|
المؤلف : عبد العزيز بن محمد بن عبد المحسن السلمان (المتوفى : 1422هـ)
وَقْفٌ للهِ تَعَالَى
تَأْلِيفُ
الفَقِير إلى عَفْوِ رَبِّهِ
غَفَر الله لَهُ وَلِوالدَيه وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِين
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الكتاب
الحمد لله الذي تفرد بالجلال، والعظمة والعز والكبرياء والجمال، وأشكره شكر عبدٍ مُعترفٍ بالتقصير عن شكر بعض ما أوليه من الإنعام والإفضال، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صلى الله عليه وسلم - تسليماً كثيراً.
وبعد:
فبما أن صيام شهر رمضان، الذي هو أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام فريضة مُحكمة، كتبها الله على المسلمين كما كتبها على الذين من قبلهم من الأمم السابقة، والأجيال الغابرة تحقيقاً لمصالحهم وتهذيباً لنفوسهم لينالوا من ثمرة التقوى ما يكون سبباً للفوز برضا ربهم، وحلول دار المقامة.
وحيث أني أرى أن الناس في حاجة إلى تبيين أحكام الصيام، والزكاة، وصدقة الفطر، وصدقة التطوع، وقيام رمضان، وأنهم في حاجة إلى ذكر طرف من آداب تلاوة القرآن ودروسه، والحث على قراءته، وأحكام المساجد، والاعتكاف، فقد جمعت من كُتب الحديث والفقه ما رأيت أنه تتناسب قراءته مع عموم الناس، يفهمه الكبير والصغير، وأن يكون جامعاً لكثيرٍ من أحكام ما ذُكر، ووافياً بالمقصود، وقد اعتنيت حسب قدرتي ومعرفتي بنقل الحكم والدليل أو التعليل أو كليهما وسميته: "المناهل الحسان في دروس رمضان"، وأسأل الله الحي القيوم أن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم، وأن ينفع به نفعاً عاماً من قرأه، ومن سمعه. إنه سميعٌ، عليمٌ قريبٌ مُجيب، على كل شيءٍ قدير، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
عبد العزيز بن محمد السلمان
الباب الأول: في شهر رمضان
يقول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } .
قال ابن كثير على هذه الآية:
(1/1)
يقول الله تعالى مُخاطباً المؤمنين من هذه الأمة، وآمراً لهم بالصيام وهو الإمساك عن الطعام، والشراب، والوقاع، بنيةٍ خالصة لله عز وجل، لما فيه من زكاة النفوس، وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة، والأخلاق الرذيلة، وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم، فلهم فيهم أسوة، وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل ما فعله أولئك "انتهى كلامه رحمه الله".
وقد وردت في فضله، ومضاعفة أجره أحاديث كثيرة:
روى الإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يُبشر أصحابه بقدوم شهر رمضان فيقول: «جاءكم شهر رمضان، شهر مبارك، كتب الله عليكم صيامه، فيه تُفتح أبواب الجنة، وتُغلق فيه أبواب الجحيم، وتُغل فيه الشياطين، وفيه ليلة خيرٌ من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حُرم».
وقال بعض العلماء: "هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بشهر رمضان".
وفي الحديث الآخر: «لو يعلم الناس ما في رمضان لتمنت أمتي أن يكون رمضان السنة كلها».
وعن عُبادة مرفوعاً: «أتاكم رمضان شهر بركة، يغشاكم الله فيه، فيُنزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، ينظر الله إلى تنافسكم فيه، ويُباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حُرم فيه رحمة الله».
وفي الصحيحين، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا دخل شهر رمضان فُتحت أبواب السماء وغُلقت أبواب جهنم وسُلسلت الشياطين».
ولمسلم: «فُتحت أبواب الرحمة» وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن في الجنة باباً يُقال له الريان يدخل منه الصائمون لا يدخل منه غيرهم» وفي رواية: «فإذا دخلوا أغلق الباب» وفي رواية «من دخل منه شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً».
(1/2)
ولمسلم أيضاً، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً: «إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنة، وأغلقت أبواب النار، وصُفدت الشياطين».
وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا كان أول ليلة من رمضان صُفدت الشياطين ومردة الجن، وغلقت أبواب النيران، فلم يُفتح منها باب، وفُتحت أبواب الجنة فلم يُغلق منها باب، وينادي مُنادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عُتقاء من النار، وذلك كل ليلة».
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مُكفراتٌ ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر».
وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ثلاثة لا تُرد دعوتهم: الصائم حتى يُفطر، والإمام العادل، ودعوى المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، وتُفتح لها أبواب السماء، ويقول: "وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين"» رواه الترمذي وحسنه وابن حبان في صحيحه.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:«أعطيت أمتي خمس خصال في رمضان لم تُعطها أمة قبلهم، خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الحيتان حتى يُفطروا، ويزين الله عز وجل كل يوم جنته، ثم يقول: يُوشك عبادي الصالحون أن يُلقوا عنهم المئونة، ويُصَيَّرُوا إِلَيْكِ، وتُصفد فيه مردة الشياطين فلا يخلصوا فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، ويُغفر لهم في آخر ليلة». قيل: يا رسول الله أهي ليلة القدر؟. قال: «لا، ولكن العامل إنما يُوفى أجره إذا قضى عمله».
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد المنبر، فقال: «آمين، آمين، آمين» قيل يا رسول الله: إنك صعدت المنبر فقلت: آمين، آمين، فقال: «جبريل عليه السلام، آتاني فقال: من أدرك شهر رمضان فلم يُغفر له، فدخل النار فأبعده قل آمين، فقلت آمين» الحديث.
(1/3)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أظللكم شهركم هذا، بمحلوف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما مر بالمسلمين شهر خيرٌ لهم منه، ولا مَرَّ بالمنافقين شهرٌ شرٌ لهم منه، بمحلوف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله ليكتب أجره ونوافله قبل أن يُدخله، ويكتب إصره وشقاءه قبل أن يُدخله، وذلك أن المؤمن يُعد فيه القوت والنفقة للعبادة، ويعدُّ فيه المنافق اتباع غفلات المؤمنين واتباع عوراتهم، فغُنمٌ يغنمه المؤمن».
وقال بندار في حديثه: «فهو غُنمٌ للمؤمنين يغتنمه الفاجر» رواه ابن خزيمة في صحيحه وغيره.
وعن أنس، - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو ببلوغ رمضان، فكان إذا دخل شهر رجب قال: «اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان» رواه الطبراني وغيره.
وقال عبد العزيز بن مروان: "كان المسلمون يقولون عند حضور شهر رمضان اللهم قد أظلنا شهر رمضان وحضر فسلمه لنا وسلمنا له، وارزقنا صيامه وقيامه، وارزقنا فيه الجد والاجتهاد والنشاط، وأعذنا فيه من الفتن".
وقال مُعلى بن الفضل: كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يُبلغهم رمضان ثم يدعونه ستة أشهر أن يتقبله منهم. وقال يحيى بن أبي كثير كان من دعائهم: "اللهم سلمني إلى رمضان وسلم لي رمضان وتسلمه مني مُتقبلا".
قال الناظم:
وَخُذْ فِي بَيَانِ الصَّوْم غَير مُقَصِّرٍٍ ... عِبَادةِ سِرّ ضِدَّ طَبْعٍ مُعَوَّدِ
وَصَبْرٌ لِفَقْدِ الإلْفِ مِن حَالةِ الصِّبَا ... وَفَطْمٌ عَن المَحْبُوبِ والمُتَعَوِّدِ
فَثِْق فِيْهِ بِالوَعْدِ القَدِيِمِ مِن الذي ... لَهُ الصَّوم يُجزِيْ غَيْرَ مُخْلِفِ مَوْعِدِ
وَحَافِظ عَلَى شَهر الصِّيَام فإنه ... لخامس أَركَانٍِ لِدينِ مُحمَّد
تُغلق أَبْوَاب الجحيم إِذَا أتى ... وتُفتح أَبْوَاب الجنان لِعُبَّدِ
تُزخرفُ جَنَّاتُ النَّعِيْم وَحُورِهَا ... لأهل الرِّضا فِيه وَأهلِ التَّعَبُّدِ
(1/4)
وَقَد خَصَّه اللهُ العَظِيمُ بِلَيْلَةٍ ... عَلَى أَلفِ شَهرٍ فُضِّلت فَلْتُرصَّدِ
فَارغَم بِأَنفِ القَاطِعِ الشَّهر غَافلاً ... وَأَعظِمْ بَأَجْر المُخْلِص المُتَعَبِّد
فَقُمْ لَيْلَهُ وَاطْوِ نَهَارَكَ صَائِماً ... وَصُنْ صَوْمَهُ عَن كُلّ مُوْهٍ وَمُفْسِِدِ
اللهم أهل شهرنا علينا بالسلامة والإسلام، والأمن والإيمان، واغفر لنا كل قبيحٍ سلفَ وكان، وأعتِقنا فيه من لفحات النيران وأعنا على الخير يا كريم يا منان، واغفر لنا ولوالدينا، وجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
موعظة
عباد الله أخرج البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة»، عباد الله إن هذا الحديث على إيجازه ليحتوي على وصيةٍ ثمينة من أبلغ الوصايا وأقيمها وأجلها وأنفعها فقد اشتمل على الأمر بحفظ عُضوين عليهما مدارٌ عظيم حقيقين بتعاهدهما بالرعاية والاستقامة والرقابة والصيانة ألا وهما اللسان والفرج، ولا شك أنهما إن أطلق سراحهما في الشهوات واللذات وطرق الغي والفساد كانا أصلاً للبلاء والفتنة والشر والهلاك.
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «من وقي شر قبقبه وذبذبه ولقلقه فقد وجبت له الجنة» الحديث أخرجه منصور الديلمي من حديث أنس - رضي الله عنه - والقبقب البطن والذبذب الفرج واللقلق اللسان.
فهذه الشهوات بها يهلك أكثر الخلق وسُئل - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يُدخل النار فقال الأجوفان الفم والفرج.
فالعاقل من يُبصر مواقع الكلام ويحفظ لسانه من الفضول والهذيان ولا يتعدى بفرجه زوجته وما ملكت يمينه.
(1/5)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» إذا فهمت ذلك فاعلم أن زلات اللسان عظيمة فزلة من زلاته قد تؤدي بالإنسان إلى الهلاك والعطب ومفارقة أهله وولده وأصدقائه وجيرانه، فليحذر الإنسان مما يجري به لسانه.
قال - صلى الله عليه وسلم - لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، الحديث.
وعن سعيد بن جبير مرفوعاً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا أصبح ابن آدم أصبحت الأعضاء كلها تذكر اللسان أي تقول، اتق الله فينا فإنك إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا» وروي أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - رأى أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - وهو يمد لسانه بيده فقال له: ما تصنع يا خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال: هذا أوردني الموارد، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس شيء من الجسد إلا يشكو إلى الله اللسان على حدته».
وعن ابن مسعود أنه كان على الصفا يُلبي ويقول: يا لسان قل خيراً تغنم واسكت عن شرٍّ تسلم من قبل أن تندم، فقيل: يا أبا عبد الرحمن أهذا شيءٌ تقوله أو شيء سمعته، فقال: لا بل شيءٌ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن أكثر خطايا ابن آدم في لسانه».
وقال ابن عمر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من كف لسانه ستر الله عورته، ومن ملك غضبه وقاه الله عذابه، ومن اعتذر إلى الله قبل الله عذره».
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «إخزن لسانك إلا من خيرٍ فإنك بذلك تغلب الشيطان». وقال - صلى الله عليه وسلم - : «إذا رأيتم المؤمن صموتاً وقوراً فادنوا منه فإنه يُلقن الحكمة».
وأخرجه ابن ماجه من حديث خلاد بلفظ «إذا رأيتم الرجل قد أُعطي زهداً في الدنيا، وقلة منطق فاقتربوا منه فإنه يُلقَّى الحكمة».
(1/6)
ولا تحسبن حفظ اللسان قاصراً على الصمت في موضعه أو الكلام بل يتعدى إلى حفظه من طعام مشبوه أو حرام وإن من المعلوم أن اللسان هو الوسيلة لمضغ ما يأكله المرء وقذفه في المعدة بيت الطعام ومستقره وليصنه من الزلل والحرام فهو خير له في عاقبة أمره.
وأما حفظ الفرج فبترك التعدي على أعراض الناس وحرماتهم ووضعه في الحلال في الطرق المشروعة وكفه عن الزنا والحرام، والزنا آفة وبيلة على المجتمع الإنساني وقد بينا مضاره في الجزء الثاني والله أعلم.
إِلَى كَمْ ذَا التَّرَاخِيِ والتَّمَادِي ... وَحَادِي المَوت بِالأرَوَاحِ حَادِي
فَلَوْ كَنَّا جَمَاداً لاتَّعَظْنَا ... وَلَكِنَّا أَشَدُّ مِن الجَمَادِ
تُنَادِينا المَنِيَّةُ كُلَّ وَقْتٍ ... وَمَا نُصْغِي إِلَى قَولِ المُنَادِي
وَأَنْفَاسِ النُّفُوسِ إِلَى انتِقَاص ... وَلَكِن الذُّنُوبَ إِلَى ازدِيَادِ
إِذَا مَا الزَّرعُ قَارَنَه اصفِرار ... فَلَيْسَ دَوَاؤُهُ غَيْر الحَصَادِ
كَأَنَّكَ بِالمِشِيْبِ وَقَد تَبَدَى ... وَبِالأُخْرَى مُنَاديها يُنَادِي
وقَالوا: قَدْ قَضَىَ فاقْرَوا عَلَيْه ... سَلامِكُم إِلَى يَوْمِ التَّنَادِ
آخر:
تَجَافَ عَن الدُّنْيَا وَهَوِّن لِقَدْرِهَا ... وَوَفِّ سَبِيلَ الدِّينِ بالعُرْوَةِ الوُثْقَى
وَسَارِع بِتَقوى اللهِ سِراً وجَهرةً ... فَلا ذِمَّةً أَقْوَى هُديِتَ مِن التَّقْوَى
وَلا تَنْسَ شُكْرَ اللهِ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ ... يَمُنُّ بِها فالشُّكر مُسْتَجلبُ النُّعْمَى
فَدَع عَنْكَ مَا لاَ حَظَّ فِيْهِ لِعَاقِلٍ ... فَإنَّ طَرِيقَ الحَقِّ أُبلجُ لاَ يَخْفَى
وشُح بِأَيَّامٍ بَقِينَ قَلائِل ... وَعُمرٍ قَصِيرٍ لاَ يَدُومُ وَلاَ يبقى
أَلَم تَرَ أَنَّ العُمْرَ يَمْضي مُوَليًّا ... فَجدَّتُه تَبْلَى ومُدَّتُه تَفْنَى
نَخُوضُ وَنَلْهُو غَفْلَةً وجَهَالَةً ... وَنَنْشُرُ أَعْمَالاً وَأَعْمارُنَا تُطْوَى
(1/7)
تَواصِلُنا فِيْهِ الَحوَادِثُ بِالرَّدى ... وَتَنْتَابُنَا فِيْهِ النَّوَائِبُ بِالبَلوَى
عَجِبْتُ لِنَفْسٍٍ تُبصر الحَقَّ بيِّناً ... لَدَيها وَتَأْبَى أَنْ تُفَارِقَ مَا تَهْوَى
وَتَسْعَى لِمَا فِيْهِ عَلَيْهَا مَضَرَّةٌ ... وَقَد عَلِمْتَ أَنْ َسوَف تُجزَى بِمَا تسعى
ذُنُوبِي أَخْشَاهَا وَلَسْتُ بآيِسٍ ... ورَبِّي أَهْلِ أَنْ يُخَافَ وَأَنْ يُرْجَى
وَإِنْ كَانَ رَبِّي غَافِراً ذَنْبَ مَنْ يَشَا ... فَإِنِّي لا أَدْرِي أَأْكْرَمُ أَمْ أُخْزَى
عباد الله إذا حضرتم إلى الصلاة فأحضروا قلوبكم مع الأبدان وقوموا بين يدي الله عز وجل بخضوع وخشوع وهيبةٍ ووقار واستكانة وتعظيم ألا فراقبوا الله واعرفوا قدر من قمتم له فعظموه وهابوه فقد روى بعض أهل العلم في قول الله عز وجل: { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } قال: القنوت: الخشوع في الركوع والسجود وغض البصر وخفض الجناح من رهبة الله عز وجل.
وكان العلماء إذا قام أحدهم للصلاة هاب أن يتلفت أو يعبث بشيء من شئون الدنيا إلا ناسياً لأنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها فعليه أن يتدبر ويتفهم ما يتكلم به من قراءة وتسبيح وتكبير وتهليل والمقصود من الركوع والسجود ويستحضر القيام بين يدي الله عز وجل وأنه إن لم يكن يرى الله فإن الله يراه وكان بعض التابعين إذا قام إلى الصلاة تغير لونه وكان يقول أتدرون بين يدي من أقف ومن أُناجي من منا في قلبه مثل هذا الإجلال والهيبة والتعظيم لبديع السموات والأرض ولقد بلغنا أن من تعظيمهم لله ولأمره أن أحدهم كان إذا فاتته تكبيرة الإحرام عزوه بمصيبته - رحمة الله عليهم.
اللهم ثبت محبتك في قلوبنا وقوِّها ووفقنا لشكرك وذكرك وارزقنا التأهب والاستعداد للقائك واجعل ختام صحائفنا كلمة التوحيد واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1/8)
الفصل الأول في التوبة من المعاصي
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين، أن الذنوب حجاب عن الله، والانصراف عن كل ما يُبعد عن الله واجب، وإنما يتم ذلك بالعلم والندم والعزم، فإنه متى لم يعلم أن الذنوب أسباب البُعد عن الله لم يندم على الذنوب ولم يتوجع بسبب سلوكه طريق البعد، وإذا لم يتوجع لم يرجع، والتوبة: الرجوع عن المعصية إلى الطاعة وهي واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين ربه تعالى لا تتعلق بحق آدمي، فلها ثلاثة شروط:
الأول: الإقلاع عن المعصية التي هو متلبس بها، وعلامته مفارقة الذنب فوراً.
الثاني: الندم على فعلها، وعلامته طول الحزن على ما فات وورد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الندم توبة».
الثالث: العزم أن لا يعود إلى معصيةٍ أبداً، وعلامته التدارك لما فات وإصلاح ما يأتي، فإن كان الماضي تفريطاً في عبادة قضاها، أو مظلمة أداها، أو خطيئة لا توجب غرامة حزن إذ تعاطاها.
فإن فُقد أحد الشروط الثلاثة لم تصح توبته. وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي، فشروطها أربعة، الثلاثة الشروط المذكورة.
والرابع: أن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالاً أو نحوه رده إليه، إن كان موجوداً أو رد بدله عند تلفه من قيمةٍ أو مثلٍ، وإن كانت حد قذف ونحوه مكنه منه أو طلب عفوه، وإن كانت غيبة استحله منها إن كان عاقلاً حليماً، يغلب على الظن أنه إذا جاءه أخوه المسلم نادماً تائباً عفا عنه وسامحه، وإلا فليستغفر له؛ لما ورد عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن من كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته تقول: الله اغفر لنا وله».
وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرض أو مال فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون درهم ولا دينار، إن كان له عمل صالح أُخذ بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه فحُمل عليه».
(1/9)
وقد أمر الله سبحانه وتعالى بالتوبة، وبين ما للتائبين من الكرامة والأجر، فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } .
قال ابن القيم - رحمه الله -: والنصح في التوبة يتضمن ثلاثة أشياء:
الأول: تعميم جميع الذنوب واستغراقها بها بحيث لا تدع ذنباً إلا تناولته.
والثاني: إجماع العزم والصدق بكليته عليها بحيث لا يبقى تردد ولا تلوم ولا انتظار بل يجمع كل إرادته وعزيمته مبادراً بها.
الثالث: تخليصها من الشوائب والعلل القادحة في إخلاصها ووقوعها لمحض الخوف من خشية الله، والرغبة فيما لديه، والرهبة مما عنده، لا كمن يتوب لحفظ جاهه وحرمته ومنصبه ورياسته، أو لحفظ حاله، أو لحفظ قوته وماله، أو استدعاء حمد الناس، أو لهربٍ من ذممهم، أو لئلا يتسلط عليه السفهاء، أو لقضاء نهمته من الدنيا، أو لإفلاسه وعجزه ونحو ذلك من العلل التي تقدح في صحتها وخلوصها لله عز وجل أ.هـ.
وأخبر أنه غفار لذنوب التائبين، فقال عز شأنه: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } .
وقال تعالى: { وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ، وأخبر سبحانه أنه يحب التوابين، فقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ } .
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مائة مرة» رواه مسلم.
(1/10)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» رواه البخاري.
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرضٍ فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فآيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد آيس من راحلته فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عند فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح» الحديث رواه مسلم.
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله تعالى يبسط يده بالليل؛ ليتوب مسيئُ النهار؛ ويبسط يده بالنهار؛ ليتوب مُسئُ الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» رواه مسلم.
والأحاديث في هذا كثيرة، والإجماع مُنعقد على وجوب التوبة لأمر الله ورسوله بها؛ ولأن الذنوب مُهلكات مُبعدات عن الله؛ فيجب الهرب منها على الفور، وليحذر الإنسان كل الحذر من الذنوب الكبائر والصغائر، ووجوب التوبة من الكبائر أهم وآكد، والإصرار على الصغيرة أيضاً كبيرة، فلا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع التوبة والاستغفار.
وتواتر الصغائر عظيم التأثير في تسويد القلب وهو كتواتر قطرات الماء على الحجر، فإنه يُحدث فيه حفرة لا محالة مع لين الماء وصلابة الحجر. فعلى العاقل أن يسترصد قلبه باستمرار ويُراقب حركاته ويُسجل تصرفاته ولا يتساهل ولا يقول إنها من التوافه الصغار وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: «إياكم ومُحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل يُهلكنه».
وإلى هذا المعنى أشار الشاعر:
وَلاَ تَحْتَقِر كَيْدَ الضَّعِيفِ فَرُبَّمَا ... تَمُوْتُ الأفَاعِي مِن سُمُومِ العَقَارِب
وَقَد هَدَّ قِدَماً عَرْشَ بَلْقِيْسَ هُدْهُدٌ ... وَخرَّبَ حَفْرُ الفَأرِ سَدَّ مَأرِب
وقال الآخر:
لاَ تَحْقِرَنَّ صَغيراً فِي مُخَاصَمَة ... إِنَّ البَعُوضَة تُدمي مُقلة الأسَد
آخر:
(1/11)
لا تَحْقَرَنَّ مِن الذُّنُوب صِغَارهَا ... فالقَطْرُ مِنْهُ تَتَدَفُّقُ الخِلْجَان
آخر:
خَلِ الذُّنُوب صَغِيرَهَا ... وَكَبْيرهَا ذَاك التُقى
وَاصنَع كَمَاشٍ فَوقَ أر ... ضِِ الشَوكِِ يَحْذَرُ مَا يَرى
لاَ تَحْقِرَنَّ صَغِيرةً ... إِنَّ الجِّبَالَ مِن الحَصَى
وكما أن خير الأعمال الصالحة أدومها إن قل، وأيضاً الكبائر قلما تقع من غير سوابق ومقدماتٍ من الصغائر، فمثلا الزنا - العياذ بالله - قلما يقع فجأة بل تتقدم عليه مُراودة أو قبلةٌ أو لمس.
اللهم ارزقنا العافية في أبداننا، والعصمة في ديننا، وأحسن مُنقلبنا، ووفقنا للعمل بطاعتك أبداً ما أبقيتنا، واجمع لنا بين خيري الدنيا والآخرة، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصبحه أجمعين.
الفصل الثاني
قال ابن القيم - رحمه الله -: وللمعاصي من الآثار المُضرة بالقلب والبدن في الدنيا والآخرة ما لا يعلمه إلا الله، فمنها أنها مدد من الإنسان يمد به عدوه عليه، وجيش يقويه به على حربه، ومن عقوباتها أنها تخون العبد أحوج ما يكون إلى نفسه، ومنها أنها تجريء العبد على ما لم يكن يجتريء عليه. ومنها الطبع على القلب إذا تكاثرت حتى يصير صاحب الذنب من الغافلين، كما قال بعض السلف في قوله تعالى: { كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [المطففين: 12]. هو الذنب بعد الذنب وقال: هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب، وأصل هذا أن القلب يصدأ من المعصية فإذا زادت غلب الصدأ حتى يصير راناً ثم يغلب حتى يصير طبعاً وقفلاً وختماً فيصير القلب في غشاوة وغلاف.
ومنها إفساد العقل فإن العقل نور والمعصية تُطفيء نور العقل.
ومنها أن العبد لا يزال يرتكب الذنوب حتى تهون عليه وتصغر في قلبه.
ومنها أن ينسلخ من القلب استقباحها فتصير له عادة.
ومنها أن المعاصي تزرع أمثالها ويولد بعضها بعضاً.
(1/12)
ومنها ظلمة يجدها في قلبه يحس بها كما يحس بظلمة الليل.
ومنها أن المعاصي توهن القلب والبدن أما وهنها للقلب: فأمر ظاهر بل لا تزال توهنه حتى تزيل حياته بالكلية، وأما وهنها للبدن: فإن المؤمن قوته في قلبه وكلما قوي قلبه قوي بدنه.
ومنها أن المعاصي تمحق العمر إذ أن المعاصي كلها شرور.
ومنها شماتة الأعداء فإن المعاصي كلها أضرار في الدين والدنيا وهذا ما يفرح العدو ويُسيء الصديق.
ومنها تعسير أموره فلا يتوجه لأمر إلا يجده مغلقاً دونه أو متعسراً عليه.
ومنها الوحشة التي تحصل بينه وبين الناس ولا سيما أهل الخير.
ومنها حرمان دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودعوة الملائكة للذين تابوا.
ومنها أن الذنوب تدخل العبد تحت لعنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ومنها أنها تحدث في الأرض أنواعاً من الفساد في المياه والهواء والزرع والثمار والمساكن.
ومنها أنها تُطفيء من القلب نار الغيرة.
ومنها ذهاب الحياء الذي هو مادة حياة القلب.
ومنها أنها تضعف في القلب تعظيم الرب وتُضعف وقاره في قلب العبد.
ومنها أنها تستدعي نسيان الله لعبده وتركه.
ومنها أنها تخرج العبد من دائرة الإحسان وتمنعه ثواب المحسنين.
ومنها أنها تُضعف سير القلب إلى الله والدار الآخرة.
ومنها أنها تصرف القلب عن صحته واستقامته.
ومنها أنها تعمي بصيرة القلب وتطمس نوره وتسد طرق العلم.
ومنها أنها تصغر النفس وتحقرها وتقمعها.
ومنها أن العاصي في أسر شيطانه وسجن شهواته.
ومنها سقوط الجاه والمنزلة والكرامة عند الله وعند خلقه.
ومنها أنها توجب القطيعة بين العبد وبين ربه.
ومنها أنها تسلب صاحبها أسماء المدح والشرف.
ومنها أنها تجعل صاحبها من السفلة. انتهى.
شعراً:
أَلاَ أَيُّهَا المُستطرف الذنب جاهداً ... هو الله لا تخفى عَلَيْهِ السَّرَائِر
فإن كُنْت لم تعرفه حِيْنَ عصيته ... فإن الذي لا يعرف الله كافرُ
(1/13)
وَإِنْ كُنْت عَن عِلْمٍ وَمَعرفةٍ بِه ... عَصَيْتَ فَأَنْتَ المُسْتَهِينُ المُجَاهر
فأَيَّةَ حَالَيْكَ اعْتَقَدْتَ فَإِنَّهُ ... عَليمٌ بِِمَا تُطْوَى عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ
وآخر:
تُغَازِلُنِي المَنِيَّةُ مِن قَريِب ... وَتَلْحَظُنْي مُلاحَظَةَ الرَّقِيب
وَتَنْشُرُ لِي كِِتَاباً فِيْهِ طَيِّي ... بِخَط الدَّهْر أَسْطُرُه مَشِيِبِي
كِِتَاب فِي مَعَانيهِ غُموضٌ ... يَلُوْحُ لِكُلّ أَوابٍ مُنِيب
أَرَى الأعَصَار تَعْصُر مَاءَ عُودِي ... وَقِدْمًا كُنْتُ رَيَّانَ القَضِيب
أَدَالَ الشَّيبَ يَا صَاح شَبَابِي ... فَعُوِّضْتُ البَغيضَ من الحَبيبِ
وُبِّدْلُت التَّثَاقل من نَشَاطِي ... وَمِنْ حُسنِ النَّضَارِة بِالشُّحُوب
كَذَاك الشَّمسُ يَعْلُوهَا اصفِرَار ... إِذَا جَنْحَت وَمَالَتْ لِلغُرُوبِ
تَحَارَبْنَا جُنودٌ لا تُجاري ... وَلاَ تُلقى بِآسَادِِ الحُرُوبِ
هِي الأقَدَارُ وَالآَجَالُ تَأتِي ... فَتَنزلُ بِالمُطَببِ والطَّبِيب
تُفوق أسهُماً عَن قَوسِ غَيْبٍ ... وَمَا أَغْرَاضُها غَيْرُ القُلوب
فأَنَّى بِاحتراسٍ مِن جِنود ... مُؤَيَّدَةٍٍ تُمَدُّ مِن الغُيوب
وَمَا آسىَ عَلَى الدُّنْيَا وَلَكِنْ ... عَلَى مَا قَدْ رَكِبْتُ مِن الذُّنُوبِ
فَيَا لَهْفِي عَلَى طُولِ اغتِرَارِي ... وَيَا وَيْحِي مِن اليَوم العَصْيب
إِذَا أَنَا لَم أَنُحْ نَفْسِي وأُبكي ... عَلَى حُوْبِي بِتَهْتَانٍ سَكَوُب
فَمَنْ هَذا الذي بَعْدِي سَيَبكي ... عَلَيْهَا مِن بَعِيدٍ أَوْ قَرِيبِ؟
اللهم اسلك بنا مناهج السلامة وعافنا من موجبات الحسرة والندامة ووفقنا للاستعداد لما وعدتنا وأدم لنا إحسانك ولطفك كما عودتنا وأتمم علينا ما به أكرمتنا برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1/14)
الفصل الثالث
قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: مما ينبغي أن يعلم أن الذنوب والمعاصي تضر، ولا بد أن ضررها في القلب كضرر السموم في الأبدان على اختلاف درجاتها في الضرر، وهل في الدنيا والآخرة شر وداء؛ إلا بسبب الذنوب والمعاصي؟
إلى أن قال - رحمه الله -: فما الذي أخرج الأبوين من الجنة والنعيم واللذة والبهجة والسرور إلى دار الآلام والأحزان والمصائب؟ وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء وطرده ولعنه ومسخ ظاهره وباطنه، فجعل صورته أقبح صورة وأشنعها، وباطنه أقبح من صورته وأشنع وبدل بالقرب بُعداً وبالرحمة لعنةً وبالجمال قُبحاً وبالجنة ناراً تلظى وبالإيمان كُفراً، وبموالاة الولي الحميد عداوةً ومشاقة وبزجل التسبيح والتقديس والتهليل زجل الكفر والفسوق والعصيان، فهان على الله تعالى غاية الهوان وسقط من عينه غاية السقوط وحل عليه غضب الرب تعالى فأهواه، ومقته أكبر المقت فأرداه، فصار قواداً لكل فاسق ومجرم رَضيَ لنفسه بالقيادة بعد تلك العبادة والسيادة.
فعياذاً بك اللهم من مخالفة أمرك وارتكاب نهيك.
وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رءوس الجبال، وما الذي سلط الريح على قوم عادٍ حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض كأنهم أعجاز نخلٍ خاوية ودمرت ما مرت عليه من ديارهم وحروثهم وزروعهم ودوابهم حتى صاروا عِبرةً للأمم إلى يوم القيامة.
وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطعت قلوبهم في أجوافهم وماتوا عن آخرهم، وما الذي رفع قُرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها فأهلكهم جميعاً ثم أتبعهم حجارةً من السماء أمرها عليهم فجمع عليهم من العقوبة ما لم يجمعه على أمةٍ غيرهم، ولإخوانهم أمثالها قال تعالى: { وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } [هود: 83].
(1/15)
وما الذي أرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل فلما صار فوق رءوسهم أمطر عليهم ناراً تلظى، وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر ثم نُقلت أرواحهم إلى جهنم، فالأجساد للغرق والأرواح للحرق، وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله، وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات ودمرها تدميراً، وما الذي أهلك قوم صاحب يس بالصيحة حتى خمدوا عن آخرهم.
وما الذي بعث على بني إسرائيل قوماً أولي بأسٍ شديد فجاسوا خلال الديار وقتلوا الرجال وسبوا الذرية والنساء، وأحرقوا الديار ونهبوا الأموال، ثم بعثهم عليهم مرة ثانية فأهلكوا ما قدروا عليه وتبروا ما علوا تتبيراً، وما الذي سلط عليهم أنواع العقوبات مرة بالقتل والسبي وخراب البلاد، ومرة بجور الملوك ومرة بمسخهم قردةً وخنازير وآخر ذلك أقسم الرب تبارك وتعالى ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب.
شعر:
دَعُونِيْ عَلَى نَفْسِي أَنوحُ وَأَنْدُبُ ... بِدَمْعٍٍ غَزيْرٍٍ وَاكِفٍٍ يَتَصبَّبُ
دَعُونِيْ عَلَى نَفْسِي أنوحُ فَإِنَّنِي ... أَخَافُ عَلَى نَفْسِي الضَّعِيفَة تَعْطَبُ
وإني حقيق بالتَّضَرُّع والبكا ... إِذَا مَا هَذَا النوام والليل غيهب
وجالت دواعي الحُزن من كُلّ جانب ... وغارت نجوم الليل وانقض كوكب
كَفَى أن عيني بالدموع بخيلة ... وأني بآفات الذُّنُوب مُعذب
فَمَنْ لي إِذَا نادى المنادي بمن عصى ... إِلَى أَيْنَ إلجائي إِلَى أَيْنَ أهرب
وَقَد ظهرت تِلكَ الفضائح كُلّهَا ... وَقَد قُرِّبَ المِيزَانُ والنَّارُ تَلْهَبُ
فَيَا طُولَ حُزْنِي ثُمَّ يَا طُولَ حَسْرِتِي ... لَئنْ كُنْتُ فِي قَعْرِ الجَّحِيْمِ أعَذَّبُ
فَقَد فَازَ بالمُلْكِ العَظيمِ عِصَابةٌ ... تَبِيتُ قياماً فِي دُجَى الليلِ تَرْهَبُ
إِذَا أشْرَفَ الجَبَّارُ مِن فَوْقِ عَرْشِه ... وَقَد زُيِنَتْ حُورُ الجِنَانِ الكَوَاعِب
فَنَادَاهُمُ أهلاً وَسَهلاً وَمَرْحَبًا ... أَبَحْتُ لَكُمْ دارِي وَمَا شِئْتُمُ اطْلُبُوا
(1/16)
قال العلماء وتعظم الصغيرة بأسباب منها: أن يستصغرها الإنسان ويستهين بها فلا يغتم بسببها ولا يُبالي، ولكن المؤمن المُجل لله المُعظم له هو المستعظم لذنبه وإن صغر فإن الذنب كلما استعظمه العبد صغر عند الله تعالى وكلما استصغره كبر عند الله تعالى فإن استعظامه يكون عن نفور القلب منه وكراهيته له.
قال ابن مسعود: إن المؤمن يرى ذنبه كأنه في أصل جبل يخاف أن يقع عليه وإن الفاجر يرى ذنبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا، أخرجاه في الصحيحين، وفي البخاري من حديث أنس - رضي الله عنه - : «إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا لنعدها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الموبقات».
وقال بلال بن سعد - رضي الله عنه - : لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى عظمة من عصيت، ومنها: السرور بها والتبجح بسببها، واعتقاد التمكن منها نعمة حتى إن المذنب المجاهر بالمعاصي ليفتخر بها فيقول: ما رأيتني كيف شتمته وكيف مزقت عرضه وكيف خدعته في المعاملة.
ومنها: أن يتهاون بستر الله عليه.
ومنها: أن يُجاهر بالذنب ويُظهره ويذكره بعد فعله، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : «كل أمتى مُعافى إلا المجاهرون». ومنها: أن تصدر الصغيرة عن عالم يُقتدى به فذلك عظيم؛ لأنه يتبعه عليها خلق كثير، ويبقى أثرها بعده.
أَسيرُ الخَطَايَا عِنْدَ بابك واقف ... له عَن طريق الحَقِّ قَلبٌ مخالف
قديماً عصى عمداً وجهلاً وَغَِِّرةً ... وَلَمْ يَنْهَهُ قَلْبٌ مِنَ اللهِ خَائِفُ
تَزِيدُ سِنْوه ُوَهْوَ يَزْدَادُ ضِلةً ... َ ... فَهَا هُوَ فِي لَيْلِ الضَّلالَةِِ عَاكِفُ
تَطَلَّعَ صُبْحُ الشَّيْبَ والقَلبُ مُظْلِمٌ ... فَمَا طَافَ فِيْهِ مِن سَنَا الحَقّ طَائِفُ
ثَلاثونَ عَاماً قَدْ تَوَلَّتْ كَأنَّهَا ... حُلُومُ مَنَامٍ أو بُرُوُقٌ خَوَاطِفُ
وَجَاءَ المْشَيِبُ المُنذرُ المَرءَ أّنَّهُ ... إِذَا ارْتَحَلَتْ عَنْهُ الشَّبِيبَةْ تَالفُ
(1/17)
أيُّهَا المغرورُ قَدْ أَدْبَرَ الصِّبَا ... وَنَادَاكَ مِن سِنْ الكُهُولَةِِ هَاتِفُ
فَهَل أَرَّقَ الطَّرفَ الزَّمَانُ الذي مَضَى ... وَأَبْكَاهُ ذَنْبٌ قَدْ تَقَدَّمَ سَالِفُ
فَجُدْ بالدُّمُوعِ الحُمرِ حُزناً وَحَسْرَةٍ ... فَدَمْعُكَ يُنْبي أَنَّ قَلْبَكَ آسِفُُ
اللهم كما صُنت وجوهنا عن السجود لغيرك فصن وجوهنا عن المسألة لغيرك. اللهم من كان على هوى وهو يظن أنه على الحق فرُدُه إلى الحق حتى لا يضل من هذه الأمة أحد. اللهم لا تشغل قلوبنا بما تكفلت لنا به ولا تجعلنا في رزقك خولاً لغيرك ولا تمنعنا خير ما عندك بشر ما عندنا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
الفصل الرابع
واعلم أن التوبة إذا صحت بأن اجتمعت شروطها وانتفت موانعها قبلت بلا شك إذا وقعت قبل نزول الموت، لو كانت عن أي ذنب كان، وقبل طلوع الشمس من مغربها كما قال تعالى: { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا } [الأنعام: 158].
وأخرج الإمام أحمد والترمذي عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يُغرغر» أي: ما لم تبلغ روحه حلقومه فيكون بمنزلة الشيء الذي يتغرغر به المريض، والغرغرة أن يُجعل المشروب في الفم ويُردد إلى أصل الحلق ولا يُبلع، فهذه الحالة حالة حضور الموت وبعد حضور الموت لا يُقبل من العاصين توبة، ولا من الكافرين رجوع، كما قال تعالى عن فرعون: { حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ } [يونس: 90].
(1/18)
ومن المعوقات الضارة التسويف بالتوبة فمن أين يعلم الإنسان أنه يبقى إلى أن يتوب فتارك المبادرة بالتوبة بين خطرين عظيمين أحدهما أن تتراكم الظلمة على قلبه من المعاصي حتى تصير رَيْناً وطبعاً وثانيهما أن يُعاجله المرض فلا يجد مهلة للاشتغال بمحو ما وقع من الظلمة في القلب فيأتي ربه بقلبٍ غير سليم ولا ينجو إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.
ويجب على الإنسان أن لا يمتنع من التوبة خشية الوقوع في ذنب مرة أخرى فإن هذا ظن يدخله الشيطان في قلبه ليؤخر التوبة ولربما يقول في نفسه سأستمر في المعاصي أيام شبابي وصحتي ثم أتوب بعد ذلك، وهذا يُسوف ويؤخر، وإذا بالموت أو المرض يُفاجئه فلا يجد مُتسعاً للتوبة والرجوع إلى الله - نعوذ بالله من سوء الخاتمة - ولذلك كان السلف الصالح تكاد تنخلع قلوبهم في كل مرضة يمرضونها؛ لاحتمال أن تكون تلك المرضة إخراجاً لهم من الدنيا قبل أن يتمكنوا من تدارك ما فات من الهفوات بالتوبة النصوح وللاستكثار من الباقيات الصالحات، ومرض مرة أحد الصالحين فدخل عليه أصحابه يعودونه فقالوا له كيف نجدك؟ قال: موقراً بالذنوب فقالوا: هل تشتهي شيئاً؟ قال: نعم! أن يَمُن عليَّ ربي بالتوبة عن كل ما يُكره قبل موتي.
وقد قال العلماء ما مثال المُسوف بالتوبة إلا مثال من احتاج إلى قلع شجرة فرآها قوية لا تنقلع إلا بمشقةٍ شديدةٍ فقال: أؤخرها سنة ثم أعود إليها وهو يعلم أن الشجرة كلما بقيت ازدادت قوة لرسوخها وكلما طال عمره ازداد ضعفه فلا حماقة في الدنيا أعظم من حماقته إذ عجز مع قوته عن مقاومة ضعيف فأخذ ينتظر الغلبة عليه إذا ضعف هو في نفسه وقوي الضعيف.
(1/19)
قال ابن القيم - رحمه الله -: إذا أراد الله بعبده خيراً فتح له أبواب التوبة والندم والانكسار والذل والافتقار والاستعانة به وصدق اللجأ إليه ودوام التضرع والدعاء والتقرب إليه بما أمكن من الحسنات ما تكون تلك السيئة به سبب رحمته حتى يقول عدو الله: يا ليتني تركته ولم أوقعه وهذا معنى قول بعض السلف إن العبد ليعمل الذنب يدخل به الجنة ويعمل الحسنة يدخل بها النار، قالوا: كيف؟ قال: يعمل الذنب فلا يزال نُصب عينيه خائفاً منه مُشفقاً وجلاً باكياً نادما مُستحياً من ربه تعالى ناكس الرأس بين يديه مُنكسر القلب له فيكون ذلك الذنب أنفع له من طاعات كثيرة بما ترتب عليه من هذه الأمور التي بها سعادة العبد وفلاحه حتى يكون ذلك الذنب سبب دخول الجنة.
ويفعل الحسنة فلا يزال يمن بها على ربه ويتكبر بها ويرى نفسه شيئاً ويُعجب بها ويستطيل بها ويقول فعلت وفعلت، فيورثه من العجب والكبر والفخر والاستطالة ما يكون سبب هلاكه.
فإذا أراد الله تعالى بهذا المسكين خيراً ابتلاه بأمرٍ يكسره به ويُذل به عنقه ويُصغر به نفسه عنده، وإذا أراد به غير ذلك خلاه وعجبه وكبره وهذا هو الخذلان الموجب لهلاكه فإن العارفين كلهم مُجمعون على أن التوفيق هو أن لا يكلك الله تعالى إلى نفسك، والذل أن يكلك الله إلى نفسك. انتهى.
يَا مَن يُغيثُ الوَرَى مِن بَعْدِ مَا قنطوا ... ارْحَمْ عِباداً أَكُفَّ الفَقْرِ قَدْ بَسَطُوا
عَوَّدْتَهُم بَسْطَ أَرْزَاقٍ بِلا سَبَبٍ ... سِوَى جَمِيلِ رَجَاءٍ نَحْوَهُ انْبَسَطُوا
وَعَدْتَ بالفَضلِ فِي وِرْدٍٍ وَفِي صَدَرٍ ... بالجُودِ إنْ أقْسَطُوا والحِلْمِ إن ْقَسَطُوا
عَوارِفَ ارْتَبَطتْ شُمُّ الأُنُوفِ بِهَا ... وَكُل صَعْبٍٍ بِقَيْدِ الُجْوِد يَرْتَبِطُ
يَا مَنْ تَعَرّفَ بالمَعروفِ فَاعتَرَفَتْ ... بِجَمِّ إنْعَامِه الأطرافُ والوَسَطُ
وَعَالِماً بِخَفِيَّاتِ الأُمُورِ فَلا ... وَهْمٌ يَجُوزُ عَلَيْهِ لاَ وَلاَ غَلَطُ
(1/20)
عبدٌ فقيرٌ بباب الجود مُنكسراً ... من شَأنِهِ أنْ يُوافي حِيْنَ ينضغطُ
مَهما أتى ليمدَّ الكف أخجله ... قَبَائحُ وَخَطَايَا أمْرُها فَرَط
يَا وَاسعاً ضَاقَ خَطْوُ الخَلْقِ عَن نِعَمٍ ... مِنْهُ إِذَا خَطَبُوا فِي شكرِها خَبَطُوا
وَنَاشراً بيد الإجمال رحمته ... فلَيْسَ يلحق منه مُسرفاً قنطُ
ارْحَمْ عِباداً بضَنْكِ العَيشِ مَالَهُمُ ... غَير الدُجنةِ لُحفٌ والثَّرى بُسُطُ
لَكِنهم من ذُرى عَلياكَ فِي نمطٍ ... سَامٍ رفيع الذُرى مَا فوقه نمطُ
ومن يكن بالذي يَهواه مُجتمعاً ... فَمَا يُبالي أقام الحي أَمْ شَحَطوا
نحن العبيد وَأَنْتَ الملك لَيْسَ سوى ... وكل شيءٍ يُرجى بعد ذا شطط
موعظة
فيا أيها المهملون الغافلون تيقظوا فإليكم يوجه الخطاب ويا أيها النائمون انتبهوا قبل أن تُناخ للرحيل الركاب، قبل هجوم هادم اللذات ومفرق الجماعات ومُذل الرقاب ومُشتت الأحباب، فيا له من زائر لا يعوقه عائق ولا يُضرب دونه حجاب، ويا له من نازل لا يستأذن على الملوك ولا يلح من الأبواب، ولا يرحم صغيراً ولا يوقر كبيراً ولا يخاف عظيماً ولا يهاب، ألا وإن بعده ما هو أعظم منه من السؤال والجواب، ووراءه هول البعث والحشر وأحواله الصعاب من طول المقام والازدحام في الأجسام والميزان والصراط والحساب، اللهم أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأكنته سرائرنا واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الفصل الخامس
وقال رحمه الله:
(1/21)
اعلم أن صاحب البصيرة إذا صدرت منه الخطئية فله نظر إلى أمور: أحدها: أن ينظر إلى أمر الله ونهيه فيُحدث له ذلك الاعتراف بكونها خطيئة، والإقرار على نفسه بالذنب، والثاني: أن ينظر إلى الوعد والوعيد فيُحدث له ذلك خوفاً وخشية تحمله على التوبة، والثالث: أن ينظر إلى تمكين الله له منها وتخليته بينه وبينها وتقديرها عليه وأنه لو شاء لعصمه منها فيحدث له ذلك أنواعاً من المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وحكمته ورحمته وعفوه وحلمه وكرمه وتوجب له هذه المعرفة عبودية بهذه الأسماء لا تحصل بدون لوازمها البتة ويعلم ارتباط الخلق والأمر والجزاء والوعد والوعيد بأسمائه وصفاته وأن ذلك بموجب الأسماء والصفات وأثرها في الوجود وأن كل اسم وصفة مُقتضٍ لأثره وموجبه مُتعلقٌ به لا بد منه.
وهذا المشهد يُطلعه على رياض مونقة من المعارف والإيمان وأسرار القدر والحكمة يضيق عن التعبير عنها نطاق الكلم فمن بعضها ما ذكره الشيخ "يُريد صاحب المنازل": أن يعرف العبد عزته في قضائه وهو أنه سبحانه العزيز الذي يقضي بما يشاء وأنه لكمال عزته حكم على العبد وقضى عليه بأن قلب قلبه وصرف إرادته على ما يشاء وحال بين العبد وقلبه وجعله مُريداً شائياً لما شاء منه العزيز الحكيم وهذا من كما العزة، إذ لا يقدر على ذلك إلا الله وغاية المخلوق أن يتصرف في بدنك وظاهرك، وأما جعلك مُريداً شائياً لما يشاؤه منك ويُريده فلا يقدر عليه إلا ذو العزة الباهرة ...
فإذا عرف العبد عز سيده ولاحظ بقلبه وتمكن شهوده منه كان الاشتغال به عن ذل المعصية أولى به وأنفع له لأنه يصير مع الله لا مع نفسه، ومن معرفة عزته في قضائه أن يعرف أنه مدبر مقهور ناصيته بيد غيره لا عصمة له إلا بعصمته ولا توفيق له إلا بمعونته فهو ذليل حقير في قبضة عزيز حميد.
(1/22)
ومن شهود عزته في قضائه أن يشهد أن الكمال والحمد والِغنى التام والعزة كلها لله وأن العبد نفسه أولى بالتقصير والذم والعيب والظلم والحاجة وكلما ازداد شهوده لذله ونقصه وعيبه وفقره ازداد شهوده لعزة الله وكماله وحمده وغناه وكذلك بالعكس فنقص الذنب وذلته يُطلعه على مشهد العزة.
ومنها أن العبد لا يريد معصية مولاه من حيث هي معصية فإذا شهد جريان الحكم وجعله فاعلاً لما هو مختار له مريداً بإرادته ومشيئته واختياره فكأنه مُختارٌ غير مختارٍ مُريد شاءٍ غير شاءٍ فهذا يشهد عزة الله وعظمته وكمال قدرته.
ومن ذلك أن يعرف بره سبحانه في ستره عليه حال ارتكاب المعصية مع كمال رؤيته له ولو شاء لفضحه بين خلقه فحذروه وهذا من كمال بره ومن أسمائه البر، وهذا البر من سيده كان عن كمال غناه وكمال فقر العبد إليه فيشتغل بمطالعة هذه المنة ومشاهدة هذا البر والإحسان والكرم فيذهل عن ذكر الخطيئة فيبقى مع الله سبحانه وذلك أنفع له من الاشتغال بجنايته وشهود ذل المعصية فإن الاشتغال بالله والغفلة عما سواه هو المطلب الأعلى والمقصد الأسنى.
ومنها شهود حلم الله سبحانه وتعالى في إمهال راكب الخطيئة مُطلقاً ولو شاء لعاجله بالعقوبة ولكنه الحليم الذي لا يعجل فيُحدث له ذلك معرفة ربه سبحانه باسمه الحليم ومشاهدة صفة الحلم والتعبد بهذا الاسم، والحكمة والمصلحة الحاصلة من ذلك بتوسط الذنب أحب إلى الله وأصلح للعبد وأنفع من فوتها، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع ومنها معرفة العبد كرم ربه في قبول العذر منه إذا اعتذر إليه بنحو ما تقدم من الاعتذار لا بالقدر فإنه مخاصمته ومحاجة.
ومنها أن يشهد فضله في مغفرته فإن المغفرة فضل من الله وإلا فلو أخذ بمحض حقه كان عادلاً محموداً.
(1/23)
وإنما عفوه بفضله لا باستحقاقك فيوجب ذلك شكراً له ومحبة وإنابة إليه وفرحاً وابتهاجاً به ومعرفة له باسمه الغفار ومشاهدة لهذه الصفة وتعبداً بمقتضاها وذلك أكمل في العبودية والمحبة والمعرفة.
ومنها أن يُكمل لعبده مرتبة الذل والخضوع والانكسار بين يديه والافتقار إليه.
ومنها أن أسماء الرب تقتضي آثارها اقتضاء الأسباب التامة لمسبباتها فاسم السميع البصير يقتضي مسموعاً ومبصراً، واسم الرزاق يقتضي مرزوقاً واسم الرحيم يقتضي مرحوماً وكذلك أسماء "الغفور والعفو والتواب والحليم" يقتضي من يغفر له ويتوب عليه ويعفو ويحلم ويستحيل تعطيل هذه الأسماء والصفات إذ هي أسماء حُسنى وصفات كمال ونعوت جلال وأفعال حكمة وإحسان وجُودٍ فلا بد من ظهور آثارها في العالم.
وإلى هذا أشار أعلم الخلق بالله صلوات الله وسلامه عليه حيث يقول: « لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ يُذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم » وأنت إذا فرضت الحيوان بجملته معدوماً فمن يرزق الرزاق سبحانه وإذا فرضت المعصية والخطيئة منتفية عن العالم فلمن يغفر؟ وعمن يعفو؟ وعلى من يتوب ويحلم؟ وإذا فرضت الفاقات كلها قد سدت والعبيد أغنياء مُعافين فأين السؤال والتضرع والابتهال والإجابة وشهود المنة والتخصيص بالإنعام والإكرام فسبحان من تعرف إلى خلقه بجميع أنواع التعرفات ودلهم عليه بأنواع الدلالات. انتهى.
شعراً:
حَتَّى مَتَى تُسقى النُّفُوس بِكَأسِها ... رَيبَ المَنُون وَأَنْتَ لاهٍ تَلْعَبُ
عَجَباً لأِمْنِك والحَيَاةُ قَصِيرةٌ ... وَبفَقَد إِلْفٍ لاَ تَزَالُ تُرَوَّعُ
أفَقَد رَضِيْتَ بأنْ تُُعلَل بِالُمَنى ... وَإِلَى الْمْنَّيةِ كُلَّ يَومٍٍ تُدفَعُ
لا تَخْدَعَنَّكَ بَعْدَ طُولِ تَجَارِبٍ ... دُنْيَا تَغُرُّ بِوصْلِهَا وَسَتُقطَعُ
أَحْلامُ نَوْمٍٍ أَوْ كَظِلٍٍ زَايلٍ ... إن اللبيبَ بِمثْلِها لاَ يُخدَعُ
(1/24)
وَتَزَوَّدَنَّ لِيَومٍِ فَقْرِكَ دَائِماً ... ألِغَيرِ نَفْسِكَ لاَ أَبَالَكَ تَجْمَعُ
اللهم أحينا في الدنيا مؤمنين طائعين وتوفنا مسلمين تائبين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.
الفصل السادس
وقال - رحمه الله - للتوبة المقبولة علامات:
منها أن يكون بعد التوبة خيراً مما قبلها ومنها أنه لا يزال الخوف مُصاحباً له لا يأمن مكر الله طرفة عين فخوفه مستمر إلى أن يسمع قول الرسل لقبض روحه: { أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } [فصلت: 30]، فهنا يزول الخوف.
ومنها انخلاع القلب وتقطعه ندماً وخوفاً وهذا على قدر عظم الجناية وصغرها، وهذا تأويل ابن عُيينة لقوله تعالى: { لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ } [التوبة: 110]. قال: تقطعها بالتوبة. ولا ريب أن الخوف الشديد من العقوبة العظيمة يوجب انصداع القلب وانخلاعه.
وهذا هو تقطعه وهذا حقيقة التوبة لأنه ينقطع قلبه حسرةً على ما فرط منه وخوفاً من سوء عاقبته فمن لم ينقطع قلبه في الدنيا على ما فرط حسرةً وخوفاً تقطع في الآخرة إذا حقت الحقائق وعاين ثواب المطيعين وعقاب العاصين فلا بد من تقطع القلب إما في الدنيا وإما في الآخرة.
(1/25)
ومن موجبات التوبة الصحيحة أيضاً كسرةٌ خاصة تحصل للقلب لا يشبهها شيء، ولا تكون لغير المذنب لا تحصل بجوع ولا رياضة ولا حب مجرد وإنما هي أمر، وراء هذا كله، تُكسر القلب بين يدي الرب كسرة تامة قد أحاطت به من جميع جهاته وألقته بين يدي ربه طريحاً ذليلاً خاشعاً كحال عبدٍ جانٍ أبق من سيده فأخذ فأحضر بين يديه ولم يجد من يُنجيه من سطوته ولم يجد منه بُداً ولا عنه غناءً ولا منه مهرباً وعلم أن حياته وسعادته وفلاحه ونجاحه في رضاه عنه، وقد علم إحاطة سيده بتفاصيل جناياته، هذا مع حبه لسيده وشدة حاجته إليه وعلمه بضعفه وعجزه وذله وقوة سيده وعزته. فيجتمع في هذه الأحوال كسرة وذل وخضوع ما أنفعها للعبد وما أجدى عائدتها عليه وما أعظم جبره بها وما أقربه بها من سيده فليس شيء أحب إلى سيده من هذه الكسرة والخضوع والتذلل والإخبات والانطراح بين يديه والاستسلام له.
فلله ما أحلى قوله في هذه الحال أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني، أسألك بقوتك وضعفي، وبغناك عني وفقري إليك هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك، عبيدك سواي كثير وليس لي سيدٌ سواك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، وأدعوك دُعاء الخائف الضرير، سؤال من خضعت لك رقبته، ورغم لك أنفه، وفاضت لك عيناه، وذل لك قلبه.
فهذا وأمثاله من آثار التوبة المقبولة فمن لم يجد ذلك في قلبه فليتهم توبته وليرجع إلى تصحيحها فما أصعب التوبة الصحيحة بالحقيقة وما أسهلها باللسان والدعوى، وما عالج الصادق بشيء أشد عليه من التوبة الخالصة الصادقة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(1/26)
وحقائق التوبة ثلاثة: وعد منها اتهام التوبة قال: لأنها حق عليه لا يتيقن أنه أدى هذا الحق على الوجه المطلوب منه الذي ينبغي له أن يؤديه عليه، فيخاف أنه ما وفاها حقها وأنها لم تقبل منه وأنه لم يبذل جهده في صحتها، وأنها توبة علة وهو لا يشعر بها كتوبةِ أرباب الحوائج والإفلاس والمحافظين على حاجاتهم ومنازلهم بين الناس.
أو أنه تاب محافظةً على حاله فتاب للحال لا خوفاً من ذي الجلال، أو أنه تاب طلباً للراحة من الكد في تحصيل الذنب أو اتقاء ما يخافه على عرضه وماله ومنصبه أو لضعف داعي المعصية في قلبه وخمود نار شهوته أو لمنافاة المعصية لما يطلبه من العلم والرزق ونحو ذلك من العلل التي تقدح في كون التوبة خوفاً من الله وتعظيماً له ولحرماته وإجلالاً له وخشيةً من سقوط المنزلة عنده وعن البُعد والطرد عنه والحجاب عن رؤية وجهه في الدار الآخرة فهذه التوبة لون وتوبة أصحاب العلل لون قال:
ومن اتهام التوبة ضعف العزيمة والتفات القلب إلى الذنب الفينة بعد الفينة وتذكر حلاوة مواقعته. ومن اتهام التوبة طُمأنينته ووثوقه من نفسه بأنه قد تاب حتى كأنه قد أُعطي منشوراً بالأمان فهذه من علامات التهمة.
ومن علاماتها جمود العين واستمرار الغفلة وأن لا يستحدث بعد التوبة أعمالاً صالحة لم تكن له قبل الخطيئة.
موعظة
(1/27)
كتب عليٌّ بن أبي طالب رضي الله عنه إلى ولده الحسين من عبد الله عليٍ أمير المؤمنين الوالد الفاني الذام للدنيا الساكن مساكن الموتى، إلى الولد المؤمل ما لا يُدرك السالك سبيل من قد هلك، عُرضةُ الأسقام ورهينة الأيام وأسير المنايا وقرين الرزايا وصريع الشهوات ونُصُبَ الآفات وخليفةُ الأموات. يا بُنيَّ إن بقيت أو فنيت فإني أوصيك بتقوى الله عز وجل وعمارة قلبك بذكره والاعتصام بحبله فإن الله يقول: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } الآية وأي سبب يا بُني أوثق من سبب بينك وبين الله عز وجل أحيِ قلبك بالموعظة ونوره بالحكمة وقوه بالزهد وذلله بالموت وقرره بالفناء وحذره صولة الدهر وتقلب الليالي واعرض عليه أخبار الماضين وسر في ديارهم وآثارهم فانظر ما فعلوا وأين حَلُّوا فإنك تجدهم قد انتقلوا من دار الغرور ونزلوا دار الغربة وكأنك عن قليلٍ يا بُني قد صرت كأحدهم فبع دنياك بآخرتك ولا تبع آخرتك بدنياك ودع القول فيما لا تعرف والأمر فيما لا تُكلف ومر بالمعروف بيدك ولسانك وكن من أهله وأنكر المنكر بيدك ولسانك وباين من فعله وخض الغمرات إلى الحق ولا تأخذك في الله لومة لائم واحفظ وصيتي فلا خير في علم لا ينفع واعلم أنه لا غنى بك عن حُسن الارتياد مع بلاغك من الزاد فإن أصبت من أهل الفاقة من يحتمل عنك زادك فيوافيك به في معادك فاغتنمه فإن أمامك عقبة كؤوداً لا يجاوزها إلا أخف الناس حملاً وأجمل في الطلب وأحسن في المكسب فرُب طلبٍ قد جر إلى حربٍ وإنما المحروب من حُربَ دينه والمسلوب من سُلبَ يقينه واعلم أنه لا غنى يعدل الجنة ولا فقر يعدل النار والسلام عليك ورحمة الله.
قال الناظم - رحمه الله -:
وَكُنْ بَيْنَ خَوفٍ والرَّجَا عَاملاً لِما ... تَخَافَ وَلاَ تَقْنطْ وُثُوقاً بِمَوْعِد
(1/28)
تَذَكَّرْ ذُنوباً قَدْ مَضَيْنَ وَتُبْ لَهَا ... وَتُبْ مُطْلقاً مَعْ فَقَد عِلْمِ التَّعَمُّدِ
وَبَادِر مَتَاباً قَبْلَ يُغلَقُ بابَه ... وتُطوَى عَلَى الأعَمالِ صُحْفُ التَّزَوُّدِ
فَحِيْنَئِذٍٍ لاَ يَنْفَعُ المَرْءَ تَوْبَةٌ ... إِذَا عَايَنَ الأمْلاكَ أَو غَرْغَرَ الصَّدَى
وَلاَ تَجْعَل الآمَالَ حِصناً فَإنَّهَا ... سَرَابٌ يَغُرُّ الغافلَ الجاهلَ الصَّدِي
فَبَيْنَا هُوْ مُغْتَراً يُفاجئُُه الرَّدَى ... فيُصبح ندماناً يَعَضُّ عَلَى اليَد
وَتَوْبَةُ حَقَ اللهِ يَسْتَغْفِرُ الفَتَى ... وَيَندمُ يَنوي لا يَعودُ إِلَى الرَّدَي
وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُوجِبُ الحدَّ ظَاهِراً ... فَسَتْرُكَ أَوْلَى مِن مُقِرٍٍ ليُحدَدِ
وَإِنْ تَابَ مِن غَصْبٍٍ فيُشرَطُ رَدُهُ ... وَمَعَ عَجْزَهِ يَنْوِي مَتَى وَاتَ يَرْدُدِ
وَمِنْ حَدِّ قَذْفٍ أَوْ قَصَاصٍ مَتَابُهُ ... بِتَمْكِيْنِه مِن نَفْسِه مَعَ مَا ابتثدي
وَتَحْلِيْلُ مَظْلُوم مَتَابٌ لِنَادِمٍ ... تَدَارُكُ عُدوانِ اللسَانِ أو اليَد
اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا، وامنن علينا يا مولانا بتوبةٍ تمحو بها عنا كل ذنبٍ واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.
موعظة
(1/29)
قال ابن الجوزي - رحمه الله -: الحذر الحذر من المعاصي فإنها سيئة العواقب، والحذر الحذر من الذنوب خصوصاً ذنوب الخلوات، فإن المبارزة لله تعالى تُسقط العبد من عينه سُبحانه ولا ينال لذة المعاصي إلا دائم الغفلة، فأما المؤمن اليقظان فإنه لا يلتذ بها، لأنه عند التذاذه يقف بإزائه علمه بتحريمها وحذره من عقوبتها، فإن قويت معرفته رأى بعين علمه قرب الناهي وهو الله فيتنغص عيشه في حال التذاذه فإن غلبه سُكر الهوى كان القلب مُتنغصاً بهذه المراقبات وإن كان الطبع في شهوته فما هي إلا لحظة ثم خزيٌ دائمٌ وندم ملازمٌ وبكاءٌ متواصل وأسف على ما كان مع طول الزمان حتى إنه لو تيقن العفو وقف بإزائه حذار العتاب فأفٍ للذنوب ما أقبح آثارها وأسوء أخبارها. انتهى.
اللهم نور قلوبنا بنور الإيمان وثبتها على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة واجعلنا هُداة مهتدين وتوفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الفصل السابع
فيما ينبغي التنبيه عليه والتحذير من ارتكابه.
قال ابن الجوزي - رحمه الله -: المسلمون المُغترون طبقات:
الطبقة الأولى (طبقة العلماء): وهم قومٌ أحكموا العلم وتركوا العمل به ظناً منهم أنهم قد حفظوا الشريعة فلهم عند الله قدر، ولو حققوا النظر، لعلموا أن العلم لا يُرادُ إلا للعمل وكأنهم يزيدون من الحُجة عليهم ومنهم قومٌ أحكموا العلم والعمل إلا أنهم لم يُصلحوا الصفات الباطنة المذمومة من الكبر والحسد والرياء ولم يدروا أن هذه شُعَل تعمل في بيت القلب فتحرق بواطن المعرفة.
(1/30)
قلت وهؤلاء كمريض ظهر به جروح أصلها في الباطن فأمر الطبيب من به ذلك أن يغسل الظاهر بدواء وأمره بشرب دواء آخر لما نشأ عنه الظاهر فاستعمل ما للظاهر وترك ما للباطن فأزال مؤقتاً ما بظاهره وأما ما في باطنه فعلى حاله، فلو شرب ما للباطن من الدواء بريء الظاهر إذا أراد الله واستراح ظاهره وباطنه فكذلك الذنوب والمعاصي إذا اختفت في القلب ظهر أثرها على جوارح الإنسان.
ومن العلماء قوم سلموا من هذه الآفات، لكنهم في خدمة الهوى من حيث لا يعلمون فهم يُصنفون ويتكلمون ومرادهم ذكرهم بذلك ومدحهم وكثرة اتباعِهِم وهذه الآفة من خبايا النفوس لا يفطن لها إلا الأكياس من الناس.
الطبقة الثانية (طبقة العُبَّاد): فمنهم من حققوا التعبد إلا أنه يرى نفسه فهو مغرور بذلك ومنهم من ترك كثيراً من الفرائض شُغلاً بالنوافل فمنهم من يُدركه الوسواس في نية الصلاة ثم يترك قلبه في باقيها يُسرح في الغفلات، ومنهم من يُكثر التلاوة ولا يعمل بما يتلو، ومنهم من يصوم ولا يتحفظ من غيبته، ومنهم من يخرج إلى الحج ولا يخرج من المظالم، ولا ينظر في نفقته، ومنهم من يجاور بمكة وينسى الحُرمة ومنهم من يأمر بالمعروف وينسى نفسه.
ومنهم من يزهد في المال وهو راغب في الرياسة بالزهد. ومنهم من يتخلق بأخلاق الفقراء في صور ثيابهم ومرقعاتهم ويترك أخلاقهم الباطنة، فيشبعُ من الشهوات، وينام الليل ولا يعرف واجبات الشرع، قلت وهؤلاء غرورهم عظيم كما قال بعض العلماء، لأنهم يظنون أنهم يُحبون في الله ورسوله وما قدروا على تحقيق دقائق الإخلاص إلا وهم مخلصون، ولا وقفوا على خبايا النفس إلا وهم مُنزهون، وهم أحب في الدنيا من كل أحد ويظهرون الزهد في الدنيا لشدة حرصهم عليها وقوة رغبتهم فيها.
(1/31)
يحثون على الإخلاص وهم غير مخلصين ويُظهرون الدعاء إلى الله وهم منه فارون ويخوفون بالله وهم منه آمنون. ويُذكرون بالله وهم له ناسون، ويحثون على التمسك بالسنة بالدقيق والجليل وهم لها نابذون ويذمون الصفات المذمومة وهم بها مُتصفون، وكأنه لم يطرق أسماعهم قوله تعالى: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ } [البقرة: 44].
وقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } [الصف: 2-3]. وقوله تعالى حكايةً عما قال شُعيب: { وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } [هود: 88]. وورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه جاءه رجل فقال: إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر. قال أبلغت ذلك؟ قال: أرجو. قال: إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله فافعل يشير ابن عباس رضي الله عنهما إلى الآيات المتقدمة.
الطبقة الثالثة: "أرباب الأموال" فمنهم قومٌ يحرصون على بناء المساجد والمدارس ويكتبون أسماءهم عليها لتخليد ذكرهم ومن أراد وجه الله لم يُبال بذكر الخلق وهؤلاء قال بعض العلماء: إنهم اغتروا من وجهين: أحدهما أنهم اكتسبوها من الظلم والشبهات والرشاء والجهات المحظورة فهؤلاء تعرضوا لسخط الله في كسبها فإذا عصوا الله في كسبها فالواجب عليهم التوبة ورد الأموال إلى أربابها إن كانوا أحياء وإلى ورثتهم إن كانوا أمواتاً، وإن لم يبق لهم ورثة فالواجب عليهم أن يصرفوها في أهم المصالح وربما يكون الأهم تفرقتها على المساكين.
والوجه الثاني: أنهم يظنون بأنفسهم الإخلاص وقصد الخير في الإنفاق وعلو الأبنية. ولو كلف واحد منهم أن يُنفق ديناراً على مسكين لم تسمح نفسه بذلك، لأن حب المدح والثناء مُستكن في باطنه.
(1/32)
ومنهم قوم يتصدقون ولكن في المحافل ويعطون من عادته الشكر وإفشاء المعروف.
ومنهم من يُكثر الحج وربما ترك جيرانه جياعاً.
ومنهم قوم يجمعون المال ويبخلون بإخراجه، ثم يشتغلون بالعبادات البدنية التي لا تحتاج إلى نفقة كالصيام والصلاة، ولا يدرون أن جهاد النفس في البخل المُهلك أولى:
شعراً:
لَقَدْ خَابَ مَنْ غَرَّتَهُ دُنْيَا دَنِيَّةٌ ... وَمَا هِيَ أَنْ غَرَّتْ قُرُوناً بطَائِل
أَتَتْنَا عَلَى زِيِّ العَزيزِ بُثينَةٍ ... وَزِيْنَتِها فِي مِثْلِ تِلكَ الشَّمَائِل
فَقُلْتُ لَها غُرِي سِوَايَ فَإنَّنِي ... عَزوفٌ عَن الدُّنْيَا وَلَسْتُ بِجَاهِلِ
وَهَبْها أَتَتْنا بِالَكِنوز وَدُرِّهَا ... وَأَمْوَالِ قَارُونٍ وَمُلْكِ القَبائِلِ
ألَيْسَ جَمِيْعاً لِلفَناءِ مَصِيرُها ... وَيُطْلبُ مِن خَزَاِنها بِالطَّوائِل
فَغُرّي سِوايَّ إِنَّنِي غَيرُ رَاغِبٍ ... لِمَا فِيكِ مِن عِزٍ وِمُلكٍ وَنَائِلِ
وَقَد قَنِعَتْ نَفْسِي بِِمَا قَدْ رُزِقتُهُ ... فَشَأنَكِ يَا دُنيا وَأهْلَ الغَوَائِلِ
فَإِنِّي أَخَافُ اللهَ يَومَ لِقَائِه ... وَأَخْشَى عِقَاباً دَائِماً غَيرَ زَائِل
اللهم نجنا برحمتك من النار وعافنا من دار الخزي والبوار وأدخلنا بفضلك الجنة دار القرار وعاملنا بكرمك وجودك يا كريم يا غفار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(1/33)
الطبقة الرابعة: طبقة العوام: وغرورهم من وجوه: فمنهم من يصلي كيفما اتفق ولا يسأل عما يُصلح الصلاة وما يُفسدها، ومنهم من يواظب على النوافل كالتراويح، ولا تكاد تجده في صلاة الجماعة ومنهم من يُلازم مجالس الوعظ ولا يعمل بما يسمع ولا ينتهي عن قبيح ما يأتي، كأن المقصود الحضور فقط قلت: لأن مجالس الذكر والإرشاد إنما تفيد لكونها مُرغبة في الخير وباعثة في الغالب عليه فإن لم ينشأ عنها ذلك فلا خير فيها وصفة هؤلاء كما قال بعض العلماء: كمثلِ مريضٍ يحضر مجالس الأطباء ويسمع منهم ما يصفونه من الأدوية ولا يفعلها ولا يشتغل بها فأي فائدة يحصل عليها؟!
فكل وعظ لا يُغير منك صفة تتغير بها أفعالك حتى تُقبل على الله عز وجل وتعرض عن الدنيا وتقبل إقبالاً قوياً، فإن لم تفعل فذلك كان زيادة حجة عليك، وهذا غرور عظيم.
ومنهم من يتنفل بالعبادات ويُهمل الفرائض.
ومنهم من يتطوع بالخير ويُكثر التسبيح مع معاملته بالربا واستعمال الغش، وربما صاح على والديه وأخذ أعراض الناس، وجمهور الناس قد اتكلوا على العفو والحلم فهم مُصرون على ذنوب وخطايا فإذا ذكرت لهم العقوبة قالوا: هو كريم وينسون أنه شديد العقاب، ومنهم أقوام يستعجلون المعصية موافقةً للهوى ويضمرون أننا سنتوب ويسوفون بالتوبة، ومن العُصاة من يغتر بفعل خير فربما تصدق أو سبح وظن أن هذا يُقاوم ذنوبه.
وينسى ما حصل منه من الغيبة والكذب والرياء وغير ذلك من المعاصي التي تقضي على الحسنات التي أمثال الجبال.
ومن المغترين من يغره صلاح آبائه وربما قال: أبي يشفع لي ولا يدري أن أباه فضل بالتقوى وكان مع التقوى خائفاً؟ ومن أين له أن يشفع له؟، أو ما سمع قوله تعالى: { وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى } [الأنبياء: 28].
ولم يعلم أن نوحاً عليه السلام أراد أن يحمل ابنه معه في السفينة فمنع من ذلك وأغرق الله ابنه مع المغرقين.
(1/34)
وفي الحديث الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا فاطمة لا أغني عنك من الله شيئاً» فالعاقل من عمل على الحرص وأخذ بالأحوط فمن تأمل العلم وتصفحه وشاور العقل دله على الحزم فسلم من الاغترار، والله الموفق.
وطبقة أخرى أكبوا على تلاوة كتاب الله وتركوا تدبره والعمل به، وربما ختموه في يومٍ وليلةٍ بألسنتهم، أما قلوبهم فهي في أودية الدنيا تردد، ولا تتفكر في معاني القرآن لتنزجر بزواجره وتتعظ بمواعظه وتقف عند أوامره ونواهيه وتعتبر بمواضع الاعتبار، فمن قرأ كتاباً عدة مرات وترك العمل به يُخشى عليه من العقوبة.
وطبقة اغتروا وأكثروا الصيام وهم مع ذلك لا يحفظون ألسنتهم عن الغيبة والنميمة والكذب والتملق عند الفُساق وأعداء الدين ولا يعرفون الولاء والبراء ولا يحفظون بطونهم عن الحرام، ولا أعينهم عن النظر المحرم ولا أسماعهم عن الملاهي والمنكرات ولا يقومون على أولادهم ويأمرونهم.
وطبقة أخرى أكثرت من نوافل الحج من غير خروج من المظالم وقضاء الديون واسترضاء الوالدين ولا طلبوا لذلك الزاد الحلال وربما ضيعوا صلاة الجماعة أو الصلاة المكتوبة، وربما كانوا لا يُبالون بالنجاسات، وربما كان نفقة أحدهم حراماً كله هو ورفقاؤه، وربما كان مُرائياً في إنفاقه فيعصي الله في كسب الحرام أولاً وفي إنفاقه للرياء ثانياً نعوذ بالله من الغرور. وفرقة أخذت في طريق الأمر بالمعروف وإرشاد الخلق وأنكروا على الناس وتركوا أنفسهم وأولادهم ومن يخشونهم أو يرجونهم. وفرقة أخرى غلب عليها البخل فلا تسمح نفوسهم بأداء الزكاة كاملة مُكملة يُخرج مقدار ربعها فقط ويتأول الباقي ويعد أنه إذا وجد فقيراً أعطاه ويرى أن ما يدفعه إذا تقدم فقير في بعض الأيام وأعطاه كافياً وربما كانت زكاته عدد أيام السنة مئات من الريالات نعوذ بالله من الغرور.
شعراً:
المَوتُ فِي كُلِّ حِيْنٍ يَنْشِر الكَفَنَا ... وَنَحْنُ فِي غَفلةٍ عَمَّا يُرَادَ بِنَا
(1/35)
لا تَطْمَئِنَّ إِلَى الدُّنْيَا وِبِهْجَتَهَا ... وَإِنْ تَوشَّحَتْ مِن أثَوَابِهَا الحَسَنَا
أَيْنَ الأَحِبَّةُ والجِيرانُ مَا فَعَلُوا ... أيْنَ الذين هُم كَانوا لَنَا سَكَنَا
سَقَاهُمُ المَوتُ كَأساً غيرَ صَافَية ... فَصَيَّرتْهُمْ لأِطْبَاق الثَّرَى رُهُنَا
تَبْكِي المنَازِلُ مِنْهُم كُلُّ مُنسَجم ... بالمكرُمَات وتَرْثي البِرَّ والمِِنَنَا
حَسْبُ الحِمَام لَوَ أَبْقَاهُم وَأْمَهَلَهُم ... أَلاَ يَظُنّ عَلَى مَعْلومِهِ حَسَنَا
موعظة
خطب عمر بن عبد العزيز آخر خطبة خطبها فقال فيها: أما بعد "إنكم لم تُخلقوا عبثاً، ولن تُتركوا سُدىً، وإن لكم معاداً ينزل الله فيه للفصل بين عباده، فقد خاب وخسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شيء وحرم جنة عرضها السموات والأرض، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسيرثها بعدكم الباقون كذلك حتى تُرد إلى خير الوارثين، وفي كل يومٍ تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله قضى نحبه وانقضى أجله فتدعونه في صدعٍ من الأرض غير موسدٍ ولا ممهد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وسكن التراب، وواجه الحساب، غنياً عما خلف، فقيراً إلى ما أسلف، فاتقوا الله قبل نزول الموت وانقضاء مواقيته، وإني لأقول لكم هذه المقالة وما أعلم عند أحدٍ من الذنوب أكثر مما أعلم عندي، ولكن أستغفر الله وأتوب إليه، ثم رفع طرف ردائه وبكى حتى شهق ثم نزل، فما عاد إلى المنبر بعدها حتى مات رحمة الله عليه.
أتَبكِيْ لهَذَا المَوتِ أم أنتَ عارِفُ ... بمنزِلَةٍ تَبْقَى وَفيها المَتَالِف
كأنك قَدْ غُيبت فِي اللحْد والثَّرى ... فَتَلْقَى كَما لاقَى القُرونُ السَّوالِف
أَرَى المَوت قَدْ أفْنَى القُرونَ التي مضت ... فَلَم يَبْقَ ذُو إِلفٍ وَلَم يَبْقَ آلِف
كَانَ الفَتَى لَم يَغْنَ فِي النَّاس سَاعَةً ... إِذَا عُصبت يَوماً عَلَيْهِ اللَّفَائِف
وَقَامَتْ عَلَيْهِ عُصبةٌ يندُبُونه ... فَمُسْتَعبِرٌ يَبْكِي وَآخَرُ هاتِفُ
(1/36)
وَغُوْدِرَ فِي لَحْدٍ كَرِيْهٍ حُلُولُهُ ... وَتُعقدْ مِن لِبْن عَلَيْهِ السَّقَائفُ
يَقِلُّ الغِنَي عَن صاحِب اللَّحد والثَّرَى ... بِمَا ذَرَفَتْ فِيْهِ العُيُوُن الذَّوَارِفُ
وَمَا من يَخَافُ البَعْثَ والنَّارَ آمِن ... وَلَكِن حزينٌ موجَعُ القلبِ خائفُ
إِذَا عَن ذِكْرُ المَوتِ أوْجَعَ قَلبَهُ ... وَهَيَّجَ أحْزاناً ذُنُوبٌ سَوالف
اللهم أنظمنا في سلك حزبك المفلحين، واجعلنا من عبادك المخلصين وآمنا يوم الفزع الأكبر يوم الدين، واحشرنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
الفصل الثامن الحث على صيانة الوقت وصرفه فيما فيه النفع:
ومما يتأكد اجتنابه والتحذير منه في رمضان وغيره الجلوس في المجالس التي هي كفيلة بالخسران والندامة كمجالس آلات اللهو من الاسطوانات - والمذياع (الراديو) - وأعظم من ذلك السينما - والتليفزيون والفيديو - ومجالس شرب الدخان ونحوه والغيبة - والبهت - والسخرية والاستهزاء - وملاعب الكرة - والورق والكيرم والنرد ونحو هذه المجالس الدنيئة التي كم قتلت من أوقات وكم ضاع فيها من أموال وكم جنت على أصحابها وغيرهم من آثام وأوزار وشرور وأضرار.
نسأل الله العصمة لنا ولإخواننا المسلمين من تعاطيها بيعاً وشراءً واستعمالاً واقتناءً وحضوراً وإعانةً وتشجيعاً.
وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل إلا رمية بقوس وتأديبه فرسه وملاعبته أهله فإنهن من الحق».
ففي هذا الحديث دليل على أن كل ما يلهو به الإنسان فهو باطل أي مُحرم ممنوع ما عدا هذه الثلاث التي استثناها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنهن من الحق أو وسيلة إلى الحق.
(1/37)
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله - في الكلام على حديث عقبة كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل الحديث ما معناه الباطل ضد الحق فكل ما لم يكن حقاً ووسيلة إليه ولم يكن نافعاً فإنه باطل مشغل للوقت مفوت على الإنسان ما ينفعه في دينه ودنياه فيستحيل على الشرع إباحة مثل هذا اهـ.
وقال ابن القيم - رحمه الله - إذا أشكل حكم شيء هل هو الإباحة أو التحريم فلينظر إلى مفسدته وثمرته وغايته فإن كان مشتملاً على مفسدة راجحة ظاهرة فإنه يستحيل على الشارع الأمر به أو إباحته بل العلم بتحريمه من شرعه قطعي ولا سيما إذا كان مفضياً إلى ما يُغضب الله ورسوله موصلاً إليه عن قرب وقال شيخ الإسلام لا يجوز اللعب بالطاب والمنقلة وكل ما أفضى كثيره إلى حرمةٍ وإذا لم يكن فيه مصلحة راجحة لأنه يكون سبباً للشر والفساد وما ألهى أو شغل عن ما أمر الله به فهو منهيٌ عنه وإن لم يحرم جنسه كالبيع والتجارة وسائر ما يلهى به البطالون من أنواع اللهو وسائر ضروب اللعب مما لا يُستعان به على حق شرعي فكل حرام اهـ.
وكذا ينبغي أن يحذر مما يعوق سيره إلى الله والدار الآخرة كالمطالعة في المجلات والصحف والكتب التي لا يعود على صاحبها منها إلا الضرر وضياع عمره الذي هو رأس ماله فيها وسوف يُسأل الإنسان عما أفناه فيه فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يُسأل عن خمس عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وماذا عمل بما علم».
(1/38)
قال شيخ الإسلام: "بذل المال لا يجوز إلا لمنفعة في الدين والدنيا" وهذا متفق عليه بين العلماء ومن خرج عن هذا كان سفيها مُبذراً لماله، فالحي ينفق ماله في منافع دينه أو مباحات دنياه، وأما الميت ففي أوقافه ووصاياه فتتعين منافع الدين في حقه، ولهذا اشترط في الوقف القربة فلا يصير إلى جهة مُحرمة أو مكروهة أو مباحة، بل إما إلى واجب أو مستحب، وعلى هذا فالشروط المتضمنة للأمر بما نهى الله عنه ورسوله أو النهي عما أمر الله به ورسوله مخالفةً للنص والإجماع.
قال ابن القيم - رحمه الله -: العبد من حين استقرت قدمه في هذه الدار فهو مسافر فيها إلى ربه، ومدة سفره هي عمره، والأيام والليالي مراحل فلا يزال يطويها حتى ينتهي السفر، فالكيِّس لا يزال مهتماً بقطع المراحل فيما يقربه على الله ليجد ما قدم محضراً ثم الناس منقسمون إلى أقسام، منهم من قطعها متزوداً بما يُقربه إلى دار الشقاء من الكفر وأنواع المعاصي، ومنهم من قطعها سائراً فيها إلى الله وإلى دار السلام، وهم ثلاثة أقسام: سابقون أدوا الفرائض وأكثروا من النوافل بأنواعها، وترك المحارم، والمكروهات وفضول المباحات، ومقتصدون أدوا الفرائض وتركوا المحارم، ومنهم الظالم لنفسه الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً وهم في ذلك درجات متفاوتون تفاوتاً عظيماً اهـ.
والموفق من يغتنم الزمن فيصرفه في طاعة الله عز وجل من دراسة كتابه وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتدبرهما وتفهمهما والنظر في كتب التفسير كتفسير ابن جرير وابن كثير ونحوهما من المحققين، والمطالعة في شرح البخاري ومسلم وسائر السنن، ومُصنفات العلماء المُحققين، كالموفق والمجد وشيخ الإسلام وابن القيم ونحوهم من الأئمة جزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيراً.
وقال بعضهم يُوبخُ نفسه ويحثها على حفظ الوقت:
مَا بالُ قَلْبَكَ قَدْ الْهاهُ عاجله ... مِنْ أمرِ دُنياه حَتَّى فَاتَ آجِلُهُ
(1/39)
يَا غَافِلاً وَالمنايا غِيرُ غافلةٍ ... هَل رَدَّ حَتْفَ امرئٍ عَنْه تَغَافُلُهُ
دُنْيَاَك والنَّفْسُ والشَّيطانُ قَدْ نَصَبُوا ... لَكَ الحَبَائِل فَانْظُرُ مَن تقاتِلُهُ
يَا عَالماً حُبُّه دُنْياهُ يُذهلُهُ ... عن رُشْدِه فَهْو بَالتَّحقِيق جاهِلُهُ
أُعْطيْتَ مُلْكَاً فَسُسْ مَا أَنْتَ مالِكُهُ ... مَنْ لَم يَسُسْ مُلْكَهُ فالمُلكُ قَاتِلُهُ
وَبَادِرِ العُمْرَ فَالسَّاعَاتُ تَنْهَبُهُ ... وَمَا انقْضَى بَعضُه لَم يَبْقَ كَامِلُهُ
ولَيْسَ يَنْفَعُ بعدَ المَوتِ عَضُّ يَدٍ ... مِن نَادِمٍ وَلَوَ انْبَتَّتْ أنَامِلُهُ
يَا مُسْمِنَ الجِسْمِ مُخْتَاراً مَآكِلَهُ ... هَوِّنْ عَلَيك فَإِنَّ الدُّودَ آَكِلُهُ
وَحَاسَبِ النَّفْسَ فِيْمَا أَنْتَ آَخذُهُ ... قَبْلَ الحِسَابِ الذي تُعْيِيْ مَسائِلُهُ
يَا طَالِبَ الجَّاهِ كَيْ يَسْمُو بِدَوْلَتُه ... عَلَى جَهُولٍ بِدنُيْاهُ يُطاوِلُُه
هَلْ نَالَ قَطْ امرؤٌ عَزاً عَلَى نَفَر ... إِلاَّ بِالنِّعَمِ العُظْمَى مًعَامِلُهُ
اعْمَلْ بِعِلْمٍ وَعَامِلٍ بِهِ التُّقَى مَلِكاً ... يَفورُ بِالنِّعَمِ العُظمى مُعامٍلُهُ
إن تُبْتَ جَادَ وإنْ أَحْسَنتَ زَادَ وَإنْ ... أَعْرَضْتَ أَوْلاَكَ مَعْروفُاً يُوَاصِلُهُ
يَا عَبْدُ جُوَّدْتَ فِيْمَا أَنْتَ قَائِلُهُ ... فَهَلْ تُجوِّدُ فِيْمَا أَنْتَ عَامِلُهُ
فَالقَوْلُ وَالفِعْل مَعْروُضَان مِنْكَ عَلَى ... مَنْ يَفْصِلُ الجدَّ مِمَّا أَنْتَ هَازِلُهُ
لاَ تَرضَ بِالقَولِ دُونَ الفِعْلِ مَنْقَبةً ... فإنَّ ذَاكَ خَسِيْسُ الحَظِ نَازِلُهُ
فَارْجَع إِلَى اللهِ عَمَّا فَاتَ مِن زَلَلٍ ... وَانْهَضْ لِتُصْلحَ مِنْه مَا يُقابِلُهُ
وَارْبَحْ أَواخِرَ عُمْر لاَ بَقَاءَ لَهُ ... فَقَد تَقَضَّتْ بِخُسْرانٍ أَوَائِلُهُ
(1/40)
اللهم إنك تعلم سرنا وعلانيتنا وتسمع كلامنا وترى مكاننا لا يخفى عليك شيء من أمرنا نحن البؤساء الفقراء إليك المستغيثون المستجيرون بك نسألك أن تُقيض لدينك من ينصره ويزيل ما حدث من البدع والمنكرات ويقيم علم الجهاد ويقمع أهل الزيغ والكفر والعناد ونسألك أن تغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
1 – حكم صوم رمضان:
صوم رمضان فريضة: والأصل في فريضته: الكتاب والسنة، والإجماع.
أما الدليل من الكتاب فقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 183].
وأما السُنة، فعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن مُحمداً رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت».
وأما الإجماع، فأجمع المسلمون على فريضة صوم شهر رمضان.
2 – بيان من يجب عليه الصوم:
ويُفترض على كل مسلم عاقل بالغ قادر أداء وقضاء، ولا يجب على كافر – سواء كان أصلياً أو مرتداً – لأن الصوم عبادة لا تصح منه في حال كفره، ولا يجب عليه قضاءها لقوله تعالى: { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } [الأنفال: 38].
ولأن في إيجاب قضاء ما فات في حال كفره تنفيراً عن الإسلام ولو أسلم في أثنائه لم يلزمه ما مضى من الأيام ويصوم ما بقي من الشهر.
ولحديث ابن ماجه في وفد ثقيف: قدموا عليه في رمضان، فضرب عليهم قبة بالمسجد فلما أسلموا، صاموا ما بقي عليهم من الشهر، إذ أن كل يوم هو عبادة مُفردة.
ولا يجب الصوم على مجنون، ولا صبي حتى يبلغ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «رُفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ».
(1/41)
وأما اشتراط القدرة على الصوم فلأن من لا يقدر عليه بحالٍ وهو الكبير والعجوز – إذا كان الصوم يُجهدهما ويشق عليهما مشقة شديدة – فلهما أن يُفطرا ويُطعما لكل يومٍ مسكيناً، لقول ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ } [البقرة: 184]. ليست بمنسوخةٍ في الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة اللذين لا يستطيعان الصوم فيُطعمان مكان كل يومٍ مسكيناً.
وروي أن أنس بن مالك - رضي الله عنه - ضعف عن الصوم فصنع جفنة من ثريد، فدعا ثلاثين مسكيناً فأطعمهم.
والمريض الذي لا يُرجى بُرؤه، حُكمه حكم الشيخ الكبير، يُطعم لكل يومٍ مسكيناً.
3 – ما يثبُت به الشهر:
ويجب صوم رمضان برؤية هلاله، أو إكمال شعبان ثلاثين يوماً وتثبت رؤية هلال رمضان بخبر مُسلم مُكلف عدل ولو عبداً أو أُنثى.
قال الله تبارك وتعالى: { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [البقرة: 185].
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له».
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «ترآى الناس الهلال فأخبرت النبي - صلى الله عليه وسلم - أني رأيته، فصام وأمر بصيامه».
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن أعرابياً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: إني رأيت الهلال، فقال: «أتشهد أن لا إله إلا الله؟» قال: نعم، قال: «أتشهد أن مُحمداً رسول الله؟» قال: نعم، قال: «فأذن في الناس يا بلال أن يصوموا غداً».
ويُستحب إذا رَأى الهلال أن يقول ما ورد، ومنه حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى الهلال قال: «الله أكبر، اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام والتوفيق لما تُحب وترضى».
(1/42)
ومنه حديث طلحة بن عبد الله - رضي الله عنه - ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى الهلال قال: «اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، ربي وربُك الله، هلال رُشدٍ وخير».
وإن حال دون مطلع الهلال ليلة الثلاثين من شعبان غيم أو قتر أو غيرهما، فإنه لا يجب صومه ولا يُستحب، بل المشروع فطره لما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «صوموا لرؤيته. وأفطروا لرؤيته، فإن غُم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين».
وعن عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: "من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - ".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «صوموا لرؤيته، فإن حال بينكم وبينه سحاب فكملوا العدة ثلاثين ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً».
ويُستثنى القضاء، والنذر والعادة، فيجوز صومها فيه.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجلٌ كان يصوم صوماً فليصمه».
4 – فيما يترتب على ثبوت رؤية الهلال:
وإذا ثبت رؤية هلال رمضان ببلد لزم الناس كلهم الصوم إذا اتفقت المطالع لما روى "كُريب" قال: قدمت الشام، واستهل عليَّ رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس. ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ قلت: رأيناه ليلة الجمعة فقال: أنت رأيته؟ قلت نعم ورآه الناس، وصاموا، وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نُكمل ثلاثين أو نراه. فقلت: أفلا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ فقال: لا، هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".
(1/43)
ومن رأى وحده هلال رمضان ورد قوله لزمه الصوم وجميع أحكام الشهر من طلاقٍ وعتق، وغيرهما مُعلقين به، لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته»، ولأنه تيقن أنه من رمضان فلزمه صومه وأحكامه بخلاف غيره من الناس، ومن رأى وحده هلال شوال لم يُفطر لحديث «الفطر يوم يُفطر الناس، والأضحى يوم يُضحي الناس».
وحديث: «الفطر يوم يُفطرون، والأضحى يوم يضحون».
وروى أبو رجاء عن أبي قلابة:
أن رجلين قدما المدينة وقد رأيا الهلال، وقد أصبح الناس صياماً فأتيا عمر، فذكرا ذلك له، فقال لأحدهما: أصائمٌ أنت؟ قال: بل مُفطر. قال: ما حملك على هذا؟ قال: لم أكن لأصوم وقد رأيت الهلال وقال للأخر، قال: إني صائم، قال: ما حملك على هذا؟ قال: لم أكن لأفطر والناس صيام. فقال للذي أفطر: لولا مكان هذا لأوجعت رأسك، ثم نودي في الناس أن اخرجوا.
وإنما أراد ضربه لإفطاره برؤيته وحده، ودفع عنه الضرب لكمال الشهادة به، ولو جاز له الفطر لما أنكر عليه ولا توعده، وإن صام الناس بشهادة اثنين: ثلاثين يوماً فلم يروا الهلال أفطروا لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «فإن غُم عليكم فصوموا ثلاثين ثم أفطروا».
وإذا قامت البينة أثناء النهار لزم أهل وجوب الصوم الإمساك ولو بعد أكلهم لتعذر إمساك الجميع فوجب أن يأتوا بما يقدرون عليه لقوله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16]، وحديث: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».
5 – لا يصح صيام رمضان إلا بنيةٍ من الليل:
ولا يصح صوم رمضان، ولا غيره من الصيام الواجب إلا بنيةٍ من الليل لكل يوم، روت حفصة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من لم يُبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له».
وعن عائشة - رضي الله عنها - مرفوعاً: «من لم يُبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له».
(1/44)
ومن نوى الصوم من الليل ثم أتى بعد النية في الليل بما يُبطل الصيام كالأكل لم تبطل النية لظاهر الخبر ولأن الله أباح الأكل إلى آخر الليل فلو بطلت به فات محلها ومن خطر بباله أنه صائم غداً فقد نوى، لأن النية محلها القلب، والأكل والشرب بنية الصوم نية، قال الشيخ تقي الدين هو حين يتعشى عشاء من يريد الصوم، ولو نوت حائض أو نفساء صوم غدٍ وقد عرفت أنها تطهر ليلاً صح لمشقة المقارنة والله أعلم.
اللهم انظمنا في سلك الفائزين برضوانك، واجعلنا من المتقين الذين أعددت لهم فسيح جناتك، وأدخلنا برحمتك في دار أمانك، وعافنا يا مولانا في الدنيا والآخرة من جميع البلايا وأجزل لنا من مواهب فضلك وهباتك ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
ويبحث في:
1 – حكم صوم التطوع بنيةٍ من النهار.
2 – فيمن يُباح له الفطر ومن يجب عليه.
3 – من عرض له جنون أو إغماء.
1 – حكم صوم التطوع بنيةٍ من النهار:
ويصح صوم التطوع بنيةٍ من النهار قبل الزوال وبعده لما ورد عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخل عليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فقال: «هل عندكم شيء فقلنا لا، فقال: فإني إذن صائم»، ثم أتانا يوماً آخر، فقلنا: يا رسول الله أُهدي لنا حيس، فقال: «أرنيه، فلقد أصبحت صائماً فأكل».
وزاد النسائي، ثم قال: «إنما مثل صوم التطوع، مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة، فإن شاء أمضاها وإن شاء حبسها»، ومن لفظ له أيضاً قال: «يا عائشة، إنما منزلة من صام في غير رمضان أو في التطوع بمنزلة رجل أخرج صدقة ماله فجاد منها بما شاء فأمضاه، وبخل منها بما شاء فأمسكه».
(1/45)
قال البخاري: وقالت أم الدرداء: كان أبو الدرداء يقول: عندكم طعام؟ فإن قلنا: لا، قال: فإني صائم يومي. قال وفعله أبو طلحة وأبو هريرة، وابن عباس، وحذيفة - رضي الله عنهم.
ويُحكم بالصوم المُثاب عليه، من وقت النية، لحديث: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امريءٍ ما نوى»، وما قبله لم يوجد فيه قصد القُربة، لكن يُشترط أن لا يوجد مُنافٍ غير نية الإفطار، اقتصاراً على مُقتضى الدليل، ونظراً إلى أن الإمساك هو المقصود الأعظم، فلا يُعفى عنه أصلاً، فإن فعل قبل النية ما يُفطره لم يَجُزْ الصيام، فلا يصح صوم من أكل ثم نوى بقية يومه لعدم حصول حكمة الصوم، ويصح تطوع حائض ونفساء طهرت في يوم بصوم بقيته وتطوع كافر أسلم في يوم لما يأتيا فيه بمفسد من أكل أو شرب ونحوهما وإن بلغ صبي، أو أسلم كافر، أو أفاق مجنون في أثناء النهار، وهم مفطرون، لزمهم الإمساك عن مفسدات الصوم، لحرمة الوقت ولزوال المبيح، وإن طهرت حائض أو نفساء، أو قدم مسافر مفطرا؛ فعليهم الإمساك والقضاء ولا خلاف في وجوب القضاء عليهم لقوله تعالى: { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [البقرة: 184].
ولقول عائشة - رضي الله عنها - كنا نحيض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنؤمر بقضاء الصوم، وكذا الحكم في المريض إذا صح في أثناء النهار، وكان مفطراً.
ويُسن الفطر لمسافر يُباح له القصر، ولمريض، لقوله تعالى: { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [البقرة: 184]. ولحديث: «ليس من البر الصيام في السفر».
وفي رواية أخرى، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ... عليكم برخصة الله التي رخص لكم فاقبلوها» وإن صام أجزأه.
ولحديث: «هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جُناح عليه».
(1/46)
وعن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : أصوم في السفر؟ قال: «إن شت فصم، وإن شئت فافطر». والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.
(فصل)
2 – فيمن يُباح له الفطر ومن يجب عليه:
ويُباح الفطر، لحاضر سافر في أثناء النهار، لحديث أبي بصرة الغفاري: أنه ركب في سفينة من الفسطاط في شهر رمضان، فدفع، ثم قرب غداءه، فلم يجاوز البيوت حتى دعا بالسُفرة، ثم قال: اقترب! قيل: ألست ترى البيوت؟ قال: أترغب عن سنة محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأكل.
وإن صام أجزأه، لحديث: «هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جُناح عليه».
ويُباح الفطر لحامل، ومُرضع، إذا خافتا على أنفسهما، فيُفطران ويقضيان كالمريض الخائف على نفسه، وإن خافتا على ولديهما أفطرتا وقضتا، ولزم ولي الولد إطعام مسكين لكل يوم لقوله تعالى: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } [البقرة: 184].
قال ابن عباس - رضي الله عنهما: "كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة وهما يُطيقان الصيام أن يُفطرا ويُطعما مكان كل يومٍ مسكيناً والحُبلى والمرضع إذا خافتا على أولادهما أفطرتا وأطعمتا". رواه أبو داود.
وروي ذلك عن ابن عمر - رضي الله عنهما - ولا مخالف لهم من الصحابة وليس لمن جاز له الفطر برمضان أن يصوم غيره فيه لأنه لا يسع غير ما فرض فيه ولا يصلح لسواه، ويجب الفطر على من احتاجه لإنقاذ معصوم من مهلكة، كغرق لأنه يمكنه تدارك الصوم بالقضاء بخلاف الغريق ونحوه، ويجب الفطر على الحائض والنفساء لما ورد عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أليس إذا حاضت لم تُصل ولم تصم» متفق عليه.
3 – من عرض له جنون أو إغماء:
(1/47)
ومن نوى الصوم ثم جُن أو أغمي عليه جميع النهار، ولم يُفق جزءاً منه لم يصح صومه؛ لأن الصوم: الإمساك مع النية لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «قال الله عز وجل، كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي، وأنا أجزي به يدع طعامه وشرابه من أجلي ... »، فأضاف الترك إليه، وهو لا يُضاف إلى المجنون والمُغمى عليه، فلم يُجز والنية وحدها لا تُجزي، ويصح الصوم ممن أفاق جزءاً منه حيث نوى ليلاً لصحة إضافة الترك إليه إذا، ويُفارق الجنون الحيض بأنه لا يمنع الوجوب بل يمنع الصحة ويحرم فعله، ويصح صوم من نام جميع النهار لأن النوم عادةً لا يزول الإحساس به بالكلية لأنه متى نُبه انتبه. ويقضي مُغمى عليه زمن إغمائه لأنه مُكلف، ولأن مدة الإغماء لا تطول غالباً، ولا تثبت الولاية عليه، ولا يقضي مجنون زمن جنونه لعدم تكليفه.
(موعظة)
إخواني إن الغفلة عن الله مصيبة عظيمة قال تعالى: { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ } [الحشر: 19]. فمن غفل عن ذكر الله وألهته الدنيا عن العمل للدار الآخرة أنساه العمل لمصالح نفسه فلا يسعى لها بما فيه نفعها ولا يأخذ في أسباب سعاتدها وإصلاحها وما يُكملها ويُنسى كذلك أمراض نفسه وقلبه وآلامه فلا يخطر بباله معالجتها ولا السعي في إزالة عللها وأمراضها التي تؤول إلى الهلاك والدمار وهذا من أعظم العقوبات فأي عقوبة أعظم من عقوبة من أهمل نفسه وضيعها ونسي مصالحها وداءها ودواءها وأسباب سعادتها وفلاحها وحياتها الأبدية في النعيم المقيم ومن تأمل هذا الموضع تبين له أن كثيراً من الخلق قد نسوا أنفسهم وضيعوها وأضاعوا حظها وباعوها بثمن بخس بيع المغبون ويظهر ذلك عند الموت ويتجلى ذلك كله يوم التغابن: { يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ } . الآية.
(1/48)
يوم { لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا } [الأنعام: 158]. إنها لحسرة على كل ذي غفلة دونها كل حسرة، هؤلاء هم الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانون مهتدين نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة.
اللهم اعطنا من الخير فوق ما نرجو واصرف عنا من السوء فوق ما نحذر. اللهم علق قلوبنا برجائك واقطع رجاءنا عمن سواك. الله إنك تعلم عيوبنا فاسترها وتعلم حاجاتنا فاقضها كفى بك ولياً وكفى بك نصيرا، يا رب العالمين الله وفقنا لسلوك سبيل عبادك الأخيار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
ويبحث في:
1 – ذكر أشياء تحرم على الصائم ويفطر بها.
2 – حكم ما إذا أكل أو شرب ناسياً.
3 – بعض فوائد الصوم.
1 – ذكر أشياء تحرم على الصائم ويفطر بها:
يحرم على كل مسلم عاقل تناول مفطر من غير عذر، لما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أفطر يوماً من رمضان من غير رخصة ولا مرض، لم يقضه صوم الدهر كله وإن صامه».
وعن أبي أُمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «بينما أنا نائم أتاني رجلان فأخذا بضبعي فأتيا بي جبلاً وعراً فقالا اصعد فقلت: إني لا أطيقه فقالا: إنا سنُسهلُهُ لك فصعدت حتى إذا كنت في سراة الجبل، إذا بأصواتٍ شديدة قلت: ما هذه الأصوات؟ قالا: هذا عُواء أهل النار، ثم انطلق بي فإذا أنا بقومٍ مُعلقين بعراقيبهم مُشققة أشداقهم تسيل أشداقهم دماً قال قلت: من هؤلاء؟ قال: الذين يُفطرون قبل تحلة صومهم» الحديث رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما.
(1/49)
ومما يحرم على الصائم الأكل والشرب بعد تبين الفجر الثاني لقوله تعالى: { ... حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ } [البقرة: 187].
فمن أكل أو شرب مختاراً ذاكرا لصومه أبطله، لأنه فعل ما يُنافي الصوم لغير عذر.
2 – حكم ما إذا أكل أو شرب ناسياً:
ولا يُفطر من أكل أو شرب ناسياً، لما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب، فليُتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه».
وروى الحاكم قوله - صلى الله عليه وسلم - : «من أفطر في رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة، ومن استقاء فسد صومه، وعليه قضاء».
ومن ذرَعَه القيء فلا شيء عليه، لما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء».
ومما يُفطر: الحجامة، لما ورد عن شداد بن أوس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أتى على رجل بالبقيع وهو يحتجم في رمضان، فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم».
وعن رافع بن خديج قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أفطر الحاجم والمحجوم».
(1/50)
ومما يحرم على الصائم، ويبطل صيامه الجماع في نهار رمضان، وعليه القضاء والكفارة، وهي عتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، لما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بينما نحن جلوس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ جاء رجل فقال: هلكت يا رسول الله، قال - صلى الله عليه وسلم - : «وما أهلكك؟» قال:وقعت على امرأتي في رمضان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «هل تجد ما تُعتق رقبة؟» قال: لا، قال: «اجلس». ومكث النبي - صلى الله عليه وسلم - فبينما نحن على ذلك أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعرق فيه تمر، والعرق المكتل الضخم، قال: «أين السائل؟» قال: أنا، قال: «خذ هذا فتصدق به»، فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟، فوالله ما بين لابتيها – يريد الحرتين – أهل بيت أفقر من أهل بيتي؟ فضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه، ثم قال: «أطعمه أهلك». متفقٌ عليه.
وتحرم المباشرة فيما دون الفرج إن ظن إنزالاً، فإن باشر فيما دون الفرج، فأنزل منياً فسد صومه؛ لأنه إنزال عن مباشرة، فأشبه الجماع.
ومما يُفطر: الردة عن الإسلام – أعاذنا الله منها - قال الله تعالى: { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [الزمر: 65].
وقال تعالى: { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [المائدة: 5].
ومما يفطر: إيصال الأغذية بالإبرة إلى الجوف من طعام أو شراب لأنه في معنى الأكل والشرب من غير فرق وأما الحبوب الغذائية والدوائية والمشتركة فيُفطر من أكلها.
(موعظة)
(1/51)
عباد الله إن قوارع الأيام خاطبة، فهل أذن لعظاتها واعية، وإن فجائع الموت صائبة فهل نفس لأمر الآخرة مراعية، إن مطالع الآمال إلى المسارعة إلى الخيرات ساعية ألا فانظروا بثواقب الأبصار والبصائر في نواحي الجهات والأقطار فما ترون في حشودكم وجموعكم إلا الشتات ولا تسمعوا في ربوعكم إلا فلان مريض وفلان مات أين الآباء الأكابر أين العلماء العاملون بعلمهم الذين لا تأخذهم في الله لومةُ لائم المناصحون لولاتهم وأمتهم الزاهدون في حطام الدنيا الفانية أين الكرماء الأفاضل الذين يغارون إذا انتهكت المحارم أين الهاجرون المصارمون للفاسق والفاجر أين المناصرون للقائم على أهل المعاصي والكبائر أين أهل الولاء والبراء المحبون في الله المُبغضون لأعدائه؟.
أين المنقون لمآكلهم وملابسهم ومساكنهم عن الحرام؟ والمشتبه وهو ما كان القلب في الإقدام عليه والكف عنه حائر؟
أين الذين لا يسكنون إلا برضا صاحب المُلك خوفاً من المخاطرة في صلاتهم وصيامهم ونكاحهم ومُكثهم في الأملاك المسكونة قهراً وغصباً.
أين المُتفقدون للفقراء والمساكين الذين ليس لهم موارد.
عثرت والله بهم العواثر وأبادتهم السنين الغوابر وبترت أعمارهم الحادثات البواتر واختطفهم عقباتٌ كواسر. وخلت منهم المشاهد والمحاضر وعدمت من أجسادهم تلك الجواهر وطفئت من وجوههم الأنوار الزواهر وابتلعتهم الحفر والمقابر إلى يوم تبلى السرائر فلو كُشفت عنهم أغطية القبور بعد ليلتين أو ثلاث ليالٍ لرأيت الأحداق على الخدود سائلة والأوصال بعضها عن بعض مائلة وديدان الأرض في نواعم تلك الأبدان جائلة والرءوس الموسدة على الإيمان زائلة ينكرها من كان عارفاً بها وينفر عنها من لم يزل آلفاً بها.
(1/52)
فلا يُعرف السيد من المسود ولا الملك من المملوك ولا الذكي من البليد ولا الغني من الفقير فرحم الله عبداً بادر بالإقلاع عن السيئات وواصل الإسراع والمبادرة في الأعمال الصالحات قبل انقطاع مُدد الأوقات وطيِّ صحائف المستودعات ونشر فضائح الاقترافات والجنايات فلا تغتروا بحياةٍ تقودُ إلى الممات فورب السماء والأرض إنما توعدون لآت فالبدار البدار قبل أن تتمنوا المهلة وهيهات.
شعراً:
نَمْضِيْ عَلَى سُبُلٍ كَانُوا لَهَا سَلَكُوا ... أسْلاَفُنَا وَهُم للدِّين قَدْ شَادُوا
لَنَا بِهْم أُسْوَةٌ إِذْ هُم أَئِمَّتَنَا ... وَنَحْنُ للقومَ أبْنَاءٌ وَأَحْفَادُ
وَالصَّبْرُ يَا نَفْسُ خَيْرٌ كُلُّهُ وَلَهُ ... عَوَاقِبُ كُلُّها نُجْحٌ وَإَمْدَادُ
فَاصبِر هُدِيتَ فَإنَّ المَوتَ مُشْتَرِكٌ ... بَيْنَ الأناَمِ وَإنْ طَاوَلْنَ آمَادُ
والنَّاس فِي غَفْلاتٍ عَن مَصَارِعِهِمْ ... كَأَنَّهُم وَهُم الأيْقَاظُ رُقَّادُ
دُنيا تَغُرُّ وَعَيشٌ كُلُّهُ كَدَرٌ ... لَوْلا النَّفُوسِ التي لِلْوَهْمِ تَنْقَادُ
كُنَّا عَدَدْنَا لهَذَا المَوتِ عُدَّتَه ... قَبْلَ الوَفاةِ وَأَنْ تَحْفَرْنَ أَلْحَادُ
فَالدَّارُ مِن بَعْدِ هَذِي الدَّارِ آخِرَةُ ... تَبْقَى دَوَاماً بِهَا حَشْرٌ وَمِيْعَادُ
وَجَنَّةٌ أُزْلِفَتْ لِلمُتَّقِين وَأَهْـ ... ـلُ الحَقِّ والصَّبْرِ أَبْدَالٌ وَأَوْتَادُ
فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ مِن قَبْلِ الممَاتِ وَلاَ ... تَعْجَلْ وَتَكْسَل فَإِنَّ المرءَ جَهَّادُ
لاَ يَنْفَعُ العَبْدَ إلا مَا يُقَدِّمَه ... فَبَادِر الفَوْتَ واصْطَدْ قَبْلَ تُصطَادُ
والمَوتُ للمُؤْمِنِ الأَوَّابِ تُحْفَتُهُ ... وَفِيْهِ كُلُّ الذيْ يَبْغَي وَيَرتَادُ
لِقَا الكَرِيْمِ تَعَالَى مَجْدُهُ وَسَمَا ... مَعَ النَّعِيْم الذي مَا فِيْهِ أَنْكَادُ
فَضْلٌ مِن اللهِ إِحْسَانٌ وَمَرْحَمَةٌ ... فَالفَضْلُ للهِ كَالآزَالِ آبَادُ
(1/53)
فَالظَّنُ بِاللهِ مَوْلانَا وَسَيِّدِنَا ... ظَنٌ جَمِيْلٌ مَعَ الأنْفَاِس يَزْدَادُ
نَرْجُوْهُ يَرْحَمُنَا نَرْجُوْهُ يَسْتُرُنَا ... فَمِنْه لِلِكُلِّ إمْدَادٌ وَإيْجَادُ
نَدْعُوْهُ نَسْأَلُهُ عَفْواً وَمَغْفِرَةً ... مَعَ حُسْنِ خَاتِمَةٍ فَالُعْمُر نَفَّادُ
وَقَد رَضِيْنَا قَضَاءَ اللهِ كَيِفَ قَضَا ... وَاللُّطْفَ نَرْجُو وَحُسْنُ الصَّبْرِ إِرْشَادُ
اللهم وفقنا لسلوك مناهج المتقين، وخصنا بالتوفيق المبين، واجعلنا بفضلك من المقربين الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
3 – بعض فوائد الصيام:
عباد الله إن لشهر رمضان شرَّفه الله فوائد عظيمة ومنافع جمة وآثار حسنة فهو يضبط النفس ويُطفيء شهوتها فإنها إذا شبعت تمردت في الغالب وسعت في شهواتها، وإذا جاعت سكنت وخضعت وامتنعت عن ما تهوى، ففي حديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء». مُتفقٌ عليه.
ذلك أنه يكسر من شهوة الشباب حتى لا تطغى عليه الشهوة، فكان الصوم وسيلة إلى كف النفس عن المعاصي، فسبحانه من إله حكيمٍ عليم، فالصيام يُربي في الإنسان الفضائل والإخلاص والأمانة والصبر عند الشدائد، لأنها إذا انقادت للامتناع عن الحلال من الغذاء الذي لا غنى لها عنه طلباً لمرضاة الله تعالى وخوفاً من أليم عقابه.
فالأحرى بها أن تتمرن على الامتناع عن الحرام الذي هي غنية عنه وتبعد عنه كل البعد فلا يغدر ولا يخون ولا يُخلف وعداً ولا يكذب ولا يُرائي.
(1/54)
فإذا وفقه الله لصون صيامه عن المفسدات والمنقصات فالصوم لمن وفقه الله سبب في اتقاء المحارم وقوة العزيمة والتحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل، وإلى هذا أشار جل وعلا بقوله: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } فالصوم يدعو إلى شكر نعمة الله، إذ هو كف النفس عن الطعام والشراب ومباشرة النساء، وكل هذا من جلائل نعم الله على خلقه.
والامتناع عن هذه النعم من أول يوم من شهر رمضان إلى آخره يُعرف الإنسان قدرها، إذ لا يُعرف فضل النعمة إلا بعد فقدها فيبعثه ذلك على القيام بشكرها وشكر النعمة واجب على العباد، وإلى هذا أشار بقوله تعالى: { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة: 185].
وأيضاً فالصيام يبعث في الإنسان فضيلة الرحمة بالفقراء والعطف على البائسين، فإن الإنسان إذا ذاق ألم الجوع في بعض الأوقات تذكر الفقير الجائع في جميع الأوقات فيسارع إلى رحمته والإحسان إليه، قيل ليوسف عليه السلام، وكان كثير الجوع: لم تجوع وأنت على خزائن الأرض؟ فقال: إني أخاف أن أشبع فأنسى الجائع.
ومن فوائد الصيام ما ذكر من أنه ينقي الجسم من الفضلات الرديئة ورطوبات الأمعاء، ويشفي كثيراً من الأمراض بإذن الله تعالى، وفيه من المزايا الصحية ما شهد به العدو قبل الصديق، فسبحانه من إله عليم حكيم.
ومن فوائد الصيام أنه يُقوي النفس على البر والحلم وهما تجنب كل ما من شأنه إثارة الغضب لأن الصوم نصف الصبر، والصبر نصف الإيمان كما قال - صلى الله عليه وسلم - ، ولما روى النسائي عن مُعاذ بن جبل في حديثه الطويل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «ألا أدلك على أبواب الخير؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: الصوم جُنة» فالصوم جُنةٌ من العذاب ومن الأخلاق السيئة.
(1/55)
ومن يُلاحظ حال الصائمين الموفقين لما هم عليه من تحري الطاعة وتحري سبل الخيرات والابتعاد عن المعاصي والرغبة في الإحسان يُدرك أن الصوم من أعظم أسبابه الهداية، ويُدرك معنى قوله تعالى: { وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 184]. ويُدرك معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - : «الصوم جُنة» ويدرك ما فيه من تهذيب النفس وتطهيرها من الأخلاق الموبوءة وترويضها على الطاعات وإعدادها للسعادتين الدنيوية والأخروية، وحسبك، في فضل الصيام قوله - صلى الله عليه وسلم - : «والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك».
يقول الله عز وجل: «يذر شهوته وطعامه وشرابه لأجلي فالصوم لي وأنا أجزي به»، قال ابن القيم - رحمه الله - وقد اختلف في وجود هذه الرائحة من الصائم هل هي في الدنيا أو في الآخرة على قولين وفصل النزاع في المسألة أن يُقال حيث أخبر - صلى الله عليه وسلم - بأن ذلك الطيب يكون يوم القيامة فلأنه الوقت الذي يظهر فيه ثواب الأعمال وموجباتها من الخير والشر فيظهر للخلق طيب ذلك الخلوف على المسك كما يظهر فيه دم المكلوم في سبيله كرائحة المسك وكما تظهر في السرائر وتبدو على الوجوه وتصير علانية ويظهر فيه قبح رائحة الكفار وسواد وجوههم وحيث أخبر بأن ذلك حين يخلف وحين يُمسون فلأنه وقت ظهور أثر العبادة ويكون حينئذٍ طيبها على ريح المسك عند الله تعالى وعند ملائكته وإن كانت تلك الرائحة كريهة للعباد.
فرُب مكروهٍ عند الناس محبوب عند الله تعالى وبالعكس فإن الناس يكرهونه لمنافرته لطباعهم والله تعالى يستطيبه ويحبه لموافقته لأمره ورضاه ومحبته فيكون عنده أطيب من ريح المسك عندنا فإذا كان يوم القيامة ظهر هذا الطيب للعباد وصار علانية.
وهكذا سائر آثار الأعمال من الخير والشر وإنما يكمل ظهورها ويصير علانية في الآخرة.
(1/56)
اللهم يا من خلق الإنسان في أحسن تقويم وبقدرته التي لا يُعجزها شيء يُحيي العظام وهي رميم، نسألك أن تهدينا إلى صراطك المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وأن تغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه آجمعين.
(فصل)
ويبحث في :
1 – ذكر أشياء تخفى على بعض الناس.
2 – ذكر اشياء تحرم ويتأكد تحريمها في حق الصائم.
3 – الحث على صيانة الوقت وصرفه فيما فيه النفع في الدنيا والآخرة.
4 – فيما يُستحب للصائم أن يقوله أو يفعله.
5 – أحكام القضاء.
1 – ذكر أشياء تخفى على بعض الناس:
يجوز لمن جامع بالليل أن لا يغتسل حتى يطلع الفجر، وصومه صحيح، لما ورد عن عائشة - رضي الله عنها - أن رجلاً قال: يا رسول الله، تُدركني الصلاة وأنا جُنُبٌ أفأصوم؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «وأنا تُدركني الصلاة وأنا جُنُبٌ فأصوم» فقال: لست مثلنا يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال: «والله، إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي».
وعن عائشة، وأم سلمة - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «كان يُصبح جنباً من جماعٍ غير احتلام، ثم يصوم في رمضان».
وعن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنباً من جماع لا حلم، ثم لا يفطر ولا يقضي.
لكن يُستحب لمن لزمه الغسل ليلاً من جنب وحائض ونفساء انقطع دمها، وكافر أسلم، أن يغتسل قبل طلوع الفجر الثاني.
ولو أراد أن يأكل أو يشرب من وجب عليه الصوم في نهار رمضان ناسياً أو جاهلاً وجب على من رآه إعلامه؛ لأنه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن باب النصيحة للمسلم.
(1/57)
ومن أكل شاكاً في طلوع الفجر، ودام شكه، فلا قضاء عليه لظاهر الآية، وإن أفطر يظن أن الشمس قد غابت، ولم تغب فعليه القضاء، لما روى هشام عن عروة عن فاطمة امرأته عن أسماء رضي الله عنهما قالت: "أفطرنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في يومِ غيم، ثم طلعت الشمس" قيل لهشام بن عروة – وهو راوي الحديث – أمروا بالقضاء؟ قال: لا بد من قضاء.
ولا يُفسد صوم من طار إلى حلقه ذباب، أو غبار من طريق، أو دقيق أو دخان، لعدم إمكان التحرز منه وأما الدخان الذي بُلي به كثير من الناس فمُحرم ويُفطر من شربه.
ولا يُفطر إن فكر فأنزل، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «عُفي لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تتكلم».
ولا يُفطر إن احتلم، لأن ذلك ليس بسببٍ من جهته.
ومن اغتسل، أو تمضمض، أو استنشق فدخل الماء إلى حلقه بلا قصد، لم يفسد صومه، لما ورد من أن عائشة، وأم سلمة - رضي الله عنهما - قالتا: "نشهد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن كان ليُصبح جُنُباً من غير احتلام، ثم يغتسل".
وتُكره المبالغة في المضمضة والاستنشاق للصائم، لما ورد عن لقيط بن صبرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً».
ويجوز للصائم أن يفعل ما يُخفف عند شدة الحر والعطش وذلك كالتبرد بالماء لما ورد عن بعض الصحابة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صب على رأسه الماء وهو صائم من العطش ومن الحر، وورد أن ابن عمر بل ثوباً فألقاه على نفسه وهو صائم وكان لأنس بن مالك حجر منقور يُشبه الحوض إذا أصابه الحر وهو صائم نزل فيه، وقال الحسن لا بأس بالمضمضة والتبرد للصائم ذكر هذه الآثار البخاري تعليقاً والله أعلم.
2 – ذكر أشياء تحرم ويتأكد تحريمها في حق الصائم:
(1/58)
يجب اجتناب كل كذب محرم، أما الكذب لتخليص معصوم من قتل فواجب، قلت ويترجح عندي مثله أيضاً تخليص ماله من ظالم أو قاطع طريق أو غاصب أو نحو ذلك، والمال مُثمن والأحسن يتأول، ولإصلاح بين الزوجين فمباح لما ورد عن أم كلثوم رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :«ليس الكذاب الذي يُصلح بين الناس ويقول خيراً أو ينمى خيراً» متفق عليه.
ثم اعلم أن الداعي إلى الكذب محبة النفع الدنيوي وحب التراث وذلك أن المخبر يرى أن له فضلاً على المخبر بما علمه فهو يتشبه بالعالم الفاضل فيظن أنه يجلب بما يقوله فضلاً ومسرة وهو يجلب به نقصاً وفضيحة فالكذب رذيلة محضة من أرذل الرذائل يُنبيء عن تغلغل الفساد في نفس صاحبها وعن سلوك يُنشيء الشر إنشاءً فالكذب يتصدع به بنيان المجتمع، وبه يختل سير الأمور، ويُسقط صاحبه من العيون ولا يوثق في قوله، ولا يوثق به في عمل، ولا يرغب له مجلس، وأحاديثه عند الناس متروكة، وشهادته مردودة وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يُطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب» رواه أحمد.
وعن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده مرفوعاً: «ويل للذي يُحدث ليُضحك به القوم ويل له ويلٌ له».
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ما كان خُلُق أبغض إلى أصحاب رسول الله من الكذب ولقد كان الرجل يكذب عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكذبة فما يزال في نفسه عليه حتى يعلم أنه أحدث منها توبة رواه أحمد.
وفي الحديث الآخر أنه قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أيكون المؤمن كذاباً قال: «لا» الحديث رواه مالك والبيهقي في شُعب الإيمان.
(1/59)
وقال ابن القيم - رحمه الله -: إياك والكذب فإنه يفسد عليك تصور المعلومات على ما هي عليه ويفسد عليك تصويرها وتعليمها للناس فإن الكاذب يصور المعدوم موجوداً والموجود معدوماً والحق باطلاً والباطل حقاً والخير شراً فيفسد عليه تصوره وعلمه عقوبة له ثم يصور ذلك في نفس المخاطب المغتر به الراكن إليه فيفسد عليه تصوره وعلمه ونفس الكاذب مُعرضة عن الحقيقة الموجودة نزاعة إلى العدم مؤثرة للباطل ولهذا كان الكذب أساس الفجور.
كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «إن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار»، وأول ما يسري الكذب من النفس إلى اللسان فيفسده ثم يسري إلى الجوارح فيفسد عليها أعمالها كما أفسد على اللسان أقواله فيعم الكذب أقواله وأعماله وأحواله فيستحكم عليه الفساد ويترامى داؤه إلى الهلكة إن لم يتداركه الله بدواء الصدق بقلع تلك المادة من أصلها.
ولهذا كان أصل أعمال القلوب كلها الصدق وأضدادها من الرياء والعجب والكبر والفخر والخيلاء والبطر والأشر والعجز والكسل والجبن والمهانة وغيرها أصلها الكذب فكل عمل صالح ظاهر أو باطن فمنشؤه الصدق وكل عمل فاسد ظاهر أو باطن فمنشؤه الكذب، والله تعالى يُعاقب الكذاب بأن يٌُعقده ويثبطه عن مصالحه ومنافعه ويثيب الصادق بأن يوفقه للقيام بمصالح دُنياه وآخرته.
فما استجلبت مصالح الدنيا والآخرة بمثل الصدق ولا مفاسدهما ومضارهما بمثل الكذب قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } [التوبة: 119]. وقال: { هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ } [المائدة: 119]. وقال: { فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } [محمد: 21].
شعراً:
عَوِّدْ لِسَانَكَ قَولَ الصِّدْقِ تَحْظَ بِهِ ... إِنَّ اللسَانَ لِمَا عَوَّدْتَ يَعْتَادُ
(1/60)
مُوَكَّلٌ بِتَقَاضِي مَا سَنَنْتَ لَهُ ... فِي الصِّدْقِ وَالكَذِبِ فَانْظُرْ كَيْفَ يَرتَادُ
اللهم نور قلوبنا بنور الإيمان وثبتها على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة واجعلنا هُداة مُهتدين وتوفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين وصلى الله على مُحمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
في بيان أنواع الكذب
ويتنوع الكذب إلى أنواع، فما كان متعلقاً بأموال الناس وأعراضهم وأنفسهم هو من أشد الكبائر وأقبح الجرائم التي تُضر بالمجتمع الإنساني، وتقضي على العدل، فإن الذي يقول الزور ليتقطع حقوق عباد الله أو يثلمهم في أعراضهم من كل ما يضر الإنسانية ويؤلمها.
وقد عرض نفسه لغضب الله وكان سبباً في بث الفوضى وإغراء المجرمين على اقتراف الجرائم فينالون من أعراض الناس وأموالهم ما يشتهون وهم آمنون من العقوبة لأنهم يجدون شاهد الزور يُساعدهم على الإفلات منها، وقد أكبر - صلى الله عليه وسلم - خطر قول الزور وأعظم جُرمَهُ كما في الحديث قال: «الإشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان مُتكئاً فجلس، فقال: ألا وقول الزور، فما زال يُكررها حتى قلنا: ليته سكت»، فجلوسه - صلى الله عليه وسلم - بعد اتكائه اهتماماً بشأنه، وصدر قوله بأداة التنبيه وكرر كلمته حتى شق على نفسه وبدا الغضب في وجهه، وتمنى أصحابه لو سكت.
وقول الزور يشمل الشهادة بالباطل والحكم الجائر ورمي الأبرياء والقول على الله بلا علم.
وعن خُريم بن فاتك قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح فلما انصرف قام قائماً فقال: «عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله» ثلاث مرات ثم قرأ: { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } [الحج: 30-31]. رواه أبو داود وابن ماجه.
(1/61)
وشاهد الزور يُسيء إلى نفسه إذ يبيع آخرته بدنيا غيره، ويُسيء إلى من شهد له بإعانته على ظلمه، ويُسيء إلى من يشهد عليه في إضاعة حقه ويُسيء إلى القاضي الذي جلس يتحرى العدل ليحكم به ويُنصف الضعفاء من الأقوياء وينتزع حق المظلوم من الظالم بأنه بشهادته بالزور يُظلله ويسد أمامه طريق الحق ويفتح باب الباطل.
وبهذا يشل يد العدالة أن تقتص للمظلوم من الظالم ويُسيء شاهد الزور إلى أولاده وأسرته لأنه يُلوثها بهذه السمعة السيئة والفائهة القبيحة ويحمل الناس على أن يقولوا لهم عائلة المزور، وأعظم بها من أذية للمستقيمين.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يُكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يُكتب عند الله كذاباً» مُتفق عليه.
وفي الحديث أن الكذب من صفات النفاق.
اللهم أتمم علينا نعمتك الوافية وارزقنا الإخلاص في أعمالنا والصدق في أقوالنا وعد علينا بإصلاح قلوبنا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
في التحذير من الغيبة
ويجب اجتناب الغيبة قال الله تعالى: { وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا } [الحجرات: 12]. أي: لا يتناول بعضكم بعضاً بظهر الغيب بما يسوؤه ثم ضرب تعالى للغيبة مثلاً فقال: { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ } [الحجرات: 12]، وعن البراء - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن أربى الربى استطالة الرجل في عِرض أخيه وفي الحديث الآخر فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام».
وعن أبي هريرة مرفوعاً أن من الكبائر استطالة المرء في عرض رجل مسلم بغير حق.
(1/62)
وعن سعيد بن زيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن من أربى الربا الاستطالة في عِرض المسلم بغير حق» رواه أحمد وأبو داود.
فإن قيل ما الغيبة؟ قيل قد حدها النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد روى أبو هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتدرون ما الغيبة؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «ذكرك أخاك بما يكره»، قال (أحدهم): أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته» أخرجه مسلم.
ومن الغيبة التمثيليات للأشخاص والهيئات ومحاكاتهم في اللباس على وجه التنقص والاستهتار كما يفعله المنهمكون في أكل لحوم الغوافل. فتكون الغيبة بالتعريض وبالكتابة وبالحركة وبالرمز والإشارة باليد وكل ما يُفهم منه المقصود فهو داخل في الغيبة وهو حرام.
فقد ورد عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: دخلت علينا امرأة فلما ولت أومأت بيدي أي قصيرة فقال - صلى الله عليه وسلم - : «اغتبتها» وقد روى أبو داود والترمذي وصححه قول عائشة عن صفية أنها قصيرة وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لقد قلت كلمة لو مُزجت بماء البحر لمزجته».
وأخرج أحمد عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال ليلة أُسري بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ونظر في الباب فإذا قوم يأكلون الجيف»، قال: «من هؤلاء يا أخي يا جبريل؟» قال: «الذين يأكلون لحوم الناس».
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «من أكل برجل مسلم أكلة فإن الله يُطعمه مثلها في جهنم، ومن كُسي ثوباً برجل مسلم فإنه يكسوه مثله في جهنم ومن قام برجل مقام سُمعةٍ ورياءٍ فإن الله يقوم به مقام سُمعةٍ ورياءٍ يوم القيامة». رواه أبو داود.
(1/63)
فالغيبة عادة مرذولة، كثيراً ما تقطع الصلة بين الناس، وتثير الأحقاد، وتشتت الشمل، ثم هي مع ذلك مضيعة للوقت بالاشتغال، بما يضر الإنسان، ولا ينفعه. ومما تقدم يتبين تحريم الغيبة وخطرها وشرها فإذاً يجب الإنكار على المُغتاب وردعه.
وقد روى جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما من امريء يخذل امرءاً مسلماً في موطن تنتهك فيه حُرمته إلا خذله الله في موطن يُحب فيه نصرته وما من امريء مسلم ينصر امرءاً مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يُحب فيه نصرته».
وفي حديث آخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أذل عنده مؤمن وهو يقدر على نصره فلم ينصره أذله الله على رءوس الخلائق».
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في خطبته: لا يُعجبنكم من الرجل طفطفته ولكن من أدى الأمانة وكف عن أعراض الناس فهو الرجل وقال أيضاً كفى بالمرء عيباً أن يستبين له من الناس ما يخفى عليه من نفسه ويمقت الناس على ما يأتي.
وقال الحسن: يا ابن آدم لن تنال حقيقة الإيمان حتى لا تعيب الناس بعيبٍ هو فيك وتبدأ بذلك العيب من نفسك فتُصلحه فما تُصلح عيباً إلا ترى عيباً آخر فيكون شغلك في خاصة نفسك وقيل لربيع بن خيثم ما نراك تعيب أحداً ولا تذمه فقال ما أنا على نفسي براضٍ فأتفرغ من عيبها إلى غيرها ولقد أحسن القائل:
شَرُّ الوَرَى مَنْ بِعَيِبٍ النَّاسِ مُشْتَغِلاً ... مِثْلُ الذُّبَابِ يُرَاعِي مَوضِعَ العِلَل
آخر:
إِذَا مَا ذَكَرْتَ النَّاسَ فَاتْرُكْ عُيُوبَهُم ... فَلاَ عَيْبَ إِلاَّ دُوُنَ مَا مِنَكَ يُذْكَرُ
فَإِنْ عِبْتَ قَوْماً بِالَّذِي فِيْكَ مِثْلُهُ ... فَكَيْفَ يَعِيْبُ العَوْرَ مَنْ هُوْ أَعْوَرُ
وَإِنْ عِبْتَ قَوْماً بِالَّذِي هُوَ فِيْهِمُ ... فَذَلِكَ عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ مُنْكَرُ
(1/64)
وبالتالي فخطر اللسان عظيم ليس كغيره من الأعضاء فإن العين لا تصل إلى غير الألوان والصور والأذن لا تصل إلى غير الأصوات واليد لا تصل على غير الأجسام واللسان يجول في كل شيء وبه يبين الإيمان من الكفر.
وقد روى أنس بن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه».
وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب» وأخرج الترمذي ولفظه: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من الشر ما يعلم مبلغها يكتب الله له بها عليه سخطه إلى يوم القيامة» رواه في شرح السنة ورواه مالك والترمذي وابن ماجه نحوه.
فالغيبة من آفات اللسان ومن الذنوب التي قل من يسلم منها كالكذب والرياء والربا والمداهنة.
وإذا فهمت ما سبق فاعلم أن الذنوب المتعلقة بحقوق العباد لا تُمحى إلا أن عفواً عنها أو ردت لهم مظالمهم، فقد ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الدواوين عند الله ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئاً، وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله».
قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } [النساء: 48]. وقال تعالى: { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ } [المائدة: 72].
(1/65)
وأما الذي لا يعبأ الله به شيئاً فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين الله من صوم يوم تركه أو صلاة، فإنه يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء وأما الديوان الذي لا يترك منه شيئاً فظلم العباد بعضهم بعضاً القصاص لا محالة رواه أحمد في مسنده والحاكم في مستدركه فظلم العبد نفسه بينه وبين ربه هو أخف الدواوين وأسرعها محواً فإنه يُمحى بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية والمصائب المُكفرة ونحو ذلك.
ولا ريب أن الغيبة جناية على أعراض الناس وهم غافلون فكفارتها أن يتحلل ممن اغتابه ويطلب منه العفو إن كان لم يعلم بذلك ويتوب ويتندم ويستغفر لمن اغتابه ويذكره بما فيه من الخصال الحسنة عند من اغتابه عندهم لعل الله أن يرحمه ويغفر له إنه غفور رحيم.
وتقدم حديث أنس وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «إن من كفارة الغيبة أن تستغفر لمن اغتبته تقول: "اللهم اغفر لنا وله"».
واعلم أنه إذا ترتب على الغيبة مصلحة أو درء مفسدة كانت لازمة إذا ترتب عليها أمرٌ جائز فجائزة، ويمكن ضبط الأول في خمسة أمور أو ستة أمور.
الأول: المظلوم الذي يريد أن يشكو لمن يرفع مظلمته، فله أن يذكر عيب ظالمه الذي يحتاج إليه في بيان حقه.
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر لمن يظن أن له قدرة على إزالته، فإن له أن يقول: إن فلاناً ارتكب كذا وفعل كذا.
الثالث: الاستفتاء فإنه يجوز للمستفتي أن يقول للمفتي: إن فلاناً ظلمني في كذا وكذا، فهل يجوز له ذلك مثلاً؟
الرابع: التحذير فيحذر المسلمين من شر من يتصدى للزعامة في أمورهم العامة، أو من يتوقف عليه القضاء في مصالحهم؛ أو يتصدى لإفتائهم وتعليمهم، كالزعماء في الشئون الدينية والدنيوية والشهود والمدرسين ونحو ذلك ممن يُشترط فيهم الأمانة والاتصاف بمكارم الأخلاق، فيصح أن يبين ما فيهم من النقائص والعيوب ويرفع بأمرهم ليبعدوا.
(1/66)
الخامس: أن يتجاهر بفسقه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : كل أمتي مُعافى إلا المجاهرون. اللهم ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وارزقنا القيام بطاعتك وجنبنا ما يُسخطك وأصلح نياتنا وذرياتنا وأعذنا من شر نفوسنا وسيئات أعمالنا وأعذنا من عدوك واجعل هوانا تبعاً لما جاء به رسولك - صلى الله عليه وسلم - واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
وأسباب الغيبة أحد عشر:
1 – تشفي الغيظ بذكر مساويء الموقوع في عرضه بالغيبة قولاً أو فعلاً.
2 – موافقة الأقران والزملاء ومساعدتهم ويرى ذلك في حسن المعاشرة.
3 – أن يستشعر من إنسان سيقصده ويُطول لسانه عليه أو يُقبح حاله عند مُحتشم فيبادره فيطعن فيه ليُسقط شهادته.
4 – أن ينسب إليه شيء فيذكر أن الذي فعله فلان ويتبرأ منه مع أن التبرأ يحصل بدون أن يذكر الغير بشخصه.
5 – أن ينطوي على عداوة شخص ويحسده فيرميه بمساويء ومعائب ينسبها إليه ليصرف وجوه الناس عنه ويُسقط مهابته ومكانته من النفوس ويقصد بذلك إثبات فضل نفسه ولكن العاقل اللبيب يعرف أنه ما أضر على الأعداء ولا أشد من التمسك بالأخلاق الفاضلة والاعتراف بالفضل لأهله كما قيل:
وَمَا عَبَّرَ الإنْسَانُ عَن فضل نَفْسِهِ ... بِمِثْلِ اعتِقَادِ الفَضَلِ فِي كُلّ فَاضِلٍ
ولَيْسَ مِن الإنْصَافِ أَنْ يَدْفَعَ الفَتَى ... يَدَ النَّقْصِ عَنْهُ بِانْتِقَاصِ الأفَاضِلِ
6 – أن يقدح عند من يحب ذلك الشخص حسداً لإكرامهم ومحبتهم له.
7 – أن يقصد اللعب والهزل والمُزاح والمطالبة ويُضحك الناس.
8 – السخرية والاستهزاء بالشخص استحقاراً له وهو يجري في الحضور والغيبة ومنشؤه التكبر واستصغار المُستهزأ به وتنقصه وازدراءه.
9 – أن يتعجب من فعل الغائب للمنكر وهذا من الدين لكن أدى إلى الغيبة بذكر اسمه فصار مُغتاباً من حيث لا يدري.
(1/67)
10- أن يغتم لسبب ما يُبتلى به فيقول مسكين فلان قد غمني أمره وما ابتليَّ به من المعصية وغمه ورحمته خير لكن ساقه إلى شر وهو الغيبة من حيث لا يدري أنه صاغها بصيغة الترحم والتوجع.
11- إظهار الغضب لله على منكر قارفه إنسان فيذكر الإنسان باسمه وكان الواجب أن يُظهر غضبه على فاعله ولا يُظهر عليه غيره بل يستر اسمه وهذه الثلاثة ربما تخفى على العلماء وطلبة العلم فضلاً عن العوام ولذلك تسمع منهم كثيراً ما يقولون فلان ونعم لولا أنه يفعل كذا وكذا يُعامل بالربا مثلاً وكان الواجب نصحه بدل الغيبة.
ولقد كثرت النميمة والغيبة والبهت والكذب والوشاية والسعاية بعد ظهور التليفون والمسجلات فبعد أن كانت لا توجد إلا مع اجتماع الأبدان صارت توجد أيضاً مع التفرق وبُعد المسافات وتضاعفت أضعافاً مُضاعفة وصار السالم منها أعز من الكبريت الأحمر، نسأل الله الحي القيوم العلي العظيم أن يعصمنا وإخواننا المسلمين منها اللهم صل على محمد.
يُشَارِكُكَ المُغْتَابُ فِي حَسَنَاتِهِ ... وَيُعْطِيْكَ أَجْرَيْ صَوْمِهِ وَصَلاتِهِ
وَيَحْمِلُ وِزْراً عَنْكَ ظَنَّ بِحَملِهِ ... عَنْ النُّجْبِ مِن أبْنَائِهِ وَبَنَاتِهِ
فَكَافِيْهِ بِالحُسْنَى وَقُل رَبِّ جَازِهِ ... بِخَيْرٍ وَكَفِّرْ عَنْهُ مِن سَيِّئَاتِهِ
فَيَا أَيُّهَا المُغْتَابُ زِدْنِي فَإنْ بَقِيْ ... ثَوَابُ صَلاةٍ أَوْ زَكَاةٍ فَهَاتِهِ
فَغَيْرُ شَقٍّي مَنْ يَبِيْتُ عَدُوُّهُ ... يُعَامِلُ عَنْهُ اللهَ فِي غَفَلاَتِهِ
فَلاَ تَعْجَبُوا مِن جَاهِل ضَرَّ نَفْسَهُ ... بِإمْعَانِهِ فِي نَفْعٍٍ بَعْضِ عُدَاتِهِ
وَأعْجَبُ مِنْهُ عَاقِلٌ بَاتَ سَاخِطاً ... عَلَى رَجُلٍ يُهدَي لَهُ حَسَنَاِتِه
وَيَحْمِلُ مِن أَوْزَارِهِ وَذُنُوبِهِ ... وَيَهْلَكُ فِي تَخْلِيْصِهِ وَنَجَاتِهِ
فَمَنْ يَحْتَمِلْ يَسْتَوْجِبِ الأجْرَ وَالثَّنَا ... وَيُحْمَدُ فِي الدُّنْيَا وَبَعْدَ وَفَاتِهِ
(1/68)
وَمَنْ يَنْتَصِفْ يَنْفَخْ ضِرَاماً قَدْ انْطَفَى ... وَيَجْمَعُ أَسْبَابَ المَسَاوِيْ لِذَاتِهِ
فَلاَ صَالِحٌ يُجْزَي بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ... وَلاَ حَسَنٌ يُثْنَى بِه فِي حَيَاتِهِ
يَظلَّ أَخُو الإنْسَانِ يَأْكُلُ لَحْمَهُ ... كَمَا فِي كِتَاب اللهِ حَاَل مَمَاتِهِ
وَلاَ يَسْتَحِيْ مِمَّنْ يَرَاهُ وَيَدَّعِي ... بِأنَّ صِفَاتِ الكَلبِ دُوْنَ صِفَاتِهِ
وَقَد أَكَلاَ مِن لَحْمِ مَيْتٍ كِلاّهما ... وَلَكِنْ دَعَى الكَلْبِ اضْطِرَارُ اقْتِيَاتِهِ
تَسَاوَيْتُمَا أَكْلاً فَأَشْقَاكُمَا بِهِ ... غَدًا مَنْ عَلَيْهِ الخَوفُ من تَبَعُاتِهِ
وَمَا لِكَلامٍ مَرَّ كَالرِّيْح مَوْقِعٌ ... فَيَبْقَى الإنْسَانُ بَعْضُ سِمَاتِهِ
الله ارزقنا حفظ جوارحنا عن المعاصي ما ظهر منها وما بطن ونق قلوبنا من الحقد والحسد والإحن. اللهم إنا نعوذ بك من شماتة الأعداء وعُضال الداء وخيبة الرجاء وزوال النعمة اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
ومما يتأكد اجتنابه ولا يتم الصيام لمن لم يجنبه، النظر إلى المرأة الأجنبية والرجل الأمرد لغير ضرورة أو حاجة شرعية لأن المرأة كلها عورة لا يصح أن يرى من ليس من محارمها شيئاً من جسدها ولا شعرها المتصل بها وما تفعله بعض نساء هذا الزمان من التبرج والتجمل في الأسواق ما هو إلا مجاهرة بالمعاصي وتشبه بنساء الإفرنج.
فمن أعظم المنكرات وأفظعها خروج المرأة كاشفة رأسها أو عنقها أو نحرها أو ذراعيها أو ساقيها أو وجهها أو الجميع أو الثياب المظهرة للمفاتن أو اللباس الشفاف الذي وجوده كعدمه لا يستر ما تحته فهذا داخل في التبرج فيجب على المسلم أن يمنع نساءه ومن له عليهن ولاية ويقبلن منه جميع ما تقدم ويُلزمهن الستر والتحفظ وينصح إخوانه المهملين للمتصفات بذلك.
(1/69)
ومن الآداب التي أمر الله تعالى بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع أنهن القدوة الحسنة في العفاف والتُقى والتستر والحياء والإيمان ومع حياء الناس منهن واحترامهم لهن ما ذكره تعالى في سورة الأحزاب بقوله: { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى } [الأحزاب: 33].
قال مقاتل: التبرج أنها تُلقي الخمار على رأسها ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها ويبدو ذلك كله منها وذلك التبرج.
وقال تعالى آمراً لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم فلا ينظروا إلا لما أباح لهم النظر إليه: { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } [النور: 30].
قال أبو حيان في تفسيره: قدم غض البصر على حفظ الفروج لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور والبلوى فيه أشد وأكثر لا يكاد يقدر على الاحتراز منه، وهو الباب الأكبر إلى القلب وأعمر طرق الحواس إليه ويكثر السقوط من جهته.
وقال تعالى: { إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا } [الإسراء: 36]. وقال تعالى: { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ } [غافر: 19]. قال البغوي: أي خيانتها، وهي استراق النظر إلى ما لا يحل.
قال مجاهد: هو نظر الأعين إلى ما نهى الله عنه.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنا، مدرك ذلك لا محالة، العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام» متفق عليه.
وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعني عن ربه عز وجل: «النظرة سهمٌ مسموم من سهام إبليس من تركها من مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه».
(1/70)
وروى الأصبهاني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «كل عينٍ باكية، يوم القيامة إلا عيناً غضت عن محارم الله وعيناً سهرت في سبيل الله وعيناً خرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله» أخرجه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه وقال صحيح الإسناد واعترضه المنذري.
عن عبادة بن الصامت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اضمنوا لي ستاًَ من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم». وقال ابن القيم - رحمه الله - والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان فإن النظرة تولد خطرة ثم تولد الخطرة فكرة ثم تولد الفكرة شهوة ثم تولد الشهوة إرادة ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة فيقع الفعل ولا بد ما لم يمنع مانع.
وفي هذا قيل: الصبر على غض النظر أيسر من الصبر على ألم بعده. قال الشاعر:
كُلّ الحَوَادِثِ مَبْدَاهَا مِن النَّظَر ... وَمُعْظَمُ النَّارِ مِن مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ
كَمْ نَظْرَةٍ فَتَكَتْ فِِي قَلْبِ صَاحِبِهَا ... فَتْكَ السَّهامِ بِلاَ قَوْسٍ وَلاَ وَتَر
وَالعَبْدُ مَا دَامَ ذَا عَيْنٍ يُقَلِّبُهَا ... فِي أَعْيُن الغِيْدِ مَوْقُوفٌ عَلَى خَطَرِ
يَسُرُّ نَاظِرَهُ مَا ضَرَّ خَاطِرَهُ ... لاَ مَرْحَباً بِسُرُوْرٍ عَادَ بِالضَّرَر
وعن بُريدة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى وليست لك الآخرة» رواه أحمد والترمذي وأبو داود والدارمي.
وفي حديث جرير - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظرة الفجاءة فقال: «اصرف بصرك» وروى مسلم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان فإذا رأى أحدكم من امرأة ما يُعجبه فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه».
(1/71)
وعن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان» رواه الترمذي.
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل في النساء» رواه مسلم.
وعن أبي أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، قال: «ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة أول مرة ثم يغض بصره إلا أحدث الله له عبادة يجد حلاوتها» رواه أحمد.
شعراً:
لاَ تَخْلُ بامْرَأةٍ لَدَيْكَ بِريْبَةٍٍ ... لَو كُنْتَ فِي النُّسَّاكِ مِثْلَ بَنَانِ
وَاغْضُضْ جُفُوَنَك عَن مُلاَحَظَةٍ النساء ... وَمَحَاسِن الأحْدَاث والصِّبْيَان
إنَّ الرِّجَال النَّاظِرْين إِلَى النِّسَاء ... مِثْلُ الكِلابِ تَطُوْفُ بِالُّلحْمَانِ
إنْ لَمْ تَصُنْ تِِْلكَ اللُّحُوْمَ أُسُوْدُهَا ... أُكِلَتْ بِلا عَوضٍ وَلاَ أَثْمَانِ
اللهم إن نواصينا بيديك وأمورنا ترجع إليك وأحوالنا لا تخفى عليك، وأنت ملجؤنا وملاذنا، وإليك نرفع بثنا وحزننا وشكايتنا، يا من يعلم سرنا وعلانيتنا نسألك أن تجعلنا ممن توكل عليك فكفيته واستهداك فهديته وهب لنا من فضلك العظيم وجد علينا بإحسانك العميم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: يُقال إن غض البصر عن الصورة التي يُنهى عن النظر إليها كالمرأة والأمرد الحسن يُورث ثلاث فوائد:
إحداها: حلاوة الإيمان، ولذته التي هي أحلى وأطيب مما تركه لله، فإن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
الفائدة الثانية: أن غض البصر يورث نور القلب والفراسة.
(1/72)
الفائدة الثالثة: قوة القلب وثباته وشجاعته فيجعل الله له سلطان البصيرة مع سلطان الحجة، فإن في الأثر "الذي يُخالف هواه يفرق الشيطان من ظله".
وإذا كان النظر إلى من لا يحل النظر إليه مُحرماً فالخلوة بمن لا تحل مُحرمة من باب أولى وأحرى لأن الوساوس الشيطانية تجد لها مجالاً في هذه الحالة وثوران الشهوة يجد له مبرراً فيضعف العقل عند هذا، ولا يكون له تأثير على زجر الشهوة فتسوقه نفسه الأمارة بالسوء إلى الفاحشة، لهذا نهى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عن الخلوة فقد رُوي عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يخلون أحدكم بامرأة إلا مع ذي محرم». متفق عليه.
وعن عقبة بن عامر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إياكم والدخول على النساء» فقال رجل من الأنصار أفرأيت الحمو؟ قال: «الحمو الموت». متفق عليه.
والحمو: قريب الزوج كأخيه وابن أخيه وابن عمه.
وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ألا يخلو رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان» رواه الإمام أحمد في مُسنده والترمذي في جامعه.
وعن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس بينه وبينها محرم». رواه الطبراني في الكبير.
وروى الطبراني أيضاً عن أبي أُمامة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إياك والخلوة بالنساء والذي نفسي بيده ما خلا رجل بامرأة إلا ودخل الشيطان بينهما، ولأن يزحم الرجل خنزيراً مُتلطخاً بطين أو حمأة خير فله من أن يزحم منكبه منكب امرأة لا تحل له».
(1/73)
ومن أخطر ما يكون على النساء خدمة الرجال في البيوت إذا كان هناك اختلاط بينهم وبينهن خصوصاً إذا كان الرجل المستخدم من الشبان وإن كان له وسمة جمال فأقرب إلى الخطر وقد يكون أشب من صاحب البيت وأجمل وهو ملازم للبيت ليله ونهاره وهو تحت أمر الزوجة أو نحوها وفي إمكانها إبقاؤه أو طرده فالخطر عظيم، وإن كان المرأة ذا شرف ومكانة وتأمل قصة امرأة العزيز مع يوسف عليه السلام حين راودته عن نفسه فاستعاذ بالله من شرهن وكيدهن فعصمه الله عِصمةً عظيمة وحماه فامتنع أشد الامتناع عنها واختار السجن على ذلك وهذا في غاية مقامات الكمال أنه مع شبابه وجماله وكماله تدعوه سيدته وهي امرأة عزيز مصر وهي مع هذا في غاية الجمال والمال والرياسة ويمتنع من ذلك، ويختار السجن على ذلك خوفاً من الله ورجاءَ ثوابه ولهذا ثبت في الصحيحين أن من السبعة الذين يُظلهم الله في ظله رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله.
موعظة
عباد الله نحن في زمن كله عجائب يعجب العاقل اللبيب ومن أعجب ما فيه أن الرجال أصبحوا لا سلطان لهم على النساء إلا النادر القليل، نعم أصبحنا في زمن للنساء فيه جبروت أمامه الرجال في حال ضئيل انعكس الأمر فصار القوي ضعيفاً والضعيف قوياً فإن كنت في شك من ذلك فاخرج وانظر في الشوارع ترى النساء تجول في الشوارع ذاهبات آيبات ويتثنين في تبخترهن عليهن من الزينة ما يُرغم على النظر إليهن كل من له عينان.
(1/74)
ولا تسأل عما يحدثه ذلك النظر في نفوس الشبان وأشباه الشبان تراه إذا لمحها أتبعها نظره ثم جرى وراءها لأنه يفهم من هيئتها وتثنيها وتلفتها فهماً لا يُقال له إنه فيه غلطان، إنه يفهم أنها إذا لم تكن تريد منه ما تريد ما عرضت نفسها في الشارع بذلك التهتك وذلك الازديان وهي في بيتها أمام زوجها الذي ينبغي أن تتجمل له تكون بحالة تشمئز من رؤيتها نفس الإنسان، تلبس له أردى الملابس ولا تمس طيباً ولا تعتني له، فإذا أرادت الخروج بذلت من العناية في تجميل نفسها ما يُلهب نار الشوق إليها في نفوس الناظرين.
وهذه حالة تجعل العيون وقفاً على النظر إلى تلك الأجسام وتشغل القلوب شغلاً به تنسى كل شيء حتى نفسها وربها وما له عليها من واجبات، وتوجه الأفكار إلى أمور دنيئة يقصدها من أولئك النساء أرباب النفوس الدنيئات، بل وتدفع النفوس دفعاً تستغيث منه الفضيلة ويغضب له الواحد القهار.
إن أولئك النساء زوجات وبنات وأخوات رجال يرونهن بأعينهم في الشوارع بتلك الحال يرونهن وليس لهم من الغيرة ما يُفهم أنهم من صنف الرجال، وأمامهم يُجرين الزينة التي يخرجن بها إلى تلك الميادين الملأى بالأنذال، وبعضهم يستصحب زوجته معه سافرةً في الشوارع وربما فهم بعض الفساق أنه يتصيد لها وذلك يجري على ألسنة كثيرٍ منهم.
أيها الأخ عصمنا الله وإياك وجميع المسلمين أنت أقوى عقلاً وأقوى ديناً من المرأة لا خلاف في ذلك وإن لم يعصمك الله تتمنى أن يكون منك مع المرأة ما يكون إذا وقع نظرك على ما لها من بهاء وجمال فتأكد كل التأكد أن تَمَنِّيْ المرأة أقوى من تَمَنِّيْ الرجل إذا وقع نظرها على جميل من الرجال ولا تشك أنها بعد رؤيتها الجميل تتمنى فراقك إليه وربما دعت عليك، نحن في جو موبوء بفساد الأخلاق، من تعرض له أصابه من ذلك الوباء ما يُضيعه في دنياه وفي الدين.
(1/75)
فصن نساءك عن الخروج إليه إن أردت العافية وإلا فلا تلم إلا نفسك إذا أصبحت في عداد الضائعين والضائعات أنت ترى كل يوم ما يكون في الطرق لنساء غيرك فلا تشك أن نساءك يُلاقين مثله وأشد منه وأي رجل يرضى أن تخرج نساؤه ليلعب بعفافهن وشرفهن من لا دين له ولا شرف ولا أخلاق، إن البهيم يغار ومعارك ذكور البهائم على إناثها معروفة، فلا تكن أقل غيرةً من البهيم، ولولا أننا نرى بأعيننا مبلغ ضعف رجالنا أمام النساء ما صدقنا أن يستصحب الرجل زوجته سافرة راكبةً أو غير راكبة تقدمه.
أيها الأخ أنت الذي تلقى المشاق من حرٍّ وبردٍ وأنت مشغول بالكد لأجل جلب الرزق، يكون منك ذلك لتُطعم المرأة وتكسوها وتنعم عليها ففضلك عليها كبير كما قال تعالى: { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } [النساء: 34]. وأنت أرجح منها عقلاً وأكمل ديناً، فمن الغلط أن تكون معها كالعبد المملوك يُصرفه مولاه كيف شاء. وإذا كنت كما ذكر الله قواماً عليها فأنت مسئول عنها لأنك راعيها والراعي مسئول عن رعيته، فأنت مُثاب إن وجهتها إلى عمل الخير وآثم إن سكت عنها وهي تعمل أعمالاً ليست مرضية، فانظر ماذا عليك من الإثم في خروج زوجتك وما يترتب عليه من بلايا مرثية وغير مرثية، فحل بينها وبين ما تعلم أن فيه ضرر عليها وكل عمل يُغضب ربك، وإلا فأنت شريك لها في كل ما لها من أوزار. أ.هـ.
كل هذا سببه مخالطة ربائب الاستعمار الذين تشبهوا به وقلدوه في الأقوال والأفعال، وقلدهم كثير من نسائنا، وصدق المُصطفى - صلى الله عليه وسلم - حيث يقول: لتركبن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو أن أحدهم دخل حجر ضب لدخلتموه وحتى لو أن أحدهم جامع امرأته بالطريق لفعلتموه، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وهو حسبنا ونعم الوكيل اهـ.
(1/76)
اللهم احفظنا من المخالفة والعصيان ولا تؤاخذنا بجرائمنا وما وقع منا من الخطأ والنسيان واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
فيما يُستحب أن يقوله أو يفعله
يُستحب أن يتسحر للصوم لما ورد عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «تسحروا فإن في السحور بركة».
وعن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر».
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين».
وعن العرباض بن سارية قال دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السحور في رمضان فقال: «هلم إلى الغداء المبارك».
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «نعم سحور المؤمن التمر».
وينبغي أن يُخفف عشاءه في ليالي رمضان ليهضم طعامه قبل السحور ولأن الامتلاء من الطعام ربما يكون سببا للتخم.
وعن المقداد بن معدِ يكرب - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه بحسب ابن آدم أكلات يُقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث طعام وثلث شراب وثلث نفس».
والشبع مذموم لأنه يوجب تكاسل البدن وكثرة النوم وبلادة الذهن وذلك يُكثر البخار في الرأس حتى يُغطي موضع الذكر والفكر، والبطنة تذهب الفطنة وتجلب أمراضاً عسرة، ومقام العدل أن لا يأكل حتى تصدق شهوته وأن يرفع يده وهو يشتهي ونهاية مقام الحُسن قوله تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا } [الأعراف: 31]. وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «ثلث طعام وثلث شراب وثلث نفس».
(1/77)
والأكل على مقام العدل يُصح البدن ويبعد المرض بإذن الله ويقلل النوم ويُخفف المؤنة ويرقق القلب ويصفيه فتحسن فكرته وتسهل الحركات والتعبيرات، والشبع يُميت القلب ومنه يكون الفرح والمرح والضحك.
ويُستحب تأخير السحور لما ورد عن أنس بن مالك عن زيدٍ بن ثابت - رضي الله عنه - قال: تسحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قام إلى الصلاة قال أنس: قلت لزيد: كما كان بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية. متفق عليه. ولما ورد في البخاري عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: كنت أتسحر في أهلي ثم تكون سُرعتي أن أدرك السجود مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وعن سهل بن سعد الساعدي - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور».
وعن ابن عطية قال: دخلت أنا ومسروق على عائشة، فقلنا: يا أم المؤمنين، رجلان من أصحاب محمد أحدهما يُعجل الإفطار ويُعجل الصلاة والآخر يؤخر الإفطار ويؤخر الصلاة، قالت: أيهما يُعجل الإفطار ويُعجل الصلاة؟ قلنا: عبد الله بن مسعود، قالت هكذا صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأخر أبو موسى.
ولأن السحور يُراد به التقوى على الصوم. فكان التأخير أبلغ في ذلك وأولى، ويُسن تعجيل فطر إذا تحقق الغروب لما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «قال الله عز وجل إن أحب عبادي إليَّ أعجلهم فطراً».
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر، لأن اليهود والنصارى يؤخرون». ولحديث سهل وحديث أبي عطية وقد تقدما قريباً.
(1/78)
ويُسن أن يكون فِطره على رطب، فإن عدم فتمر فإن عدم فماء لما ورد عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُفطر على رُطبات قبل أن يُصلي فإن لم تكن رطبات فتمرات، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء، وعن سلمان بن عامر الضبي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر، فإنه بركة فإن لم يجد تمراً فالماء فإنه طهور».
والفطر قبل صلاة المغرب أفضل، لحديث أنس - رضي الله عنه - قال: "ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلي حتى يُفطر، ولو شربة ماء". والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.
ويُستحب قول الصائم عند فطره:
اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، سبحانك وبحمدك اللهم تقبل مني، إنك أنت السميع العليم. لما ورد عن مُعاذ بن زهرة: أنه بلغه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أفطر قال: «ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله» وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «للصائم عند فطره دعوةٌ لا تُرد» ولحديثي ابن عباس وأنس رضي الله عنهما قالا: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أفطر قال: «اللهم لك صمنا، وعلى رزقك أفطرنا، الله تقبل منا إنك أنت السميع العليم».
وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال: أفطر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند سعد بن معاذ، فقال: «أفطر عندكم صائمون وأكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة».
(1/79)
وعلى الإنسان أن يجتهد أن يكون فطره على حلال، وأن يحذر أن يكون على حرام، فإن أكل الحرام من جملة موانع قبول الدعاء، فقد ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله طيب ولا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } [المؤمنون: 51] وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [البقرة: 172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء ويقول: يا رب يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذيَّ بالحرام فأنى يُستجاب له».
وفي الحديث ألا إن أول ما يُنتن من الإنسان بطنه فمن استطاع ألا يأكل إلا طيباً فليفعل. الحديث.
ومن آداب الدعاء أن يكون من صميم القلب فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أنه لا يستجيب دعاء من قلبٍ غافلٍ لاهٍ وأن يكون دعائه في السراء والضراء.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فليكثر الدعاء في الرخاء وأن يكون بالتضرع بالرغبة والرهبة، قال الله تعالى: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } [الأعراف: 55]. وقال: { إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ } [الأنبياء: 90]. وقال في حق يونس عليه السلام: { فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [الصافات: 143-144]. وأن يفتتح الدعاء بالثناء على الله والصلاة على نبيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
(1/80)
روى الترمذي وغيره عن فضالة بن عبيد قال بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد إذ دخل رجل فصلى فقال اللهم اغفر لي وارحمني فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «عجلت أيها المصلي إذا صليت فقعدت فاحمد الله بما هو أهله وصل علي ثم ادعه» قال: ثم صلى رجل آخر بعد ذلك فحمد الله وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أيها المُصلي ادع تُجب».
وعن عمر قال إن الدعاء موقوف بين السماء والأرض لا يصعد منه شيء حتى تُصلي على نبيك صلى الله عليه وسلم وأن يُخفى الدعاء، قال الحسن بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفاً وإن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار ما يشعرون به ولقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانيةً أبداً ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يُسمع صوت إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم وذلك أن الله يقول: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } وذلك أن الله ذكر عبداً صالحاً رضي فعله فقال: { إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا } .
قال ابن الجوزي - رحمه الله -:
رأيت من البلاء أن المؤمن يدعو فلا يُجاب، فيكرر الدعاء وتطول المدة فلا يرى أثراً للإجابة، فينبغي له أن يعلم أن هذا من البلاء الذي يحتاج إلى الصبر، وما يعرض للنفس من الوسواس في تأخير الجواب مرض يحتاج إلى طب، ولقد عرض لي شيء من هذا الجنس، فإنه نزلت بي نازلة، فدعوت وبالغت، فلم أر الإجابة، فأخذ إبليس يجول في حلبات كيده، فتارةً يقول: الكرم واسع والبخل معدوم، فما فائدة تأخير الجواب؟
فقلت له: اخسأ يا لعين، فما أحتاج إلى تقاضٍ، ولا أرضاك وكيلاً.
(1/81)
ثم عدت إلى نفسي فقلت: إياك ومساكنة وسوسته، فإن لو لم يكن في تأخير الإجابة إلا أن يبلوكِ المقدر في مُحاربة العدو لكفى في الحكمة.
قالت: فسلني عن تأخير الإجابة في مثل هذه النازلة.
فقلت: قد ثبت بالبرهان أن الله عز وجل مالك، وللمالك التصرف بالمنع والعطاء، فلا وجه للاعتراض عليه.
والثاني: أنه قد ثبتت حكمته بالأدلة القاطعة، فربما رأيت الشيء مصلحة والحكمة لا تقتضيه، وقد يخفى في الحكمة فيما يفعله الطبيب، من أشياء تؤذي في الظاهر يُقصد بها المصلحة، فلعل هذا من ذاك.
والثالث: أنه قد يكون التأخير مصلحة، والاستعجال مضرة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل، يقول: دعوت فلم يُستجب لي».
والرابع: أنه قد يكون امتناع الإجابة لآفة فيك فربما يكون في مأكولك شُبهة، أو قلبك وقت الدعاء في غفلة، أو تزاد عقوبتك في منع حاجتك لذنبٍ ما صدقت في التوبة منه، فابحثي عن بعض هذه الأسباب لعلك تقعين بالمقصود.
والخامس: أنه ينبغي أن يقع البحث عن مقصودك بهذا المطلوب، فربما كان في حصوله زيادة إثم، أو تأخير عن مرتبة خير، فكان المنع أصلح.
شعراً:
إِلَى مَتَى يَا عَينُ هَذَا الرُّقَادُ ... أَمَا آَنَ أَنْ تَكْتَحِلِيْ بِالسُّهَادِ
تَنَبَّهِيْ مِن رَقْدَةٍ وَانْظُرِيْ ... مَا فَاتَ مِن خَيرٍٍ عَلَى ذِي الرُّقَاد
يَا أَيُّهَا الغَافِلُ فِي نَوْمِهِ ... قُمْ لِتَرى لُطْفَ الكَرِيمِ الجَوَادِ
مَوْلاَكَ يَدْعُوكَ إِلَى بَابِهِ ... وَأَنْتَ فِي النَّومِ شَبْيهُ الجَمَادِ
وَيَبْسُطُ الكَفَّينَ هَلْ تَائِبٌ ... مِنْ ذَنْبِهِ هَلْ مَنْ لَهُ مِن مُرَادِ
وَأَنْتَ مِن جَنْبٍٍ إِلَى جَانِب ... تَدُورُ فِي الفُرْشِ وِليْنَ المُِهَادِ
يَدْعُوْكَ مَولاَكَ إِلَى قُرْبِه ... وَأنتَ تَختَارُ الجَفَا والبِعَادِ
كَمْ هَكَذا التَّسوِيْفُ فِي غَفْلَةٍٍ ... لَيْسَ عَلَى العُمْرِ العَزِيْزِ اعْتِمَادِ
(1/82)
لَقَد مَضَى لَيْلُ الصِّبَا مُسْرِعاً ... وَنَيْرُ صُبحِ الشَّيْبِ فَوْقَ الفُؤَادِ
أَفِقْ فَإنِّ اللهَ سُبْحَانَهُ ... رَحْمَتُهُ عَمَّتْ جَمِيْعَ العِبَاد
اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بعبادك الصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
في أحكام القضاء
ويستحب قضاء رمضان فوراً مع سعة وقت مسارعة لبراءة الذمة ويُسن التتابع في قضائه لأنه أشبه بالأداء وأبعد عن الخلاف. ويجوز تفريقه لما ورد عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قضاء رمضان إن شاء فرق وإن شاء تابع».
وروى الأثرم بإسناده عن محمد بن المنكدر أنه قال: بلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن تقطيع قضاء رمضان، فقال: «لو كان على أحدكم دين فقضاه من الدرهم والدرهمين حتى يقضي ما عليه من الدين، هل كان قاضياً دينه؟» قالوا نعم يا رسول الله، قال: «فالله أحق بالعفو والتجاوز منكم».
قال البخاري: قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا بأس أن يُفرق لقوله تعالى: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } . متتابعات، فسقطت متتابعات.
ولا يجوز تأخير قضاء رمضان إلى رمضان آخر من غير عذر، لما أخرجه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان يكون عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان.
وفي رواية لمسلم: إن كانت إحدانا لتفطر في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما تقدر أن تقضيه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في شعبان. وفي رواية للترمذي: قالت رضي الله عنها: ما كنت أقضي ما يكون عليَّ من قضاء رمضان إلا في شعبان حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وإذا لم يبق من شعبان إلا قدر ما عليه، وجب القضاء فوراً مُتابعاً لضيق الوقت، كأداء رمضان في حق من لا عذر له.
(1/83)
ولا يُكره القضاء في عشر ذي الحجة، فإن أخر القضاء لغير عذر حتى أدركه رمضان آخر فعليه مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم: ويُروى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وابن عمر رضي الله عنهما وأبي هريرة - رضي الله عنه - ولم يُرو عن غيرهم خلافه. قاله في الشرح.
ومن فاته رمضان قضا عدد أيامه تاماً كان أو ناقصاً لأن القضاء يجب أن يكون بعدد ما فاته كالمريض والمسافر لما تقدم من قوله تعالى: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } . ويجوز أن يقضي يوم صيف عن يوم شتاء وأن يقضي يوم شتاء عن يوم صيف.
فائدة
قال ابن الجوزي - رحمه الله -:
ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه، وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ويُقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل، ولتكن نيته في الخير قائمة من غير فتور. (وقد كان جماعة من السلف يُبادرون اللحظات) فننقل عن عامر بن عبد قيس: أن رجلاً قال له: "كلمني" فقال له: "امسك الشمس". ودخلوا على بعض السلف عند موته، وهو يُصلي، فقيل له، فقال: "الآن تُطوى صحيفتي". فإذا علم الإنسان أنه وإن بالغ في الجد بأن الموت يقطعه عن العمل، عمل في حياته ما يدوم له أجره وبعد موته، فإن كان له شيء في الدنيا، وقف وقفاً، وغرس غرساً، وأجرى نهراً، ويسعى في تحصيل ذرية تذكر الله بعده، فيكون الأجر له، أو أن يُصنف كتاباً في العلم فإن تصنيف العالم ولده المخلد وأن يكون عاملاً بالخير عالماً فيه فينقل من فعله ما يقتدي به الغير فذلك الذي لم يمت. والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.
(فصل)
(1/84)
اعلم وفقنا وإياك الله لطاعته أن للصيام محاسن كثيرة وهي قليل من كثير من محاسن الدين الإسلامي ثبتنا الله وإياك وجميع المسلمين عليه فمنها أن الإنسان إذا جاع بطنه اندفع جوع كثير من حواسه فإذا شبع بطنه جاع عينه ولسانه ويده وفرجه فكان تشبيع النفس تجويعاً لهذه المذكورات وفي تجويع النفس تشبيعها فكان هذا التجويع أولى ومن ذلك أنه إذا جاع علم حال الفقراء في جوعهم فيرحمهم ويعطيهم ما يسد به جوعهم إذ ليس الخبر كالمعاينة لا يعلم الراكب مشقة الراجل إلا إذا ترجل.
ومن محاسن الصيام في فرضه وشرعه أنه لم يفرض في كل العمر مع ما فيه من الحسن بل فرض شهراً من كل سنة شهر رمضان ورخص في الإفطار عندما يحصل لمن وجب عليه عذر وأيضاً أمر بالصوم في النهار وأبيح في الليل الإفطار وهذا من لطف الله أمر عباده على وجه يمكن لهم فيه إحراز الفضيلة واكتساب الوسيلة ومن ذلك إنه خص الصيام بالنهار لأن الأكل فيه مُعتاد، والنوم في الليل مُعتاد ومن محاسن الصوم اكتساب مكارم الأخلاق لأن قلة الأكل من محاسن الأخلاق.
ولذلك لم يحمد أحد بكثرة الأكل ويحمد على قلة الأكل يحمده كل ذي دين في كل حين ولم يُرو عن أحد من الأنبياء كثرة الأكل، ومن جملة المحاسن في الصيام أن الله من لطفه بعباده لم يشترط في القضاء ما في الأداء من كل وجه فلم يشترط في القضاء طول اليوم باليوم ولا حرارته ولا برودته فإذا أفطر في أطول يوم ثم قضاه في أقصر يوم أجزاه وكفاه.
ومن جملة المحاسن في الصوم أنه لم يشترط فيه قِران النية عند الشروع كما في سائر العبادات لأن هذا الوقت وقت نوم وغفلة قلما يقف العبد عليه فلو شرط لضاق الأمر على الناس فيسر الأمر على عباده حتى أجاز الصوم بنيةٍ متقدمة تقع بجزء من الليل، وإن طرأ عليه الأكل والشرب والرفث لأن الله أباح الأكل والشرب إلى آخر الليل فلو بطلت به فات محلها.
(موعظة)
(1/85)
كتب عمر بن عبد العزيز إلى القرضي: أما بعد: فقد بلغني كتابُك تعظني وتذكر ما هو لي حظ وعليك حق وقد أصبت بذلك أفضلَ الأجر إن الموعظة كالصدقة بل هي أعظمُ أجراً وأبقى نفعاً وأحسن ذخراً وأوجب على المؤمن حقاً، لكَلمةٍ يعظُ بها الرَّجلُ أخاه ليزداد بها في هدَّى رَغْبَةً خيرٌ من مال يتصدق به عليه وإن كان به إليه حاجة ولما يُدرك أخوك بموعظتك من الهدى خير مما ينال بصدقتك من الدنيا ولأن ينجو رجل بموعظتك من هلكة خير من أن ينجو بصدقتك من فقر.
فعظ من تعظ لقضاء حق عليك واستعمل كذلك نفسك حين تعظ وكن كالطبيب المُجرب العالم الذي قد علم أنه إذا وضع الدواء حيث لا ينبغي أعنت نفسه وإذا أمسك من حيث ينبغي جهل وأثم وإذا أراد أن يداوي مجنوناً لم يُداوه وهو مُرسل حتى يستوثق منه ويوثق له خشية أن لا يبلغ منه من الخير ما يتقي منه من الشر وكان طبه وتجربته مفتاح عمله واعلم أنه لم يجعل المفتاح على الباب لكيما يُغلق فلا يُفتح أو ليُفتح فلا يُغلق ولكن ليغلق في حينه ويفتح في حينه
وَكُنْ نَاصِحاً لِلْمُسِلِمِيْنَ جَمِيْعِهِمْ ... بِإِرْشَادِهِمْ لِلْحَقِّ عِنْدَ خَفَائِهِ
وَمُرْهُمْ بِمَعْرُوفِ الشَّرِيْعَةِ وَانْهَهُمْ ... عَنْ السُّوْءِ وَازْجُرْ ذَا الخَنَا عَن خَنَائه
وَعِظْهُمْ بِآيَاتِ الكِتَاب بِحِكْمَةٍ ... لَعَلَّكَ تُْبري دَاءَهُمْ بِدَوَائِه
فَإنْ يَهْد مَوْلاَنَا بِوَعْظِكَ وَاحِداً ... تَنَلْ مِنْهُ يَوْمَ الحَشْرِ خَيْرَ عَطَائِهِِ
وَإلاَّ فَقَدْ أَدَّيْتَ مَا كَانَ وَاجِباً ... عَلَيْكَ وَمَا مُلّكْتَ أَمْرَ اهْتِدائِه
(1/86)
اللهم يا من خلق الإنسان في أحسن تقويم وبقدرته التي لا يعجزها شيء يُحيي العظام وهي رميم نسألك أن تهدينا إلى صراطك المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وأن تغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
في صلاة التراويح
ويبحث في:
1 – مشروعية صلاة التراويح.
2 – صفة أو كيفية التراويح.
3 – مذاهب العلماء رحمهم الله في عدد ركعاتها.
4 – ما يُستحب فيها.
1 – مشروعية صلاة التراويح:
التراويح سنة مؤكدة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى في المسجد فصلى بصلاته ناس ثم صلى الثانية فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما أصبح قال: «رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تُفرض عليكم وذلك في رمضان» متفق عليه.
وفي رواية: قالت: "كان الناس يصلون في المسجد في رمضان بالليل أوزاعاً مع الرجل الشيء من القرآن، فيكون معه النفر الخمسة، أو السبعة أو أقل من ذلك أو أكثر، يصلون بصلاته، قالت: فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أنصب له حصيراً على باب حجرتي، ففعلت، فخرج إليه بعد أن صلى العشاء الآخرة فاجتمع إليه من في المسجد فصلى بهم. وذكرت القصة بمعنى ما تقدم، غير أن فيها أنه لم يخرج إليهم في الليلة الثانية".
(1/87)
وعن جبير بن نفير عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: صمنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلم يصل بنا حتى بقي سبع من الشهر فقام بنا حتى ذهب شطر الليل، فقلنا: يا رسول الله، لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه: فقال: «من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب الله له قيام ليلة»، ثم لم يقم بنا حتى بقي ثلاث من الشهر فصلى بنا في الثالثة، ودعا أهله ونساءه حتى تخوفنا الفلاح، قلت له: وما الفلاح؟ قال:«السحور».
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة، فيقول: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه».
وعن عبد الرحمن بن عوف: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله عز وجل فرض صيام رمضان، وسننت قيامه فمن صامه إيماناً واحتساباً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه».
وعن زيد بن ثابت: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ حجرة في حصير، فصلى فيها ليال اجتمع عليه ناس، ثم فقدوا صوته ليلة فظنوا أنه نام، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم فقال: «ما زال بكم الذي رأيت من صنيعكم حتى خشيت أن يُكتب عليكم، ولو كتب عليكم ما قمتم به، فصلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة».
إِلَى اللهِ نَشْكُو قَسْوةً وَتَوَحُّدَا ... وَنَرْجُوْهُ غُفْرَاناً فَرَبُّكَ أَوْحَدُ
ودُوْنَكَ مِنِّي النُّصْحَ يَا ذَا المُوَحِّدُ ... قُمِ الليَّلَ يَا هَذَا لَعَلَّكَ تَرْشَدُ
إلى كَمْ تَنَامُ الليلَ والعُمْرُ يَنْفَدُ
تَيَقَظ وَتُبْ فاللهُ لِلْخَلْقِ رَاحِمُ ... وإِّني لنَفْسِي نَاصِحٌ ومُلازمٌ
فَقُمْ لاَ تَنَمْ فالشَّهْمُ بالَليَّلْ قَائِمُ ... أَرَاكَ بِطُولِ اللَّيلِ وِيْحَكَ نَائِمٌ
وَغَيْرُكَ فِي مِحْرابِهِ يَتَهَجَّدُ
لَقَدْ فَازَ أقوَامٌ وَنَحُن نُشَاهِدُ ... أما تَسْتَحِيْ أَوْ تَرْعَوِي أَوْ تُجَاهِدُ
(1/88)
فلَيْسَ سَواءٌ قَائِمٌ ذَا وَرَاقِدُ ... ولَو عَلِمَ البَطَّالُ مَا نَالَ زَاهِدُ
من الأجر والإحسان ما كان يرقد
فَكَم قَدْ أَكَلْنَا وَالتَّقِيُّونَ صُوَّمُ ... وَنُمْناً وَهُمْ بِالليل يبكون قوم
ولو مفلس يدري وهل أَيْنَ خيموا ... لصام وقام الليل والنَّاس نوم
إِذَا مَا دَنَى مِنْ عَبْدِهِ الْمُتَفَرِّدُ
وَأَسْبَلَ فِي الدُّاجِي دُمُوعاً بعَبْرَةٍٍ ... وَتَابَ وَأَبْدَى اَلْخَوْفَ مِن كُلِّ هِيْبَةٍ
وَقَامَ وَصَلَّى خَائِفاً فِي مَحَبَّةٍٍ ... بِحَزْمٍٍ وَعَزْمٍ وَاجْتِهَادٍ وَرَغْبَةٍ
وَيَعْلَمُ أَنَّ اللهَ ذُوْ العَرْشِ يُعْبَدُ
فََحَاذِرْ منِ الدُّنْيَا وَمِنْ لَدْغِ صِلِّهَا ... فَلَيْسَ لَهَا عَهْدٌ يَفِيْ لَوْ لِخِلِّهَا
فَسَافِرْ وَطَلِّقْهَا ثَلاثاً وَخلِّهَا ... وَلَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَدُوْمُ لأَهْلِهَا
لَكَانَ رَسُولُ اللهِ فِيْهَا مُخَلَّدُ
أَلَمْ يَأْن أَنْ نَخْشَعْ وَأَيْنَ التَّهَجُدُ ... أَفِي سِنَةٍ كُنَّا أَم القَلْبُ جَلْمَدُ
تَيقَّظْ أَخِيْ وَاحْذَرْ وَإِيَّاَك تَرْقُدُ ... أَتَرْقُدُ يَا مَغْرُوْرُ وَالنَّارُ تُوْقَدُ
فَلا حَرُّهَا يَطْفَي وَلا الجَّمْرُ يَخْمُدُ
أَمَا لَوْ عَلمْنَاهَا نَهَضْنَا إِذَا شَظَى ... نَعُجُّ وَبَعْضُ القَوْمِ لِلبَعْضِ أَيْقَظَا
وَلَمْ نَغْتَمِضْ عَيْناً بِتَذكَارِنَا اللَّظَى ... أََلاَ إِنَّهَا نَارٌ يُقالُ لَهَا لَظَى
فَتَخْمُدُ أَحْيَاناً وَأَحْيَانَا تُوْقَدُ
عَلَى الخَمْسِ تَوْدِيْعاً بِوَقْتٍٍ فَصَلِّهِا ... وَحَافِظْ عَلَى تِلكَ النَّوَافِِل كُلِّهَا
وتُبْ عَن ذُنُوْبٍٍ لاَ تَذِلُّ بِذُلِّهَا ... فَيَا رَاكِبَ العِصْيَانِ وَيْحَكَ خَلِّهَا
سَتُحْشَرُ عَطْشَاناً وَوَجْهُكَ أَسْودُ
أَلاَ إَنْ أَهَلَ العِلِْم فِي عِلْمِ غَيْبِهِ ... لَهُمْ كُلُّ خَيْر من إلَهِي بِقُرْبِه
سَمَوْ بِالْهُدَى وَالنَّاسُ مِن فَوقَ تُرْبِه ... فَكَمْ بَيْنَ مَسْرُورٍ بِطَاعَةِ رَبِّه
(1/89)
وَآخَرُ بالذَّنْبِ الثَّقِيْلِ مُقَيَّدُ
إِذَا كُوِّرَتْ شَمْسُ العِبَادِ وَأَنْجُمٌ ... وَقُرِّبَتِ النَّارُ العَظِيْمَةُ تُضْرَمُ
وَكُبْكِبَ هَذَا ثُمَّ هَذَا مُسَلَّمٌ
فهَذَا سَعِيدٌ فِي الجِنَانِ مُنَعَّمٌ ... وَهَذَا شَقِيٌّ فِي الجَحِيمِ مُخَلَّدُ
وَقَد كَانَ هَذَا الحُكْمُ مِن رِبِّنَا مَضَى ... وَلابُدَّ هَذَا الحكمُ فِي الحَشَر يُمْتَضَى
إلهي أَنِلْنِى العفوَ مِنْكَ مَعَ الرِّضَى ... إِذَا نُصِبَ المِيْزَانُ لِلفَصْلِ وَالقَضَى
وَقَد قَامَ خَيرُ العَالمينَ مُحَمَّدُ
نَبيُ الهُدَى الْمَعصومُ عَن كُلّ زَلّةِ ... شِفيعُ الوَرى أَكرم بِها مِن فَضِيْلَةِ
وَمِلَّتَهُ يَا صَاحِبِي خيَرُ مِلَّةِ ... عَلَيْهِ صَلاَةُ اللهِ فِي كُلِّ لَيْلَةِ
مَعَ الآلِ والأصْحَابَ مَا دَارَ فُرْقَدُ
(فصل)
2 – صفة أو كيفية صلاة التراويح:
صلاة التراويح بجماعة أفضل، قال الإمام أحمد: كان علي وجابر وعبد الله رضي الله عنهم يصلونها جماعة، وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه كان يجعل للرجال إماماً وللنساء إماماً.
وفي حديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع أهله وأصحابه وقال: «إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة».
ويجهر الإمام بالقراءة لنقل الخلف عن السلف. ويُسلم من كل ركعتين، ووقتها بعد صلاة العشاء، قبل الوتر إلى طلوع الفجر، وفعلها في المسجد أفضل، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاها ثلاث ليالٍ متوالية، كما روت عائشة رضي الله عنها ومرة ثلاث ليالٍ متفرقة كما روى أبو ذر، قال: "من قام مع الإمام حسب له قيام ليلة، وكان أصحابه يفعلونها في المسجد أوزاعاً في جماعات متفرقة في عهده".
(1/90)
وعن عبد الرحمن بن القارئ قال: "خرجت مع عمر بن الخطاب في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يُصلي الرجل لنفسه، ويُصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل. ثم عزم فجمعهم على أُبي بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال عمر: "نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون" يعني آخر الليل، وكان الناس يقومون أوله. فدلت هذه الأخبار وغيرها على أن فعل التراويح جماعة أفضل من الانفراد وكذا إجماع الصحابة وأهل الأمصار على ذلك.
وهو قول جمهور العلماء، وتجوز فُرادى واختلف أيتهما أفضل للقارئ، قال البغوي وغيره: الخلاف بمن يحفظ القرآن، ولا يخاف الكسل عنها لو انفرد، ولا تختل الجماعة بتخلفه، فإن فقد أحد هذه الأمور فالجماعة أفضل بلا خلاف وأما عدد صلاة التراويح، فقال القاضي: لا خلاف أنه ليس في ذلك حد لا يزداد عليه ولا ينقص منه.
فاختار الإمام أحمد وجمهور العلماء عشرين ركعة: لما روى مالك في (الموطأ) عن يزيد بن رومان قال: "كان الناس في زمن عمر يقومون في رمضان بثلاث وعشرين ركعة".
وقال السائب بن يزيد: لما جمع عمر الناس على أُبي بن كعب، وكان يُصلي بهم عشرين ركعة: وروى أبو بكر بن عبد العزيز في كتابه (الشافي) عن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُصلي في شهر رمضان عشرين ركعة.
(1/91)
وقال شيخ الإسلام: له أن يُصليها عشرين كما هو المشهور في مذهب أحمد والشافعي، وله أن يصليها ستاً وثلاثين كما هو مذهب مالك، وله أن يُصلي إحدى عشرة وثلاث عشرة وكله حسن، فيكون تكثير الركعات أو تقليلها بحسب طول القيام وقصره: وقال: الأفضل، يختلف باختلاف المُصلين فإن كان فيهم احتمال بعشر ركعات وثلاث بعدها، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُصلي لنفسه في رمضان وغيره فهو الأفضل، وإن كانوا لا يحتملونه، فالقيام بعشرين هو الأفضل وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين، فإنه وسط بين العشر والأربعين. وإن قام بأربعين وغيرها جاز، ولا يُكره شيء من ذلك. ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد مؤقت لا يُزاد فيه ولا يُنقص منه فقد أخطأ، وقد ينشط العبد فيكون الأفضل في حقه تخفيفها.
وقال: قراءة القرآن في التراويح سُنة باتفاق المسلمين، بل من أجل مقصود التراويح قراءة القرآن فيها ليسمعوا كلام الله، فإن شهر رمضان فيه نزل القرآن – فيه كان جبريل يُدارس النبي - صلى الله عليه وسلم - انتهى كلامه - رحمه الله -
فائدة
قال ابن القيم - رحمه الله -:
لما رأى المتيقظون سطوة الدنيا بأهلها، وخداع الأمل لأربابه، وتملك الشيطان، وقيادة النفوس، رأوا الدولة للنفس الأمارة، لجأوا إلى حصن التضرع والإلجاء؛ كما يأوي العبد المذعور إلى حرم سيده.
(1/92)
شهوات الدنيا كلعب الخيال، ونظر الجاهل مقصور على الظاهر، فأما ذو العقل فيرى ما وراء الستر. لاح لهم المُشتهى، فلما مدوا أيدي التناول بان العقل فيُرى ما وراء الستر. لاح لهم المشتهى، فلما مدوا أيدي التناول بان لأبصار البصائر خبط الفخ، فطاروا بأجنحة الحذر، وصوبوا إلى الرحيل الثاني (يا ليت قومي يعلمون) تلمح القوم الوجود ففهموا المقصود، فأجمعوا الرحيل قبل الرحيل، وشمروا للسير في سواء السبيل، فالناس مشتغلون بالفضلات، وهم في قطع الفلوات، وعصافير الهوى في وثاق الشبكة ينتظرون الذبح، "وقع ثعلبان في شبكة. فقال أحدهما للآخر: أين المُلتقى بعد هذا؟ فقال: بعد يومين في الدباغة". تا لله ما كانت الأيام إلا مناماً فاستيقظوا، وقد حصلوا على الظفر. ما مضى من الدنيا أحلام، وما بقي منها أماني، والوقت ضائع بينهما.
كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه، وولد لا يعذره، وجار لا يأمنه، وصاحب لا ينصحه، وشريك لا يُنصفه، وعدو لا ينام عن مُعاداته، ونفس أمارة بالسوء، ودنيا متزينة، وهوى مرد، وشهوة غالبة له، وغضب قاهر، وشيطان مزين، وضعف مستولٍ عليه، فإن تولاه الله وجذبه إليه، انقهرت له هذه كلها، وإن تخلى عنه ووكله إلى نفسه، اجتمعت عليه، فكانت الهلكة.
اللهم قوي إيماننا بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره اللهم وفقنا لامتثال أوامرك، واجتناب نواهيك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
4 – ما يُستحب في صلاة التراويح:
(1/93)
وعلى الإمام أن يتقي الله، فلا يُسرع سرعة تمنع المأموم من الإتيان بركن كالطمأنينة، أو واجب كتسبيح ركوع وتسبيح سجود، أو قول: "رب اغفر لي" ومن المؤسف أن كثيراً من الناس، أثقل الأئمة عنده من يصلي التراويح بخشوع وخضوع واطمئنان، ولذا يفرون منه ويذهبون إلى من يُسرع بها ولا يتمها على الوجه المشروع، ولا يطمئن بها، والطمأنينة ركن من أركان الصلاة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - للمسيء في صلاته لما أخل بالطمأنينة: «ارجع فصل، فإنك لم تصل».
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «صلوا كما رأيتموني أصلي» وكان السلف يعتمدون على العُصي من طول القيام.
وعن الأعرج قال: "ما أدركنا الناس إلا وهم يلعنون الكفرة في رمضان وقال: وكان القارئ يقرأ سورة البقرة في ثمان ركعات، وإذا قام بها في اثنتي عشرة ركعة رأى الناس أنه قد خفف".
وعن عبد الله بن بكر قال: سمعت أبي يقول: كنا ننصرف في رمضان من القيام فنستعجل الخدم بالطعام مخافة فوت السحور، وفي أخرى: "مخافة الفجر".
وعن السائب بن يزيد قال: أمر عمر أُبي بن كعب، وتميماً الداري رضي الله عنهم أن يقوما للناس في رمضان بإحدى عشرة ركعة، فكان القارئ يقرأ بالمئين حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، فما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر.
ويُستحب أن يقرأ بسورة القلم في عشاء الآخرة من الليلة الأولى من رمضان بعد الفاتحة لأنها أول ما نزل من القرآن. ويُستحب أن لا ينقص عن ختمةٍ في التراويح ليسمع الناس جميع القرآن. ويتحرى أن يختم آخر التراويح قبل ركوعه ويدعو.
ولشيخ الإسلام في ذلك دعاء جامع شامل. وقال: رُوي أن عند كل ختمة دعوة مُستجابة.
وقال العلماء يستحب لقارئ القرآن إذا ختمه أن يجمع أهله فإنه روي عن أنس بن مالك أنه كان يجمع أهله عند ختم القرآن وعنه أنه كان إذا أشفى على ختم القرآن بالليل بقي أربع سور أو خمس سور فإذا أصبح جمع أهله فتختمه ودعا ويُستحب لمن علم بالختم أن يحضره.
(1/94)
وروي عن قتادة أن رجلاً كان يقرأ القرآن في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان ابن عباس يجعل عليه رقيبا. فإذا أراد أن يختم قال لجلسائه قوموا بنا حتى نحضر الخاتمة وعن مجاهد: كانوا يجتمعون عند ختم القرآن ويقولون الرحمة تنزل.
وعن الحكم بن عيينه قال: كان مجاهد وعنده ابن أبي لبابة وأناس يعرضون القرآن فإذا أرادوا أن يختموه أرسلوا إلينا وقالوا: إنا نريد أن نختم فأحببنا أن تشهدونا فإنه يُقال: إذا خُتم القرآن نزلت الرحمة عند ختمه أو حضرت الرحمة عند ختمه.
وقال وهيب بن الورد قال لي عطاء: بلغني أن حميد الأعرج يريد أن يختم القرآن فانظر إذا أراد أن يختم فأخبرني حتى أحضر الختمة.
تَمَسَّكَ بِحَبْلِ اللهِ وَاتَّبِعِ الهُدَى ... وَلاَ تَكُ بِدْعِياً لَعَلَّكَ تُفْلِحُ
وَدِنْ بكِتَاب اللهِ وَالسُنَن الَّتِي ... أَتَتْ عَن رَسْولِ اللهِ تَنْجُو وتَربَح
وَقُلْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ كُلاَمُ مَلِيكِنَا ... بِذَلكَ دَانَ الاتْقِيَاءُ وَأَفْصَحُوا
وَقُلْ يَتَجَلَّى اللهُ لِلخَلقِ جَهْرَةً ... كَمَا البَدْوُ لاَ يَخْفَى وَرَبُّكَ أَوْضَحُ
ولَيْسَ بِمَوْلُوْدٍ وَلَيْسَ بِوَالِدٍ ... وَلَيْسَ لَهُ شِبْهٌ تَعَالَى المُسَبَّحُ
وَقَدْ يُنْكِرُ الجَهْمِيُّ هَذَا وَعِنْدَنَا ... بِمِصْدَاقٍ مَا قُلنا حَديثٌ مُصَحَّحُ
رَوَاهُ جَرِيْرٌ عَن مَقَالِ مُحَمَّدٍ ... فَقُلْ مِثْلَ مَا قَدْ قَالَ فِي ذَاكَ تَنْجَحُ
وَقَد يُنْكِرُ الجهَمِيُّ أَيْضاً يَمِيْنَهُ ... وَكِلْتَا يَدَيْهِ بِالفَوَاضِلِ تُفْتَحُ
وَقُلْ يَنْزِلُ الجَبَّارُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍٍ ... بِلاَ كَيْفٍ جَلَّ الوَاحِدُ الْمُتَمَدِّحُ
إِلَى طَبَقِ الدُّنْيَا يَمُنُّ بِفَضْلِه ... فتُفرَجُ أَبْوَاب السَّمَاءِ وَتُفْتَحُ
يَقُول أَلاَ مُسْتَغفراً يَلْقَ غَافِراً ... وَمُسِْتَمْنِحاً خَيْراً وَرِزْقاً فَيُمْنَحُ
رَوَى ذَاكَ قَومٌ لاَ يُرد حَديثَهُم ... أَلاَ خَابَ قَوْمٌ كَذَّبُوهُم وَقَبَّحُوا
(1/95)
وَقُلْ إن خَيرَ النَّاسِ بَعْد مُحَمَّدٍ ... وَزِيرَاه قَِدماً ثُمَّ عُثْمَان الأرجَحُ
وَرَابِعُهُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ بَعْدَهُم ... عَلَيٌّ حَلِيْفُ الْخَيْرِ بِالْخيْرِ مُمنَحُ
وإنَّهُمُوا لَلرَّهَطُ لاَ شَكَّ فِيْهِمْ ... عَلَى نُجَبِ الفِرْدَوْسِ بِالخُلْدِ تَسْرَحَ
سَعِيْدٌ وَسَعْدٌ وَابنُ عَوفٍ وَطَلْحَةٌ ... وَعَامرُ فِِهرٍ وَالزُّبَيْر المُمدَّحُ
وَقُلْ خَيْرَ قَوْلٍ فِي الصَّحَابَةِ كُلِّهِم ... وَلاَ تَكُ طَعَّاناً تَعِيْبُ وَتَجْرَحُ
فَقَد نَطَقَ الوَحي الْمُبِيْنُ بِفَضْلِهِم ... وَفِي الفَتْح آيٌ لِلصَّحَابَة تَمْدَحُ
وَبِالقَدَرِ المَقْدورِ أَيْقِنْ فَإنَّه ... دَعَامَةِ عَقْدِ الدِّيْنِ والدَّيْنُ أَفْيَحُ
وَلاَ تُنكِرَنْ جَهْلاً نَكِيراً وَمُنْكَراً ... وَلا الحَوْضَ وَالميزان إنَّك تُنصحُ
وَقُلْ يُخْرِجُ اللهُ العَظِيْمُ بِفَضْلِهِ ... مِن النَّارِ أَجْسَاداً مِن الفَحْمِ تُطْرَحُ
عَلَى النَّهرِ فِي الفِرْدَوسِ تَحْيَا بِمَائِهِ ... كَحَبِّ حَمِيْل السَّيل إِذْ جَاءَ يَطْفَحُ
وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ لِلْخَلْقِ شَافِعٌ ... وَأَنَّ عَذَابَ القَبْرِ بِالحَقِّ مُوْضَحُ
وَلاَ تُكْفِرَنْ أَهْلَ الصَّلاةِ وَإِنْ عَصَوا ... فَكُلُّهُمُ يَعْصِي وَذُو العَرْشِ يَصْفَحُ
وَلا تَعْتَقِد رَأيَ الخَوَارِجْ إِنَّهُ ... مَقَالٌ لِمَنْ يَهْوَاهُ يُرْدِيْ وَيَفْضَحُ
وَلا تَكُ مُرْجِيًا لَعُوْبًا بِدِيْنِه ... أََلاَ إِنَّمَا المُرْجِيْ بِالدِّينِ يَمْزَحُ
وَقُلْ إِنَّمَا الأْيَمانُ قَوْلٌ وَنِيَّةٌ ... وَفِعْلٌ عَلَى قَوْلِ النَّبِي مُصَرَحُ
وَينقُصُ طَوْرَاً بِالمَعَاصِي وَتَارَة ... بِطَاعَتِهِ يَنْمَى وَفِي الوَزْنِ يَرْجَحُ
وَدَعْ عَنْكَ آرَاءْ الرِّجَالِ وَقَوْلَهُم ... فَقَوْلُ رَسْولِ اللهِ أَزْكَى وَأَرجَحُ
وَلا تَكُ مِن قَوْمٍ تَلَهَّوا بِدِيْنِهِم ... فَتَطعَنَ فِي أهْلِ اَلْحَدِيِث وَتَقْدَحُ
(1/96)
إِذَا مَا اعْتَقَدْتَ الدَّهْرَ يَا صَاحِِ هَذِهِ ... فَأَنْتَ عَلَى خَيْرٍٍ تَبِيْتُ وَتُصْبِحُ
اللهم يا من عم البرية جوده وإنعامه نسألك أن تتفضل علينا بعفوك وغفرانك، وجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
في صلاة الوتر
ويبحث في:
1 – مشروع صلاة الوتر، وحكمها.
2 – وقت صلاة الوتر.
3 – القراءة المستحبة فيها.
4 – عدد ركعاتها.
5 – دعاء القنوت في الوتر.
1 – مشروعية صلاة الوتر، وحكمها:
الوتر سنة مؤكدة لمداومته - صلى الله عليه وسلم - عليه في حضره وسفره، ولما ورد عن علي - رضي الله عنه - قال: ليس الوتر بحتم كهيئة المكتوبة، ولكن سُنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (رواه الترمذي والنسائي وحسَّنه، والحاكم وصححه، ورواه ابن ماجه) ولفظه: أن الوتر ليس بحتم ولا كصلاتكم، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوتر، فقال: «يا أهل القرآن أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر».
وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام شهر رمضان، ثم انتظروه من القابلة فلم يخرج، وقال: «خشيت أن يُكتب عليكم الوتر». رواه ابن حبان.
وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوتر على بعيره. رواه الجماعة.
2 – وقت صلاة الوتر:
ووقت الوتر بعد صلاة العشاء وسنتها لما روى خارجة بن حذافة قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات غداة، فقال: «لقد أكرمكم الله بصلاة هي خيرٌ لكم من حُمُر النعم» قلنا: وما هي يا رسول الله؟ قال: «الوتر فيما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر». رواه الخمسة إلا النسائي.
وروى أبو بصرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أن الله زادكم صلاة فصلوها ما بين صلاة العشاء إلى صلاة الصبح، الوتر». رواه الإمام أحمد. ولحديث أبي سعيد مرفوعاً: «أوتروا قبل أن تصبحوا». رواه مسلم.
(1/97)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة». متفق عليه.
والأفضل فعله سحراً، لقول عائشة: من كل الليل قد أوتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانتهى وتره إلى السحر. متفق عليه.
ومن كان تهجد جعل الوتر بعده، ومن خشي أن لا يقوم، أوتر قبل أن ينام، لما ورد عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره، فليوتر آخره، فإن صلاة آخر الليل مشهودة»، وذلك أفضل. رواه مسلم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً». متفق عليه.
وأن أحب من له تهجد متابعة الإمام في وتره قام إذا سلم الإمام وأتى بركعة بعد الوتر شفع بها ركعة الوتر. ثم إذا تهجد أوتر فينال فضيلة متابعة الإمام حتى ينصرف، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة». صححه الترمذي.
وينال فضيلة جعل وتره آخر صلاته لحديث: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً». متفق عليه، ويقضيه مع شفعه إذا فات وقته لحديث أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من نام عن الوتر أو نسيه فليصل إذا أصبح أو ذكره». رواه أبو داود.
ولا يصح الوتر قبل صلاة العشاء لعدم دخول وقته، واقل الوتر ركعة، ولا يُكره الإتيان بها مفردة ولو بلا عذر من سفر أو مرض ونحوهما لما ورد عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما أنهما سمعا النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الوتر ركعة من آخر الليل». رواه أحمد ومسلم.
وعن أبي أيوب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «الوتر حق، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل». رواه الخمسة إلا الترمذي.
(1/98)
وثبت عن عشرة من الصحابة أن الوتر ركعة منهم: أبو بكر، وعمر وعائشة رضي الله عنهم – وهو مذهب جمهور أهل العلم مالك والشافعي وغيرهم – رحمهم الله تعالى.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلي ما بين صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة يُسلم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة".
وفي لفظ كان - صلى الله عليه وسلم - : يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة ويوتر بواحدة. وأدنى الكمال في الوتر ثلاث ركعات بسلامين، لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الوتر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «افصل بين الواحدة والثنتين بالتسليم». رواه الأثرم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما – أنه كان يُسلم بين الركعتين والركعة بالتسليم في الوتر، حتى أنه كان يأمر ببعض حاجته. رواه البخاري.
ويجوز سرد الثلاث بسلام واحد، فلا يجلس إلا في آخرهن، وتجوز كمغرب. ومن أدرك مع الإمام ركعة من الثلاث فإن كان الإمام يُسلم من كل اثنتين أجزأ لأن أقل الوتر ركعة، وإن لم يكن الإمام يُسلم من كل اثنتين قضى، لحديث: «ما أدركتموه فصلوا، وما فاتكم فاقضوا»، ولأن القضاء يحكي الأداء، والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.
(فصل)
ويُستحب أن يُقرأ في الركعة الأولى: { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى } ، وفي الثانية: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } ، وفي الثالثة: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } لحديث عائشة: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يوتر بثلاث لا يفصل فيهن". رواه أحمد والنسائي.
(1/99)
وعن أُبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بـ { سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى } ، { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } ، { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } ". رواه أبو داود، والنسائي، وزاد: ولا يُسلم إلا في آخرهن، ولأبي داود والترمذي عن عائشة نحوه، وفيه كل سورة في ركعة، وفي الأخيرة: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } والمعوذتين.
والسنة لمن أوتر بما زاد على ركعة أن يُسلم من كل ركعتين لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفصل بين الشفع والوتر، ويُسن فعل الركعة عقب الشفع بلا تأخير لها عنه، وإن صلى الإحدى عشرة كلها بسلامٍ واحد بأن سرد عشراً وتشهد التشهد الأول، ثم قام فأتى بالركعة جاز، أو سرد الجميع ولم يجلس إلا في الأخيرة جاز لكن الصفة الأولى أولى لأنها فعله - صلى الله عليه وسلم - .
4 – عدد ركعاتها:
يجوز الوتر بخمس وبسبع وبتسع، فإن أوتر بتسع سرد تماماً وجلس وتشهد التشهد الأول ولم يُسلم، ثم إذا صلى التاسعة وتشهد سلم، لما ورد عن سعيد بن هشام قال انطلقت إلى عائشة فقلت: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن خلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن وتر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: كنا نُعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه من الليل، فيبول ويتوضأ ويُصلي تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا في الثامنة فيذكر الله ويحمده، ويدعوه، ثم ينهض ولا يُسلم، فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله، ويحمده ويدعوه، ثم يُسلم تسليماً فيُسمعنا، ثم يُصلي ركعتين بعد ما يُسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بُني. رواه مسلم.
وإن أوتر بسبع أو بخمس لم يجلس إلا في آخرها لما ورد عن أم سلمة قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بسبع وبخمس لا يفصل بينهن سلام ولا كلام. رواه أحمد والنسائي وابن ماجه.
(1/100)
وعن عائشة، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، يوتر من ذلك بخمس ولا يجلس في شيء إلا في آخرهن. متفق عليه.
5 – دعاء القنوت في الوتر:
ويُستحب أن يقنت في الركعة الأخيرة بعد الركوع لأنه صح عنه - صلى الله عليه وسلم - من رواية أبي هريرة وأنس وابن عباس وعن عمرو وعلي أنهما كانا يقنتان بعد الركوع. رواه أحمد والأثرم، ولو كبر ورفع يديه، ثم قنت قبل الركوع جاز لحديث أُبي بن كعب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقنت قبل الركوع. رواه أبو داود.
وروى الأثرم عن ابن مسعود أنه كان يقنت في الوتر، وكان إذا فرغ من القراءة كبر ورفع يديه، ثم قنت. وقال أبو بكر ابن الخطيب: والقنوت: الدعاء وهو ما رُوي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قنت فقال: «بسم الله الرحمن الرحيم: اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونُثني عليك الخير كله ونشكرك، ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار مُلحق».
وروى الحسن بن علي رضي الله عنهما قال علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمات أقولهن في قنوت الوتر وهن: «اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت».
وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في وتره: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك، لا نُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك». رواه الخمسة ثم يُصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لحديث الحسن بن علي - رضي الله عنه - وفي آخره: «وصلى الله على محمد». رواه النسائي.
(1/101)
وعن عمر: «الدعاء موقوف بين السماء والأرض، لا يصعد منه شيء حتى تُصلي على نبيك» رواه الترمذي. ثم يمسح وجهه بيديه، هنا وخارج الصلاة إذا دعا. لعموم حديث ابن عمر رضي الله عنهما «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع يديه في الدعاء، لا يحطهما حتى يمسح بهما وجه». رواه الترمذي.
ولقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن عباس: «فإذا فرغت فامسح بهما وجهك». رواه أبو داود وابن ماجه. ويؤمن المنفرد الضمير، وإذا سلم من الوتر سن قوله: «سبحان الملك القدوس» - ثلاث مرات – يرفع صوته في الثالثة، لما روى أُبي بن كعب قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلم في الوتر قال: «سبحان الملك القدوس». وزاد ثلاث مرات يُطيل في آخرهن.
وفي رواية للنسائي عن عبد الرحمن بن أبزي عن أبيه قال: كان يقول إذا سلم: «سبحان الملك القدوس» ثلاثاً، ويرفع صوته بالثالثة.
وَصَلِّ بِشَهْرِ الصَّوْمِ عِشْرِيْنَ رَكْعَةً ... تَرَاوِحَ فِي جَمْعٍ وَبِالوِتْرِ شَيِّدِ
وَقُمْ بَعْدَهَا وَاشْفَعْ هُدِيْثَ بِرَكْعَةٍ ... لِتُوتِرَ إِمَّا شِئْتَ بَعْدَ التَّجَهُّدِ
وَأَفْضَلُ نَفْلِ المَرْءِ لَيْلاً بِبَيْتِهِ ... فَقُمْ تِلْوَ نِصْفٍٍ مِثْلِ دَاودَ فَاسْجُدِ
وَإِنْ شِئْتَ اجْهَرْ فِيْهِ مَا لَم تَخَفْ أذَى ... لإِبْعَادِ شَيْطَانٍ وَإيْقَاظِ رُقُدِ
وَخُذْ قَدْرَ طَوْقِ النَّفْسِ لاَ تَسْأَمَنَّهُ ... وَقِلْ تَسْتَعِنْ بِالنَّوْمِ عِنْدَ التَّجَهُّدِ
فَإنْ لَمْ تُصَلِّ فَاذْكُرِ اللهَ جَاهِداً ... وَتُبْ وَاسْتَقلْ مِمَّا جَنَيْتَ وَسَدِّدِ
فَلاَ خَيْرَ فِي عَبْدٍٍ نَؤُومٍ إِلَى الضُّحَى ... أَمَا يَسْتَحِي مَولاً رَقِيْباً بَِمَرصَدِ
يُنَادِيِهِ هَلْ مِن سَائِلٍ يُعْطَ سُؤْلَهُ ... وَمُسْتَغْفرٍ يُغْفَرْ لَهُ وَيؤَيَّدِ
(1/102)
اللهم وفقنا توفيقاً يقينا عن معاصيك وأرشدنا إلى السعي فيما يرضيك وأجرنا يا مولانا من خزيك وعذابك وهب لنا ما وهبته لأوليائك وأحبابك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتاب الفضائل
ويبحث في:
1 – ما ورد من الحث على الاجتهاد في العشر الأخير من رمضان والحث على القيام عموماً.
2 – ما ورد في فضل هذا العشر الأخير، والحث على القيام عموماً.
3 – ما ورد في ليلة القدر من الفضل وذكر علامتها.
1 – ما ورد من الحث على الاجتهاد في العشر الأخيرة من رمضان:
يُستحب الاجتهاد والحرص على مداومة القيام في العشر الأواخر من رمضان وإحياؤها بالعبادة واعتزال النساء وأمر الأهل بالاستكثار من الطاعة فيها، لما ورد عن عائشة - رضي الله عنه - «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، كان إذا دخل العشر الأواخر أحيا الليل، وأيقظ أهله، وشد المئزر». متفق عليه.
وعنها قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجتهد في العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيره». رواه مسلم.
وأخرج الطبراني من حديث علي - رضي الله عنه - : «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان وكل صغير وكبير يُطيق الصلاة».
وفي الترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحداً من أهله يطيق القيام إلا أقامه».
3 – ما ورد في فضل هذا العشر الأخير:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه». رواه الجماعة إلا ابن ماجه.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها: قال: «قولي اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فاعف عني». رواه الترمذي.
(1/103)
قال ابن جرير: كانوا يستحبون أن يغتسل، ويتطيب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر.
وروي عن أنس - رضي الله عنه - أنه إذا كان ليلة أربع وعشرين اغتسل وتطيب ولبس حلة وإزاراً ورداءً، فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلى مثلها من قابل.
وقال حماد بن سلمة: كان ثابت وحميد يلبسان أحسن ثيابهما ويتطيبان ويُطيبان المسجد بالنضوح والدخنة في الليلة التي تُرجى فيها ليلة القدر فيُستحب في الليالي التي تُرجى فيها ليلة القدر التنظف والتطيب والتزين بالغسل والطيب واللباس الحسن كما شرع ذلك في الجمع والأعياد، وكذلك يُشرع أخذ الزينة من الثياب في سائر الصلوات، قال الله تعالى: { يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } .
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: «الله أحق أن يُتزين له».
وروي عنه مرفوعاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يكمل التزين الظاهر إلا بتزيين الباطن بالتوبة والإنابة إلى الله تعالى، وتطهيره من أدناس الذنوب، والله سبحانه لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.
فمن وقف بين يديه فيزين ظاهره باللباس، وباطنه بلباس التقوى، وقال الله تعالى: { يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } .
عباد الله: إن عشركم هذا هو العشر الأخير، وفيه الخيرات والأجور الكثيرة تكمل فيه الفضائل، وتتم فيه المفاخر، ويطلع على عباده الرب العظيم الغافر ويُنيلهم الثواب الجزيل الوافر، فيه تزكو الأعمال، وتُنال الآمال، وقد ذكر جل وعلا من محاسن أهل الإيمان، أنهم تتجافى جنوبهم عن المضاجع، عن مُعاذ ابن جبل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } قال: هي قيام العبد أول الليل.
(1/104)
وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عجب ربنا من رجلين: رجل ثار من وطائه ولحافه من بين حِبه وأهله إلى صلاته رغبة فيما عندي وشفقة مما عندي» الحديث.
وقال الحسن ومجاهد ومالك والأوزاعي وغيرهم: "إن المراد بالتجافي القيام لصلاة النوافل بالليل"، وفي آية سورة الذاريات أخبر جل وعلا أنهم كانوا ينامون القليل من الليل، ويتهجدون مُعظمه قال تعالى: { كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } . قال: هي قيام العبد أول الليل.
قال ابن عباس ما تأتي عليهم ليلة يناموا حتى يصبحوا إلا يصلون فيها شيئاً، إما من أولها أو من أوسطها. وقال الحسن: كابدوا قيام الليل فلا ينامو من الليل إلا قليله.
وعن أبي أُمامه - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «عليكم بقيام الليل، فإنه داب الصالحين قبلكم، وهو قربة من ربكم ومغفرةُ للسيئات ومنهاة عن الإثم».
وقال الحسن البصري: كان الأحنف بن قيس يقول: عرضت عملي على عمل أهل الجنة، فإذا قوم قد باينونا بوناً بعيداً، وإذا قوم لا تبلغ أعمالهم، كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، وعرضت عملي على عمل أهل النار، فإذا قوم لا خير فيهم مكذبون بكتاب الله ولرسل الله مُكذبون بالبعث بعد الموت، فقد وجدت من خيرنا منزلة قوماً خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال رجل من بني تميم لأُبي: يا أبا أسامة صفة لا أجدها فينا، ذكر الله تعالى قوماً فقال: { كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ } ونحن والله قليلاً ما نقوم، فقال له أُبي - رضي الله عنه - : طوبى لمن رقد إذا نعس، واتقى الله إذا استيقظ.
(1/105)
وقال عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - : لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة انجفل الناس إليه، فكنت فيمن انجفل، فلما رأيت وجهه - صلى الله عليه وسلم - عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول ما سمعت منه - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يا أيها الناس أطعموا الطعام وصلوا الأرحام وأفشوا السلام وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام».
موعظة
إخواني: إن قيام الليل كما علمتم فيه فضل عظيم وثواب جزيل لمن وفقه الله جل وعلا، وهو من أثقل شيء على النفس ولا سيما بعد أن يرقد الإنسان، وإنما يكون خفيفاً بالاعتياد، وتوطين النفس وتمرينها عليه والمداومة والصبر على المشقة والمجاهدة في الابتداء، ثم بعد ذلك ينشرح وينفتح باب الأنس بالله وتلذ له المناجاة والخلوة، وعند ذلك لا يشبع الإنسان من قيام الليل، فضلاً عن أن يستثقله أو يكسل عنه كما وقع لكثير من السلف. قال بعضهم: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم ويا بُعد ما بين الحالتين، فسبحان من وفق أقواماً فتقربوا إليه بالنوافل، وأبعد بحكمته وعدله آخرين فهم عن ما ينفعهم في حاضرهم ومآلهم غافلون.
شعراً:
ذُنُوبُكَ يَا مَغْرُوْرُ تُحْصَي وَتُحْسَبُ ... وَتُجْمَعُ فِي لَوحٍ حَفِيْظٍ وَتُكْتَبُ
وَقَلْبُكَ فِي سَهوٍ وَلَهوٍ وَغَفَلةٍ ... وَأَنْتَ عَلَى الدُّنْيَا حَرِيِصٌ مُعَذَّبُ
تُبَاهِيْ بِجَمْعِ المَالِ مِنَ غَيْرِ حِلِّهِ ... وَتَسْعَى حَثِيْثاً فِي المَعَاصِيْ وَتُذْنِبُ
أَمَا تَذْكُرُ المَوتَ المُفَاجِيْكَ فِي غَدٍ ... أَمَا أَنْتَ مِن بَعْدِ السَّلامِةِ تَعْطَبُ
>
أَمَا تَذْكُرُ القَبْرَ الوَحِيْشَ وَلَحْدِهِ ... بِهِ الجِسْمِ مِن بعْدِ العَمَارَةِ يَخْرُبُ
أَمَا تَذْكُرُ اليَومَ الطَّويلَ وَهُوَ لَهُ ... وَمِيزَان قِسْطٍ لِلْوَفَاءِ سيَُُنْصَبُ
تَرُوْحُ وَتَغْدُو فِي مَرَاحِكَ لاَهِياً ... وَسَوفَ بِأشْرِاكِ المَنِيَّةِ تَنْشَبُ
(1/106)
تَُُعالِجُ نَزْعَ الرُّوحِ مِن كُلِّ مَفْصِلٍ ... فَلا رَاحِمٍ يُنْجِي وَلاَ ثُمَّ مَهْرَبُ
وَغُمضَتِ العَيْنَانِ بَعْدَ خُرُوجِهَا ... وَبُسِّطَتْ الرِّجْلاَنِ وَالرَّأْسُ يُعْصَبُ
وَقَامُوا سِراعاً فِي جَهَازِكَ أَحْضَرُّوا ... حَنُوطاً وَأَكْفَاناً وَلِلِمَاء قَرَّبُوا
وَغَاسِلُكَ المَحُزُونُ تَبْكِيْ عُيُونُهُ ... بِدَمْعٍ غَزِيْرٍ وَاكِفٍٍ يَتَصَبَّبُ
وَكُلُّ حَبِيْبٍٍ لُبُّهُ مُتَحَرِّقٌ ... يُحَرِّكُ كَفَِّيْهِِ عَلَيْكَ وَيَنْدُبُ
وَقَدْ نَشَرُوا الأَكْفَانَ مِن بَعْدِ طَيِّهَا ... وَقَدْ بَخرّوا مَنْشُورَهُنَّ وَطَيَّبُوا
وَأَلقَوْكَ فِيْمَا بَيْنَهُنَّ وَأدْرَجُوا ... عَلَيْكَ مَثَانِي طَيَّهُنَّ وَعَصّبُوا
وَفِي حُفْرَةٍ أَلْقَوكَ حَيْرانْ مُفْرَداً ... تَضُمَّكَ بَيْدَاءُ مِن الأَرْضِ سَبْسَبُ
إِِذَا كَانَ هَذَا حَالُنَا بَعْدَ مَوْتِنَا ... فَكَيْفُ يِطِيٍبُ اليَومَ أَكْلٌ وَمَشربُ؟!
وَكَيْفَ يَطِيْبُ العَيْشُ وَالقَبْرُ مَسْكنُ ... بِهِ ظُلُمَاتُ غَيْهَبٌ ثُمَّ غَيْهَبُ
وهولٌ وَدِيْدانٌ وَرَوْعٌ وَوَحْشَةٌ ... وَكُلُ جَدِيدٍ سَوْفَ يَبْلى وَيَذْهَبُ
فَيَا نَفْسُ خَافِي اللهَ وَارْجِي ثَوابَهُ ... فَهَادِمُ لِذَاتِ الفَتَى سَوْفَ يَقْرُبُ
وَقُولِي إِلَهي أَوْلِنِي مِنْكَ رَحْمَةً ... وَعَفْوا فإنَّ اللهَ لِلذَّنبِ يُذْهَِبُ
وَلا تُحرِقَنْ جِسْمِِي بِنَارِكَ سَيَدي ... فَجِسْمِيْ ضَعِيفٌ وَالرَّجَا مِنْكَ أَقْرَبُ
فَمَا لِي إِلا أَنْتَ يَا خَالِقَ الوَرَى ... عَلَيْكَ اتِّكَالِي أَنْتَ لِلْخَلْقِِ مَهْرَبُ
وَصَلِّي إلَهِي كُلَّمَا ذَرَّ شَارِقٌ ... عَلَى أَحْمَدَ المُخْتَارِ مَا لاَحَ كَوْكَبُ
(1/107)
اللهم إنا نعوذ بك من الشك بعد اليقين، ومن الشيطان الرجيم، ومن شدائد يوم الدين، ونسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، اللهم ارحمنا إذا عرق الجبين واشتد الكرب والأنين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله أجمعين.
ليلة القدر
فضائلها وعلاماتها
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من كان مُتحرياً فليتحرها ليلة سبعٍ وعشرين – أو قال -: تحروها ليلة سبعٍ وعشرين، يعني ليلة القدر» رواه أحمد بإسناد صحيح.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً أتي نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا نبي الله، إني شيخٌ كبير عليل يشق عليَّ القيام فأمرني بليلة لعل الله يوفقني فيها لليلة القدر، فقال: «عليك بالسابعة» رواه أحمد.
وعن زر بن حبيش قال: «سمعت أُبي بن كعب يقول: وقيل له أن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يقول: من قام السنة أصاب ليلة القدر، فقال أُبي: والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان يحلف ما يستثني، والله إني لأعلم أي ليلة هي، هي الليلة التي أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقيامها هي ليلة سبعٍ وعشرين، وأمارتها أن تطلع الشمس في صبيحة يومها لا شعاع لها». رواه أحمد، ومسلم، وأبو داود، والترمذي وصححه.
(1/108)
وروى البخاري عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: اعتكفنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشر الأوسط من رمضان، فخرج صبيحة عشرين فخطبنا وقال: «إني رأيت ليلة القدر ثم أُنسيتها أو نسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر، إني رأيت أني أسجد في ماءٍ وطين فمن كان اعتكف مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليرجع» فرجعنا وما نرى في السماء قزعة، فجاءت سحابة فمطرت حتى سال سقف المسجد – وكان من جريد النخل – وأقيمت الصلاة فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد في الماء والطين، حتى رأيت اثر الطين في جبهته.
وعن عبد الله بن أنيس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «رأيت ليلة القدر ثم أُنسيتها وإذا بي أسجد صبيحتها في ماءٍ وطين». قال فمطرنا في ليلة ثلاث وعشرين فصلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانصرف، وأن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه. رواه أحمد ومسلم وزاد.
وعن أبي بكرة: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «التمسوها في تسعٍ بَقين، أو سبعٍ بقين، أو خمسٍ بقين، أو ثلاثٍ بقين أو آخر ليلة». قال: وكان أبو بكرة يُصلي في العشرين من رمضان صلاته في سائر السنة فإذا دخل العشر اجتهد. رواه أحمد، والترمذي وصححه.
وعن أبي نضرة عن أبي سعيد في حديثٍ له: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج على الناس فقال: «يا أيها الناس. إنها كانت أُبينت لي ليلة القدر، وإني خرجت لأخبركم بها فجاء رجُلان يحتقان معهما الشيطان فنسيتها، فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان، التمسوها في التاسعة والخامسة والسابعة» قال: قلت يا أبا سعد: إنكم أعلم بالعدد منا، فقال: أجل! نحن أحق بذلك منكم»، قال: قلت: ما التاسعة والسابعة والخامسة؟ قال: «إذا مضت واحدة وعشرون فالتي تليها اثنان وعشرون فهي التاسعة، فإذا مضت ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة، فإذا مضت خمسٌ وعشرون فالتي تليها الخامسة» رواه أحمد، ومسلم.
(1/109)
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «التمسوها في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعة تبقى، في سابعةٍ تبقى، في خامسةٍ تبقى». رواه أحمد، والبخاري، وأبو داود.
وفي رواية: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «هي في العشر الأخير سبع يمضين أو تسعٌ يبقين، يعني ليلة القدر» رواه البخاري.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجالاً من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان مُتحرياً فليتحرها في السبع الأواخر».
ولمسلم قال: أُرى رجل أن ليلة القدر ليلة سبعٍ وعشرين، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أرى رؤياكم قد تواطأت في العشر الأواخر فاطلبوها في الوتر منها».
وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان» رواه مسلم والبخاري.
وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليُخبرنا بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: «خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت وعسى أن يكون خيراً لكم فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» رواه البخاري.
وعن عبد الله بن أنيس - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله إن لي بادية أكون فيها وأنا أصلي فيها بحمد الله، فمُرني بليلة أنزلها إلى المسجد فقال: «انزل ثلاثة وعشرين» رواه أبو داود.
قيل لابنه: كيف كان أبوك يصنع؟ قال: كان يدخل المسجد إذا صلى العصر فلا يخرج منه إلا لحاجة حتى يُصلي الصبح، فإذا صلى الصبح، وجد دابته على باب المسجد، فجلس عليها ولحق بباديته.
(1/110)
قال البغوي: وفي الجملة أبهم الله هذه الليلة على هذه الأمة ليجتهدوا بالعبادة في ليالي رمضان طمعاً في إدراكها، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة، واخفى الصلاة الوسطى في الصلوات الخمس، واسمه الأعظم في الأسماء، ورضاه في الطاعات ليرغبوا في جميعها وسخطه في المعاصي لينتهوا عن جميعها، وأخفى قيام الساعة ليجتهدوا في الطاعات حذراً من قيامها.
إذا تقرر هذا وعلمت ما ورد من الحث عليها، فاعلم أنه ينبغي لكل موفق مريد للكمال والسعادة الأبدية أن يبذل وسعه ويستفرغ جهده في إحياء ليالي العشر الأخير وقيامها لعله أن يُصادف تلك الليلة الجليلة التي اختص الله تعالى بها هذه الأمة، وآتاهم فيها من الفضل ما لا يحصره العدد.
فيا عباد الله إن هذا عشر. شهر. مبارك الليالي والأيام وهو سبب لمحو الذنوب والآثام، وفيه يتوفر جزيل الشكر والإنعام، فاعتذروا فيه إلى المولى الكريم، وأقبلوا بقلوبكم إليه وقفوا بالخضوع لديه، وانكسروا بين يديه فإنه رحيمٌ كريم.
عباد الله: إنكم الآن في رمضان، وهو وحده عمر طويل لمن رام الثواب الجزيل، فإن في لياليه ليلة واحدة خيراً من ألف شهر، قال الله تعالى: { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } . فاجتهدوا رحمكم الله بإخلاص الأعمال لله جل وعلا وبادروا بالتوبة والاستغفار والابتهال إلى ذي الجلال والإكرام.
واعلموا رحمكم الله أن الموتى في قبورهم يتحسرون على زيادة في أعمالهم بتسبيحة أو تحميدة أو ركعة، رُئي بعضهم في المنام فقال: ما عندنا أكثر من الندامة، وما عندكم أكثر من الغفلة، ورُئي بعضهم فقال: قدمنا على أمرٍ عظيم نعلم ولا نعمل، وأنتم تعلمون ولا تعملون والله لتسبيحة أو تسبيحتان، أو ركعة أو ركعتان في صحيفة أحدنا خيرٌ من الدنيا وما فيها.
وفي الترمذي: ما من ميت يموت إلا ندم، إن كان مُحسناً ندم أن لا يكون ازداد، وإن كان مُسيئاً ندم أن لا يكون استعتب.
قال الشاعر:
(1/111)
تذكر وَلاَ تَنْسَ المَعَادَ وَلاَ تَكُنْ ... كَأَنَّكَ مُخْلى لِلْمَلاعِبِ مُمْرَجُ
وَلاَ تنْسَ إِذْ أَنْتَ المُولوَلُ حَوْلَهُ ... وَنَفْسُكَ مِن بَيْنِ الْجَوَانِحِ تَخْرُجُ
وَلاَ تنْسَ إِذْ أَنْتَ المُسَجَّي بِثَوْبِهِ ... وَإِذْ أَنْتَ فِي كَرْبِ السِّيَاقِ تُحْشْرجُ
وَلاَ تنْسَ إِذْ أَنْتَ المُعزي قَريْبُهُ ... وَإذْ أَنْتَ فِي بِيْضٍٍ مِن الرَّيْطِ مُدْرَجُ
وَلاَ تنْسَ إِذْ يَهْديك قَومٌ إِلَى الثَّرى ... إِذَا مَا هَدَوْكَاهُ انْثَنَوا لَم يُعَرجُوا
وَلاَ تنْسَ إِذْ قبرٌ وَإذْ مِن تُرَابِه ... عَلَيْكَ بِهِ رَدْمٌ وَلَبْنٌ مُشَرَّج
وَلاَ تنْسَ إِذْ تُكْسَي غَداً مِنِهُ وَحْشَةً ... مَجَالِسُ فِيهِنَّ العَنَاكِبُ تَنْسِِجُ
وَلاَ بُدَّ مِن بَيْتَ انقطاعٍ وَوَحْدَةٍٍ ... وَإنْ سَرَّكَ البَيْتُ العَتِيِقُ المُدَبَّجُ
أَلاَ رُبَّ ذِيْ طِمْرٍ غَداً فِي كَرَامَةٍ ... وَمَلْكٍٍ بِتِيْجَانِ الْهَوَانِ مُتوَّجُ
لَعَمْرُكَ مَا الدُّنْيَا بِدَار ِإِقَامَةٍ ... وَإنْ زَخْرَفَ الغَاوُوْنَ فِيْهَا وَزَبْرَجُوا
* * *
اللهم يا من خلق الإنسان وبناه واللسان وأجراه، يا من لا يُخيب من دعاه، هب لكلٍ منا ما رجاه، وبلغه من الدارين مُناه، اللهم اغفر لنا جميع الزلات، واستر علينا كل الخطيئات وسامحنا يوم السؤال والمناقشات، وانفعنا وجميع المسلمين بما أنزلته من الكلمات يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
* * *
فصل في ذكر بعض الأدعية الواردة
(1/112)
عباد الله اغتنموا هذه الأوقات الشريفة وأكثروا فيها من الدعاء فإن الدعاء له أثر عظيم وموقع جسيم وهو مخ العبادة لا سيما إذا كان بقلبٍ حاضر وصادف إخباتاً وخشوعاً وانكساراً وتضرعاً ورِقةً وخشيةً واستقبل القبلة حال دعائه وكن على طهارة وجدد التوبة وأكثر من الاستغفار وابدأ بحمد الله وتنزيهه وتمجيده وتقديسه والثناء عليه وشكره ثم صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك ودعا بدعاء مشروع باسم من أسماء الله الحسنى مناسب لمطلوبه فإن كان يريد علماً قال يا عليم علمني وإن كان يطلب رحمة قال يا رحمن ارحمني وإن كان يطلب رزقاً قال يا رزاق ارزقني ونحو ذلك ولم يمنع من الدعاء مانع كأكل الحرام وقطيعة رحم وعقوق ونحو ذلك وتحري أوقات الإجابة وأتى بأسبابها وهي الاستجابة لله تعالى بالانقياد لأوامره والانتهاء عن ما نهى عنه فالله أصدق القائلين وأوفى الواعدين قال تعالى: { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ، وقال عز من قائل: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } ، وقال جل وعلا: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } ، وقال تبارك وتعالى: { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } ، وقال تعالى: { وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ } ، وقال: { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا } .
ومن أوقات إجابة الدعاء إذا اجتمعت الشروط وانتفت الموانع ثلث الليل الأخير، ويوم الجمعة عند صعود الإمام المنبر أو في آخر ساعة من يومها، وعند الأذان، وبين الأذان والإقامة، وعند نزول الغيث، وعند فطر الصائم، وعشية عرفة، وفي حالة السجود، وفي ليلة القدر، وفي أدبار الصلوات وفي أدبار النوافل. وعند ختم القرآن وعند البكاء والخشية من الله.
قال بعضهم:
قَالُوا شُروطُ الدُّعاءِ الْمُسْتَجَابِ لَنا ... عَشْرٌ بِهَا بِشِّرِ الدَّاعِي بِافلاح
(1/113)
طَهَارَةٌ وَصَلاةٌ مَعْهُمَا نَدَمٌ ... وَقَت خُشُوعٌ وَحُسْنُ الظَّنِ يَا صَاح
وَحلُّ قُوْتٍٍ وَلاَ يُدْعَى بِمَعْصِيَةٍ ... وَاسْمٌ يُنَاسِبُ مَقْرُوْنٌٌ بِإلْحَاحِ
فعليكم عباد الله بالاجتهاد بالدعاء، وعليكم بجوامع الدعاء التي تجمع خير الدنيا والآخرة، وفي الصحيحين: «كان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - : اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار».
ومن دعائه - صلى الله عليه وسلم - إذا سافر: «أنه كان يتعوذ من وعثاء السفر وكآبة المنظر، والحور بعد الكور، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأهل والمال» رواه مسلم.
ومن ما ورد عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعوات المكروب: «اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت» رواه أبو داود، وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رجل: لزمتني هموم وديون يا رسول الله، قال: «أفلا أعلمك كلاماً إذا قلته أذهب الله همك وقضى عنك دينك قال: قلت: بلى، قال: قل إذا أصبحت وإذا أمسيت اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من البخل والجبن، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال» قال: ففعلت ذلك فأذهب همي وقضى عني ديني، رواه أبو داود.
ومن دعائه - صلى الله عليه وسلم - : «اللهم إني أسألك الهدى والتُقى والعفاف والغنى، اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني، اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفُجاءة نقمتك وجميع سخطك، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلبٍ لا يخشع ومن نفسٍ لا تشبع ومن دعوةٍ لا يُستجاب لها».
وقالت أم سلمة رضي الله عنها: «كان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - يا مُقلب القلوب ثبت قلبي على دينك».
(1/114)
ومن دعائه - صلى الله عليه وسلم - : «اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قولٍ وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قولٍ وعمل، وأسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم».
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «تعوذوا بالله من جهدِ البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء».
ومن دعائه - صلى الله عليه وسلم - : «اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها».
ومن ذلك ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . كان يقول: «اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت، اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون».
ومن دعائه - صلى الله عليه وسلم - : «اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلة والذلة، وأعوذ بك من أن أظلم أو أُظلم».
وعن عمر رضي الله عنه قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من خمس: من الجبن، والبخل، وسوء العمر، وفتنة الصدر وعذاب القبر» رواه أبو داود والنسائي.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق» رواه أبو داود.
وعنه - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة» رواه أبو داود، والنسائي وابن ماجه.
وعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من البرص والجذام والجنون ومن سيء الأسقام» رواه أبو داود والنسائي.
وعن قطبة بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء» رواه الترمذي.
(1/115)
وعن شُتير بن شكل بن حُميد عن أبيه قال: قلت: يا نبي الله، علمني تعويذاً أتعوذ به قال: «قل اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي وشر بصري وشر لساني وشر قلبي وشر عيني» رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي.
وعن أبي اليسر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو: «اللهم إني أعوذ بك من الهدم، وأعوذ بك من التردي ومن الغرق والحرق والهرم، وأعوذ بك من أن يتخبطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك من أن أموت في سبيلك مُدبراً وأعوذ بك من أموت لديغاً» رواه أبو داود والنسائي.
ومن دعائه - صلى الله عليه وسلم - : «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي وهزلي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيءٍ قدير» متفق عليه.
ومن ذلك ما علمه - صلى الله عليه وسلم - الصديق قال له: «قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرةً من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» متفق عليه.
وعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إلظوا بياذا الجلال والإكرام» أي الزموا هذه وألحوا بها وداوموا عليها.
وعن عائشة قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم والمغرم والمأثم اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار وفتنة النار وفتنة القبر وعذاب القبر ومن شر فتنة الغنى ومن شر فتنة الفقر ومن شر فتنة المسيح الدجال اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد ونق قلبي كما يُنقى الثوب الأبيض من الدنس وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب» متفق عليه.
(1/116)
وعن عبد الله بن يزيد الخطمي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول في دعائه «اللهم ارزقني حبك وحب من ينفعني حبه عندك اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوةً لي فيما تُحب اللهم ما زويت عني مما أحب فاجعله فراغاً فيما تحب» رواه الترمذي.
وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «كان من دعاء داود يقول: اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك والعمل الذي يُبلغني حبك اللهم اجعل حبك أحب إليَّ من نفسي ومالي وأهلي ومن الماء البارد» الحديث رواه الترمذي وعن أم معبد قالت سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اللهم طهر قلبي من النفاق وعملي من الرياء ولساني من الكذب وعيني من الخيانة فإنك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور» رواه البيهقي في الدعوات الكبير.
وعن عبد الله بن عمرو قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اللهم إني أسألك الصحة والعفة والأمانة وحسن الخلق والرضى بالقدر» رواه البيهقي في الدعوات الكبير.
عن شداد بن أوس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «سيد الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» أخرجه البخاري، والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.
وقال بعضهم في سؤال الرحمن تعالى:
لاَ تَطْلُبَنْ مِن غَيْر رِبِّكَ حَاجَةً ... إِنْ كُنْتَ بِالرحمن ذَا إيمان
وَمَنَ الَّذِي يَستَبْدِلُ الضُّعَفَاءَ ... وَالفقراءُ والبخلاءَ بالرحمن
أَوْ يَشْتَرِي الظُّلمَاتِ بِالأَنْوَارِ أَوْ ... يَرضَى يَعُودُ بَأخسرِ الخُسْرَانِ
فَوِضْ إِلَى الْمَعْبود أمَركَ كُلَّه ... وافزعْ إِلَى المولى بغيرِ تَواني
وَاقرعْ إِذَا نَامَ الأنَامُ وَغَلُّقُوا ... أَبْوَابهم بابَ النوالِ الَهاني
(1/117)
بَابَ الَّذِي بَسَط اليدَينِ بِلَيِلِهِ ... وَنَهارِه لِتَدارك العصيانِ
وَيَداهُ مَبسوطِتان لِلإحْسَانِ مَا ... قُبَضَتْ يَدٌ خَوفاً مِن النُّقْصَانِ
بَابَ الَّذِي إِنْ لَم تَسَلْهُ فَضْلَهُ ... يَغْضَبْ فَكَيفَ يَردُّ بِالحِرمَانِ
بابَ المجيبِ إِذَا دَعَاه مُرْتَجٍ ... لاَجٍ إِليهِ مَا لَه مِن ثاني
الواعدُ العبدَ الإجابةَ إن دَعا ... فِي آيَتَيْ بُشْرى مِن القُرآن
باَبُ الَّذِي نَبَّا الرَّسولُ بِقُربِه ... ليُبشر الجُهلاَ مِن العُبدانِ
بابَ إِذَا لَم تَأتِه مُتَذَللاً ... لَم تُحْظَ بِالإيمانِ والْغُفرانِ
وَخَسرتَ فِي كُلّ الأمورِ فَلَم تَفُزْ ... بمُنًى وَعُدْتَ بِخَيْبَةٍٍ وَهَوان
بَابَ الَّذِي يُغنِيْكَ عَن زَيْدٍ وَعَنْ ... عَمروٍ وَعَنْ ثَانٍ وَعَنْ أَعوان
بابَ الَّذِي إنْ يُعْطِ كُلا سُؤْلَه ... لَم يُلْفَ مُنْتَقصاً مَدَى الأَزْمَان
بَابَ الَّذِي لَو يَتَّقِيه الْخَلقُ مَا ... زَادُوهُ فِي مُلْك وَلاَ سُلطان
بَابَ الَّذِي إِنْ يَكفروهُ الخلقُ مَا ... نَقَصُوهُ بِالكُفْرَان وَالطُّغْيَانِ
بَابَ الَّذِي أهلُ السَموات العُلى ... يَتَضَرَّعُون إليه وَالثَّقَلان
بَابَ الَّذِي فِي كُلِّ يَوْمٍٍ وَهو في ... شَأنٍ كَمَا فِي سُورة الرَّحمن
بَابَ الَّذِي لاَ خَيرَ إِلاَّ عِنده ... بِيَدِيه كُلُّ مُنى وكُلُ أَمان
بَابَ الَّذِي يُرجى لِكُلّ مُلِمَّةٍ ... لِعظائم الآلام وَالحْدَثان
بَابَ المُعزِ والمُذلِ لِمَنْ يَشَا ... بَابَ المُجِيْر المُطعمِ المَنَّان
الحَي قَيُومُ الخَلائِق كُلّها ... الوَاسعُ الرُّحمَى العَظيمُ الشَّان
المُرتجَى وَسِعَ الخَلاَئِقَ رَحْمَةً ... بِلْ كُلُّ شَيْءٍ نُص فِي القُرآَن
آلى كِتَابَتَها وُجُوباً فَهو مُخـ ... ـتص بَأهلِ الدِينِ والإيِمان
بابَ الَّذِي عَلِمَ الغُيوبَ مُقدّراً ... مَا كَانَ مِن شرٍ وَمِنْ إِحْسِان
بِالعِلم وَالحِكُمِ الخَفِيةِ لَمْ يَكُنْ ... عَبَثاً تَعالى دَائمَ الإحْسَان
(1/118)
فَاعْبدهُ وارتجْ راضِياً بِقَضَائِه ... وَاحْذَرْهُ لاَ تَقْطَعْ بنيلٍ أمانِ
فَالعبدُ لَيْسَ لَهُ عَلَى المَعْبُود مِنْ ... حُكْمٍ وَلاَ يَنْجُو مِن العِصْيَان
وَلِذَاكَ حَادَ الرسلَ مِن أنْ يَشْفَعُوا ... إلا المبَشِّرُ قَبْلُ بِالغُفْرَان
أَوَمَا سَمِعْتَ بِلَوْ إِلَى مِن دَابَةٍ ... فِي الخلق نصُ لَيْسَ بالادعان
فالخوفُ حقٌ مُصْلحُ لِلعبدِ أَوْ ... يَلْقَى الكريمَ البرَ بِالدِيوانِ
فَيُقرِر العبد الضَّعِيف بِذَنْبِه ... نَجْوى لِيَسْتُرَ كُلّ عَبْدٍ جان
إِلا المُنَافِقَ والكَفُورَ كِلاَهُِما ... يُخزي صَيحْيح لَيْسَ بالبُهْتَان
فَهُنَاكَ تُحْظَى بِالأمَانِ بِفَضِله ... لاَ قبْلَهَا فَاعْمَلَ بِغَيْرِ أِمَانِ
إِنَّ السَّوابِقَ وَالخَوَاتِمَ حُجِّبَتُ ... لِدَوُامِ خَوْف الله والْهَيَمان
فاَلعَارِفُون بِذَا عَلَى خَوفٍ وَإِنْ ... عَملُوا وسُمُّوْا مِنِهُ بِالزُّهْدَان
والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وسلم.
موعظة
عباد الله إن الناس في هذا الزمن لم يعرفوا ربهم المعرفة التي تليق بجلاله وعظمته ولو عرفوه حق المعرفة لم يكونوا بهذه الحال لأنه من كان بالله أعرف كان منه أخوف، إن العارف بالله يخشاه فتعقله هذه الخشية بإذن الله عما لا ينبغي من الأقوال والأفعال قال الله تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } .
العارف بالله لا يجرؤ أن يحرك لسانه بكلمة من المنكرات أفعال أو أقوال كالغيبة والنميمة والكذب والقذف والفسق والسخرية والاستهزاء ونحو ذلك ولا يستعمل عضواً من أعضائه في عمل ليس بحلال، بل يكف بصره وسمعه ويده ورجله عن المحرمات لأنه يؤمن حق الإيمان بأن الله جل وعلا مهما تخفى وتستر العبد عنه فإنه يراه.
(1/119)
والعارف بالله لا ينطوي على رذيلة كالكبر والحقد والحسد وسوء الظن وغير ذلك من الرذائل الممقوتات لأنه يصدق أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وأنه يعلم ما تُكنه الصدور، كما يعلم العلانية، فلا يستريح العارف حتى يكون باطنه كظاهره مُطهراً من كل فحشاء وكذلك لا تسمع من فم العارف عند نزول المصائب والبلايا والشدائد إلا الحسن الجميل فلا يغضب لموت عزيز أو فقد مال، أو مرض شديد طويل لأنه يعلم أن غضبه وتسخطه يفوت عليه أجره ولا يرد ما فات كما قيل:
لاَ تَلْقَ دَهْرَكَ إِلاَّ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ ... مَا دَامَ يَصْحَبُ فِيْهِ رُوْحَكَ الْبَدَنُ
فَمَا يَدُومُ سُرورٌ مَا سُرِرْتَ بِه ... وَلاَ يَرَدُّ عَلَيْكَ الفَائِتَ الْحَزَنُ
ولا ييأس العارف من زوال شدة مهما استحكمت فإن الفرج بيد الله الذي قال وقوله الحق { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } ولا ييأس من حصول خير مهما سما وابتعد لأنه يؤمن أن الأمر بيد من إذا أراد شيئاً قال له كن فكان وإن بدا مُحالاً في نظر الجهلاء ولا يقنط العارف ولا يُقنط مؤمناً من رحمة الله التي وسعت كل شيء وإن كانت ذنوبه أمثال الجبال والرمال ولا يؤمن العارف مستقيماً من العذاب مهما كان العمل من الصالحات لأنه يُصدق أنه يغفر الذنوب جميعاً وأنه له الحجة البالغة وأن القلوب بين إصبعين من أصابعه جل وعلا فلا تغفل عن ذلك وإن أهمله الكثير من الناس.
* * *
اللهم ظلمنا أنفسنا فاغفر لنا ذنوبنا وهب لنا تقواك واهدنا بهداك ولا تكلنا إلى أحدٍ سواك واجعل لنا من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً اللهم اغننا بمعافاتك من عقوبتك وبرضاك من سخطك واحفظ جوارحنا من مخالفة أمرك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
1 – زكاة الفطر وما ورد من الآثار في شرعيتها:
(1/120)
زكاة الفطر واجبة بالفطر من رمضان، لما روى ابن عمر رضي الله عنهما: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرض زكاة الفطر في رمضان على الناس صاعاً من تمر، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من شعير على كل حر وعبد ذكر وأنثى من المسلمين» متفق عليه.
وعنه: «أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة».
وعن أبي سعيد الخدري: كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من أقطٍ، أو صاعاً من زبيب. متفق عليه.
قال سعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز – رحمهما الله – في قوله تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى } هو زكاة الفطر.
وأضيفت هذه الزكاة إلى الفطر لأنها تجب بالفطر من رمضان، وهذه يُراد بها الصدقة عن البدن والنفس ومصرفها كزكاة المال لعموم: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ ... } الآية.
ولا يمنع وجوبها دين إلا مع طلب، وهي واجبة على كل حر وعبد ذكر وأنثى من المسلمين، فضل له عن قوته، ومن تلزمه مؤونته يوم العيد وليلته صاع لأن النفقة أهم فيجب البداءة بها، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «ابدأ بنفسك» رواه مسلم.
وفي رواية: « ... وابدأ بمن تعول» رواه الترمذي.
ويُعتبر كون ذلك الصاع فاضلاً عما يحتاجه لنفسه، ومن تلزمه مؤونته من مسكنٍ وخادمٍ ودابةٍ وثياب بذلة ونحوه، وكتب يحتاجها لنظر لأن هذه حوائج أصلية يحتاج إليها كالنفقة، وتلزمه عن نفسه وعن من يمونه من المسلمين كزوجةٍ وعبدٍ وولدٍ، لعموم حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصدقة الفطر عن الصغير والكبير ممن تمونون» رواه الدارقطني.
فإن لم يجده لجميعهم بدأ بنفسه، فزوجته، فرقيقه، فأمه، فأبيه. فولده، فأقرب في ميراث، ويُفرع مع الاستواء.
أما دليل البداءة بالنفس فلحديث: «ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول».
وأما الزوجة فلوجوب نفقتها في حال اليسر والعسر لأنها على سبيل المعاوضة.
(1/121)
وأما الرقيق فلوجوب نفقته مع الإعسار بخلاف الأقارب لأنها صلة تجب مع اليسار دون الإعسار.
وأما الأم فلقوله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي حين قال له: «من أبر؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال: أبوك» ولأنها ضعيفة عن الكسب.
وأما الأب فلما سبق وحديث: «أنت ومالك لأبيك».
وأما الولد فلقربه ووجوب نفقته في الجملة.
وأما الأقرب في الميراث فلأنه أولى من غيره كالميراث.
وتُستحب عن الجنين لفعل عثمان - رضي الله عنه - وعن أبي قلابة قال: «يُعجبهم أن يُعطوا زكاة الفطر عن الصغير والكبير حتى عن الحمل في بطن أمه» رواه أبو بكر.
ولا تجب، قال ابن المنذر: «كل من نحفظ عنه لا يوجبها عن الجنين، وتجب على اليتيم، ويخرج عنه وليه من ماله».
ولا يلزم الزوج فطرة زوجة ناشز وقت الوجوب، ولا تلزم الزوج فطرة من لا تلزمه نفقتها، كغير المدخول بها إذا لم تسلم إليه، والصغيرة التي لا يمكن الاستمتاع بها.
ومن لزم غيره فطرته كالزوجة، فأخرج عن نفسه بغير إذن من وجبت عليه أُجزأ والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
2 – فصل في وقت وجوب صدقة الفطر، والأفضل منه:
وتجب زكاة الفطر بغروب شمس ليلة الفطر، لقول ابن عباس رضي الله عنهما: «فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدقة الفطر طُهرةً للصائم من اللغو والرفث، وطُعمةً للمساكين». رواه أبو داود، والحاكم وقال على شرط البخاري فأضاف الصدقة إلى الفطر فكانت واجبة به لأن الإضافة تقتضي الاختصاص.
وأول فطر يقع من جميع رمضان بمغيب الشمس من ليلة الفطر، فمن أسلم بعد الغروب، أو تزوج بعد الغروب، فلا فطرة وإن وجد ذلك، بأن أسلم أو تزوج، أو ولد له ولد، أو ملك عبداً، أو أيسر قبل الغروب وجبت الفطرة لوجود السبب فالاعتبار بحال الوجوب.
(1/122)
وإن مات قبل الغروب هو، أو زوجته، أو رقيقه، أو قريبه ونحوه، أو أعسر، أو أبان الزوجة، أو أعتق العبد، أو باعه أو وهبه لم تجب الفطرة لما تقدم.
ولا تسقط الفطرة بعد وجوبها بموت ولا غيره، والأفضل إخراجها يوم العيد قبل الصلاة، لما في المتفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً، وفي آخره: «وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة».
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات».
وتُكره بعدها خروجاً من الخلاف، ولقوله - صلى الله عليه وسلم - : «اغنوهم عن الطلب في هذا اليوم». رواه سعيد بن منصور.
فإذا أخرها بعد الصلاة لم يحصل الإغناء لهم في هذا اليوم كله.
ويحرم تأخيرها عن يوم العيد مع القدرة، لأنه تأخير للحق الواجب عن وقته، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقسمها بين مستحقيها بعد الصلاة. فدل على أن الأمر بتقديمها على الصلاة للاستحباب.
ويقضيها من أخرها لأنه حق مالي وجب، فلا يسقط بفوات وقته كالدين، وتُجزي قبل العيد بيوم أو بيومين، لقول ابن عمر رضي الله عنهما: «كانوا يُعطون قبل الفطر بيوم أو يومين» رواه البخاري.
وهذا إشارة إلى جميعهم فيكون إجماعاً، ولأن ذلك لا يُخل بالمقصود، إذ الظاهر بقاؤها أو بعضها، إلى يوم العيد.
ومن وجبت عليه فطرة غيره أخرجها مع فطرته مكان نفسه، لأنها طُهرةٌ له، وفطرة من بعضه حر وبعضه رقيق، وفِطرةٌ قِن مشترك. وفطرة من له أكثر من وارث أو ملحق بأكثر من واحد تُقسط، ومن عجز منهم لم يلزم الآخر سوى قسطه.
3 – الواجب في الفطرة:
الواجب على كل شخص صاع بر، أو مثل مكيله من تمر، أو زبيب، أو أقط، لحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - : «كنا نخرج زكاة الفطر، إذ كان فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من زبيب، أو صاعاً من أقط» متفق عليه.
(1/123)
ويُجزي دقيق البر والشعير إذا كان بوزن الحب، نص عليه، واحتج بزيادة تفرد بها ابن عُيينة: أن أحداً لم يذكره فيه، قال: بل هو فيه. رواه الدارقطني.
قال المجد: بل هو أولى بالإجزاء لأنه كُفي مؤونته كتمر منزوع نواه ويخرج مع عدم ذلك ما يقوم مقامه من حبٍ يُقتات كذرة ودخن وباقلاء لأنه أشبه بالمنصوص عليه، فكان أولى.
ويجوز أن يُعطي الجماعة فطرهم لواحد، وأن يُعطي الواحد فطرته لجماعة.
ولا يُجزي إخراج القيمة لأن ذلك غير المنصوص عليه.
ويحرم على الشخص شراء زكاته وصدقته ممن صارت إليه، لحديث عمر - رضي الله عنه - : «لا تشتره، ولا تعد في صدقتك، وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه» متفق عليه.
وحسماً لمادة استرجاع شيء منها حياء، أو طمعاً في مثلها، أو خوفاً أن لا يُعطيه بعد، فإن عادت إليه بإرث أو وصية أو هبة أو أخذها من دينه من غير شرط ولا مواطأة طابت بلا كراهة لعدم المانع. ولحديث بريرة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتته امرأة، فقالت: إني تصدقت على أمي بجارية وإنها ماتت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «وجب أجرك وردها عليك الميراث» متفق عليه. رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي.
ويُجزي إخراج صاع مجموع من تمر وزبيب وبُر وشعير وأقط كما لو كان خالصاً من أحدها.
ولا يُجزي مُختلط بأكثر مما لا يُجزي.
ولا يُجزي إخراج معيب كمُسوس، ومبلول، وقديم تغير طعمه.
والأفضل تمر، لفعل ابن عمر، قال نافع: وكان ابن عمر - رضي الله عنه - يُعطي التمر إلا عاماً واحداً أعوز التمر فأعطى شعيراً رواه أحمد والبخاري.
وقال له أبو مجلز: أن الله قد أوسع. والبُر أفضل، فقال إن أصحابي سلكوا طريقاً، فأنا أحب أن أسلكه رواه أحمد واحتج به.
(1/124)
وظاهره أن جماعة الصحابة كانوا يُخرجون التمر، ولأنه قوت، وأقرب تناولاً وأقل كلفة، ويليه في الأفضلية الزبيب لأن فيه قوتاً وحلاوة وقلة كُلفة، ثم البر، لأن القياس تقديمه على الكل، لكن تُرك اقتداءً بالصحابة في التمر وما شاركه في المعنى وهو الزبيب، ثم الأنفع في الاقتيات ودفع حاجة الفقير، ثم شعيره، ثم دقيق شعير، ثم سويقهما، ثم أقط والأفضل أن لا يُنقص مُعطي من فِطره عن مُدبر أو نصف صاع من غيره ليُغنيه عن السؤال في ذلك اليوم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - :
«أغنوهم عن السؤال في ذلك اليوم» ويُسن التكبير المُطلق وهو الذي لم يُقيد بأدبار الصلوات والجهر به في ليلتي العيدين إلى فراغ الخطبة لقوله تعالى: { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ } ، وعن علي - رضي الله عنه - "أنه كان يُكبر حتى يُسمِع أهل الطريق وصفة التكبير، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، وفي كل عشر ذي الحجة".
قال البخاري كان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يُكبران ويكبر الناس بتكبيرهما والتكبير المقيد في الأضحى عقب كل فريضة صلاها في جماعة من صلاة الفجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق لحديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصبح يوم عرفة ثم أقبل علينا فقال: «الله أكبر» ومد التكبير إلى آخر أيام التشريق، رواه الدارقطني بمعناه إلا المُحرم فيُكبر من صلاة ظهر يوم النحر إلى آخر أيام التشريق.
(1/125)
اللهم اعف عن تقصيرنا في طاعتك وشكرك وأدم لنا لزوم الطريق إلى ما يُقربنا إليك وهب لنا نوراً نهتدي به إليك ويسر لنا ما يسرته لأهل محبتك وأيقظنا من غفلاتنا وألهمنا رُشدنا واسترنا في دنيانا وآخرتنا واحشرنا في زمرة المتقين وألحقنا بعبادك الصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
الحمد لله غافر الذنوب وقابل التوب، شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا الله إليه المصير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله البشير النذير صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أولي الجد في العبادة والتشمير.
عباد الله، إن شهر رمضان قد عزم على الرحيل فمن كان منكم أحسن فعليه بالتمام، ومن كان منكم فرط فيه فليختمه بالحسنى، فالعمل بالختام، وبادروا رحمكم الله أوقات شهركم الباقية، واستدركوا ما مضى منه بالحسرة والندم، واختموه بالتوبة النصوح والرجوع إلى صالح العمل.
عباد الله، كم أُناسٍ صلوا في هذا الشهر صلاة التراويح وأوقدوا في المساجد طلباً للأجر المصابيح، ونسخوا بإحسانهم كل فعلٍ قبيح، وقبل التمام سكنوا الضريح، ولم ينفعه المال والآمال لما نُقلوا، رحلوا عن الدنيا قدماً قدماً ونقص ما بنوه هدماً هدماً، أدارت عليهم المنون رحاها وأحلت وجوههم في الثرى فمحاها.
وهذا حالك عن قريب فتيقظ يا قليل الزاد، وحادي رحيله قد حدى تأهب للتلف وتهيأ للردى، ذهب عنك شهر الصيام وودعك، وسارت فيه قوافل الصالحين، وجهلك منعك والتوبيخ متوفر، فما أرجعك ولا أزعجك وأنت تؤمل منازل العاملين بأفعال الغافلين فما أطمعك.
(1/126)
يا من أصبح ساعياً إلى ما يضره ستعلم من يأتي غداً حزيناً مُتندماً، كم من صائم يفضحه الحساب والعرض، وكم من عاصٍ في هذا الشهر تستغيث منه الأرض، فيا ليت شعري من المقبول منا فنهنيه على توفيق الله له بحسن عمله ويا ليت شعري من المطرود فنعزيه بسوء عمله، فيا أيها المقبول هنيئاً لك بثواب الله عز وجل ورضوانه ورحمته وغفرانه وقبوله وإحسانه وعفوه وامتنانه.
ويا أيها المطرود بإصراره، وطغيانه وظلمه وغفلته وخسرانه وتماديه في عصيانه، لقد عظمت مصيبتك وخسرت تجارتك، وطالت ندامتك، فيا لها من خسارة لا تُشبهها خسارة، لله در أقوام حرسوا بالتقى أوقاتهم، وتدرعوا دروع المراقبة في صبرهم وجمعوا بين الصدق والإخلاص في ذكرهم، صبروا باليقين على ظمأ الهواجر، وبسطوا أقدامهم على بساط الدياجر وعملوا ليومٍ فيه القلوب لدى الحناجر.
أقبلوا على خدمة ربهم إقبال عالم، وما سلكوا إلا الطريق السالم تذكروا ذنوبهم القدائم، فجددوا التوبة بصدقٍ العزائم، وعدوا التقصير من العظائم، وبذلوا المهج الكرائم، فإذا جن الليل فساجدٌ وقائم، ولا يخافون في الله لومة لائم، أين أنت وهم؟ فهل ترى الساهر كالنائم؟ كلا، ولا المفطر كالصائم.
قال ابن القيم - رحمه الله - من أراد الله به خيراً فتح باب الذل والانكسار ودوام اللجوء إلى الله تعالى والافتقار إليه ورؤية عيوب نفسه وجهلها وعدوانها ومشاهدة فضل ربه وإحسانه ورحمته وجوده وبره وغناه وحمده. فالعارف: سائر إلى الله تعالى بين هذين الجناحين لا يمكنه أن يسير إلا بهما فمتى فاته واحد منهما فهو كالطير الذي فُقد أحد جناحيه.
(1/127)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - العارف يسير إلى الله بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح من حديث بريدة - رضي الله عنه - سيد الاستغفار أن يقول العبد: «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوء لك بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» فجمع في قوله - صلى الله عليه وسلم - أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي بين مشاهدة المنة ومطالعة عيب النفس والعمل.
فمشاهدة المنة توجب المحبة والحمد والشكر لولي النعم والإحسان ومطالعة عيب النفس والعمل توجب له الذل والانكسار والافتقار والتوبة في كل وقت وأن لا يرى نفسه إلا مفلساً واقرب باب يدخل منه العبد على الله تعالى هو باب الإفلاس فلا يرى لنفسه حالاً ولا مقاماً ولا سبباً يتعلق به ولا وسيلة منه يمن بها.
بل يدخل على الله من باب الافتقار الصرف والإفلاس المحض دخول من كسر الفقر والمسكنة قلبه حتى وصلت تلك الكسرة إلى سويدائه فانصدع وشملته الكسرة من كل جهاته وشهد ضرورته إلى ربه عز وجل وكمال فاقته وفقره إليه وأن في كل ذرة من ذراته الظاهرة فاقة تامة وضرورة إلى ربه تبارك وتعالى، وأنه إن تخلى عنه طرفة عين هلك وخسر خسارة لا تُجبر إلا أن يعود إلى الله تعالى ويتداركه برحمته. انتهى.
شعراً:
دَعْ البُكَاءَ عَلَى الأَطْلاَلِ وَالدَّارِ ... وَاذْكُرْ لِمَنْ بَانَ مِِن خِلِّ وَمَن جَارِ
وَأذرِ الدُّمُوعَ نَحِيْباً وَابْكِ مِن أَسَفٍ ... عَلَى فِرَاقِ لَيْالٍ ذَاتِ أَنْوَارِ
عَلَى لَيَالٍ لِشَهْرِ الصَّوْمِ مَا جُعِلَتُ ... إِلاَّ لِتَمْحِيْصَ آثامٍ وَأَوْزَارِ
يَا لاَئِمي فِي البُكَاءِ زِدْنِي بِهِ كُلْفاً ... وَاسْمَعْ غَرِيْبَ أَحَادِيِثي وَأَخْبَارِي
(1/128)
مَا كَانَ أَحْسَنَنَا وَالشَّمَلُ مُجْتَمِعُ ... مِنَّا الْمُصَلِّي وَمِنَّا القَانِتْ القَاري
وَفِي التَّرَاْوِيْحِ لِلرَّاحَاتِ جَامِعَةٌ ... فِيْهَا الْمَصَابِيِحُ تَزْهُوْ مِثْلَ أَزْهَارِي
فِي لَيْلِهِ لَيِلَةُ القَدْرِ الَّتي شَرُفَتْ ... حَقًا عَلَى كُلِّ شَهْرٍ ذَاتِ أَسْرَار
تَتَنَزَّلُ الرَّوحُ وَالأمْلاكُ قَاطِبَةً ... بِإذْنِ رَبٍّ غَفُوْرٍ خَالقٍ بَاري
شَهْرٌ بِهِ يُعْتِقُ اللهُ العُصَاةَ وَقَدْ ... أَشْفُوا عَلَى جُرُفٍ مِن خُطَّةِِ النَّارِ
نَرْجُو الإلَهَ مُحِبَ العِفْوِ يُْعِتقُنَا ... وَيَحْفَظُ الِكُلُّ مِن شَرِّ وَأَكْدَارِ
وَيِشْمَلُ العَفْوَ وَالرِّضْوَانُ أَجْمَعَنا ... بِفَضْلِك الْجَمِّ لاَ تَهْتِكْ لأَسْتَارِ
فَابْكُوا عَلَى مَا مَضَى فِي الشَّهرِ وَاغْتَنِمُوا ... مَا قَدْ بَقِيَ فَهُوَ حَقُّ عَنْكُمُ جَارِي
اللهم اجعلنا من حزبك وعبادك الصالحين الذين أهلتهم لخدمتك وجعلتهم ممن قبلت صيامه وقيامه واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وصحبه أجمعين.
(فصل)
في تلاوة القرآن الكريم
ويبحث في:
1 – ما ورد في الحث على قراءة القرآن الكريم.
2 – ما جاء في فضل حمل القرآن وتلاوته.
3 – ما ورد في فضل تدبر القرآن وتفهمه.
4 – ما ورد في استحباب ترتيل القرآن الكريم.
5 – ما ورد في بيان عظم بعض السور.
6 – استحباب تحسين الصوت في التلاوة.
7 – ينبغي الخشوع والخشية والبكاء عند تلاوة كتاب الله تعالى.
8 – ما ورد في تعاهد القرآن والترهيب من نسيانه.
1 – ما ورد من الحث على القرآن الكريم:
(1/129)
يُستحب حفظ القرآن عن ظهر قلب، والإكثار من تلاوته كل وقت لأن تلاوته من أفضل العبادات وأعظم القربات وأجل الطاعات وفيها أجر عظيم وثواب جسيم من المولى الكريم، ولا سيما في شهر رمضان قال الله تعالى آمراً رسوله - صلى الله عليه وسلم - بتلاوة كتابه العزيز وإبلاغه إلى الناس: { وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ } .
وأخبر تعالى عن عباده المؤمنين الذين يتلون كتابه ويؤمنون به ويعملون بما فيه من إقام الصلاة والإنفاق مما رزقهم الله تعالى في الأوقات المشروعة ليلاً ونهاراً سراً وعلانية، فقال: { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } .
وعن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه». رواه البخاري، ومسلم.
2 – ما جاء في فضل حمل القرآن:
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «الذي يقرأ القرآن وهو ماهرٌ به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن وهو يتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران» رواه البخاري.
وعن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه» رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «تعلموا القرآن فاقرءوه، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به، كمثل جراب محشو مِسكاً تفوح ريحه في كل مكان، ومثل من تعلمه فرقد وهو في جوفه كمثل جراب أوكي على مسك» رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه.
(1/130)
وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترُجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها طيب حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر». رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو به آناء الليل وآناء النهار، ورجل تعلم علماً فهو يعلم الناس منه». رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخرب» رواه الترمذي وقال: حديثٌ حسن.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده» أخرجه البخاري في صحيحه عن أُسيد بن حضير - رضي الله عنه - قال: بينما هو يقرأ سورة البقرة وفرسه مربوطة عنده إذ جالت الفرس فسكت فسكنت فقرأ فجالت الفرس، فسكت وسكنت الفرس ثم قرأ فجالت الفرس فانصرف.
وكان ابنه يحيى قريباً منها فأشفق أن تصيبه، فلما أخذه رفع رأسه إلى السماء حتى يراها فلما أصبح حدث النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: اقرأ يا ابن حضير اقرأ يا ابن حضير قال: فأشفقت يا رسول الله أن تطأ يحيى وكان منها قريباً فرفعت رأسي فانصرفت إليه فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح فخرجت حتى لا أراها قال: «أوتدرون ما ذاك؟ قلت: لا، قال: تلك الملائكة دنت لصوتك ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى».
(1/131)
فالعاقل من يُكثر من تلاوته واستذكاره للاهتداء بهديه والاسترشاد بمواعظه والاعتبار بقصصه والالتقاط من درره وحكمخه والاستضاءة بنوره كيف لا وهو أساس الفصاحة وينبوع البلاغة والبراعة فتجد الخطيب المِصقع والشاعر البليغ يقتبسان من آياته ويستمدان من عذوبة ألفاظه ومعانيه ما يُزينان به كلامهما ويُحسنان به مقامهما.
وهو أساس الشريعة الإسلامية ومنه تُستمد الأحكام الشرعية والمسائل الفقهية والحق أنه عمادنا في أمر ديننا ودنيانا وفقنا الله وجميع المسلمين للتمسك بأهدابه والمسارعة إلى امتثال أمره واجتناب نهيه والوقوف عند حده والتفكر في أمثاله ومعجزه والتبصر في نور حكمه واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي، ويقول: يا ويله!».
وفي رواية: «يا ويلي! أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار» رواه مسلم وأبو داود.
وعن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران» وضرب لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال: «كأنهما غمامتان أو ظُلتان سودوان بينهم شرق، أو كأنهما فُرقان من طير صواف يُحاجان عن صاحبهما» رواه مسلم.
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من قرأ حرفاً من كتاب الله تعالى، فله به حسنة والحسنة بعشر أمثالها لا أقول: ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف» رواه أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي.
(1/132)
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله، أوصني، قال: «عليك بتقوى الله فإنه رأس الأمر كله» قلت: يا رسول الله زدني، قال: «عليك بتلاوة القرآن فإنه نورٌ لك في الأرض وذُخرٌ لك في السماء» رواه ابن حبان.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قرأ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير أنه لا يوحى إليه، لا ينبغي لصاحب القرآن أن يجد مع من وجد، ولا يجهل مع من جهل وفي جوفه كلام الله» رواه الحاكم.
وروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من قرأ القرآن فاستظهره، فأحل حلاله وحرم حرامه أدخله الله الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت لهم النار» رواه ابن ماجه والترمذي.
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يا أبا ذر لأن تغدو فتتعلم آية من كتاب الله خيرٌ لك من أن تُصلي مائة ركعة، ولأن تغدو فتتعلم باباً من العلم عمل به أو لم يُعمل به خير من أن تُصلي ألف ركعة» رواه ابن ماجه.
اللهم اهدنا إلى سواء السبيل، ووفقنا للفقه في دينك القويم، واجعلنا من العاملين به قولاً، وفعلاً الداعين إليه، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
3 – ما ورد في فضل القرآن وتفهمه:
يُستحب التعوذ لمن أراد الشروع في القراءة بأن يقول: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" لقوله تعالى: { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } .
(1/133)
وكان جماعة من السلف يقولون: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فإن قطع القراءة قطع تركٍ على أن لا يعود قريباً إليها أعاد التعوذ الأول وإن تركه قبل القراءة فيتوجب أن يأتي بها ثم يقرأ لأن وقتها قبل القراءة للاستحباب فلا يقسط تركها إذاً ولأن المعنى يقتضي ذلك.
فإذا شرع في القراءة فليكن شأنه التدبر وليحذر أن يكون مثل بعض الهمج يقرأ القرآن وعيونه تجول فيما حوله من المخلوقات يتلاعب بالقرآن ولا يهتم له، قال تعالى: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ } ، وقال تعالى في معرض الإنكار: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } .
4 – ما ورد في استحباب ترتيل القرآن الكريم:
ويُستحب لقاريء القرآن أن يُرتل قراءته لقوله تعالى: { وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلا } .
وثبت عن أم سلمة رضي الله عنها أنها تنعت قراءة مفسرة حرفاً حرفاً. رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يقال لصاحب القرآن اقرأ ورتل كما كنت تُرتل في الدنيا فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها». رواه أحمد، والترمذي وأبو داود والنسائي.
وعن قتادة قال: سُئل أنس، كيف كانت قراءة النبي - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال: كانت مداً مداً، ثم قرأ { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } يمد بـ { بِسْمِ اللَّهِ } ويمد بـ { الرَّحْمَنِ } ويمد بـ { الرَّحِيمِ } رواه البخاري.
وعن معاوية بن قرة عن عبد الله بن مغفل، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ سورة الفتح يُرجع في قراءته، رواه البخاري ومسلم.
(1/134)
وقد روى أبو ذر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قام ليلة بآية يُرددها: { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } وقام تميم الداري بآية: { أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ } وقال أبو سليمان إني لأقيم في الآية أربع ليال أو خمس وقال ابن مسعود من ختم القرآن نهاراً غفر له ذلك اليوم ومن ختمه ليلاً غفر له تلك الليلة، وعن طلحة بن مُصرف قال: من ختم القرآن في أي ساعة من النهار كانت صلت عليه الملائكة حتى يُمسي أو أي ساعة من ليل كانت صلت عليه الملائكة حتى يُصبح.
(موعظة)
قال ابن القيم - رحمه الله -: عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها، علم لا يُعمل به وعمل لا إخلاص فيه ولا اقتداء فيه بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإنه لا يوفق لهما إذا لم يُخلص العمل ومال لا ينفق منه فلا يستمتع به جامعهُ في الدنيا ولا يُقدمه أمامه لآخرته وقلب فارغ من محبة الله والشوق إلى لقائه والأنس به وبدن مُعطل من طاعة الله وخدمته ومحبةٍ لا تتقيد برضا المحبوب وامتثال أوامره.
ووقتٌ مُعطلٌ من استدراك فارط واغتنام بر وقربة، وفكر يجول فيما لا ينفع وخدمة من لا تُقربك خدمته إلى الله ولا تعود عليك بصلاح دنياك وخوفك ورجاؤك ممن ناصيته بيد الله وهو أسير في قبضته ولا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.
وأعظم هذه الإضاعات إضاعة القلب وإضاعة الوقت فإضاعة القلب عن الله من إيثار الدنيا على الآخرة وإضاعة الوقت من طول الأمل فاجتمع الفساد كله في اتباع الهوى وطول الأمل والصلاح كله في اتباع الهدى والاستعداد للقاء الله.
(1/135)
إلى أن قال ولله على عبده أمر أمره به وقضاء يقضيه عليه ونعم ينعم بها عليه فلا ينفك من هذه الثلاثة والقضاء نوعان إما مصائب وإما معائب وله عليه عبودية في هذه المراتب كلها ووفاها حقها فهذا أقرب الخلق إليه وأبعدهم منه من جهل عبوديته فعطلها علماً وعملاً. والله أعلم وصلى الله على محمدٍ وآله وسلم.
(فصل)
5 – ما ورد في عظم فضل بعض السور:
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليله ثلث القرآن؟ قالوا: وكيف يقرأ ثلث القرآن؟ قال: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تعدل ثلث القرآن» رواه مسلم.
وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث» رواه الترمذي وأبو داود والدارمي.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ألا يستطيع أحدكم أن يقرأ ألف آية في كل يوم؟» قالوا: ومن يستطيع أن يقرأ ألف آية في كل يوم؟ قال: «أما يستطيع أحدكم أن يقرأ { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ } » رواه البيهقي.
وقالت عائشة رضي الله عنها: «ولا أعلم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ القرآن في ليلة ... » الحديث رواه مسلم.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: «لا تنثروه نثر الرمل ولا تهذوه هذو الشعر قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة» رواه البغوي.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لأن أقرأ سورة أرتلها أحب إلى من أن القرآن كله» وقد نُهي عن الإفراط في الإسراع ويُسمى "الهذرمة"، فثبت عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رجلاً قال له: "اقرأ المفصل في ركعة واحدة، فقال ابن مسعود: كهذا الشعر، إن قوما يقرءون القرآن لا يُجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ نفع". رواه البخاري ومسلم.
(1/136)
قال ابن القيم - رحمه الله -: إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه وألق سمعك واحضر حضور من يُخاطبه به من يتكلم به منه إليه، فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله قال تعالى: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفاً على مؤثر مُقتضى ومحل قابل وشرط لحصول الأثر انتفاء المانع الذي يمنع منه: تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه على المراد.
وقال شيخ الإسلام: ومما ينبغي أن يُعلم أن أفضل القراءة والذكر والدعاء والصلاة وغير ذلك يختلف باختلاف حال الرجل فالقراءة بتدبر أفضل من القراءة بلا تدبر والصلاة بخشوع وحضور قلب أفضل من الصلاة بدون ذلك.
6 – استحباب تحسين الصوت في التلاوة:
يُستحب لقارئ القرآن أن يُحسن صوته بالقراءة، لأن تحسين الصوت بالقراءة مُعين على حضور القلب وخشوعه وباعث على حُسن الاستماع والإصغاء إلى القرآن.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» رواه البخاري. وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما أذن الله لشيء كما أذن لنبيٍ حسن الصوت يتغنى بالقرآن ويجهر به» متفق عليه.
قال جمهور العلماء: معنى (لم يتغن)، أي لم يُحسن صوته وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «زينوا القرآن بأصواتكم» رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والدارمي.
وعنه أيضاً قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «حسنوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حُسناً» رواه الدارمي.
(1/137)
وروى مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي موسى: «لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة، لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل دواد»، قال العلماء المراد بالمزمار هنا الصوت الحسن.
اللهم قابل سيئاتنا بإحسانك، واستر خطيئتنا بغفرانك وأذهب ظلمة ظلمنا بنور رضوانك، واقهر عدونا بعز سلطانك، فما تعودنا منك إلا الجميل، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
7 – ينبغي الخشوع والخشية والبكاء عند تلاوة كتاب الله تعالى:
ويُستحب البكاء عند تلاوة القرآن، وهو صفة العارفين وشعار عباد الله الصالحين، قال الله تعالى في وصف الخاشعين من عباده عند تلاوة كتابه: { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا * وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [سورة الإسراء].
ولما ذكر تعالى الأنبياء المكرمين وخواص المرسلين، وذكر فضائلهم ومراتبهم أخبر أنهم كانوا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن: { خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } ، وقال الله تعالى: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } .
(1/138)
وقد وردت فيه أحاديث كثيرة، وآثار للسلف، فمن ذلك ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «اقرأوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا»، وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «اقرأ عليَّ» قلت: أأقرأ عليك وعليك أُنزل؟! قال: «فإني أحب أن أسمعه من غيري» فقرأت من سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } قال: «حسبك الآن»، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان. متفقٌ عليه.
وعن مُطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلي وفي صدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء، أخرجه الخمسة إلا ابن ماجه وصححه ابن حبان.
ولما اشتد برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعه قيل له الصلاة، فقال: «مُروا أبا بكر فليُصل بالناس»، قالت عائشة إن أبا بكر رجلٌ رقيق إذا قرأ غلبه البكاء، قال: «مروه فليصل» رواه مسلم.
وعن عمر - رضي الله عنه - أنه صلى بالجماعة الصبح، فقرأ سورة يوسف فبكى حتى سالت دموعه، وفي رواية: أنه كان في صلاة العشاء، وفي رواية: أنه بكى حتى سمعوا بُكاءه من وراء الصفوف.
وقرأ عمر بن عبد العزيز بالناس ذات ليلة { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى } فلما بلغ { فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى } فلم يستطع أن يُنفذها فرجع حتى إذا بلغها خنقته العبرة فلم يستطع أن ينفذها فقرأ سورة غيرها.
(1/139)
وينبغي أن يكون ذلك حال العلماء فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن عبد الأعلى التيمي، أنه قال: إن من أوتيَّ من العلم ما لا يُبكيه لخليق أن قد أوتي من العلم ما لا ينفعه، لأن الله تعالى نعت أهل العلم فقال: { وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ } وقال - صلى الله عليه وسلم - : «لا يلج النار من بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع» الحديث رواه الترمذي وقال - صلى الله عليه وسلم - : «عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله» رواه الترمذي.
ويُستحب إذا مر بآية رحمة أن يسأل الله من فضله، وإذا مر بآية عذاب أن يستعيذ بالله من الشر أو من العذاب، أو يقول: "اللهم إني أسألك العافية" أو يقول: "أسألك المعافاة من كل مكروه" أو نحو ذلك.
وإذا مر بآية تنزيه نزه الله تعالى فقال: "سبحانه وتعالى" أو "تبارك وتعالى" أو "جلت عظمة ربنا"، فقد صح عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أنه قال: صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت يركع عند المائة ثم مضى، فقلت يُصلي بها في ركعة فمضى، ثم افتتح آل عمران فقرأها ثم افتتح النساء فقرأها، يقرأ مُترسلاً إذا مر فيها بتسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ ثم ركع. رواه مسلم.
موعظة
عباد الله إن من تعظيم ربنا جل وعلا تعظيم كتبه ورسله وذلك من أصول الإيمان فمن استخف بكتاب الله أو آية منه أو استخف برسله خسر كل الخسران، عباد الله أين الغيرة الدينية كل يوم نجد الكتب التي تحتوي على التوحيد وعلى الآيات من كتاب الله وعلى الأحاديث الشريفة مُلقاة مع القمام وفي الحفر القذرة تُداس بالنعال وتلوث بالأقذار تلوث تلويثاً تستغيث منه العواطف الإيمانية أليس هذا من المنكرات لماذا لا تُصان وتُرفع أو تُقبر في محلٍ طاهر.
(1/140)
قولوا لمن يُلقيها ولمن يقدر على منعهم من إلقائها اتقوا الله هذه حالة والله تؤلم النفوس وتشمت بنا الأعداء قولوا لهم كيف تسمح نفوسكم تلقونها هذا الإلقاء الحقير وكذلك كتب فقه وإن لم يكن فيها آيات ولا أحاديث ينبغي احترامها ورفعها.
وكذلك ينبغي التنبيه على بعض الكتب التي جمع والعياذ بالله بها مع الآيات القرآنية والأحاديث النبوية صور ذوات الأرواح وقد تكون فوق الآية خصوصاً إذا أطبق الكتاب وهذا والله استهانة عظيمة واستخفاف بالآيات والأحاديث والكتب الدينية لا يجوز السكوت على هذه الحالة المزرية.
ومما ينبغي التنبيه عليه هو عدم وضع الآيات والأحاديث في الجرائد بل يُشار إلى محلاتها وأرقامها لأن الجرائد صارت قسم كبير من قمامة المحلات وفيها صور ذوات الأرواح، وهذه حالة مخيفة إن دامت مع ما انتشر من المنكرات والمعاصي التي ملأت البر والبحر يُخشى أن تُحيط بهم عقوبتها.
نسأل الله أن يُنجينا من عقوبتها وأن يوقظ ولاتنا ويُنبههم لإزالتها وتطهير الأرض منها إنه القادر على ذلك ولا أرى مخلصاً للإنسان الذي قد ابتلي بشراء الجريدة حمالة الكذب قتالة الوقت إلا أنه يُحرقها من حين يخلص من قراءتها ليسلم من باقي شرورها وأوزارها.
وسوف يناقش عنها يوم القيامة عن الوقت الذي ضيعه فيها والمال الذي أنفقه فيها وما حصل بسببه على الآيات والأحاديث التي فيها من الاستهانة والامتهان وإخراج الملائكة عن المحل التي وضعها فيه إذا كان فيها صور ذوات الأرواح حيث أن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة.
قال بعضهم: شعراً:
أَلاَ اِرْعِوَاءَ لِمَنْ كَانَتْ إِقَامَتُهُ ... عِنْدَ الْمَذايِيْع وَالتِّلْفَازِ وَالطَّرَبِ
مُضَيِّعاً فِيهَا عُمُراً مَا لَهُ عِوَضٌ ... إِذَا تَصرَّمَ وَقْتٌ مِنْهُ لَمْ يَؤُبِ
أَيَحْسِبُ الْعُمْرَ مَرْدُوداً تَصَرّمُهُ ... هَيْهَاتَ أنْ يَرْجِعَ الْمَاضِي مِن الحُقُبِ
(1/141)
أَمْ يَحْسَبُ العُمْرَ مَا وَلَّتْ أَوَائِلُهُ ... يُنَالُ بَعْدَ ذَهَابِ الْعُمْرِ بِالذَّهَبِ
فَبَادِر الْعُمْرَ قَبْلَ الفَوْتِ مُغْتَنِماً ... مَا دُمْتَ حَيًّا فإنَّ المَوتَ فِي الطَّلَبِ
وَاحرِصْ وَبَادِرْ إِذَا مَا أمكُنْت فُرَصُ ... فِي كَسْبِ مَا تُحْمَدَنْ عُقْبَاهُ عَن رَغَبِ
مِنْ نَفَعِ ذِي فَاقَهٍ أَوْ غَوثِ ذِي لَهَفٍ ... أََوْ فَعَل بِرِّ وإصلاَحٍ لِذِي شَغَبِ
فَالْعُمْرُ مُنْصَرِمٌ وَالوَقتُ مُغْتَنَمٌ ... وَالدَّهْر ذُو غير فَاجْهَدْ بِهِ تُصِِبِ
فَاعْمَل بِقَوْلِي وَلاَ تَجْنَح إِلَى فَدَمٍ ... مُخَادِع مُدعٍ لِلْعِلْمِ وَالأدَبِ
يَرَى السَّعادَةَ فِي كَسْبِ الحُطَامِ وَلَوْ ... حَوَاهُ مَعَ نَصَبٍ مَنْ سُوءِ ُمْكتَسَبِ
فَالرَّأيُ مَا قُلْتُهُ فاعْمَل بِهِ عَجِلاً ... وَلاَ تُصِخْ نَحْوَ فَدمٍ غَيْرِ ذِي حَدَبِ
فَغَفْلَةُ الْمَرءْ مَعَ عِلْمٍ وَمَعْرِفَةٍ ... عَنْ وَاضحٍ بَيِّنٍ مِن أَعْجَب العَجَبِ
والله أعلم وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم.
(فصل)
8 – ما ورد في تعاهد القرآن الكريم، والترهيب من نسيانه، والإعراض عنه:
ويُسن ختمه في كل أسبوع لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: «واقرأ في كل سبع ليال، ولا تزد على ذلك» متفق عليه.
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل – رحمهما الله – كان أبي يختم القرآن في النهار في كل أسبوع، يقرأ كل يوم سُبعاً لا يكاد يتركه نظراً لقوله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: «واقرأ في كل سَبع»، وإن قرأ في ثلاثٍ فحسن، لما ورد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قلت يا رسول الله، إن لي قوة، قال: «اقرأ في كلِّ ثلاث» رواه أبو داود، ولا بأس فيما دونها أحياناً، وفي الأوقات الفاضلة كرمضان، خصوصاً الليالي التي تُطلب فيها ليلة القدر.
(1/142)
وينبغي لقارئ القرآن أن يتعهده بالحفظ والمداومة على تلاوته، وليحذر كل الحذر من هجرانه وترك التعهد له، فيتعرض بذلك لنسيانه وترك العمل به الذي هو من أعظم الذنوب.
قال ابن القيم رحمه الله: هجر القرآن أنواع:
أحدهما: هجر سماعه، والإيمان به، والإصغاء إليه.
والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به.
والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه واعتقاد أنه لا يفيد اليقين وأن أدلته لفظية لا تُحصل العلم.
والرابع: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها، فيطلب شفاء دائه من غيره ويهجر التداوي به.
والخامس: هجر تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد المتكلم منه.
وكل هذا داخل في قوله تعالى: { وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا } .
وروى الإمام أحمد - رضي الله عنه - من حديث سمرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً مستقيما على قفاه، ورجلاً قائماً بيده فهر أو صخرة فيشدخ بها رأسه: فيتدهده، فإذا ذهب ليأخذه عاد رأسه كما كان فيصنع به مثل ذلك، فسأل عنه، فقيل له: رجل أتاه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل به بالنهار، فهو يفعل به ذلك إلى يوم القيامة.
وفي حديث عمرو بن شعيب مرفوعاً: «يمثل القرآن يوم القيامة رجلاً فيؤتى بالرجل قد حمله فخالف أمره فيتمثل له حدودي، فيقول: يا رب، حملته إياي فبئس حامل تعدى حدودي، وضيع فرائضي، وركب معصيتي وترك طاعتي، فما يزال يُقذف عليه بالحجج حتى يُقال شأنك به فيأخذ بيده فما يُرسله حتى يُكبه على منخره في النار». الحديث.
وعن سعد بن عبادة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما من امريءٍ يقرأ القرآن ثم ينساه إلا لقي الله يوم القيامة أجذم» رواه أبو داود.
(1/143)
وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «تعاهدوا هذا القرآن – فوالذي نفسي بيده – لهو أشد تفلتاً من الإبل من عُقُلها» رواه البخاري ومسلم.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إنما مثل صاحب القرآن كمثل الإبل المُعلقة إن عاهد عليها أمسكها وإن أطلقها ذهبت»، متفق عليه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ثم قرأ قوله تعالى: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } . اهـ.
وروى أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عُرضت عليَّ أجور أمتي حتى القذاة يُخرجها الرجل من المسجد وعرضت عليَّ ذنوب أمتي فلم أر ذنباً أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها الرجل ثم نسيها»، ويا للأسف استبدلوا الخبيث بالطيب أكبوا على الجرائد والمجلات والكتب الخليعات بدل تلاوة كتاب الله فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم: وهو حسبنا ونعم الوكيل.
(1/144)
وفي الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إنها ستكون فتن قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا تنقضي عجائبه ولا تشبع منه العلماء من قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل ومن دعى إليه هُدي إلى صراطٍ مستقيم».
إذا فهمت ذلك فاعلم أن القرآن قد بين فيه كل ما يحتاج إليه العباد من أصول الدين وفروعه وأحكام الدارين حتى أن الله تعالى يُثني الأمور الكبار التي يحتاج القلب لمرورها عليه كل وقت وإعادتها في كل ساعة بألفاظٍ مختلفة وأدلةٍ متنوعة لتستقر في القلوب.
قال تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } ، وقال: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } ، وقال تعالى: { وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا } ، ففيه بيان الحلال والحرام والثواب والعقاب وهدىٍ من الضلالة، رحمةً لمن صدق به وعمل فيه وحكمةً في الدقيق والجليل والويل لمن رجع إلى القوانين وتركه فكل حكم سوى حكم الله فهو باطلٌ مردود وكل حاكم بغير حكمه وحكم رسوله فهو طاغوت كافر بالله وما أكثر - في هذا الزمن - المُحكمين للقوانين الوضعية والأنظمة الحالية.
(1/145)
قال الله تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } ، وهذا عامٌ شامل فما من قضية إلا ولله فيها حكم، قال الله تعالى: { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } ، وقال تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } ، فهذه الآية الجليلة القدر عظيمة الموقع كبيرة الفائدة حسنة المغزى اختارها الرب سبحانه وتعالى ليختم بها كتابه الكريم ووحيه المُعجز وأحكام شريعته السمحة ودينه الحنيف.
ومن مزايا هذه الآية الكريمة التي انفردت بها عما بقي من السور والآيات أن الله أكمل بها الدين بمعرفة الأحكام الشرعية، من الفرائض والسنن والحدود والأحكام والحلال والحرام ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام ولا شيء من الفرائض وأتم بها النعمة على عباده المؤمنين بهدايتهم لأحكامه وتوفيقهم لمعرفة أمره ونهيه وحلاله وحرامه وإنجازه سبحانه ما وعدهم به في قوله: { وَلأتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } .
فكان من تمام نعمته أن دخلوا مكة آمنين وحجوا مطمئنين لم يُخالطهم أحد من المشركين وأنه سبحانه اختار لهذه الأمة دين الإسلام وملة إبراهيم عليه السلام عن الأديان كلها بياناً لشرف هذا الدين واعتناءً بأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - وحسبنا من ذلك قوله تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ } .
وقوله تعالى: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } .
وهذا ما دعا كعب الأحبار – وذلك قبل أن يُسلم وكان معه نفرٌ من اليهود – أن يقول لخليفة المسلمين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرءونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذناها عيداً وأقمنا لها مُحتفلاً في كل عام نُجدد ذكراها ونتدارس فضائلها الكثيرة وذكرياتها العطرة.
(1/146)
فيبتدر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قائلاً: أي آية هي؟ قال كعب: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا } ، فيجيبه أمير المؤمنين بكل تؤدةٍ وسكينة قائلاً قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قائم بعرفة يوم جمعة، وفي رواية إسحاق ابن قبيضة نزلت يوم جمعة يوم عرفة وكلاهما بحمد الله لنا عيداً. اهـ.
ومن الأدلة على وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة عند التحاكم ما يلي:
قال تعالى: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } .
وقال: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } ، وقوله: { وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا } .
وقال تعالى: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } . الآية.
وقال تعالى: { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك»، وقال فيما صح عنه: «ما بُعث من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم» وقال أبو ذر: لقد توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما طائر يُقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً.
(1/147)
ولا شك أن من أعرض عن كتاب الله وسنة رسوله واعتاض عنهما بالقوانين الوضعية أنه كافر كُفرٌ ناقل عن الملة الإسلامية وكذا من استهزأ بالقرآن أو طلب تناقضه أو دعوى أنه مختلف أو مختلق أو أثبت شيئاً نفاه القرآن أو نفا ما أثبته القرآن فقد كفر قال تعالى: { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } . وقال: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا } . ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة أو آية أو كلمة أو حرفاً متفقاً عليه أنه كافر وقال عليٌّ: «من كفر بحرفٍ منه فقد كفر به كله».
وكذا من زعم أنه يسعه الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى. أو زعم أن هدي غير محمد أفضل من هديه - صلى الله عليه وسلم - أو أحسن؛ أو زعم أنه لا يسع الناس في مثل هذه العصور إلا الخروج عن الشريعة، وأنها كانت كافية في الزمان الأول فقط وأما في هذه الأزمنة فالشريعة لا تُساير الزمن ولا بد من تنظيم قوانين بما يُناسب الزمن، فلا شك أن هذا الاعتقاد إذا صدر من إنسان فإنه قد استهان بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتنقصهما، ولا شك في كفره وخروجه من الدين الإسلامي بالكلية.
وكذلك من زعم أنه مُحتاج للشريعة في علم الظاهر دون الباطن، أو في علم الباطن فقط أو في علم الشريعة دون علم الحقيقة أو أن هذه الشرائع غير منسوخة بدين محمد - صلى الله عليه وسلم - ، أو استهان بدين الإسلام، أو تنقصه أو هزل به أو بشيءٍ من شرائعه أو بمن جاء به وكذلك ألحق بعض العلماء الاستهانة بحملته لأجل حمله فهذه الأمور كلها كفر. قال تعالى: { قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } .
(1/148)
اللهم قوي إيماننا بك ونور قلوبنا بنور الإيمان واجعلنا هُداةً مُهتدين، اللهم يا مُقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك وألهمنا ذكرك وشكرك وأمنا من سطوتك ومكرك واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
وقال في تحذير أهل الإيمان عن الحكم بغير ما أنزل الرحمن بعد سياقه لقول الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ... } ، الآية، ثم لو لم يكن في القرآن المجيد في الزجر عن اتباع القوانين البشرية غير هذه الآية الكريمة لكفت العاقل اللبيب الذي أوتي رشده وأهمه صلاح قلبه عن تطلب غيرها فكيف والقرآن كله يدعو إلى تحكيم ما أنزل الله وعدم تحكيم ما عداه إما تصريحاً وإما تلويحاً وله جاهد ويُجاهد من يُجاهد من عباد الله المتقين من لدن بعث سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم تقوم الساعة.
وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا خلاف من خالفهم حتى يأتي أمر الله»، وأنه قال: «لا تجتمع أمتي على ضلالة»، فعلمنا بذلك أن من الممتنع بالسمع أن يتمالأ العالم كلهم شرقاً وغرباً من سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - على اتباع القوانين البشرية وعدم المبالاة بالحكم الشرعي بل لا بد أن يكون فيهم ولو واحد يُنكر على هؤلاء الكل إما بلسانه إن أمكنه ذلك ولم يفتكوا به وأما بقلبه وظن الفتك به كما قد كان أيام الاستبداد.
(1/149)
والغرض بيان أن طائفة على الحق لا تزال تقاتل وتجاهد على تحكيم ما أنزل الله باللسان والبيان والبدن والسنان والمال وكل ممكن لنوع الإنسان وأن به يتم نظام العدل والملك والدين والدنيا وبه يستقيم أمر المعاش والمعاد وتكمل لهم الراحة والأمن والحرية التامة والسياسة العامة لجميع الملل والرعايا المختلفة الأصناف والألسنة والأمزجة.
ومن شك في هذا فلينظر الفرق بين حال الإسلام في هذه القرون المتأخرة التي عطلت فيها حدود الشريعة وأحكامها وحاله في القرون المتقدمة التي ما كانت على شيءٍ أحفظ منها على أحكام الشريعة وأرعى لها، يجد الفرق كما بين الثرى والثريا وكما بين السماء والأرض وكما قال الشاعر:
نَزَلُوا بِمَكَّةَ فِي قَبَائِلِ هَاشِم ... وَنَزَلْتُ بِالبَيْدِاءِ أَبْعَدَ مَنْزِلِ
ألا ترى أن الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - فتحوا ما فتحوا من أقاليم البلدان ونشروا الإسلام والإيمان والقرآن في مدة نحو مائة سنة مع قلة عدد المسلمين وعددهم وضيق ذات يدهم ونحن مع كثرة عددنا ووفرة عددنا وهائل ثروتنا وطائل قوتنا لا نزداد إلا ضعفاً وتقهقراً إلى الورى وذُلاً وحقارةً في عيون الأعداء وذلك لأن من لا ينصر دين الله لا ينصره الله، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } ، فرتب نصرهم على نصره بإقامة طاعته وطاعة رسوله.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله على قوله تعالى: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } .
(1/150)
فمن لم يلتزم تحكيم الله ورسوله فيما شجر بينهم فقد اقسم سبحانه بنفسه أن لا يؤمنوا. وأما من كان ملتزماً لحكم الله ورسوله ظاهراً أو باطناً لكن عصى واتبع هواه فهذا بمنزلة أمثاله من العصاة فمن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر وهذا واجب على الأمة في كل ما تنازعت فيه من الأمور الاعتقادية والعملية.
فالأمور المشتركة بين الأمة لا يُحكم فيها إلا بالكتاب والسنة ليس لأحدٍ أن يُلزم الناس بقول عالم ولا أمير ولا شيخ ولا ملك وحكام المسلمين في الأمور المعينة لا يحكمون في الأمور الكلية وإذا حكموا في المعينات فعليهم أن يحكموا بما في كتاب الله فإن لم يكن فبما في سُنة رسول الله فإن لم يجدوا اجتهد الحاكم برأيه. انتهى.
لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما بعث مُعاذاً إلى اليمن قال: بم تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي. قال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما يُرضي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وفي كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عروة: كتبت إليَّ تسألني عن القضاء بين الناس. وإن رأس القضاء اتباع ما في كتاب الله ثم القضاء بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم بحكم أئمة الهدى ثم استشارة ذوي العلم والرأي وذكر عن سفيان ابن عُيينة قال كان ابن شبرمة يقول:
ما فِي القَضَاءِ شَفَاعَةٌ لِمُخاصِمٍ ... عِنْد اللِّبِيبِ وَلاَ الفَقْيه العَالِم
هَوِنْ عَليَّ إِذَا قَضَيْتُ بِسُنَّةٍ ... أَوْ بالكِتَاب بِرَغْمِ أنْفِ الرَّاغِمِ
وَقَضَيْتُ فِيْمَا لَمْ أَجِدْ أَثراً به ... بِنَظَائِرٍ مَعْرُوْفَةٍ وَمَعالِم
وعن ابن وهب قال: قال مالك الحكم حكمان، حكمٌ جاء به كتاب الله وحكم أحكمته السنة قال: ومجتهدٌ رأيه فلعله يوفق.
وقال ابن القيم رحمه الله: على قوله تعالى: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ } ، الآية.
(1/151)
فأقسم سبحانه بأجل مقسم به وهو نفسه عز وجل على أنه لا يثبت لهم إيمان ولا يكونون من أهله حتى يُحكموا الرسول - صلى الله عليه وسلم - في جميع موارد النزاع في جميع أبواب الدين فإن لفظة (ما) من صيغ العموم تقتضي نفي الإيمان أو يوجد تحكيمه في جميع ما شجر بينهم.
ولم يقتصر على هذا حتى ضم إليه انشراح صدورهم بحكمه حيث لا يجدون في أنفسهم حرجاً وهو الضيق والحصر من حكمه بل يقبلوا حكمه بالانشراح ويقابلوه بالتسليم لا أنهم يأخذونه على إغماض ويشربون على قذىً فإن هذا مُنافٍ للإيمان بل لا بد أن يكون أخذه بقبولٍ ورضا وانشراح صدور.
ومتى أراد العبد أن يعلم هذا فلينظر في حاله ويُطالعه في قلبه عند ورود حكمه على خلاف هواه وغرضه فسبحان الله كم من حزازة في نفوس كثير من الناس من كثير من النصوص وبودهم أن لو لم ترد وكم من حرارة في أكبادهم منها وكم من شجىً في حلوقهم منها ومن موردها ستبدو لهم تلك السرائر بالذي يسوء ويخزي يوم تُبلى السرائر.
ثم لم يقتصر سبحانه على ذلك حتى ضم إليه قوله تعالى: { وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } ، فذكر الفعل مؤكداً بمصدره القائم مقام ذكره مرتين وهو الخضوع له والانقياد لما حكم به طوعاً ورضاً وتسليماً لا قهراً ومُصابرةً كما يُسلم المقهور لمن قهره كُرهاً بل تسليم عبدٍ مُطيعٌ لمولاه وسيده الذي هو أحب شيءٍ إليه يعلم أن سعادته وفلاحه في تسليمه إليه ويعلم بأنه أولى به من نفسه وأبر به منها وأرحم به منها وأنصح له منها وأعلم بمصالحه منها وأقدر على تخليصها.
(1/152)
وتأمل لهذا المعنى المذكور في الآية بوجوهٍ عديدة من التأكيد، أولها: تصديرها بالقسم يتضمن المقسم عليه وهو قوله لا يؤمنون، وثانيها: تأكيده بنفس القسم وثالثها تأكيده بالمقسم به وهو إقسامه بنفسه لا بشيء من مخلوقاته ورابعاً تأكيده بانتفاء الحرج وهو وجود التسليم وخامسها تأكيد الفعل بالمصدر وما هذا إلا لشدة الحاجة إلى هذا الأمر العظيم وأنه مما يُعتنى به ويُقرر في نفوس العباد.
(فصل)
قال ابن القيم رحمه الله:
لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسُنة والمحاكمة إليهما واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما وعدلوا إلى الآراء والقياس والاستحسان وأقوال أهل الآراء عرض لهم من ذلك فسادٌ في فطرهم وظلمة في قلوبهم وكدر في أفهامهم ومحق في عقولهم فعمتهم هذه الأمور وغلبت عليهم حتى ربى فيها الصغير وهرم عليها الكبير فلم يروها منكراً.
فجاءتهم دولةٌ أخرى أقامت فيها البدع مقام السنن والهوى مقام الرشد والضلال مقام الهداية والمنكر مقام المعروف والجهل مقام العلم والرياء مقام النصيحة والظلم مقام العدل فصارت الدولة والغلبة لهذه الأمور وأهلها هم المشار إليهم.
فإذا رأيت هذه الأمور قد أقبلت وراياتها قد نصبت وجيوشها قد ركبت فبطن الأرض والله خير من ظهرها وقُلل الجبال خيرٌ من السهول ومخالطة الوحش أسلم من مخالطة الناس.
اقشعرت الأرض وأظلمت السماء وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة وذهبت البركات وقلت الخيرات وهزلت الوحش وتكدرت الحياة من فسق الظلمة وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة وشكا الكرام الكاتبون والمُعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح.
(1/153)
وهذا والله منذر بسيل عذابٍ قد انعقد غمامه ومؤذنٌ بليلٍ قد ادْلَهَمَّ ظلامُهُ فاعزلوا عن طريق هذا السيل بتوبةٍ نصوٍح ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوحاً وكأنكم بالباب وقد أغلق وبالرهن وقد غلق وبالجناح وقد علق وسيعلم الذين ظلموا أيَّ مُنقلب ينقلبون.
وقال:
واللهِ مَا خَوْفِي الذُّنُوب فإنَّها ... لعَلَى سَبِيل العَفْوِ وَالغُفْرَانِ
لَكِنَّمَا أَخْشَى انْسِلاخِ القَلبِ مِنْ ... تَحْكِيمِ هَذَا الوَحْيِ وَالقُرآَنِ
وَرِضاً بِآرَاءٍ الرَّجالِ وَخَرْصِهَا ... لا كَانَ ذَاك بِمِنَّةٍ الْمَنَّان
فَبأيَّ وَجْهٍ ألْتَقَيْ رَبِّي إِذَا ... أعْرَضْتُ عَن ذَا الوَحْي طُولَ زَمَانِ
وَعَزْلَتُهُ عَمَّا أريدُ لأجْلِهِ ... عَزْلاً حَقِيْقِياً بَلاَ كِتْمَانِ
(فصل)
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم في رده على مُحكمي القوانين: إن من الكفر الأكبر المُستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ليكون من المنذرين بلسانٍ عربيٍ مبين في الحكم به بين العالمين والرد إليه عند تنازع المتنازعين مناقضة ومعاندةً لقول الله عز وجل: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } .
وقد نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عن من لم يُحكِّمُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما شجر بينهم نفياً مؤكداً بتكرر أداة النفي وبالقسم قال تعالى: { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } .
(1/154)
قال وتأمل. ما في الآية الأولى وهي قوله تعالى: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } ، الآية، كيف ذكر النكرة وهي قوله { شيء } في سياق الشرط وهو قوله جل شأنه: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ } المفيد العموم فيما يتصور التنازع فيه جنساً وقدراً.
ثم تأمل كيف جعل ذلك شرطاً في حصول الإيمان بالله واليوم الآخر بقوله: { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } ثم قال جل شأنه ذلك خيرٌ فشيء يُطلق الله عليه أنه خير لا يتطرق إليه شر أبداً بل هو خير محض عاجلاً وآجلاً.
ثم قال: { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } أي عاقبة في الدنيا والآخرة فيفيد أن الرد إلى غير الرسول - صلى الله عليه وسلم - عند التنازع شر محض وأسوأ عاقبة في الدنيا والآخرة عكس ما يقوله المنافقون: { إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا } ، وقولهم { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } .
ولهذا رد الله عليهم قائلاً: { أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ } ، وعكس ما يقوله القانونيون من حكمهم على القانون بحاجة العالم بل ضرورتهم إلى التحاكم إليه وهذا سوء ظن صرف بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومحض استنقاص لبيان الله ورسوله والحكم عليه بعدم الكفاية للناس عند التنازع وسوء العاقبة في الدنيا والآخرة إن هذا لازمٌ لهم.
قال وقد نفى الله الإيمان عن من أراد التحاكم إلى غير ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من المنافقين كما قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا } .
(1/155)
فإن قوله: "يزعمون تكذيب لهم فيما ادعوه من الإيمان فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الإيمان في قلب عبدٍ أصلاً بل أحدهما يُنافي الآخر والطاغوت مُشتق من الطغيان وهو مُجاوزة الحد فكل من حكم بغير ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو حاكم إلى غير ما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد حكم بالطاغوت وحاكم إليه وذلك أنه من حق كل أحد أن يكون حاكماً بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن حكم بخلافه أو حاكم إلى خلافه فقد طغى وجاوز حده حُكماً أو تحكيماً فصار بذلك طاغوتاً لتجاوزه حده".
قال: "وتأمل قوله عز وجل: { وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ } تعرف منه مُعاندة القانونيين وإراداتهم خلاف مُراد الله منهم حول هذا الصدد فالمراد منهم شرعاً والذي تعبدوا به هو الكفر بالطاغوت لا تحكيمه { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ } ".
ثم تأمل قوله: { وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا } كيف دل على أن ذلك ضلال وهؤلاء القانونيون يرونه من الهدى كما دلت الآية على أنه من إرادة الشيطان عكس ما يتصوره القانونيون فتكون على زعمهم مُرادات الشيطان هي صلاح الإنسان ومراد الرحمن وما بعث به سيد ولد عدنان معزولاً من هذا الوصف ومنحىً عن هذا الشأن.
وقد قال تعالى منكراً على هذا الضرب من الناس ومقرراً ابتغاءهم أحكام الجاهلية وموضحاً أنه لا حكم أحسن من حكمه { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } .
فتأمل هذه الآية الكريمة وكيف دلت أن قسمة الحكم ثنائية وأنه ليس بعد حكم الله تعالى إلا حكم الجاهلية الموضح أن القانونيين في زمرة أهل الجاهلية شاءوا أم أبوا بل هم أسوأ حالاً منهم وأكذب منهم مقالاً ذلك أن أهل الجاهلية لا تنافس لديهم حول هذا الصدد.
(1/156)
وأما القانونيون فمتناقضون حيث يزعمون الإيمان بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويناقضون ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً وقد قال الله في أمثال هؤلاء: { أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } .
ثم انظر كيف ردت هذه الآية الكريمة على القانونيين ما زعموه من حسن زُبالة أذهانهم ونُحاتة أفكارهم بقوله عز وجل: { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } .
قال الحافظ بن كثير في تفسير هذه الآية: يُنكر تعالى على من خرج من حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه في الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونه بآرائهم وأهوائهم وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية التي يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير قال تعالى: { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } وعن حكم الله يعدلون { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل من الله شرعه وآمن به وأيقن وعلم أن الله أحكم الحاكمين وأرحم من الوالدة بولدها فإنه تعالى العالم بكل شيءٍ القادر على كل شيء العادل في كل شيء.
وقال تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } ، { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } ، { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } .
(1/157)
فانظر كيف سجل تعالى على الحاكمين بغير ما أنزل الله بالكفر والظلم والفسق ومن الممتنع أن يُسمِّى الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً ولا يكون كافراً بل هو كافر مُطلقاً إما كفر عمل وإما كفر اعتقاد.
وما جاء عن ابن عباس في تفسير هذه الآية يدل على أن الحاكم بغير ما أنزل الله كافر إما كفر اعتقاد ناقل عن الملة وإما كفر عمل لا ينقل عن الملة.
قال وهذه المحاكم الآن في كثيرٍ من أمصار الإسلام مُهيأة مفتوحة الأبواب والناس إليها أسراب إثر أسراب يحكم حكامها بينهم فيما يخالف حكم الكتاب والسنة من أحكام ذلك القانون وتلزمهم به وتُحتمه عليهم فأي كفرٍ فوق هذا الكفر وأي مُناقضة للشهادة بأن محمداً رسول الله بعد هذه المناقضة نسأل الله العصمة عن جميع المعاصي وأن يُثبتنا على قوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
ومما قيل في الحث على التمسك بالقرآن الكريم ما قاله الصنعاني:
ولَيْسَ اغْتِرابُ الدِّينِ إِلاَّ كَمَا تَرَى ... فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الاغْتَرابُ إِيَابُ
وَلَمْ يَبْقَ لِلرَاجِي سَلاَمَةَ دَيْنِهِ ... سِوَى عُزْلةٍ فِيهَا الجلَيْسَ كِتَاب
كِتَابٌ حَوَى كُلّ العُلوم وَكُلَّمَا ... حَوَاهُ مِن الْعِلْمِ الشَّرِيْفِ صَوابُ
فَإِنْ رُمْتَ تَارِيْخاً رَأيْتَ عَجَائِبا ... تَرَى آدَماً إِذْ كَانَ وَهْوَ تُرَابُ
وَلاقَيْتَ هَابِيلاً قَتِيْلَ شَقيْقِهِ ... يُوارِيْهِ لَمَّا أنْ أرَاه غُرابُ
وَتَنْظُرُ نَوحاً وَهْوَ فِي الفُلكِ قَدْ طَغَى ... عَلَى الأرضِ مِن مَاء السَّماءِ عُبابُ
وَإِنْ شِئْتَ كُلّ الأنْبِيَاءِ وَقَوْمَهُم ... وَمَا قَالَ كُلُّ مِنْهُمُو وَأَجَابُوا
وَجَنَّاتِ عَدنٍ حُورَهَا وَنَعِيْمَهَا ... وَنَاراً بِهَا لِلمُشْرِكِين عَذَابُ
فَتِلكَ لأَرْبَابِ التُّقَاء وَهَذِه ... لِكُلّ شَقِيٍٍّ قَدْ حَوَاهُ عِقَابُ
وَإِنْ تُرِدِ الوَعْظَ الَّذِي إِنْ عَقَلْتَهُ ... فَإِنَّ دُمُوعَ العَيْنِ عَنْهُ جَوَابُ
(1/158)
تَجِدْهُ وَمَا تَهْوَاهُ مِن كُلِّ مَشْرَبٍ ... وَلِلرُّوِحِ مِنِهُ مَطْعَمٌ وَشَرَابُ
وَإِنْ رُمْتَ إِبْرَازَ الأدِلَّةِ فِي الَّذِي ... تُرِيْدُ فَمَا تَدْعُو إليه تُجَابُ
تَدُلُّ عَلَى التَّوْحِيِدِ فِيْهِ قَوَاطِعٌ ... بِهَا قُطِّعَتْ لِلمُلحِدِينَ رِقَابُ
وَمَا مَطْلَبٌ إِلاَّ وَفِيْهِ دَلِيْلُهُ ... ولَيْسَ عَلَيْهِ لِلذَّكِي حِجَابُ
وَفِيْهِ الدَّوَاءُ مِن كُلِّ دَاءٍ فَثِقْ بِهِ ... فَوَاللهِ مَا عَنْهُ يَنُوبُ كِتَابُ
يَرِيْكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيْماً وَغَيْرُه ... مَفَاوِزُ جَهْلٍ كُلُّهَا وَشِعَابُ
يَزِيْدُ عَلَى مَرِّ الْجَدِيْديْنِ جدَّةً ... فَألفَاظُه مَهْمَا تَلَوْتَ عِذَابُ
وَآياتُهُ فِي كُلِّ حِيْنٍ طَريَّةٌ ... وَتْبلغُ أَقْصَى العُمْرِ وَهِيَ كِعَابُ
وَفِيْهِ هُدىً لِلعَامِلِينَ وَرَحْمَةٌ ... وَفِيْهِ عُلومٌ جَمَّةٌ وَثَوَابُ
اللهم اجعلنا لكتابك من التالين ولك به من العاملين وبما صرفت فيه من الآيات منتفعين، وإلى لذيذ خطابه مستمعين، ولأوامره ونواهيه خاضعين وبالأعمال مخلصين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
في فضائل ذكر الله
يُستحب الإكثار من ذكر الله تعالى في كل وقت، ولا سيما في رمضان. قال الله تعالى: { وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } ، وقال: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } ، وقال: { وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } ، وقال: { وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } ، وقال: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } ، الآية، وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ } .
(1/159)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» متفق عليه.
وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لأن أقول سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحبُّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس» رواه مسلم.
وعنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير في كل يومٍ وليلة مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكُتب له مائة حسنة ومُحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يُمسي، ولم يأت أحدٌ بأفضل مما جاء به إلا رجلٍ عمل أكثر منه»، وقال: «من قال: سبحان الله وبحمده في يومٍ مائة مرة حُطت عنه خطاياه، وإن كانت مثل زبد البحر» متفق عليه.
وعن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:: «من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، عشر مرات، كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل». متفق عليه.
وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله؟ قلت: بلى يا رسول الله أخبرني بأحب الكلام إلى الله، فقال: إن أحب الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده» رواه مسلم.
(1/160)
وعن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من سبح الله مائة بالغداة ومائة بالعشي كان كمن حج مائة حجة ومن حمد الله مائة بالغداة ومائة بالعشي كان كمن حمل على مائة فرس في سبيل الله أو قال غزا مائة غزوة ومن هلل الله مائة بالغداة ومائة بالعشي كان كمن أعتق مائة رقبة من ولد إسماعيل ومن كبر الله مائة بالغداة ومائة بالعشي لم يأت في ذلك اليوم أحد بأكثر مما أتى به إلا من قال مثل ما قال أو زاد على ما قال» رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن غريب.
وفي الصحيحين عن علي أن فاطمة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - تشكو إليه ما تلقى في يدها من الرحى، وبلغها أنه جاء رقيق فلم تُصادفه فذكرت ذلك لعائشة فذهبنا نقوم فقال على مكانكما فجاء وقعد بيني وبينها حتى وجدت برد قدمه على بطني فقال ألا أدلكما على خير مما سألتما، إذا أخذتما مضجعكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين واحمدا ثلاثاً وثلاثين وكبرا أربعاً وثلاثين فهو خيرٌ لكما من خادم.
وجاء عن معقل بن يسار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يُصلون عليه حتى يُمسي وإن مات في ذلك اليوم مات شهيداً ومن قالها حين يُمسي كان بتلك المنزلة» حسنه الترمذي وغربه.
اللهم اكتب في قلوبنا الإيمان وأيدنا بنورٍ منك يا نور السموات والأرض اللهم وافتح لدُعائنا باب القبول والإجابة واغفر لنا وارحمنا برحمتك الواسعة إنك أنت الغفور الرحيم وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في طريق مكة، فمر على جبل يقال له (جمدان) فقال: «سيروا هذا جُمدان، سبق المفردون» قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: «الذاكرون الله كثيراً والذاكرات» رواه مسلم.
(1/161)
وعن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره مثل الحي والميت» متفق عليه.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول الله: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ خيرٍ منه» متفق عليه.
وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يا عبد الله بن قيس، ألا أدلك على كنزٍ من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله» متفق عليه.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله تعالى يقول: أنا مع عبدي إذا ذكرني، وتحركت بي شفتاه» رواه البخاري.
وعن عبد الله بن بُسر - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: «لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله» رواه الترمذي وحسنه، وابن ماجة، وصححه ابن حبان والحاكم. وروى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ذاكر الله في رمضان مغفور له، وسائل الله فيه لا يخيب» رواه الطبراني في (الأوسط) والبيهقي، والأصبهاني.
وعن أبي سعيدٍ الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «الباقيات الصالحات: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والله أكبر، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله» أخرجه النسائي، وصححه ابن حبان والحاكم.
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخيرٌ لكم من إنفاق الذهب والورق وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى، قال ذكر الله».
(1/162)
وعن عبد الله بن بُسر قال: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أي الناس خير؟ قال: «طوبى لمن طال عمره وحسن عمله» قال: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: «أن تفارق الدنيا ولسانك رطباً من ذكر الله».
قال ابن القيم رحمه الله قراءة القرآن أفضل من الذكر والذكر أفضل من الدعاء هذا من حيث النظر لكلٍ منهما مُجرداً وقد يعرض للمفضول ما يجعله أولى بل يُعينه فلا يجوز أن يعدل عنه إلى الفاضل وهذا كالتسبيح في الركوع والسجود فإنه أفضل من قراءة القرآن بل فيهما بل منهيٌ عنها نهي تحريم أو كراهة.
لما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كشف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الستارة والناس صفوف خلف أبي بكر فقال: «يا أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له ألا وإني نُهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أن يُستجاب لكم» رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود.
وكذا التسبيح والتحميد في محلهما أفضل من القراءة وكذا التشهد وكذلك رب اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني بين السجدتين أفضل من القراءة وكذلك الذكر عقب السلام من الصلاة – ذكر التهليل والتسبيح والتكبير والتحميد أفضل من الاشتغال عنه بالقراءة.
وكذلك إجابة المؤذن والقول كما يقول أفضل من القراءة وإن كان فضل القرآن على كل كلام كفضل الله تعالى على خلقه لكن لكل مقامٍ مقال متى فات مقالهُ فيه وعدل عنه إلى غيره اختلت الحكمة وفقدت المصلحة منه.
(1/163)
وهكذا الأذكار المقيدة بمحال مخصوصة أفضل من القراءة المطلقة والقراءة المطلقة أفضل من الأذكار المقيدة بمحالٍ مخصوصة، والقراءة المطلقة أفضل من الأذكار المطلقة اللهم إلا أن يعرض للعبد ما يجعل الذكرى أو الدعاء أنفع له من قراءة القرآن مثاله أن يتفكر في ذنوبه فيحدث له توبة من استغفار أو يعرض له ما يخاف أذاه من شياطين الإنس والجن فيعدل إلى الأذكار والدعوات التي تُحصنه وتحوطه.
وكذلك أيضاً قد يعرض للعبد حاجة ضرورية إذا اشتغل عن سؤالها بقراءة وذكر لم يحضر قلبه فيها وإذا أقبل على سؤالها والدعاء إليها اجتمع قلبه كله على الله تعالى وأحدث له تضرعاً وخشوعاً وابتهالاً فهذا قد يكون اشتغاله بالدعاء والحالة هذه أنفع وإن كان كل من القراءة والذكر أفضل وأعظم أجراً.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا هلموا إلى حاجتكم».
قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا قال فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم ما يقول عبادي قال: يقولون: يُسبحونك ويُكبرونك ويَحمدونك ويُمجدونك. قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك، قال: فيقول: كيف لو رأوني؟
قال: فيقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيداً وأكثر لك تسبيحاً. قال: فيقول: فما يسألون؟ قالوا: يسألونك الجنة. قال: فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا والله يا رب ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو رأوها؟
قال: يقولون: لو أنهم رأوها لكانوا أشد عليها حرصاً وأشد لها طلباً وأعظم فيها رغبةً. قال: فمم يتعوذون؟ قال: يقولون: من النار. قال: فهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشد فراراً وأشد لها مخافة.
(1/164)
قال: فيقول: فأُشهدكم أني غفرت لهم. قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان وفلان ليس منهم إنما جاء لحاجة قال هم الجُلساء لا يشقى جليسهم» ولذلك حث - صلى الله عليه وسلم - على الجلوس في مجالس الذكر وشبهه بروضة الجنة.
وروى الترمذي عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حلق الذكر» وروى أبو داود عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكر الله فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار وكان عليهم حسرة».
وروى مسلم عن حنظلة بن الربيع الأسدي قال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلت: نافق حنظلة. قال: سبحان الله، ما تقول؟ قلت: نكون عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عافسنا الأزواج والضيعات نسينا كثيراً.
قال أبو بكر إنا لنلقى مثل ذلك فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: نافق حنظلة يا رسول الله، نكون عندك وتُذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات».
قال أحد العلماء: إذا حصل الأُنس بذكر الله انقطع عن غير ذكر الله وما سوى الله عز وجل هو الذي يُفارق عند الموت فلا يبقى معه في القبر أهلٌ ولا مال ولا ولد ولا ولاية ولا يبقى إلا عمله الصالح ذكر الله وما ولاه.
(1/165)
فإن كان قد أنس به تمتع به وتلذذ بانقطاع العوائق الصارفة عنه إذ ضرورات الحاجات في الحياة الدنيا تصد عن ذكر الله وعن الأعمال الصالحة ولا يبقى بعد الموت عائق فكأنه خلي بينه وبين محبوبه فعظمت غبطته وتخلص من السجن الذي كان ممنوعاً به عما به أنسه.
ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن روح القدس نفث في روعي، أحبب ما أحببت فإنك مُفارقه أراد به كل ما يتعلق بالدنيا فإن ذلك يفنى بالموت في حقه فكل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام».
اللهم اجعل الإيمان هادماً للسيئات، كما جعلت الكفر عادماً للحسنات ووفقنا للأعمال الصالحات، واجعلنا ممن توكل عليك فكفيته، واستهداك فهديته ودعاك فأجبته، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا رأرحم الراحمين وصلى الله على مُحمدٍ وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
في فوائد ذكر الله تعالى
قال ابن القيم رحمه الله: وفي ذكر الله أكثر من مائة فائدة يرضي الرحمن ويطرد الشيطان ويزيل الهم ويجلب الرزق ويكسب المهابة والحلاوة ويورث محبة الله التي هي روح الإسلام.
ويورث المعرفة والإنابة والقرب وحياة القلب وذكر الله للعبد وهو قوت القلب وروحه ويجلي صداه ويحط الخطايا ويرفع الدرجات ويُحدث الأنس ويزيل الوحشة.
ويذكر بصاحبه وينجي من عذاب الله ويوجب تنزل السكينة وغشيان الرحمة وحفوف الملائكة بالذاكر ويشغل عن الكلام الضار ويُسعد الذاكر ويُسعد به جليسه ويؤمن من الحسرة يوم القيامة وهو مع البكاء سبب لإظلال الله العبد يوم الحشر الأكبر في ظل عرشه.
وأنه سبب لعطاء الله للذاكر أفضل ما يُعطي السائلين، وأنه أيسر العبادات وهو من أجلها، وأفضلها؛ وأنه غراس الجنة، وأن العطاء والفضل الذي رُتب عليه لم يُرتب على غيره، وأن دوام الذكر للرب تبارك وتعالى يوجب الأمان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده.
(1/166)
وأن الذكر يُسير العبد وهو في فراشه وفي سوقه، وأن الذكر نور الذاكر في الدنيا ونور له في قبره ونور له في معاده وأن في القلب خلة وفاقة لا يسدها شيء ألبتة إلا ذكر الله عز وجل.
وأن الذكر يجمع ما تفرق على العبد من قلبه وإرادته وهمومه وعزمه والذكر يُفرق ما اجتمع عليه من الهموم والغموم والأحزان والحسرات على موت حظوظه ومطالبه ويُفرق ما اجتمع على حربه من جند الشيطان.
وأن الذكر يُنبه القلب من نومه ويوقظه، والقلب إذا كان نائماً فاتته الأرباح والمتاجر، وأن الذكر شجرة تُثمر المعارف والأحوال التي شمر إليها السالكون، فلا سبيل إلى نيل ثمارها إلا من شجرة الذكر.
وأن الذاكر قريب من مذكوره ومذكوره معه وهذه المعية معية خاصة، وأن الذكر يعدل عتق الرقاب ونفقة الأموال والحمل على الخيل في سبيل الله عز وجل، وأن الذكر رأس الشكر، وأن أكرم الخلق على الله من المتقين من لا يزال لسانه رطباً من ذكر الله.
وأن في القلب قسوة لا يُذيبها إلا ذكر الله تعالى وأن الذكر شفاء القلب ودواؤه والغفلة مرضه، وأن الذكر أصل موالاة الله عز وجل وأنه ما استجلبت نعم الله واستدفعت نقمه بمثل ذكر الله.
وأن الذكر يوجب صلاة الله عز وجل وملائكته على الذاكر وأن من شاء أن يسكن رياض الجنة في الدنيا فليستوطن مجالس الذكر فإنها رياض الجنة، وأن مجالس الذكر مجالس الملائكة.
وأن الله عز وجل يُباهي بالذاكرين ملائكته، وأن مُدمن الذكر يدخل الجنة وهو يضحك وأن جميع الأعمال إنما شرعت إقامة لذكر الله تعالى، وأن أفضل أهل كل عمل أكثرهم فيه ذكراً لله عز وجل، فأفضل الصوام أكثرهم ذكراً لله عز وجل.
(1/167)
وأن ذكر الله يُسهل الصعب ويُيسر العسير ويُخفف المشاق، وأن ذكر الله يذهب عن القلب مخاوفه كلها، وله تأثير عجيب في حصول الأمن، وأن في الاشتغال بالذكر اشتغالاً عن الكلام الباطل من الغيبة والنميمة واللغو، وأن عمال الآخرة كلهم في مضمار السباق، والذاكرون أسبقهم في ذلك المضمار ولكن القترة والغبار يمنعان من رؤية سبقهم.
فإذا انجلى الغبار وانكشف، رآهم الناس، وقد حازوا قصب السبق، وأن الذكر سبب لتصديق الرب عز وجل عبده، فإنه أخبر عن الله بأوصاف كماله ونعوت جلاله فإذا أخبر بها العبد صدقه ربه ومن صدق الله لم يُحشر مع الكاذبين ورُجي له أن يُحشر مع الصادقين.
اللهم ألهمنا ذكرك ووفقنا للقيام بحقك وبارك لنا في الحلال من رزقك ولا تفضحنا بين خلقك يا خير من دعاه داع وأفضل من رجاه راج يا قاضيَّ الحاجات ومجيب الدعوات هب لنا ما سألناه وحقق رجاءنا فيما تمنيناه يا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما في ضمائر الصامتين أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على مُحمدٍ وآله أجمعين.
* * *
(فصل)
ومن فوائد الذكر أيضاً ما ذكره ابن القيم رحمه الله:
أن دور الجنة تُبنى بالذكر، فإذا أمسك الذاكر عن الذكر أمسكت الملائكة عن البناء، وأن الذكر سد بين العبد وبين جهنم فإذا كانت له إلى جهنم طريق عمل من الأعمال، كان الذكر سداً في تلك الطريق، وأن الملائكة تستغفر للذاكر كما تستغفر للتائب، وأن الجبال والقفار تتباهى وتستبشر بمن يذكر الله عز وجل عليها، وأن كثرة ذكر الله عز وجل أمان من النفاق، فإن المنافقين قليلو الذكر لله عز وجل.
(1/168)
قال تبارك وتعالى في المنافقين: { وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا } وأن للذكر من بين الأعمال لذة لا يُشبهها شيء فلو لم يكن للعبد من ثوابه إلا اللذة الحاصلة للذاكر، وأنه يكسو الوجة نضرةً في الدنيا ونوراً في الآخرة، وأن في دوام الذكر في الطريق والبيت والحضر والسفر والبقاع تكثيراً لشهود العبد يوم القيامة، فإن البقعة والدار والجبل والأرض تشهد للذاكر يوم القيامة، وأن الذكر يُعطي الذاكر قوة حتى أنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله بدونه، قال وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه وكلامه وإقدامه وكتابته أمراً عجيباً، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جُمعةٍ وأكثر.
وقد علم النبي - صلى الله عليه وسلم - ابنته فاطمة وعلياً رضي الله عنهما أن يُسبحا كل ليلة إذا أخذا مضاجعهما ثلاثاً وثلاثين، ويحمدا ثلاثاً وثلاثين، ويُكبرا، أربعاً وثلاثين، لما سألته الخادم، وشكت إليه ما تُقاسيه من الطحن والسعي والخدمة، فعلمها ذلك، وقال: إنه خير لكما من خادم.
فقيل إن من داوم على ذلك وجد قوة في عمله مُغنيةً عن خادم، قال وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يذكر أثراً في هذا الباب، ويقول: إن الملائكة لما أُمروا بحمل العرش، قالوا يا ربنا كيف نحمل عرشك عليه عظمتك وجلالك، فقال: قولوا لا حول ولا قوة إلا بالله.
فلما قالوا حملوه حتى رأيت ابن أبي الدنيا قد ذكر هذا الأثر بعينه عن الليث بن سعد عن معاوية بن صالح قال حدثنا مشيختنا أنه بلغهم أن أول ما خلق الله عز وجل حين كان عرشه على الماء حملة العرش قالوا: ربنا لما خلقتنا؟ قال: خلقتكم لحمل عرشي. قالوا: ربنا ومن يقوى على حمل عرشك وعليه عظمتك وجلالك ووقارك، قال: لذلك خلقتكم، فأعادوا عليه ذلك مراراً، فقال: قولوا لا حول ولا قوة إلا بالله فحملوه.
(1/169)
قال: وهذه الكلمة لها تأثير عجيب في معاناة الأشغال الصعبة، وتحمل المشاق والدخول على الملوك ومن يُخاف، وركوب الأهوال، ولها أيضاً تأثيرٌ في دفع الفقر قال: ومبنى الدين على قاعدتين الذكر والشكر.
وليس المراد بالذكر مُجرد ذكر اللسان بل الذكر القلبي واللساني، وذلك يستلزم معرفته والإيمان به وبصفات كماله ونعوت جلاله والثناء عليه بأنواع المدح وذلك لا يتم إلا بتوحيده فذكره الحقيقي يستلزم ذكر نعمه وآلائه وإحسانه إلى خلقه.
وأما الشكر فهو القيام بطاعته، فذكره مُستلزم لمعرفته وشكره متضمن لطاعته وهما الغاية التي خلق لأجلها الجن والإنس.
(فائدة)
قال الشيخ تقي الدين: من اُبتُليَّ ببلاء قلبٍ أزعجه فأعظم دواءٍ له قوة الالتجاء إلى الله ودوام التضرع والدعاء بأن يتعلم الأدعية المأثورة ويتوخى الدعاء في مظان الإجابة مثل آخر الليل وأوقات الآذان والإقامة وفي السجود وأدبار الصلوات، ويضم إلى ذلك الاستغفار.
وليتخذ ورداً من الأذكار طرفي النهار وعند النوم، وليصبر على ما يعرض له من الموانع والصوارف، فإنه لا بد أن يؤيده الله بروحٍ منه ويكتب الإيمان في قلبه وليحرص على عمود الدين، وليكن هجيراه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فإنه بها يحمل الأثقال ويُكابد الأهوال، وينال رفيع الأحوال ولا يسأم من الدعاء والطلب، فإن العبد يُستجاب له ما لم يعجل وليعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا، ولم ينل أحد شيئاً من عميم الخير إلا بالصبر والله الموفق.
بِذِكِرِكَ يَا مَولى الوَرَى نَتَنَعَّمُ ... وَقَد خَابَ قَومٌ عَن سَبِيلِكَ قَدْ عَمُوا
شَهِدْنَا يَقِيْناً أَنّ عِلْمَكَ وَاسِعٌ ... فَأَنْتَ تَرَى مَا فِي القُلوُبِِ وَتَعْلَمُ
إِلَهِي تَحَمَّلْنَا ذُنُوباً عَظِيْمَةً ... أَسَأْنَا وَقصّرنَا وجُودُكَ أَعْظَمُ
سَتَرْنَا مَعَاصِينَا عَن الْخَلقِ غَفْلَةً ... وَأَنْتَ تَرانَا ثُمَّ تَعْفُو وَتَرْحَمُ
(1/170)
وَحَقِّكَ مَا فِيْنَا مُسيءُ يَسُرُّهُ ... صُدُودُكَ عَنْهُ بَل يَخَافُ وَيَنْدَمُُ
سَكَتْنَا عَن الشَّكْوىَ حَيَاءً وَهَيْبَةً ... وَحَاجَاتِنَا بِالْمُقْتَضَى تَتَكَلَّمُ
ً
إِذَا كَانَ ذُلُّ العَبْدِ بِالْحَالِ نَاطِقاً ... فَهَلْ يَسْتَطِيْع الصَّبْرَ عَنْهُ وَيَكْتُمُ
إِلَهِي فَجُدْ وَاصْفَحَ وَأَصْلِحَ قُلُوبَنَا ... فَأَنْتَ الَّذِي تُوَلِىْ الْجَمِيلَ وَتُكْرِمُ
وَأَنْتَ الَّذِي قَرَّبْتَ قَوماً فَوَافَقُوا ... وَوَفَّقْتَهُم حَتَّى أنابُوا وَسَلَّمُوا
وَقُلْتَ اسْتَقَامُوا مِنَّةً وَتَكَرُّماً ... فَأَنْتَ الَّذِي قَوَّمْتَهُم فَتَقَوَّمُوا
لَهُمْ فِي الدُّجَى أُنْسٌ بِذِكْرِكَ دَائماً ... فَهُمْ فِي اللّيَالِي سَاجِدُونَ وُقَوَّمُ
نَظَرْتَ إِليْهِم نَظْرةً بِتَعَطُفٍ ... فَعَاشُوا بِهَا وَالنَّاسُ سُكْرَى وَنُوَّمُ
لَكَ الْحَمْدُ عَامِلْنَا بِمَا أَنْتَ أَهْلُهُ ... وَسَامِح وَسَلَّمْنَا فَأنْتَ الْمُسَلَّمُ
اللهم ألهمنا ذكرك وشكرك ووفقنا لما وفقت له الصالحين من خلقك واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
قال في حادي الأرواح ولما علم الموفقون ما خلقوا له وما إيجادهم له رفعوا رءوسم فإذا علم الجنة قد رفع لهم شمروا إليه وإذا صراطها المستقيم قد وضح لهم فاستقاموا عليه ورأوا من أعظم الغبن بيع ما لا عينُ رأت ولا أُذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر.
في أبدٍ لا يزول ولا ينفد بصبابة عيش إنما هو أضغاث أحلام أو كطيف زار في المنام مشوب بالنغص ممزوج بالغصص إن أضحك قليلاً أبكى كثيراً وإن سر يوماً أحزن شهوراً آلامه تزيد على لذاته وأحزانه أضعاف مسراته أوله مخاوف وآخره متالف.
(1/171)
فيا عجباً من سفيه في صورة حكيم ومعتوه في مسلاخ عاقل آثر الحظ الفاني الخسيس على الحظ الباقي النفيس باع جنةً عرضها الأرض والسموات بسجنٍ ضيق بين أرباب العاهات والبليات ومساكن طيبة في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار بأعطانٍ ضيقة آخرها الخراب والبوار.
وأبكاراً عُرباً أتراباً كأنهن الياقوت والمرجان بقذرات دنسات سيئات الأخلاق مُسافحات أو متخذات أخدانٍ وحوراً مقصوراتٍ في الخيام بخبيثات مُسيبات بين الأنام وأنهاراً من خمر لذة للشاربين بشرابٍ نجس مُذهب للعقل مُفسد للدنيا والدين، ولذة النظر إلى وجه العزيز الرحيم بالتمتع برؤية الوجه القبيح الذميم.
وسماع الخطاب من الرحمن بسماع المعازف والغناء والألحان والجلوس على منابر اللؤلؤ والياقوت والمرجان والزبرجد ويوم المزيد بالجلوس في مجال الفسوق مع كل شيطانٍ مريد.
وإنما يظهر الغبن الفاحش في هذا البيع يوم القيامة ويتبين سفه بائعه يوم الحسرة والندامة إذا حشر المتقون إلى الرحمن وفداً وسيق المجرمون إلى جهنم ورداً ونادى المنادي على رءوس الأشهاد ليعلمن أهل الموقف من أولى بالكرم من بين العباد.
فلو توهم المتخلف عن هذه الرفقة وما أعد لهم من الإكرام وادخر لهم من الفضل والإنعام وما أخفي لهم من قرة أعين لم يقع على مثلها بصر ولا سمعته أذن ولا خطر على قلب بشر علم أي بضاعة أضاع وأنه لا خير له في حياته وهو معدود من سقط المتاع.
وأن القوم قد توسطوا مُلكاً كبيراً لا تعتريه الآفات ولا يلحقه الزوال وفازوا بالنعيم المقيم في جوار الرب الكبير المتعال، فهم في روضات الجنات يتقلبون وعلى أسرتها تحت الحجال يجلسون وعلى الفرش التي بطائنها من استبرقٍ يتكئون وبالحور العين يتمتعون.
(1/172)
وبأنواع الثمار يتفكهون: { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ، { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذُّ الأعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } تا الله لقد نودي عليها في سوق الكساد فما قلب ولا استام إلا أفراد من العباد وقال رحمه الله في النونية:
بِاللهِ مَا عُذْرٌ أمْرِءٍٍ هُو مُؤْمِنٌ
حَقًاً بهَذَا لَيْسَ بالْيَقْظَانِ
بَلْ قَلْبُهُ فِي رَقْدَة فَإِذَا اسْتَفَا
قَ فَلُبْسُهُ هُو حُلةُ الكَسْلاَنِ
تَاللهِ لَوْ شَاقَتْكَ جَنَّاتُ النَّعِيْـ
ـمِ طَلَبْتَهَا بِنَفَائِسِ الأَثْمَانِ
وَسَعَيْتَ جُهْدَكَ فِي وِصَالِ نَواعِمٍ
وَكَواعِبٍ بِيْضِ الوُجُوهِ حِسَانٍ
جُلَيَتْ عَلَيْكَ عَرائسٌ وَاللهِ لَوْ
تُجْلَى عَلَى صَخْرٍٍ مِن الصُّوَّانِ
رَقَّتْ حَواشِيْهِ وَعَادَ لِوْقَتِهِ
يَنْهَالُ مِثْلَ نَقَي مِن الكُثْبِانِ
لَكِنَّ قَلْبَك فِي القَسَاوَةِ جَازَ حَدْ
الصَّخْرِ وَالْحَصْبَاءِ فِي أَشْجَانِ
لَوْ هَزَّكَ الشَّوْقُ المُقِيْمُ وَكُنْتَ ذَا
حِِسٍّ لَمَا اسْتَبْدَلْتَ بِالأَدْوَانِ
أَوْ صَادَفَتْ مِنَكَ الصِّفَاتُ حَيَاةَ قَلـ
ـبٍ كُنْتَ ذَا طَلَبٍ بهَذَا الشَّانِ
حُورٌ تُزَفُّ إِلَى ضَرِيْرٍ مُقْعَدٍ
يَا مِِحْنَةِ الْحَسْنَاءِ بِالْعُمْيَانِ
شَمْسٌ لِعنِّينْ تَزَفُ إليِهِ مَا
ذَا حِيَلَةُ الْعِنّيْن فِي الغَشَيَان
يَا سِلْعَةَ الرَّحْمَن لَسْتَ رَخِيْصَةً
بَلْ أَنْتَ غَالية عَلَى الْكَسْلاَنِِ
يَا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ لَيْسَ يَنَالَهَا
(1/173)
بالألْفِِ إِلاَّ وَاحدٌ لاَ اثْنَانِ
يَا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ مَاذَا كَفُوْهَا
إِلاَّ أوُلُوا التَّقْوَى مَعَ الإيْمَانِ
يَا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ سُوقُكِ كَاسِدٌ
بِيْنَ الأَرَاذَلِ سَفُلَةِ الْحَيَوَانِ
يَا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ أَيْنَ الْمُشْتَري
فَلَقَدْ عُرِضْتِ بأيْسَرِ الأَثْمَانِ
يَا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ هَلْ مِن خَاطِبٍٍ
فَالْمَهْرُ قَبْلَ المَوتِ ذُوْ إِمْكَانِ
يَا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ كَيْفَ تَصْبُّر الْـ
ـخُطَّابُ عَنْكَ وَهُمْ ذَوُو إِيْمَانِ
يَا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ لَوْلاَ أَنَّهَا
حُجبَتْ بِكُلِّ مَكَارِه الإنْسَانِ
مَا كَانَ عَنْهَا قَطُ مِن مُتَخَلِّفٍ
وَتَعَطَّلَتْ دَارُ الْجَزاءِ الثَّانِي
لَكِِنَّهَا حُجِبَتْ بِكُلِّ كَريْهَةٍ
لِيَصُدَّ عَنْهَا الْمُبْطِلُ الْمُتَوانِي
وَتَنَالُهَا الْهِمَمُ الَّتِي تَسْمُوا إِلَى
رَبِّ العُلى بِمَشيْئَةِ الرَّحْمَنِ
اللهم اجعلنا من المتقين الأبرار وأسكنا معهم في دار القرار، اللهم وفقنا بحسن الإقبال عليك والإصغاء إليك ووفقنا للتعاون في طاعتك والمبادرة إلى خدمتك وحسن الآداب في معاملتك والتسليم لأمرك والرضا بقضائك والصبر على بلائك والشكر لنعمائك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله أجمعين.
(فصل)
في فضائل الاستغفار
(1/174)
يُستحب الإكثار من الاستغفار في كل وقت، ويتأكد في الزمان الفاضل، والمكان الفاضل، قال تعالى: { وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ } ، وقال: { أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ، وقال تعالى: { وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } ؛ وقال تعالى، مُخبراً عن نوح: { ... فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ } الآية، وقال تعالى: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ } . وقال تعالى: { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } .
وعن شداد بن أوس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت».
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إنا كنا لنعد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المجلس يقول: «رب اغفر لي، وتب علي، إنك أنت التواب الغفور» مائة مرة.
وعن عبد الله بن بُسر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «طوبى لمن وجد في صحيفته: استغفار كثير».
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله عز وجل ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول: يا رب، أنى لي هذه؟ فيقول: باستغفار ولدك لك».
(1/175)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل همٍ فرجاً ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب».
وعن الأغر المزني - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة».
وقال حُذيفة: كنت ذرب اللسان على أهلي، فقلت: يا رسول الله، لقد خشيت أن يُدخلني لساني النار، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «فأين أنت من الاستغفار، فإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» أخرجه النسائي.
وعن زيد مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من قال: استغفر الله الذي لا إله إلا هو، الحي القيوم، وأتوب إليه غفر له، وإن كان قد فر من الزحف» رواه أبو داود.
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قال حين يأوي إلى فراشه: استغفر الله الذي لا إله إلا هو، الحي القيوم، وأتوب إليه – ثلاث مرات – غُفرت له ذنوبه، وإن كانت عدد رمل عالج، وإن كانت عدد أيام الدنيا» رواه الترمذي.
وعن أنس - رضي الله عنه - سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «قال الله تعالى: يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة رواه الترمذي».
وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال إبليس: وعزتك لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني».
وعن الزبير - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحب أن تسره صحيفته فليكثر فيها من الاستغفار».
(1/176)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة، فإن هو نزع واستغفر صُقلت، فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكر الله تعالى: { كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } ».
وروي عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن للقلوب صدأ كصدأ النحاس، وجلاؤها الاستغفار».
وروي عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسيرة، فقال: «استغفروا الله، فاستغفرنا، فقال: أتموها سبعين مرة، فأتممناها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما من عبد ولا أمة يستغفر الله في يومٍ سبعين مرة إلا غفر الله له سبعمائة ذنب، وقد خاب عبد أو أمة عمل في يومٍ وليلة أكثر من سبعمائة ذنب».
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «والذي نفسي بيده لو لم تُذنبوا لذهب الله تعالى بكم ولجاء بقومٍ يُذنبون فيستغفرون الله تعالى فيغفر لهم» رواه مسلم.
وفي حديث سلمان: «فاستكثروا فيه من خصلتين تُرضون بهما ربكم وخصلتين لا غنى لكم عنهما، فأما الخصلتان اللتان تُرضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله، والاستغفار وأما التي لا غنى بكم عنهما فتسألونه الجنة وتعوذون به من النار».
فهذه الخصال الأربع المذكورة في الحديث كلٌ منها سبب للمغفرة والعتق من النار، فأما كلمة الإخلاص فإنها تهدم الذنوب وتمحوها محواً، ولا تُبقي ذنباً، ولا يسبقها عمل، وهي تعدل عتق الرقاب الذي يوجب العتق من النار، ومن أتى بها حين يُصبح وحين يُمسي أعتقه الله من النار، ومن قالها خالصاً من قلبه حرمه الله على النار.
وأما كلمة الاستغفار فمن أعظم أسباب المغفرة، فإن الاستغفار دُعاء بالمغفرة، ودعاء الصائم إذا اجتمعت له الشروط وانتفت الموانع مُستجاب حال صيامه وعند فطره.
(1/177)
وفي حديث أبي هريرة: «ويغفر الله إلا لمن أبى، قالوا يا أبا هريرة ومن يأبى؟ قال: يأبى أن يستغفر الله».
وقال لقمان لابنه: يا بُني عود لسانك الاستغفار، فإن لله ساعات لا يرد فيها سائلاً، وقد جمع الله بين التوحيد والاستغفار، في قوله: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } .
وفي بعض الآثار: أن إبليس قال: أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بالاستغفار ولا إله إلا الله.
والاستغفار ختام الأعمال الصالحة كلها فيختم به الصلاة والحج والقيام في الليل ويختم به المجالس، فإن كانت ذكراً كان كالطابع عليها وإن كانت لغواً كان كفارة لها، فكذلك ينبغي أن يُختتم صيام رمضان بالاستغفار يُرقِع ما تخرق من الصيام باللغو والرفث "ويجتهد في الإكثار من الأعمال والتقلل من شواغل الدنيا والإقبال على الآخرة ما دام في قيد الحياة".
ومن عظة الحسن البصري لعمر بن عبد العزيز: أما بعد فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة لها في كل حين قتيل، تُذل من أعزها، وتُفقر من جمعها هي كالسم يأكله من لا يعرفه وفيه حتفه، فكن فيها كالمداوى جراحه يحتمي قليلاً مخافة ما يكره طويلاً ويصبر على شدة الدواء مخافة طول الداء، فاحذر هذه الدنيا الخداعة الغدارة الختالة التي قد تزينت بخدعها وقتلت بغرورها وتحلت بآمالها وسوفت بخُطَّابها.
فأصبحت كالعروس المجلية، العيون إليها ناظرة والقلوب عليها والهة وهي لأزواجها كُلهم قالية، فلا الباقي بالماضي مُعتبر ولا الآخر بالأول مُزدجر، فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى ونسي المعاد فشغل فيها لُبه حتى زلت به قدمه فعظمت ندامته وكثرت حسرته واجتمعت عليه سكرات الموت وتألمه وحسرات الفوت بغصته، وراغب فيها لم يُدرك منها ما طلب ولم يرح نفسه من التعب فخرج بغير زادٍ وقدم على غير مهاد.
(1/178)
فاحذرها يا أمير المؤمنين وكن أسرَّ ما تكون فيها احذر لها فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن فيها إلى سرور أشخصته إلى مكروه وضار وقد وصل الرخاء منها بالبلاء وجُعل البقاء إلى فناء فسرورها مشوب بالأحزان أمانيها كاذبة وآمالها باطلة وصفوها كدر وعيشها نكد وابن آدم فيها على خطر اهـ.
شعراً مقول على لسان حال الدنيا:
مَنْ لَيْسَ بالبَاكِي وَلاَ المُتَبَاكِي
لِقَبيح مَا يَأْتِي فَلَيْسَ بِزاك
نادَتْ بِي الدُّنْيَا فَقلْتُ لَهَا: اقْصِري
مَا عُدَّ فِي الأَكْيَاسِ مِن لبَّاكِ
وَلَما صَفَا عِنْدَ الإِلَه وَلاَ دَنَا
مِنهُ امْرُؤٌ صَافَاكِ أَوْ دَاناكِ
مَا زَلْتِ خَادِعَتي بِبَرْقٍ خُلَّبٍ
وَلَوْ اهْتَديتُ لَما انْخَدَعْتُ لِذاك
قالَتْ أَغَرَّكَ مِن جَنَاحِكَ طُولُُه
وَكَانَ بِهِ قَدْ قُصَّ فِي أشْراكي
تاللهِ مَا فِي الأَرْضِ مَوْضِع رَاحَةٍ
إِلاَّ وَقَد نُصبتْ عَلَيْهِ شِبَاكِي
طِرْ كَيْفَ شِئْتَ فَأَنْتَ فِيِهَا وَاقِعٌ
عَانٍ بِهَا لاَ يُرتَجَى لِفَكاك
مَنْ كَانَ يَصْرَعُ قِرْنَهُ فِي مَعْرَكٍ
فعَلَى صَرْعَتُهُ بِغَيْرِ عِرَاكِ
مَا أَعْرِفُ العَضْبَ الصَّقِيلَ وَلاَ القَنا
وَلَقَد بَطَشْتُ بِذِي السِّلاحِ الشَّاكِي
كَمْ ضَيْغَم عَفَّرْتُهُ بعَريِنَه
وَلَكَم فَتَكْتَ بأفْتَكِ الفُّتَّاك
فَأجَبْتُها مُتَعَجِّباً مِن غَدْرها
أجَزَيتِ بالبَغْضاءِ مِن يَهْواكِ
لأَجَلتُ عَيْنِي فِي بَنِيكِ فَكلُّهم
أَسْراك أَو جَرحَاك أَوْ صَرعاك
لَوْ قَارضُوك عَلَى صنِيعَك فِيْهمُ
قَطَعُوا مَدى أَعْمَارِهِمْ بِقِلاكِ
طُمِسَتْ عُقُولُهُم ونُورُ قُلوبِهم
فَتَهافَتُوا حِرصاً عَلَى حَلْواك
فَكأَنَّهُم مِثلُ الذُّبَابِ تَساقطتْ
فِي الأَرَى حَتَّى استُؤصِلُوا بِهَلاَكِ
لاَ كُنْتِ مِن أمٍ لَنا أكَّالةٍ
بَعْدَ الوِلاَدَةِ، مَا أقَلَّ حَياكِ!
وَلَقَد عَهدْنَا الأمِّ تَلْطُفُ بِأْبِنِهَا
(1/179)
عَطْفاً عَلَيْهِ وَأَنْتَ مَا أقْسَاكَ
مَا فَوقَ ظَهْرِكَ قَاطِنٌ أَوْ ظَاعِنٌ
إِلاَّ سيُهْشَمُ فِي ثِفَالِِ رَحاك
أنتِ السَّرابُ وَأَنْتَ دَاءٌ كامِنٌ
بين الضُّلوعِ فَمَا أعَزَّ دَواكِ
يُعْصَى الإلَه إِذَا أطِعتِ وَطاعِتِيْ
للهِ رَبِّي أنْ أُشَقَّ عَصاك
فَرْضٌ عَلَيْنَا بِرُّنا أَمَّاتِنا
وَعُقوقُهنَّ مُحَرمٌ إِلاَّك
ما أن يَدُومُ الفقرُ فيكِ وَلاَ الغِنَى
سِيَّان فَقْرُك عِنْدنا وغِنْاك
أَيْنَ الْجَبَابرةُ الألى وَرِياشُهُم
قَد بَاشَرُوا بَعْدَ الْحَرِيْرِ ثَراكِ
وَلَطَالَمَا رُدُّوا بارديةِ البَها
فَتَعوَّضُوا مِنْهَا رِداءَ رَداك
كَانَتْ وُجُوهُهُم كَأقمارِ الدُّجَا
فَغَدَت مُسَجَّاةً بِثَوبِ دُجَاك
وَعَنَتْ لِقَيُّومِ السَّمَاوَاتِ العُلاَ
رَبِّ الْجَمِيْعِ، وَقَاهِرِ الأَمْلاَك
ِِ
وَجَلالِ رَبِّي لَوْ تَصِحُّ عَزائِمي
لَزَهِِدْتُ فِيكِ وَلابتَغَيتُ سِواكِ
وَأخَذْت زَادي مِنْكِ مَنْ عَمَل التُّقَى
وَشَدَدْتُ إِيْمَانِي بِنَقْضِ عُرَاكِ
وَحَطَطْتُ رَحْلِي تَحْتَ ألوِيَةِ الهُدى
وَلَمَا رَآنِي الله تَحْتَ لِواكِ
مَهْلاً عَلَيْكَ فَسَوفَ يَلْحَقُكَ الفَنا
فَتُرَى بِلا أَرْضٍ وَلاَ أَفْلاَك
ويُعيدُنا رَبُّ أَمَاتَ جَمِيعَنَا
لِيَكُونَ يُرْضِى غَيْرَ مَنْ أَرْضَاك
وَاللهِ مَا الْمَحْبُوبُ عِنْدَ مَليكِهِ
إِلاَّ لَبيْبُ لَمْ يَزَلْ يَشناكِ
هَجرَ الغَوانِي واصِلاً لِعَقائِل
يَضْحَكْنَ حُبّاً لِلولَّي البَاكِي
إِنِّي أَرِقْتُ لَهُنَّ لاَ لِحَمائِم
تَبْكي الْهَدِيلَ عَلَى غُصُونِ أَراكِ
لاَ عَيْشَ يَصْفُو لِلمُلوكِ وَإِنَّمَا
تَصْفُو وَتُحْمَدُ عِيْشِةُ النُّسَّاكِ
وَمن الإِلَه عَلَى النَّبِي صَلاتُهُ
عَددَ النُّجُومِ وعِدَّة الأمْلاكِ
(1/180)
اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة أيقظنا من نوم الغفلة ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ووفقنا لمصالحنا واعصمنا من قبائحنا وذنوبنا ولا تؤاخذنا بما انطوت عليه ضمائرنا وأكنته سرائرنا من أنواع القبائح والمعائب التي تعلمها منا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
في أحكام الاعتكاف في المسجد
الاعتكاف لغة: لزوم الشيء، وحبس النفس عليه براً كان أو غيره، وفي الشرع: لزوم مسلم لا غسل عليه، عاقل ولو مميز، مسجداً ولو ساعة من ليل أو نهار لطاعة الله.
وهو سنة في كل وقت، وفي رمضان آكده، وآكده عشره الأخير، لما ورد عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتكف العشر الأواخر من رمضان».
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فلم يعتكف عاماً فلما كان في العام المقبل إعتكف عشرين».
أما كونه لا يصح من الكافر، فلأنه من فروع الإيمان، ولا يصح منه كالصوم، وأما من زال عقله كالمجنون فلأنه ليس من أهل العبادات فلم يصح منه.
أما كونه لا غسل عليه، فلقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها: «إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب».
وأما كونه في مسجد، فلقوله تعالى: { وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } ولا يصح إلا في مسجد تقام فيه الجماعة، لأن الاعتكاف في غيره يُفضي إما إلى ترك الجماعة، أو تكرر الخروج إليها كثيراً مع إمكان التحرر منه، وهو منافٍ للاعتكاف.
والاعتكاف في مسجد تقام فيه الجمعة أفضل، لئلا يحتاج إلى الخروج إليها، ولأن ثواب الجماعة في الجامع أكثر، ولأنه صلى الله عليه وسلم اعتكف في المسجد الجامع.
(1/181)
ويجب الاعتكاف بالنذر، قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن الاعتكاف لا يجب على الناس فرضاً إلا أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذراً، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يُطيع الله فليطعه».
والأفضل أن يعتكف بصوم، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف في شهر رمضان، فإن اعتكف بغير صوم جاز، لحديث عمر - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال: «فأوف بنذرك».
ولو كان الصوم شرطاً فيه لما صح اعتكاف الليل، وكالصلاة وسائر العبادات.
ولا يصح اعتكاف إلا بنية، لأنه عبادة محضة، ولحديث: «إنما الأعمال بالنيات».
ومن نذر الاعتكاف أو الصلاة في مسجد غير الثلاثة، وهي: المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى: جاز له أن يعتكف في غيره لأنه لا مزية لبعضها على بعض.
وإن نذر أن يعتكف في المسجد الحرام لزمه أن يعتكف فيه لما روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - : قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام قال: «أوف بنذرك».
ولأنه أفضل من سائر المساجد، ولا يجوز أن يُسقط فرضه بما دونه.
وإن نذر أن يعتكف في مسجد المدينة جاز له أن يعتكف في المسجد الحرام، لأنه أفضل منه، ولم يجز أن يعتكف في المسجد الأقصى، لأن مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل منه.
وإن نذر أن يعتكف في المسجد الأقصى جاز له أن يعتكف في أي المسجدين أحب لأنهما أفضل منه. بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - : «صلاةٌ في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام».
ولا يجوز للمعتكف أن يخرج من المسجد لغير عذر، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليدخل على رأسه وهو في المسجد فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً».
(1/182)
وعنها رضي الله عنها قالت: «السُنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة ولا يُباشرها، ولا يخرج لحاجة إنسان إلا مما لا بد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجدٍ جامع».
فإن خرج من غير عذر بطل اعتكافه، لأن الاعتكاف: اللبث في المسجد، فإذا خرج فقد فعل ما ينافيه من غير عذر كما لو أكل في الصوم ذاكراً.
ويجوز أن يخرج لحاجة الإنسان ولا يبطل اعتكافه، وكذا إن خرج من المسجد ناسياً لم يبطل اعتكافه، لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «رُفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».
ويستحب للمعتكف التشاغل بفعل القرب كقراءة القرآن، والأحاديث الصحيحة، والصلاة، وذكر الله، ونحو ذلك.
وسن له اجتناب ما لا يعنيه من جدل ومراءٍ وكثرة كلام لما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».
اللهم وفقنا لصالح الأعمال، ونجنا من جميع الأهوال، وأمنا من الفزع الأكبر يوم الرجف والزلزال، واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا ارحم الراحمين، وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.
قُمْ فِي الدُّجَى يَا أَيُّهَا الْمُتَعَْدُ
حَتَّى مَتَى فَوقَ الأسِرَةِ تَرْقَد
قُمْ وادْعُ مَولاَكَ الَّذِي خَلَقَ الدُّجَى
وَالصُّبْحَ وامضِ فَقَد دَعَاكَ المسجدُ
وَاسْتَغفرِ اللهَ العَظِيمَ بذِلَّةٍ
وَاطَلبْ رضاهُ فجُودُهُ لاَ يَنَفْذُ
وَانْدَمْ عَلَى مَا فاتَ واندبْ مَا مَضَى
بالأمسِ واذْكُرْ مَا يَجَيء بِهِ الغَدُ
وَاضرعُ وَقُلْ: يَا رَبّ عَفْوَكَ إِنَّنِي
مِنْ دُون عَفْوك لَيْسَ لِي مَا يَعْضُدُ
أسَفاً عَلَى عُمْرِي الَّذِي ضِيَّعْتُهُ
تَحْتَ الذُّنُوب وَأَنْتَ فَوْقِي تَرْصُدُ
يَا رَبّ لم أَحْسِبْ مَرارَةَ مَزصَدْرِ
عَنْ زَلةٍ قَدْ ذَابَ مِنْهَا الْمَورِدُ
يَا رَبّ قَدْ ثَقُلَتْ عَلَيَّ كَبائِر
(1/183)
بِإزاء عَيْنِي لَمْ تَزَلْ تَتَرَدَّدُ
يَا رَبّ مَالِي غَير لُطْفِكَ مَلْجَأً
وَلعَلَّنِي عَن بَابِهِ لاَ أُطرد
يَا رَبّ هَبْ لِي تَوْبَةً أَقْضِي بِهَا
دَيْناً عَلَيَّ بِهِ جَلاَلُكَ يَشْهَدُ
أَنْتَ الْخَبِيرُ بِحَالِ عَبْدِكَ إِنَّهُ
بِسَلاسِل الوزرِ الثَّقِيْلِ مُقَيَّدُ
أَنْتَ الْمُجِِيبُ لِكُلّ دَاعٍ يَلْتِجي
أَنْتَ الِمجيرُ لِكُلّ مَنْ يَسْتَنْجِدُ
مِنْ أَيّ بَحْرٍ غَيْرَ بَحْرِكَ نَستقي؟
وَلأيّ بِابٍ غَيْرَ بِابِكَ نَقْصُدُ
اللهم وفقنا لصالح الأعمال، ونجنا من جميع الأهوال، وأمنا من الفزع الأكبر يوم الرجف والزلزال، واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.
(فصل)
في بناء المساجد وآدابها
ويبحث في:
1 – ما ورد في الحث على بناء المساجد وثوابها العظيم.
2 – ما ورد في صيانة المساجد عن الأقذار وتنظيفها.
3 – ما ورد في تجنب آكل البصل والثوم الصلاة في المساجد، وإبعاد الصغير والمجنون.
4 – ينبغي تجنيب المساجد البيع والشراء ورفع الصوت ونشدان الضالة فيها.
5 – حرمة المبالغة في زخرفة المساجد.
6 – كراهة التزام موضع معين من المسجد للصلاة لغير الإمام.
1 – ما ورد في الحث على بناء المساجد، وثوابها العظيم:
بناء المساجد في الأمصار والقرى والمحال ونحوها حسب الحاجة فرض كفاية ويُستحب اتخاذ المساجد في الدور، وتنظيفها وتطييبها، قال تعالى: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ... } الآية، ولما روت عائشة رضي الله عنها قالت: «أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببناء المساجد في الدور، وأن تُنظف وتُطيب».
وعن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من بنى لله مسجداً بنى الله له مثله في الجنة».
(1/184)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاةٍ بنى له بيتاً في الجنة».
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من بنى لله مسجداً يُذكر فيه الله، بنى الله له بيتاً في الجنة».
وروي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من بنى بيتاً يُعبد الله فيه، من مالٍ حلال بنى الله له بيتاً في الجنة».
وروي عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من بنى مسجداً لا يريد رياءً ولا سمعة بنى الله له بيتاً في الجنة».
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علماً علمه ونشره أو ولداً صالحاً تركه، أو مصحفاً ورثه، أو مسجداً بناء أو بيتاً لابن السبيل بناه؛ أو نهراً أجراه، أو صدقةً أخرجها من ماله في صحته وحياته، تلحقه من بعد موته».
وأحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أحب البلاد إلى الله مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها».
2 – ما ورد في صيانة المساجد وتنظيفها:
ويُسن صيانة المساجد عن كل وسخ، وقذر، وقذاة، ومُخاط، وبُصاق، وتقليم أظفار، وقص شارب، وحلق رأس، ونتف إبط، لما ورد عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «عُرضت عليَّ أجور أعمال أمتي حتى القذاة يُخرجها الرجل من المسجد».
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «البُصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها».
(1/185)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد ففقدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأل عنها بعد أيام، فقيل له: إنها ماتت، فقال: «فهلا أذنتموني»؟ فأتى قبرها فصلى عليها.
وعن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتخذ المساجد في ديارنا، وأمرنا أن ننظفها.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوماً، إذ رأى نخامة في قبلة المسجد فتغيظ على الناس، ثم حكها، - قال وأحسبه قال -: «فدعا بزعفران فلطخه به، وقال: «إن الله عز وجل قبل وجه أحدكم إذا صلى، فلا يُبصق بين يديه».
وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه» وعن أبي سهلة السائب بن خلاد من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلاً أم قوماً فبصق في القبلة ورسول الله ينظر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين فرغ: «لا يُصلي لكم هذا»، فأراد بعد ذلك أن يُصلي لهم فمنعوه وأخبروه بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «نعم، وحسبت أنه قال: إنك آذيت الله ورسوله».
3 – ما ورد في تجنب آكل البصل والثوم الصلاة في المساجد:
يُسن صيانة المساجد عن رائحة كريهة من بصلٍ وثوم وكُراث ونحوها، لما ورد عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنا ولا يُصلين معنا».
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أكل من هذه الشجرة – يعني الثوم – فلا يقربن مسجدنا».
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من أكل ثوماً أو بصلاً، فليعتزلنا – أو، فليعتزل مسجدنا».
(1/186)
وفي رواية لمسلم: «من أكل البصل والثوم والكراث، فلا يقربن مسجدنا فإن الملائكة تتأذى مما تأذى منه بنو آدم».
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه خطب يوم الجمعة، فقال في خطبته، ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتين، البصل والثوم ولقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليُمتهما طبخاً.
اللهم انظمنا في سلك أهل السعادة، واجعلنا من عبادك المحسنين الذين لهم الحسنى وزيادة، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
يُسن أن يُصان المسجد عن صغير لا يُميز لغير مصلحة، وأن يُصان عن مجنون حال جنونه، وعن لغط، وخصومة وكثرة حديث لاغٍ، ورفع صوتٍ بمكروه، وعن رفع الصبيان أصواتهم باللعب وغيره، ويُمنع فيه اختلاط الرجال والنساء، وإيذاء المصلين وغيرهم بقولٍ أو فعلٍ، ويُمنع السكران من دخوله، وعن واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وسل سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر وجمروها في الجمع».
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «سيكون في آخر الزمان قومٌ يكون حديثهم في مساجدهم ليس لله فيهم حاجة».
وعن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تُقام الحدود في المساجد، ولا يُستقاد فيها».
وعن الحسن رحمه الله مُرسلاً قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يأتي على الناس زمان يكون حديثهم في مساجدهم في أمر دنياهم فلا تُجالسوهم فليس لله فيهم حاجة».
(1/187)
وعن السائب بن يزيد قال: «كنت نائماً في المسجد فحصبني رجل فنظرت فإذا هو عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما، فقال: ممن أنتما – أو من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ».
وعن مالك قال: بنى عمر - رضي الله عنه - رحبة في ناحية تُسمى "البطحاء"، وقال من كان يُريد أن يلغط أو يُنشد شعراً، أو يرفع صوته فليخرج إلى هذه الرحبة.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا اتخذ الفيء دُولاً والأمانة مُغنماً والزكاة مغرماً، وتُعلِّمَ لغير الدين، وأطاع الرجل امرأته وعق أُمَّهُ، وأدنَى صديقه أباه، وظهرت الأصوات في المساجد وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأُكرم الرجل مخافة شره، وظهرت القينات والمعازف، وشُربت الخمور، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فارتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء وزلزلة وخسفاً ومسخاً، وقذفاً وآيات تتابع كنظام قطع سلكه فتتابع".
(فصل)
4 – ينبغي تجنيب المساجد البيع والشراء، ورفع الصوت ونُشدان الضالة فيها:
ويُحرم في المسجد البيع والشراء، فإن فعل فالبيع باطل لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البيع والابتياع وعن تناشد الأشعار في المساجد» رواه أحمد وأبو داود، والنسائي، والترمذي وحسنه.
ويُسن أن يُقال لمن باع أو اشترى في المسجد: لا أربح الله تجارتك، لما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة فقولوا: لا ردها الله عليك» رواه الترمذي والدارمي.
(1/188)
ومما ينبغي التفطن له، والتحذير منه وإبعاده عن المساجد الكتب التي فيها صور ذوات الأرواح، كالهجاء للسنة الأولى الابتدائية، وكالمطالعة لسائر السنوات، وكالعلوم، فإن بعض التلاميذ يأتون بها إلى المساجد ليُطالعوا فيها وإذا تخلقت وضعها في المسجد، وقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: وعد رسول الله جبريل أن يأتيه فراث عليه حتى اشتد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فخرج فلقيه جبريل، فشكا إليه، فقال: «إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة» رواه البخاري.
ويُسن صون المسجد عن إنشاد شعرٍ قبيح، وإنشاد ضالة ونُشدانها، ويُسن لسامع نُشدان الضالة أن يقول: لا ردها الله عليك، لما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من سمع رجلاً يُنشد في المسجد ضالة فليقل: لا أداها الله إليك. فإن المساجد لم تُبن لهذا» رواه أحمد ومسلم وابن ماجة.
وعن بريدة: أن رجلاً نشد في المسجد فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لا وجدت، إنما بُنيت المساجد لما بُنيت له» رواه أحمد ومسلم وابن ماجة.
(فصل)
5 – حُرمة المبالغة في زخرفة المساجد:
وتحرم زخرفتها بنقشٍ وصبغ وكتابةٍ وغير ذلك مما يُلهي المصلي عن صلاته غالباً، وإن فُعل ذلك من مال الوقف حرم فعله، ووجب ضمان مال الموقف الذي صُرف فيه لا لمصلحةٍ فيه.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما أُمرت بتشييد المساجد» قال ابن عباس رضي الله عنهما: «لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى» رواه أبو داود.
وعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد» رواه الخمسة إلا الترمذي.
(1/189)
وقال البخاري رحمه الله قال أبو سعيد: كان سقف المسجد من جريد النخل، وأمر عمر ببناء المسجد، وقال: أكن الناس من المطر وإياك أن تُحمر أو تُصفر فتفتن الناس. وينبغي أن لا يستعمل الناس حصر المسجد وقناديله وسجاجيده وبُسطه وسائر ما وقف لمصالحه في مصالحهم، كالأعراس ويجب صرف الوقف للجهة التي عينها.
6 – كراهة التزام موضع مُعين من المسجد للصلاة، لغير الإمام:
ويُكره لغير الإمام مداومة موضع معين من المسجد لا يُصلى إلا فيه، لما ورد عن عبد الرحمن بن شبل قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نقرة الغراب، وافتراش السبع وأن يُوطن الرجل المكان في المسجد كما يُوطن البعير. رواه أبو داود، والنسائي والدارمي. فإن لغيره الجلوس فيه، لحديث (من سبق إلى مباح فهو له) قال في الاختيارات الفقهية وإذا فرش مُصلى ولم يجلس عليه ليس له ذلك ولغيره رفعه في أظهر قولي العلماء قلت ومثله وضع خرقة أو عصا أو نعل أو تقديم خادم أو ولد ثم إذا حضر قام عنه وجلس فيه فهذا لا يجوز والله أعلم.
وقال في إغاثة اللهفان ولم يُصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سجادة قط ولا كانت السجادة تُفرش بين يديه بل كان يُصلي على الأرض وربما سجد على الطين وكان يُصلي على الحصير فيُصلي على ما اتفق بسطه فإن لم يكن شيء صلى على الأرض.
قال الناظم لاختيارات شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله:
وَوَضْعُ الْمُصَلى فِي الْمَسَاجِدِ بِدْعَةٌ
وَلَيْسَ مِن الْهُدَي القَويِمِ المُحَمَّدِ
وَتَقْدِيْمُهُ فِي الصَّفِّ حَجْرٌ لِرَوْضَةٍٍ
وَغَصْبٌ لَهَا عَن دَاخِلٍ مُتَعَبِّدِ
وَيُشْبِهُهُ وَضْعُ العَصَاءِ وَحُكْمُهَا
كَحُكْم الْمُصَلَّي فِي ابْتِدَاعِ التَّعَبُّدِ
بَلَى مُسْتَحَبّ أن يُمَاطَا وَيُرفَعَا
عَن الدَّاخِلينَ الرَّاكِعِينَ بِمَسْجِدِ
لَئنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا بِنَصٍٍ مُقَرَّرٍ
وَلا فِعْلُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ مُحَمَّدِ
(1/190)
فَخَيْرُ الأُمُورِ السَّالِفَاتِ عَلَى الْهُدَى
وَشَرُّ الأُمورِ الْمُحْدَثَاتُ فَبَعدِ
اللهم ألحقنا بعبادك الصالحين الأبرار، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، واغفر لنا ولوالدينا، ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
في الأيام التي يُسن أو يُكره صيامها
ويبحث في:
1 – ما ورد من الثواب العظيم في صوم بعض الأيام.
2 – بيان الأيام التي يُكره أو يَحرُم صيامها، والنهي عن التشبه بالغير.
1 – ما ورد من الثواب العظيم في صوم بعض الأيام:
يُسن صيام أيام البيض، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر، لما ورد عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا صمت من الشهر ثلاثاً، فصم: ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة» رواه الترمذي.
وعن قتادة بن ملحان - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بصيام أيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمسة عشرة، رواه أبو داود.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتا الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام، متفق عليه.
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث، لن أدعهن ما عشت: بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى وبأن لا أنام حتى أوتر، رواه مسلم.
ويُسن صيام أيام الاثنين والخميس، وستٍ من شوال، لما ورد عن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سُئل عن صوم يوم الاثنين فقال: «ذلك اليوم يوم ولدت فيه، ويوم بُعثت فيه، وأُنزل عليَّ فيه» رواه مسلم.
(1/191)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «تُعرض الأعمال يوم الإثنين، والخميس فأحب أن يُعرض عملي وأنا صائم» رواه الترمذي وقال: حديثٌ حسن ورواه مسلم بغير صوم.
وعن أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صام رمضان، ثم أتبعه ستاً من شوال، كان كصيام الدهر» رواه مسلم.
واستحب صيام ستة أيام من شوال أكثر العلماء وروي ذلك عن ابن عباس وطاوس والشعبي، وميمون بن مهران، وهو قول ابن المبارك – رحمهم الله – وأكثر العلماء: على أنه يُستحب صيامها مُتتابعة أول الشهر ثاني الفطر، وقد رُوي في ذلك حديث مرفوع: «من صام ستة أيام بعد الفطر متتابعة فكأنما صام السنة» أخرجه الطبراني وغيره.
وفي حديث عمران بن حُصين - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لرجل: «إذا أفطرت فصم» وإنما كان صيام رمضان وإتباعه بستٍ من شوال يعدل صيام الدهر لأن الحسنة بعشر أمثالها.
وقد جاء ذلك مفسراً من حديث ثوبان - رضي الله عنه - عن النبي أنه قال: «صيام رمضان بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام بشهرين، فذلك صيام السنة، يعني صيام رمضان وستة أيام بعده» أخرجه: الإمام أحمد والنسائي. وهذا لفظه. وخرجه: ابن حبان في صحيحه. وصححه أبو حاتم الرازي.
ويُسن صيام يوم عرفة لغير حاج بها، وشهر المحرم، وآكده العاشر، ثم التاسع، لما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل. رواه مسلم».
(1/192)
وفي حديث أبي قتادة قال: قال عمر - رضي الله عنه - يا رسول الله. كيف من يصوم الدهر كله؟ قال:" «لا صام ولا أفطر» وقال: «لم يصم ولم يُفطر» قال: كيف من يصوم يومين ويفطر يوماً؟ قال: «ويطيق أحد» قال: كيف من يصوم يوماً ويفطر يوماً؟ قال: «ذلك صوم داود»، قال: كيف من يصوم يوماً ويفطر يومين؟ قال: «وددت أني طوقت ذلك» ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ثلاث من كل شهر، ورمضان إلى رمضان، فهذا صيام الدهر كله، صيام يوم عرفة احتسب على الله أن يُكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء احتسب على الله أن يُكفر السنة التي قبله». رواه مسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه. متفق عليه.
وعنه رضي الله عنهما: «لئن بقيت إلى قابل، لأصومن التاسع» متفق عليه.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة» رواه أبو داود والنسائي وابن خزيمة في صحيحه.
ويُسن صيام تسع ذي الحجة، لما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام» يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله، قال: «ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء» رواه البخاري.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما من أيام أحب إلى الله أن يُتعبد له فيها من أيام العشر، وإن صيام يوم فيها ليعدل صيام سنة، وليلة فيها بليلة القدر» رواه ابن ماجة والترمذي وقال حديث غريب.
(1/193)
اللهم إنا نسألك التوبة ودوامها، ونعوذ بك من المعصية وأسبابها، الله أفض علينا من بحر كرمك وعونك حتى نخرج من الدنيا على السلامة من وبالها وارأف بنا رأفةَ الحبيب بحبيبه عند الشدائد ونزولها، وارحمنا من هموم الدنيا وغمومها بالروح والريحان إلى الجنة ونعيمها، ومتعنا بالنظر إلى وجهك الكريم في جنات النعيم: مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
في بيان الأيام التي يُكره أو يُحرم صيامها
والنهي عن التشبه بالغير
ويُكره إفراد رجب بالصوم، والجمعة والسبت، أما رجب: فلما روى أحمد رحمه الله عن خرشة بن الحُر قال: رأيت عمر يضرب أكف المُترجبين حتى يضعوها في الطعام، ويقول كُلوافإنما هو شهرٌ كانت تُعظمه الجاهلية.
وبإسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا رأى الناس وما يُعدونه لرجب كرهه وقال: «صوموا منه وأفطروا».
وأما الجمعة، فلما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تخصوا ليلة الجمعة بقيامٍ من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيامٍ من بين الأيام إلا أن يكون في صوم يصومه أحدُكُم» رواه مسلم.
وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا يصومن أحدُكُم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوماً قبله أو يوماً بعده» مُتفق عليه.
وأما السبت فلما روي عن عبد الله بن بُسر عن أخته رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض عليكم، فإن لم يجد أحدكم إلا لِحاء عنبة، أو عود شجرة فليمضغه» رواه الخمسة إلا النسائي.
(1/194)
ويُكره تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين، لما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين إلا رجل كان يصوم صوماً فليصمه» متفق عليه.
ويُكره صوم الدهر، لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا صام من صام الأبد» متفق عليه.
ولمسلم من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه - بلفظٍ: «لا صام ولا أفطر».
ويُكره صوم النيروز والمهرجان وكل عيد للكفار، أو يوم يُفردونه بالتعظيم، لما فيه من موافقة الكفار في تعظيمها، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: من تأسى ببلاد الأعاجم نيروزهم ومهرجانهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم.
قال الشيخ وغيره: ما لم يوافق عادة أو يصمه عن نذر ونحوه، قال: وكذلك يوم الخميس الذي يكون في آخر صومهم كيوم (عيد المائدة) ويوم الأحد الذي يسمونه (عيد الفصح) و(عيد النور) و(العيد الكبير) ونحو ذلك، ليس للمسلم أن يُشابههم في أصله ولا في وصفه.
وقال: لا يحل للمسلمين أن يتشبهوا في شيء ما يختص بأعيادهم، لا من طعام، ولا من لباس، ولا اغتسال، ولا إيقاد نيران، ولا تبطيل عادة من معيشة أو عبادة أو غير ذلك، ولا تُمكن الصبيان ونحوهم من اللعب التي في الأعياد، ولا إظهار زينة.
وبالجملة ليس لهم أن يخصوا أعيادهم بشيءٍ من شعائرهم بل يكون يوم عيدهم عند المسلمين كسائر الأيام، لا يخصه المسلمون بشيءٍ من خصائصهم.
وتخصيصه بما تقدم فلا نزاع فيه بين العلماء، بل قد ذهبت طائفة من العلماء إلى كفر من يفعل هذه الأمور: لما فيها من تعظيم شعائر الكفر.
(1/195)
وقد اشترط عمر والصحابة وسائر أئمة المسلمين أن لا يُظهروا أعيادهم في ديار المسلمين فكيف إذا أظهرها المسلمون؟ حتى قال عمر بن الخطاب: لا تتعلموا رطانة الأعاجم، ولا تدخلوا على المشركين في كنائسهم يوم عيدهم، فإن السخطة تنزل عليهم، وإذا كان كذلك، فكيف بمن يفعل ما يسخط الله به عليهم مما هو من شعائرهم؟ وقال عمر: ما تعلم رجل الفارسية إلا خب ولا خب إلا نقصت مروءته.
وقد قال غير واحد من السلف في قوله تعالى: { وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } قال: أعياد الكفار، فإذا كان هذا في شهودها من غير فعل، فكيف بالأفعال التي هي من خصائصها؟!
وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسند والسنن أنه قال: «من تشبه بقوم فهو منهم»، وفي لفظ: «ليس منا من تشبه بغيرنا» وهو حديث جيد، فإذا كان هذا في التشبه – وإن كان من العادات – فكيف التشبه بهم فيما هو أبلغ من ذلك؟.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله اعتياد اللغة يؤثر في العقل والخلق والدين تأثيراً قوياً بيِّناً بحسب تلك اللغة وقال في اقتضاء الصراط المستقيم عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من يُحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالعجمة فإنه يورث النفاق».
قال ابن القيم رحمه الله على حديث: «من تشبه بقومٍ فهو منهم» أي بالاندماج وتلاشت شخصيته فيهم فما يكون ذلك إلا عن تعظيم وإكبار لهم، فهو لذلك يُلغي شخصيته ويتلاشى في شخصية الآخرين، فمن تشبه بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بإلغاء شخصية الجاهلية السفيهة، واندمج في معنوية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه علماً وعملاً واعتقاداً وأدباً، فهو بلا شك منهم.
(1/196)
ومن تشبه بالإفرنج في لباسهم وأخلاقهم ونظمهم ومعاملتهم فهو بلا شك إفرنجي غير مسلم، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فلهذا التشبه ونتائجه الدينية والدنيوية نرى المعظمين للنصارى والوثنيين الحريصين على التشبه بهم والاندماج فيهم يُعاونونهم على الضرر بدينهم وبلادهم وأممهم عن قصد وعن غير قصد أهـ.
ويُكره وصال إلا من النبي - صلى الله عليه وسلم - ، لما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوصال، فقال رجل من المسلمين: فإنك تواصل يا رسول الله فقال: «وأيكم مثلي إني أبيت يُطعمني ربي ويسقيني» فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوماً ثم يوماً، ثم رأوا الهلال فقال: «لو تأخر الهلال لزدتكم» كالمُنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا، متفق عليه.
ولا يجوز صوم العيدين عن فرض أو تطوع، وإن قصد صيامها كان عاصياً، ولا يُجزئ عن الفرض.
ولا يجوز صيام أيام التشريق إلا عن دم مُتعةٍ وقران، لما ورد عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أنه نهى عن صوم يومين: يوم الفطر، ويوم النحر» متفق عليه.
وروى أبو عبيد مولى أزهر، قال: شهدت العيد مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: «هذان يومان نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيامهما: يوم فطركم من صيامكم، واليوم الآخر تأكلون فيه من نُسككم» متفقٌ عليه.
وأما أيام التشريق، فلما روي عن نبيشة الهذلي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل» رواه مسلم.
وعن عائشة وابن عمر رضي الله عنهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن صوم خمسة أيام في السنة: يوم الفطر، ويوم النحر، وثلاثة أيام التشريق» رواه الدارقطني.
اللهم اسلك بنا مسلك الصادقين الأبرار، وألحقنا بعبادك المصطفين الأخيار، وأتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
(1/197)
اللهم أحيي قلوباً أماتها البُعد عن بابك، ولا تُعذبنا بأليم عقابك يا أكرم من سمح بالنوال وجاد بالإفضال، اللهم أيقظنا من غفلتنا بلطفك وإحسانك، وتجاوز عن جرائمنا بعفوك وغفرانك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على مُحمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
في الحث على تقوى الله عز وجل
عباد الله عليكم بتقوى الله فإنها وصية الله للأولين والآخرين، قال الله تعالى: { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ } فما من خير عاجل ولا آجل ظاهر ولا باطن إلا وتقوى الله سبيلٌ موصلٌ إليه، ووسيلة مبلغة له، وما من شر عاجل ولا آجل ظاهر ولا باطن إلا وتقوى الله عز وجل حرز متين وحصن حصين للسلامة منه والنجاة من ضرره.
وكم علق الله العظيم في كتابه العزيز على التقوى من خيرات عظيمة وسعادات جسيمة من ذلك المعية الخاصة المُقتضية للحفظ والعناية والنصر والتأييد، قال تعالى: { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } ، ومن ذلك المحبة لمن اتقى الله، قال الله تعالى: { فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } ، ومن ذلك التوفيق للعلم، قال تعالى: { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } ومن ذلك نفي الخوف والحزن عن المتقي المصلح قال الله تعالى: قال تعالى: { فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } ومن ذلك الفرقان عند الاشتباه ووقوع الإشكال والكفارة للسيئات والمغفرة للذنوب، قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } .
(1/198)
ومن ذلك النجاة من النار قال الله تعالى: { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا } وقال تعالى: { وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } ومن ذلك المخرج من الشدائد والرزق من حيث لا يحتسب، قال تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } .
ومن ذلك اليسر، قال الله تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } ومن ذلك عظم الأجر، قال تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا } ومن ذلك الوعد من الله بالجنة، قال تعالى: { جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ } الآيات إلى قوله: { مَنْ كَانَ تَقِيًّا } .
وقال تعالى: { وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ } وقال تعالى: { إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ } ، وقال تعالى: { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } ، وقال تعالى: { الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ } .
ومن ذلك الكرامة عند الله بالتقوى، قال تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } إذا فهمت ذلك فاعلم أن التقوى هي امتثال الأوامر واجتناب النواهي، فالمتقون هم الذين يراهم الله حيث أمرهم ولا يُقدمون على مانهاهم عنه.
المتقون هم الذين يعترفون بالحق قبل أن يُشهَدَ عليهم ويعرفونه ويؤدونه، وينكرون الباطل ويجتنبونه ويخافون الرب الجليل الذي لا تخفى عليه خافية، المتقون يعملون بكتاب الله فيحرمون ما حرمه ويحلون ما أحله.
(1/199)
ولا يخونون في أمانة ولا يرضون بالذل والإهانة ولا يعقون ولا يقطعون، ولا يؤذون جيرانهم ولا يضربون إخوانهم، يصلون من قطعهم، ويعطون من حرمهم، ويعفون عمن ظلمهم الخير عندهم مأمول، والشر من جانبهم مأمون لا يغتابون ولا يُكذبون ولا يُنافقون.
ولا ينمون ولا يحسدون ولا يُراءون ولا يُرابون ولا يقذفون ولا يأمرون بمنكرٍ ولا ينهون عن معروف، بل يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، تلك صفات المتقين حقاً الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون.
إخواني، لو تحلى كل منا بالتقوى لحسن عمله، وخلصت نيته، واستقام على الهدى، وابتعد عن المعاصي والردى، وكان يوم القيامة من الناجين.
وصف المؤمن المتقي
للإمام علي - رضي الله عنه -
المتقون هم أهل الفضائل منطقهم الصواب وملبسهم الاقتصاد ومشيهم التواضع غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم نزلت أنفسهم منهم في البلاء كما نزلت في الرخاء ولولا الأجل الذي كتب الله لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب.
عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم فهم والجنة كمن قد رآها فهم فيها مُنعمون وهم والنار كمن قد رآها فهم فيها مُعذبون قلوبهم محزونة وشرورهم مأمونة وأجسادهم نحيفة وحاجاتهم خفيفة وأنفسهم عفيفة صبروا أياماً قصيرة أعقبتهم راحة طويلة وتجارة مُريحة يسرها لهم ربهم.
أرادتهم الدنيا فلم يريدوها واسرتهم ففدوا أنفسهم منها أما الليل فصافون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلاً يُحزنون به أنفسهم ويستثيرون به دواء دائهم.
(1/200)
فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً وظنوا أنها نُصب أعينهم وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنوا أن زئير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم فهم حانون على أوساطهم مفترشون لجباههم وأكفهم ورُكبهم وأطراف أقدامهم يطلبون إلى الله تعالى في فكاك رقابهم وأما النهار فحلماء علماء أبرار أتقياء.
قد براهم الخوف بري القداح ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى وما بالقوم من مرض ويقول قد خولطوا ولقد خالطهم أمر عظيم؟ لا يرضون من أعمالهم القليل ولا يستكثرون الكثير فهم لأنفسهم متهمون ومن أعماله مشفقون إذا زكي أحدهم خاف مما يُقال فيقول أنا أعلم بنفسي من غيري وربي أعلم بي من نفسي اللهم لا تؤاخذني بما يقولون واجعلني أفضل مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون.
فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوة في دين وحزماً في لين وإيماناً في يقين، وحرصاً في علم، وعلماً في حلم وقصداً في غِنى وخشوعاً في عبادة وتحملاً في فاقة وصبراً في شدة وطلباً في حلال ونشاطاً في هُدى وتحرجا عن طمع.
يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل، يُمسي وهمه الشكر، ويُصبح وهمه الذكر يبيت حذراً ويُصبح فرحاً، حذراً لما حذر من الغفلة، وفرحاً بما أصاب من الفضل والرحمة، إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره، لم يُعطها سؤلها فيما تحب.
قرة عينه فيما لا يزول، وزهادته فيما لا يبقى، يمزج الحلم بالعلم، والقول بالعمل، تراه قريباً أمله، قليلاً زلله، خاشعاً قلبه، قانعة نفسه، منزوراً أكله سهلاً أمره، حريزاً دينه، ميتةً شهوته مكظوماً غيظه، الخير منه مأمول، والشر منه مأمون.
إن كان من الغافلين كتب في الذاكرين وإن كان في الذاكرين لم يُكتب من الغافلين يعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه ويصل من قطعه، بعيداً فحشه، ليناً قوله غائباً منكره، حاضراً معروفه، مقبلاً خيره، مدبراً شره، في الزلازل وقور، وفي المكاره صبور وفي الرخاء شكور.
(1/201)
لا يحيف على من يبغض، ولا يأثم فيمن يُحب، يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه، لا يضيع ما استحفظ، ولا ينسى ما ذكر، ولا يُنابز بالألقاب، ولا يُضار بالجار، ولا يشمت بالمصاب، ولا يدخل في الباطل، ولا يخرج من الحق.
إن صمت لم يغمه صمته، وإن ضحك لم يعل صوته، وإن بغى عليه صبر حتى يكونه الله هو الذي ينتقم له، نفسه منه في عناء والناس منه في راحة، أتعب نفسه لآخرته، وأراح الناس من نفسه.
بعده عمن تباعد عنه زهد ونزاهة، ودنوه ممن دنا منه لين ورحمة، ليس تباعده بكبر وعظمة، ولا دنوه بمكرٍ وخديعة.
قال فصعِق همام صعقة كانت نفسه فيها. فقال أمير المؤمنين عليه السلام أما والله لقد كنت أخافها عليه، ثم قال هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها فقال له قائل: فما بالك يا أمير المؤمنين فقال ويحك، إن لكل أجل وقتاً لا يعدوه وسبباً لا تجاوزه أهـ.
عَلَيْكَم بِتَقْوَى الله لاَ تَتَركَونَهَا
فَإِنَّ التُّقى أَقْوَى وَأَوْلَى وَأَعْدَل
لِبَاس التُقى خَيْرُ الْمَلابِسِ كُلّها
وَأَبْهَى لِبَاساً فِي الوُجُودِ وَأَجْمَلُ
فَمَا أَحْسَنَ التَّقوى وأَهْدَى سَبِيلَهَا
بِهَا يَنْفَعُ الإنْسَانَ مَا كَانَ يَعْمَلُ
فَيَا أَيُّهَا الإنْسَانُ بَادِر إِلَى التُّقَى
وَسَارِعْ إِلَى الْخَيْرَاتِ مَا دُمْتَ مُمْهَلُ
وَأَكْثِرْ من التَّقْوَى لِِتَحْمِدَ غِبَّهَا
بِدَارِ الْجَزَاء دَارٍ بِهِا سَوْفَ تَنْزِلُ
وَقَدِّمْ لِمَا تَقْدَمْ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا
غَداً سَوْفَ تُجْزَى بِالَّذِي سَوْفَ تَفْعَلُ
وَأَحْسِنْ وَلاَ تُهْمِلْ إِذَا كُنْتَ قَادِراً
فَدَارُ بَنِيْ الدُّنْيَا مَكَانُ التَّرَحُّلُ
وَأَدِّ فُرُوْضَ الدِّيْنِ وَأتقِنْ أَدَاءَهَا
كَوَامِلَ فِي أَوْقَاتِهَا وَالتَّنَفُّلُ
وَسَارِعْ إِلَى الْخَيْرَاتِ لاَ تَهْمِلنَّهَا
فَإِنَّكَ إِنْ أَهْمَلْتَ مَا أَنْتَ مُهْمَلُ
وَلَكِنْ سِتُجْزِى بِالَّذِي أَنْتَ عَامِلٌ
(1/202)
وَعَن مَا مَضَى عَن كُلِّ شَيْءٍ سَتُسْأَلُ
وَلاَ تُلْهِكَ الدُّنْيَا فَرَبُّكَ ضَامِنٌ
لِرِزْقِ الْبَرَايَا ضَامِنٌ مُتَكَفْلُ
وَدُنْيَاكَ فَاعْبُرْهَا وَأُخْرَاكَ زِدْ لَهَا
عَمَاراً وَإِيْثَاراً إِذَا كُنْتَ تَعْقِلُ
فَمَنْ آثَرَ الدُّنْيَا جَهُولٌ وَمَن يَبِع
لأُخْرَاه بِالدُّنْيَا أَضَلُّ وَأَجْهَلُ
وَلَذَّاتُهَا وَالجَاهُ وَالعِزُ وَالغِنَي
بِأَضْدَادِهَا عَمَّا قَلِيْلٍ تَبَدَّلُ
فَمَنْ عَاشَ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ طَالَ عُمْرُهُ
فَلا بُدَّ عَنْهَا رَاغِماً سَوْفَ يُنْقَلُ
وَيَنْزِلُ دَاراً لاَ أَنِيْسَ لَهُ بِهَا
لِكُلّ الوَرَى مِنْهُم مَعَادٌ وَمَوْئِلُ
وَيَبْقَى رَهِيْناً بِِالتُّرَابِ بِمَا جَنَى
إِلَى بَعْثِهِ من أَرْضِهِ حِيْنَ يَنْسِلُ
يُهَالُ بِأهْوَالٍ يَشِيْبُ بِبعْضِهَا
وَلا هَوْلَ إِلاَّ بَعْدَهُ الْهَوْلُ أَهْوَلُ
وَفِي البَعْثِ بَعدَ المَوتِ نَشْرُ صَحائِفٍ
وَمِيْزَانُ قِسْطٍ طائِشٍٍ أَوْ مُثَقَّلُ
وَحَشْرٌ يَشِيْبُ الطِّفْلِ منه لِهَوْلِهِ
وَمنه الْجِبَال الرَّاسِيَاتُ تُزَلْزَلُ
وَنَارُ تَلَظَّى فِي لَظَاهَا سَلاسِلٌ
يُغَلُّ بِهَا الفُجَّارُ ثُمَّ يُسَلْسَلُ
شَرَابُ ذَوِيْ الإِجْرَامِ فِيْهَا حَمِيْمُهَا
وَزُقُّوْمُهَا مَطْعُومُهُم حِيْنَ يُؤكَلُ
حَمِيْمٌ وَغَسَّاقٌ وآخَرُ مِثْلُهُ
مِن الْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ وَيَشعَلُ
يَزِيْدُ هَوَاناً من هَوَاهَا وَلاَ يَزَلْ
إِلَى قَعْرِهَا يَهْوِي دَوَاماً وَيَنْزِلُ
وَفِي نَارِه يَبْقَى دَوَاماً مُعَذَّباً
يَصِيْحُ ثُبُوراً وَيْحَهُ يَتَوَلوَلُ
عَلَيْهَا صِرَاطٌ مَدْحَضٌ وَمَزَلَّةٌ
عَلَيْهِ البَرَايَا فِي القِيَامِةِ تُحْمَلُ
وَفِيْهِ كُلاَلِيبُ تَعَلَّقُ بِالوَرَى
فهَذَا نَجَا مِنْهَا وَهَذَا مُخْرَدَلُ
فَلاَ مُذُنِبٌ يَفْدِيْهِ مَا يَفْتَدِي بِهِ
وَإِنْ يَعْتَذِر يَوْماً فَلاَ العُذْرَ يُقْبَلُ
(1/203)
فهَذَا جَزَاءُ الْمُجْرِمِين عَلَى الرَّدَى
وهَذَا الَّذِي يَومَ القِيَامَة يَحْصُلُ
أَعُوذُ برَبِّي من لَظَى وَعَذَابَهَا
وَمِن حَالِ مَنْ يَهْوَى بِهَا يِتَجَلْجَلُ
وَمِنْ حَالِ مَنْ فِي زَمْهَرِيْرٍ مُعَذْب
وَمَن كَانَ فِي الأَغْلاَلِ فِيْهَا مُكَبَّلُ
وَجَنَّاتِ عَدْنٍ زُخْرِفَتْ ثُمَّ أُزْلِفَت
لِقَوْمٍ عَلَى التَّقْوَى دَوْاماً تَبَتّلُ
بِهَا كُلُّ مَا تَهْوَى النُّفُوس وَتَشْتَهِي
وَقُرَّةُ عَيْنٍ لَيْسَ عَنْهَا تَرَحَّلُ
مَلاَبِسُهُم فِيْهَا حَرِيْرُ وَسُنْدُسٌ
وَإسْتَبْرَقُ لاَ يَعْتَرِيْهِ التَّحَلُّلُ
وَمَأكُوْلُهم من كُلِّ مَا يَشْتَهُونَهُ
وَمَنْ سَلسَبِِْيل شُرْبُهُم يَتَسَلسَلُ
وَأَزْوَاجُهم حُورٌ حِسَانٌ كَوَاعِبُ
عَلَى مِثْلِ شَكْلِ الشَّمسِ بَلْ هُوَ أَشْكَلُ
يُطَافُ عَلَيْهِم بِالَّذِي يَشْتَهُونَهُ
إِذَا أَكَلُوا نَوْعاً بِآَخرَ بِدَّلُوا
فَوَاكِهُهَا تَدْنُوا إِلَى مَنْ يُرِيْدُهَا
وَسُكَّانَهَا مَهْمَا تَمَنَّوْهُ يَحْصُلُ
وَأَنْهَارُهَا الأَلْبَانُ تَجْرِي وَأَعْسُل
تَنَاوُلُهَا عِنْدَ الإرَادَةِ يَسْهُلُ
بِهَا كُلُّ أَنْوَاعِ الفَوُاكِِهِ كُلِّهَا
وَخَمْرٌ وَمَاءُ سَلسَبِِيْلٌ مُعَسْلُ
يُقَالُ لَهُمْ طِبْتُم سَلِمْتُم مِن الأَذَى
سَلاَمٌ عَلَيْكَم بِالسَّلاَمَةِ فُادخُلُوا
بِأَسْبَابِ تَقْوَى للهِ وَالعَمَلِ الَّذِي
يُحِبُّ إِلَى جَنَّاتِ عَدْنٍ تَوَصَّلُوا
إِذَا كَانَ هَذَا وَالَّذَي قَبْلَه الْجَزَاءِ
فحَقٌّ عَلَى العَيْنَيْنِ بِالدَّمْعِ تُهْمَلُ
وَحَقٌّ عَلَى مَنْ كَانَ بِاللهِ مُؤْمِناً
يُقَدِّمْ لَهُ خَيْراً وَلاَ يَتَعَلَّلُ
وَأَنْ يَأخُذَ الإِنْسَانُ زَاداً مِن التُّقَى
وَلا يَسْأَم التَّقْوَى وَلاَ يَتَمَلْمَلُ
وَإنَّ أِمامَ النَّاسِ حَشْرٌ وَمَوقِفٌ
وَيَومٌ طَوِِيل ألفُ عَامٍ وَأَطْوَلُ
فَيَالَكَ مِن يَومٍ عَلَى كُلِّ مُبْطِل
(1/204)
فَظِيْعٍ وَأَهْوَالُ القِيَامِةِ تُعْضِلُ
تَكُونُ بِهِ الأطْوَادُ كَالعِهْنِ أَوْ تَكُنْ
كَثِيْباً مَهِيْلاً أَهْيَلاً يَتَهَلْهَلُ
بِهِ مِلَّةُ الإسْلاَمِ تُقْبَلُ وَحَدَهَا
وَلاَ غَيْرَهَا مِن أَيْ دِيْنٍ فَيَبْطُلُ
بِهِ يُسْأَلُون النَّاسَ مَاذَا عَبَدتُمُوا
وَمَاذَا أَجَبْتُم مَنْ دَعَا وَهُوَ مُرْسَلُ
حٍسَابُ الَّذِي يَنْقَادُ عَرْضٌ مُخَفَّفٌ
وَمَنْ لَيْسَ مُنقَاداً حِسَابُ مُثَقَّلُ
أَعُوْذُ بِكَ الَّلهُمَ مِن سُوءِ صُنْعِنَا
وَأَسْأَلُكَ التَّثْبِيْتَ أُخْرَى وَأَوَّلُ
إِلَهِي فَثَبِّتْنِي عَلَى دِيْنَكَ الذي
رَضِيْتَ بِهِ دِيْناً وَإيَّاهُ تَقْبَلُ
وَهَبْ لِي مِن الفِرْدَوْسِ قَصْراً مُشَيَّداً
ومُنَّ بِخَيْرَاتٍ بِهَا أَتَعَجَّلُ
وَللهِ حَمْدٌ دَائِمٌ بِدَوَامِهِ
مَدَى الدَّهْرِ لاَ يَفْنَى وَلاَ الْحَمْدِ يَكْمُلُ
يَزِيْدُ عَلَى وَزْنِ الْخَلاَئِقِ كُلِّهَا
وَأَرْجَحُ مِن وَزْنِ الْجَمِيْعِ وَأَثْقَلُ
وَإِنِّي بِحَمْدِ اللهِ فِي الْحَمْدِ أَبْتَدَي
وَأُنْهِي بِحَمْدِ اللهِ قَوْلِي وَأَبْتَدِي
صَلاةً وتَسْلِيْماً وَأَزْكَى تَحِيَّةً
تَعُمُّ جَمِيْعَ الْمُرْسَلِيْنَ وَتَشْمَلُ
وَأَزْكَى صَلاة اللهِ ثُمَّ سلاَمُهُ
عَلَى الْمُصْطَفَى أَزْكَى الْبَرِيَّةِ تَنْزِلُ
اللهم وفقنا لما وفقت إليه القوم وأيقظنا من سِنةِ الغفلة والنوم وارزقنا الاستعداد لذلك اليوم الذي يربح فيه المتقون اللهم وعاملنا بإحسانك وجد علينا بفضلك وامتنانك واجعلنا من عبادك الذي لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، اللهم ارحم ذلنا بين يديك واجعل رغبتنا فيما لديك، ولا تحرمنا بذنوبنا، ولا تطردنا بعيوبنا، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.
(موعظة)
(1/205)
عباد الله، إن بين أيديكم يومٌ لا شك فيه ولا مراء، يقع فيه الفراق وتنفصم فيه العُرى، فتدبروا أمركم، قبل أن تحضروا، وانظروا لأنفسكم نظر من قد فهم ودرى، قال الله تعالى: { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا } يا له من يوم يشيب فيه الولدان، وتسير فيه الجبال، وتظهر فيه الخفايا، وتنطق فيه الأعضاء، شاهدة بالأعمال، فانتبه يا من قد وهى شبابه، واملأ بالأوزار كتابه، عباد الله، أما بلغكم أن النار للكفار والعصاة أُعدت، إنها لتحرق كل ما يُلقى فيها، قال الله تعالى: { إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ } ، وقال: { إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ } عباد الله، أما بلغكم أن طعام أهلها الزقوم، وشرابهم الحميم، قال عليه الصلاة والسلام: «لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الأرض لأمَرَّت على أهل الدنيا معيشتهم» فكيف بمن هو طعامه، لا طعام له غيره، قال تعالى: { إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ } .
أخرج الطبراني وابن أبي حاتم من طريق منصور بن عمار حدثنا بشير بن طلحة عن خالد بن الدريك عن يعلى بن منية رفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يُنشيء الله لأهل النار سحابة سوداء مُظلمة، فيُقال: يا أهل النار أي شيءٍ تطلبون، فيذكرون بها سحابة الدنيا، فيقولون: يا ربنا الشراب، فتُمطر أغلالاً تزيد في أغلالاهم، وسلاسل تزيد في سلاسلهم، وجمراً يلتهب عليهم».
اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
31- كتاب الزكاة
ويبحث في:
1 – الأموال التي تجب فيها الزكاة.
2 – نصاب الزكاة.
3 – مصارف الزكاة.
(1/206)
4 – تعريف أهل الزكاة وبيان مقدار ما يُعطاه كل صنف.
1 – الأموال التي تجب فيها الزكاة:
اعلم – رحمك الله – أن الله سبحانه وتعالى أوجب على المؤمنين أصحاب الأموال الزكوية زكاة لمن ذكرهم الله في كتابه، وقسمها بينهم ورتب الثواب على أدائها، والعقاب على منعها، وقرنها بالصلاة في مواضع كثيرة من كتابه، تعظيماً لشأنها، وتنبيهاً بذكرها، وحثاً على أدائها لتطهير النفس من درن الشح والبخل، ودفع النفس إلى الجود، والتصدق والإنفاق في مراضي الله تعالى؛ لتحصيل النماء والزيادة والبركة والفلاح والطهارة، قال تعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } .
فالزكاة تُطهر المزكي من أنجاس الذنوب، وتنقيه من أوساخها وتُزكي أخلاقه بالتحلي بالجود والسخاء وتمرُنه على السخاء الذي يحبه كل بر وفاجر وتُبعده عن الشح الذي هو مذموم عند كل أحدٍ وتُطهر القلب عن حب الدنيا ببذل اليسير. فاليسير هو الواجب وهو بذل القليل من الكثير قال تعالى: { وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ * إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } ، وقال تعالى: { وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا } ، وقال: { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } .
فالشارع الحكيم اللطيف بعباده أوجب شيئاً يسيراً بعد مدة طويلة إذا اعتاد الإنسان إخراجه من المال المحبوب طبعاً امتثالاً لأمر الله ورسوله؛ استفاد حُب خالقه الذي رزقه إياه ووعده أن يخلف عليه ما أنفقه. قال تعالى: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } ، وقال: { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ } .
(1/207)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما من يوم يُصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط مُنفقاً خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكاً تلفا» وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله تعالى: أنفق يا ابن آدم يُنفق عليك» مُتفق عليه.
إذا فهمت ذلك فاعلم أن الزكاة هي أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام المشار إليها بقوله - صلى الله عليه وسلم - : «بُني الإسلام على خمس» ذكر منها إيتاء الزكاة. وتجب الزكاة في خمسة أشياء:
1 – بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم.
2 – الخارج من الأرض وما في معناه كالعسل الخارج من النحل.
3 – عروض التجارة.
4 – الأثمان.
5 – الثمار.
ولا زكاة في شيء من ذلك حتى يبلغ نصاباً، ولا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول، إلا في الخارج من الأرض لقوله تعالى: { وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } وإلا نتاج السائمة، وربح التجارة فإن حولهما حول أصلهما إن كان نصاباً، وإلا فابتداء الحول من حين كمل نصاباً.
ومن كان عنده مال وعليه دين فإن كان بمقدار ما عنده فلا زكاة فيه، فإن كان عنده عشرة آلاف وعليه دين عشرة آلاف فأصبح ما يملك شيئاً وإن كان عنده عشرون ألفاً وعليه عشرة زكى عشرة وإن كان عليه عشرون وعنده عشرة فليس عليه شيء وله الأخذ من الزكاة لأنه من الفقراء ولأنه غارم.
ويضم المستفاد إلى نصاب بيده من جنسه، أو في حكمه في وجوب الزكاة لا في الحول، فيُزكي كل واحد إذا تم حوله.
وتجب الزكاة فيما زاد على النصاب بحسابه إلا في السائمة فلا زكاة في وقصها لما روى أبو عبيدة في غريبه: (وليس في الأوقاص صدقة)، وقال: (الوقص ما بين الفرضين).
(1/208)
أما عروض التجارة، فهو كل ما أعد للبيع والشراء لأجل الربح والتكسب من جميع السلع التجارية: كالمجوهرات والأطعمة والأقمشة والسيارات والمكائن، والثابتات: كالعقارات من أراضٍ وبيوت ونحوها، إذا تملكها بفعله بنية التجارة وبلغت قيمتها نصاباً، لما ورد عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أمرنا أن نُخرج الصدقة مما نُعده للبيع» رواه أبو داود.
فتقوم العروض إذا حال عليها الحول، وأوله من حين بلوغ القيمة نصاباً بالأحض للفقراء من ذهب أو فضة، ولا يُعتبر ما اشتريت به، ويُخرج ربع عشر قيمتها، ومن استفاد مالاً خارجاً عن ربح التجارة كالأجرة والراتب ونحوهما، فإنه يبتدي حولاً من حين الاستفادة إن كان نصاباً، وإلا فمن كماله ويزكيه إذا تم حوله.
وأما الأثمان، وهي النقود من ذهب أو فضة، أو ما يقوم مقامها من فلوس أو أوراق نقدية، وكذلك حُلي الذهب والفضة إذا بلغ نصاباً بنفسه، أو بما يضم إليه من جنسه أو في حكمه ولم يكن مُعداً للاستعمال أو للإعارة، فإن أُعد للاستعمال أو للإعارة فلا زكاة فيه.
وأقل نصاب الذهب عشرون مثقالاً، وفيها نصف مثقال وهو ربع العشر، لحديث عائشة وابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً: «أنه كان يأخذ من كل عشرين مثقالاً نصف مثقال» رواه ابن ماجه.
2 – نصاب الزكاة:
والنصاب من الذهب بالجنيه السعودي أحد عشر جنيها ونصف جنيه تقريباً، وكذلك بالجنيه الإفرنجي أحد عشر جنيهاً ونصف جنيه تقريباً واقل نصاب الفضة مائتا درهم، وبالريال العربي ستة وخمسون ريالاً تقريباً، وبالريال الفرنسي ثلاثة وعشرون ريالاً تقريباً.
وأما الأوراق الموجودة فإذا ملك منها ما يُقابل نصاباً من الفضة وحال عليه الحول فإنه يُخرج منها رُبع العشر.
(1/209)
ومن كان عنده فضة وأراد أن يُخرج زكاتها من الأوراق الموجودة المتعامل فيها نظر إلى قيمة الفضة من الأوراق وأخرج ربع عشر المقابل لها، فمثلاً إذا كان عنده ألف ريال من الفضة يُساوي ثلاثة آلاف من الأوراق أخرج عن الفضة خمسة وسبعين ريالاً هي مقابل زكاة الألف من الفضة وهي خمس وعشرون.
وإن كان عنده ذهب، وأراد أن يُخرج زكاته من الأوراق المتعامل فيها نظر إلى قيمة الذهب من الأوراق وأخرج ربع عشر المقابل لها، فمثلاً إذا كان عنده مائة جنيه وكان الجنيه يساوي خمسين ريالاً فتكون المائة في خمسة آلاف ريال فزكاتها من الأوراق مائة وخمس وعشرون ريالاً هو مقابل زكاة مائة الجنيه وهو جنيهان ونصف جنيه من زكاة المائة وهو جنيهان ونصف.
وتجب الزكاة في مال الصبي والمجنون لعموم حديث مُعاذ لما بعثه - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، ويُخرج عنهما وليهما في مالهما من مالهما.
اللهم ألهمنا ذكرك ووفقنا للقيام بحقك، وخلصنا من حقوق خلقك، وبارك لنا في الحلال من رزقك، ولا تفضحنا بين خلقك، يا خير من دعاه داعٍ وأفضل من رجاه راجٍ يا قاضي الحاجات، ومجيب الدعوات، هب لنا ما سألناه، وحقق رجاءنا فيما تمنيناه، يا من يملك حوائج السائلين ويعلم ما في صدور الصامتين أذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يأرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
3 – وأما زكاة الخارج من الأرض فتجب في كل مكيل مُدخر من الحب كالقمح والشعير والذرة ومن الثمر كالتمر والزبيب قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ } ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «فيما سقت السماء والعيون أو كان عثرياً العشر وفيما سُقي بالنضح نصف العشر» رواه البخاري.
(1/210)
وإنما تجب فيه بشرطين الأول: أن يبلغ نصاباً وقدره بعد تصفية الحب وجفاف الثمر خمسة أوسق والوسق ستون صاعاً نبوياً فتكون خمسة الأوسق (300) ثلاثمائة صاع بالصاع النبوي وبالصاع الحالي مائتين وثمانية وعشرين صاعاً ووزن الصاع النبوي بالريال الفرنسي ثمانون ريالاً (80)، ووزن الصاع الحالي بالريال الفرنسي مائة وأربعة (104) فيكون زائداً على الصاع النبوي بخُمس وخُمس الخُمس تقريباً.
والشرط الثاني: أن يكون مالكاً للنصاب وقت وجوبها فوقت الوجوب في الحب إذا اشتد وفي الثمر إذا بدا صلاحها لأنه حينئذٍ يُقصد للأكل والاقتيات به فأشبه اليابس وعن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود فيخرص عليهم النخل حين يطيب قبل أن يؤكل منه. رواه أبو داود.
ويجب فيما سُقي بلا مؤنة العشر وفيما سُقي بكلفة نصف العشر لحديث ابن عمر مرفوعاً فيما سقت السماء العشر وفيما سُقي بالنضح نصف العشر رواه أحمد والبخاري والنسائي وأبي داود وابن ماجه فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بعلا العشر وفيما سُقي بالسواني والنضح نصف العشر.
ويجب إخراج زكاة الحب مُصفى من قشره والثمر يابساً لما ورد عن عتاب بن أُسيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن يُخرص العنب زبيباً كما يُخرص التمر ولا يُسمى زبيباً ولا تمراً حقيقة إلا اليابس وقيس الباقي عليهما، ولا يستقر وجوبها إلا بجعلها في الجرين أو في البيدر أو في المسطاح ونحوه.
فإن تلفت الحبوب والثمار التي تجب فيها الزكاة قبل الوضع بالجرين ونحوه بغير تعدٍ منه سقطت خرصت أو لم تخرص وإن تلف البعض من الزرع والثمر قبل الاستقرار زكى الباقي إن كان نصاباً وإلا فلا زكاة فيه لقوله - صلى الله عليه وسلم - : «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة».
(1/211)
ولا تتكرر زكاة المُعشر إذا لم يقصد به التجارة فإن كانت مُعدة للتجارة كالذي يشتري البر أو الأرز أو الزيت يتربص به أو يقطعه فهذه تعتبر عروضاً إذا كانت تبلغ نصاباً كلما دار عليها الحول قومها بالأنفع للفقراء من عين أو ورق ولا يعتبر ما اشتريت به.
ويُستحب للإمام بعث خارص لثمر النخل والكرم إذا بدا صلاحها. وشرط كونه مسلماً أميناً خبيراً لحديث عائشة قالت كان عليه الصلاة والسلام يبعث عبد الله بن رواحة إلى اليهود يخرص عليهم النخيل قبل أن يؤكل، متفق عليه.
وفي حديث عتاب بن أُسيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم رواه الترمذي وابن ماجه وصح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه خرص على امرأة بوادي القرى حديقة لها وحديثها في مسند أحمد.
ويجب أن يترك الخارص لرب المال الثلث أو الربع فيجتهد الساعي بحسب المصلحة لحديث سهل بن أبي حثمة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا أخرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعو الثلث فدعوا الربع» رواه الخمسة.
(موعظة)
أيها الغافل راقب من يراك في كل حال، وطهر سرك فهو عليم بما يخطر بالبال، إلى متى تميل مع الزخارف وإلى كم ترغب لسماع الملاهي والمعازف والمحرمات أما آن لك أن تُجالس صاحب الدين والصلاح العاكف على عمله يقطع ليله بالقيام حتى الصباح ونهاره بالصيام لا يمل ولا يتوانى رجاء الفوز بالأرباح وأنت في غمرة هواك مفتوناً في الانهماك بدنياك وكأني بك وقد هجم عليك ما بدد شملك وأوهن قواك وافترسك من بين أهلك وعشيرتك وأخلائك وتخلى عنك خليلك وأصدقاؤك لا يستطيعون رد ما نزل بك ولا تجد له كاشفاً فانتبه ما دام جسمك صحيحاً والعمل منك في إمكان.
(1/212)
اللهم وفقنا لصالح الأعمال ونجنا من جميع الأهوال وأمنا من الفزع والرجف والزلزال، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
33 – فصل في بيان مصارف الزكاة
ويُشترط لإخراجها نية من مُكلف، لحديث: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امريءٍ ما نوى»، فينوي الزكاة، أو الصدقة الواجبة، أو صدقة المال.
ويُسن أن يُفرق زكاته على أقاربه الذين لا تلزمه مؤونتهم لما ورد عن سلمان بن عامر - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة» رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه والدارمي.
ويُستحب أن يقول المُخرج: اللهم اجعلها مغنماً، ولا تجعلها مغرماً، ويحمد الله على توفيقه لأدائها، لما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا أعطيتم الزكاة فلا تنسوا ثوابها أن تقولوا اللهم اجعلها مغنماً ولا تجعلها مغرماً» رواه ابن ماجه.
ويقول الآخذ وهو الفقير أو المسكين أو أحد الأصناف آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت وجعله لك طهوراً.
قال الله تعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } أي ادع لهم، كما روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتي بصدقةِ قومٍ صلى عليهم، فأتاه أبي بصدقته، فقال: «اللهم صلي على آل أبي أوفى».
(1/213)
وللمزكي دفعها إلى الإمام وإلى الساعي، ويبرأ بذلك، ولا يُجزي دفعها إلى كافرٍ غير مؤلف، ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مُكتسب لما ورد عن عبدالله بن عدي - رضي الله عنه - أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألانه من الصدقة فقلب فيهما البصر ورآهما جلدين فقال لهما: «إن شئتما أعطيتكما ولا حظ لغني ولا لقوي مُكتسب» فالواجب تأمل حالِ السائل والتفرس فيه كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فكم من إنسان يدعي الفقر وهو غني.
وكم من متعارج وما به عرج ولكن لأمرٍ ما تعارجه.
وكم من حامل ورقة يأكل بها لا يدري ما فيها ولو برقت وسبرت بدقةٍ لوجدت العجائبَ، لأن الوازع الديني قد ضعف جداً واختلط الحابل بالنابل فلا يُميز الفقير والمستحق للزكاة إلا إنسان مُتبصر بعد التأمل والبحث التام والحريص على إبراء ذمته وإيصال زكاته إلى المستحق لها يعرف كيف يجد موضعها تماماً ممن لا يسألون الناس إلحافاً المحتاجين المختفين الحيين الأرامل ذوي العوائل، وروي أن عمر - رضي الله عنه - سمع سائلاً يسأل بعد المغرب فقال لرجل من قومه عَشِّ السائل فعشاه ثم سمعه ثانياً يسأل فقال ألم أقل لك عش السائل قال قد عشيته فنظر عمر له فإذا تحت يده مخلاة مملؤة خبزاً فقال لست سائلاً لكنك تاجر ثم أخذ المخلاة ونثرها بين يدي إبل الصدقة وضربه بالدِّرَّة وقال لا تعد.
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرةٍ سويٍ». رواه أحمد وأبو داود.
ولا يدفع بالزكاة مذمة، ولا يقي بها ماله، ولا يستخدم بها، ويلزم الإنسان الذي يريد إبراء ذمته صحيحاً أن يُفتش على أهل العوائد ويسأل عنهم بدقة من يعرف حالهم من جيران وأقارب حتى يتأكد هل هم أغنياء فلا يدفعها إليهم لأن دفعها لهم مع الغنى وجوده كعدمه فلا تبرأ ذمته وتبقى الزكاة في ذمته ولا يحمله الحياء فيُعطي صاحب الغنى قبل أن يبحث عنه هل هو على فقره.
(1/214)
لأن كثيراً من الفقراء في وقتنا انفتح لهم أبواب الرزق من أولاد أو بنات أو عقار أو شئون ولا يُبالي بغضب من منعه عادته مع استغنائه ويلتمس رضا الله جل وعلا وسواء كانوا أقرباء أو غير أقرباء.
ولا يجوز صرف الزكاة لغير الأصناف الثمانية المذكورين في الآية، قال الله تعالى: { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .
فلا يجوز صرفها في بناء المدارس أو المساجد، ولا وقف مصاحف، ولا كتب علم، ولا تكفين موتى، ولا توقيف مقابر ولا غيرها من جهات الخير، لأن الله تعالى تولى الحكم فيها بنفسه، فقد ورد عن زياد بن الحارث الصدائي - رضي الله عنه - قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فبايعته، فذكر حديثاً طويلاً، فأتاه رجل فقال: اعطني من الصدقة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله لم يرض بحُكم نبي ولا غيره في الصدقات، حتى حكم فيها فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك».
1 - فيأخذ الفقير وهو من لا يجد شيئاً أو يجد بعض الكفاية من الزكاة تمام كفايته مع عائلته سنة لأن وجوب الزكاة يتكرر بتكرر الحول.
2 - ويأخذ المسكين وهو من يجد الكفاية، أو نصفها تمام كفايته مع عائلته سنة؛ لأن وجوب الزكاة يتكرر بتكرر الحول.
3 - ويُعطى من الزكاة العامل وهو كجاب وحافظ وكاتب وقاسم وجامع المواشي وعددها وكيال ووزان وساع وراعٍ وحمال وجمال قدر أجرته وإن تلفت في يده بلا تفريط منه فيُعطى أجرته من بيت المال لأن للإمام رزقه على عمله من بيت المال.
4 - ويُعطى من الزكاة المؤلف وهو السيد المطاع في عشيرته ما يحصل به التأليف لأنه المقصود.
(1/215)
5 – ويُعطى من الزكاة الرقاب وهم المكاتبون وفاء دين الكتابة ويجوز أن يُفدي من الزكاة أسيراً مُسلماً في أيدي الكفار.
6 – ويُعطى الغارم من الزكاة وهو من تدين لإصلاح ذات بين أو تحمل بسبب إتلاف نفس أو مال أو نهباً أو مالاً لتسكين فتنة وقعت بين طائفتين ويتوقف صلحهما على من يتحمل ذلك أو تدين لشراء نفسه من كفار أو لنفسه في مباح وأعسر وفاء دينه كمكاتب، ودين الله كدين الآدمي.
7 – ويُعطى الغازي في سبيل الله ما يحتاج لغزوه ذهاباً وإياباً وإقامةً في أرض العدو ونحو ثمن سلاح ودرع وفرس لفارس.
8 - ويُعطى من الزكاة ابن السبيل وهو المُسافر المنقطع به بغير بلده ما يُبلغه بلده أو مُنتهى قصده وعوده إليها إن لم يكن سفره مُحرما أو مكروهاً.
(موعظة)
عباد الله إن وجود الموت بين الناس موعظة كبرى لو كانوا يعقلون فإنه بلسان الحال يقول لكل واحد منا: سأنزل بك يوماً أو ليلة كما ترى الناس بعينك يموتون وقد يكون لأحدهم من المال والجاه والقوة والجمال والعلم والفصاحة والمركز الدنيوي ما يُدهش الناظرين له، وقد يكون قد طال عمره وطال أمله حتى مل ومُل منه. وبينما هو في حالٍ من النشاط قويٌ مشدود أسره، ذو همةٍ تضيق بها الدنيا، قد أقبلت عليه الدنيا من كل جهة، وزهت له، إذا تراه جثة هامدة أشبه بأعجاز النخل الخاوية لا حس له ولا حركة ولا أقوال ولا أفعال قد ضيق على من حوله وإذا لم يُسرعوا به إلى الدفن يكون جيفة من الجيف تؤذي رائحتها الكريهة كل من قرب منها، هذا كله يكون بعد ذلك النشاط والقوى لأن هادم اللذات نزل به.
وبعد نزوله لا تسأل كان له ما كان، وفي الحال تُصبح زوجته أرملة ويُصبح أولاده أيتاماً، وفي الحال تُقسم أمواله التي جمعها وقاسى على جمعها الشدائد، لأن الموت يزيل مُلكه وينقله إلى مُلك ورثته نقلاً تعجز عن نقضه الأيام، نعم إنه بالموت يزول ماله كله وهي أكبر مصيبة مالية.
(1/216)
وأكبر منها أنه يُسأل عنه كله داخلاً وخارجاً من حلالٍ أم من حرام وبعد مُدة يسيرة يُنسى هو ويُنسى ماله ويُنسى جاهه ويُنسى مركزه ومكانته ولو كان ملكاً أو وزيراً وما كأنه رأته العيون ولا سمعت كلامه الآذان، كما قيل:
كَأَنَّهُم قَطُ مَا كَانُوا وَلاَ وُجدُوا
وَمَاتَ ذِِكْرُهُموا بِيْنَ الوَرَى وَنُسُوا
إن الناس يرون الموت كل يوم بأعينهم في بيوتهم أو في المستشفيات، ويرون ما له من آثار ومع ذلك فإنهم بمُجرد أن يموت بينهم ميت يكون منهم مع موته هذا ما يُدهش الأفكار فترى من أقاربه من يتسابقون إلى البحث عما خلف وانتهاب ما اتصلت إليه أيديهم من ماله، وربما شبت بين ورثته الحروب من أجل أن يتميز كل واحد منهم في التركة عمن سواه وقد تشتد بهم تلك العداوة تعمل عملها ما بقيت تلك.
يفعلون هذا كله عقب من يموت بدل أن يعتبروا ويتعظوا به فيزهدهم هذا التفكير والاعتبار في ذلك المال الفاني الذاهب عن أيديهم عن قريب كما ذهب عنه من وصل إليهم من طريقه، لقد سبق أقوام كانوا يؤمنون بالموت حق الإيمان فكانوا يُقدرون الدنيا حق التقدير، كانوا يعرفون أنها فانية وأنها غرارة خداعة وأنهم تاركوها يوماً رغم أنوفهم لا رجوع بعده لقليل منها ولا كثير قرءوا قوله تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } فاستعدوا واقرءوا قوله تعالى: { مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ } فكانوا إذا حصل لهم شيء من الدنيا صرفوا ذلك لما ينفعهم في الدار الآخرة، وإذا سمعت أنهم كانوا يطلبون الدنيا فلما ذكرنا.
(1/217)
قال ابن مسعود لما نزلت آية الصدقة كنا نُحامل على ظهورنا فجاء رجل فتصدق بشيء كثير فقالوا: مُرائي، وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا إن الله لغنيٌ عن صاع هذا فنزلت الآية: { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
ومن طريق آخر حث الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الصدقة يعني في غزوة تبوك فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف فقال: يا رسول الله مالي ثمانية آلاف جئتك بنصفها وأمسكت بنصفها فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت» وجاء أبو عقيل بصاعٍ من تمر فقال: يا رسول الله أصبت صاعين من تمر صاع أقرضته لربي وصاع لعيالي قال: فلمزه المنافقون وقالوا: ما أعطى ابن عوف إلا رياء وقالوا ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا وهكذا كان الصحابة رضي الله عنهم يجعلون ما نالوا من الدنيا وسيلة إلى الآخرة:
شعراً:
إِذَا اكْتَسَبَ الْمَالَ الْفَتَى مِن وُجُوْهِهِ
وَأَحْسَنَ تَدبْيراً لَهُ حِيْنَ يَجْمَعُ
وَمَيَّزَ فِي إِنْفَاقِه بِيْنَ مُصلحٍ
مَعِيْشَتَهُ فِيْمَا يَضُرُ وَيَنْفَعُ
وَأَرْضَى بِهِ أَهْلَ الْحُقُوقِ وَلَم يُضِعْ
بِهِ الذُخْرَ زَاداً لِلَّتِي هِيَ أَنْفَعُ
فَذَاكَ الْفَتَى لاَ جَامِعَ الْمَالِ ذَاخِراً
لأَولادِ سُوءٍٍ حَيْثُ حَلّوُا وَأَوْضَعُوا
اللهم تقبل منا يسير الأعمال، وهب لنا إساءتنا في الأقوال والأفعال وسامحنا عن الغفلة والإهمال واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
34 – فيما ورد من الوعيد الشديد على ترك الزكاة:
(1/218)
إذا فهمت ما تقدم مما تجب فيه الزكاة وبيان نصاب الزكاة ومصرفها وما ينبغي أن يقول الدافع والمدفوع إليه. فاعلم أنها ما خالطت مالاً إلا أفسدته ومحقت بركته وأي خير ونفع في مالٍ ممحوق البركة باقٍ شره وفتنته وشغل البدن والقلب وإتعابهما؟
والمحق: منه ما هو ظاهر، وهو ذهاب صورة المال ورجوع الإنسان بعد الاستغناء فقيراً، وقد وقع ذلك لخلق كثير من المتساهلين بأمر الزكاة.
ومن المحق: محق باطن وهو أن يكون المال في الصورة موجوداً وكثيراً ولكن لا ينتفع فيه صاحبه لا في دينه في وجوه البر والمشاريع الخيرية وبذل المعروف، ولا ينتفع فيه في نفسه ومروءته بالستر والصيانة، ومع ذلك يتضرر به تضرراً كثيراً بإمساكه عن حقه ووضعه في غير جهته إما بإنفاقه بالمعاصي والعياذ بالله، وإما في الشهوات البهيمية التي لا نفع فيها ولا حاصل.
وقد ورد في منع الزكاة عن الله ورسوله تشديدات هائلة وتهديدات عظيمة ويُخشى على مانع الزكاة من سوء الخاتمة والتعرض لوعيد الله وغضبه والخروج من الدنيا على غير ملة الإسلام ومما جاء من الوعيد في حق من بخل بها أو قصر في إخراجها قوله تعالى: { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } .
وقال تعالى: { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ } .
(1/219)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صُفحت له صفائح من نار فأُحميَّ عليها في نار جهنم، فيُكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أُعيدت له في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقضى بين العباد فيرى سبيله: إما إلى الجنة، وإما إلى النار».
قيل: يا رسول الله فالإبل؟ قال: «ولا صاحب إبل لا يُؤدي حقها – ومن حقها حلبها يوم وردها – إلا إذا كان يوم القيامة بُطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلاً واحداً: تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها، كلما مر عليه أولادها رد عليه أخراها في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقضى بين العباد فيرى سبيله: إما إلى الجنة، وإما إلى النار.
قيل: يا رسول الله، فالبقر والغنم؟ قال: «ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بُطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها شيئاً ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء، تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما مر عليه أولها رد عليه آخرها في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقضى بين العباد فيرى سبيله: إما إلى الجنة وإما إلى النار».
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما من صاحب إبل لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت، وقعد لها بقاع قرقر تستن عليه بقوائمها وأخفافها، ولا صاحب بقر لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أوفر ما كانت وقعد لها بقاع قرقر فتنطحه بقرونها، وتطؤه بأظلافها، ليس فيها جماء ولا منكسر قرنها ولا صاحب كنز لا يفعل فيه حقه إلا جاء كنزه يوم القيامة شُجاعاً، أقرع يتبعه فاتحاً فاه، فإذا أتاه فر منه، فيُناديه خذ كنزك الذي خبأته فأنا عنه غني، فإذا رأى أن لا بد منه سلك يده في فيه فيقضمها قضم الفحل».
(1/220)
وفي رواية للنسائي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جاء يوم القيامة شُجاع من نار فتُكوى بها جبهته وجنبه وظهره في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقضى بين الناس». والله أعلم وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رجل يا رسول الله، أرأيت إن أدى الرجل زكاة ماله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من أدى زكاة ماله فقد ذهب عنه شره».
وعن الأحنف بن قيس - رضي الله عنه - قال: جلست إلى ملأ من قريش فجاء رجل خشن الشعر والثياب والهيئة حتى قام عليهم فسلم ثم قال: بشر الكانزين برضفٍ يُحمى عليه في نار جهنم، ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه فيتزلزل، ثم ولى، فجلس إلى سارية، وتبعته وجلست إليه، وأنا لا أدري من هو، فقلت: لا أرى القوم إلا قد كرهوا الذي قلت، قال إنهم لا يعقلون شيئاً، قال لي خليلي، قلت من خليلك؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : أتبصر أحداً؟ قال: فنظرت إلى الشمس ما بقي من النهار وأنا أرى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يُرسلني في حاجةٍ له قلت: نعم، قال: ما أُحب أن لي مثل أحدٍ ذهباً أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير، وإن هؤلاء لا يعقلون، إنما يجمعون، لا والله لا أسألهم دنيا ولا أستفتيهم عن دينٍ حتى ألقى الله عز وجل.
وفي رواية لمسلم، أنه قال: «بشر الكانزين بكي في ظهورهم فيخرج من جنوبهم، وبكي من قبل أقفائهم حتى يخرج من جباههم قال: ثم تنحى فقعد، قال: قلت: من هذا؟ قالوا: هذا أبو ذر، قال: فقمت إليه، فقلت: ما شيءٌ سمعتك تقول قُبيل؟ قال: ما قلت إلا شيئاً قد سمعته من نبيهم - صلى الله عليه وسلم - قال: قلت ما تقول في هذا العطاء. قال: خذه فإن فيه اليوم معونة فإذا كان ثمناً لدينك فدعه».
(1/221)
وروي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت من عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حديثاً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ما سمعته منه، وكنت أكثرهم لزوماً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال عمر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما تلف مال في برٍ ولا بحرٍ إلا بحبس الزكاة».
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما خالطت الصدقة – أو قال الزكاة – مالاً إلا أفسدته».
وعن الحسن: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة، واستقبلوا أمواج البلاء بالدعاء والتضرع».
فتأمل يا أخي الآيات الكريمات والأحاديث الشريفات ...
وانظر كيف يؤتى بالمال الذي كان يحبه مانع الزكاة حباً شديداً ويعزه العز الذي يصل به إلى أن يُمسكه ويجمعه ويوعيه ولا يُفرط في شيء منه، حتى ما كان منه حقاً للفقراء البؤساء المساكين يؤتى به بعينه ويُجعل صفائح ومع أن هذه الصفائح من نارٍ يُحمى عليها في نار جهنم لتشتد حراراتها وتزداد ليكون ألمها الواقع على بدن مانع الزكاة بالغاً النهاية في الشدة حين يُكوى بها جنبه وجبينه وظهره.
وتخصيص هذه الأعضاء الثلاثة قال بعض العلماء لأن المُعذب وهو مانع الزكاة إذا جاءه الفقير يسأله شيئاً من حقه عبس وجهه وعقد جبينه عبوساً وتعقيداً يدل على كراهته لهذا السؤال.
فإذا ألح الفقير عليه زاد في عبوسه أن يضن بمواجهة ذلك الفقير فينتقل من المواجهة إلى الانحراف عنه ويجعل جنبه في وجه المسكين السائل مبالغةً في إظهار الكراهية لسؤاله.
فإذا ازداد الفقير واشتد في الطلب والإلحاح بالغ المسؤول في الغضب فانصرف عنه وولاه ظهره ماشياً من مكانه وتاركاً له يهوي في هوات احتياجه بدون أي اكتراث فلما كان هذا حال تلك الأعضاء الثلاثة في الدنيا خُصت في الآخرة بالكي بتلك الصفائح التي هي ماله وبذلك يعرف أنه يُهان بالمال الذي كان يُعزه في دنياه.
(1/222)
ولو كان يُهينه بالدنيا بمفارقة ما كان يجب عليه منه لكان سبباً لإكرامه في ذلك اليوم الرهيب المُفزع.
وانظر كيف تأتي نعمه: إبله وبقره وغنمه التي لم يؤد حق الله فيها أقوى ما كانت وأوفره، فتطؤه الإبل بأخفافها وتعضه بأنيابها الحادة وتطؤه البقر والغنم بأظلافها وتنطحه بقرونها السليمة ليكون النطح بها أوجع وآلم ولا تجيء بقرة ولا نعجة إلا ولها قرناها ليس بهما أي مانع يمنع من توجيههما إليه وطعن المانع بهما الطعن الأليم. وإنما كانت أقوى ما كانت ليكون وطؤها ونطحها وعضها بمنتهى القوة. وإذا كان مبطوحاً لها وهي تتردد عليه بالوطء كان أمكن لها في فعل ما تُعذبه به وهذا العذاب لا يكون زمنه قليلاً ولكنه يدوم ما دام الموقف.
ومقدار الموقف خمسون ألف سنة ونوع آخر من العذاب خاص بمانع الزكاة وهو أن يوضع حجر محمى عليه وقد زيد في حرارته فأُحمي عليه كذلك في نار جهنم فلا يتحمل اللحم شدة حرارته فيذوب ذوبانا فيدخل الحجر الجسم واللحم يذوب أمامه حتى يخرج من القطعة الرقيقة التي في طرف الكتف.
ثم يوضع على هذه القطعة الرقيقة وقد عاد الجسم إلى ما كان عليه فيُفعل به كما تقدم يخرج من حلمة ثديه ويزيد في الألم حال التعذيب أن الحجر يتزلزل لا يمر في البدن مستقيماً وقت نفوذه.
نسأل الله أن يُعاملنا بعفوه وجميع المسلمين وقد لا يكون هذا العذاب كافياً فيكون سبيله إلى النار التي فيها ألوان العذاب الأليم من زقوم وحميم وغساق وضريع وويل وغسلين.
(1/223)
ولمنع الزكاة شكلٌ آخر من الشؤم الدنيوي غير ما تقدم كما في حديث ما تلف مال في بر ولا بحر إلا بحبس الزكاة فالحديث يدل على أنه أي مال يضيع في أي مكان في بر أو بحر سبب تلفه ترك الزكاة. وهي عقوبة تعكس على المانع قصده، إذ هو يقصد بمنعه لها تكثير المال والهروب من نقصه بإخراج القدر الواجب منه. ولو أخرج القدر الواجب وهو قليل من كثير، لحفظ ماله بإذن الله ولكان له ثوابٌ عظيم هو ثواب ركن من أركان الإسلام، ولكان له من الفضل على المُعطى ما لا ينساه مدة حياته.
أما العقوبة الأخروية فالنار التي قال الله تعالى عنها: { كَلا إِنَّهَا لَظَى * نَزَّاعَةً لِلشَّوَى * تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى * وَجَمَعَ فَأَوْعَى } .
فعليك أيها العاقل، أن تُحاسب نفسك بدقة وَتُقَوِّم ما أعددته للبيع والشراء وأن تُبريء ذمتك بيقين، بإخراج الزكاة كلها إذا تم الحول، وأن لا تدفعها إلا لمن تعلم أنه ممن يستحقها يقيناً أو يغلب على الظن أنه من أهلها.
واحذر كل الحذر من التهاون بترك شيءٍ منها أو التسويف بها أو سلوك الطرق الملتوية للتخلص من أدائها أو التحايل على ترك شيءٍ منها فكل حيلة تُستعمل لتضييع حق من حقوق الله أو حقوق عباده أو تُبيح ما حرم الله أو تحرم ما أحل الله فهي من الحيل المُحرمة التي سيُجازى عليها أشد الجزاء وما ربك بظلامٍ للعبيد.
ويجوز تعجيل الزكاة لحولين فأقل إذا كمل النصاب لما ورد عن علي - رضي الله عنه - أن العباس بن عبد المطلب سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له في ذلك رواه الخمسة إلا النسائي.
(1/224)
وعن أبي هريرة قال بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر على الصدقة فقيل منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله ورسوله وأما خالدٌ فإنكم تظلمون خالداً وقد حبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله وأما العباس فهي حق عليَّ ومثلها معها ثم قال: يا عمر أما شعرت أن عم الرجل صِنو أبيه» متفق عليه.
اللهم اغفر لنا ما قطع قلوبنا عن ذكرك واعف عن تقصيرنا في طاعتك وشكرك وأدم لنا لزوم الطريق إليك وهب لنا نوراً نهتدي به إليك واسلك بنا سبيل أهل مرضاتك واقطع عنا كل ما يُبعدنا عن سبيلك ويسر لنا ما يسرته لأهل محبتك وأيقظنا من غفلاتنا وألهمنا رُشدنا وحقق بكرمك قصدنا واسترنا في دنيانا وآخرتنا واحشرنا في زمرة المتقين وألحقنا بعبادك الصالحين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه أجمعين.
(موعظة)
عباد الله إن العاقل اللبيب الفطن الرشيد من يسعى في نفع نفسه وأهله ودفع الضرر عنهم، وإنا نرى في زمننا الذي كثرت فيه المنكرات وانحطت فيه الأخلاق وقل فيه الورع وكثر فيه النفاق والرياء.
ترى الناس يخشون الناس ولا يخافون ربَّاً قهاراً بطشه شديد وعذابه أليم ترى الرجل يفعل المنكر جهاراً ولا تنهاه وتنسى أو تتناسى قول الله تعالى: { أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } ، وقوله: { فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي } .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل».
(1/225)
فقل للذي يرى تارك الصلاة ولا ينهاه لا يجوز لك ذلك انصح أخاك المسلم وقل للذي قد عميت بصيرته فأتى بكفار خدامين أو سواقين أو مربين أو طباخين أو خياطين وأمنهم على محارمه: خف الله واحذر من عقوبة الدنيا قبل عقوبة الآخرة كيف تأتي بأعداء الله ورسوله والمؤمنين، لقد أسأت إلى نفسك وأهلك والمسلمين.
أما سمعت قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «من جامع المشرك أو سكن معه فهو مثله».
أو ما بلغك قصة الثلاثة الذين هجرهم المسلمون نحواً من خمسين ليلة بأيامها حين تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك.
أو ما بلغك أن أبا هريرة أقسم: (لا يظله سقف هو وقاطع رحم) وأنت وأعداء الله الكفار متصل بعضكم في بعض في البيت والسوق والسيارة عياذاً بالله من ذلك: { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } .
وإذا رأيت من يحلق لحيته ويُبقي شاربه متشبها بالمجوس فقل له أما سمعت حديث «أكرموا اللحى»، وحديث «وفروا اللحى»، وقول الله تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «كل أمتي معافى إلا المجاهرون» وعملك هذا مُجاهرة.
وإذا رأيت شارب الدخان فانصحه وبين له مضاره في الدين والبدن والدنيا.
وإذا رأيت من يقتل وقته أمام الملاهي والمنكرات فانصحه وبين له المضار التي منها ترك الصلاة جماعة أو إهمالها بتاتاً والعياذ بالله.
وإذا رأيت الذي يُطارد النساء في الأسواق فقل بالله هل ترضى أن الفسقة مثلك يطاردون نساءك اتق الله وتب إليه من هذا الخُلق الرذيل.
وإذا رأيت الذي يغش المسلمين فقل له اتق الله أما بلغك حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - : «من غشنا فليس منا».
وإذا رأيت من يعامل بالربا فقل كيف تحارب ربك الذي أعطاك المال خف الله واحذر أن يمحقك الله ويمحق مالك.
(1/226)
وإذا رأيت من يُسافر إلى بلاد الكفر فانصحه وقل أما سمعت قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنا بريء من مسلم بين أظهر المشركين لا ترآى ناراهما» وكان - صلى الله عليه وسلم - يأخذ على أصحابه عند البيعة يأخذ على يد أحدهم: «أن لا ترى نارك نار المشركين إلا أن تكون حرباً لهم».
وإذا رأيت من يصور أو يبيع صور ذوات الأرواح فانصحه وقل له أما بلغك أن أشد عذاباً يوم القيامة المصورون، أما بلغك أن من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح يوم القيامة وليس بنافخ، وقل له أما سمعت حديث كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس فيعذبه في جهنم اتق الله قبل أن تقف بين يديه حافياً عارياً أعزلاً.
وإذا رأيت من يبيع الصور أو آلات اللهو كالتليفزيون والكورة والمذياع والفيديو والسينما والورق الملهية عما خُلق الإنسان له، وأبا الخبائث الدخان ونحو هذه البدع المُحرمة التي ضاع العمر والمال بسببها وقضت على الأخلاق والغيرة الدينية فقل له أترضى لنفسك أن تتجر بالمحرمات وأن تكون ممن يعين على المعاصي وينشر الفساد اتق الله قبل أن يفاجئك هادم اللذات فتندم ولا يفيدك الندم. ويصدق عليك قول الشاعر:
نَدِمَ الْبُغَاةُ وَلاتَ سَاعَة مندم ... وَالبَغي مَصْرَعُهُ وَخِيمُ الْمَصْرَعِ
وإذا رأيت من يُطفف في المكيال والميزان أو يأخذ راتبه كاملاً ولا يؤدي العمل كاملاً قل له اتق الله أما تقرأ قول رب العالمين: { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } .
(1/227)
وإذا رأيت المغتابين نهاشة الأعراض أكالة لحوم الغوافل فقل لهم أما قرأتم قول الملك الديان: { وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا } . الآية.
وإذا رأيت النمام فقل له أما سمعت قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لا يدخل الجنة نمام» وهكذا تفعل عندما تريد أن تنصح أهل المعاصي نحو هؤلاء من منافقين ومتملقين وكذابين.
ولقد تضاعفت الغيبة والنميمة والكذب أضعافاً كثيرة بعد ظهور التلفزيون والتليفون والمُسجلات فقد كانت بالأول لا توجد إلا مع اجتماع الأبدان والآن توجد ولو كان بينهم مسافات بعيدة نسأل الله العافية لنا ولإخواننا المسلمين إنه على كل شيءٍ قدير وبكل شيءٍ عليم.
والله أعلم وصلى الله على محمد.
(موعظة)
قال ابن القيم - رحمه الله:
ما ضُرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب والبعد عن الله، خلقت النار لإذابة القلوب القاسية أبعد القلوب من الله القلب القاسي، إذا قسى قَحُطت العين.
قسوة القلب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة: الأكل، والنوم، والكلام، والمخالطة، كما أن البدن إذا مرض لم ينفع فيه الطعام والشراب فكذلك القلب إذا مرض بالشهوات لم تنجح فيه المواعظ.
من أراد صفاء قلبه فليُؤْثِر الله على شهواته.
القلوب المتعلقة بالشهوات محجوبة عن الله بقدر تعلقها بها. شغلوا قلوبهم بالدنيا، ولو شغلوها بالله والدار الآخرة لجالت في معاني كلامه وآياته المشهودة ورجعت إلى أصحابها بغرائب الحكم وطرف الفوائد.
إذا غُذي بالتذكر، وسُقي بالتفكر، ونُقي من الدغل، رأى العجائب وألهم الحكمة، خراب القلب من الأمن والغفلة، وعمارته من الخشية والذكر.
إذا زهدت القلوب في موائد الدنيا قعدت على موائد الآخرة بين أهل تلك الدعوة، وإذا رضيت بموائد الدنيا فاتتها تلك الموائد.
(1/228)
والقلب يمرض كما يمرض البدن وشفاؤه في التوبة والحمية ويصدأ كما تصدأ المرآة وجلاؤه بالذكر، ويعرى كما يعرى الجسم وزينته التقوى، ويجوع ويظمأ كما يجوع البدن، وطعامه وشرابه المعرفة والمحبة والتوكل والإنابة والخدمة.
للقلب ستة مواطن يجول فيها لا سابع لها: ثلاثة سافلة وثلاثة عالية.
فالسافلة: دنيا تتزين له ونفس تحدثه وعدو يوسوس له، فهذه مواطن الأرواح السافلة لا تزال تجول فيها.
والثلاثة العالية: علم يتبين له، وعقل يُرشده، وإله يعبده، والقلوب جوالة في هذه المواطن.
وقال رحمه الله: ولا ريب أن القلب يصدأ كما يصدأ النحاس والفضة وغيرهما وجلاؤه بالذكر فإنه يجلوه حتى يدعه كالمرآة البيضاء، فإذا ترك صديء، فإذا ذكر جلاه.
وصدأ القلب بأمرين: بالغفلة والذنب، وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر، فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ متراكماً على قلبه، وصدأه بحسب غفلته، وإذا صدأ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه فيرى الباطل في صورة الحق والحق في صورة الباطل، لأنه لما تراكم عليه الصدأ واسود وركبه الران فسد تصوره وإدراكه، فلا يقبل حقاً ولا ينكر باطلاً، وهذا أعظم عقوبات القلب.
وأصل ذلك من الغفلة واتباع الهوى فإنهما يطمسان نور القلب ويعميان بصره، قال تعالى: { وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } فإذا أراد العبد أن يقتدي برجل فلينظر: هل هو من أهل الذكر أو من الغافلين؟ وهل الحاكم عليه الهوى أو الوحي؟ فإن كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من أهل الغفلة كان أمره فرطاً، ومعنى الفُرط قد فُسر بالتضييع، أي أمره الذي يجب أن يلزمه ويقوم به، وبه رشده وفلاحه ضائع قد فرط فيه، وفسر بالإسراف، أي قد أفرط، وفسر بالإهلاك، وفسر بالخلاف للحق، وكلها أقوال متقاربة.
(1/229)
والمقصود أن الله سبحانه وتعالى نهى عن طاعة من جمع هذه الصفات، فينبغي للرجل أن ينظر في شيخه وقدوته ومتبوعه فإن وجده كذلك فليبعد منه وإن وجده ممن غلب عليه ذكر الله عز وجل واتباع السنة، وأمره غير مفروط عليه بل هو حازم في أمره فليتمسك بغرزه، ولا فرق بين الحي والميت إلا بالذكر، فمثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت. وفي المسند مرفوعاً أكثروا ذكر الله تعالى حتى يُقال مجنون اهـ.
شعراً:
يَا أَيُّهَا الْمُغْتَرُّ بِاللهِ
فِرَّ مِن اللهِ إِِلَى اللهِ
ولُذْ بِهِ وَاسأَلْهُ مِن فَضْلِهِ
فَقَد نِجَا مَنْ لاَذَ بِاللهِ
وَقَمْ لَهُ وَالَّليْلُ فِي جنْحه
فَحَبَّذَا مَنْ قَامَ للهِ
وَاتْلُ مِن الوَحْيِ وَلَوْ آَيةً
تُكْسَى بِهَا نُوراً مِن الله
ِ
وَعَفِّر الوَجْهَ لَهُ سَاجِداً
فَعَزٌّ وَجْهٌ ذلّ للهِ
فَمَا نَعِيْم كَمنُاَجَاتِهِ
لِقَانِت يُخْلِصِ للهِ
وَاْبُعدْ عَن الذَّنْبِ وَلا تَاتَهِ
فَبُعدُهُ قُرْبٌ مِن اللهِ
يَا طَالِباً جَاهاً بِغَيْرِ التُّقَى
جَهِلْتَ مَا يُدْنِي مِن اللهِ
لاَ جَاهَ إِلاَّ جَاه يَوَمَ القَضَا
إذ لَيْسَ حُكْمٌ لِسِوى اللهِ
وَصَارَ مِن يُسْعدُ فِي جَنَّةٍ
عَاليَةٍ فِي رَحْمَةِ اللهِ
يَسْكُنُ فِي الفَرْدَوُس فِي قَبَّةٍٍ
مِنْ لُؤْلُؤٍ فِي جِيْرَةٍ اللهِ
وَمَنْ يِكُنْ يُقْضَى عَلَيْهِ الشَّقَا
فِي جاحِمٍ فِي سَخطِ اللهِ
يُسْحَبُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِه
بسَابِق الْحُكْمِ مِن اللهِ
يَا عَجَباً مِن مَوقِنْ بَالجزا
وَهُوَ قَليلُ الْخَوفِ للهِ
كَأَنَّهُ قَدْ جَاءَهُ مُخُبَرٌ
بِأَمْنِه مِن قَبل اللهِ
يَا رُبَّ جَبَّار شَدِيدُ القُوَى
أَصَابَهُ سَهْمٌ مِن اللهِ
فَأنْفَذَ الْمَقْتَلَ مِنْهُ وَكَمْ
أصْمَتْ وَتُصْمي أسْهُمُ اللهِ
واسْتُلَّ قسراً مِن قُصُور إِلَى الْـ
أَجْدَاثِ وَاسْتَسْلِم للهِ
مُرْتَهناً فِيْهَا بِمَا قَدْ جَنَى
(1/230)
يُخشَى عَلَيْهِ غَضَبُ اللهِ
لَيْسَ لَهُ حَولٌ وَلاَ قُوَّةٌ
الْحَوْلُ والقوَّةُ للهِ
يَا صَاحِ سِرْ فِي الأَرضِ كيمَا تَرَى
مَا فَوْقَهَا مِن عَبْر اللهِ
ِ
وَكَمْ لَنَا مِن عِبْرَةٍ تَحْتَهَا
فِي أَمَم صَارتْ إِلَى اللهِ
مِنْ مَلِكٍ مِنْهُمْ وَمِنْ سَوْقَةٍ
حَشْرُهُمُ هَيِّنٌ عَلَى اللهِ
وَالْحَظْ بِعَيْنَيْكَ أدِيْمَ السَّمَا
وَمَا بِهَا مِن حِكْمِةِ اللهِ
تَرَى بِهَا الأَفْلاَكِ دَوَّارَةً
شَاهِدَةٌ بِالملْك للهِ
مَا وَقَفَت مُذْ أَجْرَيْتْ لَمْحَةُ
- أَوْ دُونَهَا – خَوْفَاً مِن اللهِ
وَمَا عَلَيْهَا مِن حِسَابٍ وَلاَ
تَخْشَى الَّذِي يُخْشَى مِن اللهِ
وَهِيَ وَمَا غَابَ وَمَا قَدْ بَدَا
مِنْ آَيةٍ فِي قَبْضة اللهِ
تُوحِّدُ اللهِ عَلَى عَرْشِِه
فِي غَيْبِه فَالأمْرُ للهِ
وَمَا تَسَمَّى أحدٌ فِي السَّمَا
والأَرْضِ غَيْر اللهِ بِاللهِ
إِنَّ حِمَى الله مَنِيْعٌ فَمَا
يَقْرُبُ شَيءٌ من حِمى اللهِ
لاَ شَيْء فِي الأَفْوَاهِ أَحْلَى من التَّـ
ـوحِيْدِ وَالتَّمِْجِيْدِ للهِ
وَلاَ اطْمَأنَّ القَلْبُ إِلاَّ لِمَنْ
يَعْمُرهُ بِالذِّكْرِ للهِ
وَإِنْ رَأَى فِي دِيْنِه شُبْهة
أمْسك عنهَا خَشْيَة اللهِ
أَوْ عَرضَتْهُ فاقةٌ أَو غِِنىً
لاقاهما بالشُّكْرِ للهِ
وَمَنْ يَكُنْ فِي هدْيِه هَكذَا
كَانَ خَلِيْقاً برِضَى اللهِ
وَكَانَ فِي الدُّنْيَا وَفِي قَبْره
وَبَعْدَهُ فِي ذِمَّةِ اللهِ
وَفِي غَدٍ تُبْصُرُهُ آمناً
لِخَوْفِهِ اليَوم منْ اللهِ
مَا أقْبَح إِذَا مَا صَبا
وَعاقَه الْجَهْلِ عَن اللهِ
وَهُوَ مِن العُمْرِ عَلَى بَازِلٍ
يَحْمِلُهُ حَثَّا إِلَى اللهِ
هَلاَّ إِذَا أَشْفى رَأَى شَيْبَهُ
يَنْعَاهُ فَاسْتَحْيَى مِن الله
كَأَنَّمَا رَيْنَ عَلَى قَلْبِهِ
فَصَارَ مَحْجُوباً عَن الله
ما يُعذرُ الْجَاهِلُ فِي جِهْلِهِ
فَضْلاً عَن العَالِم بِاللهِ
دَاران لا بُدَّ لنَا مِنْهُمَا
(1/231)
بِالفَضْلِ وَالعَدْلِ مِنْ اللهِ
وَلَسْتُ أَدْرِي مَنْزِلِي مِنْهُمَا
لَكِن تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ
فَاْعَجب لِعَبْدٍ هَذه حَالُهُ
كَيْفَ نَبَا عَن طَاعَةِ اللهِ
وَاسوْأتا إِنْ خَابَ ظَنِّي غَداً
وَلَم تَسَعْنِي رَحْمَةُ اللهِ
وَكُنْتُ فِي النَّارِ أَخَا شِِقْوةٍ
نَعُوذُ من ذَلِكَ بِاللهِ
كَمْ سَوْءَةٍ مَسْتُورَةٍ عِنْدَنَا
يَكْشِفُهَا العَرْضُ عَلَى اللهِ
فِي مَشْهدٍ فِيْهِ جَمِيْعُ الوَرَى
قَدْ نكَّسُوا الأَذْقَان للهِ
وَكَمْ تَرَى من فَائِزٍ فِيْهِم
جَلله سَتْرٌ مِن اللهِ
فَالْحَمدُ للهِ عَلَى نِعْمَةِ الْـ
إِسْلاَمِ ثُمَّ الْحَمْدُ للهِ
(فصل)
* في بعض آداب الزكاة:
قال في منهاج القاصدين اعلم أن على مُريد الزكاة وظائفاً:
الوظيفة الأولى: أن يفهم المراد من الزكاة، وهو ثلاثة أشياء: ابتلاء مدعي محبة الله تعالى، بإخراج محبوبه والتنزه عن صفة البخل المُهلك، وشكر نعمة المال.
الوظيفة الثانية: الإسرار بإخراجها لقوله تعالى: { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } وحديث السبعة وعد منهم رجلاً تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه لكونه أبعد عن الرياء والسُمعة، وفي الإظهار إذلال للفقير أيضاً، فإن خاف أن يُتهم بعدم الإخراج أعطى من لا يُبالي من الفقراء بالأخذ بين الجماعة علانية وأعطى غيره سراً.
الوظيفة الثالثة: أن لا يُفسدها بالمن والأذى، وذلك أن الإنسان إذا رأى نفسه مُحسناً إلى الفقير مُنعماً عليه بالإعطاء، ربما حصل منه ذلك، ولو حقق النظر لرأى الفقير مُحسناً إليه، بقبول حق الله الذي هو طهرٌ له، وإذا استحضر مع ذلك أن إخراجه للزكاة شُكر لنعمة المال، فلا يبقى بينه وبين الفقير مُعاملة، ولا ينبغي أن يحتقر الفقير بفقره لأن الفضل ليس بالمال ولا النقص بعدمه.
(1/232)
الوظيفة الرابعة: أن يستصغر العطية، فإن المستعظم للفعل مُعجب به، وقد قيل: لا يتم المعروف إلا بثلاث: بتصغيره وتعجيله وستره.
الوظيفة الخامسة: أن ينتقي من ماله أحله وأجوده وأحبه إليه، أما الحِل فإن الله تعالى طيبٌ لا يقبل إلا طيباً، وأما الأجود فقد قال الله تعالى: { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } .
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: أصاب عمر أرضاً بخيبر، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضاً لم أُصب مالا قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني؟ قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها. قال: فتصدق بها عمر، غير أنه لا يُباع أصلها ولا يورث ولا يوهب. قال: فتصدق بها عمر في الفقراء وذوي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جُناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقاً غير متمول فيه، وفي لفظ غير متأثلٍ. رواه الجماعة.
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: كان أبو طلحة - رضي الله عنه - أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بَيْرُحاء، وكانت مُستقبلة المسجد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشرب من ماءٍ فيها طيب. قال أنس: فلما نزلت هذه الآية: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } جاء أبو طلحة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إن الله تعالى أنزل عليك { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } وإن أحب مالي إلي بيرحاء وإنها صدقة لله تعالى أرجو برها وذُخرها عند الله تعالى فضعها يا رسول الله حيث أمرك الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «بخ بخ ذلك مالٌ رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أَفْعَل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه» متفق عليه.
وينبغي أن يُلاحظ في ذلك أمرين:
(1/233)
أحدهما: حق الله سبحانه وتعالى بالتعظيم له، فإنه أحق من اختير له، ولو أن الإنسان قدم إلى ضيفه طعاماً رديئاً لأوغر صدره.
والثاني: حق نفسه فإن الذي يُقدمه هو الذي يلقاه غداً في القيامة فينبغي أن يختار الأجود لنفسه، وأما أحبه إليه، فلقوله تعالى: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } .
وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا اشتد حبه لشيءٍ من ماله قربه لله عز وجل. وروى أنه نزل الجحفة وهو شاكٍ، فقال: إني لأشتهي حيتاناً فالتمسوا له فلم يجدوا إلا حوتاً فأخذته امرأته فصنعته، ثم قربته إليه فأتى مسكين، فقال ابن عمر رضي الله عنهما خُذه، فقال له أهله: سبحان الله قد عنيتنا ومعنا زاد نعطيه، فقال: إن عبد الله يحبه.
وروي أن سائلاً وقف بباب الربيع بن خيثم رحمه الله تعالى، فقال: أطعموه سكَّراً، فإن الربيع يُحبُ السكر.
الوظيفة السادسة: أن يطلب لصدقته من تزكو به، وهم خصوص من عموم الأصناف الثمانية، ولهم صفات:
الأولى: التقوى، فليخص بصدقته المتقين فإنه يرد بها همهم إلى الله تعالى، وفي الحديث الذي رواه ابن حِبان في صحيحه عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطعموا الأتقياء وأولوا معروفكم المؤمنين، وقد كان عامر بن عبد الله بن الزبير يتخير العُبَّاد وهم سجود فيأتيهم بالصرة فيها الدنانير والدراهم فيضعها عند نعالهم بحيث يُحسون بها ولا يشعرون بمكانه، فقيل له: ما يمنعك أن ترسل بها إليهم؟ فيقول: أكره أن يتمعر وجه أحدهم إذا نظر إلى رسولي.
الصفة الثانية: العلم فإن إعطاء العالم إعانة على العلم ونشر الدين، وذلك تقوية للشريعة.
الصفة الثالثة: أن يكون ممن يرى الإنعام من الله وحده ولا يلتفت إلى الأسباب إلا بقدر ما نُدب إليه من شكرها، فأما الذي عادته المدح عند العطاء فإنه سيذم عند المنع.
(1/234)
الصفة الرابعة: أن يكون صائناً لفقره، ساتراً لحاجته، كاتماً للشكوى، كما قال تعالى: { يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ } .
ومن آداب المُزكي التي تتأكد عليه أن يكون طيب النفس بإخراجها فرحاً مسروراً مُستبشراً بقبول الفقير المُستحق لزكاته، وليحذر من أن يكون كارهاً لإخراجها فإنه من صفات المنافقين، قال الله تعالى: { وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ } وأخبر سبحانه أن المنافق يُصلي ولكن لا يأتيها إلا وهو كسلان وقد يُزكي ولكن مع الكراهة، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : «من تشبه بقومٍ فهو منهم» وفي لفظ: «ليس منا من تشبه بغيرنا» وهو حديثٌ جيد.
(موعظة)
عباد الله إن كنتم في سعة من العيش فاحمدوا الله تعالى أن جعلكم من أهل الإيسار وأديموا شكره يُدم عليكم النعمة ويزدها، وهو الكريم الجواد. ومن تمام النعمة أن تنسخوا من الزكاة بإخراجها كاملة إلى ذوي الحاجات لعلكم أن تفوزوا بالخلف والثواب الجزيل من فاطر الأرض والسموات، أحسنوا إلى عباد الله كما أحسن الله إليكم وراعوا عند الإحسان الأدب فلا تمنوا على الفقير ولا تؤذوه فإن ذلك مُحبط للأعمال واستروا عطاءكم مُخلصين متيقنين أن حاجتكم إلى الثواب وتكفير الذنوب أشد من حاجة الفقير إلى ما تُخرجون. واعلموا أن إحسانكم إنما هو لأنفسكم واعصوا الشيطان فإنه يأمر بالبخل وينهى عن العطف على المساكين، يُخيفكم إن تصدقتم أن يذهب مالكم وأنتم تعلمون أن نصيحة العدو مُهلكة، وقد أخبر الله جل وعلا أن الشيطان للإنسان عدوٌ مبين، وأخبر - صلى الله عليه وسلم - : «أنه ما من يومٍ يُصبح العباد إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم أعط منفقاً خلفاً ويقول الآخر اللهم أعط ممسكاً تلفاً» رواه البخاري ومسلم.
(1/235)
اللهم اعصمنا عن المخالفة والعصيان وألهمنا ذكرك وشكرك يا كريم يا منان واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
* فصل فيمن تحل له الصدقة:
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين لما يُحبه ويرضاه، أن مما يتعين على كل مؤمن أن يصون نفسه عنه، مسألة الناس إلا عند الضرورة أو الحاجة الشديدة التي لا بد له منها ولا غِنى له عنها، وذلك لما ورد عن قبيصة بن مُخارق الهلالي قال: تحملت حمالةً، فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأله فيها، فقال: «أقم حتى تأتينا الصدقة فآمر لك بها» ثم قال: «يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك. أو رجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يُصيب قواماً من عيش، أو قال سداداً من عيش، ورجل أصابته فاقه حتى يقوم ثلاثة، من ذوي الحجا من قومه يقولون لقد أصابت فلاناً فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو قال: سداداً من عيش – فما سواهن من المسألة يا قبيصة سُحتٌ يأكلها صاحبها سُحتاً» .
* التحذير من أخذ الصدقة لمن لا تحل له:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً، فليستقلل أو ليستكثر».
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «مايزال الرجل يسأل حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مُزعة لحم».
وعن معاوية - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا تُلحفوا في المسألة. فو الله لا يسألني أحدٌ منكم شيئاً فتخرج له مسألته مني شيئاً أنا كارهٌ له، فيبارك له فيما أعطيته».
(1/236)
وعن الزبير بن العوام - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها – يكف الله بها وجهه – خيرٌ له من أن يسأل الناس: أعطوه أو منعوه».
وعن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إنما المسائل كدوح يكدح بها الرجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء ترك، إلا أن يسأل الرجل ذا سُلطان أو في أمر لا يجد منه بد».
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من سأل الناس وله ما يُغنيه: جاء يوم القيامة ومسألته خُموش أو خدوش أو كدوح»، قيل: يا رسول الله، وما يغنيه؟ قال: «خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب».
ولأبي داود عن سهل بن الحنظلية، قيل: وما الغني الذي لا ينبغي معه المسألة؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : «قدر ما يُغذيه أو يُعشيه».
(1/237)
وعن أنس - رضي الله عنه - أن رجلاً من الأنصار أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله، فقال: «ما في بيتك شيءٌ؟» قال: "بلى، حلسٌ نلبس بعضه ونبسط بعضه وقعب نشرب فيه الماء" قال: «ائتني بهما»، فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده وقال: «من يشتري هذين؟» قال رجل: "أنا آخذهما بدرهم"، قال - صلى الله عليه وسلم - : «من يزيد على درهم؟»، مرتين أو ثلاثاً، قال رجل: "أنا آخذهما بدرهمين" فأعطاهما إياه، فأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري وقال: «اشتر بأحدهما طعاماً فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوماً فأتني به»، فأتى به فشد فيه - صلى الله عليه وسلم - عوداً بيده، ثم قال: «اذهب فاحتطب، وبع ولا أرينك خمسة عشر يوماً» فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء وقد أصاب عشرة دراهم فاشترى ببعضها ثوباً وببعضها طعاماً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «هذا خيرٌ لك من أن تجيء المسألة نُكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقرٍ مُدقع، أو لذي غرمٍ مُقطع، أو لذي دم موجع».
وللترمذي نحوه عن حبشي بن جُنادة، وفيه: «ومن سأل الناس ليُثري به ماله كان خموشاً في وجهه يوم القيامة، ورضفاً يأكله في جهنم فمن شاء فليقلل، ومن شاء فليكثر».
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من نزلت فاقة به فأنزلها بالناس لم تُسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزقٍ عاجل أو آجل».
وعن أبي كبشة عمرو بن سعد الأنماري - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه: ما نقص مال عبدٍ من صدقة، ولا ظُلِمَ عبدٌ مظلمة صبرَ عليها إلا زاده الله عزاً، ولا فتح عبدٌ باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقرٍ – أو كلمة نحوها -».
(1/238)
وعن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من يتكفل لي أن لا يسأل الناس شيئاً أتكفل له الجنة؟» فقلت: أنافكان لا يسأل أحداً شيئاً.
وعن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاني، ثم قال: «يا حكيم، إن هذا المال خضرة حلوة فمن أخذه بسخاوة نفسٍ بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفسٍ لم يُبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى»، قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا.
(موعظة)
عباد الله ما أحسن أن يعيش المرء قانعاً بما رزقه الله في هذه الحياة فلا يمد بصره إلى ما في أيدي الناس ولا تتطلع نفسه إلى سلب حقوق الناس أو ظلمهم والاعتداء على ما وهب الله لهم من نعمٍ جسام فإن القانع يشعر ويُحس بسكينة وطُمأنينة كما يشعر بأنه غني عن كل الخلق، قال الشاعر:
إِذَا كُنْتَ فِي الدُّنْيَا قَنُوعاً
فَأَنْتَ وَمَالِكَ الدُّنْيَا سَوَاءُ
وذلك أن له نفساً راضية بما قسم الله آمنةً مُطمئنة لم يتسرب إليها الجشع والطمع اللذان هما من أقبح القبائح وأسوأ الشمائل ولا يزال صاحب هذين أو أحدهما إلا وهو مذموم وبأقبح الصفات موسوم لا تعرض له القناعة ولو كانت الدنيا باسرها له. قد ملأ حبها قلبه وغمر محبتها والتفاني في طلبها قلبه وصار لا يرضى منها باليسير ولا يقنع بالكثير وقلما تجد مُتصفاً بهذا الوصف إلا وهو متشتت الفكر قليل الراحة عنده من الحسد والهلع وضعف التوكل على الله الشيء الكثير الذي يُخشى عليه مع استدامته معه من سوء الخاتمة.
أما القانع ذو النفس الأبية الراضية المُطمئنة المتوكلة على الله فيُرجى لها أن تنالها الآية الكريمة: { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً } ، الآية.
(1/239)
قال - صلى الله عليه وسلم - : «من أصبح آمناً في سربه مُعافى في بدنه معه قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها».
وقال ابن مسعود - رضي الله عنه - : «ما من يوم إلا يُنادي فيه ملك من تحت العرش يا ابن آدم قليل يكفيك خيرٌ من كثيرٍ يُطغيك».
وقال بعض العلماء: أطيب العيش القناعة وأنكد العيش الجشع ومن الأخلاق الذميمة التي تجعل الإنسان بخيلاً بما في يده مُتطلعاً لما في أيدي الناس الحرص والإفراط في حب الدنيا وجمعها ولو أدى ذلك إلى إهدار الكرامة وإراقة ماء الوجه فالحذر عباد الله من الحرص على الدنيا فإن حبها رأس كل خطيئة.
شعراً:
وَإِنِّي امرؤٌ بِالطَّبْعِ ألْغِيْ مَطَامِعِيْ
وَأَزْجُرُ نَفْسِي طَابِعاً لاَ تَطَبُّعَا
وَعِنْدِي غِنَى نَفْسٍ وَفَضْلُ قَنَاعَةٍ
وَلَسْتُ كَمَنْ إِنْ ضَاقَ ذَرْعاً تَضَرَّعَا
وَإِنْ مَدَّ نَحْوَ الزَّادِ قَوْمٌ أَكُفَّهَا
تَأَخَّرت بَاعاً إنْ دَنَا القَوْمُ أَصْبُعَا
وَمُذْ كَانَتْ الدُّنْيَا لَدَيَّ دَنِيْئَةً
تَعَرَّضْتُ لِلإعْرَاضِ عَنْهَا تَرَفُّعَا
وَذَاكَ لِعِلْمِيْ إِنَّمَا اللهُ رَازِقٌ
فَمَنْ غَيْرُهُ أَرْجُو وَأَخْشَى وَأَجَزَعَا
فَلاَ الضَّعْف يُقْصِي الرِّزقَ إِن كَانَ دَانِياً
وَلا الْحَوْلُ يُدْنِيْهِ إِذَا مَا تَجَزَّعَا
فَلا تَبْطِرَنْ إِنْ نِلْتَ مِنْ دَهْرِكَ الغِنَى
وَكُنْ شَامِخاً بِِالأنَفِ إِنْ كُنْتَ مُدقِعا
فَقَدْرُ الفَتَى مَا حَازَهُ وَأَفَادَهُ
مِن العِلْمِ لاَ مَالُ حَوَاهُ وَجَمَّعَا
فَكُنْ عَالِماً فِي النَّاسِ أَوْ مُتَعَلِّمًا
وَإِنْ فَاتَكَ القِسْمَانِ أَصْغِ لِتَسْمَعَا
وَلا تَكُ لِلأَقْسِامِ مَا اسْتَطَعْتَ رَابِعَا
فتُدْرَأ عَنْ وُرْد النَّجَاةِِ وَتُدْفَعَا
(1/240)
اللهم يا حي يا قيوم يا بديع السموات والأرض نسألك أن توفقنا لما فيه صلاح ديننا ودنيانا وأحسن عاقبتنا وأكرم مثوانا واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على مُحمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
عن عوف بن مالك الأشجعي قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال: «ألا تُبايعون رسول الله؟ وكنا حديثي عهد ببيعةٍ، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله! ثم قال: ألا تُبايعون رسول الله؟ قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نُبايعك؟ قال: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، والصلوات الخمس، وتطيعوا الله وأسر كلمة خفية، ولا تسألون الناس شيئاً، فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه».
وعن زيد بن أسلم قال: شرب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لبنا فاعجبه، فسأل الذي سقاه: من أين هذا اللبن؟ فأخبره أنه ورد على ماء – قد سماه – فإذا نعم من نعم الصدقة وهم يسقون، فحلبوا من ألبانها فجعلته في سقائي فهو هذا فأدخل عمر يده في فمه فاستقاء. أي أخرجه من جوفه.
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعطيني العطاء، فأقول اعطه أفقر مني، فقال: «خذه فتموله وتصدق به، فما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل، فخذه، ومالا فلا تتبعه نفسك»، متفق عليه.
وعن ابن الساعدي قال: استعملني عمر على الصدقة، فلما فرغت منها وأديتها إليه أمر لي بعمالة. فقلت إنما عملت لله، قال: خذ ما أعطيت فإني قد عملت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعملني، فقلت: مثل قولك. فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إذا أعطيت شيئاً من غير أن تسأله فكل وتصدق»، رواه أبو داود.
(1/241)
وعن أبي سعيد: أن أناساً من الأنصار سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم حتى نفد ما عنده، فقال: «ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم، ومن يستعفف يُعفه الله، ومن يستغن يُغنه الله، ومن يتصبر يُصبره الله، وما أُعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر»، رواه الخمسة.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس»، رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
وقد اشتمل الحديثان الأخيران على جُمل جامعة نافعة:
الأولى: قوله - صلى الله عليه وسلم - : «ومن يستعفف يُعفه الله» ففيها الحث على مجاهدة النفس على انصرافها عن التعلق بالمخلوقين، وذلك بالاستعفاف عما في أيديهم، فلا يُطلب منهم شيئاً لا بلسان الحال ولا بلسان المقال، بل يكون معتمداً على الله وحده.
وفي الجملة الثانية: وهي قوله - صلى الله عليه وسلم - : «ومن يستغن يُغنه الله» الحث على الاستغناء بالله والثقة به والاعتماد عليه في الدقيق والجليل.
والثالثة: قوله - صلى الله عليه وسلم - : «ومن يتصبر يُصبره الله» ففيها أيضاً الحث على مُجاهدة النفس على الصبر الذي هو حبس النفس على ما تكره تقرباً إلى الله لأنه يحتاج إلى الصبر على طاعة الله حتى يؤديها وعن معصية الله حتى يتركها لله، وإلى الصبر على أقدار الله المؤلمة فلا يتسخط.
(1/242)
وفي الحديث الآخر، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : «ليس الغني عن كثرة العرض ... » إلخ بيان أن الغني ليس بسعة الثروة ووفرة المال وكثرة المتاع، ولكن الغنى غنى النفس، فمن استغنى بما في يده عما في أيدي الناس، ولم تشرف عليه نفسه ولم تتطلع إليه فهو الغني الجدير بلقب الغني، وإن كان في المال مُِقلاًّ، إذ رضاه بما قسم الله، وعفته وزهده وقناعته جعلته في درجةٍ من الغنى دونها بطبقات أهل الثراء الذين حُرموا الزهادة والقناعة والرضا بما كتب الله لهم، الذين تذهب أنفسهم حسرةً إذا فاتتهم صفقة أو ضاعت عليهم فرصة، بل ما جاءه رضي به وقنع بخلاف من كثر ماله وتشعبت أملاكه وصار قلبه موزعاً بين ضيعته وعماراته وذهبه وفضته وأوراقه وسائر أمواله وليس له هم إلا جمع المال فهو معشوقه يحرص عليه أشد الحرص، ويتميز غيظاً إذا فاته منه القليل وبوده لو ضم ما في أيدي الناس إلى ما في يده فصار لا يتلذذ بمأكل ولا بمشرب ولا يرتاح لمنادمة جليس لاشتغال قلبه به فهذا هو الفقير حقاً المحروم صدقاً وصدق من قال:
وَمَنْ يُنْفِقْ السَّاعَاتِ فِي جَمْعِ مَالِه
مَخَافَةَ فَقْرٍٍ فَالَّذِي فَعَلَ الفَقْرُ
اللهم يسر لنا أمر الرزق واعصمنا من الحرص والتعب في طلبه ومن شغل القلب وتعلق الهم به، ومن الذل للخلق بسببه ومن التفكير والتدبير في تحصيله، ومن الشح والحرص عليه بعد حصوله، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(موعظة)
(1/243)
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله العزيز العلام الحي القيوم الذي لا ينام وأوصيكم في معاملته بما يحبه ويرضاه في الإقدام والإحجام والفزع إليه عند تفاقم الشدائد واشتباه الأحكام، والاعتماد عليه في الدقيق والجليل، والتسليم له في النقض والإبرام، والرغبة فيما لديه فبيديه الخير وهو الكريم الجواد، ومقابلة قضائه بحقيقة الرضى والاستسلام، أما خلقكم وأسبغ عليكم نعمه ظاهرةً وباطنة وهو جزيل الإنعام، أما شرفكم وفضلكم بجزيل العقول والأفهام، أما أوضح لكم الطريق الموصل إلى دار السلام، أما بعث إليكم مُحمداً - صلى الله عليه وسلم - لتبليغ الشرائع والأحكام، أما أنزل عليه الذكر ليبين للناس ما أودعه فيه من الأحكام، أما دعاكم إلى التوكل عليه والاعتصام، أما حثكم إلى العمل فيما يقرب إلى دار السلام، أما حذركم عواقب معاصيه ونهاكم عن الآثام، أما أنذركم هول يوم أطول الأيام، اليوم الذي يشيب فيه الولدان، وتنفطر فيه السماء، وتنكدر فيه النجوم، وتظهر فيه أمورٌ عظام، أما خوفكم موارد الحمام، أما ذكركم مصارع من قبلكم من الأنام، أما أمدكم بالأبصار والأسماع وصحة الأجسام، أما وعدكم بقبول توبة التائبين رحمة منه جرت به الأقلام، فو الله لحق لهذا الرب العظيم أن يُطاع فلا يُعصى على الدوام، فيا أيها الشيوخ بادروا فما للزرع إذا أحصد إلا الصرام، ويا معشر الشباب جدوا في العمل فرب امريءٍ ما بلغ التمام، واحذروا عقاب ربكم يوم يؤخذ بالنواصي والأقدام، يوم تُبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار، يوم ما أطول الوقوف فيه وأثقله على كل مجرمخ جبار يوم المناقشة فيه عن القتيل والنقير والقطمير وصغائر الأعمال والكبائر، فتأهبوا لذلك اليوم العظيم واستعدوا له أتم استعداد.
شعراً:
لَكَ الْحَمْدُ وَالنَّعْمَاءُ وَالملكُ رَبَّنَا
وَلا شَيْء أَعْلاَ مِنْكَ مَجْدا وَأَمْجَدُ
مَلِيْكق عَلَى عَرْشِ السَّماءِ مُهَيْمِنٌ
(1/244)
لِعِزَّتِهِ تَعْنُوا الوُجُوْهُ وَتَسْجُدُ
فَسُبْحَانَ مَنْ لاَ يَقْدُرُ الْخَلْقُ قَدْرَهُ
وَمَنْ هُوَ فَوْقَ العَرْشِ فَرْدٌ مُوَحَّدٌ
وَمَنْ لَمْ تُنَازِعْهُ الْخَلائِقُ مُلْكَهُ
وَإِنْ لَمْ تُفَرِّدْهُ العِبَادُ فَمُفْرَدُ
مَلِيْكُ السَّمَواتِ الشَّدَادِ وَأَرضِهَا
ولَيْسَ بِشِيءٍ عَن قَضَاهُ تَأْوُّدُ
هُوَ اللهُ باريُ الْخَلْقِ، والْخضلْقُ كُلُّهُمْ
إِمَاءٌ لَهُ طَوْعاً جَمِيْعاً وَأَعْبُدُ
وَأَنَّى يِكُونُ الْخَلقُ كَالْخَالقِ الَّذِي
يُمِيْتُ وَيُحْيِي دَائِباً لَيْسَ يَهْمَِدُ
تُسَبْحْهُ الطَّيْرُ الْجَوَانِحُ فِي الْخَفَا
وَإِذْ هِي فِي جَوِّ السَّمَاءِ تُصَعِّدُ
وَمِنْ خَوْفِ رَبِّي سَبَّحَ الرَّعْدُ فَوْقَنَا
وَسَبَّحَهُ الأشْجَارُ وَالوَحْشُ أَبَّدُ
وَسَبَّحَهُ النِّيْنَانْ وَالبَحْرُ زَاخِراً
وَمَا طَمَّ مِنْ شِيءٍ وَمَا هُوَ مُقْلَدُ
أََلاَ أَيُّهَا القَلبُ الْمُقِيْمُ عَلَى الْهَوَى
إِلَى أَيّ حِيْنَ مِنَكَ هَذَا التَّصَدُّدُ
عَنْ الحَقّ كَالأعَمَى الْمُمِيْطِ عَن الْهُدَي
ولَيْسَ يَرُدُّ الحَقَّ إِلاَّ مُفَنَّدُ
وَحَالاَتُ دُنْيا لاَ تَدُوْمُ لأهْلِهَا
فَبَيْنَ الفَتَى فِيْهَا مَهِيْبٌٌ مُسَوَّدُ
إِذْ انْقَلَبَتْ عَنْهُ وَزَالَ نَعِيْمُهَا
وَأصْبَحَ مِنْ تُرَبِ القُبُورِ يُوَسَّدُ
وَفَارَقَ رُوْحاً كَانَ بَيْنَ جِنَانِهِ
وَجَاوَرَ مَوْتَى مَا لَهُم مُتُرَدَّدُ
فَأَيُّ فَتَى قَبْلِيْ رَأَيْتَ مُخَلَّداً
لَهُ فِي قَدِيِمِ الدَّهْرِ مَا يَتَوَدَّدُ
فَلَمْ تَسْلَمْ الدُّنْيَا وَإنْ ظَنَّ أهْلُهَا
بِصِحَّتِهَا وَالدَّهْرُ قَدْ يَتَجَرَّدُ
أَلَسْتَ تَرَى فِيْمَا مَضَى لَكَ عِبْرَةٌ
فَمَه لاَ تَكُنْ يَا قَلبُ أَعْمَى يُلَدَّدُ
فَكُنْ خَائِفاً لِلمَوْتِ وَالبَعْثِ بَعْدَهُ
وَلا تَكُ مِمَّنْ غَرَّهْ اليَومُ أَو غَدُ
فَإنِّكَ فِي دُنْيَا غَرُورِ ٍ لأهْلِهَا
(1/245)
وَفِيْهَا عَدُوٍّ كَاشِحُ الصَّدْرِ يُوْقِدُ
اللهم ارحم غربتنا في القبور وآمنا يوم البعث والنشور واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
فصل في صدقة التطوع
يبحث في:
1 – ما ورد من الآثار الشرعية في فضلها.
2 – أفضل الصدقة جهد من مقل.
3 – بيان عظم ثواب الصدقة في شهر رمضان، وفي الحرمين.
4 – الأولوية في الصدقة للأقرباء وطُلاب العلم.
1 – ما ورد من الآثار الشرعية في فضلها:
تُسن صدقة التطوع في كل وقت، قال تعالى: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ... } الآية.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يُربيها لصاحبها كما يُربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل» متفق عليه.
وعن جابر قال: كنا في صدر النهار عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء قوم عُراة مُجتابي النمار أو العباء، مُتقلدي السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى بهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى، ثم خطب فقال: « { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ - إلى آخر الآية - إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } والآية التي في الحشر: { اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بُره من صاع تمره حتى قال: ولو بشق تمرة قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كتفه تعجز عنها، بل قد عجزت».
(1/246)
ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعامٍ وثيابٍ حتى رأيت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يتهلل كأنه مذهبة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من سن في الإسلام سُنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها من بعده من غير أن يُنقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سُنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن يُنقص من أوزارهم شيء». رواه مسلم.
وهذا الكلام البليغ دعوة إلى التنافس في الخير والتسابق في افتتاح مشروعاته.
وعن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - ، قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بناقة مخطومة. فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة».
وعن أنس - رضي الله عنه - مرفوعاً: «إن الصدقة لتُطفيء غضب الرب، وتدفع ميتة السوء». رواه الترمذي وحسنه.
وكما أنها تُطفيء غضب الرب تبارك وتعالى فهي تُطفيء الذنوب والخطايا كما يُطفيء الماء النار.
وعن مرثد بن عبد الله قال: حدثني أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يقول: «إن ظل المؤمن يوم القيامة صدقته». رواه أحمد.
وصدقة السر أفضل من صدقة العلانية لقوله تعالى: { إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } .
وروى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» وذكر منهم رجلاً تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، متفق عليه.
(1/247)
وفي الترمذي عن مُعاذ بن جبل قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر فأصبحت يوماً قريباً منه ونحن نسير فقال: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جُنَّة، والصدقة تُطفيء الخطيئة كما يُطفيء الماء النار، وصلاة الرجل في جوف الليل شعار الصالحين. ثم تلا: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } وفي بعض الآثار باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها.
(1/248)
وفي حديث سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن سمرة بن جندب قال خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً وكنا في صفةٍ بالمدينة فقام علينا فقال: «إني رأيت البارحة عجباً رأيت رجلاً من أمتي أتاه ملك الموت ليقبض روحه فجاء بره بوالديه فرد ملك الموت عنه، ورأيت رجلاً من أمتي قد بُسط عليه عذاب القبر فجاءه وضوؤه فاستنقذه من ذلك، ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته الشياطين فجاءه ذكر الله عز وجل وطرد الشياطين عنه ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته ملائكة العذاب فجاءته صلاته فاستنقذته من أيديهم ورأيت رجلاً من أمتي يلتهب وفي رواية يلهث عطشاً كلما دنا من حوض مُنع وطُرد فجاءه صيام رمضان فسقاه وأرواه ورأيت رجلاً من أمتي ورأيت النبيين جلوساً حِلقاً حِلقاً كلما دنا إلى حلقة طرد فجاءه غُسله من الجنابة فأخذ بيده فأقعده إلى جنبي، ورأيت رجلاً من أمتي بين يديه ظلمة ومن خلفه ظلمة وعن يمينه ظلمة وعن يساره ظلمة ومن فوقه ظلمة وهو متحير فيها فجاءه حجه وعمرته فاستخرجاه من الظلمة وأدخلاه في النور ورأيت رجلاً من أمتي يتقي بوجهه وهج النار وشرره فجاءته صدقته فصارت سُترة بينه وبين النار وظللت على رأسه ورايت رجلاً من أمتي يُكلم المؤمنين ولا يُكلمونه فجاءته صلته لرحمه فقالت يا معشر المسلمين إنه كان وصولاً لرحمه فكلموه فكلمه المؤمنون وصافحوه وصافحهم ورأيت رجلاً من أمتي قد احتوشته الشياطين فجاءه أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر فاستنقذه من أيديهم وأدخله في ملائكة الرحمة ورأيت رجلاً من أمتي جاثياً على ركبتيه وبينه وبين الله عز وجل حجاب فجاءه حُسن خلقه فأخذ بيده وأدخله على الله.
(1/249)
ورأيت رجلاً من أمتي قد ذهبت صحيفته من قبل شماله فجاءه خوفه من الله عز وجل فأخذ صحيفته فوضعها في يمينه ورأيت رجلاً من أمتي خف ميزانه فجاءه أفراطه فثقلوا ميزانه ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على شفير جهنم فجاءه رجاؤه في الله عز وجل فاستنقذه من ذلك ومضى.
ورأيت رجلاً من أمتي قد أهوى في النار فجاءته دمعته التي بكى من خشية الله عز وجل فاستنقذته من ذلك.
ورأيت رجلاً من أمتي قائماً على الصراط يرعد كما ترعد السعفة في ريحٍ عاصف فجاءه حُسن ظنه بالله عز وجل فسكن رعدته ومضى، ورأيت رجلاً من أمتي يزحف على الصراط ويحبو أحياناً ويتعلق أحياناً فجاءته صلاته فأقامته على قدميه وأنقذته ورأيت رجلاً من أمتى انتهى إلى أبواب الجنة فغلقت الأبواب دونه فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة» رواه الحافظ أبو موسى المديني قال ابن القيم رحمه الله وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يُعظم شأن هذا الحديث وبلغني عنه أنه كان يقول شواهد الصحة عليه انتهى.
وبمناسبة سياقه هنا قوله فجاءته صدقته فصارت ستراً بينه وبين النار وظللت على رأسه قال رحمه الله: وفي تمثيل النبي - صلى الله عليه وسلم - للصدقة بمن قدم ليُضرب عنقه فافتدى نفسه منهم بماله كفاية فإن الصدقة تفدي العبد من عذاب الله تعالى فإن ذنوبه وخطاياه تقتضي هلاكه فتجيء الصدقة تفديه من العذاب وتفكه منه ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح لما خطب النساء يوم العيد: «يا معشر النساء تصدقن ولو من حُليكن فإني رأيتكن أكثر أهل النار» وكأنه حضهن ورغبهن على ما يفدين به أنفسهن من النار.
اللهم قو إيماننا بك وبملائكتك وبكتبك وبرسلك وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
(1/250)
وصدقة التطوع بطيب نفس أفضل منها بدونه، لما في حديث معاويه الغاضري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ثلاث من فعلهن فقد ذاق طعم الإيمان: من عبد الله وحده، وعلم أن لا إله إلا الله وأعطى زكاة ماله طيبةً بها نفسه» رواه أبو داود.
والصدقة في الصحة أفضل منها في غيرها، لما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال: «أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تُهمل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا وقد كان لفلان» متفق عليه.
فالعاقل من يُسابق في ميدان الخيرات بما يقدمه من الصلة والإحسان لإخوانه الفقراء الذين أناخ الفقر عليهم وعضهم البؤس بنابه وأوجعهم بكلابه الذين لا موارد لهم لا قليل ولا كثير الذين لو رأيتهم لظننتهم من الأغنياء وأهل الثروة والمال والله أعلم بما يقاسونه من الديون لما تحت أيديهم من الصغار والكبار وما يُقاسون من ألم الجوع والفقر والشدة والعسر لكن يمنعهم الحياء وعزة النفس أن يمدوا أيديهم للسؤال وأن يطلبوا الرزق إلا من الله الكبير المتعال الرزاق وهؤلاء هم الذين ينبغي الاعتناء بهم والبحث عن أحوالهم وذلك عن طريق جيرانهم وأقربائهم حتى تقع الصدقة موقعها وقد ورد في القرآن وصفهم قال تعالى: { يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ } .
وأوصى بهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ففي الحديث الذي رواه البخاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يُغنيه ولا يُفطن له فيُتصدق عليه ولا يقوم فيسأل الناس».
(1/251)
ولما كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين حريصين جداً على ما يُقرب إلى الله من أنواع الطاعات سأل أحدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الصدقة أفضل فأجابه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «أن تصدق وأنت صحيح» أي الجسم مُعافاً في البدن تتمتع بقواك العقلية والجسمية شحيح تأمل الغنى أي تطمع فيه لقدرتك عليه عن طريق المكاسب والأرباح وتخشى الفقر وإنما كانت الصدقة في هذه الحال أفضل لما تستدعيه من شدة مُجاهدة النفس على إخراج المال مع قيام المانع وهو الشح فإخراجه حينئذٍ دليل واضح على قوة الإيمان وحُسن النية وصحة القصد وشدة الرغبة فيما يُقرب إلى الله "ولا تُهمل حتى إذا بلغت الحلقوم" أي بلغت الروح مجرى النفس وذلك عند الغرغرة "قلت لفلان كذا ولفلان كذا" وهذا كناية عن الموصي والموصى له فالحديث يُرشدنا إلى أنه لا ينبغي لنا أن نؤخر الصدقة إلى وقت معاينة الموت والإيذان بالانصراف عن الدنيا ومفارقة نعيمها وقد نبهنا الله جل وعلا على هذا حيث يقول: { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .
اللهم اختم بالأعمال الصالحات أعمارنا وحقق بفضلك آمالنا وسهل لبلوغ رضاك سبلنا وحسن في جميع الأحوال أعمالنا يا مُنقذ الغرقى ويا مُنجي الهلكى ويا دائم الإحسان أذقنا برد عفوك وأنلنا من كرمك وجودك ما تقر به عيوننا من رؤيتك في جنات النعيم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
(1/252)
روى البخاري من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله»؟ قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلا وماله أحب إليه. قال: «فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر».
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يقول العبد: مالي مالي، وإنما ما له من مالِه ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فأقنى، وما سوى ذلك ذاهب وتاركه للناس» رواه مسلم.
2 – وأفضل الصدقة جهد من مقل:
وكان السلف يؤثرون على أنفسهم فيقدمون المحاويج على حاجة أنفسهم ويبدءون بالناس قبلهم في حال احتياجهم، كما قال تعالى: { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } .
وثبت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أفضل الصدقة جهد المقل» وهذا المقام أعلى من حال الذين وصفهم الله بقوله: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا } وقوله: { وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ } فإن هؤلاء تصدقوا وهم يُحبون ما تصدقوا به وقد لا يكون لهم حاجة إليه ولا ضرورة وهؤلاء آثروا على أنفسهم مع خصاصتهم وحاجتهم إلى ما أنفقوه، ومن هذا المقام تصدق الصديق - رضي الله عنه - بجميع ماله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أبقيت لأهلك؟ فقال: أبقيت لهم الله ورسوله، وهكذا الماء الذي عرض على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه وهو جريح مُثقل أحوج ما يكون إلى الماء فرد الآخر إلى الثالث فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم ولم يشربه أحد منهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
3 – بيان عظم ثواب الصدقة في شهر رمضان وفي الحرمين:
(1/253)
والصدقة في رمضان أفضل منها في غيره لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس – وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيُدارسه القرآن فلرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المُرسلة».
ولأن الصدقة في رمضان إعانة على أداء فريضة الصوم، وفي أوقات الحاجات أفضل منها في غيرها لقوله تعالى: { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } .
والصدقة في كل زمان فاضل كالعشر، أفضل منها في غيرها لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: «ما من أيام العمل فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام، يعني أيام العشر، قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء».
والصدقة في الحرمين أفضل منها في غيرهما لتضاعف الحسنات بالأمكنة الفاضلة.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام». وزاد في رواية: «فإني خير الأنبياء وإن مسجدي خير المساجد».
وزاد: «صلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه».
اللهم ثبت محبتك في قلوبنا وقوها وألهمنا ذكرك وشكرك ويسرنا لليسرى وجنبنا العسرى واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
4 – الأولوية في الصدقة للأقرباء والجار وطلاب العلم:
والصدقة على ذي الرحم أفضل منها على غيره لا سيما مع عداوة، أما الدليل على أفضليتها في القرابة فلحديث سلمان المتقدم: «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم ثنتان: صدقة وصلة».
(1/254)
ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي طلحة: «وإني أرى أن تجعلها في الأقربين» فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
وأما الدليل على التأكد مع العداوة فلما ورد عن أم كلثوم رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.
وعن حكيم بن حزام - رضي الله عنه - قال: إن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، عن الصدقات أيها أفضل؟ قال: «على ذي الرحم الكاشح».
ثم الصدقة على الجار أفضل لقوله تعالى: { وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ } .
وعن ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه».
وعن أبي شريح الخزاعي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره».
ويُستحب أن يخص بالصدقة من اشتدت حاجته لقوله تعالى: { أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ } ، وكونها على عالم أفضل؛ لأن في إعطائه إعانة على العلم ونشر الدين وذلك لتقوية الشريعة، وكونها على صاحب دين أفضل، وكذا على ذي عائلة أفضل ممن ليس كذلك.
والمن بالصدقة كبيرة، ويبطل الثواب به، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى } .
ومن أخرج شيئاً يتصدق به، أو وكل في ذلك، ثم بدا له أن لا يتصدق به استحب أن يمضيه، ولا يجب، وقد صح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه كان إذا أخرج طعاماً لسائل فلم يجده عزله حتى يجيء آخر. وقاله الحسن: ويتصدق بالجيد ولا يقصد الخبيث فيتصدق به لقوله تعالى: { وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } وأفضل الصدقة جهد المقل لما ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً «قيل يا رسول الله: أي الصدقة أفضل؟ قال: أفضل الصدقة جهد المقل».
(
(1/255)
موعظة)
إخواني إنكم في دار هي محل العبر والآفات، وأنتم على سفر والطريق كثيرة المخافات، فتزودوا من دنياكم قبل الممات، وتداركوا هفواتكم قبل الفوات، وحاسبوا أنفسكم وراقبوا الله في الخلوات، وتفكروا فيما أراكم من الآيات، وبادروا بالأعمال الصالحات، واستكثروا في أعماركم القصيرة من الحسنات، قبل أن يُنادي بكم مُناد الشتات، قبل أن يُفاجئكم هادم اللذات، قبل أن يتصاعد منكم الأنين والزفرات قبل أن تنقطع قلوبكم عند فراقكم حسرات، قبل أن يغشاكم من غم الموت الغمرات، قبل أن تُزعجوا من القصور إلى بطون الفلوات، قبل أن يُحال بينكم وبين ما تشتهون من هذه الحياة قبل أن تتمنوا رُجُوعكم إلى الدنيا وهيهات.
شعراً:
أَيَا لاَهياً فِي غَمْرَةِ الْجَهْلِ وَالْهَوَى
صَريعاً عَلَى فُرُشِ الرَّدَى يَتَقَلَّبُ
تَأَمَّلْ هَدَاكَ اللهُ مَا ثُمَّ وَانْتَبِهْ
فهَذَا شَرَابُ القَوْمِ حَقاً يُرَكَّبُ
وَتَركِيْبُهُ فِي هَذه الدَّارِ إنْ تَفُتْ
فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ الْمَنِيَّةِ مَطْلَبُ
فَيَا عَجَباً مِن مُعْرِضٍ عَنْ حَيَاتِهِ
وَعَنْ حَظِّهِ العَالِي وَيِلْهُو وَيَلْعَبُ
وَلَوْ عَلِمَ الْمَحْرُوْمُ أَيّ بِضَاعَةٍ
أَضَاعَ لأَمْسَي قَلْبُهُ يَتَلَهَّبُ
فَإِنْ كَانَ لاَ يَدْرِي فَتِلكَ مُصِيْبَةٌ
وَإِنْ كَانَ يَدْرِي فَالْمُصِيْبَةُ أَصْعَبُ
بَلى سَوْفَ يَدْرِي حِيْنَ يَنْكَشِفُ الغِطَا
وَيُصْبِحُ مَسْلُوباً يَنُوْحُ وَيَنْدِبُ
وَتَعْجَبُ مِمَّنْ بَاعَ شَيْئَاً بِدُوْنِ مَا
يُسَاوِي بِلاَ عِلْمٍ وَأَمْرُكَ أَعْجَبُ
لأَنَّكَ قَدْ بِعْتَ الْحَيَاةَ وَطِيْبَهَا
بِلَذَّةِ حُلْمٍ عَنْ قَلِيْلٍ سَيَذْهَبُ
فَهَلاَّ عَكَسْتَ الأَمرَ إِنْ كُنْتَ حَازِماً
وَلَكِنْ أَضَعْتَ الَحْزَم وَالْحُكْمُ يَغْلِبُ
تَصُدُّ وَتَنْأَى عَنْ حَبِيْبِكَ دَائِماً
فَأَيْنَ عَن الأحْبَابِ وَيْحَكَ تَذْهَبُ
سَتَعْلَمُ يَوْمَ الْحَشْرِ أَيَّ تِجَارَةٍ
(1/256)
أَضَعْتَ إِذاً تِلكَ الْمَوَازِيُن تُنْصَبُ
اللهم اسلك بنا سبيل الأبرار، واجعلنا من عبادك المُصطفين الأخيار، وامنن علينا بالعفو والعتق من النار، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
في ذكر طرف من الفوائد المترتبة على أداء الزكاة
وبذل صدقة التطوع والمضار المترتبة على منع الزكاة:
1 – امتثال أمر الله ورسوله.
2 – تقديم ما يُحبه الله على محبة المال.
3 – إن الصدقة برهان على إيمان صاحبها كما في الحديث «والصدقة برهان».
4 – شكر نعمة الله المتفضل على المخرج بما أعطاه من المال.
5 - السلامة من وبال المال في الآخرة.
6 – تنمية الأخلاق الحسنة والأعمال الفاضلة الصالحة.
7 – التطهير من دنس الذنوب والأخلاق الرذيلة قال الله تعالى: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } .
8 – إضعاف مادة الحسد والحقد والبُغض أو قطعها كلياً.
9 – تحصين المال وحفظه لحديث: «حصنوا أموالكم بالزكاة».
10- إن الصدقة دواء من الأمراض لحديث «داوو مرضاكم بالصدقة».
11- الاتصاف بأوصاف الكرماء.
12- إنها سبب لدفع البلاء.
13- التمرن على البذل والعطاء.
14- إنها سبب لدفع جميع الأسقام لحديث «باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها».
15- إنها سبب لجلب المودة لأنها إحسان، والنفوس مجبولة على حب من أحسن إليها.
16- إنها سبب للدعاء من القابض للدافع وتقدمت الأدلة.
17- إن منع الزكاة سبب لمنع القطر لحديث «ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر».
18، 19- الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب قال الله تعالى: { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } وقد فسر الفلاح بأنه الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب وهذا من جوامع الكلم.
(1/257)
20- إنها تدفع ميتة السوء كما في الحديث «إن الصدقة تُطفيء غضب الرب وتدفع ميتة السوء».
21- إن المتصدق يكون في ظل الله يوم القيامة كما في الحديث «سبعة يُظلهم الله في ظله» وذكر منهم رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه الحديث وتقدم وفي الحديث الآخر «وإنما يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته».
22- الفوز بالثناء من الله لأن الله مدح المنفقين والمتصدقين.
23، 24، 25- الفوز بالأجر من الله والأمن مما يُخاف منه ونفي الحزن عنهم قال الله تعالى: { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } .
26- إن أداء الزكاة سبب لنزول القطر كما أن منعها سبب لحبسه.
27- إنها سبب لمحبة الله لأن المتصدق مُحسن على المُتصدق عليه والله يُحب المُحسنين.
28- السلامة من كفر نعمة الله.
29- الخروج من حقوق الله وحقوق الضعفاء.
30، 31، 32- أنها سبب للرزق والنصر كما في الحديث «وكثرة الصدقة في السر والعلانية تُرزقوا وتُنصروا وتُجبروا».
33- إنها تُطفيء عن أهلها حر القبور كما في الحديث «إن الصدقة لتُطفيء عن أهلها حر القبور».
34- إنها تزيد في العمر كما في الحديث «إن صدقة المسلم تزيد في العمر».
35- السلامة من اللعن الوارد في مانع الزكاة لما روى الأصبهاني عن علي - رضي الله عنه - قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا وموكله وشاهده وكاتبه والواشمة والمستوشمة ومانع الصدقة والمحلل والمُحلل له.
36- الفوز بالقرب من رحمة الله قال تعالى: { إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } . وقال: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } الآية.
37- الوعد بالخلف للمنفق لحديث «اللهم أعط منفقاً خلفاً».
(1/258)
38- الظفر بدعاء الملائكة للمنفق.
39- إن في إخراج الزكاة حل للأزمات الاقتصادية وسوء الحالة الاجتماعية فلو أن أهل الأموال الزكوية تنسخوا منها ووضعوها في مواضعها لقامت المصالح الدينية والدنيوية وزالت الضرورات واندفعت شرور الفقراء وكان ذلك أعظم حاجز وسد يمنع عبث المفسدين، وفي الحديث «واتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم».
40- إن الله يُعين المتصدق على الطاعة ويُهيء له طريق السداد والرشاد ويُذلل له سبل السعادة قال الله تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى } .
41- إن منع الزكاة يُخبث المال الطيب لحديث «من كسب طيباً خبثه منع الزكاة، ومن كسب خبيثاً لم تُطيبه الزكاة» رواه الطبراني في الكبير موقوفاً بإسناد مُنقطع.
42- إن منع الزكاة سبب لتلف المال لحديث «ما تلف مال في بر ولا بحر إلا بحبس الزكاة » رواه الطبراني في الأوسط وهو حديث غريب.
43- إن منع الزكاة سبب للابتلاء بالسنين لما في الحديث قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين» رواه الطبراني في الأوسط ورُواته ثقات.
44- إن من لم يؤد حق الله في ماله أنه أحد الثلاثة الذين هم أول من يدخل النار لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عُرض عليَّ أول ثلاثة يدخلون الجنة فالشهيد وعبدٌ مملوك أحسن عبادة ربه ونصح لسيده وعفيفٌ مُتعفف ذو عيال وأما أول ثلاثة يدخلون النار فأميرٌ مُسلط وذو ثروةٍ من مالٍ لا يُؤدي حق الله في ماله وفقيرٌ فخور» رواه ابن خزيمة في صحيحه وابن حِبان مفرداً في موضعين.
45، 46- إن الصدقة يُذهب الله بها الكبر والفخر لحديث «إن صدقة المسلم تزيد في العمر وتمنع ميتة السوء ويذهب بها الكبر والفخر» رواه الطبراني.
(1/259)
47- السلامة من التطويق بالشجاع الأقرع كما في الحديث: «ما من أحد لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له يوم القيامة شُجاعاً أقرع يطوق به عنقه».
48- السلامة من صفة المنافقين لما في الحديث «ظهرت لهم الصلاة فقبلوها، وخفيت لهم الزكاة فأكلوها أولئك هم المنافقون» رواه البزار.
49، 50- «إن البلاء لا يتخطى الصدقة وإنها تسد سبعين باباً من السوء». رواه الطبراني في الكبير، وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها» رواه البيهقي مرفوعاً وموقوفاً على أنس ولعله أشبه.
51- إن الصدقة حجاب من النار لمن احتسبها لما روى عن ميمونة بنت سعد أنها قالت: يا رسول الله أفتنا عن الصدقة فقال: «إنها حجاب من النار لمن احتسبها يبتغي بها وجه الله عز وجل» رواه الطبراني.
52- إن إخراج الصدقة يؤلم سبعين شيطاناً لما ورد عن بُريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا يخرج شيئاً من الصدقة حتى يفك عنها لحيي سبعين شيطاناً» رواه أحمد والبزار والطبراني وابن خزيمة في صحيحه.
53- إن الله يُسخر للمتصدق ما يكون سبباً لنمو ماله كبركة في ظماء نهر وسقي أرض كما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «بينا رجل في فلاة من الأرض فسمع صوتاً في سحابة: اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فأفرغ ماءه في حرة فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقة يحول الماء بمسحاته فقال له: يا عبد الله ما اسمك قال: فلان للاسم الذي سمع في السحابة فقال له: يا عبد الله لم سألتني عن اسمي قال: سمعت في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها؟ قال:أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثه وأرد فيها ثلثه» رواه مسلم.
(1/260)
54- إن الصدقة لا تنقص المال خلافاً لما يظنه بعض الجُهال لحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما نقصت صدقة من مال» الحديث رواه مسلم.
55- إن الصدقة إذا كانت من كسبٍ طيب فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما ورد في حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من تصدق بعدل تمرة من كسبٍ طيب ولا يقبل الله إلا الطيب فإن الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يُربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل» متفق عليه.
56- إن الصدقة سبب من أسباب المعية الخاصة لأن المتصدق مُحسن وقد قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ } .
57- إن المصدقين يُضاعف الله لهم ثواب أعمالهم الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى حيث شاء الله عز وجل قال تعالى: { إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ } .
58- «إن الصدقة لتطفيء غضب الرب وتدفع ميتة السوء»، وقال الترمذي حسن غريب.
59- إن بإخراج الزكاة كل سنة يرى الفقراء أن الأغنياء لهم فضل عليهم فيدافعون عنهم ما استطاعوا أما كف اليد عنهم ومنع معروفهم أن يصل إليهم فإنه يوغر صدورهم ويملؤها حقداً عليهم ويجتهدون في سلب حياتهم للوصول إلى أموالهم المخزونة فتكون الحياة مُهددة والأمن مفقوداً.
(1/261)
60- إن منع الصدقات يزيل النعم ويخرب الديار العامرة وتأمل قصة أصحاب الجنة المذكورة في سورة ن، والقلم وما يسطرون، قال تعالى: { فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ } إلى قوله تعالى: { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ } . وتأمل قصة ثعلبة في سورة التوبة قال تعالى: { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آَتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } .
(موعظة)
عباد الله إن المؤمن بالله حقاً يبتعد عن المعاصي كما يبتعد عن النار فإذا زل مرة من المرات اضطربت أعصابه وجعل قلبه يخفق وأصابه ندم عظيم وكلما تذكر تلك الهفوة احمر وجهه خجلاً وهاجت عليه أحزانه وتذكر عصيانه لسيده ومولاه ولا يزال موجع القلب منكسره حتى يُفارق الدنيا ويُوارى في التراب.
(1/262)
هذا هو المعروف عن المؤمن، ولا يعرف سواه في أهل الإيمان لأنهم يدركون تماماً أنهم إن عصوا خالقهم ورازقهم أنهم سيندمون ويُعاقبون إن لم يتوبوا إلى مولاهم، هذا ما كان عليه السلف الصالح ومن تبعهم، وانظر ما عليه أكثر الناس اليوم في هذا العصر المظلم من الجرأة على انتهاك محارم الله تتمثل أمامك حالهم بحالة قومٍ لا يؤمنون بثواب ولا عقاب تراهم قد أضاعوا الصلاة وأصروا على منع الزكاة إلا النوادر منهم تراهم يُطاردون النساء في الأسواق ويشربون الدخان علناً ويحلقون اللحا كذلك ويغشون في معاملاتهم تراهم أمام الملاهي والمنكرات ليلاً ونهاراً، تراهم يوالون أعداء الله ويُعظمونهم تراهم لم يكتفوا بالمعاصي في بلادهم بل يذهبون إلى البلاد الأخرى، بلاد الفسق والفجور والحرية وينفقون فيها الأموال الطائلة في ما يُغضب الله الذي أغنى وأقنى ولكن ليعلم هؤلاء الفسقة أن الله لا يغفل عن أعمالهم السيئة وسوف تشهد عليهم بها الأرض والسماوات، ولا تبكي عليهم لا هذه ولا هذه يوم يتجرعون كأس الممات، ويشهد بها عليهم الملكان كاتب الحسنات، وكاتب السيئات، ويشهد بها عليهم الحفظة الذين يتعاقبون على حِفظهم تعاقب الحراس ويشهد بها عليهم جوارحهم التي باشرت فعل المعاصي ويشهد بها خير شاهد وهو مولاهم جل وعلا الذي تستوي الشهادة عنده والغيوب، ويشهد بذلك عليهم كتب أعمالهم التي كل ما فعلوا بها مكتوب حتى إذا رأوها يوم القيامة وبدا لهم ما لم يكن لهم في حساب فزعوا وقالوا يا يولتنا ما لهذا الكتاب لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا، كل هؤلاء يشهدون على العاصين بالمعاصي فيُسجلون عليهم ما قدمته أيديهم وليس لذلك نتيجة إن لم يتوبوا إلا غضب الرب عليهم، وإلقاؤهم في درا المجرمين الجانين جهنم، وإذا كان الأمر هكذا فلماذا يفرح العُصاة، ومن ورائهم جهنم التي لا تُبقي ولا تذر.
(1/263)
التي ترمي بشررٍ كالقصر كأنه جمالةٌ صفر.
شعراً:
وَكَيْفَ قَرَّتْ لأهْلِ العِلْمِ أَعْيُنُهُمْ
أَوْ اسْتَلَذوا لَذِيْذَ النَّومِ أَوْ هَجَعُوْا
وَالمَوْتُ يُنْذِرُهُمْ جَهْراً عَلاَنِيَةً
لَوْ كَانَ لِلقَوْمِ أَسْمَاعُ لَقَدْ سَمِعُوا
وَالنَّارُ ضَاحِيَةٌ لاَ بُدَّ مَوْرِدُهُمْ
وَلَيْسَ يَدْرُونَ مَنْ يَنْجُوْ وَمَنْ يَقَعُ
آخر:
وَكَيْفَ يَلَذُّ العَيْشَ مَنْ كَانَ مُوْقِناً
بِأَنَّ الْمَنَايَا بَغْتَةً سَتُعَاجِلُهْ
وَكَيْفَ يَلَذُّ العَيْشَ مَنْ كَانَ مُوقِناً
بِأَنَّ إِلهَ الْخَلْقِ لاَ بُدَّ سَائِلُهْ
نسأل الله تعالى النجاة منها وأن يوفقنا للأعمال المؤهلة لدار الخلد وأن يُوفق ولاتنا للقيام على هؤلاء المجرمين، وردعهم وإلزامهم سلوك طرق الحق إنه القادر على ذلك.
اللهم اجعل في قلوبنا نوراً نهتدي به إليك وتولنا بحسن رعايتك حتى نتوكل عليك وارزقنا حلاوة التذلل بين يديك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
موعظة في التحذير عن الانهماك
في الدنيا ولذاتها وشهواتها
عباد الله، إن من نظر إلى الدنيا بعينِ البصيرة أيقن أن نعيمها ابتلاء، وحياتها عناء وعيشها نكد، وصفوها كدر وأهلها منها على وجلٍ إما بنعمةٍ زائلةٍ، أو بليةٍ نازلةٍ أو منيةٍ قاضيةٍ.
مسكين من اطمأن ورضي بدارٍ حلالها حساب، وحرامها عقاب، إن أخذه من حلال حوسب عليه، وإن أخذه من حرام عُذب به، من استغنى في الدنيا فتن، ومن افتقر فيها حزن، من أحبها أذلته، ومن التفت إليها ونظرها أعمته.
لَوْ كُنْتَ رَائِدَ قَوْمٍ ظَاعِنِيْنَ إِلَى
دُنْيَاكَ هَذِي لَمَا أُلْفِيْتَ كَذَّابَا
لَقُلْتَ تِلكَ بَلاءٌ نَبْتُهَا سَقَمٌ
وَمَاؤُهَا العَذْبُ سُمٌ للفَتَى ذَابَا
(1/264)
وكم كشف للسامعين عن حقيقة الدنيا وبين لهم قصر مدتها وانقضاء لذتها بما يُضرب من الأمثال الحسية، قال الله تعالى: { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } .
شرح لنا العليم الحكيم في هذه الآية حال الدنيا التي افتتن الناس بها الذين قصر نظرهم وبين أنها من محقرات الأمور التي لا يركن إليها العقلاء فضلاً عن الافتتان بها والانهماك في طلبها وقتل الوقت في تحصيلها بأنها لعبٌ لا ثمرة فيه سوى التعب، ولهوٌ تشغل صاحبها وتلهيه عما ينفعه في آخرته، وزينة لا تفيد المفتون بها شرفاً ذاتياً كالملابس الجميلة والمراكب البهية والمنازل الرفيعة الواسعة، وتفاخر بالأنساب والعظام البالية ومباهات بكثرة الأموال والأولاد وعظم الجاه.
ثم أشار جل شأنه إلى أنها مع ذلك سريعة الزوال، قريبة الاضمحلال، كمثل غيث راق الزراع نباته الناشئ به، ثم يهيج ويتحرك وينمو إلى أقصى ما قدره الله له فسرعان ما تراه مصفراً متغيراً ذابلاً بعدما رأيته أخضر ناضراً، ثم يصير من اليبس هشيماً مُتكسراً، ففيه تشبيه جميع ما في الدنيا من السنين الكثيرة بمدة نبات غيث واحدٍ يفنى ويضمحل ويتلاشى في أقل من سنة.
إشارة إلى سرعة زوالها وقرب فنائها، وبعد ما بين جل وعلا حقارة الدنيا وسرعة زوالها تزهيداً فيها، وتنفيراً وتحذيراً من الانهماك في طلبها أشار إلى فخامة شأن الآخرة وفظاعة ما فيها من الآلام وعظم ما فيها من اللذات ترهيباً من عذابها الأليم، وترغيباً في تحصيل النعيم المقيم والعيش السليم مما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر.
(1/265)
والناس فيها قسمان فُطناء قد وفقهم الله فعلموا أنها ظلٌ زائل ونعيمٌ حائل وأضغاث أحلام، بل فهموا أنها نعم في طيها نقم، وعرفوا أنها حياةٌ فانية، وأنها معبر وطريق إلى الحياة الباقية، فرضوا منها باليسير، وقنعوا منها بالقليل، فاستراحت قلوبهم من همها وأحزانها واستراحت أبدانهم من نصبها، وعنائها، وسلم لهم دينهم، وكانوا عند الله هم المحمودين، فلم تشغلهم دنياهم عن طاعة مولاهم.
جعلوا النفس الأخير وما وراءه نصب أعينهم، وتدبروا ماذا يكون مصيرهم، وفكروا كيف يخرجون من الدنيا، وإيمانهم سالم لهم وما الذي يبقى معهم منها في قبورهم، وما الذي يتركونه لأعدائهم في الدنيا، ومن لا يُغنيهم من الله شيئاً { يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ } ، { يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا } ، { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ } ويبقى عليهم وبال ما جمعوا وما عمروا في غير طاعة الله.
أدركوا كل هذا فتأهبوا للسفر الطويل وأعدوا الجواب للحساب، وقدموا الزاد للمعاد وخير الزاد التقوى، فطوبى لهم خافوا فآمنوا وأحسنوا ففازوا وأفلحوا.
شعراً:
إِنَّ للهِ عِبَاداً فُطَنَا
طَلَّقُوا الدُّنْيَا وَخَافثوا الفِتَنَا
نَظَرُوا فِيْهَا فَلَمَّا عَلِمُوا
أَنَّهَا لَيْسِتْ لِحَيٍّ سَكَنَا
جَعَلُوهَا لُجةً وَاتَّخَذُوا
صَالِحَ الأَعْمَالِ فِيْهَا سُفُنَا
اللهم نور قلوبنا بنور الإيمان وأعنا على أنفسنا والشيطان وأيسه منا كما أيسته من رحمتك يا رحمن وآتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
(1/266)
والقسم الثاني من الناس جهال عمي البصائر لم ينظروا في أمرها ولم يكشفوا سوء حالها ومآلها، برزت لهم بزينتها ففتنتهم، فإليها أخلدوا، وبها رضوا، ولها اطمأنوا، حتى ألهتهم عن الله تعالى، وشغلتهم عن ذكر الله، وطاعته، { نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } .
قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } .
نعم إنهم نسوا الله وأهملوا حقوقه وما قدروه حق قدره، ولم يُراعوا لانهماكهم في الدنيا وتهالكهم عليها مواجب أوامره ونواهيه حق رعايتها، فأنساهم أنفسهم أنساهم مصالحهم وأغفلهم عن منافعها وفوائدها فصار أمرهم فرطا فرجعوا بخسارة الدارين، وغُبنوا غبناً لا يمكن تداركه ولا يجبر كسره، وسيرون يوم القيامة من الأهوال ما يُنسيهم أرواحهم، ويجعلهم حيارى ذاهلين يوم تذهل كل مُرضعة عن ما أرضعت وتضع كل ذات حملٍ حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.
وفي مثل هذا يقول أحد العلماء: اجتهادك فيما ضُمن لك مع تقصيرك فيما طلب منك دليل انطماس بصيرتك، أقاموا الدنيا فهدمتهم، واعتزوا بها من دون الله فأذلتهم، أكثروا فيها من الآمال وأحبوا طول الآجال ونسوا الموت وما بعده من شدائد الدنيا والآخرة قال تعالى: { قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ } .
(1/267)
وروى الترمذي من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع عليه شمله وأتت الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له، فلا يُمسي إلا فقيراً ولا يُصبح إلا فقيراً، وما أقبل عبد على الله بقلبه إلا جعل الله قلوب المؤمنين تنقاد إليه بالود والرحمة، وكان الله بكل خيرٍ إليه أسرع» اهـ.
وقال في عدة الصابرين، وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنها لو ساوت عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء، وأنها أهون على الله من السخلة الميتة على أهلها.
وأن مثلها في الآخرة كمثل ما يعلق بإصبع من أدخل إصبعه في البحر وأنها ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما ولاه، وعالم ومتعلم وأنها سجنُ المؤمن وجنة الكافر.
وأُمر العبد أن يكون فيها كأنه غريب أو عابر سبيل ويَعُدُّ نفسه من أهل القبور وإذا أصبح فلا ينتظر المساء وإذا أمسى فلا ينتظر الصباح.
ونُهي عن اتخاذ ما يُرغب فيها، ولعن عبد الدينار وعبد الدرهم ودعا عليه بالتعس والانتكاس وعدم إقالة العثرة بالانتقاش.
وأخبر أنها خضرة حلوة أي تأخذ العيون بخضرتها والقلوب بحلاوتها، وأمر باتقائها والحذر منها كما يُتقى النساء ويُحذر منهن وأخبر أن الحرص عليها، وعلى الرياسة والشرف يُفسد الدين.
وأخبر أنه في الدنيا كراكب استظل تحت شجرة في يومٍ صائفٍ، ثم راح وتركها، وهذا في الحقيقة حالُ سكان الدنيا كلهم، ولكن هو - صلى الله عليه وسلم - شهد هذه الحال، وعُمي عنها بنو الدنيا.
ومر بهم وهم يُعالجون خُصَّاً لهم قد وهى، فقال ما أرى الأمر إلا أعجل من ذلك، وأمر بستر على بابه فنزع وقال إنه يُذكرني الدنيا، وأعلم الناس أنه ليس لأحدٍ منهم حق في سوى بيتٍ يسكنه، وثوبٍ يواري عورته وقوتٍ يُقيم صلبه.
(1/268)
وأخبر أن الميت يتبعه أهله، وماله، وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله، وكان يقول: الزهد في الدنيا يُريح القلب والبدن، والرغبة في الدنيا تُطيل الهموم، والحزن، وكان يقول من جعل الهموم كلها هماً واحداً، كفاه الله سائر همومه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يُبال الله في أي أوديتها هلك.
وأخبر أن بذل العبد ما فضل عن حاجته خيرٌ له، وإمساكه شرٌ له وأنه لا يُلام على الكفاف، وأخبر أن عباد الله ليسوا بالمتنعمين فيها فإن أمامهم دار النعيم فهم لا يرضون بنعيمهم في الدنيا عوضاً من ذلك النعيم.
وفي حديث مناجاة موسى: «ولا تُعجبنكما زينته ولا ما مُتع به ولا تَمُدان إلى ذلك أعينكما، فإنها زهرة الدنيا، وزينة المترفين وإني لو شئت أن أُزينكما من الدنيا بزينةٍ يعلمُ فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما فعلت، ولكن أرغب بكما عن نعيمها ذلك، وأزويه عنكما، وكذلك أفعل بأوليائي، وقديماً ما أخرت لهم في ذلك فإني لأذودهم عن نعيمها ورخائها كما يذود الراعي الشفيق غنمه عن مراعي الهلكة وإني لأجنبهم سلوتها، وعيشها كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مبارك الغرة.
وما ذلك لهوانهم عليَّ، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالماً موفراً لم تكلمه الدنيا ولم يُطغه الهوى.
واعلم أنه لم يتزين لي العباد بزينةٍ هي أبلغ من الزهد في الدنيا فإنها زينة المتقين عليهم منها لباسٌ يُعرفون به من السكينة، والخشوع سيماهم في وجوههم من أثر السجود.
أولئك أوليائي حقاً فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك، وذلل لهم قلبك، ولسانك، وقال الحواريون: يا عيسى مَنْ أولياء الله الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون؟
(1/269)
قال الذين نظروا إلى باطن الدنيا، حين نظر الناس إلى عاجلها فأماتوا منها ما يخشون أن يميتهم، وتركوا ما عملوا أن سيتركهم، فصار استكثارهم منها استقلالاً، وذكرهم إياها فواتاً، وفرحهم بما أصابوا منها حزناً، فما عارضهم من نائلها رفضوه، وما عارضهم من رفعتها بغير الحق وضعوه.
خلقت الدنيا عندهم فليسوا يُجددونها، وخربت بينهم فليسوا يعمرونها، وماتت في صدورهم، فليسوا يُحيونها، يهدمونها فيبنون بها آخرتهم، ويبيعونها، فيشترون بها ما يبقى لهم.
رفضوها فكانوا بها هم الفرحين، ونظروا إلى أهلها صرعى قد حلت بهم المثلات، فأحيوا ذكر الموت وأماتوا ذكر الحياة.
يُحبون لله، ويُحبون ذكره، ويستضيئون بنوره، ويُضيئون به، لهم خبرٌ عجيب وعندهم الخبر العجيب، بهم قام الكتاب، وبه قاموا وبهم نطق الكتاب، وبه نطقوا، وبهم عُلم الكتاب، وبه عملوا ليسوا يرون نائلاً مع ما نالوا، ولا أماناً دون ما يرجون، ولا خوفاً دون ما يحذرون.
وقال: يا بني إسرائيل، اجعلوا بيوتكم كمنازل الأضياف فما لكم في العالم من منزلٍ إن أنتم إلا عابري سبيل.
وقال يا معشر الحواريين أيكم يستطيع أن يبني فوق موج البحر داراً، قالوا: يا روح الله من يقدر على ذلك، قال: إياكم والدنيا فلا تتخذوها قراراً.
وقال: حلاوة الدنيا مرارة الآخرة، ومرارة الدنيا، حلاوة الآخرة.
وقال: يا بني إسرائيل تهاونوا بالدنيا، تهن عليكم، وأهينوا الدنيا تكرم عليكم الآخرة، ولا تكرموا الدنيا، تهن عليكم الآخرة، فإن الدنيا ليست بأهل للكرامة، وكل يوم تدعوا إلى الفتنة والخسارة».
قالوا: وقد تواتر عن السلف أن حب الدنيا رأس الخطايا، وأصلها، وقيل: إن عيسى بن مريم عليه السلام قال: رأس الخطيئة حب الدنيا، والنساء حُبالة الشيطان، والخمر جِماع كل شر.
شعراً: قال الإمام الشافعي رحمه الله:
خَبَتْ نَارُ نَفْسِِي بِاشتِعَالِ مَفَارِقِي
وَأَظْلَمَ لِيْلِي إِذْ أَضَاءَ شِهَابُهَا
(1/270)
أَيَا بُوْمَةً قَدْ عَشَّشَتْ فَْوقَ هَامَتِي
عَلَى الرَّغْمِ مِنِّي حِيْنَ طَارِ غُرَابُهَا
رَأَيْتِ خَرَابَ العُمْرِ مِنِّي فَزُرْتِنِي
وَمَأْوَاكِ مِنْ كُلِّ الدِّيَارِ خَرَابُهَا
أَأَنْعَم عَيْشاً بَعْدَ مَا حَلَّ عَارِضِيْ
طَلاَئِعُ شَيْبٍٍ لَيْسَ يُغْنِي خِضَاُبَها
إِذَا اصْفَرَّ لَوْنُ الْمُرءِ وابيَضَّ شَعْرُهُ
تَنَغَّصَ مِنْ أَيَامِهِ مُسْتَطابُهَا
وَعِزَةُُ عُمْرِ الْمَرْءِ قَبْلَ مَشِيْبِهِ
وَقَدْ فَنِيَتْ نَفسٌ تَوَلّى شَبَابُهَا
فَدَعْ عَنْكَ سَوآتِ الأُمورِ فَإِنَّهَا
حَرَامٌ عَلَى نَفْسِ التَّقِيِ ارْتَكابُهَا
وَأدِّ زَكَاةَ الْجَاهِ وَاعْلَمْ بِأَنَّهَا
كَمِثْلِ زَكَاةِ الْمَالِ تَمَّ نِصَابُهَا
وَأَحْسِنْ إِلَى الأَحْرارِ تَمْلِكْ رِقَابَهُمْ
فَخَيْرُ تِجَارَاتِ الرِّجَالِ اكْتِسَابُهَا
وَلا تَمْشِيَن فِي مَنْكِبِ الأرضِ فَاخِراً
فَعَمَّا قَليلٍ يَحْتَوْيكَ تُرَابُهَا
وَمَنْ يَذُقْ الدُّنْيَا فَإِنِّي طَعمُتَهَا
وَسِيْقَ إِليْنَا عَذْبُهَا وَعَذَابُهَا
فَلم أَرَهَا إِِلاَّ غُرُوراً وَبَاطِلاً
كَمَا لاَحَ فِي ظَهْرِ الفَلاةِ سَرَابُهَا
وَمَا هِي إِلاَّ جِيْفَةٌ مُسْتَحِيْلَةٌ
عَلَيْهَا كِلاَبٌ همُّهُنَّ اجْتِذابُهَا
فإنْ تَجْتَنِبْهَا كُنْتَ سِلْماً لأهَلِهَا
وَإِنْ تَجْتَذِبْهَا نَازَعَتْكَ كِلاَبِهَا
إِذَا انْسَدَ بابٌ عَنْكَ مِنْ دُونِ حَاجٍَة
فَدَعْهَا لأخْرَى يَنْفَتِحْ لَكَ بَابُهَا
فإنَّ قُرَابَ البَطْنِ يَكْفِيْكَ مِلؤُهُ
وَيَكْفِيكَ سَوآتِ الأمُورِ اجْتِنَابُهَا
فَطُوبَى لِنَفْسٍ أَوْطَنَتْ قَعْرَ بَيْتِهَا
مُغلَقَةَ الأَبْوَابِ مُرْخَىً حِجَابُهَا
فَيَارَبّ هَبْ لِي تَوْبَةً قَبْلَ مَهْلَكٍ
أَُُبادِرُهَا مِنْ قَبْلِ إِغْلاَقِ بَابِهَا
فَمَا تَخْرَبُ الدُّنْيَا بِمَوتِ شِرَارِهَا
وَلَكِنْ بِمَوتِ الأَكْرَمِيْنَ خَرَابُهَا
(1/271)
اللهم ثبتنا على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة اللهم وأيدنا بنصرك وارزقنا من فضلك ونجنا من عذابك يوم تبعث عبادك، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وآله وسلم.
(فصل)
وعن سفيان قال: كان عيسى بن مريم يقول حب الدنيا أصل كل خطيئة والمال فيه داء كثير، قالوا وما داؤه قال: لا يسلم من الفخر والخيلاء، قالوا فإن سلم، قال يشغله إصلاحه عن ذكر الله عز وجل.
قالوا وذلك معلوم بالتجربة والمشاهدة، فإن حبها يدعوا إلى خطيئة ظاهرة وباطنة، ولا سيما خطيئة يتوقف تحصيلها عليها، فيسكر عاشقها حبها عن علمه بتلك الخطيئة، وقبحها وعن كراهتها واجتنابها.
وحبها يوقع في الشبهات، ثم في المكروهات، ثم في المحرمات، وطالما أوقع في الكفر، بل جميع الأمم المكذبة لأنبيائهم إنما حملهم على كفرهم وهلاكهم حب الدنيا، فإن الرسل لما نهوهم عن الشرك والمعاصي التي كانوا يكتسبون بها الدنيا، حملهم حبها على مخالفتهم وتكذيبهم.
فكل خطيئة في العالم أصلها حب الدنيا، ولا تنس خطيئة الأبوين قديماً، فإنما كان سببها حب الخلود في الدنيا، ولا تنس ذنب إبليس وسببه حب الرياسة، التي محبتها شرٌ من محبة الدنيا.
وبسببها كفر فرعون وهامان وجنودهما، وأبو جهلٍ وقومه، واليهود، فحب الدنيا والرياسة هو الذي عمر النار بأهلها.
والزهد في الدنيا والزهد في الرياسة هو الذي عمر الجنة بأهلها.
والسكر بحب الدنيا أعظم من السكر بشرب الخمر بكثير، وصاحب هذا السكر لا يفيق منه، إلا في ظلمة اللحد، ولو انكشف عنه غطاؤه في الدنيا لعلم ما كان فيه من السكر، وإنه أشد من سكر الخمر والدنيا تسحر العقول أعظم سحر.
قال الإمام أحمد: حدثنا سيار حدثنا جعفر قال: سمعت مالك بن دينار يقول: اتقوا السَّحارة، اتقوا السَّحارة، فإنها تسحر قلوب العلماء.
شعراً:
لَوْ كُنْتُ فِي دِينِي مِن الأَبْطَالِ
مَا كُنْتُ بِالوَانِي وَلاَ البَطَّالِ
(1/272)
وَلَبِسْتُ مِنْهُ لأمةً فَضْفَاضَةً
مَسْرُودَةً مِن صَالِح الأَعْمَالِ
لَكِِنَّنِي عَطَّلتُ أَقْوَاسَ التُّقَى
مِن نَبْلِها فَرَمَتْ بِغَيرِ نِبَالِ
وَرَمَى العَدُوُّ بِسِهْمِهِ فَأِصَابَنِي
إِذْ لَمْ أُحَصِّنْ جُنَّةً لِنضَالِ
فَأَنَا كَمَنْ يَلْقَى الكَتِيْبَةَ أَعْزَلاً
فِي مَأزقٍ مُتَعَرضاً لِنِزالِ
لَولاَ رَجَاءُ العَفْوِ كُنْتُ كَناقِعٍ
بَرْحَ الغَلِيْلِ بِرَشْفِ لَمْع الآلِ
شَابَ القَذَالُ فآنَ لِي أَنْ أَرعَوي
لَو كُنْتُ مُتَّعِظاً بِشَيْبِ قَذَال
وَلَوْ أَنَّنِي مُسْتَبْصِراً إِذْ حَلَّ بِي
لعَلِمْتَ أن حُلولَهُ تَرْحَالِي
فَنَظَرتُ فِي زَادٍ لِدَارِ إِقَامَتِي
وَسَأَلت رَبِّي أَنْ يَحُلَّ عِقَالِي
فَلَكَمْ هَمَمْتُ بِتَوبَةٍٍ فَمُنِعتُها
إِذْ لَمْ أَكُنْ أَهْلاً لَهَا، وَبَدا لِي
وَيعِزُّ ذَاكَ عَلَيَّ إِلاَّ أَنَّنِي
مُتَقَلَّبٌ فِي قَبْضَةِ الْمُتَعَالِي
وَوَصَلْتُ دُنْيَا سَوْفَ تَقْطَعُ شَأفَتِي
بِأُفُولِ أَنْجُمِهَا وَخَسْفِ هِلالِي
شَغَلَتْ مَفتن أَهْلِهَا بِفتُونِهَا
وَمِنْ الْمُحَال تَشَاغُلٌ بِمُحَالِ
لا شَيْء أَخْسَر صَفْقَةً مِنْ عَالِمٍ
لَعِبَتْ بِهِ الدُّنْيَا مَعَ الْجُهَّالِ
فَغَدَا يُفرِّقُ دِينَهُ أَيْدِيْ سَبَا
وَيُزِيلُهُ حِرْصاً لِجَمْعِ الْمَالِ
لاَ خَيْرَ فِي كَسْبِ الْحَرَامِ وَقَلَّمَا
يُرْجَى الْخَلاَصُ لِكاسِبٍ لِحَلالِ
مَا إنْ سَمِعْتُ بِعَائِلٍ تُكْوَى غَداً
بالنَّارِ جَبْهَتُهُ عَلَى الإقْلاَلِ
وَإِذَا أَرَدْتَ صَحِيْحَ مَنْ يُكْوَى بِهَا
فَاقْرَأْ عَقِيْبَةَ سُورَة الأَنْفَالِ
مَا يَثْقُلُ الْمِيزَانُ إِلاَّ بِامِرئٍ
قَدْ خَفَّ كَاهِلُهُ مِن الأَثْقَالِ
فَخُذِ الكفافَ وَلاَ تَكُنْ ذَا فَضْلَةٍ
فَالْفَضْلُ تُسْأَلُ عَنْهُ أَيَّ سُؤالِ
وَدَع الْمَطَارفَ وَالَمِطيَّ لأِهْلِهَا
وَاقْنَعْ بِأَطْمَارٍ وَلُبْسِ نِعَالِ
(1/273)
فَهُمُ وَأَنْتَ وَفَقْرُنَا وَغِنَاهُمُ
لا يَسْتَقِرُّ وَلاَ يَدُومُ بِحَالِ
وَطُفِ البِلادَ لِكَيْ تَرَى آثارَ مَنْ
قَدْ كَانَ يَمْلِكُهَا مِنَ الأَقْيالِ
عَصفَتْ بِهِمْ رِيْحُ الرَّدَى فَذَرَتْهُمُ
ذَرْوَ الرِّياح الْهُوج حَقْفَ رِمالِ
وَتَزَلْزَلَتْ بِهِمُ الْمَنَابِرُ بَعْدَ مَا
ثَبتَتْ وَكَانُوا فَوقَهَا كَجِبَالِ
وَاحْبِسْ قَلُوصَكَ سَاعَة ً بِطُلُولِهِمْ
وَاحْذَرْ عَلَيْكَ بِهَا مِنْ الأَغْوَالِ
فَلَكَمْ بِهَا مِن أَرْقَمٍ صلٍ وَكَم
قَدْ كَانَ فِيْهَا مِنْ مَهاً وَغَزَالِ
وَلَكَمْ غَدَتْ مِنْهَا وَرَاحَتْ حَلْبةً
لِلحَرْبِ يَقْدُمُهَا أَبُوْ الأَشْبَالِ
فَتَقَطَّعَتْ أَسْبَابُهُم وَتَمَزَّقَتْ
وَلَقَبْلُ مَا كَانُوا كَنَظْمِ لآلَ
وَإِذَا أَتَيْتَ قُبورَهُمْ فَاسْأَلْهُمُ
عَمَّا لَقُوا فِيْهَا مِن الأَهْوالِ
فَسَيُخْبِرُونَكَ إِنْ فَهِمْتَ بِحَالِهِمْ
بِعِبَارِةٍ كَالوَحْي لاَ بِمَقَالِ
إِنَّا بِهَا رَهْن إِلَى يَومِ الْجَزا
بِجَرَائِم الأَقْوَالِ وَالأَفْعَالِ
مَنْ لا يُراقِبُ رَبَّهُ وَيَخَافُهُ
تَبَّتْ يَدَاهُ وَمَا لَهُ مِنْ وَالَ
اللهم ثبتنا على قولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ووفقنا لما وفقت له عبادك الصالحين من امتثال أوامرك واجتناب نواهيك واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
وأقل ما في حبها أنه يُلهي عن حب الله، وذكره، ومن ألهاه ماله عن ذكر الله فهو من الخاسرين، قالوا وإنما كان حب الدنيا رأس الخطايا ومفسداً للدين من وجوه، أحدها أنه يقتضي تعظيمها وهي حقيرة عند الله.
ومن أكبر الذنوب تعظيم ما حقره الله، وثانيها أن الله لعنها، ومقتها، وأبغضها إلا ما كان له فيها، ومن أحب ما لعنه الله، ومقته وابغضه، فقد تعرض للفتنة، ومقته وغضبه.
(1/274)
وثالثها أنه إذا أحبها صيرها غايته، وتوسل إليها بالأعمال التي جعلها الله وسائل إليه، وإلى الدار الآخرة، فعكس الأمر وقلب الحكمة فانتكس قلبه، وانعكس سيره إلى وراء.
فهاهنا أمران: أحدهما جعل الوسيلة غاية، والثاني التوسل بأعمال الآخرة إلى الدنيا، وهذا شرٌ معكوس من كل وجه، وقلب منكوس غاية الانتكاس.
وهذا هو الذي ينطبق عليه حذو القذة بالقذة قوله تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .
وقوله: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا } . وقوله: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } .
فهذه ثلاث آيات يُشبه بعضها بعضاً، وتدل على معنى واحد، وهو أن من أراد بعمله الدنيا وزينتها دون الله والدار الآخرة، فحظه ما أراد، وهو نصيبه، ليس له نصيبٌ غيره.
والأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُطابقة لذلك مُفسرةٌ له، كحديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في الثلاثة الذين هم أول من تُسعر بهم النار، الغازي والمتصدق، والقارئ الذين أرادوا بذلك الدنيا والنصيب وهو في صحيح مسلم.
(1/275)
وفي سنن النسائي عن أبي أُمامة - رضي الله عنه - قال جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: يا رسول الله: رجل غزا يلتمس الأجر والذكر، ما له؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا شيء له»، فأعادها ثلاث مرات، يقول له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لا شيء له»، ثم قال: «إن الله تعالى لا يقبل إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه».
فهذا قد بطل أجره وحبط عمله مع أنه قصد حصول الأجر لما ضم إليه قصد الذكر بين الناس فلم يُخلص عمله لله فبطل كله، قال ورابعها أن محبتها تعترض بين العبد، وبين فعل ما يعود عليه نفعه في الآخرة، لاشتغاله عنه بمحبوبه والناس ها هنا مراتب.
فمنهم من يشغله محبوبه عن الإيمان، وشرائعه.
ومنهم من يشغله عن الواجبات التي تجب عليه لله ولخلقه فلا يقوم بها ظاهراً ولا باطناً.
ومنهم من يشغله حبها عن كثيرٍ من الواجبات.
ومنهم من يشغله عن واجب يُعارض تحصيلها وإن قام بغيره.
ومنهم من يشغله عن القيام بالواجب في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي فيُفرط في وقته، وفي حقوقه.
ومنهم من يشغله عن عبودية قلبه في الواجب، وتفريغه لله عند أدائه، فيؤديه ظاهراً لا باطناً، وأين هذا من عشاق الدنيا ومحبيها هذا من أندرهم، وأقل درجات حبها أن يُشغل عن سعادة العبد وهو تفريغ القلب لحب الله، ولسانه لذكره وجمع قلبه على لسانه وجمع لسانه وقلبه على ربه، فعشقها ومحبتها تضر بالآخرة، ولا بد، كما أن محبة الآخرة تُضر بالدنيا.
وخامسها أن محبتها تجعلها أكثر هم العبد.
وسادسها أن مُحبها أشد الناس عذاباً بها، وهو مُعذب في دوره الثلاث، يُعذب في الدنيا بتحصيلها، وفي السعي فيها ومنازعة أهلها وفي دار البرزخ أي في القبر بفواتها، والحسرة عليها، وكونه قد حيل بينه وبين محبوبه على وجهٍ لا يرجو اجتماعه به أبداً ولم يحصل له هناك محبوب يُعوضه عنه.
(1/276)
فهذا أشد الناس عذاباً في قبره، يعمل الهم، والغم، والحزن والحسرة، في روحه ما تعمل الديدان وهوام الأرض في جسمه.
وسابعها أن عاشقها ومحبها الذي يؤثرها على الآخرة من أسفه الخلق وأقلهم عقلاً، إذ آثر الخيال على الحقيقة، والمنام على اليقظة والظل الزائل على النعيم الدائم والدار الفانية على الدار الباقية إن اللبيب بمثلها لا يُخدع.
ثم عقد فصلاً وذكر فيه أمثلة تبين حقيقة الدنيا: المثال الأول: للعبد ثلاثة أحوال، حالة لم يكن فيها شيئاً، وهي ما قبل أن يوجد، وحالة أخرى وهي من ساعة موته، إلى ما لا نهاية له في البقاء السرمدي فلنفسه وجود بعد خروجها من البدن، إما في الجنة وإما في النار.
ثم تُعاد إلى بدنه، فيُجازى بعمله، ويسكن إحدى الدارين في خلود دائم ثم بين هاتين الحالتين وهي ما بعد وجوده وما قبل موته حالة متوسطة، وهي أيام حياته فلينظر إلى مقدار زمانها، وينسبه إلى الحالتين، يعلم أنه أقل من طرفة عين في مقدار عمر الدنيا.
ومن رأى الدنيا بهذه العين لم يركن إليها، ولم يُبال كيف تقضت أيامه فيها في ضُرٍ وضيقٍ أو في سعةٍ ورفاهية ولهذا لم يضع النبي - صلى الله عليه وسلم - لبنة على لبنةٍ ولا قصبةً على قصبةٍ، وقال ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب قال في ظل شجرة، ثم راح وتركها.
وإلى هذا أشار المسيح بقوله عليه السلام: "الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها"، وهذا مثل صحيح فإن الحياة معبر إلى الآخرة، والمهد هو الركن الأول، على أول القنطرة، واللحد هو الركن الثاني على آخرها.
ومن الناس من قطع نصف القنطرة.
(1/277)
ومنهم من قطع ثُلثيها، ومنهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة، وهو غافل عنها وكيفما كان فلا بد من العبور، فمن وقف يبني على القنطرة، ويزينها بأصناف الزينة، وهو يُستحث على العبور فهو في غاية الجهل والحمق. المثال الثاني شهوات الدنيا في القلب كشهوات الأطعمة في المعدة، وسوف يجد العبد عند الموت لشهوات الدنيا في قلبه من الكراهة والنتن والقبح ما يجده للأطعمة اللذيذة إذا انتهت في المعدة، غايتها، وكما أن الأطعمة كلما كانت ألذ طعماً وأكثر دسماً وأكثر حلاوة كان رجيعها أقذر، فكذلك كل شهوة كانت في النفس ألذ وأقوى فالتأذي بها عند الموت أشد، كما أن تفجع الإنسان بمحبوبه إذا فقده يقوى بقدر محبة المحبوب.
شعراً قال بعضهم يُخاطب نفسه:
إِلَى مَ أَرَى يَا قَلْبُ مِنْكَ التَّرَاخِيَا
وَقَد حَلَّ وَخْطُ الشَّيْبِ بِالرَّأْسِ ثَاوِيَا
وَأَخْبَرَ عَن قُرْبِ الرَّحِيلِ نَصِيْحَةً
فَدُونَك طَاعَاتٍ وَخَلِّ الْمَسَاوِيَا
وَعُضَّ عَلَى مَا فَاتَ مِنْكَ أَنَامِلاً
وَفَجِّرْ مِنْ العَيْنِ الدّمُوعَ الْهَوامِيَا
فَكَمْ مَرَّةٍ وَافَقْتَ نَفْساً مَرِيْدَةً
فَقَد حَمَّلَت شَراً عَلَيْكَ الرَّوَاسِيَا
وَكَمْ مَرَّةٍ أَحْدَثتَ بِدْعاً لِشَهْوَةٍ
وَغَادَرْتَ هَدْياً مُسْتَقِيماً تَوَانِيَا
وَكَمْ مَرَّةٍ أَمْرَ الإِلَه نَبَذْتَهُ
وَطَاوَعْتَ شَيْطَاناً عَدُواً مُداجِيَا
وَكَمْ مَرَّةٍ قَدْ خُضتَ بَحْرَ غِوَايَةٍ
وَأَسْخَطْتَ رَباً بِاكْتِسَاب الْمَعَاصِيَا
وَكَمْ مَرَّةٍ بِِرَّ الإله غَمَصتَهُ
وَقَد صِرْتَ فِي كُفْرَانِهِ مُتمَادِيَا
وَلاَ زِلْتَ بالدُّنْيَا حَرِيْصاً وَمُولَعاً
وَقَد كُنْتَ عَن يَومَ القِيَامَةِ سَاهِيَا
فَمَا لَكَ فِي بَيْتِ البِلا إِذْ نَزَلْتَهُ
عَن الأَهْلِ وَالأَحْبَابِ وَالْمَالِ نَائِيَا
فَتُسْأَلَ عَن رَبٍّ وَدِيْن مُحَمَّدٍ
فَإن قُلْتَ هَاهٍ فَادْرٍ أَنْ كُنْتَ هَاوِيَا
(1/278)
َوَيأتِيْكَ من نارٍ سَمُومٍّ أليْمَةٍّ
وَتُبصُرُ فِيهَا عَقْرباً وَأَفَاعِيَا
وَيَا لَيْتَ شِعْريْ كَيْفَ حَالُكَ إِذْ نُصِبْ
ض
صِراطٌ وَمِيزَانٌ يُبينُ الْمَطَاوِيَا
فَمَنْ نَاقشَ الرَّحْمَن نُوْقِشَ بَتّةً
وأُلقيَّ فِي نَارٍ وَإنْ كَانَ وَالِيَا
هُنَالِكَ لاَ تَجْزِيْهِ نَفْسٌ عَن الرَّدَى
فَكُلُ امرِئٍ فِي غَمِّهِ كَانَ جَاثِيَا
اللهم ثبت قلوبنا على دينك وألهمنا ذكرك وشكرك واختم لنا بخاتمة السعادة واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
المثال الثالث لها ولأهلها في اشتغالهم بنعيمها عن الآخرة وما يُعقبهم من الحسرات مثل أهل الدنيا في غفلتهم مثل قومٍ ركبوا سفينة فانتهت بهم إلى جزيرة فأمرهم الملاح بالخروج لقضاء الحاجة وحذرهم الإبطاء، وخوفهم مرور السفينة.
فتفرقوا في نواحي الجزيرة، فقضى بعضهم حاجته وبادر إلى السفينة فصادف المكان خالياً، فأخذ أوسع الأماكن وألينها.
ووقف بعضهم في الجزيرة، ينظر إلى أزهارها وأنوارها العجيبة ويسمع نغمات طيورها، ويُعجبه حسن أحجارها، ثم حدثته نفسه بفوات السفينة، وسرعة مرورها، وخطر ذهابها فلم يُصادف إلا مكاناً ضيقاً فجلس فيه.
وأكب بعضهم على تلك الحجارة المُستحسنة، والأزهار الفائقة فحمل منها حمله فلما جاء لم يجد في السفينة إلا مكاناً ضيقاً، وزاده حمله ضيقاً، فصار محموله ثقلاً عليه، ووبالاً ولم يقدر على نبذه بل لم يجد من حمله بُداً ولم يجد له في السفينة موضعاً، فحمله على عنقه وندم على أخذه، فلم تنفعه الندامة، ثم ذبلت الأزهار، وتغيرت أراييحها وآذاه نتنها.
وتولج بعضهم في تلك الغياض، ونسي السفينة، وأبعد في نزهته، حتى إن الملاح نادى بالناس، عند دفع السفينة، فلم يبلغه صوته، لاشتغاله بملاهيه، فهو تارة يتناول من الثمر وتارة يشم تلك الأزهار وتارة يعجب من حسن الأشجار.
(1/279)
وهو على ذلك خائف من سبع يخرج عليه، غير منفك من شوك يتشبث في ثيابه، ويدخل في قدميه أو غصن يجرح بدنه أو عوسج يُخرق ثيابه، ويهتك عورته، أو صوتٍ هائل يُفزعه.
ثم من هؤلاء من لحق بالسفينة، ولم يبق فيها موضع، فمات على الساحل، ومنهم من شغله لهوه، فافترسته السباع ونهشته الحيات ومنهم من تاه فهام على وجهه حتى هلك، فهذا مثال أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة، ونسيانهم موردهم وعاقبة أمرهم، وما أقبح بالعاقل أن تغره أحجار، ونبات يصير هشيماً.
المثال الرابع لاغترار الناس بالدنيا، وضعف إيمانهم بالآخرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه:«إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قومٍ سلكوا مفازةً غبراء، حتى إذا لم يدروا ما سلكوا منها أكثر أم ما بقي، أنفدوا الزاد، وحسروا الظهر، وبقوا بين ظهراني المفازة، لا زاد ولا حمولة، فأيقنوا بالهلكة».
فبينما هم كذلك، إذ خرج عليهم رجل في حُلةٍ يقطر رأسه، فقالوا إن هذا قريب عهدٍ بريف، وما جاءكم هذا إلا من قريب، فلما انتهى إليهم، قال يا هؤلاء علام أنتم، قالوا على ما ترى، قال أرأيتم إن هديتكم على ماء رواء ورياضٍ خضرٍ ما تجعلون لي؟
قالوا لا نعصيك شيئاً، قال عُهُودكم، ومواثيقكم بالله؟، قال: فأعطوه عهودهم، ومواثيقهم بالله لا يعصونه شيئاً، قال: فأوردهم ماءً ورياضاً خُضراً قال: فمكث ما شاء الله.
ثم قال يا هؤلاء الرحيل، قالوا إلى أين؟، قال إلى ماءٍ ليس كمائكم ورياضٍ ليست كرياضكم، قال فقال جُل القوم، وهم أكثرهم والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أن لن نجده، وما نصنع بعيشٍ هو خيرٌ من هذا؟
قال وقالت طائفة وهم أقلهم، ألم تُعطوا هذا الرجل عهودكم، ومواثيقكم بالله، لا تعصونه شيئاً، وقد صدقكم في أول حديثه، فوالله ليصدُقنكم في آخره، فراح بمن اتبعه، وتخلف بقيتهم، فبادرهم عدوهم، فأصبحوا بين أسيرٍ وقتيل».
شعراً:
إِذَا عَاجَل الدُّنْيَا أَلَمَّ بِمَفْرَحٍ
(1/280)
فَمَنْ خَلفهُ فَجْعٌ سَيْتلُوهُ آجِلُ
وَكَانَتْ حَياةُ الْحَي سَوقاً إِلَى الرَّدَى
وَأيَّامُهُ دُوْنَ الْمَمَاتِ مَرَاحَلُ
وَمَا لُبْث مَنْ يَغْدُو وَفِي كُلِّ لَحْظَةٍ
لَهُ أَجَلٌ فِي مُدَّةِ العُمْرِ قَاتِلُ
وَلِلمَرءِ يَومٌ لاَ مَحَالَةَ مَا لَهُ
غَدٌ وَسْطَ عامٍ مَا لَهُ الدَّهْرَ قَابِلُ
كَفَانا اعْترافاً بِالفَنَاءِ وَرُقْبَةً
لِمَكْروهِهِ أَنْ لَيْسَ لِلخُلْدِ آمِلُ
اللهم ثبت محبتك في قلوبنا وثبت إيماننا ونور بصائرنا واهدنا سبل السلام وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن وألهمنا ذكرك وشكرك واعمر أوقاتنا بتلاوة كتابك وارزقنا التدبر له والعمل به في الدقيق والجليل واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
المثال الخامس للدنيا وأهلها، ما مثلها به - صلى الله عليه وسلم - كظل شجرة، والمرء مُسافر فيها إلى الله، فاستظل في ظل تلك الشجرة في يومٍ صائف، ثم راح وتركها.
فتأمل حسن هذا المثال، ومطابقته للواقع سواء، فإنها في خضرتها كشجرة، وفي سرعة انقضائها وقبضها شيئاً فشيئاً كالظل والعبد مسافر إلى ربه، والمسافر إذا رأى شجرة في يومٍ صائف لا يحسن به أن يبني تحتها داراً، ولا يتخذها قراراً، بل يستظل بها بقدر الحاجة، ومتى زاد على ذلك انقطع عن الرفاق.
المثال السادس تمثيله لها - صلى الله عليه وسلم - بمُدخل أصبعه في اليم، فالذي يرجع به أصبعه من البحر هو مثل الدنيا بالنسبة إلى الآخرة.
المثال السابع ما مثلها به - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتفق على صحته من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، قال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - جلس ذات يوم، علىالمنبر وجلسنا حوله، فقال «إن مما اخاف عليكم من بعدي ما يُفتح عليكم من زهرة الدنيا، وزينتها» فقال رجل يا رسول الله: أو يأتي الخير بالشر، فصمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
(1/281)
ثم قال: «كيف قلت؟» قال: يا رسول الله أو يأتي الخير بالشر، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الخير لا يأتي إلا بالخير، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم، إلا آكلة الخضر، أكلت حتى إذا امتلأت خاصرتاها، استقبلت الشمس فثلطت وبالت، ثم اجترت فعادت فأكلت».
فمن أخذ مالاً بحقه بورك له فيه، ومن أخذ مالاً بغير حق، فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع، فأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن مما يخاف عليهم الدنيا، وسماها زهرة، فشبهها بالزهر، في طيب رائحته وحسن منظره، وقلة بقائه.
فهذه الفقرة اليسيرة، من جوامع كلمِهِ - صلى الله عليه وسلم - ، حوت على إيجازها بشارة الصحابة الكرام بما سيكون على أيديهم، من فتح البلاد، وإخضاع العباد، وجلب الأموال الطائلة، والغنائم الكثيرة، وتحذيرهم من الغرور، والركون إلى هذه الأشياء الفانية، والأعراض الزائلة.
وضرب - صلى الله عليه وسلم - مثلين حكيمين أحدهما مثل المفرط في جمع الدنيا، والآخر مثل المقتصد فيها، أما الأول، فمثله مثل الربيع وذلك قوله فإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم، بأن يُقارب الهلاك.
فهذا المطر ماء ينزله لإغاثة الخلق وإرواء كل ذي روح فرغم فوائده الكثيرة ومنافعه الغزيرة وما يتسبب عن ذلك من إنبات العشب والكلأ، يأكل منه الحيوان فيُكثر فينتفخ بطنه، فيهلك أو يُقارب الهلاك، وكذلك الذي يُكثر من جمع المال، ويكون عنده من الجشع والشره، والحرص، ما يتجاوز به الحد، ولا سيما إذا جمع المال من غير حله، ومنع ذا الحق حقه، فإن لم يقتله قارب أن يقتله.
ولذلك كثير من أهل الأموال قتلتهم أموالهم فإنهم شرهوا في جمعها، واحتاج إليها غيرهم، فلم يصلوا إلى ذلك إلا بقتلهم، أو ما يُقارب ذلك من إذلالهم وقهرهم والضغط عليهم.
(1/282)
وأما المثال الثاني: وهو مثال المقتصد في جمع الدنيا، الطالب لحلها، فقد مثل له - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إلا آكلة الخضر»، فكأنه قال ألا انظروا آكلة الخضراء، واعتبروا بشأنها «أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها» وعظم جنباها، أقلعت سريعاً «استقبلت عين الشمس» تستمريء بذلك ما أكلت وتجتره «فثلطت» ألقت ما في بطنها من أذى سهلاً رقيقاً.
وفي قوله «استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت» ثلاث فوائد أحدها أنها لما أخذت حاجتها من المرعى تركته، وبركت مُستقبلةً عين الشمس، تستمريء، الفائدة الثانية أنها أعرضت عما يضرها من الشره في المرعى، وأقبلت على ما ينفعها، من استقبال الشمس التي يحصل لها بحرارتها إنضاج ما أكلته وإخراجه.
الثالثة: أنها استفرغت بالبول والثلط ما جمعته من المرعى في بطنها، فاستراحت بإخراجه ولو بقي فيها لقتلها، هكذا جامع المال مصلحته أن يفعل به كما فعلت هذه الشاة فتنبه لذلك أيها المُغفَّلُ الجموع المنوع.
وَإِيَّاكَ والدُّنْيَا الدَّنِِيَّةَ إِنَّهَا
هِيَ السِّحْرُ فِي تَخْيِيْلِه وَافْتِرَائِهِ
مَتَاعُ غُرُوْرٍ لاَ يَدُوْمُ سُرورُها
وَأضْغاثُ حُلْمٍ خَادِعٍ بِهَبَائِهِ
فَمَنْ أَكْرَمَتْ يَوماً أَهَانَتْ لَهُ غَداً
وَمَنْ أَضْحَكَتْ قَدْ آذنَتْ بِبُكَائِهِ
وَمَنْ تَسْقِهِ كِأْساً مِنْ الشَّهْدِ غُدْوَةً
تُجَرِّعُهُ كَأسَ الرَّدَى فِي مَسَائِهِ
وَمَن تَكْسُ تَاجَ المُلكِ تَنْزَعُهُ عَاجلاً
بأَيْدِي الْمَنَايَا أَوْ بِأَيدِي عِدَائِهِ
أَلاَ إِنَّهَا لِلمَرْءِ مِنْ أَكَبرِ العِدَا
وَيَحْسَبُهَا الْمَغْرُوْرُ مِن أَصْدِقَائِهِ
فَلَذَّاتُها مَسْمُومَةٌ وَوُعودُهَا
سَرَابٌ فَمَا الظَّامِي رَوَى مِن عَنَائِهِ
وَكَمْ فِي كِتَاب اللهِ مِنْ ذَكْرِ ذَمِّهَا
وَكَمْ ذَمَّهَا الأَخْيَارُ مِن أَصْفِيَائِهِ
فَدُونَكَ آياتِ الكِتَاب تَجِدْ بِهَا
مِن العِلْمِ مَا يَجْلُو الصَّدَا بِجَلائِهِ
(1/283)
وَمَن يَكُ جَمْعُ الْمَالِ مَبْلَغَ عِلْمِهِ
فَمَا قَلْبُهُ إِلاَّ مَرِيْضاً بِدَائِهِ
فَدَعْهَا فَإِنَّ الزُّهْدَ فِيْهَا مُحَتَّمٌ
وَإِنْ لَمْ يَقُمْ جُلُّ الوَرَى بِأَدَائِهِ
وَمَنْ لَمْ يَذَرْهَا زَاهِداً فِي حَياتِهِ
سَتَزْهَدُ فِيْهِ النَّاسُِ بَعْدَ فَنَائِهِ
فَتَتْرُكُهُ يَوْماً صَرِيْعاً بِقَبِرِه
رَهِيْناً أَسِيْراً آيِسَاً مِن وَرَائِهِ
وَيَنْسَاهُ أَهْلُوْهُ الْمُفدَّى لَدَيْهِمُ
وَتَكْسُوهُ ثَوبَ الرُّخْصِ بَعْدَ غَلائِهِ
وَيَنْتَهِبُ الوُرَّاثُ أَمْوَالَهُ الَّتِي
عَلَى جِمْعِهَا قَاسَى عَظِيمَ شَقَائِهِ
وَتُسْكِنهُ بَعدَ الشَّواهِقِ حُفْرةً
تَضِيقُ بِهِ بَعْدَ اتِّسَاعِ فَضَائِهِ
يُقِيمُ بِهَا طولَ الزمانِ وَماَلَهُ
أَنيسٌ سوى دُوْدٍ سَعَى فِي حَشَائِهِ
فَوَاهاً لَهَا من غُربةٍ ثُمَّ كُربَةٍ
وَمِن تُربَةٍ تَحٍوِي الفَتَى لِبَلائِهِ
وَمِن بَعدِ ذَا يَومُ الْحِسَابِ وِهَوْلُه
فيُجزَى بِهِ الإنْسَانُ أَوْفى جَزَائِهِ
ولاَ تنْسَ ذَكْرَ المَوتِ فَالمَوتُ غَائِبٌ
وَلاَ بُدَّ يَوماً لِلفَتَى مِنْ لِقَائِهِ
قَضَى اللهُ مَوْلانَا عَلَى الْخَلْقِ بِالفَنَا
وَلاَ بُدَّ فِيهم من نُفُوذِ قَضَائِهِ
فَخُذْ أُهبةً لِلْمَوتِ مِن عَمَلِ التُّقى
لِتَغنَمَ وَقْتَ العُمْرِ قَبْلَ انْقِضَائِهِ
ِ
وَإيَّاكَ وَالآمَالَ فَالعُمْرُ يَنْقَضِي
وَأَسْبَابُهُا مَمْدُوْدَةٌ مِن وَرَائِهِ
وَحَافِظْ عَلَى دُينِ الْهُدى فَلَعَلَّهُ
يَكونُ خِتَامَ العُمْرِ عِنْدَ انْتِهَائِهِ
فَدَوْنَك مِنِّي فاسْتَمعها نَصِيْحَةً
تُضَارِعُ لَونَ التِّبْرِِ حَالَ صَفَائِهِ
وَصَلّي عَلَى طُوْلِ الزَّمَانِ مُسَلّماً
سَلاماً يَفُوقُ الْمِسْكَ عَرْفُ شَذَائِهِ
عَلَى خَاتَمِ الرُسِلِ الكِرَامِ مُحَمَّدٍ
وَأَصحابِهِ وَالآلِ أَهل كِِسَائِهِ
وَأتبَاعِِهم فِي الدِّينِ مَا اهْتَزَّ بالرُّبَا
(1/284)
رِياضٌ سَقَاهَا طَلَّهَا بِنَدائِهِ
اللهم اجعل قلوبنا مملؤة بحبك وألسنتنا رطبة بذكرك ونفوسنا مُطيعةً لأمرك وارزقنا الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وسلم.
(موعظة)
عباد الله إن لكلمة التوحيد فضائل عظيمة لا يمكن استقصاؤها منها إنها كلمة الإسلام وإنها مفتاح دار السلام فيا ذوي العقول الصحاح ويا ذوي البصائر والفلاح جددوا إيمانكم في المساء والصباح بقول لا إله إلا الله من أعماق قلوبكم متأملين لمعناها عاملين بمقتضاها.
عباد الله ما قامت السموات والأرض ولا صحت السنة والفرض ولا نجا أحد يوم العرض إلا بلا إله إلا الله ولا جُردت سيوف الجهاد، ولا أُرسلت الرسل إلى العباد، إلا ليعلموهم العمل بلا إله إلا الله.
تالله إنها كلمة الحق، ودعوة الحق وأنها براءة من الشرك ونجاة هذا الأمر ولأجلها خلق الله الخلق، كما قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } ، وقال تعالى: { يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ } .
قال ابن عيينة رحمه الله ما أنعم الله على عبدٍ من العباد نعمةً أفضل من أن عرَّفَهُ لا إله إلا الله، وإن لا إله إلا الله لأهل الجنة كالماء البارد لأهل الدنيا ولأجلها أعدت دار الثواب، ودار العقاب ولأجلها أمرت الرسل بالجهاد.
(1/285)
فمن قالها عصم ماله ودمه، ومن أباها فماله ودمه حلال، وبها كلم الله موسى كفاحاً وهي أحسن الحسنات كما في المسند عن شداد بن أوس، وعبادة بن الصامت رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: «ارفعوا أيديكم وقولوا لا إله إلا الله»، فرفعنا أيدينا ساعة فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده وقال: «الحمد لله اللهم بعثتني بهذه الكلمة، وأمرتني بها ووعدتني الجنة وإنك لا تُخلف الميعاد».
ثم قال أبشروا، فإن الله قد غفر لكم وهي أحسن الحسنات، وهي تمحو الذنوب والخطايا.
وفي سُنن ابن ماجه عن أم هانيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا إله إلا الله لا تترك ذنباً ولا يسبقها عمل»، ورؤي بعض السلف بعد موته في المنام، فقال: «ما أبقت لا إله إلا الله شيئاً وهي تُجدد ما درس من الإيمان في القلب».
وفي المسند أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه: «جددوا إيمانكم» قالوا: كيف نُجدد إيماننا؟ قال: «قولوا لا إله إلا الله، وهي التي لا يعدلها شيء في الوزن، فلو وُزِنَتْ بالسموات والأرض لرجحت بهن».
كما في المسند عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : «أن نوحاً عليه السلام قال لابنه عند موته آمرك بلا إله إلا الله فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعن في كفة ووضعت لا إله الله بكفة لرجحت بهن ولو أن السموات السبع والأرضين كن في حلقة مُبهمة فَصَمَتْهُنَّ لا إله إلا الله».
(1/286)
وإنها ترجح بالسموات والأرض كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن موسى عليه السلام قال: «يا رب علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به، قال: يا موسى قل لا إله إلا الله. قال موسى: يا رب كل عبادك يقولون هذا قال: يا موسى قل لا إله إلا الله. قال: لا إله إلا الله، إنما أريد شيئاً تخصني به، قال: يا موسى لو أن السموات السبع والأرضين السبع وعامرهن غيري في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله».
وكذلك ترجح في صحائف الذنوب، كما في حديث السجلات، والبطاقة، وفي حديث عبد الله بن عمرو فيما أخرجه أحمد والنسائي والترمذي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وهي التي تخرق الحُجُب، حتى تصل إلى الله عز وجل، وإنها ليس لها دون الله حجاب، لما تقدم ولما في الترمذي عن عبد الله بن عمرو وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب».
وإنها تُفتح لها أبواب السماء كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما من عبدٍ قال لا إله إلا الله مُخلصاً إلا فُتحت لها أبواب السماء حتى تُفضي إلى العرش».
ويُروى عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً ما من شيء إلا بينه وبين الله حجاب، إلا قول لا إله إلا الله كما أن شفتيك لا تحجبها كذلك لا يحجبها شيء حتى تنتهي إلى الله عز وجل.
وورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : «من قال لا إله الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير مخلصاً بها قلبه يُصدق بها لسانه إلا فتق الله له السماء فتقاً حتى ينظر إلى قائلها من أهل الأرض، وحق لعبدٍ نظر الله إليه أن يُعطيه سؤاله، وهي الكلمة التي يُصدق الله قائلها».
(1/287)
كما في حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا قال العبد لا إله إلا الله والله أكبر صدقه ربه. وقال: لا إله إلا أنا، وأنا أكبر، وإذا قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له قال: الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، وإذا قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمد، قال الله: لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد، وإذا قال العبد لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال الله: لا إله إلا أنا ولا حول ولا قوة إلا بي وكان يقول: من قالها في مرضه ثم مات لم تطعمه النار».
وهي أفضل ما قاله النبيون كما ورد ذلك في دعاء عرفة وهي أفضل الذكر كما في حديث جابر المرفوع «أفضل الذكر لا إله إلا الله وعن ابن عباس رضي الله عنهما أحب كلمة إلى الله لا إله إلا الله، لا يقبل الله عملاً إلا بها».
وهي أفضل الأعمال، وأكثرها تضعيفاً وتعدل عتق الرقاب وتكون حرزاً من الشيطان، كما في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنهم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيءٍ قدير في يومٍ مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتب له مائة حسنة، ومُحي عنه مائة سيئة ولم يأت أحدٌ بأفضل مما جاء به، إلا واحد عمل أكثر من ذلك».
وورد أن من قالها عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل، وفي الترمذي عن عمر مرفوعاً من قالها إذا دخل السوق وزاد فيها يُحيي ويُميت وهو حيٌّ لا يموت بيده الخير وهو على كل شيءٍ قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحى عنه ألف سيئة ورفع له ألف ألف درجة وفي رواية يُبنى له بيتاً في الجنة.
(1/288)
ومن فضائلها أنها أمان من وحشة القبر وهول المحشر كما في المسند وغيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشةٌ في قبورهم ولا في نشورهم، وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رءوسهم ويقولون الحمد الله الذي أذهب عنا الحزن».
وفي حديثٍ مُرسل: «من قال لا إله إلا الله الملك الحق المبين كل يوم مائة مرة كانت أمانا من الفقر، وأُنساً من وحشة القبر، واستُجلب به الغنى، واستقرع به باب الجنة وهي شعار المؤمنين إذا قاموا من قبورهم».
ومن فضائلها أنها تفتح لقائلها أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء وفي الصحيحين عن عُبادة بن الصامت - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، وأن الجنة حق، والنار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء».
وفي حديث عبد الرحمن بن سمرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة منامه الطويل، وفيه قال: «رأيت رجلاً من أُمتي انتهى إلى أبواب الجنة فأُغلقت دونه، فجاءته شهادة أن لا إله إلا الله ففتحت له الأبواب وأدخلته الجنة».
ومن فضائلها أن أهلها وإن دخلوا النار بتقصيرهم في حقوقهم، فإنهم لا بد أن يخرجوا منها، وفي الصحيحين عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : «يقول الله: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله» اهـ.
(1/289)
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ولا تجعل علمنا وبالاً علينا، اللهم قوي معرفتنا بك وبأسمائك وصفاتك ونور بصائرنا ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا يا رب العالمين واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال الشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله:
رَسَائِلُ إِخْوَانِ الصَّفَا وَالتَّوَدُدِ
إِلَى كُلِّ ذِي قَلْبٍ سَلِيْمٍ مُوَحِّدِ
وَمِن بَعْدِ حَمْدَ اللهِ والشُّكر وَالثّنَا
صَلاة وَتَسْلِيْماً عَلَى خَيْرِ مُرْشِدِ
وَآَلٍ وَصَحْبٍ وَالسَّلامُ عَلَيْكَمُ
بِعَدِّ وَمِيْضِ البَرْقِ أَهْلَ التَّوَدُّدِ
وَبَعْدُ فَقَدْ طَمَّ البَلاءُ وَعَمَّنَا
مَن الْجَهْلِ بِالدِّيْنِ القَوِيْمِ الْمُحَمَّدِي
بِمَا لَيْسَ نَشْكُوْ كَشْفَهُ وَانْتِقَادَنَا
لِغَيْرِ الإله الوَاحِدِ الْمُتَفَرِّدِ
وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ النَزْرُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ
يُعَادِيْهُمُ من أَهْلِهَا كُلُّ مُعْتَدِ
فَهُبُّوا عِبَادَ اللهِ من نَومةِ الرَّدَى
إِلَى الفِقْهِ فِي أَصْلِ الْهُدَى وَالتَّجَرُّدِ
وَقَد عنَّ أَنْ نُهدي إِلَى كُلِّ صَاحِبٍ
نَضْيداً مِن الأصْلِ الأَصِيْلِ الْمُؤَطَّد
فَدُوْنَكَ مَا نُهْدِي فَهَلْ أَنْتَ قَابِلٌ
لِذَلكَ أَمْ قَدْ غِِين قَلْبُكَ بالدَّدِ
تَرُوْقُ لَكَ الدُّنْيَا وَلَذَّاتُ أَهْلِهَا
كَانَ لَمْ تَصِرْ يَوْماً إِلَى قَبْرِِ مَلحَدِ
فَإنَّ رَمت أَنْ تَنْجُوْ مِن النَّار سَالِماً
وتُحْظَى بِجَنَّاتٍ وَخُلْدٍ مُؤبَّدِ
وَرَوْحٍٍ وَرَيْحَانٍ وَأَرْفَهِ حِِبْرَةٍ
وَحُوْرٍ حِِسَانٍ كَاليَوَاقِيْتِ خُرَّدِ
فَحَقِّقْ لِتَوْحِيْدِ العِبَادَةِ مُخَلِصاً
بَأَنْوَاعِهَا للهِ قَصداً وَجَرِّدِ
وَأَفْرِدْهُ بِالتَّعْظِيمِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَا
وَبالحُبِ والرُّغبى إليه وَجَرِّدِ
وَبِالنَّذْرِ وَالذَّبْحِ الَّذِي أَنْتَ نَاسِكٌ
(1/290)
وَلاَ تَسْتَغِثْ إِلاَّ بِرَبِّكَ تَهْتَدِ
وَلاَ تَسْتَعِين إِلاَّ بِهِ وَبْحَولِه
لَهُ خَاشِياً بَل خَاشِعاً فِي التَّعَبْدِ
وَلاَ تَسْتَعِذ إِلاَّ بِِهِ لاَ بِغَيْره
وَكُنْ لائِذاً بالله فِي كُلِّ مَقْصَدِ
إِليه مُنِيْباً تَائِباً مُتَوَكِّلاً
عَلَيْهِ وَثِقْ بِاللهِ ذِيِ العَرْشِ تَرْشُدِ
وَلا تَدْعُ إِلاَّ اللهَ لاَ شَيْء غَيْرَه
فَدَاعٍ لِغَيْر اللهِ غَاوٍ وَمُعْتَدِ
وَفِي صَرْفِهَا أَو بَعْضِهَا الشِّرْكُ قَدْ أَتَى
فَجَانِبْهُ وَاحْذَرْ أَنْ تَجِيء بُمؤيِدِ
وَهَذَا الَّذِي فِيْهِ الْخُصُومَة قَدْ جَرَتْ
عَلَى عَهْدِ نُوحٍ وَالنَّبِيِّ مُحمَّدِ
وَوَحِدهُ فِي أَفْعَالِه جَلَّ ذِكْرُهُ
مُقِراً بَأنَّ اللهَ أَكْمَلُ سَيِّدِ
هُو الْخَالِقُ الْمُحْيِي الْمُمِيْتُ مُدَبِّرٌ
هُوَ الْمَالِكُ الرَّزاق فَاسأَلْهُ وَاجْتَدِ
إِلَى غَيْر ذَا من كُلِِّ أَفْعَالِهِ الَّتِي
أَقَرَّ وَلَمْ يَجْحَد بِهَا كُلِّ مُلْحِدِ
وَوَحِّدْهُ فِِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِه
وَلاَ تَتَاوَلْهَا كَرَأي الْمُفنَّدِ
فَلَيْسَ كَمْثْلِ اللهِ شَيءٌ وَلاَ لَهُ
سَمِيٌ وَقُلْ لاَ كُفْوَ للهِ تَهْتَدِ
وَذَا كُلُُّه مَعْنَى شَهَادَة أَنَّهُ
إِله الوَرَى حَقاً بِغَيْر تَرَدُّدِ
فَحَقَّق لَهَا لَفْظاً وَمَعْنىً فَإِنَّها
لَنْعمَ الرَّجَا يَومَ الِلقَا لِلمُوحّد
هِيَ العُروَةُ الوُثْقَى فَكُنْ مُتَمَسِكاً
بِهَا مُستَقِيماً فِي الطَّرِيْق الْمُحَمَّدِي
فَكُنْ وَاحِداً فِِي وَاحِدٍ وَلِوَاحِدٍ
تَعَالَى وَلاَ تُشْرِكْ بِهِ أَوْ تُندِّدِ
وَمَنْ لَمْ يُقَيِّدْهَا بِكُلِّ شُرُوْطِهَا
كَمَا قَالَه الأَعْلاَمُ مِنْ كُلِّ مُهْتَد
فَلَيْسَ عَلَى نَهْجِ الشَّرِيْعَة سَالِكاً
وَلَكِن عَلَى آَرَاءِ كُلِِّ ملدّد
فَأَوَّلُهَا الْعِلْمُ الْمُنَافِي لِضِدِّهِ
من الْجَهْل إِنْ الْجَهْلَ لَيْسَ بِمُسْعِدِ
(1/291)
فَلَو كَانَ ذَا عِلمٍ كَثِيْرٍ وَجَاهشلٌ
بِمَدْلُولِهَا يَوماً فَبِالْجَهْلِ مُرْتَدِ
وَمِن شِرطِهَا وَهُوَ القَبُولُ وَضِدُّهُ
هُوَ الرَّدُ فَافْهَمْ ذَلِكَ القَيْدَ تَرْشَدِ
كَحَالِ قُرَيْشٍ حِيْنَ لَمْ يَقْبَلُوا الْهُدَى
وَرَدُّوْهُ لَمَّا أَنْ عَتَوا فِي التَّمَرُّدِ
وَقَدْ عَلِمُوا مِنهَا الْمُرَادَ وَأَنَّهَا
تَدُلُ عَلَى تَوْحِيدِه والتَّفَرُّد
فقَالُوا كَمَا قَدْ قالَه الله عَنْهمُ
بِسُوْرَة (ص~) فَاعْلَمَن ذَاكَ تَهْتَدِ
فَصَارَت بِهِ أَمْوَالُهُم وَدِمَاؤُهُم
حَلاَلاً وَأَغْنَاماً لِكُلِّ مُوَحِّدِ
وَثَالثها الإخْلاَصُ فَأعلَم وَضِدَّهُ
هُوَ الشَّركُ بِالمَعْبُودِ مِن كُلِّ مُلْحِدِ
كَمَا أَمَرَ اللهَ الكَرِيْمُ نَبِيَّهُ
بِسُوْرَةِ تَنْزِيل الكِتَاب المُمَجَّدِ
وَرَابِعَهَا شَرْطُ الْمَحَبَّة فَلتَكُنْ
مُحباً لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ من الْهُدِ
وَإخْلاص أَنْوَاعِ العِبَادِةِ كُلِِّهَا
كذا النَّفْي للشرِكِ الْمُفنَدِ وَالددِ
وَمَن كَانَ ذَا حُبٍ لِمَوْلاَهُ إِنَّمَا
يَتِم بِحُبْ الدِّين دِيْنِ مُحَمَّدِ
فَعَادِ الَّذِي عَادَى لِدِينِ مُحمَّدٍ
وَوَالِ الَّذَِّي وَالاه مِنْ كُلِِّ مُهْتَدِ
وَاحْبَب رَسُول اللهِِ أَكْمَلَ مَنْ دَعَى
إِلَى اللهِ والتَّقْوَى وَأكمَلَ مُرشِدِ
أَحَبَّ مِن الأولادِ والنَّفْسِ بَل وَمِنْ
جَمِيْعِ الوَرَى وَالْمَالِ مِنْ كُلِّ أَتْلَدِ
وَطَارِفِهِ وَالوَالِدَيْنَ كِلَيْهِمَا
بآبَائِنَا وَالأمَّهَات فَنَفْتَدِ
وَاَحْبِبْ لِحِبّ اللهِ مَن كَانَ مُؤمِناً
وَأَبْغِض لِبُغضِ اللهِ أَهلَ التَّمَردِ
وَمَا الدِّينُ إِلاَّ الْحُبُّ وَالبُغض وَالولا
كَذاك الْبَرَا مِن كُلِّ غَاوٍ وَمُعْتَدِ
وَخَامِسُهَا فَالانقِيَادُ وَضِدُّهُ
هو التَّرك لِلمْأْمُوْرِ أَوْ فِعْلُ مُفسِِدِ
فَتَنقَادُ حَقاً بِالْحُقُوْق جَمِيْعِهَا
(1/292)
وَتَعْمَلُ بِالْمَفْرُوضِ حَتْماً وَتَقْتَدِ
وَتَتْرُكُ مَا قَدْ حَرَّمَ اللهُ طَائِعاًً
وَمُستَسْلِماً للهِ بِالقَلبِ تَرْشُدِ
فَمَنْ لَمْ يَكُن للهِ بِالقَلبِ مُسْلِماً
وَلَمْ يَك طَوْعاً بِالْجَوارِح يَنْقَد
فَلَيْسَ عَلَى نَهْجِ الشَّرِيْعَة سَالِكاً
وَإِنْ خَالَ رُشداً مَا أَتَى مِن تَعبُّدِ
وَسَادِسَهَا وَهُوَ اليَقِينُ وَضِدُّهُ
هُوَ الشَّكُ فِي الدِّين القَوِيْمِ المُحَمَّدي
وَمَنْ شَكَّ فَلْيَبْكي عَلَى رَفْضِ دِيْنَهِ
وَيَعْلَمَ أنْ قَدْ جَاءَ يَوماً بِمَوْئِدِ
وَيَعْلَمْ أَنَّ الشَّكَ يَنْفِي يَقِيْنَهَا
فَلاَ بُدَّ فِيِهَا بِاليَقِيْنَ الْمؤَكَّد
بِهَا قَلْبُهُ مُسْتَيْقناً جَاءَ ذِكْرُهُ
عَن السَّيْدِِ الْمَعْصُومِ أَكْمَلَ مُرشِدِ
وَلا تَنْفَع الْمَرء الشَّهَادَةُ فَاعْلَمَنْ
إِذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِيناً ذَا تَجَرُّدِ
وَسَابِعُهَا الصِّدْقُ الْمُنَافِي لِضِدِّهِ
مَن الكَذبِ الدَّاعي إِلَى كُلّ مُفسدِ
وعَارِفُ مَعنَاهَا إِذَا كَانَ قَابِلاً
لَهَا عَامِلاً بِالْمُقْتَضَى فَهْوَ مُهْتَدِ
وَطَابَقَ فِيْهَا قَلْبَه لِلِسَانِهِ
وَعَنْ وَاجِبَات الدِيْنِ لَمْ يَتَبَلَّدِ
وَمَنْ لَمْ تَقُمْ هَذِهِ الشُّرُوْطُ جَمِيْعُهَا
بِقَائِلِها يَوماً فلَيْسَ عَلَى الْهُدِي
إِذَا صَحَّ هَذَا وَاسْتَقَرَّ فَاِنَّمَا
حَقِيْقَتُهُ الإسْلامُ فَاعْلَمْهُ تَرْشُدِ
وَإن لَهُ – فاحْذَرْ هُدِيْتَ – نَوَاقِضاً
فَمَنْ جَاءَ مِنْهَا نَاقضاً فَلْيُجَدِّدِ
فَقَد نَقَضَ الإسْلامَ وَارْتَدَّ وَاعْتَدَى
وَزَاغَ عَن السَّمْحَاء فَلْيَتَشَهَّدِ
فَمَنْ ذَاكَ شِرْكُ فِي العِبَادَةِ نَاقِضٌ
وَذَبْحٌ لِغَيْرِ الوَاحِد الْمُتَفَرِّدِ
كَمَنْ كَانَ يَغْدُو لِلْقِبَابِ بِذَبْحِهِ
وَلِلجِنِ فَعْلَ الْمُشرِكِ الْمُتَمَرِّدِ
وَجَاعِلِ بَيْنَ اللهَ –بَغْياً– وَبَيْنَهُ
(1/293)
وَسَائِطَ يَدْعُوهُم فلَيْسَ بِمُهْتَدِ
وَيَطْلُبُ مِنْهُم بِالْخضُوع شَفَاعَةً
إِلَى اللهِ والزُلْفَى لَدَيْهِ وَيَجْتَدِ
وَثَالِثُهَا مَن لَمْ يُكَفِّرْ لِكَافِرٍ
وَمَنْ كَانَ فِي تَكْفِيْرِه ذَا تَرَدُّد
وَصَحَّحَ عَمْداً مَذْهَبَ الكُفْرِ وَالرَّدَى
وذَا كُلُّهُ كُفْرٌ بِإجْمَاعِ مَن هُدِي
وَرَابِعُهَا فَالاعْتِقَادُ بِأنَّمَا
سِوَى الْمُصْطَفَى الْهَادِي وَأَكْمَلِ مُرشِدِ
لأَحْسَن حُكْماً فِي الأمُورِ جَمِيْعِهَا
وَأَكْمَلُ من هَدْىِ النَّبِيِِّ مُحمَّدِ
كَحَالَةِ كَعْبٍ وَابن أَخْطَبَ وَالذي
عَلَى هَدْيِهِم مِن كُلّ غَاوٍ ومُعْتَدِ
وَخَامِسُهَا يَا صَاحِ مَنْ كَانَ مُبغضاً
لِشَيْءٍ أَتَى من هَدْي أَكْمَلِ سَيِّدِ
فَقَد صَارَ مُرتَداً وإنْ كَانَ عامِلاً
بِمَا هُوَ ذَا بُغْضٍ لَهُ فَلْيُجَدِّدِ
وَذَلِكَ بِالإجْمَاعِ من كُلِِّ مُهْتَدٍ
وَقَد جَاءَ نَصٌ ذِكْرُهُ فِي (مُحَمَّدِ)
وَسَادِسُهَا من كَانَ بِِالدِيْنِ هَازِئاً
وَلَو بِعِقَابِ الوَاحِدِ الْمُتَفَرِّدِ
وَحُسنُ ثَوَابِ اللهِ لِلعبد فَلَتَكُن
عَلَى حَذِرٍ من ذَلك القِيْلِ تَرْشُدِ
وَقَد جَاءَ نصٌ فِي (بَرَاءةَ) ذِِكْرُهُ
فَرَاجِعْهُ فِيْهَا عِنْدَ ذَكْرِ التَّهَدُّدِ
وَسَابِعُهَا مَنْ كَانَ لِلَسحْرِ فَاعِلاً
كَذَلك رَاضٍ فِعْلَهُ لَمْ يُفَنِّدِ
وَفِي سُوْرَة (الزَّهرَاءِ) نَصٌ مُصرِّحٌ
بِتَكْفِيرهِ فاطْلُبْه مِن ذَاكَ تَهْتَدِ
وَمِنه لَعَمْري الصَّرفُ والعَطفُ فَاعْلَمَنْ
أَخِيْ حُكْمَ هَذَا الْمُعْتَدِي الْمُتَمَرِّدِ
وَثَامِِِنُهَا وَهِيَ الْمُظَاهَرة الَّتِي
يُعَانُ بِهَا الكفارُ من كُلّ ِ مُلحِِدِ
عَلَى الْمُسْلِمِينَ الطَّائعيِنَ لِرَبِّهِم
عِياذاً بِكَ اللَّهثمَّ مِن كُلِّ مُفْسِدِ
وَمَن يَتَولَّى كَافِراً فَهُو مِثلُهُ
وَمَنْه بِلا شَكٍ بِهِ أَوْ تَرَدُّد
كَمَا قَالَه الرَّحْمن جَلَّ جَلالُهُ
(1/294)
وَجَاءَ عَن الْهَادِي النَّبِيِِّ مُحمَّدِ
وَتَاسِعُهَا وَهُوَ اعْتِقَادٌ مُضَلِّلٌ
وَصاحبُهُ لا شَكَّ بالكُفرِ مُرْتَدِ
كمُعتَقِدِ أَنْ لَيْسَ حَقاً وَوَاجِباً
عَلَيه اتَّباعُ الْمُصْطَفَى خَيْرِ مُرْشِدِ
فَمَنْ يَعْتَقد هَذَا الضَّلالً وَأَنَّهُ
يَسَعْهُ خُرُوْجٌ عَن شَرِيْعَةِ أَحْمَدِ
كَمَا كَانَ هَذَا فِي شَرِيْعَةِ مَنْ خَلاَ
كَصَاحِبِ مُوسَى حَيْثُ لَمْ يَتَقَيَّدِ
هُو الْخُضرُ الْمَقْصُوصُ فِي (الكهفِ) ذِكْرُهُ
وَمُوسَى كَلِيمُِ اللهِِ فَافْهَمْ لِمَقْصَدِ
وَهَذَا اعْتِقَادٌ لِلمَلاحِدَةِ الأولَى
مَشَايِخِ أَهْلِ الاتِّحَادِ المُفنَّدِ
كَنَحْوِ ابن سِيْنَا وَابن سبعينَ وَالَّذِي
يُسَمَّى ابْنَ رُشْدٍ وَالْحَفِيدِ المُلدَّدِ
وَشَيْخٍ كَبِيْرِ فِي الضَلالَة صَاحِبُ الْـ
ـفُصُوصِ وَمَن ضَاهَاهُمُ فِي التَّمَرَّدِ
وَعَاشِرُهَا الإعْرَاضُ عَن دِيْنِ رَبِّنَا
فَلا يَتَعَلمْهُ فَلَيسَ بِمُهْتَدِ
وَمَن لَمْ يَكُنْ يَوماً مِن الدَّهْرِ عَامِلاً
بِه فَهُوَ فِي كُفْرَانِهِ ذُوْ تَعَمُّدِ
وَلاَ فَرْقَ فِي هَذِي النَواقِضِ كُلِّهَا
إِذَا رُمْتَ أَنْ تَنْجُوْ وَلِلْحَقِّ تَهْتَدِ
هُنَالِكَ بِيْنَ الْهَزْلِ وَالْجَدِّ فَاعْلَمَنْ
وَلا رَاهِب مِنْهُم لِخَوْفِ التَّهَدُدِ
سِوُى الْمُكْرَهِ الْمَضْهُودِ أِنْ كَانَ قَدْ أَتَى
هُنالِكَ بِالشَّرْطِ الأَطِيْدِ الْمُؤَكَّدِ
وَحَاذِرْ، هَدَاكَ اللهُُ، مِنْ كُلِِّ نَاقُضٍ
سِوَاَها، وَجَانِِبْهَا جَمِيْعاً لِتَهْتَدِ
وَكُنْ بَاذِلاً لِلْجِدِّ وَالْجُهْد طَالِباً
وَسَلْ رَبَّكَ التَّثْبِيْتَ أَيَّ مُوحِّدِ
وَإِيَّاهُ فَارْغَبْ فِي الْهِدَايَةِ لِلْهُدَى
لَعَلَّكَ أَنْ تَنْجُوْ مِن النَّارِ فِي غَدِ
وَصَلِ إِلَهِي مَا تَأَلَّقَ بَارِقٌ
وَمَا وَخَدَتْ قُودٌ بِمَوْرٍ مُعبَّدِ
تَؤُمُّ إِلَى البّيْتِ العّتِيْقِ وَمَا سَرَى
(1/295)
نَسِيْمُ الصِّبَا أَوْ شَاقَ صَوْتُ المُغرِّدِ
وَمَا لاَحَ نَجْمٌ فِي دُجى اللَّيْلِِ طَافِحٌ
وَمَا انْهَلَّ صَوْبُُ فِي عَوَالٍ وَوُهَّدِ
عَلَى السَّيْدِِ الْمَعْصُومِ أَفْضَلَ مُرسَلٍ
وَأَكْرَمَ خَلْقِ اللهِ طُراً وَأَجْوَدِ
وَآلٍ وَأَصْحَابٍ وَمَن كَانَ تَابِعاً
صَلاةً دَوَاماً فِي الرَّواحِ وَفِي الغَدِ
(فصل)
في ذكر نماذج من صبر النبي - صلى الله عليه وسلم - على
الشدائد والأذى في الدعوة إلى الله
ومن تحمله - صلى الله عليه وسلم - للشدائد والأذى في الدعوة إلى الله ما ورد عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «لقد أوذيت في الله وما يُؤذى أحد، وأخفت في الله وما يُخاف أحد، ولقد أتت عليَّ ثلاثون من بين يومٍ وليلةٍ، وما لي ولبلالٍ ما يأكله ذو كبد إلا ما يُواري إبط بلالٍ» خرجه أحمد.
وعند البيهقي أن أبا طالب قال له - صلى الله عليه وسلم - : «يا ابن أخي إن قومك قد جاءوني وقالوا كذا وكذا فابق عليَّ وعلى نفسك، ولا تُحملني من الأمر ما لا أطيق أنا ولا أنت، فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك، فظن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قد بدا لعمه فيه، وأنه خاذله، ومُسلمُه، وضعف عن القيام معه.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا عم لو وضع الشمس في يميني والقمر في يساري، ما تركت هذا الأمر حتى يُظهره الله، أو أهلك في طلبه، ثم استعبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبكى، فلما ولى قال له حين رأى ما بلغ الأمر برسول الله - صلى الله عليه وسلم - : يا ابن أخي، فأقبل عليه فقال: امض لأمرك وافعل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيءٍ أبداً».
(1/296)
وأخرج البيهقي عن عبد الله بن جعفر، قال لما مات أبو طالب عرض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سفيه من سفهاء قريش فألقى عليه تراباً، فرجع إلى بيته فأتته امرأة من بناته تمسح عن وجهه التراب وتبكي، فجعل يقول: «أي بُنية لا تبكين فإن الله مانع أباك، ويقول ما بين ذلك ما نالت قريش شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب ثم شرعوا».
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة قال: لما مات أبو طالب تجهموا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: «يا عم ما أسرع ما وجدت فقدك»، وأخرج الطبراني عن الحارث بن الحارث قلت لأبي: ما هذه الجماعة؟ قال: هؤلاء قوم اجتمعوا على صابيء لهم فنزلنا فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو الناس إلى توحيد الله عز وجل والإيمان به وهم يردون عليه ويؤذونه حتى إذا انتصف النهار، وانصدع الناس عنه أقبلت امرأة قد بدا نحرها تحمل قدحاً ومنديلاً فتناوله منها فشرب، وتوضأ، ثم رفع رأسه فقال: «يا بُنية خمري عليك نحرك ولا تخافين على أبيك» قلنا من هذه قالوا: هذه زينب بنته رضي الله عنها، قال الهيثمي رجاله ثقات.
واخرج البخاري عن عروة بن الزبير عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال قلت له ما أكثر ما رأيت قريشاً أصابت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما كانت تظهر من عداوته قال: «حضرتُهم وقد اجتمع أشرافهم في الحجر».
فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل قط، سفه أحلامنا، وشتم آبائنا، وعاب ديننا، وفرق جماعاتنا، وسب آلهتنا، لقد صبرنا منه على أمرٍ عظيم، أو كما قالوا.
قال فبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقبل يمشي حتى استقبل الركن ثم مر بهم طائفاً بالبيت، فلما مر بهم غمزوه: - أي أشاروا إليه – ببعض ما يقول قال: فعرفت ذلك في وجهه.
(1/297)
ثم مضى فلما مر بهم الثانية بمثلها فعرفت ذلك في وجهه ثم مضى فلما مر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها فقال: «أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفس مُحمدٍ بيده لقد جئتكم بالذبح» فأخذت القوم كلمته، حتى ما منهم رجل إلا كأن على رأسه طائر واقع حتى إن أشدهم فيه وضاءة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول حتى ليقول انصرف يا أبا القاسم، انصرف راشداً فوالله ما كنت جهولاً.
فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم فقال بعضهم لبعض ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوثبوا عليه وثبة رجلٍ واحدٍ فأطافوا به يقولون أنت الذي تقول كذا وكذا لما كان يبلغهم من عيب آلهتهم ودينهم.
قال فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «نعم أنا الذي أقول ذلك»، قال: فلقد رأيت رجلاً منهم أخذ بمجمع ردائه، وقام أبو بكر - رضي الله عنه - دونه يقول وهو يبكي: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، ثم انصرفوا عنه فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشاً بلغت منه قط.
وأخرج أبو يعلى عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال لقد ضربوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرة حتى غُشي عليه، فقام أبو بكر - رضي الله عنه - فجعل يُنادي ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، فقالوا: من هذا؟ فقالوا: أبو بكر المجنون.
وفي الحديث الذي أخرجه أبو يعلى عن أسماء بنت أبي بكر أن المشركين لهوا بأبي بكر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقبلوا عليه قالت: فرجع إلينا أبو بكر فجعل لا يمس شيئاً من غدائره – أي جدائله إلا جاء معه، وهو يقول تباركت يا ذا الجلال والإكرام.
(1/298)
وأخرج البزار في مُسنده عن محمد بن عقيل عن علي - رضي الله عنه - أنه خطبهم فقال: يا أيها الناس من أشجع الناس، فقالوا أنت يا أمير المؤمنين، فقال: أما أنا ما بارزني أحد إلا انتصفت منه، ولكن هو أبو بكر - رضي الله عنه - إنا جعلنا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - عريشاً فقلنا من يكون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لئلا يهوي إليه أحد من المشركين فوالله ما دنا منا أحدٌ إلا أبو بكر - رضي الله عنه - شاهراً بالسيف على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يهوِي إليه أحدٌ إلا أهوى إليه فهذا أشجع الناس.
قال: ولقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأخذته قريش فهذا يُحاده وهذا يُتلتله ويقولون أنت جعلت الآلهة إلهاً واحداً فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر يضرب هذا ويُجاهد هذا ويُتلتل هذا، وهو يقول ويلكم أتقتلون رجلاً يقول ربي الله.
ثم رفع علي بُردة كانت عليه فبكى حتى أخضل لحيته، ثم قال أنشدكم الله أمؤمن آل فرعون خير أم هو، فسكت القوم، فقال علي - رضي الله عنه - ، فوالله لساعة من أبي بكر خيرٌ من ملء الأرض من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه، وهذا رجل أعلن إيمانه الحديث.
اللهم يسر لنا سبيل الأعمال الصالحات وهيئ لنا من أمرنا رشداً واجعل معونتك العظمى لنا سنداً واحشرنا إذا توفيتنا مع عبادك الصالحين الذين لا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون، واغفر لنا ولوالدينا وجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
(فصل)
أخرج البخاري عن عروة - رضي الله عنه - قال: سألت ابن أبي العاص - رضي الله عنه - فقلت: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال: بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يُصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عليه عُقبة ابن أبي مُعيط فوضع ثوبه على عُنقه فخنقه خنقاً شديداً.
(1/299)
فأقبل أبو بكر - رضي الله عنه - حتى أخذ بمنكبه، ودفعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقال: { أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ } الآية.
وعند ابن أبي شيبة عن عُروة بن العاص - رضي الله عنه - قال: ما رأيت قريشاً أرادوا قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا يوماً ائتمروا به وهم جلوس في ظل الكعبة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلي عند المقام، فقام إليه عُقبة بن أبي مُعيط فجعل رداءه في عنقه ثم جذبه حتى وجب لركبتيه ساقطاً، وتصايح الناس فظنوا أنه مقتول.
فأقبل أبو بكر - رضي الله عنه - يشتد حتى أخذ بضبعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من ورائه وهو يقول: { أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ } الحديث.
وأخرج البزار والطبراني عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد وأبو جهل وشيبة وعُتبة أبناء ربيعة وعُقبة بن أبي مُعيط وأمية بن خلف ورجلان آخران كانوا سبعة، وهم في الحجر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلي فلما سجد أطال السجود.
فقال أبو جهل: أيكم يأتي جزور بني فلان فيأتينا بفرثها فنكفئه على محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فانطلق أشقاهم عُقبة بن أبي مُعيط فأتى به فألقاه على كتفيه - صلى الله عليه وسلم - وهو ساجد قال ابن مسعود: وأنا قائم لا أستطيع أن أتكلم، ليس عندي منعةٌ تمنعني، إذ سمعت فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقبلت حتى ألقت ذلك عن عاتقه.
ثم استقبلت قريشاً تسبهم فلم يرجعوا إليها شيئاً، ورفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه كما كان يرفع عند تمام السجود، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته، قال: «اللهم عليك بقريش ثلاثاً، عليك بعُتبة، وعُقبة، وأبي جهل وشيبة».
(1/300)
ثم خرج من المسجد فلقيه أبو البختري بسوط يتخصر به، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر وجهه فقال: ما لك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «خل عني» قال: علم الله لا أخلي عنك، أو تخبرني ما شأنك، فلقد أصابك شيءٌ، فلما علم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه غير حملٍ عنه أخبره.
فقال إن أبا جهل أمر فطرح على الفرث، فقال أبو البختر هلم إلى المسجد فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو البختر فدخلا المسجد.
ثم أقبل أبو البختري إلى أبي جهل فقال: يا أبا الحكم أنت الذي أمرت بمحمد فطُرح عليه الفرث، قال: نعم، قال: فرفع السوط فضر به رأسه قال: فثار الرجال بعضهم إلى بعض، قال: وصاح أبو جهل: ويحكم هي له إنما أراد محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يُلقي بيننا العداوة، وينجو هو وأصحابه الحديث.
وأخرج الطبراني عن يعقوب بن عُتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق حليف بني زهرة مُرسلاً، أن أبا جهل اعترض لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصفا فآذاه.
وكان حمزة - رضي الله عنه - صاحب قنص، وصيد، وكان يومئذٍ في قنصه، فلما رجع قالت له امرأته وكانت قد رأت ما صنع أبو جهل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، يا أبا عمارة لو رأيت ما صنع تعني أبا جهل بابن أخيك، فغضب حمزة - رضي الله عنه - ومضى كما هو قبل أن يدخل بيته.
وهو مُعلق قوسه في عنقه حتى دخل المسجد فوجد أبا جهل في مجلس من مجالس قريش فلم يُكلمه حتى علا رأسه بقوسه، فشجه فقام رجال من قريش إلى حمزة يمسكونه عنه، فقال حمزة ديني دين مُحمد - صلى الله عليه وسلم - أشهد أنه رسول الله، فوالله لا أنثني عن ذلك، فامنعوني من ذلك إن كنتم صادقين.
فلما أسلم حمزة - رضي الله عنه - ، عز به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون، وثبت لهم بعض أمرهم، وهابت قريش وعلموا أن حمزة - رضي الله عنه - سيمنعه، قال الهيثمي ورجاله ثقات.
(1/301)
وأخرج أبو نعيم في دلائل النبوة عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما قال ومات أبو طالب وازداد من البلاء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشدة، فعمد إلى ثقيف يرجو أن يؤووه وينصروه، فوجد ثلاثة نفر منهم، سادة ثقيف، وهم أخوة عبد ياليل بن عمرو، وحبيب ابن عمر، ومسعود بن عمرو، فعرض عليهم نفسه، وشكا إليهم البلاء، وما انتهك قومه منه.
فقال أحدهم: أنا أسرق ثياب الكعبة إن كان الله بعثك بشيءٍ قط، وقال آخر: والله لا أكلمك بعد مجلسك هذا كلمة واحدة أبداً لإن كنت رسولاً لأنت أعظم شرفاً وحقاً من أن أكلمك، وقال الآخر: أعجز الله أن يُرسل غيرك.
وأفشوا ذلك في ثقيف الذي قال لهم واجتمعوا يستهزؤون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقعدوا له صفين على طريقه، فأخذوا بأيديهم الحجارة فجعل لا يرفع رجله ولا يضعها إلى رضخوها بالحجارة وهم في ذلك يستهزؤون ويسخرون.
فلما خلص من صفيهم وقدماه تسيلان بالدماء، عمد إلى حائط من كرومهم فأتى حبلة من الكرم فجلس في أصلها مكروباً موجعاً تسيل قدماه الدماء فإذا في الكرم عُتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة فلما أبصرهما كره أن يأتيهما لما علم من عداوتهما لله ولرسوله وبه الذي به فأرسلا إليه غلامهما عداساً بعنب وهو نصراني من أهل نينوى، فلما أتاه وضع العنب بين يديه.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «بسم الله» فعجب عداس، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «من أي أرضٍ أنت يا عداس؟» قال: أنا من أهل نينوى.
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «من أهل مدينة الرجل الصالح يونس بن متى»، فقال له عداس: وما يدريك من يونس بن متى، فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شأن يونس ما عرف.
والله أعلم وصلى الله على مُحمدٍ وآله وسلم.
الفهرس
الموضوع ... صفحة
خطبة الكتاب ... 3
الفصل الأول في شهر رمضان ... 5
الفصل الأول في التوبة من المعاصي ... 13
الفصل الثاني ... 18
الفصل الثالث ... 22
الفصل الرابع ... 26
(1/302)
الفصل الخامس ... 30
الفصل السادس ... 34
موعظة ... 37
الفصل السابع ... 40
موعظة خطبة عمر بن عبد العزيز ... 47
الفصل الثامن ... 49
الحث على صيانة الوقت وصرفه فيما فيه النفع ... 49
فصل - حكم صوم رمضان ... 53
فصل - حكم صوم التطوع بنية من النهار ... 59
فصل - فيمن يُباح له الفطر ومن يجب عليه ... 61
موعظة ... 62
فصل - ذكر أشياء تُحرم على الصائم ويفطر بها ... 64
موعظة ... 67
فصل - بعض فوائد الصيام ... 70
فصل - ذكر أشياء تخفى على بعض الناس ... 74
فصل - في بيان أنواع الكذب ... 79
فصل - في التحذير من الغيبة ... 81
فصل - وأسباب الغيبة أحد عشر ... 86
فصل - النظر إلى المرأة الأجنبية ... 89
فصل - عن شيخ الإسلام رحمه الله ... 93
موعظة ... 95
فصل - فيما يُستحب أن يقوله أو يفعله ... 98
فصل - في أحكام القضاء ... 105
فائدة ... 106
فصل - محاسن الصيام ... 107
موعظة ... 109
فصل - في صلاة التراويح ... 111
فصل - صفة أو كيفية صلاة التراويح ... 115
فائدة - قال ابن القيم رحمه الله ... 117
فصل - ما يُستحب في صلاة التراويح ... 119
فصل - في صلاة الوتر ... 123
فصل - ما يُستحب أن يُقرأ في الركعة الأولى ... 127
كتاب الفضائل ... 131
موعظة ... 134
ليلة القدر فضائلها وعلامتها ... 137
فصل - في ذكر بعض الأدعية الواردة ... 142
موعظة ... 150
فصل - في زكاة الفطر ... 152
فصل - عن عزم رحيل شهر رمضان ... 159
فصل - في تلاوة القرآن الكريم ... 163
فصل - عن سجود سجدة القرآن ... 167
فصل - ما ورد في فضل القرآن وتفهمه ... 169
موعظة ... 171
فصل - ما ورد في عظم فضل بعض السور ... 172
فصل - ينبغي الخشوع والخشية والبكاء عند تلاوة كتاب الله تعالى ... 175
فصل - ما ورد في تعاهد القرآن الكريم ... 180
فصل ... 187
فصل - لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب ... 192
فصل - في رده على محكمي القوانين ... 194
فصل - في فضائل ذكر الله ... 200
فصل - الذاكرون لله كثيراً والذاكرات ... 203
فصل - من فوائد الذكر أيضاً ما ذكره ابن القيم رحمه الله ... 209
فصل ... 212
فصل - في فضائل الاستغفار ... 221
فصل- في أحكام الاعتكاف في المسجد ... 230
(1/303)
فصل - في بناء المساجد وآدابها ... 235
فصل- يسن أن يصان المسجد ... 238
فصل - ينبغي تجنيب المساجد البيع والشراء ... 240
فصل - حرمة المبالغة في زخرفة المساجد ... 242
فصل - في الأيام التي يُسن أو يُكره صيامها ... 244
فصل - في بيان الأيام التي يكره أو يحرم صيامها - النهي عن التشبه بالغير ... 248
فصل - في الحث على تقوى الله عز وجل ... 253
وصف المؤمن المتقي - الإمام علي رضي الله عنه ... 255
31 - كتاب الزكاة ... 265
فصل - وأما زكاة الخارج ... 270
موعظة ... 272
33 - فصل في بيان مصارف الزكاة ... 273
موعظة ... 276
34 - فصل فيما ورد من الوعيد الشديد على ترك الزكاة ... 280
فصل - وعن جابر - رضي الله عنه - ... 283
موعظة ... 287
موعظة - قال ابن القيم رحمه الله ... 291
فصل - في بعض آداب الزكاة ... 298
موعظة ... 301
التحذير من أخذ الصدقة لمن لا تحل له ... 301
موعظة ... 305
فصل - عن عون بن مالك الأشجعي ... 308
موعظة ... 310
فصل - في صدقة التطوع ... 314
فصل - روى البخاري «أيكم ماله وارثه أحب إليه من ماله» ... 321
3 - بيان عظم ثواب الصدقة في شهر رمضان وفي الحرمين ... 322
4 - فصل - الأولوية في الصدقة للأقرباء والجار وطلاب الْعِلْم ... 323
موعظة ... 324
فصل - في ذكر طرف من الفوائد المترتبة على أداء الزكاة ... 327
موعظة ... 333
موعظة في التحذير عن الانهماك في الدنيا ولذاتها وشهواتها ... 336
فصل - القسم الثاني من الناس جهال عمي البصائر ... 339
فصل - عن عيسى ابن مريم وحديثه حب الدنيا أصل كل خطيئة ... 345
فصل ... 350
فصل - المثال الثالث ... 356
فصل - المثال الخامس ... 359
موعظة ... 364
شعر للشيخ سليمان بن سحمان رحمه الله ... 369
نماذج من سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - على الشدائد ... 379
الفهرس ... 387
(1/304)