أصول الحوار وآدابه في الإسلام
بقلم فضيلة الشيخ
صالح بن عبدالله بن حميد
توطئة :
أحمد الله تبارك وتعالى ، وأصلي وأسلم على رسوله وخيرته من خلقه ، ومصطفاه من رسله سيدنا محمد رسول الله ، بعثه بالحق بشيراً ونذيراً ، فبلغ الرسالة ، وأَدّى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجعلنا على المحجة البيضاء ، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ، صلى الله وسلم وبارك عليه ، وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وعلى أصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد :
أيها الأخوة :
هذه كلمات في أدب الحوار مُشتمِلَةٌ العناصر التالية : تعريف الحوار وغايته ، ثم تمهيد في وقوع الخلاف في الرأي بين الناس ، ثم بيان لمُجمل أصول الحوار ومبادئه ، ثم بسط لآدابه وأخلاقياته .
سائلاً المولى العلي القدير التسديد والقبول ..
تعريف :
الحوار : من المُحاورة ؛ وهي المُراجعة في الكلام .
الجدال : من جَدَلَ الحبل إذا فَتَلَه ؛ وهو مستعمل في الأصل لمن خاصم بما يشغل عن ظهور الحق ووضوح الصواب ، ثم استعمل في مُقابَلَة الأدلة لظهور أرجحها .
والحوار والجدال ذو دلالة واحدة ، وقد اجتمع اللفظان في قوله تعالى : { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } (المجادلة:1)
ويراد بالحوار والجدال في مصطلح الناس : مناقشة بين طرفين أو أطراف ، يُقصد بها تصحيح كلامٍ ، وإظهار حجَّةٍ ، وإثبات حقٍ ، ودفع شبهةٍ ، وردُّ الفاسد من القول والرأي .(1/1)
وقد يكون من الوسائل في ذلك : الطرق المنطقية والقياسات الجدليَّة من المقدّمات والمُسلَّمات ، مما هو مبسوط في كتب المنطق وعلم الكلام وآداب البحث والمناظرة وأصول الفقة (1) 1 ) .
غاية الحوار :
الغاية من الحوار إقامةُ الحجة ، ودفعُ الشبهة والفاسد من القول والرأي . فهو تعاون من المُتناظرين على معرفة الحقيقة والتَّوصُّل إليها ، ليكشف كل طرف ما خفي على صاحبه منها ، والسير بطرق الاستدلال الصحيح للوصول إلى الحق . يقول الحافظ الذهبي : ( إنما وضعت المناظرة لكشف الحقِّ ، وإفادةِ العالِم الأذكى العلمَ لمن دونه ، وتنبيهِ الأغفلَ الأضعفَ ) (2) .
هذه هي الغاية الأصلية ، وهي جليَّة بيِّنة ، وثَمَّت غايات وأهداف فرعية أو مُمهِّدة لهذا الغاية منها :
إيجاد حلٍّ وسط يُرضي الأطراف .
التعرُّف على وجهات نظر الطرف أو الأطراف الأخرى ، وهو هدف تمهيدي هام .
البحث والتنقيب ، من أجل الاستقصاء والاستقراء في تنويع الرُّؤى والتصورات المتاحة ، من أجل الوصول إلى نتائج أفضل وأمْكَنَ ، ولو في حوارات تالية .
وقوع الخلاف بين الناس :
الخلاف واقع بين الناس في مختلف الأعصار والأمصار ، وهو سنَّة الله في خلقه ، فهم مختلفون في ألوانهم وألسنتهم وطباعهم ومُدركاتهم ومعارفهم وعقولهم ، وكل ذلك آية من آيات الله ، نبَّه عليه القرآن الكريم في قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ } (الروم:22)
__________
(1) 1 ) - جع في التعريف : تعريفات الجرجاني : مادة ( جدل ) . والمصباح المنير مادتي : حور وجدل .
(2) - راجع شرح المواهب للزرقاني 5 / 390 .(1/2)
وهذا الاختلاف الظاهريّ دالُّ على الاختلاف في الآراء والاتجاهات والأعراض . وكتاب الله العزيز يقرر هذا في غير ما آية ؛ مثل قوله سبحانه : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } (هود:119) .
يقول الفخر الرازي : ( والمراد اختلاف الناس في الأديان والأخلاق والأفعال ) .
ومن معنى الآية : لو شاء الله جعل الناس على دين واحد بمقتضى الغريزة والفطرة .. لا رأي لهم فيه ولا اختيار .. وإِذَنْ لما كانوا هذا النوع من الخلق المُسمّى البشر ؛ بل كانوا في حيلتهم الاجتماعية كالنحل أو كالنمل ، ولكانوا في الرّوح كالملائكة ؛ مفطورين على اعتقاد الحقِّ والطاعة ؛ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، لا يقع بينهم اختلاف ولا تنازع . ولكنّ الله خلقهم بمقتضى حكمته كاسبين للعلم لا مُلْهَمين . عاملين بالاختيار ، وترجيح بعض المُمْكنات المتعارضات على بعض ؛ لا مجبورين ولا مضطرين . وجعلهم متفاوتين في الاستعداد وكسب العلم واختلاف الاختيار .
أما قوله تعالى : { وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } (هود:119) .
فلتعلموا أن اللام ليست للغاية ؛ فليس المُراد أنه سبحانه خلقهم ليختلفوا ، إذ من المعلوم أنه خلقهم لعبادته وطاعته . وإنما اللام للعاقبة والصَّيْرورة ؛ أي لثمرة الاختلاف خلقهم ، وثمرته أن يكونوا فريقين : فريقاً في الجنة ، وفريقاً في السعير .
وقدّ تُحْملُ على التعليل من وجه آخر ، أي خلقهم ليستعدَّ كلٌ منهم لشأنٍ وعمل ، ويختار بطبعه أمراً وصنعة ، مما يَسْتَتِبُّ به نظام العالم ويستقيم به أمر المعاش ، فالناس محامل لأمر الله ، ويتخذ بعضهم يعضاً سخرياً (1) .
__________
(1) - راجع روح المعاني مجلد 4 جزء 12 ص 164 . تفسير القاسمي جزء 9 ص 182 .(1/3)
خلقوا مستعدين للاختلاف والتفرق في علومهم ومعارفهم وآرائهم ومشاعرهم ، وما يتبع ذلك من إراداتهم واختيارهم في أعمالهم ، ومن ذلك الإيمان ، والطاعة والمعصية (1) .
وضوح الحق وجلاؤه :
وعلى الرغم من حقيقة وجود هذا التَّبايُن بين الناس ؛ في عقولهم ومُدركاتهم وقابليتهم للاختلاف ، إلا أن الله وضع على الحقِّ معالمَ ، وجعل على الصراط المستقيم منائرَ .. وعليه حُمِلَ الاستثناء في الآية في قوله : { إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } (هود:119) .
وهو المنصوص عليه في الآية الأخرى في قوله : { فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ } (البقرة:213) .
وذلك أن النفوس إذا تجرَّدت من أهوائها ، وجدَّت في تَلَمُّس الحقِّ فإنها مَهْديَّةٌ إليه ؛ بل إنّ في فطرتها ما يهديها ، وتأمَّل ذلك في قوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ } (الروم:30) .
ومنه الحديث النبوي : (( ما من مولود إلا يُولدُ على الفِطْرة ، فأبواه يُهوّدانه ، ويُنَصِّرانه ، ويُمجِّسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تُحِسّون فيها من جَدْعاء حتى أنتم تجدعونها ؟ )) .
__________
(1) - تفسير المنار جزء 12 ص 194 .(1/4)
ويُوضح ذلك ، أن أصول الدين ، وأمَّهات الفضائل ، وأمَّهات الرذائل ، مما يتفق العالم الرشيد العاقل على حُسْن محموده وحمده ، والاعتراف بعظيم نفعه ، وتقبيح سيِّئه وذمِّه . كل ذلك في عبارات جليَّة واضحة ، ونصوصِ بينِّة لا تقبل صرفاً ولا تأويلاً ولا جدلاً ولا مراءاً . وجعلها أمّ الكتاب التي يدور عليها وحولها كل ما جاء فيه من أحكام ، ولم يُعذَرْ أحد في الخروج عليها ، وحَذَّر من التلاعب بها ، وتطويعها للأهواء والشهوات والشبهات بتعسف التأويلات والمُسوِّغات ، مما سنذكره كأصل من أصول الحوار ، ورفع الحرج عنهم ، بل جعل للمخطيء أجراً وللمصيب أجرين تشجيعاً للنظر والتأمل ، وتَلَمُّس الحقّ واستجلاء المصالح الراجحة للأفراد والجماعات . ولربك في ذلك الحكمة البالغة والمشيئة النافذة .
مواطن الاتفاق :
إنّ بِدْءَ الحديث والحوار بمواطن الاتفاق طريق إلى كسب الثقة وفُشُوِّ روح التفاهم . ويصير به الحوار هادئاً وهادفاً .
الحديث عن نقاط الاتفاق وتقريرها يفتح آفاقاً من التلاقي والقبول والإقبال ، مما يقلّل الجفوة ويردم الهُوَّة ويجعل فرص الوفاق والنجاح أفضل وأقرب ، كما يجعل احتمالات التنازع أقل وأبعد .
والحال ينعكس لو استفتح المُتحاورون بنقاط الخلاف وموارد النزاع ، فلذلك يجعل ميدان الحوار ضيقاً وأمده قصيراً ، ومن ثم يقود إلى تغير القلوب وتشويش الخواطر ، ويحمل كل طرف على التحفُّز في الرد على صاحبه مُتتبِّعاً لثغراته وزَلاته ، ومن ثم ينبري لإبرازها وتضخيمها ، ومن ثم يتنافسون في الغلبة أكثر مما يتنافسون في تحقيق الهدف .
ومما قاله بعض المُتمرّسين في هذا الشأن :
دَعْ صاحبك في الطرف الآخر يوافق ويجيب بـ ( نعم ) ، وحِلْ ما استطعت بينه وبين ( لا ) ؛ لأن كلمة ( لا ) عقبة كؤود يصعب اقتحامها وتجاوزها ، فمتى قال صاحبك : ( لا ) ؛ أوجَبَتْ عليه كبرياؤه أن يظلّ مناصراً لنفسه .(1/5)
إن التلفظ بـ ( لا ) ليس تفوُّها مجرداً بهذين الحرفين ، ولكنه تَحفُّز لكيان الإنسان بأعصابه وعضلاته وغدده ، إنه اندفاع بقوة نحو الرفض ، أما حروف ( نعم ) فكلمة سهلة رقيقة رفيقة لا تكلف أي نشاط جسماني (1) .
ويُعين على هذا المسلك ويقود إليه ؛ إشعارك مُحدثَّك بمشاركتك له في بعض قناعاته ؛ والتصريح بالإعجاب بأفكاره الصحيحة وأدلته الجيدة ومعلوماته المفيدة ، وإعلان الرضا والتسليم بها . وهذا كما سبق يفتح القلوب ويُقارب الآراء ، وتسود معه روح الموضوعية والتجرد .
وقد قال علماؤنا : إن أكثر الجهل إنما يقع في النفي ؛ الذي هو الجحود والتكذيب ؛ لا في الإثبات ، لأن إحاطة الإنسان بما يُثْبتُه أيسر من إحاطته بما ينفيه ؛ لذا فإن أكثر الخلاف الذي يُورث الهوى نابع ؛ من أن كل واحد من المختلفين مصيب فيما يُثْبته أو في بعضه ، مخطيء في نفي ما عليه الآخر (2) .
أصول الحوار :
الأصل الأول :
سلوك الطرق العلمية والتزامها ، ومن هذه الطرق :
تقديم الأدلة المُثبِتة أو المرجِّحة للدعوى .
صحة تقديم النقل في الأمور المنقولة .
وفي هذين الطريقين جاءت القاعدة الحوارية المشهورة : ( إن كنت ناقلاً فالصحة ، وإن كنت مدَّعيّاً فالدليل ) .
وفي التنزيل جاء قوله سبحانه : { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } وفي أكثر من سورة :البقرة :111 ، والنمل 64 . { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي } (الانبياء:24) . { قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (آل عمران:93) .
الأصل الثاني :
... سلامة كلامِ المناظر ودليله من التناقض ؛ فالمتناقض ساقط بداهة .
ومن أمثلة ذلك ما ذكره بعض أهل التفسير من :
__________
(1) - أصول الحوار ص 46 .
(2) - تنبيه أولى الأبصار د. صالح السحيمي ص 28 بتصرف .(1/6)
1- وصف فرعون لموسى عليه السلام بقوله : { سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } (الذريات:39) .
وهو وصف قاله الكفار – لكثير من الأنبياء بما فيهم كفار الجاهلية – لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم . وهذان الوصفان السحر والجنون لا يجتمعان ، لأن الشأن في الساحر العقل والفطنة والذكاء ، أما المجنون فلا عقل معه البته ، وهذا منهم تهافت وتناقض بيّن .
2- نعت كفار قريش لآيات محمد صلى الله عليه وسلم بأنها سحر مستمر ، كما في قوله تعالى : { وَإِنْ يَرَوْا آيَةً
يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ } (القمر:2) .
وهو تناقض ؛ فالسحر لا يكون مستمراً ، والمستمر لا يكون سحراً .
الأصل الثالث :
... ألا يكون الدليل هو عين الدعوى ، لأنه إذا كان كذلك لم يكن دليلاً ، ولكنه اعادة للدعوى بألفاظ وصيغ أخرى . وعند بعض المُحاورين من البراعة في تزويق الألفاظ وزخرفتها ما يوهم بأنه يُورد دليلاً . وواقع الحال أنه إعادة للدعوى بلفظ مُغاير ، وهذا تحايل في أصول لإطالة النقاش من غير فائدة .
الأصل الرابع :
الاتفاق على منطلقات ثابتة وقضايا مُسَلَّمة . وهذه المُسَلَّمات والثوابت قد يكون مرجعها ؛ أنها عقلية بحتة لا تقبل النقاش عند العقلاء المتجردين ؛ كحُسْنِ الصدق ، وقُبحِ الكذب ، وشُكر المُحسن ، ومعاقبة المُذنب .
أو تكون مُسَلَّمات دينية لا يختلف عليها المعتنقون لهذه الديانة أو تلك .
وبالوقوف عند الثوابت والمُسَلَّمات ، والانطلاق منها يتحدد مُريد الحق ممن لا يريد إلا المراء والجدل والسفسطة .
ففي الإسلام الإيمان بربوبية الله وعبوديَّته ، واتَّصافه بصفات الكمال ، وتنزيهه عن صفات النقص ، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، والقرآن الكريم كلام الله ، والحكم بما أنزل الله ، وحجاب المرأة ، وتعدد الزوجات ، وحرمة الربا ، والخمر ، والزنا ؛ كل هذه قضايا مقطوع بها لدى المسلمين ، وإثباتها شرعاً أمر مفروغ منه .(1/7)
إذا كان الأمر كذلك ؛ فلا يجوز أن تكون هذه محل حوار أو نقاش مع مؤمن بالإسلام لأنها محسومة .
فقضية الحكم بما أنزل الله منصوص عليها بمثل : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ... } (النساء:65) . { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } (المائدة:45) .
وحجاب المرأة محسوم بجملة نصوص :
{ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ } (الأحزاب:59) .
... وقد يسوغ النقاش في فرعيات من الحجاب ؛ كمسألة كشف الوجه ، فهي محل اجتهاد ؛ أما أصل الحجاب فليس كذلك .
الربا محسوم ؛ وقد يجري النقاش والحوار في بعض صوره وتفريعاته .
ومن هنا فلا يمكن لمسلم أن يقف على مائدة حوار مع شيوعي أو ملحد في مثل هذه القضايا ؛ لأن النقاش معه لا يبتدئ من هنا ، لأن هذه القضايا ليست عنده مُسَلَّمة ، ولكن يكون النقاش معه في أصل الديانة ؛ في ربوبيَّة الله ، وعبوديَّة ونبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، وصِدْق القرآن الكريم وإعجازه .
ولهذا فإننا نقول إن من الخطأ – غير المقصود – عند بعض المثقفين والكاتبين إثارة هذه القضايا ، أعني : تطبيق الشريعة – الحجاب – تعدد الزوجات – وأمثالها في وسائل الإعلام ، من صحافة وإذاعة على شكل مقالات أو ندوات بقصد إثباتها أو صلاحيتها . أما إذا كان المقصود : النظر في حِكَمِها وأسرارها وليس في صلاحيتها وملاءمتها فهذا لا حرج فيه ، إذْ :{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ }(الأحزاب:36)
وأخيراً فينبني على هذا الأصل ؛ أن الإصرار على إنكار المُسلَّمات والثوابت مكابرة قبيحة ، ومجاراة منحرفة عن أصول الحوار والمناظرة ، وليس ذلك شأن طالبي الحق .(1/8)
الأصل الخامس :
التجرُّد ، وقصد الحق ، والبعد عن التعصب ، والالتزام بآداب الحوار :
إن إتباع الحق ، والسعي للوصول إليه ، والحرص على الالتزام ؛ وهو الذي يقود الحوار إلى طريق مستقيم لا عوج فيه ولا التواء ، أو هوى الجمهور ، أو الأتْباع .. والعاقل – فضلاً عن المسلم – الصادق طالبٌ حقٍّ ، باحثٌ عن الحقيقة ، ينشد الصواب ويتجنب الخطأ .
يقول الغزاليّ أبو حامد : ( التعاون على طلب الحق من الدّين ، ولكن له شروط وعلامات ؛ منها أن يكون في طلب الحق كناشد ضالّة ، لا يفرق بين أن تظهر الضالّة على يده أو على يد معاونه . ويرى رفيقه معيناً لا خصماً . ويشكره إذا عرَّفه الخطأ وأظهره له ) .. الإحياء ج1 .
ومن مقولات الإمام الشافعي المحفوظة : ( ما كلمت أحداً قطّ إلا أحببت أن يُوفّق ويُسدّد ويُعان ، وتكون عليه رعاية الله وحفظه .
وما ناظرني فبالَيْتُ ! أَظَهَرَتِ الحجّةُ على لسانه أو لساني ) .
وفي ذمّ التعصب ولو كان للحق ، يقول الغزالي :
( إن التعصّب من آفات علماء السوء ، فإنهم يُبالغون في التعصّب للحقّ ، وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار ، فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة ، وتتوفر بواعثهم على طلب نُصرة الباطل ، ويقوى غرضهم في التمسك بما نُسبوا إليه . ولو جاؤوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة ، لا في معرض التعصب والتحقير لأنجحوا فيه ، ولكن لمّا كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع ، ولا يستميل الأتْباع مثلُ التعصّب واللعن والتّهم للخصوم ، اتخذوا التعصب عادتهم وآلتهم ) (1) .
والمقصود من كل ذلك أن يكون الحوار بريئاً من التعصّب خالصاً لطلب الحق ، خالياً من العنف والانفعال ، بعيداً عن المشاحنات الأنانية والمغالطات البيانيّة ، مما يفسد القلوب ، ويهيج النفوس ، ويُولد النَّفرة ، ويُوغر الصدور ، وينتهي إلى القطيعة .
__________
(1) - الاحياء ج 1 .(1/9)
وهذا الموضوع سوف يزداد بسطاً حين الحديث عن آداب الحوار إن شاء الله .
الأصل السادس :
أهلية المحاور :
إذا كان من الحق ألا يمنع صاحب الحق عن حقه ، فمن الحق ألا يعطى هذا الحق لمن لا يستحقه ، كما أن من الحكمة والعقل والأدب في الرجل ألا يعترض على ما ليس له أهلاً ، ولا يدخل فيما ليس هو فيه كفؤاً .
من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من كان على الباطل .
من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يعرف الحق .
من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يجيد الدفاع عن الحق .
من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من لا يدرك مسالك الباطل .
إذن ، فليس كل أحد مؤهلاً للدخول في حوار صحي صحيح يؤتي ثماراً يانعة ونتائج طيبة .
والذي يجمع لك كل ذلك : ( العلم ) ؛ فلا بد من التأهيل العلمي للمُحاور ، ويقصد بذلك التأهيل العلمي المختص .
إن الجاهل بالشيء ليس كفؤاً للعالم به ، ومن لا يعلم لا يجوز أن يجادل من يعلم ، وقد قرر هذه الحقيقة إبراهيم عليه السلام في محاجَّته لأبيه حين قال :{ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً}(مريم:43).
وإن من البلاء ؛ أن يقوم غير مختص ليعترض على مختص ؛ فيُخَطِّئه ويُغَلِّطه .
وإن حق من لا يعلم أن يسأل ويتفهم ، لا أن يعترض ويجادل بغير علم ، وقد قال موسى عليه السلام للعبد الصالح :
{ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } (الكهف:66) .
فالمستحسن من غير المختص ؛ أن يسأل ويستفسر ، ويفكر ويتعلم ويتتلمذ ويقف موقف موسى مع العبد الصالح .(1/10)
وكثير من الحوارات غير المنتجة مردُّها إلى عدم التكافؤ بين المتحاورين ، ولقد قال الشافعي رحمه الله : ( ما جادلت عالماً إلا وغلبته ، وما جادلني جاهل إلا غلبني ! ) . وهذا التهكم من الشافعي رحمه الله يشير إلى الجدال العقيم ؛ الذي يجري بين غير المتكافئين .
الأصل السابع :
قطعية النتائج ونسبيَّتها :
من المهم في هذا الأصل إدراك أن الرأي الفكري نسبيُّ الدلالة على الصواب أو الخطأ ، والذي لا يجوز عليهم الخطأ هم الأنبياء عليهم السلام فيما يبلغون عن ربهم سبحانه وتعالى . وما عدا ذلك فيندرج تحت المقولة المشهورة ( رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب ) .
وبناء عليه ؛ فليس من شروط الحوار الناجح أن ينتهي أحد الطرفين إلى قول الطرف الآخر . فإن تحقق هذا واتفقنا على رأي واحد فنعم المقصود ، وهو منتهى الغاية . وإن لم يكن فالحوار ناجح . إذا توصل المتحاوران بقناعة إلى قبول كلٍ من منهجيهما ؛ يسوغ لكل واحد منهما التمسك به ما دام أنه في دائرة الخلاف السائغ . وما تقدم من حديث عن غاية الحوار يزيد هذا الأصل إيضاحاً .
وفي تقرير ذلك يقول ابن تيمية رحمه الله : ( وكان بعضهم يعذر كل من خالفه في مسائل الاجتهادية ، ولا يكلفه أن يوافقه فهمه ) ا هـ . من المغني .
ولكن يكون الحوار فاشلاً إذا انتهى إلى نزاع وقطيعة ، وتدابر ومكايدة وتجهيل وتخطئة .
الأصل الثامن :
الرضا والقبول بالنتائج التي يتوصل إليها المتحاورون ، والالتزام الجادّ بها ، وبما يترتب عليها .
وإذا لم يتحقق هذا الأصل كانت المناظرة ضرباً من العبث الذي يتنزه عنه العقلاء .
يقول ابن عقيل : ( وليقبل كل واحد منهما من صاحبه الحجة ؛ فإنه أنبل لقدره ، وأعون على إدراك الحق وسلوك سبيل الصدق .
قال الشافعي رضي الله عنه : ما ناظرت أحداً فقبل مني الحجَّة إلا عظم في عيني ، ولا ردَّها إلا سقط في عيني ) (1) .
__________
(1) - علم الجدل ص 14(1/11)
آداب الحوار :
1- التزام القول الحسن ، وتجنب منهج التحدي والإفحام :
إن من أهم ما يتوجه إليه المُحاور في حوار ، التزام الحُسنى في القول والمجادلة ، ففي محكم التنزيل : { وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَن }(الاسراء :53) . { وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن } (النحل: 125) .
{ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً }(البقرة :83) .
فحق العاقل اللبيب طالب الحق ، أن ينأى بنفسه عن أسلوب الطعن والتجريح والهزء والسخرية ، وألوان الاحتقار والإثارة والاستفزاز .
ومن لطائف التوجيهات الإلهية لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الباب ، الانصراف عن التعنيف في الردّ على أهل الباطل ، حيث قال الله لنبيه : { وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ) (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } (الحج : 68-69 ) .
وقوله : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ }(سبأ:24) . مع أن بطلانهم ظاهر ، وحجتهم داحضة .(1/12)
ويلحق بهذا الأصل : تجنب أسلوب التحدي والتعسف في الحديث ، ويعتمد إيقاع الخصم في الإحراج ، ولو كانت الحجة بينه والدليل دامغاً .. فإن كسب القلوب مقدم على كسب المواقف . وقد تُفْحِم الخصم ولكنك لا تقنعه ، وقد تُسْكِته بحجة ولكنك لا تكسب تسليمه وإذعانه ، وأسلوب التحدي يمنع التسليم ، ولو وُجِدَت القناعة العقلية . والحرص على القلوب واستلال السخائم أهم وأولى عند المنصف العاقل من استكثار الأعداء واستكفاء الإناء . وإنك لتعلم أن إغلاظ القول ، ورفع الصوت ، وانتفاخ الأوداج ، لا يولِّد إلا غيظاً وحقداً وحَنَقاً . ومن أجل هذا فليحرص المحاور ؛ ألا يرفع صوته أكثر من الحاجة فهذا رعونة وإيذاء للنفس وللغير ، ورفع الصوت لا يقوّي حجة ولا يجلب دليلاً ولا يقيم برهاناً ؛ بل إن صاحب الصوت العالي لم يَعْلُ صوته – في الغالب – إلا لضعف حجته وقلة بضاعته ، فيستر عجزه بالصراخ ويواري ضعفه بالعويل . وهدوء الصوت عنوان العقل والاتزان ، والفكر المنظم والنقد الموضوعي ، والثقة الواثقة .
على أن الإنسان قد يحتاج إلى التغيير من نبرات صوته حسب استدعاء المقام ونوع الأسلوب ، لينسجم الصوت مع المقام والأسلوب ، استفهامياً كان ، أو تقريرياً أو إنكارياً أو تعجبياً ، أو غير ذلك . مما يدفع الملل والسآمة ، ويُعين على إيصال الفكرة ، ويجدد التنبيه لدى المشاركين والمتابعين .
على أن هناك بعض الحالات الاستثنائية التي يسوغ فيها اللجوء إلى الإفحام وإسكات الطرف الآخر ؛ وذلك فيما إذا استطال وتجاوز الحد ، وطغى وظلم وعادى الحق ، وكابر مكابرة بيِّنة ، وفي مثل هذا جاءت الآية الكريمة :
{ وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } (العنكبوت: 46) .
{ لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِم } (النساء: من الآية148)(1/13)
ففي حالات الظلم والبغي والتجاوز ، قد يُسمح بالهجوم الحادّ المركز على الخصم وإحراجه ، وتسفيه رأيه ؛ لأنه يمثل الباطل ، وحَسَنٌ أن يرى الناس الباطل مهزوماً مدحوراً .
وقبل مغادرة هذه الفقرة من الأدب ، لا بد من الاشارة إلى ما ينبغي من العبد من استخدام ضمير المتكلم أفراداً أو جمعاً ؛ فلا يقول : فعلتُ وقلتُ ، وفي رأيي ، ودَرَسْنا ، وفي تجربتنا ؛ فهذا ثقيل في نفوس المتابعين ، وهو عنوان على الإعجاب بالنفس ، وقد يؤثر على الإخلاص وحسن القصد ، والناس تشمئز من المتعالم المتعالي ، ومن اللائق أن يبدلها بضمير الغيبة فيقول : يبدوا للدارس ، وتدل تجارب العاملين ، ويقول المختصون ، وفي رأي أهل الشأن ، ونحو ذلك .
وأخيرا فمن غاية الأدب واللباقة في القول وإدارة الحوار ألا يَفْتَرِضَ في صاحبه الذكاء المفرط ، فيكلمه بعبارات مختزلة ، وإشارات بعيدة ، ومن ثم فلا يفهم . كما لا يفترض فيه الغباء والسذاجة ، أو الجهل المطبق ؛ فيبالغ في شرح مالا يحتاج إلى شرح وتبسيط مالا يحتاج إلى بسط .
ولا شك أن الناس بين ذلك درجات في عقولهم وفهومهم ، فهذا عقله متسع بنفس رَحْبة ، وهذا ضيق العَطَنْ ، وآخر يميل إلى الأحوط في جانب التضييق ، وآخر يميل إلى التوسيع ، وهذه العقليات والمدارك تؤثر في فهم ما يقال . فذو العقل اللمّاح يستوعب ويفهم حرفية النص وفحواه ومراد المتكلم وما بين السطور ، وآخر دون ذلك بمسافات .
ولله الحكمة البالغة في اختلاف الناس في مخاطباتهم وفهومهم .
2- الالتزام بوقت محدد في الكلام :
ينبغي أن يستقر في ذهن المُحاور ألا يستأثر بالكلام ، ويستطيل في الحديث ، ويسترسل بما يخرج به عن حدود اللباقة والأدب والذوق الرفيع .(1/14)
يقول ابن عقيل في كتابه فن الجدل : ( وليتناوبا الكلام مناوبة لا مناهبة ، بحيث ينصت المعترض للمُستَدِلّ حتى يفرغ من تقريره للدليل ، ثم المُستدِلُّ للمعترض حتى يُقرر اعتراضه ، ولا يقطع أحد منها على الآخر كلامه وإن فهم مقصوده من بعضه ) .
وقال : ( وبعض الناس يفعل هذا تنبيهاً للحاضرين على فطنته وذكائه وليس في ذلك فضيلة إذ المعاني بعضها مرتبط ببعض وبعضها دليل على بعض ، وليس ذلك علم غيب ، أو زجراً صادقاً ، أو استخراج ضمير حتى يفتخر به ) (1) .
والطول والاعتدال في الحديث يختلف من ظرف إلى ظرف ومن حال إلى حال ، فالندوات والمؤتمرات تُحدَّد فيها فرص الكلام من قبل رئيس الجلسة ومدير الندوة ، فينبغي الإلتزام بذلك .
والندوات واللقاءات في المعسكرات والمنتزهات قد تقبل الإطالة أكثر من غيرها ، لتهيؤ المستمعين . وقد يختلف ظرف المسجد عن الجامعة أو دور التعليم الأخرى .
ومن المفيد أن تعلم ؛ أن أغلب أسباب الإطالة في الكلام ومقاطعة أحاديث الرجال يرجع إلى ما يلي :
إعجاب المرء بنفسه .
حبّ الشهرة والثناء .
ظنّ المتحدث أن ما يأتي به جديد على الناس .
قِلَّة المبالاة بالناس في علمهم ووقتهم وظرفهم .
والذي يبدوا أن واحداً منها إذا استقر في نفوس السامعين كافٍ في صرفهم ،وصدودهم ، مللهم ، واستثقالهم لمحدِّثهم .
وأنت خبير بأن للسامع حدّاً من القدرة على التركيز والمتابعة إذا تجاوزها أصابه الملل ، وانتابه الشُّرود الذّهني . ويذكر بعضهم أن هذا الحد لا يتجاوز خمس عشرة دقيقة .
ومن الخير للمتحدث أن يُنهي حديثه والناس متشوفة للمتابعة ، مستمتعة بالفائدة . هذا خير له من أن تنتظر الناس انتهاءه وقفل حديثه ، فالله المستعان .
3- حسن الاستماع وأدب الإنصات وتجنب المقاطعة :
__________
(1) - علم الجدل ص 13 .(1/15)
كما يطلب الالتزام بوقت محدد في الكلام ، وتجنب الاطالة قدر الإمكان ، فيطلب حُسن الاستماع ، واللباقة في الإصغاء ، وعدم قطع حديث المُحاور . وإنّ من الخطأ أن تحصر همَّك في التفكير فيما ستقوله ، ولا تُلقي بالاً لمُحدثك ومُحاورك ، وقد قال الحسن بن علي لابنه ، رضي الله عنهم أجمعين :
( يا بنيّ إذا جالست العلماء ؛ فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول ، وتعلًم حُسْنَ الاستماع كما تتعلم حسن الكلام ، ولا تقطع على أحد حديثاً – وإن طال – حتى يُمسك ) .
ويقول ابن المقفع :
( تَعلَّمْ حُسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام ؛ ومن حسن الاستماع : إمهال المتكلم حتى ينقضي حديثه . وقلة التلفت إلى الجواب . والإقبال بالوجه . والنظر إلى المتكلم . والوعي لما يقول ) .
لا بدّ في الحوار الجيِّد من سماع جيِّد ؛ والحوار بلا حُسْن استماع هو ( حوار طُرْشان ) كما تقول العامة ، كل من طرفيه منعزل عن الآخر .
إن السماع الجيِّد يتيح القاعدة الأساسية لالتقاء الآراء ، وتحديد نقاط الخلاف وأسبابه . حسن الاستماع يقود إلى فتح القلوب ، واحترام الرجال وراحة النفوس ، تسلم فيه الأعصاب من التوتر والتشنج ، كما يُشْعِرُ بجدّية المُحاور ، وتقدير المُخالف ، وأهمية الحوار . ومن ثم يتوجه الجميع إلى تحصيل الفائدة والوصول إلى النتيجة
4- تقدير الخصم واحترامه :
ينبغي في مجلس الحوار التأكد على الاحترام المتبادل من الأطراف ، وإعطاء كل ذي حق حقه ، والاعتراف بمنزلته ومقامه ، فيخاطب بالعبارات اللائقة ، والألقاب المستحقة ، والأساليب المهذبة .
إن تبادل الاحترام يقود إلى قبول الحق ، والبعد عن الهوى ، والانتصار للنفس . أما انتقاص الرجال وتجهيلها فأمر مَعيب مُحرّم .(1/16)
وما قيل من ضرورة التقدير والاحترام ، لا ينافي النصح ، وتصحيح الأخطاء بأساليبه الرفيعة وطرقه الوقورة . فالتقدير والاحترام غير المَلَقِ الرخيص ، والنفاق المرذول ، والمدح الكاذب ، والإقرار على الباطل .
ومما يتعلق بهذه الخصلة الأدبية أن يتوجه النظر وينصرف الفكر إلى القضية المطروحة ليتم تناولها بالبحث والتحليل والنقد والإثبات والنَّقص بعيداً عن صاحبها أو قائلها ، كل ذلك حتى لا يتحول الحوار إلى مبارزة كلامية ؛ طابعها الطعن والتجريح والعدول عن مناقشة القضايا والأفكار إلى مناقشات التصرفات ، والأشخاص ، والشهادات ، والمؤهلات والسير الذاتية .
5- حصر المناظرات في مكان محدود :
يذكر أهل العلم أن المُحاورات والجدل ينبغي أن يكون في خلوات محدودة الحضور ؛ قالوا : وذلك أجمع للفكر والفهم ، وأقرب لصفاء الذهن ، وأسلم لحسن القصد ، وإن في حضور الجمع الغفير ما يحرك دواعي الرياء ، والحرص على الغلبة بالحق أو بالباطل .
ومما استدل به على ذلك قوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } (سبأ:46) .
قالوا : لأن الأجواء الجماهيرية والمجتمعات المتكاثرة تُغطي الحق ، وتُشوِّش الفكر ، والجماهير في الغالب فئات غير مختصة ؛ فهي أقرب إلى الغوغائية والتقليد الأعمى ، فَيَلْتَبسُ الحق .
أما حينما يكون الحديث مثنى وفرادى وأعداداً متقاربة يكون أدعى إلى استجماع الفكر والرأي ، كما أنه أقرب إلى أن يرجع المخطيء إلى الحق ، ويتنازل عما هو فيه من الباطل أو المشتبه .
بخلاف الحال أمام الناس ؛ فقد يعزّ عليه التسليم والاعتراف بالخطأ أما مُؤيِّديه أو مُخالفيه .
ولهذا وُجِّه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يخاطب قومه بهذا ؛ لأن اتهامهم له كانت اتهامات غوغائية ، كما هي حال الملأ المستكبرين مع الأنبياء السابقين .(1/17)
ومما يوضح ذلك ما ذكرته كتب السير أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام ، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي ، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يصلي بالليل في بيته ، فأخذ كل واحد منهم مجلساً يستمع فيه ، وكلٌ لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا ؛وقال بعضهم لبعض لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً ،ثم انصرفوا .
حتى إذا كانت الليلة الثانية ، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعتهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة ، ثم انصرفوا . حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعتهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود . فتعاهدوا على ذلك . ثم تفرقوا . فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج ، حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال : يا أبا ثعلبه ، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يُراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يُراد بها . قال ألخنس : وأنا والذي حَلَفْتَ به ! . قال : ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل ، فدخل عليه بيته فقال : يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال : ماذا سمعت ! تنازعنا نحن وبنو عبدمناف الشرف ؛ أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الرُّكَب وكنّا كفرسيّ رهان ، قالوا منّا نبي يأتيه الوحي من السماء ! فمتى نُدرك هذا ؟! والله لا نؤمن به ولا نصدقه . قال : فقام عنه الأخنس وتركه .
6 – الإخلاص :(1/18)
هذه الخصلة من الأدب متمِّمة لما ذكر من أصل التجرد في طلب الحق ، فعلى المُحاور ان يوطِّن نفسه ، ويُروِّضها على الإخلاص لله في كل ما يأتي وما يذر في ميدان الحوار وحلبته .
ومن أجلى المظاهر في ذلك : أن يدفع عن نفسه حب الظهور والتميُّز على الأقران ، وإظهار البراعة وعمق الثقافة ، والتعالي على النظراء والأنداد . إن قَصْدَ انتزاع الإعجاب والثناء واستجلاب المديح ، مُفسد للأمر صارف عن الغاية .
وسوف يكون فحص النفس دقيقاً وناجحاً لو أن المُحاور توجه لنفسه بهذه الأسئلة :
هل ثمَّت مصلحة ظاهرة تُرجى من هذا النقاش وهذه المشاركة . ؟
هل يقصد تحقيق الشهوة أو اشباع الشهوة في الحديث والمشاركة . ؟
وهل يتوخَّى أن يتمخض هذا الحوار والجدل عن نزاع وفتنة ، وفتح أبواب من هذه الألوان حقهَّا أن تسدّ .؟
ومن التحسس الدقيق والنصح الصادق للنفس أن يحذر بعض التلبيسات النفسية والشيطانية فقد تتوهم بعض النفوس أنها تقصد إحقاق الحق ، وواقع دخيلتها أنها تقف مواقف إنتصارِ ذاتٍ وهوى . ويدخل في باب الاخلاص والتجرد توطين النفس على الرضا والارتياح إذا ظهر الحق على لسان الآخر ورأيه ، ويعينه على ذلك أن يستيقن أن الآراء والأفكار ومسالك الحق ليست ملكاً لواحد أو طائفة ، والصواب ليس حكراً على واحد بعينه . فهمُّ المخلص ومهمته أن ينتشر الحق في كل مكان ، ومن أيّ مكان ، ومن أيّ وعاء ، وعلى أيّ فم .
إن من الخطأ البيِّن في هذا الباب أن تظن أنّ الحق لا يغار عليه إلا أنت ، ولا يحبه إلا أنت ، ولا يدافع عنه إلا أنت ، ولا يتبناه إلا أنت ، ولا يخلص له إلا أنت .
ومن الجميل ، وغاية النبل ، والصدق الصادق مع النفس ، وقوة الإرادة ، وعمق الإخلاص ؛ أن تُوقِفَ الحوار إذا وجدْت نفسك قد تغير مسارها ودخلتْ في مسارب اللجج والخصام ، ومدخولات النوايا .
وهذا ما تيسر تدوينه والله وليُّ التوفيق ، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم .(1/19)
صالح بن عبدالله بن حميد
مكة المكرمة(1/20)
سلسلة بحوث وتحقيقات مختارة من مجلة الحكمة (12)
القواعد العلمية في النقد عند شيخ الإسلام ابن تيمية
بقلم : عبدالله بن محمد الحيالي
قام بنشره
أبو مهند النجدي
Almodhe1405@hotmail.com
almodhe@yahoo.com
المقدمة
الحمد لله وكفي وسلام علي عبده المصطفي ، وبعد :
فهذه رسالة وجيزة توخيت من خلالها عرضاً علمياً لمنهج شيخ الإسلام ابن تيميه في النقد والحكم على الآخرين وبيان القواعد الأساسية التي ينبني عليها النقد العلمي البناء ، استوحيت ذلك من خلال إطلاعي المستمر لكتب شيخ الإسلام ومصنفاته ... .
والذي دفعني إلى الكتابة في مثل هذا الموضوع الخطير مع قلة بضاعتي فيه أني رأيت كثيراً ممن يتصدى في نقد الناس يغلب علية الجانب العاطفي في تقويم الآخرين ، ودون أن يحكم بميزان الكتاب والسنة وقواعد هذا العلم، فيكثر منه صدور الأحكام الخاطئة دون أن يتحرى المنهج السليم في النقد ، والسبب الثاني الذي دفعني إلي الكتابة في هذا الموضوع، أنني لم أر جمع قواعد هذا الفن في مصنف مستقل . وإنما هو مثبوت في القرآن العزيز والسنة المطهرة وكلام السلف . وفي بطون الكتب والمؤلفات .
والذي قمت به إنما هو جمع الكلام ،وترتيبه علي نسق واحد وفي مكان واحد ،ليسهل علي طلبة العلم الرجوع إليه والانتفاع منه .
وإنما اخترت شيخ الإسلام دون غيره، سببين رئيسيين:
أولهما: لأنه أول من قعد منهج أهل السنة والجماعة، وأبرز من أهتم بها ودافع عنها، ورد علي المخالفين خاصة بعد حدوث معتقدات منحرفة ومناهج بدعية بسبب الانحراف عن المنهج الصحيح(2/1)
وثانيهما : أنه متأخر جدا جمع ما لم يجمعه غيره، ويكفي في ذلك شهادة أهل الحديث والفقهاء عنه : (( كان الفقهاء في سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا، ولا يعرف أنه ناظر أحد فانقطع عنه، ولا تكلم في علم من العلوم إلا فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد علي وجهها )).
وقد قسمت الرسالة إلي خمسة فصول وخاتمة. وأسأل الله عز وجل أن يجعل عملي خالصاً لوجهه الكريم، ولا يجعل فيه لأحد شيئاً. وأن يهدينا الصواب والعدل في الحكم علي الناس، إنه ولي التوفيق وصلي الله علي سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين .
... ... ... ... ... ... ... وكتبه
... ... ... ... ... ... عبد الله بن محمد الحيالي
... ...
الفصل الأول
النقد لغة واصطلاحاً وبيان نشأته عند أهل والعلم
النقد لغة: قال أبو الدر داء: (( إن نقدت الناس نقدوك )) أي: عبتهم واغتبتهم،من قولك: نقدت الجوزة أنقدها، ونقد الدرهم، ونقد له الدرهم أي: أعطاه إياه. ما نقدتها:أي قبضتها ونقد الدراهم أي أخرج منها الزيف وبابها نصر، ودرهم نقد أي وازن: وازن جيد، وناقدت فلاناً إذا ناقشته بالأمر
(1)
واصطلاحاً: وصف في الراوي، يثلم عدالته ومر وأته،مما يترتب عليه سقوط كلامه ورده ، وهو مرادف لكلمة الجرح عند أهل الحديث من حيث أنه وصف الراوي بصفات تتضمن تضعيف روايته ، وعدم قبولها وكلاهما ينقسم إلي مقبول غير مقبول .
مشروعية النقد من الكتاب والسنة :
__________
(1) لسان العرب (14/254)، بتصرف.(2/2)
دلت قواعد الشريعة العامة علي وجوب التأكد من سلامة الناس، والبحث عن أحوالهم عند ورود ما يتطلب ذلك. قال تعالي: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ? (الحجرات: من الآية 6)، فقد أمر الله المؤمنين أن لا يقبلوا خبر الفاسق؛ لما يجر علي المسلمين من مضرة نتيجة نقله عن بعض المؤمنين أخباراً كاذبة، فعليهم أن يتبينوا من خبره حتى لا يندموا.
قلت: وهذا هو معني النقد عند أهل العلم، وهو ضرورة التأكد مما ينسب إلي الناس من أخبار، والتأكد من صحتها وسلامتها، ونقدها علي موازين ثابتة ؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحي من حيُ عن بينة، ومما سبق يتبين أن النقد هو الذي يقوم علي التأكد مما يضاف إلي الناس، وينقل عنهم رواية ودراية. أما رواية: وذلك بالاحتراز عن الخطأ من نقل ما يضاف من الناس وتمحيص الكلام، وإخراج ما فيه من الزيف والكذب، ودراية: هو معرفة حال الناقد جرحاً وتعديلاً وتحملاً، وأداء وكل ما يتعلق به مما له صلة بنقده.
نشأة هذا العلم:
نشأ علم النقد والجرح مع نشأة الرواية في الإسلام، إذ كان لابد لمعرفة الأخبار والروايات الصحيحة من سقيمها من معرفة روايتها معرفة تمكن العلماء من الحكم بصدقهم أو كذبهم حتى يتمكنوا فيما بعد من تميز المقبول من المردود، لذلك سألوا عن الرواة وتتبعوهم في جميع أحوال حياتهم العلمية، وحتى في عقر دارهم . وكانوا يبينون أحوال الرواة وينقدوهم حسبة الله، لا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا تستولي عليهم العاطفة، فليس في نقاد الحديث من يحابي في الحديث، فقد قصد الجميع خدمة الشريعة وحفظ مصادرها.(2/3)
وقد أكد العلماء ضرورة بيان أحوال الرواة، وأن ذلك ليس بغيبة،بل في ذلك حفظ الشريعة وصيانتها من الدخيل الزائف ، واستدلوا بما ثبت في السنة من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الجرح : (بئس أخو العشيرة )، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في التعديل: ( نعم عبد الله خالد بن الوليد سيف من سيوف الله )، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في النصيحة: ( أما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له ) (1)
وذلك حين جاءت فاطمة بنت قيس تسأله عن حال الرجلين، كانا تقدما لخطبتها، فقال ذلك علي وجه النصيحة لها.
ومن هذا أخذ العلماء جواز ذكر الشخص، وما فيه من المساوئ حتى يحذره الناس، وأن هذا ليس من باب الغيبة. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: (( جاء أبو تراب: يا شيخ لا تغب العلماء، فقال له: ويحك هذه نصيحة ليست بغيبة)) (2) .
وكان غاية العلماء المحدثين في هذا بيان الحق بكل أمانة وتجرد، ولولا ضرورة التأكد من أحوال الرواة؛ لما خاضوا في هذا الباب. قال يحي بن سعيد: (( إنا لنطعن في أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة )).
منهج العلماء في بيان أحوال الناس ونقدهم:
لما كان أكثر الأحكام لا سبيل إلي معرفتها إلا من جهة النقد والرواية، فقد كان كلامهم في الرواية ونقدهم وسيلة لا غاية، فلم يقصدوا الخوض في أعراض الناس،لهذا التزموا الاعتدال في بيان أحوالهم، فلم يتناولوا في ذكر أحوال الرواة غير الجانب الذي يهمهم، وهو الجانب الديني، وقد تميز هذا المنهج في بيان أحوال الرواة بعض القواعد المهمة نجملها فيما يلي:
1- الأمانة في الحكم: فكانوا يذكرون للراوي ما له وما عليه وفضائله ومساوئه، يقول محمد بن سيرين: (( ظلمت أخاك إذا ذكرت مساوئه ولم تذكر محاسنه )).
__________
(1) أصول الحديث، محمد الخطيب: ( ص 262).
(2) نفس المصدر: (ص264).(2/4)
2- الدقة في إعطاء الأحكام: حيث ندرك من تتبع أقوال العلماء دقة بحثهم،ومعرفتهم بجميع أحوال الراوي الذي يتكلمون فيه،وكل ما له صلة بنفده، ثم يصدرون الحكم المناسب فيه .
3- التزام الأدب في النقد: فلم يخرج هؤلاء العلماء في نقدهم وأحكامهم عن آداب البحث العلمي الصحيح، وكانوا مع ذلك يأمرون طلابهم بالتزام الأدب في نقدهم، يقول المزني، تلميذ الشافعي ـ رحمهما الله تعالي: (( سمعني الشافعي يوماً وأنا أقول: (( فلان كذاب ))، فقال لي: (( يا إبراهيم: إكس ألفاظك أحسنها، ولا تقل كذاب، ولكن قل حديثه ليس بشيء)). (1)
الفصل الثاني
التحذير من الوقوع في أعراض العلماء وبيان خطر اللسان
قد يكون من المناسب أن نقف وقفه لابد منها؛ لننبه إلي خطورة اللسان؛ لأننا قد تمادينا في التساهل بأمر صونه عن الخطأ والزلل.
ومعلوم أن اللسان من أجل النعم. ولو تأمل الإنسان المحروم من هذه النعمة، فإنه عندما يريد التعبير عن نفسه والإفصاح عن شئ، فإنه يستخدم كثيراً من أعضائه. ومع ذلك كله لا يشفي نفسه ولا يبلغ مراده.
فهل حافظنا علي هذه النعمة وسخرناها في نشر الخبر؟!
إن بعض الناس يطلق عليهم عنان لسانه في الوقيعة في أعراض الناس، ويغلب علي أحكامه الجوار وعدم العدل، ولو تأمل هذا المسكين ما ورد في النصوص من التحذير من آفة اللسان؛ لتردد مائة مرة قبل أن يسل لسانه في الكلام علي الناس بغير حق، قال تعالي:? مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ? (قّ:18)، فإن هناك من يحصي ألفاظك وبعد كلماتك. وفي حديث معاذ الطويل وقول الرسول (وهل يكب الناس علي وجوههم إلا حصائد ألسنتهم ) (2)أو كما قال عليه الصلاة والسلام .
__________
(1) المصدر السابق: (ص267)
(2) الترمذي:(2616)،ابن ماجة )3973)، أحمد: (5/231)، والحديث حسن .(2/5)
وبين - صلى الله عليه وسلم - أن من ضمن ما بين لحييه ضمن له الجنة، فقال: ( من يضمن لي ما بين لحييه، ضمنت له الجنة ) (1)
وبين أن الرجل ليلقي الكلمة جزافاً لا ينكر من آثارها وعواقبها، فيسقط، في نار جهنم سبعين خريفاً، فقال: ( وإن الرجل ليتكلم الكلمة في سخط الله لا يلقي لها بالاً، وإنها تهوي به في النار سبعين خريفاً) (2)
وقد أشار ابن القيم ـ رحمه الله ـ إلي قاعدة جليلة عجيبة قل من ينتبه لها في التحذير من آفة اللسان إذ يقول: (( من العجيب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم، والربا، والزنا، وشرب الخمر، ومن النظر إلي المحرم وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى يري الرجل يشار إليه بالدين والزهد والعبادة، وهو يتكلم بالكلمة في سخط الله لا يلقي لها بالاً ينزل بها أبعد مما بين المشرق والمغرب، وكم تري من رجل تورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الناس الأحياء والأموات لا يبالي ما يقول)) (3)
وتزداد خطورة الإثم، ويعظم الذنب،وتكبر المعصية إذا كان الجرح والكلام في علماء الأمة، فهم سادة الأمة، وحراس الشريعة، وسياجها، ونجوم الأرض، فإذا انطفأت أتي الأرض ما توعد، ولا خير في قوم لا يعرفون للعلماء قدرهم ومكانتهم، ولا يعطونهم حقهم من الاحترام والتوقير، وقد قيل: لحوم العلماء مسمومة، وقال ابن عساكر: (( لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة، ومن وقع فيهم بالقلب، ابتلاه الله قبل موته بموت قلبه )). فعلي الإنسان المسلم أن يتق الله، ويخشاه، ويراقبه،ويشعر أن الله معه ويتيقن أن الله يسجل حركاته وسكناته وألفاظه، وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويجب عليه أن يتريث قبل أن يبدأ بجرح أحد من الناس؛ لكي يكون متزن في حكمه بعيدا عن الظلم.
...
__________
(1) البخاري
(2) الترمذي: (2314)، وأحمد:(2/355)،والحديث صحيح.
(3) تقويم الرجال، أحمد الصوبان: (ص9)(2/6)
الفصل الثالث
القواعد العلمية التي يعتمد عليها شيخ الإسلام ابن تيميه في تقويم الرجال
أولاً: الكلام في الناس يجب أن يكون بعلم وعدل لا بجهل وظلم: الأصل في هذه القاعدة الشرعية قوله تعالي:? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ? (المائدة:8) ،
قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: (( أي لا يحملنكم بغض قوم علي ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كل أحد، صديقاَ كان أو عدواً،ولهذا قال:?اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? (المائدة من الآية8)، أي: عدلكم هو أقرب للتقوى من تركه )). (1)
وهذه الآية الكريمة ترسم منهاجاً عظيماً تجعل فيه العدل من لوازم الإيمان ومقتضياته، وترسم منهاجاً دقيقاً يمثل جمع صور العدل مع القريب والبعيد، وينهي عن جميع صور الظلم مع كل أحد.
والعدل به قامت السماوات والأرض، وهو نظام كل شئ، وأساس قيام المجتمعات الإنسانية، قال شيخ الإسلام: (( وأمور الناس إنما تستقيم في الدنيا مع العدل، الذي قد يكون فيه الاشتراك في بعض أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق، وإن لم تترك فيها، ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة، ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر،ولا تدوم مع الإسلام والظلم.
ذلك أن العدل نظام كل شئ، وإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت، وإن لم يكن صاحبها من أهل الدين، من خلاف، ومتي لم تقم بالعدل لم تقم وإن كان صاحبها من الإيمان ما يجزي به في الآخرة)).
__________
(1) تفسير ابن كثير:(2/35).(2/7)
وقال أيضاًَ ـ رحمه الله ـ في موضع آخر: (( والعدل مما اتفق أهل الأرض علي مدحه وصحته والثناء علي أهله وصحبتهم،والظلم مما اتفقوا علي نبذه وذمه وتقبيحه وذم أهله وبغضهم، والعدل من المعروف الذي أمر الله به، وهو الحكم بما أنزل الله علي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهو أكمل أنواع العدل وأحسنها.
والحكم به واجب علي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وعلي من اتبعه، ومن لم يلتزم حكم الله ورسوله فهو كافر، وهذا واجب علي الأمة في كل ما تنازعت فيه من الأمور الاعتقادية أو العلمية )) أ. هـ
وفي هذا العصر الذي ندر فيه وجود الإنصاف والعدل، يحتاج المسلم إلي الرجوع دائماً إلي منهج أهل السنة والجماعة، الذي هو امتداد لم كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علماً وعملاً، ليزن الأمور كلها بميزان قويم لا يتأرجح، حيث أصبحت الأهواء الشخصية، والخلفيات الحزبية هي التي تتحكم بالآراء وتقييم الناس في كثير من الأحيان، حيث أنك تجد الإنسان ليغض الطرف عن أخطاء من يحبه، وإن كانت كبيرة ولا يمكن السكوت عليها، وفي المقابل من ذلك تجده إذا أبغض
أحداً لهوي نفسه جرده من جميع الفضائل والمحاسن، ولم يظهر إلا سيئاته وينس فضائله في الدين، وخدمته للإسلام، مهما كانت بينه وواضحة علي حد قول الشاعر:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة
لكن عين السخط تبدي المساويا
وهذا الاضطراب في تقييم الناس يرجع إلي القصور المنهجي، والخلل الفكري، والعقم العقائدي عند هؤلاء القوم، ولم يقف الأمر عند هذ ... ا الحد، بل تعداه إلي التباغض والتفرق المذموم، في الوقت الذي نحتاج فيه الأمة أن تقف صفاً واحدً ضد من يحاول تقويض بنيانها، وصدع صرحها، وتفريق شملها.(2/8)
قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في بيان سبب نشوء الفتن والاختلاف بين الناس: (( فإن أكثرهم أصحاب المقالات الفاسدة ـ قد صار لهم هوي في ذلك، أن ينتصر جاههم أو رياستهم، وما ينسب إليهم لا بقصد ، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله ، بل ينصبون علي من خالفهم وإن كان مجتهداً معذوراً لا يغضب الله عليه، ويرضون عمن يوافقهم وإن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله، ولا يذموا من ذم الله ورسوله،وتصير موالاتهم ومعاداتهم علي أهواء أنفسهم لا علي دين الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - )).
وقال ـ رحمه الله ـ أيضاً: (( ومعلوم أننا إذا تكلمنا فيمن هو دون الصحابة، مثل الملوك المختلفين علي الملك، والعلماء والمشايخ المختلفون في العلم والدين، وجب أن يكون الكلام بعلم وعدل، لا بظلم وجهل، وإن العدل واجب لكل أحد وعلي كل أحد في كل حال،والظلم محرماً مطلقاً لا يباح بحال قط،قال تعالي: ?وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى? (المائدة: من الآية8)،وهذه الآية نزلت بسبب بغضهم للكفار،وهو بغض مأمور به،فإذا كان البغض الذي أمر الله به قد نهي صاحبه أن يظلم من أبغضه، فكيف بمن يبغض مسلماً بتأويل وشبهة أو بهوي النفس ؟ فهو أحق أن لا يظلم، بل يعدل عليه (1).
ولشيوع هذه الظاهرة المقيتة، وانتشارها بين صفوف من ينتسبون إلي الإسلام، وجب علي المسلم دائماً أن يرجع إلي فهم السلف الصالح، ويزن الأمور كلها بميزان دقيق لا تتحكم فيه الآراء والاجتهادات الشخصية، وأن يعتصم بحبل الله وبالجماعات، ويخلص دينه لله، ولا يتكلم في أحد إلا بعلم وعدل وإنصاف كما أمر الله تعالي.
__________
(1) منهاج السنة النبوية:(5/126).(2/9)
قال شيخ الإسلام بهذا الصدد: (( والله قد أمر المؤمنين كلهم أن يعتصموا بحبله جميعاً ولا يتفرقوا، وقد فسر حبله بدينه وكتابه وبالإسلام، وبالإخلاص، وبأمره وطاعته وبالجماعة، وهذه كلها منقولة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان )).أ .هـ .
وقال في موضع آخر أيضاً من كتابه: ((فالأمور المشتركة بين الأمة لا يحكم فيها إلا الكتاب والسنة، ليس لأحد أن يلزم الناس بقول عالم ولا أمير ولا شيخ ولا ملك اعتقد أنه يحكم بين الناس بشيء من ذلك، ولا يحكم بينهم بالكتاب والسنة،فهو كافر (1) أ.هـ .
من خلال النصوص السابقة يجب أن تعلم: أنه لا يجوز للإنسان أن يتكلم في غيره كائناً من كان إلا بعلم وإنصاف وعدل،وأن من يتكلم في غيره بغير علم وبينة وبرهان،فهو من الذين قال الله فيهم: ? وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ? (المائدة: من الآية8).
ولشيخ الإسلام كلام نافع جداً يبين فيه المنهج الصحيح القويم في الحكم علي الآخرين، وتقييم الناس، وخاصة بمن ينسب إلي علم أو دين؛ وذلك إذا أخطأ حتى في مسائل الاعتقاد والإيمان، وسنورد نصه في الفصول القادمة بإذن الله .
ثانياً: التجرد عن الهوي :
إن من أعظم دواعي الهلاك المذموم، وسمي الهوي: هوي؛لأنه يهوي بالإنسان إلي النار الهاوية. وأضل ضلال ابن آدم هو إتباع الظن والهوي،قال تعالي : ? إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ? (لنجم: من الآية23). ومتبع الهوي لابد من أن يضل عن سبيل الله سواء كان ذلك عن علم أو عن جهل، فإن كثيراً مما يترك الإنسان العلم الذي يعلمه اتباعاً لهواه، ولا بد أن يظلم أما بالقول أو الفعل؛ لأن هواه قد عمي بصيرته ، قال تعالي: ?أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ ? (الجاثية: من الآية23).
__________
(1) منهاج السنة النبوية:(5/126).(2/10)
ومتبع الهوي لابد أن يبدل دين الله ويحرف الكلم عن مواضعه ، ولهذا ذم الله اليهود ؛ لاتباعهم أهواءهم ، حيث قادهم ذلك إلي تبديل شرع الله والكفر بالرسول - صلى الله عليه وسلم - والاستعاضة عنه بالدنيا وحطامها، قال الله تعالي:? أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ? (البقرة: من الآية87).
واتباع الهوي نوع من أنواع الشرك الذي ندد الله بأهله كما قال بعض السلف: شر إله عبد في الأرض الهوى .
فإذا صار الهوي هو القائد للإنسان والدافع له صار أصحابه أحزاباً متفرقة يتعصب كل واحد لرأيه وذوقه ، ويعادي من يخالفه في الرأي، ولو كان الحق مع غيره،لأن الحق ليس مراده ومبتغاه، وبهذا ينشب الخلاف والتفرق بين الأمة، ويحصل فيها ما حذر الله منه في كتابه فتذهب ريحها وتتفرق كلمتها، وتكون فريسة سهلة لأعدائها .
ومن علامات اتباع الهوي: أنك تجد بعض هؤلاء إذا علم أن فلاناً يخالفه في مسألة من المسائل، فإنه يبادر للرد عليه،وتفنيد رأيه بدون تأمل ويبذل جهده،وما عنده من حيلة لإبطال حجته بكل وسيلة يقدر عليها .
ولذلك كان التجرد عن الهوي من الأسباب التي تجعل الحكم صائباً أو قريباَ من الصواب،وقد أوصى الله نبينا داود بالحذر الشديد من اتباع الهوي في الحكم علي الناس، ويبين أن اتباع الهوي يضل الإنسان عن سبيل الله، ولو كان من كان. فقال تعالي: ?يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ?(صّ: من الآية26) .
وحين يقع الإنسان في أسر الهوي، فإن الموازين تنقلب وتتغير المفاهيم، فيصبح الحق باطلاً والباطل حقاً بمجرد فساد القلب وانتكاس الفطرة .(2/11)
وإلي هذه النقطة أشار شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ حيث قال: (( ومن المعلوم أن مجرد نفور النافرين أو محبة الموافقين لا يدل علي صحة القول ولا فساده، إلا إذا كان بهدي من الله،بل الاستدلال بذلك الاستدلال بلا اتباع الهوي بغير هدي من الله .
فإن اتباع الإنسان: هو أخذ القول والفعل الذي يحبه ورد القول والفعل الذي يبغضه بلا هدي من الله، قال تعالي: ? وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ? (الأنعام: من الآية119).
فمن اتباع أهواء الناس بعد العلم الذي بعث الله به رسوله، وبعد هدي الله الذي بينه في عباده فهو بهذه المثابة، ولهذا كان السلف يسمون أهل البدع والفرق، بأهل الأهواء المخالفين للكتاب والسنة، حيث قبلوا ما أحبوه وردوا ما أبغضوه، بأهوائهم بغير هدي من الله .
قلت: ولهذا حذر السلف رضى الله عنهم من مجالسة أهل الأهواء والبدع، وأمروا بهجرهم، وعدم الرواية عنه ؛ لأنهم يعدون من قرب منهم، ومن جالسهم لا يسلم من الشر،فإما أن يتابعه علي هواه،أو يدخل الشبهة في دينه، أو عرض قلبه .
قال أبو قلابة: (( لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم،وإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالاتهم ، أو يلبسوا عليكم ما تعرفون )) .
وقال ابن عباس : (( لا تجالس أهل الأهواء, فإن مجالسهم ممرضة للقلب ))، وقال مجاهد: (( لا تجالسوا أهل الأهواء فإن لهم عرة كعرة الجرب )). أي: يعدون من قرب منهم وجالسهم كما سبق .
وقال أبو الجوزاء: (( لئن تجاورني القردة والخنازير في دار، أحب إلي من أن يجاورني رجل من أهل الأهواء )).
وصاحب الهوي إن لم يهديه الله للحق، ويشرح صدره للعلم النافع ويبصره بالدليل، فإنه واقع فيما وقع به إبليس وفرعون، بحسب ما عنده من القدرة، فيطلب من الناس أن يكون شريكاً لله في الطاعة واتباع الأمر والتعظيم.
وهذا وإن لم يصرح به ولا يستطيع ذلك ؛ لكن هذا كامن في النفوس ؛ وهذه هي غاية اتباع الهوي .(2/12)
قال شيخ الإسلام: (( وصاحب الهوى يعميه الهوى فلا يستحضر ما الله ورسوله في ذلك ولا يطلبه ولا يرضى لرضى الله ورسوله ، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضي إذا حصل ما يرضاه ويهواه.
ويغضب إذا ما حصل ما يغضب له بهواه، ويكون منه شبهه دين: أن الذي يرضى له ويغضب له وأنه الحق وأنه الدين، وإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض دين الإسلام، ولم يكن مقصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا،بل قصده الحمية لنفسه أو طائفته أو الرياء ؛ ليعظم هو ويثني عليه،أو فعل ذلك شجاعة وطبعاً، أو لغرض من الدنيا لم يكن لله ولم يكن مجاهداً في سبيل الله، فكيف إذا كان الذي يرى الحق والسنة هو كنظيره معه حق وباطل وسنة وبدعة، ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة )).
ومتبع الهوى لا بد أن يقوده هواه إلي الظلم والعدوان، بحسب القدرة والاستطاعة لمن خالفه ولم يوافقه،وربما يعادي من له علم ودعوة إلي الله، ويقف في وجهه صاداً عن الحق، كما اليهود يفعلون ذلك، ثم تجده يرمي من خالفه بالألقاب المنفرة التي تخالف أمر الله ورسوله؛ لينفر الناس عن قبول كلامه وسماع نصائحه، وإن كان يدعوا إلي السنة ويرغب فيها، يفعل ذلك كله ابتغاء الفتنة والتفرقة،ويزعم في ذلك أنه مصلح وفي سبيل المصلحة الموهوبة، وأن في ذلك دفع الفساد عن الناس ويريد لهم الخير، كما قال فرعون لقومه: )وَقَالَ فِرْعَوْنُ ?ذرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ?(غافر26).
وهكذا تنقلب الموازين والقيم،ويصبح المفسد في نظر الناس مصلحاً، والمصلح للدين مفسداً، فيقع شر عريض،وبلاء مستطير .(2/13)
يقول شيخ الإسلام (( وكثير من الناس من عنده بعض عقل وإيمان لا يطلب هذا الحد ـ أي يطاع أمره بحسب إمكانه ـ بل يطلب لنفسه ما هو عنده، فإن كان مطاعاً مسلماً طلب أن يطاع في أغراضه، وإن كان فيها ما هو ذنب ومعصية لله، ويكون في إطاعة من هواه: أحب وأعز من أطاع الله وخالف هواه. وهذه شعبة من حال فرعون وسائر المكذبين للرسل، وإن كان عالماً أو شيخاً أحب من يعظمه دون من يعظم نظيره،حتى لو كان يقرأ كتاباً واحداً كالقرآن، أو يعبدون عبادة واحدة متماثلون فيها كالصلوات الخمس، فإنه يجد من يعظمه بقبول قوله والاقتداء به أكثر من غيره، وربما أبغض نظيره هو واتباعه حسداً وبغياً،كما فعلت اليهود لما بعث الله رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلي مثل ما دعا إليه موسى، قال تعالي: ?َإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ?( البقرة : أية 91).
ولهذا تعلم ـ أخي المسلم ـ أن التجرد عن الهوى أصل عظيم في تقويم الرجال وأعمالهم ، وحتى توارد في الرد علي أهل البدع ، فيجب علي الإنسان أن يقصد فيه بيان الحق وهدي الخلق، وإرادة اٌلإحسان بهم.(2/14)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله مبيناً أن الرد علي أهل البدع، وإن كان في نفسه صحيحاً، ولكن إذا لم يقصده به الإنسان وجه الله ثم النصح لهم والإحسان لهم، فإن عمله مردود غير مقبول،وغيرهم لم يقصد هنا بيان الحق وهدي الخلق ورحمتهم واٌلإحسان لهم لم يكن عمله صالحاً. فوجب عند تقويم أي إنسان أن يقصد فيه بيان الحق، وأن يكون مصدر كلامه من العلم بالحق والهدي من الله، وأن يكون مخلصاً لله متجرداً له وغايته النصيحة لله ورسوله ولإخوانه المسلمون ثم عليه قبل أن يبدأ في تقويم أي رجل أو نقده أن يفتش في قلبه ويطهره من جميع أنواع الهوى وحب الظهور؛ لكي يكون حكمه منصفاً بعيداً عن الجور والظلم المذموم، وقد قيل: (( احذروا من الناس صنفين: صاحب هوي قد فتنه هواه، وصاحب أعمته دنياه )).
ثالثاً: الحق لا يعرف بالرجال :
هذه المقولة قالها سيد العقلاء علي بن أبي طالب رضى الله عنه، حيث قال: (( لا تعرف الحق بالرجال، بل اعرف الحق تعرف أهله ))، والعاقل ينظر دائماً الحق،ثم ينظر بعد ذلك في القول نفسه،فإن كان حقاً قبله ورضيه لنفسه سواء كان فاعله باطلاً أو محقاً،ويحرص علي انتزاع الحق ولو من لسان إبليس، فإن الحكمة ضالة المؤمن ينشدها من كل أحد،فإن وجدها فهو أحق بها .(2/15)
والتقليد: هو قبول رأي من لا تقوم به الحجة بلا حجة، أو هو قبول قول القائل وأنت لا تعلم من أين قاله، وهو من الآفات المهلكة، والتي لها تأثير بالغ في تاريخ البشرية والفكر الإنساني، فهو يؤدي إلي تعطيل النصوص الشرعية والعمل بها، ويؤدي إلي إهمال العقل البشري والإعمال في ميدانه، فهو آفة مهلكة، حيث أن المقدر لا ينظر إلي المشكلة المتنازع فيها إلا من خلال مقلده، فالحق ما قاله شيخه ومقلده وزعيمه، وإن خالف الدليل الواضح ولو كان الدليل من الكتاب والسنة، والباطل عنده ما خالف قول شيخه ولو دل عليه دليل أنه خلاف الحق والصواب، ولسان حال المقلد يقول الحجة مع شيخي، ولهذا فهو يلوي أعناق النصوص ويطوعها؛ لكي توافق رأيه واجتهاده، ويسخر فكره وعقله ؛ لكي يحلل أقوال شيخه وقائدة من أجل أن توافقه النصوص ، وقد ذم الله التقليد في كتابه، وشبه أصحابه بمنزلة الأنعام التي لا تفقه ما يقال لها إنما تسمع مجرد أصوات لا تفقه ما وراءها من المعاني والبينات والدلائل قال تعالي:?وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ?(البقرة:170) .
يقول ابن القيم في بيان أن التقليد مذموم محرم في دين الله : (( اتخاذ أحوال رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع، ولا يلتفت إلي قول من سواه، بل ولا إلي نصوص الشرع إلا إذا وافقت نصوص قوله.
فهذا والله هو الذي اجتمعت الأمة علي أنه محرم في دين الله، ولم يظهر في الأمة إلا بعد انقراض القرون الفاضلة )).(2/16)
ولا أذهب بعيداً إذا ما قلت لك ـ أخي القارئ ـ: أن كثيراً من النزاعات والخلافات التي تحدث بين العلماء وطلاب العلم، وكذلك الاضطراب في تقويم الرجال سببه الرئيسي هو: التعصب والتقليد لأقوال رجل بعينه، ومحاولة معرفة الحق بأقوالهم واتخاذ أقواله حجه في كل شئ ؛ لهذا نري أن علماء الأمة ينهون طلابهم وتلاميذهم عند تقليدهم ومتابعتهم بغير برهان وحجة، وذلك لأن التقليد داء ينخر بجسم الأمة ويقضي علي جانب كبير من نشاطها وفعاليتها في ميادين العلم والمعرفة ويخلد بها إلي الكسل والعجز،وأقوال الأئمة في ذم التقليد وأهله مستفيضة أذكر لك منها ما يأتي:
قال أبو حنيفة: (( لا يحل لمن يفتي من كتبي حتى يعلم من أين قلت )) .
وقال مالك بن أنس: (( أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي فكلما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكلما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه )) .
وقال الشافعي: (( ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعز عنه.فمهما قلت من قول أو أصلت من أصل فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، خلاف ما قلت: فالقول قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو قولي. وجعل يردد هذا الكلام )) .
وقال أحمد بن حنبل: (( من قلة علم الرجل أن يقلد دينه الرجال )).
وإنما اخترت أقوال الأئمة الأربعة، لأن مذاهبهم وجوه في تفسير الشريعة الإسلامية، ومنافذ تطل عليها. وهي المناهج الرئيسية في البحث والفهم،وهي التي كتب لها أن تبعي بين الناس، ويرجع إليها في مسائل الفروع .
يقول شيخ الإٌسلام في بيان: أنه لا يجب علي كل أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه، وأن هذا الإلزام لا تدل عليه نصوص الكتاب والسنة، وهو إلزام تنقصه الأدلة ،ويعوزه البرهان العلمي، بل هو من أقوال أهل البدع والضلال.(2/17)
انظر إليه وهو يقول: (( ولا يجب علي أحد من المسلمين التزام مذهب بعينه غير الرسول في كل ما يوجبه ويخبر به، بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، واتباع شخص لمذهب بعينه ، لعجزه عن معرفة الشرع من غير جهته إنما هو مما يسوغ، ليس هو ما يجب علي كل أحد إذا أمكنه معرفة الشرع بغير ذلك الطريق ، بل كل أحد كل عليه أن يتقي الله ما استطاع، ويطلب علم ما أمر الله به ورسوله ، فيفعل المأمور ويترك المحظور . والله أعلم )) .
وبين أيضاً في موضع آخر من كتابه : (( أنه يجوز للمسلم أن ينتقل من مذهب إلي آخر، مثل أن يتبين له رجحان قول علي قول ، فيرجع إلي القول الذي يري أنه أقرب إلي معاني الكتاب والسنة ، وأن الجمود علي قوله مذهب بعينه واعتقاد أن المذاهب أو المذهب دين للإسلام ، وهو الضلال بعينه .
يقول ابن تيميه: (( وكذلك فيمن يبين له في مسألة من المسائل الحق الذي بعث الله رسوله ثم عدل عنه ، فهو من أهل الذم والعقاب، وأما من كان عاجزا عن معرفة حكم الله ورسوله، وقد اتبع فيها أحداً من أهل العلم والدين، ولم يتبين له أن قول غيره راجح من قوله ، فهو محمود مثاب .
ولا يذم علي ذلك ولا يعاقب، وإن كان قادراً علي الاستدلال، ومعرفة ما هو الراجح، وتوقي بعض المسائل، ويعد ذلك من التقليد، فهو قد اختلفت بين مذهب أحمد المنصوص عنه والذي عليه أصحابه ، إن هذا إثم أيضاً ...)).
رابعاً: لا يسلم من الخطأ أحد من بني آدم :(2/18)
الخطأ صفة لا صفة في بني الإنسان، ولا منها من أحد ينجو منها أحد مهما بلغ مرتبة من العلم والدين، ولو نجا منها أحد لنجا منها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكرام، وهم خير القرون علي وجه الأرض. ومع ذلك لم يسلم أحد منهم من الخطأ والوقوع فيه بتأويل أو غير تأويل. يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: ( كل بن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ). والصحابة رضوان الله عليهم المعروف عنهم أنهم كانوا يسارعون للتوبة والندم والاستغفار فور وقوعهم في الذنب، ولم يعرف عن أحدهم أنه مات مصرا علي الذنب.
والسيد كما قيل من عدت هفواته وسقطاته، فهذا أقرب من غيره إلي الصواب، وقد رضي الله عنهم من فوق سبع سماوات، وشهد لهم بالخيرية والإيمان،وعلم ما في قلوبهم من الحب للإسلام والتفاني في سبيله، والمقصود أن الخطأـ حتى ولو في المسائل الخبرية العلمية ـ لا ينجو منه أحد من البشر.
يقول شيخ الإسلام: (( فإما الصديقون والشهداء والصالحون، فليسوا بمعصومين وهذا في الذنوب المحققة .
وأما ما اجتهدوا فيه فتارة يصيبون وتارة يخطئون، فإذا اجتهدوا وأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا وأخطئوا فلهم أجر علي اجتهادهم وخطؤهم مغفور لهم، وبعض المبتدعة يري أن الخطأ والإثم والذنب أمران متلازمان، فإذا أخطأ المجتهد ولو بتأويل سائغ، فإنه آثم، ولكن أهل السنة والجماعة يرون أن المجتهد مأجور، والقول قد يكون مخالف للنص الصريح وفاعله معذور، لأن المخالفة بالتأويل لم يسلم فيها أحد من أهل العلم، يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : (( إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ، فله أجر )).(2/19)
وهنا يبين ابن تيميه قاعدة شريفة يجب التنبيه لها: ((وهو أن ما يصدر من بعض من له علم ودين من الشاطحات والأقوال المخالفة للشرع، قد يكون مسلوب العقل أو مجتهداً مخطأ اجتهاداً قولياً أو عملياً، فلا يذم والحالة هذه، ولا يتابع عليها فيما هو مخالف لشرع الله، يقول: (( وهذا فيما يعلم من الأقوال والأفعال أنه مخالف للشرع بلا سبب، كالشاطحات المأثورة لبعض المشايخ، كقول ابن هود: إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي علي جهنم.وكان الشبلى يحلق لحيته، ويمزق ثيابه حتى أدخلوه المارستان مرتين )).
ثم قال (( جماع هذا أن هذه الأمور تعطى حقها من الكتاب والسنة في الخبر والأمر والنهي، ووجب اتباعه ولم يلتفت إلي من خالفه كائن من كان، ولم يجز اتباع أحد في خلاف ذلك، كما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع الأمة من اتباع الرسول وطاعته، وأن الرجل الذي صدر منه ذلك يعطي عذره حيث عذرته الشريعة، بأن يكون مسلوب العقل،أو ساقط التمييز، أو مجتهداً، أو مخطأ اجتهاداً قولياً أو عملياًُ أو مغلوباً علي ذلك الفعل أو الترك، بحيث لا يمكنه رد ما هو فيه من الفعل المنكر بلا ذنب فعله، ولا يمكنه أداء ذلك الواجب بلا ذنب فعله، ويكون في هذا الباب نوعه محفوظاً، بل لا يتبع ما خالف الكتاب والسنة، ولا يجعل ذلك شرعاً ولا منهاجاً، بل لا سبيل إلي الله ولا شرعه إلا بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
وأما الأشخاص الذين خالفوا بعض ذلك علي الوجوه المتقدمة فيعتذرون، ولا يذمون ولا يعاقبون، فإن كل أحد من الناس فيؤخذ من قوله وأفعاله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
بناء على ما تقدم في أنه لا يسلم أحد من بني آدم، فلا يذم إن كان معذوراً قد عذرته الشريعة، ولا يتبع علي الفعل المخالف للشريعة، لأنه لا سبيل إلي الله إلا من خلال متابعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(2/20)
وهنا يفرق شيخ الإسلام بين المخالف للمسائل الاعتقادية المعلومة من الدين بالضرورة فهؤلاء ونحوهم يبين لهم الحق، فإذا اعرضوا عنه وجب الإنكار عليهم بحسب ما جاءت به الشريعة من اليد واللسان والقلب. وبين المخالف للمسائل الفرعية التي هي من موارد الاجتهاد، والتي تنازع فيها أهل الأيمان والعلم، فهذه قد يكون قطيعة عند بعض من تبين له الحق فيها، لكن لا يلزم الناس بما بان له، ولم يبين لهم، فهذا قد يسلم له ويكون صاحبه معذوراً، وقد لا يسلم حاله فلا يكون معذوراً، بل آثماً، فقد تكون هذه المسائل اجتهادية، فهذا تسليم لكل مجتهد بذل وسعه في الوصول إلي الحق، ومن قلده في ذلك وتابعه علي طريقته لا ينكر ذلك عليه .
يقول شيخ الإسلام في بيان ذلك ما نصه: (( وأما الذي لا يسلم إليه حاله إلا أن معذوراً مثل أن يعرف في أنه عاقل بقوله ـ يتواجد ـ يسقط عنه اللوم، ككثير من المنتسبة إلي الشيخ أحمد بن الرفاعي واليونسية، فيما يأتونه من المحرمات، ويتركونه من الواجبات، أو يعرف في أنه يتواجد ويتساكر من وجوه؛ ليظن به خيراً ويرفع عنه الذم فيما يقع من الأمور المنكرة، أو يعرف منه تجويز الانحراف من موجب الشريعة المحمدية، وأنه قد يتفوه بما يخالفها.وأن من الرجال من يستغني عن الرسول، أو له أن يخالفه، أو أنه يجري مع القدر المحض المخالف للدين، كما يحكي عن بعض الكذابين الضالين:
إن أهل الصفة قاتلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الكفار لما انهزم أصحابه، وقالوا: نحن مع الله من غلب كنا معه. وأنه صبيحة الإسراء سمع منه ما جري بينه وبين ربه من المفاجآت،وأنه تواجد من السماء....، أو يسوغ لأحد بعد محمد الخروج عن شريعته، كما وسع الخضر الخروج عن أمر موسى، فإنه لم يكن مبعوثاً إليه كما بعث محمد إلي الناس كافة، فهؤلاء ونحوهم مما يخالف الشريعة، ويبين له الحق فيعرض عنه يجب الإنكار عليهم، بحسب ما جاءت به الشريعة من اليد واللسان والقلب )).(2/21)
نقد ابن تيميه للمبتدعين :
بين ابن تيميه لنا من خلال ما سبق منهجاً متميزاً في نقد الرجال وجرحهم، يقوم أساسه علي تمام التثبت والدقة المتناهية في النقل عنهم، مع تمام العدل في الإنصاف في العدل في الحكم عليهم، فهو ليس من الذين تغلب عليهم العاطفة، ويدفعهم الحماس الفارغ، ولا يوجد في اليوم منهج في النقد والحكم علي الآخرين من يملك عشر معشار هذا المنهج الدقيق الواضح الذي قدمه لنا شيخ الإسلام ابن تيميه؛ وذلك من خلال ما قدمناه لك من النصوص التي التقطناها من بعض مصنفاته وكتبه، وهي قليلة جداً نسبة إلي ما كتبه الشيخ من الرسائل العديدة التي تزخر بها المكاتب الإسلامية اليوم.
ومحاور هذا المنهج الدقيق متعددة، وتفاصيلها لها مكان آخر تراجع فيه مما سبق الإشارة إلي بعضها، لكمن سوف أشير إلي المنهج من خلال مسألتين، يظهر لنا جلياً مدي عدالة شيخ الإسلام ابن تيميه وإنصافه حتى مع من يعاونه ويكيدون له، بل حتى مع من حاولوا قتله ورموه بالتكفير والخروج عن الإسلام.
نقد المبتدعة:
أولاً: يعتمد منهجه رحمه الله علي النظر في حالة الإنسان من جهتين:
1- الضبط والإتقان والعلم بالحق، وعلي قدر قرب الإنسان من منهج أهل السنة والجماعة، وحبه للإسلام، بمقدار ما يقدمه للإسلام من خدمة.
2ـ الصدق وطلب الحق النافع وتحري الصواب في مسائل الدين والإيمان.
فإذا توافرت هاتان الصفتان في أي إنسان ولو كان قد عرف أنه تلبس ببدعة تخالف منهج السلف الكرام، فإن ذلك لا يمنعه من إيراد كلامه والاستدلال به في مواطنه، والحكم فيه بالعدل والإنصاف، وبيان ما عنده من فضائل وحسنات وعلي الرغم من شدة تحذيره من البدع وأهلها وبغضه لهم ورده عليهم، فإن ذلك لم يمنع شيخ الإسلام من الكلام فيهم بعدل وإنصاف كما عرف عنه.(2/22)
يقول رحمه الله: (( والله قد أمرنا ألا نقول إلا الحق، وألا نقول عليه إلا بعلم، وأمرنا بالعدل والقسط، فلا يجوز لنا إذا قال يهودي أو نصراني ـ فضلاً عن الروافض ـ قولاً فيه حق أن نتركه، بل لا نرد ما فيه من باطل دون ما فيه وهذا يدل علي عظم العدل والإنصاف الذي اتصف به شيخ الإسلام في نقده للناس وجرحهم، ويدل في الوقت نفسه علي أهمية المنهج الفكري والنقدي عنده، والذي كان له الأثر البالغ في تفكيره الذي بني في نفسه هذه الاتجاهات المتزنة، ورأسي فيه الأخلاق السامية.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (( وليس مما أمر الله به رسوله،ولا مما يرتضيه عاقل أن نقابل الحجج القوية بالمعاندة والجحد، بل قول الصدق والتزام العقل لازم عند جميع العقلاء، وأهل الإسلام أحق بذلك من غيرهم، إذ هم ـ ولله الحمد ـ أكمل الناس عقولاً، وأتممهم إدراكاً، وأصحهم ديناً، وأشرفهم كتاباً، وأفضلهم نبياً، وأحسنهم شريعة )).
قد كان منهجه في الحكم علي المبتدعة باختلاف مللهم ما اقتضته الشريعة، وما يؤيده الواقع الماثل لا الأهواء الشخصية والخلفيات الحزينة الضيقة، بل كان رحمه الله يعطي كل ذي حق حقه .
فالمعتزلة أعقل فهماً وأعلم وأدين والكذب والفجور فيهم أقل منه من الرافضه، والزيدية من الشيعة خير منهم وأقرب إلي الصدق والعدل والعلم، وليس في أهل الأهواء أصدق ولا أدين من الخوارج في هذا، فأهل السنة يسمعون فيهم العدل والإنصاف ولا يظلمونهم، فإن الظلم حرم مطلقاً كما تقدم، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم البعض، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض .(2/23)
هذا بالنسبة لنقد شيخ الإسلام رحمه الله للمبتدعة من حيث الجملة، ومن حيث نقد الرجال المبتدعين والذي لهم بدعة تخالف منهج السلف، فيكفي أن تأخذ أي كتاب من كتب الشيخ فتقرأه سوف تري الحقيقة ماثلة بين يديك، وستعلم مدي علم وعدل وإنصاف الشيخ حتى مع من يعادونه وينصبون له العداء والمكيدة، وسنورد ـ وأخي القارئ ـ في نهاية البحث أمثلة تطبيقية، تعتبر بمثابة الدليل الساطع والبرهان القاطع علي عدل الشيخ وإنصافه في الحكم علي الآخرين .
ثانياً: الموازنة بين الحسنات والسيئات:
والمسألة الثانية التي يظهر لنا فيه عدل الشيخ وإنصافه في نقد الناس: الموازنة بين السلبيات والإيجابيات، وقد أكد شيخ الإسلام علي أهمية التوازن في نقد الرجال، وضرورة العدل والإنصاف مع كل أحد.
ويقول رحمه الله: (( ويعلمون ـ أي أهل السنة ـ أن جنس المتكلمين أقرب من جنس الفلاسفة، وإن كان الفلاسفة قد يصيبون أحياناًَ، كما أن جنس المسلمين خير من جنس أهل المكذبين، وإن كان يوجد من أهل الكتاب من له عقل وصدق وأمانة، ولا يوجد في كثير من المنتسبين إلي الإسلام، كما قال تعالي: ? وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ?(آل عمران: من الآية75).
والإنسان مهما كملت رتبته في الدين ورسخ مقامه في الإسلام معرض للأخطاء،فلا يجوز أبداً أن تطرح جميع سيئاته واجتهاداته وأقواله، بل ننظر إلي كلامه وأقواله الموافقة للحق ونتقبلها،ونعرض عن أخطائه المخالفة للحق، والموازنة بين هذا وهذا عين الإنصاف،وأما مجرد تتبع الأخطاء وتصيد العثرات والغفلة عن حسنات الناس، فهو دليل واضح علي فساد النية وسوء القصد، وهناك أدلة في الكتاب والسنة تدل علي هذا المنهج القويم في نقد الناس وجرحهم ـ أي الموازنة بين الفضائل والسيئات ـ وأذكر لك دليلين فقط:(2/24)
أولاً: قال تعالي في بيان صدق اليهود،وأنه يوجد فيهم من له صدق ودين: ? وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً? (آل عمران: من الآية75).
فالله يذم اليهود علي صفاتهم الخبيثة، وإن منهم من يحسد المؤمنين ويتمني لهم الضلال، وإن منهم الخونة، وإن منهم من يشتري بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً، وإن منهم فريقاً يحرفون الكلم عن مواضعه ويبدلون كلام الله ويزيلونه عن المراد منه، ليوهموا الجهلة أنه من كتاب الله كذلك قال آخر مما ذكره منهم من صفات سيئة، ثم في الوقت نفسه يذكر ويبين أن بعضه له صفات جيدة مثل التزام العهد وأداء الأمانة ، وترك الخيانة وحب الصدق. وأنهم ليسوا كلهم سواء، علي حد سواء بل منهم المؤمن ومنهم المجرم، ولهذا قال بصدد ذلك: ? لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران:113-114).
فبين أن منهم أمة قائمة بأمر الله مطيعة لشرعه، وأنهم يقيمون الليل ويكثرون السجود ويتلون كتاب الله ويتدارسونه، ليتواصلوا إلي معرفة النبي ومتابعته وصدقه والانقياد لأمره. وهؤلاء هم المذكورين في آخر السورة في قوله تعالي: ? وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً? آل عمران: من الآية199).(2/25)
ثانياً: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي هريرة عن الجني الخبيث الذي جاء إلي مال الصدقة يحثو منه فأمسكه بيده، وقال له: لأدفعنك إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال: دعني فإن لي عيال أطعمهم، فقال: لأبي هريرة: دعني، وأعلمك آية من كتاب الله إذا قرأتها لا يزال عليك من الله حفيظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فجاء إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأخبره بالقصة كاملة،فقال: ( أما أنه صدقك وهو كذوب، ذاك الشيطان ) (1)
فأثبت للشيطان الخبيث صفة الصدق مع أنه خلقه ودينه الكذب علي عباد الله، والمكر بهم، والتحايل عليهم،ولا يمنع ذلك من تقبل الخبر والكلام الذي نطق به وتفوه به؛ لأن الحكمة قد تصدر من لسان الفاجر، فلا بأس بالانتفاع بها، لأن الكذاب قد يصدق والحكمة ضالة المؤمن.
يقول شيخ الإسلام: (( الشخص الواحد قد يجتمع فيه الحسنات المقتضية للثواب والسيئات المقتضية للعقاب، حتى يمكن أن يثاب ويعاقب، وهو قول جميع أصحاب رسول الله، وأئمة الإسلام، وأهل السنة والجماعة الذي يقولون: إنه لا يخلد في النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان )).
ثم قال بعد ذلك: (( وبين علي هذا أموراً كثيرة، ولهذا من كان معه إيمان حقيقي فلا بد أن يكون معه من هذه الأعمال بقدر إيمانه، وإن كان له ذنوب، كما روي البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً كان يسمي حماراً، وكان يضحك النبي عليه الصلاة والسلام، وكان يشرب الخمر، ويجلده النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأتي به مرة، فقال رجل: لعنه الله ما أكثر ما يؤتي به إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله)).
__________
(1) البخاري..(2/26)
فهذا الصحابي الجليل قد تكرر منه ارتكاب هذا المنكر البغيض والكبيرة العظمي،ولكن لا يعني هذا أنه فاسد ليس فيه خير قط، بل أنه فيه من الصفات الطيبة ما يوجب علي بقية الصحابة موالاته ومحبته ونصرته.
فيجب علي الإنسان أن يعرف للمحسن إحسانه وللمسيء إساءته، ثم يزن بين الأمور بميزان الحق والإنصاف، ولا يجوز أن يغلب جانب النظر إلي السيئات دون النظر إلي المحاسن والحسنات، وهذا هو الفيصل بين أهل السنة والخوارج المبتدعين، فإن الخوارج يقولون إنه لا يخرج من النار من دخلها من أهل القبلة، وأنه لا شفاعة للرسول ولا لغيره في أهل الكبائر لا قبل دخول النار ولا بعده، وعندهم أن الشخص الواحد لا يجتمع فيه الثواب والعقاب والحسنة والسيئة، بل إذ أثيب لا يعاقب ومن عوقب لا يثاب.
يقول ابن تيميه رحمه الله: (( فهذا يبين أن المذنب بالشرب ـ والخمر ـ وغيره قد يكون محباً لله ورسوله، وحب الله ورسوله أوثق عرى الإيمان،كما أن العابد الزاهد قد يكون لما في قلبه من بدعة ونفاق مسخوطاً عليه عند الله ورسوله من ذلك الوجه، كما استفاض في الصحاح وغيرهما من حيث أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وأبي سعيد الخدري وغيرهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه ذكر الخوارج، فقال: ( يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤن القرآن لا يتجاوز تراقبهم حتى يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، اقتلوهم أينما لقيتموهم فإن في قتلهم أجراً عند الله لمن قتلهم يوم القيامة، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد )).
أمثلة تطبيقية في نقد الرجال وجرحهم
أولاً: من الناحية النظرية:
ذكرنا فيما سبق أن منهج ابن تيميه يعتمد علي النظر علي حال الإنسان من جهتين:
الأولي: العلم بالحق، ومعرفته وإيثاره علي الباطل بمقدار ما يقدمه من خدمة لدين الله، وبمقدار قربه من أهل السنة والجماعة.(2/27)
الثانية: إخلاص الدين،وحسن النية، وتحري الصواب في مسائل الدين .
يقول ابن تيميه في هذا الصدد كلاماً نافعاً جداً: (( ثم ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة وحسنات مبرورة، له من الرد علي كثير من أهل الإلحاد والانتصار لكثير من أهل السنة والدين، مما لا يخفي علي من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف )).
وحين يفقد الإنسان العدل والتوازن في الحكم علي الآخرين ونقدهم تكثر الاتهامات الباطلة، وتشبع الافتراءات، حتى يصل الحد عند بعض الناس إلي أن يرمي المسلم بالابتداع، والخروج عن الدين بمجرد ما يصدر عنه هفوة غير مقصودة، أو خطأ وقع ظنه صواباً بعد اجتهاده.
يقول شيخ الإسلام: (( ومن اتبع هواه وظنه، وأخذ يشنع علي من خالفه بما وقع فيه من خطأ ظنه صواباً بعد اجتهاده، وهو من البدع؛ لمخالفته للسنة، فإنه يلزمه نظير ذلك أو أعظم أو أصغر فيمن يعظمه، وهو من أصحابه، فقل من يسلم من مثل ذلك من المتأخرين؛ لكثرة الاشتباه والاضطراب )).
وأنقل لك ـ أخي القارئ ـ نقد ابن تيميه رحمه الله لثلاثة رجال من أساطين العلم والدين، يمثل كل واحد منهم اتجاهاًُ معيناً ينتسب إليه طائفة من الناس، وهؤلاء الرجال هم:
أولاً: أبو الحسن الأشعري:
قال شيخ الإسلام رحمه الله في معرض نقده لأبي حسن الأشعري: (( هذا أبو حسن الأشعري نشأ في الاعتزال أربعين عاماً يناظر عليه، ثم رجع وصرح بتضليل المعتزلة، وبالغ في الرج عليهم )).
وقال أيضاً: (( ولهذا كان الأشعري وأصحابه منتسبين إلي السنة والجماعة، وكان منتحلاً للإمام أحمد ذاكراً أنه مقتد به متبعاً لسبيله، وكان بين أعيان أصحابه من الموافقة لكثير من أصحاب الإمام أحمد ما هو معروف، حتى أن أبا بكر عبد العزيز يذكر من حجج أبي الحسن من كلامه مثل ما يذكر من حجج لأصحابه ؛ لأنه كان عنده من أصحابه رأى أحمد رحمه الله ..)).(2/28)
وقال أيضاُ عنه في موضع آخر: (( والأشعري ابتلي بطائفتين طائفة تبغضه وطائفة تحبه، وكل منهما يكذب عليه، ويقول: إنه صنف هذه الكتب ثقية، وإظهار لموافقة أهل الحديث والسنة من الحنبلية، وهذا كذب علي الرجل، فإنه لم يوحد له قول باطن يخالف الأقوال التي أظهرها، ولا نقل ذلك عن خواص أصحابه، ولا يخرج عنه ما يناقض هذه الأقوال الموجودة في مصنفاته، فدعوى أحد في أنه: كان يبطن خلاف ما يظهر. دعوى مردودة عقلاً وشرعاً، بل من تدبر كلامه في هذا الباب تبين له قطعاً أنه كان ينصر ما أظهره)).
ويقول عنه قبل رجوعه إلي مذهب أهل السنة والجماعة: (( الأشعري وأمثاله برزخ بين السلف الجهمية، وأخذوا من هؤلاء كلاماً صحيحاً ومن هؤلاء أصولاً عقلية ظنوها صحيحة، وهي فاسدة، فمن الناس من مال إليه من الجهة السلفية، ومن الناس من مال إليه من الجهة البديعية الجهمية ، كأبي المعالي، ومنهم من سلك مسلكهم كعامة أصحابه )).
ثانياً:ابن حزم الظاهري:
قال ابن تيميه في بيان حقيقته: (( وكذلك أبو محمد بن حزم فيما صنفه من الملل والنحل، وإنما يستحمد بموافقة السنة والحديث مثل ما ذكره في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك، بخلاف ما انفرد به من قول في التفضيل بين الصحابة، وكذلك ما ذكره في باب الصفات، فإنه يستحمد فيه بموافقة السنة والحديث؛ لكونه يثبت الأحاديث الصحيحة، ويعظم السلف، وأئمة الحديث، ويقول: إنه موافق للإمام أحمد في مسألة القرآن الكريم وغيرها، ولا ريب أنه موافق له ولو في بعض ذلك. لكن الأشعري ونحوه أعظم موافقة للإمام أحمد بن حنبل، ومن قبله من الأئمة في القرآن الكريم والصفات، وإن كان أبو محمد ابن حزم في مسائل الإيمان والقدر أقوم من غيره، وأعلم بالحديث تعظيماُ له ولأهله من غيره. ولكن قد خالط من أقوال الفلاسفة والمعتزلة في مسائل الصفات ما صدفه عن موافقة أهل الحديث في معاني مذهبهم من ذلك، فوافق هؤلاء في اللفظ وهؤلاء في المعني.(2/29)
وبمثل هذا صار يذمه من يذمه من الفقهاء والمتكلمين وعلماء الحديث باتباعه لظاهر لا باطن له، كما نفي من عبادات القلوب إلي ما في كلامه من الوقيعة في الأكابر والإسراف في نفس المعاني، ودعوى متابعة الظاهر، وإن كان له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدافعه إلا مكابر. ويوجد في كتبه من كثرة الإطلاع علي الأقوال والمعرفة بالأحوال، والتعظيم لدعائم الإسلام، ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره.
فالمسألة التي يكون فيها حديث يكون جانبه فيها ظاهر الراجح، وله من التميز بين الصحيح والضعيف، والمعرفة بأحوال السلف، ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء )) .
ثالثاً: أبو حامد الغزالي:
قال ابن تيميه عنه:(( ونجد أبا حامد الغزالي ـ مع أنه له من العلم والفقه والنصوص والكلام والأصول وغير ذلك، مع الزهد والعبادة وحسن القصد، وتبحره في العلوم الإسلامية أكثر من أولئك ـ يذكر في كتاب الأربعين ونحوه كتابه (( المضنون به علي غير أهله )). فإذا طلبت ذلك الكتاب، واعتقدت فيه أسرار الحقائق وغاية المطالب وجدته قول الصابئة المتفلسفة بعينه. قد غير عباراتهم وترتيباتهم، ومن لم يعلم حقائق مقالات أهل الملل يعتقد أن ذلك هو السر الذي كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر.
وأنه هو الذي يطلع عليه المكاشفون الذين أدركوا الحقائق بنور إلهي، فإن أبا حامد كثيرا ما يميل في كتبه علي ذلك النور الإلهي، وعلي ما يعتقد أنه يوجه الصوفية من إدراك الحقائق وكشفها لهم، حتى يزنوا بذلك ما ورد من الشرع.(2/30)
وسبب ذلك أنه كان قد علم بذكائه وصدق طلبه ما في طريق المتكلمين والمتفلسفة من الاضطراب، وأتاه الله إيماناً مجملاًـ كما أخبر به عن نفسه ـ وصار يتشوق إلي تفصيل الجملة، فيجد في كلامه المشايخ الصوفية ما هو أقرب إلي الحق، وأولي بالتحقيق من كلامه الفلاسفة والمتكلمين والأمر كما وجده، ولكن لم يبلغه من الميراث النبوي الذي عند خاصة الأمة من العلوم والأحوال، وما وصل إليه السابقون الأولون من العلم والعبادة. حتى نالوا من الكاشفات العلمية والمعاملات العباديه ما لم ينله أولئك، فصار يعتقد أن تفصيل تلك الجملة يحصل بمجرد تلك الطريق، حيث لم عنده طريق غيرهما؛ لانسداد الطريقة الخاصة السنية النبوية عنه، بما كان عنده من قلة العلم بها، ومن الشبهات التي تقلدها من المتفلسفة والمتكلمين، حتى حالوا بها بينه وبين تلك الطريقة )).
ثم قال بعد ذلك عنه: (( ولهذا كان الشيخ ( أبو عمرو بن الصلاح ) يقول فيما رأيته بخطه: أبو حامد كثر القول فيه، فأما هذه الكتب ـ يعني المخالفة للحق ـ فلا يلتفت إليها، وأما الرجل فيسكت عنه، ويفوض أمره إلي الله )).
ومقصود أنه لا يذكر بسوء؛ لأن عفو الله عن الناس والمخطئ، وتوبة المذنب تأتي علي كل ذنب، وذلك من أقرب الأشياء إلي هذه وأمثاله، ولأن مغفرة الله بالحسنات منه ومن غيره، وتكفيره الذنوب بالمصائب تأتي علي محق الذنوب، فلا يقدم الإنسان علي انتفاء ذلك في حق معين إلا ببصره، لا سيما مع كثرة الإحسان، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، والقصد الحسن وهو يميل إلي الفلسفة، ولكن أظهرها في قالب التصوف والعبارات اٌلإسلامية، ولهذا فلقد رد عليه علماء المسلمين حتى أخص أصحابه أبو بكر بن العربي، فإنه قال: شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر)).
ثانياً: ومن الناحية العملية:(2/31)
السيرة الحسنة للمسلم، وأفعاله الحميدة، وصفاته العالية، وأخلاقه الزاكية، وعدله وإنصافه،لها الأثر البالغ في تصديقه والإيمان بما يدعو إليه، والانجذاب إلي كلامه،ويكون المسلم بهذا كالكتاب المفتوح يقرأ الناس فيه أخلاقه وصفاته، لأن التأثر بالأفعال والسلوك أبلغ وأكثر من التأثر بالمقال فقط، وقد ضرب الشيخ رحمه الله أروع الأمثلة وأصدقها في العدل والإنصاف والحكم علي الآخرين، وتمثل العدل في حياته إلي صورة حية وواقع عملي شملت الأصدقاء والأعداء علي حد سواء.
وإليك ـ أخي القارئ ـ نماذج حية من عدل الشيخ وإنصافه في نقد الآخرين والحكم عليهم أنقلها إليك من كلام المقربين إليه المجاورين له:
يقول الحافظ المحقق أبو عبد الله محمد بن عبد الهادي في كتابه (( العقود الدرية )) الذي ترجم فيه حياة الشيخ وبين مناقبه: (( وسمعت الشيخ تقي الدين ابن تيميه يذكر أن السلطان لما جلس بالشباك أخرج من جيبه فتوى لبعض الحاضرين في قتله، واستفتاه في قتل بعضهم.
قال الشيخ: فهمت مقصودة وإن عنده حنقاً شديداً عليهم، لما فعلوا وبايعوا الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، فشرعت في مدحهم والثناء عليهم وشكرهم،وأن هؤلاء لو ذهبوا لم تجد مثلهم في دولتك، أما أنا: فهم حل من حقي ومن جهتي، وسكنت ما عنده عليهم.
قال: وكان القاضي زين الدين ابن مخلوف ـ قاضي المالكية ـ يقول بعد ذلك ما رأيت أتقي من ابن تيميه....
ثم إن الشيخ ـ بعد اجتماعه بالسلطان الناصرـ نزل إلي القاهرة وسكن بالقرب من مشهد الحسين، وعاد إلي بث العلم ونشره، والخلق يشتغلون عليه، يقرؤون ويستفتونه ويجيبهم بالكلام والكتابة، والأمراء والأكابر والناس يترددون إليه، وفيهم من يعتذر إليه ويتنصل مما وقع، وقال: قد جمعت الكل في حل مما جري .(2/32)
قال ابن عبد الهادي: (( فلما كان الرابع عشر من شهر رجب من سنة إحدى عشر وسبعمائة جاء رجل ـ فيما بلغنا ـ إلي أخيه شرف الدين، وهو في مسكنه في القاهرة فقال له: إن الجماعة بجامع مصر قد تعصبوا علي الشيخ وتفردوا به وضربوه.
فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل. وكان بغض أصحاب الشيخ جالسين عند شرف الدين، قال: فقمت من عنده، وجئت إلي مصر فوجد خلقاً كثيراً في الحسينية وغيرها رجالاً وفرساناً يسألون عن الشيخ.
فجئته فوجدته بمسجد الفخر كاتب المماليك علي البحر واجتمع عنده الحسينية. ولو أمرتهم أن يهدموا مصر كلها لفعلوا، فقال لهم الشيخ: لأي شئ؟ قالوا: لأجلك.
فقال لهم: هذا ما يحل. قالوا: فهذا الذي فعل معك يحل؟ هذا شئ لا نصبر عليه. ولا بد أن نروح إليهم ونقاتلهم علي ما فعلوه. والشيخ ينهاهم ويزجرهم، فلما أكثروا في القول قال لهم: إما أن يكون الحق لي أو لكم أو لله، وإن كان الحق لي فهم في حل مني، وإن كان لكم فإن لم تسمعوا مني ولا تستفتوني فافعلوا ما شئتم، وإن كان الحق لله فالله يأخذ حقه إن شاء كما يشاء.
قالوا: فهذا الذي فعلوه معك هو حلال لهم؟ قال: هذا الذي فعلوه قد يكون مثابين عليه مأجورين فيه. قالوا: فتكون أنت علي الباطل وهم علي الحق؟ فإذا كنت تقول أنهم مأجورين، فاسمع منهم ووافقهم علي قولهم!
فقال لهم: ما لأحد كما تزعمون، فإنهم قد يكونوا مجتهدين مخطئين، ففعلوا ذلك باجتهادهم والمجتهد المخطئ له أجر.
فلما قال ذلك: قالوا قم واركب معنا حتى نجئ إلي القاهرة، فقال: لا، وسأل عن وقت العصر. فقيل له: أنه قريب، فقام قاصداً إلي الجامع لصلاة العصر.
فقيل له: يا سيدي، فقد تواصوا عليك ليقتلوك، وفي الجامع يتمكنون منك. بخلاف غيره فصل حيث كان.(2/33)
فأبى إلا المضي فخرج وتبعه خلق كثير لا يرجعون عنه، فضاقت الطريق بالناس، فقال بعض من كان قريباً منه: أدخل هذا المسجد ـ مسجد في الطريق واقعد حتى يخف الناس ـ لكي لا يموت أحد من الزحام، فدخل ولم يجلس فيه، ووقف وأنا معه.
فلما خف الناس خرج يطلب الجامع العتيق، فمر في طريقه علي قوم يلعبون بالشطرنج علي مسطبة بعض حوانيت الحدادين، فنفض الرقعة وقلبها فبهت الذي يلعب بها والناس من فعله ذلك. ثم مشي قاصداً الجامع، والناس يقولون: هنا يقتلونه الساعة يقتلونه! فلما وصل إلي الجامع قيل: الساعة يغلق الجامع عليه وعلي أصحابه ويقتلونهم، فدخل الجامع ودخلنا معه. فصلي ركعتين، فلما سلم منهما أذن المؤذن بالعصر، فصلى العصر. ثم افتتح بقراءة: ( الحمد لله رب العالمين )، ثم تكلم في المسألة التي كانت الفتنة بسببها إلى أذان المغرب.
فخرج أتباع خصومه وهم يقولون: والله لقد كنا غلطا نين في هذا الرجل بقيامنا عليه، والله الذي يقوله هو الحق، ولو تكلم هذا بغير الحق لم نمهله إلي أن يسكت، بل كنا نبادر إلي قتله، ولو كان هذا بطن خلاف ما يظهر، لم يخف علينا، وصاروا فرقتين يخاصم بعضهم بعضاً. وقال: وروحنا مع الشيخ إلي بيت ابن عمه على البحر وبتنا عنده .
الخاتمة(2/34)
بعد هذا العرض السريع لشيء من القواعد العلمية في نقد الرجال تبين لك ـ أخي القارئ ـ : أن تقييم الناس يجب أن يكون بعلم وعدل لا بجهل وظلم، وأن نقد الناس علي أساس الأهواء الشخصية والخلفيات المبنية يجعل الإنسان دائماً يميل عن الحق ميلاً واضحاً، فيجب علي من تصدي لنقد الناس والحكم عليهم أن يتحرى في نقده بيان الحق والإحسان بالخلق وإدارة الخير لهم، وأن يكون مصدر كلامه العلم بالحق والهدي من الله متجرداً له، وغايته النصح لله ورسوله ولإخوانه المسلمين. وأن يفتش في قلبه ويطهره من جميع آثار الهوى المذموم، وذلك إذا أراد أن يحكم علي غيره، وبشرط أن يكون الدافع إلي ذلك شرعياً، ويتذكر دائماً أن الإنسان مهما علت مرتبته في الدين فإنه معرض للخطأ فلا يجوز أن يطرح محاسنه وفضائله، بل يوازن بين المحاسن والمساوئ.
ويجعل علي المسلم أن يتق الله في ألفاظه ونقده، ويعلم أن ما يلفظه من قول إلا لديه رقيب عتيد، وأن هناك من يحصي أنفاسه وألفاظه، ولا يتكلم في أحد إلا بعلم وعدل، وليتذكر المسلم قول البخاري رحمه الله أمير المحدثين وإمام الجرح والتعديل الذي كان يخاف من الله رغم نزاهته في الحكم وعدله في نقد الناس حيث يقول: (( أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أنني اغتبت أحداً)).
يقول الذهبي: (( صدق رحمه الله ومن ينظر في كلامه في الجرح والتعديل، علم ورعه في الكلام علي الناس وإنصافه في من يضعفه. حتى أنه قال: فلان في حديثه نظر فهو متهم واه. وهذا معنى قوله: ولا يحاسبني أني اغتبت أحداً. وهو غاية الورع..)). والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم. وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك.(2/35)
المطلب الأول
حقيقة الجدل والمناظرة
قبل البدء في الحديث في موضوع الجدل والمناظرة وجب التعريف بمعناها.
المسألة الأولى: المعنى اللغوي:
الجدل: مشتق من جدلت الحبل إذا لففت بعضه على بعض.(1)
والجدل لغة يطلق على معان عدة وأهمها (2):
1- الصرع والغلبة، تقول: جدل الرجل، أي صرعه، وغلبه في الجدل.
2- الإتقان والحسن،تقول: جدل الحبل جدلا، أي أحكم فتله وأتقن، وجارية مجدولة الخلق، أي حسنته.
3- شدة الخصومة والمناقشة، تقول: جادله مجادلة وجدالا: ناقشه، وخاصمه، ومنه قوله سبحانه في التنزيل:
وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (3)
وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (4)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(5)
4- مقابلة الحجة بالحجة، تقول: جادل فلان فلانا: قابل حجته بحجة من عنده .
ولا تعارض بين هذه المعاني جميعا، فإن إتقان وحسن الخصومة والمناقشة ينتهي إلى الصرع والغلبة غالبا.
__________
(1) تعريف الخلف بمنهج السلف، للدكتور إبراهيم بن محمد بن عبد الله البريكان، ص210.
(2) كتاب آفات على الطريق، للدكتور السيد محمد نوح، الآفة الثانية والعشرون "المراء أو الجدال"، على شبكة الإنترنت، موقع الأسوة: http://www.aloswa.org/book/afat/afat.html
(3) سورة النحل: 125
(4) سورة العنكبوت: 64
(5) السورة المجادلة: 1(3/1)
المناظرة (1): مصدر ناظر، و(التَّناظُرُ) التَّراوُضُ في الأمرِ، و( ناظَرَهُ ) صارَ نَظيراً له وفلاناً بفُلانٍ جَعَلَهُ نَظيرَهُ، (وتَنَاظَرَا) تَقابَلاَ، و( المُناظَرَةُ ) أَن تُناظِرَ أَخاك في أَمر إِذا نَظَرْتُما فيه معاً كيف تأْتيانه.
المسألة الثانية: المعنى الإصطلاحي:
الجدل: هو إبطال قول الخصم بما يدل على بطلانه وإثبات الحق بالدليل.(2)
وقيل: هو تردد الكلام بين خصمين يقصد كل واحد منهما إحكام قوله ليدفع به قول صاحبه.(3)
المناظرة: هو تردد الكلام بين شخصين يقصد كل واحد منهما تصحيح قوله وإبطال قول صاحبه مع رغبة كل منهما في إظهار الحق.(4)
**************
المطلب الثاني
نشأة علم الجدل
المسألة الأولى: نشأة علم الجدل (5):
__________
(1) انظر "محيط المحيط"، و"القاموس المحيط" للفيروز آبادي، مادة: نظره، و"لسان العرب" لإبن منظور مادة: نظر، على شبكة الإنترنت، عنوان الموقع:
http://lexicons.sakhr.com/Default.asp
(2) تعريف الخلف بمنهج السلف، ص210.
(3) شريط "ذم الجدل" للشيخ وليد بن خالد بسيوني.
(4) المنهج القرآني في الجدل والاستدلال ، بقلم الأستاذ : عبد السلام بنهروال، على شبكة الإنترنت، موقع الشبكة الإسلامية:
http://www.islamweb.net/quran/studies/2.htm
(5) المرجع السابق.(3/2)
الجدل ظاهرة عالمية لوجودها في غير الأجناس البشرية كالملائكة وإبليس ، لذلك فإننا إذا أردنا معرفة تاريخ الجدل ونشأته ، فإن القرآن الكريم يروي لنا نماذج من جدل الأمم الغابرة منذ أن وجد الإنسان على هذه البسيطة بل قبل وجوده ، كما ورد في جدل الملائكة حول كون آدم خليفة في الأرض ، ولذلك لا يمكن أن نحدد وقتًا زمنيًا لنشأة الجدل بمعناه الفطري العام ؛ لأنه وجد بوجود الإنسانية . كامنًا في نزعاتها البيانية . أما نشأة علم الجدل في البيئات الإسلامية فقد ظل مقصورًا في عصر الصحابة والتابعين على ما تدعو إليه الحاجة من تبيان الحق ودفع الشبه وترجيح الأدلة في الاجتهادات الفقهية ، ولم يقع في العقائد إلاّ نادراً ؛ لأنهم كانوا يعرفون الأدلة نصّاً ومعنىً، وكانت فطرهم سليمة .
ويقال إنَّ أول من دّوَّنَ في الجدل هو أبو علي الطبري، وأول من كتب فيه البزدوي، ثم كثر التأليف من بعدهما
وأول من صنف فيه من الفقهاء الشاشي سنة 366هـ.
المسألة الثانية: اسباب انتشار الجدل (1):
1. انتشار مجالس القُصَّاص في المدن الإسلامية ، فقد فتح المجال للناس في تناول المشكلات الطارئة ، والرغبة في معرفة حكمة الدين .
2. مهاجمة اليهود والنصارى والدهريين وغيرهم للدين الإسلامي ، فتصدى لهم العلماء لإبطال أقوالهم .
3. طرق باب البحث في بعض الموضوعات العويصة كالغيبيات التي كانت مزالق لبعض الباحثين ، وميدانًا يتفاضل فيه المتجادلون .
4. ميل العقول إلى نوع من الترف العقلي بالبحث فيها .
كل هذه الأسباب هيّأت العقول للجدل والمناظرة فيما يعرض من مسائل دينية وسياسية ، فثارت بحكم الضرورة رياح الخلاف لاختلاف الأنظار ، وتباين المقاصد .
**************
المطلب الثالث
__________
(1) المنهج القرآني في الجدل والاستدلال ، بقلم الأستاذ : عبد السلام بنهروال، موقع الشبكة الإسلامية:
http://www.islamweb.net/quran/studies/2.htm(3/3)
أنواع وصور الجدل وحكمها
الجدل والمناظرة يتكون من شيئين:
1- الغاية والنية.
2- الطريقة والوسيلة.
النية فيها إما أن تكون محمودة أم مذمومة، والطريقة التي يُحكم بها المجادل القول أو يدفعه يكون إما حقا أو باطلا، وسيتبين ذلك في المسائل الآتية إن شاء الله (1) :
المسألة الأولى: أنواع الجدل:
للجدل أربعة أنواع أو حالات، لا تخرج عنها بحال من الأحوال، وهي(2):
1_ المجادلة بالحق للحق.
2_ المجادلة بالباطل للباطل.
3_ المجادلة بالحق للباطل.
4_ المجادلة بالباطل للحق.
* أما المجادلة بالحق للحق فليست كلها محمودة، فهذا النوع تتعلق به المصلحة والمفسدة، فمتى كانت المصلحة فيها راجحة كانت محمودة ومأمور بها أمر إيجاب أو أمر استحباب، ومتى كانت المفسدة فيها راجحة أصبحت مذمومة.(3) والمجادلة بالحق للحق والمصلحة فيها راجحة لها صورتان:
1_ المجادلة في التعلم، كتعليم الجاهل والمخطئ ومناظرة أهل العلم بعضهم لبعض ومجادلة طالب العلم لشيخه للتعلم، ومنها قول عمر ابن عبد العزيز " ما رأيت رجلا لاح الرجال إلا أخذ بجوامع الكلم". وقيل لإبن عباس رضي الله عنه "بما نلت العلم؟"، قال: "بقلب عقول ولسان سئُول". ولذلك قالوا " لا يطلب العلم رجلان: مستحٍ ومستكبر، فالمستحي يمنعه حياءه أن يسأل والمستكبر يمنعه الكبر أن يسأل".(4)
__________
(1) شريط "ذم الجدل" بتصرف.
(2) شريط "ذم الجدل " بتصرف.
(3) المرجع السابق بتصرف.
(4) المرجع السابق بتصرف.(3/4)
2_ المجادلة لإقامة الحجة ودرء الشبهة، وأول ما يدخل في هذا مناظرة الكفار وإقامة الحجة عليهم، والرد على شبهاتهم وافتراءاتهم،(1) قال تعالى ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ(2).
ومن أمثلة هذا النوع مناظرة إبراهيم للنمرود، قال تعالى أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ(3)، ومناظرة موسى لفرعون، ومناظرة عيسى لبني إسرائيل وغيرهم من الأنبياء(4)، وكذلك مجادلة نوح عليه السلام لقومه لإقامة الحجة عليهم وإظهار الحق،
قال تعالىقَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِين(5).
ويدخل فيه أيضا مناظرة أهل البدع والأهواء، لا سيما قبل قتالهم أو قتلهم وتعزيرهم، كما ناظر ابن عباس وعلي رضي الله عنهما الخوارج قبل أن يقاتلوهم، ومناظرة الأوزاعي رحمه الله لقدريٍّ، ومناظرة عمر بن عبد العزيز لغيلان الدمشقي ليقيم عليه الحجة أو يقتله، ومناظرة الإمام أحمد للجهمية ليقيم عليهم الحجة ويرد شبههم عند الخليفة.(6)
__________
(1) المرجع السابق بتصرف.
(2) سورة النحل ، آية 125.
(3) سورة البقرة ، آية 258.
(4) تعريف الخلف بمنهج السلف\بتصرف ص221.
(5) سورة هود ، آية 32.
(6) شريط "ذم الجدل" بتصرف.(3/5)
فهاتان الصورتان محمودتان لما فيهما من مصلحة راجحة(1) وقد تكون من الواجبات الشرعية إذا ترتب على عدمها انتشار الباطل ورد الحق وفتنة الخلق عن دينهم واعتقادهم للباطل.(2)
أما المجادلة بالحق للحق والمفسدة فيها راجحة فهي أيضا لها صورتان(3):
1_ مجادلة الضعيف العاجز، من ليست عنده ملكة المناظرة، فليس كل عالم يمكن أن يكون مجادلا وليس كل ما عرفه الإنسان أمكنه تعريف غيره به. فقد تعرف مسألة لكن لا تستطيع أن تقنع بها غيرك، فالقدرة على الإقناع والتوجيه وإقامة الحجة وسرعة البديهة في الرد على الخصوم واستحضار الرد وتعريف الحق بأسلوب صحيح ليس كل أحد يستطيعه أو يقدر عليه. ومن الضعف أيضا جهل المجادل بحجج الخصوم وأدلتهم ووجه الرد عليهم، فهذه المناظرة المفسدة فيها راجحة.
__________
(1) المرجع السابق بتصرف.
(2) تعريف الخلف بمنهج السلف ص221.
(3) شريط "ذم الجدل" بتصرف.(3/6)
2_ الجدال فيما لا نفع فيه، وهذه الصورة يدخل فيها جدال المعاند المخاصم الذي يناقش في البديهيات والضروريات، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم "ابغض الرجال إلى الله الألد الخصم" (1)، (والْأَلَدّ هو شَدِيد الْخُصُومَة مَأْخُوذ مِنْ لَدِيدَيْ الْوَادِي وَهُمَا جَانِبَاهُ; لِأَنَّهُ كُلَّمَا اُحْتُجَّ عَلَيْهِ بِحُجَّةٍ أَخَذَ فِي جَانِب آخَر . وَأَمَّا الْخَصِم فَهُوَ الْحَاذِق بِالْخُصُومَةِ)(2) فهذا النوع من المجادلين لا فائدة في مناظرته، ولهذا كان ابن سيرين ينهى عن الجدال إلا رجلا إن كلمته طمعت في رجوعه. فالمفسدة الحاصلة من إضاعة الوقت وامتهان العلم وطرح الشبه والتشكيك في اليقينيات مع ما يكون منه من الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومخالفة المنقول والمعقول، يوجب الإنقطاع عنه، وذمه والبعد عنه، وعامة ما ورد من النهي في مناظرة أهل البدع والأهواء يدخل في هذه الصورة.
* أما المجادلة بالباطل للباطل فهي مذمومة بالإتفاق، قال تعالى:
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ
فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ(3).
يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ(4).
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ(5).
__________
(1) صحيح مسلم (4821)، كتاب العلم، باب "في الألد الخصم" (منقول من موسوعة الحديث الشريف، قرص كمبيوتر، شركة حرف لتقنية المعلومات
(2) صحيح مسلم بشرح النووي ( منقول من المرجع السابق).
(3) سورة غافر ، آية 5.
(4) سورة الأنفال ، آية 6.
(5) سورة ا لشورى ، آية 16.(3/7)
ومثال ذلك لما جاء الكفار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا له: سمعناك وأنت تقرأ إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُون(1)، قالوا هذا يشمل عيسى والملائكة في النار لأنهم يُعبدون، قرآنك يا محمد يغالط بعضه بعضا، فأنزل الله مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ(2)، حجتهم باطلة وغايتهم فاسدة، وأنزل الله تعالى (ردا عليهم) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ(3). (4)
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه " إن أخوف ما أخاف عليكم ثلاثة: جدال المنافق بالقرآن لا يخطئ واوا ولا ألفا يجادل الناس أنه أجدل منهم ليضلهم عن الهدى وزلة عالم وأئمة المصلين، ثلاث بهن يهدم الزمن". (5)
* المجادلة بالحق للباطل: يدخل فيه السُنّي الذي يجادل ويناظر بعلم ولكن لا يبتغي بذلك وجه الله، بل يريد الغلبة والخصوم وإظهار النفس والعلو في الأرض والظلم والعدوان لمن يناظره، فيكون عمله مراءة للناس وطلبا للدنيا، وهذه أيضا مذمومة للنية والغاية الفاسدة، فلم يتوفر فيها شرط الإخلاص. وهذا النوع كان شائعا في أزمان المتقدمين الذين يناظرون بين يدي السلاطين، وفي هذه الأزمنة أيضا.(6)
__________
(1) سورة الأنبياء ، آية 98.
(2) سورة الزخرف ، آية 58.
(3) سورة الأنبياء ، آية 101.
(4) شريط "ذم الجدل" / بتصرف.
(5) تعريف الخلف بمنهج السلف ص213.
(6) شريط "ذم الجدل" / بتصرف.(3/8)
* المجادلة بالباطل للحق(1): وهذه لها صور كثيرة جدا، وهي مذمومة، ومن هذا الوجه ذم السلف علم الكلام والمنطق والفلسفة لإشتماله على القضايا الكاذبة والمقدمات الفاسدة، ومن ذلك رد البدعة بالبدعة، ومناظرة الكفار بالأصول الفاسدة والأدلة الباطلة وإن كان مقصودهم إحقاق الحق أو إبطال الباطل، فالمفاسد التي تعود على المجادل بالباطل أعظم من المصالح.
ومن أمثلة رد البدعة بالبدعة ما فعله الجهم بن صفوان عند مناظرته للمانويّة، حيث أنه حصلت بينه وبينهم مناظرة، فجلس أربعين يوما ترك فيها الصلاة ودين الإسلام، ثم بعد أربعين يوما جاء ليرد عليهم فرد عليهم ببدعة
شنيعة وهي بدعة التجهم في الصفات، فرد عليهم قولهم البدعي الذي حقيقته الكفر ببدعة أخرى.
ومن هذا الباب مجادلة اليوم للعلمانيين والكفار، فيناظرهم مبتدع ببدعة هو أحدثها، وليس بدين الإسلام وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا شائع كثير وللأسف لمن تصدى لمناظرة العلمانيين والكفار، أن يرد عليهم ببدع مقابلها، لهذا قال الإمام أحمد رحمه الله "لا تجالس صاحب الكلام وإن ذب عن السنة فإنه لا يؤول أمره إلى خير".
وقال الإمام ابن بطه العكبري رحمه الله في الإبانة الكبرى "إياك والتكلف بما لا تعرفه وتمحل الرأي والغوص
على دقيق الكلام فإن ذلك من فعلك بدعة وإن كنت تريد به السنة، فإنّ إرادتك للحق من غير طريق الحق باطل، وكلامك على السنة من غير السنة بدعة ".
ومن هذا أيضا المجادلة بالجهل كما هي حال العوام، يقول الله تعالى هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ(2)، وهذه مجادلة كثير من العوام والمثقفين الذين ليس لهم بضاعة في العلم الشرعي.
__________
(1) المرجع السابق بتصرف كثير.
(2) سورة آل عمران ، آية 66.(3/9)
فالثلاث الحالات الآخيرة من المجادلات مذمومة ومنهي عنها، أما الحالة الأولى فمنها ما هو محمود ومنها ما هو مذموم وقد تقدم تفصيل ذلك.
وبهذا يتبين أن أكثر أحوال المجادلات والمناظرات هو الذم والفساد، لذا جاء ذمها على وجه الإطلاق في النصوص من هذا الإعتبار.
المسألة الثانية: صور الجدل (1):
وللمراء والجدل صور أو أمارات يعرف بها وأهمها:
1- الطعن في كلام الغير من حيث اللفظ، بإظهار خلل فيه من جهة النحو، أو من جهة اللغة، أو من جهة العربية، أو من جهة النظم والترتيب بسوء تقديم أو تأخير.
2- الطعن في كلام الغير من حيث المعنى، بأن يقول المماري (المجادل): ليس الكلام كما تقول، وقد أخطأت فيه من وجه كذا، وكذا.
3- الطعن في كلام الغير من حيث القصد، بأن يقول المماري لخصمه: هذا الكلام حق، ولكن ليس قصدك منه الحق، وإنما أنت فيه صاحب غرض، وما يجري مجراه.
والمراء أو الجدال على هذا النحو مذمومان، وذلك للنصوص الكثيرة الدالة على هذا، ومنها قوله تعالى:
فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا(2)
وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ(3)
الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا(4)
وغير ذلك من النصوص التي سيأتي ذكرها إن شاء الله.
**************
المطلب الرابع
ذم الجدل
المسألة الأولى: ذم الجدل في القرآن والسنة:
وردت نصوص كثيرة في ذم الجدل، منها ما يلي:
- قول الله عز وجل:
__________
(1) آفات على الطريق ، الآفة الثانية والعشرون / بتصرف.
(2) سورة الكهف ، آية 22.
(3) سورة الأنعام ، آية 121.
(4) سورة غافر ، آية 35.(3/10)
وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ(1)
يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ(2)
وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ(3)
وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا(4)
وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ(5)
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ(6)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ(7)
إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(8)
__________
(1) سورة الأنعام ، آية 25.
(2) سورة الأنفال ، آية 6.
(3) سورة الأنعام ، آية 121.
(4) سورة الكهف ، آية 56.
(5) سورة الحج ، آية 3.
(6) سورة غافر ، آية 4.
(7) سورة غافر، آية 5.
(8) سورة غافر ، آية 56.(3/11)
وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ(1)
- وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
( أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ )(2)
(مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)(3) قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ حَجَّاجِ بْنِ دِينَارٍ وَحَجَّاجٌ ثِقَةٌ مُقَارِبُ الْحَدِيثِ وَأَبُو غَالِبٍ اسْمُهُ حَزَوَّرُ
(إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ)(4)
المسألة الثانية: آثار السلف في ذم الجدل:
الآثار التي وردت في ذم الجدل والنهي عنه كثيرة، سأكتفي بذكر بعض منها(5):
قال الأوزاعي: "إذا أراد الله بقوم شرا ألزمهم الجدل ومنعهم العمل".
وقال معاوية بن قرة: "الخصومات في الدين تحبط الأعمال".
وقال عمر بن عبد العزيز: "من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل".
__________
(1) سورة الشورى ، آية 35.
(2) سنن أبي داود (4167)، كتاب الأدب، باب في حسن الخلق (منقول من موسوعة الحديث الشريف).
(3) سنن الترمذي (3176)، كتاب تفسير القرآن، باب "ومن سورة الزخرف" (منقول من المرجع السابق).
(4) صحيح مسلم (4821)، كتاب العلم، باب "في الألد الخصم" (منقول من المرجع السابق).
(5) تعريف الخلف بمنهج السلف ص210-211.(3/12)
وقال هشام بن حسان قال: "جاء رجل إلى الحسن فقال: يا أبا سعيد تعال حتى أخاصمك في الدين فقال الحسن: أما أنا فقد أبصرت ديني فإن كنت أضللت دينك فالتمسه".
وقال عبد الكريم الجزري: "ما خاصم ورع قط في الدين".
قال إسحاق بن عيسى: "سمعت مالك بن أنس يعيب الجدال في الدين ويقول: كلما جاءنا رجل أجل من رجل
أرادنا أن نرد ما جاء به جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم"(1).
قال الشافعي رحمه الله: "كان مالك بن أنس إذا جاءه بعض أهل الأهواء قال: أما إني على بينة من ربي وديني، وأما أنت فشاك فاذهب إلى شاكٍّ فخاصمه"(2).
قال الحسن الزعفراني: "سمعت الشافعي يقول: ما ناظرت أحدا في الكلام إلا مرة وأنا استغفر الله من ذلك"(3).
قال عبيد الله بن حنبل: "حدثني أبي قال: سمعت أبا عبد الله يقول: عليكم بالسنة والحديث وينفعكم الله به، وإياكم والخوض والجدال والمراء فإنه لا يُفلح من أحب الكلام، وكل من أحدث كلاما لم يكن آخر أمره إلا إلى بدعة، لأن الكلام لا يدعو إلا خير، ولا أحب الكلام ولا الخوض ولا الجدال، وعليكم بالسنن والآثار والفقه الذي تنتفعون به، ودعوا الجدال والكلام وأهل الزيغ والمراء، أدركنا الناس ولا يعرفون هذا، ويجانبون أهل الكلام، وعاقبة الكلام لا تؤول إلى خير، أعاذنا الله وإياكم من الفتن وسلمنا وإياكم من كل هلكة"(4).
**************
المطلب الخامس
آثار الجدل
للجدل آثار سيئة كثيرة، منها ما يلي:
__________
(1) إعتقاد الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، للدكتور محمد بن عبد الرحمن الخميس، ص36 و37.
(2) المرجع السابق ص37 و38.
(3) المرجع السابق ص62.
(4) المرجع السابق ص73.(3/13)
1_ الضلالة عن الهدى(1)، قال النبي صلى الله عليه وسلم "مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ"(2).
وقال عمر رضي الله عنه " إن أخوف ما أخاف عليكم ثلاثة: جدال المنافق بالقرآن لا يخطئ واوا ولا ألفا يجادل الناس أنه أجدل منهم ليضلهم عن الهدى وزلة عالم وأئمة المصلين، ثلاث بهن يهدم الزمن".(3)
2_ ضعف الإيمان: قال ميمون أبي عمر قال "لا يصيب عبد حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وإن كان محقا"(4).
3_ إحباط الأعمال(5): قال معاوية بن قرة "الخصومات في الدين تحبط الأعمال"(6).
4_ قساوة القلب ويورث الضغن: قال مالك بن أنس رحمه الله "المراء في العلم يقسي القلب ويروث الضغن"(7).
5_ الإفساد بين الناس، قال عبد الله بن الحسين: "المراء يفسد الصداقة والقديمة ويحل العقدة الوثيقة وأقل ما فيه أن تكون المغالبة والمغالبة أمتن أسباب القطيعة"(8).
6_ قلة المروءة وضياع الكرامة ، قال الأصمعي: قال سمعت أعرابيا يقول "ما لاحا الرجال وما رآهم قلّت مروئته وهانت كرامته ومن أكثرَ من شيء عُرف به"(9).
7_ الإثم، قال سفيان: قيل لعبد الله بن حسن مالك: لاتماري إذا جلست فقال: ما تصنع بأمر إن بالغت فيه أثمت وإن قصرت فيه خصمت.(10)
__________
(1) تعريف السلف بمنهج الخلف ص213.
(2) سنن الترمذي (3176)، كتاب تفسير القرآن، باب "ومن سورة الزخرف" (منقول من موسوعة الحديث الشريف)
(3) تعريف الخلف بمنهج السلف ص213.
(4) المرجع السابق ص214.
(5) المرجع السابق نفس الصفحة.
(6) المرجع السابق ص210.
(7) المرجع السابق ص214.
(8) المرجع السابق نفس الصفحة.
(9) المرجع السابق نفس الصفحة.
(10) تعريف الخلف بمنهج السلف ص214 و215.(3/14)
8_ يشغل القلب ويورث النفاق، قال جعفر بن محمد رضي الله عنه "إياكم والخصومة في الدين فإنها تشغل القلب وتورث النفاق".(1)
9_ ضرب القرآن بعضه ببعض، قال عون بن عبد الله: "لا تفات أصحاب الأهواء في شيء فإنهم يضربون القرآن بعضه ببعض".(2)
10_ الإختلاف والفرقة، قال ابن عباس: "أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الإختلاف والفرقة وأخبرهم بما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات".(3)
11_ تلبيس الدين على الناس، قال أبو قلابة: "لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم".(4)
12_ الشك، قال عمر بن عبد العزيز: "من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر الشك أو قال يكثر التحول".(5)
13_ ظهور البدع ونشأة الفرق، فقد مر ذكر مناظرة الجهم للمناويّة الذي رد فيه عليهم ببدعة التجهم في الصفات، ثم ظهرت بدعة الإعتزال عندما رد المعتزلة على بدعة الجهمية، والأشاعرة أرداوا الذب عن الدين ببيان حال المعتزلة فأتت ببدعة الأشعرية.(6)
14_ وضع الأحاديث، حيث قام الكثيرون بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لنصرة مذهبهم وللرد على أهل البدع(7)، قال ابن أبي الحديد الشيعي: " إن أصل الأكاذيب في أحاديث الفضائل كان من جهة الشيعة، فإنهم وضعوا في مبدأ الأمر أحاديث مختلفة في صاحبهم، وحملهم على وضعها عداوة خصومهم، فلما رات البكرية ما صنعت الشيعة وضعت لصاحبها أحاديث في مقابلة هذه الأحاديث"(8).
المطلب السادس
آداب المناظرة
ما يلى بعض الآداب التي ينبغي للمسلم أن يتأدب بها أثناء المناظرة المباحة:
__________
(1) المرجع السابق صفحة 215.
(2) المرجع السابق نفس الصفحة.
(3) المرجع السابق نفس الصفحة.
(4) المرجع السابق ص216.
(5) المرجع السابق نفس الصفحة.
(6) راجع شريط "ذم الجدل".
(7) راجع المرجع السابق.
(8) حجية السنة للدكتور الحسين شواط، ص216.(3/15)
1_ تصحيح النية (الإخلاص)، فيكون القصد من المناظرة النصح وإظهار الحق، وليس للمغالبة. قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى: (.. ومن ذلك: أن المجادلة إنما وضعت ليستبين الصواب، وقد كان مقصود السلف المناصحة بإظهار الحق، وقد كانوا ينتقلون من دليل إلى دليل، وإذا خفي على أحدهم شيء نبهه الآخر، لأن المقصود كان إظهار الحق).(1)
2_ أن يكون الأصل فيها بالكتاب والسنة.
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين من بعدهم، إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله تعالى في قوله سبحانه يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً(2)(3).
3_ أن يكون عالما أو ملما بالمسألة التي يناظر فيها.(4)
4_ إظهار روح المودة والأخوة قبل وأثناء وبعد الجدل، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (..وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العلمية والعملية، مع بقاء الألفة والعصمة وأخوة الدين).(5)
__________
(1) راجع "معالم في طريق طلب العلم"، تأليف عبد العزيز بن محمد السدحان، ص239 و240.
(2) سورة النساء ، آية 59.
(3) معالم في طريق طلب العلم، ص241.
(4) المرجع السابق ص240.
(5) المرجع السابق ص241 بتصرف.(3/16)
5_ ضبط النفس وعدم الإنفعال، عن ابن عون رحمه الله أنه إذا أغضبه رجل، قال له: بارك الله فيك؛ وروي عن يوسف ابن الإمام ابن الجوزي من ضبط نفسه في أثناء المناظرة: أنه كان يناظر، ولا يحرك جارحة ! وورد عن عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة: أنه كان لا يناظر أحدا إلا وهو يتبسم، حتى قال بعض الناس: هذا الشيخ يقتل خصمه بالتبسم ! (1)
6_ المبادرة إلى الرجوع عند ظهور الحق مع صاحبه، فالرجوع إلى الحق وترك ما سواه من خصال أهل الحق، كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري -رضي الله عنهما-:
" ... ولا يمنعك قضاء قضيته فيه اليوم، فراجعت فيه رأيك، فهديت فيه لرشدك، أن تراجع فيه الحق، فإن الحق قديم لا يبطله شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل... " . ومن عجيب ما روي عن ابن الجوزي أنه كان يعمل بحديث يتضمن بعض الأذكار عقب الصلاة فقال: "كنت قد سمعت هذا الحديث في زمن الصبا، فاستعملته نحوا من ثلاثين سنة، لحسن ظني بالرواة، فلما علمت أنه موضوع تركته، فقال لي قائل: أليس هو استعمال خير ؟ قلت: استعمال الخير ينبغي أن يكون مشروعا، فإذا علمنا أنه كذب خرج عن المشروعية". (2)
7_ عدم التشهير بخصمك عند غلبته في مجلس المناظرة، فبعض الناس إذا تمكن من غلبه أخيه في مناظرته له، جعل تلك المناظرة فاكهة مجالسه، فيتحدث بها مع كل جليس، وكيف أنه دحض حجج خصمه، وتمكن من تزييف قول صاحبه. وهذا التصرف مشين، وربما يجر إلى باب الرياء والسمعة، ويسبب في نفور أخيه عنه ونشوء الشحناء بينهما؛ قال الإمام ابن الجوزي: " ... ومن ذلك: ترخّصهم في الغيبة بحجة الحكاية عن المناظرة، فيقول أحدهم: تكلمت مع فلان فما قال شيئا ! ويتكلم بما يوجب التشفي من غرض خصمه بتلك الحجة". (3)
__________
(1) المرجع السابق ص241 و242 بتصرف.
(2) معالم في طريق طلب العلم ص242 بتصرف.
(3) المرجع السابق ص242 و243 بتصرف.(3/17)
8_ إغلاق باب المناظرة إذا رأيت من الطرف الآخر عنادا وتعنتا، فربما يترتب على استمرار المناظرة بوادر الشحناء والبغضاء، فيغيب الهدف من المناظرة وينصب الشيطان رايته وألويته. والأولى أن يلطف الكلام للصاحبه الذي يناظره، ونقل الحديث إلى موضوع آخر لكي تخف الوطأ ومن ثَمّ تزول بالكلية، فإذا رأي بعد ذلك مصلحة في إعادة المناظرة فليفعل، لكن بأسلوب يكسب به ودّ اخيه، وترده عن كيد الشيطان، وإن رأى أن المصلحة في عدم فتح باب المناقشة فليفعل، مع إرشاده إلى بعض المراجع التي يعلم أنها أجادت في بيان الحق في تلك المسألة.(1)
وأخيرا أحب أن أنقل كلاما لإبن بطة العكبري رحمه الله في الآداب المرعية في المناظرة:
قال رحمه الله " فالذي يلزم المسلمين في مجالسهم ومناظراتهم في أبواب الفقه والأحكام تصحيح النية بالنصيحة واستعمال الإنصاف والعدل ومراد الحق الذي قامت به السماوات والأرض فمن النصيحة أن تكون تحب صواب مناظرك ويسوؤك خطأه كما تحب الصواب من نفسك ويسوؤك الخطأ منها فإنك إن لم تكن كذلك كنت غاشا لأخيك ولجماعة المسلمين وكنت محبا أن يُخطأ في دين الله وأن يكذب عليه ولا يصيب الحق في دين الله ولا يصدق .. "(2)
**************
******
الخاتمة
ما يلى ملخص أهم النقاط التي دار حولها هذا البحث:
1_ الجدل هو تردد الكلام بين خصمين يقصد كل واحد منهما إحكام قوله ليدفع به قول صاحبه، منه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم.
2_ الجدل ليس ظاهرة جديدة، فنشأة الجدل كان قبل خلق آدم، وكان في الأمم الغابرة.
3_ من أسباب انتشار الجدل : انتشار مجالس القُصَّاص، ومهاجمة اليهود والنصارى والدهريين وغيرهم للدين الإسلامي، وطرق باب البحث في بعض الموضوعات العويصة كالغيبيات، و ميل العقول إلى نوع من الترف العقلي بالبحث فيها.
__________
(1) راجع المرجع السابق ص243 و244.
(2) تعريف الخلف بمنهج السلف ص221 بتصرف.(3/18)
4_ يُشترط في الجدل والمناظرة شرطي قبول العمل وهو الإخلاص والمتابعة.
5_ للجدل أربع حالات لا يخرج منها بحال من الأحوال وهي: الجدل بالحق للحق، والجدل بالباطل للباطل، والجدل بالحق للباطل، والجدل بالباطل للحق.
6_ الحالات الثلاث الآخيرة كلها مذمومة، أما الحالة الأولى (المجادلة بالحق للحق) فمنها ما هو محمود ومنها ما هو مذموم، فإن رجحت فيها المصلحة كانت محمودة، وإن رجحت فيها المفسدة كانت مذمومة.
7_ صور المجادلة: الطعن في كلام الغير من حيث اللفظ، والمعنى، والقصد؛ وكلها مذمومة.
8_ جاء ذم الجدل في القرآن والسنة وآثار السلف.
9_ الآثار السيئة للجدل كثيرة منها: الضلالة بعد الهدى، وضعف الإيمان، واحباط الأعمال، وقسوة القلب وضياع الكرامة، والإثم، وإشغال القلب، والإختلاف والفرقة والشك والتلبيس على الناس.
10_ من آداب المناظرة المباحة: تصحيح النية (الإخلاص)، وأن يكون بالكتاب والسنة، وأن يكون المناظر ملما بالمسألة التي يناظر فيها، ضبط النفس وعدم الإنفعال، والمبادرة إلى الرجوع عند ظهور الحق مع صاحبه، وعدم التشهير بالخصم عند غلبته، وإغلاق باب المناظرة إذا رأى من الطرف الآخر عنادا وتعنتا.
الحمد لله الذي وفقني في كتابة هذا البحث، ويسره لي، أسأله سبحانه الإخلاص في القول والعمل، والثبات على الحق، والبركة في العلم، وصلّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(1)
****************
كتبته
طالبة علم
فهرس المراجع
__________
(1) سورة البقرة ، آية 286.(3/19)
1_ إعتقاد الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، للدكتور محمد بن عبد الرحمن الخميس، معهد العلوم الإسلامية والعربية في أمريكا، الطبعة الأولى، 1412هـ - 1992م.
2_ تعريف الخلف بمنهج السلف، تأليف الدكتور إبراهيم بن محمد بن عبد الله البريكان، دار ابن الجوزي للنشر والتوزي، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، ربيع الأول 1418هـ - 1997م.
3_ حجية السنة، للدكتور الحسين شواط، الكتاب المقرر لمادة حجية السنة وتاريخها بالجامعة الأمريكية المفتوحة، بولاية فرجينيا.
4_ "ذم الجدل" شريط لمحاضرة ألقاها الشيخ وليد بن خالد بسيوني.
5- معالم في طريق طلب العلم، تأليف عبد العزيز بن محمد بن عبد الله السدحان، تقديم فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين، دار العاصمة، المملكة العربية السعودية – الرياض، الطبعة الثالثة، 1420 هـ - 1999م.
6_ "موسوعة الحديث الشريف" قرص كمبيوتر (الإصدار 2.1) شركة حرف لتقنية المعلومات، القاهرة-مصر.
7_ شبكة الإنترنت:
أ_ آفات على الطريق، الدكتور السيد محمد نوح، موقع الأسوة، عنوان الصفحة: http://www.aloswa.org/book/afat/afat.html
ب_ المعاجم العربية، موقع صخر، عنوان الصفحة: http://lexicons.sakhr.com/Default.asp
ج_ المنهج القرآني في الجدل والاستدلال ، بقلم الأستاذ : عبد السلام بنهروال، موقع الشبكة الإسلامية، عنوان الصفحة: http://www.islamweb.net/quran/studies/2.htm
فهرس المحتويات
المقدمة ... 1
خطة البحث ... 1
المطلب الأولى: حقيقة الجدل والمناظرة ... 3
المسألة الأولى: المعنى اللغوي ..............................................................................3
المسألة الثانية: المعنى الإصطلاحي ..........................................................................4
المطلب الثاني: نشأة علم الجدل ... 4(3/20)
المسألة الأولى: نشأة علم الجدل ...........................................................................4
المسألة الثانية: أسباب انتشار الجدل .......................................................................5
المطلب الثالث: أنواع وصور الجدل وحكمها ... 5
المسألة الأولى: أنواع الجدل ... 6
المسألة الثانية: صور الجدل ... 9
المطلب الرابع: ذم الجدل ... 10
المسألة الأولى: ذم الجدل في القرآن والسنة ... 10
المسألة الثانية: آثار السلف في ذم الجدل ... 11
المطلب الخامس: آثار الجدل ... 13
المطلب السادس: آداب المناظرة ... 15
الخاتمة ... 17
فهرس المراجع ... 18
فهرس المحتويات ... 19(3/21)
[1]
خالد وحيدر
حوار هادئ ومثمر
جمع الحوار
عبد الله عبدالرحمن الراشد
1421 هـ - 2000 م
دار الأمل للنشر والتوزيع القاهرة
[ 2 ]
{ سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم }
« اللهم يا معلم إبراهيم علمنا ويا مفهم سليمان فهمنا ما ينفعنا »
الفهرس
المقدمة
قبل طرق باب النقاش
مبحث : ظهور الشيعة
ابن سبأ وعلاقته بظهور الشيعة
ادعاء أن الصديق اغتصب الخلافة
اهتمام الشيعة بقضية الإمامة
الإمامة منصب إلهي
هل هناك نص على خلافة علي
تنازل الحسن عن الخلافة
مبحث : العقيدة السليمة
معنى كلمة الشرك
تعريف الخميني لمفهوم الشرك
فتاوى تجيز فعل الشرك
مقولة مهمة لجعفر الصادق
مبحث : العصمة
آية الولاية وإذهاب الرجس
آية الولاية وتعلقها بنساء النبي صلى اللّه عليه وسلم
الإمام منزه عن العيوب
الدليل على صدور الزلل من الأنبياء
هل جميع آل البيت معصومون ؟
الأئمة لا يناقشهم أحد
ولاية الفقيه
الأئمة يخطئون ويذنبون
مبحث : التقية
التقية تستعمل في كل شيء
المرأة ترث من العقار والدار
التحريم والتحليل يكون وفق ضرورات المذهب
التقية شعار الشيعة
مبحث : علم الحديث والتصحيح والتضعيف
العاملي وقيوده في علم الحديث
رواة الشيعة وزياداتهم على الأئمة
الحكم على كتاب « أصول الكافي »
الحكم على كتاب « تهذيب الأحكام »
التيجاني وكتاب « أصول الكافي »
كتاب « رجال الكشي » ونقد الرواة
الشيعة يستدلون بأحاديث البخاري
جهل علماء الشيعة بعلم الحديث
مبحث : الشاذ من الأقوال
تناقض فتاوى أئمة الشيعة
أمثلة لبعض الفتاوى الشيعية الشاذة
سبب وجود فتاوى شاذة عند الشيعة
أئمة الشيعة يقرون بكذب الشيعة
مبحث : غلو في محبة الآل
معنى العبودية ، واسم : عبد
الشيعة يفضلون العبودية لغير الله
أمثلة للغلو في الأئمة
الخميني وتأكيده على أفضلية الأئمة على الأنبياء(4/1)
أمثلة للغلو في علي رضي الله عنه
حرص النبي صلى اللّه عليه وسلم على العقيدة السليمة
مبحث : الصحابة رضوان الله عليهم
تحديد معنى كلمة « صحابي »
التفريق بين العدالة ، والحفظ
سبب تقاتل الصحابة رضي الله عنهم
كتاب : « خمسون ومائة صحابي مختلق »
كيف نفرق بين المؤمن والمنافق ؟
روايات شيعية تطعن بالصحابة
الخميني وتفضيله لمجتمع إيران على الصحابة
مجتمع الصحابة كالأسرة الواحدة
مبحث : أبو هريرة
سبب حفظ أبي هريرة للأحاديث
عدد الأحاديث التي رواها أبو هريرة
عدد الأحاديث التي رواها رجال الشيعة
عدالة رواة الشيعة
علماء الشيعة الأوائل يروون أحاديث أبي هريرة
لماذا الطعن في أبي هريرة
مبحث : دعاء صنمي قريش
كتب ذكرت هذا الدعاء
علماء يوافقون على صحة هذا الدعاء
دعاء صنمي قريش
مبحث : الاحتفالات الإسلامية
الاحتفال بعيد النيروز واستحباب صيامه
مبحث : عيد الغدير
الرواية الصحيحة لغدير خم
الصحابة اختاروا علياً للخلافة
معنى كلمة الولاية
مبحث : البكاء على الحسين رضي الله عنه
صيام يوم عاشوراء
أمور منكرة يفعلها العوام في يوم عاشوراء
النياحة من أعمال الجاهلية
مبحث : فضائل الحج إلى قبر الحسين رضي الله عنه
الحج إلى قبر الحسين أفضل من مكة
أين قبر علي رضي الله عنه ؟
روايات تدلل على أفضلية الحج إلى قبر الحسين
لماذا لم يذكر القرآن الحج إلى قبر الحسين
مبحث : الحسينيات
الفرق بين الخبر والإنشاء
مسمى « الحسينيات » ومن ابتدعه
عدم الحرص على الصلاة الجماعية
مبحث : عيش ولحم في الحسينيات
عدم وجود دليل على جواز ما يفعل في الحسينيات
الحسين والثورات
مبحث : زيارة القبور
الخميني وفتوى : جواز الصلاة خلف قبور الأئمة
الخير الذي يناله زائر قبر الحسين
لماذا نزور المقابر ؟
مبحث : الحلف بآل البيت والاستعانة بهم
استخدام « الواو » في اللغة العربية(4/2)
الحلف بجاه النبي صلى اللّه عليه وسلم
مبحث : المجتهد والمرجع الديني
شروط ينبغي أن تتوافر في المجتهد
تقليد العوام للعلماء
وكلاء المهدي المنتظر
مبحث : مصادر الأحكام الشرعية
هل كل مبلغ عن النبي يعتبر معصوماً ؟
الأئمة لهم قولان في المسألة الواحدة
مبحث : الرجعة
الاعتقاد الصحيح بمبدأ الرجعة
مبحث : التبرك
التبرك من قضايا العقيدة المهمة
مبحث : الشفاعة
مبحث : المهدي المنتظر
المهدي وسياسة القتل
المهدي ينتقم من العوام
المهدي لا وجود له
مبحث : أبو طالب
مبحث : معاوية ويزيد
تساؤلات حول معاوية
تساؤلات حول مقتل الحسين
مبحث : زوجات النبي صلى اللّه عليه وسلمِ
خروج عائشة رضي الله عنها ضد علي رضي الله عنه
مبحث : الخُمس
الخُمس فقط في الغنائم
الخُمس ووكيل الإمام
مبحث : المتعة
المتعة ؟
علي رضي الله عنه والمتعة
أحكام متعلقة بإباحة المتعة
مبحث : الوضوء
روايات شيعية في الوضوء
مبحث : علي ولي الله في الأذان
مبحث : التكتف في الصلاة
مبحث : الجمع بين الصلاتين
جمع النبي صلى اللّه عليه وسلم بين الصلوات
مبحث : بناء المساجد
مبحث : لرؤية الهلال
متى يكون الفطر في رمضان
مبحث : مشاورة النساء
نصوص تمنع ترشيح المرأة
المرأة تمنع من تقديم المشورة
أمثلة لتولي المرأة السلطة
مبحث : توقير آل البيت
قول نفيس للإمام الذهبي رحمه الله
مبحث : مسلم وكافر
الصحابة جميعهم كفار إلا عدد يسير
مبحث : التاريخ والبطولات
قاعدة مهمة لابن جرير الطبري في روايات كتابه
كتب الشيعة في التاريخ
مبحث : ميراث النبي صلى اللّه عليه وسلم
موقف فاطمة رضي الله عنها من الصديق رضي الله عنه
مبحث : السحر والتنجيم
مبحث : تربة السجود
من فضائل تربة الحسين
مبحث : القرآن المحرف ، ومصحف فاطمة
عدد الآيات في مصحف فاطمة
مزايا مصحف فاطمة
سبب إدعاء الشيعة تحريف القرآن
مبحث : أنا مظلوم(4/3)
مبحث : ميراث الجاهلية
طريقة لمعرفة الغيب
مبحث : مبدأ المخالفة
عوائق التقارب بين المذهبين
مبحث : توحيد المسلمين
مبحث : وسائل التقارب
معوقات التقارب بين الشيعة والسنة
فتاوى غريبة للخميني
كتب نافعة
الخاتمة
[ 3 ]
المقدمة
الحمد لله رب العالمين . والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين ، المبعوث رحمة للعالمين ، الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة ، وأكمل الرسالة ، ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاده ، حتى أتاه اليقين من ربه ، فصلوات الله عليه وعلى اله الطيبين الطاهرين ، العترة الصاد قين ، أهل الشجرة الزكيَّة ، والسيرة المرضية .
وعلى صحبه أئمة الدين ، الهداة المهديين ، حملة لواء الفتح المبين ، الناصحين للمسلمين ، الباذلين للأموال والأنفس لإعلاء كلمة رب العالمين .
وعلى من اتبعهم بماحسان إلى يوم الدين .
قال تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } (الحشر : 7) { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثيرًا } . (الأحزاب : 21) { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسَوله بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } . (الفتح : 28) { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاً الضّلالُ } . (يونس : 32) .
وقال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم : « إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ، ولا يزال الرجل يصدق ، ويتحرى الصدق ، حتى يكتب عند الله صديقاً ، وإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، ولا يزال الرجل يكذب ، ويتحرى الكذب ، حتى يكتب عند الله كذاباً » (1) .
[4]
أخى المسلم في كل مكان وزمان .....
__________
(1) البخاري ومسلم .(4/4)
بعلم صحيح ، وعقل صريح ، متجرد عن العاطفة ، والهوى ، وبفؤادٍ مليء بالصدق والحب ، لبلوغ الحق والهداية .. لنتحاور حول ....
* ألسنا في بلد واحد ينعم بالخير والإيمان وبطاعة الله : فَلمَ نشق الصفوف وتملأ الأفئدة ضغينة وبغضاً ؟
* أليس الحق له طريق واحد ، والضلال . له سبلٌ كثيرة مليئة بالشبهات ، فلِم نحيد عن جادة الصواب ؟ والطريق يسع الجميع ، ليسير فيه .
* لِم نغرس في قلوب أبنائنا الضغينة والفرفة والتنافر ؟ ونحن أبناء بلد واحد ، ننعم فيه بيسر أداء طاعة الله ، وعدم الظلم .
* لا يزال العدو يتربص بنا الدوائر ، ومازال بين صفوف المسلمين ، من يفرق شملهم ، ويبدد جهدهم ، بدلاً من أن يحببهم إلى بعضهم البعض .
* ألا ترى تلك الروايات الآثمة المدسوسة على ديننا الحنيف ؟ ! لقد شوهت الثوب الأبيض الجميل ، والذي ورثناه عن المصطفى صلى اللّه عليه وسلم وغيّرت من معالم الشرع الحنيف ، حينما تنادت فئة بالمكذوب السقيم ، وأبعدت الصحيح المنير .
فبنداء الحق أدعوك يا أيها الأخ العزيز لنتحاور على مائدة الهدى والرشاد ، ولنتساءل حول ما يقرب صفوفنا - بإذن الله تعالى - ويلم شملنا ، ونكون يداً واحدة في بلد الخير . . دولة الكويت .
[5]
قبل طرق باب النقاش :
لنبتعد عن { إِنا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } (الزخرف : 23) .
لنتبع { قُلْ هَذِهِ سَبيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتبَعَنِي } (يوسف : 108) .
والقلوب لا تكون { أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا } (محمد : 24) والآذان { يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم } (البقرة : 19) فإن بعُدنا عن هذه الصفات فإن بساط الحوار يسع الجميع إخوانا متحابين متآلفين ، أصحاب هدف واحد ، وسبيل واحد .(4/5)
ولنبتعد عن { وَإن يَكُن لهُمُ الْحَقُّ يَأتُوا إِلَيْه مُذْعِنِينَ } (النور : 49) فالحق أحق أن يتبع ، وحري بنا أن نعرف الحق لنعرف بعده أهله ، ولنبتعد عن { وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ } ( المؤمنون : 71 ) فالإخلاص أساس لكل خير ، ولنبتعد عن شماعة « الوحدة الوطنية ونبذ التعصب والطائفية » ، وهي مصطلحات لها وزنها الخاوي في واقع الحياة - إن لم توضع بالحق - فلم نجد من يتعلق بها ، ويصرح بها ، إلا من هو بعيد كل البعد عنها ، فلا يصيح الكذاب حين يصرخ على أهله إلا لينقذوه من ذئب ميت .
لماذا هذا الكتاب ؟
لأمر واضح لاخفاء فيه ، لنبين الحق الصريح من الباطل المزيف ، ولمعرفة الصواب من الخطأ ، وفي علام العالم بأن ديننا واحد ، وإن حاول البعض ممن يُنتسب إلى العلم ، التمسك بالمختلف فيه .
[6]
وأيضاً لسد ثغرة من العلم ، لربما يغفل عنها البعض ، لأن شئت قل الكثير من المسلمين ، من عدم اعتمادهم على المصادر الأصيلة الأساسية ، الأولية في كل علم وفن ، فالمعول والأساس في الحوار ، وفي معرفة قول أي طائفة من طوائف العلم ، أن يكون دائماً بالرجوع إلى المراجع الأصيلة ، والمصادر المعتمدة ، ثم نستأنس بعد ذلك ، بما سطرته أنامل المعاصرين ، من شروح وبيان لعلم الأولين .
وليُعلم أن المسلم فطن كيّس ، ليس بساذج ولا سفيه أمام كل ما يُلقى على مسامعه ، فلا يأخذ الأقوال عَلى علاتها ، دون تمحيص أو دراية ، لأن هذا دين سنُسأل عنه يوم القيامة ، فالمؤمن يدور مع الحق ، أينما دار وسار .
ولنعلم أن المؤمن عطش إلى زلال الحق ، ونهمٌ لمائدة الحق ، ويترفّع أن يتطفل على موائد الأراذل وسقطة الناس ، فالحقُ يَعلو ولا يُعلى عليه .(4/6)
والأقوال لا يُحكم على صوابها من اسم قائلها ، مهما علا شأنه وعظم قدره ، عدا الرسول صلى اللّه عليه وسلم بل بمعرفة الإسناد والتثبت من الرواية ، يمكننا من بعد ذلك ، أن نحكم على ما نقرأ ونسمع بأنه حق فنتبعه ، أو باطل فنضرب بهه عرض الحائط ، وذلك لأن الإسناد من الدين ، ولولا الإسناد لقال من شاء في الدين ما شاء . وكما قال علي - رضي الله عنه : لا تنظر إلى من قال ، ولكن انظر إلى ما قال .
والله نسأل أن يهدينا لما اختُلف فيه من الحق باذنه ، إنه لا يهدي لما اختلف فيه من الحق إلا هو سبحانه .
{ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رحِيمٌ } (الحشرة : 15) .
[7]
ظهور الشيعة
خالد : السلام عليكم ورحمة الله ... أهلاً بك يا حيدر .
حيدر : وعليكم السلام ... مرحباً بك يا أخ خالد .
خالد : أجد أنك متضايق وكأن هناك ما يشغل فكرك .
حيدر : نعم ، ويا ليته أمراً هيناً لهان الأثر بوجود حلول له ، ولكنه شيء عظيم .
خالد : وما ذاك يا أخ حيدر ؟
حيدر : الخلاف الحاصل بين الإخوة من الشيعة والسنة ، أما يجدر بنا أن تضيق النفس مما هو موجود وحاصل ؟
خالد : أجل ، فما رأيك بأن نتحاور ونتناقش في قضايا مهمة ، توضح أفكار ومعتقدات السنة والشيعة ، لإمكانية التقارب بينهما .
حيدر : نعم هذا أمر مهم أن نتحاور حول ما يقرب الصفوف ويلملم الإخوة المتفرقين في دين واحد .(4/7)
خالد : أرجو أن لا يضيق صدرك ، ولنتصارح في طرحنا لهذه القضايا والأمر لك لتبدأ . حيدر : ما دام الحق غايتنا فلن أتضايق أبداً ، ولنبدأ حول ظهور الشيعة ومما لا يخفي على كل مسلم ، أن الشيعة كان ابتداء ظهورهم ، مقترنا بابتداء الدعوة المحمدية ، وأن بذرتها غرست من تلك الحقبة ، ولكن خف نورها ، بسبب عدم تقيد الصحابة بمفهوم الإمامة والوصاية من بعد وفاة النبي صلى اللّه عليه وسلم .
خالد : الأمر في معرفة حق الأئمة أقدم مما تقول وتظن به ، كما زعم علماء الشيعة ، فقد ذكروا أن معرفة حقهم كان معلوماً عند الرسل جميعهم ، مثل ما جاء في أصول الكافي ( 1/437 ) عن أبي الحسن
[8]
قال : « ولاية « علي » ، مكتوبة في جميع صحف الأنبياء ، ولن يُبعث نبي إلا بنبوة محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ووصية علي عليه السلام » .
والبعض من العلماء ، قال مثل مقولتك وهي المشتهرة بين العوام ، فذكر النوبختي في فرق الشيعة ( ص 17 ) أن الشيعة ظهرت في زمن النبي ، ويقال لهم شيعة علي ومعروفون بانقطاعهم إليه ، والقول بإمامته ، منهم المقداد بن الأسود وسلمان الفارسي وأبو ذر وعمار بن ياسر .
وابن النديم في كتاب « الفهرست » ( ص 249 ) يذكر أن الشيعة ظهروا بعد معركة الجمل ، وسماهم علي بالأصفياء الأولياء .
حيدر : ظهورهم إذن لم يكن له علاقة بذاك الرجل الذي يدعى بابن السوداء عبدالله بن سبأ ، وهذا كما قرأت خرافة ، ولا وجود له .
خالد : الإنسان عدو ما جهل ، والحق يُعلم بالتتبع والتنقيب والإخلاص في القصد ، وهذا الرجل جاء ذكره في كتب الشيعة المعتمدة ، منها فرق الشيعة للنوبختي ، ورجال الكشي ، وشرح نهج البلاغة وغيرها .
حيدر : أفهم من كلامك ، أن الأمر في ظهور الشيعة ، ليس لمجرد أن أبا بكر - رضي الله عنه - اغتصب الخلافة من أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - .(4/8)
خالد : ليست القضية كما يسوقها أهل العاطفة وأتباع الهوى ، فخلافة الصديق رضي الله عنه ، جاءت بمبايعة أهل الحل والعقد وإجماع الصحابة ، ورضوا به كلهم فيما بعد ، في السقيفة أولاً ، ثم في المسجد ثانياً ، وكذلك سار الأمر مع عمر وعثمان - رضي الله عنهم أجمعين - فلما قُتل عثمان رضي الله عنه ، يمم الناس وجوههم قبَل علي رضي الله عنه ، ليولوه عليهم فقال لهم : « دعوني والتمسوا غيريَ ، فإننا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان لا تقوم له القلوب ، ولا تثبت عليه العقول ، وإن تركتموني فإني كأحدكم ولعَلي أسمَعكم وأطوَعكم
[9]
لمن وليتموه أمركم ، وأنا لكم وزيراً خير مني لكم أميراً » نهج البلاغة ( 136 ) .
وهذا أيضاً موافق لما ذكره المفيد في الإرشاد عن أمير المؤمنين ليدلل على أنه لم يأت نص في أمر الخلافة ، لعلي - رضي الله عنه - .
حيدر : تريد من هذا القول أن تقلل من قدر وأهمية إمامة الأمة ، وأن النبي صلى اللّه عليه وسلم تركها هكذا بدون وصي وخليفة !
خالد : إمامة المسلمين ، ووجود أمير عليهم من القضايا المهمة في الشريعة الإسلامية ، ولكن لا يبلغ الأمر بنا أن نجعلها ركن الدين الأصيل ، وأن الإيمان بها يُدخل معتقدها الجنة ، وأنها من منصب النبوة مثل ما تفوه بهذا هادي الطَهراني في كتاب « ودايع النبوة ص 114 » « الإمامة أجل من النبوة ، فإنها مرتبة ثالثة شرَّف الله تعالى بها إبراهيم بعد النبوة والخلة » .
حيدر : لعل هذا رأي لهذا العالم وليس رأياً لبقية رجال الدين الشيعة !(4/9)
خالد : بقية الروايات تخبرك بالإجابة على تساؤلك ، فقد قال آل كاشف الغطاء ، في كتاب أصل الشيعة ( ص 58 ) « منصب إلهي كالنبوة » أو مثل مقولة الخميني في الحكومة الإسلامية ( ص 52 ) حيث قال : « فإن للإمام مقاماً محموداً ، ودرجة سامية ، وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون ، وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل » .
حيدر : اهتمام رجال الدين الشيعة بهذه القضية نابع من سيرة المصطفى صلى اللّه عليه وسلم ؟
خالد : لو كانت بتلك الأهمية فلم أهمل النبي صلى اللّه عليه وسلم أمرها وجعل النص فيها غير محدد لمن بعده ، ولا نجدَ لها ذكراً في القرآن ، الذي حفظه الله تعالى من التغيير والتحريف ، والنبي صلى اللّه عليه وسلم لم يأت لها بذكر واضح لا عند احتضاره ، ولا حتى في أعظم تجمع له بالمسلمين في حجة الوداع لما قال « لعَلْي لا
[10]
ألقاكم بعد عامي هذا » فلقد كانت فرصة لا تعوض في اجتماع المسلمين من شتى أرجاء الجزيرة بالنبي صلى اللّه عليه وسلم ، ليبلغ على الوصي والإمام من بعده ، فالأمر إذاً ليس بتلك الصورة من الأهمية حتى نقول أنه من أركان الدين .
وللخميني تعليل مخالف لعدم ذكر النبي صلى اللّه عليه وسلم للإمامة .
حيدر : وما هذا التعليل ؟ فلعل الإمام قدس الله سره يجلي هذا الغموض .
خالد : يقول الخميني في كتاب كشف الأسرار ( 150 ) أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كتم أمر الإمامة في بداية الدعوة في مكة لأنه كان متهيباً من الناس إن دعاهم لمثل هذا الأمر العظيم ، حتى أمره الله بقوله : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رُّبِّكَ وَإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } (المائدة : 67) .(4/10)
ثم إن الله أمره بقوله : { إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } (النساء : 58) فقال الخميني في كتاب الحكومة الإسلامية ( 81 ) مبيناً هذه الآية : « فقد أمر الله الرسول صلى اللّه عليه وسلم برد الأمانة ، أي الإمامة إلى أهلها وهو أمير المؤمنين - عليه السلام - وعليه هو أن يردها إلى من هو يليه وهكذا ... » .
أي أن علياً هو صاحب الأمر والنبي صلى اللّه عليه وسلم مأمور برد الأمانة إليه ، فكما ترى أن هذه التفاسير لا دليل عليها ، فضلاً عما في تفسير الأمانة بالإمامة من تحريف لكلام
الله ، وتجاهل لسبب نزولها المشهور .
حيدر : ولكن الخليفة الأول خالف مبدأ الشورى مع المسلمين حين نص على تعيين الخليفة من بعده ، وهذا يعتبر مثل الفرض على المسلمين !
خالد : ليس هناك من فرض على أحد ، والمتتبع لسيرة الصديق - رضي الله عنه - يعلم
[11]
حق العلم حرصه على مصلحة الأمة ، وتتبع الخير لها ، فلم يكن الأمر فلتة خاطئة ولكنهم سألوه بأن يدلهم على الجدير بولاية هذا الأمر من بعده ، فأوصى على عمر - رضي الله عنه - والمتتبع لسيرة عمر مع الصحابه في خلافته يستدل على صواب ما ذهب إليه الصديق - رضي الله عنه - ولكن ما العمل مع المبغض الحاقد للشيخين رضي الله عنهما ، وكما قيل :
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ... ... ولكن عين السخط تبدي المساويا
حيدر : مقولة من قال ان الإمامة منصب إلهي ، وأنها امتداد للنبوة ، هل له من مستند في هذا الأمر ؟(4/11)
خالد : هذا التساؤل يوجه ويُلقى على مسمع من جعلها من ضروريات المذهب ، ثم جَعل هنا أبواباً وسفراء للإمام المجهول ، ثم تعدى الأمر إلى وجود من يلي الفقيه ، فأصبح عندنا مراجع ، لا تُعلم أعدادهم ، مع كل هذا ألا ينبغي على المسلم أن يسأل عن دليل لهذا التسلسل ؟ وما الشروط الواجب تحقيقها لنيل هذا الأمر ؟ وما الخصائص التي ستحل على هذه النوعية من العلماء ؟ وهل هناك مستند من القرآن أو من سيرة المصطفى صلى اللّه عليه وسلم لهذا المعتقد ؟
حيدر : اعذرني في إعادة الاستفهام على موضوع الإمامة ، فعلى ضوء ما ذكرته ، فإنني أفهم من قولك السابق أن علياً ، والأئمة من بعده لم يأتِ نص عليهم من الشرع !
خالد : لنفترض أن النبي صلى اللّه عليه وسلم نص على « عليّ » ليكون خليفة بعده ، وأن الصديق اغتصب الخلافة من بعده ، أما نرى أن دولة الإسلام كانت في أطيب أوقاتها ، وأفضل عصورها من الفتوحات واستقرار الأمن وعدم وجود
[12]
الخلافات بين المسلمين في عهد الخليفتين وصدراً من خلافة « عثمان » - رضي الله عنهم - أجمعين ؟ ! فأخبرني يا أخ حيدر : كيف وفقهم الله تعالى في أعمالهم وفتوحاتهم وأولادهم ، وهم مخالفون لأعظم ركن في الدين على الإطلاق - كما يزعم البعض - وأيضاً لا نسمع للإمامة أي ذكر أو مقولة خلال هذه الفترة الطويلة ، من أن الخلافة قد اغتصبت من صاحبها وهو « علي بن أبي طالب » - رضي الله عنه - !
حيدر : لعل في كتمان هذا الأمر دلالة على بُعْد نظر من أمير المؤمنين عليّ عليه السلام لكي يحفظ أمر المسلمين من التفرق والتشتت .
خالد : لنفترض أن الأمر كما ذكرت ، ولكن لما قُتل أمير المؤمنين « علي » رضي الله عنه ، وآلت الإمارة إلى « الحسن » - رضي الله عنه - نجد أنه ألقاها - رضي الله عنه - طواعية إلى « معاوية » - رضي الله عنه .(4/12)
فهل يحق ويجوز للمعصوم أن يتنازل عن هذا الركن العظيم ، لمن هو دونه في المنزلة ، ويعطيها إياه طواعية لا مُكرهاً ولا مُجبراً بعد ستة أشهر من مقتل والده !! ثم نقرأ في كثير من كتب التاريخ بأن « معاوية » - رضي الله عنه - لبث في خلافته بعد التنازل قرابة العقدين من الزمان ، والمسلمون في فتوحات عظيمة وانتشار لدينهم ، وفي خيرٍ ورغدٍ من العيش ما الله به عليم .
إذاً الأمر لا لبس فيه ، من أن الجيل الذي نشأ مع النبي صلى اللّه عليه وسلم ، كانت بدايته معلومة واضحة ، ومنهجه الديني بيّن ولا لبس فيه ، لكل من اطلع على السيرة العطرة للنبي صلى اللّه عليه وسلم .
[13]
العقيدة السليمة وتكفير المسلمين
حيدر : لنتحاور يا أخي الكريم بصدق ووضوح حول قضية مهمه جداً وحساسة في أي مجتمع مسلم ، فأرجو أن يتسع صدرك لسماعها .
خالد : لم نتحاور يا أخ حيدر إلا لبلوغ الحق والنصح فيما بيننا ، ونبتعد عن التعصب الأعمى .
حيدر : هذا هو العهد بك ، فأريد أن استوضح منك السبب في كثرة التكفير ورمي هذه الكلمة العظيمة جزافاً على أهل القبلة ، مع أن الأصل في ديننا أن نحسن الظن بالمسلمين ، ونعذرهم على اجتهادهم في التقرب إلى الله !
خالد : تعلم يا أخ حيدر أن أظلم الظلم الشرك ، وأعدل العدل التوحيد ، والنبي صلى اللّه عليه وسلم مكث في مكة يدعو الناس إلى قضية واحدة وهي قوله تعالى : { اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تتَّقُونَ } (الأعراف : 65) .
ولم يأمرهم بالوضوء أو الزكاة أو الحج وغيرها من الأمور في بادئ الأمر ، إذن دعوته عليه الصلاة والسلام في بدايتها على هذا النحو كانت لتثبيت التوحيد في صدور الصحابة ، وكل شيء يأتي بعد التوحيد تباعاً .
حيدر : هذا معلوم ولا لبس فيه ، ولكن لم التنفير باستخدام التكفير في وجوه المسلمين ؟
خالد : على ضوء الذي قرأته وتصفحته من كتب ، وجدت أن طائفة من علماء
[14](4/13)
الشيعة هم أكثر استخداماً للفظة التكفير بشكل ملحوظ وخطير على عوام المسلمين وعلمائهم ، مثل حسين النجفي في ( جواهر الكلام 6/62 ) والذي يقول ؟ « والمخالف لأهل الحق ( أي : الشيعة ) كافر بلا خلاف » .
حيدر : لندع مثل هذه الأقوال ولتنظر إلى سيرة المصطفى صلى الله عليه وآله في هذا الشأن .
خالد : المتتبع لسيرة النبي صلى اللّه عليه وسلم وكيفية تربيته لأصحابه - رضي الله عنهم - يجد أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان تنبيهه وتحذيره من أي فعل مشابه للشرك سريعاً وحاسماً ، سداً وحماية لجناب التوحيد من الخدش أو الشرك ، والله سبحانه يقول : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ } (النساء : 48) ، فكل ذنب هيّن بمقابل الشرك بالله .
حيدر : لنتفق على المعنى المقصود بكلمة الشرك التي يدور الحديث حولها .
خالد : الشرك كما هو معلوم في اللغة العربية من الشريك أي بمعنى أن يتخذ الإنسان مع الله نداً أو مساوياً في عمله أو جميع أمره ، والشرع بيَّن هذا المعنى من ذكر آيات كثيرة تظهر فعل أهل مكة من اتخاذهم الأصنام ، يدعونها ويعبدونها كعبادة الله ، فالشرك هو صرف الفعل أو القول أو الاعتقاد بوحدانية الله وجعلها لغيره ، أو جعل غيره مساوٍ له .
فإذا حلف إنسان بغير الله فقد أشرك بقوله ، وإذا ذبح لغير الله فقد أشرك بفعله ، فإذا اعتقد بأن ما حلف به أو ما ذُبح له نداً لله سبحانه ينفع ويضر من دون الله ، فقد خرج هذا الشخص من ملة الإسلام إلى ملة الكفر ، فإن كان جاهلاً ، فينبغي تحذيره وتعليمه إن هذا لا يجوز وهو محرم ، وإنْ قصد التبرك ونواه لله .
[15]
فالدعاء والاستغاثة والطواف والحلف والنحر والصلاة والحج وغيرها من العبادات لا تُعمل إلا لله ، وهذا ما خالف عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم طوال عقد من الزمان ، أهل مكة وحاربهم عليه .(4/14)
حيدر : هذا من المعلوم عند علماء الشيعة ، فما الجديد فيما قلته ؟
خالد : ما قلته جديد على مسامع جمع من رجال الدين الشيعة بل إن البعض خص الشرك بتعريف جديد كما يعرفه يوسف البحراني في الحدائق الناضرة ( 18/153 ) : « وليت شعري أي فرق بين من كفر بالله سبحانه ورسوله وبين من كفر بالأئمة عليهم السلام مع ثبوت كون الإمامة من أصول الدين » .
حيدر : الأقوال الشاذة من قبل بعض رجال الدين ليست بحجة في الاستدلال فلم نسمع أحداً من العلماء لم يأمر بالتوحيد وعدم الشرك بالله ، أو حتى تهاون في هذا الجانب .
خالد : المثال يوضح المقال : فالخميني طرح سؤالاً في كشف الأسرار ( 65 ) وأجاب عنه بنفسه ليبين معتقده بهذا الشأن فقال : هل طلب الشفاء من التربة شرك ؟ فأجاب : « إن الإجابة عن هذا السؤال تتوضح من خلال ما يحمل الشرك من معنى ، فقد عرفتم بأن الشرك هو أن يكون مع الله أحد أو عبادة أحد أسوة بعبادة الله ، أو طلب الحاجة من أحد على أساس كونه إلهاً أو شريكاً لله أو له استقلالية في التأثير ، ولكن ذلك لا يعد شركاً وكفراً ، إذا ما تم الطلب على أساس أن الله قادر على أن يستجيب للطلب من خلال مَنْ يتفانى من أجل دينه ، وخسر روحه من أجله تعالى » فهل تعلم يا أخ حيدر ماذا فتح هذا الكلام وأباح ؟
حيدر : كلام الإمام قدس الله سره واضح عندي ، فماذا تريد أن تقول ؟
خالد : أريد أن أصل إلى أن الخميني قال شيئاً لم يقله النبي صلى اللّه عليه وسلم ولا الذين من بعده في تعريف الشرك ، وهذا فتح باباً لأمور عدة منها :
ا - جواز أن يستشفي المسلم بالسحر والطلاسم الغريبة فيدفع عنه المرض ... راجع بحار الأنوار ( 94/193 ) .
2 - الاستخارة بالرقاع أو البندق أو الحصى ، لفعل شيء ما يريده الإنسان ( الاستقسام لفعل الحاجات ) ... راجع التهذيب ( 1/306 ) والفروع من الكافي ( 1/131 ) .(4/15)
3 - الاعتقاد بأن للأئمة الحق في فعل ما يشاؤون على الأرض وأن الإمام هو رب الأرض كلها ... راجع مرآة الأنوار ( 95 ) .
4 - الاعتقاد بأن الإمام يتصرف بالحوادث الكونية والمناخية التي تحدث في الجو ، راجع الاختصاص للمفيد ( 327 ) وبحار الأنوار ( 27/33 ) .
5 - الاعتقاد بأن الإمام بإمكانه أن يحي الموتى ويبعثهم من قبورهم ، راجع أصول الكافي ( 1/457 ) وبصائر الدرجات ( 76 ) .
فمثل هذه الاعتقادات هل تقود من يعتقدها إلى العبودية لله أم إلى شرك لم يعتقده حتى كفار أهل مكة ؟ !
حيدر : النية هي أساس العمل ، من قبوله أو رفضه ، وهذا ما صرح به الإمام الخميني .
خالد : أزيد البيان لك توضيحاً من قوله في كتاب ( كشف الأسرار 42 ) فقال : « وبعد أن تبين أن الشرك هو طلب الشيء من غير رب العالمين على أساس كونه إلهاً ؟ فإن ما دون ذلك ليس بشرك ، ولا فرق في ذلك بين حي وميت ، فطلب الحاجة من الحجر ليس شركاً ، وإن يكن عملاً باطلاً » .
والله أخبرنا أن أهل مكة لم يكونوا يدعون الأصنام على أساس كونها آلهةً
كما قال الخميني ، ولكن وسطاء إلى الله ، قال تعالى : { وَالذِينَ اتَّخَذًوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (الزمر : 3) فهل تركهم النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وقال : إنهم لم يتخذوها آلهة ؟ ! فإذاً الأمر جائز ، أم أنه أنكر عليهم وقاتلهم عليه ، وبيَّن لهم أن هذا من الشرك الأكبر ؟
حيدر : هل تريد أن تقول إن الإمام قدس الله سره ، لم يفهم معنى الشرك بالله ، أو أنه يبيحه للعوام ؟
خالد : لست أنا الذي أحكم بذلك ، ولكن الله سبحانه منحنا العقول والأفئدة التي نميز بها الحق من الضلال .(4/16)
وينبغي أن نعلم أن الأئمة رحمهم الله إنما هم أولياء لله نحبهم لمحبتنا للمصطفى صلى اللّه عليه وسلم ولاتباعهم له ، ولا ننزلهم إلا المنزلة التي تليق بهم ، ونعوذ بالله أن نرفعهم من حالهم إلى حال الربوبية والألوهية كما ذكر الكشي ( 225 ) .
قال جعفر بن محمد : « فوالله ما نحن إلا عبيد الذي خلقنا واصطفانا ، وما نقدر على ضر ولا نفع ، وإن رُحِمنا فبرحمته ، وإن عُذبنا فبذنوبنا ، والله ما لنا على الله حجة ، ولا معنا من براءة ، وإنا لميتون ومقبورون ومنشورون ومبعوثون وموقوفون ومسؤولون ، ويلهم ما لهم لعنهم الله فقد آذوا الله وآذوا رسوله في قبره وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي صلوات الله عليهم ... أشهدكم أني امرؤ ولدني رسول الله وما معي براءة من الله إن أطعته رحمني وإن عصيته عذبني عذاباً شديداً » .
[18]
العصمة
خالد : لا زلت أعجب من أولئك الذين يفسرون الآيات بغير معناها الحق ، ويستدلون بالروايات الضعيفة ، في إثبات أمر ليس في كتاب الله سبحانه !
حيدر : هل بالإمكان ضرب مثال على ما تقول .
خالد : قوله سبحانه وتعالى : { إنمَا يُرِيدُ اللَّه لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا } (الأحزاب : 33) أين الاستدلال من هذه الآية ، على ثبوت العصمة للأئمة ؟
حيدر : الاستدلال هنا بالمفهوم ، وليس بالمنطوق ، فالمبلغ عن النبي صلى اللّه عليه وسلم يحتاج إلى أن يكون مُصاناً عن كل ما من شأنه أن يقدح في تبليغ الرسالة ، فكما أن الله عصم النبي صلى اللّه عليه وسلم في حال تبليغه ، فكذلك وقع الأمر للأئمة ، الذين هم الأوصياء من بعده عليه الصلاة والسلام .(4/17)
خالد : العصمة للنبي صلى اللّه عليه وسلم واجبة لحفظ الرسالة ، لقوله تعالى { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } (النجم : 4) فمن الذي أوجب وجودها على فئة معينة بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم ؟ والخبر أن وُجد وصح سيكون إذاً متواتراً ومعلوماً ومنتشراً أمره بين الناس ، فالادعاء بالعصمة إذاً لا دليل عليه .
حيدر : ولكن الآية نزلت خاصة في آل بيت « علي » عليه السلام الذين هم أوصياء النبي صلى اللّه عليه وسلم من بعده .
خالد : بداية لنعلم أن هذه الآيات لم تنزل في آل بيت علي ، والدليل على ذلك ،
[19]
أن الله لما أنزل هذه الآية ، ضمن آيات أخرى تثني بمجموعها على نساء النبي صلى اللّه عليه وسلم ، قام النبي صلى اللّه عليه وسلم ودعا فاطمة وعلي والحسن والحسين - رضي الله عنهم - وشملهم بكسائه ، ثم قرأ هذه الآية ، لتشملهم بركة هذه الآية مع زوجات النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ولو كان التطهير متحققاً فيهم من الآية فلمَ الإعادة والتكرار والطلب بالدعاء لأمر قد تم تحققه ووقوعه بأمر الله ؟
حيدر : ولكن الآية فيها دلالتان على العصمة ، الأولى : استعمال الضمير المذكر في قوله { يطهركم } بدلاً من نون النسوة ، وثانياً : معنى الرجس أي يعصمكم من الفواحش والذنوب ، فيُفهم بالتالي أن الآية لآل بيت «علي » وحدهم .
خالد : أما استعمال الضمير المذكر بدلاً من نون النسوة في { يطهركم } فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان من ضمن المطهرين في الآيات لأنه رب الأسرة والخطاب يأتي بالمذكر الذي هو أرفع قدراً من النساء فيشمل الجميع .(4/18)
ومن الذي قال إن معنى التطهير من الرجس هو العصمة من الذنوب والفواحش ؟ فإن الرجس قد يأتي بمعنى العذاب كقوله تعالى :{ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ } (الأنعام : 125) أو الضلال أو السخط أو الأوثان ، وكل هذا يُعرف من اللغة العربية بالقرائن والدلالات .
والآية الكريمة والدعاء من النبي صلى اللّه عليه وسلم ، تدلان على إكرام الله لآل بيت النبي صلى اللّه عليه وسلم وأنه غفر لهم ذنوبهم ، وأبعدهم عن عذاب الآخرة .
حيدر : جاء في قوله تعالى : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } (النساء : 59) ولما كان معلوماً أن الإمامة بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه كانت الآية تأمر بطاعته طاعة متضمنة لعصمته من الزلل .
[20]
خالد : المسلم لا يفسر القرآن وفق ما يميل إليه رأيه ، بل ينظر إلى أقوال العلماء ، فإن الآية واضحة المعنى ، أن لله طاعة منفصلة وكذلك النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وأما ولاة الأمر فإن طاعتهم تكون تنفيذاً لما يؤمرون به من طاعة الله ورسوله وليست لهم طاعة منفصلة إلا بالمعروف من أمور الدنيا .
وأما التنصيص على الإمارة من بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم « لعلي » - رضي الله عنه - فهذا مبحث آخر نتطرق إليه لاحقاً بإذن الله تعالى .
والنبي صلى اللّه عليه وسلم قد أوصى بآل بيته بقوله : « أذكركم الله في أهل بيتي » أي اعرفوا لهم حقهم ، وأنزلوهم المنزل الذي يليق بهم ، من الحب والتقدير والتشريف .
حيدر : ولكن لماذا هذا التشنج والحدة في النقاش على قضية تعتبر مكملاً لشخصية المبلغ عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو الوصي .(4/19)
خالد : المعذرة إن كان في حواري غلظة أو جفاء ، فنحن بإذن الله طلاب حق وصواب ، ولتعلم يا أخ حيدر ليت الأمر اقتصر على التكميل ، بل تجاوز حتى بلغ إلى المشابهة مع الأنبياء والمرسلين إن لم أقل مرتبة أفضل منهم .
حيدر : حاشا لله أن يقول مثل هذا مسلم عاقل !
خالد : جاء في بحار الأنوار ( 25/350 ) : « أن أصحابنا الإمامية أجمعوا على عصمة الأئمة صلوات الله عليهم ، من الذنوب الصغيرة والكبيرة ، عمداً وخطأ ونسياناً ، من وقت ولادتهم إلى أن يلقوا الله عز وجل » .
حيدر : ينبغي أن نتأكد ونتحقق من صحة هذه الرواية .
خالد : هذه المقولة وغيرها لم يتطرق عالم إلى تفنيدها ، والترك دلالة على الموافقة
[21]
والقبول في مرجع معلوم ، بل هي أساس متين في المعتقد ، ونحن نعلم أن الأنبياء قد تأتي عليهم الغفلة والنسيان مما هو معلوم من أمر البشرية ، ومما لا يقدح في شأن الرسالة والبلاغ .
حيدر : هل من دليل على ما تقول ؟
خالد : قال تعالى معاتباً النبي صلى اللّه عليه وسلم { عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } (التوبة : 43) .
وقال تعالى : { عَبَسَ وَتَولَى أَن جَاءَهُ الأَعْمَى } (عبس : 1 ، 2) .
وقال تعالى معاتباً النبي صلى اللّه عليه وسلم في أخذه الفداء من أسرى بدر { لَوْلا كِتَابٌ منَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (الأنفال : 68) والخطأ في جنب النبي صلى اللّه عليه وسلم ، يقال عنه أنه مخالفة للأولى ففعله صحيح ، ولكن النبي يفعل دائماً الأكمل والأصح .
وليس الأمر مقتصراً على نبينا صلى اللّه عليه وسلم ، بل قد وقع الزلل والخطأ من غيره من(4/20)
الأنبياء مثل آدم صلى اللّه عليه وسلم ! لما أكل من الشجرة ، ونوح ! لما أن دعا الله بأن ينجّي ابنه الكافر ، وكذلك موسى صلى اللّه عليه وسلم لما قتل القبطي ، فذكر المولى سبحانه الفعل الذي اقترفوه من أنه لا ينبغي حدوثه منهم ، لأنهم صفوة الخلق وأفضلهم .
حيدر : ولكن فضائل آل بيت النبي عليهم السلام كثيرة ، مداد البحار لا تحصيها كثرة ، وكذلك بركاتهم على الأمة .
خالد : هذا الكلام ليس محل حوارنا ، لأننا متفقان على أن لآل بيت النبي صلى اللّه عليه وسلم فضائل ومناقب ، ولكن لنتسائل حول بعض الأمور التي أشكلت عليَّ :
[22]
ا - حديث الكساء شمل خمسة أنفس من بيت « علي » - رضي الله عنه - بالتطهير ، فما الدليل من القرآن أو الحديث على إدخال غيرهم في التطهير والعصمة ؟
2 - ما الدليل الذي علمنا من بعده أن علي بن الحسين « زين العابدين » هو الوصي من بعد والده ؟ مع أنه كان صغير السن لما قُتل والده ! .
3 - لماذا لم يشمل التطهير كل أبناء « الحسين » وبناته ؟
4 - الحسن بن علي رضي الله عنهما ، لماذا أخرجنا أبناءه من مبدأ العصمة والإمامة ؟
5 - « زين العابدين » أولاده كُثُر ، فلماذا اقتصرنا على « الباقر » فقط دون سواه من الإخوة ؟ وكذلك الأمر لأبناء الباقر ومن بعده !
حيدر : الروايات الدالة على أن الأئمة معصومون كثيرة تستوجب علينا القطع بصحتها .
خالد : وكذلك الروايات الدالة على الضد ومن ذلك ذكر العلامة الصدوق في عقائده ( 160 ) أن من ينفي السهو عن النبي يُعد من الغلاة ، ومن ينفي السهو عن الأئمة يُعد من المفوضة الذين لعنهم الله .
وجاء في مجمع البيان ( 5/205 ) : « أن مذهبهم - أي الشيعة - أن الأئمة يجوز عليهم السهو والنسيان في غير ما يؤدونه عن الله » .
ثم تطور الاعتقاد كما جاء في تنقيح المقال ( 3/240 ) : « أن نفي السهو عن الأئمة أصبح من ضروريات المذهب الشيعي » .(4/21)
إذاً التعديل في الأحكام يكون حسب الحاجة والضرورة لأن كان في المسائل العقدية ، والتي تخالف ما كان عليه السابقون .
[23]
حيدر : لا زالت الصورة غير مستبينة عندي ، هل هناك من خطورة على المسلم بأن يعتقد في إمامه الذي يتلقى عنه الأحكام أنه منزهٌ من الرذائل !
خالد : الجواب يُعرف من خلال هذا التساؤل ، ما الفرق بين النبي وغيره إن قلنا بالعصمة لكليهما ؟ بل إن الأئمة بلغوا منزلة وحازوا على خصائص لم يدركها النبي صلى اللّه عليه وسلم ، من ذلك أن العصمة متعدية ، بمعنى أن الإمام المعصوم كما أنه لا يُسأل عن دليله في المسألة ، ولا يرد حكمه وقوله ، فكذلك من ينوب عن الإمام يحوز هذا الشرف ، فلا ينبغي للعوام أن يردوا حكمه وقوله .
لهذا يقول الخميني في كتاب الحكومة الإسلامية ( 91 ) : « نحن نعتقد أن المنصب الذي منحه الأئمة للفقهاء لا يزال محفوظاً لهم ، لأن الأئمة الذين لا نتصور فيهم السهو أو الغفلة ، ونعتقد فيهم الإحاطة بكل ما فيه مصلحة للمسلمين ، كانوا على علم بأن هذا المنصب لا يزول عن الفقهاء من بعدهم بمجرد وفاتهم .
حيدر : هذه هي ولاية وإنابة الفقيه عن الإمام المنتظر .
خالد : من يتتبع التسلسل لهذه الإنابة ، وكيف نشأت يعلم يقيناً أنها إنما أنشئت ، لما وقعت الحيرة بعد الغيبة الصغرى والكبرى ، والاختلاف حول الأموال التي تُقدم وهي الخمس ، فأنشأت هذه القضية لتلافي هذا الإرباك ، ولقطع كل سؤال عن الدليل قد يُقدم من العوام لرجال الدين الشيعة بصيغة : « ما دليلك على ما تقول » ؟
حيدر : إذاً ما هو الاعتقاد الواجب أن نعتقده في الائمة عليهم السلام ؟
خالد : هم من أكرم البيوت شرفاً ، وأعلاها رتبةً ، لاتصال نسبهم إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ولا خير فيهم إن لم يسيروا وفق هدي سيد هذا البيت وهو المصطفى صلى اللّه عليه وسلم ،
[24](4/22)
وهم بشر كبقية البشر يصيبون ويذنبون ، ويرجون رحمة الله ومغفرته وعلى قدر طاعتهم وذلهم لله ، تكون منزلتهم عند الله سبحانه .
أخرج القمي في معاني الأخبار ( 62 ) : قال رسول الله : « يا علي أول نظرة لك والثانية عليك ، لا لك » .
وجاء في نهج البلاغة ( 82 ) مقولة أمير المؤمنين « علي » أنه قال : « اللهم اغفر ما أنت أعلم به مني ، فإن عُدت فعُد علي بالمغفرة » .
وجاء في نهج البلاغة ص 335 خطبة رقم 216 في خطبة خطبها علي بصفين فقال رضي الله عنه : « ... فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل ، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي » .
وهم رحمهم الله يقرون على أنفسهم بالذنب ويرجون المغفرة من الله تعالى ، ودلالة الحب لأي إنسان أن تنزل من تحب المقام الذي يليق به ، وتصدق معه ، والسعيد من المؤمنين من تأسى بسيد هذا البيت صلى اللّه عليه وسلم ، ثم اقتدى بآله رضوان الله عليهم وفق هدي الحبيب محمد صلى اللّه عليه وسلم .
[25]
التقية
خالد : نعم المحاور والمستفهم أنت ، ولكني على علم من استعمالكم دائماً للتقية في كل أمر ، في حال الخوف وأيضاً الأمن ، لأنها من ضروريات المذهب .
حيدر : هذا فيه مجافاة للحق ، واتهام للشيعة بأنهم جبناء ، ولا يصدعون بالحق ، وللعلم فالتقية إنما تستعمل في مواطن الخوف ، ولا شيء غيره ، بل هي مشروعة عندنا وكذلك عند إخواننا السنة ، والأدلة معلومة .
خالد : جاء في شرح عقائد الصدوق للعلامة المفيد أنه قال : « التقية كتمان الحق ، وستر الاعتقاد فيه ، وكتمان المخالفين ، وترك مظاهرتهم بما يعقب ضرراً في الدين والدنيا » .(4/23)
وورد عن جعفر الصادق كما ذكر العلماء في كتب عدة أنه قال : « التقية ديني ودين آبائي ، ولا دين لمن لا تقية له » ، ووِفْق ما أعلم فإن الصحابة لم يفعل أحد منهم التقية إلا ما ذُكر عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - حينما ذكر آلهة الكفار بخير فقال له النبي صلى اللّه عليه وسلم : « إن عادوا فعد » ( أي : إلى التقية حفاظاً على حياتك ) .
حيدر : لم تخالف ما ذكرته من روايات مع الذي أنا قلته ، وأكرر أن التقية إنما تستعمل في بعض المواضع التي يخاف فيها المسلم على نفسه من الضرر .
خالد : استعمال التقية تجاوز المفهوم السابق ، بل أصبح الاستخدام عاماً في كل الأمور والدليل على ما أقول :
[26]
ا - قال مرتضى الأنصاري في رسالة التقية ( 72 ) عن الإمام المعصوم أنه قال : « . . فإن التقية واسعة ، وليس شيء من التقية إلا وصاحبها مأجور عليها إن شاء الله » .
2 - قال الخوئي في التنقيح شرح العروة الوثقى ( 4/278 ) وصححها عن الصادق أنه قال : « ما صنعتم من شيء أو حلفتم عليه من يمين في تقية فأنتم منه في سعة » .
3 - جاء في وسائل الشيعة ( 5/383 ) تحت باب بعنوان : « استحباب حضور الجماعة خلف من لا يُقتدى به ( أي : الإمام السني ) للتقية ، والقيام في الصف الأول معه » .
وهذا أيضاً ما أفتى به أبو القاسم الخوئي في كتاب « مسائل وردود » ( 1/26 ) عن الصلاة مع جماعة المسلمين ! فأجاب : « تصح إذا كانت تقية » .
4 - المرأة ترث من العقار والدور والأرض ، وذلك لرواية أبي يعفورعن أبي عبد الله قال : سألته عن الرجل هل يرث من دار امرأته أو أرضها من التربة شيئاً أو يكون في ذلك في منزلة المرأة فلا يرث من ذلك شيئاً ؟ فقال : « يرثها وترثه من كل شيء ترك وتركت » .(4/24)
فعقب الطوسي على الرواية كما جاء في الاستبصار ( 4/154 ) فقال : نحمله على التقية ، لأن جميع من خالفنا يخالف هذه المسألة ، وليس يوافقنا عليها أحد من العامة ( أي : السنة ) وما يجري هذا المجرى يجوز فيه التقية .
فعلى هذا كأن التقية أيضاً تستعمل مع الشيعي ولا تختص بالسني فقط .
حيدر : التقية أمرها مستحب ، ويستطيع المسلم الشيعي أن يتركها أو يفعلها لا حرج عليه في ذلك .
[27]
خالد : إذا كان الحكم كما قلت ، إذاً ماذا نفعل أمام قول مَنْ يقول : تارك التقية كتارك الصلاة ؟
وكقول الصادق : « لو قلت أن تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقاً » .
وقال ابن بابويه في الاعتقادات ( ص 104 ) : « اعتقادنا في التقية أنها واجبة ، من تركها بمنزلة من ترك الصلاة » .
حيدر : ولكننا في هذا الزمان لا نسمع بل نكاد لا نجد مسلماً شيعياً يتعامل مع إخواننا السنة بالتقية ، لأنهم يعلمون أنهم في بلد واحد يحتاج إلى الترابط والقوة أمام الأعداء ، والأجساد لا تتقارب إلا بتقارب وصفاء القلوب .
خالد : الخميني في كتاب الرسائل ( 2/201 ) ذكر أن العمل بالتقية يكون في كل وقت .
فقال : « ثم إنه لا يتوقف جواز هذه التقية بل وجوبها على الخوف على نفسه أو غيره ، بل الظاهر أن المصالح النوعية صارت سبباً لإيجاب التقية فتجب التقية وكتمان السر لو كان مأموناً وغير خائف على نفسه » .
حيدر : كأنك تريد أن تقول إن التقية أصبحت شعاراً للمذهب الشيعي !
خالد : الروايات هي التي تقول بذلك والواقع يثبت لنا هذه الحقيقة ، فهل الحق يكتم أم أن المؤمن - وهو آمن - لا يجهر بالحق ويبينه للعامة من المسلمين ! ولعل البعض يقول كالعادة بضعف مثل هذه الأقوال والاجتهادات ، فلذا نحتاج لتحقيق الترابط إلى ذلك العالم المجتهد والذي يعلي صوته بتضعيف كل الروايات التي نصت على التعامل بالتقية ، ويحث المسلمين الشيعة على الوضوح والعمل بالأحاديث المتفقة بين الطرفين ، وأن(4/25)
[28]
نحقق الترابط القلبي قبل الظاهري ، فكيف يمكن أن يتعايش إنسان مع آخر وهو يعلم أنه يضمر له العداء والمخالفة والاعتقاد بأن دينه باطل وغيرها من الأمور التي تفرق ولا تجمّع وتمزق ولا تربط بين أفراد المجتمع الواحد . وينبغي علينا أن نلعن التقية التي تفرقنا ، كما لعنها الدكتور موسى الموسوي في كتابه « التصحيح » ، وليس مثل ما أصّل لها بعض علماء الشيعة في كتبهم .
[29]
علم الحديث والتصحيح والتضعيف
حيدر : يظن بعض الأخوة السنة أن أخوانهم الشيعة ، لم يهتموا بتتبع الروايات المنقولة عن النبي وآله عليهم السلام بالتحقيق والتثبت ، لذا نجدهم يقذفون الشيعة ، بأبشع العبارات وأشنع الاقوال .
خالد : من المتعارف عليه عند علماء الحديث ، أن الحديث ينقسم إلى طرفين ، جانب الإسناد وهو سلسلة الرواة للخبر ، والجانب الآخر هو القول الذي قاله قائل الحديث ، فما تعريف الحديث الصحيح عندك ؟
حيدر : هو ما رواه العدل الضابط للخبر عن مثله في جميع مراحل السند .
خالد : كأنك نسيت كلمة مهمة ذكرها الحر العاملي وهي : ( الإمامي ) أي العدل الإمامي ، وهذا أمر مهم ، وهو شرط مشكل وعسير على أحاديث الشيعة لو طُبِّق .
حيدر : وكيف ذلك ؟
خالد : يقول الحر العاملي في كتاب خاتمة الوسائل ( 30/206 ) بعد أن ذكر تعريف الحديث الصحيح : « وهذا يستلزم ضعف كل الأحاديث عند التحقيق » .
وعلل السبب بقوله : « لأن العلماء لم ينصوا على عدالة أحد من الرواة إلا نادراً ، وإنما نصُّوا على التوثيق ، وهو لايستلزم العدالة قطعاً » .
حيدر : رجال الدين الشيعة قسَّموا الحديث إلى صحيح وحسن وموثق وضعيف ، وفق تتبعهم للأحاديث والآثار الواردة عن الآل عليهم السلام .
[30](4/26)
خالد : التقاسيم لا جدوى منها إن لم يكن هناك مثال لما تقول ، وأيضاً ما الضابط لحفظ الرواة ونسيانهم مع العدالة والتوثيق ، وقد قال الحر العاملي في الوسائل ( 30/206 ) : والثقات الأجلاء من أصحاب الإجماع وغيرهم يروون عن الضعفاء والكذابين والمجاهيل حيث يعلمون حالهم ويشهدون بصحة حديثهم ، وقال أيضاً ( 30/244 ) : ومن المعلوم قطعاً أن الكتب التي أمروا عليهم السلام بالعمل بها ، كان كثير من رواتها ضعفاء ومجاهيل .
حيدر : هذه مجازفة خطيرة أن تستند في فتواك على قول أو رواية رجل مجهول أو ضعيف ، فلربما تقوّل أو كذب على الإمام ، أو نَسب إليه ما لم يصدر عنه .
خالد : لننظر إلى ما يقوله العلماء عن بعض الرواة المشاهير والمكثرين من الرواية عن آل البيت رحمهم الله تعالى :
ا - المغيرة بن سعيد ، أحد رواة الأحاديث عن الأئمة ، نقل المامقاني في كتاب تنقيح - المقال ( 1/174 ) عن المغيرة بن سعيد أنه قال : « دسست في أخباركم أخباراً كثيرة ، تقرُب من مائة ألف حديث » .
وللعلم يا أخ حيدر ، فإن المغيرة هذا موجود في سنة 199 هـ .
2 - جابر بن يزيد الجعفي : قال فيه الحر العاملي ( الوسائل 151 ) : « روى سبعين ألف حديث عن الباقر عليه السلام ، وروى مائة وأربعين ألف حديث عن غيره » .
وهنا سؤال يفرض نفسه : كل هذه الروايات ، هل سمعها جابر مشافهة من الإمام ؟ أو بواسطة راو آخر ؟ ويجيب الكشي ( الرجال 191 ) عن هذا بهذه الرواية : عن زرارة بن أعين قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن أحاديث جابر ؟
[31]
قال : « ما رأيته عند أبي قط إلا مرة واحدة ، وما دخل علي قط » . فإذن من هو شيخ جابر الذي علمه هذا الكم من أحاديث آل البيت ؟
حيدر : ولكن كتب الشيعه الأساسية والمعتمدة ، معلومة ومصانة من اللبس والدس فيها ، وذلك لاهتمام الشيعة بكتب مراجعهم الدينية من التشويه والافتراء .(4/27)
خالد : وفق ما أعلم فإن كتب الشيعة المعتمدة ثمانية وهي : الكافي ، الاستبصار ، من لا يحضره الفقيه ، الوافي ، بحار الأنوار ، ووسائل الشيعة ، ومستدرك الوسائل ، أليس كذلك ؟
حيدر : صحيح ما تقول ، وهناك غيرها تشرح وتبين ما في هذه الكتب .
خالد : الحمد لله ، فلنبدأ ولننظر إلى كتب هذه المجموعة ، ولنختر كتاب الكافي ، الذي يُعد من أصح الكتب عندكم ، والذي كما قيل إنه عرض على الإمام المنتظر فوافق على جميع ما فيه ، مثل ما ذكر محمد صادق الصدر في كتاب الشيعة ( 123 ) ولننظر في محتواه وعن عدد ما فيه من كتب وأبواب ، فيقول الكركي في روضات الجنات ( 6/114 ) : « إن كتاب الكافي خمسون كتاباً » .
وللعلم يا أخ حيدر ، فإن الكركي هذا تُوفي في سنة ( 1076 ) هـ .
أما الطوسي فقال في الفهرست ( 165 ) : « إن كتاب الكافي مشتمل على ثلاثين كتاباً » . وللعلم فإن الطوسي قد تُوفي سنة ( 460 ) هـ .
إذاً ما الذي جرى على الكتاب الأصلي ؟ ، ومن أين جاءت هذه الزيادة الفادحة على أصل الكتاب ؟ !
[32]
ولننظر إلى كتاب آخر ، وهو تهذيب الأحكام للطوسي المتوفى سنة ( 460 ) هـ ، فقد ذكر أغا بزرك في كتاب الذريعة ( 4/504 ) أن أحاديثه عددها ( 13950 ) حديث ، بينما الطوسي قال في عدة الأصول ( 1/360 ) أن أحاديث التهذيب تزيد على ( 5000 ) حديث . ومعلوم أن كلمة تزيد ، تعني الزيادة المعقولة والتي تقارب الرقم التالي وهو ( 6000 ) أو دونه ، إذاً من أين أتت هذه الزيادة الكبيرة على كتاب التهذيب ؟ !
حيدر : ولكن لربما أتت الزيادة من علماء آخرين استدركوا على الكتاب ما نُقص منه .(4/28)
خالد : الاستدراك ينبغي أن يكون في كتاب آخر منفصل ، أو يتم التنبيه على ذلك في بداية الكتاب ، أو توضع الزيادة في حاشية الكتاب ، لا أن تُدس وتُقحم في الكتاب الأصلي ، فيظن المطلع على الكتاب أنها من أصل الكتاب ، فلذا لن أعجب من قول الحسيني في كتاب الموضوعات في الآثار والأخبار ( ص 165 ) : « وبعد التتبع في الأحاديث المنتشرة في مجامع الحديث كالكافي والوافي وغيرهما ، نجد أن الغلاة والحاقدين على الأئمة الهداة لم يتركوا باباً من الأبواب إلا ودخلوا منه لإفساد أحاديث الأئمة والإساءة إلى سمعتهم .... » إذاً هذا إقرار من الحسيني على وجود أحاديث مكذوبة في أعظم كتب الحديث عند الشيعة .
حيدر : لعل هذا الأمر كان من رجال الدين السابقين ، وليس من المعاصرين .
خالد : لا تستجعل في القول ، فلا أغفل عن ذكر مقولة التيجاني في كتابه { فاسألوا أهل الذكر } ( 34 ) : 9 ويكفيك أن تعرف مثلا أن أعظم كتاب عند الشيعة ، وهو أصول الكافي يقولون بأن فيه آلاف الأحاديث المكذوبة » .
[33]
ونعلم من اللغة العربية أن كلمة آلاف ، هي فوق الرقم ثلاثة إلى التسعة ، وأحاديث أصول الكافي ( 3783 ) حديث ، إذن كم يتبقى عندنا من كتاب الكافي ، ويمكن أن نعده في مرتبة الصحيح المعمول به ؟ !
لذا أحيلك في تحقيق أحاديث ( الكافي ) على كتاب ( كسر الصنم ) لآية الله البرقعي ، حيث ذكر الأعاجيب في كتابه وتحقيقه لأحاديث الكافي .
حيدر : أنا على ثقة من أن رجال الدين الشيعة ، ومحققيهم ، لم يتركوا هذه الأحاديث المدسوسة وغيرها ، من بيانِ وتفنيدِ لحالها من ناحية الصحة أو الضعف ، وكذلك أحوال الرواة .(4/29)
خالد : إن من أقدم المؤلفات لدى الشيعة في بيان أحوال رواة الحديث والأخبار هو « رجال الكشي » المتوفى في القرن الرابع الهجري ، وقد جاء في كتابه بأخبار متعارضة في الجرح والتعديل ، وبلغ عدد التراجم فيه ( 520 ) ترجمة فقط ، ثم جاء كتاب النجاشي وهو مختصر جداً في موضوعه ، وإلى الآن لا أعرف ثمة كتاب يمكن الاستناد والاعتماد عليه ، في بيان من يُرد حديثه أو يُقبل من رواة الشيعة ، والحال يدلنا على أن كل من جاء برواية تعضد وتدعم من قول المذهب الإمامي قُبلت روايته من غير تمحيص لحال هذا الراوي ، وهذا على
النقيض تماماً عند علماء السنة !
حيدر : وكيف ذلك ؟
خالد : علماء السنة ، كانوا لا يُطلقون على أي طالب علم في السابق وحتى في اللاحق أنه إمام وعالم إلا إذا تمكن من علم الحديث ، ومعرفة الحديث الصحيح من الضعيف ، ودرس هذا العلم الجليل الفريد ، وليس أدل مثال على ذلك مثل سيرة الإمام أحمد بن حنبل أو الشافعي أو البخاري أو ابن تيمية وغيرهم كثير كثير جداً .
[34]
حيدر : من خلال قراءاتي في الكتب الدينية أجد تضعيفاً وتصحيحاً للكثير من الأحاديث في الكتب الفقهية والعقدية لدى علماء الشيعة .
خالد : ما تقوله صحيح ، ولكن يا أخي هل وجدت بعد ذلك ، السبب العلمي في التضعيف أو التصحيح ، أو العلة من رد أو قبول الرواية وفق منهج حديثي واضح ؟
حيدر : لا ، لم أجد أحداً ذكرالسبب ، من ناحية التضعيف أو التصحيح .(4/30)
خالد : رد الحديث أو قبوله فقط ، عند فئة من علماء الشيعة ، يكون إن وافق المذهب أو عارضه ، وهذا هو المعول ، ولا شيء غيره ، فإن كان الراوي إمامياً ، وذكر رواية تعضد وتقوي الحكم الشيعي ، قُبلت الرواية ، وكذلك الأمر إن حصلنا على رواية في البخاري أو الترمذي أو مسلم ، وتؤيد المذهب قُبلت بصدر رحب ، وإلا فإن التضعيف ، يكون من نصيبها ، إن خالفت شيئاً من الأمور المذهبية ، والعجيب أن يكون سند الحديث المقبول ، موجوداً في حديث آخر ، ولكن يُرد ويُحكم بضعفه ، فقط لأن في الحديث ما يخالف المذهب .
حيدر : هل الأمر يحتاج إلى هذا التشدد والنقاش الكثير حول التصحيح والتضعيف ؟
خالد : تذكر يا أخ حيدر ، أن علم الحديث يُعد أساساً وركيزة للشريعة الإسلامية والأحكام الفقهية ، واعلم أن علم الحديث ، يُعد من أشرف العلوم لأنه يأصّل لك قبول الروايات أو ردها ، وفق منهج علمي واضح ، وليس وفق حظ النفوس وهواها ، وما من عالمٍ ، قلت بضاعته في فهم علم الحديث ، إلا ووجدت الفتاوى الغريبة المتناقضة تصدر منه دائماً .
[35]
الشاذ من الأقوال
خالد : إن من أخطر الأمور التي تهدم الدين وتفرق الصفوف وجود فتاوى متناقضة ، واجتهادات متباعدة في المسألة الواحدة ، والتي يكون الحكم فيها بيّناً واضحاص .
حيدر : هذا يحصل في فتاوى كل ملة ومذهب ، والأسباب لهذا الأمر متنوعة وكثيرة ، فما الجديد في المسألة ؟
خالد : الأمر المفجع أن ترى اختلاف الحكم في المسألة الشرعية الواحدة ناشئ من قبل إمام معصوم واحد ، أفلا يدلك مثل هذا على نتائج محيرة تجاه الفتوى أَولا ، وتجاه الإمام ثانياً ، وأيضاً تجاه الكتاب الذي حوى مثل هذه المسائل ؟ !
والأخطر من ذلك كله ما هو حال أولئك العوام الذين سيستمعون ، ثم سيطبقون مثل تلك الفتاوى ؟ !
حيدر : هذا غير ممكن ، لأن الأئمة ينهلون من معين واحد ، وهم أغصان لشجرة النبوة ، فلن نجد تناقضاً في أقوالهم أبداً .(4/31)
خالد : ليت الأمر مقتصر على الأئمة وحدهم ولكن تجاوز الأمر بطبيعة الحال إلى رجال الدين والمتعالمين ، لأن مصدر التعلم واحد ، والأمثلة على ذلك :
1 - شخصية عبد الله بن سبأ : البعض ينكرها وينفي بشدة وجود مثل هذه الشخصية ، وعلى النقيض تماماً هناك من يثبت وجودها وتأثيرها على قيام المذهب الشيعي مثل سعد القمي وما ورد في كتابه المقالات والفرق وكذا رجال الكشي .
2 - تحريف القرآن : تجد علماء الشيعة المتأخرين منهم ، ينفون بشكل قاطع
[36]
ومؤكد أنَّ أسلافهم قالوا بمثل هذا الادعاء ، وهم يؤكدون على أنها أكذوبة من الأكاذيب ، وهم مصرون على قولهم هذا كأن الأمر بديهي ، وأنه من القضايا المعلومة بالضرورة في المذهب الشيعي من عدم وجود تحريف في القرآن ، والأمر على خلاف ما قالوه ، بل إن شئت قل وأنت محق إنَّ شبه الإجماع منعقد من العلماء المتقدمين ، بأنَّ القرآن محرف وقد زيد وأنقص منه .
3 - عدم تمييز الضعيف من الصحيح في الروايات ، والشيعي الذي يحاول أن يبحث في تمييز الأحاديث ، تجده يعتمد على أسس أهل السنة وميزانهم ليحمي معتقده ، وهو يعلم يقيناً أن لا ميزان للشيعة في تمييز الروايات ، والميزان الوحيد عند الشيعة لتصحيح الأحاديث هو ميزان « الثناء على آل البيت أو عدمه » ، ولو كان ذلك صادراً من قبل أمثال زرارة بن أعين ومحمد بن مسلم والمختار ، وهم أحياناً ثقاة وأحياناً ملعونين عند علماء الشيعة وراجع في ذلك كتاب هداية الأبرار .
حيدر : هل بالإمكان ذكر مثال على الشاذ من الفتاوى ؟
خالد : خذ مثلاً على ذلك من فتاوى الخميني :
1 - جاء في تحريرالوسيلة ( 1/16 ) قول الخميني : « ماء الاستنجاء سواء كان من البول أو الغائط ، طاهر » .(4/32)
2 - جاء في تحرير الوسيلة ( 1/280 ) قول الخميني : « مبطلات الصلاة وهي أمور أحدها : الحدث ، ثانيها : التكفير ، وهو وضع إحدى اليدين على الأخرى نحو ما يصنعه غيرنا ولا بأس به في حال التقية » ... « وتعمد قول آمين بعد إتمام الفاتحة ، إلا مع التقية فلا بأس به » .
[37]
3 - جاء في تحريرالوسيلة ( 1/119 ) قول الخميني : « يشترط في صحة الصلاة طهارة موضع الجبهة في السجود دون المواضع الأخرى ، فلا بأس بنجاستها » .
كأ جاء في تحرير الوسيلة ( 2/241 ) قول الخميني : « والمشهور والأقوى جواز وطء الزوجة في الدبر ( أي : لواط النساء ) » .
4 - وجاء في تحرير الوسيلة ( 2/279 ) قول الخميني : « لا يجوز نكاح بنت الأخ على العمة ، وبنت الأخت على الخالة إلا بإذنها ، ويجوز نكاح العمة والخالة على بنتي الأخ . والأخت ( أي : يجوز الجمع بين المرأة وخالتها ) » .
حيدر : اذن من أين أتت هذه الفتاوى الغريبة والمتناقضة فيما بينها ؟
خالد : الأسباب في رأي تتلخص في :
1 - عدم الالتزام الحق بالكتاب والسنة الصحيحة ، وفق فهم الجيل الذي تنزل عليه القرآن ، هو الذي أوجد مثل هذه المعضلات في الأحكام .
2 - الصراحة في إبداء المعتقد ، كان موجوداً في الكتب السابقة فنجد أن العالم الشيعي كان يذكر كل الروايات التي بلغته ويراها ويعتقدها ، ولا يبتر منها شيئاً ، وان خالفت معتقده ، وعلى النقيض تماماً في هذا الزمان نجد التدليس ، والمراوغة والانتصار الأعمى للمذهب في جملة من المعاصرين وكذلك الكذب السمج المكشوف ، لإنكار ما قاله السابقون ولو كان بتحريف الكلم عن مواضعه ومثال ذلك ما فعله صاحب كتاب « السجود على التربة والجمع بين الصلاتين » فقد ساق
[38]
رواية الصادق : « السجود على الأرض فريضة وعلى غير ذلك سنة » ، ثم نجده أخذ ما يدعم رأيه بحذف جملة « وعلى غير ذلك سنة » ليبطل القول بأن هناك دليل يجوّز السجود على غير الأرض .(4/33)
وارجع إلى كتاب « كشف الجاني » للشيخ عثمان الخميس لتطلع بنفسك على التناقضات والشذوذ والتدليس في أقوال التيجاني .
3 - عدم كشف وفضح الكذابين من رواة السند ، مع أننا لو تفحصنا ما ترويه الشيعة عن آل البيت لوجدنا الدعوة بتصفية الصفوف وتنقيتها من هؤلاء .
مثل ما جاء في الكشي ( 253 ) عن الصادق : « لو قام قائمنا بدأ بكذابي شيعتنا فقتلهم » .
ومثال ذلك ما قاله الكاظم في الكافي ( 8/228 ) : « لو ميزت شيعتي لم أجدهم إلا واقفة ، ولو امتحنتهم لما وجدتهم إلا مرتدين ، ولو تمحصتهم لما خلُص من ألف واحد » . وعلى النقيض من هذا كله عند علماء الحديث من السنة ، لربما يتركون رواية العابد الزاهد الورع ، وذلك لأنه غير متقن في حفظه .
حيدر : العامي معذورفي تخبطه ، ولكن المتعلم والمطلع من أين ينهل علمه ، ويتعلم دينه ؟
خالد : لم لا نأخذ من الذين خالطوا النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فإن لم نأخذ من أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - فلنأخذ من علي - رضي الله عنه - والذي يُقال أنه قد جمع العلوم كلها ، فلو محصنا ودققنا في كل ما ثبت عن أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - لحصلنا على خير كثير ، ولعلمنا أنه كان
[39]
مرتبطاً بإخوانه الصحابه - رضوان الله عليهم - كلٌ يتعلم من الآخر ، وكل ينقل عن أخيه العلم ، ولعلمنا أن العلم لا يدركه ويحوزه شخص بمفرده من بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم .
[40]
غلو في محبة الآل
خالد : لا زلت أرى سوء الفهم في جانب محبة آل بيت المصطفى صلى اللّه عليه وسلم حتى أوصلوهم إلى درجة العبودية .
حيدر : هل نعتب على المحبين حبهم ، لأكرم بيت وُجد على الأرض ؟ وقد أمر الله عباده المؤمنين بهذا الشأن بقوله سبحانه : { قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْه أَجْرًا إلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } (الشورى : 23) .(4/34)
خالد : لنعلم المراد بهذه الآية ، وهو كما فسره ابن عباس - رضي الله عنه - بقوله : « إن النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يكن بطنٌ من قريش إلا كان له فيهم قرابة فقال : إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة . أي كفوا عني شركم يا أهل قريش ، فإن لم تنصروني فلا تؤذوني ، لما بيني وبينكم من القرابة » .
حيدر : حب النبي صلى اللّه عليه وسلم من أعظم الأمور التي يسعى المسلم لغرسها في نفسه ، ويتمنى المرء أن يكون عبداً مطيعاً للنبي صلى اللّه عليه وسلم .
خالد : ومن الذي ينكر هذا الشيء ، ولكن وفق ما أمرنا به النبي صلى اللّه عليه وسلم من عمل وقول ينبغي له .
حيدر : إذا كان المسلم من شدة حبه للنبي وآله تسمى بأسماء أحد منهم أننكر عليه من بعد ذلك ؟
خالد : التسمي باسم النبي صلى اللّه عليه وسلم أو أحد من آله شيء ، وأن يكون الإنسان عبداً لهم شيء آخر ! .
حيدر : وضح ما تعنيه يا أخ خالد ؟
[41]
خالد : نقرأ أسماء لبعض الشيعة فنجد فئة منهم تسموا بأسماء لم تعهد في القرون الماضية ، وخاصة في زمن النبي صلى اللّه عليه وسلم وآله من بعده ، فنقرأ الآن اسم :
عبد الرضا ، وعبد الإمام ، وعبد الحسين ، وعبد الزهرة ، وعبد الصاحب ، وهذه كلها أسماء معارضة للعبودية التي ينبغي أن يكون عليها العبد ، وهي العبودية التامة لله وحده ، ظاهراً وباطناً ، حتى في الأسماء .
حيدر : ولكن معنى العبودية في اللغة العربية واسع ويحتمل مترادفات ومعان كثيرة ، فلم الاقتصار على جانب واحد ؟(4/35)
خالد : أما الاستدلال على معنى العبودية من اللغة وأن الكلمات فيها ترادف ، فهذا معلوم ويحدد من القرائن التي تأتي في الكلام ، وهذا الأمر لا يكون مسوغاً للتسمية بعبد النبي أو بعبد الرسول أو عبد الرضا وما شابهها من الأسماء ، فهذا لا ينبغي التسمي به لحديث المصطفى صلى اللّه عليه وسلم : « أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن » . وذكره الكليني في الكافي ( ج 6 ص 21 ) .
حيدر : التسمي بأسماء الصالحين ، أو التي تسبق بعبد ( فلان ) ، يفعله الكثير من طوائف المسلمين ، وليس الشيعة وحدهم ، فلم الإنكار علينا وحدنا ؟
خالد : يجيب عن هذا التساؤل الدكتور الموسوي في كتاب « الشيعة والتصحيح » في ( ص 154 ) بقوله : « هذه الظاهرة لا نجدها عند أية فرقة أخرى : من الفرق الإسلامية ، وحتى غير الإسلامية ، والشيعة هي الطائفة الوحيدة التي تسلك مسلك العبودية لغير الله حتى في تسمية أولادها » .
والصحابه والأعراب وأهل المدينة أعلم منا باللغة العربية ، وأكثر حباً للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، فهل ثبت عن واحد منهم أنه تسمى بعبد النبي أو عبد محمد ، بل ولن تجد مثل هذه الأسماء في الجيل الذي جاء بعدهم ، لأنهم علموا أن العبودية لا تستعمل مطلقة إلا لله سبحانه ، وتستعمل مقيدة للخادم ، لأن له عبودية مقيدة بزمن محدود ولسبب مخصوص ، وليس على إطلاقه .
[42]
حيدر : أتعني أن مَن تسمى بهذه الأسماء يكون قد دخل في دائرة الشرك ، مع أنه يشهد في كل صلاة بالشهادتين ، ويقر بعبوديته لله سبحانه ؟(4/36)
خالد : ينبغي أن نفرق بين الخطأ في الأعمال والخطأ في الاعتقاد ، فخطأ الأعمال لا يُخرج صاحبه عن دائرة الإسلام ، ولكن هذا لا يمنعنا أن نبين له زلته ، وننصحه ونرشده إلى الصواب وإلا انتقل بإصراره وباستحلاله إلى أمر أشنع ، يقع في قلبه الذي هو محل الاعتقاد ، فإن كان في القلب التصديق ، مع الإقرار بصحة هذا المنكر ، مثل التسمي بعبد النبي ، وأنَّ هذا المسلم يظن أنه يمكن أن يكون عبداً للمخلوق ، فهو هنا في خطر شنيع ، يبلغ بصاحبه إلى الشرك ، والعياذ بالله .
والمخطئ لا حرج عليه بعد التوبه ، والابتعاد عن الزلة ، ولا ننسى قوله تعالى مادحاً خليله المصطفى صلى اللّه عليه وسلم : { سُبْحَانَ الذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجد الأَقْصَا الذي بَاركْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتنَا إنَّهُ هُو السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (الإسراء : 1) .
فهذا المصطفى صلى اللّه عليه وسلم يتواضع لله ليكون عبداً له ، ولتعلم يا أخ حيدر دلالة الحب ليست بالأسماء ، بل بالأقوال والأفعال الصحيحة .
حيدر : التسمي بمثل هذه الأسماء ، أيقودنا إلى مثل ما تقول من شرك وزلل ؟
خالد : باب الشرك متسع ، قد يدخل فيه الأقوال أو الأفعال بل وحتى الأماكن أو الأزمنة ، فلهذا يحذر المسلم أشد الحذر من دخوله من هذا الباب بمواقعته لهذا الضلال ، والتساهل في هذا الباب وعدم النصح والإرشاد الصحيح ، سيجرنا إلى أن العوام وغيرهم سيظهر منهم الغلو في آل البيت !
حيدر : هل لك من دليل يثبت ما تحذر من خوف ؟
[43]
خالد : الخوف ليس من العوام فقط ، ولكن من مثل هذه الروايات التي تنص على :
1 - أنَّ الأئمة أعلم من الأنبياء عليهم السلام - بحار الأنوار ( 26/193 ) .
2 - تفضيلهم للأئمة على الأنبياء ، وأن أولي العزم من الرسل إنما صاروا أولي عزم ، بمحبتهم للأئمة - انظر بحار الأنوار ( 26/267 ) .(4/37)
3 - أنَّ دعاء الأنبياء استُجيب بالتوسل والاستشفاع بالأئمة .
4 - أنَّ الأئمة لا يُحجب عنهم علم السماء والأرض والجنة والنار ، وأنه عرض عليهم ملكوت السموات والأرض ويعلمون ما كان وما يكون إلى يوم القيامة - أصول الكافي ( 1/316 ) .
5 - أنَّ الأئمة يعلمون متى يموتون ، وأنهم لا يموتون إلا باختيار منهم - أصول الكافي ( 1/313 ) .
حيدر : معاذ الله ، فماذا بقي للخالق سبحانه من صفات ووحدانية !
خالد : ويا ليت الأمر كان في الكتب الماضية ، ولكن العهد بالغلو تجدد في كتب المعاصرين مثل كتاب ( الحكومة الإسلامية للخميني ص 52 ) وذلك حين قيل : « فإن للأئمة مقاماً محموداً ، ودرجة سامية ، وخلافة تكوينية ، تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون ، وإن من ضروريات مذهبنا أنَّ لأئمتنا مقاماً لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل » .
حيدر : لعل المؤلف تراجع عن هذا القول قبل وفاته ، أو بدله في موضع آخر .
خالد : يا ليت ما تتمنى واقع ، وإلا فماذا سنفعل في مقولته التي ذكرت في كتاب « زبدة الأربعين حديثا ص 232 » : « اعلم أيها الحبيب ، أنَّ أهل بيت العصمة عليهم السلام ، يشاركون النبي صلى اللّه عليه وسلم في مقامه الروحاني الغيبي قبل خلق العالم ، وأنوارهم كانت تسبح وتقدس منذ ذلك الحين ، وهذا يفوق قدرة استيعاب الإنسان حتى من الناحية العلمية » ؟ !
[44]
والأمر العجيب الآخر حين تقرأ قول المؤلف في كشف الأسرار ( 103 ) : « إننا بكل اعتزاز وثقة نقول إنه لا يوجد في الشعوب الإسلامية من يقدس الله ، وينزهه مثل الشيعة ، أو يبرئه من أية نقيصة » .
فكيف بالله عليك يكون التنزيه والاعتزاز والمسلم الشيعي العامي يقرأ مثل تلك الروايات ، وغيرها الكثير ، التي تنص على بعض كرامات أبي الحسن رضي الله عنه ؟
حيدر : تقصد مناقب الإمام علي رضي عليه السلام ؟
خالد : بل أقصد الآتي :(4/38)
ا - أنَّ الله أحيا أهل الكهف لعلي رضي الله عنه وأحيا له سام بن نوح .
2 - أنَّ عليًا رضي الله عنه سلمت عليه الحيتان وجعله الله إمام الإنس والجن .
3 - أن الله تعالى جعل الجنة والنار بيد علي رضي الله عنه وجعل حصى مسجد الكوفة ياقوتاً .
4 - أنَّ عليًا رضي الله عنه بمنزلة { قُلْ هُوَ أَحَدٌ } .
5 - أن عليَا رضي الله عنه بإمكانه أن يُحي الموتى ليقروا له بالولاية .
6 - أن نهر الفرات ضربه علي رضي الله عنه فتشهد وأقر بالولاية لعلي .
وهذه الروايات وغيرها كثيرة موجودة في كتاب زين الدين البياضي ( الصراط المستقيم ) .
حيدر : أعوذ بالله من الزلل ، هذا الأمر لم يقع لأحب الخلق إلى الله سبحانه وهو المصطفى صلى اللّه عليه وسلم ، فكيف يتجرأ مسلم عاقل في نسبته لمن هو أقل من النبي صلى اللّه عليه وسلم ولا يقارن معه إطلاقاً ؟
[45]
خالد : نعم يا أخي الكريم ، وكنت أتمنى أن أحصل على رسالة أو كتاب يبين كاتبها إلى أي شيء كان النبي صلى اللّه عليه وسلم يدعو أهل مكة ؟ وعن أي شيء كان ينهاهم ويحذرهم ؟
فهذه الفترة استمرت قرابة ثلاث عشرة سنة مكثها النبي صلى اللّه عليه وسلم في مكة للدعوة والإرشاد .
الخطأ يبدأ صغيراً لا يُأبه له ، ثم ينتشر أمره من بعد التساهل ومع وجود علماء السوء وجهلة المسلمين ، حتى نجده قد أصبح من أساسيات وضرورات الإسلام ، وهو لا يعدو كونه شركاً وغلواً في الدين والعياذ بالله ، والله يقول سبحانه : { إِنَّ اللَّهَ لا يغفر أَن يُشْرَكَ بِهِ ويغفر مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ } (النساء : 48) ، فمن بعد ذلك ، هل يمكننا أن نقتلعه من قلوب الجهلة ؟ ولا حول ولا قوة إلا بالله .
[46]
الصحابة رضي الله عنهم
خالد : الحديث في الغلو في محبة الآل يقودنا إلى الكلام عن الصحابة وعدالتهم وحفظهم في تبليغ الشرع الحنيف ، وأيضاً في كيفية التأدب معهم وتوقيرهم .(4/39)
حيدر : من المُسَلَم به أنه ليس كل من عاش مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في المدينة أو مكة ، نطلق عليه أنه صحابي ، عدلٌ مقبول الرواية ، ويُأخذ قوله في الأحكام الشرعية ، ذلك لأن مجتمع المدينة كما أخبر الله سبحانه ممتلئ بالمنافقين ، والحاقدين على الدين ، وكان التقاتل على الدنيا من دأب فئة من الذين كانوا حول النبي عليه السلام ، لذا فكلمة « الصحابي » لفظ لا نطلقه على مَن فيه مثل هذه الصفات .
خالد : أما عن المنافقين ، فحالهم معروف ويمكن إن يُستدل عليهم ، من تخلفهم عن صلاة الجماعة ، وعدم حرصهم على الخروج إلى الجهاد في سبيل الله ، والنبي صلى اللّه عليه وسلم كان يعلم أسماءهم ، ولكن المفسدة المترتبة عن كشف أسمائهم كانت أعظم من المصلحة المفضية إلى التصريح عنهم ، بل إنَّ حالهم وأفعالهم الظاهرة دالة على باطنهم ، والصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا على اتصال وثيق ومعرفة تامة ببعضهم ، بحكم معايشتهم لبعضهم البعض .
حيدر : أتريد أن تفرق بين أهل النفاق والصحابة وتقول أن الصحابة كلهم عدول لا يخطئون ، ويعُتمد عليهم في تبليغ الأحكام الشرعية ؟
خالد : لنفرق بين العدالة والحفظ ، والعلم والإيمان ، فهذه أمور متفرقة تجتمع في
[47]
قلب أحدهم وتتفاوت عند الآخر ، أما قولنا بأنَّ الصحابة جميعهم عدول ، بمعنى أنهم لا يكذبون ، فهذا مما لا شك فيه ، والدليل على ذلك قوله تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَولُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإحْسَانٍ رضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ } (التوبة : 100) ، ورضوان الله سبحانه لا ينزل على الكذابين ، والدين كما هو معلوم مبني على صدق الاتباع ظاهراً وباطناً .(4/40)
أما الحفظ ، فهم يتفاوتون في ذلك ، للطبيعة البشرية ، ، وللفروق الفردية بين كل واحد منهم ، وهذا مما لا جدال فيه ، وكذلك العلم ، فنجد أن الخلفاء الأربعة ، يُعدون من أعلم الصحابة ، وكذلك زيد بن ثابت وأُبي بن كعب ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم ، وغيرهم كثير ، وهذا من فضل الله عليهم أولاً ، ثم لقدرة المرء الطبيعية في تلقي وتحصيل العلوم .
وأما الإيمان ، فمعلوم أنه يزيد وينقص ، والله سبحانه وتعالى قد مدح الصحابة بقوله : { وَالَذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّه وَالذِينَ آوَوْا وَّنَصَرُوا أُوْلَئِكَ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مغْفِرَةٌ وَرِزْق كَرِيم } (الأنفال : 74) .
حيدر : إن كان الأمر كما تقول ، فكيف يتقاتل المسلمون بعد وفاة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ويقوم أناس ضد خليفة المسلمين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ليغتصبوا الإمارة منه ؟
خالد : بداية لنعلم أن الخطأ يقع من الصحابة - رضي الله عنهم - مثل ما حصل في غزوة أحد كما قال تعالى : { إنَّ الَّذِينَ تَوَلَوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إن اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } (آل عمران : 155 ) ، والصحابة يريد البعض من الكتّاب المعاصرين أن يجعلوهم
[48]
أناساً مثاليين ، لا يبدر منهم الخطأ إطلاقاً ، ولكنهم في الحقيقة بشر يجتهدون ويصيبون ويخطئون ، والله يغفر لهم زلتهم ويقبل توبتهم ، وما وقع بينهم ، إنما كان باجتهاد من البعض ، أخطأوا فيما ذهبوا إليه ، والله سبحانه غفور رحيم .
واما اغتصاب الخلافة من أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - فهذه مقولة لم يقلها أحد من العلماء المعتبرين ، إنما كان خلافهم لأمر آخر ، وهو إمكانية إنفاذ الحكم والقصاص مباشرة في قتلة عثمان رضي الله عنه أو تأخيره .(4/41)
حيدر : النبي صلى اللّه عليه وسلم أخبر بكفر الفئة التي تقتل عمار بن ياسر رضي الله عنه ، وقد كان هو في صف علي عليه السلام .
خالد : النبي صلى اللّه عليه وسلم لم يقل بكفر الفئة التي تقتل عماراً إنما قال : « تقتله الفئة الباغية » ، ولنرجع إلى معنى كلمة الباغية في اللغة العربية والتي تعني الظالمة أو المتجاوزة الحد ، فأين الكفر في المسألة ؟ وينبغي علينا دائماً أن نفهم المعنى اللغوي المستخدم في القرآن أو الحديث لنفهم المعنى المقصود .
حيدر : كل من خرج على أمير المؤمنين فقد ظلم نفسه ، وأخطأ خطأ فادحاً ، وينبغي علينا أن نبين للناس سوء ما فعل .
خالد : كأنك تريد التشهير بالخارجين ضد أمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، ومن خلال الاطلاع على كتب التاريخ لم أقرأ أن عليًا شهّر بحالهم وتكلم عليهم ، أفلا يسعنا ما وسع أمير المؤمنين ، من أنه لم يكفرهم ولم يأمر بلعنهم ، فنقتدي بفعله ، ونكِل أمرهم إلى الله سبحانه .
حيدر : ذكر العلامة السيد مرتضى العسكري ، في كتاب « خمسون ومائة صحابي مختلق » أن هناك أسماء دُست بين الصحابة ، ومن أمثلة ذلك عبد الله بن سبأ .
[49]
خالد : للأسف ، لا زلت أسمع الإنكار على وجود مثل هذه الشخصية مع أنها مذكورة في كتب الشيعة ، وخاصة كتب الرجال والفرق مثل رجال الكشي ( ص 108 ) وفرق الشيعة للنوبختي ( ص 22 ) ، وكذلك القمي في المقالات والفرق ( ص 22 ) ، وحوارنا تحديداً إنما هو عن صحابة يعرفهم القاصي والداني ، وروايات أحاديثهم منتشرة ومستفيضة ، فإن كان هناك مثل ما تزعم ، عدد من الصحابة مختلقة أسماؤهم ، فماذا نصنع بروايات آلاف غيرهم ، في المدينة ومكة وما جاورهما ؟ وقد جاءت الكتب الموضحة لأسماء الصحابة وسيرتهم ، مثل كتاب أُسْد الغابة وكتاب الاستيعاب والإصابة في تمييز الصحابة ، وكتب الحديث جمعت مرويات الصحابة ، والمنصف مَنْ يجمع الموضوع من جميع جوانبه ثم يحكم بعد ذلك .(4/42)
حيدر : أعود إلى سؤال طرحته آنفاً ، كيف نفرق بين المؤمنين والمنافقين من الصحابة ؟
خالد : لنصحح السؤال « المنافقين والمؤمنين في زمن النبي صلى اللّه عليه وسلم » فالصحبة شرف لا ينالها إلا المؤمنون ، ويمكن أن نعرفهم من الأمور الآتية :
1 - سيرتهم في حياة النبي صلى اللّه عليه وسلم وبعد وفاته .
2 - حبهم لأهل الإيمان مثل حب علي - رضي الله عنه - وحب الأنصار كما قال صلى اللّه عليه وسلم : « الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق » .
3 - حب من أحبه النبي صلى اللّه عليه وسلم ، كأبي بكر وعائشة وفاطمة رضي الله عنهم وغيرهم كثير .
4 - حب آل بيت النبي صلى اللّه عليه وسلم جميعهم ، ولا يفرق بين أحد منهم مات على الإيمان .
وسبب التركيز على جانب الحب فقط ، راجع إلى أن ديننا مبني على الحب والبغض في الله .
[50]
حيدر : هذا الكلام جميل ولا غبارعليه ، ولكن أما ينبغي علينا أن نذكر كل صحابي بما يستحقه ؟
خالد : أنا وأنت نعلم يقيناً أن الله تعالى إنما أمرنا بطاعته ، وطاعة نبيه صلى اللّه عليه وسلم ، ولم يأمرنا أو يتعبدنا بذكر النقائص في فلان وفلان ووضع مناسبات لهذا الفعل ، وأما عن أخطاء الصحابة فقد أمرنا الله بالآتي : { وَالذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لَلّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوف رَّحِيم } (الحشر : 10) ، فهذا ما أُمرنا بفعله تجاه الصحابة ، وليس النقيصة وتجدد السباب واللعن على أناس قد أفضوا إلى خالقهم .
حيدر : كأنك تلُمّح إلى ما يفعله الدهماء من عوام الشيعة من أقوال شاذة لا تعبّر بالضرورة عن معتقد المذهب .
خالد : العوام لا ينقادون بأنفسهم ، ولكنهم يتبعون ويسمعون العلماء ، فسبابهم لم يأتِ من فراغ ، بل جاء من قبل روايات تأمر بالسب واللعن ، مثل :(4/43)
* علامة الشيعة نعمة الله الجزائري يزعم في كتابه الأنوار النعمانية ( ج ا/ب 1 ص 63 ) أن عمر - رضي الله عنه - مصاب بداء في دبره لا يهدأ إلا بماء الرجال .
* المفسر القمي يفسر قوله تعالى : { فخانتاهما } من سورة التحريم أي ارتكاب عائشة وحفصة - رضي الله عنهما - الفاحشة ، والعياذ بالله .
* زين الدين البياضي يزعم في كتابه الصراط المستقيم ( 3/28 ) أن عمر كان خبيث الأصل ، وجدته زانية .
[51]
وزين الدين البياضي في الصراط المستقيم ( 3/30 ) أيضاً يزعم أن عثمان جامع امرأة زانية قبل أن يرجمها ، وأن عثمان كان مخنثاً .
، وجاء في تفسيرالعياشي ( 1/307 ) والصافي ( 1/511 ) تكفير الصديق والفاروق تحت تفسير قوله تعالى : { إنَّ الذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنٍ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً } . (النساء : 137) .
" تسمية أبي بكر بالفحشاء وعمر بالبغي في قوله تعالى : { وَينهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْي } (النحل : 95 ) ، وهذا مذكور في تفسير العياشي ( 2/289 ) والبرهان ( 2/381 ) والصافي ( 3/151 ) .
* محمد نبي التوسيركاني في كتابه لئالي الأخبار ( 4/92 ) يزعم أن أشرف الأمكنة والأوقات للعن الصحابة هو المبال ( أماكن قضاء الحاجة ) حتى الخميني غمز في مجتمع الصحابة رضوان الله عليهم وطعن بهم !
حيدر : هذا غير ممكن صدوره من الإمام الخميني قدس الله سره !
خالد : ينبغي أن تقرأ وصية الخميني حيث قال : « إنني أدعى بجرأة أن الوضع الذي يتميز به الشعب الإيراني وجماهيره المليونية ، في العصر الحاضر أفضل من أهل الحجاز في عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم .(4/44)
وغيرها الكثير من الروايات التي يتألم المسلم المحب للنبي صلى اللّه عليه وسلم من وجودها ، على زمرة صاحبها النبي صلى اللّه عليه وسلم طوال حياته الطيبة ولم يُعْلَمْ عنها إلا كل خير يحبه الله - تعالى - .
[52]
وإذا كان أمير المؤمنين - رضي الله عنه - يكره أن يكون الناس سبَّابين ، فلم نجدد العهد بالأحقاد في كل سنة ؟ !
حيدر : تغيير عادات الناس من أعسر الأمور وأصعبها ، فمن تطبّع على شيء ، نجده قد أصبح طابعاً وملاصقاً لصاحبه ، فلا يستطيع تغييره أو الابتعاد عنه .
خالد : واجب العلماء أن تكون مجالسهم ، مجالس علم وتربية وتزكية للنفوس ، لا مجالس زرع للأحقاد ، وبث ما يفرق ويهدم الوحدة الوطنية في صفوف المجتمع الواحد ، وبين أفراده ، ولنتذكر كيف أن الصحابة ومن جاء من بعدهم ، ممن سار على الحق ، يحب بعضهم بعضاً حتى تسموا بأسماء مشاهير الصحابة وتداخلوا بينهم كالأسرة الواحدة ومن ذلك :
ا - أبوبكر وعثمان وعمر أبناء علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - .
2 - عمر وطلحة أبناء الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - .
3 - أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب زوجها هو عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم أجمعين - .
4 - فاطمة بنت الحسين بن علي زوجها هو عبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وسكينة بنت الحسين زوجها هو مصعب بن الزبير .
5 - عمر بن علي زين العابدين - رحمهم الله - .
6 - عائشة بنت علي الرضا - رحمهم الله - .
7 - عائشة بنت جعفر الصادق - رحمهم الله - .
[53]
8 - عائشة بنت علي الهادي - رحمهم الله - .
فلم لا نقتدي بهم ، ونحفظ ألسنتنا من السوء ، لأن هذا سبب متين لترابط القلوب والمجتمع بإذن الله تعالى ، واختلاف الرأي لا يفسد للود والحب بين القلوب من مكان أبداً .
[54]
أبو هريرة(4/45)
حيدر : أردت في المبحث السابق أن تبيِّن عدالة الصاحبة جميعهم ، وأنهم لا يكذبون في أخبارهم ... إذاً ما قولك فيمن روى أحاديث تفوق قدرة البشر ؟
خالد : كأنك تريد أن نتكلم عن رواية بعض الصحابة لأحاديث النبي صلى اللّه عليه وسلم ؟
حيدر : لنتناقش حول بعض المحدثين .
خالد : أما ترى أنه يجدر بنا إذاً أن نتكلم حول أشهر المحدثين في زمن الصحابة .
حيدر : ومن تقصد بهذا ؟
خالد : أقصد عبدالرحمن بن صخر الدوسي ، ذاك الصحابي الذي نذر نفسه لرواية حديث النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ولم يحرص إلا على العلم .
حيدر : هذه أول مرة أسمع بهذا الصحابي .
خالد : لا عتب عليك ، فهذا الصحابي اشتهر بكنيته ولقبه أكثر من اسمه ، وأعني به أبا هريرة رضي الله عنه .
حيدر : نعم تذكرته الآن ، فهو قد تكلم حوله العلامة حسين شرف الدين الموسوي في كتابه القيّم « أبوهريرة » ويين ضعف روايات هذا الرجل ، بل إنَّ هذا الرجل أُثر عليه الجنون ، مما أثرعلى رواياته للحديث .
خالد : قبل أن أعلق على نقلك هذا ، هل قرأت من كتب السنة شيئاً من سيرة هذا الصحابي الجليل ؟
حيدر : للحق والأمانة أقول لا ، بل سمعت الكثير من رجال الدين عندما كانوا يخوضون في هذا الصحابي ، ويذكرون أن جميع أحاديثه لا تصح .
[55]
خالد : لنناقش الأمر بروية وهدوء .
حيدر : نعم ما تقول ، فمتى أسلم هذا الرجل ؟
خالد : المشهور عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه أسلم سنة سبع من الهجرة ، بين الحديبية وخيبر ، وكان عمره حينذاك نحو ثلائين سنة ، ثم قدم المدينة مع النبي صلى اللّه عليه وسلم حين رجوعه من خيبر ، وسكن « الصفّة » ولازم الرسول صلى اللّه عليه وسلم ملازمة تامة ، يدور معه حيثما دار ، ويأكل عنده في أغلب الأحيان إلى أن توفي صلى اللّه عليه وسلم .
حيدر : ولكن الأمر المستغرب ، هو قوة حافظته وذاكرته عن بقية الصحابة .(4/46)
خالد : هذا من بركة دعاء النبي صلى اللّه عليه وسلم ، لما أن شكا إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم من سوء حفظه فقال له : افتح كساءك ، فبسطه ثم قال له : ضمه إلي صدرك فضمه ، فما نسي حديثاً قط بعده أبداً .
حيدر : هذه الرواية غريبة في سردها ، هلا تحققت منها يا أخ خالد !
خالد : هذه الرواية رواها البخاري وغيره ، فهي صحيحة ولله الحمد ، وهي ليست عند علماء السَّنة وكتبهم فقط ، ولكنها أيضاً موجودة في كتب الشيعة ، فقد جاء في الخرائج ( 1/75 ) وفي كتاب بحار الأنوار ( 18/913 ) في باب معجزاته صلى اللّه عليه وسلم واستجابة دعائه : أن أبا هريرة قال لرسول الله صلى اللّه عليه وسلم : إني أسمع منك الحديث الكثير أنساه . قال : ابسط رداك كله ، وقال : فبسطته ، فوضع يده فيه ، ثم قال : ضمه . فضممته ، فما نسيت حديثاً بعده » .
حيدر : ولكن أبا هريرة يميزه أنه في وقت قصير روى الأحاديث الكثيرة التي لا تتناسب مع زمن إسلامه !
[56]
خالد : ابتداءً أسألك يا أخ حيدر ، كم عدد الأحاديث التي رواها أبو هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ؟
حيدر : الآلاف الكثيرة من الأحاديث .
خالد : لنكن دقيقين في الأمر ، فأصحاب الكتب الستة ، والإمام مالك في موطئه رووا لأبي هريرة - رضي الله عنه - ( 2218 ) أي قرابه الألفي حديث مما اتفقوا عليه ، وله في الصحيحين ، البخاري ومسلم رحمهما الله ( 609 ) ستمائة وتسعة أحاديث ، اتفق البخاري ومسلم على ( 326 ) ثلاثمائة وستة وعشرين حديثاً منها ، فأين الآلاف المؤلفة في الرواية ؟
حيدر : هذا ما سمعته من الكثير من الأئمة ورجال الدين حول رواية هذا الرجل .
خالد : أغلب الصحابة والعلماء أثنوا على أبي هريرة - رضي الله عنه - وعلى علمه كقول أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم : « أبو هريرة وعاء من العلم » .(4/47)
وكقول الشافعي - رحمه الله - : « أبو هريرة رضي الله عنه أحفظ من روى الحديث في دهره » .
وقال البخاري - رحمه الله تعالى - : « روى عنه نحو ثمانمائة من أهل العلم ، وكان أحفظ من روى الحديث في عصره » .
حيدر : ولكن الذي ينتقد به أبوهريرة أنه ليس هناك رجل روى هذا الكم الهائل من الأحاديث لوحده ، بل إن طاقة الإنسان الذهنية لا تتحمل مثل هذا الشيء الخارق .
خالد : أولاً : هذا القدر من التذكر وعدم النسيان حاصل ومتحقق لبركة دعاء النبي صلى اللّه عليه وسلم لأبي هريرة رضي الله عنه .
[57]
ثانياً : رجل نذر نفسه لطلب العلم وسماع أحاديث النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ألا يستطيع أن يلم من بعد ذلك بروايات أكثر من غيره ؟
ثالثاً : كان له طلبة علم كثيرون يتلقون عنه هذه الأحاديث .
رابعاً : الأحاديث المروية عن أبي هريرة فيها القولية والفعلية والتقريرية .
خامساً : منها ما رواه عن غيره من الصحابة رضوان الله عليهم عن النبي صلى اللّه عليه وسلم .
سادساً : من الأحاديث المذكورة عن أبي هريرة رضي الله عنه أحاديث لا تصح في السند .
سابعاً : تفرغ رضي الله عنه للعلم فقط .
ثامناً : تقول طاقة الإنسان لا تتحمل ولا تستطيع ، هل بضعة آلاف من الأحاديث تبلغ على أكثر حد خمسة آلاف ، ويسمعها الإنسان خلال أربع سنوات ، أمرها معجز أم ذاك الذي سمع أكثر مما تلقاه أبو هريرة طوال عمره ؟
حيدر : لعلك تعني أحد المعصومين من الأئمة !
خالد : لا ، بل هم رجال حالهم كحال بقية الرجال ، بل لا يبلغون من فضل أبي هريرة - رضي الله عنهم - شيئاً ، ومن هؤلاء ( أبان بن تغلب ) قال فيه الصادق : « إن أبان بن تغلب روى عني ثلاثين ألف حديث ، فاروها عني » .
وهذا محمد بن مسلم بن رباح ، ذكر النجاشي في كتابه الرجال ( 163 ) « أن محمداً سأل الباقر عن ثلاثين ألف حديث ، وسأل الصادق عن ستة عشر ألف حديث » .(4/48)
وهذا جابر بن يزيد الجعفي ، من المكثرين في الرواية عن آل البيت ، فنقل
[58]
عنه الكشي في ترجمته ( 194 ) هذه الرواية وهي : « رويت خمسين ألف حديث ما سمعه أحد مني » .
وقال الحر العاملي في خاتمة الوسائل ( 20/151 ) عن جابر : « أنه روى سبعين ألف حديث عن الباقر ، وروى مائة وأربعين ألف حديث » .
فهل أبوهريرة رضي الله عنه بلغ في عدد أحاديثه ما بلغه هذا الرجل ؟
وللعلم فإن عبدالحسين هذا له كتاب باسم « المراجعات » ذكر أمثال هؤلاء المفرطين في رواية الأخبار الشيعية ودافع عنهم ، فلم لم يلتمس ولو بشيء من الإنصاف العذر لأبي هريرة رضي الله عنه علىَ كثرة روايته للحديث ؟
حيدر : ولكن رواة الشيعة رحمهم الله تشهد لهم الكتب الحديثية بحسن السيرة والعدالة وقوة الحفظ ، فلم الإنكار عليهم يا أخ خالد !
خالد : أما الحفظ فهذا لا يحتاج إلى مناقشة ، وذلك لتناقض الروايات الشيعية في الكتب الأصلية ، أما العدالة وحسن السيرة ، فلو تجشمت العناء شيئاً قليلاً ، وتصفحت بعض كتب الشيعة مثل رجال الكشي وغيره ، لعلمت كيف كانت سيرة بعض رواة الشيعة المكثرين في الرواية ومن ذلك :
- عوف العقيلي ، روى الكشي في رجاله ( 95 ) عن الفرات بن أحنف قال : العقيلي كان من أصحاب أمير المؤمنين ، وكان خماراً ، ولكنه يؤدي الحديث كما سمع !!
- أبو حمزة الثمالي ثابت بن دينار كان خماراً ، مثل ما جاء في كتاب رجال الكشي ( 76 ) وتنقيح المقال للمامقاني ( 1/191 ) .
- علي بن حمزة البطائني ، كان يسرق أموال المعصوم وخمس الشيعة ،
[59]
وقالوا عنه أنه من الواقفة الملعونين الكذابين ، راجع كتاب « الواقفية دراسة تحليلية 1/418 » .
وغيرهم كثير ، فلا يشترط مبدأ العدالة وحسن السيرة عند الشيعة ، ولكن يشفع لرواة الشيعة كثرة رواياتهم وقبولها مناصرتهم لآل البيت رحمهم الله ، ولو كانت من أفواه الفساق !(4/49)
حيدر : مع كل ما ذكرته يا أخ خالد من روايات ، ولكن رواية أبي هريرة قد نبذها رجال العلم الشيعة دلالة منهم على عدم الرضا بها ، لذا لن تجد أي مؤلف شيعي في الحديث ذكر شيئاً من رواية هذا الرجل .
خالد : هذه من الملاحظات الوجيهة يا أخ حيدر ، ولعلي أختم بها هذا النقاش الممتع .
الشيعة الأولون كانوا يعملون بأحاديث أبوهريرة رضي الله عنه وكذلك أقواله وفتاويه ، ومن ذلك الحاج ميرزا حسين النوري الطبرسي في كتابه مستدرك الوسائل ذكر جملة من أحاديث أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الإجارة ( 14/28 ) بل الشيخ المفيد روى جملة من الروايات في كتاب الأمالي ، وهي من أبي هريرة مثل ما جاء في صفحة ( 111 ، 112 ، 317 ) .
والشيخ الصدوق روى كذلك في كتاب « معاني الأخبار » في صفحة ( 80 ، 90 ) . وكذلك في كتاب إكمال الدين في صفحة ( 136 ) وفي كتاب الخصال وثواب الأعمال . أيضاً ، وغيرها كثير جداً ، فلم الادعاء قبل النظر والاطلاع ، ودائماً أقول وأكرر يا أخ حيدر إن مشكلة الشباب الشيعي الحريص على الخير عدم اطلاعه على أمهات الكتب الشيعية
[60]
الأصلية ، وعدم استفساره وتأكده من الأدلة التي يسوقها الكثير من القصاصين الذين اعتلوا منبر الرسول صلى اللّه عليه وسلم .
حيدر : إذاً الأمر ليس كما يدعيه بعض رجال الدين حول أبي هريرة !
خالد : نعم يا أخ حيدر ، فهذا الرجل المبارك رضي الله عنه أجمع على قبول روايته علماء السنة وكذلك الأقدمون من رجال الدين الشيعة ، ولن تجد أحداً يبغضه أو يرد روايته إلا ذلك الجاهل الذي لم يشرح الله صدره لحب العلم الشرعي الصحيح .
ولو أنك سألت كل من يشتم أو ينتقص من قدر أبي هريرة - رضي الله عنه - لماذا هذا الحط من قدر هذا الصحابي الكريم ؟
وماذا قرأت عن سيرته ، وما الخطأ الذي اقترفه هذا الإنسان في حق الإسلام ؟(4/50)
لما وجدت جواباً شافياً ، ولكن كل هذا التحقير نابع من فئة من المتعالمين الذين لم يقرأوا ولم يطلعوا على كتب السُنة والشيعة ؟
حيدر : ولكن من انتقد أحاديث أبي هريرة إنما كان يريد الخير وبيان الهدي النبوى الصحيح .
خالد : من ينتقص أبا هريرة - رضي الله عنه - لا ينتقصه إلا لسبب واحد ذلك أنه يريد أن يطعن بالسُّنة الصحيحة ، فلم يجد له من سبيل إلا بالطعن بمن نقل الأحاديث ، وكان أشهر هؤلاء النقلة أبو هريرة ، وهو أكثرهم رواية للأحاديث .
ولنعلم أن أبا هريرة وأمثاله من الصحابة رضوان الله عليهم اختصهم الله بعلمه سبحانه لينقلوا سنة نبيِّه صلى اللّه عليه وسلم والتي فيها ما يحبه الله من شرع وهدي نبوي ، فلذا نحبهم لهذا الأمر ولغيره من الأمور .
[61]
دعاء صنمي قريش
حيدر : بما أننا تحاورنا حول عدالة الصحابة ، واتهام بعض السنة لإخوانهم الشيعة بأنهم لا ينُزلون الصحابة العدول منازلهم اللائقة بهم ، فلمِ نجد البعض من السنة يفتري على الشيعة ، فيزعم أنهم يدعون في صلاتهم على الصحابة ؟
خالد : الصلاة وما فيها من أدعية يجتهد فيها العبد لربه ، إنما هي سر بين العبد وربه لا يعلمه أحد من الخلق ، ولكن ما تقوله إنما جاء لأن هناك أدعية شنيعة قبيحة يحض عليها فئة من العلماء ، وينشرونها في كتبهم !
حيدر : دعاء بهذا الوصف وموجود في كتب العلماء ، بالله عليك وما هو ؟
خالد : يطلق على هذا الدعاء « دعاء صنمي قريش » والمراد بالصنمين هما الخليفة الأول الصديق وعمر الفاروق - رضي الله عنهما - وأيضاً ابنتيهما عائشة وحفصة - رضي الله عنهما - وهذا الدعاء جاء ذكره عند :
ا - إبراهيم بن علي العاملي المعروف بالكفعمي في كتاب المصباح ( 552 ) .
2 - الملا محمد باقر المجلسي في بحار الأنوار ( 85/337 ) .
3 - القاضي السيد نور الله الحسيني التستري في إحقاق الحق ( 1/337 ) .(4/51)
حيدر : مثل هذه الأدعية والأقوال يعُلم بداهة أنها مدسوسة في كتب العلماء .
خالد : سبحان الله ! إذا أُلقي علينا الذي نكرهه ، قلنا إما أنه مدسوس أو ضعيف ، أو قاله الإمام تقية ، ولِمَ نسمع هذه الأعذار في وقت المناقشة فقط ، ولا نقرأها
[62]
في كتب لرجال الدين الشيعة فنجد فيها دحضاً وإبطالاً لمثل هذه الأقوال والمؤلفات الشاذة ؟ بل لقد جاء هذا الدعاء في كتاب ألف بالأردية ( الهنديه ) للمؤلف منظور حسين بعنوان « تحفة العوام مقبول جديد » وذكر مؤلفه أنه مطابق لفتاوى تسعة من كبار المراجع ومنهم :
ا - السيد محسن الحكيم .
2 - السيد أبوالقاسم الخوئي .
3 - السيد روح الله الخميني .
4 - الحاج السيد محمود الحسيني الشاهرودي .
5 - الحاج سيد محمد كاظم شريعتمداري .
6 - السيد أبو الحسن الأصفهاني .
حيدر : ومن هو اللذي نص على أن المقصود بالصنمين أبو بكر وعمر !
خالد : نص على ذلك جمع من العلماء الشيعة منهم :
ا - أبوالسعادات أسعد بن عبدالقاهر على ما في المصباح للكفعمي هامش (552) .
2 - محمد محسن الشهير بأغابزرك الطهراني في كتاب الذريعة إلى تصانيف الشيعة ( 10/9 ) .
3 - المجلسي في بحار الأنوار ( 85/263 ) .
4 - محمد الكاشاني في قرة العيون ( 326 ) .
ولم يُعلم أن أحداً من هؤلاء أنكر هذا الدعاء ، أو حتى انتقد وجوده
[63]
وكتابته ، بل إن آية الله العظمى السيد شهاب الحسيني المرعشي في حاشيته على إحقاق الحق لنور الله الحسيني المرعشي ( 1/337 هامش ) يقول : « ثم اعلم أن لأصحابنا شروحاً على هذا الدعاء منها الشرح المذكور ( أي : كتاب شهاب المرعشي ) ومنها كتاب ضياء الخافقين لبعض العلماء من تلاميذ الفاضل القزويني صاحب لسان الخواص ، ومنها شرح مشحون بالفوائد للمولى عيسى بن علي الأردبيلي ، وكان من علماء زمان الصفوية ،(4/52)
وكلها مخطوطة ، وبالجملة صدور هذا الدعاء مما يطمئن به لنقل الأعاظم إياه في كتبهم واعتمادهم عليه » .
فمثل هذا الكم من الشروح ما هوإلا دلالة على أهمية هذا الدعاء في قلوب علماء الشيعة .
حيدر : هل بالإمكان ذكر شيء من الدعاء ؟
خالد : الدعاء طويل قرابة الورقتين ومما جاء في هذا الدعاء الشنيع « اللهم العن صنمي قريش ، جبتيها وطاغوتيها وافكيها وابنتيهما ، اللذين خالفا أمرك ، وأنكرا وحيك وجحدا إنعامك وعصيا رسولك وعاديا أولياءك وحرفا كتابك وعطلا أحكامك وأفسدا عبادك ، اللهم العنهما وأنصارهما ... » .
فهل مثل هذا يصدر من مسلم عاقل يريد أن يوحد صفوف المسلمين ، ويؤلف بين قلوبهم ؟ !
فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
[64]
الاحتفالات الإسلامية
حيدر : لا زلت أعجب من إخواننا السنة ، ومن نفورهم واستهجان البعض منهم ، على ما يقوم به الشيعة من احتفالات دالة على تعظيمهم للآل البيت ، ومن تخصيص أيام تدل على فضلهم وعلو شأنهم ، وتجدد العهد بهم ، ويستلهمون من بعدها العظات والعبر في سيرتهم الزكية .
خالد : إنزال الناس منازلهم أمر مطلوب شرعاً ، بما لا يتعارض مع الشرع وينبغي علينا أن نتذكر قوله تعالى : { وَمَا آتَاكُمُ الرسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْه فَانتَهُوا } (الحشر : 7) وقوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَة } (الأحزاب : 21) ، والنبي - صلى اللّه عليه وسلم - عاش قرابة ( 23 ) سنة وهو يشرع ويأمر وينهى ، فلَم نعلم أنه خصص يوماً للاحتفال ، بسبب حادثة معينه كغزوة بدر أو فتح مكة أو حتى لإسلام حمزة أو العباس رضي الله عنهم - أو لربما في حال ولادة الحسن أو الحسين رضي الله عنهما بغية أخذ العبرة والعظة منها ، فضلاً عن المناسبات الحزينة كمقتل حمزة وما حدث في غزوة أحد أو وفاة أم المؤمنين خديجة وغيرها كثير ، فهل غاب عن أذهانهم هذا الأمر وعلمناه نحن من بعدهم ؟ !(4/53)
أو هل نحن أشد حرصاً على الخير من المصطفى صلى اللّه عليه وسلم ومن كان معه !!
حيدر : وما قولك في بعض أفعال الحج كالصلاة عند مقام إبراهيم والسعي بين الصفا والمروة بسبب هاجر أم اسماعيل ، أو رجم الشيطان تأسياً بفعل الخليل إبراهيم !
خالد : مَن الذي أمرنا بفعل هذه الأعمال ؟ ، أليس هو النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ولو سألت الكثير
[65]
من العامة لِمَ ترمي في الحج ؟ لأجابك : لأن النبي فعل هذا الشيء ، ولو سألته لم تسعى بين الصفا والمروة ؟ لرد عليك وقال : أليس النبي صلى اللّه عليه وسلم فعل وأمر بهذا الفعل . عفوية الرد فيها دلالة على الفطرة السليمة والاتباع الشديد لأمر حبيبنا محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ووالله لربما غاب عن البعض الحكمة من العمل ، والمسلم يا أخ حيدر مطالب بالاتباع دون إلزامه بمعرفة الحكمة .
حيدر : ولكن العوام ما فعلوا مثل هذه الاحتفالات إلا من باب الحب للخير .
خالد : سبحان الله ما استحسن جاهل عبادة مخصوصة ، بلا دليل أو نص إلا وتجد أن البدع تترى على فعله ، ونجد في المقابل متعالماً يزيد من نفسه بعض العبادات الباطلة مما يزين للعوام أنها من الشرع ، ومثال ذلك عيد النيروز !
حيدر : عيد النيروز ! وما دخله بالدين وبحديثنا !
خالد : الذي أعلمه أن هذا العيد متعلق بالسنة الفارسية ، ولا شأن له بالشريعة الإسلامية بتاتاً ، إذاً فما دليل ذلك العالم الذي أفتى باستحباب الغسل والصيام لهذا اليوم ؟
حيدر : لَم يفتِ أيُّ عالمٍ معتبر بأي شيء لهذا اليوم الفارسي .(4/54)
خالد : إذاً ماذا نفعل لتلك الفتوى الموجودة في كتاب تحرير الوسيلة للخميني ( ج 1/98 ، 352 ) حيث جاء : « ومنها يوم الغدير وهو الثامن عشر من ذي الحجة - يعني مندوبات الصيام - ومنها يوم النيروز » ، وذكر أيضاً أن من الأغسال المندوبة غسل يوم العيدين ومنها يوم النيروز ، ونحن نعلم أن المندوب ( أي المستحب ) معناه أن لك الأجر إذا فعلت وليس عليك إثم إذا لم تفعل ، فأين الدليل الشرعي لهذه الفتوى ؟
حيدر : هل تريد أن تطلق على هذه الأعمال أنها بدعة ، مع أن الأثر كله مبني على أخذ العبرة والعظة ؟
[66]
خالد : البدعة تنشأ كما يلي ، بادعاء أخذ العبرة أولاً في يوم مخصوص لأمر ما ، ومن ثم يوضع دعاء مخصوص بكيفية مخصوصة ، ثم نجد المجلدات المؤلفة لهذا الفعل والأكل والشرب وتعطيل مصالح وأعمال المسلمين ، وهل لهذا الفعل من سند أو دليل من الهدي النبوي ، لا بل اللهم إلا الهوى والبعد عن جادة الحق .
ومع تكاثر البدع ، التي هي سبل الضلال ، سيكثر معها الفساد وارتكاب المخالفات ، وما كان أصله فاسداً فلا يُجنى منه إلا الثمر الفاسد .
[67]
عيد الغدير
خالد : وبعد أن عرجنا على الحوار حول حكم الاحتفالات التي تقيمها الشيعة خلال أيام السَّنة ، لنسلط الضوء حول أحدها ونسوقه كمثال حول حوارنا .
حيدر : لله الحمد والمنة ، فالشيعة لهم الاستدلال الصحيح والرواية المعتمدة أمام كل عمل يفعلونه .
خالد : لنتحاور حول عيد الغدير .
حيدر : هذه من المناسبات العزيزة على النفس ، الحبيبة إلى القلب ، لدى الشيعة جميعاً ، وهذه الحادثة ثابتة في كتب الحديث ، لدى السنة والشيعة .
خالد : ألا ترى أن إعطاء هذا اليوم مسمى العيد نحتاج فيه إلى دليل شرعي ، وإلا لكثرت علينا المناسبات ، مفرحة كانت أو محزنة ، فالعامي مع مضى الأيام قد يزول من ذهنه المقصد من معنى كلمة عيد ، ولربما يساويها بالعيد الشرعي وهو الفطر والأضحى .(4/55)
حيدر : لا يذهب بك الفهم كل هذا البعد والتشدد ، فالجاهل العامي لا يعُولُ عليه .
خالد : العوام هم مقلدة للعلماء ، فإن أحسن العلماء ونصحوا وبينوا انقاد العوام إلى الحق ، وانصلح حالهم ، وإن أساءوا فلن ترى إلا العجائب ، وكما قال الخميني في كشف الأسرار ( 99 ) : « إن طهران يوجد فيها مشتر لكل متاع ، وإن أحداً لو ادعى الألوهية فإنه سيجد من يتبعه » .
أما ترى يا أخ حيدر أن المفهوم الخاطئ قد جر العوام إلى صيام هذا اليوم
[68]
واعتقاد الأجر فيه ، والأجر كما نعلم جميعاً أمر غيبي لا يعلمه إلا الله ، فأين الدليل ؟ !
حيدر : هل تريد أن تضعف من روايه الغدير وتزعم أنها غير صحيحة .
خالد : لنسلط الضوء على الرواية الصحيحة للغدير وهي كاللآتي : أخرج الإمام مسلم في صحيحه بسنده عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم قال : قام رسول الله صلى اللّه عليه وسلم يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خُمّا بين مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكّر ، ثم قال : « أما بعد ، ألا أيها الناس ، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثَقَلَيْن أولهما كتاب الله ، فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به » ، فحث على كتاب الله ورغَّب فيه ، ثم قال : « وأهل بيتي . أذكركم الله في أهل بيتي ثلاثاً » فسُئل زيد عن المقصود من أهل بيته فقال : نساؤه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حُرِم الصدقة بعده ، فسُئل : ومن هم ؟ قال : آل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل عباس .
حيدر : ولكن هناك زيادات أخرى تدل على أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قد قال : « من كنت مولاه فعلي مولاه ... » ، وعلى ضوء هذه الرواية فأنت تتفق معي من أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قد أخذ العهد من الصحابة في هذا اليوم العظيم ، وهو يوم الغدير .(4/56)
خالد : حسناً ما قلت ، وهو الاستدلال بالنصوص على الأحكام وليس بالكلام الإنشائي فلنأخذ أحد النصوص الهامة من أحد الكتب الشيعية المعتبرة وهو « نهج البلاغة » ( 3/7 ) وهذا النص كما يلي من قول علي رضي الله عنه : « إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه ، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار ، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماماً كان ذلك لله رضى ، فإن
[69]
خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى » .
حيدر : مقولة النبي صلى اللّه عليه وسلم للصحابة إن وليهم هو علي رضي الله عنه ، أي أنه من يتولى الأمر من بعده ، دليل واضح في قضية الإمامة ؟
خالد : اْين الدلالة على الخلافة والإمارة ، والنبي صلى اللّه عليه وسلم يقول « ولي » وليس « متول » وشتان ما بينهما في المعنى ، قال الفيروزآبادي صاحب القاموس : ( وأما مَا يظنه الشيعة أن في الآية { إنما وليكم الله ... } أو في الحديث « من كنت مولاه » دلالة على أن علياً رضي الله عنه هو الخليفة بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فمن الجهل المقطوع بخطأ صاحبه ، فإن الوَلاية بالفتح ضد العداوة ، والاسم منها مولى وولي ، والوِلاية بالكسر هي الإمارة ، ومنها والي ومتولي ) .
وأمير المؤمنين فضائله أكثر من أن تحصى ، وهو من أزهد الناس بالدنيا حتى أنه - رضي الله عنه - قال عن الخلافة لما أتته : « والله ما كانت لي في الخلافة رغبة ولا في الولاية إربة ولكنكم دعوتموني إليها وحملتموني عليها » . ( نهج البلاغة 2/184 ) .
والسؤال : لمَ الاحتفال والبهجة ، وعلي - رضي الله عنه - لم يُخصص له إلا الدعاء بالَخير ، وهذا الأمر - أي الدعاء - ثبت لكثير من الصحابه ، فلم نحتفل بمثل هذا ؟(4/57)
وعدم الاحتفال بالغدير وغيره من المناسبات مثل عيد ميلاد علي - رضي الله - وزفة القاسم وغيرها من المحدثات التي ظهرت في التاريخ الإسلامي ، ليس فيه إنقاص لقدر أحد ، بقدر ما هو اتباع لهدي المصطفى صلى اللّه عليه وسلم ، فيما شرع وأمر .
ولو كان الاحتفالً جائزاً لاحتفلنا بيوم عام الجماعة .
حيدر : عام الجماعة ومتى تم هذا الأمر .
[70]
خالد : العام الذي تنازل فيه السيد الحسن بن علي رضي الله عنهما عن الإمرة والإمامة إلى معاوية رضي الله عنه حفظاً لدماء المسلمين ، فلو كانت الاحتفالات مشروعة لكان هذا اليوم من أفضل الأيام .
ولكننا نلتزم بما ثبت ونبتعد عما لم يثبت .
[71]
البكاء على الحسين رضي الله عنه
خالد : لاحظت أنك بعد ذهابك إلى الحسينية قد تغير لونك ، ورأيت الكآبة على محياك .
حيدر : من يتذكر الفاجعة التي حلت بالإمام الحسين عليه السلام ، لابد وأن ينفطر قلبه كمداً وحزناً على ما حدث .
خالد : ولكن هذه الحادثة قد مضى عليها قروناً من الزمان ، ولا زال العهد يتجدد بها ، فما السبب ؟
حيدر : الحزن أمره مشروع ، وكذلك البكاء ، فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم قد ذرف الدمع حزناً على وفاة ابنه وعلى حمزة وغيرهم من الصحابة في وفاتهم ، فهل هناك أعظم من مصابنا في أبي عبد الله عليه السلام ؟ !
خالد : الحزن والبكاء - عند المسلم - أمرهما ليس بخاضع لقانون العاطفة والهوى فقط ، ولكن يُحكمان بهدي النبي صلى اللّه عليه وسلم .
حيدر : وكيف ذلك ؟
خالد : الحزن والعزاء على القريب مدته ثلاثة أيام ، والزوجة لها عدة معلومة ، والبكاء بينّه لنا المصطفى صلى اللّه عليه وسلم كيف يكون ؟ بقوله عليه الصلاة والسلام لما مات ابنه إبراهيم : « إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع ولا نقول إلا ما يُرضي الله ، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون » .(4/58)
ولم نسمع أبداً أو نقرأ أن النبي صلى اللّه عليه وسلم جدد العهد بالأحزان على عمه الذي نصره أو زوجته خديجة أو على حمزة ، وغيرهم كثير من الصحابة !
[72]
حيدر : وما الشيء الذى تستنكره مني في بكائي على الحسين عليه السلام ؟
خالد : يوم عاشوراء معلوم أمره من أن الله نجى موسى من فرعون ، فأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بصيامه شكراً لله وزاد معه التاسع ليخالف اليهود ، ومن قَدَر الله أن يكون مقتل الحسين رضي الله عنه في هذا اليوم وهذه موافقة قدرية ليس فيها حكم شرعي ، والمسلم يتبع القدر الشرعي وليس القدر الكوني الذي ليس فيه أمر أو نهي ، فمن الذي أمرنا بتجديد العهد مع الحسين رضي الله عنه في كل سنة ؟
وقد ثبت بالنص الصيام في هذا اليوم ، من الأدلة التالية من كتب الشيعة :
أخرج الطوسي في الاستبصار ( 2/134 ) والحر العاملي في وسائل الشيعة ( 7/337 ) عن أبي عبد الله عليه السلام عن أبيه أن علياً عليه السلام قال : « صوموا العاشوراء ، التاسع والعاشر ، فإنه يكفر ذنوب سنة » .
وعن أبي الحسن عليه السلام قال : « صام رسول الله صلى اللّه عليه وسلم يوم عاشوراء » .
وجاء عن جعفر عن أبيه عليهما السلام قال : « صيام عاشوراء كفارة سنة » .
حيدر : ومَن الذي أخبرك بأن الشيعة لا يصومون هذا اليوم ولا يتقربون فيه إلى الله بالطاعة ؟
خالد : الصيام معلوم وقته من طلوع الفجر إلى مغيب الشمس بنية العبادة ، وليس الصيام الذي يكون إلى الظهر ، ثم يأكل الإنسان أطايب الطعام ويقول : أنا حزين في هذا اليوم .
حيدر : لمَ التشدد في هذه المسألة ؟ وأنا أعلم أنها لا تجُر إلى أمر منكر ؟
خالد : الأمر ليس بخاف على العقلاء مما يحدث في هذا اليوم من مخالفات شرعية ثبت النهي عنها ومنها :
[73]
ا - الصياح والنياحة .
2 - شق الجيوب واللطم على الوجه .
3 - ضرب الجسد بالسلاسل والسيوف وإنزال الدم .(4/59)
4 - الأقوال التي فيها مبالغة بمدح الحسين - رضي الله عنه - في هذا اليوم .
5 - اللعن والشتم الذي يصل إلى تكفير الصحابة .
6 - إبطال سنة الصيام في هذا اليوم ، وحث العوام على الفطر والأكل .
7 - تقديم النذور من لحم وأرز وغيره كلها باسم الحسين رضي الله عنه .
8 - عدم الأمر بالمعروف وكف العوام عن المخالفات .
9 - غرس البغضاء والأحقاد في قلوب العوام مما يؤدي إلى تفريق الوحدة الدينية والوطنية .
10 - تحريم الزواج في هذا اليوم ، وكذلك المعاشرة بين الأزواج . وغيرها كثير ، وكل هذه الأمور معلومة ومشاهدة وليس ثمة من ينكر .
حيدر : ولكن الذي وقع على الحسين عليه السلام يتقطع له القلب حسرةَ وكمداً ، وهو أعظم بلاء حل بالمسلمين .
خالد : أعظم مصاب نزل بالمسلمين هو فقدهم للنبي صلى اللّه عليه وسلم كما جاء في حديث ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « إذا أصيب أحدكم بمصيبة ؟ فليذكر مصيبته بي ؟ فإنها أعظم المصائب » رواه الدارمي ومالك ، وكما قال الشاعر :
[74]
اصبر لكل مصيبة وتجلد ... ... واعلم بأن المرء غير مخلد
فإذا ذكرت مصيبة تسلو بها ... ... فاذكر مصابك بالنبي محمد
حيدر : أخشى أن يفُهم من كلامك أن وفاة الحسين عليه السلام ، لم يكن لها أي أثر في نفوسنا !
خالد : الحسين - رضي الله عنه - هو ريحانة المصطفى صلى اللّه عليه وسلم وسيد شباب أهل الجنة ، وقُتل مظلوماً شهيداً ومثواه الفردوس الأعلي بإذن الله - سبحانه - وليس هذا محل حوارنا ، ولكن أساس الحوار هو مَن الذي أفتى وجَوّز ما يُفعل في هذا اليوم من منكرات ، وقد ثبت النهي عنها في كتب الشيعة ؟ ، ومن ذلك :
* « ذكر المجلسي في بحار الأنوار ( 82/103 ) : « النياحة عمل الجاهلية » .(4/60)
* وذكر ابن بابويه القمي في من لا يحضره الفقيه ( 2/271 ) قال : من ألفاظ رسول الله صلى اللّه عليه وسلم الموجزة التي لم يُسبق إليها : « النياحة من عمل الجاهلية » وحتى مَن يحضر ولا يفعل هذه الأفعال يكون عليه الوزر .
حيدر : مَن لم يلطم ولم ينح ولم يرفع صوته بالعويل عليه إثم !
خالد : إذا حضر إلى مثل هذه المجالس ، ولم ينصح ولم يدل العوام على الصواب ، فإنه آثم ، إن جلس معهم وشاركهم في مجلسهم ، فقد روى المحدث الحر العاملي في وسائل الشيعة ( 2/915 ) عن الإمام الصادق عن أبيه عليهم السلام قال : « نهى رسول الله صلى اللّه عليه وسلم عن الرنة عند المصيبة ، ونهى عن النياحة والاستماع إليها » .
[75]
فمَنْ هذا الذي تطوّع له نفسه بأن يتشبه بأهل الجاهلية من اقتدائه بأعمالهم ، ويترك هدي الحبيب محمد صلى اللّه عليه وسلم ، بل إن مثل هذه المآتم لا تغرس في قلوب الأبناء إلا الحقد والتفريق ، والتنفير وتمزيق المجتمع في كل سنة ولا يلتئم الجرح إلا جُدد بالتذكار جُرح ، فهل نتقي الله ونتبع خير الهدي ، أم نترك بعض السفهاء ليغرقوا سفينة الوطن بمثل هذه المخالفات ؟ !
[76]
فضائل الحج إلى قبر الحسين رضي الله عنه
خالد : ألا تلاحظ يا أخ حيدر أن قضية تعظيم مقتل الحسين - رضي الله عنه - تولّد عنها مفاهيم خطيرة شنيعة لا يتصورها مسلم عاقل !
حيدر : هلاّ بينت هذا القول ، بمزيد من المثال ؟
خالد : حُسن النية والعاطفة المحبة للخير ، إن لم يقدها صاحبها وفق ما أراد الله سبحانه ، لوجدت منها انقياداً سهلاً إلى كل تخبط في العقلانية كما قال تعالى : { وَلَو اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ } (المؤمنون : 71) وهذا ما فعله بالضبط فئة من المتعالمين والمنتفعين ، الذين قادوا العوام من المسلمين الشيعة إلى وضع الحسين - رضي الله عنه - وقبره في مقام لا يليق به .(4/61)
حيدر : هذا قول شنيع ، ولابد لكلامك من بينه ودليل ، وإلا فإنك مُتقول على العلماء .
خالد : كثيراً ما كنت أسمع من عوام السُّنة ، أن الأخوة الشيعة يقصدون قبر الحسين - رضي الله عنه - ويجعلون له المكانة الجليلة والتي لربما تفوق في الحب بيت الله ويعتقدون أن القبر فيه من البركة الشيء العظيم والتي لا توجد في أي مكان آخر ، وقلت في نفسي كأن هؤلاء الفئة قد بالغوا في الأمر على عوام الشيعة ، ونسبوهم وقادوهم إلى باطل عظيم ، لعلهم منه براء ومنزهون .
فعقدت العزم على التثبت والقراءة ، فوجدت أن ما قاله عوام السنة من خلال تجربتهم بالمحيطين بهم من الأخوة الشيعة قليل من كثير ، وذكر لحال حاصل متحقق ، غافلٌ عنه البعض .
[77]
حيدر : هذا والله القذف الصريح في أناس يشهدون أن لا إله الا الله وأن محمداً رسول الله !
خالد : جاء في فروع الكافي ( 1/324 ) وثواب الأعمال ( لابن بابويه 52 ) وكامل الزيارات لابن قولويه ( 161 ) ووسائل الشيعة ( 10/348 ) : « أن زيارة قبر الحسين تعدل عشرين حجة ، وأفضل من عشرين حجة وعمرة » .
وجاء في تهذيب الأحكام للطوسي ( 2/16 ) ووسائل الشيعة ( 10/348 ) : أن أحد الشيعة قال لإمامه « إني حججت تسع عشرة حجة ، وتسع عشرة عمرة ، فأجابه إمامه : حُجّ حجة أخرى واعتمر عُمرة أخرى ، تكتب لك زيارة قبر الحسين » أي كأن من حج وقصد قبرَ الحسين أراح نفسه من عشرين حجة إلى بيت الله ، وهذا فيه دلالة على ترغيب العوام بالحج إلى قبر الحسين - رضي الله عنه - دون بيت الله المحرم !
حيدر : لعل المقصود عدم هجر قبر الحسين عليه السلام والدعاء له .
خالد : وهل قبر الحسين معلوم مكانه ؟ بل حتى قبر أمير المؤمنين على رضي الله عنهما .
حيدر : ماذا تقول يا أخ خالد ، هل تريد أن تلغي الحقائق التاريخية !(4/62)
خالد : تعلم أني لا أحب الكلام الإنشائي متى ما وُجدت الحقائق ، أما عن موضع قبر علي - رضي الله عنه - فقد جاء في تهذيب الكمال ( 13/305 ) عن أبي جعفر الصادق : « أن قبر علي جهل موضعه » .
وجاء في تاريخ بغداد ( 1/138 ) عن مطين قوله : « لو علمت الشيعة قبر من هذا الذي يُزار بظاهر الكوفة لرجمتهُ ! هذا قبر المغيرة بن شعبة » .
وكذلك الأمر لما استشهد الحسين رضي الله عنه ، لا يعلم أحد بدليل صحيح أين الموضع الذي تم دفن الحسين رضي الله عنه فيه !
[78]
حيدر : مع هذا الذي قلته تاريخياً ، ولكن الأمر لم يصل إلى تعظيم زيارة قبر الحسين عليه السلام ، ولكن فيه الترغيب وعدم هجر سبط النبي صلى اللّه عليه وسلم .
خالد : نرجع في حديثنا إلى أجر زيارة قبر الحسين - رضي الله عنه - فياليت الأمر اقتصر على عشرين حجة ، بل بلغ الأمر إلى ثمانين حجة ( ثواب الأعمال 52 ) وإلى مائة حجة مع رسول الله صلى اللّه عليه وسلم ( وسائل الشيعة 10/350 ) ، وبلغ الأجر إلى ألف حجة متقبلة ، وألف عمرة مبرورة ، وأجر ألف شهيد من شهداء بدر ، وأجر ألف صائم ، وثواب ألف صدقة مقبولة ، وثواب ألف نسمة أريد بها وجه الله .... وهذا كله جاء في وسائل الشيعة ( 1/353 ) وكامل الزيارات ( 143 ) وبحار الأنوار ( 101/18 ) .
حيدر : ولكن هذا فيه تقليل من شأن قصد بيت الله والحج إليه !(4/63)
خالد : كما قلت يا أخ حيدر ، فنحن نعلم مقدار الأجر إن قصدنا وحججنا لبيت الله وأقمنا الصلاة في المسجد الحرام ، ولكنها بأي حال من الأحوال لا تبلغ لأجر زيارة واحدة إلى قبر الحسين ، وقد تم تفضيله على الحج مثل ما ذكر الكليني في فروع الكافي ( 1/324 ) والطوسي في التهذيب ( 2/16 ) وغيرهم برواية : « من أتى قبر الحسين عارفاً بحقه ، في غير يوم عيد ، كتب الله له عشرين حجة مبرورات مقبولات ... ومن أتاه في يوم عيد كتب الله له مائة حجة ومائة عمرة ... ومن أتاه يوم عرفة عارفاً بحقه ، كتب الله له ألف حجة ، وألف عمرة مبرورات متقبلات ، وألف غزوة مع نبي مرسل أو إمام عادل » .
حيدر : ومع هذا كله فإن لبيت الله سبحانه من المكانة في القلوب الشيء الذي لا يقارن !
[79]
خالد : ولكن بعض النصوص تؤكد أن كربلاء أفضل من الكعبة ومكة ، ومن ذلك ما ذكره المجلسي في بحار الأنوار ( ج 101/107 ) عن أبي عبدالله أنه قال : « إن الله أوحى إلى الكعبة ، لولا تربة كربلاء ما فضلتك ، ولولا من تضمه أرض كربلاء ما خلقتك ، ولا خلقت البيت الذي به افتخرت ، فقري واستقري ، وكوني ذَنَباً متواضعاً ذليلاً مهيناً غير مستنكف ولا مستكَبر لأرض كربلاء ، وإلا سُخت بك وهويت بك في نار جهنم » .
حيدر : هذا والله الشيء العجيب ، اللذي أسمعه لأول مرة !!
خالد : هذه النصوص صحيحة ومباركة ولها التأييد عند الكثير من رجال العلم المعتبرين عند الشيعة .
حيدر : مع كل هذا الفضل والأجر لماذا لم يأتِ لهذه الزيارة من ذكر في كتاب الله ؟(4/64)
خالد : جاء الجواب في كتاب بحار الأنوار ( 101/290 ) فقال السائل : « قد فرض الله على الناس حج البيت ، ولم يذكر زيارة قبر الحسين عليه السلام » ، فأجاب الإمام بجواب يبدو فيه الاضطراب ، حيث قال : « وإن كان الأمر كذلك ، فإن هذا شيء جعله الله هكذا » ، فهل هناك من اعتراف أوضح من هذا ، على تناقض هذه الروايات ، وأنها لا سند لها من الصحة !
حيدر : مع هذا الذي ذكرته ، ولكني أعتقد أن العوام من الشيعة وحتى المنصفين علموا قدر بيت الله ، وأن فيه الأجر العظيم من الله ، وأن قلوبهم تشتاق إلى بيته سبحانه وتعالى .
خالد : هذه الفضائل والمزايا لحجاج قبر الحسين ، أوجدت طائفة تتمنى زيارة قبر الحسين ولا تحج إلى بيت الله ، مثل ما جاء في كتاب وسائل الشيعة ( 10/321 ) : « والله لقد تمنيت أني زرته ولم أحج ... » .
[80]
وتزايد الفضل لأرض كربلاء حتى أوجدوا روايات تدل على أنها فيها الشفاء ويجوز الأكل من طينها مثل ما أفتى بذلك الخميني في كشف الأسرار ( ص 62 ) .
حيدر : ماذا نفعل أمام هذا الكم من الروايات التي تلاقفها العوام من الشيعة المحبين للخير والمشتاقين إلى آل بيت النبي صلى اللّه عليه وسلم ؟
خالد : المسلم المحب للنبي - صلى اللّه عليه وسلم لا يتبع الهوى ، بل ينظر بشيء من العقل المتجرد عن العاطفة إلى ما يُلقى عليه من نصوص ، وأن يتتبع الحديث الصحيح الثابت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وإن أحب الامتثال لآل البيت - رضي الله عنهم - فعليه بما ثبت نقله عن أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - لأنه الأقرب عهداً من الهدي النبوي ، ولأنه أعلم بفعل وقول النبي - صلى اللّه عليه وسلم ، فإن فعل هذا الشيعي العامي لوجد خيراً عظيماً ، ودرباً سالكاً إلى الخير بإذن الله .(4/65)
واعلم يا أخ حيدر ، أن هذه الروايات لم تظهر إلا بعد أن بَعُد العهد من العهد النبوي الشريف ، وتزايد الكذب من المتعالمين في دين الله ، ولم يكن ثمة مدافع عن دين الله سبحانه .
[81]
الحسينيات
خالد : الحديث حول البكاء على مقتل الحسين رضي الله عنه ، والنياحة واللطم ، والتطبير (1) وإسالة الدماء ، يقودنا إلى الحوار حول المكان الذي تحدث فيه مثل هذه الأعمال ، وهي الحسينيات .
حيدر : هذا المكان ليس وليد الأزمنة المتأخرة ، وإن كانت التسمية كذلك ، فمنذ زمن النبي عليه الصلاة والسلام كان الأمر معلوماً بشأن ما سيحدث للحسين عليه السلام ، لما أن أخبر النبي ابنته الزهراء بمقتل ابنها وأراها من تربة الأرض التي سيقتل فيها ، وكذلك علي بن الحسين عند وصوله للمدينة ، ضرب فسطاطاً ، وأنزل النساء فيه ، وأمر شاعراً ينعي الحسين وأقام العزاء قرابة أربعاً وثلاتين سنة .
خالد : لننظر إلى الأمر بتؤدة ، فمنذ أن أخبر النبي صلى اللّه عليه وسلم بما سيجري على حفيده من كرب ، هل كان هذا منه من باب الإخبار لأمر معين ، أو طلب لحكم ما في الشريعة ؟
حيدر : وما الفرق بينهما ؟
خالد : الإخبار لا يؤخذ منه حكم شرعي ، مثل أن نعلم أن يوم القيامة مقداره خمسين ألف سنة ، فهذا لا يُبنى عليه حكم شرعي مثل الوجوب أو التحريم ، ولكن فيه التصديق والتكذيب ، بعكس الطلب الذي فيه الأمر بالفعل أو النهي أو الاستفسار .
[82]
ومقتل الحسين - رضي الله عنه - ليس فيه إلا الإخبار وأن علينا أن نصدق بما أخبر النبي صلى اللّه عليه وسلم ولا نؤسس أو نبتدع حكماً شرعياً على ما جرى ، وإلا لأمرنا النبي صلى اللّه عليه وسلم بذلك ، مع إخباره عن الذي سيجري لسبطه من قتل .
ورواية أن علي بن الحسين اتخذ مأتماً ينعي فيه والده من قبل الشعراء ، هل هذا مما ثبت لنا بسند صحيح ، أو أنه من شرع جده أبي القاسم صلى اللّه عليه وسلم ؟
__________
(1) وهو ضرب الرأس بالسيف .(4/66)
حيدر : لو نظرت إلى مصاب الحسين عليه السلام ، بعين التأمل والاعتبار لعلمت أنه فعل شيئاً لم يفعله أحد من البشر فإنه خرج تأثراً على الظلم الذى كان في زمنه ، فأصبح رمزاً يحُتذى به ، لاخل ذلك سميت بعض الأماكن باسمه .
خالد : يا أخ حيدر :
أولاً : لم تطلق هذه التسميات « الحسينيات » إلا في السنين المتأخرة من عصور الإسلام ، كالدولة البويهية ، ولم تكن في زمن الحسين رضي الله عنه ، ولا أبناء الحسين رحمهم الله .
ثانياً : أليس في مثل هذه التسميات دلالة على تعظيم الحسين رضي الله عنه دون سائر آل البيت ، فلمَ لمْ نسمِ هذه الأماكن بالعلويات أو المحمديات ، فإنهما أفضل منَ الحسين رضي الله عنه ولا يشك عاقل بهذا الأمر ، فلم الحسين رضي الله عنه فقط ؟
ثالثاً : النبي صلى اللّه عليه وسلم ، قد ناله من العذاب من قبل الكفار الشيء الكثير ، وأُخرج من مكة وضُرب في الطائف وكاد أن يُقتل صلى اللّه عليه وسلم في أكثر من مرة ، ولم نسمع عنه أنه حثّ على الثورة والمظاهرة ، اللهم إلا لما شرع الله لهم الجهاد تحت راية الحاكم وهو النبي صلى اللّه عليه وسلم .
[83]
رابعاً : الإسلام لم يأمرنا في يوم ما أن نغرس في قلوب الأبناء حب الثورات والخروج على نظام الدولة مهما ظُلِم المسلم ، ما لم يأتِ ولي الأمر بالكفر الصريح .
خامساً : الحسين استشهد في سنة ( 61 هـ ) ، فلم لا نعمل العبادة التي كان يفعلها المسلمون في هذا اليوم قبل مقتل الحسين رضي الله عنه ؟
سادساً : لِمَ لم يخرج الحسين على معاوية مع أنه حكم قرابة عشرين سنة ؟
سابعاً : الحسين لم يخرج إلا بعد أن جاءته الكتب من العراق .
ثامناً : لِمَ لم يخرج الحسن على معاوية بعد أن تنازل له عن الخلافة ؟
تاسعاً : هل خرج أحَد من الأئمة الاثنى عشر من بعد الحسين على أحد من الخلفاء ؟(4/67)
حيدر : إذا تجمعت فئة من المسلمين في مكان خصص للدعاء والوعظ ولأخذ العبرة من أيام آل البيت عليهم السلام ، هل نعيب عليهم ذلك ؟
خالد : ليس هناك أفضل من سيرة النبي صلى اللّه عليه وسلم في دعوته ومعيشته وجهاده نتأسى بها ونأخذ العبرة منها دائماً لقوله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَة حَسَنَةٌ } (الأحزاب : 21) فهل هذا يحصل في مجالسنا ؟ وأيضاً يقول الله تعالى : { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْم الآخِرِ } (التوبة : 18) فالله سبحانه يثني على من يعمر بيوته بالذكر والطاعة ، ولا نجد فيمن يحرص على حضور الحسينيات والمواظبة عليها ، حرصاً مشابهاً على حضور بيوت الله وخاصة في شهر
[84]
رمضان وهذا أمر حث عليه الأئمة مثل ما أخرج العاملي في وسائله ( 5/185 ) عن سماعة بن مهران أنه سأل إمامه المعصوم عن رمضان كم يصلي فيه فقال :
« كما يُصلي في غيره إلا أن لرمضان على سائر الشهور من الفضل ما ينبغي للعبد أن يزيد في تطوعه فإن أحب وقوي على ذلك أن يزيد من أول الشهر عشرين ركعة سوى ما كان يصلي قبل ذلك » .
حيدر : الحسينيات دورها عطيم وملاحظ في تعليم الأبناء أحكام دينهم وتنشئتهم التنشئة الطيبة المباركة .
خالد : يا ليت ما قلت متحقق كما ذكرت حرفياً ، ووفق نهج سيد آل بيت النبوة وهو النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فالحسينيات لم يقتصر دورها على الوعظ والنصيحة ، فلقد آل الأمر فيها إلى السب واللعن وغرس الأحقاد في نفوس الشيعة ضد إخوانهم السُّنة ، وليت الأمر كان من الدهماء ، لو كان كذلك لهان الأمر ، بل نسمعه من العلماء الذين يُقتدى بقولهم وفعلهم !
[85]
عيش ولحم في الحسينيات
خالد : لعلك ستحضر لي شيئاً من الطعام في يوم عاشوراء ؟
حيدر : بالطبع نعم ، وأنا حريص على ذلك لصداقتنا ، ولما بيننا من زمالة وعشره وجيرة .(4/68)
خالد : ألا توافقني أن تخصيص هذا اليوم بمثل هذا الفعل ، والدعوة إليه والمحاضرات - التي تُعقد ، وتوقيت الصيام إلى منتصف النهار ، ألا يحتاج كل هذا ، إلى دليل وسند شرعي ليؤكد مشروعية الفعل فيه ، لأنه من العبادات ؟
حيدر : هل تعيب على الإخوة الشيعة تقديمهم للطعام الطيب ، والذي قدموه للحسين عليه السلام وتطوعاً لله لنيل الأجر منه سبحانه ؟
خالد : الأكل لا يعيبه المسلم أبداً ، إن اشتاه أكله وإلا تركه ، ولكن قضيتنا تدور حول ما يسبق تقديم الطعام ألا وهو الذبح في هذا اليوم ، والأعمال التي يتعب الكثير نفسه لأجلها .
فالعبد إن لم يذبح لله فإن عليه الوزر والإثم ، وكذلك لو قال التسمية وكانت نيته متوجهه لأحد من الخلق ، فهذا منه فعل خاطئ .
حيدر : وهل بمقدورك أن تطلع على النيات ؟
خالد : ينبغي على المسلم أن يكون ظاهره موافقاً لباطنه ، فإذا أتى مسلم ونحر في يوم كربلاء ، ولم نعتد منه الذبح إلا في هذا اليوم ، فإننا نعلم يقيناً أن هذا الذبح إنما قدم لهذه المناسبة ، وما بُني على باطل فهو باطل ، لأنه لم يأت في الشريعة أن المسلم يجب عليه أن يقدم الطعام في اليوم الذي قُتل فيه أي
[86]
إنسان ، ويخصص دائماً هذا اليوم بهذا العمل وهو النحر .
حيدر : كأنك نسيت ما قلته لك ، من أن هذا الإطعام وما يعمل في هذا اليوم إنما هو لأولئك النفر الذين حضروا إلى الحسينيات لأخذ العبرة من استشهاد سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام .
خالد : إذاً الأمر كله يرجع إلى تجميع المسلمين لهذا اليوم يوم كربلاء ، ومقتل الحسين ( رضي الله عنه ) ، فهل لي أن أسأل سؤالاً محدداً ؟
حيدر : تفضل وبكل سرور .
خالد : هل ثبت من هدي أبي القاسم صلى اللّه عليه وسلم عبادة مخصوصة ليوم عاشوراء ؟
حيدر : وفق ما أعلم ، ليس في هذا اليوم شيء إلا ما ذكرته لي من استحباب صيام هذا اليوم .(4/69)
خالد : ونعلم ، أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قد أخبر بمقتل سبطه الحسين ( رضي الله عنه ) ، فهل شرع لنا عملاً مخصوصاً - من بعد إخباره - لهذا اليوم ؟
حيدر : كلا ، لم يخبر إلا باستشهاد حفيده عليه السلام .
خالد : إذاً ، مَن هذا الذي تجرأ وأفتى المسلمين بشرعية أكل بعد الظهر في هذا اليوم ؟ بل بجواز ضرب الصدور وشق الجيوب وتجديد الحزن دائماً ، وتعطيل مصالح المسلمين في هذا اليوم ، مَن هو العاقل الذي يفتي به ؟ !
وتطور الحال إلى النذر لهذا اليوم بتقديم الخراف والأرز وكل شيء يخدم هذه المناسبة ، والبعض يبذل من المجهود في هذا اليوم ما لا يبذله للصلاة أو الحج أو أي طاعة أخرى لله سبحانه !!
حيدر : لعل أحداً من الصحابة أو آل البيت فعل مثل هذه الأعمال !
[87]
خالد : مقتل الحسين وقع عام ( 61 هـ ) والصحابة كانوا متواجدين في تلك الفترة ، فلِم لم نسمع فتوى من أحدهم بتخصيص وتمييز هذا اليوم بفعل ما ؟
وما رأيك يا أخ حيدر لو وافق قدراً استشهاد الحسين رضي الله عنه يوم عيد الفطر ، فهل سنلبس السواد ونلطم الخدود ونشق الجيوب في يوم الفرح ؟
حيدر : كأنك تهون من هذا المصاب الجلل ؟
خالد : ومن هذا الذي يقول أن مقتل الحسين رضي الله عنه شأن يسير ، بل هو مصاب جلل وخطب جسيم وظلم عظيم ، ومن اشترك في قتله عليه من الله ما يستحق (1) ، ولكن أيهما أشد فاجعة ، فقد النبي صلى اللّه عليه وسلم أم الحسين أو حتى علياً رضي الله عنهما ، فلم نعمل لهما شيئاً من بعد فقدهم إلا أخذ العبرة من فقدانهما ، بما لا يتعارض مع الشرع .
حيدر : ولكن الحسين عليه السلام علمنا كيف نقف في وجه الطغاة !
__________
(1) قال ابن تيمية رحمه الله ( في الفتاوى ج 4/487 ) : ( من قتل الحسين أو أعان على قتله أو رضي بذلك ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا تقبل منهم صرفاً ولا عدلاً ) .(4/70)
خالد : أخي العزيز ، أتريد مني أن آخذ هذه الفائدة في كيفية الثورة على الأنظمة الحالية ، وأن أنازع الولاة ؟ وهل الصحابة الذين كانوا في زمنه ( رضي الله عنه ) ، وافقوه على ما صنع ، كابن عباس وغيره ؟ ولا يخفى على المطلع على التاريخ أن نظام بني أمية أنما ثبّت قدمه بعد أن تنازل الحسن رضي الله عنه لمعاوية رضي الله عنه .
فهل الثورات والقيام على الأنظمة منهج نربي أبناءنا عليه ، والثورات لا تُصدّر بل هي ليست من دين النبي صلى اللّه عليه وسلم ، إنما هناك الصبر والنصيحة بالحسنى ، والدعاء .
[88]
وأيضاً لِمَ كل هذا التخصيص بذات الحسين رضي الله عنه ، دون غيره ؟
حيدر : لا تخصيص لذات الحسين رضوان الله عليه ، ولكن نحرص على إقامة المأتم لكل الصالحين .
خالد : إذا كان الأمر كما قلت يا أخ حيدر ، فسنحيا حياتنا كلها بالمآسي والمآتم ، أو حفلات الميلاد أيضاً لآل البيت وغيرهم ، فلو جمعنا وعددنا المقاتل والمصائب التي نزلت بالصالحين ، من يوم خُلق آدم عليه السلام إلى يومنا هذا ، لكانوا أكثر من عدد أيام السَّنة ، بل لعلهم أكثر من ساعاتها ، فهل خُلقنا لهذا الفعل ؟ ! وهل أمرنا الله بهذا ؟
ويا ليت العقل السليم والفطرة النقية يقبلان مثل هذه الأمور .
[89]
زيارة القبور
خالد : اختلطت على الكثير من العوام ، بعض المفاهيم والأحكام في زيارة المقابر ، وما الذي يجوز فعله فيها ؟ وما المحرم عليهم فعله ؟
حيدر : هذا الأمر ولله الحمد واضح ، وتم فعله في زمن النبي صلى اللّه عليه وسلم والأمثلة كثيرة كزيارته لقبر والدته ، وكما أخبر الله سبحانه عن أصحاب الكهف ، والنية لبناء بنيان حول قبورهم .
خالد : ذهاب المصطفى صلى اللّه عليه وسلم للمقابر أمره معلوم ، وثابت عنه صلى اللّه عليه وسلم ، ولكن التساؤل الذي يجدر بنا أن نتحاور حوله ، هو هذا التعظيم الخارج عن المألوف لبعض القبور ، وكذلك لم هذا البنيان على القبور ؟(4/71)
حيدر : أما التعطيم فقد ورد من قوله تعالى : { وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَام إبْرَاهِيمَ مُصلى } (البقرة : 125) وكذلك الحِجر ، قد دُفِن فيه إسماعيل وأمه ، والعديد من الأنبياء وهو مكان معظم ، ولا يخفى عليك ما جاء في سورة الكهف من جواز البنيان حول القبور .
خالد : تذكر يا أخ حيدر أن الصلاة عند المقام ليس تعظيماً لموطئ قدم إبراهيم ، وليس لذات المقام ، ولكن تنفيذاً لأمر الله سبحانه فقط ، وأخبرني ما الدليل على أن قبر إسماعيل ووالدته أو جمع من الأنبياء قد تم دفنهم في الحِجر عند الكعبة ؟
ولتعلم يا أخ حيدر أن الطواف حول البيت ليس لهذه القبور المزعومة ولكن تنفيذاً لقوله تعالى : { وَلْيَطَّوفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (الحج : 29) ، ولو فرضنا وجود
[90]
ما تظن من مثل هذه القبور ، فهل ثبت أن النبي صلى اللّه عليه وسلم ذكر ذلك في فتح مكة أو أثناء حجة الوداع ؟
ومع ما يزعم بعضهم فإننا مأمورون باتباع شرعنا ، وليس شرع اليهود أو النصارى من تعظيمهم لأمواتهم .
حيدر : ولكن الذين يأتون إلى المقابر ويدعون عند القبور إنما يدعون للأموات بالمغفرة والرحمة ، وواجب علينا أن نظن بهم الظن الحسن من أنهم إنما قصدوا فعل وقول الخير في المقبرة .
خالد : الخطأ والزلل في الشريعة ، قد يأتي من ذلك الجاهل المحب للخير والذي لم يظفر بعالم يفتيه الفتوى الصحيحة ، فقبور الصحابة مثل حمزة وبنات النبي وأسباطه أغلبها موجودة في المدينه فهل أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم بالطواف حولها ، أو الدعاء أو البنيان عليها ، وليس ثمة دولة ظالمة أو غيرها في زمن النبوة تمنع البنيان أو الطواف والصلاة حول القبور في ذلك الزمان ، إن كان مشروعاً .
حيدر : لم نعلم أن أحداً من محبي آل البيت ، يعتقد بأن الطواف أو الصلاة حول القبور واجب أو مشروع ، ولكن لربما صدر مثل هذا الأمر عن بعض الجهال .(4/72)
خالد : وردت روايات في كتب شيعية متعددة تحث على الصلاة تجاه القبر وإن كان خلاف القبلة مثل ما ورد في بحار الأنوار : « أن ركعتي الزيارة لا بد منها عند كل قبر » ، وكما قال المجلسي في البحار ( 151/369 ) أن استقبال القبر أمر لازم ، وإن لم يكن موافقاً للقبلة ... واستقبال القبر للزائر بمنزلة استقبال القبلة ، وهو وجه الله أي جهته التي أمر الناس باستقبالها في تلك الحالة .
[91]
وهذا الأمر وافق عليه الخميني في تحرير الوسيلة ( 1/165 ) بقوله : « ولا بأس بالصلاة خلف قبور الأئمة ، وعن يمينها وشمالها ، وإن كان الأولى الصلاة عند الرأس على وجه لا يساوي الإمام عليه السلام » .
وهذا أيضاً ما أفتى به المرجع الشيعي الميرزا حسن الحائري في كتاب الدين بين السائل والمجيب ( 2/219 ) عندما سُئل عن حكم التقدم على ضريح المعصوم ( ع ) في الصلاة ، أي يكون الضريح خلف المصلي في داخل الحرم الشريف ؟ وما رأيكم بالنسبة إلى الشهداء والصالحين من أبناء المعصومين ، وما الحكم إذا صلى جنب الضريح المقدس ؟
فأجاب الحائري : « لا يجوز التقدم على ضريح المعصوم في الصلاة ، والصلاة باطلة أمام ضريحه ، عليه السلام ، باتفاق من علماء الإمامية ، لأن الحكم بعد وفاتهم كما كان حال حياتهم ، وأما الصلاة أمام ضريح أبي الفضل العباس ( ع ) مثلاً خلاف احترامه ، وجسارة بمقامه ، ولا بأس بالصلاة في جانبي ضريح المعصوم ، ما لم يتقدم على قبره المطهر الذي في داخل الضريح ، وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى ، آمين بحق محمد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين » .
حيدر : الذي كنت أعرفه أن الأئمه عليهم السلام مقامهم سامي ، ولكن لا يبلغ أن الصلاة تبطل بالتقدم على قبورهم !(4/73)
خالد : الأمر كما علمت الآن ، وزيادة على ذلك فإننا نجد الآن البنيان العظيم حول القبور ، بل ويُطاف بها مثل الطواف حول الكعبة ، وكذلك النذور لها والقربان والأموال المدفوعة في سبيل حب آل البيت ، ولا يُعلم عن مصيرها ، فهل هناك من دليل في هذا ، ونجد أن من هذه الأموال التي
[92]
يقدمها العوام حباً في آل البيت ( رضي الله عنهم ) قد تطبع منها كتب فيها تعظيم القبور والطواف حولها مثل كتاب « كامل الزيارات لأبي قاسم بن قولويه » وكتاب « نور العين في المشي إلى زيارة قبر الحسين ... لمحمد الأصطهبناتي » وغيرها من الكتب ، ولنأخذ مثلاً لما في كتاب كامل الزيارات من أبواب :
الباب ( 58 ) : إن زيارة الحسين عليه السلام أفضل ما يكون من الأعمال .
الباب ( 59 ) : من زار قبر الحسين عليه السلام كان كمن زار الله في عرشه .
الباب ( 60 ) : إن زيارة الحسين والأئمة عليهم السلام تعدل زيارة قبر رسول الله صلى اللّه عليه وسلم .
الباب ( 61 ) : إن زيارة الحسين عليه السلام تزيد في العمر والرزق ، وتركها ينقصهما .
الباب ( 62 ) : إن زيارة الحسين عليه السلام تحط الذنوب .
الباب ( 63 ) : إن زيارة الحسين عليه السلام تعدل عمرة .
الباب ( 64 ) : إن زيارة الحسين عليه السلام تعدل حجة .
الباب ( 67 ) : إن زيارة الحسين عليه السلام تعدل عتق رقبة .
الباب ( 53 ) : إن زائري الحسين عليه السلام يدخلون الجنة قبل الناس . وغيرها من الأبواب التي تذكر فضل الأكل من طين الحسين رضي الله عنه وأنها شفاء وأمان وهذا قد أفتى به الخميني في كتاب تحرير الوسيلة ( 2/164 ) بقوله : « ولا يلحق به طين غير قبره حتى قبر النبي صلى اللّه عليه وسلم والأئمة عليهم السلام » .
فهل أمر الشرع بمثل هذه الأمور التي لم يقلها أحد من العلماء المعتبرين في عهد الخلفاء الراشدين ولم يذكروها في قبر النبي صلى اللّه عليه وسلم ، لأنهم كانوا يسيرون
[93](4/74)
وفق ما أمرهم به النبي صلى اللّه عليه وسلم فالمسلم إن لم يبتعد عن مثل هذه الأقوال وإلا فليحذر على نفسه أن تقوده إلى خطر عظيم والعياذ بالله .
حيدر : هل بالإمكان نُصحي بالمستحب فعله في المقابر ؟
خالد : ليس هناك من أمر جديد ، فالمسلم يدعو لأهل المقبرة بالمغفرة والرحمة وإن كان عند قبر أحد من الصحابة أو آل البيت وكما قال العلامة ابن باز رحمه الله - تعالى - : « وليس للناس حاجة في أن يعرفوا أين دفن وأين كان - أي قبر الحسين رضي الله عنه - وإنما المشروع الدعاء له بالمغفرة والرحمة » ، وقال رحمه الله - تعالى - : « ومن عرف قبره وسلم عليه فلا بأس ، كما تزار القبور الأخرى » .
وإن كان هناك جنازة لأحد المسلمين يحرص بالصلاة عليها ، والدعاء للميت ، وليس هناك من أيام تُخصص أو يستحب الزيارة فيها ، مثل الأعياد أو الجُمع أو الأربعينيات وغيرها فالزيارة مستحبة طوال السنة ، وهذه الأحكام ، هي فقط للرجال وليس للنساء .
والغاية من هذه الزيارات إيقاظ القلب من غفلته وتعلقه بالدنيا الفانية ، ولنعلم أن الميت لا يُنجي نفسه من نار الله ، فكيف يمنح هذا الأمر لغيره ؟ !
وكل الخير في اتباع الحق الواضح اليسير في التطبيق ولله الحمد والمنة .
[94]
الحلف بآل البيت والاستعانة بهم
خالد : بعد أن وضح الأمر في مسألة التسمي بعبد الرسول ، أو غيره من الخلق ، لم لا نتحاور حول مقولة البعض : والنبي والعباس ... وغيرها من الألفاظ المستخدمة في الحلف والقسم .
حيدر : لِم نشدد على المسلمين في أمر نعلم أنهم لا يقصدون من ورائه إلا الخير ، ولا نتصور كما يدّعي البعض ، أن هذا من باب الشرك والكفر ؟(4/75)
خالد : نعلم يقيناً أن الاهتمام باللغة العربية ، يعصمنا من الوقوع في زلات كثيرة ، والجهل بها ، يجعل المسلم مهما بلغت رتبته يتخبط في أقواله ، فـ ( الواو ) قد تستخدم في الكلام بمعنى القسم كقولنا : والله ، وكقول المولى سبحانه : { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا } ( الشمس : 1 ) ولما سمع النبي صلى اللّه عليه وسلم رجلاً يقول : ( وأبي ) نهاه عن هذا الأمر ، وقال له : « إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت » .
ومعلوم أن « الواو » تأتي أيضاً في اللغة العربيه للقسم أو للعطف أو للندبة ، ولم يقل أحد أن : « الواو » تُستخدم للدلالة على الاستعانة بالأموات .
حيدر : ولكن جاء في القرآن الحلف بالمخلوقات ، ألا يدل ذلك على الجواز ؟
خالد : لنعلم ابتداءً أن الرحمن سبحانه وتعالى يُقسم بما شاء من مخلوقاته ، وأما نحن فإننا مأمورون باتباع ما أَمرنا به حبيبنا محمد صلى اللّه عليه وسلم .
حيدر : هل تريد أن تخُطّئ من اعتاد لسانه على ذكر آل البيت ، وفاض حبهم على لسانه ، فيذكرهم عند قضاء حوائجه الدنيوية !
[95]
خالد : دائماً نقول في الفاتحة : { إياك نعبد وإياك نستعين } وأيضاً نتذكر قوله تعالى : { وقَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ... } (الأعراف : 128) ، والمسلم يستعين بالأحياء فيما يقدرون عليه ، مثل ما جرى لنبي الله موسى مع الذي استغاثه ، فهذه استعانة حي بحي فيما يقدر عليه ، وكقول الله عن ذي القرنين : { فَأَعِينُونِي بِقُوَّة ... } (الكهف : 95) وليس بأمر خارج عن قدرتهم ، مثل دخول الجنة أو الإخراج من النار أو مغفرة السيئات .
وجرّ هذا الاعتقاد أن اعتاد لسان بعض الناس على ذكر الخلق دون الخالق ، ولنتذكر بأن من تعلق بشيء وكّل به .(4/76)
حيدر : وما قولك عن قوله تعالى : { يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيم } (الأحقاف : 31) فالداعي هو النبي حياً أو ميتاً .
خالد : ومَنْ هذا الذي يقول أن داعي الله هو فقط النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فالأمر يحتمل الإسلام والقرآن ، بل وكل داع إلى الخير ، وهذا الاختلاف من باب التنوع في التفسير وليس من التضاد .
ومَنْ قال إن الداعي هو فقط النبي صلى اللّه عليه وسلم ، يلزمه الإتيان بالدليل على ما يزعم ويقول لأنه يريد من بعد هذا ، مَنْ يقوم مقام النبي وهو الإمام ... وهذا قول يحتاج إلى دليل آخر ، وليس ثمة دليل له .
حيدر : ولكن وردت آثار كثيرة تجُوّز الاستعانة بآل البيت عليهم السلام لمقامهم وجاههم الرفيع عند الله تعالى .
خالد : نحتاج إلى بيان صحة هذه الآثار أولاً .
[96]
وأيضاً فالجاه إنما يختص بالعبد ، فمَنْ الذي أعلمنا بأن نقسم به على الله تعالى ؟ وأما الادعاء بالحب والتعظيم ، فدلالة الحب والتعظيم للنبي صلى اللّه عليه وسلم إنما يكون بالاتباع الصحيح له : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحببْكُمُ اللَّهُ } ( آل عمران : 31) .
حيدر : ينبغي أن لا نتشدد في هذا الأمر كثيراً ، لأنه لا يمس إيمان المسلمين .
خالد : الاستعانة والاستغاثة من صلب العقيدة ومن أساسياتها ، والتهاون بها قد يقود إلى خطر عظيم لم يقله أحد من الفرق الإسلامية ، مثل ما جاء في بحار الأنوار ( 26/319 ) : « أن دعاء الأنبياء استجيب بالتوسل والاستشفاع بهم ( أي الأئمة ) صلوات الله عليهم أجمعين » .
حيدر : على كل حال ، الأمر لم تفرد له مؤلفات مخصوصة تحث عليه ، لذا أكثر العوام في جهل وغفلة عن الأمر .(4/77)
خالد : هناك كتب كثيرة ، تحث العباد للاعتقاد والعمل بمثل هذا ، مثل كتاب مفاتيح الجنان وعمدة الزائرين ، وغيرها من الكتب التي تتكلم عن زيارة القبور والمشاهد .
لذا تذّكر يا أخ حيدر أن المسلم يتعلق بالله وحده في كل أمره ، ولا يتعلق بالأموات الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً .
[97]
المجتهد والمرجح الديني
حيدر : أجد لك مفهوماً مغايراً للذي عندي حول العلماء المجتهدين ورجال الدين اللذين يمكن الرجوع إليهم في الفتوى ، وييان أحكام الشربعة .
خالد : الاجتهاد والتعلم في الشريعة الإسلامية ، مطلبان وهدفان مرغوب فيهما ، وخاصة مع وجود ذلك العالم المجتهد ، الذي يفتي لنا في ما يستجد من حوادث ونوازل بين المسلمين ، وباب الاجتهاد لم يُقفل ، ولله الحمد ، ومن أغلقه في زمن ، فذلك لجهل منه ، وتحجير منه على العلم والمسلمين .
حيدر : وهل هناك من شروط معينه ينبغي توافرها في المجتهد ، أو المرجع الديني ، والتي تؤهله لأن يفتي لعوام المسلمين ؟
خالد : لنعلم بداية أن هذه الرتبة هي فضل من الله - سبحانه - ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ، فهي ليست حكراً على طائفة دون غيرها ، ومن هذه الشروط :
ا - حفظ كتاب الله سبحانه ومعرفة تفسيره وعلومه كمعرفة الناسخ والمنسوخ .
2 - العلم بسنة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، صحيحها من ضعيفها ، وما يختص بالسُّنة النبوية من علوم .
3 - العلم باللغة العربية ، وقواعدها وعلومها .
4 - الإخلاص لله تعالى ، فإن العالم مؤتمن على ما يقول .
5 - الاستفادة من فتاوى العلماء السابقين ، والنظر في أدلتهم .
[98]
وبتوافر مثل هذه الشروط يمكن لنا أن نفرق بين ذلك العالم المجتهد ، وبين ذلك القَصّاص الواعظ المنشد في المناسبات ، والذي لا يفقه من الدين إلا الحكايات والمبكيات في المواسم .(4/78)
حيدر : من خلال هذه الشروط ، نجد أن القلة من المسلمين يمكن أن تتوافر فيهم مثل هذه الأوصاف ، فبالتالي يستحسن أن يقلد المسلم أحد رجال الدين ، فيرجع إليه بالفتوى دائماً .
خالد : التقّليد من قبل العامي أمر متوقع حدوثه ، ولكن لا ينبغي أن يكون من ذلك الرجل العاقل الذي له اطلاع وقراءة في الكتب ، فنجده يأتي ويسأل العالم ولا يستبين منه الدليل والحجة ، والعالم بشر ، يصيب ويخطأ ، فلا ينغني علينا أن نقلده في كل ما يقول ويأمر ، فلربما يزل أو يهفو ، فليس من معصوم إلا النبي صلى اللّه عليه وسلم لقوله تعالى : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إنْ هُو إلا وَحْي يُوحَى } (النجم : 3 - 4) .
حيدر : ولكن هناك رجال دين هم وكلاء عن الإمام المهدي ( عج ) (1) ، وهم لا يخطئون لأن علمهم متلقى من الإمام المعصوم .
خالد : الاطمئنان إلى العلم والفتوى شيء ، والتسليم للعالم وعدم المناقشة أمر آخر ، وقضية ولاية الفقيه ، لم تظهر إلا في العصور المتأخرة بعد الغيبة الكبرى من قبل السفراء الأربعة ، والغرض منها إيجاد شخص لا يناقشه أحد فَيما يُفتي ويقول ، لأنه - كما قيل - مُبلغ عن المعصوم ، فأمام مثل هذه الولاية والإنابة والرئاسة في أمور الدين والدنيا والوكالة عن المعصومين ، لنسأل أنفسا من هذا الذي يمنح
[99]
الوكالة عن المعصوم ؟ ومن هذا الذي يحق له أن ينصح الوكيل إن أخطأ أو زل ؟
ولو كان المصدر واحداً ، فلِمَ إذن نجد فتاوى متناقضة صادرة ومنسوبة إلى المنتظر ؟
والعلم يا أخ حيدر ، لا نحتاج فيه إلى معصوم أو منتظر ، بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم ، بل إلى حفظ لكلام رب العالمين ، وحفظ للأحاديث الصحيحة وبذلك سنجد الحكم لما يُشكل علينا إن شاء الله .
[100]
مصادرالأحكام الشرعية
__________
(1) عجل الله فرجه .(4/79)
خالد : نحن في حوارنا الممتع هذا ، أما يجدر بنا أن نضع أسساً نرجع إليها إن شط بنا الحوار ، أو اختلفنا في قضية ما ، لتكون لنا مثل المرجع المحكم ، لبيان الصواب من الخطأ .
حيدر : نعِم الرأي هذا ، وإلا فإن الحوار قد يتشعب بنا يمنة ويسرة ، وليس ثمة زمام يزم الأمر أو الرأي أو القول .
خالد : لنبدأ معك يا أخ حيدر ، لتذكر لي شيئاً من المراجع التي يرجع إليها رجال الدين الشيعة في استنباطهم للأحكام الشرعية ، وتستدل بها أنت على ما تقول .
حيدر : لا يخفى عليك ، من أن الشيعة حالهم كحال كل المسلمين ، يعتمدون بصورة رئيسية في استنباط الأحكام على القرآن والسنة الثابتة عن المصطفى ، وعن آله المعصومين عليهم السلام ، باعتبارهم أوصياء الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، فالسنة عند الشيعة عبارة عن قول المعصوم نبياً كان أو وصياً .
لذا نجد ولله الحمد ، أقوال الأئمة متشابهة في الحكم ، وأكد هذا الأمر الإمام جعفرعليه السلام بقوله : « حديثي حديث أبي ( أي الباقر ) ، وحديث أبي حديث جدي ، وحديث جدي حديث رسول الله ، وحديث رسول الله قول الله تعالى » .
خالد : أما عن مبدأ العصمة ، فلنا حوار آخر مستفيض حولها يا أخ حيدر .
إذ أن الأمر غير مُسَلَّمٍ به أن نقول لكل من كان مبلغاً لقول المصطفى صلى اللّه عليه وسلم إنه
[101]
معصوم لمجرد نقله وتبليغه قول المعصوم ، فلو سلمنا بهذا ، لقلنا عن معاذ بن جبل إنه معصوم ، لذهابه إلى اليمن داعياً لهم ، ولكان مصعب بن عمير معصوماً أيضاً ، لذهابه إلى يثرب قبل الهجرة ، ولأصبح كل سفراء النبي معصومين لنقلهم كلام المعصوم - صلى اللّه عليه وسلم .
وهذا الأمر قاد الشيعة إلى أمر لا تُحمد عقباه من تعدد الفتاوى حول قضية واحدة من الأئمة .
حيدر : الأئمة عليهم السلام معصومون من الزلل ، فهات ما لديك من دليل على ما تقول .(4/80)
خالد : جاء في الكافي ( 1/65 ) بسنده عن زرارة بن أعين عن أبي جعفر عليه السلام قال ( أي زرارة ) : سألته عن مسألة فأجابني ، ثم جاء رجل فسأله عنها ، فأجابه بخلاف ما أجابني ، ثم جاء رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني ، وأجاب صاحبي فلما خرج الرجلان قلت : يا ابن رسول الله ، رجلان من أهل العراق ، من شيعتكم ، قدما يسألان فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت صاحبه ؟ فقال : - أي أبَوجعفر الباقر - : « يا زرارة هذا خير لنا ولكم » .
وذكر الكليني في الكافي ( 1/65 ) بسنده عن منصور بن حازم قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : ما بالي أسألك عن المسألة فتجيبني منها بالجواب ، ثم يجيئك غيري فتجيبه عنها بجواب آخر ؟ فقال : « إنما نجيب الناس على الزيادة والنقصان » .
حيدر : إذا كان الأمر كما تقول ، فمعنى هذا أن لكل مسألة حكمين من إمام واحد .
خالد : العالم كما نعلم مستأمن على قوله للناس ، وفتواه مثل التوقيع عن رب العالمين ، ينبغي عليه أن يتقي الله فيها ويتأكد منها .
[102]
ويقول اللكهنوي الشيعي في أساس الأصول ( 51 ) : « إن الأحاديث المأثورة عن الأئمة مختلفة جداً ، لا يكاد يوجد حديث إلا وفي مقابله ما ينافيه ، ولا يتفق خبر إلا وبإزائه ما يضاده ، حتى صار ذلك سبباً لرجوع بعض الناقصين عن اعتقاد الحق » .
فيا أخ حيدر ، ما قولك الآن ، هل الحق يتعدد أو يختلف شكله وقوله ؟
حيدر : ولكن المسلمين جميعهم متفقون على كتاب الله سبحانه ، لا ينكر أحد منهم أن القرآن الكريم هو الأصل المتين للشريعة الإسلامية .
خالد : أما قولك بأن القرآن الكريم متفق عليه بأنه أصل في التشريع ، فهذه مقولة صحيحة لمن اعتقد بكماله وبأنه كير ناقص .
حيدر : هل تشير إلى أن هناك من المسلمين من يظن غير ذلك ؟(4/81)
خالد : نعم وللأسف العظيم ، هناك تواتر لجمع من كبار مراجع الشيعة قد قالوا بهذه المقولة ، وأحبذ تأجيل الحوار حول هذه القضية إلى مبحث التحريف والنقصان في القرآن .
حيدر : إذا كان الأمر كما تقول ، من أن القرآن ثبت القول بعدم كماله ، والسنة النبوية غير متفق على ثقة رواتها ، فعلى ضوء هذا أفهم أنك تريد أن تقودني إلى القول بعدم وضوح مصادر التشريع لدينا !
خالد : الواقع والتاريخ ، هما اللذان يقودانك يا أخ حيدر إلى مثل هذه النتيجة المؤسفة ، فإن اعتقدت طائفة من الشيعة أن القرآن قد زيد فيه وأنقص ، وبأن السنة النبوية هي فقط ما جاء عن طريق آل البيت ، وأن الصحابة رضي الله عنهم كلهم منافقون ، ما عدا علي والحسن والحسين وفاطمة رضوان الله عليهم ، وثلاثة أو خمسة من الصحابة هم المبرؤون من النفاق ، فكيف بعد
[103]
ذلك تريدني أن أقول بأن الأصول واضحة لا لبس فيها ولا تناقض ، وعلاوة على ذلك ليس هناك من تحقيق للإسناد من تصحيح وتضعيف ، فكيف سيكون هناك من أصل يعتمد عليه الأخ الشيعي في أخذه للأحكام الشرعية ؟
حيدر : ولكن هناك علماء أفذاذ لا يخافون أن يجهروا بالحق ، وعلى مستوى من الاجتهاد عظيم .
خالد : الوجوه تتغير ، والشرع والدين يبقى ، وما نفع الأسماء أمام أقوال لا أرض تقلها ، ولا سند يثبتها ، بل هي كسراب بقيعة ، يحسبه الظمآن ماء ، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ، وهذا الحوار له تتمة معنا يا أخ حيدر إن اتسع صدرك للحوار .
حيدر : ما جلسنا مع بعضنا البعض إلا لإدراك الحق ، والحق مطلبي بإذن الله سبحانه ...
خالد : على بركة الله سبحانه .
[104]
الرجعة
خالد : راجعت قصة ذلك الرجل الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه مرة أخرى ، وهي قصة فيها العبر والفوائد الشيء الكثير .
حيدر : أفهم ما تلمح إليه ... كانك تريد أن نتحاور حول موضوع الرجعة !(4/82)
خالد : هو ذاك ما عنيته ، فمن خلال اطلاعي على بعض الكتب ، وجدت أن هذا الأمر من الأصول المهمة ، وليس من الفروع التي يُعذر الجاهل بها ، مثل ما ذكر ابن بابويه في كتاب من لا يحضره الفقيه ( 3/291 ) : « ليس منا من لم يؤمن بكرتنا » . وبيّن أنها من ضروريات المذهب .
حيدر : لكني وفق ما سمعت من أحد رجال الدين أن هذه القضية تُعد من الفروع ولا شيء على المؤمن إن لم يعتقد بها .
خالد : الأمر فيه لبس وخفاء ، فإن الإيمان بهذا الأمر يستلزم من بعده الإيمان بالمهدي المنتظر ، وهذا الأمر له تعلق كبير بمبدأ الإيمان في الإمامة كما قال الزنجاني في أصول الشيعة وأصولها ( 35 ) : « هي من مفردات الإمامية » ، وفيها بيان من بعد ذلك لحال المخالفين وتميز للمؤمنين بهذا الجانب من غيرهم .
حيدر : لأسلم معك بأنها من ضروريات المذهب ، ما الأمر المترتب على حدوث الرجعة ؟ .
خالد : الرجعة ينتظرها مَنْ يؤمن بها لتصفية الحسابات ، أي يقتص المظلوم من الظالم ، وفيها أن الحسين رضي الله عنه يحاسب الناس قبل يوم القيامة ، كما جاء في بحار الأنوار ( ج 53/154 ، 155 ) ، والمنتظر سيهدم الحجرة ( بيت النبي صلى اللّه عليه وسلم وموضع
[105]
قبره ) ويخرج من بها ( أي الخليفتين الأول والثاني ) ليصلبهما ويعاقبهما ، وهذا مذكور في بحار الأنوار أيضاً .
حيدر : ينبغي عليك التأكد من هذه الروايات ، فلعلها ضعيفة ، أو قيلت من باب التقية ، قبل أن تستشهد بها !
خالد : لم أجد من حقق هذه الروايات ، وتركُها من غير تعليق في كتاب يعد من الكتب الأصيلة ، دلالة واضحة على القبول والتسليم بما جاء فيها ، ومن المعلوم في الشريعة الإسلامية أن الميت إذا قُبر فلن يخرج من قبره إلا بإذن الله ، وذلك ليوم القيامة وكل نفس بما كسبت رهينه ، واذا كان سيد الأولين والآخرين محمد صلى اللّه عليه وسلم لا يملك من هذا الأمر شيئاً ، فكيف ندّعيه لغيره ؟(4/83)
وللعلم فإن هذه الروايات التي في الرجعة إنما جاءت في الأزمنة المتأخرة .
حيدر : ولكن الأمر متحقق وقوعه وممكن حدوثه ، وهذا مسلّمٌ به في شرعنا ، من أن عيسى صلى اللّه عليه وسلم سيعود إلى الأرض مرة أخرى .
خالد : هذا ثابت لنبي الله عيسى صلى اللّه عليه وسلم ، فما الدليل على جوازه لغيره ؟ ولأسلم معك جدلاً بأن هذا الأمر ممكن وقوعه ، فلم لا نثبته لأحب الناس إلى قلوبنا وهو النبي صلى اللّه عليه وسلم ، لينقذ الأمة من الضلال والفساد ! ولكن أخشى أن الأمر هذا قد يتشابه مع الفلسفات اليهودية من اعتقادهم وانتظارهم للمخلص الحي الغائب ، ليخرج في آخر الزمان ، مثل ما قال رضا المظفر من تأثر الشيعة بالديانة اليهودية والنصرانية ، لذا من نظر إلى اعتقادات الكثير من فرق الشيعة ، سيجد أن كل فرقة تعتقد برجعة إمامها في آخر الزمان .
حيدر : هل تريد أن تلغي مبدأ خروج المهدي المنتظر في آخر الزمان !
خالد : شتان بين هذا وبين ما قلته لك سالفاً ، فالمهدي الذي أخبر عنه النبي صلى اللّه عليه وسلم من
[106]
خلال الأحاديث الصحيحة ، معلوم أمره وحاله ، والمعتقدُ الواجب الاعتقاد حوله ، ولكن مبدأ الرجعة فيه كلام آخر ، كالقول برجوع الحسين إلى الدنيا مثل ما جاء في بحارالأنوار ( 53/39 ) : « أول من تنشق الأرض عنه ، ويرجع إلى الدنيا ، الحسين بن علي عليه السلام » وأتذكر قول الدكتور الموسوي في رسالته الشيعة والتصحيح ( 144 ) : « عندما تمتزج الأسطورة بالعقيدة والأوهام بالحقائق تظهر البدع التي تُضحك وتُبكي في آن واحد » .
لذا يا أخ حيدر حذار من اتباع معتقدات محدثة في ديننا أو لا أصل لها إلا ديانات باطلة محرفة ، لن تقود المسلم الموحد إلا إلى هوة تأخير الأحكام الشرعية ، وإلى تقديس لأفراد ينوبون عن المنتظر ، ويكون العوام في دينهم في خداع وسراب من الاتباع الزائف .
[107]
التبرك(4/84)
خالد : هناك أمور ثبتت للنبي صلى اللّه عليه وسلم فيها البركة والخير وذلك لبركة المصطفى صلى اللّه عليه وسلم ، وتعد خصوصية له ... أستغرب من ذلك الذي يأتي ويعممها على جميع نسله !
حيدر : هل تريد أن تمنع وجود البركة والتبرك بآل بيت النبي صلى اللّه عليه وسلم !
خالد : الجواز والمنع في مثل هذه الأمور لابد فيها من الدليل ونحن نعلم أن النبي صلى اللّه عليه وسلم مبارك في جميع شأنه ! كدعائه وريقه وشعره وملابسه وكل أمره وهذا ثابت لا جدال فيه ، ولكن ما الدليل على تعميم هذا الأمر على كثير من الأشياء بعد مماته ! ؟
حيدر : أتريد أن تقول أن بركة النبي مقصورة على حياته دون مماته !
خالد : لنوضح هذا الأمر بمزيد من البيان ليتبين المقصود ، كان الصحابة رضي الله عنهم يحرصون على نيل ما تعلق بالنبي صلى اللّه عليه وسلم من شعره وظفره وريقه وحتى ملابسه ، لينالوا بركتها بإذن الله - سبحانه - وهذا له دليله من سيرة النبي صلى اللّه عليه وسلم وجوازه لهم بفعله ، ولكن ما الدليل على أن تراب قبره وسيلة للاستشفاء وطلب الخير ودفع الضر ؟ ولو كان هذا الأمر معلوماً لما كان خافياً على الصحابة ، والذين كانوا على مقربة من قبر النبي صلى اللّه عليه وسلم وليس ثمة مانع يمنعهم من الدخول ولمس القبر ورؤيته ، بل لجاوزوا هذا المفهوم إلى قبور أولاده ! وهي في البقيع ، ومعلومة حدود كل قبر في زمنهم .
حيدر : وما قولك في حرص الخليفتين ( رضي الله عنهما ) على أن يُدفنا بقرب قبر النبي صلى اللّه عليه وسلم ؟
[108](4/85)
خالد : هذا الحرص نابع من الالتصاق الأخوي الديني الذي كان بينهم في الدنيا ، وتقاربهم مع بعضهم البعض ، وأنهما كانا دائماً مترافقين وهذا معلوم في السيرة ، فأحبا أن يتقاربا حتى في قبورهما ، والذي يدلك على فهم الصحابة لقضية التبرك والتوسل ما فعله عمر رضي الله عنه بمحضر من الصحابة جميعهم من طلبه من العباس بأن يستسقي الله بإنزال الغيث عليهم ، فلماذا لم يذهبوا إلى قبر النبي صلى اللّه عليه وسلم ويتبركوا به لإنزال الغيث ؟
حيدر : لعلك غفلت عن قوله تعالى : { وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ ... } (البقرة : : 248) فهذه الآية صريحة في الاستدلال على التبرك .
خالد : قبل أن أوضح ما في الآية الكريمة من معنى ، أوجه لك هذا التساؤل لماذا دائماً نستدل بأخبار بني إسرائيل وغيرهم خاصة في أمور العقيدة ؟ أليس لنا في أفعال النبي صلى اللّه عليه وسلم كفاية لنا في توحيدنا لربنا ؟
ولنسأل أنفسنا ، أين الدليل من الآية على وجود البركة ؟ وبفرض وجودها لنتساءل هذه البركة كانت لمن ، وبأمر من ، وفي أي زمن كانت ؟
وللعلم هذه الحادثة كانت في بني إسرائيل وأمرهم بذلك نبيهم ، من بعد أن أوحى الله إليه ، ولنسأل أنفسنا : هل شرع من كان قبلنا شرع لنا نحن المسلمين ؟ والإجابة بكل يسر ووضوح ... ما أمرنا ودلنا عليه المصطفى صلى اللّه عليه وسلم هو الذي ينبغي أن نأخذه ، مثل بيانه لنا في الحجر الأسود والركن اليماني ، فعلينا التسليم دون المعارضة .
حيدر : ولم هذا الحوار العريض حول هذه القضية التي تُعد من فروع الدين ؟
خالد : بل هي من صميم العقيدة أن يعلم المسلم من بيده النفع والضر ، فإننا سوف
[109](4/86)
نجد ذلك العامي الذي يعتقد بقبر هذا الإمام ، أنه يشفي من الأمراض ويحقق الحاجات فيقصده من دون الله - سبحانه - وهذا مشاهد معلوم لا ينكره أحد ، والخشية ممن سيأتي بعد الآباء ويكونون على جهل فيقعون في الشرك الأكبر ودعاء غير الله ، وهم يظنون أنهم يُحسنون صنعاً ، فالخطأ يجب أن يُبتر من أوله ، وهذا واجب العلماء الربانيين أن يفعلوه ، وأيضاً ممن يحب الخير للمسلمين .
[110]
الشفاعة
خالد : بعد النقاش حول موضوع التبرك ، الحوار يقودنا إلى مراجعة مفهوم الإيمان بما في اليوم الآخر من الشفاعة .
حيدر : وما الجديد في هذا الأمر ؟
خالد : ما من جديد في هذا الأمر ، ولكن تأكيداً على هذا الجانب حتى يتضح لنا جميعاً بإذن الله ، فهل تأذن لي ؟
حيدر : بكل سرور .
خالد : الشفاعة لها شروط لحدوثها وهي :
ا - رضى الله عن المشفوع له .
2 - رضى الله عن الشافع .
3 - إذن الله تعالى للشافع أن يشفع .
وهذه الأمور استنباطاً من قوله تعالى : { وَكَم مِّن ملَكٍ فِي السمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلا مِنْ بَعْدِ أَن يَأذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشاءُ وَيرْضَى } (النجم : 26) وقوله عز وجل : { وَلا يَشْفَعُونَ إلا لِمَنِ ارْتَضَى } (الأنبياء : 28) .
حيدر : وهذا الأثر لا لبس فيه ، بل هو من أساس الاعتقاد الذي ينبغي الإيمان به ، وإضافة إلى ما ذكرت ، هناك أعمال وأمور جُعل لها إمكانية الشفاعة .
[111]
خالد : نعم ، مثل النبي صلى اللّه عليه وسلم والملائكة والصيام والقرآن وغيرهم ، ولكن ينبغي علينا التريث أولاً قبل قبول أي حديث في هذا الموضوع حتى نتأكد من صحته ، ومن ثمَّ نعتقد ونعمل به ، ولنعلم أن ليس بمقدور أي مخلوق الشفاعة إلا بعد إذن الله سبحانه له .
ولن ينفع المسلم يوم القيامة إلا صدق اتباعه للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، وما قَدَّمَ من عملٍ
صالحٍ خالصٍ لله سبحانه .(4/87)
حيدر : وهل هذه المفاهيم أخطأ بها أحد من أهل الإسلام .
خالد : التذكير لا يعني أن هناك خطأ ، بقدر ما هو حذر من أن يقع السوء وخاصة في جانب العقيدة ، فالمسلم يخشى من ألا يفهم أحد كيف تتحقق الشفاعة ، فلربما يدعو ولياً أو إماماً عند قبر ما ليرزقه الشفاعة ، أو يأتي متعالم فيفتي العوام بأن من زار قبر كذا في يوم كذا نالته الشفاعة يوم القيامة ، أو من كان محبّاً للإمام الفلاني فهو من المشفعين ... وغيرها من الأقاويل التي نخشى من نزولها في رأس بعض المتعالمين الجهلة ، فيبثونها للعوام الذين يتبعون كل ناعق من غير سؤال أو استفسار .
[112]
المهدي المنتظر ( عج )
خالد : أرى أن هناك اهتماماً متزايداً من الكثير من الأخوة الشيعة بالمهدي المنتظر .
حيدر : وكيف ذلك ؟
خالد : ازدياد أعداد الملصقات الدائرية الخضراء التي توضع على السيارات في الزجاج الخلفي ، والحديث بكثرة عن المهدي المنتظر في المجالس العامة والخاصة ، وفي المؤلفات . أليس هذا دلالة على زيادة بالاهتمام هذا المعتقد ؟
حيدر : في المقابل ألاحظ تقاعس وعدم اهتمام بقضية المهدي المنتظر ( عج ) من بعض إخواننا السُّنة ، وهذه القضية تعد كما تعلم من القضايا التي لا خلاف فيها بين السنة والشيعة .
خالد : ثبتت النصوص الصحيحة حول هذا الأمر من جميع الجهات ، ولكن الأمر فيه اختلافات جوهرية ينبغي الإشارة إليها .
حيدر : هل بالإمكان توضيح ذلك ؟
خالد : أهل السُّنة يؤمنون بأن المهدي المنتظر رجل من نسل الرسول صلى اللّه عليه وسلم واسمه محمد بن عبدالله ، وهو إلى الآن لم يُولد ، وفي آخر الزمان في زمن وجوده وحياته سيهديه الله إلى الخير وسيقود الأمة مع نبي الله عيسى بن مريم ضد المسيح الدجال ، ويحكم المسلمين ، وسيفتح الله على يده الخير الكثير ، وسيحكم بشريعة النبي صلى اللّه عليه وسلم .(4/88)
أما المهدي الذي عند الإخوة الشيعة فإنه من نسل الرسول صلى اللّه عليه وسلم واسمه محمد بن الحسن وأمه من الجواري ، ويقولون إنه تمت ولادته قبل سنة 260 هـ .
[113]
وقالوا إنه غاب في سرداب ( سُرّ من رأى ) في العراق وقيل في جبل رضوى في المدينة ، ولما اختفى كان عمره قرابة الخمس أو ست سنوات ، ولم يحرم شيعته من علمه وفتواه ، فجعلوا له سفراء أربعة يتصلون به ويتلقون منه ما يحتاجونه من علم .
ثم تطور الأمر في الوقت الحاضر إلى وجود ولاية الفقيه أو النائب عن المنتظر .
ولن يظهر المهدي إلا في آخر الزمان بعد أن تمتلأ الأرض فساداً لينشر العدل - وهو قتل المسلمين من غير شيعته وإبادتهم - لتستقر الأرض والحكم لشيعته فقط .
حيدر : وفق ما ذكرت فإن الأمر اختلف كلية ، مع أن النصوص في كتب الأئمة قد بينت وأفاضت في ذكرعلامات المهدي وسيرته العطرة ، والسبب من اختفائه .
خالد : السيرة العطرة ، تكون لذاك الإنسان الذي يُرتجى منه الخير والرفق والعدل من بعد الظلم ، وأي خير نرتجيه من إنسان سوف يكون همه سفك الدماء ؟ !
حيدر : لعل الأمر التبس عليك في سيرة الإمام المهدي مع غيره ممن تسمّى بهذا الاسم المبارك من حكام الدولة العباسية أو ممن جاء بعدهم .
خالد : روايات صحيحة في كتب علماء الشيعة لا تقصد إلا محمد بن الحسن العسكري الموصوف بالمنتظر ، تبين أفعاله ، وليس غيره وخذ هذه الروايات :
جاء في ( الغيبة للنعماني ص 231 ) للنعماني عن زرارة عن أبي جعفر
[114 ](4/89)
عليه السلام قال : قلت له سمّه لي أريد القائم عليه السلام . فقال : « اسمه اسمي (1) . قلت : أيسير بسيرة محمد صلى اللّه عليه وسلم ؟ قال زرارة : هيهات هيهات يا زرارة ، ما يسير بسيرته قلت : جعلت فداك ولم ؟ قال : إن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم سار في أمته بالمنّ ، كان يتألف الناس ، والقائم يسير بالقتل ، بذاك أمر في الكتاب الذي معه أن يسير بالقتل ، ولا يستتيب أحداً ، بل ويل لمن ناوأه » .
حيدر : ولكن الدين مبناه على الخير وتألف قلوب الناس على حب الآل عليهم السلام .
خالد : يا ليت ما تقول نجد له مسلكاً مع هذا المهدي المنتظر ، وإلا فإن المنتظر هذا سيُخرج الأحقاد الدفينة في صدور الشيعة كما قالت الرواية التي ذُكرت عند العاملي في وسائل الشيعة ( 11/60 ) والبحراني في الحدائق ( 18/155 ) بنص : « ... . ولولا أن نخاف عليكم أن يُقتل رجل منكم برجل منهم ، ورجل منكم خير من ألف رجل منهم ، ومائة ألف منهم ، لأمرناكم بالقتل لهم ، ولكن ذلك إلى القائم » .
حيدر : تعلم يا أخ خالد أن الشيعة إخوة للسُّنة ، والاحترام بيّنٌ وواضحٌ ويجُّلون العالِمَ والعامي ، والصغير والكبير .
خالد : يا ليت الأمر يتوقف عند الاحترام المتبادل بين العلماء ، ولكن الروايات تكشف لنا كأن هناك انتقاماً منتظراً سيحل على العلماء المخالفين للشيعة ، كما جاء في رواية الزنجاني في حدائق الأنس ( 104 ) عن أمير المؤمنين أنه قال : « وفقهاؤهم يفتون بما يشتهون ، وقضاتهم يقولون ما لا يعلمون ، وأكثرهم بالزور يشهدون ، إذا خرج القائم ينتقم من أهل الفتوى » .
[115]
حيدر : يا أخ خالد مع كل ما تقول ، لعل المبغضين لآل البيت عليهم السلام كذبوا ودسوا مثل هذه الروايات الباطلة .
__________
(1) لاحظ : لم يذكر محمد الباقر اسم المهدي ، لأن في عقيدة الشيعة لا يجوز ذكر اسم المهدي صراحة وقد يصل الحكم إلى التكفير .(4/90)
خالد : يا أخ حيدر ، إلى متى نحتج بالظنون ؟ فالعلم سنده العلم البيّن المتحقق منه ، وهذه الروايات وغيرها كثير متناثرة في كتب الشيعة المعتمدة ، وتركها هكذا من غير تفنيد وبيان لحال سندها ، يجعلنا نجزم بموافقة العلماء عليها ، ووالله ليس هناك مثل سيرة المصطفى صلى اللّه عليه وسلم ورفقه وحبه لأمته ، حتى للعصاة منهم ، أما هذا المنتظر الموجود في كتب الشيعة . فلن يحب أحد الالتقاء به خوفاً منه كما قال النعماني في كتاب الغيبة ( 233 ) عن محمد بن مسلم قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : « لو يعلم الناس ماذا يصنع القائم إذا خرج ، لأحب أكثرهم ألا يروه ، مما يقتل من الناس ، أما إنه لا يبدأ إلا بقريش ، فلا يأخذ منها إلا السيف ولا يعطيها إلا السيف حتى يقول كثير من الناس ليس هذا من آل محمد ، ولو كان من آل محمد لرحم » .
حيدر : لو اتفقت معك على فداحة ما قلت ، أظن أنك توافق على الروايات الدالة على وجود المهدي ( عجل الله فرجه ) ، وأن في خروجه الخير للمسلمين بإذن الله .
خالد : الواقع يشهد بما ذكره العلماء المعتمدون : أنه ليس له عين ولا أثر ، ولا يعرف له حس ولا خبر ، لم ينتفع به أحد لا في الدين ولا في الدنيا ، بل حصل باعتقاد وجوده من الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد ، مثل ما ذكرت لك من روايات علماء الشيعة .
حيدر : أتريد أن تقول بان الإمام المنتظرلا وجود له ، وأنه لم يولد بعد ؟
خالد : جاء في أصول الكافي ( 1/553 ) وإكمال الدين ( 93 ) والمقالات والفرق ( 102 ) وفرق الشيعة ( 96 ) وتاريخ الطبري ( 13/26 ) أن الحسن بن علي بن
[116]
محمد لما مات لم يكن لديه عقب ، ولم تكن لديه زوجة أو جارية حملت وذكروا القصة بالتفصيل ، التي ثبت من بعدها أن الإمام الحسن العسكري لم يكن عنده ابن يسمى بمحمد أو المهدي المنتظر .
حيدر : إذاً الأمر بهذه الرواية يوقف حوارنا حول المهدي المنتظر .(4/91)
خالد : والأغرب من هذا وذاك ، أن كتاب الكافي للكليني كما جاءت الروايات قد تم عرضه على المهدي المنتظر وهو بالسرداب فوافق على ما فيه وأنه كما قال : « كافٍ لشيعته » ، مع أن في الكافي الرواية التي تطعن في وجوده !!
وكذلك الخلاف في مكان اختفائه يدل على التناقض ، فرواية تنص على سامراء وأخرى طيبة ( المدينه المنورة ) ، وثالثة على جبل رضوى قرب المدينة ، وليس هناك من تحقيق حول الصحيح من الضعيف في الأمر .
حيدر : وماذا عن دعاء ( عج ) بمعنى عجل الله فرجه ؟
خالد : نحن مأمورون بالعمل والقول الذي ثبت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم . والذي قد تم الشرع وكمل بوفاته صلى اللّه عليه وسلم ، فماذا سوف يزيدنا المهدي في ديننا ؟ ! وماذا سيُتم من ناقص ؟
ولنتساءل هل نريد ذلك المهدي الذي سيقتل النواصب الذين لا يؤمنون بالولاية والإمامة لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه ، وحتى يملأ الأرض عدلاً لأنها امتلأت ظلماً وجوراً من قِبَل النواصب وعوام المسلمين على حد زعم بعض المتعالمين ؟ ! أم أنه سينشر العدل والخير بين الناس جميعهم !
وهل نعطل الشرع ومصالح المسلمين لأمر غيبي موهوم ، أم أن المسلم يجدّ
[117]
في الطاعة التي عُلمت عن المصطفى صلى اللّه عليه وسلم ، والذي أكمل لنا الدين بشهادة الحق سبحانه : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا } (المائدة : 3) ويدعو الله أن يصلح أحوال المسلمين إن كان هناك ثمَّة خطأ .
[118]
أبو طالب
حيدر : أعجب من أولئك الذين يذكرون آل بيت النبي صلى اللّه عليه وسلم في مجالسهم ، ولا يعرجون في حديثهم على أسرة النبي صلى اللّه عليه وسلم من جهة أعمامه وعماته وأخواله وخدمه ، والمحيطين به عليهم الصلاة والسلام .(4/92)
خالد : كتب التاريخ وكذلك الأحاديث ، لو فتشناهما لوجدنا فيهما كماً كبيراً في بيان ذلك ، وذكر واضح لعلاقة أسرة النبي صلى اللّه عليه وسلم به قبل الهجرة وبعدها ، ومَنْ الذي نصر النبي صلى اللّه عليه وسلم ومَنْ الذي كفر ولم يتبع النبي صلى اللّه عليه وسلم كعميه أبي طالب وأبي لهب .
حيدر : ماذا تقول ؟ هل لا زلت على حيرتك في شأن الذي نصر النبي صلى اللّه عليه وسلم وحماه وذاد عنه ودفع أذى الكفارعن ابن أخيه ، وفعل أموراً عجز عنها الكثيرون ، فهل تتجرأ أن تقول عليه هذه المقولة الشنيعة ، مع العلم أنه كان على دين الحنيفية ، دين إبراهيم ! وقال في حقه النبي صلى اللّه عليه وسلم : « والله ما نالت مني قريش ما أكرهه حتى مات أبوطالب » .
خالد : أعمال أبي طالب مذكورة ومعلومة في التاريخ ، والرجل لا يُعد من أهل الإسلام إلا بنطق الشهادتين للدلالة على ما في القلب من إقرار وتصديق ، وكما أننا نستدل ببعض أحاديث البخاري رحمه الله لتدعيم ما نحب ، فلمَ لا نعدل ونذكر كل الحق وليس أنصافه ؟
حيدر : وما تعني بقولك هذا ؟
خالد : جاء في رواية البخاري تحت باب أبوطالب حديث العباس لما سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم
[119]
عن عمه فقال : « هو في ضحضاح من النار ، ولولا شفاعتي لكان في الدرك الأسفل من النار » .
حيدر : أبو طالب أقر بنفسه أنه مؤمن بقوله :
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... ... حتى أوسد في التراب دفينا
ولقد علمت بأن دين محمد ... ... من خير أديان البرية دينا
خالد : وتكملة الأبيات :
لولا الملامة أو حَذاري سُبّة ... ... لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
وجاء أنه أيضاً قال :
فوالله لولا أن أجيء بسبة ... ... تجر على أشياخنا في المحافل
لكنّا تبعناه على كل حالة ... ... من الدهر جَداً غير قول التهازل
حيدر : إذاً أنت تقر بأن عم النبي صلى اللّه عليه وسلم كان على الإيمان بدلالة علمه بنبوة ابن أخيه ؟(4/93)
خالد : الشاهد قوله « ولقد علمت ... » ، والعلم بالشيء لا يعني أن صاحبه مُصَدق به ، أي مؤمنٌ به متبعٌ له ، ولو قلنا بمثل ما تظن يا أخ حيدر ، لكان إبليسَ وهو رأس الكفر ، والذي هو من أعلم الخلق بالله تعالى ، لوجب علينا أن نحكم بإيمانه ، ولكنه مع هذا كله ، فهو خارج عن دائرة الإسلام بالكلية ،
[120]
فالإيمان يحتاج إلى العلم ، ولأن التصديق الجازم بالقلب ثم النطق به وهو الإقرار ، يتم به صحة الإيمان ، وكذلك العمل .
فالأمر واضح لا لبس فيه .
وماذا يضر المرء إن كفر أهله أو أحد أبنائه أو إحدى زوجاته ، والله يقول : { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } (القصص : 56) ، وهؤلاء الأنبياء وهم صفوة الخلق حصل لهم مثل هذه الأمور ، ولم يقدح ذلك في سيرتهمِ ، أو أن يحط من قدرهم والله سبحانه يقول : { إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْببْتَ وَلَكِنّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ } (فاطر : 18) .
حيدر : الأمر يبدو لي غريباً من أن نقول أن من كان يحمي النبي صلى اللّه عليه وسلم كان على الكفر وهو كان حبيباً له وقريباً من قلبه !
خالد : هذا الأمر ينبغي علينا أن لا نستنكر وقوعه ، لأنه قد وقع للأنبياء السابقين فنوح أحد أبنائه وأيضاً زوجته في النار لكفرهما ، وهذا إبراهيم والده كافر ، وامرأة لوط في النار ، وعم المصطفى صلى اللّه عليه وسلم أنزلت بسببه سورة ندعو عليه بها وأنه في النار ، فالأمر بيد الله سبحانه يهدي مَنْ يشاء ويضل مَن يشاء .
حيدر : ولكن هناك العديد من المؤلفات تبين وتوضح هذا الموضوع ، أعني إسلام عم النبي أبي طالب !
خالد : ديننا - ولله الحمد والمنة - مؤسس على الدليل والنقل الصحيح ، وليس على حشو الكلام وتأجيج العاطفة ، فمهما كُتب حول هذا الموضوع من مؤلفات ، وسُطرت من كلمات ، يتبقى لدى المسلم الحريص على دينه سؤال واحد ، ما الدليل على ما نذكر ونقول ؟
[121](4/94)
وليس الدليل في نصوص الشريعة من بيت شعر من أيام الجاهلية قاله رجل لا يُعلم حاله ، ونتشبث به ، ولكن الدليل قال الله أو قال الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، أو ثبت نقله عن أحد من الصحابة رضوان الله عليهم ، ولم يُنكر عليه أحد ، وما سوى ذلك فترهات ، وجمع حطب بليل ، وتذكر يا حيدر أن نصاً واحداً صحيحاً سيحرق - بإذن الله - آلاف الكتب الباطلة ، ولله الحمد .
[122]
معاوية ويزيد
خالد : الحديث عن عدالة الصحابة يقودنا إلى الحوار حول تجرأ نسبة ملاحظة من الشيعة تعلق لسانهم بالشتم والنقيصة للصحابة ( رضي الله عنهم ) .
حيدر : لكن الإخوة الشيعة لا يذكرون ولا يتبرؤون إلا ممن استحق اللعن والشتم ، وبالأخص ممن اعتدى وتجرأ على الآل الكرام عليهم السلام ، كيزيد ووالده .
وقد جاء في فتح الباري عن أحمد بن حنبل أنه سئُل عن علي ومعاوية ، فقال : إن عليّاً كان كثير الأعداء ، ففتش أعداؤه له عيباً فلم يجدوا ، فعمدوا إلى رجل قد حاربه ، فأطروه كيداً منهم لعلي .
فأشار بهذا إلى ما اختلقوه لمعاوية من الفضائل مما لا أصل له . أي كأن الأمر نكاية من أعداء علي رضي الله عنه ، وأن معاويه لا شأن له بالأمر .
خالد : معوقات أي حوار ، هو تغلغل العواطف في القضايا الشرعية ، وإلا فإن هذه الرواية ذكرها العلامة ابن حجر العسقلاني شارح البخاري ليبطل دليل مَن يقول ، أن معاوية لم تذكر له أية فضائل فقال بعد هذا مباشرة :
« عبر البخاري في هذه الترجمة بقوله ( باب : ذكر معاوية رضي الله عنه ) ولم يقل . فضيلة ولا منقبة لكون الفضيلة لم تأخذ من حديث الباب ، لأن ظاهر شهادة ابن عباس له بالفقه والصحبة دالة على الفضل الكثير ( حديث إن معاوية كان يوتر بركعة واحدة فقال عنه ابن عباس : إنه فقيه ) » ( 7/131) .
إذن شارح البخاري لا يؤيد المقولة السابقة التي ذكرتها ، بدليل ذكر الأحاديث الصحيحة الواردة في شأن أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه .
[123](4/95)
حيدر : الروايات المبينة لما اقترفه معاوية وابنه ، تجاه أمير المؤمنين علي وابنه الحسين عليهما السلام ، لا تخفى على مسلم لبيب .
خالد : لنأخذ الأمر بروية ، وبتمحيص للأمور الشنيعة التي اقترفاها كما يُذكر عنهما وفق الآتي :
1 - معاوية كان أميراً على الشام منذ عهد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ، ولم يُعزل من منصبه حتى خلافة علي رضي الله عنه .
2 - هل ثبت بنقل صحيح أن معاوية كانت له مواقف سيئة أو اُنتقد عليها - قبل خلافة علي رضي الله عنه - وتطعن في إيمانه ؟
3 - ما سبب الخلاف بين أمير المؤمنين علي ومعاوية ( رضي الله عنهما ) ، أهو في ركن من أركان الإسلام أم في مسائل اجتهادية ؟
4 - لو كان الخلاف بينهما في قضية لا يمكن لأمير المؤمنين التنازل ولا التراجع عنها ، فلِم فعل الحسن بن علي أمراً آخر غير ما صمم وقاتل عليه والده ؟
ويكون الحسن بهذا قد ترك أمراً عظيماً طواعيةً منه .
5 - لمَ عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم إلى معاوية كتابة الوحي ( القرآن ) الذي هو أعظم أمانة يؤتمن عليها ؟
حيدر : الإنسان يتغير ولربما يبُطن غير الذي يظهر إذا أحب الدنيا وركن إليها ، وهذا نجده واضحاً من قبل ابنه يزيد .
خالد : لندع الكلام الذي لا سند له غير الزعم ، فيجرنا من بعده إلى الفهم السيء ، فمعاوية رضي الله عنه قد لبث في حكم الشام فترة تزيد عن الثلاثين سنة ،
[124]
وأهل الشام كانوا أهل استقرار وحكمة وروية كحال أميرهم ، وليس مثل أهل الكوفة الذين قال فيهم الحسن بن علي ( الاحتجاج للطبرسي 2/290 ) : « أرى والله أن معاوية خير لي من هؤلاء ، يزعمون أنهم لي شيعة ، ابتغوا قتلي ، وانتهبوا ثقلي ( متاعي ) ، والله لئن آخذ من معاوية عهداً أحقن به دمي وأمن به أهلي ، خير من أن يقتلوني ، فتضيع به أهل بيتي وأهلي » .(4/96)
والخلاف يطرأ بين الإخوة في البيت الواحد ، والبلد الواحد ، فكيف إذا كان في مواجهة فتنة لم يعهد لها الصحابة مثيلاً ، وهي مقتل أمير المؤمنين عثمان ، واختلفت الأفهام في كيفية معالجة هذه الطامة .
حيدر : وما قولك في الذي أمر بقتل سيد شباب أهل الجنة ، وأهان آل بيت النبي في كربلاء ، وقد أخبر النبي بمقتله ، كما ثبت ذلك بالروايات الصحيحة في هذا الشأن ، فهل نسكت عن هذا الفعل الشنيع !
خالد : ما حدث في زمن يزيد ، لا يعفيه من اللوم والخطأ الذي وقع من جنده وقد ثبت أنه لم يعاقب أحداً ، ولكن السؤال الذي يَرِدُ على الأذهان :
1 - النبي صلى اللّه عليه وسلم أخبر بمقتل سبطه الحسين وأخبر بمقتل علي وكذلك عن الإصلاح الذي سيعمله الحسن بين المسلمين ، هذه كلها أمور خبرية ، فما الدليل على وجوب اللعن في كل سنة على جميع بني أمية ، وفيهم من لم يرتكب جرماً ، في حق علي رضي الله عنه ؟
2 - أين الرواية الصحيحة الدالة على أن جيش يزيد ، كان مرسلاً لقتل الحسين رضي الله عنه ؟ وهل هناك مَنْ يعترض على حماية الدولة من الفتن والقلاقل ، خاصة إن جاءت من قبل أهل الكوفة في العراق ؟
3 - لِمَ لم يأمرنا النبي صلى اللّه عليه وسلم بفعل أمر معين ، إذا وقعت مقتلة الحسين ، مع أنه
[125]
أخبر بوقوعها ؟ ، فهل نحن نحب الحسين أكثر من النبي - صلى اللّه عليه وسلم ؟ أم نحن أعلم بما ينبغي فعله أمام هذه الحوادث ؟
3 - الحسين رضي الله عنه من أهل الجنة كما أخبر النبي صلى اللّه عليه وسلم بذلك ، إذن لِمَ نُجدد الحزن عليه وقد شُهد له بالجنة ، ولا نشاهد مثل هذا الحزن علىَ من هو أفضل منه ، كعلي والحسن رضي الله عنهما ، ومن قبلهما سيد ولد آدم صلى اللّه عليه وسلم ؟(4/97)
4 - مَنْ الذي قتل الحسين رضي الله عنه ؟ هذا سؤال مهم يجيب عنه آية الله العظمى محسن الأمين كما يروي في أعيان الشيعة ( 1/26 ) عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر وهو يذكر المسئول عن دم سبط رسول الله صلى اللّه عليه وسلم فيقول : « فبويع الحسن ابنه فعوهد ثم غُدِرَ به وأُسْلِم ووثب عليه أهل العراق حتى طُعِن بخنجر في جنبه ، وانتهب عسكره فوادع معاوية ، وحقن دمه ودم أهل بيته ... ثم بايع الحسين من أهل العراق عشرون ألفاً غدروا به وخرجوا عليه وبيعته في أعناقهم فقتلوه » .
فالنصوص واضحةٌ في حال معاوية رضي الله عنه وكذلك ابنه يزيد ، والمرء لا تجره عاطفته فيغمض عينه عن الحق ويتغافل عنه ليأخذ ما يحب ويهوى لذا روى الكشي ( ص 253 ) عن الإمام الصادق أنه قال : « لو قام قائمنا بدأ بكذابي شيعتنا فقتلهم » .
حيدر : إن أظهر المسلمون لشيء من حزنهم على مَنْ يحبون ، هل يُلامون على ذلك ؟ أم أفهم في قولك تقليل لحادثة استشهاد الحسين رضي الله عنه !
خالد : حاشا لله أن تصدر مني كلمة أقلل فيها من قدر مَنْ نحب من آل بيت المصطفى صلى اللّه عليه وسلم وهذا أمر علينا أن نسير عليه دائماً مع مَنْ نحب ، وأيضاً مع مَنْ
[126]
نبغض ، فإن السموات والأرض لم تقوما إلا بميزان العدل والقسط ، وآل بيت النبي صلى اللّه عليه وسلم نحبهم لحبنا لرسول الله صلى اللّه عليه وسلم ، ونسأل الله أن يحشرنا مع هذه الزمرة الطيبة المباركة في الفردوس الأعلى برفقة حبيبنا محمد صلى اللّه عليه وسلم .
[127]
زوجات النبي صلى اللّه عليه وسلم
حيدر : ما دمنا قد تحاورنا حول موضوع معاوية وابنه وكذلك الصحابة فلمِ لا نعرج حول ما اعترى قضية زوجات النبي - صلى اللّه عليه وسلم من لبس ، وسوء تحديد في القدر ؟
خالد : شأنهن وقدرهن معلومٌ في قلوب المؤمنين ، فأين اللبس ؟(4/98)
حيدر : جنوح البعض منهن بعد وفاة النبي عليه السلام إلى الدنيا ، والتشجيع والتأليب على أمير المومنين علي عليه السلام ، ومع حقيقة هذا المبدأ نجد من بعض الإخوة السنة إنكاراً وطمساً للحقائق .
خالد : قبل أن نتحاور حول ما تقول لنتذكر قاعدةً عظيمةً ، وهي أننا نتكلم عن زوجات النبي صلى اللّه عليه وسلم ، واختيارهن تم بموافقة من الله - سبحانه - وأمر منه بالتحديد للبعض منهن ، وأيضاً لنتذكر أن الله سبحانه نزه نبيه في حياته من أن يُطعن في عرضه أو بعد وفاته ، والله - سبحانه - وصف زوجات النبي صلى اللّه عليه وسلم بأنهن أمهات للمؤمنين بقوله تعالى : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجه أُمَّهَاتُهُمْ } (الأحزاب : 6) .
حيدر : هذا مما لا جدال فيه .
خالد : على ضوء هذا أقول لك يا أخي إن المرء يلتمس جميع الأعذارالممكنة إن أخطأت أمه من النسب ، فما هو حالنا تجاه أمهاتنا بالدين ، وهن ( رضي الله عنهن ) زوجات نبينا صلى اللّه عليه وسلم ؟
[128]
خالد : لنتذكر قصة الإفك ، واتهام المنافقين لأم المؤمنين عائشة ( رضي الله عنها ) أنها وقعت في الفاحشة ، ثم برأها الله - سبحانه - ومع ذلك يعلم الله أنها بعيدة كل البعد عن مثل هذه القاذورات ، وحذرنا سبحانه وتعالى من بعد هذه الحادثة المفتراة أن يأتي مسلم ويطعن في عرضها في المستقبل كما قال تعالى : { يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } (التوبة : 17) فغير المؤمنين ، قد تسول لهم أنفسهم بالخوض في عرض أم المؤمنين مرة أخرى .
حيدر : هذا بعيدٌ جداً أن يقع من أحد من أهل الإيمان .(4/99)
خالد : إذن ماذا نقول في من ذكر في كتابه ، أن عائشة رضي الله عنها كانت تريد الزواج من عبد الرحمن بن عوف ؟ أو يأتي من يفسر الآيات ويقول إن المقصود من امرأة نوح وامرأة لوط هما عائشة وحفصة ، أو ذاك الذي يدعو على أم المؤمنين ( رضي الله عنها ) من خلال دعاء صنمي قريش الشنيع !
أليس هذا قد خالف قول الله سبحانه من توقير أمهات المؤمنين ؟
وقذف أم المؤمنين ( رضي الله عنها ) والافتراء عليها لا يزال قذره موجوداً في بعض الكتب مثل تفسير القمي ( سورة التحريم ) والبرهان للبحراني ( 4/358 ) ، وفي بيان السعادة لسلطان الجنابذي ( 3/253 ) وفي بحار الأنوار للمجلسي ( ج 40/ص 2 ) .
حيدر : معك الحق فيما ذكرت ، ولكن لماذا خرجت أم المومنين من منزلها وذهبت مع الجيش ضد أمير المؤمنين علي عليه السلام !
خالد : هذا سؤال وجيه ، ولنرجع بالذاكرة إلى ذاك الزمان العصيب ولنتساءل
[129]
أليس الأمر في حينه لما وقع قد اختلط فيه الحق بالباطل عند مجموعة من المسلمين ، أما كان ينبغي توحيد الكلمة ، وجمع الصفوف ؟ خاصة بعد مقتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ، لأجل هذا اجتهدت ( رضي الله عنها ) في الخروج ، وعلي رضي الله عنه كان في المدينة ولكن كما قلت لك سابقاً : هل هذا السبب مدعاة إلى أن نلعنها ونسبها وهي أم المؤمنين كما أخبر الله بذلك ؟
حيدر : يقال أن لها يداً في مقتل عثمان رضي الله عنه .
خالد : ومن هذا الذي بمقدوره الإتيان بالبرهان على صحة هذا الافتراء في فترة عصيبة مُلئت بالفتن من قبل أهل العراق ومصر ؟ ولو كان ما قيل صحيحاً هل كان هذا يخفى على معاوية رضي الله عنه وهو الذي كان يطالب بدم عثمان رضي الله عنه .
حيدر : إذاً ما الأمر الواجب أن نتخذه في مثل هذه المواقف والقضايا ؟(4/100)
خالد : ينبغي علينا ابتداءً أن نتذكر عمن نتكلم ، قال تعالى : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } (الأحزاب : 6) فهل يرضى أي مسلم أن يُنتقص من والدته من الولادة أو من الدين ، ولا ننسى أنها زوجة خليل رب العالمين محمد صلى اللّه عليه وسلم ، والرجل من عامة المسلمين يدافع عن عرضه بكل شيء ، فهل يهون علينا أن ننتقص من قدر زوجة نبينا صلى اللّه عليه وسلم وهي كما حكم الله أمّ لكل مؤمن بالله ، والمقولة بأن أم المؤمنين ألَبت الناس على أمراء المؤمنين يحتاج الى دليل والكتب المبغضة للصحابة رضوان الله عليهم تحتاج إلى تصحيح ، قبل رمي الكلام جزافاً .
[130]
حيدر : أفهم من كلامك أنك تريد إذاً أن نغض الطرف عن جميع أخطاء أم المؤمنين عائشة وغيرها ، ولا نخوض فيها ؟
خالد : التاريخ الصحيح لا يستطيع أحد أن يطمسه ، ولكن العاقل يأخذ العبرة والفائدة مع إعطاء مَن سبقوه المكانة اللائقة بهم ، وخطأ الكرام ينبغي أن يقذف في بحار حسناتهم ، ليتلاشى بإذن الله - سبحانه - وليعلم المؤمن أنه لا يبتدأ الكلام في أخطاء من سبقه وانتهى أمره إلى الله إلا لبيان حق أو دفع باطل ، وماذا سيجني ذاك السفيه إن خاض في أمهات المؤمنين ونبش حياتهن الطاهرة ، كأن لسان حاله يقول : انظروا إلى زوجات نبيكم ماذا اقترفت أيديهن .
ومثل هذه الأمور أيضاً لا تُذكر عند العوام ولا تُذاع في المحاضرات أو الندوات أو الأشرطة ، فالله قد عصم أيدينا من هذه الفتنة العصيبة ، فلنحفظ ألسنتنا منها أيضاً .
فالله نسأل أن يغفر لمن سبقنا بالإسلام وأن يعصم ألسنتنا عن ذكرهم بسوء .
[131]
الخُمس
خالد : وجدت أحد الأخوة الشيعة يرهق نفسه بدفع مبلغ من المال وسماه الخمس ، وذكر لي أنه كالزكاة ، وهو غير الصدقة .(4/101)
حيدر : نعم ، وبارك الله فيه ، وأذكّرك بالآية الكريمة الدالة على ما فعل : { وَاعْلَمُوا أَنمَا غَنِمْتُم مِن شَيْء فَأَن لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرسُولِ وَلِذِي الْقًرْبَى } (الأنفال : 41) .
خالد : لكن الآية الكريمة لا تفيد أخذ نسبة محددة من كل ما يكسبه المسلم في حياته الاعتيادية ، ونطلق على ما يدفعه « خمساً » .
حيدر : الآية جاءت في سياق النكرة الدالة على العموم في كل ما يحوزه المسلم .
خالد : جاءت الآية السابقة في سورة الأنفال والتي في بدايتها { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِله وَالرَّسُولِ ... } (الأنفال : 1 ) ، ثم جاء التفصيل عن الأنفال التي غنمها المسلمون من غزوة بدر ، إذاً فالأمر لسبب خاص وليس فيه عموم ، فأين النص على التعميم ؟
حيدر : ولكن اللغة جاءت لخدمة المعنى الذي أخذه علماء الشيعة ، من أن المغنم لا يكون في ساحة الحرب فقط ، ولكن في كل ما يغنمه المسلم في حياته ، والقرآن جاء بلغة العرب .
خالد : لو راجعت قواميس اللغة مثل القاموس المحيط ومختار الصحاح لوجدت أنها تذكر أن الخُمس يكون في الحرب والغنائم وليس في أمور الحياة الاعتيادية ولم يقل مسلم بأن ما يكسبه المرء في حياته ، وخاصة من التجارة ، يسمى غنيمة ، بل هو ربح وتجارة وتكسب .
[132](4/102)
خالد : السنة النبوية تبين ما أجمل وأبهم في القرآن ، ومن ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : خرجنا مع رسول الله صلى اللّه عليه وسلم إلى خيبر ، فلم نغنم ذهباً ولا ورقاً ( فضة ) ، غنمنا المتاع والطعام والثياب ، ثم انطلقنا إلى الوادي ، ومع رسول الله صلى اللّه عليه وسلم عبدٌ له وهبه له رجل من جٌذام ، فلما نزلنا قام عبدُ رسول الله - صلى اللّه عليه وسلم يحل رحله ، فرُمي بسهم فكان فيه حتفه ، فقلنا : هنيئاً له الشهادة يا رسول الله فقال : « كلا ، والذي نفس محمد بيده ، إن الشملة لتلتهب عليه ناراً ، أخذها من الغنائم يوم خيبر ، لم تُصبها المقاسم » ، قال أبوهريرة : ففزع الناس ، فجاء بشراك أو شراكين ، فقال الرسول صلى اللّه عليه وسلم : « شراك أو شراكين من نار » .
وروى الصدوق في الفقيه ( 1/13 ) والطوسي في التهذيب ( 1/348 ) والاستبصار ( 2/56 ) عن عبدالله بن سنان قال : سمعت أبا عبدالله يقول : « ليس الخمس إلا في الغنائم خاصة » . وأخرجه العاملي في الوسائل ( 6/338 ) باب وجوب الخمس في غنائم الحرب .
حيدر : بذل المسلم من ماله بمقدار الخمس إلى الفقراء والمساكين وإلى آل بيت النبي عليهم الصلاة والسلام ، هل نعتبره خطأً ويعاب عليه الباذل ؟
فلِمَ نحرمهم من الخير وفعل المعروف وبذل الصدقات للمحتاجين ، وهم لم يقدموها إلا حباً في النبي وآله عليهم السلام ؟
خالد : الوجوب شيء والتطوع أمر آخر ، فلا يأتي رجل ويفرض على المسلمين إخراج جزء محدد مما جنوه طوال السنة ، ونأتي ونقول عنه : هذا تطوع وبذل للخير .
[133]
فمَنْ أخرج زكاة ماله ، لا نلزمه بإنفاق مال آخر ، إلا ما يهبه عن طيب نفسه للمحتاجين .(4/103)
حيدر : لتعلم يا أخ خالد أن الخمس أو المال الذي نتصدق به ، نقدمه إلى وكيل المرجع الديني الذي يجوز له التصرف بالمال في غيبة الإمام المنتظر وهو رجل بمنأى عن الظن السيء ، وذو أمانة وعلم ، ليصرفها فيما بعد في مصارفها المحددة .
خالد : مقام الوكيل عن الإمام قضية ليست موضوع نقاشنا هنا ، لأن المهدي المنتظر - كما عرفنا في مبحث سابق - شخصية لا وجود لها في زمننا الحاضر والسابق ، فكيف ينوب عنه أحد .
وأيضاً قضية الوكالة عن الإمام ، فإنه لا يجيزها كل علماء الشيعة ، فهذا الأردبيلي أفتى بعدم جواز التصرف بالخمس في عهد الغيبة ، والعلامة الموسوي في كتابه التصحيح ذكر ما آل إليه الفهم السيء لهذه القضية . والتي انطلت على العوام من جهة الوسطاء الذين يأخذون الأموال ويصرفونها وفق ما يرون ، ولا يُسألون عما يفعلون .
وبالله عليك يا أخ حيدر : هل قدم لك مندوب المنتظر - كما تقول عنه - ورقة تفيد وتشرح المصارف التي آلت إليها زكاتك والأموال التي قدمها أهلك ، طوال هذه السنين ؟
حيدر : معاذ الله أن أسأل الإمام عن هذا ، لأن فيه طعنا في ذمته !
خالد : سبحان الله ، الأموال التي يبذلها أهل السنة يسألون عن كل صغيرة وكبيرة عنها ، وتتابع الجهات الرسمية هذا الأمر دائماً ، حتى لا يشوبه أية شائبة ، فهل المتابعة والتدقيق والاستفسار مظنة لوجود شك أو ارتياب في
[134]
الذمم ، بل هو يا أخ حيدر احتياط وتنبيه ، حتى لا تسول النفس لأحدٍ بأخذ ما ليس له فيه حق .
والأموال التي أمر الله رسوله صلى اللّه عليه وسلم بأخذها من المسلمين لا يحتاج فيها إلى واسطة لدفعها إلى الفقراء والمساكين ومن شملته الآية في بيان مصارف الزكاة ، فيستطيع المزكي أن يدفعها لمَن شاء ، وبأي كيفية شاء ، حتى لا نعطي المال من لا يعمل ولا يسعى في رَزقه وتأتيه الأموال الوفيرة بحجة أنه لا يُسأل عن ذمته !
[135]
المتعة(4/104)
خالد : لعل النقاش قد طال فيما بيننا ، وحصل الملل منك يا أخ حيدر ؟
حيدر : أبداً ، بل هو ممتع ومفيد ، خاصة مع حوار يتسم بالدليل والعقلانية .
خالد : بارك الله فيك ، وماذا تريد أن نتناقش حوله ؟
حيدر : لنتحاور حول موضوع دائماً يثار بين السنة والشيعة ، وإذا جرى نقاش بين الطائفتين لا بد وأن ينُاقش ويثار هذا الموضوع .
خالد : وما هذا الموضوع الذي دائماً يثار عند النقاشات ؟
حيدر : قضية زواج المتعة ، وسوء الفهم الذي لحق بهذا الحكم ، من قبل إخواننا السنُّة ، من الإفتاء بحرمة هذا الأمر المشروع .
خالد : الزواج المؤقت أو الصيغة أو المتعة ، الحكم بيّن ، ولا لبس فيه وهو المنع بل قل إن شئت التحريم .
حيدر : سبحان الله ! أمر جاء الجواز فيه من المصطفى - صلى اللّه عليه وسلم ثم تقول إنه محرم ، والروايات جميعها تدلل على ما أقول ، ولم نعلم التحريم إلا من قِبل الخليفة الثاني عمر رضي الله عنه ، والقرآن الكريم يبين الجواز كقوله تعالى : { فَمَا اسْتَمْتَعْتم بِهِ مِنْهُن فَآتُوهُن أًجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } (النساء : 24) .
وللحديث الصحيح عند مسلم عن جابر رضي الله عنه أنه قال : خرج علينا منادي رسول الله صلى اللّه عليه وسلم فقال : ان رسول الله صلى اللّه عليه وسلم أذن لكم أن تستمتعوا ( أي متعة النساء ) .
[136]
خالد : لنتحاور حول الأدلة التي سقتها ومن ذلك :
ا - قوله تعالى : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فآتُوهُنّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضةً } (النساء : 24) .(4/105)
هذه الآية لو قرأنا الذي قبلها ، لعلمنا أنها إنما جاءت في الزواج الدائم من النساء اللائي يستطيع الرجل أن يتزوج بهن ، واللواتي يحللن له ، فالله تعالى قال : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحَلّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضةً } (النساء : 24) ومن المعلوم في المذهب الشيعي أن زواج المتعة لا يحصن الفاعل ( كأنه لم يتزوج ) ، كما قال إسحاق بن عمار سألت أبا إبراهيم ( موسى الكاظم ) عليه السلام عن الرجل إذا هو زنى وعنده الأمة يطؤها تحصنه الأمة ( الجارية ) ؟ قال : نعم . قال : فإن كانت عنده امرأة متعة أتحصنه ؟ قال : « لا ، إنما هو على الشيء الدائم » . الوسائل ( 28/68 ) .
إذاً فالآية ليس فيها بيان لزواج المتعة ، إنما هو الاستمتاع في الزواج الدائم ، والذي فيه أيضاً تمتع بين الزوجين ولذة . وأما الأجر المقصود بالآية إنما هو المهر مثل ما جاء في قوله تعالى : { فَانكِحُوهُنَّ بِإذْنِ أَهْلِهِنّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } (النساء : 25) والمتعة لا يشترط فيها إذن الأهل .
حيدر : إذا كان الأمر كما تقول ، فما التوضيح لمَن علم بأن الخليفة عمر رضي الله عنه حرمها بمحضر من الصحابة ، بعد أن كانت مباحة !
خالد : هذه شبهة انطلت على الكثير من المسلمين ، وعمر رضي الله عنه لا يجرأ على أن يُحرّم أو يحلل في دين الله ، وإنما حرم بما رواه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم
[137]
وسمعه الصحابة ومنهم علي رضي الله عنه مثل ما جاء في كتب الشيعة المعتمدة مثل : الاستبصار ( 3/142 ) والتهذيب ( 7/251 ) والوسائل ( 21/512 ) عن علي عليه السلام أنه قال : « حرم رسول الله صلى اللّه عليه وسلم يوم خيبر لحوم الحمر الأهلية ، ونكاح المتعة » .(4/106)
ولكن بعض علماء الشيعة لم يرتضوا هذا الحكم فقال الحر العاملي : « حمله الشيخ ( الطوسي ) وغيره على التقية ، لأن إباحة المتعة من ضروريات مذهب الإمامية » .
وأين التقية في خبر لعلي عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ؟ فهل علي رضي الله عنه يتقول على النبي صلى اللّه عليه وسلم في أمر لم ينطق به النبي صلى اللّه عليه وسلم وهذه الرواية فيها إخبار وليس فتوى يقولها الإمام لِمَنْ يخالفه ، فيتقيه بهذه الفتوى .
وعلي رضي الله عنه قد ثبت عنه أنه عارض في متعة الحج ( أي : حج التمتع ) ولم يعمل بالتقية ، فلِمَ لم يصرح بالقول هنا كما فعل هناك ؟ والمتعة رخّص فيها النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ثم حرّمها ، ثم رخّص فيها مرة أخرى ثم حرّمها على التأبيد ، والأخيرة كانت في عام الفتح ويسمى بأوطاس ، ومن المعلوم أن الأحاديث لا تبلغ جميع الصحابة رضوان الله عليهم ، وزمن الصديق رضي الله عنه كان زمن حروب الردة ، والتثبيت للجزيرة وهي فترة قرابة السنتين فلما استقر الأمر لعمر رضي الله عنه ، بيّن لهم هذا الحكم لظهوره بين الناس .
حيدر : في خلافة أمير المؤمنين علي عليه السلام ، ألم يبين للمسلمين هذا الأمر ؟
خالد : ثبت في كتب التاريخ أن خلافة علي رضي الله عنه امتدت قرابة أربع سنوات ، وقد قاتل فيها جيوش الشام وكذلك الخوارج ، واستقر له الأمر
[138]
( رضي الله عنه ) في مكة والمدينة والعراق وما جاورهما من أمصار عدا الشام فلم يثبت عنه ( رضي الله عنه ) أنه قام وألغى ما أمر به عمر رضي الله عنه من المتعة ، ويُعلم من المذهب الشيعي أن عمل الإمام حجة ، لا سيما عندما يكون مبسوط اليد ، ظاهر السلطان ، يستطيع إظهار الرأي وبيان أوامر الله ونواهيه .
حيدر : لم يأتِ الترخيص من الأئمة عليهم السلام في هذا الأمر إلا لعلمهم بمدى حاجة الناس لهذا الأمر في كثير من الأوقات والأمكنة .(4/107)
خالد : جاء في الكافي ( 5/452 ) عن علي بن يقطين قال : سألت أبا الحسن عن المتعة فقال : « وما أنت وذاك ، فقد أغناك الله عنها » .
وفي المستدرك ( 14/455 ) عن عبدالله بن سنان قال : سألت أبا عبدالله عن المتعة فقال : « لا تدنّس نفسك بها » ، وللخميني قول جميل ذكره في كتاب كشف الأسرار ( ص 285 ) وهو : « لو تم ضرب الزاني والزانية بالسياط ما شاعت الأمراض التناسلية » .
فأين الحاجة في أمر لم يجر علينا إلا الفهم الخاطئ والتوسع المفرط فيه ؟!
حيدر : ولكن المتعة قد وُضع لها شروط وضوابط تحكمها ، حتى لا تؤدي إلى الفساد ، وهي رخصة للمضطر والمسافر ومَن في حكمهما .
خالد : ليس هناك من شروط في المتعة ، بل هناك تناقض غريب في هذه القضية ، والتي وُضع لها أجر كبير فمن ذلك ما جاء في الوسائل ( 21/16 ) عن أبي عبدالله قال : « ما من رجل تمتع ثم اغتسل إلا خلق الله من كل قطرة تقطر منه سبعين مَلكاً يستغفرون له إلى يوم القيامة ، ويلعنون متجنبها إلى أن تقوم الساعة » .
[139]
ومن الأمور التي نعلم من بعدها خطورة هذا الأمر ما يلي :
1 - جواز التمتع بزوجة الغير : جاء في التهذيب ( 7/253 ) عن فضل مولى محمد بن راشد قال : قلت لأبي عبدالله : إني تزوجت امرأة متعة ، فوقع في نفسي أن لها زوجاً ؟ ففتشت عن ذلك فوجدت أن لها زوجاً ؟ قال : « ولم فتشت » ؟
2 - سن المتمتع بها : جاء في تحرير الوسيلة ( 2/241 ) مسألة رقم ( 12 ) قول المؤلف : « لا يجوز وطء الزوجة قبل إكمال تسع سنين ، دواماً كان النكاح أو منقطعاً ، وأما سائر الاستمتاعات كاللمس بشهوة والضم والتفخيذ فلا بأس بها حتى في الرضيعة » !!
3 - التمتع بالمجوسية : جاء في الاستبصار ( 3/144 ) عن أبي عبدالله قال : لا بأس بالرجل أن يتمتع بالمجوسية ( والمجوس ليسوا من أهل الكتاب ) .(4/108)
4 - التمتع بالزانية : جاء في التهذيب ( 7/485 ) والوسائل ( 21/29 ) عن إسحاق بن جرير قال : قلت لأبي عبدالله : إن عندنا بالكوفة امرأة معروفة بالفجور ، أيحل أن أتزوجها متعة ؟ قال : رفعت راية ( أي : دلالة على المجاهرة بالبغاء ) قلت : لا ، لو رفعت راية لأخذها السلطان قال : نعم تزوجها متعة . قال ( أي إسحاق ) : ثم أصغى ( أي أبوعبدالله ) إلى بعض مواليه فأسرّ إليه شيئاً ، فلقيت مولاه فقلت له : ما قال لك ؟ قال : إنما قال لي : « ولو رفعت راية ما كان عليه في تزويجها شيء إنما يُخرجُها من حرام إلى حلال » .
وهذا ما أفتى به الخميني في تحرير الوسيلة ( 2/292 ) من جواز التمتع
[140]
بالزانية على كراهة ، فقال : « يجوز التمتع بالزانية على كراهة ، خصوصاً لو كانت من العواهر المشهورات بالزنا » !!
وكيف يعقل عن مسلم فعل مثل هذا والله تعالى يقول : { وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُها إِلاَّ زَان أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } (التوبة : 3) .
5 - الوقت المحدد للمتعة : ليس هناك من حد للتمتع بهذا الأمر وكما ذكر الخميني في كتاب تحرير الوسيلة ( 2/295 ) : « يجوز أن تحدد للمتعة مدة قليلة مثلاً كليلة أو يوماً ، كما يمكن أن يحدد وقت أقل كساعة أو ساعتين » .
حيدر : ولكن هذا هو الفساد بعينه ، وينبغي أن تعلم يا أخ خالد أن تحليل المتعة ، لم يشذ فيه الشيعة بالجواز فيه لوحدهم .
خالد : بل هو الشذوذ ، فلم يقل أحد من المذاهب الشيعية بالجواز إلا الشيعة الإمامية الاثنى عشرية ، والله سبحانه لم يرضَ لنا إلا كل طيب .
فمَنْ هذا الذي يكون سليم العقل ، ويرفض الطيّب من كل شيء ! وهو الزواج الدائم ولمَ لا نأمر الشباب بأخذ الطيب ؟ والذي فيه كما أخبر الله المودة والسكن وَالذرية الصالحة التي ترث من أبويها خيري الدنيا والآخرة ، فالطيب يحب الطيب ، جعلنا الله منهم أجمعين .
[141]
الوضوء(4/109)
خالد : لا زلت أراك تمسح على قدميك في الوضوء ، في حال نزع الجوربين ، وأنت تعلم أن هذا الأمر مخالف لآية الوضوء !
حيدر : ولكن القراءة الصحيحة للآية بينت أن المسح للأقدام هو الصحيح في الوضوء .
خالد : لنفصل القول في هذه القضية ، إذ إن صحة الوضوء فيه صحة لصلاتنا ، والآية الكريمة من قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إلَى الصلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ } (المائد ة : 6)
فيها قراءتان لكلمة « أرجلكم » بالكسر لحرف اللام عطفاً على المسح ، وبالفتح عطفاً على الغسل ، وكَلاهما تأكد من فعل النبي صلى اللّه عليه وسلم ، أنه صلى اللّه عليه وسلم كان يغسل رجليه بالماء إلى الكعبين ، ويأمر أصحابه بذلك .
والمسح قد ثبت في البخاري ومسلم من حديث المغيرة بن شعبة لما أراد أن ينزع خفي النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال له : « دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين » ، ومسح على خفيه .
حيدر : هذا عن المسح ، ولكن الأحاديث الواردة في غسل الرجلين كما نص عليها مراجعنا الأفاضل جميعاً لم تثبت وغير صحيحة .
خالد : التصحيح والتضعيف لا يثبت بدون أن يُبحث بحال الرواة ومتن الحديث ، وإلا فقد جاء في مسند أحمد عن أنس رضي الله عنه : أن رجلاً توضأ وترك على قدمه موضع الظفر لم يُصبه الماء فأمره صلى اللّه عليه وسلم أن يُحسن الوضوء .
[142]
وأحاديث بيان كيفية وضوء النبي صلى اللّه عليه وسلم منتشرة ومتواترة في كتب الحديث والفقه المعتمدة .
حيدر : لعل هذه الروايات ضعيفة ، وخالف فيها الإخوة السُّنة الصحيح في المذهب الشيعي .(4/110)
خالد : إن كانت الروايات ضعيفة لأنها وردت في كتب أهل السُّنة ، فاعلم أن الأمر ثابت في كتب الشيعة أيضاً ، وموافق للحكم الذي جاء عند أهل السّنة ، فلقد جاء في كتاب الغارات للثقفي ( 1/244 ) ومستدرك الوسائل ( 1/44 ) : أن عليَّا كتب إلى محمد بن أبي بكر وأهل مصر ... « ثم الوضوء فإنه من تمام الصلاة ، اغسل كفيك ثلاث مرات وتمضمض ثلاث مرات واستنشق ثلاث مرات واغسل وجهك ثلاث مرات إلى المرفق ثم امسح رأسك ثم اغسل رجلك اليمنى ثلاث مرات ثم اغسل رجلك اليسرى ثلاث مرات ، فإني رأيت النبي صلى اللّه عليه وسلم هكذا يتوضأ ، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : « الوضوء نصف الدين » .
وجاء في كتاب الاستبصار للطوسي ( 1/65 ) بسنده عن زيد بن علي عن آبائه عن علي عليه السلام قال : جلست أتوضأ فأقبل رسول الله صلى اللّه عليه وسلم حين ابتدأت في الوضوء فقال لي : « تمضمض واستنشق واسنن ثم اغسل ثلاثاً ، فقال : قد يجزيك من ذلك المرتان ، فغسلت ذراعي ومسحت رأسي مرتين ، فقال : قد يجزيك من ذلك المرة ، وغسلت قدمي ، فقال لي : « يا علي خلل بين الأصابع لا تخلل بالنار » .
وهذا الأثر ذُكر أيضاً في تهذيب الأحكام ( 1/93 ) ووسائل الشيعة للحر العاملي ( 1/296 ) .
[143]
حيدر : الذى بلغني عن العلماء الثقات والأئمة العدول أن جميع الأحاديث الواردة في غسل الرجلين باطلة ، ولا يلتفت اليها .(4/111)
خالد : الكتب السابقة هي الكتب التي ينبغي الرجوع إليها في الخلاف وليست الكتب المعاصرة التي غالب أهلها قليلوا البضاعة في العلم ، والغسل للرجلين جاء في أصح كتب الشيعة وهو فروع الكافي ( 3/35 ) فجاء عن أبي عبدالله عليه السلام قال : « إذا نسيت فغسلت ذراعك قبل وجهك فأعد غسل وجهك ثم ذراعك بعد الوجه ، فإن أنت بدأت بذراعك اليسرى قبل الأيمن فأعد غسل الأيمن ثم اغسل اليسار ، وإن أنت نسيت مسح رأسك حتى تغسل رجليك فامسح رأسك ثم اغسل رجليك » ، وهذه الرواية ذكرها الطوسي في تهذيب الأحكام ( 1/99 ) .
فالأمر واضح جلي لا لبس فيه لمن سعى خلف الحق وأخلص النية ، ولم يتبع قول ذلك الذي ينكر كل شيء وينقاد فقط خلف هواه ومعتقده وإن جانب الصواب .
[144]
علي ولي الله
حيدر : أجد من بعض الإخوة السنة امتعاضاً وعبوساً في وجوههم ، كلما رفع إخوانهم الشيعة النداء بالصلاة ، دلالة منهم على استنكارهم لمقولة صادقة في الأذان وهي : « أشهد أن علياً ولي الله » .
خالد : إليك أخي الكريم بعضاً من الحقائق التي لابد أن تؤصّل في النفوس :
1 - الأذان عبادة توقيفية ، وهو دعاء مخصوص ، في وقت مخصوص ، لسبب مخصوص ، بكيفية مخصوصة ، فلا زيادة ولا نقصان فيه ، ولا شأن للنيات الطيبة في استحسان أو وضع ما تشاء في هذا الذكر المبارك .
2 - الوَلاية هي محبة من الله تعالى لأحد عباده بسبب طاعته لله ولرسوله ، والوَلاية ليست حصراً على فرد دون غيره ، لأننا نحتاج إلى سند شرعي على التخصيص ، ولا يكون التحديد وفق هوى عاطفي .
والصحابة مرضي عنهم بنص القرآن ، فهل نقحم أسماءهم في الأذان ؟(4/112)
3 - البعض يضع اسم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه في الأذان ، بسبب الظلم الذي وقع عليه ، وأن الخلافة قد اغتصبت منه ، ومنذ متى كان الظلم سبباً مقنعاً للزيادة في النصوص الشرعية الثابتة ؟ وإلا لكان أدنى ظلم ، دافعاً لصاحبه إلى قول ما يشاء على الله ، والله يقول : { قُلْ إنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } ( آل عمران : 31 ) .
[145]
4 - جاء في كتاب مستمسك العروة الوثقى لعلامة الشيعة السيد محسن الحكيم ( 5/437 ) ما يلي : « هذا هو الأذان الصحيح ، لا يُزاد فيه ولا يُنقص منه ، والمفوضة لعنهم الله قد وضعو أخباراً زادوا بها في الأذان « محمد وآل محمد خير البرية » مرتين ، وفي بعض رواياتهم بعد « أشهد أن محمداً رسول الله » « أشهد أن علياً ولي الله » مرتين .
ومنهم من روى بدل ذلك « أشهد أن عليَا أمير المؤمنين حقاً » مرتين ، ولاشك أن عليًا ولي الله وأمير المؤمنين حقاً ، وأن محمداً وآله صلى الله عليهم خير البرية ، ولكن ليس ذلك في أصل الأذان » ، وهذا القول أيضاً مذكور في كتاب من لا يحضره الفقيه لابن بابويه القمي ( 1/188 ) .
5 - لو أن كل مسلم أعلن في الأذان المبادئ التي يريد الإفصاح عنها ، لكان الأذان بعد سنين عديدة يملأ مجلداً أو عدة كتب ، ولا يوافق على ذلك عاقل !
فعلى ضوء هذا ، ينبغي علينا التقيد بما ورد ، وكما نعلم فإن الأذان والصلاة والوضوء من أشهر العبادات التي وقعت في زمن النبوة ، وعلمها الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ، فما الذي خفي عليهم رضي اللهَ عنهم فعلمه الذين من بعدهم ؟
حيدر : الخلفاء الثلاثة الأول ، لم يُظهروا هذا الأمئرعلى الملأ من المسلمين .
خالد : جاء من بعدهم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وحكم قرابة أربع سنوات فما الذي منعه من أن يُظهر هذا الأمر ، وهو رضي الله عنه في الكوفة بين مناصريه ومؤيديه !!(4/113)
ولكنه رضي الله عنه تمسك بالحق ، وهو ما كان عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وسار عليه من بعده الخلفاء الثلاثة رضي الله عنهم أجمعين .
[146]
التكتف في الصلاة
حيدر : لا أعلم لماذا تتكتفون في الصلاة ، وتضعون أيديكم اليمنى على اليسرى ، وهذا الأمر لم تأتِ به الشريعة .
خالد : المسلم يعلم يقيناً بأن خير الهدي هدي محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ويتذكر في الصلاة الحديث الصحيح المشهور : « صلوا كما رأيتموني أصلي » ، ومن المعلوم بداهة في الدين الإسلامي أن أشهر عبادة فعلها النبي صلى اللّه عليه وسلم هي الصلاة ، وقد نقل الصحابة رضوان الله عليهم هذا الأمر مثل ما ذكر البخاري في صحيحه تحت باب « وضع اليمنى على اليسرى » عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : « كان الناس يُؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة » .
وجاء أيضاً في سنن أبي داود حديث : « إن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان يضع يده اليمنى على يده اليسرى ثم يشدّ بهما على صدره وهو في الصلاة » وأخرج الإمام أحمد بن حنبل من حديث قبيصة عن أبيه قال : « رأيت النبي صلى اللّه عليه وسلم ينصرف عن يمينه وعن يساره ، ورأيته يضع هذه على صدره ، وصَفّ يحي ( راوي الحديث ) اليمنى على اليسرى فوق المفصل » .
حيدر : وماذا نقول للذى لا يفعل هذا الأمر !
خالد : الأمر لا يبلغ إلى حد اللوم أو الجهالة على المسلمين كما جاء في كتاب تحرير الوسيلة للخميني ( 1/186 ) : « التكفير هو وضع إحدى اليدين على الأخرى نحو ما يضعه غيرنا ( أهل السُّنة ) ، ولا بأس به حال التقية » .
[147]
بل نعذره لأن وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة من المستحبات وليس من الواجبات أو الأركان ، ولكن يحذر المسلم أن لا يطبق شيء من هدي النبي صلى اللّه عليه وسلم وفعله فقط لأجل مخالفة مَن يكره ، من غير مذهبه ، فالحق أحق أن يُتبع .
[148]
الجمع بين الصلاتين(4/114)
خالد : لا زلت أراك حريصاً على الجمع بين الصلوات ، وإن لم يكن هناك من عذر أو حاجة ضرورية تدعوك إلى الجمع !
حيدر : حِرصُ الشيعة على الجمع بين الصلوات في الأوقات المفروضة ، نابع من تحريهم للحق الثابت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فلمَ نجده يقُابَل بالاستنكار من بعض السنة ؟ والشيعة فعلهم موافق تماماً لقوله تعالى : { أَقِم الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودا } (الإسراء : 78 .) وموافق للحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال : « جمع رسول الله صلى اللّه عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر » .
خالد : الأحكام الشرعية نرجع فيها إلى المصادر الأصلية ، وإلى فهم العلماء ، فقد جاء في تفسير بيان السعادة للحاج سلطان الجنابذي الشيعي ( 2/450 ) ما يلي : « ( أقم الصلاة لدلوك الشمس ) اللام بمعنى في ، أي في وقت دلوك الشمس وزوالها ( إلى غسق الليل ) إلى شدة ظلمته ، وفسر في الأخبار بانتصاف الليل ، وقد بين الآية في الأخبار بالصلوات الأربع ، الظهر والعصر والمغرب والعشاء ( وقرآن الفجر ) وقت اجتماع الفجر باعتراضه في الأفق إشارة إلى صلاة الصبح » .
حيدر : ولكن هذا لا يمنع أن تكون هناك خمس صلوات ، اثنتان تؤديان في وقت متشابك ، واثنتان في وقت متشابك آخر ويتبقى لدينا الصبح تؤدى في وقت منفرد .
[149]
خالد : ما ذكرته قد يقوله مَنْ لم ينظر إلى بقية أقوال العلماء ، فقد جاء في تفسير كنز الدقائق للميرزا محمد المشهدي القمي ( 5/584 ) بيان لتفصيل الصلوات في أوقاتها فمن ذلك : « وفي مَن لا يحضره الفقيه : وروى بكر بن محمد عن أبي عبدالله ( عليه السلام ) أنه قال : وأول وقت العشاء الآخرة ذهاب الحمرة ، وآخر وقتها إلي غسق الليل ، يعني نصف الليل » .(4/115)
ثم قال المشهدي : « وفي الكافي : ... عن يزيد بن خليفة قال : قلت لأبي عبدالله ( عليه السلام ) إن عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت ، فقال أبوعبدالله ( عليه السلام ) : إذاً لا يكذب علينا ، قلت : ذكر أنك قلت إن أول صلاة افترضها الله على نبيه ( صلى الله عليه وآله ) الظهر ، وهو قول الله ( عز وجل ) : { أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر } فإذا زالت الشمس لم يمنعك إلا سبحتك ، ثم لا تزال في وقت إلى أن يصير الظل قامة ، وهو آخر الوقت ، فإذا صار الظل قامة دخل وقت العصر ، فلم يزل في وقت العصر حتى يصير الظل قامتين ، وذلك المساء ، فقال : صدق » .
وراجع تفسير كنز الدقائق ( 5/486 ) لتقرأ حديث الحسن بن عبدالله عن آبائه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين عن النبي صلى اللّه عليه وسلم وحين أجاب اليهود عن الحكمة في أن الله سبحانه وتعالى جعل للصلوات خمس مواقيت .
حيدر : وما قولك في حديث ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قد جمع بين الصلوات من غير عذر ؟
خالد : ما ذكرت من الأدلة صحيح ، ولكن ما شأنها مع الصلوات الخمس اليومية ؟ لذا ينبغي علينا أن نتذكر الآتي :
[150]
ا - الصلاة من أشهر العبادات التي فعلها النبي صلى اللّه عليه وسلم ، لهذا لم نجد لبساً فيها عند الصحابة في شروطها وأركانها وواجباتها ...
2 - فعل النبي عليه الصلاة والسلام يوضح أو يخصص المجمل أو العام الذي في القرآن ، والأوقات المذكورة في الآية هي الأوقات الأساسية من حيث إن هناك صلاة للنهار وصلاة لليل ، وصلاة ، بينهما وهي الفجر .
والتفصيل أتى من النبي صلى اللّه عليه وسلم ، مثل ما فصّل في نصاب الزكاة وكيفية الحج والعمرة ، وعدد ركعات الصلاة وغيرها من العبادات .(4/116)
3 - حديث ابن عباس رضي الله عنه واضح في أنه ذكر الحالات التي يُباح الجمع فيها من فعل النبي صلى اللّه عليه وسلم ومنها الخوف والمطر ، فلمّا فعل صلى اللّه عليه وسلم أمراً جديداً ، بينّ ابن عباس السبب بقوله : « لئلا يُحرّج ( يشق ) على أمته » .
حيدر : يفُهم من هذا الأمر أنه لا حرج ولا لوم على من أخذ برخصة الجمع في الصلوات المفروضة اقتداء بفعل النبي صلى اللّه عليه وسلم .
خالد : الرخصة تُأخذ بقدرها ، والجمع من غير سبب مسوغ على الدوام عليه ، مخالف لما واظب عليه النبي عليه الصلاة والسلام ، والدليل على ذلك ما جاء في الوسائل ( 5/227 ) أن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه كتب لمحمد بن أبي بكر عندما ولاه على مصر : « وانظر إلى صلاتك كيف هي ، فإنك إمام لقومك ، ثم ارتقب وقت الصلاة فصلها لوقتها ، ولا تعجل بها قبله لفراغ ، ولا تؤخرها عنه لشغل ، فإن رجلاً سأل رسول الله صلى اللّه عليه وسلم عن أوقات الصلاة فقال : « أتاني جبريل ( ع ) فأراني وقت الظهر حين زالت الشمس فكانت على حاجبه الأيمن ، ثم أراني وقت العصر وكان ظل كل شيء مثله ، ثم صلى المغرب حين غربت الشمس ، ثم صلى العشاء الآخرة حين غاب
[151]
الشفق ، ثم صلى الصبح فأغلس بها والنجوم مشتبكة ، فصلِ لهذه الأوقات والزم السُّنة المعروفة والطريق الواضح » .
فإذا كانت هذه الآثار دالةً على الفعل الصحيح ، فعلى أي أساس إذن يقوم الشيعة دائماً بالجمع بين الصلاتين ؟ !
وهناك من يزعم أن علياً رضي الله عنه قد رد الشمس من مغربها لأداء صلاة العصر ، فهو إذاً يصليها لوحدها وليست جمعاً مع الظهر .
أليس من مظاهر توحد القلوب توحد الأفعال الظاهرة وتشابهها ؟
[152]
بناء المساجد
حيدر : لا زلت أعجب لحال البعض من إخواننا السُّنة ، على معارضتهم الدائمة لإخوانهم الشيعة ، من السماح لهم ببناء مساجد لهم في مناطق الكويت .(4/117)
خالد : وأنا أيضاً أخي الكريم ، أعجب من إخواننا الشيعة في استمرار مطالبتهم للحكومة في بناء مساجد لهم !
حيدر : سبحان الله ، وهل تريد أن تمنع مساجد الله من أن يذُكر فيها اسم الله وأن يعُبد فيها ؟
خالد : من خلال الحوار الذي يجري بيننا ، هل تشعر أن هناك من اختلافاً بين الشيعة والسُّنة يا أخ حيدر ؟
حيدر : وفق ما ذكرت من دلائل ، فليس هناك فرق ، ولله الحمد .
خالد : إذن ، لم الحاجة في تخصيص مسجد للسُّنة وآخر للشيعة ، وأنت قد علمت على ضوء ما تم نقاشه ، كيف أن الدين واحد ، والهدي النبوي واحد ، فلِمَ التفرق ؟
حيدر : وهل تظن أن الإخوة الشيعة ، لو دخلوا مسجداً من مساجد السنة ، فسيجدون الترحاب وعدم الإنكار ؟
خالد : أقسم بالله ، إنهم سيجدون كل محبة وتوقير ، لكل من يدخل بيت الله طائعاً لله ، يريد عبادة الله والصلاة له سبحانه ، وفق هدي المصطفى صلى اللّه عليه وسلم ، ووفق ما نقله إلينا أحبابه الصحابة رضي الله عنهم أجمعين .
[153]
حيدر : ولكن الواقع يخبرنا بأن صلاة الشيعة ووضوءهم يختلف عن إخواننا السنة !
خالد : من خلال هذا الحوار الذي نستمتع به ، هل أجدك مقتنعاً بهذا الواقع المخالف للأدلة من كتب العلماء المعتمدة ، أم أنك تعتمد على تلك الروايات التي تفرّق بين المسلمين ؟
حيدر : لا والله ، أنا على اقتناع بما نقله إلينا العلماء في كتب الحديث المعتمدة ، كالكافي ومن لا يحضره الفقيه وغيرها ، بل إن جمع شمل أهل الإسلام هو أقصى ما أتمناه في هذه الساعة .(4/118)
خالد : وعلى هذا تعلم يا أخي حيدر ، أن من يعارض إقامة مساجد منفصلة للشيعة ، إنما يعارض هذا التنافر في جعل أهل القبلة الواحدة يتفرقون في أعظم العبادات وهي الصلاة ، ويتمكن من بعد ذلك الشقاق والتنافر بين الجيران من الشيعة والسُّنة ، وليس القصد من المعارضة الوقوف في وجه إخوة لهم في المنطقة الواحدة ، وهل قرأت عن مسجد تم بناؤه من قبل الحكومة أنه خصص لطائفة معينة دون غيرها ؟
وأيضاً أليس دلالة الاتحاد والتماسك في القلوب يتمثل باتحادنا في باطننا ، والذي يتحقق بالصلاة والدعاء في بيت واحد يجمع أهل الحي الواحد ، وفق ما ثبت لنا بالنص الصحيح عن كيفية صلاة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ونقله إلينا الصحابة رضي الله عنهم .
[154]
رؤية الهلال
حيدر : أرى من بعض الإخوة السُّنة تساهلاً واضحاً في قضية تعُد عند جمع من العلماء من أهم الأحكام الفقهية ، ألا وهي قضية وقت الصيام والإفطار في رمضان .
خالد : وكيف يقع مثل هذا التساهل إن التزم المسلم بالأحاديث الواردة عن المصطفى صلى اللّه عليه وسلم كحديث : « صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته » .
حيدر : نجد أن هناك مَن يستعجل بالإفطار قبل أن يدخل الليل ، فما أن تغيب الشمس نجده يبادر فوراً إلى الأكل والشرب ، وهذا مخالف لقوله تعالى : { ثمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى الليْلِ } (البقرة : 187) ومعلوم أن الليل إنما يتبين إذا غاب في السماء .
خالد : هذا القول من أعجب ما سمعت ، وللعلم فإنه مخالف لما ذهب إليه علماء الشيعة والسُّنه في كتبهم .
حيدر : لم أقل هذه المقولة إلا نقلاً عن الأئمة المعتبرين .
خالد : أنت لم تنقل هذه الفتوى مباشرة من الكتب أليس كذلك يا أخ حيدر ؟ حيدر : الأمر كما تقول ، فلقد سمعتها من أحد علماء الدين في الحسينية قبل رمضان ، ونقلتها إليك كما حدثنا الشيخ .(4/119)
خالد : يا ليتك رجعت وبحثت هذه القضية من أحد الكتب المعتمدة ، والأمر الصحيح كما سأخبرك ، جاء في وسائل الشيعة ( 7/90 ) عن الصادق قال : « إذا غابت الشمس ، فقد حل الإفطار ووجبت الصلاة » .
[155]
وروى الحر العاملي في الوسائل أيضاً ( 7/87 ) عن زرارة قال : قال أبوجعفر عليه السلام : « وقت المغرب إذا غاب القرص » .
وجاء في كتاب فقيه من لا يحضره الفقيه ( 1/142 ) عن أبي عبدالله عليه السلام قال : « كان رسول الله !صلى اللّه عليه وسلم يصلي المغرب ، ويصلي معه حي من الأنصار يُقال لهم بنو سلمه ، منازلهم على نصف ميل ، فيصلون معه ، ثم ينصرفون إلى منازلهم وهم يرون مواضع سهامهم » .
ونقل عن الشيخ البروجردي في جامع أحاديث الشيعة ( 9/165 ) عن صاحب الدعائم قوله : « روينا عن أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين بإجماع فيما علمناه من الرواة عنهم ، أن دخول الليل الذي يحل الفطر للصائم هو غياب الشمس في أفق المغرب بلا حائل دونها يسترها من جبل أو حائط ولا غير ذلك ، فإذا غاب القرص في الأفق فقد دخل الليل وحل الفطر » .
بل أفعال الأئمة تشهد على حرصهم على هدي أبي القاسم صلى اللّه عليه وسلم مثل ما جاء في وسائل الشيعة ( 7/91 ) وجامع أحاديث الشيعة ( 9/166 ) عن حسين ابن أبي العرندس قال : رأيت أبا الحسن موسى عليه السلام في المسجد الحرام في شهر رمضان ، وأتاه غلام له أسود بين ثوبين أبيضين ومعه قلة وقدح ، فحين قال المؤذن : الله أكبر ، صب له وناوله وشرب .
حيدر : إذن الإسراع في الفطر هو الأصل في هذه العبادة ، والاحتياط على ضوء ما ذكرت تكلفٌ في غير محله .
خالد : الاحتياط من العبد في دينه دليل على ورعه ، وخوفه من الله ، ولا يكون هذا الاحتياط بتأخير المواقيت أو تقديمها ، كالإفطار والصلاة وغيرها ، ولكن
[156](4/120)
بالتأكد من سماع المؤذن وهو يعلن دخول المغرب ، وبالتأكد من أن الفجر دخل بسماع الأذان والمسلم مأمور باتباع ما ثبت عن المصطفى صلى اللّه عليه وسلم ونَقَله إلينا الأئمة الأعلام ، وليس هناك أجمل من توحد المسلمين في صلاتهم وصيامهم وفرحهم في الأعياد ، ليكونوا جسداً واحداً ، يسير وفق مرضاة الله ، وعلى نور من الله ، لينالوا حب الله سبحانه .
[157]
مشاورة النساء
حيدر : الحياة يا أخي أصبحت معقدة ، وتحتاج إلى مزيد من التعاون والبذل بين الرجل والمرأة .
خالد : التعاون والتفاهم والمشاركة في أعباء الحياة ، هدف نبيل ومقصد مبارك ، ينبغي أن يتحلى به الزوج مع الزوجة ، لمجابهة الحياة ومشاقها ، ولتأسيس بيت يحبه الله تعالى .
حيدر : ليس هذا ما عنيته ، ولكن التعاون والتفاهم في تحمل المسئولية السياسية ، وصنع القرار المناسب في البلد .
خالد : هل بالإمكان توضيح المقصد ؟
حيدر : أعني أن المرأة قد أثبتت كفاءتها في تحمل المسئولية ، ونالت من العلم أفضل المراتب والشهادات ، وكل هذه الأمور دالة على جودة عقلها ، وأنها جديرة بأخذ رأيها في تشريع القوانين النافعة لبلدنا الحبيب الكويت ، ووفق ما أعلم ، فليس هناك من مانع شرعي حيال هذا الأمر !
خالد : يا أخ حيدر ، لنأخذ الأمر بروية ، قبل أن تجرفنا العاطفة ، هل هذه القضية ، وهي مشاركة المرأة للرجل في تشريع القوانين ، والتي نصطلح عليه باختصار في الكويت بـ « المجلس البرلماني » ، هل كانت وليدة الزمن الحاضر ، أو لها جذور وارتباط بشريعتنا السمحاء ؟
حيدر : هي وليدة الزمن الحاضر منذ أن تم وضع الدستور في الكويت ، ولم يعهد لها سابق أمر في الدين الإسلامي .
[158](4/121)
خالد : لنراجع التاريخ قليلاً ، ولنتذكر كيف وصل الصديق ( رضي الله عنه ) إلى الخلافة ، أليس بانتخاب الصحابة ( رضي الله عنهم ) ومبايعتهم له ، أليست هذه صورة من صور الانتخاب ؟ كيف بلغ عثمان رضي الله عنه إلى سُدة الحكم ، أليس بترشيح من أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه ؟ ثم باختيار أهل المدينة له من بين الستة نفر من المرشحين ، فإذاً قضية الانتخاب والترشيح ليست بدعة جديدة طارئة علينا ، نحتاج فيها إلى رؤية جديدة .
حيدر : ولكن في ضوء تلك الممارسات ، أما كان للمرأة من مساهمة وتفاعل !
خالد : الصحابة رضوان عليهم علموا حق العلم ، دور المرأة الصحيح في المجتمع ، وكذلك الصحابيات رضي الله عنهن علمن ما هو دورهن في مسألة انتخاب خليفة المسلمين ، فعلمن أنهن غير مأمورات بمزاحمة الرجال في هذا المجال ، والواجب عليهن هو ملازمة البيوت .
حيدر : إذاً الأمر ليس فيه نص شرعي قاطع بعدم ترشيح المرأة أو انتخابها أو مشاورتها في تشريع القوانين !
خالد : أما عن النصوص الشرعية الدالة على عدم الجواز ، فمن ذلك ما ذكره الإمام البخاري ( رحمه الله ) في صحيحه من قول النبي صلى اللّه عليه وسلم : « ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة » ، وذلك بمقابل ما فعله الفرس من تولي زمام الحكم عندهم لامرأة .
ونص مشابه لهذا النص ذكره الحاج حسين الطبرسي في مستدرك الوسائل ( 14/263 ) قال : دخل الغاضري على الحسن عليه السلام فقال : « إني عصيت رسول الله صلى اللّه عليه وسلم ، فقال : بئس ما عملت ، كيف ؟ قال : قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم : لا يفلح قوم مُلكت عليهم امرأة ، وقد ملكت عليّ امرأتي ، وأمرتني أن أشتري عبداً ، فاشتريته فأبق مني ..... » .
[159]
فإذا كان هذا الرجل ظن أنه عصى النبي صلى اللّه عليه وسلم لاستماعه إلى رأي زوجته في أمر المنزل ، فماذا نقول للذي يملّكها زمام حياته كلها لتشرع له جميع القوانين ؟ !(4/122)
بل لقد بلغ الترهيب من مشاورة النساء في المذهب الشيعي إلى اللعن !
حيدر : سبحان الله ، إلى هذا الحد من المنع !
خالد : نعم ، فقد جاء في فروع الكافي ( 5/517 ) قول أمير المؤمنين عليه السلام : « كلُّ امرئ تدبره امرأة ، فهو ملعون » .
وجاء في مستدرك الوسائل ( 4 1/261 ) وبحار الأنوار ( 53 1/223 ) عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال : « لا تطيعوا النساء على حال ، ولا تأمنوهن على مال ، ولا تثقوا بهن في الفعال ، فإنهن لا عهد لهن عند عاهدهن ، ولا ورع لهن عند حاجتهن » .
وجاء أيضاً في فروع الكافي ( 5/516 ) قول النبي صلى اللّه عليه وسلم : « طاعة المرأة ندامة » .
حيدر : لعل الأمر لا يصل إلى حد منع المشاورة مع النساء !
خالد : حتى المشاورة جاء المنع فيها في المذهب الشيعي ، وهذا المنع ثابت في كتاب فروع الكافي عن أبي جعفر رحمه الله تعالى بقوله : « لا تشاوروهن في النجوى ، ولا تطيعوهن في ذي قرابة » ، وجاء في حاشية الكتاب معنى النجوى : أي الأمر الذي ينبغي إخفاؤه ، فإنهن يفشين ذلك .
وجاء عن أبي عبدالله قوله : « إياكم ومشاورة النساء ، فإن فيهن الضعف والوهن والعجز » ، أو مقولة : شاوروهن وخالفوهن .
حيدر : المرأة قد حازت في زمننا الحاضر ، أعلى المناصب في الوظيفة ، وكان لها
[160]
الدور الفعال في مجريات الأحداث ، فكيف نغفل من دورها في المجتمع ، ونمنعها من أن تتولى أمور الولاية !
خالد : ما يميز أهل الإسلام تقيدهم الوثيق بدينهم وشرعهم ، وإن خالف هواهم أو ما عليه الكثير من الناس ، وخاصة أهل الباطل ، وقد جاء النص صريحاً في كتب الشيعة المعتمدة من عدم جواز تولي المرأة أي شيء يتعلق بالولاية العامة ، مثل القضاء والوزارة والحكم ، ففي كتاب بحار الأنوار (103/254 ) من وصية النبي صلى اللّه عليه وسلم لعلي عليه السلام : « يا علي ليس للنساء جمعة ولا جماعة .... ثم قال : ولا تولى القضاء ولا تستشار » .(4/123)
وهذه النصيحة وصى بها الصادق رحمه الله كما جاء في بحار الأنوار بقوله : « ليس على النساء أذان ولا إقامة ولا جمعة ولا جماعة .... ثم قال : ولا تولى القضاء ولا تولى الإمارة ولا تستشار ... » .
فأظن أنه ليس بعد هذا الوضوح من توضيح يا أخ حيدر .
حيدر : هل أفهم أن المرأة لا دور لها في المجتمع ؟
خالد : لم يقل هذا أحد من المسملين ، فالمرأة نصف المجتمع ، ولها دور مهم وعظيم في بناء المجتمع ، مثل تنشئة الأولاد وحفظ البيت ورعاية الزوج ، ولقد جاء في بحار الأنوار ( 103/245 ) : « إن جهاد المرأة حسن التبعل » ، فلهذا لم يكن أمر الله سبحانه للنساء عامة ولنساء النبي صلى اللّه عليه وسلم خاصة بالاستقرار في البيت إلا لأمر عظيم ومقصد كبير واضح لمَنْ تفكر فيه .
حيدر : البعض من الناس ، يظن أن عدم إعطاء المرأة حقها السياسي بالانتخاب والترشيح يعد احتقاراً لها ونقصاً في كرامتها .
خالد : هذا من التناقض العجيب ، ومن هو الذي منحها مثل هذا الحق ، حتى نقول إن لها حقاً سياسياً ، سلبه منها ، فيحاول البعض إرجاعه إليها !
[161]
وأيضاً هل إبعاد المرأة عن معارك الكلام والتجريح الانتخابي ، يعد تحقيراً لها ! بل هو تكريم وتشريف لها ، وصيانة لها عن مواقع الشبهة ، فإننا نعلم جميعاً أن أيام الانتخابات ، في أي بقعة من العالم ، قلما تخلو من تجريح أو قذف أو إشاعة مغرضة تمس الأعراض أو النوايا للمرشحين ، وهذا حاصل بين الرجال ، فما الظن إن نزل مثل هذا الشرر على كريمات الأسر العفيفة ، فهل هناك مَن يرضى بأن تتعرض إحدى نسائه لمثل هذا الكلام الجارح ؟ !
حيدر : أخواتنا النساء ، وخاصة المثقفات ، يردن أن يدُلين بآرائهن المستنيرة التي تنفع البلاد والعباد ، وخاصة في ظل الأوضاع الراهنة المتقلبة .(4/124)
خالد : الرأي لم يُحجر على أحد ، وكما قيل المرء كثير بإخوانه ، فما علاقة نصح المرأة ، وإدلائها برأيها أو اقتراحاتها ، بالانتخاب والترشيح ؟ وللعلم حتى النصح وإبداء الاقتراحات ، ينبغي ألا يخالف الشرع .
حيدر : وكيف ذلك ؟
خالد : جاءت نصوص واضحة في كتب الشيعة تنص على أن المرأة ينبغي عليها ألا تخرج من منزلها إلا للضرورة ، ولا تتكلم مع الأجانب إلا في حال الضرورة ، فمما جاء في هذا الأمر في كتاب بحار الأنوار ( 103/242 ) : « أن النبي صلى اللّه عليه وسلم نهى أن تتكلم المرأة عند غير زوجها ، وغير ذي محرم منها أكثر من خمس كلمات مما لابد لها منه » .
ومما أوصى به أمير المؤمنين ابنه الحسن : « أياك ومشاورة النساء ، فإن رأيهن إلى أفن ، وعزمهن إلى وهن ، فاكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إياهن ، فإن شدة الحجاب أبقى عليهن ، وليس خروجك بأشد من إدخالك مَنْ لا يوثق وإن استطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل » .
فهذه نصوص لا تُجوِّز للمرأة محادثة الأجانب ، وفي المجلس البرلماني حوار ونقاش وكثرة كلام ، فهل هناك من نصوص شرعية تجوّز لها هذا الأمر ؟
بل إن النبي صلى اللّه عليه وسلم كما ثبت في بحار الأنوار ( 103/250 ) يقول : « النساء عي ( أي جاهلات ) حمقاوات وعورة ، فداووا عيهن بالسكوت ، وعوراتهن بالبيوت » .
حيدر : هناك نماذج وأمثلة باهرة تدل على جواز تولي المرأة للمناصب القيادية أو ما يطلق عليه بالولاية العامة .
خالد : لعلك تعني ملكة سبأ وشجرة الدر ، ومَنْ تولى زمام رئاسة الوزراء من نساء مشركات أو مسلمات في زمننا الحاضر .
حيدر : هذا ما أردت أن أذكره ، فهل نحجب التاريخ ، ونغض الطرف عن مثل هذه النماذج الرائعة وأيضاً مثل مشاركة خولة بنت الأزور للرجال في القتال ؟(4/125)
خالد : هناك حقائق تاريخية لا ينكرها إلا المكابر ، ولكن لنسأل أنفسنا ، ما علاقة هذه الأمثلة بما ذكرته لك آنفاً من نصوص شرعية من كتب أهل السنة أو الشيعة ، والدالة على تجنيب المرأة الخوض في غمار الترشيح والانتخاب ؟
فهل نحن مأمورون بشرع ملكة سبأ الكافرة في اليمن ؟ والتي لما تبين لها الحق دخلت في الإسلام مع نبي الله سليمان ، وكانت بعد ذلك تحت أمره وحكمه ، وهل نحن مأمورون بأن تقتدي نساؤنا بشجرة الدر ، والتي حاولت أن تخفي موت الملك ليستمر لها تنفيذ ما تريد في الحكم ، فهل تمت مبايعتها على الحكم من الشعب ، أم أن الأمر حازته لفترة قصيرة بالكذب والخداع ، ثم عوقبت من جراء ما فعلته من خديعة .
[163]
وهل بلغ بنا الحد من الجهل حتى نستدل بشخصيات وهمية وأسماء لا وجود لها في التاريخ مثل اسم خولة بنت الأزور في تنظيم حياتنا ؟
وما شأننا بأحوال الكفار في الغرب أو الشرق أليس لنا دين يعصم أمرنا ويقود حياتنا أم أننا نتبع كل ناعق بما يقول ؟
حيدر : على ضوء ما ذكرت ، يتبين لي أن المذاهب الإسلامية جميعها تُبعد المرأة من الولاية العامة ، والمتمثةا بتشريع القوانن أو القضاء وما شابهه .(4/126)
خالد : لا أقول جميع المذاهب ، ولكن أهل السُّنة وكذلك الشيعة الإمامية لديهم الأدلة الواضحة على أن المرأة لا يجوز لها أن ترشح نفسها في مجلس الأمة أو المجالس التشريعية التي تحمل صفة الولاية العامة للأمة ، وهذا الأمر مناط بالرجل وحده ، وذلك لحكم النبي صلى اللّه عليه وسلم على المرأة بأنها ضعيفة ، وكما قال علي رضي الله عنه : « جمال الرجال في عقولهم » ، فلمَ لا نصون هذه الجوهرة ونحفظها في مملكتها ، والتي تهتم فيها ببيتها وزَوجها وأولادها ، الذين هم أس المجتمع وعماده ؟ ولنعلم أن حق الزوج عليها كبير كما جاء في بحار الأنوار ( 103/247 ) قول النبي صلى اللّه عليه وسلم : « لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد ، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها » .
فلنتقِ الله ولا نُخرج المرأة الضعيفة من بيتها ، الذي هو سترها وحياؤها وجمالها ، إلى وحل السياسة ، والذي زلت فيه أقدام فرسان وشجعان .
[164]
توقير آل البيت رضوان الله عليهم
حيدر : آل بيت النبي صلى اللّه عليه وسلم ، حبهم وتوقيرهم ونصرتهم ، ودفع السوء عنهم أمر واجب مفترض على كل مسلم .
خالد : هذا الأمر مجمع عليه بين المسلمين من وجوب نصر آل بيت المصطفى صلى اللّه عليه وسلم من نسل علي أو جعفر أو عقيل أو كل بني هاشم وقيل معهم بنو المطلب بن عبدمناف ، مع زوجات النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ولا نلتفت إلى أقوال الشواذ ممن أنقصوا من قدر آل البيت أو قللوا من شأنهم ، وننبذ الروايات التي تحط من منزلتهم .
حيدر : مثل هذه الروايات السقيمة في فحواها لن تجدها إلا في كتب شاذة لا يلتفت لمؤلفيها ، بل هم مغمورون لا يأبه بهم .
خالد : أبداً ! بل هم من أوثق الرواة وأجل العلماء عند أصحابهم ، ولأضرب لك بعض الأمثلة :(4/127)
* جاء في « رجال الكشي » وفي معجم رجال الحديث للخوئي عن زياد بن أبي الحلال قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : إن زرارة روى عنك في الاستطاعة شيئاً فقبلناه منه وصدقناه ، وقد أحببت أن أعرضه عليك فقال :
هاته ، فقلت : يزعم أنه سألك عن قول الله - عز وجل - : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } ( آل عمران : 97) ، فقلت : من زاد وراحلة ، فقال ( أي زرارة ) : كل من ملك زاداً أو راحلة فهو مستطيع للحج وإن لم يحج ؟
[165]
فقلت له : نعم . فقال أبو عبدالله : « ليس هكذا سألني ولا هكذا قلت ، كذب علي والله ، كذب علي والله ، كذب علي والله ، لعن الله زرارة ، لعن الله زرارة ، لعن الله زرارة ، إنما قال لي : من كان له زاد وراحلة فهو مستطيع للحج ؟ قلت : قد وجب عليه . قال ( أي زرارة ) : فمستطيع هو ؟ فقلت : لا ، حتى يؤذن له » . قلت ( أي زياد ) : فَأخْبر زرارة بذلك ؟ قال : نعم . قال زياد : فقدمت الكوفة فلقيت زرارة فأخبرته بما قال أبوعبد الله ، وسكتُّ عن لعنه قال ( أي زرارة ) : أما إنه أعطاني الاستطاعة من حيث لا يعلم ، وصاحبكم هذا ( أي أبا عبدالله ) ليس له بُعد ( بصر ) بكلام الرجال . وجاء أيضاً في كتاب تنقيح المقال أن زرارة قال عن الباقر والصادق : رحم الله أبا جعفر ، وأما جعفر فإن في قلبي عليه لفتة ، فقلت له ( أي راوي الحديث ) : وما حمل زرارة على هذا ؟ قال : حمله على هذا أن أبا عبدالله أخرج مخازيه .
وللعلم فـ ( زرارة ) هذا يعد أكثر الرجال رواية لأحاديث آل البيت وأوثقهم .
حيدر : هل حكم أحد من العلماء على مثل هذه الروايات بعدم القبول ؟
خالد : لم أعهد أن هناك كتباً فندت مثل هذه الروايات ، وللعلم فإن هذه الروايات لا تحتمل التقية ، لأن السؤال خرج من أحد شيعة المذهب ، وليس من رجل عامي ، يُتقى من أمره .(4/128)
وحب الآل واجب على كل مسلم كما قال الصديق ( رضي الله عنه ) : « فوالله لإن أصل آل بيت النبي صلى اللّه عليه وسلم أحب اليَّ من أن أصل قرابتي » .
وكما قال الإمام الذهبي في كتابه المنصف القيم « سير أعلام النبلاء »
[166]
في ( ج 13/120 ، 121 ) مبيناً اعتقاد أهل السُّنة في أئمة آل بيت النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال رحمه الله تعالى : « فمولانا علي من الخلفاء الراشدين ، المشهود لهم بالجنة رضي الله عنهم ، نحبه أشد الحب ، ولا ندعي عصمته ولا عصمة أبي بكر الصديق ، وابناه الحسن والحسين ، سبطا رسول الله صلى اللّه عليه وسلم وسيدا شباب أهل الجنة ، لو استُخلفا لكانا أهلاً لذلك .
وزين العابدين : كبير القدر ، من سادة العلماء العاملين ، يصلح للإمامة ، وله نظراء ، وغيره أكثر فتوى منه ، وأكثر رواية .
وكذلك ابنه أبوجعفر الباقر : سيدٌ ، إمام ، فقيه ، يصلح للخلافة .
وكذا ولده جعفر الصادق : كبير الشأن ، من أئمة العلم ، كان أولى بالأمر من أبي جعفر المنصور .
وكان ولده موسى : كبير القدر ، جيد العلم ، أولى بالخلافة من هارون ، وله نظراء في الشرف والفضل .
وابنه علي بن موسى الرضا : كبير الشأن ، له علم وبيان ، ووقع في النفوس ، صيره المأمون ولي عهده لجلالته ، فتُوفي سنة ثلاث ومائتين .
وابنه محمد الجواد : من سادة قومه ، لم يبلغ رتبة آبائه في العلم والفقه . وكذا ولده الملقب بالهادي : شريف جليل .
وكذلك ابنه الحسن بن علي العسكري ( رحمهم الله تعالى ) فأما محمد بن الحسن ، خاتمة الإثنى عشر سيد ، الذي تدعي الإمامية عصمتهم - ولا عصمة إلا لنبي - الذين يزعمون أنه الخلف ، الحجة ،
[167](4/129)
وأنه صاحب الزمان ، وأنه صاحب السرداب بسامراء ، وأنه حي لا يموت حتى يخرج فيملأ الأرض عدلاً وقِسطاً كما مُلئت ظلماً وجوراً ، فوددنا ذلك - والله - وهم بانتظاره من أربعمائة سنة ( وقت الإمام الذهبي ) ومن أحالك على غائب لم ينصفك ، فكيف بمن أحالك على مستحيل ؟ والإنصاف عزيز ، فنعوذ بالله من الجهل والهوى » .
والله نسأل أن يوفقنا إلى الحق والإنصاف دائماً .
[168]
مسلم وكافر
خالد : من أقسى الأمور وقعاً على نفس المسلم ، أن يجد الإنسان أناساً من المسلمين ، يقذفون بالكلام الشنيع على عوام المسلمين !
حيدر : هذا أمر خطير والواجب على المسلم أن يحُب لأخيه ما يحب لنفسه .
خالد : إطلاق كلمة الكفر والضلال ، على عباد الله أمر كبير وخطير ، ينبغي على المسلم أن يتثبت من هذه الكلمة ، قبل أن يرسلها على أحد من الخلق .
حيدر : قلوب الشيعة ولله الحمد ، تمتلئ بالحب والتسامح مع بقية الخلق ، وحتى مع المخالفين ، وكما يقال : الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية .
خالد : هذا الأمر واقعياً غير متحقق يا أخ حيدر .
حيدر : بيّن ما ترمي إليه ، فالمثال يفسر المقال .
خالد : حسب ما أقرأ ، فإن علماء الشيعة قد كفَّروا كُلَّ مَن لم يدخل في مذهب الشيعة الإمامية الاثنى عشرية .
حيدر : إن كان ما تقول صواباً ، فوالله إن هذا لهو الافتراء الشنيع الذي لم يسُبق إليه أحد .
خالد : جاء في كتاب « رجال الكشي (6) » بسنده عن « ... حنان بن سدير عن أبيه عن أبي جعفر عليه السلام قال : « كان الناس أهل ردة بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم إلا ثلاثة ، فقلت : ومن الثلاثة ؟ فقال : المقداد بن الأسود ، وأبو ذر الغفاري ،
[169]
وسلمان الفارسي ، ثم عرف الناس بعد يسير ، وقال : هؤلاء الذين دارت عليهم الرحا ، وأبوا أن يبايعوا لأبي بكر ، حتى جاءوا بأمير المؤمنين ، مكرهاً فبايع » .(4/130)
ولربما زاد العدد في بعض الروايات فبلغ السبعة ، وأما البقية من الصحابة ، فتقول الروايات أنهم قد هلكوا !
حيدر : ولكن الذين كانوا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في حجة الوداع قد ناهزعددهم المائة ألف مسلم ، فأين هم ؟
خالد : سؤالك سديد ، والروايات الشيعية تجيب عليه ، مثل الرواية السابقة ، ولم يقتصر الحكم بالتكفير على الصحابة فقط ، بل تجاوزه إلى تكفير ولعن أهل الإسلام في كل زمان ومكان !
حيدر : المسلمون كما أخبر الله إخوة متحابون ، فكيف يأتي إنسان ويكفرهم ؟
خالد : التكفير واقع لاشك فيه على كل مَنْ لم يعتقد إمامة الأئمة مثل ما ذكر البحراني في الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة ( 18/153 ) : « وليت شعري أي فرق بين مَن كفر بالله سبحانه وتعالى ورسوله ، وبين من كفر بالأئمة عليهم السلام ، مع ثبوت كون الإمامة من أصول الدين » .
وبيّن الملا محمد المجلسي في بحار الأنوار ( 23/390 ) نتيجة تكفير منكر الإمامة فقال : « اعلم أن إطلاق لفظ الشرك والكفر على مَن لم يعتقد إمامة أمير المؤمنين والأئمة من ولده عليهم السلام وفضّل عليهم غيرهم ، يدل أنهم مخلدون في النار » .
وقال ابن بابويه في الاعتقادات ( 112 ) : « فمن ادعى الإمامة وليس بإمام فهو الظالم الملعون ، ومن وضع الإمامة في غير أهلها ، فهو ظالم ملعون » .
[170]
فهذا تكفير للحاكم والمحكوم ، من قِبل رجل ظلم أهل الإسلام .
ولم يقتصر الأمر على عوام المسلمين بل تعداه إلى تكفير آل البيت !
حيدر : سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم !!
خالد : المسلم العاقل يسمع ثم يحكم ولا يلقي الكلام جزافاً ، من المعلوم يا أخ حيدر أن ابن عباس من آل بيت النبي صلى اللّه عليه وسلم لأنه ابن عمه ، فماذا تقول فيمن يدعو عليه باللعنة ، وأن يعمي الله بصره وبصيرته هو ووالده ، وأنه سخيف العقل وجاهل ؟
حيدر : أحكم عليه بالجهل وسوء القول .(4/131)
خالد : إذاً فهذه المقولة موجودة في كتاب تفسير العياشي ( 1/99 ) وكتاب البرهان ( 1/319 ) وتفسير الصافي ( 1/389 ) ، ولم يتوقف التكفير عند حد معين بل اتسعت دائرته لتشمل كل آل البيت إن لم يتبعوا المذهب الإمامي ، فنص صاحب الكافي ( 1/372 ) في رواياته على أن كل مَن لم يؤمن بالإثنى عشر فهو كافر ، وإن كان علوياً فاطمياً .
حيدر : ولكن لربما هذه الأحكام في حق مَن أنكر شيئاً من الدين ، أو جحد أمراً معلوماً من الدين بالضرورة ؟
خالد : يا أخ حيدر ، النصوص واضحة ، دالة دلالة لا لبس فيها على أن المؤمن هو الشيعي الاثنى عشري وما سواه - ولا حول ولا قوة إلا بالله - نحكم عليه بالكفر ، ومع أن النبي صلى اللّه عليه وسلم طوال دعوته لم يكفر أحداً من الذين كانوا حوله ، شيوخاً أو شباباً ، رجالاً أو نساءً ممن دخلوا في دين الإسلام بسبب قضية الإمامة أو الجهل فيها ، ولربما يأتيه الأعرابي من الصحراء ويسأل عن الإسلام فيجيبه النبي صلى اللّه عليه وسلم بأمور ليس فيها الإمامة أو ولاية علي رضي الله عنه ، فهل
[171]
نحن أعلم بالدين من سيد البشر صلى اللّه عليه وسلم ؟ فحذار يا أخ حيدر أن نرسل كلمة الكفر على أحد من أهل التوحيد والصلاة ، فديننا دين خير ومحبة ، وليس دين لعن وتكفيرً بين الأخوة المؤمنين .
[172]
التاريخ والبطولات
خالد : تاريخنا يا أخ حيدر ، مليء بنماذج طيبة يُحتذى بها في كل ميدان من ميادين الحياة .
حيدر : وأيضاً يا أخي خالد ، كتب التاريخ ولله الحمد موجودة ومتيسر الحصول عليها ، وفيها التحقيق والتثبت من الروايات .
خالد : أما الكثرة فهي كذلك ، وأما التثبت فيخفى أمره على الكثير من العوام .
حيدر : هلاّ أوضحت هذا الأمر إن أمكن ؟(4/132)
خالد : كتب التاريخ الماضية ، مثل كتاب إمام المؤرخين محمد بن جرير الطبري ( رحمه الله ) ، لم يشترط فيه ذكر الروايات التاريخية الصحيحة فقط ، ولكنه جمع جُل ما بلغه من روايات ، وذكر اسم الشخص الذي تعوّل عليه الرواية ، فقال ( رحمه الله ) في مقدمة تاريخه ( تاريخ الأمم والملوك ) :
« وليعلم الناظر في كتابنا هذا ، أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكرَه فيه ، مما شرطت أني راسمه فيه ، إنما هو على ما رُويتُ من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه ، واللآثار التي أنا مُسندها إلى رواتها فيه ... ثم يقول : فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه ، أو يستشنعه سامعه ، من أجل أًنه لم يُعرف له وجهاً في الصحة ، ولا معنىً في الحقيقة ، فليعلم أنه لم يُؤتَ في ذلك من قبَلنا ، وإنما أتي من قبَل بعض ناقليه إلينا ، وإنا إنما أدينا ذلك ، على نحو ما أُدَي إلينا » .
حيدر : إذاً مَن يأتي وينسب حادثة موجودة في أي كتاب تاريخ ، فينبغي عليه أن يتحقق من صدق الراوي ، ولا يعول على اسم الكتاب أو المؤلف فقط .
[173]
خالد : مثل ما قلت يا حيدر ، ومع هذا لنرجع إلى ما أحببنا الحوار حوله ، وهو وجود نماذج من الأسماء المباركة التي يقتدي بها المسلم .
حيدر : مما لا شك فيه أنك تعني وتقصد آل بيت النبي صلى اللّه عليه وسلم جميعهم ، فهم لهم نصيب الأسد بالاقتداء ، وضرب المثل ، فيما قدموه وما فعلوه من خير في سبيل الله .
خالد : أعني بالدرجة الأولى الذين كانوا مع النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فإن ذكرت الشجاعة فعليك بأبي بكر رضي الله عنه الذي دافع عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أكثر من مرة في مكة قبل الهجرة وبعدها ، وكذلك أبي الحسن علي رضي الله عنه ، الذي كان يُضرب به المثل في المبارزة ، وأيضاً خالد بن الوليد ( سيف الله المسلول ) والبراء بن مالك وجعفر بن أبي طالب وغيرهم كثير رضي الله عنهم .(4/133)
حيدر : ولكن بعض الأسماء التي ذكرتها ، يشكك بعض العلماء في إخلاصها للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، وأنها إنما أسلمت خوفاً من سيوف المسلمين .
خالد : ومَنْ الذي أعلمنا بما في صدور العالمين ؟ وهل أمرنا الله أن نفتش وننظر في قلوب الناس ؟ أم أننا فقط ننظر إلى أعمالهم وتضحياتهم ، والله يتولى السرائر .
ولا يشك مطلع على التاريخ ، بأن خالد بن الوليد ( رضي الله عنه ) قد كتب الله على يديه من الخير ، ما لم ينله غيره ، فهو الذي أذل رقاب الفرس والروم بجيشه وأفنى حياته في سبيل الله ، فهل يأتي جاهل في التاريخ يقول عنه : أنه كان خائفاً من سيوف المسلمين ، أو إن إسلامه فيه شكٌ ، وهل نتذكر قطرة السوء ونقفل عن بحار الحسنات ؟
حيدر : وهل هناك ميادين أخرى تميز بها الصحابة رضي الله عنهم ؟
[174]
خالد : إن شئت فقل حازوا الفضل كله في جميع الميادين ، العلم ، الكرم ، التضحية ، حب النبي صلى اللّه عليه وسلم ، حفظ القرآن الكريم ، حماية النبي صلى اللّه عليه وسلم ، الطاعة المطلقة لأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم ... بل لنقل اختصاراً كل ميادين الاقتداء .
حيدر : هذا ليس بالشيء الجديد لنذكره ، فهو موجود في كتب علماء الشيعة المباركة ، وقد تناولوا هذا الجانب وبينوه أفضل بيان .
خالد : هذا من أعجب الكلام الذي سمعته منك يا أخ حيدر ، فالواقع والمكتوب يناقض تماماً لما تذكره .
حيدر : وكيف هذا ؟ ومجالس العلم والحوزات العلمية ، تعلِّم شباب المسلمين ما فعله هذا الجيل الفريد .
خالد : هل بالإمكان أن تذكر لي اسم كتاب سطر فيه مؤلفه أمثلة لبطولات الصحابة ، والأعمال الجليلة التي بذلوها للإسلام ونصرته ؟
حيدر : لا يحضرني الآن اسم كتاب في هذا المجال .(4/134)
خالد : لو قلبت كتاب « الإصابة في تمييز الصحابة » لابن حجر العسقلاني ، أو كتاب « الاستيعاب في الأصحاب » لابن عبد البر الأندلسي ، أو كتب تراجم الرجال ، لعلمت الذي أريده منك ، بل هل جلست ذات مرة في مجلس علم وسمعت عالماً أو إماماً يتحدث عن غزوة بدر أو الخندق أو فتح مكة أو الفتوحات الإسلامية المباركة التي تمت في عهد الفاروق عمر رضي الله عنه ؟
حيدر : في الحقيقة ، لم أسمع ، ولكنني قد قرأت شيئاً يسيراً في هذا الموضوع .
خالد : هذا ما أريد أن أوصله لك يا أخ حيدر ، لو تعطرت مجالسنا بتناول سيرة النبي
[170]
صلى اللّه عليه وسلم وما حدث فيها من بطولات وتضحيات وأمثلة ، يعجزُ أحدنا أن يتخيل حدوثها في هذا الزمان ، فهل ستجد مَنْ ينتقص أحداً من صحابة النبي صلى اللّه عليه وسلم أو يشكك في إسلامه ، أو حتى يظن فيه الظن السوء ، فالظن السيء لا يأتي إلا من قِبل الذي جهل حال الكرام ، ولم يبلغ درجتهم في الفضل .
[176]
ميراث النبي صلى اللّه عليه وسلم
حيدر : أقسى شيء في الحياة ، أن الإنسان يُمنع من حقٍ قد ثبت له !
خالد : وخاصة إذا كان هذا الحق قد ثبت له بطريق صحيح ، ولا يشوبه أي شائبة .
حيدر : إذاً ما قولك يا أخ خالد ، في ذلك الذي يمنع سيدة نساء العالمين عليها السلام من إرثها المستحق لها من سيد المرسلين صلى اللّه عليه وسلم ، هل يكون قد أنصفها أو ظلمها ؟
خالد : لعلك تريد أن نتحاور حول أرض فدك ، وادعاء سيدة نساء العالمين فاطمة رضي الله عنها أن لها نصيباً في هذه الأرض ، من بعد وفاة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وأن الصديق رضي الله عنه رفض أن يعطيها إياه ؟
حيدر : ولمِ الحوار والنقاش ، وأنت توافقني في أن أبابكر رضي الله عنه قد خالف المتعارف عليه بين المسلمين من حق البنت في تركة والدها ؟(4/135)
خالد : الإرث معلوم أمره في الشريعة الإسلامية ، والصديق رضي الله عنه لم يمنع فاطمة رضي الله عنها فقط ، فللعلم إن أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم لهن نصيب في هذا الميراث ، كعائشة وحفصة رضي الله عنهما فهما تشتركان في الثمن مع باقي النسوة ، وأيضاً العباس رضي الله عنه ، له نصيب وهو من العصبة فيأخذ الباقي تعصيباً .
فلمَ الدفاع عن فاطمة رضي الله عنها وحدها ، ولا نتكلم عن البقية الذين لم يحَصلوا على حقهم إن كان لهم حق ؟
حيدر : لأن النبي صلى اللّه عليه وسلم قد قال : « فاطمة بضعة مني يريبني ما أرابها ويوذيني ما
[177]
آذاها » ، وهذا الحديث في البخاري ، ففاطمة اذاً مميزة من البقية .
وقال : « إن الله يغضب لغضبها ويرضى لرضاها » .
خالد : ما ذكرته من الاستدلال صحيح ، ولكنها من رواية الإمام مسلم وليس البخاري ، أما الأثر الثاني فرواية البخاري هي : « فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني » ، ولكن الصديق رضي الله عنه لا يظن به إنسان عاقل من أنه تعمد أو حاول إيذاء بنت رسول الله صلى اللّه عليه وسلم ، ولكنه ( رضي الله عنه ) امتثل لأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم أن الأنبياء ما يتركونه خلفهم ، إنما هو صدقة للمسلمين .
حيدر : سبحان الله ! المولى سبحانه يقول في القرآن : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ } (النمل : 16) وأنت تخالف هذا الأمر وتزعم أن هناك حديثاً ينقض القرآن !
خالد : على رسلك قليلاً يا أخ حيدر ، ولنأخذ الأمور بتروٍ .
الآية تبين أن نبي الله سليمان قد ورث أمراً ما من والده داود عليهما الصلاة والسلام ، ولم تحدد الآية الكريمة نوع هذا الموروث ، فجاءت السنة الصحيحة لتبين لنا بوضوح أن هذا الموروث هو العلم والنبوة ، وليس شيئاً من متاع الدنيا وزينتها . لأن يعقوب له من الذرية غير سليمان فتم تحديد سليمان بالأرث لنعلم أنه ورث غير المتعاهد والمعروف بين الناس .(4/136)
حيدر : ولكن الحديث اللذي ذهبت إليه غير صحيح ، ولا يُحتح به .
خالد : هذا من أعجب الأقوال التي سمعتها أذني !
حيدر : ولم ذلك ؟
خالد : إذا كان الحديث الذي يدعم رأيك يصبح صحيحاً ، والذي يُبطل كلامك يكون ضعيفاً وغير صحيح ، فأين الإنصاف وميزان العدل في المناقشة ؟
وللعلم فقد جاء الحديث الذي يرد عليك في البخاري ومسلم من قوله صلى اللّه عليه وسلم :
[178]
« لا يقتسم ورثتي ديناراً ولا درهماً وما تركت - بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي - فهو صدقة » .
وللعلم يا أخ حيدر الحديث الذي يدل على أن الموروث من الأنبياء هو العلم قد رواه علماء السنة والشيعة .
حيدر : لم أقل هذا القول من عندي ولكني أستند على قول الإمام الخميني في كتاب كشف الأسرار ( 132 ) يقول : « ما نسبه أبو بكر إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم إنما هو مخالف للآيات الصريحة حول إرث الأنبياء ومنها ، وورث سليمان داود ، فهل يجوز أن نكذب الله ، أو نقول بأن النبي قال كلاماً يخالف أقوال الإله أم نقول إن الحديث المنسوب إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم لا صحة له ... » ، فما هو ردك يا أخ خالد ؟
خالد : لعل الخميني لم يقرأ كتاب أصول الكافي ، أو لعله نسي أو وهم عما جاء فيه في كتاب العلم ، تحت باب ( ثواب العالم والمتعلم ج/1 - ص/26 ) . :
فعن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد بن عيسى عن القداح عن أبي عبدالله قال : « قال رسول الله عليه السلام : من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً إلى الجنة ، ... وفضل العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر ، وإن العلماء هم ورثة الأنبياء ، إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ولكن ورثوا العلم فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر » .
فمن نصدق الآن الحديث الثابت أم الكلام الإنشائي !(4/137)
ولمزيد من التثبت في الأمر ، فقد جاء في تفسير كنز الدقائق للميرزا محمد المشهدي ( 7/318 ) تحت قوله تعالى :{ وَوَرِثَ سُلَيمَانُ دَاوُدَ } ما يلي :
« وورث سليمان داود : قيل النبوة والعلم أو الملك ، بأن قام مقامه في ذلك
[179]
دون سائر الأنبياء ، وكانوا تسعة عشر » ، وهل تعلم ما السبب الذي لأجله منع الصديق رضي الله عنه فاطمة من أن تأخذ إرثها ، كما يراه الخميني ؟
حيدر : لا أعلم .
خالد : يقول الخميني في كتابه ( كشف الأسرار 132 ) بعد أن بيّن مخالفة الصديق للآية فقال : « ... وأنه قيل من أجل استئصال ذرية النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فهل آل بيت النبي صلى اللّه عليه وسلم سوف يفنيهم أبو بكر رضي الله عنه ، بمنعهم من بعض متاع الدنيا الفانية ؟ وهل تعلم لماذا ذكرت إسناد الحديث الذي جاء في كتاب الكافي ؟
حيدر : لا ، وما السبب ؟
خالد : لأن الخميني قد ذكر في كتابه الحكومة الإسلامية ( ص 93 ) هذا الحديث وعلق عليه : « الحديث صحيح ، وحتى أبوعلي بن إبراهيم ( وهو : إبراهيم بن هاشم ) فهو من كبار الثقاة في نقل الحديث » .
حيدر : على ضوء ما ذكرت من روايات صحيحة في المذهب ، اذاً ما قولك فيمن قال إن فاطمة عليها السلام ، غضبت على الخليفه الأول ( رضي الله عنه ) ؟
خالد : ما حدث بين فاطمة وأبي بكر رضي الله عنهما من أمر إنما كان من جهة أن أبا بكر ما فعل الذي فعل إلا امتثالاً لأمر النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فعلمنا أنه حكم الله ورسوله ، فمن طلب أن يُحكم له بغير حكم الله ورسوله ، فغَضبَ وحلفَ أن لا يكلم الحاكم ، لم يكن هذا مما يُحمد عليه ، ولا يُذم به الحاكَم ، بل هذا إلى أن يكون جرحاً أقرب منه أن يكون مدحاً .
حيدر : لتعلم يا أخ خالد أن سيدة نساء العالمين عليها السلام من شدة غضبها على الصديق فقد أوصت بأن تدفن ليلاً ، ولا يحضر لها أحدٌ في الصلاة عليها .
[180](4/138)
خالد : هل تريد أن تمدح سيدة نساء العالمين ، وتكون في صفها ، أو أن تذمها ؟
حيدر : ماذا تقول أنا أدافع عنها ، وأذود عنها ما حييت أبداً .
خالد : الروايات تقول : « فلم تكلمه » ، فمن هذا الذي عاش بينهما في زمانهما ثم جاءنا فقال : إن فاطمة لم تكلم الصديق رضي الله عنه في أي حديث ؟
غاية ما في الأمر ، أن فاطمة لم تكلم أبا بكر رضي الله عنه في موضوع الإرث مرة ثانية ، بل المعروف أن الصديق رضي الله عنه ذهب إلى فاطمة وترضاها حتى رضيت ، وذُكرت هذه الرواية في فتح الباري ( 6/233 ) .
حيدر : إذاً القضية ليست صحيحة وإنما كان اجتهاداً من سيدة نساء العالمين رضي الله عنها ، وحسم الأمر أبو بكر رضي الله عنه .
خالد : الأمر كما تقول ، وليست القضية كما توهمها البعض من اعتداء واستإصال لآل بيت النبي صلى اللّه عليه وسلم . وغيره من الأمور التي لا سند لها إلا التوهم والخيال ، ونثر لبذور الخلاف بين المسلمين .
[181]
السحر والتنجيم
خالد : قرأت قوله تعالى : { وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } (طه : 69) فاندهشت لبلاغة اللفظ في الآية الكريمة ، من أن سحر السحرة كله إلى باطل .
حيدر : وأنا أوافقك على هذا ، فما الجديد في الأمر والمسلمون ولله الحمد يبتعدون عن مثل هذه السخافات الدالة على نقص الثقة بالله ، والتوكل عليه ، وعلى ضعف الإيمان به سبحانه .
خالد : المستغرب يا أخ حيدر ، أن أشاهد من فئة ، متزايدة من الإخوة الشيعة ، تأييدهم لمثل هذه الترهات والخزعبلات ، والبعض يؤمن ويتعلق بها ، ويعتقد بنفعها وتأثيرها على حياته اليومية !
حيدر : هذا من أعجب ما سمعت منك ، الشيعة كما قلت لك مراراً يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ويعتقدون أن الله بيده كل شيء سبحانه ، ولنبتعد عن تأثيم العوام ، ولنحسن بهم الظن .(4/139)
خالد : على المسلم أن يلتمس العذر للعوام في ارتكابهم الخطأ فيقول إنهم جهال ، ولم يعلموا الصواب ، فندعوا لهم بالهداية والصلاح ، ولكن ما العذر الذي نلتمسه لأهل الفتوى والمرجع في تحريضهم المسلمين على الاعتماد على غير الله ؟
حيدر : هذه طامة أشنع من سابقتها ، لِمَ لا تضع النقاط على الحروف .
خالد : جاء في كتاب بحار الأنوار ( ص 193/ج 94 ) ما نصه : « حرز
[182]
لأمير المؤمنين صلوات الله عليه للمسحور ، والتوابع ( أي : الجني الذي يتبع الإنسان حيث يذهب ، وهو القرين ) والمصروع والسم والسلطان ( أي : أمير المسلمين ) والشيطان وجميع ما يخافه الإنسان ... وهذه كتابته : بسم الله الرحمن الرحيم أي كنوش أي كنوش أرشش عطنيطنيطح يا مطيطرون فريالسنون ... » إلى آخر هذه الشعوذات والطلاسم ، ثم رسم رموزاً غريبة على شكل خطوط متداخلة .
حيدر : ولكن مثل هذا الكلام غير مفهوم ، ولعله غيرعربي ؟
خالد : لأجل هذا يقول العلامة الصغاني في كتابه الموضوعات ( 63 ) : « وربما يكون التلفظ بتلك الكلمات كفراً ، لأنا لا نعرف معناها بالعربية ، وقد قال تعالى : { مَّا فرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْء } (الأنعام : 38) ، بل والبعض من العلماء الشيعة يحث على نداء الجن لجلب الخير ودفع الضر » .
حيدر : ماذا تقول : العلماء ينصحون العوام بسؤال الخير من الجن ؟
خالد : ذكر ابن بابويه في كتاب مَنْ لا يحضره الفقيه ( 2/195 ) والبرقي في المحاسن ( 362 ) ووسائل الشيعة ( 8/325 ) عن أبي بصير عن أبي عبد الله قال : إذا ضللت الطريق فناد : « يا صالح أو يا أبا صالح ، أرشدونا إلى الطريق ، يرحمكم الله » .(4/140)
وجاء الكشف عن هوية « صالح » في مسائل الشيعة ( 8/325 ) وكذلك الخصال لابن بابويه ( 2/618 ) بإسناده عن علي في حديث الأربعمائة قال : « ومن ضل منكم في سفر ، وخاف على نفسه ، فليناد : يا صالح أغثني ، فإن في إخوانكم من الجن جَنيَاً يسمى صالح ، يسيح في البلاد لمكانكم ، محتسباً نفسه لكم ، فإذا سمع الصوت أجاب وأرشد الضال منكم ، وحبس
عليه دابته ( أي : أمسك له الدابة ) » .
حيدر : ولكن التعامل مع الجن كما أعلم لم يثبت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، ولعل فيه فتح باب عظيم من الشر .
خالد : أذكرك بقوله تعالى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَال مِّنَ الأنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ من الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } ( الجن : 6 ) وهذا ما كان يفعله المشركون في السابق يعوذون ( أي : يلتجئون ) بعظيم ذلك المكان من الجن أن يصيبهم بشيء يسوءهم ، فزاد الجن الإنس رهقاً ، أي خوفاً وإرهاباً وذعراً وإثما ، لأنهم استعاذوا بغير الله ، فما الفرق بين المشركين في السابق ومثل هذه الروايات الشنيعة ؟
بل وماذا نقول للذي يعلق حياته اليومية ، وما يحدث فيها بفعل الكواكب وحركتها ، من إقبال على الخير ، أو تجنبٍ عن الشر ؟
حيدر : هل بلغ الجهل وعدم التوكل على الله في العوام هذا المبلغ ؟
خالد : يا ليت الأمر كان من فعل العوام ، ولكن هناك المؤلفات بهذا الشأن ، التي تعلم العوام السحر ، والأعمال التي فيها تعلق بغير الله ، مثل كتاب « بُلغة الأمل إلى الشفاء العاجل بالطب الروحاني » وهو من تأليف السيد مصطفى مرتضى العاملي ، وفيه الأشياء العجيبة الخطيرة التى ترشد العامي إلى التعامل بالسحر من طريق أن هذا من الهدي النبوي والثابت عن طريق آل البيت ( رضي الله عنهم ) .(4/141)
والواجب على المسلم ، أن يحذر من كل أمر لم يعمله النبي صلى اللّه عليه وسلم ، أو يحث عليه بل ينبغي عليه أن يتأكد لعله محرّمٌ عليه فعله ، ولعل هذه الأعمال والأقوال لم تقع في القرون الثلاثة المباركة من بعد النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فالخير في اتباع من سلف ، والشر في اتباع من خلف ، إن لم يكونوا على الجادة الصحيحة .
[184]
تربة السجود
حيدر : أعجب منكم أيها السُّنة من سجودكم على السجاد والملبوس من الثياب ، ولا تسجدون على الأرض مباشرة .
خالد : ولِمَ كل هذا الاستغراب ، ولم يأتِ نص بالأمر أو النهي بعدم السجودعلى شيء معين إلا النجاسات .
حيدر : وما قولك من حديث « وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً » ؟
خالد : حديث صحيح ويُعمل به ، ولكن أين التخصيص والتقييد بأن السجود لا يكون إلا على الشيء الذي لا يلبس أو يأكل ؟ ، فالحديث فيه دلالة على أن السجود يكون مقبولاً على كل شيء ، فإن الصلاة ليست مقصورة ومقبولة فقط في المساجد بل تستطيع أن تؤدي الصلاة في أي مكان في الأرض إن كان طاهراً .
حيدر : النبي صلى اللّه عليه وسلم كان مسجده من الحصى ومن سعف النخيل ( الحصير ) وكانت عنده الأموال فلم يفرش المساجد بالسجاد ، ولم يثبت عنه أو عن أحد من الصحابة أنه سجد على الثياب .
خالد : النبي صلى اللّه عليه وسلم كان أزهد الناس ، ومسجده لم يكن له سقف يمنع من دخول المطر وأشعة الشمس ، وقد ثبت عند البخاري في صحيحه عن أنس أنه قال : « كنا نصلي مع النبي صلى اللّه عليه وسلم في شدة الحر ، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه » .
فالأمر فيه سعة ويسر ، وليس فيه تخصيص لشيء دون شيء ، ولكني أعجب ممن منعوا السجود على البساط وفضلوا تربة من الأرض عن غيرها من الأراضي .
[185](4/142)
حيدر : أتعني ما يضعه الشيعه تحت جباههم ، حال السجود ، فهذا الأمر كل ما فيه أنهم لا يستطيعون تغيير ما في المساجد من سجاد فيضعون هذه التربة حتى لا يقعوا في المحذور من السجود على القماش .
خالد : يا ليت الأمر اقتصر على مثل هذا المفهوم ، ولكن آل الأمر بأن يعتقد فئة من الشيعة بأن هذه التربة لها قداسة خاصة بها .
حيدر : هذا افتراء عظيم ليس لك به من دليل .
خالد : جاء في بحار الأنوار ( 101/ص 118 ) روايات قاربت ثلاثاً وثمانين رواية دالة على أن تربة كربلاء لها فضل عظيم جداً ومن ذلك أن رجلاً أتى إلى أبي عبد الله فقال : إني رجل كثير العلل والأمراض ، وما تركت دواءً إلا تداويت به ، فقال لي : « أين أنت عن طين قبر الحسين بن علي فإن فيه شفاء من كل داء ، وأمناً من كل خوف » .
فالأمر ابتدأ بعدم السجود على أمر مخصوص ، فجرنا إلى البديل وهو تربة الحسين ، ومما جاء في فضل هذه التربة ما ذُكر في بحار الأنوارعن أبي عبدالله قال : « حنكوا أولادكم بتربة الحسين فإنه أمان » .
وجاء في مصباح المتهجد للطوسي ( 511 ) وبحار الأنوار ( 101/135 ) بأنها تخرق الحجب السبعة .
ولو كان هذا الأمر صحيحاً ومشروعاً أما كان ينبغي أن يكون هذا الفضل لقبر النبي صلى اللّه عليه وسلم أو حتى لقبر علي أو الحسن رضي الله عنهما ، ولكن الجهل يعمي ويصم .
حيدر : هب أن المسلم لم يسجد على تربة الحسين ، فهل هناك من أفتى بإمكان السجود على ما يأكل أو يلبس ؟
[186]
خالد : المسلم متبع ، وليس مبتدعاً ، فقد جاء في كتب الشيعة مثل : الاستبصار ( 1/332 ) وتهذيب الأحكام ( 2/307 ) ووسائل الشيعة ( 2/595 ) عن الحسين بن علي بن كيسان أنه قال : كتبت إلى أبي الحسن الثالث أسأل عن السجود على القطن والكتان من غير تقية ولا ضرورة ، فكتب إليَّ : « ذلك جائز » .(4/143)
وجاء في كتاب فقيه من لا يحضره الفقيه ( 1/174 ) ووسائل الشيعة ( 3/609 ) عن الصادق أنه قال : « السجود على الأرض فريضة وعلى غير ذلك سُنَّةٌ » .
وإن كان الأمر غير جائز ، فلماذا إذن نجد مساجد الشيعة قد تم فرشها بالسجاد الفاخر ، وبذلت الأموال الباهظة لهذا الأمر ، وهو محرم عند كثير من رجال الدين الشيعة ، مع العلم بأن جميع مساجد الشيعة مسقوفة ، فلمَ لا يدعونها تراباً ليتم تطبيق السجود الصحيح ؟
فالأمر إذاً واضح جلي من جواز السجود على كل شيء طاهر معلوم .
[187]
القرآن المحرف ومصحف فاطمة
خالد : لنعد مرة أخرى إلى مسألة فوجئت بأن القائلين بها هم كبار علماء الشيعة ، ولا تجد عالماً صنَّف كتاباً في السابق إلا ويصرح ويؤكد هذه القضية وهي أن القرآن فيه زيادة ونقص ، أي باختصار أنه محرف .
حيدر : هل هناك من تهمة وفرية أعطم جرماً من هذه التهمة ، والعلماء هم ورثة الأنبياء فكيف بلغ الأمر بك أن تقول مثل هذا الإفك ؟
خالد : لنتصفح الكتب المعتمدة ، لأرشدك إلى الكتب التي تناولت هذا الأمر :
ا - علي بن إبراهيم القمي في مقدمة التفسير ( 1/36 ) ذكر الأمثلة على التحريف من سورة البقرة وآل عمران .
2 - نعمة الله الجزائري في الأنوار النعمانية ( 2/357 ) .
3 - الفيض الكاشاني في تفسيره الصافي ( ص 40 ) .
4 - أبو منصور أحمد الطبرسي في كتاب الاحتجاج ( 1/155 ) .
5 - محمد باقر المجلسي في كتاب مرآة العقول ( 12/525 ) .
6 - محمد بن محمد النعمان الملقب بالمفيد في أوائل المقالات ( ص 48 ) .
7 - يوسف البحراني في الدرر النجفية ( ص 298 ) .
8 - النوري الطبرسي في « فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب » .
9 - الحاج ميرزا حبيب الله الهاشمي الخوئي في منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة الجزء (2) صفحة ( 197 ) .
حيدر : مَن تبقى إذن من كبار علمائنا ؟ ومن المعلوم أن المعاصرين إنما يتبعون
[188](4/144)
ويسترشدون بالقدامى ، فهل هناك من أنكر على هذه المقولة الملحدة ؟
خالد : للأمانة فهناك نفر من علماء الشيعة أنكروا هذا الأمر كالصدوق والسيد المرتضى وأبي علي الطبرسي « مجمع البيان » والشيخ الطوسي في « التبيان » .
وأما عن البقية المقرة بهذه النقيصة فلا زالت كتبهم تطبع وهؤلاء العلماء يُقدَّسون وكأن شيئاً لم يكتب من قبلهم عن القرآن ! ومن ذلك ما ذُكر في كتاب أوائل المقالات للمفيد ص 48 : « أن أئمة الضلال !! خالفوا في كثير من تأليف القرآن ، وعدلوا فيه عن موجب التنزيل وسُّنة النبي صلى اللّه عليه وسلم ، بل هناك تفاسير ذكرت الآيات والكلمات التي حرفت أو أنقصت من القرآن كما ذكر ذلك علي بن إبراهيم القمي في تفسيره » .
حيدر : لعل ما قصده رجال الدين الشيعة من وجود النقص في القرآن هو شيء يسير لم يكتبه الصحابه بعد وفاته صلى اللّه عليه وسلم .
خالد : شيء يسير ! لعل رواية الكافي في الأصول ( 2/634 ) لم تمر على بصرك يا أخ حيدر حيث جاء عن أبي عبد الله عليه السلام قال : « إن القرآن الذي جاء به جبريل عليه السلام إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم سبعة عشر ألف آية » .
مع العلم أن القرآن الموجود بين أيدينا ستة آلاف وستمائة وست وستون آية ، أي كأن الثلثين سقط ، ولم يتبقَ إلا الثلث فقط .
وهل اليسير يجوز والكثير من التحريف والنقص لا يجوز ؟
حيدر : الله سبحانه قال : { إِنا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكْرَ وَإنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (سورة الحجر : 9) فمَن يتهم الشيعة بأنهم قد قالوا بمقولة التحريف تجرأ على الله بدلالة الآية أن الله هو الذي تكفل بحفظ القرآن .
[189]
خالد : قولك سليم ، لذا مَنْ حاول بأن يحرف أو يزيد لم يتمكن من فعل هذا لأن الحفظ بيد الله وحده وليس البشر ، ولأخبرك شيئاً لعلك لم تعلمه من قبل ، استدلالك بهذه الآية الكريمة لا يوافق عليه علماؤكم الشيعة .
حيدر : هذا غير ممكن ، فما قلته هو الصحيح !(4/145)
خالد : يقول الملا خليل القزويني في كتاب الصافي شرح الكافي ( 75 ) : « وهكذا الاستدلال بآية « إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون » استدلار ضعيف ، لأن الآية هنا بصيغة الماضي وفي سورة مكية وقد نزلت سور عديدة بمكة بعد هذه السورة ، وهذا ما عدا السور التي نزلت بالمدينة بعدها بكثير ، فلادلالة فيها على أن جميع القرآن محفوظ ... » . فما قولك يا أخ حيدر ؟
حيدر : إذا كان ما قاله الملا القزويني صحيح ، فإن جميع السور المدنية محرفة ، وليس لها ضابط من الصحة أو الخطأ ، وليست محفوظة عند أحد من المسلمين ، وهذا كلام غريب .
خالد : نعم هذا ما يترتب على مقولة هذا الملا ، أما مَنْ يحفظ القرآن كاملاً فقد أجاب شارح نهج البلاغة ميرزا الخوئي ( 2/203 ) فقال : « إن أصل القرآن الكريم محفوظ عند الأئمة عليهم السلام » .
فمما يترتب على ما قاله الخوئي أن الذي فعله الصحابة وعلى رأسهم أبوبكر وعثمان - رضي الله عنهما - مع الصحابة ، كله تجميع للمحرف من القرآن ، والذي يقرأه المسلمون في جميع أنحاء الأرض ، إنما هو القرآن المحرف وليس الصحيح !
حيدر : ولكنكم تصروق على نسبة أمرٍ إلى الشيعة وهو خرافة لا وجود له وهو أن للشيعة مصحف يقال له مصحف فاطمة !
[190]
خالد : أدع الكليني صاحب كتاب الكافي ليجيب ، فقد جاء في أصول الكافي في كتاب الحجة ( 1/295 ) عن أبي بصير عن أبي عبدالله عليه السلام قال : « إن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام ، وما يدريك ما مصحف فاطمة عليها السلام ؟ قال : قلت : وما مصحف فاطمة عليها السلام ؟ قال : مصحف فاطمة فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات ، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد . قال : قلت : هذا والله العلم » .(4/146)
ولعل الأمر لا يتجاوز في حده هذه الرواية وبعض الآيات الباطلة مثل سورة الولاية ، وهذا المصحف ينكره الكثير من الشيعة ، فلماذا لا نسمع أحداً من العلماء يطعن في مثل هذه الروايات ويتكلم حول تلك الروايات المتناثرة في كتب التفسير والتي تدل على وجود آيات ناقصة من القرآن الكريم .
حيدر : القول بالتحريف هل له من مسوغ ، أو سبب برأيك !
خالد : الجواب كما يلي :
ا - لم يأت في القرآن الذي جمعه أبوبكر وعثمان رضي الله عنهما ذكر لقضيَة الإمامة التي هي الأصل الذي تعتقد به الشيعة وتفارق به جميع الفرق التي تنتسب إلى الإسلام .
2 - وللتخلص من التناقض الذي سيواجه عوام الشيعة من وجود مدح للصحابة في القرآن ، وبين ما هو موجود في عقيدتهم من ذم للصحابة .
3 - القول بالتحريف سبيل للقول بأسماء الأئمة وفضائلهم والاعتقادات التي خالفوا فيها القرآن .
حيدر : ان كان ما تقوله صحيحا ، اذاً لماذا لم نشاهد هذا القرآن الصحيح الذي تقول الشيعة به ؟
[191]
خالد : التعليلات من قبل علماء الشيعة عديدة ، أولاها مقولة التقية والتي لا يمكن الرد عليها في النقاش ، ومنهم من قال إنه سيظهر الشنعة والمخازي على من سبقه فوجب كتمه وستره ، وهذا في الأنوار النعمانية ( 2/360 ) ومنهم مَنْ قال حتى يستمر المخالفون على عصيان أمير المؤمنين إلى يوم القيامة فيستحقون الخزي العظيم وهذا ذُكر في البراعة في شرح نهج البلاغة للخوئي ( 2/225 ) .
حيدر : هل يعُقل أن يصُدق مسلم بتحريف القرآن ثم لا يكون معه مصدر لمعرفة الأحكام الشرعية ؟(4/147)
خالد : تناقض موجود ومستمر ، ومأزق وقع فيه الكثير ممن اعتقد بمبدأ تحريف القرآن ، وهناك مخرج أوجده نعمة الله الجزائري حيث قال في الأنوار النعمانية ( 2/360 ) : « روي في الأخبار أنهم عليهم السلام أمروا شيعتهم بقراءة هذا الموجود من القرآن ! في الصلاة وغيرها ، والعمل بأحكامه حتى يظهر مولانا صاحب الزمان فيرتفع هذا القرآن من أيدي الناس إلى السماء ، ويخرج القرآن الذي ألفه أمير المؤمنين ( ع ) فيُقرأ ويُعمل بأحكامه » .
فعلى ضوء هذا فالقرآن الموجود بين أيدينا سيُرفع إلى السماء ، وأتساءل حول هذا التبرير ، ولم رفع القرآن إلى الأعلى ؟ والعلو كما نعلم دلالة على الكرامة والرفعة ، وأيَضا كيف نجرأ أن نقول إن عليّا - رضي الله عنه - ألف قرآنا ، بمعنى من عنده أو آنزل عليه ... !
ويا أخ حيدر كما ترى أن التقية لا تزال تهب برياحها على المعاصرين ليقولوا بعدم التحريف ، ومجاراة مَنْ يصدق بكمال وتمام القرآن الموجود بين أيدي المسلمين ، لخداعهم بأنهم معهم في الاعتقاد بسلامة القرآن وهل الحق إلا واحد ؟
[192]
أنا مظلوم ... من أهة مظلومة
خالد : لا زلت أعجب من أولئك النفر الذين علقوا في رقابهم ، وساروا في حياتهم على مبدأ « رفع الظلم ، وإبادة الظالمين » !
حيدر : وهل هناك من ظلم أعظم من ذلك الذي وقع على سيد شباب أهل الجنة الحسين عليه السلام ؟
خالد : الأمر يا أخ حيدر ليس هكذا ، ولكن نجد من بعض الإخوة الشيعة توهم لا دليل عليه لأوهام خطيرة تأصلت في نفوسهم ، وتجذرت في قلوبهم ، من أنهم شعب مظلوم مضطهد ، وتظهر صورة هذا الوهم جلية إذا لم يُقبل أحدهم في مكان ما أو في وظيفة معينة ، تجده سريعاً ما يثور ويزبد ويقول : أنتم تفرقون بين الشيعة والسُّنة ! وأين موقع هذا الكلام من أنك لم تقبل في وظيفة ما ؟(4/148)
حيدر : لا تنكر أرجوك يا أخ خالد ، من أن بعض السنة يحاولون دائماً التصيد في الماء العكر ، وأنهم يحاولون التفريق بين المسلمين المتحابين من الشيعة والسُّنة !
خالد : ومن هذا الذي يؤيد التفريق بين المسلمين المجتمعين على محبة الله تعالى وعلى اتباع هدي حبيبنا محمد صلى اللّه عليه وسلم ، ولكن الذي أراه جلياً ومنتشراً ، أن عقدة التفريق راسخة في نفوس بعض الإخوة الشيعة ، وكأن أي محاولة ليست موافقة لهواهم ، تعتبر تأكيداً لمبدأ أن السني ظالم للشيعي ، وأنه يضطهده في العمل أو في أي مكان .
[193]
حيدر : لا يصل الأمر إلى هذا الفهم يا خالد ، ولكن الظلم تأباه النفوس الأبية .
خالد : شعار إننا مظلومون ، والثورة على الظالمين ، وتجديد العهد مع المهدي وآل البيت ، في كل مناسبة حزينة ، يجدد ويرسخ هذا المفهوم في ذهني ، من أن الشيعة دائماً يحاولون رفع شعار الاضطهاد والضعف ، والمسكنة ، لا لشيء إلا أن العقدة ترسخت في الأذهان ثم في القلوب ، من بعد عصور السرية لمبادئ المذهب ثم تأصيل مبدأ التقية ، والآن مبدأ المخالفة في كل شيء .
حيدر : المخالفة في كل شيء ، وكيف ذلك ؟
خالد : نعم المخالفة في كل شيء ، وإلا قل لي بربك كيف يقترب السني إلى الشيعي وهو يراه يبتعد عنه دائماً ، بوضع خاتم غريب في أصابعه ، ثم بوضع شعار على سيارته ، ثم بلبس حجاب مميز لبناتهم عن حجاب السُّنة ، ثم بسلام ملفت للأسماع بينهم ، وغيرها من الصفات التي لا تقرب ، وإنما تزيد من هوة - الشقاق خنادق سحيقة ، والكثير منهم لا يعلم دليلاً من الشرع على هذه الأمور التي يعملها .
حيدر : لعلك تريد أن توصل إلى ذهني قضية معينة ؟(4/149)
خالد : نعم يا أخ حيدر ، المسلم عزيز بدينه ، وبقربه من خالقه سبحانه وتعالى ، وليس فيه من عُقد نفسية تتأصل وتتجذر في قلبه ونفسه مع مرور الأيام ، بل يرى أن كل المسلمين أحباب له ، يريد أن ينصحهم ويوجههم إلى ما فيه خيرهم ورشادهم ، ولا يظن أنه شاذ منبوذ مضطهد ، كأن المجتمع قد لفظه ورفضه ، بل واجب عليه أن يُحسن الظن بإخوانه ويلتمس لهم العذر والنية الحسنة دائماً ، وإن أخطأوا في حقه .
[194]
ميراث الجاهلية
خالد : ما رأيك في أن نتحاور حول ميراث الجاهلية ؟
حيدر : هذا أعجب طلب ، وأغرب سؤال ، فهلا أوضحت عن مرادك ؟
خالد : أقصد من ذلك ، تلك الأمور التي نفانا عن فعلها النبي صلى اللّه عليه وسلم لأنها من أفعال الجاهلية ، أي أهل الشرك ، ولا يزال لها تعلق بقلوب فئة من المسلمين .
حيدر : وهل هناك من مسلم يحب أو يتشبث بتلك الشركيات ، أو يتشبه بأفعال المشركين التي نهانا عنها النبي صلى اللّه عليه وسلم .
خالد : قبل أن أذكر مَن يفعل ، أو مَنْ يحث عليها ، سأضرب مثالاً للأمر الذي أريد الحديث عنه .
الله - سبحانه وتعالى - أمرنا باجتناب الميسر ( وهو لعب القمار أو الرهان ) وكذلك الاستقسام بالأزلام ، وهو أن يجعل الرجل أمره بالفعل أو الترك للسهام التي في جعبته ، ومكتوب على السهام افعل أو لا تفعل ، فهل تذكرت هذا الفعل ؟
حيدر : ما قلته صحيح ، وهذا ثابت بالقرآن الكريم في قوله تعالى : { وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ } (المائدة : 3) ، بعد أن ذكر الله المحرمات ، ولكن السؤال هل هناك من يفتي بجواز هذه الترهات الجاهلية !
خالد : جاء في فروع الكافي اللكليني (1/131 ) والتهذيب اللطوسي (1/306 )
[195](4/150)
ووسائل الشيعة ( العاملي 5/208 ) عن هارون بن خارجة عن أبي عبد الله عليه السلام قال : « إذا أردت أمراً فخُذ ست رقاع ( مثل الأوراق ) فاكتب في ثلاث منها : « بسم الله الرحمن الرحيم ، خيرة من الله العزيز الحكيم ، لفلان بن فلانة ( لاحظ : لا يذكر الأب ولكن الأم !! ) افعل » وفي ثلاث منها :
« بسم الله الرحمن الرحيم خيرة من الله العزيز الحكيم لفلان بن فلانة ، لا تفعل » ثم ضعها تحت مُصلاك ، ثم صلِ ركعتين ، فإذا فرغت ، فاسجد سجدة وقل فيها مائة مرة : أستخير الله برحمته ، خيرة في عافية ، ثم استوِ جالساً وقل : « اللهم خر لي واختر لي في جميع أموري ، في يسر منك وعافية » ، ثم اضرب بيدك إلى الرقاع ، فشوشها وأخرج واحدة واحدة .
فإن خرج ثلاث متواليات : « افعل » ، فافعل الأمر الذي تريده ، وإن خرج ثلاث متواليات : « لا تفعل » ، فلا تفعله ، وإن خرجت واحدة افعل والأخرى لا تفعل ، فأخرج من الرقاع إلى خمس ، فانظر أكثرها فاعمل ، ودع السادسة لا تحتاج إليها » .
حيدر : ولكن هذه المقولة من شواذ الأقوال ، والتي لو انتاشرت ، لأصبح لا فرق بيننا وبين أهل الجاهلية والعياذ بالله .
خالد : الحر العاملي عقد لهذه الرواية وغيرها باباً بعنوان « باب استحباب الاستخارة بالرقاع وكيفيتها » ومجموع الأحاديث بلغت خمس روايات ، والمجلسي ذكر أنواع أخرى للاستخارة ، ليس بالرقاع وحدها ، ولكن أيضاً بالبنادق ( البندق ) وذلك في كتاب ( بحار الأنوار 91/226 ) والسبحة والحصى ( بحار الأنوار 91/247 ) .
والمسلم العامي الشيعي سوف تنطلي عليه مثل هذه الأمور الجاهلية ، لأنها
[196]
غُلِّفت بغلاف الإسلام ، من صلاة ودعاء لله سبحانه ، وذكرت في كتب تعد من المصادر الأصيلة في الدين .
حيدر : الجاهل والعامي ، لا إثم عليهما ، وعقيدتهما سليمة لأنهما قد قالا الشهادتين .(4/151)
خالد : الشهادة في معناها القلبي التصديق والإقرار بتوحيد الله سبحانه ، وألا نجعل شيئاً من خصائص الله لشيء من الخلق ، وهذا الفعل - وهو مشابهة أهل الجاهلية بالاستقسام بالأزلام - يزعم فاعله أن الاستقسام هو عين ما أراد الله ، فيُلزم نفسه به ، وهل علم هذا العامي المسكين الغيب ؟ والله - سبحانه - يقول : { وَمَا تَدْرِي نَفْس مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا } (لقمان : 34) ، فهل نأتمر وننقاد بالحصى والجمادات ، أو بالتوكل على الله - سبحانه - وبما أمرنا به الحبيب محمد صلى اللّه عليه وسلم ؟
وما هو حال الأبناء إن رأوا الآباء يفعلون مثل هذه السخافات ، ويظنون أنها من الحق الذي أنزِل إليهم من ربهم ، وثبت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وتجد منهم الانقياد والطاعة ، ويظنون أن هذا من ميراث النبوة ؟ وما هو - في الحقيقة - إلا دجل وباطل ما أنزل الله به من سلطان ، وليس بشيء إلا أنه من ميراث الجاهلية .
[ 197 ]
مبدأ المخالفة
حيدر : اتحاد المسلمين أُمنية لكل مسلم ، واتفاقهم في الأصول وأيضاً في الفروع حلم لكل مؤمن مخلص ، فلمِ هذا الشقاق وازدياد هوة الخلاف !
خالد : هذا الأمر كما قلت حلم وأمنية ، وليس كل ما يتمناه المرء يدركه ، إن كان هناك من مانع دون إمكانية الالتقاء في أي قضية شرعية .
حيدر : أتقول بأنّ التقارب مستحيل بين الشيعه والسنة ؟
خالد : التقارب والالتقاء محال في ضوء الأمور والنصوص التالية :
1 - ذكر الحر العاملي في وسائل الشيعة ( 18/84 ) عن عبدالرحمن بن أبي عبدالرحمن قال : قال الصادق عليه السلام : « إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردوه ، فإن لم تجدوها في كتاب الله فاعرضوها على أخبار العامة ( السُّنة ) فما وافق أخبارهم فذروه ( أي : اتركوه ) ، وما خالف أخبارهم فخذوه » .(4/152)
2 - أفتى الخميني في كتاب الرسائل ( 2/83 ) : « وعلى أي حال لا إشكال في أن مخالفة العامة ( أي : السُّنة ) من مرجحات باب التعارض » .
3 - أورد الحر العاملي في الوسائل ( 18/85 ) والموسوي الخميني في الرسائل ( 2/81 ) ومحمد باقر الصدر في تعارض الأدلة الشرعية صفحة ( 359 ) عن محمد باقر بن عبدالله قال : قلت للرضا عليه السلام : « كيف تصنع بالخبرين المختلفين ؟ فقال : إذا ورد عليكم
[198]
خبران مختلفان فانظروا إلى ما يخالف العامة ( أي : السُّنة ) » .
حيدر : الحق لا يتعدد يا أخ خالد ، فلماذا نحث العوام على المخالفة ؟
خالد : الخميني يحث دائماً على المخالفة لأقوال وأحكام الأعداء ويعني بهم أهل السُّنة ، مثل ما قال في كتابه تحرير الوسيلة ( 82 ) : « شيعتنا : المسلمون لأمرنا ، والآخذون بقولنا ، المخالفون لأعدائنا ، فمَن لم يكن كذلك فليس منا ، فخذوه وانظروا ما يوافق أخبارهم فدعوه » .
فمثل هذه الرويات والفتاوى عن كبار المراجع الدينية ما هي إلا سد منيع في وجه مَن ينادي بإخلاص لفكرة التقارب وتوحيد الصفوف ، وهل الكويت تتقبل هذا النوع من الفتاوى الممزقة للوحدة الوطنية ؟ !
[199]
توحيد كلمة المسلمين
حيدر : قبل أن نختم حوارنا الشيق ، هل بالإمكان أن تبين لي أهم الأسباب المفضية إلى التباعد والتنافر بين الشيعة والسُّنة .
خالد : إنَّ من أهم الأسباب :
ا - وجود نصوص تكفر مَنْ لا يتبع مذهب الشيعة .
2 - تجديد مناسبات الشتم واللعن والتحقير لسلف الأمة وغرسها في القلوب .
3 - التقليد الأعمى ، وتقديس الرجال ، المفضي إلى عدم سؤالهم عن مصدر فتاويهم .
4 - وجود متعالمين جهال ، يحسبهم العوام أنهم من أهل الفتوى والإجابة ، وذلك بسبب اللباس أو العمامة أو الادعاء من بعضهم أنهم من آل البيت ( رضي الله عنهم ) ، وهم لا ناقة لهم ولا جمل في فهم النصوص الشرعية ، بل وحتى في فهم اللغة العربية وعلومها .(4/153)
5 - العاطفة العمياء التي تقود المسلمين كبارهم وصغارهم ، بعيداً عن النظر إلى الحق والصواب بعقل متجرد عن الهوى .
حيدر : وما السبيل إلى توحيد كلمة المسلمين ؟
خالد : الأمر بغاية الوضوح والإشراق :
ا - تحكيم الكتاب والسّنة النبوية الصحيحة ، وفق فهم مَن نزل في
[200]
زمنهم القرآن وقيلت لهم الأحاديث .
2 - تمييز الخبيث من الطيب في كل ما يَرِدُ علينا من روايات .
3 - تمكين جانب العقيدة الصافية البعيدة عن الشرك والشوائب في قلوب الأبناء ، مع اجتناب كل ما يخدش هذا الركن من قول أو فعل أو اعتقاد .
4 - العلم بأن أعداء الدين يريدون منا أن نتفرق ، وتذهب ريحنا ، فنكون لقمة سائغة لهم ، وباتحادنا نحمي ديننا وأعراضنا ومقدساتنا من الأعداء .
حيدر : أسال الله أن يجمعنا على طاعته وأن يوحد كلمة المسلمين .
خالد : آمين يا أرحم الراحمين .
[201]
وسائل التقارب
حيدر : وختاماً وبعد هذا الحوارالممتع ، أظن أن ملامح ووسائل التقارب بين الشيعة والسنة أصبحت ظاهرة ، وأن سبب الخلاف أصبح معلوماً ، فمن وجهة نظرك هل بالإمكان تحقيق التقارب في الواقع .
خالد : اتحاد صفوف المسلمين ، هدف عند كل مسلم غيور على دينه ، ويحب أن يعلو الإسلام في وجه كل حاقد ، ولا يمكن توحيد الصفوف إلا بتوحيد الذي في القلوب ، اعتقاداً وفعلاً وقولاً .
حيدر : الحمد لله أننا أهل قبلة واحدة ، وكل المسلمين يعرفون لا إله الا الله وأن محمداً رسول الله ، وأيضاً حب النبي وآله ملأ قلوبهم .(4/154)
خالد : المعرفة بالشهادتين لا تغني صاحبها شيئاً إن لم يصاحبها اعتقاد سليم وقول صحيح ، موافق لما ثبت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ، فمقولة « لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله » هي المفتاح لدخول الجنة وهذا المفتاح له أسنان لفتح الباب ، والأسنان هي الأعمال الصالحة التي ثبتت عن حبيبنا محمد صلى اللّه عليه وسلم وليست عن مشرع آخر من الخلق . كما قال تعالى : { فَمَن كَانَ يَرْجُو لقَاءَ رَبِّهِ فَلْيعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } (الكهف : 110) والعمل لا يكون صالحا إلا بتحقيق الإخلاص والمتابعة لأبي القاسم صلى اللّه عليه وسلم .
والتقارب له أمثلة دالة عليه نتمكن من بعدها القول بإمكانية تحقيق هذا الأمر المرجو وهي :
[202]
ا - أن يوافق الباطنُ الظاهرَ ، أي الصدق المتكامل في المسلم .
2 - إخلاص الأعمال صغيرها وكبيرها لله وحده لا شريك له ، وسد أي باب يفضي إلى الشرك .
3 - من خالف ما كان عليه النبي صلى اللّه عليه وسلم نبين له خطأه ، وننصحه لتغيير باطله ، ونحذر المسلمين من هذا الخطأ .
4 - نطهّر قلوبنا وألسنتنا من أن نقع في السابقين الأولين من أهل الإسلام ، ونعذرهم ، ونغض الطرف عن زلتهم ونفوض أمرهم إلى الله ونقول : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنّكَ رَءُوفٌ رحِيم } ( الحشر : 10 ) .
حيدر : وهل هناك من معوقات واقعية ، تمنع من التقارب بين الإخوة الشيعة والسُّنة .
خالد : نعم يا أخ حيدر ، هناك معوقات بثها كبار رجال الدين ، من أولئك الذين كنا ننتظر منهم توحيد شمل المسلمين ولكن صدرت منهم فتاوى تزيد الخرق على الراقع ومن أمثلة ذلك :(4/155)
ا - الحرص والتأكيد على كثير من الأدعية الباطلة ، التي تقدح في الدين ، وتطعن في الصحابة رضي الله عنهم ، كما أفتى بذلك الخوئي والخميني .
2 - تثبيت قضية الاعتقاد بأن الإمام له من الخصائص والصفات التي لا ينبغي أن تكون إلا لله سبحانه ( بأن الكون كله يخضع للإمام ، وأن علياً هو التجلي العظيم لله ) ، كما جاء في تفسير الخميني للقرآن .
[203]
3 - التأكيد الدائم على أن ولاية آل البيت شرط في قبول الأعمال عند الله - سبحانه - بل هو شرط في قبول الإيمان بالله والنبي الأكرم صلى اللّه عليه وسلم ، كما ذكر ذلك الخميني في ( الأربعون حديثاً ص 512 ) .
3 - الطعن المستمر في الصحابة ولعنهم واتهامهم بالزندقة مثل ما جاء في كتاب كشف الأسرار ( ص 137 ) .
4 - غرس مبدأ الاعتقاد بأن النواصب ( أي : أهل السُّنة ) والخوارج ، ملعونان وأنهما نجسان ، لجحودهما الراجع إلى إنكار الرسالة ، كما ذُكر ذلك في كتاب الحكومة الإسلامية للخميني .
5 - الإفتاء بحِل مال غير الشيعي ، وأنه من أهل الحرب وهذا أفتى به الخميني في كتاب تحرير الوسيلة ( 1/352 ) ومحسن المعلم في كتاب النصب والنواصب ( 615 ) .
6 - تعليم العوام بأن الزكاة لا تجوز على السُّني ، وإن كان فقيراً ، وإن كان حتى من الأقارب ، لأنه مخالف للمعتقد ، ذكر ذلك في كتاب تحرير الوسيلة ( 1/191 ) .
7 - ذبيحة أهل السُّنة لا تحل ، حيث قال الخميني في تحريرالوسيلة ( 2/146 ) : « وتحل ذبيحة جميع فرق الإسلام عدا الناصب ، وإن أظهر الإسلام » .
وزاد الخميني هذا الأمر حرمة ، إن كان في الصيد فقال : « فلو أرسل - كلب صيد - كافر بجميع أنواعه ، أو من كان بحكمه كالنواصب لعنهم الله لم يحل ما قتله » . ومعلوم أن النواصب هم أهل السُّنة ، مثل ما زعم بعض علماء الشيعة .
[ 204 ](4/156)
8 - عدم النكاح والتزوج من السُّنة ، واستدل الخميني برواية عن أبي عبدالله أنه سُئلَ عن نكاح الناصب ؟ فقال : « لا ، والله ما يحل » ، ذكره في تحرير الوسيلة ( 2/286 ) .
والنواصب يُقصد بهم يا أخ حيدر « أهل السنة » كما صرَّح بذلك جمع من علماء أهل الشيعة مثل التيجاني في « الشيعة هم أهل السنة ص 161 ) ، فقال : « وغني عن التعريف بأن مذهب النواصب هو مذهب أهل السنة والجماعة » .
وبهما قال الدرازي الشيعي في كتاب ( المحاسن النفسانية ص 147 ) : « بل أخبارهم عليهم السلام تنادي بأن الناصب هو ما يُقال عنه أنه سنياً » .
وغيرها من الفتاوى الدالة على التفريق وزرع البغض بين المسلمين ، وإشاعة أعمال الشرك بين صفوف العوام من المسلمين .
ولعلنا بعد تثبيت الدعائم وإزالة المعوقات ، من قبل المخلصين ، سنجد القلوب المتقاربة ، والأبدان المتلاحمة حول الحب الصحيح للنبي صلى اللّه عليه وسلم ، والاتباع السليم البعيد عن الغلو والبدع والإفتاء بغير دليل ، ولتوحدت الصفوف ، لما فيه خير البلاد والعباد .
حيدر : آمين يا رب العالمين .
[205]
كتب نافعة ننصح بقراءتها
خالد : وفي الختام ، أقدم لك يا أخ حيدر مجموعة طيبة مباركة بإذن الله من كتب قيمة في محتواها ، لعلك من بعد قراءتك لبعض منها ، تزداد رسوخاً في الحق الذي جاء به النبي صلى اللّه عليه وسلم ، وسار عليه الصحابة وآل البيت ( رضي الله عنهم ) أجمعين ، ومن هذه الكتب :
ا - سلسة الأحاديث الصحيحة ... للشيخ محمد ناصر الدين الألباني ( رحمه الله تعالى ) .
2 - الإصابة في تمييز الصحابة ... للحافظ ابن حجر العسقلاني ( رحمه الله تعالى ) .
3 - أصول مذهب الشيعة ... للدكتور ناصر القفاري .
4 - البداية والنهاية ... للعلامة ابن كثير ( رحمه الله تعالى ) .
5 - بل ضللت ... للشيخ خالد العسقلاني .
6 - تاريخ الطبري ... للمؤرخ محمد بن جرير الطبري ( رحمه الله تعالى ) .(4/157)
7 - حقبة من التاريخ ... للشيخ عثمان الخميس .
8 - الخميني بين التطرف والاعتدال ... للدكتور عبدالله الغريب .
9 - الخميني والوجه الآخر ... الدكتور زيد العيص .
10 - حتى لا ننخدع ... للشيخ عبد الله الموصلي .
11 - الشيعة وأهل البيت ... للشيخ إحسان إلهي ظهير ( رحمه الله تعالى ) .
[206]
12 - الشيعة الاثنى عشرية وتحريف القرآن : محمد عبدالرحمن السيف .
13 - الشيعة والسنة . . للشيخ إحسان إلهي ظهير ( رحمه الله تعالى ) .
14 - الصراع بين الإسلام والوثنية ... عبدالله القصيمي .
15 - عبدالله بن سبأ وإمامة على بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) ... للشيخ علي عبد الرحمن .
16 - كسر الصنم ( نقض كتاب الكافي ) ... لآية الله البرقعي .
17 - كشف الجاني محمد التيجاني ... للشيخ عثمان الخميس .
18 - مجموع الفتاوى ( للعلامة ابن تيمية رحمه الله ) جمع عبد الرحمن القاسم رحمه الله .
19 - مختصر التحفة الاثنى عشرية ... لشاه عبدالعزيز غلام الدهلوي رحمه الله .
20 - منهاج السنة النبوية ... لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية ( رحمه الله تعالى ) .
حيدر : أسأل الله تعالى أن يعينني على قراءتها ، وأن يوفقني وأياك يا أخ خالد إلى ما يحبه ويرضاه ، وأن يحشرنا في زمرة نبيه الكريم صلى اللّه عليه وسلم وآله الطاهرين ، وأصحابه الميامين ، إنه نعم المولى ونعم المجيب .
خالد : آمين .
خاتمة اللقاء
أحي القارئ
من بعد هذه الحوارات الهادئة ، والكلام المتعقل ، المستند على الأدلة من أمهات الكتب ، والمصادر الأصيلة ، ينبغي على النفوس أن تؤوب إلى الحق ، وأن تتريث قبل أن تصدر أي حكم على الطرف الآخر .
ولا يخفى على أحد أن الحوار بين الشيعي والسني ، حوار يتسم غالباً بالحدة والانفعال غير المجدي .(4/158)
وقبل الحوار أو أي كلام ينبغي على كلا الطرفين أن يخلصا النية لله وأن يقصدا في نقاشهما الوصول إلى طريق الحق ، والحق ليس له إلا سبيل واحد ، هو ما أردنا في هذه الرسالة الوصول إليه بإذن الله تعالى .
وليحذر المسلم من أقوال لا أرض لها ولا سماء ، ولا حجة فيها إلا جميل البيان وقوة البلاغة وفصاحة اللسان ، وهي في مضمونها خاوية من القرآن أو الحديث الصحيح ... وهذه الأقوال رائجة بين العوام وغيرهم .
والقارئ الكريم يجد في هذه الأوراق عدم التجريح في الذات أو الطعن في الأسماء ، ولكن القول والفتوى هما اللذان عليهما مدار الحوار والنقاش الهادئ المثمر .
وهذه الرسالة قد لا تكون احتوت على جميع المسائل الشائكة بين الشيعة والسنة ولكنها ولله الحمد والمنة أضاءت دروب بعض القضايا ، وأنارت على زوايا مظلمة في
[208]
أفكار البعض من الإخوة ، من الذين كانوا يتلقون علومهم بالاستماع فقط ، ولم تقترب أيديهم من مصادر هذه العلوم .
والله أسأل أن يجعل لهذه الأوراق القبول الحسن عند إخوة لا نريد منهم إلا أن يكونوا من أتباع محمد صلى اللّه عليه وسلم وفق ما ثبت عنه بالدليل الصحيح ، وأن يحشرنا جميعاً تحت مظلة الإسلام إخوة أحباباً مجتمعين على الحق .
إنه ولي ذلك والقادر عليه ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .(4/159)
سلسلة بحوث وتحقيقات مختارة من مجلة الحكمة (10)
فقه النصيحة
محمد أبو صعيليك
قام بنشره
أبو مهند النجدي
Almodhe1405@hotmail.com
almodhe@yahoo.com
المقدمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد:
فقد سمي النبي صلى الله عليه وسلم النصيحة ديناً، وجعلها من حقوق المسلمين فيما بينهم، وبايع بعض صحابته على النصح لكل مسلم، وعدد جوانب النصح ومجالاته، ولكن بسبب قلة الإتباع، وقلة العلم، يرى الواحد منا تجاوزات على حقوق الناس باسم النصيحة، ويشاهد فظاظة وغلظة وشططاً دونما مراعاة لأحكام النصيحة، مع العلم بأن للنصيحة أحكاماً وآداباً تعرف عند أهل العلم.
ولهذا فقد رغبت في جميع أحكام النصيحة من كلام أهل العلم بقصد التعليم لنفسي أولاً، والنصح لإخوتي في الله ثانياً، وتقريب هذا الموضوع لطالبيه من طلبة العلم ثالثاً.
وقد يممت وجهخي شطر كتب أهل العلم أنهل من معينها، وأجول في رياضها، لأعد باقة يانعة ممتعة في موضوع النصيحة، ومن الله أرجو السداد والتوفيق.
النصيحة
في اللغة والاصطلاح
النصيحة في اللغة: النصيحة مأخوذة من قولهم: نصح الخياط الثوب إذا أنعم خياطته، ولم يترك فيه فتقاً ولا خللاً (1)، وقيل: مأخوذ من نصحت العسل، إذا صفيته من الشمع (2).
أما النصيحة في الاصطلاح، فلها معان:
1- قال الإمام الخطابي: (( النصيحة كلمة يعبر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له )) (3).
2- وقال الإمام الراغب: (( النصح تحري فعل أو قول فيه صلاح صاحبه )) (4).
3- وقال الإمام محمد بن نصر المروذي: (( قال بعض أهل العلم: هي عناية القلب للمنصوح له كائناً من كان )) (5).
العلاقة بين المعنيين:
__________
(1) أساس البلاغة: (ص 635).
(2) شرح صحيح مسلم: (2/37).
(3) معالم السنن: (4/125).
(4) المفردات: (ص 494).
(5) جامع العلوم والحكم: (ص 111).(5/1)
إذا نظرت في المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي، وجدت أن العلاقة بينهما هي في سد النقص، وتخليص النفس من الشوائب، فكما أن نصح الثوب هو خياطته، ونصح العسل هو تخليصه مما يشوبه، كذلك فإن نصح المرء في تكميل نقصه، وتصفية نفسه مما علق بها من الشوائب والذنوب.
وإذا نظرت إلى حقيقة النصيحة وجدت أنها على ضربين:
1- تكميل نقص: وهذا في حق العباد الذين يصيبهم النقص، وتقع منهم الأخطاء والذنوب والآثام ، ويتصور منهم التقصير.
2- وصف بالكمال: وهذا في حق الله تبارك وتعالى، وفي حق كتابه الكريم، وفي حق النبي - صلى الله عليه وسلم -.
حكم النصيحة
عند البحث في حكم النصيحة عند أهل العلم وجدت فيها الأقوال التالية:
1- أنها فرض عين: يقول في هذا المقام الإمام ابن حزم: (( النصيحة لكل مسلم فرض )) (1).
2- أنها فرض كفاية: قال ابن بطال: (( والنصيحة فرض يجزي فيه من قام به ويسقط عن الباقين )) (2).
3- إن النصيحة قد تكون فرضاً، وقد تكون نافلة، فالنصيحة المفروضة: (( هي شدة العناية من الناصح باتباع محبة الله في أداء ما افترض، ومجانية ما حرم)) (3).
والنصيحة التي هي نافلة: (( إيثار محبته على محبة نفسه)) (4).
ويفسر ابن رجب هذا فيقول:
(( فالفرض منها مجانبة نهيه، وإقامة فرضه بجميع جوارحه ما كان مطيقاً له)) (5).
ويقول أيضاً: (( وأما النصيحة التي هي نافلة لا فرض، فبذل المجهود بإيثار الله تعالى على كل محبوب بالقلب وسائر الجوارح، حتى لا تكون في الناصح فضلاً عن غيره، لأن الناصح إذا اجتهد لم يؤثر نفسه عليه، وقام بكل ما كان في القيام به سروره ومحبته، فكذلك الناصح لربه))(6).
__________
(1) رسالة الجامع لابن حزم: (2/56).
(2) شرح صحيح مسلم للنووي: (2/39).
(3) جامع العلوم: (ص111).
(4) جامع العلوم: (ص111).
(5) جامع العلوم: (ص111).
(6) جامع العلوم: (ص112).(5/2)
أقول: ولا شك أن أولى هذه الأقوال بالقبول قول: من قال إن النصيحة فرض عين على كل مسلم، ولا أرى منافاة بين هذا، وبين ما نقلناه عن ابن رجب رحمه الله.
أركان النصيحة
إذا نظرت في النصيحة وجدت أن أركانها ثلاثة هي:
1- الناصح: وهو الذي ينصح غيره.
2- المنصوح: وهو الذي ينصحه غيره.
3- المنصوح به: وهو الأمر الذي ينصح به الناصح المنصوح.
شروط النصيحة
لابد أن تتوفر في الناصح والمنصوح الشروط التالية:
1- الإسلام: فالأصل في الناصح أن يكون مسلماً، وأما بالنسبة للمنصوح، فيرى بعض أهل العلم أنه لابد أن يكون مسلماً، وفي هذا يقول الإمام أحمد: (( ليس على المسلم نصح الذمي)) (1). وحجة من اشترط الإسلام حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه وفيه: (( والنصح لكل مسلم))
(2).
ويرى آخرون عدم اشتراط الإسلام، وأن التقييد بالإسلام للأغلب، وفي هذا يقول ابن حجر: (( والتقييد بالمسلم للأغلب، وإلا فالنصح للكافر معتبر بأن يدعى إلى الإسلام، ويشار عليه بالصواب)) (3).
2- البلوغ: فيتشرط فيهما أن يكونا بالغين؛ لأن البلوغ مناط التكليف، ومن لم يكن بالغاً فليس عليه تكليف، وفي هذا يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( رفع القلم عن ثلاثة: الصبي حتى يحتلم ) (4).
3- العقل: فلابد أن يكونا عاقلين؛ لأن العقل مناط التكليف، وقد رفع القلم عمن ليس بعاقل، وفي الحديث: ( وعن المجنون حتى يفيق) (5).
يشترط في الأمر الذي ينصح به ما يلي:
__________
(1) جامع العلوم: (ص114).
(2) رواه البخاري: (رقم 57).
(3) فتح الباري: (1/140).
(4) رواه أبو داود : (رقم 4398)، والنسائي: (2/100)، وابن ماجة: (رقم 2041)، وأحمد: (6/100، 101) والحديث صحيح [المجلة].
(5) هو جزء من سابقه.(5/3)
1- أن يكون داخلاً تحت الأمر الشرعي، بأن يكون إما طلباً لفعل مطلوب فعله شرعاً، أو طلباً لترك أمر مطلوب تركه شرعاً، وعلى هذا فإن النصح بترك المأمور به شرعاً لا يسمى نصيحة، وكذا النصح بفعل المحرم شرعاً لا يعد نصحاً شرعياً يحتم على المنصوح قبوله، وعلى الناصح إسدائه، كأن ينصح أحد آخر بحلق لحيته، أو ترك الصلاة، أو نصح المرأة بالتبرج وخلع اللباس الشرعي، أو ترك الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فهذه أمور لا تبعد من باب النصيحة التي جعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - ديناً.
2- أن يكون الأمر المنصوح به قد اتفق أهل العلم على طلب فعله أو تركه، ولا يكون أمراً خلافياً بين أهل العلم يبيحه قوم، ويمنعه آخرون، وهذا أمر متفرع على قاعدة العلماء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في أنه لا إنكار على مجتهد، ولا إنكار في أمر مختلف فيه.
وفي هذا المقام يقول سفيان الثوري رحمه الله: (( إذا رأيت الرجل يعمل العلم الذي اختلف فيه، وأنت ترى غيره فلا تنهه )) (1)، ويقول أيضاً: (( ما اختلف فيه الفقهاء، فلا أنهي أحداً من إخواني أن يأخذ به)) (2).
ويقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: (( لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهب، ولا يشدد عليهم)) (3).
ولكن يستثنى من هذه القاعدة حالتان ذكرهما القاضي أبو يعلى الحنبلي حيث يقول: (( ما ضعف الخلاف فيه، و كان ذريعة إلى محظور متفق عليه كربا النقد فيدخل في إنكار المحتسب بحكم ولايته )) (4).
هذه في تصوري شروط وأركان النصيحة، ومن الله أرجو العون والسداد، إنه على كل شيء قدير.
آداب النصيحة
لابد أن يتحلى بآداب النصيحة حتى تقع نصيحته من المنصوح موقع القبول، ومن هذه الآداب:
1- أن يقصد وجه الله عز وجل:
__________
(1) الحلية لأبي نعيم: (6/368).
(2) الفقيه والمتفقه: (2/69).
(3) الآداب الشرعية: (1/186).
(4) الآداب الشرعية: (1/186).(5/4)
لابد للناصح من أن يقصد بنصحه وجه الله عز وجل؛ إذ بهذا القصد يستحق الثواب والأجر من الله تعالى، ويستحق القبول لنصحه من العباد، نفهم هذا من حديث النية المشهور.
فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه) (1).
وبتخلف هذا القصد ينال السخط والعقاب من ربه سبحانه وتعالى، ويوغر صدور الناس عليه، ومنهم المنصوح، ويبعد الناس عن نفسه.
2- أن لا يقصد التشهير:
لابد أن يحرص الناصح على عدم التشهير في نصحه بالمنصوح له، وهذا آفة يقع فيها كثير من الناس، تراه يخرج النصيحة في ثوب خشن،ولكن إذا دققت فيها وجدت أنه يقصد التشهير بالمنصوح، وهذا ليس من أدب النصيحة في شيء، وليس من أخلاق المسلمين، وربما أفضى ذلك إلى حصول سوء، أو زيادة شر، ولم تؤت النصيحة ثمرتها المرجوة.
3- أن يكون النصح في السر:
ذلك لأن المنصوح امرؤ يحتاج إلى جبر نقص وتكميله، ولا يسلم المرء بذلك من حظ نفسه إلا لحظة خلوة وصفاء، وهذه اللحظة تكون عند المسارة في السر، وعندها تؤتي النصيحة ثمرتها، ولا يكون الناصح عوناً للشيطان على أخيه، فإن الناصح في ملأٍ يعين الشيطان على صاحبه، ويوقظ في نفسه مداخل الشيطان، ويغلق أبواب الخير، وتضعف قابلية الانتفاع بالنصح عنده.
__________
(1) رواه البخاري (رقم1)، ومسلم بشرح النووي: (13/ 53)، وأبو داود: (رقم 2115) ، والترمذي: (_رقم: 1698)، والنسائي: (1/59 – 60)، وابن ماجة: (رقم 4227).(5/5)
ولهذا المعنى فقد حرص سلفنا الصالح رضوان الله عليهم على النصح في السر دون العلن، وفي هذا المقام يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله: (( وكان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد، وعظوه سراً، )) حتى قال بعضهم: (( من وعظ أخاه فيما بينه وبينه، فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبخه )) (1).
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: (( المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير)) (2)، ويعقب الحافظ ابن رجب على كلمة الفضيل هذه بقوله: (( فهذا الذي ذكره الفضيل من علامات النصح، وهو أن النصح يقترن به الستر، والتعيير يقترن به الإعلان)) (3).
ويقول الإمام أبو حاتم بن حبان البستي رحمه الله تعالى: (( النصيحة تجب على الناس كافة على ما ذكرنا قبل، ولكن ابداءها لا يجب إلا سراً، لأن من وعظ أخاه علانية فقد شانه، ومن وعظه سراً فقد زانه، فإبلاغ المجهود للمسلم فيما يزين أخاه أحرى من القصد فيما يشينه)) (4).
ويقول الإمام أبو محمد ابن حزم الظاهري رحمه الله: (( وإذا نصحت فانصح سراً لا جهراً، وبتعريض لا تصريح، إلا أن لا يفهم المنصوح تعريضك، فلابد من التصريح)) (5).
وإذا نظرت فيما نقلناه هنا، ثم قارنت ذلك بما يقع فيه أولئك الذين يرفعون أصواتهم بنصح الناس على الملأ، ثم سألتهم: ما الثمرة التي تحققت من النصح في الجهر والعلن؟ إنها إصرار المنصوح على الخطأ والتقصير، وإيغار الصدور على الناصح، وسوء الظن بالناس، وقطع الروابط والعلاقات بين الناصح والمنصوح، وكل هذا يقع تحت لائحة عريضة هي: إعانة الشيطان على أخيك.
4- أن يكون النصح بلطف وأدب ورفق:
__________
(1) جامع العلوم: (ص:77).
(2) جامع العلوم: (ص:77).
(3) الفرق بين النصيحة والتعيير: (ص36).
(4) روضة العقلاء: (ص196).
(5) الأخلاق والسير: (ص44).(5/6)
لابد للناصح من أن يكون لطيفاً رقيقاً أدبياً في نصحه لغيره، وهذا يضمن استجابة المنصوح للنصيحة، ذلك لأن قبول النصح كفتح الباب، والباب لا يفتح إلا بمفتاح مناسب، والمنصوح امرؤ له قلب قد أغلق عند مسألة قصر فيها، إن كانت أمراً مطلوباً للشارع، أو وقع فيها، إن كانت أمراً منوعاً من الشارع.
وحتى يترك المنصوح الأمر أو يفعله لابد له من انفتاح قلبه له، ولابد لهذا القلب من مفتاح، ولن تجد له مفتاحاً أحسن ولا أقرب من لطف في النصح، وأدب في الوعظ، ورفق في الحديث، كيف لا والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ( ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه ) (1).
ويقول عبد العزيز بن أبي داود رحمه الله: (( كان من كان قبلكم إذا رأى الرجل من أخيه شيئاً يأمره في رفق، فيؤجر في أمره ونهيه، وإن أحد هؤلاء يخرق بصاحبه، فيستغضب أخاه، ويهتك ستره)) (2).
فانظر عبد الله حال من نصح من نصح بشدة وغلظة وفظاظة، كم من باب للخير قد أغلق؟ وكم من منصوح قد صد عن باب الله؟ وكم م صديق قد أوغر صدره على نفسه، وكم من أذى قد أوقع على أخيه في الله؟ وكم من الأجر قد فاته؟ وكم قد أعان الشيطان على إخوانه؟
وانظر في الجهة المقابلة إلى حسن الرفق في النصيحة، فكم من قلب مغلق قد فتح؟ وكم من حق مضاع قد حفظ؟ وكم من نقص قد استكمل؟ وكم من أخوة قد روعيت؟ وكم من تأخر عن الركب قد أدرك؟ وكم من الأجر قد تحصل؟ وكم من إرغام للشيطان قد كان؟ قارن عبد الله بين الحالتين لترى الفرق، والله يرعاك.
5- عدم الإلزام:
من واجب الناصح أن ينصح غيره، ولكن ليس من حقه أن يلزم غيره بما ينصحه به؛ لأن هذا ليس من حقه، بل هو حق للحاكم في رعيته، والناصح دال على الخير، وليس بآمر بفعله.
__________
(1) رواه مسلم: (16/146).
(2) جامع العلوم: (ص77).(5/7)
أما الحاكم فهو آخر بفعل الخير، ناه عن فعل الشر، وفي هذا المعنى يقول الإمام ابن حزم الظاهري رحمه الله تعالى: (( ولا تنصح على شرط القبول منك، فإن تعديت هذه الوجوه، فأنت ظالم لا ناصح، وطالب طاعة وملك، لا مؤدي حق أمانة وأخوة، وليس هذا حكم العقل، ولا حكم الصداقة، لكن حكم الأمير مع رعيته، والسيد مع عبده)) (1).
ويقول أيضاً: (( فإن خشنت كلامك في النصيحة فذلك إغراء وتنفير، وقد قال الله تعالى: ? فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً ? (طه: من الآية44). وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ولا تنفروا) (2)، ون نصحت بشرط القبول منك، فأنت ظالم، أو لعلك مخطئ في وجه نصحك، فتكون مطالباً بقبول خطئك، وبترك الصواب)) (3).
مما نقلنا لك تعرف أن للناصح أن يقول للكلمة، ويصدر التوجيه فقط، وليس له أن يلزم غيره بالأخذ بما قال، فإن ذلك واجب القاضي والحاكم، والقاضي والحاكم قلة في المجتمع لطلبهما الإلزام، والناصح لفرد مكلف في المجتمع، فإذا كان لكل ناصح أن يلزم غيره بقوله، أصبح كل المجتمع حكاماً وقضاة، وعندها فمن يكون المحكوم والرعية؟
6- اختيار الوقت المناسب للنصيحة:
لابد للناصح من اختيار الوقت المناسب الذي يسدي فيه النصيحة للمنصوح، لأن المنصوح لا يكون في كل وقت مستعداً لقبول النصيحة، فقد يكون مكدراً في نفسه بحزن أو غضب أو فوات مطلوب، أو غير ذلك مما يمنعه من الاستجابة لنصح الناصح.
__________
(1) الأخلاق والسير: (ص44).
(2) رواه البخاري في صحيحه: (8/60). ومسلم: (3/1358-1359).
(3) الأخلاق والسير: (ص48).(5/8)
وفي هذا المعنى يقول الأستاذ عبد الحميد البلالي: (( فاختيار الوقت المناسب والظرف المناسب من أكبر الأسباب لقبول النصيحة وإزالة المنكر، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: (( إن للقلوب شهوة وإقبالاً، وفترة وإدباراً، فخذوها عند شهوتها وإقبالها، وذروها عند فترتها وإدبارها)) (1)، فهنيئاً لذلك الداعية الذي يعرف متى تدبر القلوب، ومتى تقبل، فيحسن الإنكار، ويجيد مخاطبة القلوب )) (2).
حقاً إنه لابد للناصح من تخير الوقت المناسب لقبول النصيحة عند إسدائها، طالما أن الناصح رجل يتعامل مع القلوب والأحاسيس والمشاعر، فرب وقت لا يكون فيه المرء مهيئاً لقبول النصح تعرض له أحمق بدعوى النصح، فأغلق قلبه وعقله أمام نصحه وإرشاده وكان الناصح الجاهل هو السبب في ذلك.
هذه في تصوري الآداب التي يجب أن يتحلى بها الناصح في نصحه حتى يكون النصح في ثوبه المطلوب، وحتى تقع النصيحة من المنصوح موقع قبول لا رد، مما يجعلها مثمرة تجبر النقص، وتسد الخلل، ولا توغر الصدور وتفرق الجماعات، ولا تكون عوناً للشيطان على المنصوحين. والله أعلم.
الفرق بين النصح والتعيير
قد يلبس بعض الناس الذم والتعيير لغيرهم لبوس النصيحة، فيخدع بذلك من لا يعرفه، وربما أفضى به ذلك إلى الوقوع في أعراض الناس ونهشها، ولذا فقد عقدت هذا المبحث للتفريق بين النصح والتعيير مقتبساً ذلك من كتب ثقات علمائنا رحمهم الله، ولقد تبدي لنا أن الفرق بين النصح والتعيير يكون كما يلي:
1- النصيحة تكون في السر، والتعيير يكون في العلن: وفي هذا يقول ابن رجب: (( فهذا الذي ذكره الفضيل، (مقولتنا التي نقلناها في موضع النصح في السر) من علامات النصح، فالنصح يقترن به الستر، والتعيير يقترن به الإعلان)) (3).
__________
(1) الآداب الشرعية لابن مفلح: (2/109).
(2) فقه الدعوة في إنكار المنكر: (ص114-115).
(3) الفرق بين النصيحة والتعيير: (ص36).(5/9)
2- يقوم بالنصح المؤمن، ويقوم بالتعيير الفاجر: ونعيد هنا مقولة الفضيل بن عياض رحمه الله: (( المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير)) (1).
وحول تحديد غرض كل من الناصح والفاضح، يحدثنا الحافظ ابن رجب فيقول: (( فلهذا كان إشاعة الفاحشة مقترنة بالتعيير، وهما من خصال الفجار، لأن الفاجر لا غرض له في زوال المفاسد، ولا في اجتناب المؤمن للنقائص والمعايب، إنما غرضه في مجرد إشاعة العيب في أخيه المؤمن، وهتك عرضه، فهو يعيد ذلك ويبيده، ومقصوده تنقصة أخيه المؤمن في إظهار عيوبه ومساويه للناس، ليدخل عليه الضرر في الدنيا. وأما الناصح، فغرضه بذلك إزالة عيب أخيه المؤمن باجتنابه له )) (2).
3- غرض الناصح الإصلاح وغرض المعير الإفساد: وقد مر في النقطة السابقة أن مقصود الناصح من نصحه الإصلاح وتسديد المسار، وتكميل النقص، وهذا بلا شك قصد شريف يشكر صاحبه عليه عند الناس، ويؤجر عليه عند الله.
وعلى العكس من ذلك، فإن مقصد المعير هتك الأعراض، وإشاعة الفساد والإفساد، وإيغار الصدور،ه وتتبع العورات، ولاشك أن هذا من أقبح الذنوب والأعمال عند الله وعند الناس.
4- الناصح يؤدي حقاً واجباً عليه لأخيه المؤمن: فهو مأجور على نصحه لأخيه، وأما المعير، فهو مهتك لحقوق عباد الله مفرق لجماعتهم، مفسد لدينهم، وبالتالي فهو آثم عند الله جزاء إيذاء عباد الله بإشاعة الأذى والفاحشة بينهم، والله سبحانه يقول: ? إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ? (النور: من الآية19).
__________
(1) المصدر نفسه: (ص36).
(2) المصدر نفسه: (ص37).(5/10)
5- الناصح يخلو من حظ النفس في الغالب، وأما المعير فغير خال من حظ نفسه ومرض قلبه: ذلك لأن الناصح يحب لمنصوحه ما يحبه لنفسه من أفعال الخير، وبالتالي يحرص على ازدياده منها، ولو كان فيها حظ نفس لما أقدم على النصيحة. وأما المعير فلا يحب من يريد تعييره، ولا يحب له الخير، بل يرجو له الشر، ولا تخلو مقولته من حظ نفس يدفعه إلى الأذى والإفساد.
هذه في تصوري أهم الفروق بين النصح والتعيير، وقد استفدتها من رسالة لابن رجب في هذا، كما استفدت من كلام غيره، والله أعلم، ومن الله أرجو العون والسداد.
العوامل المؤثرة في قبول النصيحة
هناك عوامل مؤثرة في قبول النصيحة، وقد تؤخرها أحياناً، وقد تصد المنصوح عن الأخذ بالنصح أحياناً، وهذه العوامل اذكرها كما يلي:
1- التزام آداب النصيحة:
من راعى في نصحه آداب النصيحة، التي سبق بيانها، رجونا قبول نصحه، ومن لم يلتزم بها، ففي الغالب لا تعطي نصيحته ثمرتها، ولا يتحقق لها القبول عند الناس.
ولذا فكم ردت نصيحة لكون صاحبها لم يراع فيها ما يليق بالنصح وأهله.
وكم من ناصح ألقى نصحه لغيره بغير أدب ولا ملاطفة، فانقلب أمره من صورة الناصح إلى صورة الشامت المبغض المعادي، الذي لا يرغب الناس في سماع كلامه، ولا مجالسته، ولا الوقوف عند نصحه، وكم أثمر التزام أداب النصيحة، أخوة صادقة، ووداً متبادلاً، وقرباً دائماً، ودلالة من الخير لا تنكر.
2- الكبر:
فمن وجد فيه الكبر منعه من قبول النصح والأخذ به، ومن خلا قلبه من الكبر رجي منه قبول النصيحة، ذلك لأن الكبر هو (بطر الحق وغمط الناس) (1) كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) رواه مسلم بشرح النووي: (2/89).(5/11)
والنصح من الحق، والناصح من الناس، والمتكبر قد بطر الحق وغمط الخلق، فهو يغر قابل لا بالنصيحة ولا بالناصح، ولذا فقد صده ذلك عن قبول النصح، وعلى العكس من ذلك فلو كان متواضعاً لقبل نصح غيره بصدر رحب، ولما استهان بنصح من نصحه، كائناً هذا الناصح من كان؛ لأنه يرى فيه تأدية الواجب، والعمل بحقوق المؤمنين بعضهم على بعض.
3- الإعجاب بالنفس:
فمن كان معجباً بنفسه، لا يرجى منه قبول النصح، لأنه لا يرى رأياً ولا فضلاً لغيره عليه، فما دام قد انتفخ وأعجب بنفسه فأنى له قبول نصح غيره.
وفي هذا المقام يحدثنا الإمام أبو حاتم محمد بن حبان البستي رحمه الله فيقول: (( وأكثر ما يوجد ترك قبول النصيحة من المعجب برأيه )) (1) واستشهد رحمه الله على هذا المعنى بقول الأبرش:
إذا نصحت لذي عجب لترشده
فإن ذا العجب لا يعطيك طاعته
وما عليك، وإن غوى حقبا
فلم يطعك، فلا تنصح له أبدا
ولا يجيب إلى إرشاده أحدا
إن لم يكن لك قربى أو يكن ولدا
4- صفاء النفس:
فإن المرء إذا رزقه الله صفاء نفس أورثه ذلك الإنصاف للناس من نفسه، وأحوج الناس إلى الإنصاف المنصوح، لأنه إذا لم ينصف ناصحه لا يقبل نصحه، ولا يسمع لإرشاده، ولا يعمل على ترك ما طلبه منه تركه، والحق أن صافي النفس محكم لقياد نفسه، منتصر على شهواتها وأهوائها، فإذا جاءه من يعينه، على هذا استبشر به، أو عمل بمراده.
ولكن وجود هذا الوصف في الناس قليل، فأين هم الصافون في نفوسهم الذين يسمعون لقول الناصحين؟
لكأنك عندما تتحدث عن صفاء النفس تصف قوماً آخرين بينك وبينهم بعد المشرقين، أو أنهم في عالم آخر لسنا من أهله.
وبعد، فهذه في حدود اطلاعي أهم الأمور المؤثر في قبول النصيحة سلباً وإيجاباً، والله المستعان.
ثمار النصيحة
__________
(1) روضة العقلاء: (ص196).(5/12)
النصيحة بذرة طيبة يبذرها الناصح، ولابد للبذرة السليمة التي روعي فيها ما يصلح الزرع من ثمرة، وكذا النصيحة، فإذا روعيت آدابها وشروطها رجونا أن تتحصل منها الثمار الطيبة، والآثار الخيرة، ويمكن إجمال ثمار النصيحة في الأمور التالية:
1- تنقية المنصوح من الشوائب:
فإن الناصح عندما يرى من منصوحه غفلة عن خير، أو وقوعاً في شر، فيعمد إلى تقوية وتنقية نفسه من الشوائب سيراً بها إلى التقليل من القصور في حق الله أولاً، ثم في حق عباده ثانياً، وهذا مكسب كبير للإنسان لو تمعن فيه، وهذا تكميل لنقص وقع فيه المرء من حيث لا يدري أو لا يدري، فإذا بمتطوع يذب عنه النقص، ويخلصه من الذنب، وأي شائبة أشد من التقصير في حق ذي الحق؟ وأي نقاء أكرم وأبرك من حرص أخيك عليك؟
2- دوام المحبة والألفة:
فإن المنصوح إذا نصحه الناصح بما يسدد خطأه، ويكمل نقصه، كان ذلك طريقاً لدوام الألفة بين الاثنين، ذلك لأن الناصح محب لمنصوحه، ويحب لأخيه ما يحب لنفسه، ولابد أن يقابله صاحبه بمثل ذلك إن كان عاقلاً، وعليه فكم من نصيحة صادقة أدامت بين الأحبة وداً، وسدت في شخصية أحدهم نقصاً، وأبعدت عن النفس غوائل الشيطان، وألحقت من تأخر وتلكأ بالركب!!
ومن الجميل أن نسمع كلاماً دقيقاً لابن حزم في حد النصيحة، لنرى من خلاله هذه الثمرة من ثمار النصيحة. يقول الإمام علي بن حزم رحمه الله تعالى: (( وحد النصيحة أن يسوء المرء ما ضر الآخر، ساء ذلك الآخر أم لم يسؤه، وأن يسره ما نفعه، سر الآخر أو ساءه، فهذا شرط في النصيحة زائد على شروط الصداقة )) (1).
3- أداء حق الأخوة:
إن الناصح حين ينصح غيره إنما يؤدي ما لأخيه من حق عليه، وهذا الحق يتعلق بحب المرء لغيره مثل ما يحبه لنفسه، وهذا الأمر يؤدى بطرق منها النصيحة.
__________
(1) الأخلاق والسير: (41).(5/13)
ذلك لأنك لا تحب لنفسك النقص ولا ترضاه، بل تعمل على إزالته وتلافيه، وواجب الأخوة يفرض عليك أن تعامل أخاك المنصوح بمثل ما تعامل به نفسك، وطالما أنك لا ترضى لنفسك النقص، فأنت لا ترضى لأخيك النقص، لذا تقوم بنصحه وإرشاده وإعانته على الخير، وإبعاده عن الشر.
وهذه أمور لابد لمن تآخيا من تحقيقها، وعنوان تحقيق ذلك بذل النصح لمن احتاج إليه ليكون علامة للأخوة، وطريقاً لقرب القلوب، وسداً أمام الضغائن والمحن.
وفي هذا الباب يحدثنا أبو حاتم محمد بن حبان البستي فيقول: (( النصيحة إذا كانت على نعت ما وصفنا تقييم الألفة وتؤدي حق الأخوة)) (1). وفي هذا يقول الخليفة عمر بن عبد العزيز: (( من وصل أخاه بنصيحه له في دينه، ونظر له في صلاح دنياه، فقد أحسن صلته، وأدى واجب حقه...)) (2).
ولعل سائلاً يسأل هناك كيف تكون النصيحة من حقوق الأخوة مع أن فيها ذكر العيوب وهذا يوحش القلب؟
ويجيب عن هذا السؤال الإمام الغزالي فيقول: (( فاعلم أن الإيحاش إنما يحصل بذكر عيب يعلمه أخوك من نفسه، فأما تنبيه على ما لا يعلمه، فهو عين الشفقة، وهو استمالة القلوب، أعني قلوب العقلاء، وأما الحمقى فلا يلتفت إليهم، فإن من ينبهك على فعل مذموم تعاطيته، أو صفة مذمومة اتصفت بها لتزكي نفسك عنها، كان كمن ينبهك عن حية أو عقرب تحت ذيلك، وقد همت بإهلاكك، فإن كنت تكره ذلك فما أشد حمقك، والصفات الذميمة عقارب وحيات، وهي في الآخر مهلكات)) (3).
4- حصول الأجر:
الناصح إذا أسدى لغيره نصحاً استحق عليه الأجر العظيم من الله سبحانه وتعالى، على حرصه على إخوانه، وحبه لهم.
هذه في تصوري الثمرات التي تستفاد من النصحية.
شرح حديث النصيحة
__________
(1) روضة العقلاء: (ص197).
(2) تاريخ الطبري: (6/572).
(3) الإحياء: (2/182).(5/14)
بعد هذه الجولة في كتب علمائنا عليهم رحمة الله نعود إلى حديث تميم الداري في النصيحة من أجل توضيح معانيه بما يقرب فهمه لطالبه، ومن الله نرجو العون والقبول.
1- نص الحديث:
عن أبي رقية تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( الدين النصيحة) ثلاثاً قلنا : لمن يا رسول الله؟ قال: ( لله عز وجل، ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم).
2- تخريجه:
روى هذا الحديث كل من:
1- الإمام مسلم في صحيحه: 2/37.
2- والإمام أحمد في مسنده: 4/102، 103.
3- والإمام أبو داود في سننه: كتاب الأدب، باب النصيحة. برقم: 4944.
4- والإمام النسائي في السنن الصغرى: كتاب البيعة، باب النصيحة للإمام: 7/156.
5- والإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي في مسنده، برقم: 837.
6- ومحمد بن نصر المروزي في كتاب: تعظيم قدر الصلاة.
7- وابن خزيمة في كتاب السياسة. انظر عمدة القارئ: 1/321.
8- والإمام أبو عوانة الأسفرائيني في مسنده: 1/36، 37.
9- والإمام الطبراني في المعجم الكبير: رقم 1260 – 1268.
10- وابن حبان البستي في كتاب روضة العقلاء: ص 149.
11- والبيهقي في كتاب الآداب. رقم: 226.
12- وعلقة البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان، باب الدين النصيحة: 1/137.
13- وأبو الشيخ في التوبيخ رقم: 3.
وبعد، فهذا ما وقفت عليه من تخريج لحديث تميم الداري في النصيحة مما تايسر لنا الاطلاع عليه من مصنفات أئمة الحديث المسندة، والله المستعان.
لماذا علق البخاري الحديث؟
قدمنا أن الإمام البخاري رحمه الله قد علق هذا الحديث، بمعنى أنه رواه في كتابه بغير سند(1)، فما سر ذلك الصنيع؟
أجاب أهل العلم بالحديث عن ذلك بأجوبة نذكر منها:
__________
(1) هذا ليس تعريفاً صحيحاً للتعليق إذ أن المعلق اصطلاحاً هو ما حذف أول سنده، سواء أكان المحذوف واحداً أو أكثر على التوالي، ولو إلى أخر السند. [المجلة].(5/15)
1- هذا الحديث ليس على شرط البخاري، بمعنى أن البخاري لم يخرج لأي من رجال هذا الحديث، وفي هذا يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: (( ولم يخرجه مسنداً في الكتاب لكونه على غير شرطه)) (1).
2- الاختلاف على سهيل بن أبي صالح فيه، فقد روي عنه عن أبيه عن أبي هريرة، وقد روي عنه عن عطاء عن تميم، ولهذا فإن البخاري لم يخرجه في صحيحه، وفي هذا يقول الحافظ بن حجر: (( ولهذا الاختلاف على سهيل لم يخرجه في صحيحه، بل لم يحتج به أبداً)) (2).
3- شواهد الحديث:
لا يفوتنا أن نشير إلى أن حديث النصيحة بتمامه قد ورد من طريق عدة من الصحابة سوى تميم، وهذا ما سنعمد إلى إثباته هنا من طريق الصحابة الذين رووه مع تخريج هذه الطرق:
أ- طريق ابن عمر:
1- رواه الإمام الدارمي في سننه، كتاب الرقاق، باب الدين النصيحة (3).
وقال الألباني عن سند الدارمي: (( وهذا سند حسن، وهو على شرط مسلم)) (4).
2- الطبراني في كتاب مكارم الأخلاق (5).
3- والبزاء في مسنده كما في مختصر زوائده لابن حجدر (6)، وقال البزار: (( وهذا لا نعلم يروي عن ابن عمر – رضي الله عنهما – إلا من هذا الوجه، ولا نعلم أحداً جمع بين يزيد ونافع إلا جعفر بن عون عن هشام (7). وقال الهيثمي عن رواية البزار هذه: (( ورجاله رجال الصحيح)) (8).
4- وأبو الشيخ في كتاب التوبيخ(9).
ب- طريق ابن عباس: وقد رواها:
1- الإمام أحمد بن حنبل في مسنده (10).
2- والطبراني في المعجم الكبير (11).
3- والبزار في مسنده كما في المجمع (12).
4- وأبو يعلى الموصلي في مسنده.
5- وأبو الشيخ في كتاب التوبيخ: رقم 12.
__________
(1) فتح الباري: (1/137).
(2) فتح الباري: (1/138).
(3) 2/311).
(4) الأرواء (1/63).
(5) رقم: (66).
(6) رقم: (38).
(7) مختصر زوائد البزار رقم: (38).
(8) مجمع الزوائد: (1/87).
(9) رقم: (8).
(10) 1/351).
(11) رقم: (11198).
(12) 1/87).(5/16)
وقال الهيثمي عن رواية أحمد: فمقتضى رواية أحمد الانقطاع بين عمرو وابن عباس، ومع ذلك فيه عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، وقد ضعفه أحمد، وقال: أحاديثه مناكير (1/87). وقال أيضاً عن رواية أبي يعلى: ورجاله رجال الصحيح (المجمع: 1/87).
6- والبخاري في التاريخ الكبير (المجتمع: 6/461).
7- وابن أبي حاتم الرازي في العلل( 2/176).
8- والضياء المقدسي في المختار (77/100/1..) كما في الإرواء: (1/63).
9- والديلمي في مسند الفردوس رقم: 6584.
ج- طريق أبي هريرة، وقد رواها:
1- الإمام أحمد في مسنده: 2/297.
2- والترمذي في سننه، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في النصيحة رقم: 1926.
3- والإمام النسائي في السنن الصغرى، كتاب البيعة، باب النصيحة الإمام: 7/157.
4- وابن نصر المروزي في كتاب تعظيم قدر الصلاة.
5- وأبو نعيم في كتاب الحلية (1).
6- وأبو الشيخ في كتاب التوبيخ (2).
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح (3).
د- طريق ثوبان: وقد رواها:
1- الطبراني في المعجم الأوسط، كما في المجمع (4). وقال الهيثمي: وفيه أيوب بن سويد، وهو ضعيف لا يحتج به (5).
2- والبخاري في التاريخ الكبير (6).
وبعد، فهذا ما وقعت عليه من طرق لحديث النصيحة بتمامه، ولم أعرج هنا على كل حديث في موضع النصيحة خشية الإطالة، ولكونه ليس مقصودنا، والله تعالى أعلم.
تواتر حديث النصيحة
__________
(1) الحلية: (6/242، 7/142).
(2) التوبيخ برقم: (7).
(3) سنن الترمذي: (4/374).
(4) مجمع الزوائد: (1/87).
(5) المجمع: (1/87).
(6) التاريخ: (6/461).(5/17)
هذا ولا يفوتنا أن نذكر أن حديث النصيحة قد بلغ مبلغ التواتر، وفي هذا المقام يقول العلامة محمد بن جعفر الكتاني رحمه الله تعالى: أحاديث بذل النصيحة للأئمة وغيرهم من المسلمين متواترة (1)، ويقول الشيخ صديق حسن خان رحمه الله: والأحاديث الواردة في مطلق النصيحة متواترة وأحق الناس بها الأئمة (2).
ورد حديث (الدين النصيحة) بتمامه من طريق خمسة من الصحابة: هم تميم، وابن عمر، وابن عباس، وأبي هريرة، وثوبان.
ووردت أحاديث أخرى في النصيحة عن عدة من الصحابة هم:
1- جرير.
2- حذيفة.
3- أنس بن مالك.
4- أبو أمامة.
5- أبو أيوب.
6- أبو زيد. وغيرهم.
وبهذا تعلم أن حديث النصيحة متواتر، والله أعلم.
كيف كانت النصيحة هي الدين؟
سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - النصيحة ديناً، وعبر بها عن الدين، مع أن تكاليف الدين كثيرة، وليست محصورة في النصح وحده، ولذا فما مراد النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك؟ أجاب أهل العلم عن ذلك بأجوبة منها:
1- قال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يحمل على المبالغة؛ أي معظم الدين النصيحة كما قيل في حديث: (الحج عرفة) (3).
2- قال أيضاً: (( ويحتمل أن يحمل على ظاهره؛ لأن كل عمل لم يرد به عامله الإخلاص فليس من الدين)) (4).
3- يقول الحافظ ابن رجب: (( فهذا يدل على أن النصيحة تشمل خصال الإسلام والإيمان والإحسان التي ذكرت في حديث جبريل عليه السلام، وسمى ذلك كله ديناً)) (5).
كيف تكون النصيحة لله؟
قدمنا فيما سبق أن النصيحة إما وصف بكمال، أو إتمام النقص، والنصيحة لله هي وصف بالكمال، ويندرج تحتها ما يلي:
__________
(1) نظم المتناثر: (ص160).
(2) العبرة بما جاء في الغزو والشهادة والهجرة.
(3) فتح الباري: (1/138)، وحديث (( الحج عرفة)) رواه أبو داود، رقم: (1949)، والنسائي: (2/45 – 46)، والحديث صحيح [المجلة].
(4) فتح الباري: (1/138).
(5) جامع العلوم: (ص110).(5/18)
1- (( القيام بأداء واجباته على أكمل وجوهها، وهو مقام الإحسان)) (1).
2- (( الإيمان به، ونفي الشيك عنه، وترك الإلحاد في صفاته، ووصفه بجميع صفات الكمال والجلال، وتنزيهه عن جميع النقائص، وما لا كمال فيه من الأوصاف)) (2).
3- (( القيام بطاعته، وتجنب معصيته)) (3).
4- (( الحب والبغض فيه، وموالاة من أطاعه، ومعاداة من عصاه، والرغبة في محابه، والبعد عن مساخطه)) (4).
5- (( الاعتراف بنعمته، وشكره عليها)) (5).
6- (( الدعاء إلى جميع ذلك (( أي ما سبق)) وتعليمه، والإخلاص فيه لله)) (6).
كيف تكون النصيحة لكتاب الله ؟
والنصيحة لكتاب الله هي أيضاً وصف بالكمال، ويندرج تحتها ما يلي:
1- (( الإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيله، لا يشبهه شيء من كلام الخلق، ولا يقدر على مثله أحد من الخلق )) (7).
2- تعظيمه (8).
3- تعلمه، وتعليمه، وإقامة حروفه في التلاوة، وتحريرها في الكتابة، وتفهم معانيه، وحفظ حدوده، والعمل بما فيه، وذب تحشير المبطلين عنه(9).
كيف تكون النصيحة لرسول الله- صلى الله عليه وسلم - ؟
والنصيحة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصف بالكمال؛ لأنه معصوم بعصمة الله عن الوقوع في المعصية، ويمكن أن يندرج تحت نصح المؤمن للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما يلي:
1- تصديقه على الرسالة.
2- الإيمان بجميع ما جاء به، وطاعته في أمره ونهيه.
3- نصرته حياً وميتاً، ومعاداة من عاداه، وموالاة من والاه.
4- إعظام حقه وتوقيره، وإحياء طريقته وسنته.
5- بث دعوته، ونشر شريعته، ونفي التهمة عنها (10).
__________
(1) جامع العلوم: (ص100).
(2) فتح المبين: (ص124).
(3) فتح المبين: (ص124).
(4) فتح المبين: (ص124).
(5) نفسه.
(6) نفسه.
(7) شرح صحيح مسلم: (2/38).
(8) نفسه.
(9) فتح الباري: (1/138).
(10) شرح صحيح مسلم: (2/38).(5/19)
6- إحياء سنته بنشرها وتصحيحها، ونفي التهم عنها، وانتشار علومها، والتفقه في معانيها، والإمساك عن الخوض فيها بغير علم، والدعاء إليها، والتلطف في تعاليمها، وإظهار تعظيمها، وإجلالها، وإجلال أهلها من حيث انتسابهم إليها، والتأدب بآدابه عند قراءتها (1).
محبة أهل بيته وأصحابه، ومجانبة من ابتدع في سنته، أو تعرض لأحد من أصحابه، ونحو ذلك(2).
كيف تكون النصيحة لأئمة المسلمين؟
والنصح واجب لأئمة المسلمين، وهو تكميل نقص؛ لأنه يجري عليهم القصور، فليسوا بمعصومين من الزلل، والخطأ، ولكن ما المقصود بأئمة المسلمين؟
لعلمائنا في هذه مذهبان هما:
1- أنهم الخلفاء وغيرهم ممن يقوم بأمر المسلمين من أصحاب الولايات، وهذا هو المشهور(3)
2- أنهم علماء الدين وأئمة الاجتهاد (4).
أما النصيحة لولاة الأمور من الحكام، فيندرج تحتها ما يلي:
1- معاونتهم على الحق، وطاعتهم فيه.
2- تنبيههم عند الغفلة.
3- سد خلتهم عند الهفوة.
4- جمع الكلمة عليهم.
5- رد القلوب النافرة إليهم.
6- دفعهم عن الظالم بالتي هي أحسن (5).
وأما النصيحة لأهل العلم، فيندرج تحتها الأمور التالية:
1- بث علومهم.
2- نشر مناقبهم.
3- تحسين الظن بهم (6).
4- قبول ما رووه (7).
5- إجلالهم، وتوقيرهم، والوفاء بما يجب لهم على الكافة من الحقوق التي لا تخفى على الموفقين (8).
كيف تكون النصيحة لعامة المسلمين ؟
وأما نصح عامة المسلمين وهم من عدا ولاة الأمر (9)، فهي أيضاً تكميل نقص، ويمكن أن يندرج تحت هذا الأمور التالية:
1- إرشادهم لمصالحهم في أخرتهم ودنياهم.
2- كف الأذى عنهم (10).
3- تعليمهم ما ينفعهم.
__________
(1) فتح المبين: (124).
(2) شرح صحيح مسلم: (2/38).
(3) شرح صحيح مسلم/ (2/38- 39).
(4) نفسه.
(5) فتح الباري: (1/138).
(6) الفتح: (1/138).
(7) شرح صحيح مسلم: (2/39).
(8) فتح المبين: (ص125).
(9) شرح صحيح مسلم: (2/39).
(10) شرح صحيح مسلم: (2/39).(5/20)
4- أن يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه(1).
5- دفع المضار عنهم، وجلب المنافع لهم.
6- أمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص.
7- الشفقة عليهم، وتوقير كبيرهم، ورحمة صغيرهم.
8- تخولهم بالموعظة الحسنة.
9- ترك غشهم وحسدهم.
10- الذب عن أموالهم وأعراضهم(2).
هذا ما أردت أن يقف عليه القارئ هنا من شرح حديث النصيحة، عل في ذلك ما يدفع كاتبه وقارئه وسامعه إلى تمام النصح لمن طلب الله منا نصحهم، ولكن هذا الذي ذكرناه كلام نظري يعوزه التطبيق والامتثال، ذلك لأن الكلام النظري لابد له من أمثلة تطبيقية في الواقع حتى يمكن للسامع وغيره أن يمتثلوا، وهذا يحوجنا إلى ذكر نماذج لنصائح السلف، وهذا ما تقف عليه في المبحث القادم بعون الله تعالى.
نماذج من نصائح السلف
ولا يكمل ما نريد إيصاله في موضوع النصيحة إلا بذكر أمثلة حية للنصيحة عند سلفنا الصالح رضوان الله عليهم، إذ هم أقرب إلى عصر النبوة، وأسلم ديناً، وأصفى نفوساً، وأرق قلوباً، وأعمق أخوة، وأكثر ألفة، وأقل حظاً للشيطان، ولذا فقد اخترت نماذج من نصح هؤلاء، عل في ذلك ما يدفع الناصح فينا إلى تحريك النصيحة الصحيحة التي يؤجر المرء بها.
النصيحة الأولى
نصيحة جرير بن عبد الله لمن أراد بيع فرسه
أخرج الإمام الطبراني في المعجم الكبير بسند صحيح عن إبراهيم بن جرير البجلي عن أبيه قال: غدا أبو عبد الله (( أي جرير)) إلى الكناسة ليبتاع منها دابة، وغدا مولى له فوقف في ناحية السوق، فجعلت الدواب تمر عليه، فمر به فرس فأعجبه، فقال لمولاه، انطلق فاشتر ذل الفرس، فانطلق مولاه، فأعطى صاحبه به ثلاثمائة درهم، فأبى صاحبه أن يبيعه، فماتحه (3)، فأبى صاحبه أن يبيعه، فقال: هل لك أن تنطلق إلى صاحب لنا ناحية السوق؟
__________
(1) الفتح: (1/138).
(2) شرح صحيح مسلم: (2/39).
(3) ماتحه: هو من المماسكة: وهي المكالمة في النقص من الثمن. انظر تهذيب الأسمار: (3/141).(5/21)
قال: لا أبالي، فانطلقا إليه، فقال له مولاه: إني أعطيت هذا بفرسه ثلاثمائة درهم، فأبى، وذكر أنه خير من ذلك، قال صاحب الفرس: صدق، أصلحك الله، فترى ذلك ثمناً؟ قال: لا، فرسك خير من ذلك تبيعه بخمسمائة حتى بلغ سبعمائة درهم أو ثمانمائة، فلما أن ذهب الرجل أقبل على مولاه فقال له: ويحك انطلقت لتبتاع لي دابة، فأعجبتني دابة رجل، فأرسلتك تشتريها، فجئت برجل من المسلمين تقوده، وهو يقول: ما ترى ما ترى؟ وقد بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على النصح لكل مسلم (1).
فقه نصيحة جرير بن عبد الله
إذا أجلنا النظر في هذه القصة، وجدنا فيها دلالات عظيمة نذكرها كما يلي:
1- لم يقبل جرير، رضي الله عنه، غبن الرجل بشراء فرسه بأقل مما يستحق، وإن كان في ذلك زيادة ثمن يدفعها هو، وهذا جانب من جوانب النصح لعامة المسلمين بعدم الغبن والغش لهم في البيع والشراء.
2- مع زيادة حرصه على غيره أنه أنب مولاه على فعله، ولم يغض طرفه عن الموضوع، ولم يترك القضية لمولاه ليظهر هو بمظهر البريء أمام الناس.
3- يقول ابن حزم: (( والخديعة في البيع جملة بلا شك يدري الناس كلهم أن من أخذ من آخر فيما يبيع منه أكثر مما يساوي بغير علم المشتري ولا رضاه، ومن أعطاه آخر فيما يشتري منه أقل مما يساوي بغير علم البائع ولا رضاه، ومن أعطاه آخر فيما يشتري منه اقل مما يساوي بغير علم البائع ولا رضاه، فقد غشه، ولم ينصحه، ومن غش ولم ينصح فقد أتى حراماً)) (2).
4- وقال ابن حزم أيضاً: (( فهؤلاء عمر وابنه، والعباس ، وعبد الله بن جعفر، وأبي، وجرير، ولا مخالف لهم من الصحابة رضي الله عنهم يرون رد البيع من الخديعة في نقصان الثمن عن قيمة المبيع)) (3).
النصيحة الثانية
نصيحة الحسن والحسين
__________
(1) المعجم الكبير برقم: (2395)، والمحلي: (8/440 – 441).
(2) المحلي: (8/44).
(3) المحلي: (8/441).(5/22)
رأى الحسن والحسين ابنا علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، رجلاً كبيراً في السن يتوضأ، وكان لا يحسن الوضوء، فأرادا تعليمه، فذهبا إليه، فادعيا أنهما قد اختلفا أيهما حسن الوضوء، أكثر من أخيه؟ وأرادا منه أن يحكم بينهما، فأمر أحدهما بالوضوء، ثم أمر الآخر بالوضوء، ثم قال لهما: أنا الذي لا أعرف الوضوء، فعلماني إياه (1).
فقه نصيحة الحسن والحسين
في هذه القصة دلالات طيبة في موضوع النصيحة نذكرها كما يلي:
1- تحلي الحسن والحسين بلطف الأسلوب في النصيحة حتى إنهما اتخذا وسيلة يمكنهما بها إيصال النصيحة لهذا الرجل، وهي التحاكم إليه في موضوع الوضوء، ولو أتياه بطريقة أخرى لربما تأخرت استجابته لنصيحتهما.
2- لم يشعرا الرجل بشخصيتهما أو نسبهما، ليكون ذلك مدخلاً لقبول النصح منهما.
3- لم يؤنبا الرجل على عدم معرفته بالوضوء رغم كبر سنه، ولم يجعلا من ذلك طريقاً للازدراء بالرجل رغم كبر سنه.
4- لم يعيبا الرجل بالجهل، بل اتجها إلى طريقة يمكنهما بها تعليمه الوضوء دون إحراج له، ودون إساءة له.
5- كانا دقيقين مع الرجل في حوارهما معه، ونصحهما له، مما جعله يقبل نصحهما، ويدرك أنه أحوج إلى تعلم الوضوء بدل أن يقوم بوظيفة الحكم بين هذين الشابين.
6- طبقا سنة جدهما - صلى الله عليه وسلم - في احترام الكبير والعطف على الصغير.
النصيحة الثالثة
نصيحة الإمام مالك بن أنس لأحد خلفاء عصره
تكلمنا سابقاً عن النصيحة ومجالاتها، ولقد كان من تكلم المجالات الحكام، ولقد حرص علماؤنا على نصح الحكام بما يسدد مسيرة الدولة، ويبرئ ذمة العلماء، وهذا كان منهجاً لعلمائنا رحمهم الله تعالى، وقد كان من أولئك الناصحين إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس رحمه الله، فقد كتب إلى الخليفة هارون الرشيد رسالة ينصحه فيها، ويقول:
__________
(1) لم يسند المؤلف رعاه الله هذه الحكاية، ولم نعثر لها على سند، ومعناها صحيح والله أعلم. [المجلة].(5/23)
أما بعد، فإني كتبت إليك بكتاب لم آلك فيه رشداً، ولم أدخر فيه نصحاً، تحميداً لله وأدباً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتدبره بعقلك، وردد فيه بصرك، وأرعه سمعك، ثم أعقله قلبك، وأحضر فهمك، ولا تغيبن عنه ذهنك، فإن فيه الفضل في الدنيا وحسن ثواب الله في الآخرة.
اذكر نفسك في غمرات الموت وكربه ما هو نازل بك منه، وما أنت ىموقوف عليه بعد الموت من العرض على الله سبحانه، ثم الحساب، ثم الخلود بعد الحساب.
وأعد لله – عز وجل – ما يسهل عليك أهوال تلك المشاهد، وكربها فإنك لو رأيت سخط الله تعالى، وما صار إليه الناس من ألوان العذاب، وشدة نقمته عليهم، وسمعت زفيرهم في النار، وشهيقهم مع كلوح (1) وجوههم، وطول غمهم، وتقلبهم في دركاتها (2) على وجوههم، لا يسمعون، ولا يبصرون، ويدعون بالويل، والثبور، وأعظم من حسرة إعراض الله عنهم، وانقطاع رجائهم، وإجابته إياهم بعد طول الغم بقوله: ? اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ? (المؤمنون: من الآية108).
ثم قال له: لا تأمن على شيء من أمرك من لا يخاف الله، فإنه بلني عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (( شاور في أمرك الذين يخافون الله)).
احذر بطانة السوء وأهل الردى على نفسك، فإنه بلغني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه قال: ( ما من نبي ولا خليفة إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف، وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً) (3).
__________
(1) الكلوح: تكشر في عبوس. انظر مختار الصحاح: (ص576).
(2) دركاتها: أي منازل أهلها. انظر مختار الصحاح: (ص203). الدركات عكس الدرجات، فالدركات هو التدرج إلى الأسفل، والدرجات هو التدرج إلى الأعلى لذا فالجنة درجات والنار دركات. [المجلة].
(3) رواه البخاري: برقم: (7198)، والترمذي برقم: 2369. والخبال: الفساد، انظر مختار الصحاح: (ص168).(5/24)
ثم قال: لا تجر ثيابك، فإن الله لا يحب ذلك، فقد بلغني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( من جر ثيابه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة) (1).
اطع الله في معصية الناس، ولا تطع الناس في معصية الله، فقد بلغني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)) (2).
فقه نصيحة الإمام مالك
تلكم هي فقرات من نصيحة الإمام مالك لهارون الرشيد، والناظر فيها يجد أن ثمة دلالات يمكن أن تلمح في هذه النصيحة، ومن هذه الدلالات نذكر ما يلي:
1- كانت النصيحة المسداة هنا شاملة تحوي كل معاني الإيمان، وفي هذا يقول الأستاذ عبد العزيز البدري رحمه الله: (( احتوى هذه الرسالة على كل معاني الإيمان، والدعوة إلى التمسك بأحكام الإسلام وحدوده وآدابه)) (3).
2- هذه النصيحة خالصة لله صادقة خرجت من قلب صادق، يقول البدري في وصفها:
(( وهي موعظة حقاً تجل منها القلوب، ونصيحة صادقة تذرف منها العيون، وتقرب المسلم من ربه لتنال رضاه، إن انتصح بها، واستمع إليها، وجعلها موضع التطبيق والتنفيذ)) (4).
3- قوبلت هذه النصيحة بالقبول من المنصوح وهو هارون الرشيد، وهذه ثمرة النص المرجوة منه.
4- نصيحة الحاكم أعمق أثراً، وأشد خطراً من نصيحة أفراد الرعية، وبخاصة إذا صدرت من عالم ورع تقي، وفي هذا يقول الأستاذ البدري: (( وكانت النصيحة وانتصاحهم للحاكم في مقدمة المنتصحين؛ لأن نصيحتهم فيها الخير كل الخير لهم، ولمن يتولون أمرهم (5).
__________
(1) رواه البخاري برقم: (5784)، وأبو داود برقم: 40845).
(2) رواه أحمد في مسنده: (1/409)، والحديث صحيح في [المجلة].
(3) الإسلام بين العلماء والحكام لعبد العزيز البدري رحمه الله: (ص106 – 107).
(4) نفسه: (ص107).
(5) نفسه: (ص104).(5/25)
5- جوانب النصح للحاكم عند مالك متعددة، وفي هذا يقول العلامة محمد أبو زهرة رحمه الله: (( ولم يقتصر في نصائحه على المخاطبة، بل ينصحهم أيضاً بالمكاتبة برسائل يرسلها إليهم)) (1).
النصيحة الرابعة
رسالتان متبادلتان بين الإمامين مالك والليث بن سعد
كان مالك عالم أهل الحجاز، وكان الليث بن سعد عالم أهل مصر، وقد كان في درجة مالك في العلم، حتى قال فيه الشافعي: (( الليث أفقه من مالك غير أن أصحابه لم يقوموا به)) (2).
ولقد تبادل الإمام مالك النصح مع الليث، فكتب مالك إلى الليث رسالة ينصحه فيها، ورد عليه الليث برسالة كذلك، ولذا فمن الأمانة العلمية أن نثبت نص رسالة مالك أولاً على طولها، ثم رسالة الليث كذلك، ثم نعقب بعد ذلك بذكر دلالات هاتين النصيحتين المكتوبتين.
نص رسالة الإمام مالك
بسم الله الرحمن الرحيم
من مالك بن أنس إلى الليث بن سعد، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، عصمنا الله وإياك بطاعته في السر والعلانية، وعافانا وإياك من كل مكروه.
كتبت إليك وأنا ومن قبلي من الولدان والأهل على ما تحب، والله محمود، أتانا كتابك، تذكر من حالك، ونعمة الله عليك الذي أنا به مسرور، أسأل الله أن يتم علي وعليك صالح ما أنعم علينا وعليك، وأن يجعلنا له شاكرين.
__________
(1) مالك: (ص66).
(2) تهذيب التهذيب: (8/415).(5/26)
وفهمت ما ذكرت في كتب بعثت بها لأعرضها لك، وأبعث بها إليك، وقد فعلت ذلك وغيرت منها ما غيرت حتى صح أمرها على ما يجب، وختمت على كل قنداق(1)، ( أو قال يحي: غنداق) منهال بخاتمي ونقشته حسبي الله ونعم الوكيل، وكان حبيباً إلي حفظك، وقضاء حاجتك، وأنمت لذلك أهل وجيرة، وصرت لك نفسي في ساعة لم أكن أعرض فيها لأن أنجح ذلك، فتأتيك مع الذي جاء في بها، حتى دفعتها إليه، وبلغت من ذلك الذي رأيت أنه يلزمني لك في حقك وحرمتك، وقد نشطني ما استطلعت مما قبلي من ذلك في ابتدائك بالنصيحة لك، ورجوت أن يكون لها عندك موضع، ولم يكن منعني من ذلك قبل اليوم إلا أن يكون رأيي لم يزل فيك جميلاً، إلا أنك لم تذاكرني شيئاً من هذا الأمر، ولا تكتب فيه لي.
واعلم، رحمك الله، أنه بلغني أنك تفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا، وببلدنا الذي نحن فيه، وأنت في إمامتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك وحاجة من قبلك إليك، واعتمادهم على ما جاء منك حقيق بأن تخاف على نفسك، وتتبع ما ترجو النجاة باتباعه، فإن الله – عز وجل – يقول في كتابه ? وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ? (التوبة:100). وقال تعالى: ? الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ? (الزمر:18).
__________
(1) القنداق: صحيفة الحساب. انظر تاج العروس: (7/51).(5/27)
فإنما الناس تبع لأهل المدينة، إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن، وأحل الحلال، وحرم الحرام، إذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم يحضرون الوحي والتنزيل، ويأمرهم فيتبعونه، ويسن لهم فيتبعونه، حتى توفاه الله، واختار له ما عنده - صلى الله عليه وسلم -.
ثم قام من بعده أتبع الناس له من أمته، ممن ولي الأمر من بعده، فما نزل بهم مما علموا أنفذوه، وما لم يكن عندهم علم فيه سألوا عنه، ثم أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك اجتهادهم، وحداثة عهدهم، فإن خالفهم مخالف، أو قال امرؤ: غيره أقوى منه وأولى، ترك قوله، وعمل بغيره)).
ثم كان التابعون من بعدهم يسلكون تلك السبل، ويتبعون تلك السنن، فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهراً معمولاً به، لم أر خلافه للذي في أيديهم من تلك الوراثة، التي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادعاؤها، ولو ذهب أهل الأمصار يقولون: هذا العمل ببلدنا، وهذا الذي مضى عليه من مضى منا، لم يكونوا من ذلك على ثقة، ولم يجز لهم من ذلك مثل الذي جاز لهم، فانظر رحمك الله فيما كتبت إليك فيه لنفسك، واعلم أني لأرجو ألا يكون دعاني إلى ما كتبت إليك إلا النصيحة لله، والنظر إليك، والضن بك، فأنزل كتابي منك منزله، فإنك إن تفعل تعلم أني لم آلك نصحاً، وفقنا الله وإياك بطاعته، وطاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كل أمر، وعلى كل حال، والسلام عليك ورحمة الله (1).
نص رسالة الليث بن سعد
بسم الله الرحمن الرحيم
(( من الليث بن سعد إلى مالك بن أنس: سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد،
__________
(1) تاريخ ابن معين: (4/498، 501)، وترتيب المدارك: (1/64)، والمعرفة والتاريخ للبسوي.(5/28)
عافانا الله وإياك، وأحسن العاقبة في الدنيا والآخرة، وقد بلغني كتابك، تذكر فيه من صلاح حالك الذي يسرني، فأدام الله ذلك لكم، وأتمه بالعون على الشكر له وبه، والزيادة في أحسنه، وذكرت نظرك في الكتب التي بعثت إليك بها، وإقامتك إياها، وختمك عليها بخاتمك.
وقد أتتنا فآجرك الله فيما قدمت منها، فإنها كتب انتهت إلي عنك، فأحببت أن أبلغ تحقيقها بنظرك فيها.
وذكرت أنه قد نشطك ما كتبت إليك فيه من تقويم ما أتاني عنك إلى ابتدائي بالنصيحة، وأنك ترجو أن يكون لها عندي موضع، ( أو قال يحي: موقع)، وأنه لم يمنعك من ذلك فيما خلا إلا أن يكون رأيك فينا جميلاً، إلا أني لم أذاكرك مثل هذا، وأنه بلغك أني أفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندكم، وأنه يحق علي الخوف على نفسي، لاعتماد من قبلي على ما أفتيهم به، وأن الناس تبع لأهل المدينة، إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن.
وقد أصبت بالذي كتبت به من ذلك، إن شاء الله، ووقع مني بالموقع الذي تحب، وما أجد أحداً ينسب إليه العلم أكره لشواذ الفتيا، ولا أشد تفضيلاً، (أو قال : تفصيلاً) لعلم أهل المدينة الذين مضوا، ولا أخذا بفتياهم فيما اتفقوا عليه مني والحمد لله.
وأما ما ذكرت من مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ونزول القرآن عليه بين ظهراني أصحابه، وما علمهم الله منه، وأن الناس صاروا تبعاً لهم، فكما ذكرت، وأما ما ذكرت من قول الله تبارك وتعالى: ? وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ? (التوبة:100).(5/29)
فإن كثيراً من أولئك السابقين الأولين خرجوا إلى الجهاد في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله، فجندوا الأجناد، واجتمع إليهم الناس، وأظهروا بين ظهرانيهم كتاب الله وسنة رسوله، ولم يكتموهم شيئاً علموه، فكان في كل جند منهم طائفة يعملون بكتاب الله، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولم يكتموهم شيئاً علموه ويجتهدون رأيهم فيما لم يفسره لهم القرآن والسنة، ويقومهم عليه أبو بكر وعمر وعثمان، الذين اختارهم المسلمون لأنفسهم، ولم يكن أولئك الثلاثة مضيعين لأجنادهم ولا غافلين عنهم، بل كانوا يكتبون في الأمر اليسير لإقامة الدين، والحذر من الخلافة لكتاب الله، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فلم يتركوا أمراً فسره القرآن، أو عمل به النبي - صلى الله عليه وسلم - أو ائتمروا فيه، إلا علموهموه، فإذا جاء أمر عمل به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمصر والشام والعراق على عهد أبي بكر وعمر وعثمان، لم يزالوا عليه حتى قبضوا لم يأمروهم بغيره.
فلا نراه يجوز لأجناد المسلمين أن يحدثوا اليوم أمراً لم يعمل به سلفهم من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم، حتى ذهب أكثر العلماء، وبقي منهم من لا يشبه من مضى، مع أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد اختلفوا بعده في الفتيا في أشياء كثيرة، لولا أني عرفت أن قد علمتها، كتبت إليك بها.
ثم اختلف التابعون في أشياء بعد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعيد بن المسيب ونظراؤه، أشد الاختلاف.
ثم اختلف الذين كانوا بعدهم، حضرناهم بالمدينة، وغيرها، ورأيتهم يومئذ في الفتيا: ابن شهاب، وربيعة بن أبي عبد الرحمن – رحمة الله عليهما – فكان من خلاف ربيعة – تجاوز الله عنه – لبعض ما مضى، وحضرت وسمعت قولك فيه، وقول ذوي السن من أهل المدينة: يحي بن سعيد، وعبيد الله بن عمر، وكثير بن فرقد، وغير كثير، وممن هو أسن منه، حتى اضطرك ما كرهت من ذلك إلى فراق مجلسه.(5/30)
وذاكرتك أنت وعبد العزيز بن عبد الله بعض ما نعيب على ربيعة من ذلك، فكنتما موافقين فيما أنكرت، تكرهان منه ما أكره، ومع ذلك بحمد الله عند ربيعة خير كثير، وعقل أصيل، ولسان بليغ، وفضل مستبين، وطريقة حسنة في الإسلام، ومودة صادقة لإخوانه عامة، ولنا خاصة، رحمه الله، وغفر له، وجزاه بأحسن عمله (1).
وكان يكون من ابن شهاب اختلاف كثير إذا لقيناه، وإذا كاتبه بعضنا، فربما كتب في الشيء الواحد – على فضل رأيه وعلمه – بثلاثة أنواع، ينقض بعضها بعضاً، ولا يشعر بالذي مضى من رأيه في ذلك الأمر، فهو الذي يدعوني إلى ترك ما أنكرت تركي إياه.
وقد عرفت أن مما عبت إنكاري إياه أن يجمع أحد من أجناد المسلمين بين الصلاتين ليلة المطر، ومطر الشام أكثر من مطر المدينة، بما لا يعلمه إلا الله عز وجل، ولم يجمع إمام منهم قط في ليلة المطر، وفيهم خالد بن الوليد، وأبو عبيدة بن الجراح، ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، ومعاذ بن جبل، وقد بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( أعلمكم بالحلال والحرام معاذ) (2). ويقال: يأتي معاذ يوم القيامة بين يدي العلماء برتوة (3)، وشرحبيل بن حسنة، وأبو الدرداء، وبلال بن رباح.
__________
(1) انظر إلى خلاف الأكابر وتعلم منه، فلم يمنع خلاف الليث لربيعة من ذكره بالخير بما يحسن، وحفظ عرضه، والثناء عليه، ماذا يقال لأولئك الذين يقعون في عرض غيرهم، إذا خالفوهم.
(2) رواه الترمذي برقم: (3790)، وقال حسن غريب.
(3) الرتوة: مسافة بعيدة قدر مد البصر، انظر أساس البلاغة: (ص220). أخرجه ابن أبي شيبة في تاريخه، وابن عساكر، كما في الإصابة : (3/437)، والأثر في فضل معاذ ثابت صحيح [المجلة].(5/31)
وقد كان أبو ذر بمصر، والزبير بن عوام، وسعد بن أبي وقاص، وبحمص سبعون من أهل بدر، وبأجناد المسلمين كلها، وبالعراق ابن مسعود، وحذيفة، وعمران بن حصين، ونزلها علي بن أبي طالب سنتين، بمن كان معه من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يجمعوا بين المغرب والعشاء قط (1).
ومن ذلك القضاء بشهادة الشاهد ويمين صاحب الحق، وقد عرفت أنه لم يزل يقضى به بالمدينة، ولم يقض به أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشام ولا مصر ولا العراق، ولم يكتب به إليهم الخلفاء المهديون الراشدون: أبو بكر، وعمر وعثمان.
ثم ولي عمر بن عبد العزيز، وكان كما قد علمت في إحياء السنن، وقطع البدع، والجد في إقامة الدين، والإصابة في الرأي، والعلم بما مضى من أمر الناس، فكتب إليه رزيق بن الحكيم: إنك تقضي بذلك بالمدينة بشهادة الشاهد، ويمين صاحب الحق، فكتب إليه عمر: إنا قد كنا نقضي بذلك في بالمدينة، فوجدنا أهل الشام على غير ذلك، فلا نقضي إلا بشهادة رجلين عدلين، أو رجل وامرأتين (2). ولم يجمع بين المغرب والعشاء قط في المطر، والسماء تسكب عليه في منزله الذي كان يكون فيه بخناصره (3) سكباً.
__________
(1) يرى مالك وأهل المدينة الجمع بين المغرب والعشاء بعذر المطر، وقد وافقهم على ذلك سواهم، فهو قول الفقهاء السبعة، والأوزاعي، وأحمد، ومنع الليث من الجمع بين الصلاتين لأجل المطر، وهو مذهب أصحاب الرأي، انظر في هذه المسألة المغني: (2/116)، والزرقاني على الموطأ: (1/12631). وبداية المجتهد.
(2) اختلف العلماء في القضاء بالشاهد واليمين، فيرى الجمهور جوازه، ويرى أهل الرأي ومعهم الليث منعه، ولهم تفصيلات وأدلة تنظر في مظانها. وانظر ما يلي: المغني: (12/11). أعلام الموقعين: (3/185). سنن البيهقي: (10/175).
(3) خناصرة: بليدة بالشام من أعمال حلب. انظر معجم البلدان: (3/467).(5/32)
ومن ذلك أن أهل المدينة يقضون في صدقات النساء أنها متى شاءت أن تكلم في مؤخر صداقها تكلمت، يدفع ذلك إليها، وقد وافق أهل العراق أهل المدينة على ذلك. وإن أهل الشام وأهل مصر لم يقض أحد من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - ولا من بعدهم – لا امرأة بصادقها المؤخر، إلا أن يفرق بينهما الموت أو الطلاق، فتقوم على حقها.
ومن ذلك قولكم في الإيلاء: إنه لا يكون عليه طلاق حتى يوقف، وإن مرت الأربعة أشهر، وقد حدثني نافع عن عبد الله، وعبد الله الذي كان يروي عنه ذكر التوقف بعد الأربعة أشهر، أنه كان يقول في الإيلاء الذي ذكر الله في كتابه: لا يحل للمولى، إذا بلغ الأجل، إلا أن يفي كما أمره الله، أو يعزم الطلاق، وأنتم تقولون: وإن لبث شهراً بعد الأربعة أشهر التي سمى الله، ولم يوقف لم يكن عليه طلاق.
وقد بلغنا عن عثمان بن عفان، وزيد بن ثابت، وقبيصة بن ذؤيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن أنهم قالوا: في الإيلاء إذا مضت الأربعة أشهر فهي تطليقة بائنة (1)، وقال سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وابن هشام، وابن شهاب: إذا مضت الأربعة فهي تطليقة، وله الرجعة في العدة(2).
__________
(1) المحلي: (10/45، 46)، والمغني مع الشرح: (8/467).
(2) المحلي: (10/46)، المغني: (8/528)، وبداية المجتهد: (82).(5/33)
ومن ذلك أن زيد بن ثابت كان يقول: إذا ملك الرجل امرأته، فاختارت زوجها، فهي تطليقة، وإن طلقت نفسها ثلاثاً فهي تطليقة (1)، وقضى به عبد الملك بن مروان وكان ربيعة بن أبي عبد الرحمن يقول: وقد كان الناس يجتمعون على أنها إن اختارت زوجها، لم يكن فيه طلاق، وإن اختارت نفسها واحدة أو اثنتين، كانت له عليها رجعة، وإن طلقت نفسها ثلاثاً بانت منه، ولم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، فيدخل بها، ثم يموت عنها، أو يطلقها، إلا أن يردعها في مجلسه فيقول: إنما ملكك واحدة، فيستخلف، وخلى بينه وبين امرأته(2).
ومن ذلك أن عبد الله بن مسعود كان يقول: إيما رجل تزوج أمة، ثم اشتراها زوجها، فاشتراؤه إياها ثلاث تطليقات، وكان ربيعة يقول ذلك، وإن تزوجت الحرة عبداً، فاشترته فمثل ذلك(3).
وقد بلغتنا عنكم أشياء من الفتيا، فاستنكرناها، وقد كتبت إليك في بعضها، فلم تجبني في كتابي، فتخوفت أن تكون قد استثقلت ذلك، فتركت الكتاب إليك في شيء مما أنكرت، وفيما اردت فيه علم رأيك، وذلك أنه بلغني أنك أمرت زفر بن عاصم الهلالي (4)، حين أراد أن يستسقي أن يقدم الصلاة قبل الخطبة، فأعظمت ذلك، لأن الخطبة في الاستسقاء قبل الصلاة، كهيئة يوم الجمعة، إلا أن الإمام إذا دنا فراغه من الخطبة حول وجه إلى الخطبة، فدعا، وحول رداءه ثم نزل فصلى.
وقد استسقى بين ظهرانيكم عمر بن عبد العزيز، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وغيرهما (5)، فكلهم يقدم الخطبة والدعاء قبل الصلاة، فاستهتر الناس الذي صنع زفر بن عاصم من ذلك واستنكروه.
__________
(1) انظر شرح الزرقاني على الموطأ: (3/36).
(2) انظر المصادر السابقة.
(3) المغني: (7/402).
(4) ولاه المهدي على المدينة سنة 106هـ، روى عنه مسالك، وروايته عن عمر بن عبد العزيز منقطعة. انظر التاريخ الكبير: (3/430)، والجرح: (3/607).
(5) الفتح: (2/499)، والمغني: (2/287).(5/34)
ومن ذلك أنه ذكر لي أنك تقول: إن الخليطين في المال لا يجب عليهما الزكاة، حتى يكون لكل واحد منهما ما يجب فيه الصدقة، وفي كتاب عمر بن الخطاب أنه يجب عليهما الصدقة، ويتزادان بالسوية(1)، وقد كان ذلك الذي يعمل به في ولاية عمر بن عبد العزيز قبلكم، والذي حدثنا به يحي بن سعيد، ولم يكن بدون أفاضل العلماء في زمانه، فرحمه الله، وغفر له، وجعل الجنة مصيره.
ومن ذلك أنه بلغني أنك تقول: إذا أفلس الرجل، وقد باعه رجل سلعة، فتقاضى طائفة من ثمنها شيئاً، أو أنفق المشتري طائفة منها، أنه يأخذ ما وجد من متاعه، وكان الناس على أن البائع إذا تقاضى من ثمنها شيئاً أو أنفق المشتري منها شيئاً، فليست بعينها(2).
ومن ذلك يذكر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعط الزبير إلا لفرس واحد، والناس كلهم يحدثون أنه أعطاه أربعة أسهم لفرسين، ومنعه سهم الفرس الثالث، والأمة كلهم على هذا الحديث: أهل الشام، وأهل مصر، وأهل أفريقية، وأهل العراق، ولا يختلف فيه اثنان، فلم يكن ينبغي، وإن كنت سمعته من رجل مرضي، أن يخالف الأمة أجمعين (3).
وقد تركت أشياء كثيرة من أشباه هذه، وأنا أحب توفيق الله إياك، وطول بقائك لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف أن يكون من المضيعة، إذا ذهب مثلك، مع استثنائي بمكانك، وإن نأت الدار، فهذه منزلتك عندي، ورأيي فيك، فاستيقنه، والسلام)) (4).
فقه الرسالتين المتبادلتين بين الإمامين
هذه رسالة الإمام الليث إلى الإمام مالك بن أنس، وقد سقنا قبلها رسالة الإمام مالك إلى الإمام الليث، وبعد هذا نعرض لبعض دلالات هاتين الرسالتين فنقول:
__________
(1) بداية المجتهد: (1/258).
(2) المغني: (4/456).
(3) المغني: (10/443)، والمحلي: 7/231.
(4) تاريخ ابن معين: (4/487 – 497)، وأعلام الموقعين: (3/83 – 88).(5/35)
1- تجلت في الرسالتين مظاهر الأخوة الصادقة والمحبة العظيمة المتبادلة، التي تبدو في السؤال عن حال الأهل والولد، والاستعداد لبذل المعونة، وتنمي دوام السلامة، والثناء الطيب المتبادل بما يشعر القارئ بأنها أقرب إلى رسائل الأخوة المتحابين المتصافين من كونها نصيحة علمية متبادلة بين إمامين عظيمين، لهما المكانة الكبيرة عند أهل بلديهما.
2- في الرسالتين نفحة صادقة من فقه النصح عند السلف الصالح رضوان الله عليهم، فالمحبة للطرف الآخر من كل منهما أساس، والتواضع، والثناء الطيب، وإنزال الناس منازلهم، طريق ميسر موصل إلى القلوب.
وترك الشدة والغلظة والمخاصمة والمجادلة معالم أخوة، وحسن الظن. وعدم اتهام النوايا، والتماس الأعذار الحسنة، وعدم التشهير، ضوابط عظيمة تضبط النصيحة، وتوقعها الموقع الصحيح. كل هذه الأمور وسواها معالم بارزة في النصح، تساق في هاتين الرسالتين لتكونا نموذجاً يحتذى في نصح المتناصحين، وأدب العلماء المختلفين في المسائل العلمية.
3- يصف العلامة محمد أبو زهرة هاتين الرسالتين وصفاً جامعاً، فيقول: (( والرسالتان فوق ذلك أدب جم، وبحث قيم، ومودة صادقة، ومخالفة في طلب الحق هادية، لا لجاج فيها ولا خصام، بل محبة وولاء ووئام)) (1).
4- الرسالتان تحملان في ثناياهما توجيهاً نبيلاً لأولئك الناصحين في زماننا، الذي يعوزهم فقه السلف في النصح للآخرين، ولأولئك الصغار الذين يقحمون أنفسهم في خلافات أكبر منهم؛ ليعلم أولئك كيف يكون خلاف الأكابر في العلم، ولأولئك المدعين للأخوة والصفاء كيف يكون الود والصفاء بين الرجال على تباعد الأقطار، ونأي الأمصار (( ولأولئك المتعلمين كيف يكون التعلم والتعليم والمعرفة على أصولها)).
النصيحة الخامسة
نصيحة الإمام البيهقي للجويني
__________
(1) مالك: (ص111).(5/36)
كان الحافظ البيهقي معاصراً لأحد أئمة مذهب الشافعية الكبار، وهو والد إمام الحرمين الجويني، وقد بدأ هذا بتصنيف كتاب في الفقه، سماه المحيط، وكان هذا الرجل عالماً بالفقه والأصول وعلم الكلام، ولم يكن عالماً بالحديث، فوقع في الأجزاء التي ألفها من هذا الكتاب أحاديث ضعيفة، ووصل خبر هذا الكتاب إلى الإمام البيهقي، واطلع على ما فيه، فبعث إلى إمام الحرمين ينصحه برسالة قال فيها:
أما بعد، سلام الله ورحمته على الشيخ الإمام، وإني أحمد إليه الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأصلي على رسوله صلى الله عليه وسلم، عصمنا الله بطاعته، وأكرمنا بالاعتصام بسنة خيرته من بريته - صلى الله عليه وسلم -، وأعاننا على الاقتداء بالسلف الصالحين من أمته، وعافانا في ديننا ودنيانا، وكفانا كل هول دون الجنة بفضله ورحمته، إنه واسع المغفرة والرحمة، وبه التوفيق والعصمة.
فقلبي للشيخ أدام الله عصمته، وأيد أيامه مقتد، ولساني له بالخير ذاكر، ولله تعالى على حسن توفيقه إياه شاكر، والله جل ثناؤه يزيده توفيقاً وتأييداً وتسديداً.
وقد علم الشيخ، أدام الله توفيقه، اشتغالي بالحديث، واجتهادي في طلبه، ومعظم مقصودي منه في الابتداء بالتمييز بين ما يصح الاحتجاج به من الأخبار، وبين ما لا يصح، حتى رأيت المحدثين من أصحابنا (1) يرسلونها في المسائل على ما يحضرهم من ألفاظها من غير تمييز منهم بين صحيحها وسقيمها.
ثم إذا احتج عليهم بعض مخالفيهم بحديث شق عليهم تأويله، أخذوا في تعليله بما وجد في كتب المتقدمين من أصحابنا تقليداً، ولو عرفوه معرفتهم، لميزوا بين صحيح ما يوافق أحوالهم من سقيمه، ولأمسكوا عن كثير مما يحتجون به، وإن كان يطابق آراءهم، ولاقتدوا في ترك الاحتجاج برواية الضعفاء، والمجهولين بإمامهم(2).
__________
(1) يعني الشافعية، لأن البيهقي، والجويني على مذهب الشافعي رحمه الله.
(2) يعني الإمام الشافعي رحمه الله تعالى.(5/37)
فشرطه فيمن يقبل خبره عند من يعتني بمعرفته مشهور، وهو بشرحه في كتاب الرسالة مسطور(1)، وما ورد من الأخبار بضعف روايته، أو انقطاع سنده كثير، والعلم به على من جاهد فيه سهل يسير.
وقد احتج في ترك الاحتجاج بالمجهولين بما أنبأنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، قال: حدثنا الربيع بن سليمان، قال: حدثنا الشافعي قال: حدثنا سفيان عن محمد بن عمر عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، وحدثوا عني، ولا تكذبوا علي) (2).
قال الشافعي: (( أحاط العلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يأمر أحداً بحال أبداً (3) أن يكذب على بني إسرائيل، ولا على غيرهم، فإذا أباح الحديث عن بني إسرائيل، فليس أن يقبلوا الكذب (4)على بني إسرائيل (5)؛ لأنه يروى عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( من حدث بحديث، وهو يراه كذباً، فهو أحد الكاذبين) (6)، وإنما أباح قبول ذلك عمن حدث به ممن يحتمل صدقه وكذبه(7).
قال(8): (( وإذا فرق بين الحديث عنه، والحديث عن بني إسرائيل فقال: حدثوا عني، ولا تكذبوا علي: فالعلم، إن شاء الله، يحيط أن الكذب الذي نهاهم عنه هو الكذب الخفي، وذلك الحديث عمن لا يعرف صدقه)) (9).
ثم حكى الشافعي في رد حديث الضعفاء عن ابن عمر، وعن عروة بن الزبير، وسعد بن إبراهيم.
__________
(1) الرسالة الشافعية: (ص 370 – 272).
(2) رواه أحمد في مسنده: (2/474 – 502)، والحديث صحيح [المجلة].
(3) ليست في الطبقات، وقد استدركناها من الرسالة للشافعي.
(4) في الطبقات: الحديث الكذي، وما أثبتناه في الرسالة.
(5) الرسالة: (ص398/399).
(6) رواه مسلم في صحيحه: (1/5).
(7) الرسالة: (ص399)، وفيه يجهل بدل يحتمل.
(8) أي الشافعي.
(9) الرسالة: (400).(5/38)
وحكاه في كتاب (( العمري)) عن عطاء بن أبي رباح وطاووس، وابن سيرين، وإبراهيم النخعي، ثم قال: (( ولا لقيت، ولا علمت، أحداً من أهل العلم بالحديث يخالف هذا المذهب)).
قال الشيخ الفقيه أحمد: وإنما يخالفه بعض من لا يعد من أهل الحديث، فيرى قبول رواية المجهولين، ما لم يعلم ما يوجب رد خبرهم.
وقد قال الشافعي رضي الله عنه في أول كتاب الطهارة، حين ذكر ما تكون به الطهارة من الماء، واعتمد فيه على ظاهر القرآن، وقد روي فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثاً يوافق ظاهر القرآن: في إسناده من لا أعرفه (1)، ثم ذكر حديثه عن مالك، عن صفوان بن سليم، عن سعيد بن سلمة، عن المغيرة بن أبي بردة، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في البحر (2)، وعسى لم يخطر ببال فقيه من فقهاء عصرنا ريب في صحة هذا الحديث، وإمامه يقول: في إسناده من لا أعرفه، وإنما قال ذلك؛ لاختلاف وقع في اسم المغيرة بن أبي بردة، ثم وصله بذكر أبي هريرة مع إيداع مالك بن أنس إياه كتابه الموطأ (3)، ومشهور فيما بين الحفاظ أنه لم يودعه رواية من يرغب عنه إلا رواية عبد الكريم بن أبي أمية (4)، وعطاء الخرساني (5)، فقد رغب عنهما غير مرة.
__________
(1) الأم: (1/3).
(2) الأم: (1/3).
(3) الموطأ: (1/52 – 53) بشرح الزرقاني.
(4) عبد الكريم بن أبي المخارق أبو أمية، المعلم البصر، نزيل مكة، واسم أمية طارق، وقيل فيه: ضعف. انظر التقريب: (1/516)، والميزان: (2/646 – 647).
(5) عطاء بن أبي مسلم الخرساني، واسم أمية ميسرة، وقيل عبد الله، صدوق، يهم كثيراً، أو يرسل ويدلس، من الخامسة، مات سنة خمس وثلاثين لم يصح أن البخاري أخرج له. انظر التقريب: (2/22). والتهذيب: (7/190/192).(5/39)
وتوقف الشافعي في إيجاب الغسل من غسل الميت، واعتذر بأن بعض الحفاظ أدخل بين أبي صالح وأبي هريرة إسحاق مولى زائدة، وأنه لا يعرفه (1). ولعله ن يكون ثقة، وتوقف في إثبات الوقت الثاني لصلاة المغرب مع أحاديث صحاح، رويت فيه (2) بعد إمامة جبريل عليه الصلاة والسلام النبي - صلى الله عليه وسلم - حين لم يثبت عنده من عدالة رواتها ما يوجب قبول خبرهم.
وكأنه وقع لمحمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله بعده ما وقع له، حتى لم يخرج شيئاً من تلك الأحاديث في كتابه (3)، ووقف مسلم بن الحجاج على ما يوجب قبول خبرهم، ووثق بحفظ من رفع المختلف في رفعه منها فقبله، وأخرجه في الصحيح(4)، وهو في حديث أبي موسى وبريدة وعبد الله بن عمرو (5). واحتج الشافعي في كتاب (( أحكام القرآن)) برواية عائشة في: أن زوج بريرة كان عبداً، وإن بعض من تكلم فيه قال له هل يروون عن غير عائشة أنه عبد؟ قال الشافعي في المعتقة: وهي أعلم به من غيرها.
__________
(1) الأم: (1/266).
(2) الأم: (1/73/74).
(3) لم يخرج البخاري شيئاً من أحاديث صلاة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم.
(4) صحيح مسلم: (5/107 – 108).
(5) الأحاديث في صلاة جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم وردت من طريق أكثر من صحابي كما يلي:
1- عن جابر عند ابن حبان والحاكم وأحمد والنسائي.
2- عن ابن عباس عند الترمذي وأحمد وأبو داود وابن خزيمة.
3- وعن أبي هريرة عند الترمذي والنسائي.
4- وعن بريدة عن الترمذي.
5- وعن أبي موسى عند مسلم وأبي داود.
6- وعن أبي مسعود عند مالك.
7- وعن أبي سعيد الخدري عند أحمد في مسنده.
8- وعن البراء ذكره ابن أبي خيثمة.
9- وعن أنس عند الدارقطني.
10- وعن ابن عمر عند الدارقطني.
11- وعن مجمع ابن جارية عند أبي حاتم.
انتهى من نيل الأوطار: (1/300 – 302).(5/40)
وقد روي من وجهين قد أثبت أنت ما هو أضعف منهما، ونحن إنما نثبت ما هو أقوى منهما، فذكر حديث عكرمة عن ابن عباس، وحديث القاسم العمري، عن عبد الله بن دينار، عن أبي عمرو: أن مزوج بريرة كان عبداً وحديث عكرمة عن ابن عباس قد أخرجه البخاري في الصحيح(1) إلا أن عكرمة مختلف في عدالته (2)، كان مالك بن أنس رحمه الله تعالى وأبان لا يرضاه، وتكلم فيه سعيد بن المسيب وعطاء وجماعة من أهل العلم بالحديث (3)، ولذلك ترك مسلم بن الحجاج الاحتجاج بروايته في كتابه، والقاسم العمري ضعيف عندهم.
قال الشافعي لخصمه: نحن إنما نثبت ما هو أقوى منهما، وقال في أثرين ذكرناهما في كتاب الحدود (4): (( وهاتان الروايتان، وإن لم يخالفانا، غير معروفتين، ونحن نرجو أن لا نكون ممن تدعوه الحجة على من خالفه إلى قبول خبر من لا يثبت خبره بمعرفته عنده)). وله من هذا أشياء كثيرة يكتفى بأقل من هذا من سلك سبيل النصفة، فهذا مذهبه في قبول الأخبار، وهو مذهب القدماء من أهل الآثار.
__________
(1) رواه البخاري برقم: (5280).
(2) انظر في الكلام فيه: التقريب: (2/30). والتهذيب.
(3) انظر المصادر آنفة الذكر على سبيل المثال لا الحصر.
(4) الأم: (6/140).(5/41)
قال البيهقي رضي الله عنه: وكنت أسمع رغبة الشيخ رضي الله عنه في سماع الحديث، والنظر في كتب أهله، فاشكر إليه، وأشكر الله تعالى عليه، وأقول في نفسي، ثم فيما بين الناس: قد جاء الله – عز وجل – بمن يرغب في الحديث، ويرغب فيه من بين الفقهاء، ويميز فيما يرويه ويحتج به الصحيح من السقيم من جملة العلماء، وأرجو من الله أن يحيي سنة إمامنا المطلبي في قبول الآثار، حيث أماته أكثر فقهاء الأمصار بعد من مضى من الأئمة الكبار، الذين جمعوا بين نوعي علمي الفقه والأخبار، ثم لم يرضى بعضهم بالجهل به، حتى رأيته حمل العامل به في الوقوع فيه، والازدراء به، والضحك منه، وهو مع هذا يعظم صاحب مذهبه، ويجله ويزعم أنه لا يفارق في منصوصاته قوله، ثم يدع في كيفية قبول الحديث ورد طريقته، ولا يسلك فيها سيرته، لقلة معرفته بما عرف، وكثرة غفلته عما عليه وقف، هلا نظر في كتبه، ثم اعتبر باحتياطه في انتقاده لرواة خبره، واعتماده فيمن اشتبه عليه حاله على رواية غيره، فترى سلوك مذهبه مع دلالة العقل والسمع واجباً على كل من انتصب للفتيا(1)، فإما أن يجتهد في تعلمه، أو يسكت عن الوقوع فيمن يعلمه، ولا يجتمع عليه وزران حيث فاته الأجران، والله المستعان وعليه التكلان.
__________
(1) إن كان المقصود باتباع طريقته في التحري والتوثيق، فنعم، وإن كان المقصود تقليده في الفروع فليس هناك في السمع ولا العقل ما يوجب تقليده. والله أعلم.(5/42)
ثم إن بعض أصحاب الشيخ أدام الله عزه وقع إلى هذه الناحية، فعرض علي أجزاء ثلاثة مما أملاه من كتابه المسمى بالمحيط، فسررت به، ورجوت أن يكون الأمر فيما يورده من الأخبار على طريقة من مضى من الأئمة الكبار، لائقاً، بما خص به من علم الأصل والفرع، موافقاً لما ميز به من فضل العلم والورع، فإذا أول حديث وقع عليه بصري الحديث المرفوع في النهي عن الاغتسال بالماء المشمس (1)، فقلت في نفسي: يورده ثم يضعفه، ويضعف القول فيه، فرأيته قد أملى (2): (( والخير فيه ما روى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة)).
فقلت: هلا قال: روي عن عائشة، أو روي عن ابن وهب عن مالك، أو روي عن مالك، أو روي عن إسماعيل بن عمرو الكوفي عن ابن وهب عن مالك؟ أو روى خالد بن إسماعيل أو وهب بن وهب أبو البحتري عن هشام بن عروة، أو روى عمرو بن محمد الأعسم عن فليح عن الزهري عن عروة، ليكون الحديث مضافاً إلى ما يليق به مثل هذه الرواية، ولا يكون في مثل هذا على مالك بن أنس ما أظنه يبرأ إلى الله تعالى من روايته ظناً مقروناً بعلم.
ثم إني رأيته، أدام الله عصمته، أول حديث البسلمة (3)، وضعف ما روي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن في تأويله بحديث شهد به على الأعمش أنه رواه عن شقيق بن سلمة عن ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن توضأ وسمى، وفي من توضأ ولم يسم(4).
__________
(1) رواه الدارقطني. والبيهقي: (1/6). وقال: هذا لا يصح. وله طرق عن عائشة انظر إرواء الغليل: (1/50-54).
(2) كذا في الطبقات والرسائل المنبرية، ولعل فيها سقطاً. والله أعلم.
(3) يشير إلى حديث أبي سعيد، (( لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه)). وقد رواه أحمد: (2/418)، وأبو داود برقم: (101). وابن ماجة برقم: (399)، والبيهقي: (1/43).
(4) رواه المصنف في السنن الكبرى: (1/44). وقال: وهذا ضعيف.(5/43)
وهذا حديث تفرد به يحي بن هاشم السمسار (1) عن الأعمش، ولا يشك أحد في ضعفه، ورواه أيضاً عبد الله بن حكيم عن أبي بكر الزاهري عن عاصم بن محمد عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً (2)، وأبو بكر الزاهري ضعيف لا يحتج بخبره (3). وروي من وجه آخر مجهول عن أبي هريرة ولا يثبت (4).
وحديث التسمية قد روي من أوجه، ما وجه من وجوهها إلا وهو مثل إسناد من أسانيد ما روى في مقالته، ومع ذلك فأحمد بن حنبل يقول: لا أعلم فيه حديثاً ثابتاً (5).
فقلت في نفسي: قد ترك الشيخ، حرس الله مهجته، القوم فيما أحدثوا من المساهلة في رواية الأحاديث، وأحسبه سلك هذه الطريقة فيما حكي له عند مسح وجهه بيديه في قنوت صلاة الصبح، وأحسن الظن برواية من روى مسح الوجه باليدين بعد الدعاء (6)، مع ما أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: أخبرنا أبو بكر الخراجي، قال: حدثنا سارية، حدثنا عبد الكريم السكري، قال: حدثنا وهب بن زمعة، أخبرنا علي النسائي قال: سألت عبد الله بن المبارك عن الذي إذا دعا مسح وجهه، فلم يجب قال علي: ولم أره يفعل ذلك، قال: وكان عبد الله يقنت بعد الركوع في الوتر، وكان يرفع يديه في القنوت.
__________
(1) أشار إلى هذا المصنف في السنن الكبرى، ويحي هذا: كذبه ابن معين، وقال النسائي: متروك. انظر الميزان: (4/412).
(2) رواه المصنف في الكبرى: (1/44). وقال: وهذا أيضاً ضعيف.
(3) أبو بكر الزاهري، عبد الله بن حكيم قال أحمد: ليس بشيء، وقال الجوزجاني كذاب. انظر الميزان: (2/410 – 411).
(4) رواه المصنف في الكبرى: (1/45)، وقال عنه. روي من وجه ضعيف عن أبي هريرة مرفوعاً.
(5) انظر اختصار السنن للمنذري: (1/88). ونيل الأوطار: (1/135).
(6) رواه أبو داود برقم: (1485- 1486).(5/44)
وأخبرنا أبو علي الروذباري، حدثنا أبو بكر بن داسة قال: قال أبو داود السجستاني: روي هذا الحديث من غير وجه عن محمد بن كعب، وهذا الطريق أمثلها، وهو ضعيف (1) أيضاً، يريد به حديث عبد الله بن يعقوب عمن حدثه عن محمد بن كعب القرظي عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (سلوا الله أكفكم، ولا تسألوه بظهورها، فذا فرغتم، فامسحوا بها وجوهكم) (2).
وروي ذلك من أوجه أخر كلها أضعف من رواية من رواها عن ابن عباس، وكان أحمد بن حنبل ينكرها (3)، وحكى عنه أنه قال في الصلاة: ولا بأس به في غير الصلاة.
قال الفقيه: وهذا لما في استعماله في الصلاة من إدخهال عمل عليها لم يثبت به أثر، وقد يدعو في آخر تشهده ثم لا يرفع يديه، ولا يمسحهما بوجهه، إذ لم يرد بهما أثر، فكذا في دعاء القنوت يرفع يديه لورود الأثر (4) به، ولا يمسح بهما وجهه؛ إذ لم يثبت فيه أثر، وبالله التوفيق.
__________
(1) سنن أبي داود: (2/78).
(2) رواه أبو داود برقم: (1485)، والحاكم: (1/526)، وابن ماجة برقم: (1181، 3866)، والطبراني في الكبير برقم: (10779).
(3) انظر مختصر كتاب الوتر لابن نصر: (ص152)، والمغني، (1/449)، ومسائل أحمد لأبي داود: ص(71).
(4) يريد لثبوت هذا في الصحابة، وانظر في هذا مختصر الوتر: ص (139 – 140). والمغني: (1/449)، وابن أبي شيبة: (2/307، 316).(5/45)
وعندي أن من سلك من الفقهاء هذه الطريقة في المساهلة أنكر عليه قوله، مع كثير ممن روى هذه الأحاديث في خلافه، وإذا كان هذا اختياره، فسبيله أدام الله توفيقه يملي في مثل هذه الأحاديث روي عن فلان، ولا يقول روي فلان؛ لئلا يكون شاهداً على فلان بروايته من غير ثبت، وهو إن فعل ذلك وجد لفعله متبعاً، فقد أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: سمعت أبا الوليد الفقيه يقول: لما سمع أبو عثمان الحيري (1) من أبي حنيفة أن كتابه المخرج على كتاب مسلم كان يديم النظر فيه، فكان إذا جلس للذكر يقول في بعض ما يذكر من الحديث: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويقول في بعضه: روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فنظرنا فإذا به قد حفظ ما في الكتاب، حتى ميز بين صحيح الأخبار وسقيمها.
وأبو عثمان الحيري يحتاط في هذا النوع من الاحتياط فيما يورد من الأخبار في المواعظ وفي فضائل الأعمال، فالذي يوردها في الفرض والنفل، ويحتج بها في الحرام والحلال، أولى بالاحتياط وأحوج إليه، وبالله التوفيق.
__________
(1) أبو عثمان سعيد بن إسماعيل بن منصور السابوري الحيري، ولد بالري سنة (230هـ) وسمع من محمد بن مقاتل، وموسى بن نصر، وغيرهما، روى عنه الرئيس أبو عمر بن نصر، مات سنة (298). انظر السير (14/63-66).(5/46)
قال الفقيه(1): قد رأيت بعضاً ما أوردت عليه شيئاً من هذه الطريقة فزع في ردها إلى اختلاف الحفاظ في تصحيح الأخبار وتضعيفها، ولو عرف اختلافهم، لعرف أنه لا فرج له في الاحتجاج به، كما لا فرج لمن خالفنا في أصول الديانات في الاحتجاج علينا باختلافنا في المجتهدات، واختلاف الحفاظ في ذلك لا يوجب رد الجميع، ولا قبول الجميع، وإن من سبيله أن يعلم أن الأحاديث المروية على ثلاثة أنواع(2):
1- نوع اتفق أهل العلم به على صحته.
2- ونوع اتفقوا على ضعفه.
3- ونوع اختلف في ثبوته، فبعضهم يضعف بعض رواته بجرح ظهر له، وخفي على غيره، أو لم يظهر له من عدالته ما يوجب قبول خبره، وقد ظهر لغيره، أو عرف منه معنى يوجب عنده رد خبره، وذلك المعنى لا يوجبه عند غيره، أو عرف أحدهما علة (3) حديث ظهر بها انقطاعه، أو انقطع بعض ألفاظه، أو إدراج (4) لفظ من ألفاظ من رواه في متنه (5)، أو دخول إسناد حديث في إسناد غيره، خفيت تلك العلة على غيره، فإذا علم هذا، وعرف بمعنى رد منهم خبراً أو قبول من قبله منهم هذا الوقوف عليه، والمعرفة به إلى اختيار أصح القولين.
__________
(1) أي البيهقي نفسه.
(2) هذا التقسيم قد تابع فيه المصنف شيخه الحاكم، ففي (( المدخل إلى الإكليل)) تقسيم للحديث بما يقارب ما هنا، وانظر المدخل إلى الإكليل: (ص33-50).
(3) العلة: هي الأمر الخفي القادح الذي يمنع من صحة الحديث. انظر تدريب الراوي: (1/252)، والباعث الحثيث: (ص65).
(4) الإدراج: هو أن تزاد لفظة في متن الحديث في كلام الراوي. انظر الباعث: (ص73).
(5) المتن هو: ألفاظ الحديث الذي تقوم بها معانيه. انظر أصول الحديث لعجاج: (ص32).(5/47)
قال الفقيه: وكنت أدام الله عز الشيخ انظر في كتب بعض أصحابنا، وحكايات من حكى منهم عن الشافعي رضي الله عنه نصاً، فانظر اختلافهم في بعضها، فيضيق قلبي حكى منهم عن الشافعي رضي الله عنه نصاً، فانظر اختلافهم في بعضها، فيضيق قلبي بالاختلاف مع كراهة الحكاية من غير ثبت، فحملني ذلك على نقل مبسوط ما اختصره المزني (1) على ترتيب المختصر، ثم نظرت في كتاب التقريب (2)، وكتاب جمع الجوامع (3)، وعيون المسائل (4) وغيرها، فلم أر أحداً منهم فيما حكاه أوثق من صاحب التقريب، وهو في النصف الأول من كتابه أكثر حكاية لألفاظ الشافعي منه في النصف الأخير، وقد غفل في النصفين جميعاً مع اجتماع الكتب له، أو أكثرها، وذهاب بعضها في عصرنا، عن حكاية ألفاظ لابد لنا من معرفتها، لئلا نجري على تخطئة المزني في بعض ما يخطئه فيه، وهو منه بريء، ونتخلص بهذا من كثير من تخريجات أصحابنا.
__________
(1) المزني هو إسماعيل بن يحي المزني، ولد سنة 175، وتوفي سنة 264، وكتابه مطبوع متداول، انظر مفتاح السعادة: (3/27 – 271).
(2) كتاب التقريب. انظر طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة: (1/183 – 189).
(3) جمع الجوامع. انظر طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة: (1/138 – 139).
(4) كتاب عيون المسائل لأبي بكر أحمد بن الحسين الفارسي، انظر طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة: (1/123 – 124).(5/48)
ومثال ذلك من الأجزاء التي رأيتها من كتاب المحيط من أوله إلى مسألة التفريق: أن أكثر أصحابنا والشيخ، أدام الله عزه، معهم يوردون الذنب في تسمية البحر بالمالح إلى أبي إبراهيم المزني. ويزعمون أنها لم توجد للشافعي، رحمه الله تعالى (1). وقد سمى الشافعي البحر مالحاً في كتابين، قال الشافعي في أمالي الحج في مسألة كون المحرم في صيد البحر كالحلال: والبحر إما العذب وإما المالح. قال الله تعالى: ? هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ?(الفرقان: من الآية53)(2).
وقال في كتاب المناسك الكبير: في الآية دليل على أن البحر العذب والمالح(3).
وذكر الشيخ أبقاه الله (4)، حدثنا الشيخ أبو بكر رحمه الله قول الشافعي، في أكل الجلد المدبوغ على ما بني عليه، ثم ذكر الشيخ حفظه الله تصحيح القول بمنع الأكل من عند نفسه بإيراد حجته.
وقد نص الشافعي في القديم، وفي رواية حرملة (5) على ما هداه إليه خاطره المتين، قال الزعفراني: قال أبو عبد الله الشافعي في كلام ذكره: يحل أن يتوضأ في جلدها إذا دبغ، وذلك الذي أباحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه، فأبحناه كما أباحه، ونهينا عن أكله بحمله أنه ميتة، ولم يرخص في غير ما رخص فيه خاصة، ثم قال: وليس ما حل لنا الاستمتاع ببعضه بخبر الذي يبيح لنا ما نهينا عنه من ذلك الشيء بعينه بخبر: ألا ترى أنا لا نعلم اختلافاً في أنه يحل شراء الحمر والهر، والاستمتاع بها، ولا يبيح أكلها، وإنما نبيح ما يبيح، ونحظ ما حظر.
وقال في رواية حرملة: يحل الاستمتاع به بالحديث، ولا يحل أكله بأصل إنه ميتة.
__________
(1) أضفتها ليتم السياق.
(2) الأم: (2/181 – 182).
(3) الأم: (2/203).
(4) يعني والد إمام الحرمين.
(5) انظر مذهبه في الاقناع: (1/24).(5/49)
ورأيته أدام الله عصمته، اختار في تحلية الدابة بالفضة جوازها، وأظنه علم كلام الشافعي في كتاب مختصر البويطي والربيع، ورواية موسى ابن أبي الجارود حيث يقول: وإن اتخذ رجل أو امرأة آنية من فضة أو من ذهب، أو ضبباً بهما آنية، أو ركباه على مشجب (1). أو سرج فعليهما الزكاة، وكذلك اللجم والركب، هذا مع قوله في روايتهم: لا زكاة في الحلي المباح، وحيث لم يخص به الذهب بعينه، فالظاهر أنه أراد به كليهما جميعاً، وإن كانت الكناية بالتذكير يحتمل أن تكون راجعة إلى الذهب دون الفضة كما قال الله عز وجل: ? وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ? (التوبة: من الآية34).
فالظاهر عند أكثر أهل العلم أنه أراد به كليهما معاً، ون كانت الكناية بالتأنيث يحتمل أن تكون راجعة إلى الفضة دون الذهب.
وقد علم الشيخ أبقاه الله ورود التحريم في الأواني المتخذة من الذهب والفضة عامة (2)، ثم وردت الإباحة في تحلية النساء بهما، وتختم الرجال بالفضة خاصة، ووقف على اختلاف الصدر الأول رضي الله عنهم في حلية السيوف، واحتجاج كل فريق منهم بقوله بخبر، فنحن، وإن رجحنا قول من قال بإباحتها بنوع من وجوه الترجيحات، ثم حظرنا تحلية السيف، والسرير وسائر الآلات، ولم نقسها على التحريم بالفضة، ولا على حلية السيوف، فتصحيح إباحة تحلية الدابة بالفضة من غير ورود أثر صحيح مما يشق ويتعذر، وهو أدام الله توفيقه أهل أن يجتهد ويتخير.
__________
(1) المشجب: حشيات موثقة تنصب، فينثر عليها الثياب. انظر (( المصباح المنير)): (2/305).
(2) يشير إلى حديث أم سلمة: الذي يشرب ويأكل في آنية الذهب والفضة فكأنما يجرجر بطنه في نار جهنم، وهو في صحيح مسلم : (14/ 27 – 30).(5/50)
وما استدل به من الخبر بأن أبا سفيان أهدى إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيراً برته (1) من فضة فغير مشتهر، وهو إن كان فلا دلالة له في فعل أبي سفيان؛ إذ لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه تركه ثم ركبه، أو أركبه غيره، وإنما الحديث المشهور عندنا ما رواه محمد بن إسحاق بن يسار، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: أهدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هديه جملاً لأبي جهل في أنفه برة فضة ليغيظ به المشركين (2).
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا ابن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بكير، عن ابن اسحاق، الحديث(3).
وكان علي بن المديني يقول: كنت أرى هذا من صحيح حديث ابن إسحاق، فإذا هو قد دلسه.
حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن محمد بن إسحاق قال: حدثني من لا أتهم عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس فإذا الحديث مضطرب.
__________
(1) البرة: حلقة تجعل في أنف البعير ليذل ويأتلف، انظر (( شرح الخشني)): (3/444).
(2) رواه أبو إسحاق في (( السيرة)): (3/444)، وأحمد في مسنده)): (1/234)، وأبو داود: (رقم 1749)، والطبري في (( المعجم الكبير)): (11/ 91/ 92).
(3) المستدرك: (1/467)، فقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.(5/51)
أخبرنا بهذه الحكاية محمد بن عبد الله الحافظ، أخبرني محمد بن صالح الهاشمي، حدثنا أبن جعفر السبيعي، حدثنا عبد الله بن علي المديني قال: حدثني أبي فذكرها. وقد روي الحديث عن جرير بن حازم، عن ابن أبي نجيح، ورواه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم عن ابن عباس، وليس بالقوي (1)، وقد أخبرنا محمد بن موسى بن الفضل، أخبرنا أبو عبد الله الصفار، حدثنا أحمد بن محمد المزني القاضي، حدثنا محمد بن المنهال، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدى جملاً لأبي جهل يوم الحديبية كان استلبه يوم بدر، وفي أنفه برة من فضة، وكذلك رواه أبو داود السجستاني في كتاب السنن عن محمد بن المنهال: برة من ذهب(2).
أخبرنا أبو علي الروذباري، أخبرنا أبو بكر بن داسة، حدثنا أبو داود فذكره، وقال: عام الحديبية، ولم يذكر قصة بدر(3).
وقد أجمعنا على منع تحلية الدابة بالذهب، ولم ندع فيه ظاهر الكتاب بإيجاب الزكاة فيه، وعده إذا لم يخرجها من الكنوز بهذا الخبر، وكذلك لا ندعه في الفضة، وليس في الحديث، إن ثبت في الفضة، صريح دلالة في المسألة، وبالله التوفيق والعصمة.
وقد حكى لي عن الشيخ أدام الله عزه أنه اختار جواز المكتوبة على الراحلة الواقفة، إذا تمكن من الإتيان بشرائطها مع ما في النزول للمكتوبة في غير شدة الخوف من الأخبار والآثار الثابتة، وعدم ثبوت ما روي في مقابلتها دون الشرائط التي اعتبرها.
__________
(1) صدوق سيئ الحفظ جداً، قال شعبة: ما رأيت أسوأ من حفظه، وقال ابن معين، ليس بذاك. انظر التقريب: (2/184). والمغني في الضعفاء: (2/603).
(2) سنن أبي داود: (2/145).
(3) انظر معالم السنن للخطابي: (2/151)، والخطابي تلميذ ابن داسة، وراوي نسخته.(5/52)
وقد قال الشافعي رضي الله عنه في الإملاء: (( ولا يصلي المسافر المكتوبة بحال أبداً إلا حالاً واحداً إلا نازلاً في الأرض، أو على ما هو ثابت على الأرض، لا يزول بنفسه مثل البساط والسرير والسفينة في البحر)) (1).
فلما وصلت الرسالة إلى أبي محمد قال: هذه بركة العلم ودعا للبيهقي، وترك إتمام ذلك التصنيف(2)، وقال في البيهقي: ما من شافعي إلا وللشافعي عليه منة إلا البيهقي فإنه ناصر مذهبه
(3).
فقه نصيحة البيهقي
بعد ذكر هذه النصيحة المطولة بتمامها نورد بعض دلالاتها كما يلي:
1- حوت هذه النصيحة معالم أدب التعامل بين العلماء، مع ذكر حسن بينهم، إلى مودة صادقة، إلى حرص على توالي التوفيق والخير، إلى دعاء بالتوفيق للمنصوح، بما يجعلها معلمة نصح وإرشاد للناصحين.
2- جرت النصيحة في مسائل علمية بين عالمين فحلين من فحول المذهب، وإمامين من أئمة ذلكم الزمان بكل أريحية وتقبل.
3- يلحظ في الرسالة حرص البيهقي على إصابة أبي محمد للصواب، وتحريه للدقة.
4- كان جواب النصيحة جميلاً، اعترافاً بفضل، ودعوة صالحة، والإقلاع عما نصح فيه.
5- لقد كانت النصيحة شهادة حق حفظت لهذين الإمامين، فما ذكر النصح إلا ذكرا معه، وما ذكر الوقوف عن الحق إلا تعلم الناس منهما.
6- النصيحة مملوءة تواضعاً وخضوعاً وذلاً للمؤمنين، وعدم تعال، ولا تهجم على شخص المنصوح وعلمه، وهذا من الأمور المفقودة عند الناصحين في زماننا هذا.
النصيحة السادسة
نصيحة الإمام الغزالي لأحد حكام عصره
الإمام أبو حامد الغزالي أحد علماء زمانه، ولقد نصح أهل زمانه عامة وخاصة، ولقد كان من نصحه رسالة بعث بها إلى أحد حكام عصره، وهو فخر الملك، قال فه فيها:
__________
(1) الطبقات: (3/210 – 217)، مجموعة الرسائل المنبرية.
(2) طبقات الشافعية للسبكي: (3/210 – 217).
(3) الطبقات: (3/210).(5/53)
(( اعلم أن هذه المدينة (مدينة طوس) خراباً بسبب المجاعات والظلم، ولما بلغ الناس توجهك من أسفرائين ودامغنان خافوا، وبدأ الفلاحون يبيعون الحبوب، واعتذر الظالمون إلى المظلومين واستسمحوهم، لما كانوا يتوقعون من إنصاف منك، واستطلاع للأحوال، ونشاط في الإصلاح.
أما وقد وصلت إلى طوس، ولم ير الناس شيئاً، فقد زال الخوف، وعاد الفلاحون والخبازون إلى ما كانوا عليه من الغلاء الفاحش والاحتكار، وتشجيع الظالمون، وكل من يخبرك من أخبار هذا البلد بخلاف ذلك، فاعلم أنه عدو دينك.
واعلم أن دعاء أهل طوس بالخير والشر مجرب، وقد نصح للعميد كثيراً، ولكنه لم يقبل النصيحة، وأصبح عبرة للعاملين، ونكالاً للآخرين، واعلم يا فخر الملك، أن هذه الكلمات لاذعة مرة قاسية لا يجرؤ عليها إلا من قطع أمله من جميع الملوك والأمراء، فاقدرها قدرها، فإنك لا تسمعها من غيري، وكل من يقول غير ذلك، فاعلم أن طمعه حجداب بينه وبين كلمة الحق)) (1).
فقه نصيحة الغزالي
هذه نصيحة الغزالي تتجلى فيها الدلالات التالية:
1- الحرص الشديد على إيصال الصورة الحقيقية للبلاد إلى فخر الملك دونما تقصير أو مداهنة أو نفاق.
2- القوة في الخطاب، وقد وقعت موقعها، وجاءت في موعدها.
3- الحرقة على أحوال الناس في زمانه من شدة المعاش، إلى مظالم تترى، مما ألزم الغزالي أن يبعث بهذه الرسالة تتضمن هذه النصيحة الصادقة.
الخاتمة
هذه كلمات في فقه النصيحة التي ألزمنا الله بها، وجعلها رسوله - صلى الله عليه وسلم - ديناً، وبايع عليها أصحابه، وعليها تعاقدت مواكب المؤمنين، ولانت جوانب الصالحين، وليس لكتابه فيه إلا الجمع والترتيب، ويرجو به حسن الثواب من الله سبحانه وتعالى، وأن يجعل العمل خالصاً لوجهه الكريم، ويرجو من نظر فيه تطبيق مفرداته على أخطائه إن كانت، إنه على ما يشاء قدير.
والحمد لله رب العالمين
__________
(1) رجال الفكر والدعوة: (ص 238 – 239)، نقلاً عن رسائل الغزالي بالفارسية.(5/54)
بسم الله الرحمن الرحيمتأليف الشيخ
وليد بن راشد السعيدانقواعد
في الحكم على الآخرين
بسم الله الرحمن الرحيم
(( وبه نستعين ))
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلى الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد :
فهذه الكتابة إطلالة جديدة على مسألة مهمة تشتد الحاجة إلى معرفتها والفقه فيها، وذلك لكثرة من خاض فيها بالحق تارة وبالباطل تارات، والجهل بها موجب للوقوع في أعراض الآخرين بالتخرص والظنون الكاذبة، وإن مما جاءت به الشريعة حفظ الأعراض وعدم التعرض لها بقولٍ أو فعلٍ بلا علم ولا برهان وهي مسألة الحكم على الآخرين بالأحكام الشرعية كالحكم على الغير بالكفر أو البدعة أو الفسق أو التأثيم أو توجيه اللعن إليه وغير ذلك، والذي أوجبها هو أنني رأيت من أهل زماننا الشيء الكثير من مخالفة الحق فيها مع انسياق كثير من العامة وراء هذه الأحكام وولوع الكثير بتناقلها وإذاعتها في مجالسهم حتى صارت هذه الأحكام الصادرة من أفواه هؤلاء كأنها نصوص تحرم مخالفتها ويوصف بالسوء من حاول ردها أو مناقضتها، وقد شهدنا في هذا الزمن من يترأس المجالس بمثل هذه الأحكام العظيمة وهو حقير رويبضة لا يعرف بعلمٍ ولا طول مجالسة لأهله، وتراه قد لبس مسوح العلماء وتزيا بزيهم مخادعة للعامة ولا يتورع عن الكلام في مسائل لو عرضت على كبار أهل العلم لهابوها ووجلوا منها وترى هذا الأحمق قد نصب نفسه للقول فيها فيخطئ هذا ويُكفر ذاك ويُفسق الثالث ويرمي بشررٍ من القول والبهتان العظيم على إخوانه بلا هوادة .(6/1)
وقد حصل لي أن جمعني مع بعضهم مجلس فدار الحديث عن بعض المسائل ففوجئت بزخات من الكلام الذي نزل عليّ وعلى الحاضرين كالصواعق فقلت في نفسي: " إن هذا له شأن عظيم " فوافق أن سألته عن شروط الشهادة ونواقضها فإذا هو فيها أجهل من حمار أهله، وسألته عن بعض ضوابط التكفير عند أهل السنة والجماعة فإذا هو يفغر فاه بقوله : " هذا ليس بشرطٍ تعلمه " فأخذتني الحمية وقلت – وقد رفعت صوتي – : " إنه من لم يعلم هذه المسائل وهذه القواعد والضوابط لا يجوز له أن يتكلم في مثل هذه المسائل، ولا أراك إلا مخدوعاً أو داعي ضلالة وأقمته من المجلس " فخرج متوعداً أن الرد هو ما تراه لا ما تسمعه ، ولكن الله تعالى عصمني منه ورد كيده في نحره .(6/2)
والمقصود أن إظهار منهج أهل السنة في الحكم على الآخرين من الوجبات المتحتمات وخصوصاً في هذا الوقت فإن الحاجة له ماسة جداً ويعرف ذلك من يتتبع أحوال المخالفين فيه ، وقد أخذ العهد على من يعلم شيئاً أن يبلغه لغيره ، فعسى الله أن ينفع بما نقول ونكتب، وإن الدافع لها محض النصيحة لله ورسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، وإنني أحب لك ما أحبه لنفسي وقد كنت شرحت طرفاً من ذلك في بعض المجالس فأحببت أن أجمعه لك في هذه الوريقات اليسيرة التي أجزم أنك تعرف أكثرها لكنه التذكير والتواصي بالحق ، وكل ما سأدونه إنما هو مأخوذ من كتب أهل العلم وإنما وظيفتي الجمع والتأليف بين كلامهم فقط ، فليس لي في هذه الكتابة إلا أن رتبت ما قالوه ويسرت ما يحتاج إلى تيسير ودللت لما يحتاج إلى تدليل وإلا فالفضل لله وحده ثم لهم وإنما هو التشبه بهم عسى أن أنضم في سلكهم وأحشر معهم ، فالله أسأل أن يغفر لهم ويرحمهم ويرفع درجاتهم في الفردوس الأعلى . وأسميت هذه الوريقات بقواعد في الحكم على الآخرين ، فيارب أسالك باسمك الأعظم أن توفقني فيه للحق الموافق للكتاب والسنة وأن تفتح علي فيه بالقول الحسن وأن تنزل فيه البركة تلو البركة وأن تشرح له الصدور وتجعله نافعاً في هذا الباب وتعينني على إنهائه وإكماله على الوجه المقبول ، وأعوذ بك من الهوى والزلة واتباع الشهوات وأسألك بأسمائك وصفاتك أن تهدي قلوبنا وجوارحنا إليك وأن تعلمنا ما ينفعنا وأن تنفعنا بما علمتنا وأن ترزقنا العمل بما علمتنا.. آمين ، فإلى المقصود والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم وأستغفر الله وأتوب إليه وأستلهمه المزيد من التوفيق والتأييد والقبول فأقول : إن خير طريق لضبط العلم هو التقعيد مذيلاً بالتدليل والتفريع ، وهذا هو ما سأسلكه في هذه الكتابة إن شاء الله تعالى وإليك القول فيه .
(( القاعدة الأولى ))
يجب صون المنطق عن الحرام(6/3)
ويسنّ كفّه عن المكروه وفضول المباح
أقول : اعلم أرشدنا الله وإياك للطاعة والهدى أنني بدأت بهذه القاعدة لأنها أم الباب فإن الأحكام على الآخرين إنما مصدرها اللسان فلابد من ضبطه وإحكامه ، وهذه القاعدة هي القاعدة فيه وهو أنه يجب وجوب عين كفه عن الكلام إذا كان من قبيل الحرام ، والحكم على الآخرين نوع من الكلام في أعراضهم فإذا لم يكن بعلم وبرهان فإنه يكون حراماً فيجب حينئذٍ كف اللسان عن ذلك واعلم أن هذه الجارحة عظيمة الخطر إذا لم تضبط بميزان الشريعة ولذلك عظم جزاء من حفظها لما في الصحيح من حديث سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من يضمن لي ما بين فكيه وما بين فخذيه أضمن له الجنة ) فدل ذلك على أن أعظم ما ابتلي به العبد لسانه وفرجه ، وإن كلمة من هذا اللسان قد يجعلها الله تعالى سبباً لرضاه أو سخطه إلى يوم القيامة كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يعلم مبلغها يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم القيامة وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يعلم مبلغها يهوي بها في النار سبعين خريفاً ) وفي لفظ ( أبعد ما بين المشرق والمغرب ) ويكفيك لبيان خطر المنطق أن الله تعالى قد وكل ملائكة بالعبد يكتبون عليه منطقه، قال تعالى:{ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيْبٌ عَتِيْد } فقول: { مَا يَلْفِظُ } نفي، وقوله: { مِنْ قَوْلٍ } نكرة وقد تقرر في القواعد أن النكرة في سياق النفي تعم فيدخل في ذلك كل قول بلا استثناء وحصائد اللسان من أكثر ما يدخل الناس النار كما في السنن من حديث معاذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم ) وفي الحديث ( إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان تقول: إنما نحن بك إن(6/4)
استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا ) وقال عليه الصلاة والسلام لمن قال له أوصني: ( أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك ) واعلم يا رعاك الله أن الحكم على الغير بكفر أو لعن أو بدعة بلا علم ولا برهان نوع من السباب وقد قال عليه الصلاة والسلام : ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) متفق عليه من حديث ابن مسعود .
وإن مما جعل الأمر خطيراً هو أنك إذا أصدرت الحكم بالكفر على أحد وليس هو كذلك فإن قولك يعود عليك وزره كما قال عليه الصلاة والسلام : ( أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ) متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. وعن أبي ذر الغفاري قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك ) رواه البخاري . وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من دعا رجلاً بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه ) متفق عليه ، - أي رجع عليه قوله هذا - فاحذر حفظك الله من ذلك فليس الحكم على الغير بالأمر السهل الذي يسوغ فيه القول إلا إذا كان مبنياً على نور الكتاب وهدي السنة المطهرة ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم ) رواه مسلم من حديث أنس وأبي هريرة رضي الله عنهما .(6/5)
واعلم أنه ليس من طبع المسلم الوقوع في عرض إخوانه المسلمين بل ينبغي الترفع عن ذلك فإن الترفع عن التكفير والسباب والتفسيق والتبديع وحفظ المنطق من ذلك موصل صاحبه لدرجة الصديقية كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( لا ينبغي لصديق أن يكون لعاناً ) رواه مسلم ، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة ) رواه مسلم أيضاً . فاللسان آفته عظيمة وعواقب عدم حفظه وخيمة فاحذره فإنه كالأفعى بين فكيك ، فكيف بالله عليك يرتاح من بين فكيه ثعبان ؟! ولله در القائل :
إحذر لسانك أيها الإنسان ... ... ... لا يلدغنك إنه ثعبان(6/6)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: توفي رجل من الصحابة فقال رجل :
" أبشر بالجنة " فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( وما يدريك فلعله تكلم فيما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه ) رواه الترمذي . وعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله: ما أخوف ما تخاف عليّ ؟ قال: فأخذ بلسان نفسه وقال : ( هذا ) صححه الترمذي ، وعن علي بن الحسين قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ) رواه مالك وأحمد بسند صحيح . وعن بلال بن الحارث قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الرجل لتكلم بالكلمة من الخير ما يعلم مبلغها يكتب الله لها بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يعلم مبلغها يكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة ) وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذيء ) رواه الترمذي . وعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يكون المؤمن لعاناً ) وفي رواية ( لا ينبغي لمؤمن أن يكون لعاناً ) وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : ( سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها ثم تأخذ يميناً وشمالاً فإذا لم تجد مساعاً رجعت إلى الذي لُعن فإن كان كذلك وإلا رجعت إلى قائلها ) رواه أبو داوود بسند فيه ضعيف ، وبناء على هذه الأحاديث فيجب صون المنطق والمراد به اللسان عن الكلام المحرم من الغيبة والنميمة والفحش والبذاءة والسباب والشتائم ووصف الآخرين بالأوصاف التي لا تجوز كالوصف بالكفر أو البدعة أو الفسق أو توجيه اللعنة إليه أو غير ذلك من المنطق الحرام ، والسكوت عن هذا واجب لأنه قد تقرر في القواعد أن مالا(6/7)
يتم ترك الحرام إلا به فتركه واجب وفعله محرم ، ولأن الإنسان محاسب بأقواله الصادرة من بين شفتيه ولماذا يعرض الإنسان نفسه إلى شيء هو في غنى عنه، قال تعالى:{ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِم أَلْسِنَتهُمْ وَأيْدِيْهِم وِأرْجُلهِم بمَا كَانُوا يَعْمَلُون } وقال تعالى : { سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا } فاحذر يا أخي كل الحذر من زلل اللسان فإن زلته أعظم أثراً من زلة القدم ، وإن لك عرضاً كما للناس أعراض فعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به ، ومن كان بابه من زجاج فلا يحذف الناس بالحجر ، وهذا من أمور التعبد ، أي أننا نتعبد لله تعالى بحفظ أعراض إخواننا وسلامتها من ألسنتنا وفي الحديث ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) وإنه ليس شيء أحق بطول الحبس من اللسان ومن صمت نجا ، وفي الصحيح من حديث أبي هريرة مرفوعاً ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت ) فهذا الحديث توكيد هذه القاعدة فإننا ندبنا على لسان رسولنا - صلى الله عليه وسلم - ألا نقول إلا الخير من قراءة قرآن أو ذكر من تسبيح أو تكبير أو تهليل أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو تعليم علم أو الكلام في الشيء الذي يعود علينا نفعه في العاجل أو الآجل ، وأما غيره – أي غير الكلام بالخير – فإننا مندوبون إلى أن نصمت عنه فلله در هذا الحديث ما أعظمه وأجمعه فإنه القاعدة الشرعية التي إذا سلكها المسلم فإنه سيكون من الناجين من خطر هذه الجارحة التي هي من أكثر ما يكون سبباً لدخول النار والعياذ بالله ، فإن قلت : فما حكم الصمت إذاً ؟ فأقول : إن الصمت يختلف حكمه باختلاف الحال، فأما الصمت عن الحرام فواجب وهو معنى قولنا في القاعدة ( يجب صون المنطق عن الحرام ) وأما الصمت عن ما يجب بيانه فمحرم ، وأما الصمت عن ما يستحب بيانه فمكروه، وأما الصمت عن المكروه وفضول المباح – أي الكلام الزائد عن الحاجة كالسواليف وسرد القصص بلا حاجة والفكاهات والاستطراد في حديث الدنيا(6/8)
من البيع والشراء وتحليل الأحداث السياسية والرياضية ونحو ذلك – كل ذلك مما يسن كف الكلام عنه وذلك لأن من أكثر منه فإنه لا يكاد يسلم من الوقوع في الأعراض وإن المتقرر أن من كثر كلامه كثر سقطه ومن كثر سقطه ذهبت هيبته من القلوب ، وفي المثل :
لسانك حصانك.. إن صنته صانك.. وإن خنته خانك...
فاحذر زلات اللسان وسقطات المنطق فإنك تحكم الكلمة ما دامت لم تخرج منك فإن خرجت فإنها تحكمك ومن ذلك إصدار الأحكام على الآخرين فإنه نوع من المنطق الحرام إن كان بلا علم ولا برهان أو كان يترتب عليه مفاسد أعظم من المصلحة المرجوة، وإنك في سلامة وعافية ما دمت سالماً من الحكم على الآخرين فلا تورد نفسك مورد العطب فإن السلامة لا يعدلها شيء، فالقصد القصد والخشية الخشية والرفق الرفق فإنه ما كان في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه ، وعليك بخاصة نفسك واشتغل بالنظر في عيوبك وأقبل على إصلاحها ودع الخلق للخالق، واعلم أن للمجال رجاله ، ولا تفرح بحكم صدر منك على أخيك بل حقك أن تحزن وتخاف لأنك عنه مسئول وبقولك محاسب ولا يخدعنك الغوغائيون وحثالة الناس إن نصبوك للقول في إخوانك وقيدوا ما تقول في أوراقهم فإنهم عليك شاهدون وارحم المسلمين وأشفق عليهم فإنهم إخوانك و ( إنما المؤمنون إخوة ) و ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ) وعليك بالنصحية لا الفضيحة ، وإني لا أريد ختم الكلام على هذه القاعدة العظيمة لعلمي أننا ما أتينا إلا من قبل هذا اللسان فالله أسأل أن يحفظ علينا ألسنتنا وأن يحفظ أعراض إخواننا منها والله يتولانا وإياك وهو أعلم.
(( القاعدة الثانية ))
لنا الظاهر والله يتولى السرائر(6/9)
روى أصحاب الصحيح من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه قال : بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سرية فصحبنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلاً فقال : لا إله الله، فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال :
( قال لا إله إلا الله وقتلته ؟ قال قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفاً من السلاح، فقال : أفلا شققت من قلبه حتى تعلم أقالها أم لا كيف تفعل بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة ؟ قال قلت: يا رسول الله استغفر لي، قال : كيف تفعل بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة ؟ فجعل لا يزيده على أن يقول : كيف تفعل بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة ) - فانظر كيف مغبة الدخول في المقاصد والنيات - حتى قال أسامة : فما زال يكررها عليّ حتى تمنيت أني أسلمت يومئذٍ . وهذا دليل قوي على أنه لا يجوز أن نتعرض للنيات بتحليل ولا تفسير وإنما الواجب علينا هو التعامل مع الظاهر فقط فكان الواجب على أسامة رضي الله عنه وأرضاه أن يكف عن قتل هذا الرجل الذي نطق بالشهادة ، ولذلك شدد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - الإنكار ولم يجبه لما طلب منه أن يستغفر له . ومثل هذا حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال قلت : يا رسول الله أرأيت إن لقيت أحداً من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فقال: " أسلمت لله " أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها ؟ قال: لا تقتله ، قال: قلت : يا رسول الله إنه قد قطع يدي وقالها بعد أن قطعها أفأقتله ؟ قال: ( لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال ) وهو في الصحيح وهذا يدل على أن أمر القلوب إنما هو وقف على علام الغيوب فلا مدخل لأحد فيها ولا يجوز لأحدٍ أن يتعدى على من أظهر الإسلام بقولٍ أو فعلٍ بحجة أنه يقصد كذا أو ينوي كذا فإن هذا إدخال للنفس في شيء لا يخصها " ومن حسن إسلام المرء تركه ما(6/10)
لا يعنيه " وما سلم في دينه إلا من أمسك لسانه عن بواطن الناس وأسرار نفوسهم ، وفي الحديث ( من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله له ما لنا وعليه ما علينا ) وقال تعالى : { يَا أَيُهَا الذِّيْن آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ في سَبِيْلِ الله فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرضَ الحيَاةِ الدُّنيَا فَعِنْدَ الله مَغَانم كَثِيرَة كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِن قَبلُ فَمَنَّ الله عَلَيكُم فَتَبَيَّنُوا إنَّ الله كَانَ بمَا تَعمَلُونَ خَبِيراً } . فهذا يفيد أن من أظهر لنا الإسلام فهو مسلم من غير تعدٍ منا على باطنه وما يخالج نفسه فإن هذا مردّه إلى الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور ، فأمور البواطن إلى الله تعالى لا شأن لأحد بها وبناءً على ذلك فإياك رحمك الله تعالى أن تبني حكماً على الآخرين بالنظر إلى بواطنهم فإنك إن فعلت ذلك تكون قد بنيت حكمك هذا على الظن والتخرص ، وهذا محرم لا يجوز، فاحذر منه أشد الحذر وإياك أن تقول فلان قصده كذا ويريد كذا ويرمي بكلامه إلى كذا فإن هذا شيء فهمته أنت وفهمك لا يكون حاكماً على أخيك وعامل الناس بما يظهر منهم ولا شأن لك بمقاصدهم فالأصل في المسلمين السلامة فابق على هذا الأصل حتى يرد الناقل بيقين . ولله در الإمام الطحاوي إذ قال : " ولا نحكم عليهم بكفرٍ وشركٍ ونفاقٍ ما لم يظهر منهم شيء من ذلك ونذر سرائرهم إلى الله " أهـ . وبالله عليك هل ترضى أن يحكم عليك غيرك بمجرد النظر إلى باطنك ؟؟ بالطبع لا فشيء لا ترضاه لنفسك فكيف ترضاه للناس فعامل غيرك بما تحب أن يعاملك غيرك به . وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعامل المنافقين بما يظهر منهم وكان يقول : ( إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس وأشق بطونهم ) ولما جاء المخلفون عن غزوة تبوك يحلفون له أنه ما خلفهم إلا العذر(6/11)
قبِل منهم واستغفر لهم عملاً بالظاهر وتركاً للنظر في السرائر فنحن مأمورون بالنظر إلى الظاهر فقط وأما الباطن فلا شأن لنا به فإن تتبعه من الظن المنهي عنه كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْم }. وقال تعالى : { إِنْ يَتَّبِعُونَ إلا الظَّن وَمَا تهوَى الأَنْفُس وَلَقدْ جَاءَهُم مِنْ رَبهِم الهُدَى } هذا هو طريق السلامة وأصحاب هذا الطريق هم المهديون الموفقون السالمون من المؤاخذة في الدنيا والآخرة واعلم أن الحكم على بواطن الناس مدخل شيطاني وخيم فكم حصل به من التفرق والاختلاف والمنازعة والمهاجرة والمدابرة فإن الشيطان يملي على النفس والقلب من الإيحاءات الباطلة ما يكون سبباً في بث الشحناء فإن الشيطان لما أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب سعى إلى التحريش بينهم والدخول في أمر البواطن باب من أبواب الشيطان التي تعينه على تحقيق مقصده هذا ، فهل تريد أن تكون عوناً لعدونا الأول والآخر على نيل مأربه منا ؟! بالطبع لا.. فإذاً اشدد يديك بهذه القاعدة واجعلها نصب عينيك دائماً بل إن تتبع بواطن الناس نوع من تتبع عوراتهم ومن تتبع عورة مسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه الله في قعر داره ، ولذلك فالمنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أن الإنكار متعلق بالرؤية فلو كان مستوراً فلم يره فإنه لا يعرض له ولا يفتش على ما استراب به ، وأما تسور الجدران على من علم اجتماعهم على منكر فقد أنكره الأئمة كسفيان الثوري وغيره ، وهو داخل في التجسس المنهي عنه ولما قيل لابن مسعود: إن فلاناً تقطر لحيته خمراً ، قال : " نهانا الله عن التجسس " . واعلم أن تتبع الباطن من تتبع الشبهات المنهي عنه شرعاً كما في حديث النعمان " وبينهما أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " متفق عليه .(6/12)
واتقاء البواطن نوع من الورع وعليك إذا ورد عليك شيء من ذلك أن تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وتقرأ سورة الناس لتذكر نفسك بأن هذا من الوسوسة التي يلقيها إبليس وفي جامع الترمذي من حديث أنس قال: توفي رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال رجل: أبشر بالجنة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أوَ لا تدري فلعله تكلم بما لا يعنيه أو بخل بما لا يغنيه ) وفي الصحيح من حديث محمود بن الربيع عن كعب بن مالك : لما تكلم رجال الدار في مالك بن الدخشن واتهموه بالنفاق وأنه لا يحب الله ورسوله أنكر عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك وقال : ( ألا تراه قد قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ) فقال رجل : إنه يقول ذلك وما هو في قلبه، فقال عليه الصلاة والسلام : ( فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله ) - وهذا أصل في العمل بالظاهر وترك السرائر - ولما فعل حاطب رضي الله عنه ورفع نزله في الفردوس الأعلى ما فعل ، اعتذر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقبل منه عذره إعمالاً للظاهر وتركاً للسرائر وقال : ( أما أنه قد صدق فلا تقولوا إلا خيراً ) ولما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للجارية أين الله ؟ قالت في السماء، فقال من أنا ؟ قالت : أنت رسول الله ، فقال : أعتقتها فإنها مؤمنة . وهذا إعمالاً للظاهر ولم يمتحنها ليعلم ما باطنها فإن هذا مسلك المتنطعين لا كثرهم الله تعالى .
ولما مات عبد الله بن أبي بن سلول وهو من المشهورين بالنفاق،ورثه ابنه عبد الله وهو من خيار المؤمنين بل ثبت أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - أعطني قميصك أكفنه فيه فأعطاه إياه.(6/13)
وكل ذلك إعمالاً للظاهر لأن النفاق أمر قلبي؛ ولذلك قال أهل العلم : إن أمور الناس في معاملة بعضهم بعضاً إنما تجرى على الظاهر من أحوالهم دون باطنها وأن من أظهر شعار الدين أجري عليه حكمه ولم يكشف عن باطن أمره ولذلك فقد حكموا على أنه إذا وجد مختون بين قتلى غرلاً فإنه يعزل عنهم في المدفن لأن الظاهر أنه مسلم ، ولو وجد لقيط في بلد من بلاد المسلمين حكم بإسلامه إعمالاً للظاهر ولذلك فإن أمور القلب ليس لك طريق إلى معرفتها . فقف عند الظاهر ودع السرائر والمقاصد إلى الله تعالى ، ولعل فيما ذكرناه كفاية إن شاء الله تعالى لأن المقام مقام اختصار والله يحفظ علينا ألسنتنا ويكفينا شرور أنفسنا، والله أعلم .
(( القاعدة الثالثة ))
صفاء السريرة على المحكوم عليه وإحسان الظن به
مطلب أساسي في الحكم عليه(6/14)
أقول: إن نقاء السريرة وصفائها على إخوانك أمر واجب ما استطعت إليه سبيلاً وهو سبب من أسباب دخول الجنة ، والكل يعلم حديث الرجل الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات : ( يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة ) وفي آخره قال الرجل لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم : " ماهو إلا ما رأيت يابن عمرو غير أني لا أبيت وفي قلبي غلاً لأحدٍ من عباد الله " ، أو كما قال رضي الله عنه . وهذا أمر وإن كان في بداياته صعب غير أنه يسير على من يسره الله عليه ، وهذه القاعدة العظيمة المهمة لو روعيت في الحكم على الآخرين لسقط ثلاثة أرباع هذه الأحكام التي بنيت على عداواتٍ مسبقة أو غيرةٍ مذمومة أو حسدٍ بغيض ، فإذا كان المحكوم عليه بينك وبينه عداوة على أمر من أمور الدنيا فإياك أن تنصب نفسك حاكماً عليه فإنه لابد أن تجور غالباً في حكمك لأن أمور الباطن مؤثرة تأثيراً كبيراً على أمور الظاهر وخصوصاً إذا كان المحكوم عليه من أهل السنة الذين عندهم شيء من الخطأ ، فتجد هذا الحاكم يفرح بما يجده من الخطأ حقيقة أو في ظنه ويطير به أيما مطار ، ويبثه في المجالس العامة والخاصة ويصرح باسم المحكوم عليه، ويضخم خطأه حتى يجعل من الحبة قبة ومن النملة فيلاً ومن النقطة بحراً ومن الشرارة ناراً عظيمة في قلب من يسمعه إن كان حقوداً أو قليل أدب مثله، وسبب ذلك قلة حيائه وعدم خوفه من الله تعالى ولأنه يحمل في قلبه على المحكوم عليه أشياء من الأحقاد والأضغان أو الحسد أو الغيرة المنهي عنها ويريد جاهداً بالسعي الحثيث أن يسقطه من عين الآخرين بأي طريق وهذا أمر محرم لا يجوز، وما أشد عقوبة هذا عند العليم الخبير . وقد كثر مثل هؤلاء الشرذمة في عصرنا يقعون في خيار الأمة وساداتها وعلمائها ولا يكاد يسلم من ألسنتهم أحد ويدعون أهل الأوثان والفسق والعصيان والزندقة والعلمنة والحداثة فما أصدق قول النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم : ( يقتلون(6/15)
أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ) ولذلك فإنه من الواجب أن يكون مبدؤك إن أردت الحكم على أحد واضطررت إليه أن يكون مبدؤك العدل كما سيأتي إن شاء الله تعالى وعليك أن تتذكر قول الله تعالى : { وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُم } وأكثر من هذا الدعاء الذي هو صفة من جاء بعد المهاجرين والأنصار المذكور في قوله تعالى : { وَالذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِم يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِر لَنَا وَلإخْوَاننَِا الذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تجعَلْ في قُلوبِنَا غِلاً للذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤوفٌ رَحِيم } وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى ) وتفكر لماذا منعت الشريعة من القضاء حال الغضب ؟ فإن ذلك لما يحدثه الغضب من تشويش الفكر واستيلاء شهوة النفس وحب الانتقام وعدم النظر السليم في الأدلة والقرائن المؤدي بدوره إلى عدم موافقة الحكم للحق والعدل وكذلك وجود العداوة والحسد والشحناء على المحكوم عليه موجب لذلك أيضاً فيمنع منه شرعاً وقليل من يسلم من هذا، وأضرب لك مثلاً بالخوارج الذين خرجوا على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتلوا الخليفة الثالث واستباحوا دماء المسلمين وجعلوا ديارهم ديار حرب ووقعوا في أعراضهم سباً وشتماً وما ذلك إلا للتأويلات الفاسدة ووجود عداواتٍ مسبقة. ومثال آخر بالرافضة فإنهم خلت قلوبهم من كل قضية إلا الوقوع في خيار الخلق بعد الأنبياء من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكفّروهم وتقربوا إلى الله – عفواً – بل إلى إبليس بسبهم وتجريحهم وتنقصهم والكذب عليهم وما ذلك إلا لوجود العداوات والأحقاد والغل الذي امتلأت به قلوبهم على خيار الأمة . ولا نزال نعايش المفاسد من هاتين الفرقتين الضالتين الخبيثتين إلى يومنا هذا . ومثال آخر : بالذين يقعون في أعراض الحكام والأمراء والملوك فإنه إذا سبرت أحوال الناس الذي يصدرون أحكاماً بالكفر أو النفاق أو الفسق(6/16)
أو أنه عميل ونحو ذلك وجدت كثيراً منها لأحقاد وشحناء على هؤلاء المحكوم عليهم وما ذلك إلا لأنهم منعوهم من حقهم أو أخذوا ما ليس لهم أخذه ؛ لكن لو كان الحاكم من أفجر الناس وصب على الناس المال صباً لوجدت الثناء والمدح له قد ملأ الآفاق وهذا نوع من النفاق وما هكذا تورد الأحكام . ومثال آخر : بالذي يحصل أحياناً قليلة بين الطلبة للعلم الذين يجرح بعضهم بعضاً ويقعون في أعراض إخوانهم بالقدح واتهام النيات فإن سبب ذلك إما حسد أو غيرة باطلة، فالمحكوم عليه بذلك فاق أقرانه بالتحصيل وانصراف الناس إليه وهذا المسكين يراوح في مكانه فامتلأت نفسه حسداً على أخيه ودعته للوقيعة فيه عساه أن يظفر ببغيته من ترك الناس له وانصرافهم عنه ، ولذلك لما نظر أهل السنة إلى ذلك قرروا قاعدة مهمة في هذا الباب وهي قولهم : [ كلام الأقران يطوى ولا يروى ] فما أجملها من قاعدة والوصية في الحياة وبعد الممات لمن نقل له شيء من ذلك بالصبر واحتساب الأجر ولا يرد فإن مثل هذه الفتن تزداد بالرد، واصبر على حسد الحسود فإن صبرك قاتله فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله ، وازجر الناقل وذكره بالله فإن من نقل لك نقل عنك ، ومن نمّ لك نمّ عليك، ولتستغفر لإخوانك وادع لهم بالصلاح والهداية فإنه بذلك يزداد قدرك عند الله وعند الخلق ، فأما الأخذ والرد والقيل والقال فإنها تزيد الأمر سوءاً ولا فائدة تجنى منها ويعود الأمر في آخره إلى الانتصار للنفوس لا إلى الوصول للحق وهذا شيء مجرب وقد وقعت فيه كثيراً وندمت، لكن الوقوع في شيء لا يلزم منه أن لا نحذر منه ، فاسع بارك الله فيك إلى تصفية باطنك على إخوانك ما استطعت وخصوصاً أهل العلم أعلا الله منارهم . وصفاء السريرة هي سلامة الصدر وفي الحديث : ( لا يذكر أحد منكم أحداً عندي بسوء فإن أريد أن أخرج إلى أصحابي وأنا سليم الصدر) وقد سمعت سماعاً محققاً أن بعض السذج حمله قبح سريرته على بعض إخوانه إلى أن استل من(6/17)
كتبهم وأشرطتهم ما يحلو له من الكلام الذي لو سمع أوله وآخره لعرف مقصود صاحبه وبدأ يبثه في الناس ويعرضه على بعض العلماء لأخذ رأيهم فيه ، وهذا أمر عظيم وعاقبته وخيمة عافانا الله وإياك منه ، فبالله عليك أيها الأخ الكريم أسدد علينا هذا الباب لا نؤتى من قِبَلِكْ فتبين بهذا أن هذه القاعدة أصل في هذا الباب يجب مراعاتها فإذا أردت أن تحكم على أحد فعليك بالنظر أولاً في باطنك هل ثمة عداوة مسبقة أو غيرة مذمومة أو حسد لأمرٍ من الأمور أو نحو ذلك فإن كان عندك على المحكوم عليه شيء من ذلك فاتق الله في نفسك وأخيك واصمت ولا تكن عوناً للشيطان واحفظ لسانك لأنك مهما فعلت فإن حكمك هذا لابد أن يشوبه شيء من التشديد والإفراط . وثانياً قدّم حسن الظن بأخيك المسلم فإن القاعدة عند أهل السنة تقول : الأصل إحسان الظن بالمسلمين ، فمهما استطعت أن تحمل كلام أخيك على محمل حسن فافعل وإن كانت هذه الكلمة الصادرة منه تحتمل احتمالات باطلة فالوِها أنت بحسن ظنك فيه إلى المعنى الحسن ، فإنك إن فعلت ذلك قتلت حظ الشيطان من قلبك ونفسك ولم تدع له مدخلاً عليك وبهذا نكون قد سددنا شيئاً كثيراً من هذا الباب وإن خالفت ذلك فلا شأن لنا بك وإنما المقصود التذكير فقط ، فينبغي لمن نصح لنفسه أن يراعي ذلك والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
واعلم رعاك الله تعالى أن هاهنا ثلاث بلايا ينبغي لأهل العلم بالكتاب والسنة الحذر منها وتحذير العامة منها فإنه ما امتلأت الصدور إلا بسبب التفريط فيها وهي الغيبة والنميمة والإشاعة ، وكل واحدة منها تحتمل كلاماً كثيراً لكن لما كان المقام مقام اختصار فأذكر المهم من الكلام عليها فأقول :(6/18)
أما الغيبة فاتفق أهل العلم رحمهم الله تعالى على أنها من كبائر الذنوب وعظائم الخطايا قال تعالى : { وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أِيحِبُّ أَحَدكُم أنْ يَأكُلَ لحْمَ أخِيْهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوه } أي إذا كنتم تكرهون ذلك طبعاً فاكرهوا الغيبة شرعاً ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( الغيبة ذكرك أخاك بما يكره ، فقال رجل: يا رسول الله أرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال : إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته ) وقال عليه الصلاة والسلام لعائشة لما قالت : حسبك من صفية كذا وكذا : ( مه يا عائشة لقد قلتي كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته ) . ورأى - صلى الله عليه وسلم - ليلة أسري به قوماً لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وجنوبهم وظهورهم فقال: ( من هؤلاء يا جبريل ؟ فقال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم ) قال بعض أهل العلم : إن لحوم العلماء مسومة وعادة الله في منتهكي أعراضهم معلومة ومن وقع في أعراضهم بالثلب عاقبه الله قبل موته بموت القلب. وينبغي أن تذبّ عن عرض أخيك فإن من ذبّ عن عرض أخيه في الدنيا ذبّ الله عن وجهه النار يوم القيامة ؛ وعليك بزجر المغتاب والتغليض عليه وإن قويت على إخراجه من المجلس فأخرجه فإنه لا ينبغي أن يرأس المغتابون المجالس .(6/19)
وأما النميمة فهي حرام أيضاً وكبيرة من كبائر الذنوب، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( لا يدخل الجنة قتات ) . ومرّ النبي - صلى الله عليه وسلم - على قبرين فقال : ( أما أنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ) قال: فدعى بجريدة رطبة فشقها بثنتين فغرس على كل قبر واحدة وقال: ( لعله أن يخفف عنهما مالم ييبسا ) . ولله در الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى إذ جعل النميمة نوعاً من أنواع السحر وروى في ذلك حديث ابن مسعود عند مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( ألا أنبئكم ما العضه ؟ هي النميمة القالة بين الناس ) . وذلك لأن عمل الساحر هو التفريق ما استطاع إلى ذلك سبيلاً والنمام يعمل مثل عمله وأزيَد ، فبئس الخُلق هي . فكم جعلت من الصداقة عداوة ومن المحبة بغضاء ومن القرب بعداً ومن الاجتماع فرقة ، فالنمام دودة سوء ينخر في جسد الأمة ، فلنحاربه جميعاً ولنأخذ على يده حتى لا يخرق السفينة، وكم أريقت بسببها من دماء واتهم الأبرياء عافانا الله وإياك من هذا الخُلق البذيء السافل فاربأ بنفسك عنه واحذره كل الحذر وأما الإشاعة والأراجيف فملعون صاحبها ، قال تعالى : { لَئِنْ لمْ يَنْتَهِ المنَافِقُونَ وَالذِينِ في قُلُوبهِم مَرَضٌ وَالمرْجفُونَ في المدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بهِم ثمَّ لا يجَاوِرُونَكَ إلا قَلِيلاً مَلعُونِينَ أيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً } . ولعلك تذكر حديث الرجل الذي يشرشر شدقه حتى يبلغ قفاه ذلك لأنه يكذب الكذبة تبلغ الآفاق إن علاج ذلك تطبيق القاعدة المعلومة التي تقول : يجب التثبت من الأخبار إن كانت من فاسق وأصلها قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُم فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى مَا فَعَلتُمْ نَادِمِين } . فهذه(6/20)
البلايا الثلاث لا يجوز لك أن تبني عليها حكماً فإنك إن فعلت فإنك إذاً من الظالمين الخاسرين ، وخصوصاً في هذا الزمن الذين كثر فيه الأفاكون والخراصون . نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحفظ أمتنا منها وأن يهدي من وقع في شيء من ذلك وهو أعلى وأعلم .
(( القاعدة الرابعة ))
ما كان الرفق في شيء إلا زانه
وما نزع من شيء إلا شانه
أقول : ( ما كان ) نفي وقوله ( في شيء ) نكرة وقد تقرر في الأصول أن النكرة في سياق النفي تعم ، فيدخل في ذلك كل الأشياء فالرفق يزينها والعجلة تشينها والرفق هو التأني في الأمور وعدم الاستعجال في إدراكها أو الحكم عليها ، وذلك أنه مع العجلة قد يخفى على الإنسان أشياء من مهمات أمره الذي يريد التحدث فيه، وهذه القاعدة نص حديث صحيح ، فالقاعدة الشرعية في كل الأشياء طلب الرفق والهدوء والتأني والتثبت حتى يتميز النافع من الضار والصواب من الخطأ والمصلحة من المفسدة ومن ذلك الحكم على الآخرين فإنه يطلب فيه الرفق أيضاً لأنه داخل في عموم الأشياء بل دخوله فيها أولى بل هو سبب الحديث ، فلا تستعجل بارك الله فيك في إصدار أحكامك على أحد إلا بعد التريث والنظر الطويل وفهم الواقع الفهم الذي يجعلك على نور من الله في هذا الحكم وإلا فالسكوت هو الواجب ، فإنه ما ندم في أحكامه إلا المتعجلون المتنطعون الذين يبنون أحكامهم على الإشاعات والظنون الكاذبة والهوى والتخرص والنميمة ممن لا خلاق له وهؤلاء لا يمثلون أهل العلم ولا طلابه بل هم غوغائيون مجانبون للصواب فيما استعجلوا فيه ، وأما المترفقون المتأنون الذين يدرسون الأمر من كل جوانبه وينظرون في العواقب والمفاسد والمصالح فإنهم هم الموفقون المهتدون الذي تنتفع الأمة بأحكامهم وتكون نبراساً يستضيء الناس بها ، فمن أراد النجاة من هوة العجلة وآثارها السيئة فعليه بالرفق في أمره كله ، فليكن الرفق معك في كل مصادرك ومواردك وإن كاتب هذه الأحرف قد(6/21)
عانى من ويلات العجلة كثيراً ، ولكن الوقوع في الشيء لا يسوغ عدم التحذير منه ، فالله الله بالرفق فإنه زين الأمور وإن الله ليعطي على الرفق مالا يعطي على العنف ، وإنه جل وعلا يحب الرفق في الأمور كلها ولا تكن ممن ينظر إلى الوقائع بالعواطف المجردة ، بل لابد أن يكون نظرك منبثقاً من هدي الكتاب والسنة، ولا تغتر بكثرة الهالكين ولكن انظر إلى من نجا كيف نجا ؟ وإنما النجاة بالرفق ولذلك مما يذمه العامة والخاصة في الإنسان أنه مستعجل نزق طائش ككاتب هذه الأحرف ، ولكن أستغفر الله وأتوب إليه من كل زلل قولي أو فعلي ، فإذا عرض أمر يراد به منك أن تحكم على أحدٍ من إخوانك فترفق وتحقق من الموضوع ولا تستعجل إرضاءً لأحدٍ كائناً من كان ، واطلب المعاذير لإخوانك فإن اللبيب من عذر ، واحذر كل الحذر مما يكتبه أصحاب الجرائد والمجلات عن أحدٍ من المسلمين وخصوصاً أهل العلم فإن بعض هؤلاء الكتّاب كذابون منافقون ويحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا . وبالمناسبة كتبت إحدى الصحف عن رجل من كبار العلماء أنه يجيز قيادة المرأة وتسرع بعض الطلبة الصغار ممن لا يعرفون في الساحة بعلمٍ ولا عمل بالإنكار على الشيخ وتوجيه التهمة إليه ووزعوا قصاصات المقال على كثير من طلبة العلم ليردوا ويناصحوا ، وهذه الأفعال سخافة في العقل وإتهام بلا مستندٍ ولا برهان وإنما حجتهم أنه موجود في هذه الصحيفة وبئس الحجة التي هي أوهى من خيط العنكبوت ، ولما اتصل بعض أهل الرفق على ذلكم الشيخ الفاضل والعالم الجليل الكامل، برئ من ذلك كل البراءة وبيّن أنه لم يقل شيئاً من ذلك وإن كلامه فُهم خطأ وأنه استُغلت بعض عباراته استغلالاً مشيناً من أهل هذه الصحيفة.. ثم ماذا ؟ وقع الأصاغر في الأكابر وتكلم الرويبضة الذي لا خلاق له ، والمستفيد من هذه العجلة إنما هم أعداء الله ورسوله .(6/22)
فيا أيها الإخوان لا نكن هكذا فإن مثل هذه العجلة تفسد ولا تصلح وتهدم ولا تبني وتؤخر ولا تقدم، فالرفق الرفق والقصد القصد تبلغوا واعلموا – رحمنا الله وإياكم – أن الإسلام ونصرة الدين ليست بمتوقفةٍ على حكمك هذا حتى تبادر به فلا تحكم على الغير بمجرد مقال قرأته ولا بشريط سمعته ولا بنقلٍ جاء إليك ولا بإشاعةٍ مغرضة ولا بظنٍ أو تهمة فتكون من الخاسرين ، واشتغل بما ينفعك وانظر إلى نقصك وأقبل على إكماله ودع الناس وشأنهم فإن المجال له رجاله الراسخون في الفهم والعلم . ووصيتي لنفسي وإخواني أن لا نتتبع هفوة أحدٍ أو زلته ولنستر عليه ولا نشيع الخطأ ولا نفرح به ، مع قيامنا بواجب النصيحة والمجادلة بالتي هي أحسن وأن لا نبخس الناس أشياءهم وأن نحرص كل الحرص أن نسكت عن إشاعة الفتن بين الناس ولو للتحذير، فالعامة في سلامة وعافية من ذلك ؛ وأن ندعوا لمن هفى به القلم وزل به الفهم ووقع في الخطأ ، بالهداية والرجوع إلى الحق لا بالهلاك والإهلاك والويل والثبور فإن حق إخواننا علينا الدعاء لهم بالصلاح والهداية ، قال تعالى : { إِنمَا المؤمِنُونَ إِخْوَة } وإنه بالتتبع في الأحوال وجدنا أنه لا يثبت في الساحة عند نزول الفتن إلا المترفقون العقلاء الذين ينظرون في عواقب الأمور وأبعاد الكلام وأما أهل الطيش والعجلة فهم كالزبد سرعان ما يذهب جفاءً . فاحذر – بارك الله فيك – أن تكون زبدياً فإن العجلة من جملة المغلقات التي تغلق على صاحبها سلامة الفهم ووضوح الرؤية وقد يكون الدافع لهذه العجلة سلامة القصد ونصر الدين لكن سلامة القصد لا تسوغ للإنسان أن يصدر الأحكام على غير هدىً وبصيرة فإن العواطف إذا لم تحكم بالكتاب والسنة تكون عواصف عاتية . وفي الصحيح من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأشج أشج عبد القيس : ( إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله الحلم والأناة ) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال(6/23)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( إن الله تعالى رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه ) رواه مسلم . والعنف هو الشدة والمشقة، وفي الصحيحين من حديث أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للصحابة وقد همّوا بمن بال في المسجد : ( دعوه وأريقوا على بوله سجلاً من ماءٍ أو ذنوباً من ماءٍ فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ) ولفظه للبخاري ، وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا ) متفق عليه . وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( من يحرم الرفق يحرم الخير كله ) رواه مسلم . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ألا أخبركم بمن يحرم على النار ؟ يحرم على كل قريب هين لين سهل ) رواه الترمذي وسنده حسن . وروى مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي أنه لما حصل منه الكلام في الصلاة قال : ( فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً أحسن تعليماً منه فوالله ما كرهني ولا ضربني.. الحديث ) . والأدلة على ذلك كثيرة وفيما مضى كفاية إن شاء الله تعالى ، وهي وجوب الرفق في الأمور كلها ، وخصوصاً في إصدار الحكم على الآخرين حتى لا نصيب قوماً بجهالة فنصبح على ما فعلنا نادمين والله يحفظنا من العجلة وهو أعلم وأعلى .
(( القاعدة الخامسة ))
من وقع في مكفرٍ أو مبدع أو مفسق فإنه لا يحكم
عليه بمقتضاه إلا بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع(6/24)
... أقول : اعلم رحمنا الله وإياك أنه لابد من التفريق بين الفعل والفاعل ، فالفعل يعطى حكمه المناسب له على مقتضى دلالة الأدلة ، وينتظر بالفاعل تحقق الشروط وانتفاء الموانع إذ ليس كل من وقع في الكفر كفر أو البدعة بدع أو الفسق فسق أو المعصية أثم فلا تلازم بين حكم الفعل وحكم الفاعل ، أي أن حكم الفعل لا ينجر إلى الفاعل إلا بعد توفر شروط وانتفاء موانع معينة وهذه القاعدة مهمة جداً فإنه بسبب الجهل بها وقع بعض الأحبة في تكفير الأعيان أو تبديعهم أو تفسيقهم بمجرد وقوعهم في شيء من ذلك ظناً منهم التلازم الذاتي بين الفعل والفاعل ، وهذا مجانب للصواب ومخالف للأدلة وخروج عن العدل الذي به قامت السموات والأرض وصلح عليه أمر الخلائق فمن لم يعرف هذه القاعدة فإنه على خطر عظيم في هذا الباب أعني في باب الحكم على الآخرين وقد شرحت طرفاً كبيراً منها في القول الرشيد في سرد فوائد التوحيد واذكر خلاصتها هنا فأقول : إن الأدلة قد دلت على التفريق بين الفعل والفاعل وذلك كما في الحديث الذي اتفق صاحبا الصحيح على إخراجه عن أنس في الرجل الذي خرج في الفلاة بناقته وعليها طعامه وشرابه ، وفي آخره قال من شدة الفرح : " اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح " فهنا قول وقائل ، فالقول في حد ذاته كفر ولا شك إذ فيه تربيب العبد وتعبيد الرب ولكن هل لزم من الوقوع فيه كفر قائله ؟ الجواب بالطبع لا.. وذلك لوجود مانع وهو عدم القصد أي الخطأ بسبب شدة الفرح التي غطت على عقله فدل ذلك على أنه ليس كل من قال الكفر أو فعله كفر مباشرة بل لابد من توفر الشروط وانتفاء الموانع والله أعلم. ومن ذلك حديث أبي هريرة عند الشيخين أيضاً في قصة الذي أسرف بالذنوب والمعاصي وأنه لما حضرته المنية قال لأبنائه : " إذا أنا مت فأحرقوني ثم ذروني في يومٍ رائح حتى لا يقدر علي فيعذبني " أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - ، فهذا الرجل وقع في أمرين عظيمين وهما :(6/25)
إنكار البعث و إنكار قدرة الله تعالى فهذا القول والفعل منه كفر ولا شك إلا أنه لم ينطبق عليه حكم قوله هذا بدليل آخر الحديث وأن الله تعالى قال : { قَدْ غَفَرْتُ لَك } والكافر والمشرك لا يدخل في حيز المغفرة فلما غفر له علمنا جزماً أنه لم ينطبق عليه حكم قوله هذا وذلك لوجود مانع وهو الجهل والخوف الشديد الذي أغلق على عقله بحيث لم يدر عن حقيقة قوله هذا ، فجعل هذا الخوف الشديد مانعاً من انطباق حكم قوله عليه ، أي أنه لم يقصد حقيقة إنكار القدرة والبعث ولكنه ظن أنه بفعله هذا يرتاح من الحساب وهذا لجهله ، فهذا دليل على أن قول الكفر أو فعله لا يلزم منه كفر القائل أو الفاعل بل لابد من توفر الشروط وانتفاء الموانع .
ومن الأدلة أيضاً حديث معاذ وأنه سجد بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له : ( ما هذا يا معاذ ؟ فأخبره الخبر، فقال : إنه لا يسجد إلا لله تعالى ) فالسجود في حد ذاته كفر لأنه لغير الله تعالى إلا أن الفاعل لم ينطبق حكم فعله عليه – حاشاه
وكلا – وذلك لوجود مانع وهو التأويل والاجتهاد وظن صواب النفس فدل ذلك على أنه لا تلازم بين الوقوع في الكفر ونحوه وبين الحكم على صاحبه .(6/26)
ومن الأدلة أيضاً حديث أكل عدي بن حاتم وأنه أكل في نهار رمضان عامداً ظناً منه صواب نفسه لأنه فهم الآية على غير وجهها الصحيح ، ومن المعلوم أن الأكل في نهار رمضان عمداً معصية لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتكلم عليه بشيء بل لم يأمره بإعادة ذلك اليوم الذي أكل فيه فدل ذلك على التفريق بين الفاعل وفعله وأنه ليس كل من وقع في المعصية آثم . ومن الأدلة حديث المستحاضة التي قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنها تستحاض حيضة كثيرة شديدة وأنها تمنعها من الصلاة فبين لها - عليه أفضل الصلاة والسلام - الحكم في ذلك ولم يأمرها بقضاء ما تركته من الصلوات، ومن المعلوم أن ترك الصلاة وإخراجها عن وقتها معصية لكنها كانت هنا جاهلة بالحكم في ذلك فامتنع انطباق حكم فعلها عليها لوجود المانع وهو الجهل فدل ذلك على أنه ليس كل من وقع في المعصية آثم . ومن الأدلة أيضاً حديث عمر وعمار لما بعثهما النبي - صلى الله عليه وسلم - في حاجة فأجنبا فلم يجدا الماء فأما عمار فتمرغ في الصعيد كما تمرغ الدابة وأما عمر فإنه ترك تلك الصلوات ولم يصل، فأما عمار فظن أن هذا هو التيمم الشرعي ، وأما عمر فظن أن التيمم لا يرفع الحدث الأكبر ، فأخبرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحكم الشرعي ولم يأمر أحداً منهما بالإعادة والقضاء مع أن عمار لم يتيمم التيمم الشرعي وعمر جلس لم يصل ، ومعلوم حكم هذا الفعل لكن لم ينطبق عليهما حكم فعلهما لوجود المانع وهو التأويل والجهل بهذا الأمر فدل ذلك على أنه ليس كل من وقع في المعصية آثم . ومن الأدلة أيضاً حديث حاطب وكتابه وهو في الصحيح ومعلوم حكم التجسس على المسلمين ومعاونة الكفار لكنه رضي الله عنه لم ينطبق عليه حكم فعله لوجود المانع وهو وجود الحسنة العظيمة وهي شهود بدر واعتذاره للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه تأول في ذلك وأراد به أن تكون له يد عند المشركين تمنع ماله وأهله ، وأخبر أنه في باطنه(6/27)
مبغض لهم وأنه لم يستبدل الكفر بالإيمان ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : ( أما إنه قد صدق فلا تقولوا إلا خيراً ) فدل ذلك على وجوب التفريق بين الفعل والفاعل .
ومن الأدلة أيضاً أن الخوارج لما خرجوا على المسلمين استباحوا ديارهم ودماءهم وجعلوا دارهم دار حرب وفعلوا في المسلمين الأفاعيل ، فهذا الفعل كفر لأنه استحلال ماهو معلوم من الدين بالضرورة أنه حرام ولكن الصحابة لم يكفروهم بل كانوا يقولون : من الكفر فروا إلا أنهم تأولوا تأويلاً ضالاً مجانباً للحق فدل ذلك على وجوب التفريق بين الفعل والفاعل وأما الأمر بقتلهم الثابت في الحديث فإنه ليس دليلاً على أنهم كفار لأنه قد يجب قتل من عظم فساده واشتد جرمه دفعاً لضرره وفساده إذا لم يندفع ضرره وفساده إلا بالقتل ، وكذلك الإخبار بأنه شر قتلى وأنهم كلاب النار ليس هذا دليلاً على كفرهم لأنه قد ثبت بالنص أن من المسلمين من يدخل النار بسبب ما معه من الذنوب والمعاصي كالخوارج والله أعلم .(6/28)
ومن الأدلة أنه لما وقعت الفتنة بقول خلق القرآن – لا أعادها الله على
المسلمين – تولى كبرها المعتزلة مع المأمون وحملوا الناس على القول بذلك وقتلوا من لم يجب إلى قولهم. وثبت الله بعض أهل السنة وعلى رأسهم الإمام أحمد رحمه الله تعالى وقال قولته المشهورة التي صارت من بعده عقيدة راسخة ( من قال بخلق القرآن فهو كافر ) ومع ذلك لم يكفّر الإمام أحداً من قائلي هذا القول بعينه بل كان يمنع من تكفير الأعيان وكان يصلي وراء من يقول ذلك ودعا للمأمون في آخر حياته وحلله وجميع من ضربه بسوط ولم ينكر ذلك أحد من أهل السنة مما يدل على وجوب التفريق بين الفعل والفاعل والله أعلم . فهذا طرف من الأدلة على صحة هذه القاعدة وبه تعلم وجوب فهمها واعتمادها في الحكم على الأعيان والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل . فإن قلت : فما هي هذه الشروط التي لابد من توفرها والموانع التي لابد من انتفائها للحكم على المعين بمقتضى فعله ؟ فأقول : هي كما يلي :
الأول : العقل وضده الجنون ، فالعقل شرط والجنون مانع ، وبناءً عليه فمن فعل شيئاً من ذلك وبه جنون فلا يحكم عليه بمقتضاه ، والأدلة على اشتراط العقل معروفة .
والثاني : البلوغ وضده الصغر ، فالبلوغ شرط والصغر مانع ، وبناءً عليه فمن فعل شيئاً من ذلك وهو غير بالغ فلا يحكم عليه بمقتضاه .
الثالث : العلم وضده الجهل ، فالعلم شرط والجهل مانع، وبناءً عليه فمن فعل شيئاً من ذلك جاهلاً الحكم ومثله يجهل فلا يحكم عليه بمقتضاه .
الرابع : الاختيار وضده الإكراه، فالاختيار شرط والإكراه مانع، وبناءً عليه فمن فعل شيئاً من ذلك وهو مكره فلا يحكم عليه بمقتضاه .
الخامس : عدم التأويل وضده وجود التأويل، وبناءً عليه فمن فعل شيئاً من ذلك متأولاً تأويلاً سائغاً فإنه لا يحكم عليه بمقتضاه .(6/29)
السادس : القصد وضده عدم القصد ، وبناءً عليه فمن قال أو فعل شيئاً من ذلك غير قاصدٍ له فإنه لا شيء عليه ، ويدخل في ذلك الغفلة والنسيان وكلام المبرسم والنائم والمغمى عليه وهي التي يسميها الأصوليون عوارض الأهلية ، أي الأشياء التي تعترض للإنسان فترفع أهليته للمطالبة بالحكم أو انطباق أثره عليه ويدخل في ذلك أيضاً ما إذا كان العقل مغطى بسكرٍ أو غضبٍ أو شدة فرح أو خوف ونحو ذلك ، والله يتولانا وإياك، وأنبهك أخيراً على بعض المسائل المهمة في هذا الباب وهي كما يلي : -
الأولى :
اعلم – أرشدك الله لطاعته – أن انطباق حكم الفعل أو القول على فاعله وقائله يفتقر إلى اجتهاد لأنه لا يجوز لأحد أن يتكلم في ذلك إلا إذا كان من أهل الاجتهاد لأنها مسائل عظيمة ، ولها آثار وخيمة إذا انطبقت على المعين ، فاتق الله في لسانك ولا تدخل في هذه المسالك فإنك إن دخلتها بلا سلاح من العلم والتقوى فإنك لاشك هالك فاغنم السلامة بالسكوت فإن الهلكة في كثرة الكلام والله أعلم .
الثانية :(6/30)
اعلم – رحمنا الله وإياك – أنه إذا اجتهد مجتهد فتبين له أن حكم الفعل ينطبق على فاعله فإن هذا الذي توصل إليه ليس بلازم في حق أحد فإذا خالف مجتهد آخر ورأى أنه لا ينطبق فلا يحق للأول أن يلزم الثاني باجتهاده لأن اجتهاده ينسب له وليس هو بنص يجب اتباعه فبان بذلك أن الذين يلزمون الآخرين باجتهادهم في تكفير الأعيان ليسوا على صواب بل هم مخالفون لمنهج أهل السنة في ذلك كما فعله الخوارج الذين ألزموا الأمة بالأخذ برأيهم الضال وحصل بهذا الإلزام ما حصل من الفتن العظيمة والبلاء والشر المستطير الذي لا زلنا نعايش آثاره إلى اليوم وكما فعله أيضاً جماعة التكفير والهجرة ، فإنهم ألزموا غيرهم بالأخذ باجتهادهم في تكفير الحكومات والرؤساء ومن لم يكفرهم أو شك في كفرهم فإنه مثلهم حتى أدى ذلك إلى تكفيرهم لعموم الناس إلا الطوائف القليلة وهذا كله بسبب الإلزام الاجتهاد وهو من ضيق العطن وصغر الأفق وتلبيس إبليس ولذلك نقول : اجتهادك لك تعمل به وتتحمل مسئوليته أمام الله يوم القيامة، أما أن تلزم غيرك به فإن هذا محض العنجهية المقيتة والعصبية المميتة عافانا الله وإياك من كل بلاء ومكروه والله أعلم .
الثالثة :
القول الجامع لأهل السنة في ذلك هو أنهم لا يشهدون لأحدٍ من أهل القبلة بعينه بجنة ولا نار ولا بغضب ولا رضى ولا لعنة إلا لمن شهد له النص بذلك، وأنهم يرجون يرجون للمحسن الثواب ويخافون على المسيء العقاب ، فاشدد يديك بهذا فإنه السلامة والعصمة في هذا الباب الخطير أعني باب التكفير والله ولي التوفيق .
الرابعة :(6/31)
احذر – يارعاك الله – أن تكفر أحداً بعينه في مسألة اشتد خلاف العلماء فيها فإن هذا الخلاف شبهة يجعل العاقل يتورع عن تكفير أحدٍ بعينه فيه وذلك كمسألة كفر تارك الصلاة تهاوناً وكسلاً فإن الخلاف قديم وهو قوي فالورع أنه إن ترجح لك القول بالتكفير أن تجعله كالحكم العام الذي لا يتوجه إلى الأفراد إلا بعد التأكد التام من انطباقه عليهم فإذا سألت عن أحدٍ بعينه في ذلك فإني أنصحك أن تتجنب الحكم على عينه بالتكفير فإن المسألة خلافية والجمهور على أنه فاسق ليس بكافر فالورع ترك توجيه التكفير لأحدٍ بعينه إذا خالف في هذه المسالة وكذلك مسألة ترك الزكاة بخلاً وتهاوناً أيضاً هي من المسائل التي اختلف العلماء فيها فمع ثبوت الخلاف فالورع أن تحجم عن توجيه التكفير لأحدٍ بعينه إذا خالف في هذه المسألة وعلى ذلك فقس فالمسائل التي اختلف العلماء فيها بين الكفر وعدم يحترز العاقل التقي الورع في تطبيقها على الأعيان بل السلامة كل السلامة في السكوت عن ذلك إلى توجيه النصيحة العامة التي تنفع المسئول عنه وغيره من الأفراد كالحديث عن أهمية الصلاة ومنزلتها في الإسلام وكذلك الزكاة وهكذا وهذه المسألة من أبواب الورع ولعل القاعدة قد فهمت إن شاء الله تعالى والله تعالى أعلى وأعلم .
(( القاعدة السادسة ))
الحكم العام على الأقوال والأفعال لا يستلزم انطباقه على الأفراد قطعاً إلا بعد ثبوت الشروط وانتفاء الموانع(6/32)
أقول : وهذه القاعدة كالفرع للقاعدة قبلها ، وبيانها أن يقال : إن أهل السنة والجماعة – رحم الله أمواتهم وثبت أحياءهم يطلقون أحياناً أحكاماً عامة على بعض الأقوال والأفعال كقولهم – : من قال كذا فهو كذا، فهم بذلك لا يريدون أن هذا الحكم العام ينطبق على كل أفراده انطباقاً قطعياً وإنما يريدون بذلك بيان حكم القول أو هذا الفعل فقط وأما انطباقه على أفراده فإنه متروك لاجتهادك ونظرك في ثبوت الشروط وانتفاء الموانع ، وهذا لابد من فهمه وذلك كقولهم : من شبه الله بخلقه كفر ، لا يلزم منه أن كل مشبّهٍ بعينه يكون كافراً وإنما المراد أن حكم التشبيه كفر لكن هل هذا المشبه بعينه يكفر ؟ هذا هو الذي يحتاج إلى النظر في ثبوت الشروط السابقة وانتفاء الموانع، وكقولهم : من أنكر صفة من صفات الله كفر ، أيضاً لا يلزم منه أن كل من أنكر صفة كفر بعينه بل يريدون بذلك بيان حكم الإنكار فقط وأما انطباقه على شخص بعينه أنكر شيئاً من الصفات فإنه يحتاج إلى ثبوت الشروط وانتفاء الموانع ؛ وكذلك قولهم : من قال بخلق القرآن كفر ، أيضاً فيه بيان حكم هذا القول ، لكن لا يلزم منه أن يكفر كل من قال بخلق القرآن بعينه وكذلك لم يكفّر الإمام أحمد المأمون مع قوله بخلق القرآن ذلك لأن الحكم العام على الأقوال والأفعال لا يلزم منه انطباقه على أفراده الانطباق القطعي بل يفتقر قبل ذلك إلى النظر في ثبوت الشروط وانتفاء الموانع؛ وكذلك قولهم : من أنكر قدرة الله أو علمه فقد كفر، إنما فيه بيان حكم هذا القول فقط لكن لا ينطبق على فرد بعينه وقع في ذلك إلا بعد النظر في الشروط والموانع ، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( لعنت الخمرة على عشرة أوجه ) وذكر منها ( وشاربها ) لكن هذا لعن عام فيطبق عليه هذه القاعدة أن الحكم العام لا يستلزم انطباقه على كل أفراده قطعاً بدليل أنه لما لعن أحد الحاضرين عياض بن حمار لكثرة ما يؤتى به فيجلد في الخمر نهاه النبي(6/33)
- صلى الله عليه وسلم - عن ذلك لأن اللعن الآن قد توجه للمعين واللعن العام لا يستلزم لعن كل من وقع في الأمر الملعون فاعله ، ومن ذلك قولهم : من أنكر رؤية الله في الآخرة فهو كافر يقال فيه ما قد قيل في سابقه من أنه لا يلزم من هذا الحكم العام أن ينطبق على كل منكرٍ بعينه إلا بعد ثبوت الشروط وانتفاء الموانع ، إذاً فهمنا من ذلك أن الحكم العام شيء والحكم للمعين شيء آخر ، كما فرقنا سابقاً في حكم الفعل وحكم الفاعل ، ويؤيد هذا أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى لم يكفر أعيان الجهمية فتكفيره هو والسلف للجهمية والقدرية لا يقتضي تكفير كل جهمي وكل قدري ، وكذلك غيرهما من الفرق التي كفرها السلف لا يلزم من تكفيرها تكفير أعيان هذه الفرق ، ولذلك فقد ثبت عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى أنه دعا للخليفة وغيره ممن ضربه وحبسه واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم ولو كانوا مرتدين بأعيانهم بما قالوه لم يجز الاستغفار لهم فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع . ويؤيد هذا الأدلة السابقة في القاعدة قبلها ونزيدها ما رواه البخاري عن خالد بن ذكوان عن الربيع بنت معوذ قال : جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل حين بني علي فجلس على فراشي مجلسك مني فجعلت جويريات لنا يضربن بالدف ويندبن من قتل من آبائي يوم بدرٍ ، إذ قالت إحداهن : وفينا نبي يعلم ما في غدٍ ، فقال : ( دعي هذه وقولي بالذي كنت تقولين ) ومن المعلوم أن كل من ادعى أن أحداً يعلم الغيب فإنه كافر إلا أن هذا الحكم عام ، والحكم العام لا ينطبق على أفراده الانطباق القطعي ، وهذه الجارية لم ينطبق عليها حكم قولها هذا لأنها كانت جاهلة واكتفى النبي - صلى الله عليه وسلم - بنهيها عن ذلك فدل ذلك على أن الحكم العام لا ينطبق على أفراده إلا بعد ثبوت الشروط وانتفاء الموانع ، ولذلك نص الأئمة رحمهم الله تعالى أن من أعظم البغي أن يشهد على المعين بالكفر إلا(6/34)
بالبرهان الساطع والدليل القاطع فمن أراد الحكم على المعين بشيء من ذلك فعليه أن يراعي هذا الأمر المثبت في هذه القاعدة والله أعلم . ولهذا يتفرع عندنا عن هذه القاعدة عدة ضوابط مهمة جداً فاحفظها واجعلها نصب عينيك عند الحكم على أحدٍ بشيء وهي :
الأولى : التكفير العام لا يستلزم كفر المعين إلا بثبوت الشروط وانتفاء الموانع .
الثاني : التبديع العام لا يستلزم تبديع المعين إلا بثبوت الشروط وانتفاء الموانع .
الثالث : اللعن العام لا يستلزم لعن المعين إلا بثبوت الشروط وانتفاء الموانع .
الرابع: التفسيق العام لا يستلزم تفسيق المعين إلا بثبوت الشروط وانتفاء الموانع.
الخامس : التأثيم العام لا يستلزم تأثيم المعين إلا بثبوت الشروط وانتفاء الموانع .
فهذا هو خلاصة مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل وهو أعلى وأعلم .
(( القاعدة السابعة ))
لا تقوم الحجة على المعين إلا بالبلوغ ومطلق الفهم(6/35)
أقول : لقد شرحت هذه القاعدة بالأدلة والفروع في " القول الرشيد في سرد فوائد التوحيد " ولكن لأهميتها ولتعلقها التعلق التام بموضوع بحثنا جعلتها قاعدة مفردة وذلك لأنها مهمة جداً في الحكم على الأعيان ، وذلك لأننا ذكرنا في القاعدة السابقة أن الحكم لا ينطبق على الأفراد إلا بالشروط ومن الشروط العلم والمراد به قيام الحجة على المكلف التي يكفر من خالفها أو يبدع أو يفسق ونحوه ، وقد اختلف العلماء فيما تقوم به الحجة على قولين فمنهم من قال بأنها تقوم إلا بالبلوغ فقط ولا يشترط الفهم ، ومنهم من قال أنها لا تقوم بالبلوغ والفهم ؛ وقد حققنا أن الخلاف بينهم لفظي لا حقيقي وذلك أن الجميع اشترط لقيامها مطلق الفهم والجميع اتفقوا على أنه ليس من شروطها الفهم المطلق والذين يثبتونه إنما يريدون إثبات مطلق الفهم ، ولذلك فهذه القاعدة متفق على مدلولها بين العلماء رحمهم الله تعالى وبه تعلم أن الحجة على المكلف لا تقوم إلا بأمرين : الأول بلوغ النص ، والثاني فهمه مطلق الفهم ، ونعني بمطلق الفهم أي معرفته وإدراكه مطلق الإدراك وهذه القاعدة قد تظافرت الأدلة على صحتها ويكفيك في ذلك إجماع العلماء قاطبة على مقتضاها ، فإن الإجماع حجة يجب المصير إليه وتحرم مخالفته وخصوصاً الإجماع القطعي ، وقد ذكرنا في موضع آخر التفريق بين مطلق الشيء والشيء المطلق فمن الأدلة على صحتها غير الإجماع قوله تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتى نَبْعَثَ رَسُولاً } وقوله تعالى: { وَأُوحِيَ إِليَّ هَذَا القُرْآن لأنْذِرَكُم بِهِ وَمنْ بَلغ } فهذا إخبار من الله تعالى عن عدله وأن لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه بإرسال الرسل ، وأن الله جل وعلا أنزل كتابه للإنذار وإقامة الحجة على العباد ومن ذلك حديث ابن عمر في القوم الذين صلوا إلى بيت المقدس بعد نسخه وعذروا بذلك لعدم علمهم بالناسخ فإذا كان هذا حال القريب من مهبط الأدلة فكيف بمن كان بعيداً(6/36)
كأهل مكة واليمن ومن في الحبشة فلا معذورون لعدم علمهم ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، ومن ذلك الحديث المشهور الذي رواه الإمام أحمد في المسند عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( يكون يوم القيامة رجل أصم لا يسمع شيئاً ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في فترة ، فأما الأصم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً ، وأما الأحمق فيقول : رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر ، وأما الهرم فيقول : أي رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً ، وأما الذي مات في الفترة فيقول : أي رب ما أتاني من رسول ، فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار ، قال : فوالذي نفسي بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً ) صححه الحافظ ابن القيم وعبد الحق الإشبيلي وغيرهم . فهؤلاء قد عذرهم الله تعالى ، فأما الأصم الذي لا يسمع ومن مات في الفترة فعذرهما لعدم وصول الحجة إليهم ، وأما الأحمق والهرم فعذرهما لعدم فهمهما ، مما يدل على اشتراط البلوغ والفهم لقيام الحجة ، ومن ذلك أيضاً : حديث عدي بن حاتم في أكله في نهار رمضان فإن النص قد بلغه ولكنه لم يفهمه على وجهه الصحيح ولذلك عذره النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدم فهمه ، مما يدل على أهمية الفهم لقيام الحجة ، وكذلك حديث ( لا يصليّن أحدكم العصر إلا في بني قريضة ) وأن بعض القوم أخرها عن وقتها وبعضهم صلاها في وقتها في الطريق ولم يعنف النبي - صلى الله عليه وسلم - على أحدٍ منهم ، ومن المعلوم أن أحد الفريقين أخطأ في الفهم لأن الحق لا يتعدد فكون النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعنف على أحدٍ منهم دل على أنه عذر المخطئ لعدم فهمه للنص، مما يدل على أهمية الفهم لقيام الحجة ، ومن ذلك حديث الذي أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - رق خمر فقال: ( أما علمت أنها حرمت ) فهذا لم يعنفه النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدم علمه بالتحريم لأن النص لم يبلغه لكونه من الأعراب فدل على(6/37)
اشتراط بلوغ النص لقيام الحجة. ومن ذلك حديث الذي بال في المسجد وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزجره بل تركه يبول وقال له : ( إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من هذا الأذى والقذر... الحديث ) ففعله فعل جاهل لا يعلم بالحكم فعذره - صلى الله عليه وسلم - لأن الحجة لم تقم عليه لعدم بلوغ النص إليه ولذلك ترفق به - صلى الله عليه وسلم - وعلمه أكمل التعليم بأحسن بيان . ومثله أنه لما ضاع عقد عائشة في سفرهم الذي نزلت فيه آية التيمم بعث - صلى الله عليه وسلم - قوماً يتلمسونه وليسوا على ماءً وليس معهم ماء فنزلت آية التيمم ومرت عليهم بعض الصلوات ولم يثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر أحداً منهم بالإعادة لأنهم معذورون بعدم العلم بالدليل ، فدل ذلك على اشتراط البلوغ أي بلوغ النص لقيام الحجة . ومثله حديث عمار وعمر فقد عذرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - لكونهما لم يفهما النص على وجهه الصحيح ، وإلا فالنص الآمر بالتيمم قد بلغهما لكن عماراً كان يجهل صفة التيمم عن الحدث الأكبر، وعمر كان يظن أنه لا يرتفع به الحديث الأكبر فعذرا لعدم الفهم مما يدل على أهمية الفهم لقيام الحجة . ومن ذلك أنه لما أتمت صلاة الحضر أربعاً بعد الهجرة نعلم جزماً أن هذا الحكم لم يصل إلى المسلمين في البلاد البعيدة كمكة وأهل اليمن ومن في الحبشة إلا بعد مدة طويلة ومع ذلك لم يأمر - صلى الله عليه وسلم - أحداً بالإعادة وذلك لعدم بلوغ النص. والأدلة على ذلك كثيرة وهذا من رحمة الله تعالى بعباده فاليقين القاطع الذي لا يتطرق إليه شك هو أن الحجة لا تقوم إلا بمجموع الأمرين بلوغ الدليل وفهمه مطلق الفهم ، وبناءً عليه فإنه لا يجوز إصدار أي حكم من الأحكام على أحدٍ إلا بعد التأكد من أنه قد قامت الحجة الرسالية عليه بتحقق هذين الشرطين ولا تتعجل في إصدار الحكم بل عليك بالرفق والتبين ، وهذا يدخل فيه كثير من العامة الذين نشئوا في البلاد التي يقرر(6/38)
فيها الشرك والبدعة مع أن كلمة الحق لا تصل إليهم لإحكام القبضة عليهم من ولاة السوء وعلماء الضلالة الذين يجيزون للعامة فعل ذلك بل ويحضرون معهم للمشاركة في موالدهم وبدعهم ، مع كسل كثير من الدعاة عن الوصول إليهم وتعليمهم والاكتفاء بالمراسلة وإيصال الشريط أو الكتيب وهذا في الحقيقة غير كافٍ فإن الشبهة عند هؤلاء العوام قوية فالمنصف لا يتسرع بالحكم عليهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم ، ومثل هؤلاء من نشأ في بادية بعيدة عن العلم والعلماء وليست عنده الوسائل للوصول إليهم أو الاتصال بهم فهذا أيضاً معذور إن خالف المأمور أو فعل المحظور لجهله. ومثله الكافر إذا أسلم في دار الحرب ولم يستطع الهجرة فإن دار الحرب تخلو من أهل العلم وطلابه فنعلم جزماً أن الحجة لم تقم عليه. ومن ذلك من كان متأولاً تأويلاً سائغاً فخالف بهذا التأويل مأموراً به أو منهياً عنه فهو أيضاً معذور كما عذر النبي - صلى الله عليه وسلم - عدي بن حاتم ومعاذ في سجوده بين يديه ، وعمر وعمار فيما فعلاه ، ومن أخرج صلاة العصر عن وقتها كما في الحديث السابق ، وكما عذر حاطب بن أبي بلتعة في كتابه للمشركين ، وكما قال الإمام الزهري رحمه الله تعالى عليه: وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون فأجمعوا أن كل دمٍ أو مالٍ أصيب بتأويل القرآن فإنه هدر ، أنزلوهم منزلة الجاهلية . أ.هـ(6/39)
وذلك لأن التأويل منشؤه من عدم الفهم ، ومن ذلك قتل أسامة بن زيد الرجل لما قال " لا إله إلا الله " فإنه كان متأولا فلم يوجب - صلى الله عليه وسلم - عليه القود ومن ذلك قتل خالد بن الوليد لبني خزيمة فإنهم أرادوا أن يقولوا : أسلمنا أسلمنا فقالوا : حبأنا صبأنا فجعل خالد يقتل فيهم ويأسر ، فقال عليه الصلاة والسلام: ( اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ، مرتين ) والحديث في البخاري ، ولم يأمره بالقود ولا بالدية مما يدل على أنه كان معذوراً في ذلك لخطئه وتأويله – رضي الله عنه – وعن عامة أصحابه - صلى الله عليه وسلم - وبالجملة فالأمر خطير وإطلاق اللسان في هذه المسائل بلا علم ولا برهان عاقبته وخيمة في الدنيا والآخرة فإحكام اللسان وحبسه عن الخوض في ذلك هو السلامة والعافية نعوذ بالله من الخذلان ومن إصدار الأحكام على الآخرين بلا علم ولا برهان والله تعالى أعلم وأعلى .
(( القاعدة الثامنة ))
لا يحكم على الغير بمخالفته شيئاً ثبت الخلاف فيه لاسيما إن كان قويا(6/40)
أقول : إن هناك مسائل علمية قد اختلف أهل العلم فيها . وبعضها يكون الخلاف بينهم قويا ، فإذا أجتهد مجتهد في مسألة من المسائل وترجح له قول من الأقوال في هذه المسألة واستلزم ترجيحه هذا أن المخالف له يكفر أو يبدع أو يفسق ، فلا يجعل ذلك لازما بل يعمل بقوله ويدع الحكم على الآخرين الذين خالفوه لأنهم أيضا اجتهدوا في هذه المسألة وترجح لهم خلاف قولك ، فلوا أننا فتحنا باب التراشق بالأحكام أو اتهام النوايا لما سلم لنا أحد من السابقين والمعاصرين ولا اللاحقين ، لكن قولك الراجح عندك اعمل به ولا تتعرض لإخوانك المخالفين لك في الرأي بشيء أبدا بل لا يفسد هذا الخلاف ودكم ولا يكدر صفاءكم ولا ينغص أخوتكم ، والمقصود من ذلك إذا كانت هذه المسألة مما يسوغ فيها الخلاف لاحتمال الدليل احتمالا تسوغ معه المخالفة فإن من ضيق العطن أن تلزم الناس برأيك الذي رأيته راجحا ، فإن كلا يؤخذ من قوله ويترك إلا المعصوم - صلى الله عليه وسلم - وكذلك فالمتقرر عند أهل العلم أنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد ولذلك فوصيتي للطلبة أن يتعلموا أدب الخلاف قبل الدخول في بحث مسائل الخلاف ، فإن مخالفة هذه الآداب أو بعضها يوجب الوقوع في الحكم الجائر على الآخرين وهو ما لا يزيده وهو الذي نحذر منه أشد التحذير ، ومن أجله كتبنا هذه الكتابة ، فإننا نريد أن نسد كل الأبواب المفضية إلى الخلل في الحكم على الغير ومن هذه الأبواب أن تحكم على الآخرين بمجرد المخالفة لنا في مسألة خلافية يسوغ فيها الخلاف ، فإنه لا يجوز ، ومن باب التوضيح نضرب لك بعض الأمثلة على ذلك / فأقول :منها اختلف العلماء في كفر تارك الصلاة تهاونا وكسلا على أقوال ، والمقصود أنه إن ترجح عندك أنه يكفر فلا تصدر هذا الحكم على الأعيان إلا بعد قيام الحجة عليهم ومن خالفك في تكفير من رجحت كفره فلا تكفره لأن المسألة خلافية قديمة . والخلاف فيها قوي . والعجب أنك تسمع بعض الصغار يقول : هذا(6/41)
الرجل تارك للصلاة فهو كافر ، فقال له آخر ، بل ليس هو بكافر ، فقال له الأول : إنك كافر أيضا لأنك شككت في كفره ومن شك في كفر الكافر فإنه يكفر ، قلت : إن بعض الناس لا علاج له عندنا إلا أن يخاط فمه بالمخيط ليرتاح ويريح وهذا منهم وما أتينا إلا من هؤلاء الصغار حدثاء الأسنان في العلم مما لا يعرفون أدبا ولا حقا بل هم الواحد منهم أن يفتل عضلاته بإصدار هذه الأحكام على إخوانه ليثبت للناس أنه بلغ الدرجة العالية في العلم ، فنعوذ بالله من الخذلان والله يحفظنا وإياك من الزلل القولي والفعلي والله أعلم .
منها : من المعلوم أن تصحيح الحديث وتحسينه أو تضعيفه من المسائل الاجتهادية ما لم تتفق الأمة على شيء من ذلك فإذا صححت حديثا من الأحاديث التي تثبت عقيدة أو شريعة وخالفك في تصحيحه رجل آخر فإياك إياك أن تحكم عليه بمقتضى هذه المخالفة لأن المسألة خلافية ومبناها على الاجتهاد ، وهو لم يصح عنده فرد مدلوله لعدم الصحة وقد صح عندك مدلوله ، فكل يأخذ بما توصل إليه ، ويعذر أحدهما صاحبه في هذه المخالفة لأنها في أمر يسوغ في الخلاف ، فما أجمل ذلك وما أنفع عائدته من بقاء الألفة وصفاء المحبة وتقارب النفوس وغير ذلك من الحكم والمصالح والله أعلم .(6/42)
منها: حكم الجهاد على الأعيان في هذه الأزمة التي تمر بها الأمة الإسلامية ، فمن الناس من يقول هو فرض على القادرين ولو كانوا في بلاد أخرى لها حاكم مستقل ومنهم من يقول : لا يجب على أعيان هذه البلاد إلا إذا استنفرهم الإمام أو حضر العدو بلدهم أو حضر هو صف القتال ، فالمسألة ليست في حكم الجهاد أصلا فإن حكمه معروف وهو فرض كفاية لكن الخلاف في ثبوته عينا على بعض الأفراد ، فإنها من المسائل التي ثبت فيها الخلاف ، فلا بد من مراعاة هذه القاعدة فإنني سمعت وسمع غيري من الذين يوجبون الجهاد على أعيان الأمة بعض العبارات التي توجب المفسدة وإيغار القلوب وبث الشحناء ، من أن الطرف الآخر جبناء ، أو عملاء أو يريدون إطفاء روح الجهاد في الأمة أو يتهمون بعدم فهم الواقع أو بالنفاق أو يوصفون بالجهل ، وهذا كله حكم على الغير في مسألة خلافية وذلك لا يجوز لأن اجتهادك ليس بلازم لغيرك وليس قولك هذا بنص في المسائل يجب الأخذ به ولا يجوز تعديه ، ومن أنت يا هذا ؟ فاحفظ لسانك والزم جادة الأدب مع الآخرين ولا تطلق العنان للسانك بالثلب والتجريح واتهام النيات فتزيد الأمر سوءا وفسادا فلا تحكم على غيرك لأنه خالفك في أمر رأيته ولا في حكم رجحته ، فإن هذا من الإجحاف وأنت مأمور بالإنصاف ، ويبقى بعد ذلك بيان الأدلة ووجه الاستشهاد والنصيحة والمجادلة بالتي هي أحسن ليتضح الحق وتبين المحجة . أما الكلام الجانبي الذي لا داعي له، فلا ينبغي قوله ، فإنك عنه محاسب ، وبإثبات صحته مطالب ، والله من وراء القصد وهو أعلى وأعلم .(6/43)
منها : المخالفة في المذاهب فهذا على مذهب الحنفية وهذا على مذهب الشافعية أو المالكية أو الحنابلة فإن هذا الاختلاف مما يسوغ فلا تحكم على الآخرين بالضلال أو البدعة أو الخروج عن دائرة السنة لأنهم خالفوا في المذهب فإن هذا التعصب يؤخر الأمة ، وقد حصل في الأمة من جرائه ما لا يخفى على من قرأ التاريخ ، ولقد رأيت في بعض البلاد التي تعتمد بعض هذه المذاهب أنهم يجعلونه هو الإسلام بعينه وما سواه فضلال وكفر ، وقد سمعت أن الحنفي لا يصلي خلف الشافعي والعكس والمالكي لا يصلي خلف الحنبلي والعكس وهكذا بل قد تقام في المسجد الواحد أربع جماعات بعدد المذاهب المتبعة وهذا والله إنما أفرزته العصبية المقيتة والمذهبية المميتة ، ولذلك فالحق في هذا الباب هو أن إتباع أحد هذه المذاهب جائز وليس بواجب وإن خالف المذهب الذي تتبعه الدليل فالواجب عليك هو الأخذ بالدليل وإطراح المذاهب ومن خالفك في المذهب فإياك أن تصفه بشيء لأن هذا مما يسوغ فالكل إخوة متحابون ، ولا يأتنا متحذلق ومتنطع يقول : بما أن هذه المذاهب أوجبت تفريق الأمة فلنطرحها لأننا سنقول له : طرح الله رأسك يا هذا وأراح الأمة منك فإن هذه المذاهب خلاصة فهم المتقدمين وهي باقية إن شاء الله تعالى إلى قيام الساعة وإنما الذي نطرحه وجوبا هو التعصب لها ، وتقديمها على الدليل عند المخالفة ، والحكم على المخالف فيها بما لا يجوز وقد حدثني من أثق به أنه صلى إماما بقوم شافعية وهو حنبلي ولم يجهر بالبسملة ولم يقنت في آخر الصلاة فرأى هؤلاء بجهلهم وتعصبهم أن صلاته باطلة وأعادوا الصلاة وقنتوا عليه وهذا هو الذي نحذر منه ولذلك نعلم الحكمة من قول العلماء إن فعل الشيء الذي يكون في فعله مصلحة التأليف مما قال به بعض أهل العلم هو الأفضل كالجهر بالبسملة للتأليف والقنوت كذلك للتأليف وعدم الجهر بالتأمين للتأليف وهكذا فإن مصلحة التأليف أهم من مراعاة متابعة الراجح في هذه الأقوال والله(6/44)
يتولانا وإياك والكلام في هذه المسألة يطول لكن هذا هو خلاصتها .
منها: الخلاف في تكفير تارك الزكاة بخلا ، فإن الخلاف في ذلك قوي ، وهو يورث شبهة فإذا رجحت أن فاعل ذلك يكفر، فاجعله من باب التكفير بالوصف العام ولا توجهه للمعين أبدا تفريعا على هذه القاعدة والعلة في ذلك هو أن هذا الشخص قد ثبت إسلامه بيقين والأصل هو البقاء على اليقين ولا نخرجه من دائرة الإسلام بالشك أو التخرص أو التعصب ووجود الخلاف في هذه المسائل مما يجعلنا نتوقف عن الحكم على المخالف لنا فيما رجحناه عملا بقاعدة اليقين لا يزول بالشك ، فالأصل هو إسلامه وسبب كفره مشكوك فيه فالعاقل المنصف لا يترك المتيقن من أجل المظنون المشكوك فيه .(6/45)
منها: نبتت في هذه الأزمنة طائفة تدعى بجماعة التكفير والهجرة ، وخلاصة قولهم : أنهم إن كفروا أحدا بعينه فإنهم يجعلون قولهم هذا نصا قاطعا ومحتما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فمن شك في كفر من كفروه فإنه يكفر ولذلك فإنهم كفروا من يعمل عند الحكومات التي كفروها ، وما سلم من تكفيرهم إلا القليل وهذا سخف وجهل وحماقة ورعونة ، وقل فيه ما شئت من أوصاف الذم ، وما أخلقهم بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الخوارج إذ هم فرع منهم ، وسبب ضلالهم هو مخالفتهم هذه القاعدة ، وهو أنهم ألزموا الأمة باجتهادهم في تكفير الأعيان ومن المعلوم أن تكفير الأعيان نوع اجتهاد قد يخالفك فيه غيرك فهي مسألة اجتهادية فحيث كانت كذلك فتحمل أنت قولك واعمل به ولكن لا تلزم غيرك به ولا تحكم على من خالفك فيه بشيء فتكون من الخاسرين ، فانظر يارعاك الله أهمية هذه القاعدة فإنها تسد بابا عظيما وتمنع خطرا جسيما من وابل الأحكام التي لم تبن على هدى وبصيرة وإنما مبناها على التعصب والهوى والحماقة ويذكرني هذا الكلام بالفرقة التافهة التي ظهرت في زماننا من الذين وقعوا في أعراض بعض العلماء ثلباً وسباً وتجريحاً والويل لك ثم الويل إن لم توافقهم على قولهم وشعارهم في ذلك يقول : إن لم تكن معنا فأنت ضدنا . فأسأل الله تعالى أن يهدي القلوب ويفتح قلوبنا للعلم النافع ويهدي جوارحنا للعمل النافع ، وإني موقن أنني بهذه الكتابة عندهم سأكون حزبيا أو سروريا ، لأن هؤلاء القوم لا يتورعون أبدا عن التصنيف عافانا الله وإياك من كل بلاء ، وجعلني الله وإياك من حزب الله المفلحين لا من حزب الله اللبنانيين ، والله أعلم وأعلى . ونختم هذه القاعدة بذكر شيئا من أدب الخلاف عسى الله أن يختم لنا ولك بخير فأقول : من آداب الخلاف إحسان الكلام وقول التي هي أحسن قال تعالى :{ وَقُل لِعِبَادِي يَقُولُوا التي هِيَ أَحسَن إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزغُ بَينَهُم } وقال(6/46)
تعالى :{ وَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً } ومن ذلك معرفة نوع المسألة المختلف فيها وتحرير محل النزاع لأنه غالبا ما يكون الخلاف خلاف تنوع لا تضاد وإنما الذي أوجب التنازع هو عدم تحرير محل النزاع ومن ذلك أنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد السائغ ، ومن ذلك إطراح التعصب المذموم وهو أن لا ترجع إلا الحق بعد وضوحه وأن تحمل خصمك على قولك قصرا ، وإلا فيا ويله وويل أمه من لسانك واتهاماتك ويدخل في ذلك ليُّ أعناق الأدلة لموافقة المذهب ومن ذلك : أن يكون قصد الطرفين معرفة الحق والوصول إليه ، ومن ذلك أن تجعل قولك قابلا للترك وقول خصمك متحمل القبول ، ومن ذلك : عدم إشغال العامة بسماع الخلاف وذيوعه بينهم ، ومن ذلك حسن الظن بالمخالف وطلب العذر له فيارب أسألك باسمك الأعظم أن تقينا شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وأن تحفظ علينا أخوة الإيمان إنك خير مسئول والله أعلم وأعلى .
(( القاعدة التاسعة ))
يجب في الحكم على الغير النظر في قرائن الأحوال المصاحبة للقول والفعل(6/47)
أقول : وهذا أمر لا بد منه ، ومراعاته في حكمك على الغير من أوجب الواجبات وأعظم المطلوبات المتحتمات ، فإن الجهل بهذه القرائن موجب للخطأ في الحكم ولا ريب ، وقد راعته الشريعة في أحكامها على الأعيان والطوائف تمام المراعاة فإنه قد يكون هذا القول أو هذا الفعل قد صاحبه من الأحوال والأشياء المانعة من انطباق حكمه على قائله أو فاعله فلا بد من مراعاة ذلك ، فالذي لا يراعي ذلك يعتبر مفرطا فلو أخطأ في حكمه فإننا نخشى عليه من العقوبة لوجود ذلك التفريط ويدل على ذلك حديث الذي قال:" اللهم أنت عبدي وأنا ربك " فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نظر في القرائن المصاحبة لهذا القول فتوصل إلى قوله : " أخطأ من شدة الفرح " فشدة الفرح قد غطت على عقله بحيث صدر منه ذلك القول عن غفلة من غير مقصد ، فصارت هذه القرينة مانعة من انطباق الحكم عليه ، فبالله عليك كيف الحكم عليه لو لم ننظر إلى هذه القرينة ؟ ولذلك فالضابط عندنا في ذلك أنه لا يؤآخذ الإنسان بما قاله عن غير قصد كسبق اللسان لما لا يريده أصلا ، وهذا واضح . ومن ذلك: حديث عمار لما شدد المشركون عليه العذاب لينال من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنال منه ومعلوم حكم الوقيعة في رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - ولكن لما نظر - صلى الله عليه وسلم - إلى قرينة حاله وجده مكرها فقال له: ( كيف تجد قلبك قال مطمئنا بالإيمان ) فقال : ( إن عاد فعد ) فأنزل الله تعالى : { مَنْ كَفَرَ بِالله مِنْ بَعْدِ إِيمَانِه إلا مَن أُكْرِهَ وَقَلْبُه مُطْمَئِناً بِالإيمَانِ } وقال عليه الصلاة والسلام : ( إن الله تعالى تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ) وهذا يبين لك أهمية النظر في الحال التي قيل فيها ذلك القول أو فعل فيها ذلك الفعل .(6/48)
ومن ذلك : سجود معاذ بين يديه - صلى الله عليه وسلم - فإن حكم السجود لغير الله في شريعتنا معلوم حكمه لكن هناك قرينة منعت من انطباق الحكم على معاذ وهي التأويل وظن صواب النفس ، فقد ظن أن ذلك مما يسوغ فلأجل هذه القرينة المصاحبة لهذا الفعل لم يتعرض له النبي - صلى الله عليه وسلم - بحكم وإنما بين له خطأ ذلك والحديث تقدم مرارا . ومن ذلك : حديث الرجل الذي أمر أولاده إن هو مات أن يحرقوه ويذروه في يوم رائح نصفه في البر ونصفه في البحر حتى لا يقدر عليه الله فيعذبه وتقدم هذا الحديث ووجه الاستشهاد هنا أنه قد روعيت قرينة الحال التي قبل فيها هذا القول وغفر له ما قال وفعل به فهذه القرينة التي هي شدة الخوف التي غطت على فعله مع جهله السابق بعظيم قدرة الله تعالى على جمعه جعلت مانعا من انطباق حكم قوله عليه مما يدل على أهمية النظر في قرائن الأحوال المصاحبة للقول والفعل . ومن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء لحمزة – رضي الله عنه – معاتبا له في أمر فوجده ثملاً و ذلك قبل تحريم الخمر فعاتبه ، فقال له حمزة : وهل أنتم إلا عبيد لأبي ، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - أن السكر جعله يهذي انصرف وتركه – رضي الله عنه – وأرضاه ولم يتعرض لذاته بحكم وذلك مراعاة لقرينة الحال التي صار فيها وهذا يفيد أهمية مراعاة قرائن الأحوال المصاحبة للقول والفعل ، فليست الأحكام على الآخرين لعبة يتسلى بها الصبيان بل هي مما يدين به ربه ، لعظم آثارها المترتبة عليها والله المستعان .(6/49)
ومن ذلك : أنه - صلى الله عليه وسلم - نظر إلى قرينة حال عمار وعمر لما بعثهما- صلى الله عليه وسلم - في حاجة فأجبنا والحديث تقدم مراراً فعمار اجتهد وسعه لكنه أخطأ لظنه صواب نفسه وعمر كان لا يعلم أن التيمم يرفع الحدث الأكبر ، فلم يتعرض لهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بشيء مراعاة منه لهذه القرائن ، فالأول فعل ذلك مجتهدا وظانا صواب نفسه والثاني فعل ذلك عن غير علم بحقيقة الحال ، وهذا يفيد أهمية مراعاة الحال .
ومن ذلك : حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : جاء أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس فقال لهم رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - : ( دعوه وهريقوا على بوله سجلا من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ) رواه البخاري .
وفي الصحيحين عن أنس قال: جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد فزجره الناس فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما قضى بوله أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذنوب من ماء فأهرق عليه ثم دعاه فقال له: ( إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من هذا الأذى والبول وإنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن ) أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا الأعرابي كان جاهلا بحقيقة حكم ما فعله ، فعفى عنه نظراً إلى قرينة حاله مما يدل على أهمية النظر في قرائن الأحوال قبل إصدار الأحكام .(6/50)
ومن ذلك : قوله - صلى الله عليه وسلم -: ( لا طلاق ولا إعتاق في إغلاق ) والإغلاق اسم لما يغلق على العقل كالغضب والسكر ونحوها ، وهذا النظر للحال التي وقع فيها الطلاق والعتاق وقد روعيت مراعاة تامة وبناء عليه فطلاق الغضبان والسكران الذي بلغ به الغضب والسكر حد غياب العقل هذا الطلاق وهذا العتاق غير واقع نظراً لقرينة الحالة المصاحبة للقول والفعل وهذا يفيد أهمية النظر في قرائن الأحوال ، وهذا هو فقه الواقع فإن حقيقة فقه الواقع هو معرفة القرائن المصاحبة للقول والقول ثم تطبيقها على حكم الشارع لاستخراج الحكم الشرعي لها ، ولذلك فلا بد من مراعاة هذه القرائن واعتماد النظر فيها ولا تسوغ لنفسك الحكم على الغير بمجرد سماع قوله أو رؤية فعله من غير نظر في هذه القرائن ، ومن باب المثال لا الحصر ، نضرب بعض الفروع على هذه القاعدة :
فمنها : رأيت رجلا يأكل في نهار رمضان ، فلا تحكم عليه مباشرة ببطلان صومه من غير نظر في حاله فلعله أن يكون ناسيا أو أنه مسافر وقد أفطر في سفره فليس هو بصائم أصلا أو غير ذلك .
ومنها : من فعل شيئا من المحظورات والمبطلات كمحظورات الحج ومفسدات الصوم مثلا فلا تحكم عليه بأثر ذلك إلا بعد النظر في قرينة حاله ، فلعلك بعد النظر في هذه القرائن يختلف عندك الحكم فقد يكون فعله جاهلا أو ناسياً أو مكرهاً أولا يكون فاعله عاقلاً أصلاً أو غير قاصد ونحو ذلك فقبل الحكم عليه لا بد أن تنظر في قرائن الأحوال المصاحبة للقول والفعل والله أعلم .(6/51)
ومنها :بعض الحجاج من البلاد الأخرى يكون على مذهب من المذاهب الأربعة مثلا فيفعل الفعل المعين بالصفة التي يمليها عليه مذهبه ثم يأتيك يسأل عن ذلك فمن المناسب للمفتي قبل إصدار الحكم أن يسأله عن المذهب الذي ينتمي إليه لأنه قد يكون فعل ما هو مشهور في مذهبه ، وذلك كالرمي مثلا أيام التشريق قبل الزوال فإن مذهب الحنفية وعطاء جوازه ، فإذا كان الذي رمى قبل الزوال حنفيا فيقال : رميك صحيح ولا يجب عليك الإعادة ، وهذا الكلام وإن خالفني فيه بعض الأحبة إلا أنه الذي أعمل به هناك في المناسك طلباً للأيسر على الناس فيما فيه خلاف وخصوصا مع هذا الزحام المميت والأعداد الغفيرة والأمواج من البشر ، وهذا الرجل لا ألزمه بمذهبي ولا بالراجح عندي وهو قد عمل بمقتضى المذهب المعتمد المتبوع في بلده الذي له رجال وأداؤه فلم يأت ببدع من القول والله أعلم .
ومنها : أن المتقرر عند كثير من أهل العلم أن لا قطع في حال الحرب ولا في عام المجاعة ، وهذا نظر في أحوال المصاحبة للقول والفعل فالأول : فلو قطعناه الآن فلربما ليسخط لنفسه فيرتد ويلحق بالمشركين وأما الثاني فلأن السرقة في عام المجاعة تكثر ويعسر التحرز منها والأمر فيه مشقة خارجة عن العادة فروعيت هذه الحال ، ولم يقطع أحد فيها كما حصل في عهد عمر - رضي الله عنه - .
ومنها :حكم اللقيط فإن النظر في حاله واقعه واضح جدا فهو مسلم إن وجد فيه دار الإسلام وكافر إن وجد في دار الكفر إن لم يكن فيها مسلمون فاختلف حكمه باختلاف النظر في قرينة حاله ، وهذه القاعدة تفيد القاضي كثيرا والله يتولانا وإياكم .(6/52)
ومنها : إذا بقيت عند زوجها سنين عددا ثم ادعت عليه عند القاضي أنه لم يكن ينفق عليها فالحق أن دعواها هنا مردودة يكذبها النظر في قرينة الحال ، وهي تخالف الظاهر وإن كان الأصل عدم النفقة إلا أن الظاهر هنا مقدم على الأصل فالظاهر أنها لا تأكل إلا من نفقة زوجها ولا تكتسي إلا منها وهكذا ، فالأصل هو عدم إنفاق غيره عليها فيبقى على هذا الأصل حتى يرد الناقل ، فينظر في قرائن الحال جعلنا نتوقف من الحكم عليه بالنفقة المدعاة ، والله أعلم .
وعلى كل حال فالنظر في قرائن الأحوال وفهم صورة المسألة فهما جليا مما يحمي الحاكم والمفتي من الخطأ إن شاء الله تعالى في الحكم الصادر منهم ، فاشدد يديك على هذه القاعدة فإنها مسلك المنصفين الذين همهم سلامة الحكم الصادر منهم لا كثرته والله يتولانا وإياك .
(( القاعدة العاشرة ))
طلب العذر للمخالف إذا أمكن مقدم على الحكم عليه(6/53)
أقول : وهذا من جملة الآداب العظيمة التي لا بد أن نتربى عليها وخصوصا لمن أراد أن يبحث في خلاف العلماء فإنه يجب عليه لزاما أن يتعلم هذا الأدب الرفيع والمنهج المحبوب عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - بل هو من النصيحة لأهل العلم ومن رفع قدرهم بين العام والخاص ، فاحذر رعاك الله لا يحملنك حب الظهور بقولك على أقرانك وأهل زمانك أن تقع بلفظ واعذر المخالف بأي عذر ما كنت تجد لذلك سبيلا ، ولا تتعرض للحكم عليه بشيء ما كنت تستطيع أن تجد له عذرا فإن الحكم على الغير لاسيما إذا كان من أهل العلم عاقبته خطيرة ، وهو من لفظ القول التي يتلفقه الرقيب أو العتيد ويحفظانه عليك حتى تسأل عنه يوم القيامة ولماذا تعرض نفسك لذلك وأنت في حل وسعة من أمرك فإنك لن تسأل يوم القيامة لم تحكم على فلان ؟ وإنما ستسأل : لماذا حكمت عليه ، هذا وفضلا عن أن أهل السنة والجماعة يعذرون ولا يكفرون ، فطلب العذر للمخالف منهج أصيل وخلق رفيع سام ، أسأل الله تعالى بمنه وكرمه أني يوفقني وإياك إليه فإن كاتب هذه الأسطر كثير زلله ولا يصلح أصلا أن يكون قدوة لغيره وخصوصا في هذه المسألة فإن نزقنا وطيشنا وغيرتنا الزائدة تدفعنا إلى الوقعية في بعض المزالق الوخيمة ، والحفر العميقة ، حتى يعتقد الواحد منا بغبائه وقلة أدبه أن طلب العذر نوع من الخور والضعف ، وهذا هو المتقرر في أذهاننا بادئ الأمر ،ولكن تغيرت الحال والحمد لله وشفينا مطلق الشفاء من هذا الداء العضال وأسأله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى الشفاء المطلق منه ، وأن يمن علينا وعليكم بالعافية ، فلو أننا حرصنا على هذه القاعدة المفيدة لسقط ثلاثة أرباع من الأحكام على الغير وإن الواحد منا إذا وقع في مخالفة فإنه يحب من غيره أن يطلب له العذر فيها ، فغيرك أيضا يحب ذلك منه ، وعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به وانظر إلى قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: ( أخطأ من شدة الفرح ) وقد كان(6/54)
المعذرون يأتون بأعذارهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيعذرهم أخذا بالظاهر وحبا في طلب العذر ولا يأتينا أحمق أرعن قليل أدب يقول : إنكم تتميعون مع الأخطاء وهذا فيه خداع للعامة بأن ما قاله هذا المخطئ صواب وحق ، لأننا سنقول : إن هناك فرقا بين قبول خطئه وبين الحكم على ذاته بشيء ونطلب العذر لينتفي الحكم على ذاته ، ولكن الخطأ الذي وقع فيه نرده فإعذاره لا يعني جواز إتباعه بشيء فيما أخطأ فيه ، فالخطأ نرده لذات الخطأ لكن لا نتعرض للمخطئ بشيء من الأحكام فأصحاب الاجتهاد وإن عذرناهم فإنه لا يجوز ترك بيان الحق في هذه المسألة لكن مع بيانها لا بد أن يذكر عذر المخالف لها إذا أمكن ذلك فلا يجوز اتباع أحد خالف الحق وإن كان القائل أو الفاعل معذورا مأجورا وإنه من المناسب في هذا المقام بيان بعض الأسباب التي أدت إلى اختلاف العلماء في كثير من المسائل حتى تكون على علم وبصيرة من أمرنا في هذه المسألة المهمة لا تنافيها نتعامل مع إخواننا في العقيدة ، وقد تولى بيانها أبو العباس في كتابه رفع الملام عن الأئمة الأعلام ، واختصر ذلك الشيخ عبدالله بن عبد المحسن التركي - حفظه الله تعالى - في رسالة أسماها أسباب اختلاف العلماء ، وسأذكر لك خلاصة هذه الأسباب مع بيان شيء من الأمثلة إن شاء الله تعالى فأقول وبالله التوفيق ومنه استمد العون والفضل والتأييد :(6/55)
من أسباب الخلاف : أن يكون المخالف لا يعلم الدليل أي أن الدليل لم يصل إليه ، فقال بقول خالف فيه هذا الدليل وسبب خلافه هذا عدم بلوغ الدليل إليه وهذا متصور كثيرا فإن المجتهد ليس شمسا مشرقة على كل النصوص فقد يخفى عليه الكثير والكثير من النصوص ، ومن الذي استوعب السنة وأحاط بها ؟ بل إن عدم بلوغ الدليل قد حصل لبعض الصحابة مع قرب العهد واجتماع الكلمة فكيف بمن بعدهم ، وهذا السبب داخل تحت العذر بالجهل وقد تقدمت أدلة كثيرة تثبت أن الجهل من جملة الأعذار الشرعية وذلك بشرطه المعروف فلا يأثم أحد إلا بعد العلم وبعد قيام الحجة عليه وقد كان سادة الصحابة بالحبشة وتنزل الواجبات والتحريم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يبلغهم إلا بعد أشهر فهم في تلك الأشهر معذورون بجهلهم ، ولهذا اتفق الأئمة على أن من نشأ ببادية بعيدة من أهل العلم والإيمان وكان حديث العهد بالإسلام فأنكر شيء من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولذلك فقد اختلف الصحابة من المهاجرين والأنصار في الرجل إذا جامع فأكسل فقال الأنصاريون لا يجب الغسل إلا من الدفق بلذه ، وقال المهاجرون بل إذا جامع فقد وجب الغسل وإن لم ينزل فقال أبو موسى فأذن له فقال فأنا أشفيكم من ذلك فاستأذن على عائشة فأذن له فقال : يا أماه إني أريد أن أسألك عن شيء وإني أستحييك فقالت : لا تستحي أن تسألني عن شيء كنت سائلا عنه أمك التي ولدتك فإنما أنا أمك فقال : الرجل يجامع فيكسل أعليه الغسل ؟ فقالت : على الخبير سقطت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( إذا جلس بين شعبها الأربع ومسّ الختان فقد وجب الغسل ) والحديث في الصحيح ، فسبب خلاف المهاجرين مع الأنصار كان لعدم بلوغ الدليل ، ومثال ذلك أيضا : أن الصحابة في عهد خلافة عمر اختلفوا في مسيرهم إلى الشام لما سمعوا أن الطاعون نزل بأهلها ، فقال قوم : نسير ولن(6/56)
يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ، وقال آخرون : بل ترجع لأن الله تعالى قال: { وَلا تُلقُوا بِأَيْدِيكُمْ إَلى التَّهْلُكَة } فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان غائبا في بعض حاجة له فقال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه ) والحديث في الصحيح ، وسبب خلاف الصحابة هنا هو عدم بلوغ الدليل ومثال ذلك أيضا : اختلاف ابن عباس والمسور بن مخرمة في غسل المحرم لرأسة فقال المسور لا يجوز ذلك وقال ابن عباس بل هو جائز ، فأرسل ابن عباس عبدالله بن حنين – رحمه الله تعالى – إلى إبي أيوب الأنصاري – رضي الله عنه – قال: فوجدته يغتسل بين القرنين وهو يستر بثوب فسلمت عليه فقال : ما هذا ؟ فقلت أنا عبدالله بن حنين أرسلني إليك ابن عباس يسألك كيف كان رسول - صلى الله عليه وسلم - يغتسل وهو محرم ؟ قال : فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطأطأه حتى بدا لي رأسه ثم قال لإنسان يصب عليه الماء : أصبب فصبّ على رأسه فحرك رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر وقال : هكذا رأيت رسول - صلى الله عليه وسلم - يفعل . رواه الجماعة إلا الترمذي. وسبب الخلاف هنا بين المسور وابن عباس إنما هو لعدم العلم بالنص المثبت لذلك والله أعلم . ومن ذلك أن عمر – رضي الله عنه – وابن مسعود كانا يفتيان بأن المبتوتة لها السكنى والنفقة وخالفهم في ذلك بعض الصحابة حتى بلغهم حديث فاطمة بنت قيس وأن زوجها بت طلاقها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ( لا نفقة لها ولا سكنى ) أو كما قال - صلى الله عليه وسلم - فسبب الخلاف هنا عدم العلم بالدليل ومثال ذلك أيضا اختلاف الصحابة في دية الأصابع وكان عمر يرى اختلاف ديتها على حسب منافعها حتى بلغه النص القاضي بأن كل إصبع ديته خمس من الإبل فرجع عن قوله وقال بمقتضى النص ، والصور كثيرة فهذا بالنسبة للسبب الأول ، فإذا خالفك أحد فقل أنه لو بلغه النص لقال به لأنه(6/57)
محب للحق وجاد في طلبه فما أحلى هذه الكلمات النيرة الموجبة لبقاء الألفة والمحبة والاجتماع ، والتي هي من المواطئ التي نغيظ بها عدونا إبليس لعنه الله لأننا بذلك نسد عليه بابا من أبوابه ألا وهو التحريش بيننا كما في الحديث عن جابر في صحيح مسلم وكما قال تعالى: { وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا التي هِيَ أَحْسَن إِنَّ الشَّيْطَان يَنزغ بَيْنَهُم } .
ومن الأسباب أيضا : أن يكون النص قد بلغه ولكنه لم يتحقق من جهة ثبوته أي أن الجهة التي وصله النص فيها ليست بمعتمدة عنده أو فيها وجه من أوجه الضعف وهذه الحالة تختلف عن التي قبلها فإن الأولى لم يبلغه النص أصلا ، وأما هذه فقد بلغه النص لكن القدح الآن في جهة الناقل للنص وهذا كثير جداً فإن بعض الأئمة قد يقبل راويا ويعد له بينما لا يقبله الآخر لوجود الجرح فيه ، فالأول يقول بمقتضى ما نقله ذلك الراوي لأنه من أهل الرواية المقبولة عنده ، والآخر لا يعمل بمقتضى ما نقله لأنه ليس من أهل الرواية عنده ،فالنص قد بلغ ولكن سبب الخلاف هو أن جهة ثبوته ضعيفة ، أي بلغه من جهة تحفها قرائن التضعيف ، من كونه لم يثق بناقله أو رأى أنه معارض لما هو أقوى منه ، ومثال ذلك أن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات ، فأرسل إليها وكيله شعيرا نفقة لها مدة العدة ولكنها سخطت الشعير وأبت أن تأخذه فارتفعا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرها النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا نفقة لها ولا سكنى وذلك لأنه أبانها ، ومن المعلوم أن المبانة ليس لها نفقة ولا سكنى إلا إذا كانت من أولات الأحمال إلا أن هذه السنة خفيت على عمر - رضي الله عنه - فكان يقول : لها النفقة والسكنى ، ولما بلغه حديث فاطمة رده باحتمال أنها يمكن أن تكون وهمت أو نسيت فقال : أنترك كتاب ربنا لقول امرأة لا ندري أذكرت أم نسيت ، أي أن أمير المؤمنين لم يطمئن إلى هذا الدليل لأنه تطرق إلى قلبه في هذا جهة من جهات(6/58)
الضعف ، ومثال آخر : هو أن ابن عمر – رضي الله عنه – كان يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال " إن الميت يعذب في قبره ببكاء أهله عليه " والحديث في الصحيح فلما سمعت عائشة – رضي الله عنها – ردته وذكرت أن الله تعالى يقول في كتابه: { وَلا تَزِرُ وَازِرَة وِزْرَ أُخْرَى } وذكرت أن ابن عمر لم يكذب ولكنه أخطأ وأن الصواب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله في اليهود: ( إنه يعذب في قبره وإن أهله يبكون عليه ) فأنت ترى أن أم المؤمنين – رضي الله عنها – ردت حديث ابن عمر لأنها رأت أن هناك معارضاً راجحاً فهي لم تثق فيما حدث به ابن عمر فوقع ذلك الخلاف ، وهذا يقع كثيرا بين أهل العلم ، فالناظر في أقوال أهل العلم في كثير من المسائل يرى بعضهم أن هذا الحديث صحيح لا غبار عليه فيأخذ به ويراها الآخر ضعيفة فلا يأخذ بها لعدم الوثوق بنقلها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومثال آخر: أنه لما بلغها حديث حذيفة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى سباطة قوم فبال قائما ، أنكرت ذلك واستبعدته جداً ، وذلك لأنها ما كانت تراه يبول إلا قاعداً ، فلوجود هذا المعارض عندها – رضي الله عنها – وأرضاها ردت حديث حذيفة فلم يطمئن قلبها لما حدث به ، لكن من المعلوم أن من حفظ حجة على من لم يحفظ والصور كثرة وإنما المقصود الإشارة على شيء من الأمثلة والله أعلم .(6/59)
ومن الأسباب أيضا :أن يكون النص قد بلغه ولكن نسيه وهذا يقع كثيرا فكم من الأحاديث التي تمر علينا ولكن سرعان ما ننساها فنقول بغير مقتضاها لا لقصد المعارضة وإنما لأننا نسيناها فإذا خالف أحد النص بعد بلوغه له فلنعذره ونقول : لعله نسيه أو غفل عنه ، ومثال ذلك قصة عمر وعمار وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثهما في حاجة فأجنبا فلم يجدا الماء فاجتهدا فأما عمر فلم يرى أن التيمم رافعا للحدث الأكبر فمكث عن الصلاة هذه المدة وأما عمار فتمرغ في الصعيد كما تمرغ الدابة وصلى ، ثم أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأرشدهما إلى الصواب فكان عمار يحدث بهذا الحديث في خلافة عمر فدعاه وقال : ما هذا الحديث الذي تحدث به ، فذكره عمار بما جرى لهما ولكن لم يذكر ذلك ، فقال عمار : إن شئت أن لا أحدث به ما حدثت ، فقال عمر : لا ، بل نوليك ما توليت. والحديث متفق عليه ، فعمر نسي ذلك الحديث فكان نسيانه هذا سببا في وقوع هذا الخلاف وقد تابعه على ذلك ابن مسعود – رضي الله عنه – والمقصود أن الإنسان قد يخفى عليه الدليل بسبب نسيانه فيقول بخلافة لا تعمدا للمخالفة وإنما لأنه نسي الدليل ، ولا نظن بأهل العلم إلا خيرا ، فهذه سنة شهدها عمر – رضي الله عنه – ثم نسيها حتى أفتى بخلافها وذكره عمار فلم يذكر ، وهو – رضي الله عنه – لم يكذب عمارا، بل أمره أن يحدث به ، ومثال آخر : روى الإمام الترمذي بسنده من حديث سفيان بن عيينة عن أيوب عن ابن سيرين عن أبي العجفاء المسلمي قال: قال عمر – رضي الله عنه – " ألا لا تغالوا صدقة النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله تعالى لكان أولاكم بها نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ما علمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكح شيئا من نسائه ولا أنكح شيئا من بناته على أكثر من ثنتي عشرة أوقية " فعمر هنا ينهى عن المغالاة في صداق النساء ويأمر أن لا يزيد الرجل على صداق أزواج النبي - صلى(6/60)
الله عليه وسلم - فقالت له امرأة : لم تحرمنا يا أمير المؤمنين شيئا أعطانا الله إياه ؟ ثم قرأت " وآتيتم أحداهن قنطارا " فرجع عمر إلى قولها ، وقد كان – رضي الله عنه – حافظا الآية ولكن نسيها ، فهذا أمر لا يسلم منه أحد إلا من شاء الله تعالى وكذلك عقد علماء المصطلح لذلك مسألة وهي فيما إذا حدث الراوي بشيء ثم نسيه فذكر به فلم يتذكر أن هذا النسيان لا يضر روايته لأنه أمر متصور وهذا كثير في السلف والخلف والله أعلم .(6/61)
ومن الأسباب أيضاً: أن يكون النص قد بلغه ولكنه فهم خلاف المراد، فالنص موجود لكن اختلف العلماء فيه لاختلافهم في فهم المراد، وهذا باب واسع فإن الأفهام تختلف ويمثل لذلك باختلاف العلماء في فهم قوله تعالى " أو لامستم النساء " فقال جماعة المراد به اللمس باليد وفرعوا على ذلك أن مس المرأة ناقض للوضوء بينما فهم آخرون أن المراد به الجماع والأول رأي ابن مسعود والثاني رأي ابن عباس – رضي الله عنهم – أجمعين، فسبب الخلاف هنا هو خلافهم في فهم المراد من الآية، ولسنا بصدد الترجيح بين الأقوال ولكن المراد بيان هذا السبب، فالذي خالفنا في آية أو حديث بعد بلوغه إليه نعتذر عنه بذلك ونقول: لعله فهم من النص شيئا حسب اجتهاده ونظره ، ولا نظن به أنه خالف عنادا للنص – حاشا وكلا – ولكن الأفهام تختلف والأنظار تتفاوت ومثال أخر : وهو أنه لما نزل قوله تعالى { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْط الأبيَض مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْر } عمد عدي بن حاتم إلى عقالين ووضعهما عند وساده وصار يأكل حتى تبينا إذا النهار قد طلع فذكر ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بالصواب ولم يأمره بالقضاء مما يدل على أنه معذور فالصحابي هنا فهم من النص فهما مخالفا للمراد فإذا كان ذلك متصورا في الصحابة فمن بعدهم من باب أولى لأن الصحابة – رضي الله عنهم – أكمل أفهاما وأزكى عقولا وأعمق علما ومثال آخر : لما انتهى النبي - صلى الله عليه وسلم - من غزوة الأحزاب جاءه جبريل عليه الصلاة والسلام وأمره بالتوجه إلى بني قريظة فخرج - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه وقال لهم : ( لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة ) فاختلف الصحابة في فهم المراد ، فمنهم من صلى العصر في الطريق لما حضر وقتها ومنهم من أخرها عن وقتها ولم يصلها إلا في بني قريظة فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فلم يعنف على أحد من الطائفتين ، فالأولون(6/62)
فهموا الحث على الإسراع فقط والآخرون فهموا الأمر على ظاهره وأنه لا توقع صلاة العصر إلا في بني قريظة ، فسبب الخلاف هو الاختلاف في فهم المراد ولم يذكر عنهم أن بعضهم هجر بعضا ولا تراشقوا بالسباب حاشاهم عن ذلك بل هم إخوة متوافقون متآلفون متحابون متوادون يعذر بعضهم بعضا فيما يسوغ فيه الخلاف كهذه القضية وغيرها والله أعلم.
ومن الأسباب أيضا:أن يكون الحديث قد بلغه ولكنه منسوخ ولم يعلم بالناسخ ، فيكون الحديث صحيحا ومفهوما الفهم الصحيح لكنه منسوخ وهذا المجتهد لا يعلم بالناسخ فيعمل بالمنسوخ وذلك لعدم علمه بالناسخ فحينئذٍ له العذر لأن الأصل عدم النسخ حتى يرد الناسخ من طريق صحيح ومثال ذلك ما وقع في عهده عليه الصلاة والسلام من أنه لما حولت القبلة إلى البيت الحرام كان بعض المساجد المجاورة للمدينة كمسجد قباء وغيره يصلون لبيت المقدس وهذا خلاف في الوجهة وسببه عدم العلم بالناسخ فلما علموا به توجهوا وهم في الصلاة إلى البيت الله الحرام ، فإذا كان ذلك حال المساجد المجاورة للمدينة فما بالك بحال أهل الأماكن البعيدة كأهل مكة واليمن ومن في الحبشة لا شك أن الخبر لم يصلهم إلا بعد مدة من الزمن ، وكانوا يصلون في هذه المدة إلى بيت المقدس وسبب ذلك عدم العلم بالناسخ فهم معذورون في ذلك لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها والشرائع لا تلزم إلا بالعلم . ومثال آخر : وهو أن بعض الصحابة لم يزل يفتي بأن من جامع فأكسل أي لم ينزل لا يجب عليه إلا الوضوء ، ولم يعلم بأن ذلك كان رخصة في أول الإسلام وأنه نسخ بقوله ( إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل وإن لم ينزل ) وبقوله ( إذا جلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختان فقد وجب الغسل ) وهما في الصحيح ، فسبب الخلاف هنا هو عدم العلم بالناسخ ، ومثال آخر : وهو أن ابن مسعود – رضي الله عنه – كان يرى التطبيق في الركوع ، وهذا كان في أول الإسلام ثم نسخ ذلك بالأمر بوضع الأكف(6/63)
على الركب وثبت حديث النسخ في الصحيحين إلا أن مسعود بقي على مقتضى الدليل المنسوخ فلما صلى مع علقمة والأسود ووضعا أيديهما على ركبهما نهاهما وأمرهما بالتطبيق ، لماذا ؟ لأنه لم يكن يعلم بالدليل الناسخ وإلا فإن الظن به – رضي الله عنه – أنه لو علم بذلك لما تعداه إلى غيره وهذا هو الظن بسائر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله أعلم .
ومن الأسباب أيضا : أن يكون العالم قد أخذ بحديث ضعيف أو يستدل استدلالاً ضعيفاً وهو كثير جداً بل هو غالب ما وقع بسببه الخلاف وأمثلة كثيرة جدا فمن ذلك خلافهم في صلاة التسابيح فقائل بالاستحباب وقائل بالبدعية وسبب الخلاف خلافهم في قبول حديثها الوارد والحق أنه ضعيف لا يحتج بمثله ، بل ذهب أبو العباس بن تيمية إلى أن حديثها كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن ذلك : خلافهم في القهقهة هل هي ناقضة للوضوء ، فقيل نعم وقيل لا ، والحق أنها ليست بناقضة وسبب خلافهم هو ورود حديث في ذلك لكنه ساقط الإسناد ، ومن ذلك : خلافهم في حكم البسملة على الوضوء أعني قوله " ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه " والراجح أنها سنة . ومن ذلك : خلافهم في الوضوء بالماء المشمس فمنهم من أجازه وهم الأكثر ومنهم من منع منه ، وسبب خلافهم في ذلك حديث روي في ذلك لكنه حديث موضوع ، ومنه خلافهم في قراءة المأموم الفاتحة في الصلاة الجهرية ، فمنهم من أوجبها ومنهم من قال تكفيه قراءة إمامه وسبب خلافهم هو أنه روي في بعض أحاديث الفاتحة قوله " لعلكم تقرؤون خلفي قالوا نعم قال فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها " فمن صححها قال بالوجوب ومن ضعفها قال بإجزاء قراءة الإمام وعلى كل فالأمثلة كثيرة جدا وإنما المقصود الإشارة ولكن ينبغي علينا أيها الأحبة أن نعتقد في أهل العلم أنهم أخذوا بهذا الحديث ظنا منهم أنه مما يحتج به ، ولو أنه تبين لهم ضعفه لما أخذوا به والله يحفظنا وإياك .(6/64)
ومن الأسباب أيضا : الاختلاف في بعض القواعد التي بني عليها المذهب فإن أصحاب المذاهب الكبار قد قرروا قواعد واعتمدوها في استخراج الأحكام من الأدلة فقد يختلف الحكم للاختلاف في القاعدة . ومثال ذلك : خلافهم في نقض الوضوء بمس الذكر فالجمهور قالوا ينقض والأحناف قالوا لا ينتقض ، وسبب خلافهم هو أن الحنفية لا يقبلون خبرا الآحاد فيما تعم به البلوى ، وأما الجمهور فالمهم عندهم صحة الحديث فقط ، فاختلف الحكم للاختلاف في القاعدة ، ومثال آخر : قال الجمهور باشتراط الولي لصحة النكاح وقال الأحناف هو شرط كمال لا شرط صحة وسبب خلافهم هو القاعدة المتقدمة ، وأيضا لقاعدة أخرى وهي أن الأفعال المنفية بـ ( لا ) النافية للجنس هي لنفي الكمال عند الحنفية وأما الجمهور فإنها لنفي الحقيقة الشرعية عندهم فقوله ( لا نكاح إلا بولي ) هو لنفي الكمال عند الأحناف ولنفي الصحة عند الجمهور ولا شك أن الصحيح قول الجمهور فانظر كيف اختلفوا في هذا الفرع للاختلاف في القاعدة . ومثال آخر : ذهب الشافعية إلى أن الحج واجب على التراخي وقال كثير من العلماء بل هو على الفور وسبب خلافهم هو خلافهم في قاعدة : هل الأمر المجرد عن القرينة يفيد الفور أم التراخي فالذين قالوا على الفور قالوا إنه يفيد الفورية والذين قالوا : على التراخي قالوا إنه يفيد التراخي والأمثلة كثيرة وتجد الكثير منها في كتابي تحرير القواعد ومجمع الفرائد والله أعلم .
وخلاصة ما أريد إثباته هنا هو أن المخالف لنا في شيء ينبغي لنا أولا قبل إصدار الحكم عليه أن نطلب له العذر ما استطعنا إلى ذلك سبيلا وهذا أمر ممكن لا عسر فيه إلا على من استحوذ الشيطان عليه ، ممن نسي حق إخوانه وعظيم الخطر في الحكم على الغير ، اسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يعافينا وإخواننا من زلل القول وخلل الفهم وهو أعلى وأعلم .
(( القاعدة الحادية عشر ))
الحكم على الآخرين وقف على العلماء الراسخين(6/65)
أقول : ما رأيك يا هذا لو أنك رأيت رجلا قد ترأس مجلسا من المجالس يتكلم في الأدواء والأدوية ويصف بعض العلاجات ويحكم على بعضها بعدم الفائدة أو بأنه مهم لهذا النوع من المرض ونحو ذلك فإني لا أظن أبدا أنك تتوقف في الحكم عليه بأنه طبيبا ، وأنت في هذا الحكم نظرت إلى الظاهر لكن ما رأيك لو علمت بآخره أنه لا يعرف الطب بوجه من الوجوه فإنك ستقول : لقد دس أنفه فيم ليس له فيه مجال وتكلم بما لا يعلم وهذا أمر لا يرضاه أحدا أبدا وكذلك الحكم على الآخرين بالأحكام العظيمة من الكفر أو البدعة أو الفسق أو غيرها هو وقف أيضا على علماء الشريعة فكما أن الطب وقف على الأطباء ، وأمور الصناعات ومختلف الحرف وقف على العارفين بها فكذلك أمور الشريعة ومعرفة الحلال والحرام وقف على أهل العلم ، فلا حق لأحد أن يدخل فيه كما هو الحاصل هذا الزمان فإنك تجد العامي الذي لا يعرف شيئا يصدر الأحكام ويحلل ويحرم ويصف الأشخاص بأوصاف الكفر واللعنة وهو لا يعرف من العلم شيئا وهذا أمر خطير وعاقبته وخيمة وضرره كبير جدا مفسدته لا تحتاج إلى استدلال وهو منكر يجب إنكاره وزجر فاعله وتخويفه بالله تعالى ولا يقّر أبدا أيا كان هذا الشخص كبيرا أو صغيرا عزيزا أو ذليلا قال الله تعالى:{ وَلا تَقف مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ السَّمْعَ والبَصَرَ وَالفُؤَاد كُل أُولئِكَ كَانَ عَنهُ مَسئُولاً }وقال تعالى في سياق المحرمات على حسب العظمية فقال في آخرها{وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لا تَعْلَمُون} فبان بذلك أن القول على الله تعالى بلا علم من أعظم ما نهينا عنه لأنه الجامع لأبواب الشر كلها وقال تعالى: { قُل أَرَأيتُم مَا أَنزَلَ الله لَكُم مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلتُم مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آلله أَذِنَ لَكُم أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُون } وقال تعالى : { وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ ألسِنَتكُم الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وهَذَا حَرَامٌ لِتَفتَرُوا(6/66)
عَلَى الله الكَذِبَ إِنَّ الذِينَ يَفتَرُون عَلَى الله الكَذِبَ لا يُفلِحُون } ويدخل في عموم ذلك النهي الحكم على الغير فإنه لا بد فيه من الدليل الساطع والبرهان القاطع وهذا إنما يعرفه أهل العلم بالكتاب والسنة ويوضح ذلك أيضا أن الحكم على الغير بشيء من الأحكام السابقة موقوف على العلم بالأدلة المقتضية لذلك الحكم وهذا لأهل العلم الراسخين فقط وأما العوام والأعاجم وأشباه الأنعام فلا مدخل لهم في معرفة ذلك ، ويوضحه أيضا أن الحكم على الغير هو من باب إدراج الفرع تحت أصل عام وهذا الإدراج مفتقر إلى اجتهاد والاجتهاد مفتقراإلى أدواته وشروطه من معرفة أدلة الكتاب والسنة والتمييز بين عامها وخاصها ومطلقها ومقيدها وناسخها ومنسوخها ومجملها ومبينها ومعرفة وجه الاستشهاد والعلم بدلالات اللغة اللازمة لذلك وكل ذلك لأهل العلم ، فلا يجوز لأحد أن يتجرأ على ذلك لأن الأمر عظيم والعواقب كبيرة فليس الباب مفتوحا لكل أحد بل هو وقف على أهل العلم الراسخين فيه ، ولأن العامي والمقلد ليس من أهل الدليل فلا يجوز له استنباط الحكم من دليله وإنما فرضه السؤال فقط ، ولأن الحكم على الغير مفتقر إلى معرفة العوارض التي تعرض للأهلية والعلم بها وبجزئياتها إنما هو لأهل العلم فبان بذلك أن الحكم على الآخرين وقف على العلماء الراسخين فانج بنفسك ودع الأمر لهم ، فإنها أمانة عظيمة يتحملها أهل العلم بالكتاب والسنة فمالك ولها ؟ فليست المسألة تشريفا للحرص على تحصيله بل هي تكليف صاحبه مسئول عنه يوم القيامة ، فنسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يعين العلماء على القيام بها حق القيام وأن يعيذهم من خلجات النفس ووسوسة الشيطان الرجيم ، وأحذر كل الحذر من أن تزك نفسك وتقول أنا من أهل العلم ، فإن هذا مزلق وخيم وتعالم سافر ، بل لا تزال: إن كنت تريد النجاة – متهما لها بالقصور والتقصير محتقرا لها الاحتقار الذي يدفعك إلى مطالعة عيوبك(6/67)
والاشتغال بها والإقبال على تكميل قصورها ، ودع باب الحكم على الآخرين فإنه ليس لنا ، عافانا الله وإياك من زلل القول وضلال الفهم ، فاعرف قدر نفسك ولا ترفعها عن منزلتها فتهلك ، وقد حدثني من أثق به أن بعض هؤلاء الصغار الحمقى تجرأ على أحد العلماء حتى إنه يقول بعد ذكر اسمه: أكرمكم الله ، وبعضهم يقول في ذلك العالم وغيره : إنهم عملاء لا علماء وما ذلك إلا لقلة الأدب وذهاب الحياء ووفور الجهل واستحكامه في النفس وحق هذا الصغير ومن كان شاكلته أن يؤدب بالتعزير البليغ الذي يردعه ويردع أمثاله عن قول هذا الكلام العظيم في خيار الأمة وولاة أمرها ، فبالله عليك أي حياة تطيب إذا وقع الصغار في الكبار وترأس الرويضبة الذي لا قدر له علماً وعملاً واتهمت نيات العلماء ولم يؤخذ عنهم ، وذهبت هيبة العلم واشتغلت المجالس بذكر عيوبهم والقدح في فهمهم وأمانتهم هذه والله الطامة التي أسأل الله تعالى باسمه الأعظم أن يعصم الأمة منها وأن يرد كيد من يريد وقوعها في نحره وأن يجعل تدبيره تدميره ويجعل الدائرة عليه ويخرجنا وأمتنا من ذلك سالمين غانمين معافين ، فيا أيها الأحباب الوصية لنفسي ولكم أن تدعوا الأمر لأهله ورجاله الذين هم عليه أحرص وبه أقوم وله أعرف وفيهم الكفاية وهم أهل لذلك ، ومن العجيب أن بعض وسائل الإعلام مع نزول بعض الأحداث في الأمة تلتقي مع الذين لا يعرفون بعلم ولا فقه ولا انتهاج بمنهج أهل السنة ليقولوا قولهم في هذه الأحداث ويهتدي الكثير بآرائهم ويسترشد بأقوالهم التي لم تبن على علم ولا بصيرة ولا هدى من الكتاب والسنة فيضرب كثير من العوام بأقوالهم في العلماء استنادا على أقوال هذه الثلة التافهة الفاسدة والوزر في ذلك يحمله مخرجوا هذه اللقاءات ومنفذوها وإلا فالقاعدة عندنا في ذلك هي قوله تعالى: { وَإِذَا جَاءَهُمُ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أو الخَوْفَ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلى الرَّسُولِ وَإلى أُوْلي الأمْرِ(6/68)
مِنْهُم لِعِلمِه الذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم } فمعرفة أحكام هذه الأحداث والوقائع النازلة لا يؤخذ من أهل العلمنة والحداثة والمنافقين ودعاة التحرر والإرجاف وإنما لا يؤخذ إلا من ولاة الأمر منهم وهم العلماء بالكتاب والسنة ولا يفهم أن سكوت بعض العلماء عن بعض الأشياء أنه مداهنة وخور وخوف ، نعوذ بالله من هذا الظن في أهل العلم بل سكوتهم على بعض الأشياء مبناه مراعاة المصالح والمفاسد الذين هم بها أعرف ولها أرعى ، فليس العالم بوقا يتكلم بما شاء الناس ، وليس العالم هو الذي يتوخى إرضاء الناس وإنما المقدم عنده في كل الأمور مرضاة الله تعالى وإن أدى ذلك إلى سخط الناس فهذه الأحكام من التكفير والتفسيق والتبديع وغيرها إن أخذت من غير أفواه العلماء الراسخين فقل على الدنيا السلام وناهيك بالمفاسد والبلايا التي ستقع في الأمة ، وأكبر دليل على كلامي هذا هو هذه الأحداث الإرهابية التي تسمع عنها بين الحين والآخر فإنها امتداد لأخذ الأحكام من سقطاء الأمة الذين لا يعرفون بعلم ولا تربية على منهج أهل السنة فوقعوا في أمراء الأمة وعلمائها وأفرادها تكفيرا وتبديعا واتهاما وقتلا وإتلافا للأموال استنادا لفتيا من لا يحق له أن يقضي بين البهائم في أمور علفها فضلا عن تنصيبه ليكون عالم زمانه ورسول أوانه الذي لا يجوز مخالفة قوله والحيدة عن رأيه ويذكرني ذلك بحديث أبي هريرة في الصحيح ( إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة ) فإذا وسد أمر الخبز والعجين إلى الطبيب ووسد أمر طب الأبدان إلى الخباز ووسد أمر طب القلوب والأرواح إلى المغفلين والجهال وأخذت الأحكام من غير أهلها ، فوالله إن باطن الأرض خير من ظهرها لأنها فتنة ومشروع أن يدعو الإنسان بقبض روحه عند حلول الفتن حتى لا يفتن عن دينه ، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، فعليك بارك الله فيك أن تدع أمر الحكم على الآخرين لمن هو أهل له وهم العلماء الراسخون الذين(6/69)
مستندهم الدليل وقائدهم الورع والتقى ولا يحركهم ويوفقهم إلا مراعاة المصالح والمفاسد ، ولا زالت الأمة بخير ولله الحمد والمنة وإنما المقصود التحذير وتعظيم ذلك الأمر على النفوس حتى تهابه القلوب وتوجل منه العقول فالله الله أيها الأحبة بهذا الأمر فإننا على خير ما كنا نصدر أحكامنا وغيرها عن العلماء أسأل الله بمنه وكرمه أن يحفظ علينا علمائنا وأمرائنا وديننا وهو أعلى وأعلم .
(( القاعدة الثانية عشر ))
لازم القول ليس قولاً إلا بعد عرضه والتزامه(6/70)
أقول : رفع الله نزلك في الفردوس الأعلى وأجزل لك الأجر والمثوبة وعافاني الله وإياك من كل بلاء وفتنة وجعلك الله في كل مصادرك ومواردك تابعاً للدليل موافقاً له وأن يعيذنا الله من هوى النفوس وشهواتها إنه ولي ذلك والقادر عليه ، اعلم رحمنا الله وإياك أن اللوازم نوعان : لوازم من كلام الله ورسوله ولوازم من كلام غيرهما من سائر الناس فأما اللوازم من كلام الله ورسوله فإنها حق لا يتطرق إليها الخلل بوجه ، لأن كلامهما حق وصدق كله ولازم الحق حق ولازم الصدق صدق ، والكلام في هذه القاعدة ليس على ما يلزم من كلام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - وإنما الكلام فيها على القسم الثاني وهو اللوازم على كلام غيرهما فهذه اللوازم إن كانت تقتضي أحكاماً فلا يجوز لنا أن نحكم على أصحابها بمجرد علمنا بها ، فإن هذا ليس من العدل والإنصاف ، بل المشروع في ذلك أن نعرضها على أصحابها إن كانوا أحياء فنقول لهم أنتم قلتم كذا وكذا ويلزم على أقوالكم كذا وكذا من اللوازم الباطلة ، فأنت إذا عرضت ذلك عليهم فلا يخلو الأمر من حالتين : : إما يلتزموها مع ظهور بطلانها لهم وإما أن يرفضوها ويتبرؤوا منها ، فإن كان الأول فقد أقمت الحجة عليهم فإن كان الأمر يقتضي الحكم عليها فاجتهد واتق الله ما استطعت وإن كان الثاني فإنه لا يحق لأحد أن يحكم عليهم بهذه اللوازم وهذا فرع من فروع العدل والإنصاف مع الآخرين وهو من النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم ، فلا حق لأحد أن يحكم على الغير بما يلزم عليهم من أقوالهم إلا بهذين الأمرين : أن يعرض عليه لازم قوله ، وأن يلتزمه أي يقبله وهذا من الرفق في الأمور الذي رغبنا فيه ، ولأن المتكلم في كثير من الأحيان قد لا يقوم بقلبه هذا اللازم ولا يفكر فيه فكان من الإنصاف أن لا يحكم عليه بما لم يقصده ولم يقم بقلبه إلا بعد العرض والقبول ، ففي الحقيقة أن الذي يحكم على الآخرين بما يلزم عليهم من أقوالهم بلا عرضها عليهم(6/71)
ظالم في ذلك والظلم شين وعاقبته معلومة ، والله تعالى لا يحب الظالمين ، وبذلك تعلم أن العاكفين على تتبع أشرطة بعض العلماء ليخرجوا منها ما يوجب القدح فيهم ويبترون الكلام بترا ويعلقون عليه أنه قال كذا وكذا ويلزم على قوله كذا وكذا أنهم غير الصراط المستقيم وأنهم بذلك مجانبون للمنهج القويم ومتنكبون عن الجاده ، وإنك لترى من ذلك عجبا وتسمع من ذلك ما يشيب له الرأس ، فمن ذلك قول بعضهم لما سمع شيخاً يقول : ولا يقتصر في دراسة الفقه على الزاد أي زاد المستقنع بل لابد من صياغة جديدة ويسيرة وواضحة المعالم ، فقال ذلك الرجل : هذه دعوى لنسف التمذهب على مذهب إمام أهل السنة والجماعة أحمد بن حنبل ، قلت : كلا والله ليس هذا لازم كلام ذلك الشيخ وإنما هو شيء فهمته أنت بسوء فهمك وإلا فكلامه لا يدل على ذلك لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام والواجب هو إحسان الظن بالمتكلم وإني على يقين تام لو أن أخانا هذا هداه الله عرض ما ثار في ذهنه على ذلكم الشيخ لبادر الشيخ في توضيح مراده ونفى ما فهمه هذا ، ولكنه الاستعجال الذي لا تحمد عواقبه ، ولا أريد الرد على دعواه أن التمذهب على مذهب الإمام أحمد مقصور على قراءة الزاد فإنها دعوى غير نافعة عند أهل العلم وواضحة البطلان عند من له أدنى اهتمام بالعلم وإنما المراد التمثيل على من يحكم باللوازم دون عرضها على أهلها والله أعلم . والشيء بالشيء يذكر اذكر مرة أني كنت أجيب عن بعض الأسئلة ، فقلت في أثناء حديثي ، لو قال فلان ذلك فهو ضال ، فيتلقفها مني أحد الحاضرين وبدأ يثبت في مجالسه الخاصة أني أكفر فلانا ، فجاءني الناصحون وتكاثر علي المرشدون بالنصيحة تارة وبالاستفسار عن الدوافع لهذه الكلمة تارة وجزاهم الله خير الجزاء فإن الدافع لهذا الناقل وسائر الإخوان إنما هو محض النصيحة وحب العلماء والذب عن حياضهم وهذا يشكرون عليه ، والمقصود أن الأخ هذا حكم علي بذلك الأمر الذي لو عرضه علي لما(6/72)
قبلته ولبينت له وجهة قولي ، فأسأل الله أن يعفو عني وعن سائر أحبابنا فكل معرض للخطأ ولا يزكي الإنسان نفسه ، فاللوازم التي تلزم على الأقوال ، لا يجوز أن ننسبها لأصحاب القول إلا بعد عرضها عليهم وبيانها لهم فإن التزموها فالأمر شيء آخر وإن ردوها وعابوها فالحمد لله فاحرص على هذا الأمر فإن كثيرا من هذا الأحكام إنما بنيت على لوازم الأقوال لما اعتمدت قبل عرضها والتزامها وهذا محض الخطأ ، والله من وراء القصد وهو أعلم وأعلى .
(( القاعدة الثالثة عشر ))
من الإنصاف أن يغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه(6/73)
أقول : وهذه أيضا من قواعد العدل والإنصاف الذي تميز به أهل السنة والجماعة ، فإن أهل السنة والجماعة أبدا لا ينظرون إلى نقطة سوداء في بحر أبيض ولا يفخمون الأخطاء ولا يحكمون على كثيرا الإصابة بيسير خطأه بل المجتهد عندهم مغفور له خطؤه اليسير فإن هذه الأمة مغفور لها خطؤها في الاجتهاد فزادها الله شرفا ورفعة ، فإياك أن تحكم على كثير الصواب بشيء قد أخطأ فيه ومن الذي لا يسلم من الخطأ فإن المعصوم من عصمة الله تعالى والأمة معصومة فيما أجمعت عليه وأما بالنظر إلى آحادها فإنه يجوز عليهم الغفلة والنسيان وقصور الفهم وفهم الشيء على غير وجهه أحيانا وإننا لو جعلنا شرط قبول كلام العالم سلامته من الخطأ لما سلم لنا أحد من العلماء ولردت أقوال هي في ذاتها صواب بسبب هذا الخطأ اليسير وهذا مسلك أهل البدع ، ولا يفهم غبي كلامي هذا أننا نقبل الخطأ الذي جاء به ذلك العالم فإن هذا فهم مخلوط منكوس ، بل الذي أريد إثباته هنا هو أننا نبحث عن المعاذير لهذا الخطأ ونخرجه التخريجات التي تتوافق مع منهج الأدب مع أهل العلم ، ونغض الطرف عن هذه الهفوة اليسيرة من بين ألف صواب ولا نجعل من الحبة قبة ، ولا نتعاظم صدور الخطأ من أحد كائنا من كان ، بل نسعى في علاج ذلك الخطأ بالطرق الشرعية والمناهج المرعية بالأدب ومراعاة المصالح والمفاسد ولا تكن أبواقاً ينفخ فيها أعداء الشريعة ولا آلات تحركنا أيدي عدونا ولا نفتح باب الشر على الأمة بنشر أخطاء أهل العلم فإنها والله الطامة ، فإن العامة إذا ذهبت هيبة العلماء من قلوبهم اهتزت هيبة العلم في باطنهم فلا يقيمون لعالم وزنا ولا لشيخ قدرا ويصدرون من عند أنفسهم وهذا باب فساد وشرور وفتنة أعيذك بالله أن تكون ممن يفتحه ، وإنه لا يفتح إلا بزعزعة هيبة أهل العلم من قلوب العامة فاحذر من تتبع أخطائهم والتنقيب عن هفواتهم فإنه مسلك الهالكين المفسدين في الأمة بعد إصلاحها وأخشى عليه أن يكون من الذين(6/74)
يذادون عن حوضه - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة ، فليكن مبدؤك العفو والتجاوز وحب الستر و صفح الهفوة حتى يعاملك الله بذلك ، قال تعالى:{وَليَعفُوا وَليَصْفَحُوا أَلا تحِبُّونَ أَن يَغفِرَ الله لَكُم وَالله غَفُورٌ رَحِيم} فالجزاء من جنس العمل ، فمن عفا وغفر وصفح عفا الله عنه وغفر له وتجاوز عن زلله ، فلنتناصح ولا نتفاضح ، و لنتفق ولا نفترق ولنتآلف ولا نختلف ، ولنحقق قوله - صلى الله عليه وسلم - :( وكونوا عباد الله إخوانا ) وقوله ( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ) وإن المقصود هو القيام بواجب الدعوة إلى الله تعالى فإذا قصر مقصر أو أخطأ مخطئ فلا نصفق لخطأه أو نضرب له الدفوف ونزف خطأه إلى الأعداء والعامة ، فإنك لا تستفيد شيئا بل عليك وزر هذه الفضيحة وإن أخرجتها في ثوب نصيحة فإن الأمة بل الدنيا بأسرها لا تزال بخير ما عظم العلماء وأعلى قدرهم وغفرت أخطاؤهم وسترت معايبهم لا لذواتهم أو لأنهم أبناء فلان وإنما لهيبة ما يحملونه في قلوبهم من علم الكتاب والسنة فإن احترام العالم احترام للعلم وتعظيم العالم تعظيم للعلم ، فاستغفر الله وأتوب إليه إن أخطأت في حق أحد منهم أو صدرت زلة لسان أو هفوة بنان على مقامهم الشريف ويا عجبا من قول سلم منهم اليهود والنصارى وأصناف الكفرة ولم يسلم منهم سادات المسلمين وأعجب من ذلك ما سمعته عن بعض هؤلاء إنه لا يجيز لعنة اليهود والنصارى والدعاء عليهم لعدم الدليل – هكذا زعم – وتراه يمزق لحوم أهل العلم ويدعو عليهم بالويل والثبور ويكتب فيهم التقارير السرية فإذا أصابهم أذى بقدر الله ، فرح قلبه واطمأنت نفسه وطاب عيشه ، مسكين مثل هذا أسأل الله جل وعلا أن يرده إلى جادة الحق والصواب وأن يعفو عنا وعنه زللنا وتقصيرنا في العلم والعمل والدعوة ، وعلى كل حال فنقول كما قال الإمام ابن عساكر – رحمه الله – تعالى إن : لحوم العلماء مسمومة(6/75)
وعادة الله في منتهكي أعراضهم معلومة ومن وقع في أعراضهم بالثلب عاقبه الله قبل موته بموت القلب ، نعوذ بالله تعالى من موت القلوب ونسأله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يحمي العلماء من كل من أرادهم بسوء وأن يجعل كيدهم في نحورهم وأن يحمي شريعته من عبث العابثين وإفساد المفسدين بحفظ أهلها الذابين عنها آمين إنه ولي ذلك والقادر عليه ولعل المقصود من هذه القاعدة قد اتضح فلا نجعل هفوات أهل العلم لك بضاعة تتوصل بها إلى مقاصد أنت تعرفها واستعذ بالله من شهوات النفوس واجعل همك وصول الحق للناس سواءً أوصلته أنت أو أوصله غيرك ولا تنصب نفسك حاكما بين العلماء واعرف قدر نفسك وامدد لحافك على قدر قدميك ، ودع العلماء للعلماء ، ولا تداهن أحدا ببث شيء من هفوات بعض أهل العلم أو القدح فيهم عنده ليعطيك عرضا من الدنيا أو ينصبك منصبا يكون فيه عطبك وغضب الله عليك ، فأهل العلم الصادقون لا يجعلون علم الكتاب والسنة تابعا لذلك بل يجعلون الدنيا بأسرها تابعة للكتاب والسنة حاشا أهل العلم وطلابه من هذه الأخلاق الفاسدة والمقصود أن الخطأ اليسير في الصواب الكثير ليس بشيء ولا نحكم على أحد بيسير خطأه وكثرة صوابه ، عاملنا الله وإياك برحمته ووفقنا وإياك لسلوك سبيل مرضاته والله أعلى وأعلم .
(( القاعدة الرابعة عشر ))
لا تبنى الأحكام على الإشاعات والنقول والأراجيف(6/76)
أقول : إن هذه وصية لنفسي الضعيفة ولمن شاء الله من أخواني أنه إذا نقل إليك أحد عن أحد شيئا يريد منك أن تحكم على هذا المنقول فاعلم أنه شيطان يريد أن يوقعك في عرض أخيك ويريد إيغار الصدور ووحشة النفوس وفساد ذات البين فاحذر كل الحذر منه ، وما أكثرهم لا كثرهم الله فإنهم النمامون القتاتون أصحاب العضة ، هم السحرة ولكن بلا عقد ، بل عليك زجر الفاعل والتغليظ عليه وردعه الردع المناسب لحاله ولا يصدر منك أي قبول لكلامه هذا فضلا عن أن تبني عليها حكماً على أخيك ، فإن هذه العجلة قد أوقعت كثيرا من الأحبة في أمور ندموا عليها وتمنوا أنهم لم يفوهوا بها ، وصدق الله العظيم إذا يقول { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } ولا يقع في ذلك في الغالب إلا حدثاء الأسنان في العلم ، أما الراسخون فيه ومن أخذ فيه بحظ وافر فإنهم كالجبال الرواسي الذين لا تضلهم الفتن ولا تلتبس عليهم الأمور ، فلا يجوز لك أن تبني حكما على أخيك بمجرد نقل إليك أو بمقال من جريدة جاءت قصاصته إليك ، أو بشريط سمعته أو بكلمة محتملة ، فإن الحكم على الغير عظيم خطره فلا بد من هيبته والخوف منه ولا يقدم عليه إلا بعد استفراغ الوسع في التثبت والتبين والترفق ومعرفة الحقيقة المعرفة التامة ، وكم وكم من النقول التي لا أساس لها ولا خطام ولا زمام لها ، وفي الحقيقة أن من بنى حكما استنادا على ذلك فإنه يكون بذلك قد بنى حكمه هذا على غير أساس ولا هدى من الله ولا برهان ساطع أو دليل واضح بل على الهوى والتخرص والعجلة والطيش ومن الذي يرضى أن يكون بهذه المرتبة ، التي لا ترضاها البهيمة فضلا عن بني آدم فضلا عن المشائخ والعلماء فلا نريد أن نتمشى مع شهوة أهل الإشاعات والأراجيف بل لابد من قتل هذه الشهوة في قلوبهم بتحذيرهم ومناصحتهم أو ردعهم عن مثل ذلك بتغليط الكلام لهم وتأديبهم أو تعزيرهم التعزير(6/77)
البليغ حتى لا يعودوا إلى مثل ذلك الخلق الفاسد ، ويعجبني أحد العلماء لما نقل له بعض السفهاء والسقطة شيئا عن بعض أهل العلم وأراد سماع رأيه فيه ، زجره زجراً بليغاً وأخرجه من المسجد ، وهذا حقه لأنه يريد بذلك النقل الوقيعة في ذلك العالم المنقول عنه ، فرد الله كيده في نحره لم ينل خيرا وكفى الله المؤمنين القتال ، فلا تفتح بابك لأهل الأراجيف والنقول والإشاعات بمداهنتهم والترخي عنهم كائنا من كانوا ولا تسمح أصلا أن يذكر أحد في مجلسك بشيء ، بل لتكن مجالسنا عامرة بمدارسة العلم النافع ومذاكرة المسائل المفيدة ولتدع أعراض الناس عنك لا يطلبونك بها يوم القيامة ، فالوصية لنفسي ولمن شاء الله تعالى من أخواني المسلمين أن لا نحكم على أحد بناء على الإشاعات والنقولات الزائفة التي هي كيدية في غالب أحوالها ، ولا على الأراجيف فإن هذا مما يفرح أعداء الله ونحن لا نريد أن نفرحهم بل نريد أن ندخل عليهم الحزن والغيظ قال تعالى: { وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكُفَّار }.. الآية، فإذا سددت هذا الباب عنك فابشر بخير وسترى عاقبة ذلك في الدنيا والآخرة ولعلك قبلت وصية أخيك المحب ولعلها وجدت فراغا من قلبك الكبير وصدرك الواسع والله أعلم .
وختاماً ..
فإني أحب أن أذكر لك بعض الوصايا الجامعة النافعة في هذا الباب وفي غيره ، عسى الله تعالى أن يختم لنا بخير ويجعل عواقب أمورنا إلى خير فأقول وبالله التوفيق :
من كف لسانه عن الناس شرح الله صدره ويسر أمره وأعلا ذكره ، وغفر وزره ووسع وأنار قبره وضاعف له مثوبته وأجره .(6/78)
من صان أعراض الناس صان الله عرضه من الناس وألبسه الرحيم خير لباس ، فيمشي بينهم وما عليه منهم من حذر ولا بأس وسد بذلك طريق الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس من ذب عن عرض أخيه ذب الله عن عرضه ومكنه الله تعالى وآمنه في أرضه وسلمه من الفزع الأكبر في يوم حشره وعرضه ، جزاء وفاقا لما قام به من فرضه .
من قام بما أوجب الله عليه تجاه العلماء ، أحبه أهل الأرض والسماء ، واستغفرت له الأشياء ووسع الله له العطاء ، وأعلا نزله في دار الأتقياء .(6/79)
خف الله في الناس ولا تخف الناس في الله وعاملهم بما تحب أن يعاملوك به ، وآت للناس ما تحب أن يأتوك به ، واعلم أن خير ما خرج به العبد من هذه الدنيا الذكر الحسن ، وطوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا ، واعمل لسانك بكثرة الذكر واستقل ما تقدمه من الطاعات ولا تفخر ولا تبغ على أحد واعف واصفح عمن أساء إليك وقابل السيئة بالحسنة وعليك بمعالي الأمور ودع سفاسفها وأوصيك بتقوى بتقوى الله وحسن الخلق ، وأتركك في مساء الخير أو صباحه والسلام عليك ورحمة الله وبركاته واستغفر الله من الزلل وضلال الفهم وأسأله جل وعلا أن يعفو عني ذنوبي التي لا عد لها و لا حصر لكن رحمته أوسع وعفوه أكبر ، وأعوذ بوجهه الكريم أن يحاسبني عن ترك امتثال ما كتبته يوم القيامة وأسأله جل وعلا الإخلاص في القول والعمل وأسأله عز وجل باسمه الأعظم أن يتقبل هذا العمل وقفا لي ولسائر المسلمين وأني لا أجيز لأحد أن يحتفظ بحقوق طبعه ، بل حقوق الطبع مفتوحة للمسلمين ، وليس في هذه الوريقات فقط بل في كل سائر ما كتبته والله خير الشاهدين وعليه الاعتماد ولا أرجو ثواب ذلك إلا منه جل وعلا وأعوذ به أن أشرك به شيئا وأنا أعلم وأستغفره لما لا أعلم وقد تم الفراغ بحمد الله وتوفيقه قبيل الفجر يوم الأثنين من شهر جمادى الآخرة عام أربعة وعشرين وأربعمائة وألف من هجرة الحبيب صلى الله عليه وسلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم وهو أعلى وأعلم وأحكم .
الفهرس
م
العنوان
الصفحة
1
المقدمة
1
2
يجب صون المنطق عن الحرام ويسنّ كفّه عن المكروه وفضول المباح
4
3
لنا الظاهر والله يتولى السرائر
11
4
صفاء السريرة على المحكوم عليه وإحسان الظن به مطلب أساسي في الحكم عليه
17
5
ما كان الرفق في شيء إلا زانه وما نزع من شيء إلا شانه
25
6(6/80)
من وقع في مكفرٍ أو مبدع أو مفسق فإنه لا يحكم عليه بمقتضاه إلا بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع
30
7
الحكم العام على الأقوال والأفعال لا يستلزم انطباقه على الأفراد قطعاً إلا بعد ثبوت الشروط وانتفاء الموانع
39
8
لا تقوم الحجة على المعين إلا بالبلوغ ومطلق الفهم
43
9
لا يحكم على الغير بمخالفته شيئاً ثبت الخلاف فيه لاسيما إن كان قوياً
49
10
يجب في الحكم على الغير النظر في قرائن الأحوال المصاحبة للقول والفعل
57
11
طلب العذر للمخالف إذا أمكن مقدم على الحكم عليه
63
12
الحكم على الآخرين وقف على العلماء الراسخين
77
13
لازم القول ليس قولاً إلا بعد عرضه والتزامه
83
14
من الإنصاف أن يغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه
87
15
لا تبنى الأحكام على الإشاعات والنقول والأراجيف
91
16
ختاماً ..
94
17
الفهرس
96(6/81)
Almodhe1405@hotmail.com
almodhe@yahoo.com
مقدمة
الحمد لله على الإسلام والسنة والعافية ؛ فإن سعادة الدنيا والآخرة ونعيمهما مبنيٌّ على هذه الأركان الثلاثة ، وما اجتمعن في عبد بوصف الكمال إلا وقد كملت نعمة الله عليه ، وإلا فنصيبه من نعمة الله بحسب نصيبه منها (1) .
والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد فالناس في تحديد مسمَّى البدعة وضبط معناها فريقان :
فريق بالغ في التبديع ، وتساهل في الحكم بالبدعة على كل محدثة أو قضية لم يبلغه دليُلها ، وهؤلاء جعلوا باب الابتداع واسعًا وربما أدرجوا تحت مسمّى البدعة شيئًا من الشريعة والسنة .
وفريق تساهل في الأخذ بالبدعة ، وتوسَّع في ارتكابها ، وهؤلاء جعلوا باب الابتداع ضيقًا ، لا يدخل فيه سوى البدع الأمهات ، وكبائر المحدثات ، وربما وصل الحال بهم إلى إدراج الكثير من البدع والمحدثاث تحت مسمّى الشريعة والسنة .
فانظر رحمك الله كيف أن الفريق الأول وسَّعوا مسمّى البدعة حتى أدخلوا فيه ما ليس منه ، وهم في المقابل قَصَروا مسمّى الشريعة على ما عرفوه وألفوه من النوازل والأحكام ، حتى أخرجوا من مسمّى الشريعة بعض ما هو منها .
وانظر كيف أن الفريق الآخر ضيَّقوا مسمّى البدعة حتى أخرجوا منه بعض أفراده ، وهم في المقابل وسَّعوا مسمّى الشريعة والسنة حتى أدخلوا فيه ما ليس منه .
ومن هنا يتبين لك - أيها الناظر - ما عند كل فريق من الخطأ في ضبط معنى البدعة ، وهو الذي أثمر الخطأ في معنى السنة ، إذ السنة والبدعة معنيان متقابلان ، وعُلم بهذا أن كل فريق آخذ بطرف ، مائل به عن الوسط .
وقد أشار ابن تيمية إلى نحو ذلك بقوله :
__________
(1) انظر اجتماع الجيوش الإسلامية (33) .(7/1)
( لكنَّ أعظم المهم في هذا الباب وغيره تمييز السنة من البدعة ؛ إذ السنَّة ما أمَر به الشارع ، والبدعة ما لم يشرعه من الدين .
فإن هذا الباب كثر فيه اضطرابُ الناس في الأصول والفروع ، حيث يزعم كل فريق أنَّ طريقه هو السنة ، وطريقَ مخالفه هو البدعة ، ثم إنه يحكم على مخالفه بحكم المبتدع ، فيقوم من ذلك من الشر ما لا يحصيه إلا الله ) (1) .
وكان الواجب إعطاء البدعة معناها دون إجحاف ولا إسراف . وإنما يتمهَّد هذا الواجب بوضْع ضوابط جليَّة لمعنى البدعة ورسْمِ معالم بيِّنة لحدودها ، وما يدخل فيها وما لا يدخل .
وبهذا يتأتّى الحكم على آحاد البدع وأعيانها ، وذلك عندما تردُّ كلُّ بدعة إلى قواعدها الكليَّة .
من هنا تظهر أهمية تحديد القواعد التي تُعرف بها البدع .
ومن جهة أخرى فإنَّ ضبط الأمور المنتشرة المتعددة ، وإجمال الأحكام الكثيرة المتفرقة أوعى لحفظها ، وأدعى لرسوخها .
والحكيم إذا أراد التعليم لا بد له أن يجمع بين بيانين : إجمالي تتشوَّف إليه النفس . وتفصيلي تسكن إليه (2) .
وبعد إطالة النظر وإمعان الفكر فيما حرَّره أهل العلم في باب البدع والمحدثات (3) اجتمع لديَّ ثلاث وعشرون قاعدة ، عليها يقوم الابتداع في الدين ، وإليها يؤول الإحداث المشين .
__________
(1) الاستقامة (1/13) .
(2) انظر المنثور في القواعد للزركشي (1/65 ، 66) .
(3) من أبرز ما كُتب في هذا الباب وأنفعه :
1. البدع والنهي عنها لابن وضاح القرطبي ، المتوفي سنة 276 هـ .
2. الحوادث والبدع للطرطوشي ، المتوفي سنة 530 هـ .
3. الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة ، المتوفي سنة 665 هـ .
4. اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم لتقي الدين ابن تيمية ، المتوفي سنة 728 هـ .
5. الاعتصام للشاطبي ، المتوفي سنة 790 هـ .(7/2)
ومن الموافقات اللطيفة أن يوافق عدد هذه القواعد عدد سني البعثة المحمدية ? إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ? .
وقد رأيت أن أجعل بين يديَّ هذه القواعد مدخلين :
أولهما في حد البدعة ، وثانيهما في الأصول الجامعة للابتداع .
المدخل الأول في حد البدعة .
وفيه ثمان مسائل :
1. معنى البدعة في اللغة .
2. معنى البدعة في الشرع .
3. موازنة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي .
4. العلاقة بين الابتداع والإحداث .
5. العلاقة بين البدعة والسنة .
6. العلاقة بين البدعة والمعصية .
7. العلاقة بين البدعة والمصلحة المرسلة .
8. خصائص البدعة .
المدخل الثاني في الأصول الجامع للابتداع .
وفيه تفصيل الكلام على الأصول الجامعة للابتداع ، وهي ثلاثة :
* الأصل الأول : التقرب إلى الله بما لم يشرع .
* الأصل الثاني : الخروج على نظام الدين .
* الأصل الثالث : الذرائع المفضية إلى البدعة .
أما موضوع هذا الكتاب وعمود فسطاطه وهو بيان القواعد التي تُعرف بها البدع فقد قسَّمته إلى ثلاثة أقسام ؛ بناء على أن هذه القواعد - وعددها ثلاث وعشرون - راجعة إلى أصول ثلاثة ، وذلك على النحو التالي :
الأصل الأول : التقرب إلى الله بما لم يشرع .
وتحته عشر قواعد :
1- العبادة المستندة إلى حديث مكذوب .
2- العبادة المستندة إلى الهوى والرأي المجرد .
3- العبادة المخالفة للسنة التركية .
4- العبادة المخالفة لعمل السلف .
5- العبادة المخالفة لقواعد الشريعة .
6- التقرب إلى الله بالعادات والمباحات .
7- التقرب إلى الله بالمعاصي .
8- إطلاق العبادة المقيدة .
9- تقييد العبادة المطلقة .
10- الغلو في العبادة .(7/3)
الأصل الثاني : الخروج على نظام الدين .
وتحته ثمان قواعد :
11- ما كان من الاعتقادات والآراء معارضًا لنصوص الوحي .
12- ما لم يرد في الوحي ولم يؤثر عن الصحابة والتابعين من اعتقادات .
13- الخصومة والجدال في الدين .
14- الإلزام بشيء من العادات والمعاملات .
15- أن يحصل بفعل العادة أو المعاملة تغييرٌ للأوضاع الشرعية الثابتة .
16- مشابهة الكافرين في خصائصهم .
17- مشابهة الكافرين في محدثاتهم .
18- الإتيان بشيء من أعمال الجاهلية .
الأصل الثالث : الذرائع المفضية إلى البدعة .
وتحته خمس قواعد :
19- أن يفعل ما هو مطلوب شرعًا على وجه يُوهم خلاف ما هو عليه في الحقيقة .
20- أن يفعل ما هو جائز شرعًا على وجه يُعتقد فيه أنه مطلوب شرعًا .
21- أن يعمل بالمعصية العلماء وتظهر من جهتهم ، بحيث يعتقد العامة أن هذه المعصية من الدين .
22- أن يعمل بالمعصية العوام وتشيع فيهم ، ولا ينكرها العلماء وهم قادرون على الإنكار ، بحيث يعتقد العامة أن هذه المعصية مما لا بأس به .
23- ما يترتب على فعل البدع المحدثة من الأعمال .
ثم ذيَّلت هذه القواعد بخاتمة تضمنت عرضًا مجملاً لهذه القواعد ، وبيان مجالات البدعة .
هذه جملة موضوعات الكتاب .
والمقصود من جمع هذه القواعد وترتبيها أن يستبين طريق الضلالة والابتداع ، وأن يرفع الالتباس الناشئ بين السنن والبدع .
وهما أمران لا ثالث لهما : إتباع السنة ، وإتباع الهوى .
فمن أراد إتباع السنة فإنه سيأخذ بجادّة الطريق ، وهي : النصوص المُحْكمة وعمل السلف الصالح وسبيلهم .
ومن أراد إتباع هواه فسيسلك لذلك بُنيَّات الطريق ، وسيجد هنالك : عمومات ، أو قياسًا ، أو قول صحابي أو تابعي ، أو رأيًا لبعض أهل العلم ، جميع هذه في ظاهرها أدلة ، وما هي - عند التحقيق - بأدلة .(7/4)
وكلُّ صاحب مذهب لا يعجزه أن يستدل لمذهبه بدليل شرعي ؛ صحَّ أو لم يصح ، والحقُّ - يا مبتغيه - إنما يُبتغى في إتباع الدليل الناصع واقتفاء السبيل الواضح ، لا في موافقة جمهور الناس ومجاراتهم ، والتوسعة عليهم .
واعلم أن المتعرِّض لمثل هذا الأمر - أعني مخالفة جمهور الناس وعوائدهم - ينحو نحو الخليفة الصالح عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى في العمل حيث قال : ألا وإني أُعالج أمرًا لا يعين عليه إلا الله ، قد فني عليه الكبير ، وكبر عليه الصغير ، وفصح عليه الأعجمي ، وهاجر عليه الأعرابي حتى حسبوه دينًا لا يرون الحق غيره (1) .
أسأل الله جل شأنه أن يرينا الحقَّ حقَّ ويرزقنا إتباعه ، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه .
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين .
* * *
المدخل الأول
حدُّ البدعة
وفيه ثمان مسائل :
1- معنى البدعة في اللغة .
2- معنى البدعة في الشرع .
3- موازنة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي .
4- العلاقة بين الابتداع والإحداث .
5- العلاقة بين البدعة والسنة .
6- العلاقة بين البدعة والمعصية .
7- العلاقة بين البدعة والمصلحة المرسلة .
8- خصائص البدعة .
المسألة الأولى : معنى البدعة في اللغة (2) .
تأتي مادة ( بدع ) في اللغة على معنيين :
أحدهما : الشيء المخترع على غير مثال سابق ، ومنه قوله تعالى ? قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ ? .
__________
(1) انظر الاعتصام (1/32) .
(2) انظر النهاية في غريب الحديث والأثر (1/106 ، 107) ، ومختار الصحاح (43 ، 44) ، والمصباح المنير (38) ، والاعتصام (1/36) .(7/5)
وجاء على هذا المعنى قول عمر رضي الله عنه : ( نعمت البدعة ) (1) ، وقول غيره من الأئمة ؛ كقول الشافعي : ( البدعة بدعتان : بدعة محمودة وبدعة مذمومة ؛ فما وافق السنة فهو محمود ، وما خالف السنة فهو مذموم ) (2) .
قال ابن رجب : ( وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية ، فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد ، وخرج ، ورآهم يصلون كذلك فقال : نعمت البدعة هذه ) (3) .
والمعنى الثاني : التعب والكلال ، يقال : أبدعت الإبل إذا بركت في الطريق من هزال أو داء أو كلال ، ومنه قول الرجل الذي جاء إلى النبي ( فقال : إني أُبدع بي فاحملني فقال : « ما عندي » فقال رجل : يا رسول الله أنا أدله على من يحمله فقال رسول الله ( : « من دل على خير فله مثل أجر فاعله » (4) .
وهذا المعنى رجع إلى المعنى الأول ؛ لأن معنى أبدعت الإبل : بدأ بها التعب بعد أن لم يكن بها .
المسألة الثانية : معنى البدعة في الشرع .
وردت في السنة المطهرة أحاديث نبوية فيها إشارة إلى المعنى الشرعي للفظ البدعة ، فمن ذلك :
1- حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه ، وفيه : قوله - صلى الله عليه وسلم - : « وإياكم ومحدثات الأمور ؛ فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة » (5) .
__________
(1) أخرجه البخاري (4/250) برقم 2010 .
(2) أخرجه أبو نعيم في الحلية (9/113) .
(3) جامع العلوم والحكم (1/129) .
(4) أخرجه مسلم (13/38 - 39) .
(5) أخرجه أبو داود في سننه ، واللفظ له (4/201) برقم 4607) وابن ماجة (1/15) برقم 42) ، والترمذي (5/44) برقم 2676) وقال : هذا حديث حسن صحيح ، والحديث صححه الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة لابن أبي عاصم (17) برقم 27 .(7/6)
2- حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، وفيه : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في خطبته : « إن أصدق الحديث كتاب الله ، وأحسن الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار » (1) .
وإذا تبيَّن بهذين الحديثين أن البدعة هي المحدثة استدعى ذلك أن يُنظر في معنى الإحداث في السنة المطهرة ، وقد ورد في ذلك :
3 - حديث عائشة رضي الله عنها وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - : « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد » (2) .
4- وفي رواية : « من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد » (3) .
هذه الأحاديث الأربعة إذا تؤملت وجدناها تدل على حد البدعة وحقيقتها في نظر الشارع .
ذلك أن للبدعة الشرعية قيودًا ثلاثة تختص بها ، والشيء لا يكون بدعة في الشرع إلا بتوفرها فيه ، وهي :
1- الإحداث .
2- أن يضاف هذا الإحداث إلى الدين .
3- ألا يستند هذا الإحداث إلى أصل شرعي ؛ بطريق خاص أو عام .
وإليك فيما يأتي إيضاح هذه القيود الثلاثة :
1 - الإحداث .
والدليل على هذا القيد قوله - صلى الله عليه وسلم - : « من أحدث » ، وقوله : « وكل محدثة بدعة » .
والمراد بالإحداث : الإتيان بالأمر الجديد المخترع ، الذي لم يسبق إلى مثله (4)
__________
(1) أخرجه بهذا اللفظ النسائي في سننه (3/188) ، والحديث أصله في مسلم (3/153) ، وللاستزادة راجع كتاب خطبة الحاجة للألباني .
(2) أخرجه بخاري (5/301) برقم 2697 ، ومسلم (2/16) واللفظ له .
(3) أخرجه مسلم (12/16) .
(4) سواء في ذلك : ما أُحدث ابتداء أول مرة ، إذ لم يسبقه مثيل ؛ كعبادة الأصنام أول وجودها ، وهذا هو الإحداث المطلق .
وما أُحدث ثانيًا ، وقد سبق إلى مثله ، ففُعل بعد اندثار ؛ كعبادة الأصنام في مكة ، فإن عمرو بن لحي هو الذي ابتدعها هنا لك ، وهذا هو الإحداث النسبي . ومنه : كل أُضيف إلى الدين وليس منه ، كما دل على ذك حديث : « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد » فيسمى محدثًا بالنسبة إلى الدين خاصة ، وهو قد لا يكون محدثًا بالنسبة إلى غير الدين .(7/7)
. فيدخل فيه كل مخترع ، مذمومًا كان أو محمودًا ، في الدين كان أو في غيره .
وبهذا القيد خرج ما لا إحداث فيه أصلاً ؛ مثل فعل الشعائر الدينية كالصلوات المكتوبات ، وصيام شهر رمضان ، ومثل الإتيان بشيء من الأمور الدنيوية المعتادة كالطعام واللباس ونحو ذلك .
ولما كان الإحداث قد يقع في شيء من أمور الدنيا ، وقد يقع في شيء من أمور الدين ؛ تحتَّم تقييد هذا الإحداث بالقيدين الآتيين :
2- أن يضاف هذا الإحداث إلى الدين .
والدليل على هذا القيد قوله - صلى الله عليه وسلم - : « في أمرنا هذا » . والمراد بأمره ها هنا : دينه وشرعه (1) .
فالمعنى المقصود في البدعة : أن يكون الإحداث من شأنه أن يُنسب إلى الشرع ويضاف إلى الدين بوجه من الوجوه ، وهذا المعنى يحصل بواحد من أصول ثلاثة : الأصل الأول : التقرب إلى الله بما لم يشرع ، والثاني : الخروج على نظام الدين ، ويلحق بهما أصل ثالث ، وهو الذرائع المفضية إلى البدعة .
وبهذا القيد تخرج المخترعات المادية والمحدثات الدنيوية مما لا صلة له بأمر الدين ، وكذلك المعاصي والمنكرات التي استحدثت ، ولم تكن من قبل ، فهذه لا تكون بدعة ، اللهم إلا إن فُعلت على وجه التقرب ، أو كانت ذريعة إلى أن يظن أنها من الدين .
3- ألا يستند هذا الإحداث إلى أصل شرعي ؛ بطريق خاص ولا عام .
والدليل على هذا القيد : قوله - صلى الله عليه وسلم - : « ما ليس منه » ، وقوله : « ليس عليه أمرنا » .
__________
(1) انظر جامع العلوم والحكم (1/177) .(7/8)
وبهذا القيد تخرج المحدثات المتعلقة بالدين مما له أصل شرعي ، عام أو خاص ، فمما أُحدث في الدين وكان مستندًا إلى دليل شرعي عام : ما ثبت بالمصالح المرسلة ؛ مثل جمع الصحابة رضي الله عنهم للقرآن ، ومما أُحدث في هذا الدين وكان مستندًا إلى دليل شرعي خاص : إحداث صلاة التراويح جماعة في عهد عمر رضي الله عنه فإنه قد استند إلى دليل شرعي خاص . ومثله أيضًا إحياء الشرائع المهجورة ، والتمثيل لذلك يتفاوت بحسب الزمان والمكان تفاوتًا بيِّنًا ، ومن الأمثلة عليه ذكر الله في مواطن الغفلة .
وبالنظر إلى المعنى الغوي للفظ الإحداث صحَّ تسمية الأمور المستندة إلى دليل شرعي محدثات ؛ فإن هذه الأمور الشرعية اُبتدئ فعلها مرة ثانية بعد أن هُجرت أو جُهلت ، فهو إحداث نسبي .
ومعلوم أن كل إحداث دل على صحته وثبوته دليل شرعي فلا يسمى – في نظر الشرع – إحداثًا ، ولا يكون ابتداعًا ، إذ الإحداث والابتداع إنما يطلق - في نظر الشرع - على ما لا دليل عليه .
وإليك فيما يأتي ما يقرر هذه القيود الثلاثة من كلام أهل العلم :
قال ابن رجب : ( فكل من أحدث شيئًا ونسبه إلى الدين ، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه ؛ فهو ضلالة ، والدين منه بريء ) (1) .
وقال أيضًا : ( والمراد بالبدعة : ما أُحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه ، فأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعًا ، وإن كان بدعة لغةً ) (2) .
وقال ابن حجر : ( والمراد بقوله : « كل بدعة ضلالة » ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام ) (3) .
__________
(1) جامع العلوم والحكم (2/128) .
(2) المصدر السابق (2/127) .
(3) فتح الباري (13/254) .(7/9)
وقال أيضًا : ( وهذا الحديث [ يعني حديث « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد » ] معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده ؛ فإن من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه » (1) .
التعريف الشرعي للبدعة : يمكننا مما سبق تحديد معنى البدعة في الشرع بأنها ما جمعت القيود الثلاثة المتقدمة ، ولعل التعريف الجامع لهذه القيود أن يقال : البدعة هي : ( ما أُحدث في دين الله ، وليس له أصل عام ولا خاص يدل عليه ) .
أو بعبارة أوجز : ( ما أُحدث في الدين من غير دليل ) .
المسألة الثالثة : موازنة بين المعنى اللغوي للبدعة
والمعنى الشرعي .
وذلك من وجهين :
1- أن المعنى اللغوي للبدعة أعم من المعنى الشرعي ، فإن بينهما عمومًا وخصوصًا مطلقًا ؛ إذ كل بدعة في الشرع داخلة تحت مسمى البدعة في اللغة ، ولا عكس ؛ فإن بعض البدع اللغوية – كالمخترعات المادية – غير داخلة تحت مسمى البدعة في الشرع (2) .
2- أن البدعة بالإطلاق الشرعي هي البدعة الواردة في حديث « كل بدعة ضلالة » دون البدعة اللغوية ، ولذلك فإن البدعة الشرعية موصوفة بأنها ضلالة ، وأنها مردودة ، وهذا الاتصاف عام لا استثناء فيه ، بخلاف البدعة اللغوية فإنها غير مقصودة بحديث « كل بدعة ضلالة » فإن البدعة اللغوية لا يلازمها وصف الضلالة والذم ، ولا الحكم عليها بالرد والبطلان .
المسألة الرابعة : العلاقة بين الابتداع والإحداث .
الابتداع والإحداث يردان في اللغة بمعنى واحد ؛ إذ معناهما : الإتيان بالشيء المخترع بعد أن لم يكن .
وأما في المعنى الشرعي فقد دلت الأحاديث الأربعة المتقدمة على أن للبدعة في الشرع اسمين : البدعة والمحدثة .
__________
(1) المصدر السابق (5/302) ، وانظر أيضًا معارج القبول (2/426) ، وشرح لمعة الاعتقاد (23) .
(2) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (2/590) .(7/10)
إلا أن لفظ البدعة غلب إطلاقه على ( الأمر المخترع المذموم في الدين خاصة ) .
وأما لفظ المحدثة فقد غلب إطلاقه ( على الأمر المخترع المذموم في الدين كان أو في غيره ) .
وبهذا يعلم أن الإحداث أعم من الابتداع ؛ لكون لفظ الإحداث شاملاً لكل مخترع مذموم ، في الدين كان أو في غيره ، إذ يدخل في معنى الإحداث : الإثم وفعل المعاصي ، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - : « من أحدث فيها حدثًا أو آوى محدثًا » (1) ، قال ابن حجر : ( أي أحدث المعصية ) (2) .
وبذلك يتبين لنا أن لفظ المحدثة - بهذا النظر - متوسط بين معنيي البدعة في اللغة والشرع ، فهو أخص من معنى البدعة في اللغة ، وأعم من معناها في الشرع .
فتحصل لدينا ثلاثة معان :
1- الأمر المخترع مذمومًا كان أو محمودًا ، في الدين كان أو في غيره .
2- الأمر المخترع المذموم في الدين كان أو في غيره .
3- الأمر المخترع المذموم في الدين خاصة .
فالأول عام ، وهو المعنى اللغوي للبدعة وللمحدثة .
والثاني خاص ، وهو المعنى الشرعي – الغالب – للمحدثة .
والثالث أخص ، وهو المعنى الشرعي للبدعة ، وهو - أيضًا - المعنى الشرعي الآخر للمحدثة .
المسألة الخامسة : العلاقة بين البدعة والسنة .
يأتي نظير لفظ البدعة - في هذين الإطلاقين : اللغوي والشرعي - لفظُ السنة ، وبيان ذلك :
1- بالنظر إلى المعنى اللغوي .
تأتي السنة في اللغة بمعنى البدعة في اللغة ؛ إذ السنة لغةً بمعنى الطريقة ؛ حسنة كانت أو سيئة ، فكل من ابتدأ أمرًا عمل به قومٌ من بعده قيل هو سنة (3) .
فالسنة والبدعة – في المعنى اللغوي – لفظان مترادفان .
__________
(1) أخرجه البخاري (4/81) برقم 1870 ، ومسلم (9/140) .
(2) انظر فتح الباري (13/281) .
(3) انظر المصباح المنير (292) .(7/11)
ومن الأمثلة على ورود لفظ السنة بمعناه اللغوي قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : « من سَنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سَنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء » .
2- بالنظر إلى المعنى الشرعي :
تأتي السنة بالمعنى الشرعي في مقابل البدعة بالمعنى الشرعي ؛ إذ السنة شرعًا هي طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه . والبدعة هي ما كان مخالفًا لطريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .
فالسنة والبدعة – في المعنى الشرعي – لفظان متقابلان ، فمن ذلك .
قول النبي - صلى الله عليه وسلم - :
« ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة ، فتمسكٌ بسنة خير من إحداث بدعة » (1) .
وقوله - صلى الله عليه وسلم - : « فإن لكل عابد شرة ، ولكل شرة فترة ؛ فإما إلى سنة وإما إلى بدعة ، فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى ، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك » (2) .
المسألة السادسة : العلاقة بين البدعة والمعصية .
أ - وجوه اجتماع البدعة مع المعصية :
1- أن كلاً منهما منهي عنه ، مذموم شرعًا ، وأن الإثم يلحق فاعله ، ومن هذا الوجه فإن البدع تدخل تحت جملة المعاصي (3) .
وبهذا النظر فإن كل بدعة معصية ، وليس كل معصية بدعة .
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده (4/105) .
(2) أخرجه أحمد في مسنده (2/158) .
(3) انظر الاعتصام (2/60) .(7/12)
2- أن كلاً منهما متفاوت ، ليس على درجة واحدة ؛ إذ المعاصي تنقسم – باتفاق العلماء – إلى ما يكفَّر به ، وإلى كبائر وإلى صغائر (1) ، وكذلك البدع ؛ فإنها تنقسم إلى ما يُكفَّر به ، وإلى كبائر وإلى صغائر (2) .
أنهما مؤذنان باندراس الشريعة وذهاب السنة ؛ فكلما كثرت المعاصي والبدع وانتشرت كلما ضعفت السنن ، وكلما قويت السنن وانتشرت كلما ضعفت المعاصي والبدع ، فالبدعة والمعصية – بهذا النظر – مقترنان في العصف بالهدى وإطفاء نور الحق ، وهما يسيران نحو ذلك في خطين متوازيين . يوضح هذا :
4- أن كلاً منهما مناقض لمقاصد الشريعة ، عائد على الدين بالهدم والبطلان .
ب – وجوه الافتراق بين البدعة والمعصية :
1- تنفرد المعصية بأن مستند النهي عنها – غالبًا – هو الأدلة الخاصة ، من نصوص الوحي أو الإجماع أو القياس ، بخلاف البدعة ؛ فإن مستند النهي عنها – غالبًا – هو الأدلة العامة ، ومقاصد الشريعة ، وعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : « كل بدعة ضلالة » .
2- وتنفرد البدعة بكونها مضاهية للمشروع ؛ إذ هي تضاف إلى الدين ، وتلحق به ، بخلاف المعصية فإنها مخالفة للمشروع ، إذ هي خارجة عن الدين ، غير منسوبة إليه ، اللهم إلا أن فُعلت هذه المعصية على وجه التقرب ، فيجتمع فيها - من وجهين مختلفين - أنها معصية وبدعة في آن واحد .
__________
(1) انظر الجواب الكافي (145/150) .
(2) وهذا التفاوت والانقسام إنما يصح إذا نُسب بعض البدع إلى بعض ، فيمكن إذ ذاك أن تتفاوت رتبها ، لأن الصغر والكبر من باب النسب والإضافات ؛ فقد يكون الشيء كبيرًا في نفسه لكنه صغير بالنسبة إلى ما هو أكبر منه ولذا فإن صغار البدع – في ذاتها – تعد من الكبائر ، وليست بصغائر ، وذلك بالنسبة لسائر = = المعاصي خلا الشرك . انظر الاعتصام (2/57 – 62) وسيأتي مزيد بيان لذلك في النقاط اللاحقة لهذه النقطة .(7/13)
3- وتنفرد البدعة بكونها جرمًا عظيمًا بالنسبة إلى مجاوزة حدود الله بالتشريع ؛ إذ حاصلها مخالفة في اعتقاد كمال الشريعة ، ورمي للشرع بالنقص والاستدراك ، وأنها لم تكتمل بعد ، بخلاف سائر المعاصي ؛ فإنها لا تعود على الشريعة بتنقيص ولا غض من جانبها ، بل صاحب المعصية متنصل منها ، مقر بمخالفته لحكمها .
4- وتنفرد المعصية بكونها جرمًا عظيمًا بالنسبة إلى مجاوزة جدود الله بالانتهاك ؛ إذ حاصلها عدم توقير الله في النفوس بترك الانقياد لشرعه ودينه ، وكما قيل : ( لا تنظر إلى صغر الخطيئة ، ولكن انظر إلى من عصيت ) (1) ، بخلاف البدعة ؛ فإن صاحبها يرى أنه موقر لله ، معظم لشرعه ودينه ، ويعتقد أنه قريب من ربه ، وأنه ممتثل لأمره ، ولهذا كان السلف يقبلون رواية المبتدع إذا لم يكن داعية إلى بدعته ، ولم يكن ممن يستحل الكذب ، بخلاف من يقترف المعاصي فإنه فاسق ، ساقط العدالة ، مردود الرواية باتفاق .
5 - ولأجل ذلك أيضًا فإن المعصية تنفرد بأن صاحبها قد يُحدِّث نفسه بالتوبة والرجوع ، بخلاف المبتدع ؛ فإنه لا يزداد إلا إصرارًا على بدعته لكونه يرى عمله قربة ، خاصة أرباب البدع الكبرى كما قال تعالى : ? أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ? وقد قال سفيان الثوري : ( البدعة أحب إلى إبليس من المعصية ؛ لأن المعصية يتاب منها والبدع لا يتاب منها ) وفي الأثر أن إبليس قال : ( أهلكت بني آدم بالذنوب ، وأهلكوني بالاستغفار وبـ ( لا إله إلا الله ) فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء ، فهم يذنبون ولا يتوبون ؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا ) (2) .
__________
(1) الجواب الكافي (58 ، 149 - 150) ، والاعتصام (2/62) .
(2) انظر المصدرين السابقين .(7/14)
6 - ولذلك فإن جنس البدعة أعظم من جنس المعصية ، ذلك أن ( فتنة المبتدع في أصل الدين ، وفتنة المذنب في الشهوة ) (1) ، وهذا كله إنما يطرد ويستقيم إذا لم يقترن بأحدهما قرائن وأحوال تنقله عن رتبته .
ومن الأمثلة على هذه القرائن والأحوال : أن المخالفة – معصية كانت أو بدعة - تعظم رتبتها إذا اقترن بها المداومة والإصرار عليها أو الاستخفاف بها أو استحلالها أو المجاهرة بها أو الدعوة إليها ويقل خطرها إذا اقترن بها التستر والاستخفاء أو عدم الإصرار عليها أو الندم والرجوع عنها .
ومن الأمثلة على هذه القرائن أيضًا : أن المخالفة في ذاتها تعظم رتبتها بعظم المفسدة ، فما كانت مفسدته ترجع إلى كلي في الدين فهو أعظم مما كانت مفسدته ترجع إلى جزئي فيه ، وكذلك : ما كانت مفسدته متعلقة بالدين فإنه أعظم مما كانت مفسدته متعلقة بالنفس .
والحاصل أن الموازنة بين البدع والمعاصي لا بد فيها من مراعاة الحال والمقام ، واعتبار المصالح والمفاسد ، والنظر إلى مآلات الأمور ؛ فإن التنبيه على خطورة البدع والمبالغة في تعظيم شأنها ينبغي ألا يفضي - في الحال أو المآل - إلى الاستخفاف بالمعاصي والتحقير من شأنها ، كما ينبغي أيضًا ألا يفضي التنبيه على خطورة المعاصي والمبالغة في تعظيم شأنها – في الحال أو المآل – إلى الاستخفاف بالبدع والتحقير من شأنها .
المسألة السابعة : العلاقة بين البدعة والمصلحة المرسلة (2) .
أ – وجوه اجتماع البدعة والمصلحة المرسلة :
__________
(1) الجواب الكافي (58) ، وانظر مجموع الفتاوى (20/103) .
(2) انظر الاعتصام (2/129 - 135) ، والإبداع للشيخ علي محفوظ (83 - 92) .(7/15)
1- أن كلا من البدعة والمصلحة المرسلة مما لم يعهد وقوعه في عصر النبوة ، ولا سيما المصالح المرسلة ، وهو الغالب في البدع إلا أنه ربما وجدت بعض البدع - وهذا قليل - في عصره - صلى الله عليه وسلم - ؛ كما ورد ذلك في قصة النفر الثلاثة الذين جاءوا يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - .
2- أن كلا من البدعة - في الغالب - والمصلحة المرسلة خال عن الدليل الخاص المعين ، إذ الأدلة العامة المطلقة هي غاية ما يمكن الاستدلال به فيهما .
ب – وجوه الافتراق بين البدعة والمصلحة المرسلة :
1- تنفرد البدعة في أنها لا تكون إلا في الأمور التعبدية ، وما يلتحق بها من أمور الدين بخلاف المصلحة المرسلة ؛ فإن عامة النظر فيها إنما هو فيما عقل معناه ، وجرى على المناسبات المعقولة التي إذا عُرضت على العقول تلقتها بالقبول فلا مدخل لها في التعبدات ، ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية .
2- وتنفرد البدعة بكونها مقصودة بالقصد الأول لدى أصحابها ؛ فهم – في الغالب – يتقربون إلى الله بفعلها ، ولا يحيدون عنها ، فيبعد جدًا - عند أرباب البدع - إهدار العمل بها ؛ إذ يرون بدعتهم راجحة على كل ما يعارضها ، بخلاف المصلحة المرسلة ؛ فإنها مقصودة بالقصد الثاني دون الأول ، فهي تدخل تحت باب الوسائل ؛ لأنها إنما شرعت لأجل التوسل بها إلى تحقيق مقصد من مقاصد الشريعة ، ويدل على ذلك أن هذه المصلحة يسقط اعتبارها ، والالتفات إليها شرعًا متى عورضت بمفسدة أربى منها ، وحينئذٍ فمن غير الممكن إحداث البدع من جهة المصالح المرسلة .
3- وتنفرد البدعة بأنها تؤول إلى التشديد على المكلفين ؛ وزيادة الحرج عليهم ، بخلاف المصلحة المرسلة ؛ فإنها تعود بالتخفيف على المكلفين ، ورفع الحرج عنهم ، أو إلى حفظ أمر ضروري لهم .(7/16)
4- وتنفرد البدعة بكونها مناقضة لمقاصد الشريعة ، هادمة لها ، بخلاف المصلحة المرسلة ؛ فإنها – لكي تعتبر شرعًا – لا بد أن تندرج تحت مقاصد الشريعة ، وأن تكون خادمة لها ، وإلا لم تعتبر .
5 - وتنفرد المصلحة المرسلة بأن عدم وقوعها في عصر النبوة إنما كان لأجل انتفاء المقتضي لفعلها ، أو أن المقتضي لفعلها قائم لكن وجد مانع يمنع منه ، بخلاف البدعة فإن عدم وقوعها في عهد النبوة كان مع قيام المقتضي لفعلها ، وتوفر الداعي ، وانتفاء المانع .
والحاصل : أن المصالح المرسلة إذا روعيت شروطها كانت مضادة للبدع ، مباينة لها ، وامتنع جريان الابتداع من جهة المصلحة المرسلة ؛ لأنها – والحالة كذلك – يسقط اعتبارها ولا تسمى إذ ذاك مصلحة مرسلة ، بل تسمى إما مصلحة ملغاة أو مفسدة .
المسألة الثامنة : خصائص البدعة .
بنظرة فاحصة في القيود الثلاثة الواردة في المعنى الشرعي للبدعة يمكننا استخراج سمات البدعة وخصائصها ، تلك الخصائص التي تفترق بها البدعة عما يشتبه بها ويقترب منها . وهي أربع خصائص :
الأولى : أنه لا يوجد في النهي عن البدعة – غالبًا – دليل خاص (1) ، وإنما يستدل على النهي عنها والمنع منها بالدليل الكلي العام .
الثانية : أن البدعة لا تكون إلا مناقضة لمقاصد الشريعة ، هادمة لها ، وهذا هو الدليل الكلي على ذمها وبطلانها ، ولأجل ذلك وُصفت في الحديث بأنها ضلالة .
الثالثة : أن البدعة – في الغالب – إنما تكون بفعل أمور لم تعرف في عهده - صلى الله عليه وسلم - ولا في عهد صحابته رضي الله عنهم .
قال ابن الجوزي : ( البدعة : عبارة عن فعلٍ لم يكن ؛ فُابتُدع ) (2) .
__________
(1) يستثنى من ذلك البدع التي نُهي عنها بأعيانها ، وهي قليلة جدًا . انظر اقتضاء الصراط المستقيم (2/586 ، 587) .
(2) تلبيس إبليس (16) .(7/17)
ولذا سميت البدعة بدعة ؛ فإن البدعة في اللغة : الشيء الذي أحدث على غير مثال سواء كان محمودًا أو مذمومًا ، ومن هذا الوجه أطلق بعض السلف لفظ البدعة على كل أمر – محمودًا كان أو مذمومًا – لم يحدث في عهده - صلى الله عليه وسلم - ، كما ورد ذلك عن الإمام الشافعي .
الرابعة : أن البدعة مشابهة ولا بد للأمور الشرعية ملتبسة بها .
بيان ذلك : أن البدعة تحاكي المشروع وتضاهيه من جهتين :
1- من جهة مستندها ؛ إذ البدعة لا تخلو من شبهة أو دليل موهوم ، فهي تستند إلى دليل يظن أنه دليل صحيح (1) ، كما أن العبادة المشروعة تستند ولا بد إلى دليل صحيح .
2- من جهة هيئة العبادة المشروعة وصفتها ؛ من حيث الكم أو الكيف أو الزمان أو المكان ، أو من حيث الإلزام بها ، وجعلها كالشرع المحتَّم .
ذكر أمور لا تشترط في البدعة .
من المستحسن بعد بيان خصائص البدعة التنبيه على أمور قد يظن أنها من خصائص البدعة وليست كذلك ، فمن ذلك :
1- لا يشترط في البدعة ألا يوجد لها بعض الفوائد ، بل قد توجد لبعض البدع بعض الفوائد ، إذ ليست البدع من قبيل الباطل الخالص الذي لا حق فيه ، ولا هي من الشر المحض الذي لا خير فيه .
وهذه الفوائد التي قد توجد في بدعة من البدع لا تجعلها مشروعة ، ذلك لأن الجانب الغالب في البدعة هو المفسدة ، وأما جانب الفائدة والمنفعة فهو مرجوح ؛ فلا يبنى عليه ولا يلتفت إليه .
قال ابن تيمية : ( بل اليهود والنصارى يجدون في عباداتهم أيضًا فوائد ، وذلك لأنه لا بد أن تشتمل عباداتهم على نوع ما ، مشروع من جنسه ، كما أن أقوالهم لا بد أن تشتمل على صدق ما ، مأثور عن الأنبياء ثم مع ذلك لا يوجب ذلك أن نفعل عباداتهم أو نروي كلماتهم .
__________
(1) وهذا الدليل لا يخلو أن يكون واحد من نوعين : إما أدلة عامة مطلقة ، أو أدلة خاصة واهية .(7/18)
لأن جميع المبتدعات لا بد أن تشتمل على شر راجح على ما فيها من الخير ، إذ لو كان خيرها راجحًا لما أهملتها الشريعة .
فنحن نستدل بكونها بدعة على أن إثمها أكبر من نفعها ، وذلك هو الموجب للنهي ، وأقول : إن أثمها قد يزول عن بعض الأشخاص لمعارض : لاجتهاد أو غيره (1) .
2- لا يشترط في البدعة أن تُفعل على وجه المداومة والتكرار ، بل إن الشيء قد يُفعل مرة واحدة دون تكرار ويكون بدعة ، وذلك كالتقرب إلى الله بفعل المعاصي أو بالعادات .
3- لا يشترط في البدعة أن تُفعل مع قصد القربة والتعبد ، بل إن الشيء ربما كان بدعة دون هذا القصد ، فلا يشترط – مثلاً – قصد القربة في البدع الحاصلة من جهة الخروج على نظام الدين ؛ كالتشبه بالكافرين ، ولا في الذرائع المفضية إلى البدعة ، إلا أن غالب البدع - خاصة في باب العبادات - تجري من جهة قصد القربة .
4- لا يشترط في البدعة أن يتصف فاعلها بسوء المقصد وفساد النية بل قد يكون المبتدع مريدًا للخير ، ومع ذلك فعمله يوصف بأنه بدعة ضلالة ، كما ورد ذلك في أثر ابن مسعود رضي الله عنه حيث قال : ( وكم من مريد للخير لن يصيبه ) (2) .
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم (2/609 – 610 ، 759) .
(2) قال ذلك رضي الله عنه حين رأي قومًا في المسجد يجلسون حلقًا ، وفي كل حلقة رجل وفي أيديهم حصى ، فيقول : كبروا مئة . أخرجه الدارمي في سننه (1/ 68 – 69 ) .(7/19)
5- لا يشترط في البدعة أن تخلو عن دلالة الأدلة العامة عليها ، بل قد تدل الأدلة العامة المطلقة على شرعها من جهة العموم ، ولا يكون ذلك دليلاً على مشروعيتها من جهة الخصوص ؛ إذ أن ما شرعه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بوصف العموم والإطلاق لا يقتضي أن يكون مشروعًا بوصف الخصوص والتقييد ، كقوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ? فإنه لا يقتضي بعمومه مشروعية الأذان للعيدين على وجه الخصوص .
* * *
المدخل الثاني
الأصول الجامعة للابتداع
وهي ثلاثة أصول :
الأصل الأول : التقرب إلى الله بما لم يشرع .
الأصل الثاني : الخروج على نظام الدين .
الأصل الثالث : الذرائع المفضية إلى البدعة .
توطئة :
لما كانت قواعد معرفة البدع تجمعها أصول ثلاثة اقتضى ذلك الإشارة إلى هذه الأصول قبل الشروع في بيان القواعد . فأقول ومن الله أستمد الإعانة والتوفيق :
قد عُلم مما تقدم في حد البدعة أن المعني الكلي للابتداع هو الإحداث في الدين .
ولفظ الدين يشمل جانبين :
الجانب الأول : التقرب إلى الله بما شرعه سبحانه من الدين .
والجانب الثاني : الانقياد لدين الله بالخضوع .
هذا ما دلَّ عليه حديث عائشة رضي الله عنها : « من أحدث في أمرنا هذا » ؛ إذ المراد بأمره ها هنا : دينه وشرعه .
وقد ورد في بعض ألفاظ هذا الحديث : « من أحدث في ديننا ما ليس فيه فهو رد » (1) . والمراد بالدين : دين الإسلام ، وهو حكم الله وشرعه ، والانقياد لشريعته بالطاعة ، قال تعالى : ? إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ? يقال : دنتهم فدانوا : أي قهرتهم فأطاعوا (2) .
__________
(1) ذكر هذا اللفظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم (1/176) .
(2) انظر المفردات للراغب (323) ، والنهاية في غريب الحديث والأثر (2/148) .(7/20)
من هنا يُعلم أن الإحداث في الدين يحصل بواحد من أصلين :
الأصل الأول : التقرب إلى الله بما لم يشرع .
ذلك أن القاعدة المطردة في هذا الدين أن التقرب إلى الله لا يكون إلا بفعل ما شرعه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من العبادة فمن تعبد الله بشيء لم يشرعه الله ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقد ابتدع .
والأصل الثاني : الخروج على نظام الدين .
ذلك أن القاعدة المطردة في هذا الدين هي وجوب الرجوع إلى هذه الشريعة ، والانقياد إلى أحكامها بالخضوع والطاعة ، فمن أعطى غير شريعة الإسلام حق الانقياد والطاعة فقد ابتدع .
فهذا أصلان جامعان للابتداع .
ويلحق بهذين الأصلين أصلٌ ثالث ، وهو :
الذرائع المفضية إلى البدعة .
ذلك أن الإحداث في الدين كما يقع ابتداء فقد يقع مآلاً ، وذلك بفعل أمر لا إحداث فيه البتة : لا من جهة التقريب إلى الله بما لم يشرع ، ولا من جهة الخروج على نظام الدين ، لكن الإحداث في الدين وقع بفعل هذا الأمر في ثاني الحال ؛ لكونه يفضي في المآل إلى الإحداث ، فأُعطيت الذرائع المؤدية إلى البدعة حكم البدعة .
وقد أشار إلى هذا الأصل رواية : « من عمل عملاً » التي تدل على أن الابتداع قد يحصل ممن قام بالإحداث وابتدأه ، وقد يحصل ممن كان تابعًا فيه غير إحداث منه ولا قصد (1) .
فهذه ثلاثة أصول جامعة :
(أ) التقرب إلى الله بما لم يشرع .
(ب) الخروج على نظام الدين .
(ج) الذرائع المفضية إلى البدعة .
وإليك فيما يأتي مزيد بيان لهذه الأصول الثلاثة :
الأصل الأول : التقرب إلى الله بما لم يشرع .
__________
(1) انظر الإبداع للشيخ علي محفوظ (46) .(7/21)
معنى هذا الأصل : أن كل من تعبد الله بشيء لم يشرعه الله ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقد جاء ببدعة ضلالة ؛ إذ لا يتقرب إلى الله إلا بما شرعه من طاعات ، ولا يعبد سبحانه إلا بما أذن به من عبادات .
ذلك أن الأصل في العبادات المنع ؛ إذ هي مبنية على التوقيف . قال سبحانه : ? أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ? وبهذا يعلم أن ( كل من دان بشيء لم يشرعه الله فذاك بدعة ) (1) .
قال الشاطبي : ( ولا معنى للبدعة إلا أن يكون الفعل في اعتقاد المبتدع مشروعًا وليس بمشروع ) (2) .
والتقرب إلى الله بما شرع أصل عظيم من أصول هذا الدين ، بل إنه مقتضى توحيد الله والإيمان به ، وهو توحيد الإتباع ، وهو أحد شرطي العمل الصالح إذ لا بد لقبول العمل من شرطين : الإخلاص والمتابعة .
والمقصود أن الابتداع يقع من جهة هذا الأصل في كل ما يمكن أن يتقرب به إلى الله ، فيشمل التقرب إلى الله بنوعين من العبادات :
أولهما : التقرب إلى الله بالعادت أو بالمعاصي ، وهذه هي العبادات المخترعة من جهة أصلها ووصفها .
وهذا النوع من الإحداث لا يكون بدعة إلا مع قصد القربة .
وثانيهما : التقرب إلى الله بالعبادات الثابتة من جهة أصلها ، المخترعة من جهة وصفها .
وهذا النوع - حتى يكون بدعة - لا يفتقر إلى قصد القربة ، بل يقع بدعة على كل حال ؛ إذ لا يتصور في أمور العبادات غير قصد القربة .
وأما افتراض عدم قصد القربة في العبادات فهو افتراض تخيلي لا يمكن وقوعه .
وبذلك يعلم أن الإحداث في العبادات المحضة بدعة على كل حال ؛ سواء قصد المُحدِث بعبادته القربة أو لم يقصدها .
__________
(1) الاستقامة (1/42) . وانظر مجموع الفتاوى (4/ 107 ، 108) .
(2) الاعتصام (2/108) .(7/22)
والابتداع الحاصل من جهة هذا الأصل - في كلا النوعين - يتأتّى من العبَّاد والنسَّاك والمنتسبين إلى الدين .
الأصل الثاني : الخروج على نظام الدين .
معنى هذا الأصل : أن كل من جعل لغير شريعة الإسلام حقَّ الانقياد والطاعة فقد جاء ببدعة ضلالة ؛ إذ الانقياد والإذعان لا ينبغي أن يكون لشيء إلا لدين الإسلام .
قال الشاطبي : ( وكذلك جاء « لا حمى إلا حمى الله ورسوله » (1) ثم جرى بعض الناس ممن آثر الدنيا على طاعة الله ؛ على سبيل حكم الجاهلية ? وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ? .
ولكن الآية والحديث وما كان في معناهما أثبت أصلاً في الشريعة مطردًا لا ينخرم ، وعامًا لا يتخصص ، ومطلقًا لا يتقيد ، وهو أن الصغير من المكلفين والكبير ، والشريف والدنيء ، والرفيع والوضيع في أحكام الشريعة سواء .
فكل من خرج عن مقتضى هذا الأصل خرج من السنة إلى البدعة ، ومن الاستقامة إلى الاعوجاج ) (2) .
فالأصل المستقر : أن يكون الدين والخضوع لله وحده ، فمن أحدث شيئًا يخرج به عن دين الله وشرعه فهو مبتدع ، سواء كان المُحدَث رأيًا أو عادة أو تعاملاً .
والابتداع الحاصل من جهة هذا الأصل يتأتّى من أصحاب الرئاسات وأهل المطامع والأهواء .
قال شارح الطحاوية : ( فالملوك الجائرة يعترضون على الشريعة بالسياسات الجائرة ، ويعارضونها بها ، ويقدمونها على حكم الله ورسوله .
وأحبار السوء ، وهم العلماء الخارجون عن الشريعة بآرائهم وأقيستهم الفاسدة ، المتضمنة تحليل ما حرم الله ورسوله ، وتحريم ما أباحه ، واعتبار ما ألغاه ، وإلغاء ما اعتبره ، وإطلاق ما قيَّده ، وتقييد ما أطلقه ، ونحو ذلك .
__________
(1) أخرجه البخاري (5/44) برقم 2370 .
(2) الاعتصام (2/48 ، 49) .(7/23)
والرهبان وهم جهال المتصوفة ، والمعترضون على حقائق الإيمان والشرع بالأذواق والمواجيد والخيالات والكشوفات الباطلة الشيطانية ، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله ، وإبطال دينه الذي شرعه على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - ) (1) .
والابتداع من جهة هذا الأصل واقع على كل حال ، حتى لو لم يقصد مُحدِث البدعة بفعلها معارضة الشرع والخروج على نظام الدين .
ولا يشترط أيضًا في مثل هذه المحدثات حتى تكون بدعة أن يقصد بها فاعلها التقرب إلى الله ، فهي بدعة دون هذا القصد .
أما إذا اقترن بهذا النوع من المحدثات قصد القربة فإنها تنتقل بهذا القصد إلى الأصل الأول ، وهو التقرب إلى الله بما لم يشرع .
وبذلك يعلم الفرق بين هذين الأصلين : أصل التقرب إلى الله بما لم يشرع ، وأصل الخروج على نظام الدين .
ذلك أن الإحداث في الأصل الأول إنما حصل بقصد الدخول تحت حكم الشريعة ، والانقياد لها بالطاعة والخضوع ، فالمحدِث ها هنا يريد التقرب ، لكنه وقع في الإحداث بتقربه هذا ، وذلك لأنه تقرَّبَ إلى الله بما لم يشرع .
أما الإحداث في الأصل الثاني فإنه يوجد دون قصد التقريب ، فالمحدِث ها هنا لا يريد بإحداثه التقرب إلى الله ؛ إذ هو لا يقصد الدخول تحت حكم الشريعة ، أو الانقياد لدين الله بالخضوع ، لكنه بإحداثه هذا خرج – من حيث قصد أو لم يقصد – عن حكم هذه الشريعة ونظام هذا الدين .
الأصل الثالث : الذرائع المفضية إلى البدعة .
معنى هذا الأصل : أن كل عمل – ولو كان مشروعًا – يُفضي إلى الإحداث في الدين فهو ملحق بالبدعة إن لم يكن بدعة .
قال ابن الجوزي : ( فإن ابُتدع شيء لا يخالف الشريعة ، ولا يوجب التعاطي عليها ؛ فقد كان جمهور السلف يكرونه ، وكانوا ينفرون من كل مبتدَع وإن كان جائزًا ؛ حفظًا للأصل ، وهو الإتباع ) (2) .
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية (222) .
(2) تلبيس إبليس (16) .(7/24)
وهذا ما يعرف بقاعدة سد الذرائع ، وهو أصل شرعي معتبر ، مبناه على الاحتياط وحماية أحكام الدين (1) .
قال ابن تيمية : ( والذريعة : ما كان وسيلة وطريقًا إلى الشيء ، لكن صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم ، ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة ) (2) .
مثال ذلك : أن الله نهى عن سب آلهة الكفار مع كونه من مقتيضات الإيمان بألوهيته سبحانه ، وذلك لكون هذا السب ذريعة إلى أن يسبوا الله سبحانه وتعالى عدوًا وكفرًا على وجه المقابلة . قال تعالى : ? وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ? .
وبذلك يعلم أن ما أدى إلى الممنوع كان ممنوعًا ؛ إذ للوسائل أحكام المقاصد ، ولذا فإن ما أفضى إلى البدعة وأدّى إليها فهو ملحق بها ، حكمه حكمها .
إلا أنه لا بد من التبيُّن في إطلاق الحكم على عمل ما من الأعمال لمجرد إفضائه إلى الابتداع بأنه ذريعة إلى البدعة ؛ فإن هناك شروطًا لا بد من مراعاتها في هذا الحكم .
شرط اعتبار الفعل ذريعة إلى البدعة :
يشترط في أي فعل حتى يعتبر ذريعة مفضية إلى البدعة ؛ فيلتحق بها شروط ثلاثة :
الشرط الأول : أن يكون هذا الفعل مفضيًا إلى البدعة .
بيان ذلك أن العمل المشروع يفضي إلى البدعة ويصير ذريعة إليها بواحد من أمور ثلاثة (3) :
1- إظهار هذا العمل – ولاسيما ممن يُقتدى به – وإشهاره في مجامع الناس ، كإقامة النافلة جماعة في المساجد .
2- المداومة على هذا العمل والالتزام به ، كالتزام قراءة سورة السجدة في صلاة الفجر من يوم الجمعة .
__________
(1) انظر الفروق (2/32-33) وإغاثة اللهفان (1/361-370) ، وإعلام الموقعين (3/135-159) ، والموافقات (2/390) .
(2) الفتاوى الكبرى (6/172) .
(3) انظر الاعتصام (2/28 ، 31) ، وللاستزادة ينظر منه (2/22-33) .(7/25)
3- اعتقاد فضيلة هذا العمل ، وتحري فعله عن قصد وعمد ، وقد سئل الإمام أحمد : تكره أن يجتمع القوم ، يدعون الله ويرفعون أيديهم ؟ قال : ( ما أكرهه للإخوان ؛ إذا لم يجتمعوا على عمد ، إلا أن يكثروا ) (1) .
قال الشاطبي : ( وبالجملة : فكل عمل أصله ثابت شرعًا ، إلا أن في إظهار العمل به والمداومة عليه ما يُخاف أن يعتقد أنه سنة ؛ فتركه مطلوب في الجملة من باب سد الذرائع ) (2) .
الشرط الثاني : أن يكون إفضاء هذا الفعل إلى البدعة مقطوعًا به أو غالبًا .
أما إن كان إفضاء هذا الفعل إلى البدعة - حسب العادة - نادرًا أو قليلاً فإنه لا عبرة بالقليل النادر ، إذ الأحكام الشرعية إنما تبنى على الكثير الغالب .
مثال ذلك : استلام الحجر الأسود وتقبيله مع كونه مشروعًا فإنه قد يُفضي - عند البعض - إلى الابتداع ، وذلك باعتقاد النفع والضر في هذا الحجر ، ودعائه من دون الله ، لكن لما كان هذا الإفضاء نادرًا لم يلتفت إليه .
وكذلك تحري الصلاة عند الأسطوانة التي في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن هذا سنة ؛ لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتحرى الصلاة عندها (3) .
والمقصود أن الذرائع التي تفضي إلى البدعة لا تمنع بكل حال ، وإنما يمنع من هذه الذرائع ما كان إفضاؤه إلى البدعة غالبًا معتادًا .
الشرط الثالث : ألا يترتب على اعتبار هذه الذريعة المفضية إلى البدعة بسدها والمنع منها مفسدة أخرى أعظم من مفسدة البدعة .
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم (2/630) ، والأمر بالإتباع (180) .
(2) الاعتصام (2/31) .
(3) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (2/746 ، 748) ، والحديث أخرجه البخاري (1/577) برقم 502 ، ومسلم (4/226) .(7/26)
أما إن ترتب على سد الذريعة المفضية إلى البدعة الوقوعُ في مفسدة أعظم فالواجب ها هنا ارتكاب أدنى المفسدتين دفعًا لأعلاهما ، ويكون ذلك بارتكاب مفسدة البدعة ؛ إذ هي أدنى المفسدتين .
مثال ذلك : أن الإمام أحمد قيل له عن بعض الأمراء : إنه أنفق على مصحف ألف دينار فقال : دعهم ، فهذا أفضل ما أنفقوا فيه الذهب .
قال ابن تيمية تعليقًا على ذلك : ( مع أن مذهبه [ أي الإمام أحمد ] أن زخرفة المصاحف مكروهة .
وقد تأوَّل بعض الأصحاب أنه أنفقها في تجويد الورق والخط .
وليس مقصود أحمد هذا ، إنما قصده أن هذا العمل فيه مصلحة ، وفيه أيضًا مفسدة كُره لأجلها .
فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا وإلا اعتاضوا بفساد لا صلاح فيه ؛ مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور ؛ من كتب الأسمار أو الأشعار ، أو حكمة فارس والروم ) (1) .
هذه هي الشروط اللازم توفرها في أي فعل من الأفعال حتى يحكم عليه بأنه ذريعة إلى البدعة .
ثم إنه لا يشترط في المنع من الذرائع أن يوجد من فاعلها القصد إلى البدعة .
ذلك أن الذرائع لا يعتبر في سدها القصد والنية ، بل المعتبر في سدها ومنعها إنما هو الإفضاء المعتاد إلى المفسدة فحسب ، ولا يلتفت حينئذ إلى كون المتذرِع قاصدًا للمفسدة أو غير قاصد لها ، عالمًا بها أو غير عالم .
ومن هنا كانت البدعة في هذا الأصل - غالبًا - معدودة في البدع الإضافية ، وذلك لأن الذريعة إلى البدعة حكمها من حيث الأصل غالبًا - أنها فعل مأذون فيه شرعًا ، أو فعل مطلوب .
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم (2/617- 618) .(7/27)
ومن الأمثلة التي توضِّح هذه الشروط ما ذكره أبو شامة ، حيث يقول : ( وجرت عادة الناس أنهم يصلون بين الأذانين يوم الجمعة متنفلين بركعتين أو أربع ونحو ذلك إلى خروج الإمام ، وذلك جائز ومباح وليس بمنكر من جهة كونه صلاة ، وإنما المنكر اعتقاد العامة منهم ومعظم المتفقهة منهم أن ذلك سنة للجمعة قبلها ، كما يصلون السنة قبل الظهر ، ويصرِّحون في نيتهم (1) بأنها سنة الجمعة ) (2) .
فهذا مثال خاص بصلاة الركعتين قبل الجمعة ، وإليك فيما يأتي بيان انطباق الشروط السابقة على هذا المثال :
يشترط في اعتبار الفعل ذريعة إلى البدعة أولاً : أن يكون هذا الفعل مفضيًا إلى البدعة ، وفي هذا المثال نجد أن صلاة الركعتين قبل الجمعة صارت مفضية إلى البدعة بسبب إظهارها في مجامع الناس والمداومة عليها ، فإنه قال : ( جرت عادة الناس ) ثم إن فعل هاتين الركعتين إنما يكون في المسجد الجامع الذي يشهده جمع كبير من الناس .
ويشترط ثانيًا: أن يكون إفضاء هذا الفعل إلى البدعة غلبًا لا نادر ، وفي هذا المثال نجد أن عامة الناس ومعظم المتفقهة منهم صاروا بسبب فعل هاتين الركعتين إلى اعتقاد أنها سنة الجمعة القبلية ، كسنة الظهر ، بل إنهم يصرحون في نيتهم بأنها سنة الجمعة .
ويشترط ثالثًا : ألا يترتب على سد ذريعة البدعة مفسدة أعظم من مفسدة البدعة ، وفي هذا المثال نرى أن المفسدة المترتبة على ترك هاتين الركعتين أهون من مفسدة البدعة ؛ ذلك أن فعل هاتين الركعتين داخل تحت التنفل المطلق ، فلا ضرر إن تُركت ، بخلاف اعتقاد الناس أن هاتين الركعتين سنة راتبة للجمعة قبلها فإن هذا مخالفة واضحة للأمر الشرعي ، وهو أنْ ليس للجمعة قبلها سنة راتبة .
__________
(1) لم يرد ما يدل على صحة التلفظ بالنية في الصلاة ، بل النية محلها القلب .
(2) الباعث (96) .(7/28)
وبذلك يمكن القول : إن صلاة الركعتين قبل الجمعة يؤدي إلى مفسدة شرعية ، وهي إيقاع العامة في الاعتقاد الخاطئ في أنها سنة راتبة للجمعة قبلها ، وهذا الاعتقاد عين البدعة ؛ فصارت هذه الصلاة المفضية إلى هذا الاعتقاد ذريعة إلى البدعة يُطلب سدها .
سواء أكان فاعل هاتين الركعتين يعلم بهذه المفسدة أم لا يعلم ، وسواء أكان قاصدًا لها أم غير قاصد .
ذلك أن سدَّ الذرائع لا ينظر فيه إلى كون المتذرِع قاصدًا أو غير قاصد ، ولا إلى كونه عالمًا أو غير عالم .
ومن الأمثلة على تطبيق السلف لقاعدة سد الذرائع في باب البدعة (1) :
1- امتناع عثمان رضي الله عنه عن قصر الصلاة وهو مسافر بمنى ، فيقال له : أليس قصرت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول : ( بلى ، ولكني إمام الناس ، فينظر إليَّ الأعراب وأهل البادية أصلي ركعتين فيقولون هكذا فرضت ) (2) .
قال الطرطوشي تعليقًا على ذلك : ( تأملوا - رحمكم الله - فإن في القصر قولين لأهل الإسلام :
منهم من يقول : فريضة ... ، ومنهم من يقول سنة ...
ثم اقتحم عثمان ترك الفرض أو السنة لمّا خاف من سوء العاقبة ، وأنْ يعتقد الناس أن الفرض ركعتان ) (3) .
2- ترك بعض الصحابة رضي الله عنهم الأضحية خشية أن يظن أنها واجبة ، نُقل ذلك عن أبي بكر وعمر وابن عباس رضي الله عنهم ، وقال ابن مسعود رضي الله عنه : ( إني لأترك أضحيتي وإني لمن أيسركم ؛ مخافة أن يظن الجيران أنها واجبة ) (4) .
__________
(1) انظر الحوادث والبدع (42-44) ، والباعث (53-54) ، والاعتصام (2/31-35) .
(2) أخرجه أبو داود (2/199 ، 200 برقم 1961 ، 1964) . وانظر الحوادث والبدع (42) ، والباعث (57) ، والاعتصام (2/31 ، 32 ، 106) .
(3) الحوادث والبدع (43) .
(4) الحوادث والبدع (43) ، والباعث (57) ، والاعتصام (2/107) .(7/29)
قال الطرطوشي تعليقًا على ذلك : ( انظروا – رحمكم الله – فإن القول في هذا الأثر كالقول فيما قبله ؛ فإن لأهل الإسلام قولين في الأضحية :
أحدهما : سنة ، والثاني : واجبة .
ثم اقتحم الصحابة ترك السنة ؛ حذرًا أن يضع الناس الأمر على غير وجهه ، فيعتقدونها فريضة ) (1) .
3- ما نُقل عن الإمام مالك رحمه الله تعالى .
قال ابن وضاح : ( وقد كان مالك يكره كل بدعة وإن كانت في خير ، ولقد كان مالك يكره المجيء إلى بيت المقدس خيفة أن يتخذ ذلك سنة ، وكان يكره مجيء قبور الشهداء ، ويكره مجيء قباء خوفًا من ذلك ، وقد جاءت الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرغبة في ذلك ، ولكن لما خاف العلماء عاقبة ذلك تركوه ) (2) .
ومن المفاسد المترتبة على إهمال العمل بقاعدة سد الذرائع في باب البدعة (3) :
1- مخالفة عمل السلف الصالح ، فقد كانوا – كما تمَّ نقل ذلك عنهم – يتركون أمورًا جائزة أو مندوبًا إليها ، ويكرهون فعلها خوفًا من البدعة .
2- اعتقاد العوام ومن لا علم عنده ما ليس بفريضة فريضة ، أو ما ليس بسنة سنة ، أو ما ليس بمشروع أنه مشروع ، وهذا فساد عظيم ، لأن اعتقاد الأمر على خلاف ما هو عليه ، والعمل به على هذا الحد نحوٌ من تبديل الشريعة ، والخروج على أحكامها .
ومما يحسن التنبيه عليه : أن ظهور البدع وانتشارها يعد ضربًا من تبديل الشريعة بسبب طول الزمان واندراس الحق ، ويعرف هذا في أصناف ثلاثة : الصغار حينما ينشأون على البدعة ويكبرون عليها ، والكفار إذا أسلموا عليها ، والأعراب وأهل البادية إذا تعلَّموها وحملوها معهم .
__________
(1) الحوادث والبدع (43-44) .
(2) البدع والنهي عنها (52) ، وانظر الاعتصام (1/347) .
(3) انظر الحوادث والبدع (66-70) ، والباعث (38) ، والاعتصام (1/346 ، 348) .(7/30)
وإلحاق ذرائع البدعة بالبدعة وتسميتها باسمها إنما يصح من جهة تنزيل الشيء منزلة ما يُفضي إليه .
وهذا الإلحاق يتفاوت بحسب مرتبة الذريعة وقوة إفضائها ؛ فإن كانت البدعة كبيرة ، وكان الإفضاء إليها قويًا كانت الذريعة من قبيل الكبائر ، وإن كانت البدعة دون ذلك فكذلك الذريعة المفضية إليها .
وبذلك يعلم أن إطلاق البدعة على الذريعة فيه تساهل وتجوُّز ، وإنما صير إليه ضرورة المحافظة على أحكام الشريعة من الإحداث (1) .
* * *
قواعد معرفة البدع
وعددها ثلاث وعشرون قاعدة
وهي مندرجة تحت أصول ثلاثة :
* الأصل الأول : التقرب إلى الله بما لم يشرع .
* الأصل الثاني : الخروج على نظام الدين .
* الأصل الثالث : الذرائع المفضية إلى البدعة .
المنهج المتبع في ترتيب هذه القواعد وصياغتها
أولاً : صنَّفتُ هذه القواعد إلى ثلاث أقسام ، وذلك وفق أصولها الثلاثة ، وقد راعيتُ أن ينتظم جميعَ القواعد أرقامٌ متتابعة ، فصار ترتيبها على النحو الآتي :
الأصل الأول : التقرب إلى الله بما لم يشرع .
وتندرج تحت هذا الأصل عشرُ قواعد :
( من القاعدة 1 وحتى القاعدة 10 ) .
الأصل الثاني : الخروج على نظام الدين .
وتندرج تحت هذا الأصل ثمانُ قواعد :
( من القاعدة 11 وحتى القاعدة 18 ) .
الأصل الثالث : الذرائع المفضية إلى البدعة .
وتندرج تحت هذا الأصل خمسُ قواعد :
( من القاعدة 19 وحتى القاعدة 23 ) .
ثانيًا : رتَّبتُ الكلام على كل قاعدة وفق الآتي :
1- رقم القاعدة .
2- نص القاعدة ، وميَّزتُه بالحرف الأسود .
__________
(1) انظر الاعتصام (1/306 ، 307 ، 322 ، 323 ، 2/21 ، 22 ، 35 ) .(7/31)
3- الأمثلة التطبيقية على القاعدة . وقد اقتصرت منها على القدر الذي يُجلِّي القاعدة ويُصوِّرها ، من غير استكثار أو استقراء لآحاد البدع وأعيان المحدثات المندرجة تحت كل قاعدة .
وإذا كانت القاعدة ذات أمثلة متعددة فإنني أُصنِّف هذه الأمثلة تحت صور كليَّة تجمع شتاتها .
4- توضيح القاعدة ، ويتضمن هذا التوضيح : شرح القاعدة ، وبيان ما تنبني عليه من الأصول والقواعد ، وما يتصل بها من الضوابط والفوائد ، إضافة إلى إثبات كلام أهل العلم حول القاعدة .
وربما استدعى المقام في بعض القواعد دون بعض الإطناب والإطالة في الشرح .
ثالثًا : مما يلزم التنبيه عليه في هذا المقام :
* أن هنالك تداخلاً بين هذه القواعد وتلازمًا وتعاضدًا ؛ فقاعدة التقرب إلى الله بما تركه الرسول - صلى الله عليه وسلم - من العبادات - مثلاً – يدخل في طيِّها كثير من القواعد : كقاعدة التقرب إلى الله بالمعاصي ، والتقرب إليه بالعادات على وجه لم يُشرع ، والتشبه بالكافرين . كما أن قاعدة العبادة المستندة إلى حديث موضوع تلازمها – في الغالب – قاعدة العبادة المخالفة لقواعد الشريعة ، وتلازمها أيضًا قاعدة ترك السلف للعبادة وعدم ورودها عنهم .
* ومثل هذا يقال في الأمثلة والشواهد : فعلم الكلام – مثلاً – بدعة من جهة عدم وروده في الكتاب والسنة وكلام سلف الأمة ، وهو بدعة أيضًا من جهة اشتماله على الخصومة والجدال في أمور الدين .
وكذلك صلاة الرغائب ؛ هي بدعة من جهة استنادها إلى حديث موضوع ، ومن جهة عدم ورودها عن السلف الصالح ، ومن جهة مخالفتها لقواعد الشريعة ومقاصدها .
والأمر في مثل هذا سهل وقريب ؛ إذ الغاية منه الضبط والتقريب .
* * *
الأصل الأول : التقرب إلى الله بما لم يشرع .
ويندرج تحت هذا الأصل عشر قواعد كلية .
بيان ذلك :(7/32)
أن التقرب إلى الله لا بد فيه من إتباع الشرع في مقامين : أولهما في ثبوت أصل العبادة ، وثانيهما في صفتها .
أما ثبوت أصل العبادة فهو أن تستند العبادة إلى دليل شرعي صحيح ، ومخالفة هذا المقام تحصل بالآتي :
بأن تستند العبادة إلى حديث مكذوب ، أو إلى قول من لا يحتج بقوله ، أو بأن تكون العبادة مخالفة لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - التركية ، أو لعمل السلف ، أو لقواعد الشريعة ، فتحصل مما سبق خمس قواعد كلية .
وأما صفة العبادة فهو أن تكون العبادة مشروعة من جهة أصلها ومن جهة وصفها ، ومخالفة هذا المقام تحصل بالآتي :
بأن تكون العبادة غير مشروعة في أصلها ، وذلك هو التقرب إلى الله بفعل العادات ، أو فعل المعاصي ، فهاتان قاعدتان كليتان .
أو بأن تكون العبادة مشروعة في أصلها ، ولكن يطرأ تغيير على صفتها ؛ إما بإطلاق العبادة المقيدة ، أو تقييد العبادة المطلقة ، ويجمع ذلك باب الغلو ، فهذه ثلاث قواعد كلية ، فتحصل مما سبق خمس قواعد .
وإليك فيما يأتي بيان هذه القواعد :
القاعدة الأولى (1)
كل بدعة تستند إلى حديث مكذوب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي بدعة (1) .
ومن الأمثلة على ذلك :
الأحاديث الموضوعة في فضل سور القرآن الكريم سورة سورة (2) .
ومن ذلك أيضًا : الحديث الموضوع في فضل صلاة الرغائب (3) .
توضيح القاعدة :
هذه القاعدة مبنية على أصل عظيم من أصول هذا الدين - وهو أن الأصل في العبادات التوقيف ، ومعنى ذلك أن الأحكام الشرعية والتعبدات لا تثبت إلا بالأدلة الصحيحة المعتبرة من الكتاب والسنة .
__________
(1) انظر الباعث (55 - 57) ، والاعتصام (1/224 - 231) ، وأحكام الجنائز (242) .
(2) انظر المنار المنيف (113 ، 115) .
(3) انظر تنزيه الشريعة (2/89 ، 94) وسيأتي بيان هذه الصلاة في القاعدة الخامسة .(7/33)
أما الأحاديث المكذوبة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنها ليست من سنته - صلى الله عليه وسلم - ، فالعمل بها يكون بدعة ؛ إذ هو تشريع ما لم يأذن به الله .
القاعدة الثانية (2)
كل عبادة تستند إلى الرأي المجرد والهوى فهي بدعة ؛ كقول بعض العلماء أو العُبَّاد أو عادات بعض البلاد أو بعض الحكايات والمنامات (1) .
ومن الأمثلة على ذلك :
أ . اعتماد الصوفية في إثبات كثير من الأحكام على الكشف والمعاينة ، وخرق العادة ؛ فيحكمون بالحل والحرمة ، ويبنون على ذلك الإقدام والإحجام ، كما حُكي عن بعضهم أنه كان إذا تناول طعامًا فيه شبهة ينبض له عرق في أصبعه فيمتنع منه (2) .
ب . الأذكار البدعية ، كذكر الله تعالى بالاسم المفرد ( الله ) أو بالضمير ( هو هو ) اعتمادًا على أن بعض المتأخرين كان يأمر به (3) .
ج . دعاء الملائكة والأنبياء والصالحين بعد موتهم وفي مغيبهم ، وسؤالهم ، والاستغاثة بهم (4) .
توضيح القاعدة :
تتضح هذه القاعدة بيان أصل مهم في علامات أهل البدع ، وهو أنه ما من مبتدع إلا ويستدل على بدعته بدليل من الشرع ، صحيحًا كان أو ضعيفًا .
ذلك أن كل مبتدع ( يأبى أن ينسب إليه الخروج عن الشرع ؛ إذ هو مدَّعٍ أنه داخل – بما استنبط – تحت مقتضى الأدلة ) (5) .
قال الشاطبي : ( كل خارج عن السنة ممن يدعي الدخول فيها والكون من أهلها لا بد له من تكلف في الاستدلال بأدلتها على خصوصيات مسائلهم ، وإلا كذّب اطراحها دعواهم ) (6) .
__________
(1) انظر الاعتصام (1/212 – 219) ، والإبداع للشيخ علي محفوظ (41) ، وأحكام الجنائز (242) .
(2) انظر الاعتصام (1/212) ، (2/182 ، 182) .
(3) انظر مجموع الفتاوى (10/396) .
(4) انظر المصدر السابق (1/159 – 160) .
(5) الاعتصام (1/286) .
(6) الاعتصام (1/220) .(7/34)
والأصل المستقر أن الكتاب والسنة هما جهة العلم عن الله وطريق الإخبار عنه سبحانه ، وهما طريق التحليل والتحريم ومعرفة أحكام الله وشرعه (1) .
فكل عبادة لا تستند إلى كتاب أو سنة فهي بدعة ضلالة ، وإن استدل صاحبها واستمسك بأدلة يظنها أدلة ، وهي – عند الراسخين – كبيت العنكبوت .
قال الشاطبي : ( وبذلك كله يعلم من قصد الشارع : أنه لم يَكِلْ شيئًا من التعبدات إلى آراء العباد ، فلم يبق إلا الوقوف عند ما حدَّه ) (2) .
وقال الطرطوشي : ( شيعوعة الفعل وانتشاره لا يدل على جوازه ؛ كما أن كتمه لا يدل على منعه ) .
وقال أيضًا - في معرض رده على من احتج على مشروعية بعض الأمور بانتشارها وذيوعها - : ( وأكثر أفعال أهل زمانك على غير السنة ، وكيف لا وقد روينا قول أبي الدرداء إذ دخل على أم الدرداء مغضبًا فقالت : ما لك ؟ فقال : ( والله ما أعرف فيهم شيئًا من أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا أنهم يصلون جميعًا ) . وما روينا هنالك من الآثار !
فإنه لم يبق فيهم من السنة إلا الصلاة في جماعة ، كيف لا تكون معظم أمورهم محدثات ؟
وأما من تعلق بفعل أهل القيروان فهذا غبي يستدعي الأدب دون المراجعة .
فنقول لهؤلاء الأغبياء : إن مالك بن أنس رأى إجماع أهل المدينة حجة ، فردَّه عليه سائر فقهاء الأمصار ، وهذا هو بلد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعرصة الوحي ، ودار النبوة ، ومعدن العلم ، فكيف بالقيروان ؟ (3) .
بيان الوجه الذي يدخل منه الفساد على عامة المسلمين :
__________
(1) انظر جماع العلم (11) ، وجامع بيان العلم وفضله (2/33) ، ومجموع الفتاوى (19/9) .
(2) الاعتصام (2/135) .
(3) الحوادث والبدع (73 – 74) ، وانظر اقتضاء الصراط المستقيم (1/584 ، 585) والتمسك بالسنن : 109 .(7/35)
عقد الطرطوشي في كتابه الحوادث والبدع فصلاً بهذا العنوان ، وصدَّره بالحديث الصحيح ، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبضه بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً ، فسُئلوا ، فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا » (1) . ثم قال رحمه الله تعالى :
( فتدبَّر هذا الحديث ، فإنه يدل على أنه لا يُؤتى الناس قط من قِبَل علماؤهم ، وإنما يُؤتون من قِبَل أنه إذا مات علماؤهم أفتى مَنْ ليس بعالم ، فيُؤتى الناس من قِبَله .
وقد صَرَّف عمر هذا المعنى تصريفًا ، فقال : ( ما خان أمين قط ، ولكنه اُؤتمن غير أمين فخان ) .
ونحن نقول : ما ابتدع عالم قط ، ولكنه استفتي من ليس بعالم فضلَّ وأضلَّ (2) .
تنبيهات :
التنبيه الأول : التقليد هو إتباع قول الغير من غير معرفة دليله (3) . والتقليد المذموم أنواع ، منها (4) :
تقليد الآباء ، قال تعالى : ? وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ? .
تقليد مَن لا يَعلم المقلد أنه أهل لأن يُؤخذ بقوله ، قال تعالى : ? وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ? .
التقليد بعد وضوح الحق ومعرفة الدليل ، قال تعالى : ? يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ ? .
تقليد المجتهد القادر على الاجتهاد مع اتساع الوقت وعدم الحاجة .
__________
(1) أخرجه البخاري (1/194) برقم 100 ، ومسلم (16/223 – 225) .
(2) الحوادث والبدع (77) ، وانظر الباعث (66) ، والاعتصام (2/173) .
(3) انظر مذكرة الشنقيطي (314) .
(4) انظر الفقيه والمتفقه (2/69) ، وجامع بيان العلم وفضله (2/110 - 115 ) ، ومجموع الفتاوى (19/260) ، و(20/15 – 17 ) ، وإعلام الموقعين (2/187، 188) .(7/36)
تقليد قول مَن عارض قول الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - كائنًا من كان هذا المعارض ، قال تعالى : ? وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء ? .
أما تقليد العامي للمجتهد وإتباعه له فإنه لا يدخل تحت التقليد المذموم ، بل هو داخل تحت عموم قوله تعالى : ? فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ? .
ذلك أن تقليد العامي لبعض المجتهدين جار من جهة أن هذا المجتهد مبلغ عن الله دينه وشرعه ، وعلى العامي أن يعتقد ذلك .
وعليه أيضًا أن يعتقد أن الطاعة المطلقة العامة إنما تجب لله وحده ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ؛ إذ لا يجوز لأحد أن يأخذ بقول أو يعتقده لكونه قول إمامه ، بل لأجل أن ذلك مما أمر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
ولهذا فإن العامي يمتنع عليه تقليد المجتهد متى عرف الحق وتبين له أن قول غير مقلده أرجح من قول مقلده (1) .
التنبيه الثاني : الإلهام (2) هو ما يقع في القلب من آراء وترجيحات . وقد صرَّح الأئمة أن الأحكام الشرعية لا تثبت بالإلهام .
وهو بالنسبة إلى صاحب القلب المعمور بالتقوى ترجيح شرعي ، وكلما كان العبد أكثر اجتهادًا في طاعة الله وتقواه كان ترجيحه أقوى .
ذلك أن ما ورد به النص فليس للمؤمن فيه إلا الطاعة والتسليم التام ، وأما ما ليس فيه نص وكان الأمر فيه مشتبهًا والرأي فيه محتملاً فهنا يرجع فيه المؤمن إلى ما حكَّ في صدره ووقع في قلبه .
( فثبت بهذا أن الإلهام حق ، وأنه وحي باطن ، وإنما حُرمه العاصي لاستيلاء وحي الشيطان عليه ) (3) .
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى (20/8 ، 9 ، 17 ، 223 ، 224) .
(2) انظر مجموع الفتاوى (20/42 – 47) ، وجامع العلوم والحكم (2/102 – 104) ، وفتح الباري (12/388) .
(3) فتح الباري (12/388) .(7/37)
قال السمعاني : ( ونحن لا ننكر أن الله يكرم عبده بزيادة نور منه ، يزداد به نظره ويقوى به رأيه ، وإنما ننكر أن يرجع إلى قلبه بقول لا يعرف أصله .
ولا نزعم أنه حجة شرعية ، وإنما هو نور يختص الله به من يشاء من عباده ، فإن وافق الشرع كان الشرع هو الحجة ) (1) .
التنبيه الثالث : الرؤيا هي : ما يراه الشخص في منامه (2) ، وحكمها كالإلهام ؛ ( فتعرض على الوحي الصريح : فإن وافقته وإلا لم يعمل بها ) (3) .
قال ابن حجر : ( النائم لو رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يأمره بشيء هل يجب عليه امتثاله ولا بد ؟ أو لا بد أن يعرضه على الشرع الظاهر فالثاني هو المتعمد ) (4) .
القاعدة الثالثة (3)
إذا تَرَكَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعل عبادة من العبادات مع كون موجبها وسببها المقتضي لها قائمًا ثابتًا ، والمانع منها منتفيًا ؛ فإن فعلها بدعة (5).
ومن الأمثلة على ذلك :
التلفظ بالنية عند الدخول في الصلاة .
والأذان لغير الصلوات الخمس .
والصلاة عقب السعي بين الصفا والمروة (6) .
توضيح القاعدة :
يرتبط بيان هذه القاعدة بمعرفة السنة التركية .
والمقصود بالسنة التركية : أن يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل أمر من الأمور (7) . وإنما يعرف ذلك بأحد طريقين : (8)
__________
(1) فتح الباري (12/389) .
(2) المصدر السابق (12/352) .
(3) مدارج السالكين (1/62) .
(4) انظر فتح الباري (12/389) .
(5) انظر اقتضاء الصراط المستقيم ( 2 /591 – 597) ومجموع الفتاوى (6/172) والاعتصام (1/361) والإبداع للشيخ علي محفوظ (34-45) .
(6) وقد مثل لذلك البعض – في غير العبادات – بنكاح المحلل فإنه بدعة لوجود المعنى المقتضي للتخفيف والترخيص للزوجين في عهد النبوة . انظر الاعتصام (1/364) .
(7) شرح الكوكب المنير (2/165) .
(8) إعلام الموقعين (2/389 – 391) .(7/38)
أحدهما : تصريح الصحابي بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ترك كذا وكذا ولم يفعله ؛ كقوله : ( صلى العيد بلا أذان ولا إقامة ) (1) .
والثاني : عدم نقل الصحابة للفعل الذي لو فعله - صلى الله عليه وسلم - لتوفرت هممهم ودواعيهم أو أكثرهم أو واحد منهم على نقله ، فحيث لم ينقله واحد منهم البتة ، ولا حدَّث به في مجمع أبدًا عُلم أنه لم يكن ، وهذا كتركه التلفظ بالنية عند دخوله في الصلاة ، وتركه الدعاء بعد الصلاة مستقبل المأمونين وهم يؤمَّنون على دعائه دائمًا بعد الصبح والعصر أو في جميع الصلوات .
والواجب على المؤمنين الإقتداء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يفعل وفيما يترك على حد سواء .
وتركه - صلى الله عليه وسلم - فعل أمر من الأمور لا يخلو من ثلاث حالات :
الحالة الأولى : أن يترك - صلى الله عليه وسلم - الفعل لعدم وجود المقتضي له ، وذلك كتركه قتال مانعي الزكاة ، فهذا الترك لا يكون سنة .
الحالة الثانية : أن يترك - صلى الله عليه وسلم - الفعل مع وجود المقتضي له ، بسبب قيام مانع يمنع من فعله ، وذلك كتركه - صلى الله عليه وسلم - فيما بعد قيام رمضان جماعة بسبب خشيته أن يُكتب قيامُه على أمته (2) ، فهذا الترك لا يكون سنة .
الحالة الثالثة : أن يترك - صلى الله عليه وسلم - الفعل مع وجود المقتضي له وانتفاء الموانع ؛ فيكون تركه - صلى الله عليه وسلم - - والحالة كذلك - سنة كتركه - صلى الله عليه وسلم - الأذان لصلاة التراويح .
وبهذا يعلم أن تَرْكَه - صلى الله عليه وسلم - إنما يكون حجة ، فيجب تَرْكُ ما تَرَكَ بشرطين :
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه (1/298) برقم 1147 وأصله في الصحيحين .
(2) أخرج ذلك البخاري في صحيحه (13/264) برقم 7290 .(7/39)
الشرط الأول : أن يوجد السبب المقتضي لهذا الفعل في عهده - صلى الله عليه وسلم - فإذا ترك - صلى الله عليه وسلم - فعْل أمرٍ من الأمور مع وجود المقتضي لفعله - بشرط انتفاء المانع - علمنا بذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما تركه ليسن لأمته تركه .
أما إذا كان المقتضي لهذا الفعل منتفيًا فإنَّ تركه - صلى الله عليه وسلم - لهذا الفعل عندئذ لا يعد سنة ، بل إنَّ فعْل ما تركه - صلى الله عليه وسلم - يصير مشروعًا غير مخالف لسنته متى وُجد المقتضي له ودلت عليه الأدلة الشرعية ، وذلك كقتال أبي بكر رضي الله عنه مانعي الزكاة (1) ، بل إن هذا العمل يكون من سنته لأنه عمل بمقتضى سنته - صلى الله عليه وسلم - .
ويشترط في هذا المقتضي الذي يوجد بعد عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - :
ألا يكون قد حدث بسبب تفريط الناس وتقصيرهم ، كفعل بعض الأمراء (2) في تقديمه الخطبة على الصلاة في العيدين حتى لا ينفض الناس قبل سماع الخطبة ، وقد كانوا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا ينفضُّون حتى يسمعوا الخطبة أو أكثرهم .
قال ابن تيمية : ( فيقال له : سبب هذا تفريطك ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطبهم خطبة يقصد بها نفعهم وتبليغهم وهدايتهم ، وأنت قصدك إقامة رياستك ... فهذه المعصية منك لا تبيح لك إحداث معصية أخرى ، بل الطريق في ذلك : أن تتوب إلى الله ، وتتبع سنة نبيه ) (3) .
الشرط الثاني : انتفاء الموانع ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد يترك فعل أمر من الأمور - مع وجود المقتضي له في عهد - بسبب وجود مانع يمنع من فعله .
__________
(1) انظر صحيح البخاري (12/275) برقم 6924 ، 6925 .
(2) هو مروان بن الحكم ، فعل ذلك لما كان أمير للمدينة في عهد معاوية رضي الله عنه انظر صحيح البخاري (2/448) برقم 956 .
(3) اقتضاء الصراط المستقيم (2/597) .(7/40)
وذلك كتركه - صلى الله عليه وسلم - قيام رمضان مع أصحابه في جماعة - بعد ليال - وعلل ذلك بخشيته أن يُفرض عليهم ، فإذا زال المانع بموته - صلى الله عليه وسلم - كان فعل ما تركه - صلى الله عليه وسلم - - إذا دلت على هذا الفعل الأدلة الشرعية - مشروعًا غير مخالف لسنته ، وذلك كما فعل عمر رضي الله عنه في جمعه الناس على إمام واحد في صلاة التراويح (1) ، بل إن هذا العمل يكون من سنته - صلى الله عليه وسلم - لأنه عمل بمقتضاها .
بهذين الشرطين يكون تركه - صلى الله عليه وسلم - حجة يجب إتباعها .
وقد أورد بعض الناس أسئلة وإشكالات على هذه القاعدة والتي تليها سيأتي ذكرها مع الجواب عليها في القاعدة التالية ، وهي : ترك السلف الصالح ؛ إذ الكلام على القاعدتين بعضه متصل ببعض .
القاعدة الرابعة (4)
كل عبادة من العبادات ترك فعلها السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم أو نقلها أو تدوينها في كتبهم أو التعرض لها في مجالسهم فإنها تكون بدعة بشرط أن يكون المقتضي لفعل هذه العبادة قائمًا والمانع منه منتفيًا (2) .
ومن الأمثلة على ذلك :
1- صلاة الرغائب المبتدعة .
وقد اعتمد العز بن عبد السلام في إنكار هذه الصلاة وبيان بدعيتها على هذه القاعدة .
قال رحمه الله : ( ومما يدل على ابتداع هذه الصلاة أن العلماء الذين هم أعلام الدين وأئمة المسلمين من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وغيرهم ممن دوَّن الكتب في الشريعة مع شدة حرصهم على تعليم الناس الفرائض والسنن لم ينقل عن أحد منهم أنه ذكر هذه الصلاة ، ولا دوَّنها في كتابة ، ولا تعرَّض لها في مجالسه .
__________
(1) انظر صحيح البخاري (4/250) برقم 2010 .
(2) انظر الترغيب عن صلاة الرغائب الموضوعة (9) ، والباعث (47) .(7/41)
والعادة تحيل أن تكون مثل هذه سنة وتغيب عن هؤلاء الذين هم أعلام الدين وقدوة المؤمنين ، وهم الذين إليهم الرجوع في جميع الأحكام من الفرائض والسنن والحلال والحرام ) (1) .
2- الاحتفال بأيام الإسلام ووقائعه المشهودة ، واتخاذها أعيادًا شريعة من الشرائع فيجب فيها الإتباع ، لا الابتداع (2) .
فمن ذلك : الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه لم ينقل عن أحد من السلف ذكره فضلاً عن فعله .
قال ابن تيمية : ( فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه ، ولو كان هذا خيرًا محضًا أو راجحًا لكان السلف رضي الله عنه أحق به منا ، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمًا له منا ، وهم على الخير أحرص .
وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته وإتباع أمره ، وإحياء سنته باطنًا وظاهرًا ، ونشر ما بعُث به ، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان .
فإن هذه طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ) (3) .
ومثل الاحتفال بالمولد - من غير فرق - اتخاذ رأس السنة الهجرية عيدًا يُذَكَّر فيه الناس بهجرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وما يتصل بها من دروس وعير ، ويُهنئ الناس بعضهم بعضًا بمقدمه .
قال ابن تيمية : ( وللنبي - صلى الله عليه وسلم - خطب وعهود ووقائع في أيام متعددة ، مثل يوم بدر وحنين والخندق وفتح مكة ، ووقت هجرته ، ودخوله المدينة ، وخطب له متعددة يذكر فيها قواعد الدين ، ثم لم يوجب ذلك أن يتخذ أمثال تلك الأيام أعيادًا ، وإنما يفعل مثل هذا النصارى الذين يتخذون أمثال أيام حوادث عيسى عليه السلام أعيادًا ، أو اليهود .
__________
(1) الترغيب عن صلاة الرغائب الموضوعة (9) ، وانظر الباعث (47) .
(2) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (2/614) .
(3) انظر المصدر السابق (2/615) .(7/42)
وإنما العيد شريعة ، فما شرعه الله اُتبع ، وإلا لم يحدث في الدين ما ليس منه ) (1) .
توضيح القاعدة :
الأصل في هذه القاعدة أعني ترك السلف ما يأتي :
قال حذيفة رضي الله عنه : ( كل عبادة لم يتعبد بها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تتعبدوا بها ؛ فإن الأول لم يدع للآخر مقالاً ، فاتقوا الله يا معشر القراء ، خذوا طريق من كان قبلكم ) (2) .
وقال مالك بن أنس : ( لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ) (3) .
وقال سعيد بن جبير : ما لم يعرف البدريون فليس من الدين ) (4) .
وقال الطرطوشي : في إبطاله لبعض البدع : ( ولو كان هذا لشاع وانتشر ، وكان يضبطه طلبة العلم والخلف عن السلف ، فيصل ذلك إلى عصرنا ، فلما لم ينقل هذا عن أحد ممن يعتقد علمه ، ولا ممن هو في عداد العلماء ؛ عُلم أن هذه حكاية العوام والغوغاء ) (5) .
ويعتبر في العمل بهذه القاعدة جميع ما ذُكر من ضوابط وشروط في القاعد السابقة المتعلقة بترك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، سواء بسواء .
ذلك أن كلتا القاعدتين ترجع إلى قاعدة واحدة ، وهي :
أن السكوت عن حكم الفعل أو الترك – إذا وُجد المعنى المقتضي له وانتفى المانع منه – إجماع من كل ساكت على أنْ لا زائد على ما كان ؛ إذ لو كان ذلك لائقًا شرعًا أو سائغًا لفعلوه ، فهم كانوا أحق بإدراكه والسبق إلى العمل به (6) .
الأسئلة الواردة على القاعدتين :
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم (2/614 ، 615) .
(2) انظر الأمر بالإتباع (62) ، وأخرج البخاري نحوه (13/250) برقم 7282 .
(3) اقتضاء الصراط المستقيم (2/718) .
(4) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/771) برقم 1425 ، وانظر مجموع الفتاوى (4/5).
(5) الحوادث والبدع (74) .
(6) انظر الاعتصام (1/363) .(7/43)
ربما يورد بعض الناس أسئلة وإشكالات على كلتا القاعدتين أو على إحداهما ، فمن ذلك :
السؤال الأول : من أين لكم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل هذه العبادة ؛ فإن عدم النقل لا يستلزم نقل العدم .
والجواب : أن هذا سؤال بعيد جدًا عن معرفة هديه وسنته وما كان عليه ، وإنما يتمهد هذا الجواب بتثبيت أصلين :
الأصل الأول : أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيَّن هذا الدين لأمته ، وقام بواجب التبليغ خير قيام ؛ فلم يترك أمرًا من أمور هذا الدين صغيرًا كان أو كبيرًا إلا وبلغه لأمته .
قال الله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ? وقد امتثل - صلى الله عليه وسلم - لهذا الأمر وقام به على أحسن وجه .
وقد شهدت له - صلى الله عليه وسلم - أمته بإبلاغ الرسالة وأداء الأمانة واستنطقهم بذلك في أعظم المواقف ؛ فقد ورد في خطبته يوم حجة الوداع قوله : « ألا هل بلغت » ؟ قالوا : نعم . قال : « اللهم فاشهد » (1) .
الأصل الثاني : أن الله سبحانه وتعالى تكفَّل بحفظ هذا الدين من الضياع والإهمال : فهيأ له من الأسباب والعوامل التي يسَّرت نقله وبقاءه حتى يومنا هذا وإلى الأبد إن شاء الله .
قال الله تعالى : ? إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ? .
والواقع المشاهد يصدِّق ذلك ؛ فإن الله قد حفظ كتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، ووفق علماء المسلمين إلى قواعد مصطلح الحديث وأصول الفقه وقواعد اللغة العربية .
وبتقرير هذين الأصلين اتضح أن السؤال المذكور يستلزم :
إما عدم قيام الرسول - صلى الله عليه وسلم - بواجب التبليغ ؛ حيث إنه لم يُعلّم أمته بعض الدين .
__________
(1) أخرجه البخاري في صحيحه (3/573) برقم 1741 .(7/44)
وإما ضياع بعض الدين ، حيث إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعل هذه العبادة وبلَّغها للأمة ، لكن الصحابة رضي الله عنه كتموا نقل ذلك .
ثم لو ( صح هذا السؤال وقُبل لاستحب لنا مستحب الأذان للتراويح ، وقال : من أين لكم أنه لم ينقل ؟ واستحب لنا مستحب آخر الغسل لكل صلاة وقال : من أين لكم أنه لم ينقل ؟ ... ...
وانفتح باب البدعة ، وقال كل من دعا إلى بدعة : من أين لكم أن هذا لم ينقل ؟ ) (1) .
السؤال الثاني : إذا سُلِّم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يفعل هذه العبادة فذلك لأن المقتضي في حقه - صلى الله عليه وسلم - منتف ؛ لكونه قد غُفر له ما تقدم من ذنبه ، وما تأخر ، وتركه - صلى الله عليه وسلم - - كما تقرر - لا يكون حجة إلا بشرط قيام المقتضي ، فهو - صلى الله عليه وسلم - بخلاف أمته - ولاسيما المتأخرين - فإن المقتضي في حقهم قائم ثابت ، وذلك لعظم تقصيرهم وكثرة ذنوبهم .
والجواب : أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بيَّن بطلان هذه الدعوى ، وذلك في قصة الرهط الثلاثة الذين سألوا عن عبادته - صلى الله عليه وسلم - فلما أُخبروا بها كأنهم تقالّوها ، فقالوا : أين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ! فقال - صلى الله عليه وسلم - : « أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له » (2) .
وبذلك يعلم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بلغ الغاية القصوى في تقوى الله والحرص على التقرب إليه بأنواع التعبدات والطاعات .
وبهذا يتقرر أصل مهم في هذا الباب ، وهو : أن المقتضي لفعل عمل ما في باب العبادات متى ثبت في حق الأمة فثبوته في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى وأتم ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان أتقى هذه الأمة لله على الإطلاق .
__________
(1) إعلام الموقعين (2/390 ، 391) .
(2) أخرجه البخاري (9/104) برقم 5063 .(7/45)
ومثل هذا يقال أيضًا في حق السلف الصالح ، فإن المعنى المقتضي للإحداث - وهو الرغبة في الخير والاستكثار من الطاعة - كان أتم في السلف الصالح ؛ لأنهم كانوا أحق بالسبق إلى الفضل وأرغب في الخير ممن أتى بعدهم .
وهذا بخلاف غير العبادات من الأعمال ، فإن المقتضي لفعلها قد يوجد في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي حق السلف ، وقد لا يوجد (1) .
السؤال الثالث : أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ربما لم يفعل بعض العبادات وتركها مع قيام المقتضي لفعلها ؛ رحمة منه بأمته ، وشفقة عليهم ؛ كما ترك - صلى الله عليه وسلم - الاجتماع في صلاة التراويح خشية أن يُكتب على أمته ، فهذا هو المانع الذي لأجله ترك - صلى الله عليه وسلم - فعل بعض العبادات ، وترْكُه - صلى الله عليه وسلم - مع وجود مانع – كما تقرر – لا يكون حجة .
والجواب : أن هذا يفتح باب الإحداث في الدين على الإطلاق ، فمن زاد في أعداد الصلوات ، أو أعداد الركعات أو صيام شهر رمضان أو الحج أمكنه أن يقول : هذه زيادة مشروعة ، وهي عمل صالح ، والرسول - صلى الله عليه وسلم - إنما تركها رحمة بأمته .
بل الصواب أن يُنظر فيما تركه - صلى الله عليه وسلم - من العبادات : هل تركه كذلك صحابته من بعده رضي الله عنهم والتابعون لهم ؟
فإن كانت هذه العبادة قد تركها النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم – لما توفي – فعلها الصحابةُ رضي الله عنهم من بعده عُلم أنَّ ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لأجل مانع من الموانع ؛ كتركه - صلى الله عليه وسلم - صلاة التراويح جماعة .
أما إذا تواطأ النبيُ - صلى الله عليه وسلم - وسلفُ الأمة من بعده على ترك عبادةٍ فهذا دليل قاطع على أنها بدعة . وإليك فيما يأتي شواهد من كلام أهل العلم تدل على تلازم هاتين القاعدتين في معرفة البدع :
__________
(1) انظر الاعتصام (1/368) .(7/46)
قال ابن تيمية في إنكاره لبعض البدع : ( ومعلوم أنه لو كان هذا مشروعًا مستحبًا يثيب الله عليه لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلمَ الناسِ بذلك ، ولكان يعلِّم أصحابه ذلك ، وكان أصحابه أعلمَ بذلك وأرغبَ فيه ممن بعدهم ، فلما لم يكونوا يلتفتون إلى شيء من ذلك عُلم أنه من البدع المحدثة ، التي لم يكونوا يعدونها عبادة وقربة وطاعة ، فمن جعلها عبادة وقربة وطاعة فقد اتبع غير سبيلهم ، وشرع من الدين ما لم يأذن به الله (1) .
وقال أيضًا : « فأما ما تركه [ أي النبي - صلى الله عليه وسلم - ] من جنس العبادات ، مع أنه لو كان مشروعًا لفعله أو أذن فيه ، ولفعله الخلفاء بعده والصحابة ؛ فيجب القطع بأن فعله بدعة وضلالة ، ويمتنع القياس في مثله » (2) .
وسئل تقي الدين السبكي عن بعض المحدثات فقال :
( الحمد لله ، هذه بدعة لا يشك فيها أحد ، ولا يرتاب في ذلك ، ويكفي أنها لم تُعرف في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا في زمن أصحابه ، ولا عن أحد من علماء السلف ) (3) .
وقال الشاطبي : ( لأن ترك العمل به من النبي - صلى الله عليه وسلم - في جميع عمره ، وترك السلف الصالح له على توالي أزمنتهم قد تقدم أنه نص في الترك ، وإجماعٌ مِن كلِّ مَن ترك ؛ لأن عمل الإجماع كنصه ) (4) .
وبذلك يتقرر أن كل عبادة اتفق على تركها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسلف الأمة من بعده فهي بلا شك بدعة ضلالة ، ليست من الدين في صدر ولا ورد ؛ وإن لم يرد بالنهي عنها دليل خاص ، وإن دلت عليها أدلة الشرع بعمومها ، وإن دل عليها القياس ، وإن ظهرت لنا فيها مصالح وترتبت عليها فوائد .
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم (2/798) .
(2) مجموع الفتاوى (26/172) .
(3) فتاوي السبكي (2/549) .
(4) الاعتصام (1/365) .(7/47)
ذلك أن المانع من فعل عبادة من العبادات إن وجد في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يمكن أن يوجد في حق السلف من بعده ؛ إذ لا يمنعهم عن فعل العبادات مانع ، ولا يشغلهم عن بيان الدين شاغل .
وبهذا الجواب أيضًا يجاب عن السؤال التالي ، وهو :
السؤال الرابع : أن الصحابة رضي الله عنهم ربما لم يفعلوا بعض العبادات وتركوا الإتيان بها مع قيام المقتضي لفعلها ؛ لاشتغالهم بما هو أهم : كالجهاد وإعداد الدولة الإسلامية من الناحية العلمية والسياسية والاقتصادية والعسكرية ، فلأجل هذا المانع ترك الصحابة رضي الله عنهم فعل بعض العبادات ، والترك لا يكون حجة – كما هو معلوم – مع قيام المانع .
السؤال الخامس : من أين لكم أن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لم يفعلوا هذه العبادة ؛ فإنهم ربما كانوا يأتون بهذه العبادة في صورة فردية أو هيئة اجتماعية خاصة لا تكاد تظهر .
فمن ذلك : ما نُقل عن ابن عمر رضي الله عنهما في تتبعه لآثار النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولم ينقل هذا عن جماهير الصحابة رضي الله عنهم .
والجواب : أن عدم النقل عنهم دليل ظاهر على مشروعية الترك ، ثم إن هذا السؤال - كما تقدم في السؤال الأول - يفتح باب الإحداث في الدين ؛ إذ لو صح لاستحب مستحب الأذان للتراويح ، واستحب آخر أن يقال بعد الأذان : يرحمكم الله ، وكل من أحدث بدعة أمكنه أن يقول : من أين لكم أن الصحابة رضي الله عنهم لم يفعلوا ذلك .
أما إذا نُقل عن أحد السلف – كابن عمر – العملُ بما تواطأ الأكثرون على تركه فالأولى إتباع مذهب الأكثرين ، فإنه أبلغ في الاحتياط ، وأما مذهب الواحد فإنه يحتمل أمورًا عدة .(7/48)
وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : « فعليكم بسني وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ » (1) وقول الصحابي إذا خالفه نظيره ليس بحجة ، فكيف إذا انفرد به عن جماهير الصحابة (2) .
ومما يحسن بيانه في هذا المقام :
منهج السلف الصالح من جهة عملهم بالأدلة الشرعية أو تركهم العمل بها (3) .
ذلك أن كل دليل شرعي لا يخلو من ثلاثة أقسام :
1- أن يكون معمولاً به في السلف المتقدمين دائمًا أو أكثريًا .
2- أن يكون معمولاً به عند السلف قليلاً أو في وقت ما .
3- ألا يثبت فيه عن السلف المتقدمين عمل .
وبيان ذلك :
أما القسم الأول وهو أن يكون معمولاً به دائمًا أو أكثريًا ، فلا إشكال في الاستدلال به ولا في العمل وفقه ، وهي السنة المتبعة والطريق المستقيم كفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع قوله في الطهارات والصلوات على تنوعها من فرض أو نقل .
وأما القسم الثاني وهو ما لا يقع العمل به إلا قليلاً فذلك الغير هو السنة المتبعة وأما ما لم يقع العمل عليه إلا قليلاً فيجب التثبت فيه وفي العمل على وفقه ، وتجب المثابرة على ما هو الأعم والأكثر ؛ فإن إدامة الأولين للعمل على مخالفة هذا الأقل لا بد أن يكون لمعنى شرعي تحروا العمل به .
ولهذا القسم أمثلة كثير ، وهي على وجوه :
__________
(1) أخرجه أبو داود في سننه (4/200 ، 201 ) برقم 4607 ، والترمذي في سننه (5/44) برقم 2676 ، وقال حديث حسن صحيح ، والحديث صححه الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة لابن أبي عاصم : رقم (27 ، 54)
(2) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (2/745 ، 748) .
(3) انظر الموافقات (3/56 – 71) .(7/49)
أحدها : أن يتبين فيه للعمل القليل وجه يصلح أن يكون سببًا للقلة ، كما جاء في حديث إمامة جبريل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - يومين ؛ وبيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عن وقت الصلاة ، فقال : « صل معنا هذين اليومين » (1) فصلاته في اليوم في أواخر الأوقات وقع موقع البيان لآخر وقت الاختيار الذي لا يُتعدى ، ثم لم يزل مثابرًا على أوائل الأوقات إلا عند عارض ، كالإبراد في شدة الحر .
ومنها : أن يكون محتملاً في نفسه ، والذي هو أبرأ للعهدة وأبلغ في الاحتياط : تركه ، والعملُ على وفق الأعم الأغلب . كقيام الرجل للرجل إكرامًا له وتعظيمًا ، فإن العمل المتصل تركه ، فقد كانوا لا يقومون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أقبل عليهم .
ومنها : أن يكون مما فُعل فلتة ، فسكت عنه - صلى الله عليه وسلم - مع علمه به ، ثم بعد ذلك لا يفعله ذلك الصحابي ولا غيره ، ولا يشرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يأذن فيه ابتداء لأحد كما في قصة الرجل الذي بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمر فعمل فيه ، ثم رأى أن قد خان الله ورسوله فربط نفسه بسارية من سواري المسجد (2) .
ومنها : أن يكون العمل القليل رأيًا لبعض الصحابة لم يُتابع عليه ، كفعل ابن عمر رضي الله عنهما في تتبعه آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - وقصده الصلاة فيها ؛ ( فهذا لم ينقل عن غير ابن عمر من الصحابة ، بل كان أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار يذهبون من المدينة إلى مكة حُجّاجًا وعُمّارًا ومسافرين ، ولم ينقل عن أحد منهم أنه تحرَّى الصلاة في مصليات النبي - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) أخرجه مسلم (5/114) .
(2) فعل ذلك أبو لبابة رضي الله عنه . انظر القصة في جامع البيان للطبري (6/221) ، وزاد المعاد (3/133 – 135) ، والبداية والنهاية (4/120 – 127) ، والدر المنثور (3/178) .(7/50)
ومعلوم أن هذا لو كان عندهم مستحبًا لكانوا إليه أسبق ؛ فإنهم أعلم بسنته وأتبع لها من غيرهم ) (1) .
وبسبب هذه الاحتمالات ينبغي للعامل أن يتحرى العمل على وفق الأولين ، فلا يسامح نفسه في العمل بالقليل ، إلا قليلاً وعند الحاجة ومس الضرورة .
أما لو عمل بالقليل دائمًا للزمه أمور :
1- المخالفة للأولين في تركهم الدوام عليها ، وفي مخالفة السلف الأولين ما فيها .
2- استلزام ترك ما داوموا عليه .
3- أن ذلك ذريعة إلى اندراس أعلام ما داوموا عليه ، وذريعة اشتهار ما خالفوه .
والقسم الثالث : ألا يثبت عن الأولين أنهم عملوا به على حال فهذا أشد مما قبله ، فما عمل به المتأخرون من هذا القسم مخالف لإجماع الأولين فكل من خالف السلف الأولين فهو على خطأ ، وهذا كاف ، والحديث الضعيف الذي لا يعمل العلماء بمثله جار هذا المجرى .
ومن هنا لك لم يسمع أهل السنة دعوى الرافضة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على علي رضي الله عنه أنه الخليفة بعده ، لأن عمل كافة الصحابة على خلافه دليل على بطلانه أو عدم اعتباره ، لأن الصحابة لا تجمع على خطأ ، وكثيرًا ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة ، يحمِّلونها مذاهبهم ، ويغبرون بمشتبهاتهما في وجوه العامة ، ويظنون أنهم على شيء .
السؤال السادس : سلَّمنا لكم أن هذه العبادة لم يُنقل فعلُها عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا عن سلف هذه الأمة مع قيام المقتضي لفعلها ، وانتفاء الموانع في حق الجميع ، لكنها تشرع من جهة دلالة الأدلة العامة على مشروعيتها ، ومن جهة قياسها على المشروع .
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم (2/748) .(7/51)
مثال ذلك : أن يخصص أحدهم ليلة ما من الليالي التي ارتبطت بها نعمة خاصة أو عامة بالقيام والذكر فيقول : نعم إن إحياء هذه الليلة لم يفعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا سلف الأمة من بعده لكنه يدخل تحت عموم قوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ? وقد دل على مشروعية هذا التخصيص أيضًا قياسهُ على يوم عاشوراء ؛ فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عظَّم هذا اليوم وخصَّه بالصوم شكرًا لله على النعمة التي وقعت فيه ، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين قدم المدينة رأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال : « ما هذا » ؟ قالوا : هذا يوم صالح ، هذا يوم نجَّى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى ، قال : « فأنا أحق بموسى منكم » ، فصامه وأمر بصيامه (1) .
والجواب : أن الترك دليل خاص يقدم على العمومات وعلى القياس .
بيان ذلك بأمثلة ثلاثة :
المثال الأول : تركه - صلى الله عليه وسلم - للأذان في العيدين ؛ فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - تركه مع وجود المقتضي لفعله في عهده ، وهو إقامة ذكر الله ودعاء الناس إلى الصلاة .
فهذا الترك دليل خاص يقدم على العمومات الدالة على فضل ذكر الله ، كقوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ? والأذان من الذكر الذي يدخل تحت هذا العموم .
ويقدم أيضًا على القياس ، وهو قياس الأذان في العيدين على الأذان في الجمعة .
قال ابن تيمية تعليقًا على هذا المثال : ( فهذا مثال لما حدث مع قيام المقتضي له وزوال المانع لو كان خيرًا .
فإنَّ كل ما يبديه المُحْدِث لهذا من المصلحة ، أو يستدل به من الأدلة قد كان ثابتًا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومع هذا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) أخرجه البخاري (4/244) برقم 2004 .(7/52)
فهذا الترك سنة خاصة ، مقدمة على كل عموم وكل قياس ) (1) .
المثال الثاني : تركه - صلى الله عليه وسلم - استلام الركنين الشاميين ، وغيرهما من جوانب البيت .
وقد ورد في ذلك أن ابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم طافا بالبيت ، فاستلم معاوية الأركان الأربعة فقال ابن عباس : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يستلم إلا الركنين اليمانيين ، فقال معاوية : ليس من البيت شيء متروك . فقال ابن عباس : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة . فرجع إليه معاوية (2) .
المثال الثالث : تركه - صلى الله عليه وسلم - صلاة ركعتين على المروة بعد الفراغ من السعي ، وقد ذهب إلى استحباب ذلك بعض الفقهاء قياسًا على الصلاة بعد الطواف .
قال ابن تيمية تعليقًا على هذا : ( وقد أنكر ذلك سائر العلماء من أصحاب الشافعي وسائر الطوائف .
ورأوا أن هذه بدعة ظاهرة القبح ؛ فإن السنة مضت بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفاءه طافوا وصلوا ، كما ذكر اللهُ الطوافَ والصلاة ، ثم سعوا ولم يصلوا عقب السعي فاستحباب الصلاة عقب السعي كاستحبابها عند الجمرات ، أو بالموقف بعرفات ، أو جعل الفجر أربعًا قياسًا على الظهر والترك الراتب سنة ؛ كما أن الفعل الراتب سنة ) (3) .
وإذا تقرر أن الترك مقدم على العموم وعلى القياس عُلم بذلك أن سنة الترك أصل شرعي متين ، تحفظ به أحكام الشريعة ، وبه يوصد باب الإحداث في الدين .
وحينئذٍ أمكن أن يقال :
كل عبادة لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلها – مع وجود المقتضي وانتفاء المانع – فهي بدعة على كل حال ؛ وإن لم يرد دليل خاص ينهى عن هذه العبادة بعينها ، وإن دلت على تسويغها الأدلة الشرعية بعمومها ، وإن دل على تسويغها قياسها على المشروع .
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم (2/597) .
(2) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (2/798 – 799) .
(3) مجموع الفتاوى (26/171 ، 172) .(7/53)
السؤال السابع : سلَّمنا لكم أن هذه العبادة لن يقم بفعلها عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا عن سلف هذه الأمة مع قيام المقتضي لفعلها ، وانتفاء الموانع في حق الجميع ، لكنها تشرع من جهة ما فيها من المصالح ، ولأجل ما يترتب عليها من الفوائد .
والجواب : أن السنة التركية قاعدة شرعية متينة ، والعمل بها مقدم على كل ما يعارضها من عموم أو قياس أو مصالح يتوهمها المبتدع .
والخير كل الخير في إتباع السلف ، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه : ( اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم ) (1) .
ثم إن هذه المصالح المترتبة على هذا الابتداع ينظر فيها : هل كانت موجودة زمن التشريع أوْ لم تكن موجودة ؟
والقاعدة الجارية : أن كل ما ظهرت مصلحته زمن التشريع لكنه لم يُفعل ، ففعله فيما بعد بدعة محدثة (2) .
يدل على هذا قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه لما رأى أناسًا يسبحون بالحصى : ( والذي نفسي بيده إنكم لعلى ملة هي أهدى من ملة محمد أو مفتتحوا باب ضلالة ) (3) .
ولعل هذا السؤال وجوابه يتضح بالمثال الآتي (4) :
إمام مسجد يقوم بعد الفراغ من الصلاة المفروضة بالدعاء للناس بهيئة اجتماعية ، بحيث يُؤمِّن الحاضرون على هذا الدعاء .
قال السائل : هذا العمل وإن لم ينقل ففيه من المصالح والفوائد ما يأتي :
الفائدة الأولى : إظهار وجه التشريع في الدعاء ، وأنه بآثار الصلوات مطلوب .
__________
(1) أخرجه الدارمي في سننه (1/69) ، واللالكائي في السنة (1/96) برقم 104 ، وابن بطة في الإبانة الكبرى (1/327 ، 328) برقم 175 .
(2) انظر الاعتصام (1/363 ، 364) .
(3) أخرجه الدارمي في سننه (1/68) وقد تقدم .
(4) انظر الاعتصام (1/365 – 368) .(7/54)
والجواب : أن هذا يقتضي كون الدعاء سنة بآثار الصلوات ، وليس بسنة اتفاقًا حتى عند هذا القائل ، وأيضًا فإن إظهار التشريع كان في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - أولى ، ولما لم يفعله - صلى الله عليه وسلم - دل على مشروعية الترك .
الفائدة الثانية : أن الاجتماع على الدعاء أقرب إلى الإجابة .
والجواب : أن هذه العلة كانت قائمة في زمانه - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان مجاب الدعوة ، لكنه لم يفعل هذا الاجتماع .
الفائدة الثالثة : تعليم الناس الدعاء ؛ ليأخذوا من دعاء الإمام ما يدعون به لأنفسهم ؛ لئلا يدعو بما لا يجوز عقلاً أو شرعًا .
والجواب : أن هذا التعليل لا ينهض ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي تلقينا منه ألفاظ الأدعية ومعانيها ، وقد كان الناس في زمنه - صلى الله عليه وسلم - أقرب عهد بجاهلية ، فلم يشرع لهم - صلى الله عليه وسلم - الدعاء بهيئة الاجتماع ليعلمهم كيفية الدعاء ، بل علمهم ذلك في مجالس التعليم ، وكان - صلى الله عليه وسلم - يدعو لنفسه إثر الصلاة متى بدا له ذلك ، ولم يلتفت إذ ذاك إلى النظر للجماعة ، وهو أولى الخلق بذلك .
الفائدة الرابعة : أن الاجتماع على الدعاء تعاونًا على البر والتقوى ، وهو مأمور به .
والجواب : أن هذا التعليل ضعيف ؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي أُنزل عليه ? وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى ? ولو كان الاجتماع للدعاء للحاضرين إثر الصلاة جهرًا من باب البر والتقوى لكان - صلى الله عليه وسلم - أول سابق إليه ، لكنه لم يفعله أصلاً ، ولا أحد بعده حتى أحدثه المتأخرون ، فدل على أن الدعاء على ذلك الوجه ليس بِرًّا وتقوى .(7/55)
وبهذا المثال يتبين أن العمل بالترك – بشقيه : ترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - وترك السلف – أصل مقدم على كل ما يبديه المُحْدِث من المصالح والفوائد الحاصلة بهذه العبادة التي تركها النبي - صلى الله عليه وسلم - .
ثم إن هذه المصالح والمنافع التي قد توجد في بعض الأمور البدعية لا تدل على رجحان العمل بالبدعة ؛ لأنها مصالح مرجوحة بالنظر إلى ما يترتب على البدع من مفاسد اعتقادية وعملية .
السؤال الثامن :
سلَّمنا أن التقرب إلى الله بهذا الفعل بدعة ضلالة ، لكن هذا بشرط أن يعتقد فاعله خصوص الفضل (1) .
مثال ذلك : أن يخصص أحدهم ليلة ما من الليالي بالقيام والذكر فيقول : إن الصلاة في هذه الليلة كغيرها من الليالي ، وأنا لا أعتقد لهذه الليلة الفضل أو الخصوصية .
والجواب : أن هذه الدعوى لا تستقيم ؛ فإن تخصيص تلك الليلة بالصلاة دون غيرها من الليالي لا بد أن يكون باعثه اعتقادًا في القلب ، فيوجد حينئذٍ مع هذا التخصيص – ولا بد – تعظيم وإجلال في النفس لهذه الليلة ، ولو خلت النفس عن هذا الشعور بفضل تلك الليلة لامتنع مع ذلك أن تعظمه .
فعُلم بذلك أن فعل البدعة ملازم ولا بد لاعتقاد القلب التعظيمَ لها ، وملازم أيضًا لشعور النفس بالفضل والخصوصية لتلك البدعة ، وهذا الاعتقاد والشعور من أعظم آفات البدع ، ومن مفاسدها الخفية .
السؤال التاسع : سلَّمنا أن هذا الفعل بدعة ضلالة ، لكن هذا بشرط أن يقصد فاعله التقرب إلى الله بفعله .
مثال ذلك : أن يخصص أحدهم يومًا من السنة بمزيد من الذكر والطاعة ، فيقول : أنا لا أقصد بتخصيص هذا اليوم بالذكر والطاعة التقرب إلى الله ، ولست أُلحقه بأمور الدين ، وإنما جرى هذا مجرى العادات .
__________
(1) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (2/606 – 608) .(7/56)
والجواب : أن هذا افتراضي تخيلي ، لا يتصوَّر وقوعه ؛ إذ الذكر والطاعة من الأمور التعبدية ، فلا ينفك عنها قصد القربة ، وبهذا يعلم أن دعوى عدم إرادة القربة إنما تكون في الأمور العادية المحضة .
ومن جهة ثانية فإن تخصيص يوم ما في السنة بنوع من الفضل والمزية يُصَيِّره عيدًا ، والعيد شريعة من شرائع الدين ، ثم إن لهذا اليوم ارتباطًا ظاهرًا بالدين ؛ إذ هو متصل بذكرى يوم من أيام الإسلام .
القاعدة الخامسة (5)
كل عبادة مخالفة لقواعد هذه الشريعة ومقاصدها فهي بدعة (1) . ومن الأمثلة على ذلك :
1- الأذكار والأدعية التي يزعم أهلها أنها مبنية على علم الحروف (2) .
2- الأذان للعيدين ؛ فإن الأذان لا يشرع للنوافل ، إذ الدعاء إلى الصلاة إنما يختص بالفرائض (3) .
3- صلاة الرغائب (4) .
وهذه الصلاة تناقض قواعد الشريعة من وجوه . (5)
1- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن تخصيص ليلة الجمعة بالقيام فقال : ( لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي ) (6) .
__________
(1) انظر الاعتصام (2/19-20) .
(2) انظر المصدر السابق (2/20) .
(3) انظر المصدر السابق (2/18-19) .
(4) وهي اثنتا عشرة ركعة ، تصلى بين العشائين ليلة أول جمعة في شهر رجب بكيفية مخصوصة ، يفصل بين كل ركعتين بتسليمة ، يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب مرة ، وسورة القدر ثلاث مرات ، وسورة الإخلاص اثنتي عشرة مرة .
وكذا صلاة ليلة النصف من شعبان ؛ فإنها تسمى بصلاة الرغائب ، وهي مائة ركعة ، كل ركعتين بتسليمة ، يقرأ في كل ركعة بعد الفاتحة سورة الإخلاص إحدى عشرة مرة . انظر تنزيه الشريعة المرفوعة (2/89 – 94) والإبداع للشيخ علي محفوظ (58) .
(5) انظر الترغيب عن صلاة الرغائب الموضوعة ( 5 – 9 ) ، والباعث ( 58 – 61 ) ، والأمر بالإتباع (171 – 173) .
(6) أخرجه مسلم (8/18) .(7/57)
2- مخالفة سنة السكون في الصلاة بسبب التسبيحات ، وعد سورتي القدر والإخلاص في كل ركعة ، ولا يتأتى ذلك إلا بتحريك الأصابع في الغالب .
وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( اسكنوا في الصلاة ) (1) .
3- مخالفة سنة خشوع القلب وحضوره في الصلاة ، وتفريغه لله تعالى وإذا لاحظ المصلي عدَّ قراءة السورة والتسبيحات بقلبه كان ملتفتًا عن الله تعالى معرضًا عنه .
4- مخالفة سنة النوافل من جهة أن فعلها في البيوت أولى من فعلها في المساجد ، ومن جهة أن فعلها بالانفراد أولى من فعلها في الجماعة إلا ما استثناه الشرع من ذلك .
5 - أن كمال هذه الصلاة عند من وضعها من المبتدعين أن يفعلها مع صيام ذلك اليوم ، ولا يفطر حتى يصليها ، وعند ذلك يلزم تعطيل سنتين من سنن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ، إحداهما : تعجيل الفطر ، والثانية : تفريغ القلب من الشواغل المقلقة بسبب جوع الصائم وعطشه .
وهذه الصلاة يُدْخَل فيها بعد الفراغ من صلاة المغرب ، ولا يفرغ منها إلا عند دخول وقت العشاء الآخرة ، فَتُوْصَل بصلاة العشاء ، والقلق باق ، ويتأخر الفطر إلى ما بعد ذلك .
6 - أن سجدتي هذه الصلاة المفعولتين بعد الفراغ منها مكروهتان ؛ فإنهما سجدتان لا سبب لهما ، والشريعة لم ترد بالتقرب إلى الله تعالى بالسجود إلا في الصلاة ، أو لسبب خاص من سهو أو قراءة سجدة .
توضيح القاعدة :
من المقرر أن هذه الشريعة مبرأة عن مقاصد المتخرصين وأهواء المبتدعين ، وأن جميع أحكام هذا الدين جارية على نظام ثابت ، وهي بدون استثناء مندرجة تحت أصول كلية .
لذا فلا يُتصور أبدًا أن يأتي في هذه الشريعة عبادة مخالفة لقواعدها ومقاصدها .
ولأجل ذلك فإن هذه القاعدة خاصة بما لم يصح ثبوته من العبادات ؛ إذ كل ما خالف هذه الشريعة وخرج عن قواعدها فلا يمكن ثبوته بطريق صحيح .
__________
(1) أخرجه مسلم (4/152) .(7/58)
وبذلك يُعلم أن كل عبادة وردت بطريق شرعي صحيح فهي موافقة لقواعد الشريعة ، ولا تكون مخالفة لها بوجه من الوجوه (1) .
ويختص بفقه قواعد هذه الشريعة ، ومعرفة مقاصد أحكام هذا الدين : الراسخون في العلم ؛ إذ هم الذين يميَّزون السنة من البدعة ، ويدركون المصلحة والمفسدة على هدى من الله ، كما قال تعالى : ? يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً ? وأعظم الناس فهمًا لدين الله وأعمقهم فقهًا فيه الصحابة الكرام رضي الله عنهم ؛ فإنهم حضروا التنزيل وهم أعلم بالمقاصد .
أما من لم يبلغ رتبة الرسوخ في العلم ودرجة الفقه في الدين فإنه لن ينتفع بمثل هذه القاعدة العظيمة ، وربما زلت قدمه فرأى حسنًا ما ليس بالحسن ، وعدَّ من السنة ما ليس منها ، وأدخل في دين الله ما هو منه براء .
وبسبب ذلك فإن الابتداع في الدين لا يقع من الراسخين في العلم اللهم إلا أن يكون فلتة ، وهذه هي زلة العالم ، ثم إنه متى تبين له الحق رجع إليه .
ومن هنا تُعلم الأهمية البالغة لفقه مقاصد الدين ، وضبط أصول الشريعة ، ومعرفة قواعد التشريع ؛ فإن العالم المطلع على ذلك يُؤتى فرقانًا ، ويرزق بصيرة وبرهانًا .
القاعدة السادسة (6)
كل تقرب إلى الله بفعل شيء من العادات أو المعاملات من وجه لم يعتبره الشارع فهو بدعة (2) .
ومن الأمثلة على ذلك :
اتخاذ لبس الصوف عبادة وطريقة إلى الله (3) .
__________
(1) انظر في بيان أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس رسالة عزيزة لابن تيمية في مجموع الفتاوى (20/504 – 583) ، وانظر أيضًا في الموضوع ذاته الفصل الذي عقده ابن القيم في كتابه القيم إعلام الموقعين (2/3 - 70) .
(2) انظر الاعتصام (2/79 – 82) .
(3) انظر مجموع الفتاوى (11/555) .(7/59)
وكذلك التقرب إلى الله بالصمت الدائم ، أو بالامتناع عن أكل الخبز واللحم وشرب الماء أو بالقيام في الشمس وترك الاستظلال (1) .
توضيح القاعدة :
هذه القاعدة خاصة بالعادات والمعاملات ، التي تتخذ عبادة وقربة إلى الله تعالى ، فالبدعة ها هنا مخترعة من جهتين : من جهة أصلها ومن جهة وصفها .
ومن هنا كانت الأمثلة على هذه القاعدة من قبيل البدعة الحقيقية ، التي لا دليل عليها لا في الجملة ولا في التفصيل .
إلا أن فعل العادة أو المعاملة قد يدخل تحت معنى العبادة ، فلا يكون بدعة حينئذ ، وذلك إن اقترن بهذا الفعل النية الصحيحة ، أو كان وسيلة إلى العمل الصالح وعونًا عليه .
مثال ذلك : قوله - صلى الله عليه وسلم - : « ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك » (2) .
وقوله تعالى : ? ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ? .
فمن هذا الوجه – دون غيره – يصح التقرب إلى الله بفعل العادة أو المعاملة ، ولذلك قُيَّدت هذه القاعدة بكون التقرب من وجه لم يعتبره الشارع .
ومن هنا يعلم أن اتخاذ العادة أو المعاملة بذاتها عبادة وقربة إلى الله تعالى أمر لم يعتبره الشارع ؛ إذ التقرب إلى الله لا يكون إلا بفعل الطاعات من الواجبات والمستحبات .
قال ابن تيمية : ( ومن تعبد بعبادة ليست واجبة ولا مستحبة ، وهو يعتقدها واجبة أو مستحبة فهو ضال مبتدع بدعة سيئة لا بدعة حسنة باتفاق أئمة الدين ؛ فإن الله لا يُعبد إلا بما هو واجب أو مستحب ) (3) .
__________
(1) انظر مجموع الفتاوى (11/200) .
(2) أخرجه البخاري (8/109) برقم 4409 .
(3) مجموع الفتاوى (1/160) .(7/60)
وقال ابن رجب : ( فمن تقرب إلى الله بعمل لم يجعله الله ورسوله قربة إلى الله فعمله باطل مردود عليه ) (1) .
القاعدة السابعة (7)
كل تقرب إلى الله بفعل ما نهى عنه سبحانه فهو بدعة (2) . ومن الأمثلة على ذلك :
1- التقرب إلى الله بسماع الملاهي أو بالرقص (3) .
2- التقرب إلى الله بمشابهة الكافرين . وهذا المثال اجتمعت فيه أصول الابتداع الثلاثة .
بيان ذلك أن الابتداع يحصل بفعل هذه المشابهة من الوجوه الآتية :
الوجه الأول : من حيث إنها تقرب إلى الله بما لم يشرعه مما نهى عنه ، وهذا هو الأصل الأول من أصول الابتداع .
والوجه الثاني : من حيث إنها خروج على نظام الدين لما فيها من الموافقة لأعداء الله ، وهذا هو الأصل الثاني من أصول الابتداع .
ولذا فإن الابتداع يحصل بمشابهة الكافرين وحدها دون قصد التقرب كما سيأتي .
والوجه الثالث : من حيث إنها ذريعة إلى أن يُعتقد فيها أنها من الدين ، وذلك إن وقعت هذه المشابهة وظهرت ممن يُقتدى به من أهل العلم والدين ، وهذا هو الأصل الثالث من أصول الابتداع .
توضيح القاعدة :
تشترك هذه القاعدة مع القاعدة السابقة في كونهما متعلقتين بالبدع المخترعة من جهة أصلها ومن جهة وصفها أيضًا ، ولذا فإن أمثلة هذه القاعدة من قبيل البدعة الحقيقية ، إلا أن هذه القاعدة تختص بباب المعاصي والمنهيات ، وتلك بباب العادات والمعاملات .
وإذا كان التقرب إلى الله إنما يصح بفعل الواجبات والمندوبات ، ولا يصح بفعل المباحات من العادات ، فمن باب أولى ألا يصح التقرب إلى الله بفعل ما نُهي عنه من المعاصي والمحرمات .
__________
(1) جامع العلوم والحكم (1/178) .
(2) انظر جامع العلوم والحكم (1/178) وأحكام الجنائز (242) .
(3) انظر مجموع الفتاوى . (3/ 427 ، 11/297 ، 298 ، 576 ، 599 ، 604 ، 633 ) ، وجامع العلوم والحكم (1/178) .(7/61)
قال الشاطبي : ( كل عبادة نهي عنها فليست بعبادة ؛ إذ لو كانت عبادة لم ينه عنها ، فالعامل بها عامل بغير مشروع ، فإذا اعتقد فيها التعبد مع هذا النهي كان مبتدعًا (1) .
القاعدة الثامنة (8)
كل عبادة وردت في الشرع على صفة مقَّيدة ، فتغيير هذه الصفة بدعة (2) .
ويدخل تحت هذه القاعدة الصور التالية (3) :
1- المخالفة في الزمان كالتضحية في أول أيام ذي الحجة .
2- المخالفة في المكان كالاعتكاف في غير المساجد .
3- المخالفة في الجنس كالتضحية بفرس .
4- المخالفة في القدر ( العدد ) كزيادة صلاة سادسة .
5 - المخالفة في الكيفية ( الترتيب ) كبدء الوضوء بغسل الرجلين ثم غسل اليدين ثم مسح الرأس ثم غسل الوجه .
توضح القاعدة :
بيان هذه القاعدة والتي تليها مبني على معرفة أصل مهم وهو أن مقصود الشارع في باب العبادات لا يتحقق إلا بمتابعته في أمرين :
أولهما : في أصل العبادة من حيث كونها ثابتة بدليل صحيح .
وثانيهما : في صفة العبادة من حيث كونها مقيَّدة أو مطلقة ، فمن أطلق ما قيَّده الشارع فقد ابتدع ، ومثله من قيَّد ما أطلقه الشارع .
والواجب على الخلق إتباع الشارع في إطلاقه وتعيينه :
فصَوْم النَّفل مثلاً مطلق من جهة ، مقيد من جهة ، فهو مطلق من جهة إيقاعه في أي يوم وفي أي مكان لكنه مقيد من جهة إيقاعه في وقت معين ، وهو ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس .
__________
(1) الاعتصام (2/34) .
(2) انظر الباعث (28 – 29) ، والاعتصام (2/26) ، والأمر بالإتباع (153) .
(3) انظر الإبداع في كمال الشرع وخطر الابتداع (20 – 23 ) .(7/62)
فمتى أطلق الشارع الأمر بعبادة من العبادات فينبغي أن يفهم من هذا الإطلاق : التوسعة ، ولهذا فإن من خصص عبادة مطلقة بوقت معين أو بمكان معين فقد قيَّد ما أطلقه الشارع ، وهذا التقييد مخالفة واضحة لمعنى التوسعة المستفاد من أمر الشارع المطلق . وهذا ما سيأتي بيانه في القاعدة التالية .
ومتى خَصَّصَ الشارع عبادة من العبادات بوقت معين أو مكان معين فينبغي أن يفهم من هذا التخصيص : تعين المصير إليه .
لذا فإن من خصص عبادة بغير ما خصها به الشارع فقد أطلق ما قيَّده الشارع ، وهذا الإطلاق مخالفة واضحة لمعنى التضييق المستفاد من تخصيص الشارع .
قال ابن رجب : ( وليس ما كان قربة في عبادة يكون قربة في غيرها مطلقًا ، فقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً قائمًا في الشمس فسأل عنه فقيل : إنه نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل وأن يصوم فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقعد ويستظل وأن يتم صومه (1) ، فلم يجعل قيامه وبروزه للشمس قربة يوفى بنذرهما ... مع أن القيام عبادة في مواضع أخر كالصلاة والأذان والدعاء بعرفة ، والبروز للشمس قربة للمحرم (2) ، فدلَّ على أنه ليس كل ما كان قربة في موطن يكون قربة في كل المواطن ، وإنما يتبع في ذلك ما وردت به الشريعة في مواضعها ) (3) .
القاعدة التاسعة (9)
كل عبادة مطلقة ثبتت في الشرع بدليل عام ؛ فإن تقييد إطلاق هذه العبادة بزمان أو مكان معين أو نحوهما بحيث يوهم هذا التقييد أنه مقصود شرعًا من غير أن يدلّ الدليل العام على هذا التقييد فهو بدعة (4) .
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري (11/586) برقم 6704 .
(2) المراد بذلك : كشف الرأس وعدم تغطيته .
(3) جامع العلوم والحكم (1/178) .
(4) انظر الباعث (47 – 54) ، والاعتصام (1/229 – 231 ، 249 – 252 ، 345 ، 346) ، (2/11) ، وأحكام الجنائز (242) .(7/63)
والأمثلة على هذه القاعدة تنظر في التوضيح الآتي وفي القاعدة التاسعة عشرة .
توضيح القاعدة :
هذه القاعدة خاصة بالعبادات الثابتة من جهة أصلها ، المخترعة من جهة وصفها ، وذلك من جهة مخالفة ما فيها من إطلاق وتوسعة .
ويتصل بيان هذه القاعدة ببيان قاعدة أخرى ، وهي : أن الأمر المطلق لا يمكن امتثاله إلا بتحصيل المعين ، كالأمر بعتق الرقبة في قوله تعالى ? فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ? فإن الامتثال للأمر بالإعتاق – وهو مطلق – لا يمكن إلا بإعتاق رقبة معينة هي زيد أو عمرو .
قال ابن تيمية : ( ... فالحقيقة المطلقة هي الواجبة ، وأما خصوص العين فليس واجبًا ولا مأمورًا به ، وإنما هو أحد الأعيان التي يحصل بها المطلق ؛ بمنزلة الطريق إلى مكة ، ولا قصد للآمر في خصوص التعيين ) (1) .
إذا عُلمت هذه القاعدة ، وهي أن الأمر المطلق لا يتحقق إلا بتحصيل المعين فإن هنالك قاعدة أخرى مبنية عليها ، وهي أن إطلاق الأمر لا يدل على تخصيص ذلك المعين بكونه مشروعًا أو مأمورًا به ، بل يُرجع في ذلك إلى الأدلة ؛ فإن كان في الأدلة ما يكره تخصيص ذلك المعين كُره ، وإن كان فيها ما يقتضي استحبابه استحب ، وإلا بقي غير مستحب ولا مكروه (2) .
وقد عبَّر ابن تيمية عن القاعدة الأخيرة بقوله : ( شرع الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - للعمل بوصف العموم والإطلاق لا يقتضي أن يكون مشروعًا بوصف الخصوص والتقييد ) (3) .
ثم بين رحمه الله أن هذه القاعدة إذا جُمعت نظائرها نفعت ، وتميز بها ما هو من البدع من العبادات التي يشرع جنسها (4) .
__________
(1) مجموع الفتاوى (19/300) .
(2) المصدر السابق (20/196) .
(3) مجموع الفتاوى (20/196) .
(4) انظر مجموع الفتاوى (20/198) .(7/64)
مثال ذلك : أن الصوم في الجملة مندوب إليه لم يخصه الشرع بوقت دون وقت ، ولا حدَّ فيه زمانًا دون زمان ، ما عدا ما نهى عن صيامه على الخصوص كالعيدين ، وندب إليه على الخصوص كعرفة وعاشوراء ، فإذا خص المكلَّف يومًا بعينه من الأسبوع كيوم الأربعاء ، أو أيامًا من الشهر بأعيانها كالسابع والثامن لا من جهة ما عينه الشارع فلا شك أن هذا التخصيص رأي محض بغير دليل ، ضاهى به تخصيص الشارع أيامًا بأعيانها دون غيرها ، فصار التخصيص من المكلف بدعة ؛ إذ هي تشريع بغير مستند (1) .
( ومن ذلك : تخصيص الأيام الفاضلة بأنواع من العبادات التي لم تشرع لها تخصيصًا ، كتخصيص اليوم الفلاني بكذا وكذ من الركعات ، أو بصدقة كذا وكذا ، أو الليلة الفلانية بقيام كذا وكذا ركعة ، أو بختم القرآن فيها أو ما أشبه ذلك ) (2) .
إذا عُلمت هاتان القاعدتان فالواجب – كما سبق – إتباع الشارع في إطلاقه وتعيينه .
ذلك أن الشارع إذا أطلق الأمر بعبادة من العبادات فينبغي أن يفهم من هذا الإطلاق : التوسعة ، ولهذا فإن من خصص عبادة مطلقة بوقت معين أو بمكان معين فقد قيَّد ما أطلقه الشارع ، وهذا التقييد مخالفة واضحة لمعنى التوسعة المستفاد من أمر الشارع المطلق .
قال أبو شامة : ( ولا ينبغي تخصيص العبادات بأوقات لم يخصصها بها الشرع ، بل يكون جميع أفعال البر مرسلة في جميع الأزمان ، ليس لبعضها على بعض فضل إلا ما فضَّله الشرع وخصَّه بنوع من العبادة ، فإن كان ذلك ؛ اختص بتلك الفضيلة تلك العبادة دون غيرها ، كصوم يوم عرفة ، وعاشوراء ، والصلاة في جوف الليل ، والعمرة في رمضان ) (3) .
__________
(1) انظر الاعتصام (2/12) .
(2) الاعتصام (2/12) .
(3) الباعث (51) .(7/65)
وقد بيَّن ابن تيمية المفسدة المترتبة على مثل هذا التخصيص فقال : ( ...من أحدث عملاً في يوم ؛ كإحداث صوم أول خميس من رجب ... ... فلا بد أن يتبع هذا العمل اعتقاد في القلب .
وذلك لأنه لا بد أن يعتقد أن هذا اليوم أفضل من أمثاله ، وأن الصوم فيه مستحب استحبابًا زائدًا على الخميس الذي قبله وبعده مثلاً ... ... إذ لولا قيام هذا الاعتقاد في قلبه ، أو في قلب متبوعه لما انبعث القلب لتخصيص هذا اليوم والليلة ؛ فإن الترجيح من غير مرجع ممتنع ) (1) .
من هنا يُعلم أن هذا التخصيص يسوغ متى خلا من هذه المفسدة ، وذلك بأن يستند التخصيص إلى سبب معقول يقصد مثله أهل العقل والفراغ والنشاط ، كتخصيص يوم الخميس لصلاة الاستسقاء لكونه يومًا يفرغ الناس فيه من أعمالهم ، فهو أيسر لاجتماع الناس ، وكقصر المرء نفسه على ورد محدد من العبادة يلتزمه في أوقات مخصوصة ، كل ليلة أو كل أسبوع ، لكون ذلك أدعى لديمومة العمل وأقرب إلى الرفق ، فمثل هذا التخصيص موافق لمقصد الشارع .
أما إذا صار التخصيص ذريعة إلى أن يعتقد فيه ما ليس مشروعًا فيمنع منه لأمرين :
أولاً : لأجل الذريعة ، وثانيًا : لكونه مخالفًا لمعنى التوسعة .
قال الشاطبي : ( ثم إذا فهمنا التوسعة فلابد من اعتبار أمر آخر ، وهو أن يكون العمل بحيث لا يوهم التخصيص زمانًا دون غيره ، أو مكانًا دون غيره ، أو كيفية دون غيرها ، أو يوهم انتقال الحكم من الاستحباب - مثلاً - إلى السنة أو الفرض ) (2) .
وبهذا يتبين أن تخصيص العبادة المطلقة يسوغ بشرطين :
الأول : ألا يكون في هذا التخصيص مخالفة لمقصود الشارع في التوسعة والإطلاق .
والثاني : ألا يوهم هذا التخصيص أنه مقصود شرعًا .
وسيأتي الكلام مفصلاً على هذا الإيهام في القاعدة التاسعة عشرة .
وفي هذا المقام تنبيهات :
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم (2/600) .
(2) الاعتصام (1/251) .(7/66)
1- أن في تخصيص العبادة المطلقة مخالفة لإطلاق الدليل وعمومه .
2- أن في هذا التخصيص فتحًا للذرائع حيث يوهم ما ليس مشروعًا .
3- أن في هذا التخصيص معارضة لسنة الترك ، وذلك من جهة دلالة السنة التركية على المنع من هذا التخصيص ، وقد سبق في القاعدة الرابعة التنبيه على أن سنة الترك دليل خاص مقدم على الأدلة العامة المطلقة .
4- أن في هذا التخصيص مخالفة لعمل السلف الصالح حيث كانوا يتركون السنة لئلا يعتقد أنها فريضة كما سبق نقل ذلك عنهم في الأصل الثالث ، وهو الذرائع المفضية إلى البدعة .
5 - أن في هذه القاعدة ردًا على الذين يتمسكون في الأخذ ببعض البدع بعمومات الأدلة وإطلاقتها .
6 - وبذلك يظهر أن هذه القاعدة خاصة بالبدع الإضافية ، التي لها متعلق بالدليل العام من جهة ، لكنها مخالفة لمعنى التوسعة - المستفاد من العموم - من جهة أخرى .
7 - وبذلك أيضًا يُعلم أن الابتداع الواقع من جهة هذه القاعدة دقيق المأخذ ، يندر التفطن له .
قال ابن تيمية : ( واعلم أنه ليس كل أحد ، بل ولا أكثر الناس يدرك فساد هذا النوع من البدع ، لا سيما إذا كان من جنس العبادات المشروعة ، بل أولو الألباب هم يدركون بعض ما فيه من الفساد ) (1) .
القاعدة العاشرة (10)
الغلو في العبادة بالزيادة فيها على القدر المشروع والتشدد والتنطع في الإتيان بها بدعة (2) .
ومن الأمثلة على ذلك :
1- التقرب إلى الله بقيام الليل كله وترك النوم ، وبصوم الدهر كله ، وباعتزال النساء وترك الزواج . وقد ورد هذا في قصة الرهط الثلاثة كما سيأتي قريبًا .
2- رمي الجمار بالحجارة الكبار بناءً على أنه أبلغ من الحصى الصغار (3) .
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم (2/600) .
(2) انظر مجموع الفتاوى (10/392) ، والاعتصام (2/135) ، وأحكام الجنائز (242) .
(3) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (1/288 ، 289) .(7/67)
3- الوسوسة في الوضوء والغسل وتنظيف الثياب بالزيادة والإسراف ، وصب الماء على المحل غير المشروع ، والتنطع في ذلك والتعمق والتشديد (1) .
توضيح القاعدة :
الأصل في هذه القاعدة : قصة الرهط الثلاثة ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : ( جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أُخبروا كأنهم تقالُّوها ، فقالوا : وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم - قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .
قال أحدهم : أما أنا فأُصلِّي الليل أبدًا . وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر . وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا .
فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : « أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني » (2) .
وقد دل هذا الحديث على أن الغلو في الدين يقع في بابين (3) :
1- في باب العبادات ، ويكون باتخاذ ما ليس بواجب ولا مستحب بمنزلة الواجب والمستحب ، كصيام الدهر .
2- في الطيبات ، ويكون باتخاذ ما ليس بمحرم ولا مكروه بمنزلة المحرم والمكروه ، كترك النكاح .
ومما يجدر التنبيه عليه في هذا المقام أن الغلو والتشديد في الدين سبيل النصارى ، وسبب ضلالهم ، ( وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن في قوله تعالى : ? يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ ? ) (4) .
* * *
الأصل الثاني :الخروج على نظام الدين .
ويندرج تحت هذا الأصل ثمان قواعد كلية .
بيان ذلك :
__________
(1) انظر الأمر بالإتباع (291) .
(2) أخرجه البخاري (9/104) ،برقم 5063 ، وقد تقدم .
(3) ا انظر اقتضاء الصراط المستقيم (1/283) ، وانظر مجموع الفتاوى (3/360) .
(4) اقتضاء الصراط المستقيم (1/289) .(7/68)
أن الانقياد والخضوع لدين الله يحصل بالتسليم التام لهذا الدين في أصوله فمخالفته تحصل بإحداث أصول واعتقادات ؛ إما لكونها معارضة لنصوص الوحي ، أو لكونها غير مأثورة في هذه النصوص ، ويلحق بذلك : أن تجعل أصول هذا الدين محل جدل وخصومة مما يفضي - في الغالب - إلى الاعتراض عليها ، فهذه ثلاث قواعد كلية تتعلق بأصول الدين .
وأما التسليم التام لهذا الدين في أحكامه فمخالفته تحصل بإحداث أحكام وشرائع إما لكونها تغيرًا وتبديلاً لبعض شرائع الدين المقررة ، وإما لكونها زيادة واستدراكًا على أحكام الله وشرعه بحيث يُفرض على الناس إتباعها والالتزام بها ، فهاتان قاعدتان كليتان تتعلقان بأحكام هذا الدين ، فتحصل مما سبق خمس قواعد كلية .
ومن مقتضيات التسليم التام لهذا الدين ترك مشابهة أعدائه الكافرين ، ومخالفة هذا المقتضى تحصل بمشابهتهم ؛ إما في خصائصهم العبادية والعادية ، وإما في غير خصائصهم من المحدثات التي استحدثوها ، ويلحق بمشابهة الكافرين الإتيان بشي من أعمال الجاهلية ، فهذه ثلاث قواعد كلية .
وإليك فيما يأتي بيان هذه القواعد :
القاعدة الحادية عشرة (11)
كل ما كان من الاعتقادات والآراء والعلوم معارضًا لنصوص الكتاب والسنة ، أو مخالفًا لإجماع سلف الأمة فهو بدعة (1) .
ومما يدخل تحت هذه القاعدة الصور الثلاث الآتية :
الصورة الأولى : اتخاذ الرأي أصلاً مُحْكمًا وجعله مقطوعًا به ، وعرْض النصوص السمعية على هذا الأصل ، فما وافقه قُبل ، وما خالفه رُدَّ . وهذا متضمن إما للتفويض أو للتأويل أو للتعطيل .
قال ابن تيمية : ( فأما معارضة القرآن بمعقول أو قياس فهذا لم يكن يستحله أحد من السلف .
__________
(1) انظر جامع بيان العلم وفضله (2/105) ، ودرء التعارض (1/208 ، 209) ، وإعلام الموقعين (1/67)، والاعتصام (1/101 – 106 ) ، وفضل علم السلف على علم الخلف (39 – 44) ، وأحكام الجنائز (242) .(7/69)
وإنما اُبْتُدع ذلك لما ظهرت الجهمية والمعتزلة ونحوهم ممن بنوا أصول دينهم على ما سموه معقولاً وردوا القرآن إليه ، وقالوا : إذا تعارض العقل والشرع إما أن يفوض أو يتأول ، فهؤلاء من أعظم المجادلين في آيات الله بغير سلطان أتاهم ) (1) .
وقال ابن أبي العز : ( بل كل فريق من أرباب البدع يعرض النصوص على بدعته وما ظنه معقولاً ، فما وافقه قال : إنه محكم ، وقبله واحتج به ، وما خالفه قال : إنه متشابه ، ثم ردّه ، وسمى ردَّه تفويضًا ، أو حرَّفه ، وسمى تحريفه تأويلاً ، فلذلك اشتد إنكار أهل السنة عليهم ) (2) .
والرأي المعارض للنصوص يكون تارة في مسائل الاعتقاد وأصول الدين ، ويكون تارة أخرى في أصول الفقه وقواعده وفروعه .
فمن النوع الأول :
البدع المحدثة في الاعتقاد كرأي جهم وغيره من أهل الكلام ؛ لأنهم قوم استعملوا قياساتهم وآراءهم في رد النصوص (3) .
قال الذهبي (4) : ( فأول ذلك بدعة الخوارج حتى قال أولهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - : ( اعدل ) . (5) .
فهؤلاء يصرحون بمخالفة السنة المتواترة ويقفون مع الكتاب فلا يرجمون الزاني ولا يعتبرون النصاب في السرقة ، فبدعتهم تخالف السنة المتواترة ) .
وقال : ( ثم ظهر في حدود السبعين بدعة القدر ؛ كذبوا بالعلم أو بالمشيئة العامة ، وذلك مخالف للكتاب والسنة ) .
وقال : ( ثم وجدت بدعة الجهمية والكلام في الله فأنكروا الكلام والمحبة وأن يكون كلَّم موسى أو اتخذ إبراهيم خليلاً أو أنه على العرش استوى ، وذلك مخالفة للنصوص ) .
ومن الأمثلة على ذلك أيضًا :
__________
(1) الاستقامة (1/23) .
(2) شرح العقيدة الطحاوية (399) .
(3) انظر إعلام الموقعين (1/68) .
(4) انظر كلام الذهبي كله في التمسك بالسنن له (101 – 104)
(5) أخرجه البخاري (6/617) برقم 3610 .(7/70)
أن بعض الطوائف يردون الأحاديث ( التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم ، ويدَّعون أنها مخالفة للمعقول ، وغير جارية على مقتضى الدليل ؛ فيجب ردها : كالمنكرين لعذاب القبر ، والصراط ، والميزان ، ورؤية الله عز وجل في الآخرة .
وكذلك حديث الذباب وقتله ، وأنَّ في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء ، وأنه يقدم الذي فيه الداء ، وحديث الذي أخذ أخاه بطنه فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - بسقيه العسل ، وما أشبه ذلك من الأحاديث الصحيحة المنقولة نقل العدول ) (1) .
ومن النوع الثاني :
القواعد والضوابط المحدثة في الفقه وأصوله المتضمنة رد نصوص الوحي إليها .
ومن الأمثلة على ذلك :
أ- القول بالتحسين والتقبيح العقليين (2) .
ب- الاقتصار على كتاب الله وإنكار العمل بالسنة مطلقًا (3) .
ج- القول بترك العمل بخبر الواحد (4) .
د- ما ذكره الشاطبي ، إذ قال : ( وربما قدحوا في الرواة من الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم - وحاشاهم - وفيمن اتفق الأئمة من المحدثين على عدالتهم وإمامته .
كل ذلك ليردوا به على من خالفهم في المذهب .
وربما ردوا فتاويهم وقبَّحوها في أسماع العامة ؛ لينفِّروا الأمة عن إتباع السنة وأهلها ) (5).
__________
(1) الاعتصام (1/231) .
(2) انظر الاعتصام (1/144) ، (2/99) ، والإبداع للشيخ علي محفوظ (61) .
(3) انظر الاعتصام (1/109 – 110) ، والإبداع للشيخ علي محفوظ (61 ، 62) .
(4) انظر المصدر السابق (1/109 ، 232 – 236) ، (2/99) ، والإبداع للشيخ علي محفوظ (62 ، 63).
(5) الاعتصام (1/231 ، 232) . وانظر منه (1/246 – 248) .(7/71)
هـ - ما ذكره ابن رجب ، إذ يقول : ( ومن ذلك - أعني محدثات العلوم - ما أحدثه فقهاء الرأي من ضوابط وقواعد عقلية ورد فروع الفقه إليها سواء أخالفت السنة أم وافقتها طردًا لتلك القواعد المقررة ، وإن كان أصلها مما تأولوه على نصوص الكتاب والسنة لكن بتأويلات يخالفهم غيرهم فيها ) (1) .
الصورة الثانية : الإفتاء في دين الله بغير علم .
قال الشاطبي : ( فكل من اعتمد على تقليد قول غير محقق ، أو رجح بغير معنى معتبر فقد خلع الربقة واستند إلى غير شرع عافانا الله من ذلك بفضله .
فهذه الطريقة في الفتيا من جملة البدع المحدثات في دين الله تعالى كما أن تحكيم العقل على الدين مطلقًا محدث ) (2) .
وقال أيضًا : زيادة إلى القول بالرأي غير الجاري على العلم ، وهو بدعة أو سبب إلى البدعة ...
وهو الذي بيَّنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : « حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالاً ، فسألوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا » (3) وإنما ضلوا لأنهم أفتوا بالرأي ، إذ ليس عندهم علم ) (4) .
ويقرب من هذه الصورة :
الصورة الثالثة ، وهي : استعمال الرأي في الوقائع قبل أن تنزل ، والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات ؛ لأن في الاشتغال بهذا تعطيلاً وتركًا للسنن وذريعة إلى جهلها (5) .
وفي ذلك يقول الشاعر (6) :
قد نقرَّ الناس حتى أحدثوا بدعًا
في الدين بالرأي لم تبعث بها الرسل
حتى استخف بدين الله أكثرهم
__________
(1) فضل علم السلف على علم الخلف (47) .
(2) الاعتصام (2/179) .
(3) أخرجه البخاري (1/194) برقم 100 ، ومسلم (16/223 – 225) وقد تقدم .
(4) الاعتصام (2/81) .
(5) انظر جامع بيان العلم وفضله (2/1054) ، وإعلام الموقعين (1/69) ، والاعتصام (1/103 ، 104) ، (2/335) .
(6) جامع بيان العلم وفضله (2/950) .(7/72)
وفي الذي حُمِّلوا من دينه شغل
توضيح القاعدة :
هذه القاعدة خاصة بالاعتقادات والآراء والعلوم التي أُحدثت في دين الإسلام من جهة أهله الذين ينتسبون إليه ، فلا يدخل تحت هذه القاعدة – بهذا النظر – اعتقادات الملاحدة والكافرين وآراؤهم وعلومهم وإن كانت معارضة لدين الإسلام .
وبيان هذه القاعدة مرتبط بمعرفة أصل عظيم من أصول هذا الدين ألا وهو وجوب التسليم التام للوحي وعدم الاعتراض عليه .
قال ابن تيمية : ( ... فلهذا كانت الحجة الواجبة الإتباع : الكتاب والسنة والإجماع ، فإن هذا حق لا باطل فيه ، واجب الإتباع ، لا يجوز تركه بحال ... وليس لأحد الخروج عن شيء مما دلت عليه ) (1) .
والمعارضة لما جاء به الوحي تشمل : معارضته بالآراء والمعتقدات ، وبالأقوال وبالأعمال.
وهذه القاعدة متعلقة ببيان معارضة الوحي بالاعتقادات والآراء والأقوال ، أما ما يتعلق بمعارضته بالأعمال فسيأتي بيانه في القاعدتين الرابعة عشرة والخامسة عشرة .
وإليك فيما يأتي كلام بعض أهل العلم في تقرير هذه القاعدة :
قال الشافعي : ( والبدعة : ما خالف كتابًا أو سنة أو أثرًا عن بعض أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ) (2) .
وقال ابن تيمية : ( وما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين ) (3) .
وقال الشاطبي : ( والرأي إذا عارض السنة فهو بدعة وضلالة ) (4) .
القاعدة الثانية عشر (12)
ما لم يرد في الكتاب والسنة ولم يؤثر عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين من الاعتقادات فهو بدعة (5) .
ومما يدخل تحت هذه القاعدة ما يأتي :
__________
(1) مجموع الفتاوى (19/5) .
(2) إعلام الموقعين (1/80) .
(3) مجموع الفتاوى (20/163) .
(4) الاعتصام (2/335) .
(5) انظر أحكام الجنائز (242) .(7/73)
1- علم الكلام (1) .
فقد نقل ابن عبد البر الإجماع على أن أهل الكلام مبتدعة فقال :
( أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ ، ولا يعدون عند الجميع في جميع الأمصار في طبقات العلماء ، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه ، ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم ) (2) .
وإليك فيما يأتي شذرات من أقوال السلف تقرر ذلك :
قال مالك : ( لو كان الكلام علمًا لتكلم فيه الصحابة والتابعون ، كما تكلموا في الأحكام والشرائع ولكنه باطل يدل على باطل ) (3) .
وقال أحمد : ( وكل من أحدث كلامًا لم يكن آخر أمره إلا إلى بدعة ؛ لأن الكلام لا يدعو إلى خير ) (4) .
وقال البربهاري : ( وما كانت قط زندقة ولا بدعة ولا هوى ولا ضلالة إلا من الكلام والجدال والمراء والقياس .
وهي أبواب البدع والشكوك والزندقة ) (5) .
وقيل لعبد الرحمن بن مهدي : إن فلانًا صنَّف كتابًا يرد فيه على المبتدعة . قال : بأي شيء ؟ بالكتاب والسنة ؟ قال : لا . لكن بعلم المعقول والنظر . فقال : أخطأ السنة ، وردَّ بدعة ببدعة ) (6) .
وعلم الكلام يشمل المسائل والدلائل ، والابتداع حاصل فيهما .
__________
(1) المراد بالكلام الذي ذمَّه أئمة السلف ونهوا عن الخوض فيه : الكلام في الدين على غير طريقة المرسلين .
ومن هنا أمكن تعريف علم الكلام بأنه : إثبات أمور العقائد بالأدلة العقلية والطرق الجدلية مع الإعراض عما في القرآن والسنة من الأدلة العقلية الدالة على أصول الدين .
انظر مجموع الفتاوى (11/335 ، 336) ، (12/460 ، 461) ، (19/163) .
(2) جامع بيان العلم وفضله (2/942) .
(3) صون المنطق والكلام (57) ، والأمر بالإتباع (70) .
(4) الإبانة الكبرى (2/539) .
(5) شرح السنة (55) .
(6) صون المنطق والكلام (131) .(7/74)
قال ابن أبي العز : ( وصاروا يبتدعون من الدلائل والمسائل ما ليس بمشروع ، ويعرضون عن الأمر المشروع ) (1) .
أ . فمن المسائل المبتدعة : القول بأن أول واجب على المكلف هو النظر أو القصد إلى النظر (2) .
ب . ومن الدلائل المبتدعة : الاستدلال بطريقة الأعراض وحدوثها على إثبات الصانع (3) .
2- الطرق الصوفية .
ذلك أن الصوفية ( في كثير من الأمور يستحسنون أشياء لم تأت في كتاب ولا سنة ، ولا عمل بأمثالها السلف الصالح ، فيعملون بمقتضاها ، ويثابرون عليها ، ويُحَكِّمونها طريقًا لهم مهيعًا ، وسنة لا تخلف ، بل ربما أوجبوها في بعض الأحوال ) (4) .
ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الشاطبي حيث يقول :
ومن ذلك : أشياء ألزموها المريد حالة السماع ، من طرح الخرق ، وإن من حق المريد ألا يرجع في شيء خرج منه البتة ، إلا أن يشير عليه الشيخ بالرجوع فيه ، فليأخذه على نية العارية بقلبه ، ثم يخرج عنه بعد ذلك من غير أن يوحش قلب الشيخ ، إلى أشياء اخترعوها في ذلك لم يعهد مثلها في الزمان الأول ) (5) .
قال ابن رجب : ( ومما أحدث من العلوم : الكلام في العلوم الباطنة من المعارف وأعمال القلوب وتوابع ذلك بمجرد الرأي والذوق أو الكشف ، وفيه خطر عظيم . وقد أنكره أعيان الأئمة كالإمام أحمد وغيره ) (6) .
3- التعرض للألفاظ المجملة بالإثبات أو النفي بإطلاق . كلفظ ( الجهة ) و( الجسم ) و( العرض ) .
__________
(1) شرح العقيدة الطحاوية (593) .
(2) انظر المصدر السابق (74 ، 75) .
(3) انظر درء التعارض (308 – 310) .
(4) الاعتصام (1/212) .
(5) الاعتصام (1/216) .
(6) فضل علم السلف على علم الخلف (61) ، وانظر مجموع الفتاوى (11/15) .(7/75)
وقال ابن تيمية : (فلم ينطق أحد منهم [ أي السلف ] في حق الله بالجسم لا نفيًا ولا إثباتًا ، ولا بالجوهر والتحيز ونحو ذلك ؛ لأنها عبارات مجملة لا تحق حقًا ولا تبطل باطلاً ... بل هذا هو من الكلام المبتدع الذي أنكره السلف والأئمة ) (1) .
أما طريقة السلف في التعامل مع الألفاظ المجملة فقد بيَّنها ابن أبي العز بقوله : ( والألفاظ التي ورد بها النص يُعتصم بها في الإثبات والنفي : فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني ، وننفي ما نفته نصوصهما من الألفاظ والمعاني ) .
وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها فلا تطلق حتى
يُنظر في مقصود قائلها : فإن كان معنى صحيحًا قُبل ، لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص دون الألفاظ المجملة إلا عند الحاجة ، مع قرائن تبين المراد .
والحاجة مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطَب بها ونحو ذلك ) (2) .
وبهذا يعلم أن من ( السنة اللازمة : السكوتَ عما لم يرد فيه نص عن الله ورسوله أو يتفق عليه المسلمون على إطلاقه ، وترْكَ التعرض لها بنفي أو إثبات ، فكما لا يُثبت إلا بنص شرعي فكذلك لا يُنفى إلا بدليل سمعي ) (3) .
توضيح القاعدة :
هذه القاعدة خاصة بأمور العقيدة التي لم يرد ذكر لها في نصوص الكتاب والسنة ، واتفق الصحابة والتابعون على ترك الكلام عليها .
وهي صنو القاعدتين : الثالثة والرابعة الخاصتين بالعبادات التي لم ينقل فعلها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة أو التابعين .
ولهذه القاعدة أهمية بالغة في إبطال البدع والرد على أهلها ، حيث اعتمد أئمة السلف - كثيرًا - على هذه القاعدة في مناظراتهم للمبتدعة والرد عليهم .
__________
(1) مجموع الفتاوى (3/81) .
(2) شرح العقيدة الطحاوية (239) ، وانظر منه (109 ، 110) .
(3) عقيدة الحافظ عبد الغني (113) .(7/76)
فمن ذلك : أن الإمام الشافعي قال لبشر المريسي : ( أخبرني عما تدعو إليه ؟ أكتاب ناطق وفرض مفترض وسنة قائمة ووجدت عن السلف البحث فيه والسؤال ) فقال بشر : ( لا إنه لا يسعنا خلافه ) فقال الشافعي : ( أقررت بنفسك على الخطأ . . . ) (1) .
وقال الإمام أحمد لابن أبي دؤاد يسأله : ( خبِّرني عن هذا الأمر الذي تدعو الناس إليه : أشيء دعا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) قال : ( لا ... ) قال : ( ليس يخلو أن تقول : علموه أو جهلوه ؛ فإن قلتَ علموه وسكتوا عنه وسعنا وإياك من السكوت ما وسع القوم ، وإن قلتَ : جهلوه وعلمتَه أنت فيا لكع بن لكع يجهل النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء الراشدون رضي الله عنهم شيئًا وتعلمه أنت وأصحابك ) (2) .
وإليك فيما يأتي ما يقرر هذه القاعدة من كلام أهل العلم :
1- قال سعيد بن جبير : ( ما لم يعرفه البدريون فليس من الدين ) (3) .
2- قال مالك بن أنس : ( إياكم والبدع ، فقيل : يا أبا عبد الله وما البدع ؟ قال : أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته ولا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان ) (4) .
3- قال الشافعي : ( كل من تكلم بكلام في الدين أو في شيء من هذه الأهواء ليس له فيه إمام متقدم من النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه فقد أحدث في الإسلام حدثًا ) (5) .
__________
(1) انظر صون المنطق والكلام (30) .
(2) انظر الشريعة (63) .
(3) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/771) برقم 1425 ، وانظر مجموع الفتاوى (4/5) وقد تقدم .
(4) أخرجه قوام السنة في الحجة في بيان المحجة (1/103 ، 104) ، وانظر شرح السنة للبغوي (1/217) ، والعين والأثر (61) ، والأمر بالإتباع (70) ، وصون المنطق والكلام (57) .
(5) صون المنطق والكلام (150) .(7/77)
4- قال بعض السلف : ( ما تكلم فيه السلف فالسكوت عنه جفاء ، وما سكت عنه السلف فالكلام فيه بدعة ) (1) .
5 - قال البربهاري : ( واعلم أن الناس لو وقفوا عند محدثات الأمور ، ولم يجاوزوها بشيء ، ولم يولدوا كلامًا مما لم يجئ فيه أثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه لم تكن بدعة ) (2) .
القاعدة الثالثة عشرة (13)
الخصومة والجدال والمراء في الدين بدعة .
ومما يدخل تحت هذه القاعدة ما يأتي :
1- السؤال عن المتشابهات .
ومن الأمثلة على ذلك : قصة صبيغ الذي كان يسأل عن المتشابهات ، فلما بلغ عمر رضي الله عنه ذلك أمر به فضُرب ضربًا شديدًا ، وبَعث به إلى البصرة ، وأمرهم ألا يجالسوه ، فكان بها كالبعير الأجرب : لا يأتي مجلسًا إلا قالوا : ( عزمة أمير المؤمنين ) فتفرقوا عنه ، حتى تاب وحلف بالله ما بقي يجد مما كان في نفسه شيئًا ، فأذن عمر في مجالسته ، فلما خرجت الخوارج أُتي ، فقيل له : هذا وقتك . فقال : لا ، نفعتني موعظة العبد الصالح (3) .
ومن ذلك أيضًا : ما ورد عن الإمام مالك لما جاءه رجل فقال : يا أبا عبد الله ? الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ? كيف استوى ؟
فقال : الكيف غير معقول ، والاستواء منه غير مجهول ،
__________
(1) صون المنطق والكلام (131) .
(2) شرح السنة (46) .
(3) انظر مجموع الفتاوى (4/3 ، 4) ، والأثر أخرجه الدارمي (1/54 ، 55) ، وابن بطة في الإبانة الكبرى (1/414 - 415) برقم (329 - 330) .(7/78)
والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ؛ فإني أخاف أن تكون ضالاً وأمر به فأُخرج . (1).
قال ابن تيمية : ( لأنه سؤال عما لا يعلمه البشر ولا يمكنهم الإجابة عنه ) (2) .
وقال أيضًا : ( هذا الجواب من مالك رحمه الله في الاستواء شاف كاف في جميع الصفات ، مثل نزول والمجيء واليد والوجه وغيرها ) (3) .
ومعلوم أن أسماء الله وصفاته وأفعاله من جهة كيفيتها من المتشابه الذي يجب الإيمان به والكف عن الخوض فيه ، كما قال تعالى : ? وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ? .
2- امتحان المسلمين بما ليس في الكتاب والسنة من المسائل والآراء .
قال البربهاري : ( والمحنة في الإسلام بدعة ، وأما اليوم فيمتحن بالسنة لقوله : إن هذا العلم دين فانظروا ممن تأخذون دينكم ) (4) .
ومن الأمثلة على ذلك : ما أشار إليه ابن تيمية بقوله : ( فالواجب الاقتصار في ذلك ، والإعراض عن ذكر يزيد بن معاوية ، وامتحان المسلمين به ؛ فإن هذا من البدع المخالفة لأهل السنة والجماعة .
فإنه بسبب ذلك اعتقد قوم من الجهال أن يزيد بن معاوية من الصحابة ، وأنه من أكابر الصالحين وأئمة العدل ، وهو خطأ بيِّن ) (5) .
3- التعصب والانتساب الذي يفرِّق الأمة ، وعقْد المولاة والمعاداة على هذه النسبة .
__________
(1) أخرجه اللالكائي في السنة (3/441) برقم 664 ، وقال ابن حجر : ( وأخرج البيهقي بسند جيد ...)، فتح الباري (13/406 ، 407) ، وقال ابن تيمية ( وقد روي هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفًا ومرفوعًا ، ولكن ليس إسناده مما يعتمد عليه ) مجموع الفتاوى (5/365) وروي أيضًا عن ربيعة شيخ مالك . انظر السنة للالكائي (3/441) برقم 665 .
(2) مجموع الفتاوى (3/25) .
(3) المصدر السابق (4/4) .
(4) شرح السنة (55) .
(5) مجموع الفتاوى (3/414) .(7/79)
قال ابن تيمية : ( ولا ينصب لهم كلامًا يوالي عليه ويعادي غير كلام الله ورسوله وما اجتمعت عليه الأمة ؛ بل هذا من فعل أهل البدع الذين ينصبون لهم شخصًا أو كلامًا يفرِّقون به بين الأمة ، يوالون به على ذلك الكلام أو تلك النسبة ويعادون ) (1) .
( وكذلك التفريق بين الأمة ، وامتحانُها بما لم يأمر الله به ولا رسوله ؛ مثل أن يقال للرجل : أنت شكيلي أو قرفندي ) فإن هذه أسماء باطلة ما أنزل الله بها من سلطان ، وليس في كتاب الله ، ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا في الآثار المعروفة عن سلف الأئمة : لا شكيل ولا قرفندي .
والواجب على المسلم إذا سئل عن ذلك أن يقول : لا أنا شكيلي ولا قرفندي ، بل أنا مسلم متبع لكتاب الله وسنة رسوله .
وقد روينا عن معاوية بن أبي سفيان : أنه سأل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقال : أنت على ملة علي أو ملة عثمان ؟
فقال : لست على ملة علي ، ولا على ملة عثمان ، بل أنا على ملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) .
وكذلك كان كل من السلف يقولون : كل هذه الأهواء في النار .
ويقول أحدهم : ما أبالي أي النعمتين أعظم ؟ على أن هداني الله للإسلام ، أو أن جنبني هذه الأهواء .
والله تعالى قد سمَّنا في القرآن : المسلمين ، المؤمنين ، عباد الله ، فلا نعدل عن هذه الأسماء التي سمّانا الله بها إلى أسماء أحدثها قوم - وسموها هم وآباؤهم - ما أنزل الله بها من سلطان ) (3) .
4- رمي واحد من المسلمين بالكفر أو البدعة دون بيّنة .
قال ابن بطة : ( والشهادة بدعة ، والبراءة بدعة ، والولاية بدعة .
والشهادة : أن يشهد لأحد ممن لم يأت فيه خبر أنه من أهل الجنة أو النار .
__________
(1) مجموع الفتاوى (20/164) ، وانظر منه (4/146) ، (11/514) .
(2) أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/354 ، 355) برقم 237 ، 238 .
(3) مجموع الفتاوى (3/415) .(7/80)
والولاية : أن يتولى قومًا ويتبرأ من آخرين .
والبراءة : أن يبرأ من قوم هم على دين الإسلام والسنة ) (1) .
وقد مثَّل لذلك ابن تيمية فقال :
( وأول من ضل في ذلك هم الخوارج المارقون ، حيث حَكَموا لنفوسهم بأنهم المتمسكون بكتاب الله وسنته ، وأنَّ عليًا ومعاوية والعسكريين هم أهل المعصية والبدعة ، فاستحلوا ما استحلوه من المسلمين ) (2) .
توضيح القاعدة :
هذه القاعدة خاصة بالجدال في باب العقيدة وأصول الدين ، وبذلك يخرج الجدال في باب الفقه والأحكام الفرعية .
والفرق بين هذين البابين يوضحه الشافعي بقوله :
( إياكم والنظر في الكلام ؛ فإن رجلاً لو سُئل عن مسألة في الفقه فأخطأ فيها ، أو سُئل عن رجل قتل رجلاً فقال : ديته بيضة ؛ كان أكثر شيء أن يُضحك منه ، ولو سُئل عن مسألة في الكلام فأخطأ فيه نُسب إلى البدعة ) (3) .
وبهذا يعلم أن الجدال في أصول الدين إذا لم يكن في ذاته بدعة فهو مفض إليها .
قال بعض السلف : ( إذا جلس الرجلان يختصمان في الدين فليعلما أنهما في أمر بدعة حتى يفترقا ) (4) .
وقال بعض الأئمة : ( والسنة إنما هي التصديق لآثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وترك معارضتها بكيف ؟ ولِمَ ؟
والكلام والخصومات في الدين والجدال محدث ، وهو يوقع الشك في القلوب ويمنع من معرفة الحق والصواب ) (5) .
القاعدة الرابعة عشرة (14)
إلزام الناس بفعل شيء من العادات والمعاملات ، وجعْل ذلك كالشرع الذي لا يُخالف ، والدين الذي لا يُعارض بدعة (6) .
ومن الأمثلة على ذلك :
__________
(1) الشرح والإبانة (341) ، وانظر الاستقامة لابن تيمية (1/13 - 116) .
(2) الاستقامة (1/13) .
(3) أخرجه أبو نعيم في الحلية (9/113) ، وانظر مناقب الإمام الشافعي للرازي (100) .
(4) الإبانة الكبرى (2/520) .
(5) الحجة في بيان المحجة (2/437) .
(6) انظر الاعتصام (2/80 – 82) .(7/81)
ما ذكره الشاطبي من وضْع المكوس في معاملات الناس ، كالدِّين الموضوع والأمر المحتوم عليهم ، دائمًا أو في أوقات محدودة ، على كيفيات مضروبة ، بحيث تضاهي المشروع الدائم الذي يحمل عليه العامة ، ويؤخذون به ، وتوجه على الممتنع منه العقوبة ، كما في أخذ زكاة المواشي والحرث ، وما أشبه ذلك (1) .
ومن ذلك أيضًا قول الشاطبي : ( وكذلك تقديم الجهال على العلماء ، وتولية المناصب الشريفة من لا يصلح لها بطريق التوريث ، فإنَّ جعْل الجاهل في موضع العالم حتى يصير مفتيًا في الدين ، ومعمولاً بقوله في الأموال والدماء والأبضاع وغيرها محرم في الدين .
وكون ذلك يتخذ ديدنًا حتى يصير الابن مستحقًا لرتبة الأب - وإن لم يبلغ رتبة الأب في ذلك المنصب - بطريق الوراثة أو غير ذلك ، بحيث يشيع هذا العمل ويطرد ، ويرِدُه الناس كالشرع الذي لا يُخالف بدعة بلا إشكال ) (2) .
توضيح القاعدة :
هذه القاعدة خاصة بالعادات والمعاملات ، فإن الابتداع ها هنا يقع فيها من جهة الخروج على نظام الدين يجعل هذه العادات أو المعاملات فرضًا محتومًا على الناس ؛ بمثابة فرائض الدين وعزائم الشرع .
ولا يدخل تحت هذه القاعدة ما إذا كان الإلزام جاريًا على سبب معقول ومفضيًا إلى مصلحة معتبرة ، فهذا يندرج تحت باب المصالح المرسلة ، وهو باب لا يقع فيه الابتداع كما تقدم (3) .
ومن الأمثلة على المصالح المرسلة : وضع اللوائح التننظيمية ، والتراتيب الإدارية التي تحقق المصالح العامة للأمة وفق مقاصد الشريعة .
أما الإلزام الذي يجري فيه الابتداع فهو المناقض لمقاصد الشريعة ، الخارج على نظام الدين ، وإنما يُصار إليه بسبب التفريط في الأخذ بشرع الله .
__________
(1) انظر المصدر السابق (2/80 ، 81) .
(2) الاعتصام (2/81) .
(3) انظر العلاقة بين البدعة والمصلحة المرسلة في المدخل الأول من هذا الكتاب .(7/82)
قال ابن تيمية : ( وعامة الأمراء إنما أحدثوا أنواعًا من السياسات الجائرة من أخذ أموال لا يجوز أخذها ، وعقوبات على الجرائم لا تجوز ؛ لأنهم فرطوا في المشروع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإلا فلو قبضوا ما يسوغ قبضه ، ووضعوه حيث يسوغ وضعه ، طالبين بذلك إقامة دين الله ، لا رياسة نفوسهم ، وأقاموا الحدود المشروعة على الشريف والوضيع ، والقريب والبعيد ، متحرين في ترغيبهم وترهيبهم للعدل الذي شرعه الله لما احتاجوا إلى المكوس الموضوعة ، ولا إلى العقوبات الجائرة ، ولا إلى من يحفظهم من العبيد والمستعبدين ، كما كان الخلفاء الراشدون ، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم من أمراء بعض الأقاليم ) (1) .
القاعدة الخامسة عشرة (15)
الخروج على الأوضاع الدينية الثابتة ، وتغيير الحدود الشرعية المقدَّرة بدعة (2) .
ومن الأمثلة على ذلك :
1- ما ذكره ابن رجب بقوله : ( وأما المعاملات كالعقود والفسوخ ونحوهما ؛ فما كان منها تغييرًا للأوضاع الشرعية ، كجعل حد الزنا عقوبة مالية ، وما أشبه ذلك فإنه مردود من أصله ، لا ينتقل به الملك لأن هذا غير معهود في أحكام الإسلام . ويدل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للذي سأله : إن ابني كان عسيفًا على فلان ، فزنى بامرأته ، فافتديت منه بمائة شاة وخادم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « المئة شاة والخادم ردٌّ عليك ، وعلى ابنك جلدة مئة وتغريب عام » (3) .
2- الحيل الباطلة التي يحصل بها تحليل المحرمات أو إسقاط الواجبات ، وذلك كاستحلال الربا ببيع العينة ، ورد المطلقة ثلاثًا لمن طلقها بنكاح التحليل ، وإسقاط فرض الزكاة بالهبة المستعارة .
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم (2/598 ، 599) .
(2) انظر تلبيس إبليس (16 ، 17) ، والاعتصام (2/86) .
(3) جامع العلوم والحكم (1/181) ، والحديث أخرجه البخاري (5/301) برقم 2695 ، 2696 .(7/83)
قال الشاطبي : ( ... مدخل البدعة ها هنا من باب الاحتيال الذي أجازه بعض الناس ، فقد عدَّه العلماء من البدع المحدثات ) (1) .
وقال الشيخ محمود شلتوت : ( ومن ذلك إسقاط الصلاة ؛ فإن أصحابها قاسوها على فدية الصوم التي ورد النص بها ، ولم يقفوا عند هذا الحكم بالجواز ، بل توسعوا فشرعوا لها من الحيل ما يجعلها صورة لا روح فيها ، ولا أثر .
والابتداع هنا من أغرب أنواع الابتداع ... ) (2) .
3- ويمكن أن يلحق بذلك : الحوادث التي أخبر - صلى الله عليه وسلم - أنها تقع وتظهر وتنتشر ، وهي تجامع البدع من جهة أن كلاً منهما مؤذن بتغيير معالم الدين واندراسه ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : « إن من أشراط الساعة : أن يرفع العلم ، ويظهر الجهل ، ويفشو الزنا ، ويشرب الخمر » (3) .
قال الشاطبي : ( فالحاصل أن أكثر الحوادث التي أخبر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - من أنها تقع وتظهر وتنتشر أمور مبتدعة على مضاهاة التشريع ، لكن من جهة التعبد ، لا من جهة كونها عادية ) (4) .
توضيح القاعدة :
هذه القاعدة خاصة بأحكام الدين القاطعة كتحريم الزنا وشرب الخمر ، وبالمقدَّرات الشرعية ، فتشمل أنواع الجنايات والحدود ، وأنصبة المواريث ، ومقادير الكفارات والعدة ، ونحو ذلك مما ورد في الشرع تحديده بقدر معين .
وإذا كان لهذه المقدَّرات جهتان : جهة عادية وجهة تعبدية ؛ فإن الابتداع يقع فيها من جهة كونها تعبدية ، لا من جهة كونها عادية معقولة المعنى .
وكون هذه المقدَّرات تعبدية معناه أن الشارع جعلها أحكامًا ثابتة لا تقبل التبدل ولا التغيُّر في كل زمان ومكان .
قال ابن القيم : ( الأحكام نوعان :
__________
(1) الاعتصام (2/85 ، 86) .
(2) البدعة (19) .
(3) أخرجه البخاري (9/330) برقم 5231 ، ومسلم (16/221) واللفظ له .
(4) الاعتصام (2/98) . وانظر منه (2/82 -98) .(7/84)
نوع لا يتغير عن حالة واحدة ، هو عليها لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة .
كوجوب الواجباب وتحريم المحرمات ، والحدود المقدَّرة بالشرع على الجرائم ، ونحو ذلك . فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وُضع عليه .
والنوع الثاني : ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له : زمانًا ومكانًا وحالاً ؛ كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها ، فإن الشارع ينوَّع فيها بحب المصلحة ) (1) .
القاعدة السادسة عشرة (16)
مشابهة الكافرين فيما كان من خصائصهم من عبادة أو عادة أو كليهما بدعة (2) .
ومن الأمثلة على ذلك (3) :
الامتناع من أكل الشحوم وكل ذي ظفر على وجه التدين تشبهًا بالكافرين .
ومن ذلك : موافقة الكافرين في أعيادهم ومواسمهم .
قال الذهبي : ( أما مشابهة الذمة في الميلاد والخميس والنيروز فبدعة وحشة ) (4) .
توضيح القاعدة :
هذه القاعدة والتي تليها خاصتان بنوع معين من المحرمات ، وهو مشابهة الكافرين .
ويدخل تحت هذه المشابهة أمران :
الأمر الأول : مشابهة الكافرين في خصائصهم دون ما أحدثوه ، وبيان هذا في هذه القاعدة .
قال ابن تيمية : ( وأصل آخر ، وهو أن كل ما يشابهون فيه من عبادة أو عادة أو كليهما هو من المحدثات في هذه الأمة ، ومن البدع ؛ إذ الكلام فيما كان من خصائصهم ...
__________
(1) إغاثة اللهفان (1/330 – 331) ، وانظر إعلام الموقعين (4/262 – 263) .
(2) انظر أحكام الجنائز (242) .
(3) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (1/422) ، والأمر بالإتباع (141 ، 146) .
(4) التمسك بالسنن (130) .(7/85)
فجميع الأدلة الدالة من الكتاب والسنة والإجماع على قبح البدع وكراهتها : تحريمًا أو تنزيها ؛ تندرج هذه المشابهات فيها ؛ فيجتمع فيها : أنها بدع محدثة ، وأنها مشابهة للكافرين ، وكل واحد من الوصفين موجب للنهي (1) .
والأمر الثاني : مشابهة الكافرين فيما أحدثوه مما ليس في دينهم ، وبيان هذا في القاعدة التالية لهذه القاعدة .
والابتداع يقع بمشابهة الكافرين من جهة كونه خروجًا على نظام الدين لأن التشبه بالكافرين أصل دروس الدين وشرائعه ، وظهور الكفر والمعاصي ، كما أن المحافظة على سنن الأنبياء وشرائعهم أصل كل خير .
ولهذا عظم وقع البدع في الدين ، وإن لم يكن فيها تشبه بالكفار فكيف إذا جمعت بين الوصفين ! (2) .
ومن هنا كانت مخالفة الكافرين أمرًا مقصودًا شرعًا ؛ إذ المقصود من إرسال الرسل أن يظهر دين الله على الدين كله ، فيكون نفس مخالفتهم من أكبر مقاصد البعثة (3) .
يوضح ذلك أن اليهود عرفوا باستحلال المحرمات وارتكابها بالحيل الباطلة ، كما أن النصارى عرفوا بالغلو والزيادة في الدين على الحد المشروع ، وكلا هذين الأمرين بدعة أو ذريعة إلى البدعة .
ولهذا كان السلف يقولون : ( إن من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى ) (4) .
ومما لا يدخل تحت مشابهة الكافرين أمران (5) :
أ – ما كان مشروعًا في الشريعتين ، أو ما كان مشروعًا لنا وهم يفعلونه ، كصوم عاشوراء أو أصل الصلاة والصيام ، فهنا تقع المخالفة في صفة العمل وكيفيته .
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم (1/423 ، 424) .
(2) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (1/310 ، 424) .
(3) انظر المصدر السابق (1/173 ، 182) ، والأمر بالإتباع (150) .
(4) اقتضاء الصراط المستقيم (1/67) .
(5) انظر المصدر السابق (1/420 – 423) .(7/86)
ب – ما لا يتصور فيه اختصاصهم به مما تقتضيه طبيعة الحياة واستقامة المعاش من العادات والصناعات .
القاعدة السابعة عشرة (17)
مشابهة الكافرين فيما أحدثوه مما ليس في دينهم من العبادات أو العادات أو كليهما بدعة (1) .
ومن الأمثلة على ذلك :
ما ذكره الآجري ، إذ قال : ( أكثر هذه الأمة ، والعام منها تجري أمورهم على سنن أهل الكتابين أو سنن كسرى وقيصر أو سنن الجاهلية ، وذلك مثل السلطنة وأحكامهم في العمال والأمراء وغيرهم ، وأمر المصائب والأفراح والمساكن واللباس والحلية والأكل والشرب والولائم والمراكب والخدام والمجالس والبيع والشراء والمكاسب ) (2) .
ومن ذلك : تقليد الكافرين فيما يسمى بالموضات والموديلات التي عمَّ بها البلاء في هذا العصر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ومن ذلك أيضًا : موافقتهم في الاحتفال بالأعياد التي استحدثوها ولم تكن مشروعة في دينهم (3) ، كعيد الأم ويوم الصحة .
تنبيه مهم : مشابهة الكافرين في شيء من أعيادهم ولو كان العيد موسما دنيويًا محضًا تندرج تحت مشابهتهم في أمور الدين ؛ ذلك أن العيد يجتمع فيه أنه شريعة وشعيرة ، عبادة وعادة في آن واحد .
قال ابن تيمية : ( العيد المشروع يجمع عبادة ، وهو ما فيه من صلاة أو ذكر أو صدقة أو نسك ، ويجمع عادة ، وهو ما يفعل فيه من التوسع في الطعام واللباس ) (4) .
ويكفيك بيانًا لذلك أن تتأمل المفاسد المترتبة على مشابهة الكافرين عمومًا ، ومشابهتهم في أعيادهم خصوصًا ، وهذا ما سيأتي التنبيه عليه في خاتمة هذه القاعدة .
توضيح القاعدة :
__________
(1) انظر الأمر بالإتباع (151) .
(2) الشريعة (20) .
(3) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (1/423) ، والأمر بإتباع (151) .
(4) اقتضاء الصراط المستقيم (1/422) .(7/87)
هذه القاعدة تتعلق بمشابهة الكافرين في المحدثات التي أحدثوها ، والابتداع في هذا النوع من المشابهة يحصل من جهتين : من جهة كونها محدثات بالنسبة للكافرين ، ومن جهة كونها مشابهة .
قال ابن تيمية : ( ... فإنه لو أحدثه المسلمون لقد كان يكون قبيحًا فكيف إذا كان مما لم يشرعه نبي قط ، بل أحدثه الكافرون ، فالموافقة فيه ظاهرة القبح ، فهذا أصل ) (1) .
وبهذا يعلم أن مشابهة الكافرين فيما أحدثوه يُنهى عنها من ثلاث جهات : من جهة كونها محدثة في دينهم ، ومن جهة كونها مشابهة ، ومن جهة كونها محدثة في دين الإسلام .
تنبيهات حول مشابهة الكافرين :
التنبيه الأول : أن الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والآثار والاعتبار قد دلت على أن التشبه بالكافرين في الجملة منهي عنه ، وأن مخالفتهم في هديهم مشروع : إما إيجابًا وإما استحبابًا بحسب المواضع مع أن هناك أمورًا خصتها السنة بعينها بالنهي ؛ كحلق اللحية وإعفاء الشارب .
التنبيه الثاني : أن مخالفة الكافرين من المقاصد الشرعية ، ولذا فإن النهي عن مشابهة الكافرين يعم ما إذا قُصدت مشابهتهم أو لم تقصد .
ذلك أن مشابهة الكافرين - بقصد أو بدون قصد - تترتب عليها مفاسد اعتقادية وعملية . بيان ذلك في الآتي :
التنبيه الثالث : في ذكر بعض المفاسد المترتبة على مشابهة الكافرين عمومًا وعلى مشابهتهم في أعيادهم خصوصًا : (2)
1- أن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبًا وتشاكلاً بين المتشابين في الباطن على وجه المسارقة والتدرج الخفي ، وهذا أمر محسوس ؛ فإن اللابس ثياب أهل العلم يجد من نفسه نوع انضمام إليهم ، وهكذا .
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم (1/423) .
(2) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (1/79-81 ، 471-490) .(7/88)
2- أن مشاركتهم في الهدي الظاهر توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التمييز ، فيزول الحاجز النفسي بين المهديين المرضيين ، وبين المغضوب عليهم ولا الضالين ، وينصرم بذلك عقد الموالاة والمعاداة .
3- أن التشبيه بالكافرين من أسباب سخط الله ، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( اجتنبوا أعداء الله في عيدهم ؛ فإن السخط ينزل عليهم ) (1) .
ذلك أن أعيادهم معصية لله ، فهي إما محدثة أو منسوخة ، والمسلم لا يقر على واحد منهما (2) .
4- أن مشابهتهم في بعض أعيادهم يوجب سرور قلوبهم بما هم عليه من الباطل ؛ فيرون المسلمين قد صاروا فرعًا لهم في خصائص دينهم ، وذلك يوجب قوة قلوبهم وانشراح صدورهم ، وربما أطمعهم ذلك في انتهاز الفرص واستذلال الضعفاء .
5- أن الأعياد والمواسم في الجملة لها منفعة عظيمة في دين الخلق ودنياهم كانتفاعهم بالصلاة والزكاة والصيام والحج ، ولهذا جاءت بها كل شريعة ، كما قال تعالى : ?وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ ? .
ومما يلحق بمشابهة الكافرين :
القاعدة الثامنة عشر (18)
الإتيان بشيء من أعمال الجاهلية ، التي لم تشرع في الإسلام بدعة .
والمراد بالجاهلية -كما يقول ابن تيمية - ( ما كان عليه أهل الجاهلية قبل الإسلام ، وما عاد إليه كثير من العرب من الجاهلية التي كانوا عليها ) (3) .
ومن الأمثلة على ذلك :
__________
(1) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (9/234) .
(2) انظر الأمر بالإتباع (150) .
(3) اقتضاء الصراط المستقيم (1/398) ، وانظر منه (1/226 ، 227) .(7/89)
1- ما جاء في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « أربع في أمتي من أمر الجاهلية ، لا يتركونهن : الفخر في الأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة ) (1) .
2- ما جاء في سنن أبي داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « لا عقر في الإسلام » .
( وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يعقرون الإبل على قبر الرجل الجواد ، يقولون : نجازيه على فعله ؛ لأنه كان يعقرها في حياته فيطمعها الأضياف ، فنحن نعقرها على قبره ؛ ليأكلها الطير والسباع فيكون مطعمًا بعد مماته كما كان مطعمًا في حياته ) (2) .
3- إقامة الولائم ودعوة الناس إليها ابتهاجًا وفرحًا ؛ يُفعل هذا استقبالاً للمولود الذكر دون الأنثى ، وهذا الصنيع فيه موافقة ظاهرة لأهل الجاهلية ؛ فقد كانوا يستبشرون بالذكر ويحتفون به ويحتفلون له ? وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ? .
توضيح القواعد :
هذه القاعدة خاصة بأعمال الجاهلية المخالفة لهدي الإسلام وشرعته ، وهي ملحقة بالقاعدتين السابقتين المتعلقتين بمشابهة الكافرين .
ومما يقرر هذه القاعدة ويجلّيها : أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه دخل على امرأة من أحمس يقال لها زينب ، فرآها لا تتكلم ، فقال : ( ما لها لا تكلم ) ؟ قالوا : حجَّت مصمتة . قال لها : ( تكلمي ، فإن هذا لا يحل ، هذا من عمل الجاهلية ) . فتكلمت فقالت : من أنت ؟ قال : ( امرؤ من المهاجرين ) . قالت : أي المهاجرين ؟ قال : ( من قريش ) . قالت : من أي قريش أنت ؟ قال : ( إنك لسؤول ، أنا أبو بكر ) (3) .
__________
(1) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (1/204-207) . والحديث أخرجه مسلم (6/235) .
(2) الحوادث والبدع (171) .
(3) أخرجه البخاري (7/147) برقم 3834 .(7/90)
وقد علَّق ابن تيمية على هذا الأثر فقال : ( ومعنى قوله ( من عمل الجاهلية ) أي مما انفرد به أهل الجاهلية ، ولم يشرع في الإسلام .
فيدخل في هذا : كل ما اتُخذ عبادة مما كان أهل الجاهلية يتعبدون به ، ولم يشرع الله التعبد به في الإسلام ) (1) .
أما ما جاء به الإسلام فإنه يُشرع فعلُه ، ولو كان أهل
الجاهلية يفعلونه ، فيُؤتى به من جهة كونه مشروعًا ، ويفعل على الوجه المشروع .
مثال ذلك : ( السعي بين الصفا والمروة ، وغيره من شعائر الحج ؛ فإن ذلك من شعائر الله وإن كان أهل الجاهلية قد كانوا يفعلون ذلك في الجملة ) (2) .
* * *
الأصل الثالث : الذرائع المفضية إلى البدعة .
يقع الابتداع من جهة الذرائع في كل عمل يمكن أن يؤدي إلى الابتداع . وهذا منحصر في خمس قواعد .
بيان ذلك :
أن الذرائع المفضية إلى البدعة تدخل في الآتي :
أولاً في المطلوبات الشرعية من الواجبات والمندوبات .
وثانيًا : في المأذون فيه من المباحات والمكروهات .
وثالثًا ورابعًا : في المعاصي والمحرمات ، وذلك من وجهين . فهذه أربع قواعد كلية .
ويلحق بذرائع البدعة : مكملات البدعة المبنية عليها التابعة لها .
فتحصل مما سبق خمس قواعد كلية .
وإليك فيما يأتي بيان هذه القواعد :
القاعدة التاسعة عشر (19)
إذا فُعل ما هو مطلوب شرعًا على وجه يُوهم خلاف ما هو عليه في الحقيقة فهو ملحق بالبدعة .
توضيح القاعدة والأمثلة عليها :
هذه القاعدة خاصة بالمطلوبات الشرعية من الواجبات والمندوبات ، وتتضمن خمس صور :
1- أن يُوهم فُعل النافلة المطلقة أنها سنة راتبة ، وذلك مثل إقامة النافلة جماعة في المساجد (3) .
__________
(1) اقتضاء الصراط المستقيم (1/327) .
(2) المصدر السابق (1/327-328) .
(3) انظر الحوادث والبدع (66) ، والاعتصام (1/345 ، 346) .(7/91)
2- أن يُوهم فعلُ السنة أنها فريضة ، وذلك كالتزام قراءة سورتي السجدة والدهر في صلاة فجر كل يوم جمعة (1) .
3- أن يُوهم فعلُ العبادة الموسعة أنها مخصصة بزمان أو مكان أو صفة أو كيفية معينة .
وقد تقدم بيان هذه الصورة في القاعدة التاسعة .
ومما يقرب من هذه الصورة ويلحق بها الصورتان الآتيتان .
4- أن يلتصق بالعمل المشروع عمل زائد حتى يصير وصفًا لهذا العمل أو كالوصف له بحيث يوهم انضمامه إليه .
مثال ذلك : قول الرجل عند الذبح أو العتق : ( اللهم هذا منك وإليك ) وكقراءة القرآن في الطواف .
ويكون ذلك بأن يُفهم من الإتيان مع العمل المشروع بفعل من الأفعال العادية أو بعبادة أخرى مشروعة ؛ انضمامُ ذلك إلى العمل المشروع .
أما إن فَعَل المكلف العبادة المشروعة وأتى بغيرها معها من غير قصد الانضمام ، ولا جَعَله ذريعة للانضمام فصارت كل عبادة منفردة عن صاحبتها ، فلا حرج عليه حينئذ ، كالدعاء بهيئة الاجتماع لقحط أو خوف فهو جائز إذا لم يقع على وجه يُخاف منه مشروعية الانضمام ، ولا كونه سنة تقام في الجماعات ويعلن به في المساجد (2) .
5- كل اجتماع راتب ، يتكرر بتكرر الأسابيع أو الشهور أو الأعوام غير الاجتماعات المشروعة (3) .
قال ابن تيمية ( فإن ذلك يضاهي الاجتماع للصلوات الخمس ، وللجمعة ، وللعيدين ، وللحج ، وذلك هو المبتدع المحدث ) (4) .
__________
(1) انظر الباعث (54) .
(2) انظر الاعتصام (2/22-31) .
(3) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (2/630) ، والأمر بالإتباع (180) .
(4) اقتضاء الصراط المستقيم (2/630) .(7/92)
مثال ذلك ( السفر إلى بيت المقدس للتعريف فيه ، فإن هذا أيضًا ضلال بيِّن ؛ فإن زيارة بيت المقدس مستحبة ، مشروعة للصلاة فيها والاعتكاف ، وهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال ، لكن قصد إتيانه أيام الحج هو المكروه ؛ فإن ذلك تخصيص وقت معين بزيارة بيت المقدس ، ولا خصوص لزيارته في هذا الوقت على غيره ) (1) .
القاعدة العشرون (20)
إذا فُعل ما هو جائز شرعًا على وجه يُعتقد فيه أنه مطلوب شرعًا فهو ملحق بالبدعة (2) .
ومن الأمثلة على ذلك : زخرفة المساجد ؛ إذ كثير من الناس يعتقد أنها من قبيل ترفيع بيوت الله ، وكذلك تعليق الثريات الخطيرة الأثمان ، حتى يعد الإنفاق في ذلك إنفاقًا في سبيل الله (3) .
ومن الأمثلة على ذلك أيضًا : أن الناس كانوا إذا صلوا في الصحن من جامع البصرة ورفعوا من السجود مسحوا جباههم من التراب ، فأمر بعض الولاة بإلقاء الحصى في صحن المسجد ، وقال : لست آمن من أن يطول الزمان فيظن الصغير إذا نشأ أن مسح الجبهة من أثر السجود سنة في الصلاة (4) .
توضيح القاعدة :
هذه القاعدة خاصة بالمأذون فيه شرعًا من المباحات والمكروهات ، وذلك إذا فُعل على وجه يوهم أنه مطلوب شرعًا .
قال أبو شامة : ( فكل من فَعل أمرًا موهمًا أنه مشروع ، وليس كذلك ، فهو غال في دينه ، مبتدع فيه ، قائل على الله غير الحق بلسان مقاله أو لسان حاله ) (5) .
__________
(1) المصدر السابق (2/637) ، وانظر الحوادث والبدع (128) والباعث (32 ، 33) .
(2) انظر الاعتصام (1/346- 347 ، 2/109) .
(3) انظر المصدر السابق (2/82) . ولا يخفى أن التمثيل بزخرفة المساجد أو تعليق الثريات النفسية بها إنما يندرج تحت القاعدة على القول بأن حكم ذلك هو الكراهة دون التحريم .
(4) انظر الاعتصام (2/108) .
(5) الباعث (20 ، 21) .(7/93)
أما فعل المحرمات على وجه يوهم أنها ليست محرمات ، أو يوهم أنها مطلوبة شرعًا فهذا سيأتي بيانه في القاعدتين الآتيتين :
القاعدة الحادية والعشرون (21)
إذَا عمل بالمعصية العلماءُ الذي يُقتدى بهم على وجه الخصوص وظهرت من جهتهم حتى أن المنكر عليهم لا يُلتفت إليه ، بحيث يعتقد العامة أن هذه المعصية من الدين فهذا ملحق بالبدعة .
ذلك أن العوام يرجحون عمل العالم على قوله إنْ نصَّ هذا العالم على منعه ، لأن العالم المنتصب للفتيا مفت للناس بعمله كما هو مفت بقوله ، إذ يقول العوام لو كان ممنوعًا أو مكروهًا لامتنع منه العالم (1) .
والأمثلة على هذه القاعدة تنظر في القاعدة اللاحقة .
توضيح القاعدة :
هذه القاعدة والتي تليها خاصاتان بالمعاصي إذا فُعلت على وجه يُوهم أنها ليست معصية ، وكانت القاعدتين حصل الإيهام فيهما من قبل العلماء ؛ إما بفعلهم للمعصية ، كما في هذه القاعدة ، أو بسكوتهم عن إنكارها عندما تشيع وتنتشر بين الناس ، كما في القاعدة التالية .
قال الشاطبي : ( وأصل جميع ذلك : سكوت الخواص عن البيان ، والعمل به على الغفلة ، ومن هنا تستشنع زلة العالم ، فقد قالوا : ثلاث تهدم الدين : زلة العالم ، وجدال منافق بالقرآن ، وأئمة ضالون ) (2) .
وقد قيل : ( زلة العالِم زلة العالَم ) (3) .
القاعدة الثانية والعشرون (22)
إذا عَمل بالمعصية العوامُّ وشاعت فيهم وظهرت ، ولم ينكرها العلماءُ الذين يُقتدى بهم وهو قادرون على الإنكار ، بحيث يعتقد العامةُ أن هذه المعصية مما لا بأس به فهذا ملحق بالبدعة .
__________
(1) انظر الاعتصام (2/99 – 102) .
(2) المصدر السابق (2/101) . والأثر أخرجه الدارمي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سننه (1/71) ، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/979 ، 980) برقم 1867 – 1870 .
(3) انظر مجموع الفتاوى (20/274) .(7/94)
وذلك بخلاف ما إذا أُنكر عليهم فإن العامي يعتقد - والحالة كذلك - أن هذا الفعل عيب ، أو أنه غير مشروع ، والعالم قائم مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - في الناس (1) .
قال الشاطبي : ( فإذن عدم الإنكار ممن شأنه الإنكار مع ظهور العمل وانتشاره وعدم خوف المنكرِ ووجود القدرة عليه فلم يفعل ؛ دلَّ عند العوام على أنه فعلٌ جائز ، لا حرج فيه ، فنشأ فيه هذا الاعتقاد الفاسد بتأويل يُقنع بمثله من العوام ، فصارت ، المخالفة بدعة ) (2) .
ومن الأمثلة على ذلك :
المنكرات الظاهرة المتفشية ، كالتعامل بالربا ، واقتناء ما يحرم من وسائل الإعلام .
ومن ذلك أيضًا ما ذكره الشاطبي حين قال : ( ولقد بلغني في هذا الزمان عن بعض من هو حديث عهد بالإسلام أنه قال في الخمر : ليست بحرام ، ولا عيب فيها ، وإنما العيب أن يفعل بها ما لا يصلح كالقتل وشبهه .
وهذا الاعتقاد لو كان ممن نشأ في الإسلام كان كفرًا ؛ لأنه إنكار لما عُلم من دين الأمة ضرورة .
وسبب ذلك : ترك الإنكار من الولاة على شاربها ، والتخلية بينهم وبين اقتنائها ، وشهرته بحارة أهل الذمة فيها وأشباه ذلك ) (3) .
والقدر الجامع لهذه القواعد الأربع :
أن لكل حكم شرعي خاصية ، والواجب ألا يسوَّى بين هذه الأحكام الشرعية ، لا في القول ولا في الفعل ولا في الاعتقاد .
فينبغي ألا يسوَّى بين الواجبات الموسَّعة وبين الواجبات المكررة المعتادة .
وألا يسوَّى في الفعل بين المندوبات والواجبات ، ولا بين المندوبات وبين بعض المباحات في الترك المطلق من غير بيان .
وألا يسوَّى أيضًا بين المباحات وبين المندوبات أو المكروهات .
وألا يسوَّى أيضًا بين المكروهات وبين المحرمات أو بين المكروهات وبين المباحات .
وألا يسوَّى أيضًا بين المحرمات وبين غيرها مما ليس محرمًا .
__________
(1) انظر الاعتصام (2/102) .
(2) المصدر السابق .
(3) المصدر السابق (2/108) .(7/95)
قال الشاطبي : ( لا ينبغي لمن التزم عبادة من العبادات البدنية الندبية أن يواظب عليها مواظبة يفهم الجاهل منها الوجوب إذا كان منظورًا إليه مرموقًا ، أو مظنة لذلك ؛ بل الذي ينبغي له أن يدعها بعض الأوقات حتى يُعلم أنها غير واجبة .
لأن خاصية الواجب المكرَّر الالتزام والدوام عليه في أوقاته ، بحيث لا يتخلف عنه .
كما أن خاصية المندوب عدم الالتزام ، فإذا التزمه فَهِم الناظرُ منه نفس الخاصية التي للواجب ؛ فحمله على الوجوب ، ثم استمرَّ على ذلك فضلَّ .
وكذلك إذا كانت العبادة تتأتّى على كيفيات يُفهم من بعضها في تلك العبادة ما لا يُفهم منها على الكيفية الأخرى .
أو ضُمَّت عبادة أو غير عبادة إلى العبادة قد يفهم بسبب الاقتران ما لا يُفهم دونه .
أو كان المباح يتأتَّى فعله على وجوه فيثابر فيه على وجه واحد تحريًا له ويترك ما سواه .
أو يترك بعض المباحات جملة من غير سبب ظاهر ، بحيث يُفهم عنه في الترك أنه مشروع .
ولذلك لما قرأ عمر بن الخطاب السجدة على المنبر ثم سجد وسجد معه الناس قرأها في كرة أخرى فلما قرب من موضعها تهيأ الناس للسجود فلم يسجدها ، وقال : إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء ) (1) .
ثم ذكر رحمه الله الضابط لذلك فقال :
( وهذا كله إنما هو فيما فُعل بحضرة الناس ، وحيث يمكن الإقتداء بالفاعل ، وأما من فعله في نفسه وحيث لا يطلع عليه مع اعتقاده على ما هو به فلا بأس ) (2) .
ومما يلحق بذرائع البدعة :
كل عمل اشتبه أمره فلم يتبين : أهو بدعة فيُنهى عنه أم غير بدعة فيُعمل به ؟ فالأحوط تركه سدًا لذريعة الوقوع في البدعة (3) .
القاعدة الثالثة والعشرون (23)
__________
(1) الموافقات (3/332 ، 333) .
(2) الموافقات (3/333) .
(3) انظر الباعث (66) ، والاعتصام (2/6 ، 7) .(7/96)
كل ما يترتب على فعل البدع المحدثة في الدين من الإتيان ببعض الأمور التعبدية أو العادية فهو ملحق بالبدعة ؛ لأن ما انبنى على المحدث محدث (1) .
ومن الأمثلة على ذلك :
ما يُفعل في ليلة النصف من شعبان ، من زيادة الوقيد على المعتاد ، وما يترتب على ذلك من شغب في المساجد ، والأكل من الحلوى وغيرها ، والتوسعة فيها بالإنفاق ، كل ذلك بدعة تابع لأصله (2) .
ومن الأمثلة على ذلك أيضًا : ما يحصل في الأعياد والاحتفالات المبتدعة من التوسع في الطعام واللباس واللعب والراحة ، فكل ذلك تابع لذلك العيد الديني المبتدع ، كما أنه تابع له في دين الإسلام (3) .
قال ابن تيمية : ( وكذلك حريم العيد ، وهو ما قبله وما بعده من الأيام التي يحدثون فيها أشياء لأجله ، أو ما حوله من الأمكنة التي يحدث فيها أشياء لأجله ، أو ما يحدث بسبب أعماله من الأعمال ؛ حكمها حكمه ، فلا يُفعل شيء من ذلك .
فإن بعض الناس قد يمتنع من إحداث أشياء في أيام عيدهم ، كيوم الخميس والميلاد ، ويقول لعياله : ( أنا أصنع لكم هذا في الأسبوع أو الشهر الآخر ) وإنما المحرِّك على إحداث ذلك وجود عيدهم ولولا هو لم يقتضوا ذلك ، فهذا أيضًا من مقتضيات المشابهة .
لكن يحال الأهل على عيد الله ورسوله ، ويقُضى لهم فيه من الحقوق ما يقطع استشرافهم إلى غيره ، فإن لم يرضوا فلا حول ولا قوة إلا بالله ، ومن أغضب أهله لله أرضاه الله وأرضاهم (4) .
توضيح القاعدة :
هذه القاعدة خاصة بالأمور المترتبة على فعل البدعة ، الناتجة عن وجودها ، فإن هذه الأمور ملحقة بذرائع البدعة من جهة التكميل .
__________
(1) انظر الاعتصام (2/19) .
(2) انظر مساجلة علمية بين الإمامين (41 ، 47 ، 52 ، 54) ، والباعث (96 ) .
(3) انظر اقتضاء الصراط المستقيم (1/472) .
(4) المصدر السابق (2/512) .(7/97)
ذلك أن الشارع إذا شرع حكمًا ألحق به لوازمه ومكملاته ، وهي إما أن تكون ممهِّدة لهذا الحكم ، وهي الوسائل التي يتوقف وجود الحكم عليها من أسباب وشروط ، فهذه هي الذرائع .
وإما أن تكون ملحقة به ، وهي توابعه ومكملاته التابعة له المتفرعة عنه (1) .
ومن المفاسد المترتبة على عدم اعتبار توابع البدعة :
أن في فعل هذه المكملات تقوية لشعار أهل البدع ، وإظهارًا للمنكر وإعانة عليه (2) .
* * *
الخاتمة
وتتضمن :
1- عرضٌ مجمل لقواعد معرفة البدع .
2- مجالات البدعة .
1- عرضٌ مجمل لقواعد معرفة البدع
1- كل عبادة تستند إلى حديث مكذوب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي بدعة .
2- كل عبادة تستند إلى الرأي المجرد والهوى فهي بدعة ؛ كقول بعض العلماء أو العُبَّاد أو عادات بعض البلاد أو بعض الحكايات والمنامات .
3- إذا تَرَكَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعل عبادة من العبادات مع كون موجبها وسببها المقتضي لها قائمًا ثابتًا ، والمانع منها منتفيًا ؛ فإن فعلها بدعة .
4- كل عبادة من العبادات ترك فعلها السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم أو نقلها أو تدوينها في كتبهم أو التعرض لها في مجالسهم فإنها تكون بدعة بشرط أن يكون المقتضي لفعل هذه العبادة قائمًا والمانع منه منتفيًا .
5- كل عبادة مخالفة لقواعد هذه الشريعة ومقاصدها فهي بدعة .
6- كل تقرب إلى الله بفعل شيء من العادات أو المعاملات من وجه لم يعتبره الشارع فهو بدعة .
7- كل تقرب إلى الله بفعل ما نهى عنه سبحانه فهو بدعة .
8 - كل عبادة وردت في الشرع على صفة مقيَّدة ، فتغيير هذه الصفة بدعة .
__________
(1) انظر القواعد والأصول الجامعة (10-17) .
(2) انظر الباعث (39) .(7/98)
9 - كل عبادة مطلقة ثبتت في الشرع بدليل عام ؛ فإن تقييد إطلاق هذه العبادة بزمان أو مكان معين أو نحوهما بحيث يوهم هذا التقييد أنه مقصود شرعًا من غير أن يدلَّ الدليل العام على هذا التقييد فهو بدعة .
10- الغلو في العبادة بالزيادة فيها على القدر المشروع والتشدد والتنطع في الإتيان بها بدعة .
11- كل ما كان من الاعتقادات والآراء والعلوم معارضًا لنصوص الكتاب والسنة ، أو مخالفًا لإجماع سلف الأمة فهو بدعة .
12- ما لم يرد في الكتاب والسنة ولم يؤثر عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين من الاعتقادات فهو بدعة .
13- الخصومة والجدال والمراء في الدين بدعة .
14- إلزام الناس بفعل شيء من العادات والمعاملات ، وجعل ذلك كالشرع الذي لا يُخالف ، والدين الذي لا يُعارض بدعة .
15- الخروج على الأوضاع الدينية الثابتة ، وتغيير الحدود الشرعية المقدَّرة بدعة .
16- مشابهة الكافرين فيما كان من خصائصهم من عبادة أو عادة أو كليهما بدعة .
17 - مشابهة الكافرين فيما أحدثوه مما ليس في دينهم من العبادات أو العادات أو كليهما بدعة .
18- الإتيان بشيء من أعمال الجاهلية ، التي لم تشرع في الإسلام بدعة .
19- إذا فُعل ما هو مطلوب شرعًا على وجه يُوهم خلاف ما هو عليه في الحقيقة فهو ملحق بالبدعة .
20- إذا فُعل ما هو جائز شرعًا على وجه يُعتقد فيه أنه مطلوب شرعًا فهو ملحق بالبدعة .
21- إذا عَمل بالمعصية العلماءُ الذين يُقتدى بهم على وجه الخصوص وظهرت من جهتهم حتى أن المنكر عليهم لا يُلتفت إليه ، بحيث يعتقد العامة أن هذه المعصية من الدين فهذا ملحق بالبدعة .
22- إذا عَمل بالمعصية العوامُّ وشاعت فيهم وظهرت ، ولم ينكرها العلماءُ الذين يُقتدى بهم وهم قادرون على الإنكار ، بحيث يعتقد العامةُ أن هذه المعصية مما لا بأس به فهذا ملحق بالبدعة .(7/99)
23- كل ما يترتب على فعل البدع المحدثة في الدين من الإتيان ببعض الأمور التعبدية أو العادية فهو ملحق بالبدعة ؛ لأن ما انبنى على المحدث محدث .
* * *
2- مجالات البدعة
بتأمل قواعد معرفة البدع وتدقيق النظر فيها يظهر جليًا أن الابتداع يدخل في أقسام متعددة ، وإليك فيما يأتي بيان هذه الأقسام وما يندرج من هذه القواعد تحت كل قسم :
1- الاعتقادات .
( القاعدة رقم 11 ، 12 ، 13 )
2- العبادات والقربات .
( القاعدة من رقم 1 إلى 10 ، 19 )
3- العادات والمعاملات .
( القاعدة رقم 6 ، 14 ، 15 ، 20 ، 23 )
4- المعاصي والمنهيات .
( القاعدة رقم 7 ، 21 ، 22 ) ، وانظر أيضًا :
5 - مشابهة الكافرين .
( القاعدة رقم 16 ، 17 ، 18 )
هذا آخر ما يسَّر الله بيانه ، وصلى الله وسلَّم على سيدنا ونبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
ثبت المصادر والمراجع
* الإبانة الكبرى لابن بطة تحقيق د . رضا معطي ط 1 دار الراية الرياض 1409 هـ .
* الإبداع في كمال الشرع وخطر الابتداع للشيخ محمد بن صالح العثيمين ط 2 دار الوطن الرياض 1411 هـ .
* الإبداع في مضار الابتداع للشيخ علي محفوظ دار المعرفة بيروت .
* أحكام الجنائز وبدعها للألباني ط 1 المكتب الإسلامي بيروت 1388 هـ .
* الاستقامة لابن تيمية تحقيق د . محمد رشاد سالم ط 2 توزيع مكتبة السنة القاهرة 1409 هـ .
* الاعتصام للشاطبي دار المعرفة بيروت 1405 هـ .
* إعلام الموقعين لابن القيم تعليق طه سعد دار الجيل بيروت 1973 م .
* إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان لابن القيم تحقيق محمد حامد الفقي دار المعرفة بيروت .
* اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية تحقيق د . ناصر العقل ط 1 1404 هـ .(7/100)
* الأمر بالإتباع والنهي عن الابتداع للسيوطي تحقيق مشهور حسن سلمان ط دار ابن القيم الدمام 1410 هـ .
* البداية والنهاية لابن كثير تحقيق د . أحمد أبي ملحم وجماعة ط 1 ، دار الكتب العلمية بيروت 1405 هـ .
* البدعة أسبابها ومضارها للشيخ محمود شلتوت ظبط علي حسن ط 2 ، دار ابن الجوزي ، الدمام 1413 هـ .
* البدع والنهي عنها لابن وضاح القرطبي ط 1 ، دار الصفا القاهرة 1411 هـ .
* الباعث على إنكار البدع والحوادث لأبي شامة المقدسي تعليق عثمان عنبر ط 1 ، دار الهدى القاهرة 1398 هـ ,
* الترغيب عن صلاة الرغائب الموضوعة = مساجلة علمية .
* تلبيس إبليس لابن الجوزي ط 2 ، المنيرية 1368 هـ ، الناشر دار الكتب العلمية بيروت .
* التمسك بالسنن والتحذير من البدع للذهبي تحقيق د . محمد باكريم نُشر في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ص (53 – 153) العددان 103 – 104 سنة 1416 – 1417 هـ .
* تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة للكناني . تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف وعبد الله الصديق ط 2 ، دار الكتب العلمية بيروت 1401 هـ .
* جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري دار الفكر بيروت 1405 هـ .
* جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر تحقيق الزهيري ط 1 ، دار ابن الجوزي الدمام 1414 هـ .
* جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي تحقيق شعيب الأرناؤط وإبراهيم باجس ط 2 ، مؤسسة الرسالة 1412 هـ .
* جماع العلم للشافعي تحقيق أحمد شاكر مكتبة ابن تيمية .
* الجواب الكافي لابن القيم دار الكتب العلمية بيروت .
* الحجة في بيان المحجة لقوام السنة الأصبهاني التيمي تحقيق د . محمد ربيع ، ومحمد أبو رحيم ط 1 ، دار الراية الرياض 1411 هـ .
* حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصبهاني دار الكتب العلمية بيروت .(7/101)
* الحوادث والبدع للطرطوشي ضبط علي حسن ط 1 ، دار ابن الجوزي الدمام 1411 هـ .
* درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية تحقيق د . محمد رشاد سالم ط 1 ، جامعة الإمام بالرياض 1399 هـ .
* الدر المنثور للسيوطي دار المعرفة بيروت .
* زاد المعاد لابن القيم تحقيق شعيب وعبد القادر الأرناؤوط ط 3 ، مؤسسة الرسالة 1402 هـ .
* سنن الترمذي تحقيق الشيخ أحمد شاكر ومن معه ، دار إحياء التراث العربي .
* سنن الدارمي عناية محمد دهمان دار إحياء السنة النبوية دار الكتب العلمية .
* سنن أبي داود تعليق محمد محيي الدين عبد الحميد دار الكتب العلمية .
* سنن ابن ماجة تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي .
* سنن النسائي المكتبة العلمية بيروت
* السنن الكبرى للبيهقي ط 1 ، صورة عن طبعة حيدر أباد بالهند 1347 هـ .
* السنة لابن أبي عاصم تخريج الألباني ط 3 ، المكتب الإسلامي 1413 هـ .
* السنة للالكائي = شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة تحقيق د . أحمد سعد الغامدي ط 3 ، دار طيبة 1415 هـ .
* شرح السنة للبربهاري تحقيق د . محمد سعيد القحطاني ط 1 ، دار ابن القيم الدمام 1408 هـ .
* شرح السنة للبغوي تحقيق الأرناؤوط ، ومحمد الشاويش ط 1 ، المكتب الإسلامي 1390 هـ .
* شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي عبد العز الحنفي تخريج الألباني ط 5 ، المكتب الإسلامي بيروت 1399 هـ .
* شرح الكوكب المنير للفتوحي تحقيق د . محمد الزحيلي ونزيه حماد . مركز البحث العلمي بجامعة أم القرى بمكة المكرمة .
* شرح لمعة الاعتقاد للشيخ محمد العثيمين ط 3 ، مكتبة المعارف الرياض 1405 هـ .
* الشرح والإبانة لابن بطة تحقيق رضا المعطي ط 1 ، المكتبة الفيصلية مكة المكرمة 1404 هـ .
* الشريعة للآجري تحقيق محمد الفقي ط 1 ، دار الكتب العلمية بيروت 1403 هـ .(7/102)
* صحيح البخاري المطبوع مع فتح الباري بترقيم محمد فؤاد عبد الباقي دار المعرفة بيروت .
* صحيح مسلم المطبوع مع شرح النووي ط 2 ، دار إحياء التراث العربي بيروت 1392 هـ .
* صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام للسيوطي تعليق سامي النشار دار الكتب العلمية .
* ظلال الجنة في تخريج السنة للألباني المطبوع مع السنة لابن أبي عاصم .
* عقيدة الحافظ عبد الغني المقدسي تحقيق عبد الله البصيري ط 1 ، نشر إدارة الإفتاء بالرياض 1411 هـ .
* العين والأثر في عقائد أهل الأثر للعلامة عبد الباقي المواهبي الحنبلي تحقيق عصام قلعجي ط 1 ، دار المأمون دمشق 1407 هـ .
* فتاوي السبكي دار المعرفة بيروت توزيع دار الباز مكة المكرمة .
* فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر دار المعرفة بيروت .
* الفروق للقرافي دار المعرفة بيروت .
* فضل علم السلف على علم الخلف لابن رجب الحنبلي تحقيق يحيى غزاوي ط 1 ، دار البشائر 1403 هـ .
* الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي ط 2 ، دار الكتب العلمية بيروت 1400 هـ .
* القواعد والأصول الجامعة والفروق والتقاسيم البديعة النافعة لابن سعدي مكتبة المعارف الرياض 1406 هـ .
* مجموع الفتاوي لابن تيمية جمع وترتيب الشيخ عبد الرحمن بن قاسم وابنه مكتبة النهضة مكة المكرمة 1404 هـ .
* مختار الصحاح للرازي تحقيق حمزة فتح الله دار البصائر بيروت 1405 هـ .
* مدارج السالكين لابن القيم ط 1 ، دار الحديث القاهرة 1403 هـ .
* مذكرة الشنقيطي في أصول الفقه المكتبة السلفية بالمدينة المنورة .
* مساجلة علمية بين الإمامين الجليلين العز بن عبد السلام ، وابن الصلاح حول صلاة الغائب المبتدعة تحقيق الألباني ومحمد زهير الشويش ط 2 ، المكتب الإسلامي 1405 هـ .
* المسند للإمام أحمد دار صادر بيروت .(7/103)
* معارج القبول بشرح سلم الوصول للشيخ حافظ الحكمي ط 3 ، المطبعة السلفية القاهرة 1404 هـ .
* المصباح المنير للفيومي المكتبة العلمية بيروت .
* المفردات للراغب الأصفهاني تحقيق صفوان داوودي ط 1 ، دار القلم دمشق 1412 هـ .
* المنار المنيف لابن القيم تحقيق عبد الفتاح أبي غدة ط 1 ، المطبوعات الإسلامية حلب 1390 هـ .
* مناقب الشافعي للفخر الرازي تحقيق د . أحمد حجازي السقا ط 1 ، مكتبة الكليات الأزهرية القاهرة 1406 هـ .
* المنثور في القواعد للزركشي تحقيق د . تيسير فائق مصورة عن الطبعة الأولى 1402 هـ .
* الموافقات للشاطبي تعليق الشيخ عبد الله دراز ط 2 ، المكتبة التجارية الكبرى مصر 1395 هـ .
* النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير تحقيق محمود الطناحي وطاهر الزواوي أنصار السنة المحمدية باكستان .
* * *
فهرس الموضوعات
الموضوع
الصفحة
مقدمة .......................................................
2
المدخل الأول في حد البدعة
8
معنى البدعة في اللغة ..................................................
9
معنى البدعة في الشرع .......... .................................
10
موازنة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي ...............................
13
العلاقة بين الابتداع والإحداث ....................................
14
العلاقة بين البدعة والسنة .............................................
15
العلاقة بين البدعة والمعصية ...........................................
16
العلاقة بين البدعة والمصلحة المرسلة ...................................
19
خصائص البدعة .....................................................
20
ذكر أمور لا تشترط في البدع .........................................
21(7/104)
المدخل الثاني في الأصول الجامعة للابتداع
24
توطئة في بيان وجه الحصر في هذه الأصول الثلاثة .......................
25
الأصل الأول : التقرب إلى الله بما لم يشرع .............................
26
الأصل الثاني : الخروج على نظام الدين ................................
28
الأصل الثالث الذرائع المفضية إلى البدعة ................................
30
شروط اعتبار الفعل ذريعة إلى البدعة ...................................
31
مثال تطبيقي لهذه الشروط ............................................
33
أمثلة على تطبيق السلف لقاعدة سد الذرائع في باب البدعة ..............
34
بعض المفاسد المترتبة على إهمال العمل بقاعدة سد الذرائع في باب البدعة .
35
قواعد معرفة البدع
37
المنهج المتبع في ترتيب هذه القواعد وصياغتها ...................
38
الأصل الأول : التقرب إلى الله بما لم يشرع
40
وجه انحصار هذا الأصل في عشر قواعد ...............................
40
( القاعدة الأولى ) العبادة المستندة إلى حديث مكذوب ...............
40
( القاعدة الثانية ) العبادة المستندة إلى الهوى والرأي المجرد .............
41
تنبيهات حول التقليد والإلهام والرؤيا ..................................
44
( القاعدة الثالثة ) العبادة المخالفة للسنة التركية ......................
46
حالات ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل أمر من الأمور ...............................
47
شروط العمل بترك النبي - صلى الله عليه وسلم - ...........................................
47
( القاعدة الرابعة ) العبادة المخالفة لعمل السلف .....................
49
الأسئلة الواردة على القاعدتين السابقتين والجواب عليها .................
51(7/105)
( القاعدة الخامسة ) العبادة المخالفة لقواعد الشريعة ..................
64
( القاعدة السادسة ) التقرب إلى الله بالعادات والمعاملات .............
67
( القاعدة السابعة ) التقرب إلى الله بالمعاصي .........................
68
مثالٌ لما اجتمعت فيه أصول الابتداع الثلاثة .............................
68
( القاعدة الثامنة ) إطلاق العبادة المقيدة .............................
70
( القاعدة التاسعة ) تقييد العبادة المطلقة .............................
71
شروط جواز تخصيص العبادة المطلقة ...................................
74
( القاعدة العاشرة ) الغلو في العبادة .................................
76
الأصل الثاني : الخروج على نظام الدين .
78
وجه انحصار هذا الأصل في ثمان قواعد .................................
78
( القاعدة الحادية عشر ) ما لم يرد في الوحي ولم يؤثر عن الصحابة والتابعين من اعتقادات ................................................
78
( القاعدة الثانية عشر ) ما كان من الاعتقادات والآراء معارضًا لنصوص الوحي ......................................................
83
بيان أهمية هذه القاعدة في إبطال البدع والرد على أهلها .................
86
( القاعدة الثالثة عشر ) الخصومة والجدال في الدين ..................
87
( القاعدة الرابعة عشر ) الإلزام بشيء من العادات والمعاملات .....................................................................
14
( القاعدة الخامسة عشر ) الخروج على الأوضاع الشرعية الثابتة ......................................................................
93
( القاعدة السادسة عشر ) مشابهة الكافرين في خصائصهم ...........
95
( القاعدة السابعة عشر ) مشابهة الكافرين في محدثاتهم ...............
97(7/106)
ذكر بعض المفاسد المترتبة على مشابهة الكافرين عمومًا وعلى مشابهتهم في أعيادهم خصوصًا ....................................................
97
( القاعدة الثامنة عشر ) الإتيان بشيء من أعمال الجاهلية .............
100
الأصل الثالث : الذرائع المفضية إلى البدعة
102
وجه انحصار هذا الأصل في خمس قواعد ................................
102
( القاعدة التاسعة عشر ) فعل المطلوبات الشرعية ....................
102
( القاعدة العشرون ) فعل المأذون فيه شرعًا ..........................
104
القاعدة الحادية والعشرون ) فعل المعصية من جهة العلماء ............
105
( القاعدة الثانية والعشرون ) فعل المعصية من جهة العامة مع سكوت العلماء ...............................................................
106
القدر الجامع للقواعد الأربع السابقة ....................................
107
(القاعدة الثالثة والعشرون ) ما أنبنى على المحدث فهو محدث ......................................................................
108
الخاتمة
111
عرضٌ مجمل لقواعد معرفة البدع ...................................
112
مجالات البدعة ........................................................
114
ثبت المصادر والمراجع ............................................
115
فهرس الموضوعات ...............................................
120
* * *(7/107)
الخطأ : "لا إنكار في مسائل الخلاف"
الصواب : "لا إنكار في مسائل الاجتهاد"
إعداد
سليمان بن صالح الخراشي
1424هـ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:
كثيرًا ما نسمع أو نقرأ عند الاختلاف في المسائل الشرعية قول بعضهم: "لا إنكار في مسائل الخلاف"؛ يريد بذلك أن كل مسألة وُجد فيها خلاف بين العلماء فإنه لا يحق لأحد أن ينكر على من خالفه فيها أو يحمله على رأيه.
وقد بين العلماء المحققون أن هذه المقولة: "لا إنكار في مسائل الخلاف" غير سليمة، وأن مسائل الخلاف تنقسم قسمين:
المسائل الخلافية التي ثبت فيها نص أو نصوص من الكتاب والسنة تدل على صحة أحد الأقوال، فالواجب حينئذٍ اتباع النص والإنكار على المخالف. مع عذر من أخطأ فيها من المجتهدين .
المسائل الخلافية التي لم يثبت فيها نص، فهذه تسمى "المسائل الاجتهادية"؛ لأن كل واحد من العلماء المختلفين قد عمل أو أفتى بما أداه إليه اجتهاده، وهذه المسائل لا إنكار فيها، ولا ينبغي لواحد من المختلفين أن يحمل الآخر على قوله؛ لأن كل واحد منهم لم يخالف نصًا، بل خالف اجتهاد مجتهد.
أقوال العلماء المحققين:
1-قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-:
"وقولهم مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل. أمّا الأول فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعاً قديماً وجب إنكاره وفاقاً. وإن لم يكن كذلك فإنه يُنكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول المصيب واحد وهم عامة السلف والفقهاء.
وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره أيضاً بحسب درجات الإنكار.
أما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم ينكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً.(8/1)
وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس. والصواب الذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ إذا عدم ذلك فيها الاجتهاد لتعارض الأدلة المتقاربة أو لخفاء الأدلة فيها"(1).
2-وقال ابن القيم –رحمه الله-: "وقولهم "إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها" ليس بصحيح؛ فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى أو العمل، أما الأول فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعاً شائعاً وجب إنكاره اتفاقاً، وإن لم يكن كذلك فإن بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله، وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار، وكيف يقول فقيه لا إنكار في المسائل المختلف فيها والفقهاء من سائر الطوائف قد صرحوا بنقض حكم الحاكم إذا خالف كتاباً أو سنة وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء؟ وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مَسَاغ لم تنكر على مَنْ عمل بها مجتهداً أو مقلداً.
وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم.
__________
(1) ... بيان الدليل على بطلان التحليل (ص 210-211) باختصار .(8/2)
والصواب ما عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ فيها –إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به- الاجتهاد لتعارض الأدلة أو لخفاء الأدلة فيها، وليس في قول العالم "إن هذه المسألة قطعية أو يقينية، ولا يسوغ فيها الاجتهاد" طَعْنٌ على من خالفها، ولا نسبة له إلى تعمد خلاف الصواب، والمسائل التي اختلف فيها السلف والخلف وقد تيقنا صحة أحد القولين فيها كثير، مثل كون الحامل تعتد بوضع الحمل، وأن إصابة الزوج الثاني شرط في حلها للأول، وأن الغسل يجب بمجرد الإيلاج وإن لم ينزل، وأن ربا الفضل حرام، وأن المتعة حرام، وأن النبيذ المسكر حرام، وأن المسلم لا يُقتل بكافر، وأن المسح على الخفين جائز حضراً وسفرا، وأن السنة في الركوع وضع اليدين على الركبتين دون التطبيق، وأن رفع اليدين عند الركوع والرفع منه سنة، وأن الشفعة ثابتة في الأرض والعقار، وأن الوقف صحيح لازم، وأن دية الأصابع سواء، وأن يد السارق تقطع في ثلاثة دراهم، وأن الخاتم من حديد يجوز أن يكون صَدَاقاً، وأن التيمم إلى الكوعين بضربة واحدة جائز، وأن صيام الولي عن الميت يجزئ عنه، وأن الحاج يلبي حتى يرمي جمرة العقبة، وأن المحرم له استدامة الطيب دون ابتدائه، وأن السنة أن يسلم في الصلاة عن يمينه وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، وأن خيار المجلس ثابت في البيع، وأن المصَرْاة يرد معها عوض اللبن صاعاً من تمر، وأن صلاة الكسوف بركوعين في كل ركعة، وأن القضاء جائز بشاهد وبمين، إلى أضعاف ذلك من المسائل، ولهذا صرح الأئمة بنقض حكم مَنْ حكم بخلاف كثير من هذه المسائل، من غير طعن منهم على من قال بها.(8/3)
وعلى كل حال فلا عذر عند الله يوم القيامة لمن بلغه ما في المسألة من هذا الباب وغيره من الأحاديث والآثار التي لا معارض لها إذا نَبَذَها وراء ظهره"(1)
3-وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: "فإن أراد القائل مسائل الخلاف فهذا باطل يخالف إجماع الأمة، فما زال الصحابة ومن بعدهم ينكرون على من خالف وأخطأ كائناً من كان ولو كان أعلم الناس وأتقاهم، وإذا كان الله بعث محمداً بالهدى ودين الحق، وأمرنا باتباعه، وترك ما خالفه؛ فمن تمام ذلك أن من خالفه من العلماء مخطئ ينبه على خطئه وينكر عليه، وإن أريد بمسائل الاجتهاد: مسائل الخلاف التي لم يتبين فيها الصواب فهذا كلام صحيح، ولا يجوز للإنسان أن ينكر الشيء لكونه مخالفاً لمذهبه أو لعادة الناس، فكما لا يجوز للإنسان أن يأمر إلا بعلم لا يجوز أن ينكر إلا بعلم وهذا كله داخل في قوله (ولا تقف ما ليس لك به علم) (2).
4-وقال الشوكاني:
"هذه المقالة –أي لا إنكار في مسائل الخلاف- قد صارت أعظم ذريعة إلى سدّ باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهما بالمثابة التي عرفناك، والمنزلة التي بيّناها لك، وقد وجب بإيجاب الله عز وجل، وبإيجاب رسوله صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة، الأمر بما هو معروف من معروفات الشرع، والنهي عما هو منكر من منكراته: ومعيار ذلك الكتاب والسنة، فعلى كل مسلم أن يأمر بما وجده فيهما أو في أحدهما معروفاً، وينهى عما هو فيهما أو في أحدهما منكراً.
وإن قال قائل من أهل العلم بما يخالف ذلك، فقوله منكر يجب إنكاره عليه أولاً، ثم على العامل به ثانياً.
وهذه الشريعة الشريفة التي أُمِرْنا بالأمر بمعروفها، والنهي عن منكرها، هي هذه الموجودة في الكتاب والسنة"(3).
__________
(1) ... إعلام الموقعين (3/ 300-301)
(2) ... الدرر السنية (4/8).
(3) ... السيل الجرّار المتدفق على حدائق الأزهار (4/588).(8/4)
5-وقال الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- ردًا على من قال: "المسائل الخلافية لا إنكار فيها"؟: "لو أننا قلنا المسائل الخلافية لا ينكر فيها على الإطلاق، ذهب الدين كله حين تتبع الرخص؛ لأنك لا تكاد تجد مسألة إلا وفيها خلاف بين الناس. نضرب مثلاً: هذا رجلٌ مسَّ امرأة لشهوة، وأكل لحم إبل، ثم قام ليصلي، فقال: أنا أتبع الإمام أحمد في أن مسَّ المرأة لا ينقض الوضوء، وأتبع الشافعي في أن لحم الإبل لا ينقض الوضوء، وسأصلي على هذه الحال، فهل صلاته الآن صحيحة على المذهبين؟ هي غير صحيحة؛ لأنها إن لم تبطل على مذهب الإمام أحمد بن حنبل بطلت على مذهب الشافعي، وإن لم تبطل على مذهب الإمام الشافعي، بطلت على مذهب الإمام أحمد، فيضيع دين الإنسان.
المسائل الخلافية تنقسم إلى قسمين؛ قسم: مسائل اجتهادية يسوغ فيها الخلاف؛ بمعنى أن الخلاف ثابت حقاً وله حكم النظر، فهذا لا إنكار فيه على المجتهد، أما عامة الناس، فإنهم يلزمون بما عليه علماء بلدهم، لئلا ينفلت العامة؛ لأننا لو قلنا للعامي: أي قول يمرُّ عليك لك أن تأخذ به، لم تكن الأمة أمة واحدة، ولهذا قال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي –رحمه الله-: "العوام على مذهب علمائهم".
القسم الثاني من قسمي الخلاف: لا مساغ له ولا محل للاجتهاد فيه فينكر على المخالف فيه لأنه لا عذر له"(1).
مسائل "خلافية" يُنكر فيها على المخالف؛ لثبوت النص:
هذه بعض المسائل التي ذكرها العلماء المحققون أنموذجاً للمسائل الخلافية التي يُنكر فيها على المخالف؛ لثبوت النص(2):
__________
(1) ... لقاء الباب المفتوح (49/192-193). بإختصار، وسيأتي بتمامه –إن شاء الله-.
(2) ... وقد سبق كثير منها في كلام ابن القيم –رحمه الله-.(8/5)
1- تحريم نكاح التحليل. ومن ذهب إلى جواز هذا النكاح فإنه ينكر عليه؛ لثبوت الأحاديث الصحيحة القاضية بتحريم هذا النكاح(1)، ولا يحل للمخالف أن يقول بأن هذه مسألة خلافية بين العلماء فيجوز لي أن اختار أحد القولين. أما من خالف من العلماء فإنه معذور ولا يُظن به أنه تعمد مخالفة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم(2).
2- مشروعية رفع اليدين عن الركوع وعند الرفع منه؛ لثبوت الأحاديث الصحيحة بذلك، ولا يجوز لأحد مخالفتها بدعوى أنها مسألة خلافية(3).
تعيين التكبير للدخول في الصلاة(4).
تعيين التسليم للتحلل من الصلاة(5).
إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة(6).
كشف وجه المرأة : هل هو من المسائل "الخلافية" أم "الاجتهادية" ؟!
هذه المسألة هي أكثر المسائل المطروقة في هذا الباب: وهي تقريباً أول مسألة تعرض للقارئ.
فالبعض قد يعدها من قبيل "المسائل الخلافية" التي ينكر فيها على المخالف لثبوت النص بوجوب تغطية المرأة لوجهها أمام الأجانب(7)، وأيضاً فقد ثبت فيها الإجماع العلمي لدى المسلمين. قال الحافظ ابن حجر: "لم تزل عادة النساء قديمًا وحديثاً يسترن وجوههن عن الأجانب"(8) . ونقل ابن رسلان: "اتفاق المسلمين على منع النساء أن يخرجن سافرات الوجوه"(9)، ولهذا فإنه ينكر على من خالف هذا القول. مع الاعتذار للعلماء المتأخرين الذين اختاروا القول الآخر.
__________
(1) ... انظر الأدلة في كتاب "حكم الإنكار في مسائل الخلاف" للدكتور فضل إلهي ظهير، ص 76-79.
(2) ... انظر رسالة: "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" لشيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-.
(3) ... حكم الإنكار في مسائل الخلاف، ص 81.
(4) ... السابق، ص 84.
(5) ... السابق، ص 86.
(6) ... السابق، ص 89.
(7) ... انظر أدلة هذا القول في رسالة: "عودة الحجاب" للشيخ محمد بن إسماعيل –وفقه الله-.
(8) ... فتح الباري (9/235-236).
(9) ... نيل الأوطار للشوكاني (6/114).(8/6)
والبعض الآخر قد يعدها من قبيل "المسائل الاجتهادية" التي يسوغ فيها الخلاف.
وعلى كلا القولين : فإنه يُنكر على من كشفت وجهها في البلاد التي يعمل أهلها بالقول الأول؛ وهو وجوب تغطية المرأة لوجهها؛ لأنه على القول بأنها من المسائل "الخلافية" التي ثبت فيها النص؛ فإنه ينكر على من خالف النص، وعلى القول بأنها من المسائل "الاجتهادية" فإنه ينكر على المخالف بسبب أن اختياره للقول الآخر وهو جواز كشف الوجه يسبب فتنة لأهل هذه البلاد ولنسائهم.
فتوى الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله- في هذه المسألة:
سئل –رحمه الله-:
"فضيلة الشيخ، لا شك أن من شروط الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون عالماً بشروطه. هل هو منكر أو غير منكر؟ وبعض الناس إذا رأى أحد رجال الهيئة يعترض على امرأة كاشفة الوجه. يقول: لا يجب عليك أن تنكر؛ لأنها لا تخلو من حالتين: إما أن تكون مسلمة ترى عدم وجوب ستر الوجه، وإلا كافرة فلا يجب في الأصل أن تتحجب. هل ما يقول هذا صحيح، أو غير صحيح؟
والجواب: لا، هذا غير صحيح، لأن المعاصي قسمان: قسم لا تضر إلا صاحبها فهذا ندعه ورأيه إذا كان أهلاً للاجتهاد. وقسم تضر غير صاحبها، ولا شك أن كشف المرأة وجهها لا يختص ضرره بها هي، بل يضر غيرها؛ لأن الناس يفتتنون بها، وعلى هذا يجب أن تنهاها سواء كانت كافرة أو مسلمة، وسواء كانت ترى هذا القول أولا تراه، انهها وأنت إذا فعلت ما فيه ردع الشر سلمت منه.
أما ما كان لا يضر إلا صاحبه؛ مثل رجل يشرب الدخان، وقال: أنا أرى حلّه ولا أرى أنه حرام، وعلمائي يقولون إنه حلال، فهذا ندعه إذا كان عاميًّا، لأن العاميّ قوله قول علمائه، فإذا قال: أنا أرى أنه ليس بحرام نتركه لأن هذا لا يضر إلا نفسه. إلا إذا ثبت صحيًّا أنه يضر الناس بخنقهم أو كان يؤذيهم برائحته، قد نمنعه من هذه الناحية.(8/7)
فاعرف هذه القاعدة: إن المعاصي قسمان: قسم لا تضر إلا صاحبها فهذه إذا خالفنا أحد في اجتهادنا ندعه، وقسم تضر الغير فهذا نمنعه من أجل الضرر المتعدي. لكن إذا خيف من ذلك فتنة تزيد على كشف هذا الوجه، فإنه يُدرأ أعظم الشرين بأخفهما. ولكن إذا رأيت امرأة كاشفة مع ولي أمرها تمسك ولي الأمر وتقول: يا أخي هذا لا يجوز هذا حرام هذا يضر أهلك ويضر غيرهم. تكلمه بالتي هي أحسن؛ باللين. لا تتكلم مع المرأة نفسها؛ قد يكون في هذا ضرر أكبر عليك أنت"(1) .
وسئل –رحمه الله-: "فضيلة الشيخ: هل ينكر على المرأة التي تكشف الوجه، أم أن المسألة خلافية، والمسائل الخلافية لا إنكار فيها ؟
__________
(1) ... لقاء الباب المفتوح (33-34/66-68).(8/8)
الجواب: لو أننا قلنا: المسائل الخلافية لا ينكر فيها على الإطلاق، ذهب الدين كلّه حين تتبع الرخص لأنك لا تكاد تجد مسألة إلا وفيها خلاف بين الناس. نضرب مثلاً: هذا رجلٌ مسَّ امرأة لشهوة، وأكل لحم إبل، ثم قام ليصلي، فقال: أنا أتبع الإمام أحمد في أن مسَّ المرأة لا ينقض الوضوء، وأتبع الشافعي في أن لحم الإبل لا ينقض الوضوء، وسأصلي على هذه الحال، فهل صلاته الآن صحيحة على المذهبين ؟ هي غير صحيحة؛ لأنها إن لم تبطل على مذهب الإمام أحمد بن حنبل بطلت على مذهب الإمام الشافعي، وإن لم تبطل على مذهب الإمام الشافعي بطلت على مذهب الإمام أحمد، فيضيع دين الإنسان. المسائل الخلافية تنقسم إلى قسمين؛ قسم: مسائل اجتهادية يسوغ فيها الخلاف؛ بمعنى أن الخلاف ثابت حقاً وله حكم النظر، فهذا لا إنكار فيه على المجتهد، أما عامة الناس، فإنهم يلزمون بما عليه علماء بلدهم، لئلا ينفلت العامة؛ لأننا لو قلنا للعامي: أي قول يمرُّ عليك لك أن تأخذ به، لم تكن الأمة أمة واحدة، ولهذا قال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي –رحمه الله-: "العوام على مذهب علمائهم". فمثلاً عندنا هنا في المملكة العربية السعودية أنه يجب على المرأة أن تغطي وجهها، فنحن نلزم نساءنا بذلك، حتى لو قالت لنا امرأة: أنا سأتبع المذهب الفلاني وكشف الوجه فيه جائز، قلنا: ليس لك ذلك؛ لأنك عامية ما وصلت إلى درجة الاجتهاد، وإنما تريدين اتباع هذا المذهب لأنه رخصة، وتتبع الرخص حرام.(8/9)
أما لو ذهب عالم من العلماء الذي أداه اجتهاده إلى أن المرأة لا حرج عليها في كشف الوجه، ويقول: إنها امرأتي سوف أجعلها تكشف الوجه، قلنا: لا بأس، لكن لا يجعلها تكشف الوجه في بلاد يسترون الوجوه، يمنع من هذا؛ لأنه يفسد غيره، ولأن المسألة فيها اتفاق على أن ستر الوجه أولى، فإذا كان ستر الوجه أولى فنحن إذا ألزمناه بذلك لم نكن ألزمناه بما هو حرام على مذهبه، إنما ألزمناه بالأولى على مذهبه، ولأمر آخر هو ألا يقلده غيره من أهل هذه البلاد المحافظة، فيحصل من ذلك تفرق وتفتيت للكلمة. أما إذا ذهب إلى بلاده، فلا نلزمه برأينا، ما دامت المسألة اجتهادية وتخضع لشيء من النظر في الأدلة والترجيح بينها.
القسم الثاني من قسمي الخلاف: لا مساغ له ولا محل للاجتهاد فيه، فينكر على المخالف فيه لأنه لا عذر له"(1).
قلت: ومن أراد الزيادة في هذه المسألة فعليه بكتاب: "حكم الإنكار في مسائل الخلاف" للدكتور فضل إلهي ظهير –وفقه الله-. ورسالة: "حجج الأسلاف في بيان الفرق بين مسائل الإجتهاد ومسائل الخلاف" للشيخ فوزي الأثري –وفقه الله-. ومنهما استفدت كثيرًا مما جاء في هذه الرسالة، مع زيادات مفيدة.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
__________
(1) ... لقاء الباب المفتوح (49/192-193).(8/10)
مناظرات ابن تيمية لأهل الملل والنحل
جمع وتعليق
عبدالعزيز بن محمد بن علي آل عبداللطيف
أستاذ مساعد، قسم العقيدة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
الرياض، المملكة العربية السعودية
... ...
شبكة نور الإسلام
www.islamlight.net
ملخص البحث. يتحدث البحث في المقدمة: عن براعة ابن تيمية في المناظرات، وتقريره مشروعية المناظرات، وأن للمناظرات أحوالاً متنوعة.
ثم ساق الباحث أربع مناظرات لابن تيمية تجاه النصارى، في شركهم وتأليههم المسيح وقولهم بظهور اللاهوت في الناسوت.
ثم أتبع ذلك بمناظرات ابن تيمية لأهل الاتحاد ووحدة الوجود، والتي تتميّز بكثرتها وتنوّع مسائلها، وعثر الباحث على مناظرتين لابن تيمية مع القبوريين، إحداهما في شأن تعظيمهم الأحجار، والأخرى في غلوهم في قبور العبيديين، ثم أوجز الباحث مناظرات ابن تيمية للرفاعية نظراً لطولها وشهرتها، ثم أعقب ذلك بمناظرتين للرافضة في مسائل الإمامة، وأما مناظراته نفاة الصفات فقد وقف الباحث على أربع مناظرات، وتضمّنت الخاتمة أهم نتائج البحث..
تقديم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فلا يزال تراث ابن تيمية (1)
__________
(1) . هو أبو العباس أحمد بن عبدالحليم بن عبدالسلام، ابن تيمية النميري الحراني، الإمام الفقيه، المجتهد، المحدث، الحافظ، المفسّر، الأصولي، الزاهد، شيخ الإسلام، وعلم الأعلام، أفتى و درّس وهو دون العشرين، وله مئات التصانيف، توفي سنة 728هـ.
انظر: ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب 2/387، والعقود الدرية لابن عبدالهادي، والجامع لسيرة ابن تيمية.(9/1)
محل اهتمام الباحثين في مختلف الدراسات الإسلامية، فما أكثر الأبحاث والرسائل العلمية التي كتبتْ عن منهجية هذا الإمام في العلوم الشرعية، وجهوده العلمية، والعملية المتعددة، ومع ذلك فلا تزال جوانب مهمة في هذا الشأن – مجالاً رحباً للباحثين، ومن ذلك: مناظرات (1) ابن تيمية لأهل الملل والنحل، فهو موضوع لم يسبق بحثه، حسب اطلاعي، وأحسب أنه من الموضوعات المهمة، والجديرة بالبحث والدراسة، فهذه المناظرات مبثوتة في بطون كتب ورسائل شيخ الإسلام ابن تيمية، وكذا في كتب التاريخ والتراجم، فتحتاج إلى استخراج وترتيب، مع شيء من الدراسة والتعليق.
وإذا كان من المهم أن ينتفع بمناظرات الأئمة السابقين، وتجاربهم في مجادلة ومناظرة المخالفين، فإن مناظرات ابن تيمية لمخالفيه أكثر أهمية وأعظم نفعاً - كما سيظهر إن شاء الله تعالى - .
لا سيما مع هذا الانفتاح الهائل، والتواصل الدائم الذي يعيشه العالم الآن، فقد أظهر ذلك انتشاراً لمختلف العقائد والأفكار، وأوقع الكثير في المناظرات والمحاورات، فإبراز هذه المناظرات يعطي نماذج متميزة، وتطبيقات عملية محكمة في هذا المقام.
__________
(1) . عرّف جمع من العلماء المناظرة فقالوا: هي النظر بالبصيرة من الجانبين في النسبة بين الشيئين إظهاراً للصواب. انظر الكليات للكفوي ص 849، منهج الجدل والمناظرة في تقرير مسائل الاعتقاد لعثمان علي حسن 1/30.(9/2)
لقد قمت - ولله الحمد والمنة- باستقراء وتتبع مؤلفات شيخ الإسلام، واستخراج وجمع هذه المناظرات ثم تصنيفها، وقد تعذر ترتيب أكثرها حسب وقوعها لعدم تمكني من معرفة تاريخها، واخترت هذا العنوان "مناظرات ابن تيمية لأهل الملل والنحل " باعتبار أن الملل هي سائر الأديان، وأن النحل سائر طوائف أهل القبلة، كما استعمل ذلك شيخ الإسلام في غير موضع، كقوله: "وهذه الفرقة الناجية أهل السنة، وهم وسط في النحل، كما أن ملة الإسلام وسط في الملل " (1).
فيتضمن البحث مناظرات ابن تيمية للنصارى، ومناظراته لطوائف متعددة من أهل القبلة، ومن ينتسب إلى الإسلام، كأهل الاتحاد و وحدة الوجود (2)، والقبوريين، والأحمدية (3)، والرافضة (4)، ونفاة الصفات.
وما كان من هذه المناظرات مطولاً فقد أوردته مختصراً، كما في مناظرة ابن تيمية للأحمدية، ومناظرته بشأن العقيدة الواسطية.
__________
(1) . مجموع الفتاوى 3/370، وانظر: مجموع الفتاوى 4/23، 24.
(2) . أهل الاتحاد و وحدة الوجود القائلون: أن الله تعالى عين وجود الكائنات.
انظر : مجموع الفتاوى لابن تيمية 2/ 172، والكليات للكفوي ص 36.
(3) . الأحمدية: طريقة صوفية تنسب إلى أحمد الرفاعي ( ت 512هـ )، وتعرف بالطريقة الرفاعية، وتسمى أيضاً الطائفة البطائحية لأن الرفاعي سكن في قرى البطائح بالعراق، وهذه الطريقة لا تنفك عن محدثات متنوعة، كاتخاذ الخرقة والأذكار المحدثة، وخوارق شيطانية.
انظر: سير أعلام النبلاء 21/72، والطرق الصوفية للنجار ص 156.
(4) . الرافضة من أكبر طوائف الشيعة، وهم أرباب انحراف في الصفات، وشرك في توحيد العبادة، وغلو في الأئمة، وتضليل للصحابة – رضي الله عنهم – وزعموا أن الإمامة أهم منازل الدين.
انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري 2/88، والملل والنحل للشهرستاني 2/162.(9/3)
وأسوق – بعد إيراد مناظرة كل طائفة – جملة من التحريرات والتقريرات المستفادة ومن كلام شيخ الإسلام، لما يتحقق فيها مالا يحصل في غيرها، من تجلية لتلك المناظرات واستكمالها، وبيان ملابسات وقوعها، وما تحويه من قواعد المناظرات وآدابها.
ونشير في مطلع هذا البحث إلى ما تحلّى به شيخ الإسلام من براعة في المناظرات، وتقريره مشروعية المناظرات، وبيانه أحوالها، وذلك على النسق التالي:
أ ) براعة ابن تيمية في المناظرات: تميّز شيخ الإسلام ابن تيمية بدراية فائقة في المناظرات، وقوة حجة، وسرعة بديهة، كما شهد بذلك الأئمة، حتى قال عنه ابن الزملكاني: (1)- " لا يُعرف أنه ناظر أحداً فانقطع معه " (2).
وقال عنه الحافظ الذهبي (3) :- "ما رأيت أحداً أسرع انتزاعاً للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه، ولا أشد استحضاراً لمتون الأحاديث، وعزوها إلى الصحيح أو إلى المسند، أو إلى السنن منه، كأن الكتاب والسنن نصب عينيه، وعلى طرف لسانه، بعبارة رشيقة، وعين مفتوحة، وإفحام للمخالف " (4)
__________
(1) . هو محمد بن علي الأنصاري الشافعي، شيخ الشافعية بالشام، كان معجباً بابن تيمية، ثم تغير عليه، توفي سنة 727هـ.
انظر: البداية لابن كثير 14/131، وشذرات الذهب لابن العماد 6/78.
(2) . العقود الدرية ابن عبدالهادي ص 7، وانظر ص 67.
(3) . هو أبو عبدالله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي، الإمام، الحافظ، المؤرخ، ولد سنة 673هـ، بدمشق، له رحلات في طلب العلم، وصاحب مؤلفات كثيرة، توفي بدمشق سنة 748هـ.
انظر: طبقات الشافعية 9/100، والبدر الطالع ص 2/110
(4) . ذيل تاريخ الإسلام للذهبي، نقلاً عن الجامع لسيرة شيخ الإٍسلام ابن تيمية ص 206.(9/4)
وقال أيضاً: "لقد نصر السنة المحضة، والطريقة السلفية، واحتج لها ببراهين، ومقدمات وأمور لم يسبق إليها.. وقام عليه خلق من علماء مصر والشام، قياماً لا مزيد عليه، وبدّعوه، وناظروه، وكابروه، وهو ثابت لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق المر الذي أداه إليه اجتهاده، وحدة ذهنه " (1).
وقال ابن عبدالهادي (2) " ثم انفتح له بعد ذلك من الردّ على الفلاسفة والجهمية وسائر أهل الأهواء والبدع، وما لا يوصف ولا يعبر عنه، وجرى له من المناظرات العجيبة والمباحث الدقيقة، في كتبه وغير كتبه، مع أقرانه وغيرهم، في سائر أنواع العلوم ما تضيق العبارة عنه " (3).
ب) مشروعية المناظرة وأهميتها عند ابن تيمية: قرر شيخ الإسلام مشروعية المناظرة وأهميتها، وبيّن أن ذلك حال السلف السابقين، فقال: "وأما جنس المناظرة بالحق فقد تكون واجبة تارة، ومستحبة أخرى". (4)
وقال في موطن آخر: " حضّ الله على المناظرة والمشاورة، لاستخراج الصواب في الدنيا والآخرة، حيث يقول لمن رضي دينهم : { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } (الشورى:38) كما أمرهم بالمجادلة والمقاتلة، لمن عدل عن السبيل العادلة، حيث يقول آمراً وناهياً لنبيه والمؤمنين، لبيان ما يرضاه منه ومنهم: { وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (النحل: 125) { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } سورة العنكبوت (العنكبوت: 46).
__________
(1) 11) . العقود الدرية ص 82 = بتصرف يسير.
(2) 12). أبو عبدالله محمد بن أحمد بن عبدالهادي المقدسي الحنبلي، مقرئي، فقيه، أصولي، محدث، له مؤلفات، توفي بدمشق سنة 744هـ.
انظر: الدرر الكامنة 3/421، البدر الطالع 2/108.
(3) 13) . العقود الدرية ص 67.
(4) 14) . الدرء 7/174.(9/5)
فكان أئمة الإسلام ممتثلين لأمر المليك العلاّم، ويجادلون أهل الأهواء المضلة، حتى يردّوهم إلى سواء الملة، كمجادلة ابن عباس - رضي الله عنهما - للخوارج المارقين، حتى رجع كثير منهم إلى ما خرج عنه من الدين، ومن في قلبه ريب يخالف اليقين " (1)
وذكر أن المناظرة المحمودة نوعان، ثم فصّل ذلك قائلاً: "وذلك لأن المناظر إما أن يكون عالماً بالحق، وإما أن يكون طالباً له، فمن كان عالماً بالحق فمناظرته المحمودة أن يبيّن لغيره الحجة التي تهديه إن كان مسترشداً طالباً للحق إذا تبيّن له، أو يقطعه ويكف عدوانه إن كان معانداً غير متبع للحق إذا تبيّن له..
وذلك لان المخالف بالمناظرة إذا ناظره العالم المبيّن للحجة، إما أن يكون ممن يفهم الحق ويقبله، وإما أن يكون ممن لا يقبله إذا فهمه، أو ليس له غرض في فهمه، بل قصده مجرد الردّ له، فهذا إذا نوظر بالحجة انقطع وانكف شرّه عن الناس.
وإما أن يكون الحق قد التبس عليه، وأصل قصده الحق، لكن يصعب عليه معرفته لضعف علمه بأدلة الحق، مثل من يكون قليل العلم بالآثار النبوية الدالة على ما أخبر به من الحق، أو لضعف عقله، لكونه لا يمكن أن يفهم دقيق العلم، أو لا يفهمه إلا بعد عسر، أو قد سمع من حجج الباطل ما اعتقد موجبه، وظن أنه لا جواب عنه، فهذا إذا نوظر بالحجة أفاده ذلك، إما معرفة بالحق، وإما شكاً و توقفاً في اعتقاده بالباطل، وبقيت همته على النظر في الحق وطلبه.." (2) .
__________
(1) 15) . تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل الباطل 1/3، 4 = بتصرف يسير
(2) 16) . الدرء 7/ 167، 168 = باختصار(9/6)
وأكّد على الجمع بين جدال الكفار وقتالهم، وأنه لا منافاة في حقهم بين الجدال المأمور به، وبين القتال المأمور به (1)، فكان مما قاله: "وأما مجاهدة الكفار باللسان، فما زال مشروعاً من أول الأمر إلى آخره، فإنه إذا شرع جهادهم باليد، فباللسان أولى، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " جاهدوا المشركين بأيديكم وألسنتكم وأموالكم " (2) وكان ينصب لحسّان منبراً في مسجده، يجاهد فيه المشركين بلسانه جهاد هجو، وهذا كان بعد نزول آيات القتال، وأين منفعة الهجو من منفعة إقامة الدلائل والبراهين على حجة الإسلام، وإبطال حجج الكفار من المشركين وأهل الكتاب؟ (3).
وعظّم شأن مناظرة المخالفين ودحض شبهاتهم فقال: " كل من لم يناظر أهل الإلحاد والبدع مناظرة تقطع دابرهم لم يكن أعطى الإسلام حقه، ولا وفى بموجب العلم والإيمان، ولا حصل بكلامه شفاء الصدور، وطمأنينة النفوس " (4)
خلاصة ما سبق أن المناظرة مشروعة (5)، كما هو حال السلف الصالح، وقد تكون مناظرة الكفار ومجاهدتهم باللسان أولى من الجهاد باليد، كما أن القيام بها و إظهار الحجة فيها من حقوق الإسلام وموجباته، لا سيما إذا كان المناظر عالماً بالحق.
__________
(1) 17) . انظر الجواب الصحيح 1/67
(2) 18) . أخرجه أبو داود، ك الجهاد ح (2504، وأحمد 3/124، والحاكم 2/81، وصحح النووي إسناده في رياض الصالحين ح (1349).
(3) 19) . الجواب الصحيح 1/74
(4) 20) . الدرء 1/ 357، وانظر: التسعينية 1/ 232
(5) 21) . ومما يحسن ذكره هاهنا أن نورد تقرير مشروعية المناظرة كما سطّره ابن القيم ضمن فوائد قصة وفد نجران بقوله: "جواز مجادلة أهل الكتاب و مناظرتهم، بل استحباب ذلك، بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته من إسلام من يُرجى إسلامه منهم، وإقامة الحجة عليهم، ولا يهرب عن مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة، فليولّ ذلك إلى أهله.." زاد المعاد 3/639.(9/7)
جـ) أحوال المناظرات عند ابن تيمية: بيّن شيخ الإسلام أن للمناظرات أحوالاً وأطواراً منها:
- " إن كان الإنسان في مقام دفع من يلزمه ويأمره ببدعة، ويدعوه إليها، أمكن الاعتصام بالكتاب والسنة، وأن يقول لا أجيبك إلا إلى كتاب الله وسنة رسوله، بل هذا هو الواجب مطلقاً." (1) .
- " وإما إذا كان الإنسان في مقام الدعوة لغيره والبيان له، وفي مقام النظر أيضاً، فعليه أن يعتصم أيضاً بالكتاب والسنة ويدعو إلى ذلك، وله أن يتكلم مع ذلك، ويبيّن الحق الذي جاء به الرسول بالأقيسة العقلية والأمثال المضروبة، فهذه طريقة الكتاب والسنة وسلف الأمة. " (2)
- " وإذا كان المتكلم في مقام الإجابة لمن عارضه بالعقل، وادعّى أن العقل يعارض النصوص، فإنه قد يحتاج إلى حل شبهته وبيان بطلانها، فإذا أخذ النافي يذكر ألفاظاً مجملة.. فهنا يستفصل السائل ويقول له: ماذا تريد بهذه الألفاظ المجملة؟ فإن أراد بها حقاً وباطلاً، قُبِل لحق ورُدّ الباطل. " (3)
وبيّن شيخ الإسلام أن من امتنع عن التكلم بالألفاظ المجملة نفياً واثباتاً في هذا المقام قد ينسب إلى العجز والانقطاع، وإن تكلم بها دون تفصيل، نسبوه إلى أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقاً وباطلاً (4).
__________
(1) 22) . الدرء 1/234.
(2) 23) . الدرء 1/ 235، 236 .
(3) 24) . الدرء 1/ 238.
(4) 25) . انظر الدرء 1/ 229 .(9/8)
ولما قرر شيخ الإسلام مشروعية المناظرة وأحوالها، ذكر جملة من الأحوال التي ينهى السلف فيها عن المناظرة فقال: " وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة، إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجة وجواب الشبهة، فيُخاف عليه أن يفسده ذلك المضلّ، كما يُنهى الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجاً قوياً من علوج الكفار، فإن ذلك يضرّه ويضر المسلمين بلا منفعة، وقد ينهى عنه إذا كان المناظر معانداً يظهر له الحق فلا يقبله – وهو السوفسطائي – فإن الأمم كلهم متفقون على أن المناظرة إذا انتهت إلى مقدمات معروفة، بيّنة بنفسها، ضرورية، وجحدها الخصم كان سوفسطائياً، ولم يؤمر بمناظرته بعد ذلك، بل إن كان فاسد العقل داووه، وإن كان عاجزاً عن معرفة تركوه، وإن كان مستحقاً للعقاب عاقبوه مع القدرة " (1)
وبهذا يتبين أن المناظرة المشروعة لها أحوال، منها: إن كان في مقام دفع من يلزمه ببدعة فعليه أن لا يجيب إلا إلى نصوص الوحيين، كما في مناظرة الإمام أحمد للجهمية (2).
وإن كان في مقام الدعوة لغيره، فعليه أن يعتصم بالكتاب والسنة، وما يبيّن ذلك من الأقيسة العقلية، كما نلحظ في مناظرة ابن تيمية لأهل الاتحاد ووحدة الوجود - كما سيأتي إن شاء الله - وإن كان في مقام الإجابة لمن عارضه بالعقل، فيحتاج إلى حلّ شبهته وبيان بطلانها، كما فعل ابن تيمية في مناظرته لنفاة الرؤية - كما هو مبسوط في موضعه من هذا البحث -
وقد يُنهى عن المناظرة إن كان المناظر ضعيف العلم، أو كان معانداً مكابراً..
وسنورد مناظرات ابن تيمية لأهل الملل والنحل على النسق التالي:
1 – مناظرات ابن تيمية للنصارى:
المناظرة الأولى: حكى شيخ الإسلام مناظرته للنصارى في القاهرة فقال: "لما قدمت القاهرة اجتمع بي بعض معظميهم من الرهبان، وناظرني في المسيح ودين النصارى، حتى بيّنت له فساد ذلك، وأجبته عما يدعيه من الحجة.
__________
(1) 26) . الدرء 7/173.
(2) 27) . انظر الدرء 1/230.(9/9)
وكان من أواخر ما خاطبت به النصراني أن قلت له: أنتم مشركون، وبيّنت من شركهم ما هم عليه من العكوف على التماثيل والقبور، وعبادتها، والاستغاثة بها.
قال لي: نحن ما نشرك بهم ولا نعبد هم، وإنما نتوسل بهم، كما يفعل المسلمون إذا جاءوا إلى قبر الرجل الصالح، فيتعلقون بالشباك الذي عليه ونحو ذلك.
فقلت له:وهذا أيضاً من الشرك، ليس هذا من دين المسلمين، وإن فعله الجهال، فأقر أنه شرك، حتى إن قسيساً كان حاضراً في هذه المسألة، فلما سمعها قال: نعم، على هذا التقدير نحن مشركون " (1).
المناظرة الثانية – وقال – أثناء حديثه عمن تلبّس بالشرك:- " وهؤلاء يجعلون الرسل والمشايخ يدبرون العالم بالخلق والرزق، وقضاء الحاجات وكشف الكربات، وهذا ليس من دين المسلمين، بل النصارى تقول هذا في المسيح وحده لشبهة الاتحاد والحلول، ولهذا لم يقولوا ذلك في إبراهيم وموسى وغيرهما من الرسل، مع أنهم في غاية الجهل في ذلك، فإن الآيات التي بعث بها موسى أعظم، ولو كان الحلول ممكناً لم يكن للمسيح خاصية توجب اختصاصه بذلك، بل موسى أحق بذلك، ولهذا خاطبتُ من خاطبتُ من علماء النصارى، وكنتُ أتنزّل معهم إلى أن أطالبهم بالفرق بين المسيح و غيره من جهة الإلهية، فلم يجدوا فرقاً، بل أبيّن لهم أن ما جاء به موسى من الآيات أعظم، فإن كان هذا حجة في دعوى الإلهية فهو أحق" (2).
__________
(1) 28) . مجموع الفتاوى 27/ 461، 462 - باختصار
(2) 29) . الرد على البكري ص 327، وانظر مجموع الفتاوى 15/ 228(9/10)
المناظرة الثالثة: ولما سجن شيخ الإسلام بمصر سنة 707هـ، حصلت له مناظرة مع رهبان النصارى كما أوردها تلميذه إبراهيم بن أحمد الغياني (1) قائلاً: " ولما كان الشيخ في قاعة الترسيم (2)، دخل عنده ثلاثة رهبان من الصعيد، فناظرهم وأقام عليهم الحجة بأنهم كفار، وما هم على الدين الذي كان عليه إبراهيم والمسيح، فقالوا له: نحن نعمل مثل ما تعملون، أنتم تقولون بالسيدة نفيسة (3)، ونحن نقول بالسيدة مريم، قد أجمعنا نحن وأنتم على أن المسيح ومريم أفضل من الحسين ومن نفيسة، وأنتم تستغيثون بالصالحين الذي قبلكم، ونحن كذلك.
فقال لهم: وإن من فعل ذلك ففيه شبه منكم، وهذا ما هو دين إبراهيم الذي كان عليه، فإن الدين الذي كان إبراهيم عليه أن لا نعبد إلا الله وحده، لا شريك له، ولا ندّ له، ولا صاحبة له، ولا ولد له، ولا نشرك معه ملكاً، ولا نبياً، ولا صالحاً، وإن الأمور التي لا يقدر عليها غير الله لا تطلب من غيره مثل تفريج الكربات، وغفران الذنوب.
والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - نؤمن بهم ونعظمهم، ونصدّقهم في جميع ما جاءوا به ونطيعهم كما قال نوح وصالح وهود وشعيب: أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون، فجعلوا العبادة والتقوى لله وحده، والطاعة لهم، فإن طاعتهم من طاعة الله، فلو كفر أحد بنبيّ من الأنبياء وآمن بالجميع ما نفعه إيمانه حتى يؤمن بذلك النبي.
__________
(1) 30) . لم أعثر له على ترجمة .
(2) 31) . الترسيم نوع من الحبس انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية 35 / 399، 15/136.
(3) 32) . هي نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنهما، وهي من الصالحات العابدات، كانت في المدينة ثم تحولت إلى مصر، وتوفيت بها سنة 208 هـ.
انظر سير أعلام النبلاء 10/106، البداية والنهاية 10/262، شذرات الذهب 2/21.(9/11)
فلما سمعوا ذلك منه قالوا: الدين الذي ذكرته خير من الدين الذي نحن وهؤلاء عليه" (1)
المناظرة الرابعة: وردّ على النصارى تشبيههم ظهور اللاهوت في الناسوت بظهور الروح في البدن، وأنه إذا كان البدن يتألم بما يصيب الروح من الألم، فيلزم النصارى أن يكون الناسوت لما صلب وتوجّع أن يكون أيضاً اللاهوت متوجعاً، ثم ساق هذه المناظرة:
"وقد خاطبت بهذا بعض النصارى، فقال لي: الروح بسيطة، أي لا يلحقها ألم، فقلت له: فما تقول في أرواح الكفار بعد الموت أمنعّمة، أو معذبة؟ فقال: هي في العذاب، فقلت: فعلم أن الروح المفارقة تنعم وتعذّب، فإذا شبهتم اللاهوت في الناسوت، بالروح في البدن، لزم أن تتألم إذا تألم الناسوت، كما تتألم الروح إذا تألم البدن.
فاعترف هو و غيره بلزوم بذلك (2) " .
وبالنظر في تلك المناظرات وما يجليها من تقريرات لشيخ الإسلام، نسوق الأمور التالية:
1 – لا يخفى الأثر السلبي لانحراف المنتسبين إلى الإسلام، وكيف احتج به النصارى هاهنا في تسويغ شركهم، فالنصارى يشركون المسيح ومريم، كما أن من المسلمين من يشرك الحسين - رضي الله عنه - ونفيسة.
ورحم الله ابن القيم (3) إذ يقول: " ولقد دعونا نحن وغيرنا كثيراً من أهل الكتاب إلى الإسلام، فأخبروا أن المانع لهم ما يرون عليه المنتسبين إلى الإسلام، ممن يعظّمهم الجهال من البدع والظلم والفجور والمكر والاحتيال، ونسبة ذلك إلى الشرع، ولمن جاء به، فساء ظنهم بالشرع وبمن جاء به.
__________
(1) 33) . الجامع لسيرة ابن تيمية ص 89، 90 = باختصار، وانظر مجموع الفتاوى 1/ 370، 371
(2) 34) . الجواب الصحيح 2/ 172.
(3) 35) . هو الشيخ العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي، برع في علوم متعددة، كان جريئ الجنان، واسع العلم، عارفاً بالخلاف، ومذهب السلف، له تصانيف كثيرة، توفي بدمشق سنة 751هـ.
انظر: البداية والنهاية 14/ 234، الدرر الكامنة 4/21.(9/12)
فالله طليب قطّاع طريق الله وحسيبهم." (1)
ومع هذا الانحراف في واقع المسلمين، إلا أن ابن تيمية كان صاحب استعلاء في إيمانه، ورسوخ في حجته، فقد أقام عليهم الحجة، فاعترفوا بشركهم، وصحة دين الإسلام، بل إن بعض النصارى أسلم على يد ابن تيمية وحسن إسلامه، كداود المتطبب (2)، والذي صار من علماء أهل السنة، وصنّف كتاباً في الطب النبوي.
2 – بيّن ابن تيمية من خلال مناظرته في السجن – مناقضة النصارى لدين الإسلام الذي بعث الله به جميع المرسلين، وقد عُني ابن تيمية في مواطن كثيرة بتقرير هذا الإسلام العام وهو عبادة الله تعالى وحده لا شريك له (3).
ومن ذلك قوله: " والذي أنزله الله هو دين واحد اتفقت عليه الكتب والرسل، وهم متفقون في أصول الدين وقواعد الشريعة، وإن تنوّعوا في الشريعة والمنهاج.
- إلى إن قال- فإن المسلمين واليهود والنصارى متفقون على أن في الكتب الإلهية الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وأنه أرسل إلى الخلق رسلاً من البشر، وأنه أوجب العدل وحرّم الظلم والفواحش والشرك، وأمثال ذلك من الشرائع الكلية (4) "
__________
(1) 36) . إغاثة اللهفان 2/416.
(2) 37) . هو داود بن أبي الفرج الدمشقي، أسلم على يد بن تيمية سنة 701هـ، وصنف كتاب الطب النبوي وحكى فيه نصوصاً عن أحمد، توفي داود سنة 737هـ.
انظر الجوهر المنضّد لابن عبدالهادي (ابن المبرد ) ص 38.
(3) 38) . انظر: الجواب الصحيح 1/ 11، 376، والتدمرية ص 168، اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 831، مجموع الفتاوى 19/ 106.
(4) 39) . الجواب الصحيح 1/ 376، 377 = باختصار(9/13)
3 – لم يتردد شيخ الإسلام في الحكم على تلك الأعمال التي تلبّس بها من يدّعى الإسلام، فبيّن أن طلب الشفاعة شرك سواءً فعله نصراني أو من ينتسب إلى الإسلام (1).
ونظير ذلك أنه لما ساق اعتراض بعضهم بأن الغلو والشرك والبدع في الرافضة موجودٌ في كثير من المنتسبين إلى السنة، أجاب قائلاً: "هذا كله مما نهى الله عنه ورسوله، وكل ما نهى الله عنه ورسوله فهو مذموم منهي عنه، سواءً كان فاعله منتسباً إلى السنة أو إلى التشيع.." (2).
4 – فرّق ابن تيمية – اتباعاً للنصوص الشرعية – بين ما كان حقاً لله تعالى وحده كالعبادة والتقوى، وما كان حقاً لرسوله كالطاعة، فإن من يطع الرسول فقد أطاع الله، وقد قرر ذلك في مواضع كثيرة (3).
ومن ذلك قوله: "والله سبحانه له حقوق لا يشركه فيها غيره، وللرسل حقوق لا يشركهم فيها غيرهم، وللمؤمنين بعضهم على بعض حقوق مشتركة، فالله تعالى مستحق أن نعبده ولا نشرك به شيئاً، وهذا أصل التوحيد الذي بعثت به الرسل.
ويدخل في ذلك أن لا نخاف إلا إياه، ولا نتقي إلا إياه، كما قال تعالى: { وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } (النور: 52) فعجل الطاعة لله وللرسول، وجعل الخشية والتقوى لله وحده " (4) .
__________
(1) 40) . ومما يلحق بذلك ما حكاه ابن حزم من تحريف النصارى والإنجيل، واحتجاجهم على أهل الإسلام بمقالة الرافضة بتبديل القرآن.. فأجاب ابن حزم قائلاً: الروافض ليسوا من المسلمين، وأنها طائفة تجري مجرى اليهود والنصارى في الكذب والكفر." الفصل 2/213.
(2) 41) . منهاج السنة النبوية 1/ 483
(3) 42) . انظر: منهاج السنة النبوية 2/ 446، والتدمرية ص 199، واقتضاء الصراط المستقيم 2/ 826، مجموع الفتاوى 1/181، 10/36
(4) 43) . اقتضاء الصراط المستقيم 2/825، 826 = باختصار(9/14)
5 – ذكر ابن تيمية: بعد إحدى المناظرات السابقة – أن " النصارى يفرحون بما يفعله أهل البدع والجهل من المسلمين مما يوافق دينهم، ويشابهونهم فيه، ويحبون أن يجعلوا رهبانهم مثل عبّاد المسلمين، وقسيسيهم مثل علماء المسلمين، فإن عقلاءهم لا ينكرون صحة دين الإسلام، بل يقولون: هذا طريق إلى الله، وهذا طريق إلى الله (1). "
كما حذّر شيخ الإسلام وغلّظ من تسويغ اتباع النصرانية أو اليهودية، كما عليه أكثر اليهود والنصارى، والذين يرون دين المسلمين واليهود والنصارى بمنزلة المذاهب الأربعة في دين المسلمين، فتحدّث عن هذه المسألة في غير موضع (2)، فقال: "ومعلوم بالاضطرار من دين المسلمين باتفاق جميع المسلمين أن من سوّغ غير دين الإسلام، أو اتباع شريعة غير شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر، وهو ككفر من آمن ببعض الكتاب، وكفر ببعض الكتاب " (3) .
6- أظهر شيخ الإٍسلام - في المناظرة الرابعة - تهافت قول النصارى في تشبيههم ظهور اللاهوت في الناسوت بظهور الروح في البدن، وما يلزمهم من التنقص لله عز وجل.
كما كشف ابن تيمية ذاك التناقض الصريح عند النصراني عند ما زعم أن الروح لا يلحقها ألم، مع أنه مقرّ بأن أرواح الكفار في ألم وعذاب، كما هو عند النصارى (4).
وهذه المناظرة غيض من فيض في تناقض النصارى واضطرابهم.
ورحم الله ابن حزم (5)
__________
(1) 44) . مجموع فتاوى 17/ 462 = باختصار
(2) 45) . انظر: الرد على المنطقيين ص 282، مجموع الفتاوى 17/ 463، 28/ 523.
(3) 46) . مجموع الفتاوى 28/524
(4) 47) . انظر: اليوم الآخر بين اليهودية والمسيحية والإسلام لفرج الله عبدالباري ص 97
(5) 48) . هو أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الظاهري الأندلسي، فقيه حافظ، وأديب، وزير، صاحب التصانيف المشهورة، توفي سنة 456 هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء 18/184، وشذرات الذهب 3/ 299.(9/15)
إذ يقول في وصفهم: " ولولا أن الله تعالى وصف قولهم في كتابه إذ يقول: { لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } (سورة المائدة:73) لما انطلق لسان مؤمن بحكاية هذا القول العظيم الشنيع.. وتالله لو لا أننا شاهدنا النصارى، ما صدقنا أن في العالم عقلاً يسع هذا الجنون " (1) .
وقال ابن تيمية في هذا الشأن: " قال طائفة من العقلاء: إن عامة مقالات الناس يمكن تصورها إلا مقالة النصارى، وذلك أن الذين وضعوها لم يتصوروا ما قالوا، بل تكلموا بجهل، وجمعوا في كلامهم بين النقيضين، ولهذا قال بعضهم: لو اجتمع عشرة نصارى لتفرقوا عن أحد عشر قولاً (2) "
2- مناظرات ابن تيمية لأهل الاتحاد ووحدة الوجود:
عني شيخ الإسلام بمناظرات أهل الاتحاد ووحدة الوجود عناية ظاهرة، كما امتحن و أوذي بسببهم، فحكى مناظراته المتعددة لهم، وأوردها مختصرة في مواطن، وبسطها في مواطن أخرى، وسنورد - بعد التتبع والاستقراء - جملة من تلك المناظرات كما صاغها شيخ الإسلام، وذلك على النحو الآتي:
أ ) المناظرة الأولى: يقول شيخ الإسلام: "وقد كان عندنا بدمشق الشيخ المشهور الذي يقال له ابن هود، وكان من أعظم من رأيناه من هؤلاء الاتحادية زهداً ومعرفة، وكان أصحابه يعتقدون فيه أنه الله، وأنه - أعنى ابن هود (3) - هو المسيح بن مريم، ويقولون: إن أمه كان اسمها مريم، وكانت نصرانية، ويعتقدون أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "ينزل فيكم ابن مريم " (4) هو هذا وأن روحانية عيسى تنزل عليه.
__________
(1) 49) . الفصل 1/111، 112 = باختصار
(2) 50) . الجواب الصحيح 2/ 155، وانظر: إغاثة اللهفان لابن القيم 2/ 400، 414
(3) 51) . ابن هود هو حسن بن علي المغربي الأندلسي، متصوف فيلسوف، له صلة باليهود، صاحب شطح وذهول، هلك سنة 699هـ.
انظر، شذرات الذهب 5/446،و الأعلام 2/203.
(4) 52) . أخرجه البخاري ك الأنبياء ح (3448، ومسلم ك الإيمان ح (242).(9/16)
وقد ناظرني في ذلك من كان أفضل الناس إذ ذاك معرفة بالعلوم الفلسفية وغيرها، مع دخوله في الزهد والتصوف، وجرى لهم في ذلك مخاطبات ومناظرات يطول ذكرها جرت بيني وبينهم، حتى بيّنت لهم فساد دعواهم بالأحاديث الصحيحة الواردة في نزول عيسى بن مريم، وأن ذلك الوصف لا ينطبق على هذا، وبيّنت فساد ما دخلوا فيه من القرمطة، حتى ظهرت مباهلتهم وحلفت لهم أن ما ينتظرونه من هذه لا يكون ولا يتم، وأن الله لا يتم أمر هذا الشيخ، فأبر الله تلك الأقسام، والحمد لله رب العالمين، هذا مع تعظيمهم لي بمعرفتي عندهم، وإلا فهم يعتقدون أن سائر الناس محجوبون جهال بحقيقتهم وغوامضهم، حتى قال لي شيخ مشهور من شيوخهم لما بيّنت له حقيقة قولهم، فأخذ يستحسن ويعظم معرفتي بقولهم، وقال: هؤلاء الفقهاء صم بكم عمي فهم لا يعقلون، فقلت له: هب أن الفقهاء كذلك أبالله أهذا القول موافق لدين الإسلام ؟
وقال لي بعض من كان يصدق هؤلاء الاتحادية ثم رجع عن ذلك، فكان من أفضل الناس و أكابرهم، ما المانع من أن يظهر الله في صورة بشر؟ والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في الدجال " إنه أعور (1)، وإن ربكم ليس بأعور " فلولا جواز ظهوره في هذه الصورة لما احتاج إلى هذا في كلام له.. فبيّنت له امتناع ذلك من وجوه، وتكلمت معه في ذلك بكلام طال عهدي به، لستُ أضبطه الآن، حتى تبيّن له بطلان ذلك، وذكرتُ له أن هذا الحديث لا حجة فيه، والله سبحانه قد بيّن عبودية المسيح وكفر من ادعى فيه الإلهية (2).
__________
(1) 53) . أخرجه البخاري ك الفتن ح (7127)، ومسلم ك الإيمان ح (2933).
(2) 54) . السبعينية (بغية المرتاد ) ص 520، 521 = باختصار(9/17)
ب)المناظرة الثانية: وسطّر شيخ الإسلام مناظرة أخرى مع أهل وحدة الوجود فقال: "ولما اجتمع بي بعض حذّاقهم، وعنده أن هذا المذهب هو غاية التحقيق الذي ينتهي إليه الأكملون من الخلق، ولا يفهمه إلا خواصهم، وذكر أن الإحاطة هو الوجود المطلق. قلت له: فأنتم تثبتون أمركم على القوانين المنطقية، ومن المعروف في قوانين المنطق أن المطلق لا يوجد في الخارج مطلقاً، بل لا يوجد إلا معيناً، فلا يكون الوجود المطلق موجوداً في الخارج، فبُهت، ثم أخذ يفتش لعلّه يظفر بجواب، فقال: نستثني الوجود المطلق من الكليات، فقلت له: غُلبت، وضحكتُ لظهور فساد كلامه.
وذلك أن القانون المذكور لو فرّق فيه بين مطلق ومطلق لفسد القانون، ولأن هذا فرق بمجرد الدعوى والتحكم، ولأن ما في القانون صحيح في نفسه وإن لم يقولوه، وهو يعم كل مطلق (1).
"وقال لي رجل من أعيانهم: بلغنا أنك ترد على الشيخ عبدالحق (2)، نحن نقول إن الناس ما يفهمون كلامه، فإن كنت تشرحه لنا وبيّن فساده قبلناه وإلا فلا.
فقلت له: نعم، أنا أبيّن لك مراده من كتبه كالبُد والإحاطة والفقرية (3) وغير ذلك.
__________
(1) 55) . الصفدية 1/296.
(2) 56) . وهو ابن سبعين.
(3) 57) . كتاب البدُ وهو كتاب بد العارف لابن سبعين، وهو مطبوع بتحقيق د. جورج، كما حققه عبدالرحمن بدوي، والإحاطة إحدى رسائل ابن سبعين، وقد طُبعت ضمن رسائل ابن سبعين بتحقيق عبدالرحمن بدوي، والرسالة الفقرية ولوح الأصالة من رسائل ابن سبعين أيضاً.
انظر: النبوات لابن تيمية 1/ 399، الوحدة المطلقة عند ابن سبعين لمحمد ياسر شرف ص 35-38.(9/18)
فقال: عندنا الكتاب الخاص الذي يسمى "لوح الأصالة" وهو سر السر، وهو الذي نطلب بيانه، ولم أكن رأيته، فذهب وجاء به، ففسرته له حتى تبين مراده، وكتب أسئلة سألني عنها تكلمت فيها على أصل قولهم، وقول ابن عربي وابن سيناء ومن ضاهى هؤلاء، وبينت له أن أصل قولهم يرجع إلى الوجود المطلق، ثم بيّنت له أن المطلق لا يكون إلا في الأذهان لا في الأعيان، وكان له فضيلة، فلما تبيّن له ذلك أخذ يصنف في الرّد عليهم، وذهب إلى شيخ كبير منهم فقال له: بلغني أنك جرى بينك وبين فلان كلام، قال: نعم، قال: أي شيء قال لك؟ قال: فقال لي: آخر أمركم ينتهي إلى الوجود المطلق، قال: جيد، قال: بأي شيء يرد ذلك؟ قال: المطلق إنما هو في الأذهان لا في الأعيان، فقال: أخرب بيوتنا وقلع أصولنا " (1)
وأضاف شيخ الإسلام – في مصنف آخر – قائلاً: (2)
"وسألني هذا عما يحتجون به من الحديث مثل الحديث المذكور في العقل (3)، ومثل حديث: كنتُ كنزاً لا أعرف فأحببتُ أن أعرف وغير ذلك؟ فكتبتُ جواباً مبسوطاً، وذكرتُ أنّ هذه الأحاديث موضوعة (4) "
جـ) المناظرة الثالثة: ومن مناظراته ومخاطباته لشيوخ تلك الطائفة ما حكاه قائلاً:
" وقد خاطبني مرة شيخ من هؤلاء، وكان ممن يظن أن الحلاّج (5)
__________
(1) 58) . الصفدية 1/ 302، 303، وانظر: النبوات 1/ 398 - 401
(3) 60) . يعنى الحديث الموضوع: "أول ما خلق الله العقل.. الخ " وانظر تفصيل الكلام عن هذا الحديث في السبعينية ص 171 – 182، والصفدية 1/233.
(4) 61) . النبوات 1/ 402.
(5) 62) . هو الحسين بن منصور الحلاّج، نشأ بتستر و خالط الصوفية وزعم أن الله حل فيه، فأمر الخليفة المقتدر بصلبه وقتله سنة 309 هـ.
انظر: تاريخ بغداد 8/112-141، سير أعلام النبلاء 14/313 – 354.(9/19)
قال: "أنا الحق " لكونه كان في هذا التوحيد، فقال: الفرق بين فرعون والحلاّج أن فرعون قال: { فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } (سورة النازعات: 24) وهو يشير إلى نفسه، وأما الحلاج فكان فانياً عن نفسه، والحق نطق على لسانه، فقلت له: أ فصار الحق في قلب الحلاج ينطق على لسانه، كما ينطق الجني على لسان المصروع.
وهو سبحانه بائن عن قلب الحلاج وغيره من المخلوقات، فقلب الحلاج أو غيره كيف يسع ذات الحق؟ ثم الجنّي يدخل في جسد الإنسان، لا يكون الجني في قلبه فقط، فإن القلب كل ما قام به فإنما هو عرض من الأعراض، ليس شيئاً موجوداً قائماً بنفسه..
وهؤلاء قد يدّعون أن ذات الحق قامت بقلبه فقط، فهذا يستحيل في حق المخلوق فكيف بالخالق جل جلاله؟ (1).
د ) المناظرة الرابعة: ودّون شيخ الإسلام مناظرة رابعة مع الاتحادية فقال:"وقد خاطبني مرة شيخ من شيوخ هؤلاء الضلال، لما قدم التتار آخر قدماتهم، وكنت أحرض الناس على جهادهم، فقال لي هذا الشيخ: أقاتل الله؟ فقلت له: هؤلاء التتار هم الله، وهم من شر الخلق؟ هؤلاء خارجون عن دين الله، وإن قدر أنهم كما يقولون فالذي يقاتلهم هو الله، ويكون الله يقاتل الله؟ وقول هذا الشيخ لازم هذا وأمثاله (2) ".
بالنظر إلى تلك المناظرات وملابسات وقوعها وما يلحق بها، تظهر الأمور الآتية:
1- اهتم شيخ الإسلام بمناظرة أهل وحدة الوجود، وقرر بطلان مذهبهم في عدة مصنفات، نظراً لعظم محنتهم، وتفاقم شأنهم، كما أوضحه بقوله:
__________
(1) 63) . منهاج السنة النبوية 5/378، 379 = باختصار يسير
(2) 64) . الرد على البكري ص 191، وانظر مجموع الفتاوى 2/309.(9/20)
"ولهذا لما وقعت محنة هؤلاء بمصر والشام، وأظهروا مذهب الجهمية الذي هو شعارهم في الظاهر، وكتموا مذهب الاتحادية الذي هو حقيقة تجهمهم، وأضلوا بعض ولاة الأمور حتى يرفعوا إخوانهم، ويهينوا من خالفهم، وصار كل من كان إلى الإسلام أقرب، أقصوه وعزلوه وخفضوه، وكل من كان عن الإسلام أبعد رفعوه، حتى رفعوا شخصاً كان نصرانياً وصّيروه بعد الإسلام سبعينياً" (1) فرفعوا درجته حتى جعلوا لا يصل إلى أحد رزق، ولا ولاية إلا بخطه، هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً، حتى أزال الله كلمتهم عن المسلمين، وأذلهم بعد العز، وأهلك من أهلك منهم، وكشف أسرارهم وهتك أستارهم (2).
وذكر شيخ الإسلام - في موضع آخر - أن ما جرى للمؤمنين مع أولئك الاتحادية هي أشهر المحن الواقعة في الإسلام (3).
2- بيّن ابن تيمية شناعة كفرهم، وكشف عن زندقتهم - في مواطن كثيرة - فكان مما قاله: "وأما ما جاء به هؤلاء من الاتحاد العام، فما علمتُ أحداً سبقهم إليه إلا من أنكر وجود الصانع، مثل فرعون والقرامطة، وذلك أن حقيقة أمرهم أنهم يرون أن عين وجود الحق هو عين وجود الخلق، وأن وجود ذات الله خالق السموات والأرض، هي نفس وجود المخلوقات، فلا يتصور عندهم أن يكون الله تعالى خلق غيره، ولا أنه رب العالمين.. " (4) .
إلى أن قال: " وكنت أخاطب بكشف أمرهم لبعض الفضلاء الضالين، وأقول إن حقيقة أمرهم هو حقيقة قول فرعون، المنكر لوجود الخالق الصانع، حتى حدثني بعض عن كثير من كبرائهم أنهم يعترفون ويقولون نحن على قول فرعون. " (5) .
__________
(1) 65) . على طريقة ابن سبعين، وهو عبدالحق الرقوطي، اشتغل بالفلسفة فأصابه إلحاد، وجاور بغار حراء راجياً النبوة، هلك عام 669هـ انظر البداية والنهاية 13/61، وشذرات الذهب 5/ 329.
(2) 66) . الصفدية 1/ 271، 272 = باختصار يسير
(3) 67) . انظر السبعينية ص 527
(4) 68) . مجموع الفتاوى 2/ 466
(5) 69) . مجموع الفتاوى 2/ 468(9/21)
وقال في موضع آخر: " فإن هؤلاء حقيقة قولهم تعطيل الصانع، وأنه ليس وراء الأفلاك شيء، فلو عدمت السموات والأرض لما يكن ثمّ شيء موجود، ولهذا كان يصرح بذلك التلمساني، وهو كان أعرفهم بقولهم وأكملهم تحقيقاً له، ولهذا خرج إلى الإباحة والفجور، وكان لا يحرّم الفواحش ولا المنكرات، ولا الكفر والفسوق والعصيان.
وحدثني الثقة الذي رجع عنهم لما انكشفت له أسرارهم أنه قرأ عليه، "فصوص الحكم " لابن عربي، قال: فقلت له: هذا الكلام يخالف القرآن. فقال القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا (1) .
ومعلوم أن أصول الإيمان ثلاثة: الإيمان بالله ورسله واليوم الآخر، وهم ألحدوا في الأصول الثلاثة، أما الإيمان بالله فجعلوا وجود المخلوق هو وجود الخالق، وهذا غاية التعطيل، وأما الإيمان باليوم الآخر، فادعى ابن عربي أن أصحاب النار يتنعمون في النار، كما يتنعم أهل الجنة، وأنه يسمى عذاباً من عذوبة طعامه.
ولهذا قال بعض أصحابنا لهؤلاء الملاحدة: الله يذيقكم هذه العذوبة.
وأما الإيمان بالرسل فقد ادعوا أن خاتم الأولياء أعلم بالله من خاتم الأنبياء، وأن خاتم الأنبياء هو وسائر الأنبياء يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء " (2) .
3- مع أن شيخ الإسلام ابن تيمية قد امتحن بسببهم، فشكوه إلى الدولة (3)، إلا أنه ظل شديد الإنكار عليهم مباشراً الاحتساب بنفسه، وأكّد على أهمية الاحتساب عليهم، وأن القيام عليهم من آكد الواجبات، فقال: " إن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات، لأنهم أفسدوا العقول والأديان، على خلق من المشايخ والعلماء، والملوك والأمراء، وهم يسعون في الأرض فساداً، ويصدون عن سبيل الله " (4)
__________
(1) 70) . انظر: مجموع الفتاوى 2/ 127
(2) 71) . الصفدية 1/ 244 – 247 = باختصار
(3) 72) . انظر: العقود الدرية ص 178، البداية والنهاية 14/45، والدرء 5/ 170
(4) 73) . مجموع الفتاوى 2/ 132.(9/22)
وقال في موضع آخر: " إن إنكار هذا المنكر الساري في كثير من المسلمين أولى من إنكار دين اليهود والنصارى، الذي لا يضل به المسلمون، لاسيما وأقوال هؤلاء شر من أقوال اليهود والنصارى وفرعون، ومن عرف معناها واعتقدها كان من المنافقين.
وليس لهذه المقالات وجه سائغ.. فإن ضررها على المسلمين أعظم من ضرر السموم التي يأكلونها ولا يعرفون أنها سموم.. فهؤلاء يسقون الناس شراب الكفر والإلحاد في آنية أنبياء الله وأوليائه، ويلبسون ثياب المجاهدين في سبيل الله، وهو في الباطن من المحاربين لله ورسوله " (1).
كما تحدث عن نفاقهم وتلونهم، وإنكاره عليهم فقال: " فإن أحد هؤلاء إن أمكن أن يدّعي الإلهية أو النبوة، ولو بعبارة غريبة لا ينفر عنه الناس فعل، حتى كان في زماننا غير واحد ممن اجتمع بي وأنكرت عليه، وجرى لنا في القيام عليهم فصول ممن يدّعي الرسالة ظاناً أن هذا يسلم له، إذا لم تسلّم له النبوة، فيدّعون الرسالة، فإذا جاء من يخاف منه من العلماء، ادّعى أحدهم الإرسال العام الكوني كإرسال الرياح وإرسال الشياطين " (2) .
ومن وقائع احتسابه عليهم ما كتبه قائلاً: "وغاية من تجده يتحرى الحق منهم أن يقول: العالم لا هو الله ولا غير الله.
ولما وقعت محنة هؤلاء الملاحدة المشهورة، وجرى فيها ما جرى من الأحوال، ونصر الله الإسلام عليهم، طلبنا شيوخهم لنتوّبهم، فجاء من كان من شيوخهم، وقد استعد لأن يظهر عندنا غاية ما يمكن أن يقوله لنا ليسلم من العقاب، فقلنا له: العالم هو الله أو غيره؟ فقال: لا هو الله ولا غيره.
وهذا كان عنده هو القول الذي لا يمكن أحد أن يخالف فيه، ولو علم أنا ننكره لما قاله لنا، وكان من أعيان شيوخهم ومحققيهم (3) "
__________
(1) 74) . مجموع الفتاوى 2/ 359، 360 = باختصار
(2) 75) . السبعينية ص 391، 392
(3) 76) . الدرء 6/ 172(9/23)
4- تضمنت هذه المناظرات الرحمة بالخلق والإشفاق عليهم، والحرص على هدايتهم، فقد أظهر شيخ الإسلام الحق وأبانه لأولئك لاتحادية، فاهتدى منهم أقوام، وصاروا دعاة للحق.
فلم تكن هذه المناظرات مجرد إقامة حجة وكشف شبهة، بل كانت سبيلاً إلى التزام السنة والجماعة، لما تحلّى به شيخ الإسلام من أدب المناظرة، وظهور الحجة، ودرايته العميقة بمذاهب القوم، وتنزّله معهم.
يقول شيخ الإسلام – في هذا المقام – " فلما يسّر الله أني بينت لهم حقائقهم، وكتبت في ذلك من المصنفات ما علموا به أن هذا هو تحقيق قولهم، وتبيّن لهم بطلانه بالعقل الصريح، والنقل الصحيح، رجع عن ذلك من علمائهم وفضلائهم من رجع، وأخذ هؤلاء يثبتون للناس تناقضهم، ويردونهم إلى الحق (1) "
ويقول أيضا: "وقد قال لي أفضل شيوخ هؤلاء بالديار المصرية لما أوقفته على بعض هذا الكتاب.(2) فقال: هذا كفر، وقال لي في مجلس آخر: "هذا الكتاب عندنا من أربعين سنة نعظمه، ونعظم صاحبه، ما أظهر لنا هذه المصائب إلا أنت (3) .
ومن أجل هداية أولئك، ودعوتهم إلى الحق، كان الشيخ يتنزل معهم لعلهم يرجعون، كما في المناظرة الأولى، وكما جاء في إحدى مخاطباته لهم قائلاً: "وقلت لبعض حذاقهم: هب أن هذا الوجود المطلق ثابت في الخارج، وأنه عين الموجودات المشهودة، فمن أين لك أن هذا هو رب العالمين الذي خلق السموات والأرض وكل شيء ؟
فاعترف بذلك، قال : هذا ما فيه حيلة (4) "
__________
(1) 77) . منهاج السنة النبوية 8/ 26.
(2) 78) . يعنى: كتاب الفصوص لابن عربي.
(3) 79) . السبعينية ص 488.
(4) 80) . الجواب الصحيح 3/81.(9/24)
ومن باب الإشفاق على المغترين بالاتحادية، حكى شيخ الإسلام لهم هذا المثال، فقال:" ولقد ضربتُ لهم مرة مثلاً بقوم أخذوا طائفة من الحجاج ليحجوا بهم، فذهبوا بهم إلى قبرص لينصّروهم، فقال لي بعض من كان قد انكشف له ضلالهم من أتباعهم، لو كانوا يذهبون بنا إلى قبرص لكانوا يجعلوننا نصارى، وهؤلاء كانوا يجعلوننا شراً من النصارى.
والأمر كما قال هذا القائل (1) "
ومع أن شيخ الإسلام كشف عن مقالات ابن عربي (2) وما تحويه من أنواع الكفر البواح (3)، والردة المغلظة، إلا أنه قال عنه: "والله تعالى أعلم بما مات الرجل عليه، والله يغفر لجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، والأحياء منهم والأموات " (4) .
5- إذا كان ابن تيمية يقرر أنه لا يحتج مبطل بآية أو حديث صحيح على باطله إلا و في ذلك الدليل ما يدل على نقيض قوله (5)، فإنه قد حقق ذلك وطبّقه في ردّه على أهل الاتحاد و وحدة الوجود.
__________
(1) 81) . مجموع الفتاوى 2/ 361
(2) 82) . هو أبو بكر محمد بن علي الطائي، ارتحل وطاف البلدان، نطق بوحدة الوجود كما في كتابه " الفصوص" وكان يقول بقدم العالم، هلك سنة 638هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء 23/48، شذرات الذهب 5/190.
(3) 83) . انظر: مجموع الفتاوى 2/ 122 - 133
(4) 84) . مجموع الفتاوى 2/ 469
(5) 85) . انظر: الدرء 1/ 374، مجموع الفتاوى 8/ 29، حادي الأرواح لابن القيم ص 208.(9/25)
ومن ذلك احتجاجهم بحديث الرؤية (1) على ظهور الله تعالى في كل صورة من الصور المشهودة في الدنيا والآخرة، حيث بيّن شيخ الإسلام أن الحديث حجة عليهم (2)، ودليل على فساد مذهبهم من وجوه:
أ) "أن ناساً سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل يرون ربهم يوم القيامة؟ ولم يسألوه عن رؤيته في الدنيا، فإن هذا كان معلوماً عندهم أنهم لا يرونه في الدنيا، وقد أخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك " (3).
إلى أن قال: " فلا أحد من الناس يرى الله في الدنيا بعينه، لا في صورة ولا في غير صورة، وأن الحديث الذي احتج به الاتحادية على تجليه لهم من الصور في الدنيا يدل على نقيض ذلك " (4) .
ب) "لو كانت الرؤية هي تجليه في صور المخلوقات كلها كما يقوله الاتحادية لقال لهم: إنكم ترون ربكم في هذه الصور " (5) .
جـ) "إنه قال " لا تضامون في رؤيته، و " لا تضارون في رؤيته " أي لا يلحقكم ضير ولا ضيم. وهذا كله بيان لرؤيته في غاية التجلي والظهور، وبحيث لا يلحق الرائي ضرر ولا ضيم، كما يلحق عند رؤية الشيء الخفي والبعيد .
وعلى قول هؤلاء الأمر العكس، فإنهم إذا قالوا يتجلى في كل صورة، من صورة الذباب والبعوض ونحو ذلك من الأجسام الصغيرة، فمعلوم ما يلحق في رؤيتها من الضيم. (6) .
__________
(1) 86) . يعنى حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن أناساً قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا. قال: فإنكم ترونه كذلك.. الحديث أخرجه البخاري ك التوحيد ح (7437) ومسلم ك الإيمان ح (302).
(2) 87) . انظر السبعينية ص 451.
(3) 88) . السبعينية ص 466.
(4) 89) . السبعينية ص 528 = بتصرف يسير.
(5) 90) . السبعينية ص 529.
(6) 91) . السبعينية ص 530(9/26)
6 – تميّز شيخ الإسلام بقوة الحجة وحضورها، فقد كشف عن شبهات القوم، كما في نقضه لما في "لوح الأصالة " مع أنه لم يطلع عليه إلا أنذاك - كما سبق آنفاً -
كما عني ابن تيمية بنقض أصول الاتحادية وأهل وحدة الوجود ومصادرهم، فلا يمكن قطع دابر تلك الشبه إلى بملاحقة أصولها (1)، ومن ذلك تقريره – في غير موضع – أن المطلق في الأذهان لا في الأعيان، فاعترفوا عندئذ بأن هذا التقرير يقلع أصولهم ويخرب بيوتهم، كما جاء في المناظرة الثانية.
ومن ذلك أنه أبطل مقالة الاتحادية من خلال نقض دعواهم بالكشف، وهو من مصادرهم التي عوّلوا عليها، حيث قال: " لكن هؤلاء يقولون: إن لم تترك العقل والنقل لم يحصل لك التحقيق الذي حصل لنا، ويقولون: ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح العقل.
فقلت لبعضهم: إن الأنبياء صلوات الله عليهم أكمل الناس كشفاً، وهم يخبرون بما يعجز عقول الناس عن معرفته، لا بما تعرف عقولهم أنه باطل، فيخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول.
فمن دونهم إذا أخبر عن شهود و كشف، يعلم بصريح العقل بطلانه، علم أن كشفه باطل (2)"
7- حرر شيخ الإسلام القواسم المشتركة بين أرباب وحدة الوجود، وبين الفلاسفة، فمن أوجه الشبه بين الفريقين دعواهم أن الله تعالى هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، وزعم الفلاسفة أن النبوة مكتسبة، وكذا أهل وحدة الوجود، فقط طلب النبوة أمثال السهروردي المقتول (3) وابن سبعين، وإذا كان بعض الفلاسفة كالفارابي يجعل الفيلسوف أعظم النبي، فإن ابن عربي يفضّل الولي على النبي (4).
__________
(1) 92) . انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة 2/ 226
(2) 93) . الجواب الصحيح 3/ 79.
(3) 949 . يحيى بن حبش السهروردي، فيلسوف قليل الدين، له مؤلفات ليست من علوم الإسلام، قتل سنة 587 هـ.
انظر: سير أعلام النبلاء 21/207، شذرات الذهب 4/290.
(4) 95) . انظر: مجموع الفتاوى 7 / 587، 588، والحموية ص 282، والدرء 1/9(9/27)
ثم بيّن أهمية معرفة هذا التشابه، فقال: "ولكن المقصود التنبيه على تشابه رؤوس الضلال، حتى إذا فهم المؤمن قول أحدهم، أعانه على فهم قول الآخر، واحترز منهم، وبيّن ضلالهم لكثرة ما أوقعوا في الوجود من الضلالات " (1) .
ومع تحريره لتلك الأوجه من التشابه، إلا أنه يقرر أوجه التباين و الاختلاف بين الطوائف، وتفاوت الانحراف بين أصحابها، ويؤكد على أهمية معرفة مراتب الانحراف والشرور، تحقيقاً للعدل و مراعاة لقاعدة المصالح والمفاسد، حيث فال: "والمؤمن ينبغي له أن يعرف الشرور الواقعة ومراتبها في الكتاب والسنة، كما يعرف الخيرات الواقعة، مراتبها في الكتاب والسنة، فيقدم ما هو أكثر خيراً، وأقل شراً على ما هو دونه، ويدفع أعظم الشرين باحتمال أدناهما، ويجتلب أعظم الخيرين بفوات أدناهما، فإن من لم يعرف الواقع في الخلق، والواجب في الدين، لم يعرف أحكام الله في عباده " (2) .
ويقول - في موضع آخر: " فقد يكون الرجل على طريقة من الشر عظيمة، فينتقل إلى ما هو أقل منها شراً وأقرب إلى الخير.. فالاتحادية الذين يجعلون الله هو الوجود المطلق، متى تاب الرجل منهم من هذا، وصار يسكِّن نفسه بعشق بعض الصور، وهو لا يعبد إلا الله وحده، كانت هذه الحال خيراً من تلك الحال " (3).
ومن تلك تقريره أن مقالة الاتحادية وأهل وحدة الوجود شرٌّ من مقالة اليهود والنصارى. فهم يعظّمون فرعون، ويدّعون أنه خير من موسى عليه السلام (4)، كما بيّن شيخ الإسلام أن أهل وحدة الوجود متفاوتون، فمنهم العارف ببطن المذهب، ومنهم الجاهل، فإن من كان أعرف بحقيقة المذهب كان أظهر كفراً وإلحاداً، وأما الجهال فيحسنون الظن بقول هؤلاء ولا يفهمونه " (5) .
__________
(1) 96) . مجموع الفتاوى 7/ 593
(2) 97) . جامع الرسائل 2/ 305
(3) 98) . الاستقامة 1/ 464، 466 = بتصرف يسير
(4) 99) . انظر مجموع الفتاوى 2/359
(5) 100) . مجموع الفتاوى 2/366(9/28)
بل إن رؤوس المذهب ليسوا سواءً، فابن عربي أقربهم إلى الإسلام، والصدر الرومي كان متفلسفاً فهو أبعد عن الإسلام، وأما الفاجر التلسماني (1) فهو أخبث القوم وأعمقهم في الكفر (2).
3- مناظرات ابن تيمية للقبوريين:
كان لشيخ الإسلام صولات مع القبوريين، فقد ناظرهم بالدليل والبرهان، وأجاب عن شبهاتهم، ودحض أكاذيبهم بالحجة والبيان، كما كسر المشاهد والأوثان، وسنورد هاتين المناظرتين:
المناظرة الأولى: ساق إبراهيم بن أحمد الغياني هذه المناظرة:
"شرع شيخ الإسلام يعيب تلك الأحجار، التي كان الناس يتبركون بها، وينهى الناس عن إتيانها، أو أن يحسن بها الظن.
فقال بعض الناس: إن قد جاء حديث " لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به"
__________
(1) 101) . أبو الربيع سليمان بن علي العابدي، شاعر النحوي، نسب إليه حلول و اتحاد وزندقة، له مؤلفات، هلك سنة 690هـ.
وانظر: البداية والنهاية 13/226، شذرات الذهب 5/ 412.
(2) 102) . مجموع الفتاوى 2/470-472.(9/29)
فقال الشيخ: هذا الحديث كذب مختلق و إفك مفترى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والذي صحّ وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربّه عزّ وجلّ أنه قال: "أنا عند ظن عبدي بي " (1)، وقال " لا يموتن أحدكم إلا هو يحسن الظن بالله " (2) فهو الرب العظيم الكبير المتعال، الذي بيده ملكوت كل شيء، يُحسن العبد به ظنه، لا يحسن ظنه بالأحجار، فإن الكفار أحسنوا ظنهم بالأحجار فأدخلتهم النار، وقد قال الله تعالى في الأحجار، وفيمن أحسنوا بها الظن حتى عبدوها من دونه " { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } (التحريم:6)، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستجمر من البول بثلاثة أحجار، ما قال أحسنوا ظنكم بها، بل قال استجمروا بها من البول، وقد كسر النبي - صلى الله عليه وسلم - الأحجار التي أحسن بها الظن حتى عبدت - حول البيت" (3).
المناظرة الثانية: - ومن ذلك أنه لما بيّن حال أولئك الغلاة الذين يطلبون حاجاتهم عند القبور، وربما كان صاحب القبر كافراً أو منافقاً, ساق المناظرة الآتية:
__________
(1) 103) . أخرجه البخاري ك التوحيد ح (7405 )، ومسلم ك الذكر والدعاة ح (2675).
(2) 104) . أخرجه مسلم ك الجنة ح ( 2877).
(3) 105) . الجامع لسيرة ابن تيمية ص 89، 80 = باختصار(9/30)
" وكان بالبلد جماعة كثيرون يظنون في العبيديين (1) أنهم أولياء الله تعالى، فلما ذكرتُ لهم أن هؤلاء كانوا منافقين زنادقة، وخيار من فيهم الرافضة، جعلوا يتعجبون ويقولون: نحن نذهب بالفرس التي بها مغل (2) إلى قبورهم، فتشفى عند قبورهم، فقلت لهم: هذا من أعظم الأدلة على كفرهم، وطلبتُ طائفة من سياس الخيل، فقلت: أنتم بالشام ومصر إذا أصاب الخيل المغل أين تذهبون بهم؟ فقالوا: في الشام نذهب بها إلى القبور التي ببلاد الإسماعيلية، وأما في مصر فنذهب بها إلى دير هناك للنصارى، ونذهب بها إلى قبور هؤلاء الأشراف، وهم يظنون أن العبيديين شرفاء لما أظهروا أنهم من أهل البيت، فقلت: هل تذهبون بها إلى قبور صالحي المسلمين؟ فقالوا: لا. فقلت لأولئك: اسمعوا إنما يذهبون بها إلى قبور الكفار والمنافقين، وبيّنت لهم سبب ذلك، قلت: لأن هؤلاء يعذبون في قبورهم، والبهائم تسمع أصواتهم، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح، فإذا سمعت ذلك فزعت، فبسبب الرعب الذي يحصل لها تنحل بطونها ـ فتروث، فإن الفزع يقتضي الإسهال، فيتعجبون من ذلك، وهذا المعنى كثيراً ما كنت أذكره للناس.. (3) "
تسترعي هذه المناظرات عدة أمور، نورد منها ما يلي:
1- يعوّل القبوريون على أحاديث مكذوبة، وأخبار مغلوطة، فالنقل الذي يحتجون به " إما كذب أو غلط، أو ليس بحجة " (4) .
__________
(1) 106) . وهم الذين يُسمون كذباً بالفاطميين، انظر الكلام عن نسبهم في مجموع الفتاوى لابن تيمية 35/ 128- 132
(2) 107) . المغل: وجع أو داء في البطن. انظر: ترتيب القاموس المحيط للزاوي 4/ 266، والمعجم الوسيط 2/ 886
(3) 108) . الرد على البكري ص 309، 310 = باختصار يسير، وانظر الجامع لسيرة ابن تيمية ص 88.
(4) 109) . اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 688(9/31)
ومن ذلك ما قاله شيخ الإسلام: " قدم بعض شيوخ المشرق، وتكلم معي في هذا (1)، فبينت له فساد هذا، فقال: أليس قد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور " فقلت: هذا مكذوب باتفاق أهل العلم، لم يروه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد من علماء الحديث " (2) .
2- أن غلبة الجهل سبب في ظهور الاستغاثة بالأموات، ووقوع الشرك في توحيد العبادة، فيستغيث أولئك الجهال بأصحاب القبور، وقد تقضي الشياطين حوائجهم، فيظنون ذلك كرامة، وإنما هي أحوال شيطانية ناشئة عن تلك الوثنية (3).
وقد قال شيخ الإسلام عن هؤلاء القبوريين: " ليس معهم دليل شرعي ولا نقل عن عالم مرضي، بل عادة جروا عليها كما جرت عادة كثير من الناس بأنه يستغيث بشيخه في الشدائد ويدعوه، وكان بعض الشيوخ الذين أعرفهم، وله فضل وعلم وزهد إذا نزل به أمر خطا إلى جهة الشيخ عبدالقادر خطوت معدودات، وهؤلاء ليس لهم مستند شرعي من كتاب أو سنة، أو قول عن الصحابة والأئمة.. وكلما كان القوم أعظم جهلاً وضلالاً، كانت هذه الأحوال الشيطانية عندهم أكثر.." (4) .
3- كانت حجة شيخ الإسلام ظاهرة جلية في ردّه على القبوريين، لما احتجوا بحديث " لو أحسن أحدكم بحجر لنفعه "، فقد بيّن أنه كذب مختلق، وأن المتعيّن هو إحسان الظن بالله تعالى، فهو ربّ العالمين، بيده الأمر كله، ولما أحسن الكفار ظنهم بالأحجار، لم تنفعهم بل أدخلتهم النار، فهذه الأحجار لا تستحق إلا الإزالة والاستجمار.
__________
(1) 110) . أي في دعاء الأموات.
(2) 111) . الرد على البكري ص 302، وانظر: اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 688
(3) 112) . انظر: مجموع الفتاوى 35/ 115، ونظرية العقد لابن تيمية ص 29.
(4) 113) . الرد على البكري ص 250، 251 = باختصار(9/32)
وقد ساق شيخ الإسلام حجة عقلية في إبطال تلك الوثنية فقال: " ثم إنك تجد كثيراً من هؤلاء الذي يستغيثون عند قبر أو غيره، كل منهم قد اتخذ وثناً أحسن به الظن، وأساء الظن بآخر، وكل منهم يزعم أن وثنه يستجاب عنده، ولا يستجاب عند غيره، فمن المحال إصابتهم جميعاً، وموافقة بعضهم دون بعض تحكم، وترجيح بلا مرجح، والتدين بدينهم جميعاً جمع بين الأضداد، فإن أكثر هؤلاء إنما يكون تأثرهم - فيما يزعمون - بقدر إقبالهم على وثنهم، وانصرافهم عن غيره..(1) "
ولما استدلوا - في المناظرة الأخرى - بأن الخيل تشفى عند قبور العبيديين، قلب شيخ الإسلام الدليل عليهم، وبيّن أن شفاء الخيل بسبب ما تسمعه من العذاب الذي يعقبه الفزع والإسهال.
4- لم يقتصر شيخ الإسلام على الجانب العلمي في تلك المخاطبات والمناظرات، بل اقترن به جانب عملي احتسابي، فعمد إلى تكسير الأوثان، ومن ذلك أنه أزال العمود المخلّق، وكسر بلاطة سوداء زعموا أن عليها كف النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما حطم صخرة كبيرة كان الناس ينذرون لها، ويتبركون بها، إلى غير ذلك من الوقائع التي ساقها الغياني في رسالة مفرده (2).
5- قرر شيخ الإسلام أن النصر على الأعداء إنما يكون بالاستغاثة بالله تعالى واللجأ إليه، وأما الاستغاثة بالأموات فهو سبيل الهزيمة والخنوع للأعداء، فأكّد على أهمية هذا الأصل - وهو دعاء الله تعالى والاستغاثة به - وبيّن أن تحقيقه كان سبب هزيمة التتار آنذاك، فقال: " فإنا بعد معرفة ما جاء به الرسول نعلم بالضرورة أنه لم يشرع لأمته أن تدعو أحداً من الأموات، لا الأنبياء، ولا الصالحين ولا غيرهم، لا بلفظ الاستغاثة، ولا بغيرها..
__________
(1) 114) . اقتضاء الصراط المستقيم 2/ 688.
(2) 115) . عنوان هذه الرسالة: فصل فيما قام به ابن تيمية وتفرّد به، وذلك في تكسير الأحجار، وهي ضمن الجامع لسيرة ابن تيمية ص 78 – 96، وانظر: البداية لابن كثير 14/34، وإغاثة اللهفان 1/329.(9/33)
ولهذا ما بيّنت هذه المسألة قط لمن يعرف أصل الإسلام إلا تفطن، وقال: هذا أصل دين الإسلام، وكان بعض الأكابر من الشيوخ العارفين يقول: هذا أعظم ما بينته لنا، لعلم بأن هذا أصل الدين إلى أن قال – ولما قدم العدو – الخارج عن شريعة الإسلام – دمشق، خرجوا يستغيثون بالموتى عند القبور التي يرجون عندها كشف ضرهم، وقال بعض الشعراء:
يا خائفين من التتر لوذوا بقبر أبي عمر
فقلت لهم: هؤلاء الذين تستغيثون بهم لو كانوا معكم في القتال لانهزموا.. فلما كان بعد ذلك جعلنا نأمر الناس بإخلاص الدين لله عز وجل، والاستغاثة به.. فلما أصلح الناس أمورهم وصدقوا في الاستغاثة بربهم، نصرهم على عدوهم نصراً عزيزاً، ولم تنهزم التتار مثل هذه الهزيمة قبل ذلك (1) "
4- مناظرات ابن تيمية للأحمدية (الرفاعية البطحائية )
جرت هذه المناظرات في ثلاثة مجالس سنة 705هـ، وقد بسط شيخ الإسلام وقائع المناظرة في رسالة مفردة (2) ونظراً لطولها فسنورد أهم أحداثها كما يلي:
يقول شيخ الإسلام - في مقدمة تلك المناظرة - :" فقد كتبت ما حضرني ذكره في المشهد الكبير بقصر الإمارة، بحضرة الخلق من الأمراء والكتاب والعلماء والفقراء، لتشوف الهمم إلى معرفة ذلك وحرص الناس على الاطلاع عليه.. ولما حصل بها من عز الدين، وظهور كلمته العليا، وظهور زيف من خرج عن ذلك. (3)"
__________
(1) 116) . الرد على البكري ص 376، 377 = باختصار
(2) 117) . كما في مجموع الفتاوى 11/ 445 – 475، كما حكى ابن عبدالهادي وابن كثير هذه المناظرة. انظر العقود الدرية ص 131، والبداية 14/36
(3) 118) . مجموع الفتاوى 11/ 446، 446 = باختصار(9/34)
- " وقد تقدمت لي معهم وقائع متعددة، بيّنت فيها لمن خاطبته منهم، ومن غيرهم بعض ما فيهم من حق وباطل، وأحوالهم التي يسمونها الإشارات، وتاب منهم جماعة، وأدب منهم جماعة من شيوخهم، وبينت صورة ما يظهرونه من المخاريق.. وإن عامة ذلك من حيل معروفة، وأسباب مصنوعة.. ولما عارضتهم بأني أدخل معكم النار بعد أن نغتسل بما يذهب الحيلة، ومن احترق كان مغلوباً، فلما رأوا الصدق أمسكوا عن ذلك (1)"
- " فلما نهيتهم عن ذلك، أظهروا الموافقة، ومضت على ذلك مدة، والناس يذكرون عنهم الاصرار على الإبتداع في الدين، وإظهار ما يخالف شرعة المسلمين.. وحضر عندنا منهم شخص فنزعنا الغل من عنقه، فحملهم هواهم على أن تجمعوا تجمع الأحزاب، مظهرين الضجيج والإرعاد، واضطراب الرءوس والأعضاء، وإبراز ما يدعون من الحال والمحال.
فلما رأي الأمير ذلك هاله ذلك المنظر، ثم دخل عليه شيخهم، وأظهر الشكوى عليّ، فأرسل إلىّ الأمير يريد كشف أمرهم..، فلما علمت ذلك أُلقي في قلبي أن ذلك لأمر يريده الله من إظهار الدين، وكشف حال المبتدعين (2) "
"فانتدب شيخهم وقال: نحن لنا أحوال وأمور باطنة لا يوقف عليها.
فقلت له: الباطن والظاهر مردود إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ليس لأحد الخروج عن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لا من المشايخ والفقراء، ولا من الملوك والأمراء..
فقال: نحن لنا أحوال خارقة - كالنار وغيرها -.
فقلت: أنا أخاطب كل أحمدي أي شيء فعلوه في النار، فأنا أصنع مثل ما تصنعون، ومن احترق فهو مغلوب، ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار، فسألني الناس عن ذلك؟ فقلت: لأن لهم حيلاً في الاتصال بالنار يصنعونها من أشياء..
__________
(1) 119) . مجموع الفتاوى 11/447 = باختصار
(2) 120) . مجموع الفتاوى 11/452-454 = باختصار(9/35)
فأخذ شيخهم يدّعي القدرة على ذلك، ويظهر التحايل.. فقلت: هذا تطويل وتفريق للجمع، ولا يحصل به مقصود، بل قنديل يوقد وأدخل إصبعي وإصبعك فيه بعد الغسل، ومن احترقت إصبعه فهو مغلوب، فلما قلت ذلك تغيّر و ذلّ.
ثم قلت لهم: ومع هذا فلو دخلتم النار، وخرجتم مها سالمين، لم يكن في ذلك ما يدل على صحة ما تدعونه من مخالفة الشرع.
ومشايخهم يتضرعون عند الأمير في طلب الصلح، وجعلتُ ألح عليه في إظهار ما ادعوه من النار مرة بعد مرة، وهو لا يجيبون.
فلما ظهر للحاضرين عجزهم وكذبهم، طلبت منهم متابعة الكتاب والسنة وأن يلتزموا هذا التزاماً عاماً، ومن خرج عنه ضربت عنقه. " (1) .
- "فلما أظهروا التزام الكتاب والسنة، وجموعهم بالميدان بأصواتهم وحركاتهم الشيطانية يظهرون أحوالهم، قلت لشيخهم،: أهذا موافق للكتاب والسنة؟ فقال: هذا من الله حال يَرِد عليهم، فقلت: هذا من الشيطان الرجيم.. فقال: ما في السموات والأرض حركة إلا بمشيئة الله تعالى، فقلت له: هذا من باب القدر، وهكذا كل ما في العالم من كفر وفسوق هو بمشيئته، وليس ذلك بحجة لأحد في فعله.." (2) .
- "فلما ظهر قبح البدع في الإسلام، وأنهم مبتدعون بدعاً منكرة، فيكون حالهم أسوأ من حال الزاني والسارق، فقال شيخهم: لا تتعرض لهذا الجناب العزيز - يعنى الأحمدية - فقلت: ويحك، أي شيء هو الجناب العزيز، وجناب من خالفه أولى بالعز، تريدون أن تبطلوا دين الله ورسوله.. وقلت لهم: يا شبه الرافضة، يا بيت الكذب - حتى قيل فيهم، لا تقولوا أكذب من اليهود على الله، ولكن قولوا أكذب من الأحمدية على شيخهم -.
__________
(1) 121) . مجموع الفتاوى 11/464-468 = باختصار
(2) 122) . مجموع فتاوى 11/470 = باختصار(9/36)
ولما رددتُ عليهم الأحاديث المكذوبة، أخذوا يطلبون مني كتباً صحيحة ليهتدوا بها، فبذلت لهم ذلك، وأعيد الكلام أنه من خرج عن الكتاب والسنة ضربت عنقه وأعاد الأمير هذا الكلام، واستقر الكلام على ذلك، والحمد لله (1).."
ونورد بعد هذا العرض المختصر الأمور التالية:
1 – مما كان يقرره شيخ الإسلام: وجوب العدل مطلقاً، فكان يقول: " أوجب الله العدل لكل أحد، على كل أحد، في كل حال." (2) .
ويتجلى من هذه المناظرات ما تحلّى به شيخ الإسلام من العدل والإنصاف في جميع الأحوال، فمع خصومته للأحمدية، لما تلبّسوا به من بدع شنيعة، وأحوال شيطانية، إلا أنه أنصفهم فأثبت ما لبعضهم من التعبد والزهد ولين الجانب (3)، وخاطب الأحمدية قائلاً: فالتتري وأمثاله سود، وأهل الإسلام المحض بياض، وأنتم بلق فيكم سواد وبياض " (4).
وما أروع مقالة بعض العلماء - عن ابن تيمية -: "وددتُ أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه (5) "
__________
(1) 123) . مجموع الفتاوى 11/474، 475 = باختصار
(2) 124) . الرد على المنطقيين ص 425، وانظر: جامع المسائل 5/166
(3) 125) . انظر: مجموع الفتاوى 11/446
(4) 126) . مجموع الفتاوى 11/448.
(5) 127) . مدارج السالكين 2/345.(9/37)
2- نلحظ في ثنايا هذه المناظرة ما أصاب شيخ الإسلام من المحن والابتلاء، فالأحمدية قد أجلبوا عليه بأحوالهم وخوارقهم، وحرّضوا الأمراء عليه، والكثير من الصوفية والفقهاء مع أولئك الأحمدية، بل إن بعضهم طعن في شيخ الإسلام لأجل رده على الأحمدية، فانتصر له العلامة أحمد بن إبراهيم الواسطي (1) قائلاً: "أما ردّه على الطائفة الفلانية (2) أيها المُفرِط التائه، الذي لا يدري ما يقول، أ فيقوم دين محمد بن عبدالله الذي أنزل من السماء، إلا بالطعن على هؤلاء؟ (3) وكيف يظهر الحق إن لم يُخذل الباطل؟ لا يقول هذا إلا تائه، أو حاسد. " (4) .
3- تبدو شجاعة ابن تيمية ظاهرة جلية، فقد كان قوي القلب ثابت الفؤاد، فلم تفزعه تلك الأحوال والمخاريق، فتحدى الأحمدية، وعارضهم، في مستهل المناظرة، وقال: " أنا معارض لكم مانع لكم ؛ لأنكم تقصدون بذلك إبطال شريعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن كان لكم قدرة على إظهار ذلك فافعلوا. فانقلبو صاغرين (5) "
وصاح بهم في آخرها – قائلاً: "يا شبه الرافضة يا بيت الكذب.. أنا كافر بكم وبأحوالكم، فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون" (6) .
__________
(1) 128) . وهو المعروف بابن شيخ الحزّامين،كان شافعي المذهب صوفي المسلك، فلما قدم الشام تتلمذ على يد ابن تيمية فانتقل إلى مذهب أحمد وترك التصوف، له مؤلفات، توفي سنة 711هـ. انظر: الدرر الكامنة 1/91، وشذرات الذهب 6/24.
(2) 129). يعنى: الأحمدية، كما صرّح بذلك في كلام سابق، انظر الجامع لسيرة ابن تيمية ص 75.
(3) 130) . كان العلامة الواسطي عارفاً بهم، فقد كان أبوه شيخ الأحمدية، ونشأ بينهم. انظر: شذرات الذهب 6/ 24.
(4) 131) . الجامع سيرة ابن تيمية ص 76.
(5) 132) . مجموع الفتاوى 11/ 448
(6) 133) . مجموع الفتاوى 11/474، 475 = باختصار(9/38)
ولقد اعترف خصومه بشجاعته، فقالوا عنه: "هذا رجل محجاج خصِم، وماله قلوب يفزع من الملوك، وقد اجتمع بقازان ملك التتر وكبار دولته، وما خافهم (1).
وكثيراً ما يقرر شيخ الإسلام أن صلاح بني آدم لا يتم في دينهم ودنياهم إلا بالشجاعة والكرم (2)، وكان يقول أيضاً: " فلا تتم رعاية الخلق وسياستهم إلا بالجود الذي هو العطاء، والنجدة التي هي الشجاعة، بل لا يصلح الدين والدنيا إلا بذلك " (3).
4- أكّد ابن تيمية - في غير موضع - على أصل الاتباع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وحذّر من البدع والمحدثات، ومن ذلك: تطويق أغلال الحديد في أعناقهم على سبيل التعبد، فلا يصح التقرّب بذلك إلى الله تعالى، لأن عبادة بما لم يشرعه ضلالة (4).
يقول شيخ الإسلام - في هذا الشأن -: " فهذا أصل عظيم تجب معرفته والاعتناء به وهو أن المباحات إنما تكون مباحة إذا جعلت مباحات، فأما إذا اتخذت واجبات أو مستحبات كان ذلك ديناً لم يشرعه الله، ولهذا عظم ذم الله في القرآن لمن شرع ديناً لم يأذن الله به (5) ".
كما قرر – في ثنايا المناظرة – أن البدعة شرّ من المعصية، وساق أدلته على ذلك (6).
5- طلب الأحمدية من شيخ الإسلام أن يسلّم إليهم حالهم، فلا يعارضهم ولا ينكر عليهم(7)، فامتنع عن ذلك، وأمرهم باتباع الشريعة، وأما مسألة فلان يسلّم إليه حاله، أو لا يسلّم إليه حاله، فمن المسائل التي تنازع الناس فيها بين إفراط وتفريط.
__________
(1) 134) . الجامع لسيرة ابن تيمية ص 92
(2) 135) . انظر: الاستقامة 2/ 269
(3) 136) . مجموع الفتاوى 28/291
(4) 137) . انظر: مجموع الفتاوى 11/450
(5) 138) . مجموع الفتاوى 11/ 451 = باختصار
(6) 139) . انظر: مجموع الفتاوى 11/ 472
(7) 140) . انظر: مجموع الفتاوى 11/ 454، 465(9/39)
وقد حقق شيخ الإسلام هذه المسألة في أحد أجوبته، وبيّن أن قولهم: يسلّم له حاله، له معنى سائغ إذا أريد به رفع اللوم عن صاحب الحال، فلا يؤثّم ولا يعاقب، وإن أريد بتسليم حاله أن يكون صنيعه صواباً أو صحيحاً، فلا يجوز، ولا يسلّم حاله بهذا المعنى (1).
6 – تميّز شيخ الإسلام بالثقة بالله تعالى وحسن الظن به عز وجل، كما هو بيّن في مناظراته وتقريراته، فإن الأحمدية لما اجتمعوا تجمع الأحزاب، وتكالبوا تكالب الأعداء، وأظهروا خوارقهم، وطالبوا بحضور ابن تيمية، قال حينئذ: "فلما علمت ذلك، ألقى في قلبي أن ذلك لأمر يريده الله من إظهار الدين، وكشف حال أهل النفاق المبتدعين" (2).
وقرر هذا المعني في أكثر من موضع، ومن ذلك قوله: " ومن أعظم أسباب ظهور الإيمان والدين، وبيان حقيقة أنباء المرسلين: ظهور المعارضين لهم من أهل الإفك المبين.. وذلك أن الحق إذا جحد وعورض بالشبهات، أقام الله تعالى له مما يحق به الحق، ويبطل به الباطل من الآيات والبينات بما يظهره من أدلة الحق و براهنيه الواضحة، وفساد ما عارضه من الحجج الداحضة " (3).
7- لما أبطل شيخ الإسلام أحوالهم، وبيّن مخالفتهم الشرع المنزّل، احتجوا بالقدر قائلين:
" ما في السموات و الأرض حركة إلا بمشيئته "، فأجابهم بقوله: " هذا من باب القدر، وهكذا كل ما في العالم من كفر وفسق هو بمشيئته، وليس ذلك بحجة لأحد في فعله، بل ذلك مما زيّنه الشيطان وسخطه الرحمن " (4).
__________
(1) 141) . انظر: مجموع الفتاوى 10/ 378 – 386.
(2) 142) . مجموع الفتاوى 11/ 454
(3) 143) . الجواب الصحيح 1/ 13، 14 = باختصار، وانظر: مجموع الفتاوى 28/ 57 - 59
(4) 144) . مجموع الفتاوى 11/ 470(9/40)
وقد ساق شيخ الإسلام جواباً آخر على المحتجين بالقدر في فعل المصايب، كما جاء في مناظرته التي حكاها ابن القيم بقوله: "وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله – يقول: لمتُ بعض الإباحية، فقال لي: المحبة نار في القلب، تحرق ما سوى مراد المحبوب، والكون كله مراده فأي شيء أبغض فيه؟ قال الشيخ: فقلت له: إذا كان المحبوب قد أبغض أفعالاً و أقوالاً، وأقواماً، وعاداهم فطردهم ولعنهم، فأحببتهم، تكون موالياً للمحبوب أو معادياً له؟ قال: فكأنما ألقم حجراً، وافتضح بين أصحابه، وكان مقدماً فيهم مشاراً إليه " (1) .
5- مناظرات ابن تيمية للرافضة:
مع أن شيخ الإسلام أخبر بوقوع مناظرات ومفاوضات مع الرافضة يطول وصفها، إلا أنه لم يتيسر الوقوف إلا على هاتين المناظرتين:
المناظرة الأولى: جادل ابن تيمية أحد شيوخ الرافضة، وكان الجدل والبحث في مسألة دعوى عصمة الإمام، وأن أمير المؤمنين على بن أبي طالب - رضي الله عنه - معصوم من الصغائر والكبائر فحاجّه شيخ الإسلام في أن العصمة لم تثبت إلا للأنبياء عليهم السلام، وأن علياً وعبدالله بن مسعود رضي الله عنهما اختلفا في مسائل وقعت، وأن تلك المسائل عُرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فصوّب فيها قول ابن مسعود - رضي الله عنه - (2).
المناظرة الثانية: ساق ابن تيمية مناظرته لشيخ رافضي في إحدى مسائل الإمامة فقال:
"ولقد طلب أكابر شيوخهم الفضلاء أن يخلو بي، وأتكلم معه في ذلك، فخلوتُ به وقررت له ما يقولونه في هذا الباب، كقولهم: إن الله أمر العباد، ونهاهم، فيجب أن يفعل بهم اللطف الذي يكونون عنده أقرب إلى فعل الواجب وترك القبيح.. وهذا أخذوه من المعتزلة.
__________
(1) 145) . مدارج السالكين 3/14، وانظر: مجموع الفتاوى 10/ 210، وطريق الهجرتين ص 303
(2) 146) . انظر: العقود الدرية ص 122 = باختصار(9/41)
ثم قالوا: والإمام لطف؛ لأن الناس إذا كان لهم إمام يأمرهم بالواجب وينهاهم عن القبيح، كانوا أقرب إلى فعل المأمور، وترك المحظور، فيجب أن يكون لهم إمام، ولابد أن يكون معصوماً، لأنه إذا لم يكن معصوماً لم يحصل به المقصود، ولم تدع العصمة لأحد بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا لعليّ، فتعيّن أن يكون هو إياه للإجماع على انتفاء ما سواه، وبسطت له العبارة في هذه المعاني.
ثم قالوا: وعليّ نصّ على الحسن، والحسن على الحسين، إلى أن انتهت النوبة إلى المنتظر محمد بن الحسن فاعترف بأن هذا تقرير مذهبهم على غاية الكمال.
قلت له: فأنا وأنت طالبان للعلم والحق، وهم يقولون: من لم يؤمن بالمنتظر فهو كافر، فهذا المنتظر هل رأيته؟ أو رأيت من رآه؟ أو تعرف شيئاً من كلامه الذي قاله هو؟ أو ما أمر به أو ما نهى عنه مأخوذاً كما يؤخذ عن الأئمة؟.
قال: لا.
قلت: فأي فائدة في إيماننا هذا؟ وأي لطف يحصل لنا بهذا؟ ثم كيف يجوز أن يكلفنا الله بطاعة شخص، ونحن لا نعلم ما يأمرنا به، ولا ما ينهانا عنه، ولا طريق لنا إلى معرفة ذلك بوجه من الوجوه؟ وهم من أشد الناس إنكاراً لتكليف ما لا يطاق، فهل يكون في تكليف ما لا يطاق أبلغ من هذا؟ (1) "
وبالنظر إلى هاتين المناظرتين وما يحتف بهما، نسوق الجمل الآتية:
1- الإمامة أهم أصول الرافضة " فهي الأصل الذي تدور عليه أحاديثهم، وترجع إليه عقائدهم، وتلمس أثره في فقههم وأصولهم، وتفاسيرهم وسائر علومهم " (2) .
والإمامة مما شذّ به الرافضة عن سائر الطوائف، ولذا قال شيخ الإسلام: "خاصة مذهب الرافضة الإمامية من الاثني عشرية ونحوهم هو إثبات الإمام المعصوم، وادعاء ثبوت إمام عليّ بالنص عليه،
ثم على غيره واحداً بعد واحد " (3) .
__________
(1) 147) . منهاج السنة النبوبة 1/101-103 = باختصار، وانظر: التسعينية 2/ 628.
(2) 148) . أصول مذهب الشيعة للقفاري 2/653
(3) 149) . التسعينية 2/ 625(9/42)
وأما أصولهم الأخرى كالتوحيد والعدل والنبوة، فيشتركون مع سائر أهل الأهواء.
فلا عجب أن يعنى شيخ الإسلام بنقض أصل الإمامة، وبيان ما يحويه من فساد (1)، كدعواهم بالنص على الأئمة الاثنى عشر، وعصمتهم، وأن الإمام المنتظر لطف من الله، فإنه إذا انتقض هذا الأصل، انتقض ما يبنى عليه من عقائدهم و آرائهم.
2- لم يكتف شيخ الإسلام بمناظرة الرافضة ومجادلتهم، بل جاهدهم بالسنان، وغزاهم في عقر دارهم، وذلك لما عليه الرافضة من الضلال الشنيع، والمكر الكبّار لأهل الإسلام.
كما قال عنهم: "فلينظر كل عاقل فيما يحدث في زمانه، وما يقرب من زمانه من الفتن والشرور والفساد في الإسلام، فإنه يجد معظم ذلك من قِبل الرافضة، وتجدهم من أعظم الناس فتناً وشراً، وأنهم لا يقعدون عمّا يمكنهم من الفتن والشر وإيقاع الفساد بين الأمة " (2).
وتحدث عن نصرتهم لأعداء الله تعالى فقال: "ولهذا الرافضة يوالون أعداء الدين، الذين يعرف كل أحد معاداتهم، من اليهود والنصارى والمشركين، ويعادون أولياء الله الذين هم خيار أهل الدين، وسادات المتقين، ولهذا كان الرافضة من أعظم الأسباب في دخول الترك الكفار إلى بلاد الإسلام.. وهم كانوا أعظم الأسباب في استيلاء النصارى قديماً عل بيت المقدس (3).."
__________
(1) 150) . انظر: منهاج السنة النبوة: 1/ 100، 3/378، 487، 5/163، 6/384 -442.
(2) 151) . منهاج السنة النبوية 6/ 372
(3) 152) . منهاج السنة النبوية 7/ 414 = باختصار(9/43)
لقد أفتى شيخ الإسلام بغزوهم، ودعاهم إلى الالتزام بشرع الله تعالى، وذلك سنة 699هـ (1)، حيث قال: "وقد علم أنه كان بساحل الشام جبل كبير (2)، فيه ألوف الرافضة يسفكون دماء الناس، ويأخذون أموالهم، وقتلوا خلقاً عظيماً، وأخذوا أموالهم وباعوا الأسرى للكفار النصارى.. ومع هذا فلما استشار بعض ولاة الأمر في غزوهم، وكتبت جواباً مبسوطاً في غزوهم (3).
وذهبنا إلى ناحيتهم وحضر عندي جماعة منهم، وجرت بيني وبنيهم مناظرات ومفاوضات يطول وصفها، فلما فتح المسلمون بلدهم (4)، وتمكّن المسلمون منهم، نهيتهم عن قتلهم، وعن سبيهم، وأنزلناهم في بلاد المسلمين متفرقين لئلا يجتمعوا" (5) .
3- مع أن الرافضة أرباب بدع مغلظة وزندقة مكشوفة " فليس في جميع الطوائف المنتسبين إلى الإسلام مع بدعة وضلالة شرّ منهم، لا أجهل ولا أكذب ولا أظلم ولا أقرب إلى الكفر والفسوق والعصيان، وأبعد عن حقائق الإيمان منهم " (6) .
ومع كيدهم وبغيهم على أهل السنة، إلا أن أهل السنة عاملوهم بكل عدل وإنصاف، كما حققه شيخ الإسلام في غزوه لهم، حيث نهى عن قتلهم وسبيهم بعد أن تمكن منهم، مع أنهم قتلوا المسلمين وسبوهم .
__________
(1) 153) . انظر: البداية لابن كثير 14/12.
(2) 154) . وهو جبل كسروان. انظر: منهاج السنة النبوية 6/ 418، العقود الدرية ص 120.
(3) 155) . من مؤلفات ابن تيمية: الرد على أهل كسروان الرافضة في مجلدين. انظر: الجامع لسيرة ابن تيمية ص 232
(4) 156) . انظر تفصيل ذلك في: العقودية الدرية ص 120 -122، والبداية لابن كثير 14/12
(5) 157) . منهاج السنة النبوية 5/ 158 - 160، وانظر: منهاج السنة النبوية 3/ 367، ومجموع الفتاوى 11/ 474.
(6) 158) . منهاج السنة النبوية 5/ 160.(9/44)
وقد اعترف الرافضة بهذا العدل، شهدوا أن أهل السنة ينصفونهم ما لا ينصفهم سائر إخوانهم الرافضة، وكما حكاه شيخ الإسلام قائلاً: " فأهل السنة يستعملون معهم العدل والإنصاف، ولا يظلمونهم، فإن الظلم حرام مطلقاً، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء (1) خير من بعضهم لبعض، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض.
وهذا مما يعترفون هم به، ويقولون: أنتم تنصفوننا ما لا ينصف بعضنا بعضاً. (2)
ويقول - في موضع آخر -: " فما من طائفة من طوائف أهل السنة على - تنوعهم - إلا إذا اعتبرتها وجدتها أعلم وأعدل، وأبعد عن الجهل والظلم من طائفة الرافضة.
وهذا أمر يشهد به العيان والسماع، لمن له اعتبار ونظر، ولا يوجد في جميع الطوائف لا أكذب منهم، ولا أظلم منهم، وشيوخهم يقرون بألسنتهم يقولون: يا أهل السنة أنتم فيكم فُتّوة، لو قدرنا عليكم لما عاملناكم بما تعاملونا به عند القدرة علينا." (3)
4- نلمس - في المناظرة الثانية - ما عليه شيخ الإسلام من تحقيق لآداب المناظرة، فقد أحسن التعامل مع مخالفه، وترّفق به، فوصفه بأنه من فضلاء شيوخهم، وأجاب طلبه في الخلوة والكلام معه في مسألة الإمامة، كما بيّن شيخ الإسلام مذهب الرافضة بكل إنصاف، حتى أقرّ الرافضي بأن هذا البيان على غاية الكمال، وكان ابن تيمية في غاية التجرد للحق، والنصح لمخالفه، حيث قال: "فأنا وأنت طالبان للعلم والحق "
فالباعث من تلك المناظرة المناصحة والرحمة، لا المغالبة والظهور (4).
__________
(1) 159) . المراد بهؤلاء: أهل الأهواء.
(2) 160) . منهاج السنة النبوية 5/ 157.
(3) 161) . منهاج السنة النبوية 4/ 121، وانظر: 2/342.
(4) 162) . انظر: الكلام عن مناظرة المناصحة والمغالبة في كتاب الإبانة الكبرى لابن بطة (الإيمان) 2/548.(9/45)
5- تميّز شيخ الإسلام بقوة حجته، وبراعة مناظرته، وتمام درايته بمذهب الرافضة، ولا غرو في تلك الدراية وهو القائل: " أنا أعلم كل بدعة حدثت في الإسلام، وأول من ابتدعها، وما كان سبب ابتداعها" (1) .
لقد طالبهم في مناظرته الأولى بالدليل على دعواهم بعصمة الأئمة، فالعصمة لا تثبت إلا للأنبياء عليهم السلام، وكما قرر شيخ الإسلام في أحد مؤلفاته أنه لا عبرة بكثرة الدعاوى، وإنما العبرة بقوة الأدلة وتعددها (2)، والعلم إما نقل مصدّق عن معصوم، وإما قول عليه دليل معلوم (3).
وكما جاء في قواعد المناظرات: إن كنت ناقلاً فالصحة، أو مدعياً فالدليل (4).
كما كشف عن تناقضهم - في المناظرة الثانية - فالإيمان بالإمام الغائب لا يتحقق به لطف، بل هو تكليف بما لا يطاق، فإثباتهم الإمام الغائب وأنه لطف من الله، يبطله نفيهم بتكليف ما لا يطاق، فأظهر شيخ الإسلام أن أقوالهم ينقض بعضها بعضاً.
وصدق – رحمه الله – إذ يقول: "ما أعلم أحد من الخارجين عن الكتاب والسنة إلا ولابد أن يتناقض.. " (5)
6- مناظرات ابن تيمية لنفاة الصفات:
من المعلوم أن مسائل الأسماء والصفات من أهم المسائل التي اشتغل ابن تيمية بتقريرها، والرد على المخالفين، فقد سطّر المصنفات العديدة في هذا الباب، كما كانت سيرته حافلة بمناظرات لنفاة الصفات، كما في الأمثلة الآتية:
__________
(1) 163) . مجموع الفتاوى 3/ 84.
(2) 164) . انظر: تنبيه الرجل العاقل 1/ 63.
(3) 165) . انظر: مجموع الفتاوى 13/ 329.
(4) 166) . انظر: منهج الجدل والمناظرة 2/ 687.
(5) 167) . مجموع الفتاوى 13/305 = باختصار.(9/46)
المناظرة الأولى: كان موضوع " الرسالة المدنية" (1) ومحتواها: مناظرة ابن تيمية لبعض الناس في مسألة تأويل الصفات، وخلاصة المناظرة: أن شيخ الإسلام قرر لمخالفه مذهب أهل السنة في مسألة الصفات، ومعنى قولهم: ظاهر نصوص الصفات مراد أو ليس مراداً، وأن الظاهر مراد إذا كان المقصود إثبات الصفات لله تعالى، كما يليق بجلاله وعظمته، فأقرّ المناظر على ذلك، ثم ساق ابن تيمية شروطاً في صرف نصوص الصفات عن ظاهرها، فلا يجوز أن يكون في نصوص الوحيين كلام يراد به خلاف ظاهره، إلا وقد نُصِب دليل يمنع من حمله على ظاهره، حيث سلّم ذلك الرجل بهذا التقرير، ثم ساق شيخ الإسلام صفة اليد لله تعالى مثالاً وأنموذجاً لذلك، وحكى تأويلات المخالفين، واعترف الرجل بها، ثم أجاب شيخ الإسلام عن تأويلاتهم بحجج من القرآن والسنة واللغة والعقل، ثم اعترض المخالف بأن إضافة اليد لله كناقة الله وبيت الله، فأجاب ابن تيمية عن الاعتراض، ثم ختم مناظرته بإيراد أحاديث في إثبات صفة اليد لله تعالى، ثم خاطب مناظره قائلاً: " هل تقبل هذه الأحاديث تأويلاً؟ أو هي نصوص قاطعة؟ وهذه أحاديث تلقتها الأمة بالقبول والتصديق " (2)
"فأظهر الرجل التوبة، وتبيّن له الحق " (3)
المناظرة الثانية: كتب شيخ الإسلام مناظراته بشأن العقيدة الواسطية، ونظراَ لطولها فسنوردها بتصرف وإيجاز شديد على النحو الآتي:
__________
(1) 168) . طبعت "الرسالة المدنية " مفردة بتحقيق: د. الوليد الفريان، وهي موجود ضمن مجموع الفتاوى 6/ 351 - 373
(2) 169) . الرسالة المدنية ص 66
(3) 170) . الرسالة المدنية، وانظر تفصيل المناظرة في الرسالة المدنية ص 28 -66(9/47)
جرت هذه المناظرات في ثلاثة مجالس سنة 705هـ (1)، حيث أُحضرت العقيدة الواسطية، وقرئت بتمامها على الحاضرين (2)، وبين الشيخ سبب تأليفها، وأجاب عما أورده الحاضرون من إشكالات واعتراضات.
وبيّن أن هذه عقيدة السلف الصالح جميعاً، فليس للإمام أحمد اختصاص بها (3)، وأزال شيخ الإسلام اللبس عند الحاضرين في مسألة الحرف والصوف، والفرق بين تكلم الله بصوت، وبين صوت العبد (4)، فأسكت بهذا التفصيل طائفة من المعاندين المتجهمة (5).
ولما قرر ابن تيمية أن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئاً، لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً، استحسن الحاضرون هذا الكلام وعظموه، واعترفوا بزوال الشبهة عنهم (6).
ثم ساق مجموع اعتراضاتهم، وأجاب عنها (7).
وافتتح شيخ الإسلام المجلس الثاني بأهمية الجماعة، والنهي عن الفرقة (8)، ثم قال الشيخ المقدم من المعترضين: "لا ريب أن الإمام أحمد إمام عظيم القدر، لكن قد انتسب إليه أناس ابتدعوا أشياء" (9) .
فقال ابن تيمية: "أما هذا فحق، وليس هذا من خصائص أحمد، بل ما من إمام إلا وقد انتسب إليه أقوام هو منهم بريئ " (10).
__________
(1) 171) . انظر: مجموع الفتاوى 3/ 161.
(2) 172) . انظر: مجموع الفتاوى 3/ 164.
(3) 173) . انظر: مجموع الفتاوى 3/169.
(4) 174) . انظر: مجموع الفتاوى 3/170.
(5) 175) . انظر: مجموع الفتاوى 3/172.
(6) 176) . انظر: مجموع الفتاوى 3/176.
(7) 177) . انظر: مجموع الفتاوى 3/177-180.
(8) 178) . انظر: مجموع الفتاوى 3/181.
(9) 179) . مجموع الفتاوى 3/ 184.
(10) 180) . مجموع الفتاوى 3/185(9/48)
وذبّ عن أئمة الحنابلة، وبيّن كذب ما ادّعاه ابن الخطيب (1) عنهم (2)، وأكّد أن هذه العقيدة لا تختص بالإمام أحمد، وإنما هذا اعتقاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسلف الأمة، وخاطب أكابر الشافعية بأن ما قرره في هذه العقيدة هو قول أئمة أصحاب الشافعي (3).
ولما عزم بعضهم على الطعن في حديث الأوعال (4)، بادر ابن تيمية بإثبات الحديث وقبوله، ولما أحضر بعضهم كتاب الأسماء والصفات للبيهقي، وأن فيه تأويل الوجه، فعاجله الشيخ بالجواب وبيّن جواز تأويل الوجه بالجهة والقبلة في قوله تعالى: { وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ } (البقرة: 115) فلا محذور فيه، وكما جاء عن مجاهد والشافعي في تفسير الآية، ولكن هذه الآية ليست من آيات الصفات (5).
هذه خلاصة تلك المناظرة (6)، كما دوّنها شيخ الإسلام، كما حكيت المناظرة في مواضع أخرى بشيء من الزيادات (7).
__________
(1) 181) . ابن الخطيب هو الفخر الرازي
(2) 182) . انظر: مجموع الفتاوى 3/ 184-186
(3) 1839 . انظر: مجموع الفتاوى 3/191
(4) 184) . وهو حديث العباس بن عبدالمطلب - رضي الله عنه -.. ومنه " ثم فوق السابعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال، بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهم العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم الله تبارك وتعالى فوق ذلك " أخرجه أبو داود ك السنة ح (4723)، والترمذي ك التفسير ح (3320)، وأحمد 1/260، وحسّنه ابن تيمية في مجموعة الفتاوى 3/139، وابن القيم في تهذيب سنن أبي داود 7/91.
(5) 185) . انظر: مجموع الفتاوى 3/193
(6) 186) . انظر: البداية لابن كثير 14/36، والعقود الدرية ص 140 -164
(7) 187) . انظر: مجموع الفتاوى 3/ 194- 210، 202-210(9/49)
ج) ومن مناظراته نفاة الصفات ما حكاه قائلاً: " وقد ناظرت غير واحد من هؤلاء من نفاة الصفات ومحرّ فيها من شيعي ومعتزلي وغيرهما، وذكرت لهم الشبهة التي تذكرها نفاة الرؤية، فقلت هي كلها مبنية على مقدمتين:
إحداهما: أن الرؤية تستلزم كذا و كذا كالمقابلة والتحيز وغيرهما.
والثاني: أن هذه اللوازم منتفية عن الله تعالى، فكل ما يذكره هؤلاء فأحد الأمرين فيه لازم، إما أن لا يكون لازماً بل يمكن الرؤية مع عدمه، وهذا المسلك سلكه الأشعري وغيره، لكن أكثر العقلاء يقولون: إن من ذلك ما هو معلوم الفساد بالضرورة.
وإما أن يكون لازماً، فلا يكون محالاً، فليس في العقل، ولا في السمع ما يحيله، بل إذا قّدر أنه لازم للرؤية فهو حق ؛ لأن الرؤية حق، قد علم ذلك بالاضطرار عن خير البرية، أهل العلم بالأخبار النبوية (1).
وحكى - في موطن آخر - مقالة نفاة الرؤية، واحتجاجهم بانتفاء لازمها وهو الجهة، وأتبعه بجواب مفصّل (2)، ثم قال: "هذا مما خاطبت به غير واحد من الشيعة والمعتزلة، فنفعه الله به، وانكشف بسبب هذا التفصيل ما وقع في هذا المقام من الاشتباه والتعطيل. " (3) .
د ) ومن تلك المناظرات ما أورده بقوله:
" وقد يحكى عن بعضهم أن سُمع كلام لا معنى له في نفس الأمر، كما حكى الرازي في "محصوله" عمّن سماهم بحشوية، أنهم قالوا: يجوز أن يتكلم الله بكلام ولا يعنى به شيئاً، لكن هذا القول لا أعرف به قائلاً، بل لم يقل هذا أحد من طوائف المسلمين.
__________
(1) 1889 . السبعينية ص 476 = باختصار يسير
(2) 189) . منهاج السنة والنبوية 2/348، 559
(3) 190) . منهاج السنة النبوية 2/ 349(9/50)
ولهذا كنا مرة في مجلس، فجرت هذه المسألة، فقلت: هذا لم يقله أحد من طوائف المسلمين، وإن كان أحد ذكره فليس فيما ذكره حجة على إبطاله، فقال بعض الذابين عنه: هذا قالته الكرامية، فقلت: هذا لم يقله لا كرّامي ولا غير كرّامي، ولا أحد من أهل المذاهب الأربعة ولا غيرهم، وبتقدير أن يكون قولاً، فإنما احتج على فساده بأن هذا عبث، والعبث على الله محال، وهذه الحجة فاسدة على أصله، لأن النزاع إنما هو في الحروف المؤلفة، هل يجوز أن ينزل حروفاً لا معنى لها، والحروف عنده من المخلوقات، وعنده يجوز أن يخلق الله كل شيء؛ لأنه فعله لا يتوقف على الحكمة والمصلحة، فليس فيما ذكره حجة على بطلان هذا، وإنما النزاع المشهور: هل يجوز أن ينزِّل الله تعالى ما لا يُفهم معناه، والرازي ممن يجوّز هذا في أحد قوليه " (1) .
نخلص بعد هذا العرض الموجز إلى الأمور التالية:
1- نلحظ في المناظرة الأولى أن شيخ الإسلام اهتم بمسألة تأويل الصفات، والتي خالف فيها الأشاعرةُ أهلَ السنة، وعلل ذلك قائلاً: "بأنها الأم وسائر المسائل فرع عنها" (2) .
ومن المعلوم أن شيخ الإسلام يعني في التقرير بالقواعد والأصول، كما يعنى بها في الردّ والمناقشة.
ولذا يقول: " لابد أن يكون مع الإنسان أصول كلية ترد إليها الجزئيات، ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت؟ وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات، وجهل وظلم في الكليات، فيتولد فساد عظيم " (3).
كما نلحظ أن شيخ الإسلام – في تلك المناظرة – كان يتدرج مع المخالف في تقرير مذهب أهل السنة، ويورد ذلك مسألة تلو مسألة، حتى سلّم المناظر، وأظهر التوبة.
وبرع أيضاً في التطبيق لما يقرره ويحرره، فما قرره من الشروط في صرف نصوص الصفات عن ظاهرها، قد حققه عبر مثال ظاهر، وأنموذج بيّن.
__________
(1) 191) . الصفدية 1/287، 288
(2) 192) . الرسالة المدنية ص 29
(3) 193) . انظر: مجموع الفتاوى 19/203(9/51)
2- مع أن ابن تيمية عرض له في المناظرة بشأن الواسطية - صنوف الأذى والوشاية، والكيد والكذب من قبل مخالفية، إلا أنه عاملهم بالرحمة، والعفو، والإحسان (1)، والسعي إلى الاجتماع والنهي عن الفرقة – كما جاء مبسوطاً في ثنايا المناظرة.
ومن ذلك قوله – في المجلس الثاني من المناظرة – " إن الله تعالى أمرنا بالجماعة والائتلاف، ونهانا عن الفرقة والاختلاف.. وربنا واحد، وكتابنا واحد، ونبينا واحد، أصول الدين لا تحتمل التفرق والاختلاف، وأنا أقول ما يوجب الجماعة بين المسلمين" (2).
ويقول – في موضع آخر – " أنا كنت من أعظم الناس تأليفاً لقلوب المسلمين، وطلباً لاتفاق كلمتهم،واتباعاً لما أمرنا به من الاعتصام بحبل الله، وأزلت عامة ما كان في النفوس من الوحشة" (3) .
3- التزام ابن تيمية في العقيدة الواسطية بالدليل والأثر، وقرر أن الاعتقاد يؤخذ عن الله تعالى، ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وما أجمع عليه سلف الأمة (4).
وقال - رحمه الله-: " كل لفظ قلته فهو مأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " (5) .
لقد كان شيخ الإسلام وقّافاً على نصوص الوحيين نفياً وإثباتاً، ومن ذلك قوله:" إني عدلت عن لفظ التأويل إلى لفظ التحريف، لأن التحريف اسم جاء في القرآن بذمه، وأنا تحريت في هذه العقيدة اتباع الكتاب والسنة، وفنفيت ما ذمه الله من التحريف (6).
__________
(1) 194) . انظر: مجموع الفتاوى 3/ 161، 162، 164، 169، 210
(2) 195) . مجموع الفتاوى 3/ 181،182 = باختصار يسير
(3) 196) . مجموع الفتاوى 3/227
(4) 197) . انظر: مجموع الفتاوى 3/ 161.
(5) 198) . مجموع الفتاوى 3/179.
(6) 199) . في قوله: "ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، من غير تحريف ولا تعطيل، من غير تكييف ولا تمثيل " انظر: العقيدة الواسطية ضمن مجموع الفتاوى 3/129.(9/52)
وقلت لهم ذكرتُ في النفي التمثيل، ولم أذكر التشبيه، لأن التمثيل نفاه الله بنص كتابه حيث قال: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (الشورى: 11).
وقلت: من غير تكييف ولا تمثيل، لأن التكييف مأثور نفيه عن السلف، وهو أيضاً منفي بالنص، فإن تأويل آيات الصفات يدخل فيها حقيقة الموصوف، وحقيقة صفاته غير معلومة (1).."
4- يبدو جلياً من خلال المناظرة بشأن الواسطية قوة حجة ابن تيمية، ورسوخ علمه، وحدة فهمه، ودقة تحقيقه، ودرايته بالمقالات والمذاهب، وحضور حجته، ومسارعته بإيراد الجواب عن كل إشكال.
فالعقيدة الواسطية كتبها في قعدة بعد العصر، ومع ذلك قال لمخالفيه: "كل من خالفني في شيء مما كتبته فأنا أعلم بمذهبه منه " (2) .
وقال أيضا: " قد أمهلت كل من خالفني في شيء منها ثلاث سنين، فإن جاء بحرف واحد عن أحد القرون الثلاثة يخالف ما ذكرته فأنا أرجع عن ذلك، وعليّ أن آتي بنقول جميع الطوائف – عن القرون الثلاثة – توافق ما ذكرته.. " (3) .
كما ردّ على أولئك الشافعية الذي ناظروه بكلام أئمتهم المقدمين (4)، وأنصف الحنابلة بالرد على ما ادعاه الفخر الرازي " (5) .
ومع أن المجلس الأول من المناظرة كان بغتةً لابن تيمية (6)، إلا أن خيره عظيم كما قال – رحمه الله – " أظهر الله من قيام الحجة، وبيان المحجة، ما أعز الله به السنة والجماعة، وأرغم به أهل البدعة والضلالة. " (7).
5 – كان شيخ الإسلام مراعياً عوارض الأهلية – كالجهل والتأوّل ونحوهما – كما في حكاية مناظرة الواسطية، فلما اعترض الخصوم بأن من خالف شيئاً من عقيدة الفرقة الناجية يلزم هلاكه.
__________
(1) 200) . مجموع الفتاوى 3/ 195، 196 = باختصار.
(2) 201) . مجموع الفتاوى 3/163
(3) 202) . مجموع الفتاوى 3/169
(4) 203) . انظر: مجموع الفتاوى 3/172، 150
(5) 204) . انظر: مجموع الفتاوى 3/186
(6) 205) . انظر: مجموع الفتاوى 3/181
(7) 206) . مجموع الفتاوى 3/180(9/53)
فأجاب قائلاً: " ليس من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكاً، فإن المنازع قد يكون مجتهداً مخطئاً يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته" (1).
ويقول - في موطن آخر - " كنت أقول للجهمية من الحلولية والنفاة، والذين نفوا أن الله تعالى فوق العرش، لما وقعت محنتهم، أنا لو وافقتكم كنت كافراً ؛ لأني أعلم أن قولكم كفر، وأنتم عندي لا تكفرون؛ لأنكم جهال، وكان هذا خطاباً لعلمائهم وقضاتهم وشيوخهم وأمرائهم. " (2).
وبالجملة فإن المناظرة بشأن الواسطية تستحق أن تفرد بمصنّف نظراً لطولها، ولما تحويه من معالم مهمة، وفوائد جمة في تقرير الاعتقاد، وشرح العقيدة الواسطية، والردّ على المخالفين، وجوانب عملية تطبيقية في المناظرات و آدابها.
6- لخّص ابن تيمية في المناظرة الثالثة: شبهة نفاة الرؤية في مقدمتين، ثم نقضها، وأشار إلى ثبوت الرؤية كما جاء في الآثار الصحيحة، فابتدأ بنقض الأصل الفاسد، ثم أتبعه بتقرير الحق، و علل ابن تيمية هذا المسلك بقوله: " فإن المبتدع الذي بنى مذهبه على أصل فاسد، متى ذكرت له الحق الذي عندك ابتداء أخذ يعارضك فيه، لما قام في نفسه من الشبهة، فينبغي إذا كان المناظر مدعياً أن الحق معه أن يبدأ بهدم ما عنده، فإذا انكسر وطلب الحق فأعطه إياه (3).."
وساق ابن تيمية جواب الأشاعرة عن شبهة نفاة الرؤية، حيث أثبت الأشاعرة الرؤية مع نفي الجهة والمقابلة، وإن كان قول الأشاعرة بنفي الجهة فاسداً وممتنعاً، إلا أن مقالة المعتزلة والشيعة بنفي الرؤية والجهة أشد فساداً وأعظم امتناعاً من جهة النقل والعقل (4).
__________
(1) 207) . مجموع الفتاوى 3/179، وانظر: 3/230، 231
(2) 208) . الرد على البكري ص 259.
(3) 209) . مجموع الفتاوى 17/159
(4) 210) . انظر: منهاج السنة النبوية 2/ 330-348(9/54)
والذي عليه أهل السنة أن تلك اللوازم – كالجهة والمقابلة ونحوها – ليست ممتنعة، فإذا كانت المقابلة لازمة للرؤية فهي حق، فما كان حقاً وصواباً فلازمه كذلك، لذا يقول ابن تيمية: "من ادّعى ثبوت الشيء فقد ادّعى ثبوت لوازمه، ولوازم لوازمه، وهلم جرّاً ضرورة عدم الانفكاك عنه" (1) .
7- وأما عن مناظرته بشأن من ادّعى أن الله يتكلم بكلام لا معنى له.. فقد تميزت بأجوبة مهمة، منها: تقريره أن هذه المقولة لم يقلها أحد من الطوائف لا حشوية ولا كرامية، ولا غيرهما.
وهذا من درايته التامة بمقالات الفرق، ودقته في نسبة الأقوال إلى أصحابها (2) .
ومن تلك الأجوبة: أنه لو فرض أنه قول، فإنما احتج الرازي على فساده بأنه هذا عبث، والعبث على الله محال، وهذه الحجة مردودة على أصله لأمرين، أحدهما: أن النزاع إنما هو في الحروف، والحروف عند الرازي مخلوقة، فلا تقوم بها حجة.
وثانيها: أنه يجوز عند الرازي أن يخلق الله كل شيء، وأن ينّزل حروفاً لا معنى لها، فلا يوصف الله – عنده – بالحكمة..
خاتمة
نخلص في نهاية هذا البحث إلى النتائج التالية:
- كثرة مناظرات ومخاطبات شيخ الإسلام لأهل الملل والنحل، لا سيما الاتحادية وأهل وحدة الوجود، والرافضة، فقد جرى بينه وبينهم مناظرات ومخاطبات يطول وصفها.. ومد تضمن هذا البحث سبع عشرة مناظرة، فضلاً عن المناظرات والمخاطبات الواردة في ثنايا التعليقات.
- مشروعية المناظرة وضابطها، مع بيان أحوال المناظرة المشروعية، وأن المناظرة قد تكون ممنوعة إن كان المناظر ضعيف العلم أو معانداً.
- ما تحلى به شيخ الإسلام في تلك المناظرات - وكذا سائر مواقفه العلمية والعملية - من عدل وإنصاف لمخالفيه، وكما شهد بذلك خصومه، ولعل عدله كان سبباً في إفحام مخالفيه، واعترافهم بما معه من الحق.
__________
(1) 211) . تنبيه الرجل العاقل 1/63
(2) 212) . انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة 1/ 322(9/55)
ويشهد لذلك قوله - رحمه الله - " إن الإنسان إذا اتبع العدل نُصر على خصمه، وإذا خرج عنه طمع فيه خصمه" (1).
وتحقيقاً لكمال العدل فإن ابن تيمية يتنزل مع مناظريه – كما سبق في مناظرته للنصارى والاتحادية – وكان يقول: "التنزل في المناظرات من تمام الإنصاف، ومن الداعي للنظر في الأدلة والبراهين المرجحة، وفيه دعوة لطيفة لأهل الانحراف، كما هو معروف بالتأمل " (2) .
- مع ما في هذه المناظرات من صدع بالحق، وإزهاق للباطل، وفضح للمنافقين، ومباهلة (3)، إلا إنها لا تنفك عن رحمة بالمخالف، ومحبة الخير لهم، والترفق بهم من أجل هدايتهم، ومراعاة عوارض الأهلية كالجهل والتأويل ونحوهما.
- أن ما يورده شيخ الإسلام من تقرير وتأصيل - تبعه - في تلك المناظرات - بالتطبيق والتحقيق، فإذا كان بابن تيمية يقرر - مثلاً - أن أهل السنة يعلمون الحق، ويرحمون الخلق، فقد حقق ذلك والتزمه في تلك المناظرات، ولما ساق في مناظرته المذكورة في الرسالة المدنية، شروط صرف الكلام عن ظاهره، أتبعه بالمثال والتطبيق..
- تميّز شيخ الإسلام بقوة حجته، وظهور أدلته، ووضوح براهنيه.
وكان يقول: "قد لا يتأتى في المناظرات تفسير المجملات، خوفاً من لدد الخصم، فيؤتى بالواضحات (4) "
ومن ذلك نقضه لأصول الاتحادية بالبرهان، عند ما قرر أن المطلق في الأذهان وليس في الأعيان، فاعترف الاتحادية بأن هذا التقرير يقلع أصولهم.
__________
(1) 213). الدرء 8/409، وانظر: نقض التأسيس 2/344 - 348
(2) 214) . طريق الوصول إلى العلم المأمول للسعدي ص 251
(3) 215) . جرت مباهلة بين شيخ الإسلام وبين الاتحادية – كما سبق ذكره – وانظر: مجموع الفتاوى 4/82. وعرّف ابن الأثير المباهلة بقوله: "الملاعنة، وهو أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء، فيقولوا لعنة الله على الظالم منا " النهاية 1/167
(4) 216) . مجموع الفتاوى 18/140.(9/56)
وكذا بيانه تناقض الرافضة عندما أوضح أن إثباتهم الإمام الغائب، وأنه لطف من الله تعالى ينقضه قولهم بنفي تكليف ما لا يطاق.
ومن قوة حجته: قلب الدليل عليهم، فلما احتج الاتحادية بحديث الرؤية، قرر ابن تيمية أن هذا الحديث حجة عليهم من عدة وجوه، ولما استدل القبوريون بأن الخيل تشفى عند قبور العبيديين، قلب الدليل عليهم، وبيّن أن سبب شفاء الخيل ما تسمعه من العذاب الذي يؤدي إلى فزع الخيل وإسهالها.
- ما كان عليه شيخ الإسلام من حضور الحجة، وسرعة البديهة، فمع أن جملة من المناظرات يقع بغتة، إلا أن حجته حاضرة وظاهرة، فلم يناظر أحداً إلا غلبه - كما قال ابن الزمكاني -.
ومن ذلك أنه فسّر كتاب "لوح الأصالة " لابن سبعين وبيّن فساده، مع أنه لم يره من قبل، ومع أن المجلس الأول من المناظرة في شأن " الواسطية " كان بغتة، إلا أن الله تعالى أظهر به قيام الحجة، وظهور السنة.
- يقترن بتلك المناظرات جوانب عملية من الاحتساب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاستتابة، والتأديب.
هذا ما تيسر جمعه وبحثه وبالله التوفيق.
المراجع
(1) إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان، لابن القيّم، ت: محمد عفيفي، ط 1، 1407هـ، المكتب الإسلامي، بيروت.
(2) أصول مذهب الشيعة الإمامية الاثني عشرية، لناصر القفاري، ط 1، 1414هـ.
(3) اقتضاء الصراط المستقيم، لابن تيمية، ت: ناصر العقل، ط 1، 1404هـ، مكتبة الرشد، الرياض.
(4) الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية، لابن بطة الحنبلي، ت: رضا معطي، ط1، 1409هـ، دار الراية، الرياض.
(5) البداية والنهاية، لابن كثير، ط 1، 1348هـ، مطبعة كردستان، مصر.
(6) البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع، لمحمد بن علي الشوكاني، دار المعرفة، بيروت.
(7) بغية المرتاد في الردّ على المتفلسفة والقرامطة والباطنية (السبعينية)، لابن تيمية، ت: موسى الدويش، ط 1، 1408هـ، مكتبة العلوم والحكم، المدينة.(9/57)
(8) بيان تلبيس الجهمية أو نقض تأسيس الجهمية، لابن تيمية، ت: محمد القاسم، ط 1، 1392هـ، مطبعة الحكومة، مكة.
(9) التدمرية، لابن تيمية، ت: محمد السعوي، ط1، 1405هـ، الرياض.
(10) التسعينية، لابن تيمية، ت: محمد العجلان، ط 1، 1420هـ، مكتبة المعارف، الرياض.
(11) تنبيه الرجل العاقل على تمويه الجدل والباطل، لابن تيمية، ط 1، 1425هـ، دار عالم الفوائد، مكة.
(12) الجامع لسيرة ابن تيمية خلال سبعة قرون، لمحمد عزيز شمس، وعلي العمران، ط 1، 1420هـ، دار عالم الفوائد، مكة.
(13) جامع الرسائل، لابن تيمية، ت: محمد رشاد سالم، ط2، 1405هـ، دار المدني، جدة.
(14) جامع المسائل، لابن تيمية، ت: محمد عزيز شمس، ط 1، 1422هـ، دار عالم الفوائد، مكة.
(15) الجواب الصحيح لمن بدّل دين المسيح، لابن تيمية، مطبعة المدني، القاهرة.
(16) الجوهر المنضّد في طبقات متأخري أصحاب أحمد، لابن عبدالهادي، (ت 909هـ )، ت: عبدالرحمن العثيمين، ط 1، 1407هـ، مكتبة الخانجي، القاهرة.
(17) درء تعارض العقل والنقل، لابن تيمية، ت: محمد رشاد سالم، ط 1، 1399هـ، مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض.
(18) الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، لأحمد بن حجر العسقلاني، ت: محمد جاد الحق، دار الكتب الحديثة، مصر.
(19) الرد على البكري، لابن تيمية، ط 2، 1405هـ الدار العلمية، دلهي.
(20) الرد على المنطقيين، لابن تيمية، ط 2، 1396هـ، إدارة ترجمان السنة، لاهور، باكستان.
(21) الرسالة المدنية، لابن تيمية، ت: الوليد الفريان، ط 1، 1408هـ، دار طيبة، الرياض.
(22) زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيّم، ت: شعيب الأرناؤوط و عبدالقادر الأرناؤوط، ط13، 1406هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.
(23) الاستقامة، لابن تيمية، ت: محمد رشاد سالم، ط 2، 1411هـ، جامعة الإمام محمد بن سعود.
(24) سير أعلام النبلاء، للذهبي، ط 1، 1409هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت.(9/58)
(25) شذرات الذهب في أخبار من ذهب، لابن العماد الحنبلي، ط 1، 1399هـ، دار الفكر، بيروت.
(26) الصفدية، لابن تيمية، ت: محمد رشاد سالم، مكتبة ابن تيمية، القاهرة.
(27) طبقات الشافعية الكبرى، للسبكي، ت: عبدالفتاح الحلو، و محمود الطناحي،1964م، القاهرة 1392هـ، مطبعة الحكومة، مكة
(28) طريق الوصول إلى العلم المأمول مختار من كتب ابن تيمية، لعبدالرحمن السعدي، المؤسسة السعدية، الرياض.
(29) العقود الدرية، لابن عبدالهادي، مطبعة المدني، القاهرة.
(30) الفتوى الحموية الكبرى، لابن تيمية، ت: حمد التويجري، ط 1، 1419هـ، دار الصميعي، الرياض.
(31) الفصل في الملل والأهواء والنحل، لابن حزم، ت: محمد نصر وعبدالرحمن عميرة، ط 1، 1402هـ، شركة عكاظ، جدة.
(32) مجموع الفتاوى، لابن تيمية، جمع: عبدالرحمن بن قاسم، ط 1416هـ، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة.
(33) مدارج السالكين، لابن القيم، ت: محمد حامد الفقي، 1375هـ، القاهرة.
(34) منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية، لابن تيمية، ت: محمد رشاد سالم، ط جامعة الإمام محمد بن سعود، الرياض، 1406هـ.
(35) منهج الجدل والمناظرة في تقرير مسائل الاعتقاد، لعثمان علي حسن، ط 1 1420هـ، دار إشبيليا، الرياض.
(36) موقف ابن تيمية من الأشاعرة، لعبدالرحمن المحمود، ط 1، 1415هـ، مكتبة الرشد، الرياض.
(37) النبوات، لابن تيمية، ت: عبدالعزيز الطويان، ط 1، 1420هـ، مكتبة أضوء السلف، الرياض.
(38) النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير، ت: الطاهر الزاوي، ومحمود الطناحي، المكتبة العلمية، بيروت.(9/59)
مناظرة أهل البدع (رؤية شرعية معاصرة)
{قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا {75} وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا}
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما وبعد:
فالبدعة أحب إلى إبليس من المعصية لغلظ نجاستها؛ ولأن صاحبها لا يتوب منها إلا ما شاء الله تعالى.
وأخطر البدع ما كان علمياً اعتقادياً، يفسد على الإنسان نظام حياته كلها وذلك كبدع الفرق الاعتقادية التي تحزبت على أصل بدعي أخرجها عن دائرة السنة والجماعة . وهذه الفرق التي كانت في قديم الزمان لا زال لأكثرها وجود وحضور في الساحة الفكرية في هذا الزمان ، بالإضافة إلى الكثير من الآراء المحدثة في هذا الزمان سواء تحزب أصحابها لبعضهم البعض أم بقوا أوزاعاً متفرقين بالأبدان متعاونين متعاضدين في الأفكار. وهذه الأفكار البدعية المنحرفة تجد في هذه الأيام من يروِّج لها في وسائل الإعلام التي تسلطت على المسلمين ببث ما يضرهم –غالبا- وترك ما فيه منفعتهم وصلاحهم . وقد تكلم كثير من العلماء وطلبة العلم عن الرد على أمثال هؤلاء وقصدوا بذلك التأليف والكتابة لرد شبههم ومقارعتهم الحجة بالحجة ، إلا أن هذه الوسيلة للرد على المبتدعة على عظيم منفعتها محدودة التأثير ؛ لأن الشريحة التي تقرأ من الناس - فضلا عن من يقرأ مثل هذه الكتابات- محدودة جدا . ومن وسائل مواجهة هؤلاء مناظرتهم على رؤوس الأشهاد ، ومزاحمتهم في المنابر التي تمكِّن لهم . فمن هنا يبرز السؤال عن مشروعية هذا الأمر وعن منهج السلف تجاهه، وهذه محاولة متواضعة في بيان ذلك .(10/1)
وقبل تفريع الكلام حول تفاصيل تتعلق بالمناظرة وبحكمها الشرعي أرى أنه لابد من بيان معنى المناظرة، ومن أحسن تعريفاتها التعريف الذي صححه إمام الحرمين الجويني للجدل(1) بعد أن ساق عدة تعريفات وهو : إظهار المتنازعَيْن مقتضى نَظْرَتِهما على التدافع والتنافي بالعبارة أو ما يقوم مقامها من الإشارة والدلالة . وأشار - رحمه الله – في كلامه إلى أنه لا فرق عنده بين الجدل والجدال والمناظرة ، وهذا يعني صلاحية هذا التعريف للمناظرة كذلك .وبذلك يظهر من معنى المناظرة أنها : مختصة بتراجع الكلام مع خصم لا يرى رأيك على سبيل إثبات صواب قولك وبطلان قوله فيكون المراد منها الظهور والغلبة، ولا يبحث فيها فيما إذا كان قوله صواب أم فيه شيء من الصواب ليتبعه المناظر، وإنما كل طرف من أطراف المناظرة يبتغي العلو على مناظريه بالحجة، ويريد أن يقطع حجج خصومه(2). وأما الحوار فإن الكلام فيه يكون على سبيل طلب الحق، وتلاقح أفكار الفريقين، واستفادة كل
__________
(1) - الكافية في الجدل : 19-21 .
(2) - كان المتناظرون من السلف يتناظرون بغية الوصول إلى الحق ممن جاء به كما هو مشهور من كلام الإمام الشافعي. و كل واحد منهم عندما يبدأ في مناظرته يكون مقتنعا برأيه ومذهبه طالبا الانتصار له، ولكن الإنصاف يحملهم على اتباع الحق متى تبيّن وعدم التعصب للمذاهب والآراء . ولا بد من التنبيه أن الخطب في دقائق المسائل كفروع العقيدة والفقه –وهي المسائل التي كانت تجري فيها مناظرات السلف- أهون منه في التناظر في المسائل الكبار التي تسمى مسائل أصول الدين من مسائل العقيدة والفقه والتي تدور عليها مناظرات المبتدعة مع السلف ومع غيرهم ،ولذلك ففي هذه المناظرات لا يطلب الحق عند المخالف بقدر ما يكون هدف المناظرة هو رد الطرف الآخر إلى الحق أو كف شره عن الناس والله أعلم . انظر : شرح السنة للبغوي : 1/229 ، الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية لابن بطة العكبري :2/545-548 .(10/2)
طرف من الآخر، وليس بالضرورة أن يكون فيه طرف ظاهر غالب، وطرف مظهور عليه مغلوب. قال أبو عبد الله ابن بطة (387) : (( سمعت بعض شيوخنا رحمه الله يقول :المجالسة للمناصحة فتح باب الفائدة ، والمجالسة للمناظرة غلق باب الفائدة ))(1) . قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: ((وهي في الاصطلاح – أي المناظرة - : المحاورة في الكلام بين شخصين مختلفين يقصد كل واحد منهما تصحيح قوله وإبطال قول الآخر، مع رغبة كل منهما في ظهور الحق ))(2) ، وقال الزَّبيدي في تاج العروس: ((والمناظرة المباحثة والمباراة في النظر واستحضار كل ما يراه ببصيرته))(3).
وأنا إن شاء الله أبيّن بعض النقاط التي أرجو أن تتضح بها صورة الموضوع في حكم مناظرة أهل البدع أو مجادلتهم والجلوس معهم للتباحث والنظر ، وذلك كما يلي :
1- أن الله تبارك وتعالى لم يُنعم على عبده نعمة أتمّ ولا أعظم عليه من نعمته عليه بالهداية لصراطه المستقيم، وتوفيقه للإسلام وللسنة والجماعة ، فكم من محروم من هذه النعمة ، وقد أعطاك الله تبارك وتعالى إياها بالمجان بدون استحقاق منك عليه جل وتعالى فاعرف لهذه النعمة قدرها.
وقد استشعر الصحابة والسلف الصالح عظيم منّة الله عليهم بتوفيقه لهم وهدايته إياهم إلى السنة بعد أن هداهم للإسلام:
فعن معاوية بن قرة أن سالم بن عبد الله حدثه عن ابن عمر قال: ما فرحتُ بشيء من الإسلام أشد فرحاً بأنّ قلبي لم يدخله شيءٌ من هذه الأهواء(4).
__________
(1) - الإبانة الكبرى :2/548، وينسب هذا الكلام إلى البربهاري كما في الآداب الشرعية لابن مفلح :1/224 ط الرسالة نقلا عن ابن عقيل .
(2) -آداب البحث والمناظرة:2/3 .
(3) - مادة (ن ظ ر) 3/575 .
(4) -اللالكائي : 1/130 .(10/3)
وقال أبو العالية : ما أدري أي الغُنمين عليَّ أعظم : إذْ أخرجني الله من الشرك إلى الإسلام أو عصمني في الإسلام أن يكون لي فيه هوى (1).
وسأل المرُّوذِيُّ الإمامَ أحمد بن حنبل: من مات على الإسلام والسنة مات على خير؟! فقال له أحمد : اسكت، من مات على الإسلام والسنة مات على الخير كله(2). فاللهم لك الحمد على هذه النعمة العظيمة ؛ أن هدَيتنا للإسلام ، ثم زدتنا من فضلك بأن جعلتنا من أهل السنة لا من أهل البدعة.
2- الانحرافات البدعية إنما تكون – في الغالب – من باب الشبهات، والشبهات أمراض معدية يجب التوقي من الإصابة بها فـ ((القلوب ضعيفة والشُبَه خطافة))(3).
ولذلك فالواجب على المسلم السني ألا يجعل من قلبه مسكناً للشبه، ولا استراحة لها كما قال ابن تيمية لتلميذه ابن القيم ناصحاً: (( لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه، ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أَشْربتَ قلبك كل شبهة تمر عليك صار مقراً للشبهات أو كما قال ))(4)
__________
(1) - اللالكائي : 1/131 وانظر كذلك : ذم الكلام للهروي تحقيق الشبل : 5/52-53 ،76-77 مهم (أرقام : 838 ،839 ،866 ،867 ،868) .
(2) مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي : 180 .
(3) سير أعلام النبلاء : 7/261 .
(4) مفتاح دار السعادة : 140، و في ط دار ابن عفان: 1/443 .(10/4)
وهكذا فليس من دأب المسلمين الموقنين بما أنزل الله على رسوله، الذين هم على بصيرة من أمرهم أن يتتبعوا الشبهات وأن يجعلوها همّهم، وإنما ((المنهج الصحيح هو عرض حقائق الإسلام ابتداءً لتوضيحها للناس لا رداً على شبهة، ولا إجابة على تساؤل في نفوسهم... وإنما من أجل البيان الواجب .. ثم لا بأس – في أثناء عرض هذه الحقائق – من الوقوف عند بعض النقاط التي يساء فهمها أو يساء تأويلها من قبل الأعداء أو الأصدقاء سواء))(1).
ويكون حال السائر إلى الله والدار الآخرة مع الشبه حال المسافر تعرض له الآفات من العقارب والحيات وغيرها، فما عرض له منها في طريقه قتله، وما لا فلا يتّبعه ولا يبحث عنه إذ لو فعل ذلك لانقطع عن سفره وضل الطريق(2).
وعليه فيجب أن يكون هذا منهجاً يُرَبَّى عليه الشباب والمتعلمون ، فيُعَلَّمون القرآن والحكمة وحقائق الإيمان واليقين ، ثم إن عرض لبعضهم شبهة تولَّى العالم أو المربي علاجها ، لا أن تُجْعَل الشبهات والبدع والأخطاء العقدية المسائل التي يُلَقَّنَها من أول سلوكه طريق الهداية = فيتشرّب قلبه من ذلك حب الشقاق واضطراب الرأي والجرأة على خوض هذه المسالك كما هو مشاهَدٌ الآن ، والله المستعان .
__________
(1) شبهات حول الإسلام للشيخ محمد قطب : 9 .
(2) انظر: مدارج السالكين:2/314 ، وفي ط الجليل : 3/83 .(10/5)
ثم ليُعْلم أن هذا غير مختص بأحد دون أحد، بل هو متناول لمن كمُل علمه واستنارت بصيرته ولمن كان دون ذلك . كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( من سمع بالدجال فليَنأَ عنه، فوالله إنّ الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به الشبهات)) (1) وهذا عام. قال الإمام ابن بطة معلِّقا على هذا الحديث : ((هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق .فالله الله معاشر المسلمين ، لا يحملنَّ أحداً منكم حسنُ ظنه بنفسه وما عهده من معرفته بصحة مذهبه على المخاطرة بدينه في مجالسة بعض أهل هذه الأهواء فيقول أُداخله لأناظره، أو لأستخرج منه مذهبه ، فإنهم أشد فتنة من الدجال (2)، وكلامهم ألصق من الجَرَب ، وأحرق للقلوب من اللهب. ولقد رأيت جماعة من الناس كانوا يلعنونهم ويسبُّونهم فجالسوهم على سبيل الإنكار والرد عليهم فما زالت بهم المباسطة وخفي المكر ودقيق الكفر حتى صبوا إليهم))(3).اهـ.
__________
(1) - أخرجه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود والحاكم .
(2) - هذا الكلام منه -رحمه الله- على سبيل المبالغة ، إلا أنه مما لا ينبغي أن يقال ؛ لما صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمرٌ أكبر من الدجال) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ( 16253 ،16255 ،16267 ) ، والإمام مسلم في صحيحه ( 2946 ) من حديث هشام بن عامر رضي الله عنه. وأخرجه أيضاً الإمام أحمد في مسنده ( 14112 ) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه بلفظ : (ما كانت فتنة ولا تكون حتى تقوم الساعة أكبر من فتنة الدجال ) .
(3) -الإبانة الكبرى:2/470 ، واستشهد ابن مفلح بهذا الحديث أيضا على نفس المسألة في الآداب الشرعية : 1/220 ط الرسالة .(10/6)
و دخل رجلان من أهل الأهواء على محمد بن سيرين فقالا : يا أبا بكر نحدثك بحديث؟! قال: لا. قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب الله؟ قال : لا . قال: تقومان عني وإلا قمتُ. فقام الرجلان فخرجا. فقال بعض القوم: ما كان عليك أن يقرآ عليك آية؟ . قال: إني كرهت أن يقرآ آيةً فيحرفانها فيقر ذلك في قلبي (1).
3- يبيَّن لنا ما سبق سبب موقف السلف المتشدد تجاه مجالسة ومخالطة أصحاب البدع بله مناظرتهم وهذا هو مقتضى فهمهم الصحيح للشريعة وخبرتهم بحال النبي صلى الله عليه وسلم وبهديه وهدي الصحابة رضي الله عن الجميع .
ففي صحيح البخاري من حديث القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية { هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ - إلى قوله - أُوْلُواْ الألْبَابِ } قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى اللهُ فاحذروهم )(2).
وقد كانوا – رحمهم الله – يكرهون المراء مطلقاً ، حتى ولو لم يكن معه شيء من فساد المعتقد.
__________
(1) الشريعة للآجري بتحقيق الدميجي: 1/441 ، 5/2545 ، الإبانة الكبرى :2/445، و458بنحوه.
(2) البخاري (4547) ، مسلم (2665).(10/7)
(1)فعن وهب بن منبّه قال: كنت أنا وعكرمة نقودُ ابنَ عباس بعد ما ذهب بصره حتى دخلنا المسجد الحرام؛ فإذا قومٌ يَمترون في حلقةٍ لهم مما يلي باب بني شيبة، فقال لنا: أُمَّا بي حلقة المِراء. فانطلقنا به إليهم فوقف عليهم فقال: انتسبوا لي أعرفْكم. فانتسبوا له – أو من انتسب منهم – قال: فقال: ما علمتم أن لله عباداً أَصَمَّتهم خشيته من غير عِيٍّ ولا بَكَم!! وإنهم لهم العلماءُ الفصحاءُ النبلاءُ الطلقاء، غير أنهم إذا تذاكروا عظمة الله - عز وجل - طاشت لذلك عقولهم، وانكسرت قلوبهم، وانقطعت ألسنتهم، حتى إذا استفاقوا من ذلك تسارعوا إلى الله بالأعمال الزاكية . فأين أنتم منهم؟! . قال: ثم تولَّى عنهم، فلم ير بعد ذلك رجلاً (1).
(2)وحدث حماد بن زيد عن محمد بن واسع عن مسلم بن يسار أنه كان يقول: إياكم والِمراء فإنها ساعة جهل العالم، وبها يبتغي الشيطان زلّته(2).
أما إذا خالط المراءَ والجدالَ بدعةٌ فكان فرارهم من ذلك أشد الفرار ومواقفهم المروية لنا في ذلك كثيرة جداً جداً. فمن ذلك :
(3) أن الحسن ومحمد كانا يقولان : لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تسمعوا منهم ولا تجادلوهم(3) .
(4) وقال عبد الرزاق : قال لي إبراهيم بن أبي يحي : إني أرى المعتزلة عندكم كثيراً. قال: قلت: نعم، ويزعمون أنك منهم! . قال: أفلا تدخل معي هذا الحانوت حتى أكلمك. قلت: لا. قال: لِمَ؟ . قلت: لأن القلبَ ضعيف، وإن الدين ليس لمن غلب (4).
__________
(1) ذم الكلام للهروي: 4/258-259 (721). و الآجري في الشريعة بنحوه: 1/446-449 ، وعزاه في الدر المنثور إلى الخطيب في المتفق والمفترق .
(2) الشريعة 1/434-435 ، الإبانة الكبرى:2/496-497.
(3) ذم الكلام : 4/296 (754) واللالكائي : 1/133، الإبانة الكبرى :2/464.
(4) ذم الكلام: 4/300 (758)، اللالكائي : 1/135.(10/8)
(5) وذكر أبو الجوزاء أهل الأهواء فقال: لأن تمتلئ داري قردةً وخنازيرَ أحب إليّ من أن يجاورني رجل من أهل الأهواء(1).
(6) وقال محمد بن علي : لا تجالسوا أصحاب الخصومات فإنهم يخوضون في آيات الله(2).
(7) وقال مصعب بن سعد : لا تجالس مفتوناً، فإنه لن يخطئك منه إحدى خصلتين: إما يُمرض قلبك لتتابعه، وإما أن يؤذيك قبل أن يفارقك(3).
(8) وقال أيوب : قال أبو قِلابة: ((لا تجالس أصحاب الأهواء، فإني لا آمن عليك أن يغمسوك في ضلالتهم، ويلبسَّوا عليك ما كنت تعرف))، وكان والله من القراء ذوي الألباب(4).
فإذا كان أبو قلابة يقول هذا الكلام لأيوب السختياني وهو من هو؟!! فكيف بك أخي الكريم وأنت لم تبلغ رتبة أيوب في العلم والدين ولعلك لم تقاربها ؟!! فهذا دالٌ على أن الأمر جلل.
(9) وحدث عبد الرزاق أخبرنا معمر قال: كان ابن طاووس جالساً، فجاء رجل من المعتزلة فجعل يتكلم. قال: فأدخل ابن طاووس إصبعيه في أذنيه، وقال لابنه: أي بُني أدخل إصبعيك في أذنيك واسدد لا تسمع من كلامه شيئاً . قال معمر : يعني أن القلب ضعيف(5).
(10) وكان الإمام مالك بن أنس رحمه الله يعيب الجدال ويقول: كلما جاءنا رجل أجدل من رجل أردنا أن نرُدَّ ما جاء به جبريلُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم !!(6) .
(11) وجاء رجل إلى الحسن فقال: يا أبا سعيد تعال حتى أخاصمك في الدين. فقال الحسن : أما أنا فقد أبصرتُ ديني، فإن كنتَ أضللتَ دينَك فالتمِسه(7).
__________
(1) ذم الكلام: 4/322 (776)، اللالكائي : 1/131.
(2) ذم الكلام: 4/306- 307 (765) .
(3) ذم الكلام: 4/268 (729) ،5/16(798). الإبانة الصغرى : 141.
(4) الشريعة :1/435 ،5/2544 ،الإبانة الكبرى :2/435 ،518 ، اللالكائي :1/134 .
(5) ذم الكلام : 4/299-300 (757)، اللالكائي : 1/135.
(6) الشريعة :5/2545-2546، ذم الكلام: 5/68 (855) ، اللالكائي : 1/144.
(7) الآجري : 1/452.(10/9)
(12) وقال سلام وقال رجل من أصحاب الأهواء لأيوب : يا أبا بكر أسألك عن كلمة ! قال: فولَّى أيوب، وهو يقول: ولا نصف كلمة !! مرتين وهو يشير بإصبعه(1).
(13) وقال يحيى بن يسار سمعتُ شَريكا يقول :لأن يكون في كل قبيلة حمار أحب إليَّ من أن يكون فيها رجلٌ من أصحاب أبي فلان(رجلٌ كان مبتدعا)(2).
(14)وقال أبو حاتم : سمعت أحمد بن سنان يقول:لأن يجاورني صاحب طنبور أحب إليَّ من أن يجاورني صاحب بدعة؛ لأن صاحب الطنبور أنهاه وأكسر الطنبور ، والمبتدع يُفسد الناس والجيران والأحداث(3).
وكان في كلامهم رحمهم الله ما يدل على أن الخصومات والمناظرات في الدين سبب لإيغال المبتدع في الضلالة :
(16) فقد سأل عمرو بن قيس الحَكَم بن عُتَيبة فقال له: ما اضطر المرجئةَ إلى رأيهم؟. قال: الخصومات(4).
(17) وقال الأوزاعي : إذا أراد الله بقوم شرّاً فتح عليهم الجدل، ومنعهم العمل(5).
وقد بوّب الآجُرِّيُّ في الشريعة عدة أبواب تدل على هذا الأصل من مجانبة المبتدعة والحذر من الاختلاط بهم والجلوس معهم فمن ذلك : ((باب الحث على التمسك بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة أصحابه رضي الله عنهم، وترك البدع، وترك النظر والجدال فيما يخالف الكتاب والسنة وقول الصحابة رضي الله عنهم))(6). وكذلك : ((باب ذم الجدال والخصومات في الدين))(7). وكذلك : ((باب فضل القعود في الفتنة عن الخوض فيها، وتخوف العقلاء على قلوبهم أن تهوى حالا يكرهه الله تعالى بلزوم البيوت والعبادة لله تعالى))(8).
__________
(1) الآجري في الشريعة : 1/440 ، ذم الكلام: 5/183 رقم (978) ، اللالكائي : 1/143.
(2) - الإبانة الكبرى: 2/469.
(3) - الإبانة الكبرى: 2/469.
(4) السنة لعبدالله بن أحمد بن حنبل:1/137 ،ذم الكلام : 5/62 (849) .
(5) ذم الكلام: 5/123 رقم (916)، اللالكائي : 1/145.
(6) الشريعة : 1/398 .
(7) الشريعة:1/429 .
(8) الشريعة:1/385 .(10/10)
وبوّب اللالكائي : ((سياق ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن مناظرة أهل البدع وجدالهم والمكالمة معهم والاستماع إلى أقوالهم المحدثة وآرائهم الخبيثة))(1).
وفي ذم الكلام وأهله لشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي(2) : ((باب ذم الجدال والتغليظ فيه، وذكر شؤمه)).
هذا وقد استطردتُ قليلاً في ذكر مواقفهم رحمهم الله من الحوار والجدال والمجالسة والسماع لأهل البدع ،ومن ذلك مناظرتهم ، تأصيلاً للمسألة وبياناً للأصل الذي يجب حفظه ومراعاته في مثل هذه المسائل . وحملني على ذلك أيضا توسع الناس في ذلك في هذه الأزمنة، فلا تكاد تجد منهم متحفِّظاً يكون سلفياً في موقفه من مجالسة أهل البدع وإلقاء السمع لهم ، وقد تركت من ذلك أضعاف أضعاف ما نقلتُ فالآثار في ذلك بالمئات. فليتأمل العاقل في نفسه ، ولينظر في البواعث التي سيأتي تقريرها ثم ليشح بدينه من أن يناله نائل ، فإنما هي الجنة والنار ، فالأمر جد وليس بالهزل.
على أن ذلك من السلف رحمهم الله ليس بالقاعدة المطَّرِدة التي لا يصح أن تُخالف . وبيان ذلك يتضح بتلمُّس بواعثهم على مثل هذا الموقف، ومن ثم قياسها ومعرفة وزنها من واقعٍ لآخر، مع النظر في مواقفهم الأخرى التي ثبتت عنهم في مناظرتهم وكلامهم مع أهل البدع.
أما بواعثهم على اتخاذ هذا الموقف فأهمها ما يلي :
1 – حرص الإنسان على سلامته في دينه، وخوفه على نفسه من الشبهات والوقوع في البدع أو القرب من أهلها. وذلك أنهم عرفوا مقدار نعمة الله عليهم بما تفضل عليهم من توفيقهم للإسلام والسنة فشحوا بدينهم من أن يناله أي نائل ، ولم يأمنوا مكر الله، ورجوا السلامة و السلامة لا يعدلها شيء. قال الإمام مالك بن أنس : الداء العضال التنقُّل في الدين، وقال : قال رجلٌ: ما كنتَ لاعبا به فلا تلعبَنَّ بدينك(3).
__________
(1) اللالكائي:1/114 .
(2) 1/131 .
(3) الإبانة الكبرى لابن بطة:2/506.(10/11)
فينبغي على من أراد المناظرة أن يرجع إلى نفسه ويقول لها :((إني لو نجوتُ وعطب أهلُ الأرض من أهل الأهواء ما ضرني ذلك . ولو عطبتُ ونجَوا ما نفعني . فإقامتي الحجة عليهم وتركي أن أقيم الحجة على نفسي - في تضييعي أمره حتى أؤدي ما أمرني به ربي ، وأنتهي عمَّا نهاني عنه ، وأربح أيام عمري ليوم فقري وفاقتي - أولى بي فقد شغلوني عن نفسي وعن العمل لنجاتي ...)) (1).
ويمكن ملاحظة ذلك في الآثار:4، 7، 8، 9، 12 .
ومن أضرار هذه المناظرات على المشتغل بها في دينه كونها شاغلة له عما هو أولى به منها -كما مرّ قريبا الإشارة إليه- من خلوّ القلب لذكر الله، وتذوق حلاوة مناجاته، والاشتغال بقراءة القرآن، وتعلّم وتعليم العلم النافع فإن أهل الاشتغال بهذه الأعمال الجليلة في شغل عن هذه المماحكات، ولم يولّد المماراةَ والجدلَ في الدين إلا قومٌ فرغوا عن العمل النافع فانشغلوا بما هو دونه بمراتب، بل بما يكون ضرره على الواحد منهم- وعلى سائر المسلمين- أكثر من نفعه.
__________
(1) الرعاية لحقوق الله تعالى للحارث المحاسبي : 460.(10/12)
ولذلك فإنه كانت في ((القرون الفاضلة الكلمة في الصفات ] وغيرها من المسائل الكبار[ متحدة، والطريقة لهم جميعا متفقة. وكان اشتغالهم بما أمرهم الله بالاشتغال به، وكلّفهم القيام بفرائضه من : الإيمان بالله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصيام، والحج والجهاد، وإنفاق الأموال في أنواع البر، وطلب العلم النافع، وإرشاد الناس للخير على اختلاف أنواعه، والمحافظة على موجبات الفوز بالجنة، والنجاة من النار، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأخذ على يد الظالم بحسب الاستطاعة، وبما تبلغ إليه القدرة، ولم يشتغلوا بغير ذلك مما لم يكلفهم الله بعلمه، ولا تعبدَّهم بالوقوف على حقيقته. فكان الدين إذ ذاك صافياً عن كَدَر البدع ... فعلى هذا النمط كان الصحابة رضي الله عنهم والتابعون وتابعوهم، وبهدي رسوله اهتدوا، وبأفعاله وأقواله اقتدوا)) (1)
وقال جعفر بن محمد : إياكم والخصومة في الدين ؛ فإنها تُشغل القلب ، وتورث النفاق(2).
قال الربيع : أنشدنا الشافعي في ذم الكلام :
لم يبرح الناس حتى أحدثوا بدعاً حتى استخَفَّ بدين الله أكثرهم
في الدين بالرأي لم تبعث بها الرسل
وفي الذي حملوا من حقه شغل(3)
ويمكن ملاحظة ذلك في الآثار: 1 ،7 ،16 .
__________
(1) التحف في مذاهب السلف للشوكاني : (الفتح الرباني : 1/260-261)، وما بين المعقوفين زيادة من عندي لتتميم المعنى .
(2) الإبانة الكبرى :2/526.
(3) صون المنطق والكلام للسيوطي : 85 ،وهو في ذم الكلام للهروي : 256ط سميح دغيم ، وانظر الرعاية للمحاسبي : 460-461.(10/13)
2 – أن العقل السليم يدل على ذلك فإن الشريعة مبناها على التسليم والانقياد، ولا أحد أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أحد أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم من صحابته رضي الله عنهم، ولا أحد أعلم بالصحابة من التابعين رضي الله عن الجميع وهم كلهم كانوا أصح الناس عقولاً، وأقومهم هدياً وطريقة، وأحدثهم عهداً بالشريعة فمنهم يُسْتَمد، وعلى التسليم لرب العالمين المعوَّل. وأما التعويل على غير هذا فما هو إلا خبط في العماية يورث التشكك والتنقل والحيرة والاضطراب وفساد الأمر.
وعليه فالحزم كل الحزم في اتباع هدي السلف الأول والأمر العتيق مع الحذر من البدعة والتبدع(1).
قال عبد الله بن مصعب :
ترى المرء يعجبُه أن يقول
فأمسِك عليكَ فضولَ الكلامِ
ولا تصحبنَّ أخا بدعةٍ
فإنّ مقالتَهم كالظَِّلال
وقد أحكم اللهُ آياتِه
وأوضحَ للمسلمين السبيلَ
وأسلمُ للمرءِ أن لا يقولا
فإنّ لكلِّ كلامٍ فضولا
ولا تسمعنَّ لهُ الدهرَ قيلا
توشكُ أفياؤُها أن تزولا
وكان الرسولُ عليها دليلا
فلا تقفُوَنَّ سواها سبيلا(2)
ويدل على هذا أيضاً الآثار:6، 7، 10، 11، 17 .
وهذه النقطة عائدة إلى النقطة السابقة وكلاهما عائد إلى قصد حفظ النفس من البدعة.
3- قصد حفظ المجتمع من البدعة فالمبتدعة في ذلك الزمان قليل مقموعون لا شوكة ولا ظهور لهم. وأئمة العلم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم هم الشموس والأقمار المضيئة للناس في الظلماء.
__________
(1) انظر أيضا في هذا المعنى كلاما للإمام أبي عبد الله ابن بطة في كتابه الإبانة الكبرى :1/423،420 .
(2) صون المنطق : 74 نقلاً عن ذم الكلام للهروي . انظر ذم الكلام ص :270 ط سميح دغيم .(10/14)
قال الإمام اللالكائي رحمه الله : (( فهم – أي المبتدعة – { كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } .. ثم إنه من حين حدثت هذه الآراء المختلفة في الإسلام، وظهرت هذه البدع من قديم الأيام، وفشت في خاصة الناس والعوام، وأُشربت قلوبهم حبها حتى خاصموا فيها بزعمهم تديناً أو تحرجاً من الآثام = لم تَرَ دعوتَهم انتشرت في عَشْرةٍ من منابر الإسلام متوالية، ولا أمكن أن تكون كلمتهم بين المسلمين عالية، أو مقالتهم في الإسلام ظاهرة بل كانت داحضة وضيعة مهجورة؛ وكلمة أهل السنة ظاهرة، ومذاهبهم كالشمس نايرة ، ونصب الحق زاهرة، وأعلامها بالنصر مشهورة، وأعداؤها بالقمع مقهورة، يُنطق بمفاخرها على أعواد المنابر، وتُدَوَّن مناقبها في الكتب والدفاتر، وتستفتح بها الخطب وتختم، ويفصل بها بين الحق والباطل ويحكم، وتُعقد عليها المجالس وتبرم، وتظهر على الكراسي وتدرس وتُعَلَّم .. )) (1) اهـ .
وعليه فمجالسة أئمة السنة للمبتدع قد تغرُّ به مَن سَلِم من هذه البدعة ولم يعلم بها، أو قد تعطي لهؤلاء شيئا من الاعتبار والمكانة التي لا يستحقونها، وقد تؤدي إلى انتشار البدعة وعلم الناس البرءآء منها بها قال الغزالي : ((فإن العامي ضعيف يستفزه جدل المبتدع وإن كان فاسداً))(2) أي وإن كان جدله فاسداً.
قال أبو القاسم الأصبهاني (535) في كتابه (الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة) وهو يذكر فصولا مستخرجة من السنة: ((وترك مجالسة أهل البدعة ومعاشرتهم سنة ؛ لئلا تعلق بقلوب ضعفاء المسلمين بعضُ بدعتهم ، وحتى يعلم الناس أنهم أهل بدعة ، ولئلا يكون في مجالستهم ذريعة إلى بدعتهم)) (3).
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة : 1 /15 .
(2) إحياء علوم الدين : 1/97 .
(3) 2/509(10/15)
فكان الحزم في توقي استفادة هؤلاء من التعلق بأذيال أهل السنة والاتباع(1).
وقد هجر الإمامُ أحمد الحارثَ المُحاسبي مع زهده وورعه بسبب تصنيفه كتابا في الرد على المبتدعة ، وقال له: ويحك ، ألستَ تحكي بدعتهم أولاً ثم ترد عليهم ؟! ، ألستَ تحمل الناسَ بتصنيفك على مطالعة البدعة والتفكر في تلك الشبهات فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث(2).
وانظر في ذلك الآثار:13، 14 .
4 – قصد زجر المبتدع عن بدعته، وذلك بهجره وقمعه. والهجر عقوبة شرعية قد استعملها النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت في ذلك الزمان من أبلغ العقوبات إذ السنة ظاهرة، والبدعة وأهلها مخذولة محتقرة فبالتالي تجد أن أكثر الناس يكون هاجراً للمبتدع فلعله أن يتأثر بذلك فينقمع عن بدعته، ويفيء إلى السنة، أو لا أقل من أن يَطْفَأ نشاطُه، ويقل شره وكلتا الحالتين خير له من التمادي في البدعة قال أيوب السختياني : لست برادٍ عليهم بشيءٍ أشد من السكوت(3).
وقال ابن هانيء : سألت أبا عبد الله عن رجل مبتدع داعية يدعو إلى بدعته، أيجالس؟. قال: لا يجالَس ولا يُكلَّم لعله أن يرجع(4) .
__________
(1) وانظر أيضا : الإبانة لابن بطة: 2/523.
(2) إحياء علوم الدين:1/95 .ولعل هذا هو الذي أدخل على الحارث -رحمه الله – التأثر ببعض المذاهب البدعية فدخلت عليه البدعة من حيث أراد ردها. وقارن بميزان الاعتدال: 1/431 وفيه تعليق قيم للإمام الذهبي - رحمه الله- ،سير أعلام النبلاء : 12/ 112، موقف ابن تيمية من الأشاعرة :1/452-466. وانظر حول منع أحمد من الرد على المبتدعة- أيضا - الإبانة الكبرى : 2/471-472 .
(3) الشريعة : 1/452 ، الإبانة الكبرى :2/471 ، وانظر أثرا آخر بنفس المعنى في : الإبانة الكبرى : 2/471 .
(4) مسائل الإمام أحمد ابن حنبل برواية ابن هانيء : 2/153 ، و الإبانة الكبرى لابن بطة : 2/475 .وانظر كذلك حول السكوت وترك المراء :الشريعة:1/453 ، الإبانة الكبرى :2/522 .(10/16)
قال اللالكائي : ((فلم تزل الكلمة مجتمعة، والجماعة متوافرة على عهد الصحابة الأول ومن بعدهم من السلف الصالحين حتى نبغت نابغة بصوت غير معروف، وكلام غير مألوف في أول الإمارة المروانية تنازع في القدر وتتكلم فيه .. ثم انطمرت هذه المقالة، وانجحر من أظهرها في جحره، وصار مَن اعتقدها جليسَ منزله، وخبَّأ نفسه في السرداب كالميَّت في قبره؛ خوفاً من القتل والصلب والنكال والسَّلب، ومِن طلبِ الأئمة لهم لإقامة حدود الله عز وجل فيهم – وقد أقاموا في كثير منهم، ونذكر في مواضعه أساميهم – . وحثَّ العلماءُ على طلبهم، وأمروا المسلمين بمجانبتهم، ونهوهم عن مكالمتهم، والاستماع إليهم، والاختلاط بهم لسلامة أديانهم. وشهّروهم عندهم بما انتحلوا من آرائهم الحديثة، ومذاهبهم الخبيثة خوفاً من مكرهم أن يُضلوا مسلماً عن دينه بشبهة وامتحان، أو بَرِيق قولٍ من لسان. وكانت حياتهم كوفاة، وأحياؤهم عند الناس كالأموات. المسلمون منهم في راحة، وأديانهم في سلامة، وقلوبهم ساكنة، وجوارحهم هادية . وهذا حين كان الإسلام في نضارة، وأمور المسلمين في زيادة)) (1). ثم ذكر بداية أمر مناظرة أهل البدع ثم قال : (( فما جُني على المسلمين جنايةٌ أعظم من مناظرة المبتدعة، ولم يكن لهم قَهر ولا ذُلٌّ أعظم مما تركهم السلف على تلك الجملة يموتون من الغيظ كمداً ودرداً، ولا يجدون إلى إظهار بدعتهم سبيلاً، حتى جاء المغرورون ففتحوا لهم إليها طريقاً، وصاروا لهم إلى هلاك الإسلام دليلاً؛ حتى كثرت بينهم المشاجرة، وظهرت دعوتهم بالمناظرة، وطَرَقَ أسماع من لم يكن عرفها من الخاصة والعامة..))(2) اهـ.
__________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة : 1/16-17 .
(2) 1/19 ، وانظر كلاما نفيسا حول هذا المعنى في الإبانة الكبرى لابن بطة :2/542-544 .(10/17)
5 – الحذر من كون المناظرة داعية للمبتدع إلى الإيغال في البدعة أكثر، مع التعصب لها التعصب الذي لولا المناظرة لم يكن بهذه المنزلة. وقد تقدم عن عمرو بن قيس قال: قلت للحكم: ما اضطر الناس إلى الأهواء؟ قال: الخصومات(1).
وبالتالي فمن ضرر الخصومات(( تأكيدُ اعتقاد المبتدعة للبدعة وتثبيتُه في صدورهم بحيث تنبعث دواعيهم ويشتد حرصهم على الإصرار عليه، ولكن هذا الضرر بواسطة التعصب الذي يثور من الجدل؛ ولذلك نرى المبتدع العامي يمكن أن يزول اعتقاده باللطف في أسرع زمان، إلا إذا كان نشوؤه في بلد يظهر فيها الجدل والتعصب، فإنه لو اجتمع عليه الأولون والآخرون لم يقدروا على نزع البدعة من صدره. بل الهوى والتعصب وبغض خصوم المجادلين وفرقة المخالفين يستولي على قلبه ويمنعه من إدراك الحق، حتى لو قيل له: هل تريد أن يكشف الله تعالى لك الغطاء ويعرِّفَك بالعيان أن الحق مع خصمك لكره ذلك خيفةً من أن يفرح به خصمُه !! وهذا هو الداء العضال الذي استطرد(2) في البلاد والعباد وهو نوع فساد أثاره المجادلون بالتعصب))(3) اهـ .
وغير ذلك من البواعث الجزئية التي لا تخفى على المتأمل، وهي جديرة بالجمع والتتبع(4).
__________
(1) الآجري : 1/443 وقال محققه: إسناده ضعيف جداً ، واللالكائي : 1/128.
(2) في نسخة الإحياء المطبوعة مع إتحاف السادة المتقين للزَّبيدي(2/58) : استطار . وكأنه أصوب .
(3) الإحياء : 1/97.
(4) وانظر أمثلة على ذلك في : مناقب الشافعي للبيهقي : 1/465، الرد على المخالف : 50 ، الآثار الواردة عن أئمة السنة في أبواب الاعتقاد من كتاب سير أعلام النبلاء : 2/684- 686 ، موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع :2/469، 577، 603 فما بعدها .(10/18)
بعد ذلك أقول: إن هذه البواعث الشريفة يختلف تحققها من زمان إلى زمان، ومن شخص لآخر، ومن بلد لغيره وهكذا. وبالتالي فإن هذا الموقف الذي اتخذه السلف رحمهم الله وإن كان هو الموقف العام لهم – كما سبق الإفاضة في ذلك - إلا أنه لم يكن هو موقفهم الوحيد، ولم يكونوا رحمهم الله آلاتٍ صمّاء يرون رأياً ثم يطبقونه بعنف وابتسار وعدم تفقه لدواعيه، وإنما كانوا فقهاء نفسٍ وأهلَ حكمةٍ يضَعون الدواءَ المناسب في مواضعه، ويقدرون لكل أمر ما يستحق ولذلك فعند عدم وجود المقتضي للحكم، فإن الحكم يزول بزوال هذا المقتضي.(10/19)
ومسألة اتباع السلف يتعلَّق جزءٌ منها بسَعة العقول والأفهام ، والقدرة على تصوُّر الموضوع من جميع جوانبه، وهذه المواهب كان للسلف منها القدر الأكبر – رحمهم الله- وقد يتبعهم بعضُ من يحبهم في مواقفهم الظاهرة دون تفَقُّهٍ منه لمنهجهم وطريقة تفكيرهم ، فيكون على خيرٍ إلا أن هذا الخير ناقص ، ولربما تمسَّك -بظاهريته - بشيءٍ من أقوالهم وأفعالهم في مواقف وظروف يجزم المتبع لهم على بصيرة أنهم لو عايشوها لقالوا فيها بغير ما قالوه في ظروف أخرى . ولكنَّ الله يقسم بين الناس الفهوم والعقول كما يقسم بينهم معايشهم وأرزاقهم ،ولذلك فإن أبا العباس ابن تيمية ذكر في كلام له بدعة قالت بها طائفة من الطوائف ثم قال عن طائفة أخرى قابلت أولئك : (( وطائفة رأت أن ذلك بدعة فأعرضت عنه ، وصاروا ينتسبون إلى السنة لسلامتهم من بدعة أولئك ، ولكن هم مع ذلك لم يتبعوا السنة على وجهها ولا قاموا بما جاء به الرسول من الدلائل السمعية والعقلية . بل الذي يخبر من السمعيات مما يخبر به عن ربه وعن اليوم الآخر غايتهم أن يؤمنوا بلفظه من غير تصور لما أخبر به الرسول ))(1) وعلى كل حال فالمنبغي على العبد أن يتقي الله ما استطاع ، فإن فعل ذلك وتجرَّد من الهوى فهو على خير كبير ، ثم ليتق الله في أن يُنكر ما ليس بمنكر ، أو أن ينهى عن المعروف نسأل الله الهداية والتوفيق.
ولذلك فإن لهم رحمهم الله عشرات المواقف في محاجة أهل البدع ومناظرتهم والرد عليهم أذكر طرفاً منها ثم أعود لمناقشة مدى تحقق البواعث الخمسة في الوقت المعاصر من عدمه بعد ذلك إن شاء الله.
__________
(1) دقائق التفسير:5/163 .(10/20)
وقد بوب الإمام ابن عبد البر(463) في كتابه العظيم (جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله) باباً بعنوان : ((باب إتيان المناظرة والمجادلة وإقامة الحجة)) استهله بآيات منها : { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ، وقال : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } والبينة ما بان من الحق. وقال { إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا } ... ثم أورد عدة آيات من مخاصمة ومجادلة ومناظرة الأنبياء لأقوامهم: إبراهيم، ونوح، وموسى ثم قال: ((فهذا كله تعليم من الله عز وجل للسؤال والجواب والمجادلة. وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب، وباهلهم بعد الحجة – ثم ساق آيتين في ذلك - . وجادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه اليهود في جبريل وميكائيل عليهما السلام ... وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن آدم احتج مع موسى عليهما السلام فحج آدم موسى .
وقال عز وجل : { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } فأثنى على المؤمنين أهل الحق وذم أهل الكفر والباطل ...
وتجادل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السقيفة وتدافعوا وتقرروا وتناظروا حتى صار الحق في أهله، وتناظروا بعد مبايعة أبي بكر : في أهل الردة، وفي فصول يطول ذكرها...
وناظر علي رضي الله عنه الخوارج حتى انصرفوا. وناظرهم ابن عباس رضي الله عنه أيضاً بما لا مدفع فيه من الحجة من نحو كلام علي، ولولا شهرة ذلك وطول الكتاب لاجتلبت ذلك على وجهه ... - ثم خرج بأسانيده أخبار مناظرة كل من علي وابن عباس رضي الله عنهم وعمر بن عبد العزيز رحمه الله للخوارج - ثم قال:(10/21)
قال أبو عمر: هذا عمر بن العزيز – رحمه الله – وهو ممن جاء عنه التغليظ في النهي عن الجدال في الدين وهو القائل : (( من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل)) فلما اضطر، وعرف الفَلَج في قوله، ورجا أن يهدي الله به لزمه البيان فبيَّن وجادل، وكان أحد الراسخين في العلم رحمه الله))(1) .ا هـ
وخبر ابن عباس مع الخوارج حاصله أن الحرورية لما اجتمت للخروج على عليّ رضي الله عنه قال له ابن عباس ذات يوم: يا أمير المؤمنين أبرد بالصلاة فلا تفُتْني حتى آتي القوم. قال: فدخلتُ عليهم وهم قائلون؛ فإذا هم مُسْهِمةٌ وجوهُهم من السهر، قد أثّر السجودُ في جباههم، كأن أيديهم ثفِن الإبل(2)، عليهم قُمُصٌ مُرحضة فقالوا: ما جاء بك يا ابن عباس؟ ... قلت : جئتكم من عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس فيكم منهم أحد و من عند ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم – وعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بتأويله. جئتُ لأبلغَكم عنهم، وأبلغَهم عنكم ... الخ .
وفيه أن ابن عباس حضر مجتمعهم، وناظرهم وأجاب عن شبهاتهم . فرجع منهم ألفان، وبقي بقيتهم فخرجوا فقُتلوا (3).
فهذا ابن عباس رضي الله عنه لما كان في مناظرته للخوارج خيراً كثيراً ذهب بنفسه إليهم حتى رجع منهم معه الجمُّ الغفير.
وناظر عمر بن عبد العزيز يرحمه الله غيلان الدمشقي(4).
وناظر الأوزاعي أحد القدرية(5).
__________
(1) ملخَّصا من جامع بيان العلم : 2/953-967.
(2) ثفِن الإبل : ما أصاب الأرضَ من أعضائها فغلُظ كالركبتين وغيرهما.مقاييس اللغة لأحمد ابن فارس : مادة (ث ف ن) .
(3) الجامع لابن عبد البر : (1834) 2/962-964.
(4) اللالكائي:7/714 .
(5) اللالكائي : 4/718 .(10/22)
وناظر الشافعي حفص الفرد(1)، وناظر بشرَ المريسي بناءً على طلب أم بشر منه ذلك(2) وقال –رحمه الله-: ((ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا خُصِموا، وإن أنكروا كفروا ))(3) .
ومن مناظرات السلف كذلك المناظرة المطبوعة باسم (المناظرة) والتي جرت بين جعفر بن محمد الصادق مع الرافضي إذ ألزمه فيها الحجة ، وبيّن فيها فضل الشيخين رضي الله عنهما(4).
ومن مناظراتهم مناظرة عبد العزيز الكناني –رحمه الله- لبشر المريسي العنيد في مسألة خلق القرآن والتي وُثِّقت في (كتاب الحيدة)(5).
__________
(1) مناقب الشافعي للبيهقي : 1/455-457.
(2) مناقب الشافعي للبيهقي:1/204.
(3) جامع العلوم والحكم : 1/103، شرح العقيدة الطحاوية : 354.
(4) طبعت بتحقيق : علي الشبل.
(5) كتاب الحيدة مطبوع مشهور متداول طبع بتحقيق :جميل صليبا ، وطبع بتحقيق الشيخ :علي ناصر فقيهي. ويمكن مراجعة المناظرة فيه، كما يمكن مراجعتها في كتاب منهج الجدل والمناظرة2/955-1013 حيث أوردها فيه مع حذف بعض الاستطرادات.وهذه المناظرة تكلم في ثبوتها الإمام الذهبي وغيره ، إلا أنها مشهورة متداولة عند العلماء وقد اعتمدها عدد من الأكابر كابن تيمية ، وابن القيِّم ، وابن أبي العز انظر مثلا : درء التعارض:2/245، 295 وامتدح عبدالعزيز الكناني في هذا الموضع بكلام طيِّبٍ جدا ، و6/115 ،بيان تلبيس الجهمية :2/341 ،557 ، مجموع الفتاوى :5/24 واعتبرها من الكتب التي يؤخذ منها كلام السلف ،5/314،
6/166 ،325 . شفاء العليل :2/450 ،اجتماع الجيوش الإسلامية :219 .شرح العقيدة الطحاوية:125 ،180-181.(10/23)
وهكذا مناظرة الإمام أحمد بن حنبل لابن أبي دؤاد والمعتزلة في المسألة نفسها، وغيرها من مناظراته –رحمه الله-(1).
وقد نفع الله به بعض من كان فيه بدعة فعاد للحق والسنة . قال ابن حبان في كتاب الثقات- في ترجمة موسى بن حزام الترمذي- : كان في أول أمره ينتحل الإرجاء، ثم أغاثه الله بأحمد بن حنبل فانتحل السنة وذب عنها وقمع من خالفها مع لزوم الدين إلى أن مات(2).
ولما حضر السلطان ألب أرسلان إلى هراة اجتمع عليه أئمة الشافعية والحنفية للشكاية على الشيخ أبي إسماعيل الأنصاري الهروي (481) ومطالبته بالمناظرة وخلافهم معه كان خلافا في العقيدة كما هو معلوم . فاستدعاه الوزير نِظَام الملك أبو علي الحسن بن علي-رحمه الله- وقال: إن هؤلاء القوم اجتمعوا لمناظرتك فإن يكن الحق معك رجعوا إلى مذهبك، وإن يكن الحق معهم إما أن ترجع وإما أن تسكت عنهم. فقام وقال: أنا أناظر على ما في كمي. فقال: وما في كُمَّك فقال: كتاب الله عز وجل – وأشار إلى كمه اليمنى – وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم – وأشار إلى كمه اليسرى – وكان فيه الصحيحان . فنظر إلى القوم كالمستفهم لهم، فلم يكن فيهم من يمكنه أن يناظره من هذا الطريق(3).
__________
(1) انظر مثلا: منهج الجدل والمناظرة :2/931، 934، 940، 950، 1032، 1137. ومحنة الإمام أحمد في مسألة خلق القرآن مشهورة في كتب التاريخ والسير. انظر مثلا: مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي: 308 فما بعدها ، البداية والنهاية:10/330-335 ، محنة الإمام أحمد بن محمد بن حنبل للحافظ عبد الغني المقدسي .
(2) تهذيب الكمال : (6843) 7/ 257.
(3) سير أعلام النبلاء : 18/511، تذكرة الحفاظ : 3/1187.(10/24)
وناظر ابن تيمية(728) خصومه في الخلوة والجلوة مثلما كان يردّ عليهم في كتبه، ومناظراته رحمه الله كثيرة لا تكاد تنقضي (1) . فقد ناظر الرفاعية، وناظر القاضيَ ابنَ مخلوف المالكي، ومناظرته في الواسطية معروفة مشهورة وغير ذلك كثير.
وكان ابن القيم (751)(( يفتي ويناظر ويجادل بالحق ليدحض الباطل مع أنواع من أمم الأرض على اختلاف آرائهم وتنوع مذاهبهم))(2).
وفي شفاء العليل لابن القيم: ((الباب التاسع عشر: ذكر مناظرة جرت بين جبري وسني جمعهما مجلس واحد)). وفيه: ((الباب العشرون : في ذكر مناظرة بين قدري وسني))(3).
وفي العصور المتأخرة ناظر العلامة عبد الله بن الحسين السويدي(4) (1174) علماء الرافضة في النجف نفسها بطلب من الوزير أحمد باشا (1773م) فاجتمع له سبعون مفتياً من علمائهم، وحكَّمه فيهم الشاه نادر (1147) ثم جرت المباحثة بين السويدي مع الملا باشا علي أكبر وهو من علماء الشيعة في مسألة أحقية علي رضي الله عنه بالخلافة فناظره السويدي في ذلك بوجوه من الردود بليغة ومفحمة حتى قطعه. وحتى قال بعض الحاضرين من الشيعة مخاطباً الملا باشا: اترك المباحثة مع هذا، فإنه شيطان مجسم، وكلما زدتَ في الدلائل وأجابك عنها انحطت منزلتُك.
__________
(1) اشتمل كتاب الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية على قرابة خمسين موضعاً لمناظراته المذكورة في كتب التراجم المتفرقة – رحمه الله – انظر : الجامع : 762.
(2) ابن قيم الجوزية حياته آثاره موارده للشيخ بكر أبوزيد : 68. وأحال الشيخ بكر في نفس الموضع على ثمانية مواضع من كتب ابن القيم تضمنت بعضاً من مناظراته .
(3) 1/411 ، 2/443 ط الحفيان.
(4) انظر ترجمته في الأعلام :4/80 ، وانظر مصادر ترجمته في : تاريخ الأعظمية لوليد الأعظمي : 528 .(10/25)
ثم تكلم معه في عدة موضوعات أخرى حتى انقطع الشيعي والحمد لله. وأُخبر الشاه بهذه المباحثة طبق ما وقع، فأمر أن يجتمع علماء إيران وعلماء الأفغان وعلماء ما وراء النهر، ويرفعوا المكفِّرات، ويكون السويديُّ ناظراً عليهم، ووكيلاً عن الشاه، وشاهداً على الفرق الثلاث بما يتفقون عليه.
قال السويدي : فخرجنا نشق الخيام والأفغانُ والأوزبك والعجم يشيرون إليَّ بالأصابع وكان يوماً مشهوداً (1).
وقد ناظر الشيخ ابن سعدي بعض المتكلمين بنفسه (2). وحكى عدة مناظرات بين مسلم وملحد (3).
__________
(1) نشرها محب الدين الخطيب مع كتابه الخطوط العريضة باسم : مؤتمر النجف : 64 وما بعدها. بواسطة منهج الجدل والمناظرة : 1/257-263.
(2) مجموع الفوائد : 116.
(3) انتصار الحق ، مجموع الفوائد : 155، 237. وانظر : الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجهوده في توضيح العقيدة : 82 .(10/26)
ودعا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله – علماء إيران للمناظرة وذلك (( حينما قدِم مندوب إيران – في رابطة العالم الإسلامي – وقدَّم طلباً باعتراف الرابطة بالمذهب الجعفري، ومعه وثيقة من بعض الجهات العلمية الإسلامية ذات الوزن الكبير تؤيده على دعواه، وتجيبه إلى طلبه. فإن قبلوا طلبه دخلوا مأزقاً، وإن رفضوه واجهوا حرجاً. فاقترحوا أن يتولى الأمر فضيلته رحمه الله في جلسة خاصة. فأجاب في المجلس قائلاً: لقد اجتمعنا للعمل على جمع شمل المسلمين والتأليف بينهم وترابطهم أمام خطر عدوهم، ونحن الآن مجتمعون مع الشيعة في أصول هي : الإسلام دين الجميع، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم رسول الجميع، والقرآن كتاب الله، والكعبة قبلة الجميع، والصلوات الخمس، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام. ومجتمعون على تحريم المحرمات من قتل وشرب وزنى وسرقة ونحو ذلك. وهذا القدر كافٍ للاجتماع والترابط. وهناك أمور نعلم جميعاً أننا نختلف فيها وليس هذا مثار بحثها، فإن رغب العضو الإيراني بحثها واتباع الحق فيها فليختر من علمائهم جماعة، ونختار لهم جماعة ويبحثون ما اختلفنا فيه ويُعلن الحق ويلتزم به. أو يسحب طلبه الآن. فأقر الجميع قوله، وسحب العضو طلبه))(1).
__________
(1) ترجمة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي لتلميذه الشيخ عطية سالم رحمهما الله في مقدمة كتاب الشنقيطي : (رحلة الحج إلى بيت الله الحرام) : 26.(10/27)
وغير هذا كثير في مواقف أهل السنة في نصرة مذهبهم الحق على ما ناوأ سنة النبي صلى الله عيه وسلم، وتنكب سبيل المؤمنين(1).
وبعد الإطلاع على هذا كله يجزم المؤمن الموفق، وطالب العلم على بصيرة أن هذه الثلة المباركة من علماء المسلمين، من مميَّزيهم ومحقِّقِيهم، ومن أكثرهم علماً بمنهج السلف واتباعاً له لم يكونوا ليتفقوا على مخالفة صريحة لمنهج السلف في التعامل مع مثل هذه المسألة، وإنما هو الفهم الدقيق، وإنزال النصوص منازلها. رحمة الله على الجميع.
وعليه فبعد هذا الاستعراض السريع لمواقف علماء المسلمين حيال هذه القضية أعود لذكر البواعث الخمسة المذكورة سلفاً، مع مناقشة مدى تحققها في واقعنا المعاصر وهو ما يسميه علماء الأصول بتحقيق المناط:
__________
(1) انظر على سبيل المثال : القضاء والقدر للأشقر : 59-65، منهج الجدل والمناظرة : 1/232-268، 2/898، 899، 913، 931، 934، 937، 940، 954، 955، 1014، 1016، 1017، 1036، 1048، 1064، 1065، 1069، 1149، 1159، 1169، 1196. وما أشرتُ إليه مجرد أمثلة وإلا فإن القسم الأخير من هذا الكتاب معقود لسوق مناظرات أهل السنة للمبتدعة والكفار وغيرهم : 2/871-1200 في أكثر من ثلاثين و ثلاثمائة صفحة.(10/28)
الباعث الأول : هو حرص الإنسان على سلامة دينه له(1). وأول ما يلاحظ في هذا الباعث هو عدم اعتبار الجم الغفير من العلماء له عند تعيّن الأمر عليهم لتحقيق مصلحة شرعية، بل كان الإقدام منهم واضحاً بلا تلجلج ولا تردد وإنما إقدام مع ثبات حجة، ورسوخ في اليقين، وثقة بنصر الله. والذي يجب أن يخاف حال مناظرته لأهل البدع هو الذي يناظرهم عبثاً، وتزجية للوقت، وإظهاراً للقدرة على قوة الحجة والتفوق في العلوم كما كان يحصل كثيراً في مجالس الخلفاء(2). أو إذا كانت المناظرة هدفاً لذاتها بحيث يظن أنها سبيل صحيح لتحصيل العلم، ويحصل بسبب ذلك التوسع والمسامحة في مخالطة المبتدعة فهذا مذموم أيضا.وهذا كما ورد في ترجمة الإمام العلامة المتفنن أبو الوفاء ابن عقيل(513) أنه قال عن نفسه: ((وكان أصحابنا الحنابلة يريدون مني هجران جماعة من العلماء، وكان ذلك يحرمني علماً نافعاً)). قال الذهبي معلقا: (( قلتُ : كانوا ينهونه عن مجالسة المبتدعة، ويأبى حتى وقع في حبائلهم وتجسَّر على
__________
(1) وقد بينا أهمية هذا الباعث وبقية البواعث التي سنذكرها بعده لما ذكرناها من قبل، وعليه فإني هنا لا أناقش في صحة وصدق هذه البواعث ولكن في تحقق ذلك في الواقع .
(2) ذكر مواضع كثير مما تناثر من أخبار هذه المناظرات في كتب أهل العلم العلامة أحمد تيمور باشا في كُنَّاش فوائده((التذكرة التيمورية)) : 357-358. وانظر وصف الإمام ابن بطة لهذه المناظرات في الإبانة :2/531 . وقد ذكروا من الأهداف التي أنشيء لها بيت الحكمة ببغداد أن يكون موئلا للمناظرات والمجادلات .انظر : الكتاب في الحضارة الإسلامية للجبوري :180 ، وهكذا فعل الفاطميون العبيديون في دار الحكمة التي ابتنوها في القاهرة ، كما في : المكتبات في الإسلام لمحمد ماهر حمادة : 100-104 . وهكذا استخدم المأمون والعبيديون الباطنية هذه المناظرات لنشر مذاهبهم الرديئة بين المسلمين . انظر : المكتبات في الإسلام : 209 .(10/29)
تأويل النصوص نسأل الله السلامة ))(1). وقال ابن العماد الحنبلي : ((إن أصحابنا كانوا ينقمون على ابن عقيل تردده إلى ابن الوليد وابن التبان شيخي المعتزلة وكان يقرأ عليهما علم الكلام، ويظهر منه في بعض الأحيان نوع انحرافٍ عن السنة وتأول لبعض الصفات))(2).. ولكن يبدو أنه في آخر عمره راجع السنة وتاب من تلك المجالسات. قال ابن حجر: ((وهذا الرجل من كبار الأئمة، نعم كان معتزلياً، ثم أشهد على نفسه أنه تاب عن ذلك وصحت توبته ثم صنف في الرد عليهم))(3)
__________
(1) سير أعلام النبلاء : 19/447.
(2) شذرات الذهب:6/60 ط الأرناؤوط دار ابن كثير .
هكذا ذكر هؤلاء العلماء عنه في كتب التراجم، وقد تتبعت المجلد الموجود من كتاب الفنون أكبر وأشهر كتب أبي الوفاء ابن عقيل (وهو مطبوع في مجلدين ) فوجدت طريقته فيهما أنه يذكر فوائد علمية، وخواطر، وإجابات على إشكالات ونحو ذلك، وأن أكثر مادته إنما هي في حكاية مناظرات وقعت في الفقه والكلام وغير ذلك، وأحد أطراف هذه المناظرات وهو طرف أساس فيها كلها عالم حنبلي، أو حنبلي محقق، أو حنبلي عنده معرفة بالأصول ونحو ذلك، والمرجّح أن المقصود به هو ابن عقيل نفسه، وفي هذه المناظرات الكثير من المناظرات التي هي على طريقة ما ذم السلف كما مَرَّ تفصيله، وهي متفاوتة وسأسوق هنا أرقام الصفحات التي لها علاقة ببحثنا هذا من كتاب الفنون مع التأكيد أنها بمجموعها تعطي دلالة على ما ذكرت وليس كل واحدٍ واحدٍ منها كذلك، وإن كان بعضها أوضح وأبلغ في الدلالة من بعض وهي : 1/41، 55، 65-68، 88، 91، 176 مهم، 179، 244 مهم، 238، 240، 248، 263، 273، 281، 283، 307 مهم، 308، 325، 374. 2/493، 494، 497، 548 مهم، 564، 608 مهم، 647 مهم، 743 وغير ذلك من المواضع فكل هذه المواضع وردت في مجلد واحد من كتاب ضخم أقل ما قيل في عدد مجلداته أنها مائتي مجلد . رحم الله الإمام ابن عقيل وعفا عنه.
(3) لسان الميزان : 4/243، وفي ط أبوغدة 5/ 564 ، وانظر كذلك حول توبته: ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب :1/144-145، الآداب الشرعية لابن مفلح : 1/206، وفي ط الرسالة 1/226.(10/30)
.
ويصح أن يقال في مثل هذه الأحوال : ((من حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه))(1).
ولكنها إذا كانت في مقام تمييز حق من باطل، وصدع بالسنة وبطريقة السلف في مواجهة الزحف البدعي الظالم فهذا يكون من الجهاد المشروع في سبيل الله باللسان والبيان، وهو قسيم الجهاد في سبيل الله بالسلاح والسنان، ولما كان المجاهد في سبيل الله موعود بالنصر بالظفر أو الشهادة، فإن المجاهد باللسان لابد وأن يكون كذلك إذا اتقى الله ما استطاع وكان له من العلم ما يؤهله لخوض غمار معاركة المبتدعة بالحجة ؛ إذ الحجة في جهاد اللسان تقابل القوة في جهاد الطِّعان فمن كان هذه حاله فإنه إذا ناظر المبتدع لم يكن إلا قد قام بواجب الدين عليه، والله تعالى أكرم من أن يضيع من هذا حاله في دينه ونفسه بل يحميه من البدعة ومن أن يقر ذلك في قلبه، أو أن يكون سبباً مفضياً به إلى الزيغ والبدعة، وإن احتمل أن يكون الظفر لخصمه المبتدع لسبب خارج عنه إلا أن هذا نادر ولا يتعدى ضرره إلى التأثير على المناظر السني الذي تقيّد بالشروط المذكورة قال تعالى : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ } ، { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } ، {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين }
__________
(1) أخرجه الترمذي (2318)، وابن ماجه (3976) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .(10/31)
وكذا يُذَم البحث والنظر- فضلاً عن الجدال والمناظرة - إذا كان هذا الباحث متشككاً متحيراً متهوِّكاً فهذا يجب عليه أن يطلب الهدى من مظانه لا أن يخرج للبيداء يلتمس السُقيا. كما كان حال الملك جلال الدين محمد أكبر (963) الذي تبوأ عرش الهند وله من العمر قرابة ثلاث عشرة سنة وكان في العشرين سنة الأولى من حكمه مسلماً سنياً مؤدياً للصلاة في المسجد في أوقاتها، وكان يقوم مقام المؤذن أحياناً فيدعو الناس للصلاة. وكان يستجيب لمشورة العلماء، وكان يصدر أوامره بتعيين القضاء والمفتين في كل جزء من أجزاء مملكته ليحكموا بالناس تبعاً لأصول الشريعة الإسلامية، وكان يشوب فهمه للإسلام فهم صوفي قبوري على نفس صورة الالتزام بالإسلام السائدة في عصره وبلده. وكان يهتم بقوافل الحجيج، ويقوم بوداعها بنفسه. ثم وبعد العشرين سنة الأولى من حكمه، أخذ يفكر بطريقة أخرى تميل إلى محبة المناظرة والمجادلة وسماع مختلف الآراء وكان سبب ذلك هو زيارة الراهب النصراني جولين برابرا للملك أكبر وكان مناظراً مفوَّها، ومتكلماً بارعاً. فعرض عليه مزايا دين النصارى، ونقائص الدين الإسلامي – على حد زعمه – فأُعجب به الملك. ثم طلب بعثة من الرهبان البرتغاليين بإشارة من الراهب جولين فلبوا دعوته وأرسلوا بعثة تضم خيرة الرهبان عندهم كما أرسلوا إليه نسخة من الإنجيل . ثم تتابعت بعد ذلك صِلاته بهم. وفي تلك الأثناء قام ببناء دار خاصة سماها (عبادة خانة) ودعا إليها العلماء من السنة والشيعة للمناظرة حباً للاستطلاع واستجابة للعقلية الحرة المنفلتة . وأخذ علماء السنة والشيعة بالاجتماع مساء كل خميس في هذه الدار. ثم إنه وبعد عدة سنوات خطا خطوة أخرى فبدأ بدعوة علماء الملل الأخرى من براهمة الهنادكة، واليهود والنصارى والمجوس . ثم وبعد فترة من الزمان دعا إلى اجتماع عام حضره كبار العلماء من كل دين وملة، وقادة الجيش، وفيه تحدث عن الأضرار التي تعود على المجتمع(10/32)
من كثرة الأديان وتعددها، وأعلن عن ضرورة إيجاد دين واحد يضم محاسن الأديان المختلفة الموجودة في الهند ويعتنقه الجميع وبهذا – كما يزعم – يمكن تقديس الخالق، ويمكن للسلام والرفاهية أن يسودا بين الناس، وأن يشمل الأمنُ الدولة. وسمى دينه الجديد هذا بـ (الدين الإلهي), وأطلق عليه كذلك (المذهب الإلهي) أو (المذهب الأكبري)(1).
الباعث الثاني : أن العقل السليم يدل على التسليم للشريعة والانقياد، وهذا الباعث في حقيقته مندرج تحت البواعث الأخرى، ويكفي في مناقشته أن يقال أن الجدل والمناظرة المجوَّزة ما كان من باب الذب عن الشريعة لا من باب الاعتراض عليها (( والذي يُبطله أهل السنة من النظر نوعان: أحدهما : ما كان متوقفاً على المراء واللجاج الذي لا يفيد اليقين، ويثير الشر، وثانيهما : الانتصار للحق بالخوض في أمور يستلزم الخوض فيها الشكوك والحيرة والبدعة لما في تلك الأمور من الكلام بغير علم في محار العقول ومواقفها)) (2) يوضحه:
__________
(1) الحركات الإصلاحية ومراكز الثقافة في الشرق الإسلامي الحديث : 1/12 فما بعدها للدكتور صلاح الشيال، فرق الهند المنتسبة للإسلام في القرن العاشر الهجري: 447 فما بعدها، وقد كان لهذا التحول عدة أسباب أهمها ما ذكرنا، ويمكن مراجعة باقيها في كتاب : فرق الهند المنتسبة للإسلام : 448-469.
(2) الروض الباسم : 2/580-581، 2/353. و بنحوه في الإبانة الكبرى :1/390 .(10/33)
الباعث الثالث : وهو قصد حفظ المجتمع من البدعة، وهذا مستقيم جداً في زمان ظهور أعلام السنة، وكثرة أتباعها كما مر بيانه، وأما في هذه الأزمان المتأخرة فإن المبتدعة قد صارت لهم الكلمة في بلدان كثيرة من بلدان العالم الإسلامي، وصوتهم جهير مسموع يضلون به الناس عن الحق، أفيجوز بعد ذلك لأتباع الصراط المستقيم أن يظنوا أنهم في انكفائهم على أنفسهم، وتركهم لبيان العلم النافع، وتركهم لواجب القيام بالشهادة على الناس =معذورون . قد مضت سنة الله أنه ينصر الحق بالرجال، فإن تركوه فإن في سنة الله أن يتدافع الحق والباطل، فيكون للباطل صولة وجولة بسبب تفريط أهل الحق في القيام بواجبهم والله المستعان.
ولذلك تجد أن علماء السنة الذين نقلنا من كتبهم النهي عن المجادلة والمناظرة هم أنفسهم قد ردوا على المبتدعة بدعهم وفي نفس تلك الكتب ككتاب الآجري، وابن بطة، واللالكائي وغيرهم.
وقد كان كثير من البدع إلى عهد قريب في بطون الكتب لا يعرفها إلا المتخصصون، وبعضها في جهات قصيّة من العالم لا يعرفها إلا أهلها، ولكن الناس اليوم يسمعون بذلك كله عبر القنوات الفضائية والبرامج الحوارية والوثائقية، وعاد كثير من الموضوعات التي كان أهل العلم والحكمة يحبسونها عمن لم تبلغها عقولهم من الناس كلأً مباحاً لكل أحد خلافاً لما قال علي رضي الله عنه : ((حدثوا الناس بما يعرفون))(1) وخلافاً لهدي السلف الصالح.
وعليه فإنْ عَرَض الناسُ دراهمَهم المزيفةَ والمغشوشة أفلا يتوجب على صاحب الذهب الإبريز أن لا يعرض بضاعته على استحياء وتردد، بل يعرضها بوضوح وشجاعة، ويدعو إليها بدعاية الإسلام ؟!! ولن تقف حينئذٍ في وجهها شبهات الشرق ولا الغرب.
__________
(1) البخاري في كتاب العلم .(10/34)
وليعلم أن تصور الباطل كافٍ في بيان فساده عند أكثر طلاب الحق، فإن بُيَّن على وجهه كان في ذلك خيراً عظيماً، لأن أهل الباطل يموهون باطلهم، ويخلطونه ببعض الحق ليروج على الناس(1)، فتمييز هذا عن هذا من أعظم المصالح قال الله تعالى :{ ليميز الله الخبيث من الطيب}.
قال أحمد في رواية حنبل: قد كنا نأمر بالسكوت فلما دُعينا إلى أمرٍ ، ما كان بدٌ لنا أن ندفع ذلك ونبيِّن من أمره ما ينفي عنه ما قالوه .ثم استدل لذلك بقوله تعالى :{ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }(2)
ويتعلق بالكلام على هذا الباعث مسائل :
1 – أن هذه المناظرات المتوقع فيها أن تكون علنية، ولا بأس بذلك بل فائدة ذلك إن شاء الله تكون أكبر من فائدة مناظرة في مجلس مغلق لا يعلم بها ولا بنتائجها إلا القليل من الناس فتقل فائدتها لذلك. وقد قال قتادة : (( إذا ابتدع الرجل بدعة : ينبغي لها أن تُذكر حتى تُحذر))(3).والمقصود بذلك البدع التي قد يكون لها قبول عند الناس ولو في المستقبل ، والتي يراد تحصين المجتمع من أضرارها ، وأما البدع التي عافا الله الناس منها ، واحتمال وقوعها قليل أو نادر ، أو التي يُراد من المناظرة نفع المناظَر فالأصل فيها الإسرار.
وسئل بشر بن الحارث عن الرجل يكون مع أهل الأهواء، في موضع جنازة أو مقبرة فيتكلمون ويعرضون: فترى لنا أن نجيبهم؟ فقال :إن كان معك من لا يعلم فردوا عليه ؛ لئلا يرى أولئك أن القول كما يقولون ، وإن كنتم أنتم وهم فلا تكلموهم ولا تجيبوهم(4).
__________
(1) من كلام ابن تيمية كما في :طريق الوصول للسعدي رقم : 800 .
(2) الآداب الشرعية : 1/207، وفي ط الرسالة : 1/ 227 .
(3) اللالكائي : 1/136.
(4) الإبانة الكبرى لابن بطة:2/542.(10/35)
وقد سُئِل الإمام ابن بطة عن السائل يسألُ العالِمَ عن مسألة من الأهواء الحادثة يلتمس منه الجواب أيجيبه أم لا ؟ فقسَّم –رحمه الله- السائلين إلى ثلاثة أنواع يهمنا منهم هنا النوع الثاني الذي قال عنه : ((ورجلٌ آخر في مجلسٍ أنت فيه حاضر، تأمن فيه على نفسك، ويكثُرُ ناصروك ومعينوك ، فيتكلَّم بكلامٍ فيه فتنة وبليّة على قلوب مستمعيه ليوقع الشك في القلوب - لأنه هو ممن في قلبه زيغٌ يتبع المتشابه ابتغاء الفتنة والبدعة – وقد حضر معك من إخوانك وأهل مذهبك من يسمعُ كلامه إلا أنهم لا حجة عندهم على مقابلته ولا علم لهم بقبيح ما يأتي به . فإنْ سكتَّ عنه لم تأمن فتنته بأن يُفسد بها قلوب المستمعين وإدخال الشك على المستبصرين. فهذا أيضا مما تَرُدُّ عليه بدعته وخبيث مقالته ، وتنشر ما علَّمك الله من العلم والحكمة . ولا يكن قصدك في الكلام خصومته ولا مناظرته ، وليكن قصدك بكلامك خلاص إخوانك من شبكته ؛ فإنَّ خُبثاء الملاحدة إنما يبسطون شباك الشيطان ليصيدوا بها المؤمنين . وليكن إقبالك بكلامك ، ونشر علمك وحكمتك وبِشر وجهك وفصيح منطقك على إخوانك ومن قد حضر معك لا عليه ، حتى تقطع أولئك عنه ، وتحول بينهم وبين استماع كلامه . بل إن قدرت أن تقطع عليه كلامه بنوعٍ من العلم تحوِّل به وجوه الناس عنه فافعل)) (1)
__________
(1) الإبانة الكبرى : 2/542 . و في الآداب الشرعية لابن مفلح : 1/221 ط الرسالة عن العباس بن غالب الوراق قال : ((قلت لأحمد بن حنبل : يا أبا عبدالله ، أكون في المجلس ليس فيه من يعرف السنة غيري ، فيتكلَّم مبتدع ، أردُّ عليه ؟ قال : لا تنصب نفسك لهذا ، أخبِر بالسنة ولا تخاصم . فأعدتُ عليه القول ، فقال : ما أراك إلا مخاصما !!)) اهـ والذي يبدو لي أن هذا الكلام خاص بهذا السائل مثلا –كما تأتي الإشارة إلى هذا التوجيه من كلام ابن تيمية – إما لضعفه في المناظرة أو لأي سبب آخر ، أو خاصٌ بظرف كان في ذلك الوقت . ومما يؤكد هذا الذي أذهب إليه ما سبق نقله قريبا من رواية حنبل عن عمه أحمد بن حنبل أنه قال : قد كنا نأمر بالسكوت فلما دُعينا إلى أمرٍ ، ما كان بدٌ لنا أن ندفع ذلك ... والله أعلم.(10/36)
اهـ .
2 – أن قصد حفظ المجتمع من البدعة لازال قائماً، ولكن حفظه في الظرف الذي وصفت يكون بالكلام لا بالسكوت، وهذا لأن المستمع للمبتدع كثير فيجب أن يحاول السني الوصول لهذا الكثير. ويجب على من سلَّمَه الله من البدع، وعرف الحق وأهله، وانقاد لتعليم أهل العلم ألا يُشغل قلبه بالنظر لهذا المناظرات ولا لسماع شبه المبطلين – كما تقدم تقريره – إذ إن ما أبيح للضرورة يجب أن يقدر بقدرها. فيؤمر حينئذ بالمشاركة في المناظرات من قبل من تأهل لذلك من علماء المسلمين،أو طلبة العلم المبرزين بينما يُنهى عن مشاهدتها و تتبع أخبارها من لم يكن متصدياً ولا مخالطاً لأهل البدعة. والله أعلم.
3 – لما كانت المناظرات مجالاً للمغالبة والمنازعة في إقامة الحجة ورفع الصوت فإن كثيراً من شبه المبتدع قد لا يستطيع الطرف السني المناظر أن يشتغل به عما هو بصدده من مسألة يريد تقريرها، أو إلزام يريد أن يحُجَّ به الطرف المقابل. وهذه الشبه قد تعلق ببعض القلوب فمن المناسب أن تُتبع هذه المناظرات في حالة إذاعتها في تلفاز ونحوه ببرامج هادئة يكون المتحدث فيها من أهل السنة يغسل في برنامجه أوضار المناظرة، ويجيب فيها على الإشكالات التي قد ذكرت ولم يسع الوقت لنقاشها .
4 – مراعاةً للمسألة من جميع جوانبها فلابد أن يقال بأن طرق الدعوة كثيرة، وبيان الحق والاشتغال بمن سلم من الأمراض المعدية أولى من غيره ممن تلبس بالجَرَب، وعليه فالأصل في المناظرات – العلنية منها على وجه الخصوص – ألا تُطلب من جهة أهل السنة، ولا يُتجرأ عليها إلا أن يتضح وجه المصلحة فيها بحيث يكون عظيماً ظاهراً، وخوف الضرر والمفسدة فيها قليلاً بحيث يغلب هذا على الظن ، أو في حالة أن يقيمها أهل البدع فيأتيهم أهل السنة لاستغلال الموقف، ولقمع الشبهة والبدعة والله أعلم.(10/37)
الباعث الرابع : قصد زجر المبتدع عن بدعته، وهذا القصد يختلف تحققه باختلاف الأحوال، وباختلاف المتناظرين، ولذلك فلا أرى أنه من المناسب أن يناظر كبير من علماء أهل السنة والجماعة عالماً من علماء المبتدعة في مكان يكون المبتدع فيه مقموعاً مخذولاً، فيكون في قبول مناظرته ترويج له، واعتراف به. ولكن إن كان العكس بحيث ينقلب الهاجر للمبتدع مهجوراً منبوذاً في مجتمعه فحينئذ يتخلَّف هذا المقصد ويبقى النظر بالنسبة لمن هذه حاله إلى بقية المقاصد والبواعث(1).
وأما اليوم – والكلام على ما يجري على القنوات الفضائية ، وهي ليست في الغالب قنوات تراعي المصالح الشرعية، وبالتالي فسيقدم المبتدع بدعته على الملأ- فلا يصح أبداً أن يقال هنا بزجره وهجره من جميع أهل السنة والجماعة فيترك ليقول ما يريد لا يرد عليه أحد ، وإن صح أن يقال بأن يرد عليه أصغر القوم لئلا يُكرَّم مثله بإشغال علماء المسلمين به وبأمثاله(2).
و ليس هذا القصد –قصد زجر المبتدع- بأولى من قصد الإحسان إليه بهدايته هداية الدلالة والإرشاد عند أمن الفتنة ، فهذا من أعظم المعروف ولذلك قال ابن عون: (( سمعت محمد بن سيرين ينهى عن الجدال إلا رجلا إنْ كلَّمته طمعت في رجوعه ))(3).
__________
(1) انظر : فتاوى ابن تيمية : 28/206-207 .
(2) كما طلب الخليلي الإباضي مفتي عمان من الشيخ عبدالعزيز ابن باز –رحمه الله – المناظرة ، فامتنع الشيخ من ذلك لمثل هذا السبب والله أعلم . انظر : البيان لأخطاء بعض الكتّاب للشيخ صالح الفوزان:238-239 .
(3) الإبانة الكبرى :2/541 .(10/38)
الباعث الخامس: الحذر من كون المناظرة داعية للمبتدع في الإيغال في بدعته. ولابد من أن يُعْلم بأن الله تبارك وتعالى قدَّر الهدى والضلال وأن ذلك قد فُرِغَ منه ، وأن خير الناس وألينهم جانباً، وأعرفهم بالله، وأشفقهم على الناس قد استجاب له أناس وكفر به كثير. فلا يهولنك!! وعليك ببيان الحق ولو كثر الهالكين. قال الإمام محمد بن الوزير : (( والحكيم الخبير قد أنبأنا من عتوَّهم وإصرارهم على الباطل بما لم نكن نعرفه إلا بتعريفه سبحانه وتعالى فقال : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ {14}لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ } وقال سبحانه وتعالى : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ } فكيف تنفع المناظرة من لم تنفعه مثل هذه الآيات الباهرات، وإنما الحكمة أن يوكلوا إلى الذي قال في بيان القدرة على هدايتهم بما هو أعظم من تلك الآيات من ألطافه التي ليسوا لها أهلاً: { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } ، { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا } وقال تعالى في بيان علمه ببواطنهم وحكمته في ترك هداية غواتهم : { وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } وقال تعالى في إقامة الحجة عليهم بخلق العقول وبعثة الرسول : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } وقال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } . وقال تعالى : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } فهذه الآيات الكريمة وأمثالها تُعرَّف السني(10/39)
قيام حجة الله تعالى على الخلق في بيان سبيل الحق، فيدعوهم إلى الله تعالى مقتدياً برسله الكرام – عليهم أفضل الصلاة والسلام – مكتفياً من البيان بما في القرآن مقتصراً في الفرق بين الحق والباطل بالفرقان، يستصبح بنوره في ظلم الحيرات، ويَمتثل مطاع أمره في { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } ولا يتعدى حدود نصحه في الإعراض عن الجاهلين والمجانبة للخائضين في آيات رب العالمين))(1) اهـ
ومن المهم أن يراعى ألا يكون المناظر هو سبب تبغيض الحق إلى الطرف المقابل بالبغي عليه بالقول أو الفعل، أو بسوء خلقه، أو بضعف حجته. فليست دعوى المدعي أنه من أهل الحق بعذر له في عدم إظهار البراهين (2).
قال الإمام ابن القيم : (( ما كل من وجد شيئاً وعلمه وتيقنه أَحْسَنَ أن يستدلَّ عليه ويقرره ويدفع الشبه القادحة فيه فهذا لون ووجوده لون))(3). وقد قال بشر المريسي للإمام الشافعي رحمه الله : (( إذا رأيتني أناظر إنساناً وقد علا صوتي عليه فاعلم أني ظالم، وإنما أرفع صوتي عليه لذلك)) (4).
وعلى كل حال فالأكمل للمناظر أن يكون قاصداً لإيصال الحق إلى الطرف الآخر الذي يناظره متلطفاً في ذلك فإن أهل السنة يعلمون الحق ويرحمون الخلق، ومن وسائل المناظرة والمجادلة ما يتلطف به إلى إيصال الحق إلى الخصم شيئاً فشيئاً حتى يتشربه، وقد يفتح الله على قلبه فيتبعه ، فيكون لهذا المناظر أجر هداية المبتدع ، ولو لم يعلم الناس أو المبتدع نفسه بذلك ، ولكن قد علم ذلك وأثبته في صحائفه اللطيف الخبير تعالى .
__________
(1) الروض الباسم : 2/589-590.
(2) الروض الباسم : 1/193.
(3) مدارج السالكين : 3/486 ط الفقي ، وفي ط الجليل : 4/ 500 .
(4) مناقب الشافعي للبيهقي : 1/199 .(10/40)
وبعد هذا التَطواف مع هذه البواعث الخمسة، ومناقشتها أحب أن أختم هذا البحث بذكر بعض كلام أهل العلم في تقرير ما سبق تقريره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ((والمقصود هنا أن السلف كانوا أكمل الناس في معرفة الحق وأدلته، والجواب عما يعارضه، وإن كانوا في ذلك درجات. وليس كل منهم يقوم بجميع ذلك، بل هذا يقوم بالبعض، وهذا يقوم بالبعض كما في نقل الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وغير ذلك من أمور الدين.
والكلام الذي ذمُّوه نوعان :
أحدهما : أن يكون في نفسه باطلاً وكذباً، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل وكذب؛ فإن أصدق الكلام كلام الله.
والثاني : أن يكون فيه مفسدة. مثلما يوجد في كلام كثير منهم من النهي عن مجالسة أهل البدع ومناظرتهم ومخاطبتهم والأمر بهجرانهم؛ وهذا لأن ذلك قد يكون أنفع للمسلمين من مخاطبتهم؛ فإن الحق إذا كان ظاهراً قد عرفه المسلمون، وأراد بعض المبتدعة أن يدعو إلى بدعته فإنه يجب منعه من ذلك، فإذا هُجر وعُزَّر كما فعل أمير المؤمنين عمر بصَبيغ بن عِسل التميمي، وكما كان المسلمون يفعلونه، أو قُتِل كما قَتَل المسلمون الجعد بن درهم وغيلان القدري وغيرهما كان ذلك هو المصلحة بخلاف ما إذا تُرك داعياً وهو لا يقبل الحق إما لهواه، وإما لفساد إدراكه فإنه ليس في مخاطبته إلا مفسدة وضرر عليه وعلى المسلمين.
والمسلمون أقاموا الحجة على غيلان ونحوه، وناظروه وبيَّنوا له الحق كما فعل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه واستتابه ثم نكث التوبة بعد ذلك فقتلوه. وكذلك علي – رضي الله عنه – بعث ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم، ثم رجع نصفهم ثم قاتل الباقين.
والمقصود أن الحق إذا ظهر وعُرف ، وكان مقصود الداعي إلى البدعة إضرار الناس قوبل بالعقوبة .(10/41)
وقد ينهون عن المجادلة والمناظرة إذا كان المناظر ضعيف العلم بالحجة وجواب الشبهة، فيُخاف عليه أن يُفسده ذلك المضل، كما يُنهى الضعيف في المقاتلة أن يقاتل علجاً قوياً من علوج الكفار؛ فإن ذلك يضره ويضر المسلمين بلا منفعة.
وقد يُنهى عنها إذا كان المناظر معانداً يظهر له الحق فلا يقبله...
والمقصود أنهم نهوا عن المناظرة من لا يقوم بواجبها ، أو مع من لا يكون في مناظرته مصلحة راجحة، أو فيها مفسدة راجحة، فهذه أمور عارضة تختلف باختلاف الأحوال.
وأما جنس المناظرة بالحق، فقد تكون واجبة تارة، ومستحبة أخرى.
وفي الجملة: جنس المناظرة والمجادلة فيها محمود ومذموم، ومفسدة ومصلحة، وحق وباطل)) (1)
ثم قال بعد صفحات: (( وأما جنس النظر والمناظرة فهذا لم ينه عنه السلف مطلقاً، بل هذا إنْ كان حقاً يكون مأموراً به تارة، ومنهياً عنه أخرى كغيره من أنواع الكلام الصدق. فقد يُنهى عن الكلام الذي لا يفهمه المستمع أو الذي يضر المستمع، وعن المناظرات التي تورث شبهات وأهواء فلا تفيد علما ولا ديناً ... فإذا كانت المناظرة تتضمن أن كل واحد من المتناظرين يكذب ببعض الحق نُهي عنها لذلك. وأكثر الاختلاف بين ذوي الأهواء من هذا الباب)) (2)
وروى الحافظ البيهقي عن الشافعي أنه قال : (( ما كلمت رجلاً في بدعة قط إلا كان يتشيع)) قال البيهقي : (( وهذا يدل على كثرة مناظرته أهل البدع حتى عرف عادتهم في إظهار مذهب الشيعة، وإضمار ما وراءه من البدعة التي هي أقبح منه ...
و قد قال عمر رضي الله عنه في قيام شهر رمضان : نعمت البدعة هذه. يعني : أنها محدثة لم تكن، وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى.
__________
(1) درء تعارض العقل والنقل: 7/172-174.
(2) درء التعارض : 7/184-185.(10/42)
قلت-البيهقي-: فكذا مناظرة أهل البدع – إذا أظهروها، وذكروا شبههم منها - وجوابهم عنها وبيان بطلانهم فيها وإن كانت من المحدثات فهي محمودة ليس فيها رد ما مضى. وقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن القدر فأجاب عنه، وسئل عنه بعض الصحابة فأجابوا عنه بما روينا عنهم، غير أنهم إذ ذاك كانوا يكتفون بقول النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعده بالخبر عنه؛ وأهل البدع في زماننا لا يكتفون بالخبر ولا يقبلونه، فلا بد من رد شبههم إذا أظهروها بما هو حجة عندهم وبالله التوفيق))(1) اهـ
وقد نص على ما أفضنا فيه من أن موقف السلف من أهل البدع موقِفٌ مبني على قصد جلب المصالح الشرعية ، ودرء المفاسد وليس الهجر هو المنهج الثابت لهم في جميع الأحوال = جمعٌ من العلماء المعاصرين مثل الشيخ عبد العزيز ابن باز يرحمه الله(2) ، والشيخ محمد بن صالح العثيمين يرحمه الله (3)،والشيخ بكر أبو زيد حفظه الله (4)، والشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله (5)...وغيرهم.
وأثبته جماعة من طلبة العلم والباحثين في دراساتهم(6) ودرسوه بتوسع.
و في ختام هذه الورقات يمكن استخلاص ما يلي :
__________
(1) مناقب الشافعي للبيهقي : 1/467-469. وانظر إحكام الأحكام لابن حزم: 1/27.
(2) حيث قال : ((فينبغي لأهل السنة ألا يدعوا أهل البدع بل عليهم أن يتصلوا بهم ، وينصحوهم ويوجهوهم ويعلموهم السنة ويحذروهم من البدعة لأن هذا هو الواجب على أهل العلم والإيمان ...)) فتاوى نور على الدرب : 1/346-347 .
(3) مجموع فتاوى ورسائل الشيخ : 2/293-295
(4) الرد على المخالف : 51.
(5) رفقاً أهل السنة بأهل السنة : 52 .
(6) انظر مثلا : منهج الجدل والمناظرة : 1/331-332، 350، 356، موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع : 2/600 فما بعدها، حقيقة البدعة وأحكامها :2 /340 فما بعدها، مناهل العرفان دراسة وتقويم: 1/146-147 وغيرهم . وقد استفدت من بحوثهم في عدة مواضع من هذا البحث جزاهم الله خيرا.(10/43)
1-أن الموقف الأصلي الغالب العام للسلف من المبتدعة هو هجرهم وترك مجالستهم ومناظرتهم لأن الأمور الباعثة لهم على الهجر من المصالح الدائمة الغالب وجودها مثل الخوف من انتشار البدعة أو التأثر بها ، أما إن تخلفت هذه المصالح أو كانت المصلحة في غير ذلك الهجر –كما تقدم تفصيله - فإن الحكم هنا دائر مع منفعته ولهذا كان الإمام أحمد وغيره يفرقون (( بين الأماكن التي كثرت فيها البدع كما كثر القدر في البصرة ، والتنجيم بخراسان ، والتشيع بالكوفة وبين ما ليس كذلك ، ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم .وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه ))(1) .
2-أن مناظرة أهل البدع تختلف عن المجالسة من جهة أنها نوع من الجهاد ولتضمنها لمصالح أخرى ؛ ولذلك فقد نُقِل عن السلف عشرات المواقف التي ناظروا فيها المبتدعة ، ولا يعرف عنهم الشيء نفسه فيما يتعلق بالمجالسة والمخالطة .
3-البواعث التي دفعت السلف لهذا الموقف من المبتدعة قد اختلف تحقق عدد منها في زماننا هذا ، فينبغي على ذلك أن يتغيّر الموقف وفق المصالح الشرعية.
4-حرص الإنسان على سلامة دينه أحد أهم بواعث السلف على ترك مناظرة المبتدعة ، وهذا الباعث لن يزال قائما ، وعليه فلا يتوسع في طلب المناظرة من المبتدع إلا أن يكون هو الذي يطلبها ، أو تعظم المصلحة في إقامتها وتقل المفسدة . وإن توجهت المناظرة فلا يجوز أن يتقدم لها إلا الأكفاء من العلماء الذين لهم اطلاع ودراية بهذه البدعة وحِيَل أهلها ، أو طلبة العلم المؤهلين لذلك .
5-المناظرات -العلنية منها والسرية- منهج معروف وجادة مسلوكة عند العلماء ، والحكم فيها يقدِّره أهل العلم والحِجى ومداره على قاعدة جلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها .
6-يبعث على المناظرة أمور :
... أ- دعوة المبتدعة والرغبة في إيصال الحق إليهم .
__________
(1) من كلام ابن تيمية في الفتاوى : 28/206-207 .(10/44)
... ب- الرغبة في مزاحمة المبتدعة في الوصول إلى الناس البرءآء منها ، وإعطاء الناس الأمصال الواقية من تلك البدع .
ج- إظهار ضعف حجة المبتدع ، والطمع في التأثير على أبناء ملته ، وأتباعه على بدعته، إذ رجوعهم للحق أيسر من رجوعه إليه .
د-الذب عن حياض الدين ، وكشف ما يلبِّسه الجهلة وأهل الأهواء على العامة ، وهو من الجهاد في سبيل الله .
هـ-جمع الناس على كلمة سواء ، وذلك أن المسلمين مأمورون بالاعتصام بحبل الله ، و لا يمكن اجتماعهم على غيره أصلا ، ففي نفي زغل البدعة وأهلها تقدُّمٌ نحو تحقيق هذا المقصد الشرعي العظيم . والله أعلم .
وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(10/45)