحصُلُ مقْصُودُهُ بِدُخُولِ الجَنَّةِ، ومعْ ذَلكَ فهَلْ يُدعَى أَحَدٌ من كلِّ الأَبوَاب؟ فَأَجَابَهُ النَّبيُّ ? بِنَعَم.
الفوائد والأحكام:
الأول: فَضيلَةُ الصِّيامِ حَيْثُ اُخْتُصَّ بِبَابٍ مِنْ أَبْوابِ الجَنَّةِ الثَّمانِيةِ.
الثاني: بَابُ الرَّيَّانِ عَلَمٌ عَلى بَابٍ في الجَنَّةِ، وهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الرِّيِّ وهُوَ ضِدُّ العَطَشِ، ولما كَانَ الصَّائِمُ حَابِسَاً نَفسَهُ عَنْ المَاءِ وهُوَ أشَدُّ ما يَحتاجُ إليهِ الإِنسَانُ نَاسَبَ أَنْ يَكُونَ جَزَاؤُهُ أَنْ يَروَى في الآخِرَةِ ولا يَظمَأُ أَبَدَاً.
الثالث: أنَّ للطَّاعَاتِ المذكُوُرَةِ في الحَديثِ وَهِيَ: الصَّلاةُ والجِهادُ والصِّيامُ والصَّدَقَةُ أَبوَاباً في الجَنَّةِ، كُلُّ بَابٍ يَختَصُّ بأَهْلِ هَذِهِ الطَّاعَةِ، والمَقصُودُ مَنْ كَانَ الغَالِبُ عَلَيهِ في عَمَلِهِ وطَاعَتِهِ ذَلكَ.
__________
(1) هذه الرواية للبخاري (2686) ومسلم (1027).
(2) هذه الرواية لأحمد في المسند (2/449).(1/2)
الرابع: أنَّ لأَبْوَابِ الجَنَّةِ خَزَنَةً مِنَ المَلائِكَةِ يَدْعُونَ كُلَّ صَاحِبِ عَمَلٍ مِنْ بَابِهِ المُختَصِّ بهِ حَسَبَ عَمَلِهِ، وهَذا دَلِيلٌ عَلى أَنَّ المَلائِكَةَ يُحِبُّونَ صَالِحِي بَنِي آدَم ويَفرَحُونَ بهم (1) .
الخامس: فَضلُ أبي بَكر - رضي الله عنه - ، وأَنَّهُ يُدعَى منْ كُلِّ الأَبْوابِ؛ لأَنَّهُ يَعمَلُ بِأَعْمَالِها، والرَّجَاءُ مِنَ النَّبيِّ ? في قَولِهِ لأبي بَكر «وَأَرجُو أنْ تَكُونَ مِنهُم» وَاقِعٌ لا مَحَالةَ، وجَاءَ في حَديثِ ابنِ عبَّاسِ رَضيَ الله عَنْهُما مَا يُفِيدُ أَنَّ أَبا بَكرٍ يُدْعَى مِنْ كُلِّهَا، بَلْ وَمِنْ كُلِّ دُورِ الجنَّةِ وَغُرَفِهَا (2) .
السادس: في الحَدِيثِ إِشعَارٌ بِقِلَّةِ من يُدْعَى من تِلكَ الأَبْوَابِ كُلِّها (3) .
السابع: في الحدِيثِ إِشارَةٌ إِلى أَنَّ المُرادَ ما يُتَطَوَّعُ به مِنَ الأَعْمَالِ المذْكُورَةِ لا وَاجِبَاتِهَا؛ لِكَثْرَةِ من يَجتَمِعُ له العَمَلُ بالوَاجِبَاتِ كلِّها، بِخِلافِ التَّطَوُّعاتِ فَقَلَّ مَنْ يَجتَمِعُ له العَمَلُ بجَميعِ أَنوَاعِ التَّطَوُّعاتِ فَيُنَادَى من كلِّ الأَبوَاب (4) .
الثامن: جَوازُ الثَّناءِ على الإنْسَانِ في وَجهِهِ إذا لَم يُخفْ عَليهِ فِتنَةٌ بإعجَابٍ وغَيْرِه (5) .
التاسع: أَنَّ دُعَاءَ مَنْ أَتَى بهذِهِ الأَعمَالِ الصَّالِحَة كُلِّها، ودَاوَمَ عَليهَا مِنْ كُلِّ أبوَابِ الجَنَّة تكْرِيمٌ له وتَشرِيف، ولكِنَّه يَدْخُل من بَابٍ واحِدٍ منها.
__________
(1) فتح الباري (7/29).
(2) انظر: صحيح ابن حبان (6867) وحديث ابن عباس فيه ضعف وقواه الهيثمي في مجمع الزوائد (9/46).
(3) انظر: فتح الباري (7/28).
(4) انظر: المصدر السابق (7/28-29).
(5) شرح النووي على مسلم (7/117).(1/3)
العاشر: أَنَّ أعمَالَ البِرِّ لا يُفتَحُ في الأغْلَبِ للإِنسانِ الوَاحِدِ في جَمِيعِها، وأَنَّ مَنْ فُتِحَ له في شَيءٍ منها حُرِم غَيرَها في الأَغلَب، وأَنَّهُ قدْ يُفْتَحُ في جَمِيعِهَا للقَلِيلِ مِنَ النَّاسِ، وأَنَّ أَبا بَكرٍ - رضي الله عنه - مِنْ ذَلكَ القَليل (1) .
الحادي عشر: أَنَّ مَنْ أَكثَرَ مِنْ شَيءٍ عُرِفَ به، ونُسِبَ إليْه، أَلا تَرى إلى قَولهِ ?: «فَمَن كَانَ مِنْ أَهلِ الصَّلاةِ» يُريدُ مَنْ أَكثَرَ منهَا فَنُسِبَ إِليها، وإلا فَجَميعُ المُسلِمينَ مِنْ أَهلِ الصَّلاة (2) .
( ( (
__________
(1) التمهيد (7/184-185).
(2) التمهيد (7/185).(1/4)
53- مَنْ نَذَرَ أنْ يَعتَكف
عَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ - رضي الله عنه - قَالَ: »يا رسُولُ الله، إنِّي نَذَرتُ في الجَاهِلِيةِ أَنْ أَعتَكِفَ لَيلَةً في المَسجِدِ الحَرَام، فقال له النَّبيُّ ?: أَوْفِ نَذِرَكَ، فَاعْتَكَفَ لَيلَةً» متفق عليه.
وفي رِوايةٍ لمسلمٍ أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ - رضي الله عنه - سَأَلَ رَسُولَ الله ? وَهُوَ بِالجِعِّرَانَةِ بَعدَ أَنْ رَجَعَ مِنَ الطَّائفِ فَقَالَ: »يا رَسُولَ الله، إِني نَذَرتُ في الجَاهِلِيَّةِ أن أَعْتَكِفَ يَومَاً في المَسجِدِ الحَرامِ، فَكيفَ تَرى؟ قَالَ: اذْهَبْ فَاعْتَكِف يَوماً» (1) .
وفي رواية: »فلمَّا أَسْلَمتُ سَأَلْتُ النَّبيَّ ? عَن ذلكَ، فقال: أَوفِ بِنَذْرِكَ» (2) .
الفوائد والأحكام:
الأول: أَنَّ النَّذَرَ كَانَ مَعرُوفاً عِندَ أَهلِ الجَاهِلِيةِ، وكذا الاعْتِكَاف.
الثاني: مَشرُوعيَّةُ الوَفَاءِ بالنَّذْرِ بَعدَ الإِسْلامِ إِذا نَذَرَه قَبْلَ أَنْ يُسْلِم، وقَالَ بَعضُ العُلمَاء بِوُجُوبِ الوَفَاء.
الثالث: حِرصُ عُمَرَ - رضي الله عنه - على إِبرَاءِ ذِمَّتِهِ من نِذرٍ نَذَرَهُ في الجَاهِليَة، وهَذا يَدُلُّ على وَرَعِهِ وتَقوَاه - رضي الله عنه - وأَرضَاه.
الرابع: تَأْكِيدُ الوَفَاءِ بِالوَعْدِ، وعَدَمُ إِخْلافِه، فَقَدْ أَمَرَ عَليهِ الصَلاةُ والسَّلامُ عُمَرَ بِالوَفاءِ رَغْمَ أَنهُ وَعَدٌ كَانَ في الجَاهِليَة (3) .
الخامس: أنَّه يَصِحُّ أَنْ يَعتَكِفَ يَوماً وَاحِداً، أو لَيلَةً وَاحِدةً؛ لِظَاهِرِ الحَدِيث.
__________
(1) رواه البخاري (1937) ومسلم (1656).
(2) هذه الرواية للبزار (140) والبيهقي (10/76).
(3) انظر: شرح ابن بطال (4/168).(1/1)
السادس: استَدَلَّ بهذا الحَدِيثِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الاعْتِكَافَ يَصِحُّ بلا صَومٍ؛ لأَنَّ اللَّيلَ لَيسَ مَحلَّاً للصَّوم (1) .
السابع: مَنْ قَالَ: إِنَّه يَصِحُّ الاعْتِكَافُ بلا صَومٍ وهو الصَّحيحُ مِنْ قَولَي العُلمَاءِ، فإنَّ الاعْتِكَافَ حِيَنئذٍ يُشرَعُ للمَريضِ الَّذِي أفَطَرَ بِسَبَبِ مَرَضِهِ (2) .
الثامن: سُؤَالُ العُلَماءِ عَما يُجْهَلُ مِنَ العِلْمِ؛ لأَنَّ عُمَرَ - رضي الله عنه - سَأَلَ النَّبيَّ ? عَنْ نِذْرِهِ هَذا، ووجُوبُ البَيانِ عَلى مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ، وَعَدَمِ كِتْمانِه (3) .
التاسع: إِذَا نَذَرَ الاعْتِكَافَ في مَسْجِدٍ مُعَينٍ – غَيَرَ المسَاجِدِ الثَلاثَةِ - فَإِنْ كَانَ يَحتَاجُ إِلى شَدِّ رَحْلٍ فَلا يَجوزُ لِقَوْلِ النَّبيِّ ?: «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلى ثَلاثِ مَسَاجِد» وإِنْ كَانَ لا يَحتَاجُ إِلى شَدِّ رَحْلٍ جَاز (4) .
__________
(1) قال باشتراط الصيام في الاعتكاف: ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما ومالك والشعبي والأوزاعي والثوري والحنفية وهو رواية عن أحمد ونصره القرطبي وابن القيم رحمهم الله تعالى؛ وقال بعدم اشتراطه إلا أن يجعله على نفسه: علي و ابن مسعود رضي الله عنهما والحسن البصري وعطاء ابن أبي رباح وعمر بن عبدالعزيز والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهوية والظاهرية وهو اختيار الشيخين ابن باز وابن عثيمين رحمهم الله تعالى، وأفتت به اللجنة الدائمة، انظر: الاستذكار (10/291-293) وتهذيب السنن (7/105-109) وشرح النووي (11/124-126) والمفهم (4/241) وشرح ابن الملقن على العمدة (5/446) وتحفة الأحوذي (15/119) والإفهام في شرح بلوغ المرام (1/372) والشرح الممتع (6/506-507) وفتاوى اللجنة الدائمة (6718).
(2) انظر: الشرح الممتع (6/507).
(3) شرح ابن الملقن على العمدة (5/446).
(4) الفتاوى السعدية (231-232).(1/2)
54- الصَّومُ عَن الميِّت
عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ اللهُ عَنْها أنَّ رَسُولَ الله ? قَالَ: "مَنْ مَاتَ وعَلَيهِ صِيامٌ صَامَ عَنْهُ وليُّهُ" متفق عليه (1) .
وعَن ابنِ عَباسٍ رَضيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ ? فَقالَ: يا رَسولَ الله، إن أُمِّي ماتَتْ وعَليها صَومُ شَهْرٍ، أَفَأَقْضِيهِ عَنْهَا؟ فَقالَ عَليهِ الصَّلاة والسَّلام: لَوْ كانَ على أُمِّكَ دينٌ أَكُنْتَ قَاضِيْهِ عَنها؟ قالَ: نعم، قال: فَدَينُ الله أَحَقُّ أَنْ يُقضَى" رواه الشيخان.
وفي رِوايةٍ لهما: "أنَّ امرأةً جاءَتْ إلى النَّبيِّ ? فَقَالتْ: يا رَسُولَ الله، إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وعَلَيْهَا صَوْمُ نَذْرٍ أَفَأَصُومُ عَنْهَا؟ قالَ: أرَأَيتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمُّكِ دَيْنٌ فَقَضَيتِهِ أَكَانَ يُؤْدِي ذلكَ عنها؟ قالت: نعَم، قالَ: فَصُومِي عَنْ أُمِّكِ" (2) .
__________
(1) رواه البخاري (1851) ومسلم (1147).
(2) رواه البخاري (1852) ومسلم (1148) واللفظ في الروايتين لمسلم، وفي رِوايةٍ لأَحمد: "إنَّ أُمِّي مَاتتْ وعَلَيْها صَومُ شَهرِ رَمَضَانَ فَأقْضِيه عنها؟ قالَ: أَرَأَيتِ لو كَانَ عَلَيهَا دينٌ تَقْضِينَه؟ قَالَت: نَعَم، قَالَ: فَدَيْنُ الله عزَّ وَجَلَّ أحَقُّ أَنْ يُقْضَى". مسند أحمد (1/362) وصححها الشيخ أحمد شاكر (3420) ثم قال: "وهذه الرواية صريحة في أن السؤال كان عن قضاء صوم رمضان، ولم يشر إليها الحافظ في الفتح، والظاهر أن حوادث السؤال تعددت فمرة عن نذر، ومرة عن رمضان، والسائل مرة رجل، ومرة امرأة" أ.هـ.
قلت: لكنَّ محققي المسند بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط يرون خطأ هذه الزيادة (شهر رمضان) مع أنها جاءت في بعض الأصول المخطوطة التي حققوا عليها المسند؛ لعدم موافقة ما في هذه الأصول لما في أطراف المسند، وإتحاف المهرة، وأثبتوا الحديث من دونها (3420) وهذه الزيادة أحال عليها الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى في بعض دروسه، والظاهر أنه يرى ثبوتها، وبكل حال فإن عمومات الأحاديث الأخرى تتناول رمضان، ولا يختص بالنذر على الصحيح، ثم راجعت إتحاف المهرة للحافظ ابن حجر نسخة وزارة الشؤون الإسلامية مع الجامعة الإسلامية بالمدينة، فوجدت الحديث دون هذه الزيادة، وقد خرّجه الحافظ عن ابن خزيمة وأبي عوانة وابن حبان والدارقطني (7/101) رقم (7419) مما يدل على أنها مقحمة في الحديث وليست منه والله أعلم.(1/1)
وعنْ بُرَيدةَ - رضي الله عنه - قالَ: "بينَا أنَا جَالسٌ عندَ رَسولِ الله ? إذ أتَتْهُ امرأةٌ فقالتْ: إنِّي تَصَدَّقْتُ على أمِّي بجَاريةٍ وإنها ماتتْ. قالَ: فقالَ: وجَبَ أَجرُكِ وردَّها عليكِ الميراث، قالتْ: يا رسولَ الله، إنَّه كانَ عليها صومُ شَهرٍ أفَأَصُومُ عنها؟ قال: صُومِي عنهَا، قالتْ: إنَّها لمْ تَحُجَّ قَطُ، أفَأَحُجُّ عنهَا؟ قال: حُجِّي عنها" رواه مسلم (1) .
الفوائد والأحكام:
الأول: الأَصْلُ أَنَّ العِبادَاتِ البَدَنِيةَ المحْضَةَ لا تَدْخلُهَا النيابَةُ، والصِّيامُ مستَثْنى من ذلكَ للحَدِيثِ، كَما اسْتُثْنيَ الحَج. قَالَ الحَافظُ ابنُ عبدالبرِ رَحِمَه اللهُ تَعَالى: "أَما الصَّلاةُ فإِجماعٌ مِنَ العُلماءِ أَنَّه لا يُصَلي أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ فَرْضاً عَلَيهِ مِنَ الصَلاةِ ولا سُنةً ولا تَطَوُعاً، لا عَنْ حَيٍّ ولا عَنْ مَيتٍ، وكَذلكَ الصِيامُ عَن الحيِّ لا يُجزِيءُ صَومُ أَحدٍ في حَياتِهِ عَنْ أَحَدٍ، وهَذا كُلهُ إِجْماعٌ لا خِلافَ فيه، وأَما مَنْ مَاتَ وعَليهِ صِيامٌ فهذا مَوضِعٌ اختَلفَ فيه العُلماءُ قَدِيماً وحَدِيثاً" (2) .
الثاني: إِذا مَاتَ الشَّخْصُ وعَلَيهِ صِيامٌ مِنْ رَمَضَانَ فَلا يَخْلوَ مِنْ حَالَين:
إِحْداهَا: أَنْ يَمُوتَ قَبلَ إِمكانِ الصِّيامِ، إِما لضيقِ الوقتِ، أو لعذرٍ من مرضٍ أو سفرٍ أو عجزٍ عن الصومِ، فهذا لا شيءَ عليه في قولِ أكثَرِ أهلِ العِلْمِ.
الثانيةِ: أن يموتَ بعدَ إمكانِ القضاءِ فالسُّنَّةُ أن يصومَ عنهُ وَليُّهُ.
__________
(1) رواه مسلم (1149) وأبو داود (2877) والترمذي (667) والنسائي في الكبرى (6314) وابن ماجه (2394).
(2) الاستذكار (4/340) ونقل الإجماع على ذلك أيضاً القاضي عياض في إكمال المعلم (4/104) والقرطبي في المفهم (3/208-209).(1/2)
الثالث: مَشروعيةُ إِبْراءِ ذمةِ الميتِ من أقْرِبائِهِ أَو مِنْ غَيْرِهِم، والمقْصُودُ بالوَليِّ في قَوْلِهِ ? "صَامَ عَنْهُ وليُّهُ" الوارثُ، وهَذا في الغالبِ، وإلَّا لو صامَ عنهُ القَريبُ غيرُ الوارِثِ أو البعيدُ جَازَ مثلُ قضاءِ الدَّينِ، قال شيخُ الإسلام ابنُ تَيميةَ رَحمَهُ الله تَعالى: "وشبَّه النَّبيُّ ? ذلكَ بالدَّينِ يكونُ على الميتِ، والدَّينُ يَصِحُ قَضاؤُه من كُلِّ أحَدٍ، فَدلَّ على أنّهُ يجوزُ أن يُفعلَ ذلك من كلِ أحَدٍ، لا يختصُ ذلكَ بالولدِ" (1) .
الرابع: لا يَجبُ قَضَاءُ النذرِ عَن الميتِ، كما لا يَجبُ على أَوْليائِهِ قَضَاءُ دَينهِ ولكنهُ تَبَرعٌ منهم لإبْراءِ ذِمَّتهِ (2) .
الخامس: إذا كانَ عليه صيامُ أيَّامٍ فَصامَ عنهُ بعدَدِها رجالٌ يوماً واحداً صَحَّ ذلكَ، إلا في الصيامِ الذي يُشتَرطُ فيه التَّتابعُ، مثلُ: كفَّارةِ الظِّهارِ والقَتْلِ فَيَصُومُهُ واحدٌ مُتتابعاً. (3)
__________
(1) مجموع الفتاوى (24/311) وانظر: المغني (4/400) وفتح الباري (4/194) والشرح الممتع (6/452).
(6) انظر المغني (4/399-400) والشرح الممتع (6/450) والصارف للأمر عن الوجوب قول الله تعالى: { وَلَا â'ح"s? وَازِرَةٌ وِزْرَ 3"uچ÷zé& } [الأنعام: 164]. ولأن النبي ? شبهه بالدين، ولا يجب على الولي قضاء الدين.
(3) روى البخاري عن الحسن تعليقاً قوله: "إن صام ثلاثون رجلاً يوماً واحداً جاز" (2/690) ووصله الدارقطني فيما ذكره الحافظ في الفتح (4/193) وانظر: الشرح الممتع (6/352-353) وقال به الشيخ عبدالعزيز بن باز لإطلاق الأحاديث في ذلك، وقال في صيام الكفارة عن الميت: "ولا يجوز تقسيمها على جماعة وإنما يصومها شخص واحد متتابعين كما شرع الله ذلك" مجموع فتاوى ابن باز (15/375).(1/3)
السادس: إذا لم يَتَبَرعْ أحدٌ بالصِّيامِ عنه فإنَّ أولياءَهُ يُطْعِمُونَ عنه عَنْ كُلِّ يومٍ مِسكِيناً ولَوْ منْ تَرِكَتِه (1) .
السابع: لو استأجرَ الورثةُ مَنْ يَصومُ عنهُ لمْ يَصِحْ؛ لأنَّ مسائِلَ القُرَبِ لا يَصِحُ الاستِئْجارُ عَليْها (2) .
الثامن: لَوْ نَذَرَ أن يَصُومَ شَهْرَ مُحَرمٍ فَمَاتَ في ذي الحجَّة فَلا يُقْضَى عَنْهُ؛ لأنَّه لم يُدرِكْ زمَنَ الوُجُوبِ، كَمَنُ ماتَ قَبْلَ أن يُدرِكَ رَمَضان (3) .
التاسع: مِنْ وَجَبَ عَلَيهِ صِيامُ أَيامٍ مِنْ رَمَضَانَ، وَأَرَادَ أَنْ يَصُومَ عَنْ قَرِيبٍ لَهُ عَلَيهِ قَضَاءٌ أَوْ كَفَارَةٌ أَوْ نذْرٌ فَإِنهُ يَجِبُ عَلَيهِ أَنْ يَصُومَ عَنْ نَفْسِهِ أَولاً، ثُم يَصُومُ عَنْ قَرِيبِهِ (4) .
العاشر: الصَحِيحُ أَنَّهُ لا يُشْتَرَطُ التَتابُعُ في صِيامِ القَضَاءِ؛ لَكنَّ الأَفْضَلَ أَنْ يَقْضِيَها مُتَوالِيةً؛ لأَنَّ ذَلكَ حِكَايَةُ الأَداء (5) .
الحادي عشر: يَوْمُ العِيدِ لا يَقْطَعُ التَتابُعَ في صِيامِ الشَهْرَينِ المتتَابِعَين (6) .
ُ ُ ُ
__________
(1) الشرح الممتع (6/456) .
(2) الشرح الممتع (6/456) ولا يقاس على ذلك ما يفعله الناس في هذا الزمن من دفع مال لمن يحج عن وليهم؛ لأن المال المدفوع هو قيمة نفقة السفر إلى الحج، وقد يقتصد في النفقة ويوفر منها، ولهذا كره العلماء توكيل من لا يقصد بحجه إلا المال.
(3) الشرح الممتع (6/456) .
(4) فتاوى اللجنة الدائمة (7942) .
(5) فتاوى ابن جبرين (125) .
(6) السابق (102) .(1/4)
55- تمامُ الأجرِ ولو نَقَصَ الشهر
...
عَنْ أَبي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبيِّ ? قَالَ: «شَهْرانِ لا يَنْقُصَانِ: شَهْرا عِيدِ رَمضَانَ وذُو الحِجَّة».
وفي رِوَايَةٍ: «شَهْرا عِيدٍ لا يَنْقُصَانِ: رَمضَانُ وذُو الحِجَّةَ» رواه الشيخان (1) .
قِيلَ في مَعْنَى هَذَا الحَدِيثِ: إِنَّ هَذَينِ الشَّهْرَيْنِ: رَمَضَانَ وذُو الحِجَّةِ لا يَنْقُصَانِ مَعاً في سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِنْ نَقَصَ أَحَدُهُما تَمَّ الآخَرُ، وَهَذا في الغَالِبِ.
وقِيلَ: المعْنَى: لا يَنْقُصُ أَجْرُهُما والثَوَابُ المرَتَّبُ عَلَيْهِما، وإِنْ نَقَصَ عَدَدُهُما، وَهَذَا هُوَ الأَقْرَبُ (2) .
الفوائد والأحكام:
الأول: خَصَّ الشَارِعُ الحَكِيمُ شَهْرَيْ رَمَضَانَ وذُو الحِجَّةِ بِهَذا الحُكْمِ لِتَعَلُّقِهما بالصَّوْمِ والحَجِّ (3) .
الثاني: جَوَازُ نِسْبَةِ عِيدِ الفِطْرِ إِلى رَمَضَانَ مَعَ أَنهُ في أَوَّلِ شَوَالَ، وَقَدْ جَاءَ في رِوَايَةٍ لِلإِمَامِ أَحْمَدَ: «شَهْرَانِ لا يَنْقُصَانِ في كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُما عِيدٌ: رَمَضَانُ وذُو الحِجَّة» (4) .
الثالث: أَنَّ الخَطَأَ في إِثْبَاتِ دُخُولِ الشَّهْرِ وَارِدٌ، وَلكِنَّ الحَرَجَ مَرْفُوعٌ إِذا عَمِلَ النَّاسُ بِالمشْرُوعِ مِنَ الرُّؤْيَةِ أَوْ إِتْمامِ الشَّهْرِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرُّؤْيَةِ.
__________
(1) رواه البخاري (1813) ومسلم (1089).
(2) إكمال المعلم للقاضي عياض (4/24) والمفهم (3/145-146).
(3) الفتح (4/125).
(4) رواه أحمد (5/47) وصحح هذه الرواية العيني في عمدة القاري (10/285).(1/1)
الرابع: أَنَّ كُلَّ مَا رَدَ مِنَ الفَضَائِلِ وَالأَحْكَامِ في شَهْرَيْ رَمَضَانَ وذُو الحِجَّةِ حَاصِلٌ سَواءٌ كَانَ رَمَضَانُ ثَلاثينَ يَوْماً أَوْ كَانَ تِسْعَةً وعِشْرينَ يَوْماً، وَسَواءٌ صَادَفَ الوُقُوفُ بِعَرَفَةَ اليَوْمَ التَّاسِعَ مِنْ ذو الحِجَّةِ أَمْ لا إِذَا اجْتَهَدَ النَّاسُ في تَحَرِّي الهِلال (1) .
الخامس: فَائِدَةُ هَذَا الحَدِيثِ: رَفْعُ مَا يَقَعُ في القُلُوبِ مِنْ شَكٍ أَوْ حَرَجٍ لمن صَامَ تِسْعَةً وَعِشْرينَ يَوْماً أَوْ وَقَفَ في غَيْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ خَطَأً؛ كَما لَو شَهِدَ شَاهدَا زُورٍ عَلى رُؤْيَةِ هِلالِ ذِي الحِجَّةِ فَوَقَفَ النَّاسُ في اليَوْمِ الثَامِنِ؛ فَإِنَّ الحَرَجَ مَرْفُوعٌ في ذَلكَ، والعِبَادَةَ صَحِيحَةٌ، والأَجْرَ ثَابِتٌ إِنْ شَاءَ الله تَعَالى (2) .
السادس: هَذَا الحَدِيثُ يَدُلُّ عَلى أَنَّ ثَوَابَ العِبَادَاتِ لَيْسَ مُرَتَّباً عَلى وُجُودِ المشَقَّةِ دَائِماً، بَلْ إِنَّ اللهَ تَعَالى يَتَفَضَّلُ عَلى عِبَادِهِ بإِلحاقِ الشَّهْرِ النَّاقِصِ بِالتَّامِ في الثَّوَابِ (3) .
السابع: في هَذَا الحَدِيثِ دَليلٌ لمنْ قَالَ: إِنهُ يُكْتَفَى لِرَمَضَانَ بِنِيةٍ وَاحِدَةٍ؛ لأَنَّ الشَّارِعَ الحَكِيمَ جَعَلَ الشَّهْرَ بِجُمْلَتِهِ عِبادَةً وَاحِدَةً.
( ( (
__________
(1) انظر: شرح النووي (7/199) وفتح الباري (4/126) وعمدة القاري (10/285).
(2) الفتح (2/126).
(3) ذكر الحافظ في الفتح (4/126) أن بعض المالكية استدل به على ذلك.
.(1/2)
56- زَكَاةُ الفِطْر
...
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَال: «فَرَضَ رَسُولُ الله ? زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعَاً مِنْ تَمرٍ أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ عَلَى الْعَبْدِ وَالحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المسْلِمِينَ وَأَمَرَ بها أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلى الصَّلاةِ» رَوَاهُ الشَّيْخَان (1) .
وَفي رِوَايَةٍ لِلْبُخَاري قَالَ نَافِعٌ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى: «فَكَانَ ابْنُ عَمَرَ يُعْطِي عَنِ الصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ حَتَى إِنْ كَانَ يُعْطِي عَنْ بَنِيَّ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما يُعْطِيهَا الَّذِينَ يَقْبَلُونَها، وَكَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَين» (2) .
وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قَال: «كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعَاً مِنْ طَعَامٍ أَوْ صَاعَاً مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعَاً مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعَاً مِنْ أَقِطٍ أَوْ صَاعَاً مِنْ زَبِيبٍ» رَوَاهُ الشَّيْخَان (3) .
وَعَنْ ابْنِ عَبَاسٍ رَضِيَ اللُه عَنْهُما قَال: «فَرَضَ رَسُولُ الله ? زَكَاةَ الفِطْرِ طُهْرَةً لِلْصَائِمِ مِنَ الَّلغْوِ والرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِين، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ» رَوَاهُ أَبو دَاوُدَ وابْنُ مَاجَه (4) .
__________
(1) رواه البخاري (1432) ومسلم (984).
(2) هذه الرواية للبخاري (1440).
(3) رواه البخاري (1435) ومسلم (985).
(4) رواه أبو داود (1609) وابن ماجه (1827) وصححه الحاكم وقال: على شرط البخاري (1/568) وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود.(1/1)
وَعَنْ قَيْسِ بنِ سَعْدٍ رَضَيَ اللهُ عَنْهُما قَال: «أَمَرَنَا رَسُولُ الله ? بِصَدَقَةِ الفِطْرِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاة، فَلَما نَزَلَتِ الزَّكَاةُ لَم يَأْمُرْنَا وَلم يَنْهَنَا وَنَحْنُ نَفْعَلُه» رَوَاهُ النَّسَائِي وابْنُ مَاجَه (1) .
الفوائد والأحكام
الأول: أَنَّ زَكَاةَ الفِطْرِ فَرِيضَةٌ عَلى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَأَنَّها فُرِضَتْ قَبْلَ زَكَاةِ الأَمْوَال، وَبَقِيَ فَرْضُهَا بَعْدَ إِيجَابِ زَكَاةِ الأَمْوَالِ عَلى الأَمْرِ الأَولِ بِهَا.
الثاني: أَنَّهُ يَجِبُ عَلى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُخْرِجَهَا عَنْ نَفْسِهِ وَعَمَّنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ كَالزَّوْجَةِ وَالأَوْلادِ.
الثالث: إِذَا كَانَت الزَّوْجَةُ والأَوْلادُ مُكْتَسِبِينَ أَوْ لَدَيْهِمْ مَالٌ فَالأَوْلَى أَنْ يُخْرِجَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنْ نَفْسِهِ؛ لأَنَّهُمْ مُخاطَبُونَ بها، وَيجُوزُ أَنْ يُخْرِجَهَا عَنْهُمْ وَلِيُهُمْ وَلَوْ كَانَ لَهم مَال.
الرابع: لا يُجزِئُ إِخْراجُ قِيمَتِهَا وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ العُلَماءِ؛ وَذَلِكَ لأَنَّ النَّبِيُّ ? لم يَأْمُرْ بِذَلِك، ولم يَفْعَلْهُ ، ولا فَعَلَهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ مَعَ تَكْرَارِ زَكَاةِ الفِطْرِ كُلَّ سَنَةٍ، ولأَنَّ الطَّعَامَ إِذَا دُفِعَ إِلى الفَقِيرِ انْتَفَعَ بِهِ أَهْلُ بَيْتِهِ مَعَهُ بِخِلافِ مَا إِذَا أُعْطِيَ مَالاً فَقَدْ يَتَمَوَنُهُ هُوَ وَيَذَرُ أَهْلَ بَيْتِهِ، ولأَنَّ دَفْعَ القِيمَةِ يُؤَدِي إِلى عَدَمِ إِظْهَارِ هَذِهِ الشَّعِيرَةِ العَظِيمَةِ.
__________
(1) رواه النسائي (5/49) وابن ماجه (1828) وأحمد (6/6) وصححه الحافظ في الفتح (3/267).(1/2)
الخامس: أَوَّلُ وَقْتِ إِخْرَاجِهَا لَيْلَةُ ثَمانٍ وَعِشْرِينَ وَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ يُخْرِجُونَها قَبْلَ العِيدِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، وَآخِرُ وَقْتِ إِخْرَاجِهَا صَلاةُ العِيدِ كَما جَاءَ في الأَحَادِيثِ.
السادس: أَنَّها تُدْفَعُ لمنْ يَسْتِحِقُّهَا مِنَ الفُقَرَاءِ والمسَاكِينِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ? «وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِين» وَمِنَ الخَطَأ دَفْعُهَا لِلْجِيرَانِ أَوْ القَرَابَةِ إِذَا لم يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ لها، كَما يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ عَلى سَبِيلِ التَّبَادُلِ كَتَبَادُلهِمْ الَّلحْمَ في الأَضَاحِي والعَقَائِق، وهَذِهِ تَخْتَلِفُ؛ لأَنَّها زَكَاةٌ يَجِبُ أَنْ تُخْرَجَ لمسْتَحِقِيهَا، بِخِلافِ الأَضَاحِي والعَقَائِقِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِيهَا الإِهْدَاءُ. وَمِنَ الخَطَأ أَيْضَاً أَنَّ المسْلِمَ قَدْ يَعْتَادُ إِخْرَاجَهَا إِلى أُسَرٍ مُعَيَّنَةٍ في كُلِّ سَنَةٍ، كَانَتْ مِنْ قَبْلُ فَقِيرَةً فَأَغْنَاهَا اللُه تَعَالى، وَهُوَ لا يَزَالُ يَدْفَعُ إِلَيْهِمْ صَدَقَةَ الفِطْرِ عَلى العَادَةِ، وَهَذَا لا يَجُوز.
السابع: الأَوْلَى لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُخْرِجَهَا لِفُقَرَاءِ البَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، وَيَجُوزُ نَقْلُهَا إِلى بِلادٍ أُخْرَى ولاسِيَّما إِذَا كَانَتْ حَاجَةُ أَهْلِهَا شَدِيدَةً، وَلا يَعْرِفُ في بَلَدِهِ مَنْ هُوَ مُحتَاجٌ إِلَيْهَا، أَوْ المحْتَاجُونَ فِيه يَجِدُونَ مَنْ يُعْطِيهِمْ إِيَّاهَا.
الثامن: لِزَكَاةِ الفِطْرِ حِكَمٌ كَثِيرَةٌ، وَمَنَافِعُ عَدِيدَةٌ مِنْهَا:
1- إِظْهَارُ شُكْرِ نِعْمَةِ الله تَعَالَى عَلى العَبْدِ في إِكْمالِ الصِّيامِ، والفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالى: [وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] {البقرة:185}.(1/3)
2- أَنَّها زَكَاةٌ لِلْبَدَنِ إِذْ أَبْقَاهُ اللهُ تَعَالى عَاماً كَامِلاً.
3- أَنَّها تُطَهِّرُ صَيَامَ العَبْدِ مما عَلِقَ بِهِ مِنَ الَّلغْوِ والرَّفَثِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَما جَاءَ النَّصُّ في الحَدِيثِ بِأَنَّها طُهْرَةٌ لِلصَّائِمِ مِنَ الَّلغْوِ والرَّفَثِ.
4- أَنَّ فِيهَا مُوَاسَاةً لِلْفُقَرَاءِ والمسَاكِينِ، وَإِغْنَاءً لَهم عَنِ السُّؤَالِ في العِيدِ، لِيَكُونَ حَالُهم في العِيدِ كَحَالِ غَيْرِهِمْ مِنَ المسْلِمِينَ فَرَحَاً وَأَكْلاً وَشِبَعاً.
5- أَنَّ فِيهَا تَعْوِيداً لِلصَّائِمِ عَلى الكَرَمِ والبَذْلِ، وَوِقَايَةً لَهُ مِنَ الشُّحِّ والبُخْل.
التاسع: يَجوزُ أَنْ يُعْطِيَ الجَماعَةُ أَوْ أَهْلُ البَيْتِ زَكَاتَهُمْ لمسْكِينٍ وَاحِدٍ، كَما يَجُوزُ أَنْ تُفَرَّقَ فِطْرَةُ الوَاحِدِ مِنَ النَّاسِ عَلى مَسَاكِينَ عِدَّة.
العاشر: تَجِبُ زَكَاةُ الفِطْرِ بِغُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ، فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الغُرُوبِ لم تَجِبْ فِطْرَتُهُ لأَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ سَبَبِ الوُجُوبِ، وَكَذَا لَو وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ بَعْدَ الغُرُوبِ لَيْلَةَ العِيدِ لم تَلْزَمَهُ الفِطْرَةُ وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ إِخْرَاجُهَا عَنْه.
الحادي عشر: العُمَالُ والخَدَمُ المسْتَأْجَرُونَ لا يَلْزَمُ مَنْ اسْتَأْجَرَهُمْ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ الفِطْرِ عَنْهُم إلا إِذَا كَانَ ذَلكَ مَشْرُوطاً في العَقْدِ، وَيَجُوزُ لمنْ اسْتَأْجَرَهُمْ أَنْ يُخْرِجَهَا عَنْهُمْ مِنْ بَابِ التَّبَرُعِ والإِحْسَانِ إِلَيْهِم.
الثاني عشر: لَوْ نَسِيَ أَنْ يُخْرِجَهَا في وَقْتِهَا، وَلَم يَتَذَكَرْ إِلاَّ بَعْدَ صَلاةِ الْعِيدِ فَإِنَّهُ يُخْرِجُهَا وَلا شَيءَ عَلَيْهِ لأَنَّهُ مَعْذُورٌ بِنِسْيَانِهَا.(1/4)
الثالث عشر: إِذَا وَكَّلَ أَحْداً بِإِيصَالها لِلْمُسْتَحِقِّ فَلابُدَّ أَنْ تَصِلَ لِلْفَقِيرِ قَبْلَ الصَّلاةِ، لَكِنْ لَو وَكَّلَهُ الفَقِيرُ بِأَنَّ يَحفَظَهَا لَهُ حَتَى يَقْدُمَ عَلَيهِ جَازَ أَنْ تَبْقَى عِنْدَ الوَكِيلِ وَلَوْ بَعْدَ صَلاةِ العِيدِ.(1/5)
57- التماسُ لَيلةِ القَدرِ في آخرِ ليلة
عَنْ عُيَيْنَةَ بنِ عَبدِالرَّحمنِ قَالَ: حَدَّثَني أَبي قَالَ: «ذُكِرَتْ لَيْلَةُ القَدْرِ عِنْدَ أَبي بَكْرَةَ فَقالَ: مَا أَنا مُلْتَمِسُهَا لِشَيءٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ الله ? إِلا في الْعَشْرِ الأَواخِرِ فَإِني سَمِعْتُهُ يَقولُ: التَمِسُوهَا في تِسْعٍ يَبْقينَ، أَو في سَبْعٍ يَبْقينَ، أَو في خَمْسٍ يَبْقينَ أَو في ثَلاثٍ، أَو آخِرِ لَيْلَةٍ، قَالَ: وكَانَ أَبُو بَكْرَةَ يُصَلِّي في العِشْرينَ مِنْ رَمَضَانَ كَصَلاتِهِ في سَائِرِ السَّنَةِ فَإِذَا دَخَلَ العَشْرُ اجْتَهَدَ» رواه الترمذي وقال: حسن صحيح (1) .
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ بنِ أَبي سُفيانَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ?: «التَمِسُوا لَيْلَةَ القَدْرِ في آخِرِ لَيْلَةٍ» رَوَاهُ ابنُ خُزَيْمَةَ وبَوَّبَ عَلَيهِ فَقالَ: بَابُ الأَمْرِ بِطَلَبِ لَيْلَةِ القَدْرِ آخِرَ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ إِذْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ في بَعْضِ السِّنينَ تِلْكَ الَّليْلَةَ (2) .
الفوائد والأحكام:
الأول: أَنَّ لَيْلَةَ القَدْرِ في العَشْرِ الأَواخِرِ، وأَنَّ آكدَهَا الأَوْتَارُ منْهَا، ويُحتَمَلُ أَنْ تَكُونَ في لَيالي الشَّفْعِ باعْتِبَارِ مَا يَبْقَى إِنْ كَانَ الشَّهْرُ تَامَّاً؛ ولِذَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِم أَنْ يَطْلُبهَا في العَشْرِ كُلِّها.
الثاني: حِرْصُ الصَّحَابَةِ رَضيَ الله عَنْهُم على التِماسِ لَيْلَةِ القَدْرِ وإِحْيَائِها.
__________
(1) رواه الطيالسي (881) وأحمد (5/39) والترمذي (794) والنسائي في الكبرى (3403) والبزار (3681) والطبراني في مسند الشاميين (1119).
(2) صحيح ابن خزيمة (2189) وصححه الألباني في تعليقه عليه (3/330) وفي السلسلة الصحيحة (1471).(1/1)
الثالث: أَنَّ لَيْلَةَ القَدْرِ قَدْ تَكُونُ في آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ في بَعْضِ السِّنينَ؛ كَما دَلَّتْ الأَحَاديثُ الكَثِيرَةُ عَلى أَنَّها مُتَنَقِّلَة.
الرابع: أَنَّهُ يَنْبَغي للمُسْلِمِ أَنْ لا يَفْتُرَ عَن الصَّلاةِ والقُرْآنِ، والمحَافَظَةِ على قِيامِ رَمَضَانَ بَعْدَ لَيْلَةِ تِسْعٍ وعِشْرينَ، أَو بَعْدَ خَتْمِ إِمَامِهِ لِلْقُرْآنِ الكَريم؛ إِذْ مَطْلوبُهُ لَيْلَةُ القَدْرِ، وجَائِزٌ أَنْ تَكُونَ آخِرَ لَيْلَةٍ.
( ( ((1/2)
58- أحوالُ الشَّهْرِ القَمَري
...
عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبيُّ ?: «الشَّهْرُ هَكَذا وَهَكَذا وَهَكَذا، يَعْني: ثَلاثينَ، ثُمَّ قَالَ: وَهَكَذا وَهَكَذا وَهَكَذا، يَعْني: تِسْعاً وعِشْرينَ، يَقُولُ: مَرَّةً ثَلاثينَ، ومَرَّةً تِسْعاً وعِشْرينَ». رواه الشيخان.
وفي رِوَايَةٍ لِلْبُخَاري قَالَ النَّبيُّ ?: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيةٌ لا نَكْتُبُ وَلا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هَكَذا وَهَكَذا، يَعْني: مَرَّةً تِسْعَةً وَعِشْرينَ، وَمَرَّةً ثَلاثينَ».
وفي رِوَايَةٍ لمسْلِمٍ: «الشَّهْرُ كَذَا وكَذَا وكَذَا، وصَفَّقَ بِيَدَيْهِ مَرَّتَين بِكُلِّ أَصَابِعْهما، ونَقَصَ في الصَّفْقَةِ الثَّالِثَةِ إِبْهَامَ اليُمْنَى أَوْ اليُسْرَى».
وفي رِوَايَةٍ لمسْلِمٍ: أَنَّ ابنَ عُمَرَ رَضيَ الله عَنْهُمَا سَمِعَ رَجُلاً يَقُولُ: «الَّليْلَةُ النِّصْفُ. فَقَالَ لَهُ: مَا يُدْرِيكَ أَنَّ الَّليْلَةَ النِّصْفُ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ الله ? يَقُولُ: الشَّهْرُ هَكَذا وَهَكَذا، وَأَشِارَ بِأَصَابِعِهِ العَشْرِ مَرَّتَينِ، وَهَكَذا في الثّالِثَةِ، وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ كُلِّهَا، وَحَبَسَ أَوَ خَنَسَ إِبْهَامَهُ» (1) .
وَعَنْ سَعْدِ بنِ أَبي وَقَّاصٍ - رضي الله عنه - قَالَ: «ضَرَبَ رَسُولُ الله ? بِيَدِهِ عَلى الأُخْرَى فَقَالَ «الشَّهْرُ هَكَذا وَهَكَذا، ثُمَّ نَقَصَ في الثَالِثَةِ إِصْبَعاً». رواه مسلم (2)
وعن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عَنهُما عَنِ النَّبيِّ ? قَالَ: «أَتَاني جِبْريلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَالَ: الشَّهْرُ تِسْعٌ وعِشْرُونَ يَوْماً» رواه النسائي (3) .
__________
(1) رواه البخاري (4996) ومسلم (1080) والرواية الثانية للبخاري (1814) والثالثة والرابعة لمسلم (1080).
(2) رواه مسلم (1086) والنسائي (4/138).
(3) رواه النسائي (4/138) وصححه الألباني في صحيح النسائي.(1/1)
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: «لَما صُمْنَا مَعَ النَّبيِّ ? تِسْعاً وعِشْرينَ أَكْثَرَ مما صُمْنَا مَعَهُ ثَلاثينَ» رواه أبو داود (1) .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ الله تَعَالى: وَفي البَابِ عَنْ عُمَرَ وَأَبي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ وَسَعدِ بنِ أَبي وَقَّاصٍ وابْنِ عَبَّاسٍ وابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ وَجَابِرٍ وأُمَّ سَلَمَةَ وأَبي بَكْرَةَ أَنَّ النَّبيَّ ? قَالَ: «الشَّهْرُ يَكُونُ تِسْعاً وعِشْرينَ» (2) .
الفوائد والأحكام:
الأول: أَنَّ الشَّهْرَ القَمَريَّ الَّذي هُوَ مِيقَاتُ الأَعْمالِ الصَّالحةِ يَكُونُ تَارَةً ثَلاثينَ يَوْماً، ويَنْقُصُ تَارَةً أُخْرى يَوْماً فَيَكُونُ تِسْعَةً وعِشْرينَ يَوْماً.
الثاني: أَنَّ الأَجْرَ تَامٌ إِذا نَقَصَ الشَّهْرُ، وَقَدْ أَخْبَرَ ابنُ مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - أَنَّهم صَامُوا مَعَ النَّبيِّ ? تِسْعَةً وَعِشْرينَ يَوْماً أكْثَرَ مما صَامُوا ثَلاثينَ يَوْماً.
الثالث: أَنَّ في هَذهِ الأَحَادِيثِ رَداً على أَهْلِ الحِسَابِ والتَّنْجِيمِ، وَأَنَّ مَبْنَى الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنَ الصِّيامِ والفِطْرِ والحَجِّ عَلى الرُّؤْيَةِ لا عَلى الحِسَابِ.
الرابع: جَوَازُ اسْتِخْدَامِ الإِشَارَةِ، وَأَنَّها أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَاليبِ البَيانِ والتَّعليم (3) .
الخامس: أَنَّهُ قَدْ يَقَعُ النَّقْصُ مُتَوَالياً في شَهْرَينِ وثَلاثَةٍ وَأَرْبَعَةٍ، ولا يَقَعُ في أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَة (4) .
__________
(1) رواه أبو داود (3322) والترمذي (689) وأحمد (1/397) والبيهقي (4/250) وصححه الألباني في صحيح أبي داود.
(2) جامع الترمذي (3/73).
(3) انظر: فتح الباري (4/127).
(4) انظر: شرح النووي على مسلم (7/191).(1/2)
السادس: أَنَّ هَذِهِ الأُمَةَ مَنْسُوبَةٌ إِلى الأُمِّيَةِ؛ لأَنَّ الكِتَابَةَ كَانَتْ فِيهم عَزيزَةً ونَبِيَّها كَذلِكَ أُميٌّ كَما قَالَ الله تَعَالى: [هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ]، وَقَالَ تَعَالى: [وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ المُبْطِلُونَ] ومِنْ نِعْمَةِ الله تَعَالى أَنْ مَنَّ عَلَيهِم بِهذا الدِّينِ العَظِيمِ، فَهُمْ لم يَأْخُذُوا الكِتَابَ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَإِنما جَاءَهُم وَحْياً مِنَ الله تَعَالى عَلى رَسُولِهِ ? (1) .
السابع: أَنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ لا تَفْتَقِرُ في عِبَادَتِها ومَوَاقِيتِها إلى كِتَابٍ أَوْ حِسَابٍ؛ لأَنَّ الشَّارِعَ الحَكِيمَ عَلَّقَ ذَلكَ بالرُّؤْيَةِ، وَهِيَ أَيْسَرُ عَلى المكَلَّفِينَ (2) .
الثامن: أَنَّنا لم نُكَلَّفْ في تَعْريفِ مَوَاقِيتِ صَوْمِنَا ولا عِبَادَتِنا مَا نَحْتَاجُ فِيهِ إِلى مَعْرِفَةِ حِسَابٍ ولا كِتَابَةٍ، إِنما رُبِطَتْ عِبَادَتُنَا بِأَعْلامٍ وَاضِحَةٍ، وأُمُورٍ ظَاهِرَةٍ، يَسْتَوى في مَعْرِفَتِهَا الحُسَّابُ وَغَيْرُهُمْ (3) .
التاسع: أَنَّ مَنْ نَذَرَ أَوْ حَلَفَ أَنْ يَصُومَ شَهْراً مُعَيَّناً كَرَجَبٍ أَوْ شَعْبَانَ، فَصَامَ فَكَانَ تِسْعَةً وعِشْرينَ يَوْماً كَانَ بَارَّاً في يَمِينِهِ (4) .
__________
(1) انظر: عمدة القاري (10/286).
(2) انظر: تفسير ابن كثير (1/117).
(3) شرح ابن بطال على البخاري (4/31-32) والمفهم (3/139) وعمدة القاري (10/287).
(4) معالم السنن بهامش أبي داود (2/740).(1/3)
العاشر: لَوْ نَذَرَ أَوْ حَلَفَ أَنْ يَصُومَ شَهْراً وَلَم يُعَيِّنُه فَالأَرْجَحُ إِنْ شَاءَ الله تَعَالى أَنَّه يَكْفِيهِ صِيامُ تِسْعَةٍ وعِشْرينَ يَوْماً؛ لأَنَّ الشَّهْرَ يَكُونُ كَذَلكَ (1) .
الحادي عشر: أَنَّ يَوْمَ الشَّكِّ مَحكُومٌ بِأَنَّهُ مِنْ شَعْبانَ، وأَنهُ لا يَجوزُ صَومُهُ عَنْ رَمَضَانَ؛ لأَنَّ النَّبيَّ ? عَلَّقَ صَوْمَ رَمَضَانَ بِالرُّؤْيةِ (2) .
الثاني عشر: الَّذي يَظْهَرُ مِنَ الأَحَادِيثِ أَنهُ لا مَانِعَ مِنْ الاسْتِعَانَةِ بالآلاتِ الحَدِيثَةِ مِنْ مَرَاصِدَ وَمَناظيرَ وَنَحْوِهَا في تَحْدِيدِ مَوْقِعِ الهلالِ؛ لِتَسْهِيلِ رُؤْيَتِهِ؛ لأَنها لَيْسَتْ مِنَ الحِسَابِ المنْفيِّ في الأَحَادِيثِ، ولَكِنَّ المعْتَمَدَ هُوَ الرَّؤْيةُ البَصَرِيَّةُ (3) .
... ... ( ( (
...
__________
(1) المفهم (3/138)، وذكر الخطابي في معالم السنن (2/740) أنه يلزمه إكمال العدة، والذي يظهر لي أن قول القرطبي أرجح، ولم يتبين لي وجه إلزامه بثلاثين يوماً، والشهر يكون تسعة وعشرين يوماً.
(2) المفهم (3/140).
(3) سئل الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى عن النظر بالدربيل ونحوه، فقال: «لا أعلم مانعاً من العمل برؤيته لأنها من الرؤية لا من الحساب» مجموع فتاواه ورسائله (15/69-70).(1/4)
59- فضيلةُ صيامِ الست
عَنْ أَبي أَيُّوبَ الأَنصَاريِّ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله ? قال: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتبَعَهُ سِتاً مِنْ شَوَّالَ كَانَ كَصِيَامِ الدَّهرِ» رواه مسلم (1) .
وعَنْ ثُوبانَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ الله ? قَالَ: «صِيامُ رَمَضَانَ بِعَشرَةِ أَشْهُر، وصِيَامُ السِّتَّةِ أيَّامٍ بِشَهرَينِ فذَلك صِيَامُ السَّنَة».
وفي رِوايةٍ «مَنْ صَامَ سِتَّةَ أيَّامٍ بَعْدَ الفِطْرِ كَانَ تَمامَ السَّنة [مَنْ جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا] {الأنعام:160}» رواهُ أحمدُ وابنُ ماجه (2) .
الفوائد والأحكام:
الأول: فَضِيلَةُ صِيامِ الستِّ من شَوَّال، وأنَّ مَنْ وَاظَبَ على صِيَامِها مَعَ رَمَضَانَ فكأَنَّهُ صَامَ عُمُرَه كُلَّه، وهَذا فضْلٌ عَظِيمٌ، وعَمَلٌ كَبِير.
الثاني: رَحْمةُ الله تَعَالى بِعِبادِهِ، ومَجَازَاتُهم على الأَعمَالِ القَلِيلَةِ ثَوَاباً كَثيراً، وأُجُورَاً عَظِيمَة.
الثالث: اسْتِحبَابُ المُبادَرَةِ بِصِيامِ السِّتِّ؛ للأَمرِ بالِمُسَابَقَةِ في الخَيرَات، ولِئلَّا يَفُوتَ صِيامُهَا عَلَيه، أَو يَشْغَلَه عنهَا شَاغِل.
الرابع: جَوازُ صِيامِها في أَوَّلِ الشَّهرِ أَو وَسْطِهِ أو آخِرِهِ، مُتَتَابِعَةً أو مُتَفَرِّقَةً، فكُلُّ ذلك مَشرُوعٌ، وأيًّا ما فَعَلَهُ المُكَلَّفُ فَجَائِزٌ، ويَستَحِقُّ الأَجْرَ المُرَتَّبَ عَلَيْهِ إِنْ قَبِلَ اللهُ تَعَالَى مِنه (3) .
__________
(1) رواه مسلم (1164).
(2) رواه أحمد (5/280) والدرامي (1755) وابن ماجه (1715) والنسائي في الكبرى (2860) وصححه ابن خزيمة (21154) وابن حبان (3635).
(3) انظر: المغني (4/440) وشرح النووي على مسلم (8/56).(1/1)
الخامس: أَنَّ مَنْ عَليهِ قَضَاءٌ مِنْ رَمَضَانَ قَدَّمَ القَضَاءَ عَلى السِّتِ ثُم صَامَهَا بعدَ ذَلك؛ لظَاهِرِ الحَدِيثِ فإنَّهُ عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قَالَ: «مَن صَامَ رَمَضَان» يَعْني كَاملاً، ومَنْ بَقِيَ علَيهِ أَيَّامٌ من رَمَضَانَ فَلا يَصْدُقُ عَلَيهِ أَنَّهُ صَامَ رَمَضَانَ حَتى يَقضِيَ تِلكَ الأيَّامَ التي علَيه منه (1) ، ولأَنَّ إبرَاءَ الذِّمةِ من الوَاجِبِ أَولَى مِن فِعلِ المَندُوب.
السادس: أنَّ الشَّارِعَ الحَكِيمَ جَعلَ الفَرَائِضَ مَسبُوقَةً بِنَوافِلَ، كَما شَرَعَ نَوافِلَ عَقِبَهَا؛ كالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ في الصَّلَوَاتِ، ومَشرُوعِيَّةِ صِيَامِ شَعبَانَ، وصيَامِ سِتَّةٍ من شَوَّالَ، وبَينَهُما صِيَامُ الفَرضِ رَمَضَان.
السابع: أَنَّ هذه النَّوَافِلَ تُكَمِّلُ النَّقْصَ الحَاصِلَ في الفَرَائِض، ولا يَخلُو المُكَلَّفُ مِنْ ارْتِكَابِ ما يُنقِصُ أَجرَ صِيامِهِ ويُخَرِّقُه مِنْ فُضُولِ الكَلامِ والنَّظَرِ والطَعَامِ وغَيرِ ذَلك.
( ( (
__________
(1) انظر: الشرح الممتع (6/466).(1/2)
60- من أحكامِ العيد
...
عَن أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَال: «قَدِمَ رَسُولُ الله ? المدِينَةَ وَلَهم يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِما فَقَالَ: مَا هَذَانِ اليَوْمَانِ؟ قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِما في الجاهِلِيةِ، فَقَالَ رَسُولُ الله ?: إِنَّ اللهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِما خَيراً مِنْهُما يَوْمَ الأَضْحَى وَيَوْمَ الفِطْر» رَوَاه أبو داود (1) .
وَعَنْ أَبي عُبَيْدٍ مَوْلى ابنِ أَزْهَرَ قَالَ: «شَهِدْتُ العِيدَ مَعَ عُمَرَ بنِ الخَطابِ - رضي الله عنه - فقَالَ: هَذَانِ يَوْمَانِ نَهَى رَسُولُ الله ? عَنْ صِيَامِهِما، يَوْمُ فِطْرِكُمْ مِنْ صِيامِكُمْ وَاليَوْمُ الآخَرُ تَأْكُلُونَ فِيهِ مِنْ نُسُكِكُم» رواه الشيخان (2) .
وَعَنْ أَبي سَعِيدٍ - رضي الله عنه - قَالَ: «نَهَى النَّبِيُّ ? عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الفِطْرِ والنَّحْرِ» رواه الشيخان (3) .
وعَنْ ابنِ عَباسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: «أَنَّ النَّبيَّ ? خَرَجَ يَوْمَ الفِطْرِ فَصَلَى رَكْعَتَينِ لم يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلا بَعْدَهَا» رواه الشيخان (4) .
وَعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: «أَمَرَنَا رَسُولُ الله ? أَنْ نَخْرِجَهُنَّ في الفِطْرِ والأَضْحَى: العَوَاتِقَ والحِيَّضَ وذَوَاتَ الخُدُورِ، فَأَمَا الحِيَّضُ فَيَعْتَزِلْنَ الصَّلاةَ ويَشْهَدْنَ الخَيْرَ وَدَعْوَةَ المسْلِمِينَ» رواه الشيخان (5) .
الفوائد والأحكام:
__________
(1) رواه أبو داود (1134) والنسائي (3/179) وأحمد (3/103) وأبو يعلى (3841) وصححه الحاكم وقال على شرط مسلم (1/434) وصححه الحافظ في الفتح (2/422) والألباني في صحيح أبي داود.
(2) رواه البخاري (1889) ومسلم (1137).
(3) رواه البخاري (1890) ومسلم (827).
(4) رواه البخاري (945) ومسلم (884).
(5) رواه البخاري (931) ومسلم (890).(1/1)
الأول: أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْعَمَ عَلى المسْلِمِينَ بِعِيدِ الفِطْرِ وعِيدِ الأَضْحَى، وأَغْنَاهُمْ بِهما عَنْ أَعْيَادِ الجَاهِلِيَةِ وَأَيَامِهَا.
الثاني: تَمَيَّزَ العِيدَانِ الشَرْعِيانِ عَنْ أَعْيَادِ الكُفَارِ عَلى اخْتِلافِ مِلَلِهِمْ وَنِحَلِهِمْ بِمِيزَاتٍ كَثِيرَةٍ، أَهَمُّهَا:
1- ثُبُوتُ العِيدَيْنِ بِالرُّؤْيَةِ لا بِالحِسَابِ خِلافاً لأَعْيادِ الكُفَارِ التي تَثْبُتُ عِنْدَهُم بالحِسَاب.
2- ارْتِبَاطُ العِيدَيْنِ بِعِبَادَاتٍ عَظِيمَةٍ، وَشَعَائِرَ كَبيرَةٍ كَالصِّيامِ وَزَكَاةِ الفِطْرِ، والحَجِّ والأَضَاحِي.
3- أَنَّ شَعَائِرَ العِيدَيْنِ عِبَادَاتٌ تُقَرِّبُ إِلى الله تَعَالى كَالتَكْبيرِ وصَلاةِ العِيدِ وخُطْبَتِهَا، بِخِلافِ أَعْيادِ الكُفَارِ التي تَجْمَعُ أَنْوَاعاً مِنْ شَعَائِرِ الكُفْرِ والضَلال، وَتَحوي جُمْلَةً مِنَ الشَهَوَاتِ والشُبُهَاتِ.
4- ظُهُورُ البِرِّ والإِحْسَانِ والتَكَافُلِ في العِيدَيْنِ بِصَدَقَةِ الفِطْرِ، والصَّدَقَةِ مِنَ الهدَايا وَالأَضَاحِي.
5- لم يَرْتَبِطْ أَيٌّ مِنَ العِيدَيْنِ بما لَهُ صِلَةٌ بِالعَقَائِدِ الأُخْرَى كَرَأْسِ السَّنَةِ أَوْ الكَوَاكِبِ أَوْ الذُّكْرَياتِ أَوْ تَقْدِيسِ الأَشْخَاصِ أَوْ القَوْمِياتِ العِرْقِيَّةِ والوَطَنِيةِ، وَإِنَّما كَانَا خَالِصَيْنِ لله تَعَالى في كُلِّ الشَعَائِر.
والوَاجِبُ شُكْرُ الله تَعَالى على هَذِهِ النِّعْمَةِ العَظِيمَةِ بِالتِزَامِ أَوَامِرِهِ واجْتِنَابِ نَواهِيهِ حَتى في أَيَامِ العِيدِ والفَرَحِ والسُرُورِ.
الثالث: أَنَّ مِنْ كُفْرِ النِّعْمَةِ في العِيدِ إِضَاعَةَ الفَرَائِضِ، وتَسَاهُلَ النِّسَاءِ في لِباسِهِنَّ، واخْتِلاطَهُنَّ بالرِّجَالِ، وانْتِشَارَ مَظَاهِرِ السَرَفِ والبَذَخِ في الِّلبَاسِ أَوْ الطَّعَامِ أَوْ الاحْتِفَال، وَظُهُورَ المعَازِفِ والغِنَاءِ.(1/2)
الرابع: مِنَ السُّنَّةِ لِلْمُسْلِمِ في العِيدِ الغُسْلُ لِصَلاةِ العِيدِ، وَلُبْسُ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ، وَكَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَفْعَلُونَ ذَلك.
الخامس: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَأْكُلَ صَبِيحَةَ عِيدِ الفِطْرِ قَبْلَ الذَّهَابِ إِلى المصَلَّى تَمرَاتٍ لِفِعْلِ النَّبيِّ ?، ولِيُبَادِرْ إِلى الفِطْرِ في يَوَمِ الفِطْرِ امْتِثَالاً لأَمْرِ الله تَعَالى.
السادس: مِنَ السُّنَّةِ خُرُوجُ النِّسَاءِ والصِّبْيانِ لِصَلاةِ العِيدِ، وَشُهُودُ الصَّلاةِ ودَعْوَةِ المسْلِمِينَ، والحِيَّضُ مِنَ النِساءِ يَجتَنِبْنَ المصَلَى وَيَشْهَدْنَ الخُطْبَةَ والدُّعَاء.
السابع: مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَخْرُجَ إِلى العِيدِ مَاشِياً، وَأَنْ يُخَالِفَ الطَّريقَ بِأَنْ يَجْعَلَ ذَهَابَهُ إِلى المصَلَّى مِنْ طَرِيقٍ، وَرُجُوعَهُ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ كَما ثَبَتَ ذَلكَ عَنِ النَّبيِّ ?.
الثامن: الأَفْضَلُ لِلْمُسْلِمِ إِذَا صَلَّى العِيدَ أَنْ يَبْقَى في المصَلَّى لِيَسْتَمِعَ إِلى الخُطْبَةِ ويُؤَمِّنَ عَلى الدُّعَاء، وَقَدْ قَالَ النَّبيُّ ? في حَقِّ الحِيَّضِ مِنَ النِّسَاءِ «وَيَشْهَدْنَ الخَيْرَ وَدَعْوَةَ المسْلِمِينَ».
التاسع: لَيْسَ لِصَلاةِ العِيدِ رَاتِبَةٌ قَبْلِيَّةٌ وَلا بَعْدِيَّة، لَكِنَّ المسْلِمَ إِذَا دَخَلَ المصَلَّى أَوْ المسْجِدَ فَهُوَ مَأْمُورٌ بأَدَاءَ تَحيةِ المسْجِدِ وَلَو كَانَ الوَقْتُ وَقْتَ نَهْيٍ؛ لأَنَّ تَحيةَ المسْجِدِ مِنْ ذَوَاتِ الأَسْبَابِ التي يَجوزُ أَدَاؤُهَا وَقْتَ النَّهْي.
العاشر: الأَفْضَلُ لِلْمُسْلِمِ أَثْناءَ انْتِظَارِهِ خُرُوجَ الإِمَامِ لِلصَّلاةِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالتكْبيرِ لأَنهُ عِبَادَةُ الوَقْتِ، وله أَنْ يَقْرَأَ القُرآنَ أَوْ يَتَنَفَّلَ بالصَّلاةِ مَا لم يَكُنْ وَقْتَ نَهْيٍ، لَكنَّ الاشْتِغَالَ بالتكْبيرِ أَفْضَل.(1/3)
الحادي عشر: إِذَا لم يَعْلَم النَاسُ بِالعِيدِ إِلاَّ بَعْدَ الزَّوَالِ صَلَّوا مِنَ الغَدِ، وإِذَا أَدْرَكَ المُسْلِمُ الإِمَامَ وَهُوَ في التَشَهُدِ جَلَسَ مَعَهُ ثُم قَضَى رَكْعَتَينِ يَأْتي فِيهِما بِالتكْبير.
الثاني عشر: إِذَا فَاتَتْهُ صَلاةُ العِيدِ فَالأَرْجَحُ أَنهُ لا يَقْضِيهَا؛ لِعَدَمِ وُرُودِ الدَّلِيلِ عَلى قَضَائِهَا إِذا فَاتَتْ.
الثالث عشر: الفَرَحُ بِالعِيدِ مَشْرُوعٌ مَا لم يُتَجَاوَزْ المبَاحَ إِلى فِعْلِ المحَرَّمَاتِ؛ أَوْ تَعْطِيلِ الوَاجِبَات، ويَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُوَسِّعَ عَلى أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ في يَوْمِ العِيدِ؛ لأَنَّ الفَرَحَ بِالعِيدِ مِنْ شَعَائِرِهِ التي هِيَ مِنْ شَعَائِرِ الدِّين.
الرابع عشر: يَنْبَغِي اجْتِماعُ النَاسِ عَلى الطَّعَامِ في العِيدِ؛ لما فِيهِ مِنْ إِظْهَارِ شَعِيرَةِ العِيدِ، وَلأَنَّهُ سَبَبٌ لِتآلُفِ القُلُوبِ وَاجْتِماعِهَا في ذَلِكَ اليَوْمِ العَظِيمِ.
الخامس عشر: لا بَأْسَ بِالتَهْنِئَةِ بِالعِيدِ، وَقَدْ وَرَدَ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ إِذَا التَقَوا يَوْمَ العِيدِ هَنَأَ بَعْضُهُمْ بَعْضَاً بِه، وقَالُوا: تَقَبَّلَ اللهُ مِنَّا وَمِنْكُم. وصِيغَةُ التَّهْنِئَةِ بهِ تَكُونُ بِحَسَبِ عُرْفِ النَاسِ على اخْتِلافِ بُلْدَانِهِم وأَزْمَانِهِمْ، مَا لم تَكُنْ بِلَفْظٍ مُحَرَّمٍ، أَوْ فِيهِ تَشَبُّهٌ بِالكُفَارِ كَأَنْ يُقَلِّدَهُمْ في أَلْفَاظِ تَهْنِئَتِهِمْ بِأَعْيَادِهِمُ المحَرَّمَةِ.
... ... ( ( (
...(1/4)
كشاف الموضوعات
مقدمة ... 5
1- النهي عن الصوم قبل رمضان ... 9
2- بم يثبت دخول الشهر وخروجه ... 11
3- الصوم من أركان الإسلام ... 15
4- من فضائل رمضان ... 17
5- النية في صيام الفرض ... 21
6- آداب الصيام ... 23
7- الصيام والفطر مع الجماعة ... 27
8- مشروعية صلاة التراويح ... 29
9- اغتسال الصائم وتبرده ... 33
10- مراحل فرض الصيام ... 35
11- مشروعية صلاة التراويح ... 37
12- الصيام مكفر للسيئات ... 41
13- معنى الخيط الأبيض والخيط الأسود ... 43
14- إفطار الحائض وقضاؤها ... 47
15- فضل تفطير الصائم ... 49
16- فضل العمرة في رمضان ... 53
17- فضل السحور (1) ... 55
18- فضل السحور (2) ... 59
19- وقت السحور (1) ... 61
20- وقت السحور (2) ... 65
21- قدر ما بين الأذان والسحور ... 67
22- القبلة والمباشرة للصائم ... 71
23- عقوبة الإفطار في رمضان ... 73
24- فضل تعجيل الفطر ... 77
25- الفطر للمسافر والحامل والمرضع ... 79
26- الصوم والإفطار في السفر ... 83
27- تخفيف الشهوة بالصيام ... 85
28- عدد ركعات التراويح ... 89
29- متى يفطر المسافر ... 93
30- الجماع في نهار رمضان ... 95
31- فضل التراويح جماعة ... 99
32- وقت الإفطار ... 101
33- حكم استقاء الصائم ... 105
34- السواك والكحل للصائم ... 107
35- فضل صيام التطوع ... 111
36- الحجامة للصائم ... 113
37- من فضائل الصيام ... 117
38- صيام من أصبح جنباً ... 119
39- مشروعية الاعتكاف ... 123
40- التماس ليلة القدر في إحدى وعشرين ... 125
41- إحياء العشر الأواخر ... 129
42- علامات ليلة القدر ... 131
43- التماس ليلة القدر في ثلاث وعشرين ... 135
44- فضل ليلة القدر ... 137
45- التماس ليلة القدر في السبع الأواخر ... 141
46- اعتكاف النساء ... 143
47- التماس ليلة القدر في الأوتار ... 147
48- ما يباح للمعتكف ... 149
49- الدعاء ليلة القدر ... 153
50- زيارة المعتكف ... 155
51- التماس ليلة القدر في سبع وعشرين ... 159
52- للصوم باب في الجنة ... 161
53- من نذر أن يعتكف ... 165
54- الصوم عن الميت ... 167
55- تمام الأجر ولو نقص الشهر ... 171
56- زكاة الفطر ... 173(1/1)
57- التماس ليلة القدر في آخر ليلة ... 177
58- أحوال الشهر القمري ... 179
59- فضيلة صيام الست ... 181
60- من أحكام العيد ... 185(1/2)