بسم الله الرحمن الرحيم
{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا } ( النور 55 )
مقدمة
تعد الكتابة عن عظماء التاريخ الإِنساني : حياتهم ، وإِنجازاتهم ، وأثرهم في مجتمعاتهم أو شعوبهم ، أو في الفكر الإِنساني عامة ، عملاً شاقاً ، وهو في مشقته تلك ، أشد على الكاتب من تحرير أحداث التاريخ ، ووقائعه في عصر معين ، أو مجتمع بذاته ؛ لأن أحداث التاريخ واقع ، وكذلك أثر الحدث ، فيسهل تقويمه ، والحكم عليه .
وذلك خلاف سير العظماء ، من الملوك والرؤساء والعلماء وأصحاب الفكر ، فالأحداث فيها تتصل بأشخاصهم اتصال المسبب بالسبب ، أو اتصال الفكر بالعمل ، والمؤثر بالأثر ، ناهيك عن أن سير العظماء تكتب للتاريخ ، كما تكتب للنظر والاعتبار ، وتكتب كذلك اعترافاً بالفضل وإِشادة بصاحبه ، وقد تكتب على خلاف ذلك ، إِنكاراً للفضل ، أو بخساً لصاحبه .(1/1)
* وفيما عدا سير الرسل والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لا سيما ما ورد عنها في القرآن الكريم ، والسنة المطهرة ، فإِن سير عظماء التاريخ تختلف فيها الوقائع والأحداث في النسبة والأثر ، وهي في التقويم والتحليل أكثر اختلافاً ؛ لدخول العامل الشخصي في ذلك ، وأهم عنصر في ذلك التقويم ، هو معيار العظمة ذاتها .
فالعظمة الإِنسانية ، وهي بمعنى التميز والتفرد والتفوق ، تختلف فيها المعايير ، وتتعدد فيها الموازين .
إِن الكثيرين ممن يتحدث الناس عن تميزهم ، وتفردهم ، وتفوقهم في مجال معين ، مثل مجال الحكم ، والسلطان ، والقوة ، أو العلم ، أو مجال العمل والإصلاح ، أو مجال الفكر الإِنساني بعامة ، قد يجردهم البعض من صفة التفرد أو التفوق ، بحسب موازينه ومعاييره في النظر والتحليل والتقويم ، وقد يمنحهم البعض أكثر مما يستحقون ، بحسب ما يأخذ به من معايير وموازين تسود في مجتمع بذاته ، أو عصر بعينه ، ناهيك عن العاطفة والهوى .(1/2)
فالمعيار أو الميزان الذي توزن ، وتقوم به الأعمال وأثرها ، ويحكم في شأن شخص من الأشخاص ليس واحداً في كل الأزمنة والأمكنة ، فقد عاش الكثيرون من الملوك والحكام والسلاطين ، ومن أصحاب الفكر الإِنساني عامة ، ودعاة الإِصلاح وأهل العلم في المجتمعات الإِنسانية ، عصرهم ، وتمتعوا فيه بالتقدير البالغ والشهرة الذائعة ، وأسبغت عليهم أوصاف العظمة والتفرد والتميز ، ثم جاء عصر بعد عصرهم كشف عن حقيقتهم ، وأبان خطأ العالم ، أو تهافت الفكر ، أو غرور القوة ، أو زيف الادعاء والشهرة ، وهو أمر يدعو إِلى محاولة التعرف على ميزان ومعيار إِنساني شامل ، يتعرف من خلاله- عند دراسة سير الملوك والعظماء ، وأصحاب الفكر الإِنساني ، ودعاة الرشاد والإِصلاح- على العناصر الحقيقية التي يتحقق بها التفرد والتميز والتفوق في إِنسان ، بحيث تبقى سيرتّه على توالي الأجيال صادقة في حقيقتها ، وحافظة لقيمتها ، ومعبرة عن تفوقها ، وتميزها وتفردها ، بحسب ذلك الميزان العادل والمعيار الإِنساني الشامل .(1/3)
فوجود الميزان والمعيار ، هو الذي يؤكد التفوق والتفرد ؛ فإِن بعض كتاب السير ، أو بعض المؤرخين إِذا صادفهم حدث أو واقعة أو صفة ثابتة فيمن يكتبون عنه ، أو يؤرخون له ، ولا يجدون لها نسبة في عناصر التفرد والتميز والتفوق الإِنساني ، تعللوا بأن " العظمة لا تخضع لقانون " ظنَاَ منهم أنهم يدفعون بذلك القول التقويم الحقيقي ، والحكم العادل في شأن ذلك الحدث ، أو تلك الصفة فيمن يكتبون عنه ، مع أن العظمة والتفرد والتفوق ، لا بد أن يؤكدها المعيار والميزان القويم .(1/4)
إِن العظمة المطلقة ، هي عظمة الله- عز وجل- فهو سبحانه- كما وصف نفسه- العلي العظيم ، ولابد من وجود مقياس لكل عظيم من البشر ، وهو- سبحانه- الذي يبين الموازين في الفطرة الإنسانية ، وفي السنن الاجتماعية للناس ، وفي القيم الأخلاقية ، وموازين الأعمال والمقاصد في أحكام الشرع ، وحين تقاس عناصر التفرد والتميز والتفوق الإِنساني ، على أساس فطرة الله ، وسننه الاجتماعية ، والقيم الأخلاقية ، وموازين الشرع ، تبقى تلك العناصر معبرة أصدق تعبير عن العظمة الإِنسانية ، وتظل على توالي الأجيال ، واختلاف الأزمنة والأمكنة ، باعتبار أن أصحابها مثل إِنسانية عامة ، في تفردهم وتميزهم وتفوقهم في مجال الحكم والسلطان ، أو مجال الإِصلاح الاجتماعي ، أو الفكر الإِنساني عامة في كل فروع العلم والمعرفة .(1/5)
* إِن اتخاذ الميزان الصحيح في اكتشاف عناصر التفرِد والتميز والتفوق ، يعني أن تظل تلك العناصر والميزات نبراساَ دائماً أمام الأجيال ؛ لأن ميزانها الذي وزنت به ، لا يتغير ، ولا يتقادم به العهد ، أو تستبعده الأهواء أو الظروف والأحوال ، فقد غير التاريخ والمؤرخون نظرتهم إِلى كثير من الأحداث ، والعديد من الأشخاص من عظماء التاريخ ، حين تغيرت قيم اجتماعية عديدة على مر الأزمان ، وزالت ظروف وأحوال كانت تعطي الأحداث أو الأشخاص أهمية زائفة أو بطولة كاذبة ، ولم يبق من أهمية الحدث أو أثره أو سيرة الشخص ، غير ما يفرض بقاءه ميزان سليم في تقرير أهمية الأحداث وميزات الأشخاص ، وقد حاول كتاب كثيرون اكتشاف ذلك الميزان في سير العظماء والمصلحين .(1/6)
* وفي كتاب توماس كارلايل الأمريكي عن "البطولة والأبطال " محاولة لاكتشاف موازينها وعناصرها ، ولكنها- بلا شك- موازين محكومة بزمانها ومكانها وثقافتها ، ونظرتها الذاتية للأمور ، وهي ليست حاكمة ، وليست شاملة . كما أن مايكل هارت ، وهو كاتب أمريكي في كتابه " الخالدون مائة أعظمهم محمد " الذي صدر منذ سنوات ، جعل الأهمية كلها للأثر الكبير الذي خلفه " العظيم " في مجتمعه ، أو في شعب ، أو دولة ، أو العالم كله في القديم ، أو الحديث .
وفي الكتاب حقيقة ناصعة بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله وخاتم النبيين ، هو أول المائة الذين اختارهم المؤلف ، وهي حقيقة بكل الموازين ، حتى لدى غير المسلمين ، وهي يقين لدى المسلمين في إيمانهم بعظمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، الذي وصفه الله تعالى بعظمة الخلق فقال : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } . (القلم 4) وفي إِيمانهم بأن شريعته هي الخاتمة ، الصالحة لكل زمان ومكان ، وأنه لا يجوز أن يعبد الله بغيرها إِلى قيام الساعة ، وفي ضخامة الأثر الذي أحدثته الرسالة الإلهية الخاتمة ، رسالة الإِسلام ، التي حملها إِلى الناس رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم .(1/7)
لقد فرض هذا الأثر الذي أحدثه الإِسلام في بني الإِنسان عامة- ومع اختلاف الأزمنة والأمكنة- أن يكون الإِسلام بمبادئه أعظم ما تأثر به العالم في حياته من عقائد وقيم ومثل عليا وأحكام تنظم شؤون البشر ، وأن يكون الرسول الخاتم للنبوات والرسالات محمد ، صلى الله عليه وسلم ، أعظم الناس خلقاً ، وأطهرهم سيرة ، وأبقاهم ذكرا على مر الزمان ، وإِلى أن تقوم الساعة ، وأوجب الله أن تخرج سيرته صلى الله عليه وسلم من دائرة التاريخ ، فتظل قدوة دائمة أمام المسلمين على مر العصور واختلاف الديار ، فليس بين المسلمين من يعتبر أحداث حياة الرسول ووقائعها وسنته ، بل وكل تصرفاته القولية والفعلية ، تاريخاً ، كما هو الشأن بالنسبة لكل العظماء من بني الإِنسان .
إِن حياة محمد صلى الله عليه وسلم وما فيها من وقائع وأحداث وأقوال وأفعال ، تبقى دائماً أمام المسلمين حية في نفوسهم ، وهي- بعد أن سجلت بأوفى ما سجلت به حياة إِنسان وأدقه- المثل الأعلى الذي لا يدرك أمام آلاف الملايين من البشر . هنا نجد أعظم الأثر إِلى جانب أطهر السير .(1/8)
لقد تناول بعض الكتاب سير الكثيرين من عظماء التاريخ الإنساني وفق مناهج متعددة ، وبحسب نظرتهم إِلى حياة الشخص الذي يَكتبون عنه ، وما تميزت به حياته ، أو صفاته من أحداث وآثار .
ومن ذلك ما كتبه الأستاذ عباس محمود العقاد في كتبه المعروفة "بالعبقريات " التي عرض فيها لحياة عظماء في التاريخ الإِنساني ، كأبي بكر ، وعمر ، وكبار الصحابة- رضي الله عنهم- كما عرض لحياة شخصيات إِسلامية عظيمة القدر في مجالات تفردها وتفوقها ، مثل خالد بن الوليد ، رضي الله عنه ، وهو في منهجه ينحو إِلى التحليل ، ومعرفة ما يميز الشخصية التي يتحدث عنها . ومن بين الميزات العديدة والصفات الحميدة التي تجمعها هذه الشخصية التي تنتمي إِلى أعز فترات الإِسلام ، عصر الصحابة ، يختار الأستاذ العقاد صفة أو ميزة تظهر متفردة وبارزة على سائر الميزات في حياة تلك الشخصية الرفيعة القدر يتفرد بها ، ولكنها لا تخفي سائر الميزات ، ولا بقية الصفات التي تكون في مجموعها ما أسماه الأستاذ عباس العقاد - رحمه الله- "عبقرية" امتازت بها ، وتفوقت تلك الشخصية في عصرها وآثارها على غيرها من الأفراد والأقران .(1/9)
* لقد أشرنا إِلى طرق ومناهج متعددة ومتنوعة في الكتابة عن عظماء التاريخ الإِنساني ، وهي كتابات قد لا يقصد بها مجرد التاريخ لحياة إِنسان أو أحداثها الجسام ؛ لأن كتابة التاريخ ، لها ضوابط وموازين ، قد لا تتقيد بها الكتابة عن هؤلاء العظماء .
وليس تجميع الوثائق من مصادرها ، والتحقق من سلامتها فقط ، هو الأمر الحاسم ، لا سيما حين تكون الكتابة عن شخصية معاصرة كتب عنها في حياتها الكثير ، وعرف الناس أحداث حياتها كتابة ومشافهة ، وقد يكون من الأحياء من عاصر الشخص ، وعرف صفاته ، وتأثر به ، وقد تكون آثار هذه الشخصية وأثرها في مستوىالمجتمع الذي عاش فيه ، وعلى المستوىالإِنساني ، ظاهرة لم تغير منها الظروف والأحوال .(1/10)
عندئذ تكون الكتابة عن هذه الشخصية أقرب إِلى الصدق ، وأكثر دلالة على الحقيقة حتى في التقويم والتحليل ، فحياة صاحبها الشخصية كانت ظاهرة أمام الناس ، وأحداث هذه الحياة قريبة منهم ، بل ربما شهدها بعض الأحياء . أما الأثر الذي خلفته هذه الشخصية فهو واقع يعيشه الناس ، لم يغير منه تقادم العهد ، أو مرور الزمن ، وربما تتغير صورة الواقع الذي يعيشه الناس في مجتمع معين دون أن يتغير جوهره ، ويبقى ارتباط هذا الواقع بحياة إِنسان- هو الذي أسسه وأقامه- ماثلاً في أذهان الناس ، وهنا يتصل الواقع بالتاريخ ، ويكون أكبر دليل على صدقه وسلامته ، ونجد ذلك ظاهراً لا يحتاج إِلى إِثبات في سيرة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود ، رحمه الله .(1/11)
* قد يكون للمؤرخين والمتخصصين في الكتابة التاريخية ، منهج علمي يضمن سلامة روايتهم للأحداث ، وتقويمهم للأشخاص ، لا سيما حين يؤرخون لأحداث مضى على وقوعها قرون ، أو يكتبون سيرة أشخاص مضى على وفاتهم مئات أو آلاف السنين ، ولكن الكتابة عن أحداث قريبة تتصل بالواقع المعيش ، أو عن حياة أشخاص مازال بعض شهود حياتهم أحياء ، لا يحتاج في توثيقها ، وفي تقويم أحداثها إِلى جهد كبير ، وإِنما تكون الحاجة أشد إِلى التحلي بروح الإِنصاف والعدل في الرواية ، وإِلى الحيدة والنزاهة في التحليل والتقويم ، لا سيما حين تكون الكتابة عن أحداث يعيش المؤرخ أو الكاتب آثارها ، أو عن حياة أحد عظماء التاريخ الذين التزموا في حياتهم منهجاً خلقياً وسلوكياً ، له في فكر المؤرخ أو الكاتب أعظم التقدير ، هنا تبدو الحاجة إِلى التخلي عن دواعي الميل الشخصي ، وهو أمر وارد بحكم ارتباط الكاتب أو المؤرخ بواقعه ، وتأثره بمشاعره نحو شخصية يحس نحوها بالإِجلال والتقدير .(1/12)
* في الكتابة عن سيرة الملك عبد العزيز - رحمه الله- يصلح المنهج العلمي في الكتابات التاريخية ، وما يورده من ضوابط الكتابة عن الأحداث والأشخاص ، ويصلح كذلك منهج اكتشاف الميزات والخصائص والصفات في الشخصية التي يكتب عنها ، ومعرفة عوامل التفرد والتميز والتفوق فيها . كما أن معرفة الآثار التي خلفتها هذه الشخصية في مجتمعها الكبير- العربي والإِسلامي والدولي- تصلح ميزاناً للتقويم والحكم على الأحداث والأشخاص .
وفي حياة الملك عبد العزيز - رحمه الله- نجد حياة المملكة العربية السعودية ؛ لأن تاريخها هو تاريخه ، ونشأتها الحديثة المعاصرة ، هي نشأته منذ شبابه الباكر ، ويندر أن نرى مملكة في العصر الحديث ، ارتبطت في قيامها وتوحيدها وبداية نهضتها بملك أو زعيم أو رئيس ، مثل ارتباط المملكة العربية السعودية بالملك المؤسس عبد العزيز آل سعود .(1/13)
لقد حكم- رحمه الله- ثلاثة وخمسين عاماً ، ولم تكن مدة حكمه مجرد زمن يقاس به الحكم والسلطان والملك فحسب ، ولكنه كان زمنا لقيام الملك والمملكة ، ولتوحيد دولة فرقتها الحروب والنزاعات القبلية ، وللتصدي لقوى داخلية وخارجية في سعيها إِلى الوقوف ضده ، وكذلك لبدء نهضة عامة للمملكة ، نقلتها من البداوة إلى الحضارة ، ومن التخلف المادي والفكري إِلى التقدم العلمي والحضاري ، وجعلت مكانها في عالمها العربي والإِسلامي ، مكافئاً ومساوياً لقدرها الحقيقي ، وبحسب ما اختصها الله به من ظهور الإِسلام فيها ، ووجود الحرمين الشريفين على أرضها .
إِن الحديث عن الملك عبد العزيز - رحمه الله - وجوانب حياته كلها ، يستدعي الحديث عن شبه الجزيرة العربية التي انبثق منها نور الإِسلام ، وتوحدت أول مرة في تاريخها في ظل الإِسلام ، وعلى يد خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم ، حين أقام دولة الإِسلام في الأرض ، التي جمعت خير أمة أخرجت للناس .(1/14)
ولكن شبه الجزيرة العربية - بعد توحدها أول مرة في ظل الإِسلام - ظلت حبيسة في الصحراء قروناً طويلة ، ساد فيها التخلف الديني والدنيوي ، وعادت القبلية ، واشتعلت الحروب والنزاعات ، وتداعت عليها الدول تدَّعي الولاية على أرضها ، والسيادة على أهلها ، مع انصراف عن تعميرها ، أو إِصلاحها .
وظلت شبه الجزيرة مئات السنين لا تلفت أنظار الناس إِلا في أشهر الحج ، ولم تكن الرحلة إِلى الحرمين الشريفين مأمونة العواقب ؛ لاختلال الأمن ، وتفرق الناس حكاماً ومحكومين ، ولم يكن لشبه الجزيرة العربية أثر ذو بال في عالم السياسة على مستوىالعالم العربي أو الإسلامي . فقد كانت الدول الكبرى والقوى الأجنبية في العصر الحديث تدرس أحوال شبه الجزيرة ، وتنقب فيها عن مصالحها وأطماعها ، وتصل هذه القوى إِلى مبتغاها بسبب تفرق الحكام والأمراء ، وشيوع النزاعات والحروب بينهم ، ولم تكن ثمة دعوة إِلى توحيد شبه الجزيرة في ظل الدين .(1/15)
* ولكن الله هيأ لشبه الجزيرة في العصر الحديث ، بداية مشرقة في ظل الإِسلام ، وذلك منذ أن استقر المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله- في الدرعية عام 1157 هـ (1744م ) فأكرمه أميرها محمد بن سعود - رحمه الله- وأكد له أنه سينصر دعوته التي ترمي إِلى إِقامة شريعة الإِسلام ، وتنقية التوحيد مما شابه في ذلك العصر ، وإِقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكان ذلك بداية للدولة السعودية في شبه الجزيرة .
قال الشوكاني - رحمه الله- : " قام محمد بن سعود بنصر العلامة محمد بن عبد الوهاب الداعي إِلى التوحيد ، المنكر على المعتقدين في الأموات ، ومازال يجاهد من يخالفه ، وكانت تلك البلاد قد غلبت عليها أمور الجاهلية ، وصار الإِسلام فيها غريباً " (1) .
_________
(1) الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز ، لخير الدين الزركلي صل 11 طبع دار القلم بيروت 1391هـ .(1/16)
*َ قامت الدولة السعودية في شبه الجزيرة في ظل الدين ، وتحت راية التوحيد ، وعلى هدي القرآن ، وبقوة السلطان . كانت تلك هي البداية ، وهي البداية الوحيدة التي تصلح منهاجاً لدولة إِسلامية ، ولكل الأمة الإِسلامية إِلى آخر الدهر ، هذه البداية هي الأساس المتين للدولة السعودية منذ قامت ، وظل الأساس قوياً ، حتى تم توحيد المملكة على يد الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ، رحمه الله ، في القرن الرابع عشر الهجري .
واستمر الأساس قوياً إِلى هذا العهد ، عهد خادم الحرمين الشريفين ، وسمو ولي عهده الأمين ، أعزهما الله بطاعته ، ونصر بهما دينه ، وذلك بفضل الله ومنه ، ثم بجهاد أبناء الملك عبد العزيز ، واستمرارهم على ذات المنهاج المتين الذي قامت عليه الدولة السعودية .(1/17)
لقد وضع الأساس الأمير محمد بن سعود ، أول من لقب بالإِمام من آل سعود ، والذي انتقل إِلى رحمة مولاه عام 1179 هـ (1765 م) . وفي عام 1293 هـ ، ولد من أحفاده الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ، فتولى إِقامة البناء فوق أساسه المتين ، واكتمل في عهده المبارك توحيد المملكة في عصرها الحديث ، وغدا مستقبلها المشرق بإِذن الله أمانة غالية في يد أبنائه وخلفائه .
* إِن حياة الملك عبد العزيز - رحمه الله- تمثل ملحمة من الكفاح والنضال ، خاضها ، وقادها الملك الصالح عبد العزيز آل سعود في شبه الجزيرة العربية . لقد كان نضاله كله منذ بدأ في شبابه الباكر تحت راية التوحيد ، باعتباره فريضة شرعية ، والوحدة باعتبارها هدفَاَ سياسياً لشبه الجزيرة العربية .
وخلال أكثر من نصف قرن من حكم الإِمام عبد العزيز ارتفعت منارة التوحيد ، وقامت الوحدة في المملكة ، وعرفت طريقها إِلى التقدم والنمو والازدهار في جميع مجالات حياتها ، وخلال حياة الملك ترسخت قيم ومبادئ ، ما تزال حية في نفوس أبنائه العظام ، وما تزال آثارها ماثلة أمام الناس في شبه الجزيرة .(1/18)
* وإِذا كان الملك عبد العزيز - رحمه الله- قد نجح في توحيد المملكة تحت راية التوحيد ، وأقام مملكة ينظر إِليها المسلمون باعتبارها نموذجاً صحيحاً للدولة الإِسلامية المعاصرة ، فإِن ذلك النجاح لم يأت طفرة في حياة الملك عبد العزيز ، بل سبقه من الجهد والجهاد ما ينبغي أن يعرف للأجيال الحاضرة ، والقادمة من شباب الأمة الإِسلامية كلها .
* من أجل الوفاء بحق الملك عبد العزيز آل سعود - رحمه الله- ومن أجل الاعتبار بمسيرته ، نقدم هذا الكتاب .
عبد الله بن عبد المحسن التركي
وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد(1/19)
شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام
* يطلق اسم شبه الجزيرة على الأرض التي تحيط بها المياه من جهات ثلاث . وشبه الجزيرة العربية مساحة واسعة من الأرض ، تشمل الصحاري ، والوديان ، والسهول ، والجبال .
ويشغل نجد أكبر مساحة في شبه الجزيرة العربية ، وهو يشمل الأراضي الممتدة من قريات الملح شمالاً إِلى وادي الدواسر جنوباً ، ومن حدود الأحساء شرقاً إِلى حدود الحجاز غرباً ، ويختلف المناخ في هذه المساحة الشاسعة حرارة وبرودة ، ويغلب على نجد الجفاف ، وتكثر الآبار والمياه الجوفية في بعض المناطق ، مثل منطقة الرياض ، ومنطقة القصيم .
والطبيعة في بعض الأماكن من نجد قاسية ، ولعل شدتها كانت سبباً في كثرة الحروب والنزاعات بين القبائل قبل قيام الدولة السعودية .(1/20)
ونجد بلاد فسيحة تتركز قبائلها في الأماكن التي بها عيوِن وآبار ، وقد فرض هذا الواقع الجغرافي الفردية السياسية التي كانت طابعاَ مميزاً في نجد قبل توحيد الدولة السعودية لها ؛ إِذ كان نظام الحكم قبليَاَ ، يتمتع فيه شيخ القبيلة بالسلطة الأبوية على أفراد قبيلته ، وكان للعرف والتقاليد أكبر الأثر في توفير السلطة لشيخ القبيلة ، فلم يكن لديه من المؤسسات ، ولا من القوة المادية ما يحكم به ، وإِنما هي سطوة الأعراف والتقاليد .
وتعترض الباحث في تاريخ نجد صعوبات كثيرة ، في مقدمتها ندرة ما كتب عنها ، وبخاصة في الفترة من منتصف القرن الخامس الهجري ، إلى قيام الدولة السعودية الأولى (1) .
_________
(1) - ينظر في هذا : - كتاب الأخبار النجدية ، لمحمد بن عمر الفاخري ، مقدمة محققه معالي الدكتور عبد الله بن يوسف الشبل ص19 وما بعدها ، طباعة جامعة الأمام محمد بن سعود الإسلامية . -بحث تاريخ ابن عباد ، للدكتور عبد الله بن يوسف الشبل ، المنشور في مجلة مركز البحوث الإسلامية ، في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، العدد الثاني ص 97 وما بعدها . - عثمان بن بشر ، منهجه ومصادره ، لمعالي الدكتور عبد العزيز العبد الله الخويطر ، التمهيد والمقدمة ص3 وما بعدها ، الطبعة الثانية 1395هـ .(1/21)
*ِ والتاريخ الديني لشبه الجزيرة العربية قبل الإِسلام ، ينبئ عن أن معظم القبائل فيها كانت على الوثنية ، وكانت عبادة سكانها لأصنام سموها بنات الله ، واتخذوها زلفى إِليه . فقد كانت قبائل بني كلب ومرة تعبد وداً ، وهو صنم كان في دومة الجندل ، وكانت قبيلة ثقيف تعبد اللات ، وهي صخرة بيضاء في مدينة الطائف ، وكانت العزى شجرة قديمة قدسها العرب في بلدة نخلة الشامية قرب مكة وإِلى شمالها ، تعظمها قريش وبعض القبائل ، وإِلى جانب ذلك عظمت كنانة وهذيل صنم سواع في دار قريبة من مكة ، بينما كان صنم يغوث من الأصنام التي تعبد في شمال اليمن ، وكان صنم مناة يعبده الكثيرون من الأوس والخزرج وسكان المدينة قبل الإِسلام ، إلى غير ذلك من الأصنام التي كانت موجودة في مواضع كثيرة من شبه الجزيرة قبل ظهور الإِسلام (1) .
_________
(1) السيرة النبوية لابن هشام ، تحقيق مصطفي السقا وزميليه ، القسم الأول ، الجزء الأول ، ص76 وما بعدها ، الطبعة الثانية ص 1375هـ .(1/22)
* كان الغالبية من سكان شبه الجزيرة من البدو أو من أنصاف الحضر ، قبائل صغيرة أو كبيرة تنقسم إِلى أفخاذ وبطون ، وتدخل في أحلاف مع بعضها ، كحلف تميم أو غطفان أو هوازن ، ولم تكن تخلو العلاقات بين القبائل من الحروب فيما بينها ، ولكنها كانت تتّساند في حماية إِقليمها من الدخلاء ، وهكذا كان عداؤها للإِسلام في بداية أمره ، ولكن لما دخلت القبائل الكبرى ، مثل غطفان وهوازن وتميم في الإِسلام ، استسلمت القبائل الأخرى ، ودخلت الإِسلام .
* كانت طرق التجارة تربط بين القبائل ، وتيسر حياتها فيما تحتاجه من زاد وميرة ، وكانت هذه الطرق تربط بين القبائل والعالم الخارجي ، فلم تنقطع القبائل العربية قبل الإِسلام عن الاتصال بالعالم الخارجي .
* لقد قضى الله- عز وجل- أن يكون أول بيت وضع للناس للعبادة في أرض شبه الجزيرة العربية ، قال تعالى :
{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ }{ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا } ( آل عمران - 96 و 97) .(1/23)
ولم تكن أرض شبه الجزيرة لتلفت أنظار الناس لولا ما سبق في الكتاب من فضل الله عليها وعلى أهلها .
وحين أراد إِبراهيم - عليه السلام- أن يسكن ذريته في أرض شبه الجزيرة ، في واد غير ذي زرع ، توجه- عليه السلام- وزوجه هاجر ، وابنه إِسماعيل - وكان رضيعاً- إِلى ذلك الوادي القريب من بيت الله الحرام ، وقال :
{ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ } (إبراهيم 37) .
ودعا إِبراهيم ربه :
{ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } (إبراهيم 37) .
وفي مكة الكرمة رفع إبراهيم ، وإِسماعيل - عليهما السلام- القواعد من البيت :
{ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ } (البقرة 127) .(1/24)
* إن شبه الجزيرة العربية - بسبب وجود البيت الحرام على أرضها ، وهو أول بيت وضع للناس في الأرض للعبادة- مكانة في التاريخ الديني ، ولم تّحظ شبه الجزيرة ، ولم ينل أهلها في تاريخ الحضارة أو العمران ما نالته مناطق أخرى وشعوب وأمم عديدة في التاريخ القديم ، مثل المصريين والإِغريق والفرس والروم ، من مكانة في التاريخ الإِنساني .
وكان لجغرافية شبه الجزيرة أثر كبير في ذلك ، فهي تتكون من صحاري شاسعة ، ليس فيها أنهار ، والزراعة اللازمة للاستقرار وبدء الحضارة لا تعتمد على الأمطار أو الآبار فقط ؛ ولذلك لم تلفت شبه الجزيرة العربية - في غير تاريخها الديني - الأنظار ، ومن المعروف أن الهجرة كانت تنبعث منها إِلى ما حولها .
وقد مدت إِمبراطوريتا الفرس والروم نفوذهما إِلى أطراف شبه الجزيرة قبل الإِسلام ، فقامت فيها دولة المناذرة ودولة الغساسنة .
وقد تّأثر الوضع الديني في شبه الجزيرة بذلك ، فكانت المسيحية منتشرة بين قبائل العرب التي سكنت بلاد الشام وشمالي شبه الجزيرة ، مثل قبائل كلب وبكر وتغلب ، وأكبر القبائل النصرانية كانت قبيلة غسان ، وما تبعها من قبائل ، وكانوا يسمون نصارى العرب ، أو عرب الروم .(1/25)
على أن المسيحية التي عرفها العرب في شبه الجزيرة كانت سطحية ، إِذ لم يعرف لها كنائس أو أحبار أو قساوسة ، وإِن كانت هناك كنائس صغيرة كانت تسمى قليس أو قلس ، وهو تعريب للفظ Ecclesia (1) .
* ذلك ما كان عليه العرب وقبائلهم قبل الإِسلام في شبه الجزيرة العربية في النصف الثاني من القرن السادس الميلادي .
ومن الناحية السياسية لم يكن يوجد سلطة سياسية واحدة ، ولا نظام للحكم واضح المعالم ، كما كان في الإِمبراطوريات التي سيطرت على تخوم شبه الجزيرة وأطرافها ، وأقامت ممالك تابعة لها .
كان الحكم قبلياً ، ولم يكن هناك ما يوحد هذه القبائل ، بل لم يكن هناك من يستشرف الوحدة بينها ، فكانت المنازعات والغارات متبادلة ، ولم تساعد شدة الحياة وقسوتها على نشوء حضارة عمرانية إِلا في مناطق قليلة من شبه الجزيرِة ، لا سيما في أطرافها ، وكانت الكلمة هي معلم الحضارة البارز ، شعراَ في الغالب ، وقليلاً من الحكمة في الأقوال ، نتيجة التجربة في الحياة ، والنظر والتأمل والميراث الديني الممتد عبر التاريخ القديم في شبه الجزيرة .
_________
(1) أطلس تاريخ الإسلام ، للدكتور حسين مؤنس ص110 الطبعة الأولى 1407هـ .(1/26)
* ولا يستطيع أحد أن يزعم أنه كانت هناك أمة عربية واحدة في أهدافها في شبه الجزيرة ، تلك المساحة الشاسعة من الأرض ، المحاطة بالبحار من جوانبها الثلاثة ، فلم تكن القبائل المتفرقة في وسطها أو نواحيها ، والتي كانت تتبادل فيما بينها العداوات والأحلاف بحسب الظروف ، تحس بأن أمة واحدة تجمعها ، ولا كانت تستشرف هذه الوحدة ، أو تعمل من أجلهِا ، مع أنه كانت هناك إِمبراطوريتان كبيرتان تحدان شبه الجزيرة شمالاَ وشرقاً ، هما دولتا الفرس والروم ، كما كان هناك دولتا الغساسنة والمناذرة ، ودولة حمير في اليمن ، وكانت دولة الفرس الساسانيين ذات سلطان وقوة ونظام ، لعراقتهم في نظام الدولة ، مما أعطاهم خبرة كبيرة في شؤون الإِدارة والحرب ، وعلى رأس الدولة ملك يسميه العرب كسرى ، وهو تعريب للفظ " خُسرف " بالفارسية ، ومعناه الملك أو السلطان ، وكانت ديانتهم وثنية " الزرادشتية أو المزدكية" وهي تقوم على عبادة النار ، وسماها العرب مجوسية .(1/27)
ولم تكن الدولة الفارسية قبيل البعثة المحمدية ، قد تدهورت ، أو آلت إِلى السقوط ، ولكن هزيمتها أمام العرب كانت بسبب أنهم واجهوها بالإِسلام ، وهو أعظم قوة في الأرض ، فاستطاع في وِقت قصير القضاء عليها ، وتحرير أهلها . وبالسلاح نفسه أيضاَ غلب العرب الروم البيزنطيين ، ولم تكن دولتهم على أيام هرقل ضعيفة أو متدهورة ، فعندما هاجم العرب الشام ، كانت دولة الروم في أوج قوتها ، ولكن الانتصار كان بفضل الإِسلام .
وهي العبرة الباقية والدائمة للمسلمين على مر الأيام .(1/28)
الإسلام وتوحيد شبه الجزيرة العربية
* يمكن القول بأن التاريخ السياسي في شبه الجزيرة العربية لم يبدأ إِلا بالإِسلام ، وأن الإِسلام هو أعظم عامل من عوامل التأثير في شبه الجزيرة العربية على امتداد تاريخها .
إِن الإِسلام هو الذي أعطى شبه الجزيرة مكانتها التاريخية ، وهو الذي جعل من أهلها أول أمة إِسلامية ، وهو الذي حفظ لغتها من الضياع أو الاضمحلال أو التحريف .
وكان الإِسلام منذ عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم دعوة للوحدة - بعد دعوة التوحيد - التي بعث من أجلها محمد بن عبد الله رسول الله وخاتم النبيين ، كما بعث من قبله كل الرسل للهدف نفسه ، ولا نستطيع أن نحصي أثر الإِسلام في شبه الجزيرة العربية على أرضها وقبائلها المتفرقة ، وعلى أهلها وعقائدهم ، وعلى لغتها وتاريخها كله ، ويكفي القول : إِن الإِسلام أعطى شبه الجزيرة مكانتها في تاريخ الأمم والشعوب ، ووضعها - بعقيدته وشريعته- في موضع الخيرية بين الأمم ، وفي مقام الشهادة على الناس ، يقول الله تعالى :
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } (آل عمران 110) .(1/29)
ويقول سبحانه :
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } (البقرة 143) .
في ظل دعوة التوحيد التي انبعثت في مكة المكرمة ، قامت دولة الوحدة في المدينة النبوية ، أول دولة للإِسلام ، واستشرفت أن توحد العرب وقبائلهم المتفرقة في ظل عقيدة التوحيد ، وتحت راية الإِسلام وحده .
روى ابن جرير الطبري بسنده عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : " لما أُخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم ، إِنا لله وإِنا إِليه راجعون ، ليهلكن ، فأنزل الله - عز وجل - : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } (الحج 39) ، قال أبو بكر : فعرفت أنه سيكون قتال " (1) .
وقد كان الجهاد من أجل توحيد الله عز وجل ، وإِفراده وحده سبحانه بالعبادة ، ومن أجل وحدة شبه الجزيرة على ذلك .
_________
(1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، لأبي جعفر الطبري ، الجزء 17 / ص 172 ، الطبعة الثالثة .(1/30)
* تعد معركة بدر من أشهر معارك التاريخ الإِسلامي ، وهي من أعظم انتصارات الإِسلام ، ومن أهم معاركه الدينية ، على الرغم من قلة عدد المقاتلين فيها (نحو 1300 من الجانبين) ، ولم تزد فيها ساعات القتال على أربع ساعات ، أو خمس على الأكثر (1) ، وبعد ذلك معركة أُحد ، وقد كانت قريش تريد الانتقام لهزيمتها في معركة بدر ، واضطرب أمر المسلمين في المعركة لما خالف الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بألا يتركوا مواقعهم ، ثم ثبت الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تمت هزيمة الشركين ، وملاحقتهم إِلى حمراء الأسد في اليوم التالي ، فوقع الرعب في قلوب المشركين وبدو الصحراء ، وأسرع المشركون بالعودة إِلى مكة .
وجاءت غزوة الخندق ، وهي معركة أحزاب المشركين حين اتفقوا على مهاجمة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقاعدة الإِسلام ، فأقام المسلمون خندقَاَ حول المدينة يحجز عنها المشركين وأحزابهم ، ويجعلهم في العراء ، وتصدَّى المسلمون لمن كان يعبر الخندق من المشركين ، وأراد الله أن تكون هزيمة المشركين بالعواصف التي شتتت شملهم .
يقول تعالى :
_________
(1) السيرة النبوية لابن هشام 2 / 625 مصدر سابق .(1/31)
{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } . ( الأحزاب 9) .
كانت قريش قد جمعت أعوانها لمواجهة حاسمة مع الإِسلام وأهله ، فتحالفت مع يهود بني النضير ، ومع قبيلة غطفان ، وبني أسد ، وبني سليم ، وسارت مع قريش الأحابيش ، وأهل تهامة ، فصاروا في جمع عظيم سماهم الله تعالى الأحزاب . ذكر ابن إِسحاق أن عدتهم كانت عشرة آلاف (1) ، وكانت النتيجة كما ذكر الله تعالى :
{ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا } (الأحزاب 25) .
_________
(1) المصدر السابق 3/ 219 - 220 .(1/32)
وقد رأى الرسول- صلوات الله وسلامه عليه - أن يمهد أمر شمال الحجاز إِلى الشام بعد أن عقد صلح الحديبية ، وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أن يهود خيبر أغنياء ، ورأى من صدق عزيمة المؤمنين بعد صلح الحديبية ، أن يؤمن مراكز العمران في شمال شبه الجزيرة ، ويحرم قبائل البدو وأعاريب نجد من المراكز المدنية التي يحتمون بها في مواجهة الإِسلام ، فكانت هدنة الحديبية فرصة أمام المسلمين لتصفية هذا الجيب اليهودي الممعن في عداوته للإِسلام ، وفي سورة الفتح إِشارة إِلى مغانم للمسلمين ، وقد نزلت السورة في طريق العودة من الحديبية ، قال الله تعالى :
{ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا }{ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا }{ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } (الفتح 18 ، 19 ، 20) .(1/33)
قال مجاهد في تفسير قوله تعالى : { فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ } يعني فتح خيبر (1) .
* وكان من شروط صلح الحديبية أن من شاء الدخول في حلف مع النبي صلى الله عليه وسلم دخل ، ومن أراد الدخول في حلف قريش دخل . فدخلت قبيلة خزاعة في عهد محمد صلى الله عليه وسلم ، ودخلت بكر في عهد قريش ، وقد حدث بعد نحو ثمانية عشر شهراً من الصلح أن اعتدت بكر على خزاعة بليل ، ظناً منها أن الرسول لن يعلم بهذا العدوان والنقض للعهد ، وأمدت قريش بكراً في عداونها حقداً على الإِسلام والمسلمين ، فاستنجدت خزاعة بالرسول صلى الله عليه وسلم ، فأمر الرسول بالجهاد ، واستنفر القبائل التي حول المدينة - سليما وأشجع وأسلم وغفار - حتى بلغ جيش المسلمين نحو عشرة آلاف ، ولم يتخلف أحد من المهاجرين والأنصار ، وخرج المسلمون في رمضان سنة ثمان من الهجرة ، وقد اتفق أهل السير والمغازي أنه خرج في العاشر من رمضان ، ودخل مكة لتسع عشرة ليلة خلت منه (2) .
_________
(1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن 26 / 89 ، مصدر سابق .
(2) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية , للدكتور مهدي رزق الله أحمد ، ص 560 الطبعة الأولى .(1/34)
* دخل الرسول- صلوات الله عليه وسلامه- مكة من أعلاها من جهة كداء خاشعاً شاكراً يقرأ سورة الفتح ، كما روى البخاري في صحيحه ، وكان فتح مكة - كما أراد الله ورسوله- يوم مرحمة لا يوم ملحمة ، وأعطى الرسول صلى الله عليه وسلم الأمان لأهل مكة قائلا : "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق عليه داره فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن . وحين خاطبه أهل مكة في أمرهم بعد الفتح ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اذهبوا فأنتم الطلقاء " (1) .
ومنذ فتح مكة استقر سلطان الإسلام والمسلمين على أرض البيت الحرام إِلى يومنا هذا ، وإلى يوم القيامة ، إِن شاء الله .
_________
(1) السيرة النبوية لابن هشام 3 / 412 مصدر سابق .(1/35)
* وتلا فتح مكة غزوتا حنين والطائف ، وقد ثبت الرسول- صلوات الله عليه وسلامه- مع فئة قليلة من أصحابه حين ضاقت الأرض بما رحبت على المسلمين ، وولوا مدبرين في الجولة الأولى من القتال في غزوة حنين ، وكان لثبات الرسول صلى الله عليه وسلم أثر كبير في اجتماع المسلمين حوله ، حين ناداهم العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكروا على الكفار ، فهزموهم ، ولم يثبت المشركون في الجولة الثانية ، ففروا ، وخلفوا وراءهم قتلاهم وغنائم كثيرة ، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم حين أرسل رجلاً ؛ ليستطلع خبر القوم من أعدائه قبل المعركة بيوم ، وحكى له الرجل عن خبرهم وعددهم وعدتهم وخيلهم وإِبلهم : « تلك غنيمة المسلمين غداً ، إِن شاء الله تعالى » (1) .
وبعد أن انتهى الرسول- صلوات الله عليه وسلامه- من تعقب الفارين توجه إِلى الطائف ؛ لكي يقضي على ثقيف التي فرت من حنين ، وتحصنت بالطائف ، فحاصرها الرسول ، ثم دعا لها بالهداية ، وتركها ، وبعد فترة وجيزة وبعد عودة الرسول من تبوك ، جاء وفد ثقيف معلناً إِسلامه .
_________
(1) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، ص 582 مصدر سابق .(1/36)
* لقد أشرنا إِلى أهم غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهي وسراياه التي بعثها لجهاد المشركين مبثوثة في كتب السير والمغازي ، أشرنا إلى هذه الغزوات الكبار ؛ لأنها كانت- بنصر الله عز وجل لرسوله- أول نجاح لوحدة شبه الجزيرة بعد دعوة التوحيد .
ويمكن تقسيم مراحل سيطرة أمة الإِسلام ودولته على شبه الجزيرة كلها إِلى مراحل بحسب السرايا والغزوات ، وما أدت إِليه من دخول قبائل ومناطق عديدة في الإِسلام ، ومن أهم المراحل سيطرة المسلمين على المدينة ومنطقتها ، ثم السيطرة على بقية الحجاز والقضاء على المجموعات اليهودية الكبرى ، ثم السيطرة على نجد ، وانفتاح الطريق إِلى شرقي الجزيرة وجنوبها الشرقي ، وبسط سلطان الدولة الإِسلامية على الشعيبة ، ميناء الحجاز وتهامة ، ثم المرحلة الأخيرة التي فتح فيها اليمن على يد علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وبذلك خضعت شبه الجزيرة كلها للإِسلام في السنة الحادية عشرة للهجرة (يوليو سنة 632م) .(1/37)
* ولم يكن من الضروري أن يفتح الإِسلام بجيشه كل شبه الجزيرة ، ولكن فتح الحواضر الكبرى فيها كان كافياً ؛ لكي يعم الإِسلام شبه الجزيرة كلها في العهد النبوي ، فالسيطرة على مكة والمدينة والطائف وخيبر وتيماء وتبوك والبحرين وصعدة وصنعاء ، كان كافياً للسيطرة على شبه الجزيرة كلها ، وأن يسود الإِسلام بين أهلها ، ولم يكن توحيد شبه الجزيرة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم نتيجة قتال أو حروب فحسب ، بل كان لإِسلام كثير من القبائل وتسليمها للرسول أثر كبير .
ففي العام التاسع للهجرة الشريفة وفدت على الرسول صلى الله عليه وسلم وفود كثيرة حتى سمي عام الوفود ، ومنها وفد بلاد الشاطئ من حضرموت ، وأقر الرسول وائل بن حجر الكندي على إِمارته ، كما وفد من اليمن وفد حمير ، وكتب فروة بن عمرو الجذامي عامل الروم إِلى الرسول صلى الله عليه وسلم بإسلامه ، فلما علم الروم بذلك سجنوه وقتلوه ، كما وفدت على الرسول وفود بني تميم ، وبني حنيفة ، وقحطان ، وثقيف ، وأسد ، وغسان ، ونجران ، وغيرهم (1) .
* وتبدت وحدة شبه الجزيرة في عهد الخلفاء الراشدين .
_________
(1) السيرة النبوية لابن هشام 4 / 560 وما بعدها ، مصدر سابق .(1/38)
وفي أوائل عهد أبي بكر - رضي الله عنه- حدثت الردة من بعض القبائل ، وكان للقبلية أثرها في ذلك ، إِذ أيدت بعض القبائل مثل كندة وأهل اليمامة المرتدين ، ولكن الخليفة أبا بكر الصديق - رضي الله عنه- وقف من تلك الفتنة الدينية والسياسية موقفاً حازماً ، فحارب مانعي الزكاة والمرتدين ، ومن أشهر القواد الذين أسهموا في ذلك الصحابي الجليل خالد بن الوليد - رضي الله عنه - وكتب اللًه لأبي بكر النصر على المرتدين ، وعلى الفرقة السياسية التي بدأت تطل برأسها ، وتهدد وحدة شبة الجزيرة .
وقسم أبو بكر الجزيرة العربية إِلى ولايات : مكة ، والطائف ، وصنعاء ، وحضرموت ، وخولان ، ونجران ، وجرش ، والبحرين ، وعين على هذه الولايات ولاة من قبله .
وفي هذا تأكيد لواقع الحياة السياسية في الجزيرة العربية ، وصورة واضحة لوحدتها الإِقليمية .
* كانت تلك الوحدة السياسية أول وحدة ضمت شبه الجزيرة العربية ، وأول لبنة في بناء الأمة الإِسلامية ، فقد توسع امتداد الإِسلام في القرن الأول الهجري ، بعد أن قامت الدولة الإِسلامية في عهد الرسول - صلوات الله عليه وسلامه - بتوحيد شبه الجزيرة تحت راية الإِسلام .(1/39)
* إِن ذكر توحيد شبه الجزيرة أول مرة في تاريخها على يد رسول الله وخاتم النبيين محمد - صلوات الله عليه وسلامه- ومراحل هذا التوحيد وما استدعاه من جهد وجهاد ، يجعل كل عمل وجهد للقضاء على الفرقة والانقسام والقبلية في شبه الجزيرة تحت راية الإِسلام وعلى هداه ، طاعة لله ولرسوله ، واقتداء بسنته- صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إِلى الله ، وفي توحيد أمر المسلمين .
تلك هي الأسوة الحسنة التي تظهر في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهي القدوة في عمل أصحابه والخلفاء الراشدين من بعده ، وهي أيضاً العبرة في عمل التابعين لهم بإِحسان من الملوك والأمراء .(1/40)
* وإِذا كان توحيد شبه الجزيرة في العهد النبوي من أعظم أفضال الإِسلام على أهل الجزيرة العربية ، فقد حدث ذلك من خلال معارك خاضها المسلمون في العهد النبوي ، للدعوة لتوحيد الله- عز وجل- ولإِبطال الشرك والوثنية ، فاقترنت الدعوة إِلى الله في الجزيرة العربية بالوحدة السياسية ، وقد ورد في القرآن الكريم ذكر أهم المعارك في العهد النبوي ، فنزلت آيات في غزوة بدر ، أول صدام بين عصبة الإِيمان وأهل الكفر وعباد الأصنام . كما نزلت آيات في شأن غزوة أحد ، وفي غزوة الأحزاب ، وغزوة حنين ، وبين الله للمسلمين العبرة في أحداث تلك المعارك وما جرى فيها ، ولم يفصل في القرآن وقائع تلك الغزوات تفصيل أحداث ، ولكن بين الحكمة والعبرة التي تدل عليها الأحداث .(1/41)
لقد بين الله في القرآن الكريم أن المسلمين كانوا يودون غير ذات الشوكة قبيل غزوة بدر ، ولكن الله أراد أن يمتحن المسلمين في أول صدام بين الإِسلام والكفر ، فكانت المعركة ، وكان غوث الله للمسلمين . وفي غزوة أحد سيقت العبرة في هزيمة المسلمين بعد أن لاح لهم النصر على أثر مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم . وفي غزوة الأحزاب كانت العبرة في أن الله تعالى هزم الجمع ، ونصر المسلمين بعد أن زاغت الأبصار ، وبلغت القلوب الحناجر .
هكذا ورد في القرآن العبرة في ذكر المعارك ؛ لأن الأحداث تزول بمضي الزمن ومرور الأيام ، ولكن الحكمة والعبرة تبقى أبد الدهر .
وأعظم الأسوة والمثل في البيان هو القرآن الكريم ؛ ولذلك فإِن ما تناولناه في هذا الكتاب لم يكن فيه تفصيل للأحداث والوقائع ، بقدر ما كان فيه بيان العبرة ، وإِلقاء الضوء على مسيرة توحيد الجزيرة العربية في العصر الحديث .(1/42)
تمَ إِن توحيد شبه الجزيرة توحيداً سياسياً ، قد تم في عهد النبوة والرسالة الخاتمة ، ولقد اقترنت دعوة التوحيد بالوحدة السياسية في حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، وكان للوحدة السياسية أثرها الكبير في بسط سلطان الإِسلام على شبه الجزيرة كاملاً وتاماً ، ولعل ذلك من بين المعاني التي تظهر في الحديث الشريف : « لا يجتمع دينان في جزيرة العرب » (رواه مالك وأحمد) .
إِنها المنطقة الوحيدة في الأرض التي نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن وجود دين آخر غير الإِسلام فيها ، إِنها أرض الإِسلام ، ومنزل الوحي ، ومقر الحرم المكي ، والمسجد الحرام ، والمسجد النبوي ، فلا يتصور أن يكون فيها إِلى جانب الإِسلام دين آخر ؛ لأن الإِسلام - في حقيقته التي تظهر جلية على هذه الأرض- هو المصدق لما سبقه ، وهو المهيمن عليه ، ولقد كان توحيد شبه الجزيرة سياسياً على يد النبي محمد صلى الله عليه وسلم توجيهاً دائماً لكل إِمام من أئمة المسلمين في شبه الجزيرة أن يقيم على أرضها التوحيد الخالص ، والوحدة الكاملة .(1/43)
الدولة السعودية
* في القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) جاء مانع بن ربيعة المريدي ، جد آل سعود بأسرته من مكان قرب القطيف إِلى وادي حنيفة ، حيث منازل قبيلته ، وهي إحدى قبائل ربيعة العريقة ، وهي قديمة في المنطقة ، منذ ما قبل الإِسلام بما يزيد على مائتي سنة ، وتحكم حواضر المنطقة الواقعة على ضفاف وادي حنيفة (1) .
* ويستمد آل سعود تسميتهم من اسم جدهم سعود بن محمد بن مقرن ، الذي بنى داراً للإِمارة في الدرعية ، تم مد نفوذه إِلى ما جاورها ، فحق له أن تسمى الإِمارة باسمه . وبتولي الأمير محمد بن سعود إِمارة الدرعية بدأ عصر جديد في تاريخ الجزيرة العربية كلها ، فهذه أول مرة منذ قرون يقوم فيها بيت عربي أصيل من أهل الحكم القادرين ، وأهل الإيمان الصادقين ، يتطلع أفراده إِلى توحيد الجزيرة تحت لواء الإِسلام الصافي البعيد عن الجهل ، والبدع ، والممارسات التي تنشأ عن الجهل ، والفقر ، والظلم .
_________
(1) عنوان المجلد في تاريخ نجد ، لعثمان بن بشر 1 / 16 نشر مكتبة الرياض . - والأخبار النجدية ص 60 مصدر سابق ، وتاريخ المملكة العربية السعودية للدكتور عبد الله العثيمين 1 / 80 الطبعة الثامنة 1418هـ .(1/44)
إِن بداية الدولة السعودية تعد معنى جليلاً يكاد يكون عالمياً ، فقد كان العالم الإِسلامي في القرن الثاني عشر الهجري يعاني من الضعف فكرياً وعسكرياً ، وفي الوقت نفسه كان العالم غير الإِسلامي - الدول الغربية بالذات ، مثل بريطانيا ، وفرنسا ، وألمانيا ، وإِيطاليا - قد انطلق في عصر النهضة الذي بدأ قبل ذلك بنحو قرن أو يزيد ، كانت النهضة الأوربية قد بدأت فكرياً ، واستطاعت أن تكون بذرة الحضارة الغربية التي يعيشها العالم الآن ، والتي تطغى بمفاهيمها وبقيمها ، بينما كانت دول العالم الإِسلامي- ومنها شبه الجزيرة العربية - مشغولة بالنزاعات بينها ، وبصد العدوان عليها من الداخل ، ومن الخارج .(1/45)
إِن تأسيس الدولة السعودية بداية خير لشبه الجزيرة العربية كلها ، وبشير تقدم وحضارة في موطن العرب ومبعث النبوة الخاتمة ، ودليل وحدة سياسية لشبه الجزيرة العربية " لقد كتب على السعوديين أن يصارعوا في عدة جبهات ، وأن يحققوا أحياناً نجاحاً معجزاً ، وتنزل بهم أحياناً هزائم قاصمة ، ولكنهم بقوا ، وانتهى الآخرون ، وامتد ملكهم إِلى المملكة الحجازية ، والإِمارة الرشيدية ، والإِمارة الإِدريسية ، وإِمارة آل عائض ، تلك الإِمارات التي تخلفت بالجزيرة عن عهد الأتراك العثمانيين " (1) .
* نستطيع بدلالة التاريخ أن نعتبر عصر نهضة شبه الجزيرة العربية الحديثة ، هو بداية تأسيس الدولة السعودية التي اقترن فيها التجديد الديني بالتقدم نحو الوحدة السياسية ، وامتزج فيها نمو الفكر باتساع الدولة .
_________
(1) موسوعة التاريخ الإسلامي ، للدكتور أحمد شلبي ص 140 ، الطبعة الخامسة .(1/46)
ولقد كانت الحضارة الأوربية الغربية في بداية نشأتها مدينة للفكر الحر في شؤون الدين والدنيا ، والذي ظل يؤثر في شعوب الغرب منذ القرن السابع عشر الميلادي ، ولكننا نجد في شبه الجزيرة العربية ، في بداية نهضتها ، تجديداً لأمر الدين ، وتنقية أصوله في العقيدة والشريعة مما شابها ، ونجد بداية لتوحيد شبه الجزيرة سياسياً ، وتأسيس دولة قوية قادرة ، وذلك على يد الأئمة من آل سعود ، فخرجت شبه الجزيرة من تخلف الفكر الديني إِلى سعة الإِسلام الصحيح ، ومن نزاعات القبيلة وحروبها إِلى أمن الوحدة واستقرارها . وبدأ تقدم شبه الجزيرة العربية بمنجزاتها في العصر الحديث في العلم والعمل ، وفي الدين والدنيا ، وسطع نجمها في المنطقة العربية ، والإِسلامية ، وعلى اتساع العالم المعاصر .(1/47)
إِن الموازنة هنا ليست للمشابهة أو للماثلة ، ولكنها للتذكير بأن القرن الثامن عشر الميلادي كما حمل إِلى الغرب رياح نهضة فكرية ومادية ، حمل إِلى الأمة الإِسلامية في شبه الجزيرة العربية تجديداً لأعظم ما تملكه هذه الأمة ، وهو هدي الإِسلام ، الذي قامت عليه الدولة السعودية منذ نشأتها الأولى ، وظلت وفية له حتى استقام لها أمر الدنيا بهدي الدين . *ِ كلمة حق وتاريخ صدق في نشأة الدولة السعودية ، تجمع صفات الدولة منذ قيامها ، فقد قامت على هدي الكتاب والسنة ، وعلى يد أهل الحكم القادرين ، وتحت راية التوحيد أقامت وحدة شبه الجزيرة ، وشقت طريق التقدم منذ نشأتها ، فكان الإِصلاح الديني بالإسلام الصافي البعيد عن البدع والخرافات ، وكان إِصلاح حال المسلمين بمحاربة الجهل والفقر والظلم ، وما تزال صفات الدولة هذه منذ نشأتها إِلى عهد الملك عبد العزيز آل سعود - رحمه الله- الذي أتم إِقامة الوحدة ، وبدأ النهضة في عصره ، وحتى عهود أبنائه العظام ممن خلفوه إِلى اليوم في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود ، حفظه الله .(1/48)
الدولة والدعوة
تولى الأمير محمد بن سعود إِمارة الدرعية في عام 1139 هـ (1726م) ، وظهرت إِلى الوجود في الفترة نفسها أهم دعوة من دعوات التجديد الديني .
ففي بلدة العيينة التي تقع إِلى الشمال الغربي من الرياض ولد الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، رحمه الله ، سنة 1115 هـ (1703 م) ، وكان أبوه قاضياً ، فتعلم على يديه ، ودرس في المدينة النبوية ، وفي غيرها على أيدي العلماء الذين التقاهم .
وكان الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله- ذكياً طموحاً ، صادقاً في رغبته في تخليص المسلمين من حوله مما يعانون من فقر في الدين ، وشقاء في الدنيا ؛ إِذ هال الشيخ ابتعاد المسلمين في شبه جزيرة العرب عن الإِسلام وعقيدته الصافية ، وتمسكهم بخرافات وأباطيل تقربهم من الشرك بالله ، وهم أهل التوحيد الخالص في حقيقة دينهم .
واستمسك الشيخ- رحمه الله- في دعوته بالقرآن الكريم ، والسنة المطهرة ، وما كان عليه السلف الصالح من هذه الأمة ، فعرفت دعوته بالسلفية .(1/49)
* وجهاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب يصعب حصره في هذا المقام ، فقد بدأ- رحمه الله- دعوته في حريملاء ، عندما كان والده قاضياً فيها ، ولم تكن أحوال البلدة مهيأة للدعوة . وبعد وفاة والده انتقل إِلى العيينة ، واستأنف دعوته وجهاده في بلدة العيينة ، ووجد من أميرها ترحيباً ، ولم يجد نصراً يكفي لإِظهار الدعوة ونشرها ، فانتقل الشيخ إِلى الدرعية مقر الأمير محمد بن سعود - رحمه الله- وكان أميراً صالحاً يبتغي نصرة الإِسلام ، وإِصلاح أحوال أهله ، فرحب الأمير الصالح بالشيخ المجاهد ، وتعاهدا على نصر الدعوة ، وكان هذا العهد بين قوة السلطان وهدي القرآن ، هو الأساس الذي قامت عليه الدولة السعودية منذ نشأتها إِلى اليوم .(1/50)
ولم تكن الدعوة إِلى تجديد معالم الإِسلام ، المؤيدة بعون الله- عز وجل- ثم بالإِمام محمد بن سعود تمضي في طريقها دون عقبات ، فقد كانت الأباطيل والخرافات تملأ أذهان الكثير من الناس ، والتخلف الحضاري يغشى معظم شبه الجزيرة ، وكان لا بد للدعوة أن تواجه حشداً من الأعداء ، أظهروا العداوة للدعوة وصاحبها ، ومنهم على سبيل المثال أمير الرياض دهام بن دواس ، وأمير الأحساء عريعر بن دجين ، وغيرهم من الحكام والأمراء . وإِلى جانب ذلك لاقت الدعوة- مع انتشارها ووضوح أمرها- عداوات من الخارج ؛ إِذ لم تكن الدولة العثمانية التي كانت تسيطر على الحجاز ، لترضى بأن يتسع نطاق الدعوة بما تحمله من إصلاح حال المسلمين في شبه الجزيرة في دينهم ودنياهم ، ناهيك عن خوفها من زوال سيطرتها على شبه الجزيرة كلما اتسع سلطان آل سعود ، الذي كان يتجه إِلى توحيد شبه الجزيرة ، وقد أصبحت الدولة السعودية منذ نشأتها مركز الأحداث فيها .(1/51)
* في الدولة السعودية الأولى في عهد الإِمام محمد بن سعود ، رحمه الله 1157- 1179هـ (1744- 1765م) تصدى الإِمام لكل من حاول أن يقف في طريق الدعوة ، لا سيما أمير الرياض دهام بن دواس ، وتابع خلفاؤه من بعده الدفاع عن الدعوة ، وعن توحيد شبه الجزيرة ، فقد استطاع الإِمام عبد العزيز بن محمد بن سعود ، رحمه الله ، 1179- 1218 هـ (1765- 1803 م) - وكان إِماماً هماماً كوالده- أن يضم الرياض ، وغيرها من المناطق ، والمدن في شبه الجزيرة العربية إِلى الدولة السعودية ، فلما استشهد عام 1218 هـ (1803 م) خلفه ابنه الإِمام سعود بن عبد العزيز 1218- 1229هـ (1803- 1814م) فأتم ضم الحجاز ونجران وعسير ، وأجزاء من اليمن ، فوحد شبه الجزيرة العربية .(1/52)
*ِ في العهد الأول للدولة السعودية ، التي قامت بتجديد أمر الدين ، وإصلاح حال المسلمين نرى في أئمة آل سعود ميَلاَ غالباً إِلى توحيد شبه الجزيرة ، بدءاً من مؤسس الدولة الإِمام محمد بن سعود - رحمه الله - وكل خلفائه . فقد كانت شبه الجزيرة محط أنظارهم في كفاحهم من أجل توحيدها ، وتخليصها مما تعانيه من الفرقة والانحطاط ، والتبعية ، وإِقامة حكم صالح فيها يمهد لتطورها وتقدمها ، وكان الأئمة من آل سعود في هذه الفترة من تاريخ شبه الجزيرة يواجهون دعاة الفرقة والانقسام والتشتت والقبلية في شبه الجزيرة ، كما يواجهون في الوقت نفسه سيطرة الدولة العثمانية التي كانت تنبسط على الحجاز ، وذلك ما دعا السلطان العثماني محموداً الثاني إِلى الاستعانة بواليه على مصر ، محمد علي باشا ؛ لكي يواجه توسع الدولة السعودية ، وانتشار نفوذها ، وانبساط سلطانها على أجزاء كثيرة من شبه الجزيرة ، حتى وحدتها في عهد الإمام سعود بن عبد العزيز .(1/53)
* واجهت الدولة السعودية في عهدها الأول- على نبل مقاصدها وشرف غايتها في تجديد أمر الدين ، وتوحيد المسلمين في شبه الجزيرة - قوى معادية ، أصرت على وأد الأمل في تجديد الدين ، وإِصلاح حال المسلمين ، وتخليصهم في شبه الجزيرة من سيطرة العثمانيين ، فقد أرسل والي مصر محمد علي باشا حملة لاستعادة الحجاز بعد أن بسط الإمام سعود بن عبد العزيز سلطانه عليه ، وقد تصدى ابنه الأمير عبد الله لتلك الحملة عام 1226هـ (1811م) إِلا أنها تمكنت من الاستيلاء على مكة والمدينة ، والطائف ، ولكنها واجهت مقاومة عنيفة ، فارتدت إِلى جدة ، ثم أرسل حملة أخرى بقيادة ابنه إِبراهيم باشا عام 1231 هـ (1816 م) فاستولى على عدد من مدن نجد ، وفي سنة 1233 هـ (1818م) دخل الدرعية ، ونُقِلَ الإِمام عبد الله بن سعود بن عبد العزيز إِلى مصر ومعه عدد من الأمراء والأنصار مجبرين ، ثم أرسلوا إِلى الآستانة عاصمة الدولة العثمانية ، فلم ترع فيهم إِلا ولا ذمة ، وعجلت بقتلهم بغياً وعدواناً .
* في هذه الفترة التي نفذ فيها والي مصر أمر الدولة العثمانية في التصدي للدولة السعودية ، ونتيجة لما حدث من معارك وحروب ، ضعفت الدولة السعودية .(1/54)
كان الإِمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود ، إِماماً شجاعاً هماماً ، قاتل الترك ومن دخل في طاعتهم ، وأدخل أكثر البلاد النجدية في طاعته ، وحكم منذ استيلائه على الرياض تسع سنوات ، فلما استشهد سنة 1249هـ خلفه ابنه الإِمام فيصل بن تركي الذي كان محتجزاً في مصر ، ونجح في الإِفلات والعودة إِلى الرياض ، وانتظم له الأمر إِلى أن توفي سنة 1282 هـ (1865 م) ، وخلف الإِمام فيصل أربعة أبناء ، منهم الإِمام عبد الرحمن والد الإِمام عبد العزيز - رحمهم الله- وبعد وفاة الإِمام فيصل بدأت شبه الجزيرة تعيش حالة من الشقاء بالحروب ، والمعارك بين الحكام فيها ، معارك بين أمراء القبائل ، ومعارك بينهم وبين آل سعود ، ومعارك بين آل سعود وبين العثّمانيين ، ومن استعانوا بهم للقضاء على الدولة .(1/55)
وإِذا كان لكل مرحلة من تاريخ الدول رجالها وأبطالها ، فإِن نظرة الصدق تكشف لنا بوضوح عن أن الدولة السعودية ، قامت منذ نشأتها على دعوة التوحيد الخالص ، ومن أجل توحيد المسلمين في شبه الجزيرة ، وإِصلاح دينهم ودنياهم ، وأن معاركها كانت من أجل خدمة الإِسلام ، وإِصلاح أمره ، وتوحيد شبه الجزيرة تحت سلطان أهلها ، وبهذا يتميز الرجال والأبطال في دورات التاريخ بشرف الغايات ، ونبل المقاصد ، ومواجهة التحديات ، وخوض المعارك في سبيل ذلك .
*ِ كانت تلك هي الأمة التي بزغ فيها نجم آل سعود ، الإِمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود ، رحمه الله ، أمة شتتها القتال ، ومزقتها الفرقة ، وتكالبت عليها قوى الشر من الأمراء الطامعين ، ومن العثمانيين وأتباعهم .(1/56)
كانت هذه هي الحال وقت أن استولى على الرياض ابن رشيد ، حاكم جبل شمر ، وكان آل الرشيد من أتباع آل سعود ، ورجالهم ؛ إِذ ولى الإِمام فيصل بن تركي ، عبد الله بن علي بن رشيد إِمارة حائل سنة 1251 هـ (1835 م) وبعد أن تولى إِمارة حائل ابنه محمد سنة 1289 هـ (1872 م) وقوي أمره ، ووثق علاقته بالعثمانيين ، انتهى به الأمر إِلى دخول مدينة الرياض ، وولى أحد رجاله عليها .
* ولكن الإِمام عبد الرحمن والد الملك عبد العزيز وثب على الرياض ، واعتقل عامل ابن رشيد عليها ، وبايعه أهل الرياض على الإِمامة ، وكان ذلك سنة 1307 هـ فلم ينس آل سعود على الرغم من الشدائد والمحن عز دولتهم ، ولا حلم وحدتهم .
أراد ابن رشيد أن يتصدى لما وقع من الإِمام عبد الرحمن ، فحاصر الرياض شهراً ، فلما ثبتت للحصار دعا إِلى الصلح ، وتم الصلح على أن تكون إِمارة الرياض للإِمام عبد الرحمن ، وكان ذلك سنة 1308 هـ ( 1890م) .
ولكن ابن رشيد بعد الصلح تحرك لغزو الرياض ، وفي طريقه إِليها فتك بأهل القصيم ، ولم يتمكن الإِمام عبد الرحمن من نجدتهم ، فأزمع مغادرة الرياض مع أهله- ومنهم ابنه عبد العزيز - وكان ما يزال صغيراً .(1/57)
* كانت مغادرة الإِمام عبد الرحمن والد الملك عبد العزيز - رحمهما الله- للرياض والنجاة بأهله من ابن رشيد ، تمهيداً لما أراده الله- عز وجل- بعد ذلك ، وادخاراً لسيف آل سعود في غمده ، حتى يأذن الله بأن يعود الابن إِلى الرياض ، ويبدأ في إِعادة الدولة السعودية ؛ لكي تبسط سلطانها على شبه الجزيرة .
لقد خرج الإِمام عبد الرحمن من إِمارته بالرياض مكرها ، ولكن الله أراد لشبه الجزيرة العربية مستقبلاً مشرقاً بالأمل على يد الابن الذي خرج مع أبيه على خوف من ابن رشيد . ولكنه- وهو في شرخ الشباب- عاد إِلى الرياض ، واسترد إِمارتها لأبيه ، وفتح الأب الإمام عبد الرحمن أبواب المجد لابنه ، وهو يعرف قدر الابن وهمته .
لم تكن الرياض وحدها ، هي غاية الإِمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود ، رحمه الله ، بل كانت الغاية الدفاع عن عقيدة التوحيد في الجزيرة العرِبية ، وإِقامة حكم الله فيها ، وكان ذلك يعني أن تتوحد الجزيرة سياسياَ .
وهذا ما نجح فيه ، رحمه الله ، وأجزل مثوبته .(1/58)
عبد العزيز
القائد ، الملك ، الإنسان
{ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } .[ الحج 41 ] صلاح النشأة وعظمة المواهب
ترتبط الأمم والممالك في كثير من عصورها بحياة رجل من رجالها ، وبطل من أبطالها .
وعلى الرغم من أن التاريخ الوطني لشعب من الشعوب يفرد صفحات عديدة للكثير من الرجال ، والأبطال ، ورواد التقدم في حياتهم ، إِلا أن ارتباط الأمة ، أو الشعب ، أو الدولة برجل واحد في حياته ، وآثاره ، وتأثيره في حياة شعبه ، يبقى قاصرا على عدد محدود في تاريخ هذه الأمة ، وقد يفرد التاريخ لواحد بعينه من رجال الأمة وأبطالها ورواد النهضة والتقدم فيها ، صفحات عديدة ، حتى تبرز حياة تتميز بالتفرد ، والتفوق ، وعظمة الإِنجاز ، وشدة التأثير في حياة الملايين من البشر .
وهذا هو الشأن في حياة الملك عبد العزيز آل سعود في شبه الجزيرة العربية ، وفي أمته العربية والإِسلامية .(1/59)
* وإِذا كانت السنن الاجتماعية تقتضي أن يكَون للتميز والتفوق بين الأقران أسباب يكتسب أغلبها في وقت النشأة والإِعداد ، فإِن ثمة أفرادا معدودين في تاريخ كل أمة وشعب ، تظهر فيهم عناصر التميز والتفرد والتفوق ، دون أن ترتبط كلها بأسباب معينة من النشأة أو الإعداد . وأعمال هؤلاء وإِنجازاتهم وآثارهم الباقية ، تبدو مستندة إِلى مواهب خاصة أنعم الله بها على عبد من عباده ؛ لكي ينفع أمته وشعبه ، فالمواهب التي تظهر من أعمال الملك عبد العزيز وإِنجازاته هي على قدر ما أتمه وأنجزه في حياته ، وهو قدر عظيم بكل المقاييس .
ولذلك فإِن إِلقاء الضوء على حياة الملك منذ البداية المبكرة ، وتتبع سيرته في أطوار حياته ، والالتفات إِلى خلقه وسيرته وتعامله مع أحداث الحياة في لينها وشدتها ، يكشف لنا عن الظهور المبكر لتلك المواهب ، وعن خلق جدير بملك عظيم من ملوك المسلمين في العصر الحديث .
ومن مجموعه ما تميز به الملك ، من الإيمان بالله والثقة به ، والتوكل عليه ، والاستمساك بالعروة الوثقى ، ومن الهمة العالية والأخلاق السامية ، التي ظلت توجه سلوكه في المواقف كلها يتبين لنا أن الرجل ، كان أمة في مواهبه وخصائصه .(1/60)
* ولا نستطيع أن نتبين تلك المواهب والخصائص ، إلا إِذا تحدثنا عن سيرة الملك وأحواله في جوانب مهمة من جوانب حياته المختلفة . ونحن نتحدث عنه هنا بوصفه إِنساناً قبل كل شيء ، فقد كانت خصائصه ، ومواهبه- باعتباره إِنساناً عربياً مسلماً- هي التي هيأته- بتوفيق الله وفضله- لتلك المواقف ، فكان أميراً وسلطانَاَ وملكاً ، تبعاً لتلك الخصائص والمواهب التي أنعم الله بها عليه ، ولم يكن الملك والسلطان هو الذي أعطاه تلك المواهب والخصائص .
في الصباح الباكر في يوم من أيام عام 1293 هـ (1876م) ولد للإِمام عبد الرحمن بن فيصل آل سعود ، وزوجته سارة ، وليد سمياه عبد العزيز ، ووالده الإِمام عبد الرحمن أحد أحفاد الإِمام محمد بن سعود الذي أنشأ دولة كبرى في شبه الجزيرة ، توحد أبناؤها في ظلها .
* نشأ الملك في قصر أبيه ، وفي كنف أمه سارة بنت أحمد السديري ، وكانت الأم امرأة قوية ذات حسب ونسب وأخلاق عالية ، كشأن النساء ذوات العفاف والدين ، كان البيت الذي آوى عبد العزيز في طفولته الباكرة بيتَاَ يتصف بالورع والتقوى .(1/61)
وبعد تربية الأم لطفلها سلمه أبوه إِلى معلم من أهل الخرج ، هو عبد الله الخرجي ، فتعلم مبادئ القراءة والكتابة ، وحفظ سوراً من القرآن الكريم ، وتلقى بعض الدروس الشرعية على يد الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ ، رحمه الله .
وفي مرحلة الصبا كان أبوه الإِمام عبد الرحمن بجانبه يعلمه ؛ إِذ كان الأب تقيا ، حصيف الرأي ، وكان لا يعرف في الدين هوادة .
فنشأ الملك عبد العزيز على التقى والورع ، ونما جسده كما نما علمه بما تعلمه من معلميه ، وما تلقاه من أبويه ، وقد كان حاد الذكاء ، متوقد الذهن ، كما تعلم ركوب الخيل ، واستعمال السلاح ، وهو في سن الصبا ، وفضلاً عن ذلك فقد أحاط بما حوله من ظروف الحياة التي كانت في شدتها ، ورأى ما يعالجه أبوه الإِمام عبد الرحمن من مشكلاتها ، وتعلم على يديه أول دروس السياسة التي يلزم الحكام والأمراء والسلاطين تعلمها وممارستها .(1/62)
* حاول الإِمام عبد الرحمن أن يقاوم ابن رشيد ، لكنه لم يتمكن ، فأعد العدة للرحيل عن الرياض ، ورحل في منتصف شهر رمضان عام 1308 هـ إِلى مضارب البدو ، ومعه أهله وابنه عبد العزيز . وفي صحراء الدهناء كانت القافلة تسير حتى وصلت إِلى قبائل العجمان حيث أجارتهم على استحياء (1) ، فأرسل الإِمام عبد الرحمن أهله إِلى البحرين ، حتى يجنبهم المكاره ، ومشاق العيش في جوار لا يستريح إِليه ، ولا يرغب فيه .
وفي بني مرة - وهي قبائل بدو- كانت الحياة خشنة ، ولكن عبد العزيز تعود عليها ، وأكسبه ذلك شدة البأس ، وصلابة العود ، والاعتماد على النفس ، وتلك خصال كان لها أثرها الكبير فيما واجه الملك من خطوب .
وأخيراً استقدم الإمام عبد الرحمن أهله من البحرين ، واستقر بهم المقام في الكويت .
* في الكويت كان عبد العزيز يعيش حياة قاسية وحافلة بالصعوبات ، ولكنها عامرة بشوق عبد العزيز إِلى داره وسلطانه في الرياض ، عاش في الكويت حياة فتية العرب ، يستمع إِلى الناس ، ويختلط بمن هم في سنه وفي مداركه .
_________
(1) الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز ص18 مصدر سابق . وعاهل الجزيرة العربية ، لعبد الرحمن نصر ص19- 21(1/63)
وحين حكم مبارك الكويت بدلاً من أخيه الشيخ محمد بعد قتله ، اشتدت صلة مبارك بآل سعود ، وأصبح عبد العزيز من أصفيائه الذين يحب أن يجلس إِليهم ، وقد أفاد من صحبة أمير الكويت مبارك ، وتعلم من مجالسه ، والتقى الكثيرين من ضيوفه ، ومن يجالسونه من عرب وأجانب ، وأعان عبد العزيز على الإِفادة من حياته في الكويت ذكاء فطري ، ووعي بواجبه الذي ينتظر منه ، ورغبته الظاهرة في أن يعود إِلى الرياض مقر حكم آبائه ، وأجداده ظافراً .(1/64)
إيمان الملك عبد العزيز وتقواه
* من يعرف الملك عبد العزيز - رحمه الله- حق المعرفة يدرك أنه كان قوي الإِيمان بالله وحده لا شريك له ، وأن قوة إِيمانه جعلته في بعض المواقف يرتفع فوق مستوىالأبطال من الرجال ، حين كان اعتماده على الله وحده ، وثقته في نصره .
* حين أراد عبد العزيز أن يسترد الرياض ، وانتهى به المسير إِلى قرب أبواب المدينة على مسيرة ساعة ونصف منها ، سار في مقدمة أصحابه ، وكان معه ستون رجلاَ . ولما لم يكَن في نيته أن يهجم على خصومه بهذا العدد القليل ، فقد انفرد هو مع نفر قليل من أصحابه ، عدتهم سبعة رجال (1) واستخلف على بقية رجاله أخاه محمدا ، وأوصاه :
" إِذا لم تأتك من الغد أنباء مني ، فعد مسرعاَ ، واعلم أننا قد ذهبنا في الهالكين ، ولا حول ولا قوة إِلا بالله " .
كلمات قبل الدخول إِلى معركة حياة أو موت ، لا يقولها إِلا مؤمن بالله شديد التوكل عليه ، يعرف خطورة ما يقدم عليه ، فلا يتردد في الإِقدام ، ويحاول أن يحفظ من وراءه من إِخوانه .
* وفي حياة الملك اليومية ، يقول عبد الحميد الخطيب :
_________
(1) الوجيز ص26 وعاهل الجزيرة ص41 مصدران سابقان ، ومعارك الملك عبد العزيز المشهورة للدكتور عبد الله الصالح العثيمين ، ص46 ، الطبعة الأولى 1415هـ(1/65)
إِن الملك كان يستيقظ من نومه كل يوم قبيل صلاة الفجر ، فيبدأ عمله بالتوجه إِلى الله ، وتلاوة القرآن ، وإِقامة الصلاة ، ويقول : إِن لسانه كان دائما رطباً بذكر الله فيِ جميع الأوقات ، فيكثر من حمده في السراء والضراء ، لا يكتب خطاباَ لأحد من الناس إِلا بدأه بذكر الله ، وبشكره على جليل نعمه (1) .
* ويندر من الملوك والحكام في التاريخ الإِسلامي بعد الصدر الأول من يتميز بتقوى الله ، وخشيته ، وإِظهار الذل له ، مثل الملك عبد العزيز .
فقد كان الملك- كما شهد خاصته والمقربون إِليه ، والموكلون بخدمته ، وحراسته- يستريح إِلى ما قبل الفجر ، ويأخذ القرآن الكريم ، ويبدأ بالقراءة والصلاة حتى يؤذن المؤذن ، وبعد الصلاة يعود إِلى قراءة القرآن والذكر حتى تطلع الشمس ، فيستريح ، ثم إِذا ارتفعت الشمس صلى ركعات .
لم يكن غريباً أن تكون كلمات الملك ، وتوجيهاته ، وخطبه في المناسبات العامة معبرة أصدق تعبير عن شخصيته التي يملؤها الإيمان بالله ، والتوكل عليه ، والإِنابة إليه ، وكان الملك لا يتردد في نصح شعبه ، وتوجيه الموعظة إِليهم ، فقد آتاه الله حظاً وافراً من العلم بالدين والدنيا .
_________
(1) الإمام العادل 2 / 4 ، 50 وما بعدها ، طبع شركة ومطبعة مصطفى الحلبي بمصر ، بدون تاريخ .(1/66)
خطب في أهل مكة في شهر ذي القعدة سنة 1345 هـ (1927م) ، فذكرهم بوجوب شكر النعمة ، حتى لا يكون حالهم ومآلهم كحال عاد وثمود ، التي لم تتعظ بالرسل ، ونبه الناس إِلى أن النعمة الحقيقية التي لا تزول ، هي نعمة الاعتقاد بأنه لا إِله إِلا الله ، ثم يقول الملك في خطابه إِلى الناس :
" نحن ما جئنا إِلى هنا لطمع ، أو للتنعم بنعمة الملك ، فنحن نبرأ إِلى اللًه من ذلك " ثم يقول للناس : " للإِنسان مال وولد وأقارب وأعمال ، وكل ذلك يذهب ماخلا الأعمال ، والأعمال تحتاج إِلى النية والإِخلاص ، واتباع كتاب الله وسنة رسوله " (1) .
وهذا قول ملك تواضع لله- عز وجل- فزاده الله رفعة ، تّصديقاً لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم : « وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله » (رواه مسلم وأحمد) ، كما كان الملك يفسر بعض آيات القرآن الكريم في خطبه وكلماته في بعض المناسبات (2) .
ومن مجمل خطبه وكلماته ، يظهر اهتمامه البالغ بترسيخ عقيدة التوحيد الخالص ، والحض على الإِخلاص لله في الأقوال والأعمال ، والتحذير من الفرقة والتباغض بين الناس ، ولا يصدر ذلك إِلا عن ملك يتحدث بقلب سليم إِلى أبناء شعبه .
_________
(1) المصدر السابق 2 / 114 .
(2) المصدر السابق 2 / 114-120 .(1/67)
ولا نستطيع أن نحصر كلمات الملك ، ولا توجيهاته ، ونصائحه ، ومواعظه للناس (1) ، وهي سمة تميز الملك الصالح عن كل ملوك عصره ، وحتى ما قبل عصره .
ويتميز خطاب الملك إِلى شعبه بظهور عاطفته نحوه بشكل لم يعهد في كلام الملوك والرؤساء ، وحتى منشوراته وتوجيهاته لا تخلو من ظهور هذه العاطفة . يقول في المنشور الصادر سنة 1360 هـ (1941 م) لأهل الحجاز :
" لقد تكلمت لكم مراراً أنني أحب هذا البلد ، وأحب أهله ، وأستأنس بالبيت الحرام ، وبقرب مقر هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
ثم ينبه المنشور الناس إِلى ثلاثة أمور :
" المخافة من الجبار ، والحجة علينا بما أعطانا الله من النعم ، والثالث : النصيحة" (2) .
ويحض الملك شعبه على إِتيان الطاعات وترك المعاصي .
هذا الملك الذي كان له ورد بالليل يقرأه تقرباً إِلى الله تعالى ، وتواضعاً له عز وجل ، يقول عن نفسه :
" أنا عربي ، ومن خيار الأسر العربية ، ولست متطفلاً على الرئاسة والملك ، وإِن آبائي معروفون منذ القدم بالرئاسة والملك ، ولست ممن يتكئ على سواعد الغير في النهوض والقيام ، إِنما اتكالي على الله ، ثم على سواعدنا يتكئ الآخرون ، ويستندون ، إِن شاء الله " (3) .
_________
(1) يرجع في ذلك : المصدر السابق , والوجيز ص214 - 218 .
(2) الإمام العادل 2 / 156 .
(3) الملك الراشد ، لعبد المنعم الغلامي ص373 ، طبع دار اللواء 1980 م .(1/68)
لقد صدق- رحمة الله عليه- فهو من العارفين بالله عز وجل ، وهو بعد ذلك يعرف نفسه .
* وقد يظن البعض ممن يبحث في سير الملوك والعظماء من الرجال أن إيمانهم وتقواهم ، وخشوعهم ، وخضوعهم لله- عز وجل- أمر خاص بهم وحدهم ، وما أشد خطأ هذا القول ؛ فإِن سجايا الإِنسان تطبع أعماله وأقواله ، وتوجهها ، وكل ميسر لما خلق له . لقد كانت سجايا عبد العزيز ، وأولها وأعلاها ، شدة الإِيمان بالله والالتزام بحكمه ، كان لها أثرها في شعبه كله إِلى اليوم ، إِيمانا بالله لا يخالطه الشرك ، والتزام الدولة بحكم الله فيما جل أو دق من أمورها ، واعتزازاً بالإسلام والعروبة ، مما جنب شعب المملكة المسلم تجارب غيره المؤلمة والفاشلة في عصر عبد العزيز ، وما بعده .
لقد أصلح الله- تعالى- دين الملك ، فصلح شعبه ، والناس- كما يقال - على دين ملوكهم .(1/69)
* ثمة مسألة أخرى ربما لم تلفت نظر الكاتبين عن الملك عبد العزيز - رحمه الله - بالقدر الكافي ، وهي أنه كان يفهم الإِسلام فهما صحيحاً ، ما أحوج الكثيرين إِليه في هذا العصر وبعد عشرات السنين من حكمِ الملك عبد العزيز . لقد تجرأ بعض الجهلة وأهل الأهواء ، فزعموا كذباَ وبهتاناً أن الملك لم يراع بعض الأحكام الشرعية فيما استدعته نهضة بلاده ، من إِصلاحات ، وعلاقاتها مع غيرها ، مع أن الملك في حقيقته كان خادماً للحرمين الشريفين ، وكان إِماماً للمسلمين في عصره ، وكان وقتذاك يحكم نجداَ والحجاز ، وفيه منزل الوحي والبيت الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان حريصاً على الالتزام بالكتاب والسنة ، واتباع السلف الصالح .
* كان من دأب الملك أن يحتكم إلى الشرع في كل ما يتصل بأمور الدين ، وكان من فهمه للدين أنه لم يكن يمنع التقدم ، وتحديث البلاد ونفع أهلها ، ولم يحظر استخدام ما يجعل حياة المسلمين حكاماً ومحكومين ميسرة ، ومن أجمع كلمات الملك في هذا الشأن قوله :(1/70)
"لقد أخذ المسلمون اليوم يستيقظون من سباتهم ، فينبغي لهم أن يتسلحوا بالأسلحة التي أصبحت في منال أيديهم ، وهي نوعان : سلاح التقوى وطاعة أوامر الله ، وثانيهما : الأسلحة المادية من سيارات وطيارات " ، ولذلك لم يتردد الملك في استخدام هذه الأسلحة ، وكان ذلك مما أغضب البعض جهلاً ، أو انتهازا للفرص .(1/71)
ثقافة الملك الدينية
* وحتى تكتمل الصورة عن الملك ، وعن فكره الإِسلامي وثقافته الشرعية ، لا بد أن نتناول بالذكر الجانب الشخصي في سيرة الملك ، في أقواله وأفعاله ، التي تظهره بكل وضوح ، إِماماً في تقواه- مع سلطانه- وداعياً إِلى الله بالكلمة- مع مضاء سيفه- ولا يتوفر ذلك لكل الحكام والسلاطين .
* يبدو اهتمام الملك عبد العزيز بالدين ، وعنايته به في أحواله ومواقفه كلها ، وفي ضبط علاقاتّه مع الناس ، فالملك يعتبر الدين ركيزة كبرى في حياة الإِنسان وأساساً لحياة المجتمع . يذكر عبد الحميد الخطيب : أن الملك حبس أحد أبنائه الصغار وقتاً ؛ لأنه لم يصل الصبح مع الجماعة (1) ، هكذا وصل حرص الملك على تنشئة أبنائه على الصلاح والتقوى ، وهو جانب قلما يهتم به الملوك في العصر الحديث . وكان الملك نفسه من الدعاة إِلى التوحيد ، وإِلى التمسك بأحكام الشريعة ، وقيم الإسلام ، وآدابه في كلماته إِلى الناس ، وإِلى معاونيه ، بل وفي علاقاته مع أقرانه من القادة ، والزعماء ، والرؤساء .
_________
(1) الإمام العادل2 / 50 مصدر سابق .(1/72)
خطب أحد الناس أمام الملك في عيد الأضحى ، فأشاد بفضله في تحقيق الأمن في ربوع البلاد ، ومع أن ذلك مقبول ومعمول به عند كل الملوك والقادة ، فإن الملك عبد العزيز في ورعه وتقواه أراد أن يرد الأمر إلى حقيقته ، فقال :
{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } ( الأنفال 17 ) ثم يقول : " إن هذا إلا نعمة من الله أنعم بها على أهل مملكتي " .
* وفي خطاب الملك لشعبه في مكة المكرمة سنة 1345 هـ (1926م) يقول : "تكاثرت- ولله الحمد- النعم ، وهي ليست من عمل المخلوق ، وإنما هي من نعم الله جلال وعلا " .
ويضيف الملك في خطابه :
" هناك نعمة حقيقية لا تزول ، وخزينة لا ينضب معينها , هي الاعتقاد بأن لا إله إِلا الله ، وهذه النعمة مشروعة في كل مكان ، ولكنها لهذه البقعة المباركة ألزم ؛ لأن الحسنات والسيئات تتضاعف فيها " (1) .
ويقول الملك في خطابه لأهل المدينة سنة 1346 هـ (1927م) :
_________
(1) المصدر السابق 2 / 113 .(1/73)
"إِنني خادم في هذه البلاد العربية لنصرة هذا الدين ، وخادم للرعية ، إِن الملك لله وحده ، وما نحن إِلا خدم لرعايانا ، فإذا لم ننصف ضعيفهم ، ونأخذ على يد ظالمهم ، وننصح لهم ، ونسهر على مصالحهم نكون قد خنا الأمانة ، إننا لا يهمنا الألقاب والأسماء ، وإِنما يهمنا القيام بحق واجب كلمة التوحيد ، والنظر في الأمور التي توفر الراحة والاطمئنان لرعايانا " (1) .
* في قول الملك تسطع بنورها بعض العبارات ، التي وردت معانيها من قبل في أعز عصور الإِسلام ، عصر الخلفاء الراشدين ، وهي : إِنصاف الضعيف ، والأخذ على يد الظالم ، وأن الملك خادم لرعاياه .
* ومن أقوال الملك :
"أنا مبشر بدين الإِسلام ونشره بين الأقوام ، أنا داعية لعقيدة السلف الصالح ، وعقيدة السلف الصالح ، هي التمسك بكتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وما جاء عن الخلفاء الراشدين ، أما ما كان غير موجود فيها فأرجع بشأنه إِلى أقوال الأئمة الأربعة فآخذ منها ما فيه صلاح المسلمين " (2) .
ويقول الملك : " أنا مسلم ، وأحب جمع كلمة الإِسلام والمسلمين " (3) .
ويقول : " أنا عربي ، وأحب قومي والتآلف وتوحيد كلمتهم " (4) .
ويقول رحمه الله :
_________
(1) المصدر السابق 2 / 122 .
(2) الوجيز 216 مصدر سابق .
(3) الوجيز 216 مصدر سابق .
(4) الوجيز 216 مصدر سابق .(1/74)
" دستوري وقانوني ونظامي وشعاري دين محمد صلى الله عليه وسلم ، فإِما حياة سعيدة على ذلك ، وإِما موتة سعيدة " (1) .
ويقول في خطبة له بمكة المكرمة :
" يسموننا بالوهابيين ، ويسمون مذهبنا الوهابي باعتبار أنه مذهب خامس ، وهذا خطأ فاحش ، نشأ عن الدعاية الكاذبة التي كان يبثها أهل الأغراض ، نحن لسنا أصحاب مذهب جديد أو عقيدة جديدة ، ولم يأت محمد بن عبد الوهاب بالجديد ، فعقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح التي جاءت في كتاب الله ، وسنة رسوله ، وما كان عليه السلف الصالح ، ونحن نحترم الأئمة الأربعة ، لا فرق بين الأئمة : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وأبو حنيفة ، كلهم محترمون في نظرنا " (2) . * وقد أوردت الكتب ، والمصادر التي بحثت في سيرة الملك - رحمه الله - الكثير والعديد من خطبه وأقواله ، ولا نستطيع في هذا المقام حصرها ، ولا ذكرها كلها ، لكنها تمثل في نظرنا فكر ملك عربي مسلم ، ملك عليه الإِسلام شغاف قلبه ، وامتلأت نفسه بالاعتزاز بالعروبة . ويكفي أن نختار من أقواله ما يعبر بصراحة ووضوح عن فكره الإِسلامي العربي ، وعن خلقه وسجاياه باعتباره ملكاً مسلماً .
_________
(1) جريدة أم القرى ، العدد 1320 في 4 / 10 / 1369 هـ .
(2) الإمام العادل 2 / 136 ، مصدر سابق .(1/75)
ومنذ بداية العصر الحديث- وقبل عهد الملك عبد العزيز - لم يسمع المسلمون من ملوكهم حديثاً في شأن الدين ، كما تحدث الملك عبد العزيز ، ولو جمعنا ما قاله عن الإِسلام ، وعقيدته ، وشريعته ، وقيمه العليا ، ملوك البلاد العربية والإِسلامية ، وزعماؤها وقادتها في عهد الملك عبد العزيز ، لما عد شيئاً مذكوراً إِلى جانب أقوال الملك الذي تفرد بين الملوك ، والقادة بهذا الإِدراك ، والوعي لأهمية الدين ، وعقيدة التوحيد في توحيد المسلمين ، وإِصلاح شأنهم ، وبناء مستقبلهم . بينما كان غالب ملوك العرب وقادتهم وزعمائهم في عهد الملك عبد العزيز ، يتطلعون إِلى الغرب قبلة لهم في السياسة والاجتماع .
كان الملك عبد العزيز يستمد فكره من أقدس ما لدى المسلمين وأعز ما يملكون ، كان فكره كله مستمداً من الإسلام : عقيدة وشريعة ، وكان الدين عنده عبادة وسياسة ، وإِصلاحاً للمجتمع ، وكانت العروبة : اعتزازاً بالقيم والتقاليد التي أقرها الإِسلام ، ورسخها .
* يمكن لنا أن نذكر بعض الأقوال للملك عبد العزيز الساطعة بنور إِيمانها وقوة منطقها وسلامة فكرها :(1/76)
"إِنني والله لا أحب إِلا من أحب الله حباً خالصاً من الشرك والبدع ، أنا والله لا أعمل إِلا لأجل ذلك ، والله ، ثم والله إِني لأفضل أن أكون على رأس جبل آكل من عشب الأرض ، أعبد الله وحده ، على أن أكون ملكاً على سائر الدنيا ، وهي على حالتها من الكفر والضلال " (1) .
ويقول عن قتاله للأتراك :
"لم يقاتلونا إِلا لأننا امتنعنا أن نقول للسلطان : بأننا "عبيد أمير المؤمنين " لا لا لا ، لسنا عبيداً إِلا لله تعالى : { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } ( البروج 8). (2) .
ويقول- رحمه الله- :
" إِني والله أحب السلم ، وأسعى إِليه ، فإِذا بليت صبرت ، حتى إِذا لم يبق في القوس منزع ، وحان وقت الدفاع عن الدين والوطن فعلت ، وهنا لا يكون إلا إحدى الحسنيين ، إِما السعادة ، وإِما الشهادة ، وكلاهما نعمة من الله " (3) .
* ويخاطب الملك كبراء الناس وقادتهم :
_________
(1) المصدر السابق 2 / 129 .
(2) المصدر السابق 2 / 130 .
(3) المصدر السابق 2 / 134 .(1/77)
"يجب عليكم أن ترفعوا إِليَّ كل ما يتظلم الناس منه ، وترشدونني إِذا رأيتموني ضللت عن طريق الحق ، وإِذا لم تفعلوا ذلك فأنتم المسؤولون ، فو الله إِذا رأيت الحق أتبعه ، لأنني مسترشد ، وأما من رأى شيئاً وكتمه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " (1) .
ويقول الملك :
" لقد فتحت هذه البلاد ، ولم يكن عندي من العتاد سوى قوة الإِيمان وقوة التوحيد " (2) .
ويقول :
"ليتفق المسلمون فيما بينهم على العمل بكتاب الله ، وسنة نبيه ، وبما جاء فيهما ، والدعوة إِلى التوحيد الخالص ، فإني حينذاك أتقدم إِليهم ، وأسير وإِياهم جنباً إِلى جنب في كل عمل يعملونه ، وكل حركة يقومون بها ، والله إنني لا أحب الملك ولا أبهته ، ولا أبغي إِلا مرضاة الله ، والدعوة إِلى توحيده " (3) .
* وحين طلبت الأمم المتحدة من الدول التي في عضويتها أن ترسل إِليها بنسخة من دستورها ، أجاب الملك بأن القرآن الكريم هو دستور البلاد ، وقانونها الوحيد (4) ، وكفي بذلك دليلاً على إِخلاصه لله ، ودعوته إليه ، واعتزا زه بالإِسلام .
_________
(1) المصدر السابق 2 / 134 .
(2) الملك الراشد ص 370 مصدر سابق .
(3) الإمام العادل 2 / 137 - 138 مصدر سابق .
(4) الملك الراشد ص382 مصدر سابق .(1/78)
* وفي العصر الحديث ، لم يكن الحديث عن الإِسلام بمثل هذا الاعتزاز والفخر والتمسك به في كل شؤون الحياة ، يصدر إِلا عن العلماء المنقطعين للعلم ، والدعاة المتحمسين للإِسلام ، ولم يحدث أن صدر عن ملك أو زعيم أو رئيس مثل ما قدمناه من حديث الملك عبد العزيز عن الدين ، وعن التوحيد ، وعن الدعوة إِلى تطبيق الشريعة . ولا غرو في ذلك ، فهو ملك داعية ، وملك معلم لشعبه ، وملك يقدم القدوة الإِسلامية لأفراد شعبه ولأمته ، لقد دعا بنفسه ، وأكرم العلماء والدعاة ، ونشر الكتب الدينية ، وليس في معاصري الملك عبد العزيز من الملوك والأمراء والرؤساء والزعماء من شغل نفسه بالدين ، علماً وعملاً ودعوة وإِرشاداً ونصحاً ، كما فعل الملك عبد العزيز ، حتى يمكن أن يقال : إِنه كان في عصره ، بل في العصر الحديث كله ، ظاهرة متفردة بين الملوك والقادة والزعماء .(1/79)
* ولكن أعجب ما في الأمر ، أن الملك عبد العزيز - رحمه الله- لم ينفق سنوات طويلة من عمره في تعلم الدين ، فقد كان في صباه يتحمل مع أبيه الإِمام عبد الرحمن عنت الحياة ومشقاتها . وفي شبابه الباكر شغل عبد العزيز نفسه بتوحيد المملكة وجمع شملها ، وكان باكورة نجاحه وبداية فتحه ونصره استرداد الرياض ، ولم يكن لديه منذ استرداد الرياض وقت ، ولا جهد ينفقه في غير الدفاع عن الدين ، وعن وحدة شبه الجزيرة العربية ، فما السر في تلك الحكمة التي تبدو في أقواله ، وهذا الإدراك لمقاصد الشريعة الذي يبدو في خطبه وتوجيهاته ، حتى كأنه جلس سنوات طويلة يحصل العلم من الكتب والعلماء؟ .
* السر في نظري يكمن في قوة العقل التي وهبها الله له ، فعقل الملك أكبر من علمه بكثير ، والعقل نعمة وهبة من الله- عز وجل- بينما العلم تحصيل من الناس والكتاب ، وهو في ذاته اكتساب ، ولذلك تعلم الملك من أيام حياته ومن مجالسته للعلماء ، وأعمل عقله الكبير فيما تعلمه ، فظهر في قوله وفكره وعمله علم العلماء ، وسمت الحكماء ، ويهدي الله لنوره من يشاء .(1/80)
وقد كانت البيئة التي نشأ فيها الملك عبد العزيز ، وهي بيت آل سعود ، بيئة عرف عنها الفقه في الدعوة إِلى الله ، والاهتمام بالإِسلام والمسلمين ، فكان لها أثر واضح في الملك عبد العزيز ، رحمه الله .
* أمر آخر لا بد أن يلفت النظر ، وهو أن الملك- رحمه الله - بدلالة أقواله وأعماله ، كان رجلاً صالحاً تقياً ، فأنار الله فكره بالعلم والمعرفة ، مصداقَاَ لقوله تعالى : { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ } ( البقرة 282 )، وقد عمل الملك بما علمه أبوه في صباه ، وما استفاده من مجالسة العلماء ، واستقبل ما علمه بعقل كبير ، ونفس زكية ، فامتلأ قلبه بالإِخلاص لله ولدينه ، وانطلق لسانه بالحكمة والموعظة الحسنة .(1/81)
الملك عبد العزيز الابن والأب والأخ
كان الملك عبد العزيز منذ صباه ، وفي مطلع شبابه ، متوقد الذهن ، عالي الهمة ، وفي إِقامته في الكويت مع أبيه لم ينس ساعة أنه خرج من الرياض مقر آبائه وأجداده ، فكان يلح على أبيه في الوثوب على الرياض ، وكان هذا الإِلحاح أحياناً يخرج الابن عن هدوئه في مخاطبة أبيه (1) .
وبما يعرفه الأب الإِمام عبد الرحمن من علو همة ابنه ، وحسن تدبيره ، وقوة إِيمانه ، أذن له في الانطلاق إلى الرياض ، وقال لابنه ، وهو يخرج من الكويت : " ترى- يا عبد العزيز - ليس لي قصد أن أقف أمام إِقدامك ، ولكن موقفنا وحالنا يقضيان باستعمال الحكمة في إدارة أمرنا ، أما وقد عزمت ، فأسأل الله لك العون والظفر " .
بهذا ودع الأب ابنه ، وأخلص في نصحه ، ودعا له .
ولقي الأب من الابن كل بر ، فقد استدعى الابن البار أباه من الكويت بعد أن استتب له أمر الرياض ، فحضر الوالد . ويقول خير الدين الزركلي : "إِن لآل سعود فيما بينهم سنة لا يكادون ينحرفون عنها ، وهي أن صغيرهم يتأخر لمن هو أكبر منه إِذا حضر " (2) .
_________
(1) الوجيز ص18 ، وعاهل الجزيرة ص19- 20 ، مصدران سابقان .
(2) الوجيز ص23 ، مصدر سابق .(1/82)
فلما حضر الأب إِلى الرياض بادره عبد العزيز بأن الإِمارة معقودة له ، وأنه جندي في خدمته ، ولكن الوالد لما يعرفه من همة الابن ، وصلاحه ، وقدرته أبى أن تكون الإِمارة له . وبعد أن تدخل العلماء ، وذوو الرأي قبل عبد العزيز الإِمارة ، وشرط أن يكون للأب الإشراف الدائم على عمله ، وإِرشاده حين يحتاج الأمر إِلى النصح والإِرشاد .
وتسلم عبد العزيز إِمارة الرياض على مشهد من الناس ، وأعلن الأب نزوله عن حقه في الإِمارة ، وأهدى ابنه سيف سعود الكبير ، وتمت البيعة لعبد العزيز سنة 1320 هـ (1902م) وتخلى الأب عن قصر آل سعود ؛ لكي يقيم فيه الابن حاكم الرياض عبد العزيز .(1/83)
وقد يحار المرء في دلالة بر الابن ، وفي عطف الأب ، ولكن بر الولد لأبيه هو سجية الابن ، وقبل ذلك خلق الإِسلام ، وأمره ، لقول الله تعالى : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } ( الإسراء 23) ، وهو كذلك معرفة بحق الأب في الإِمارة التي كانت له والتي عمل الابن على استعادتها له ، أما عطف الأب في ذلك المقام ، فهو من طبيعة البشر ، ولكنه- في الوقت نفسه ، وفي ذلك الموقف بالذات- إِدراك من الأب لقدرات ابنه ، وإِقرار منه بأحقيته للحكم ، وأن الابن بخصائصه وبما حققه ، هو نجم آل سعود الصاعد في شبه الجزيرة العربية .(1/84)
وقد ظل الأب إٍلى جانب ابنه يشير عليه ، ويبذل له النصح ، ويدله على الخير ، وكان تقيا ورعاً قديراً على تخفيف غلواء المتشددين ، وقادراً على مجادلة المنتسبين للدين ، لا سيما المخدوعون منهم ، فكان له سلطان على النفوس ، وكان الملك عبد العزيز يبالغ في توقير أبيه ، ويذهب في البر به إِلى ما يعد مثلاً لأمراء المسلمين ، بل لعامتهم أيضاً . فقد قصد الإِمام عبد الرحمن إِلى المسجد الحرام ، وكان مريضاً ، فبادر ابنه الملك ، وحمله على كتفيه ، وهو يدخل من باب السلام ، وسار به إِلى مصلاه في المسجد ، ولم يول الملك ذلك أحداً من خدمه ومواليه (1) .
وقد مات الأب الإِمام عبد الرحمن في ذي الحجة 1346 هـ (1927 م) ، ودفن في الرياض ، ففقد الابن الملك أبا عطوفاً ومرشداً وناصحاً وخبيراً ، يستعين به في كثير من المهمات .
_________
(1) الإمام العادل 2 / 49 مصدر سابق .(1/85)
* كان الملك على حزمه وعزمه وقوة شكيمته رقيقاً حين ينتابه الحزن ، إِذ فقد ابنه البكر الأمير تركي عام 1336 هـ ( 1917 م ) , كما فقد زوجه الأميرة الجوهرة بنت مساعد بن جلوي ، والدة الأمير محمد والملك خالد ، رحم الله الجميع ، وكان لها في قلبه مكانة كبيرة ؛ لأنها كانت ابنة عمه ، وهي أميرة كبيرة في آل سعود ، وأم الملك هي التي زوجته بها ، وقد قضت ، وهي في شبابها ، وظل الملك محزونا عليها فترة من الوقت ، وأكرم من كان يخدمها في حياتها ، ولم يأذن لغير أخته نورة بأن تدخل حجراتها في القصر .
وكان الملك يحب أخته نورة ، ويعتز بها ، وكانت تشاركه همته العالية ، حتى إِنه كان يعتز بها في أثناء الخطوب ، فيقول : " أنا أخو نوره " .
* وفي سنة 1330هـ (1912م) كان سعد أخو الملك في البادية في أطراف نجد ، وأوعز الأتراك إِلى الشريف حسين ، أن يستميل بعض القبائل ضد ابن سعود . فرحل الحسين إِلى بادية عتيبة ، وأسر سعداً ؛ ليساوم الملك عبد العزيز عليه ، ويقول خير الدين الزركلي :(1/86)
"إِن الملك عبد العزيز اضطرب ، وترك كل شيء إلا سعدا ، وزحف بجيشه غرب الرياض ، وكتب إِلى شيوخ عتيبة ينذرهم إِن تركوا الشريف حسيناً يغادر إِلى الحجاز ، ومعه سعد ، فإِن الحرب بينهم لا محالة ، وعندئذ تنبه شيوخ عتيبة لتحذير الملك وإنذاره ، وطلب الشريف حسين من عبد العزيز بواسطة الشريف خالد بن لؤي "ورقة" يستطيع أن يجامل بها السلطان العثماني ، ولا تضر ابن سعود ، وافق ابن سعود على أن يكتب تعهداً بدفع مبلغ من المال للدولة العثمانية سنوياً ، ووصف ذلك بأنه قصاصة ورق ، ولكنه حفظ أخاه الذي عاد محملاً بالهدايا " (1) .
_________
(1) الوجيز ص 52 مصدر سابق .(1/87)
الملك عبد العزيز مع أعوانه ورعيته
كتب كثيرون عن سجايا الملك عبد العزيز - رحمه الله- وأسلوب تعامله مع أعوانه والمحيطين به ، والذين يثق فيهم من خاصته ، ولسنا في مجال سرد ما كتب ، وهو كثير ؛ لأنه يتعلق بحياة الملك اليومية ، ومواقفه إِزاء الأحداث والأشخاص . ولكن العبرة في الكثير مما رواه شهود العيان ، أو سجلته الكتب ، هي في بيان سجايا الملك التي انتظمت على وتيرة واحدة طوال حياته المديدة ، تكشف عن خلق طبعه الله عليه ، وسارت عليه حياته أميرا وسلطاناً وملكاً عربياً مسلما ، في تعامل الملك مع أعوانه من خاصته وعماله ، أو في معاملته مع أقرانه من الأمراء أو الملوك ، أو في تعامله مع ذوي المصالح ، تبدو سجاياه التي توجه تصرفاته ، والتي هي في مجموعها سجايا ملك عربي مسلم ، ليس غريبَاَ أن تجتمع في الملك عبد العزيز ، رحمه الله . ولكن الغريب عدم توفر بعضها ، أو أكثرها فيمن عاصره من الملوك والأمراء المسلمين . وبهذا تميز الملك عبد العزيز عن معاصريه من ملوك المسلمين ورؤسائهم ، وأمرائهم .(1/88)
وإِذا كان الملك والسلطان والإِمارة تحتاج إِلى مؤهلات شخصية وسجايا ذاتية ، فإن من يمتلكونها- وهم قلة في كل زمان ومكان- هم الذين يوسع لهم التاريخ في صفحات المجد ، والخلود بين ملوك المسلمين ، ومن هؤلاء في تميزهم وندرتهم ، الملك عبد العزيز ، وقد كان ملكاً وإِماماً في شعبه .
من أهم ما عرف به الملك من سجايا ، معرفته بالناس ، وحسن اختيار الإِخوان والأعوان ، وذلك مما يلزم الملك والأمراء ، فهم في حاجة إِلى من يقوم بخدمتهم وعونهم بإخلاص وأمانة وكفاية . وقد كان اختيار الملك عبد العزيز لأعوانه والخاصة منهم مثلا في حسن الاختيار ، فلا يتأثر في اختيار الأعوان بعاطفة أو هوى ، كانت الأمانة والقوة على العمل هي المعيار ، ولم يقيد نفسه في الاختيار بقرابة قريبة ، ولا بسن متقدمة دون الشباب .(1/89)
بل إِن الملك تجاوز ذلك إِلى عدم اعتبار الجنسيات في اختياره لأعوانه ، لقد عمل مع الملك مستشارون ، وخبراء ، وسفراء عرب ومسلمون ، من المملكة ، ومن دول عربية أخرى ، عمل معه اللبناني ، والمصري ، والليبي ، والعراقي ، والتركي ، والسوري ، وغيرهم ، ولولا قدرته على تكييف مستشاريه بحسب ظروف مملكته وتطلعاتها وأهدافها لما نجح هؤلاء في بلاط الملك (1) .
* ولم يكن أعوان الملك وخاصته بعيدين عنه ، أو كان يكتفي هو بإِصدار تعليمات وتوجيهات عامة لهم ، بل كانت مشاورتهم ، والاجتماع بهم ، وحضورهم مجالسه هي السمة العامة في العمل مع أعوانه ، والإِشراف عليهم ، وتقويم عملهم .
كانت هناك الاجتماعات الخاصة لدراسة القضايا السياسة الكبيرة ، وكان يحضرها والده الإِمام عبد الرحمن ، وبعض العلماء ، ومستشارو الملك ، وكان يحضر رؤساء العشائر مجلس الملك أحيانا قبل أن يكتمل التنظيم الإِداري للمملكة ، وذلك فضلاً عن الاجتماعات العامة التي تضم مئات الأشخاص من العلماء والمستشارين والأعيان وأمراء المدن (2) .
_________
(1) الإمام العادل 2 / 35 - 38 ، مصدر سابق .
(2) الوجيز ص 208 -210 ، مصدر سابق .(1/90)
وكان الملك يثق فيمن يعينهم على أمور البلاد في بعض الشؤون بعد حسن الاختيار . ومن أقواله التي تدل على الحكمة في التعامل مع الأعوان والمستشارين :
" لا أريد أوهاما ، بل حقائق ، أريد رجالاً يعملون ، فإِذا اجتمع أولئك المنتخبون ، وأشكل عليّ أمر من الأمور رجعت إِليهم في حله ، وعملت بمشورتهم " (1) كان حسن اختيار الأعوان سجية في الملك منذ شبابه الباكر ، وعندما أزمع على استرداد الرياض كان معه أربعون رجلا من آل سعود ، والموالين لهم ، ونحو عشرين من الأتباع ، وقد تفقدهم قبل أن يترك واحة يبرين ، وأخبرهم بكتاب أبيه له بالنصح بالعودة إِلى الكويت ، وخيرهم بين الاستمرار معه في المهمة التي اضطلع بها ، وبين الرجوع للراحة والدعة والأمن والسلامة ، ولكنهم جميعاً انحازوا إِليه ، وارتضوا قيادته والسير تحت لوائه (2) . ولا عجب ، فقد اختارهم ، ورضيهم أعوانا .
وكان الملك على رأس أعوانه في الخطر ، وأولهم في العمل ومواجهة العدو ، وليس كل الملوك والقادة كذلك في سنن الحياة ، وما يكون من عمل بين الناس والأمراء والولاة .
_________
(1) المصدر السابق ص161 .
(2) المصدر السابق ص25 ، والملك عبد العزيز وفتح الرياض ، لعبد الواحد محمد راغب ، ص47 من مطبوعات دائرة الملك عبد العزيز .(1/91)
ولم يكن شيء يمنع الملك من إِحقاق الحق من قرابة أو منزلة ، فقد اتصل بعلمه أن أمانة بلدية مكة المكرمة قصرت في أداء بعض واجباتها ، فاستدعى مجلس الشورى ، ولام الأعضاء على سكوتهم مجاملة لأحد الأعيان الذين لهم منزلة عند الملك ، وعزل المسؤول عن التقصير ، وإِن كان مقرباً منه ، وولى غيره (1) .
كان الحزم من صفات الملك مع أخذ الأمور بالحكمة ، ومن أمثلة ذلك أن فريقاً من أهل الحجاز شكوا إِلى الملك بعض أطباء وزارة الصحة ، واتصل خبر الشكوى باثنين من مستشاري نائب الملك إِذ ذاك (وكان الملك فيصل - رحمه الله- وذلك في أواخر سنة 1346 هـ (1928 م) وأرادا أن يخفيا أمر الشكوى ، وأن يتسلماها من صاحبها ، فأبى الرجل ، ولما عرف الملك حقيقة الأمر فصل المستشارين ، لرغبتهما في كتمان أمر الشكوى ، وأمر بعزلهما وحرمانهما من خدمة الدولة (2) .
_________
(1) الإمام العادل 2 / 62 ، مصدر سابق .
(2) المصدر السابق2 / 55 .(1/92)
كان الملك مع خلصائه وأعوانه على سنة العدل والرشاد ، ويروى أن الملك- رحمه الله- كان يجلس بين حاشيته ، وفي المجلس أحد وجهاء سوريا ، وأثير النقاش في مسألة اختلف فيها رأي الملك عن رأي الجالس معه ضمن حاشيته ، وعلى الرغم من تأثر الملك بأسلوب النقاش- مع اختلاف الرأي- فلم تأخذ الملك الأنفة أو العزة بالملك ، ففي اليوم التالي كان يتحدث مع من خالفه الرأي بكل مودة ، وهذا نادر من الملوك ، لا سيما حين يقع الخلاف بين الملك ، وأحد أعوانه على ملأ من حاشيته (1) .
* وقد كان حزم الملك ، وعدله خيراً للرعية ، فقد ألزم قضاة محكمة الطائف الشرعية أن يتعجلوا في إِنجاز مصالح الناس ومعاملاتهم القضائية ، واستعانت به امرأة مسنة وقفت على باب قصره ، فتابع قضيتها حتى حكم فيها (2) .
وهذه الأمثلة وغيرها كثير ، يصعب حصره ، مما يدل على رغبة الملك - رحمه الله- في أن يكون مشرفا ومراقباً لكل ما يمس مصالح رعيته ، مهما كان شأن صاحب المصلحة ، وهو أمر يذكر بمسلك الراشدين من خلفاء المسلمين ، وولاة أمورهم .
_________
(1) المصدر السابق 2 / 58 .
(2) المصدر السابق2 / 64 .(1/93)
* حينما نتحدث عن حياة الملك عبد العزيز مع الناس بعامة ، ومع رعيته بخاصة ، لا نتحدث عن ماض بعيد ، فقد عاش الملك عبد العزيز حياته كلها بين أهله وعشيرته وشعبه ، وبين إِخوانه وأعوانه ، وبين أصدقائه وأعدائه ، وكانت حياته في أحوالها ظاهرة للناس ، فلم يحتجب عنهم أميراً ، ولا سلطاناً ، ولا ملكاً ؛ ولذلك فإِن المصادر التي نستمد منها أحداث حياته عديدة ومتنوعة ، تستند إِلى رؤية العين وشهادة اللسان ، وإِلى السجل المكتوب ، ولا نقصد التأريخ لحياته ملكاً ، وما فيها من أحداث كبرى ، فالأحداث التي تهم كتاب التاريخ والمهتمين به ، هي الأحداث الكبرى التي تؤثر في حياة الأمم والدول .
أما وقائع الحياة اليومية التي تتصل بالناس فقد لا تنال ما تلقاه أخبار المعارك والانتصارات أو الهزائم من اهتمام ، لكن تلك الوقائع اليومية في حياة الإِنسان ، هي التي تكشف بصدق وأمانة عن سجاياه الحقيقية وخلقه الأصيل . وهذه السجايا وتلك الأخلاق ، هي المؤهلات الحقيقية لكل ما يحقق العظيم من إِنجازات كبرى في حياته .(1/94)
ولا يمكن للباحث المنصف أن يعرف الملك عبد العزيز آل سعود معرفة كافية عند المرحلة التي استولى فيها- وهو أمير في مقتبل الشباب- على الرياض ، واستردها لأهلها وأصحابها . لقد كانت الشجاعة والبطولة والفداء واحتمال المشاق وحسن التوجيه والقيادة ، أسباباً قائمة مهدت لذلك النجاح ، وحققته . ولكن إِقامة مملكة واسعة الأرجاء ، متينة الأساس ، موحدة سياسياً ، لها حضورها القوي ، عربياً وإِسلامياً ، ودولياً ، وبعث هذه المملكة حضاريَاَ على يد الملك عبد العزيز ، يحتاج إِلى كل أخلاقه وأعظم سجاياه التي وهبها الله له ، وهي الأخلاق والسجايا التي تعامل بها الملك عبد العزيزِ مع الناس ، أميرا وسلطانا وملكا ، وقبل ذلك ومعه ، إِنسانَاَ عربياً مسلماَ .(1/95)
* كانت يد الملك عبد العزيز - رحمه الله- عامرة بالجود على الناس ، وكان الكرم سجيته مع ما كان من أمر قلة المال في يده في صباه وشبابه الباكر . والقليل من الناس من تغلب سجيته تقلبات زمانه ، فاحتمل الملك قلة المال وخشونة العيش زمنا كان يسعى فيه لغاية أشرف وأعظم من تحصيل المال . وحين استرد الملك ، وأقام المملكة ، ظلت فسجيته العربية وخلقه الإِسلامي في الكرم والجود ، حتى ظهرت ساطعة حين أفاء الله عليه .
واشتهر- رحمه الله- بحب الضيوف وإِكرامهم ، فقصده الناس ، لا سيما الفقراء وأصحاب الحاجة راجين معونته ، ويندر أن ترى ملكا أو حاكما قصده الناس كما قصدوا الملك عبد العزيز ، فضيوفه كانوا يتجاوزون الآلاف يوميا ، وكان يقدم لكل ضيف عند مغادرته قصره هدية من طعام أو لباس أو مال ، وكان الملك قد أعد بيتا في الرياض للضيافة يقصده الناس يومياً من أبناء شعبه وغيرهم من المحتاجين .(1/96)
وقد بلغ من حرصه على كفاية الناس من الرزق أن طمأنهم- حين نشبت الحرب العالمية- أنه سوف يشاطرهم ما لديه من مال وأرزاق ، وقد شمل جوده أهل البادية والحضر . وكان- إِلى جانب ذلك- لا ينسى العاملين لديه من رجال الدولة ، فيهبهم ما يعينهم في حياتهم زيادة على رواتبهم .
* وفي كرم الملك وسماحته طرائف تروى ، فهو يخطئ أحيانا فيعطي السائل ذهباً بدل الفضة ، فلا يسترد ماله منه ، ويخطئ في كتابة المبلغ الذي يقصد أعطاه لشخص ، ويكتب مبلغا أكبر ، فلا يصحح خطأ القلم إذا تسلم الشخص المال بحجة ذكرها لمن راجعه ، وهي أنه لا يريد أن يكون " القلم " أكرم منه ، ويسير بدعوة عجوز ، فيهبها من المال ما تعجز عن حمله .
رحمه الله ، فقد كان في كرمه عربيا خالصا ، وما يروى عنه يذكرنا بما يحكى عن الكرم ، وأصحاب الجود من العرب على امتداد القرون (1) .
_________
(1) المصدر السابق 2 / 69- 72 .(1/97)
الملك عبد العزيز وتوحيد المملكة
{ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ } [ الأنبياء 10 ] .
{ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }{ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف 43 , 44 ] .
{ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء 92 ] .
{ وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } [ المؤمنون 52 ] .
استرداد الرياض بداية التأسيس والتوحيد
* أهم عمل يشغل بال الملك عبد العزيز ، هو استرداد الرياض ، وبقية أجزاء بلاده من يد من تسلط عليها .
كان الخروج من الرياض أشد ما آلم الأمير الشاب ، وكان مقامه في الكويت على أمل العودة إِلى الرياض بعد أن يأخذ العدة ، فلما وجد بغيته في عشرات من الرجال من الإِخوان والأعوان ، أظهرهم ابن عمه عبد الله بن جلوي ، إِلى جانب قتال الشيخ مبارك شيخ الكويت لابن رشيد .(1/98)
لما وجد عبد العزيز ذلك توجه إِلى الرياض على غير رغبة من أبويه ، خوفاً عليه ، وإِشفاقاً من الهزيمة ، أما أخته نورة فقد شجعته ، وكانت ذات همة عالية ، تعرف أخاها حق المعرفة .
خرج عبد العزيز إِلى الرياض بعدته ورجاله ، ولم تكن العدة كبيرة ، ولا الرجال كثرا ، ولا كان على رأس جيش كبير ، فكان أعظم ما أعده الثقة بالله ، ثم مضاء العزم ، وشدة الإِقدام .
* وليس من أهداف هذا الكتاب تفصيل القول في مسيرة الملك عبد العزيز إِلى الرياض ، فلم تكن معركة استرداد الرياض ، موقعة من معارك الحروب دامت أياماً ، ولا قتل فيها المئات أو الآلاف ، ولا وضعت لها الخطط الحربية المعقدة الكبيرة . كانت في مجملها معركة عبد العزيز قائداً ، وصحبه من العدد القليل جنوداً ، وكان الفكر والتدبير والإِقدام لعبد العزيز . وإِذا كانت معارك الجيوش الكبيرة يقودها القادة ، ويحقق فيها النصر الجنود ، فإِن معركة استرداد الرياض ، خطط لها ، وقادها ، وحقق فيها النصر القائد والأمير والجندي عبد العزيز مع ثلة من إِخوانه وأعوانه شاركوه ، فلم يكتف بمهمة القائد أو الأمير ، ولكنه كان مع إخوانه وأعوانه ، وكان قبلهم في مواطن الخطر ومواقع النزال .(1/99)
* في سيره إِلى الرياض واجهته محن وشدائد ؛ لكنه عزم أن يدخل الرياض ، فجمع رجاله ، وأنبأهم بحاله وبشدته ، وجدد أمامهم عزمه ، فلم يبق معه إلا أشداء القلوب ، عشرات لا يجاوز عددهم الستين أعطوا العهد لابن سعود على الصمود معه إِلى النهاية ، ولزم القوم مكانهم يتسقطون الأخبار ، ولزم عبد العزيز رجاله يفكر ويدبر ، ويخطط ، مع شدة الحياة من حولهم جميعاً ، وكان ذلك في شهر رمضان من عام 1319 هـ .
* تبدو الهمة العالية والشجاعة الفائقة في خطة الأمير عبد العزيز لاقتحام معقل عامل ابن رشيد في الرياض ، ولم يكن معقولاً أن يهجم على معقل عامل ابن رشيد بعشرات الرجال ، وهو في معقله يحرسه المئات ، ويندفع معه وقت الهجوم جنوده ، فاختار الملك عبد العزيز خطة ، تحمل فيها مع نفر قليل من أعوانه كل الخطر وكل المغامرة بحياتهم ، في هذه الخطة لم يكن أميراً ولا قائداً ، يعطي الأوامر جنوده ، بل كان الأمير والقائد ، وأول الجنود ، وأقربهم إِلى موقع الخطر والنزال .
* قرب الرياض أبقى عبد العزيز ثلاثين من رجاله تحت إِمرة أخيه محمد ، وتقدم مع سبعة من أعوانه ، واقتحم معقل والي ابن رشيد عجلان مع رجاله القليلي العدد والعدة (1) .
_________
(1) الملك عبد العزيز وفتح الرياض ، ص 136 - 137 مصدر سابق ، وصقر الجزيرة ، لأحمد عبد الغفور عطار 1 / 241 - 244 الطبعة الخامسة 1399 هـ .(1/100)
عمل ينم عن الشجاعة والجرأة بأوسع معانيها ، أن يقتحم حصن والي ابن رشيد على من فيه من الجنود والأعوان والحراس المسلحين مع قلة العدد والعدة ، ومن يتتبع خطوات هذا الاقتحام الجريء يدهشه من الملك عبد العزيز كل ما فعل .
وصل إِلى بيت الوالي عجلان من البيتين المجاورين له ، بعد أن تحدث مع رجل من أهل البيت الأول تردد قبل أن يفتح له باب البيت ، ومن حسن حظ الملك ، ورعاية الله له أنه حين دخل بيت الرجل عرفته إِحدى ابنتيه ، فأدخلته ، وهرب أبوها من البيت ، ثم أغلق عبد العزيز البيت على من فيه ، وقفز مع رجاله إِلى بيت يجاور بيت عجلان ، وأغلق على امرأتين وجدهما بالبيت بابهما ، ثم نزل إِلى بيت عجلان ، فوجد فيه امرأتين : زوجة عجلان وأختها ، فعرف منهما مكان زوجها الذي كان محصناً في قصره .
وفي الروايات التي تفصل هذا الاقتحام ، ما يفيد رباطة جأش الملك ورجاله ، لقد ناموا قليلاً ، وربما تناوبوا النوم ، وطعموا قليلاً من التمرات ، وصلوا الصبح ، ثم انتظروا خروج عجلان ، ومعه خدمه وحراسه ، يقصدون البيت الذي اختبأ فيه عبد العزيز ورجاله .(1/101)
وحين خرج عجلان في الصباح فوجئ بالهجوم ، وحاول الفرار ، وهرب رجال عجلان من حوله ، كان مع عبد العزيز بندقية ، ومع عجلان سيف سقط من يده بعد أن أطلق عبد العزيز عليه النار .
حاول عجلان الهرب من فتحة أو باب صغير ، فأمسك به عبد العزيز ، وتحمل ضربته له ، ولم يتركه حتى دخل رجاله ، وفتحوا الباب ، وقتل ابن جلوي عجلان ، فتم النصر ، وعلا صوت أهل الرياض : بأن الملك لله ، ثم لعبد العزيز بن عبد الرحمن .
* أرسل عبد العزيز بالبشارة إِلى أبيه ، وطلب المدد بعد أن انتصر على حامية ابن رشيد ، وكان يوما مشهوداً في حياة الملك عبد العزيز ، بل في حياة كل مواطن من أبناء المملكة العربية السعودية ، يوم الخامس من شهر شوال سنة 1319 هـ (الموافق 15 / 1 / 1902م) .
* كان ما فعله عبد العزيز - وهو في شبابه- عملا من أعمال الهمة العالية ، والعزيمة الماضية ، والشجاعة الفائقة بكل المقاييس ، عملا يكاد يكون شخصياً ، تبدو فيه الذاتية في التخطيط ، والتوجيه ، والعمل ، كأصدق ما تكون .(1/102)
لقد اقتحم هو بيت خصمه ، وقاتله وتحمل ضربته ، فلم يكن أميراً يقود جيشاً ، ولا قائداً يوجه جنداً ، ولكنه كان أميراً يطلب إِقامة دولة ، وتوحيد أمة ، وقد فعل ، ولكنه فعل ذلك بعدد قليل ، وعدة أقل ، وجرأة نادرة ، وشجاعة في المواجهة .
كان معه وقتذاك عدد قليل من الإِخوان والأعوان ، ولكن يبقى أن عبد العزيز كان معهم مفكراً ومخططاً ومدبراً ومنفذاً ، وكان أولهم حين واجه الخطر الذي لا يواجهه- إِلا نادراً- أمراء الجيوش ، وقوادها في المعارك الكبرى ، التي تتصادم فيها الجيوش ، وتختفي فيها شجاعة الرجال ، مع سعة الصدام ، وكثرة العدد ، وقوة العدة والسلاح .
هذه الليلة التاريخية تعد بداية رائعة لعمل كبير ، وهو بناء دولة ، وإِقامة مملكة ، وقد قام بهذا طوال أيام حياته ابتداء من تلك الليلة .(1/103)
كان يوم 5 شوال سنة 1319 هـ يوماً من أيام التاريخ المجيدة في حياة عبد العزيز ، وفي حياة المملكة التي أقامها ويمكن لنا إِذا عرفنا أن ذلك اليوم كان ختاماً لمرحلة من مراحل حياة الملك البطل عبد العزيز آل سعود ، أن ندرك في الوقت نفسه أنه كان بداية لعمل آخر أعظم ، وأجل ، وأبقى على مر الدهور ، لقد انتصر في ذلك اليوم على ابن رشيد ، واسترد الرياض التي خرج منها صغيراً مع والده الإِمام عبد الرحمن ، لكن همته العالية ، وعزيمته الماضية لم يكن مداها الرياض وحدها ، وإِنما كانت غايتها أعظم وأجل وأبقى .
لقد كان يوم 5 شوال سنة 1319 هـ يوما من أيام التاريخ حقاً ، كان يوماً له ما بعده ، فقد كان انتصار عبد العزيز على خصمه في الرياض هو بداية الانتصار الحاسم فيما بعد ، وكان هو الأساس ، وحجر الزاوية في إقامة الدولة السعودية الثالثة ( المملكة العربية السعودية ) التي شملت غالب شبه الجزيرة العربية ، دولة ومملكة موحدة ، والذي وضع شعب شبه الجزيرة على خريطة العالم الحديث .(1/104)
لم يكن الاستيلاء على الرياض نتيجة معركة ، ولا كانت غزوا بالجيوش وصداماً بالسلاح بين قوتين ، وإِنما كان عملا بطولياً اعتمد - بعد نصر الله عز وجل- على شخصية من قام به مع نفر قليل من إِخوانه وأعوانه ، استولى به على مقر السلطان لخصومه ، وتغلب على رجالهم في الرياض ، ولم يكن العمل ليتم بهذه السهولة في التدبير والتنفيذ لولا توفيق الله ، ثم لما لأسرة آل سعود من سابق الحب ، وقديم الاحترام والتقدير لدى الناس .
كانت أسرة آل سعود غير بعيدة عن الرياض : أرضها وأهلها ، فقد كان الإِمام عبد الرحمن والد الملك عبد العزيز حاكماً لها ، ظفر بتقدير الناس وحبهم له وطاعتهم ، بسبب ما تميز به من علم ، وفضل ، ورأي ، وسيرة حسنة في الحكم .
إن الدليل على ذلك قائم ، وظاهر في أحداث الليلة التي استولى فيها ابنه عبد العزيز على مقر إِمارة خصمه ، أو بمعنى آخر استرد الحكم والسلطان الذي كان لأبيه من قبل .
لقد قال الملك عبد العزيز فيما رواه عنه فؤاد حمزة عن ليلة الاستيلاء على المصمك (1) :
_________
(1) الملك عبد العزيز وفتح الرياض ص104 ، ومعارك الملك عبد العزيز المشهورة ص54 ، مصدران سابقان .(1/105)
إِن الحراس لم يكونوا يحرسون المدينة ، بل مقر حاكمها فقط ، فيحصرون أنفسهم ليلاً في القلعة ، مما يستنتج منه أنهم كانوا مكروهين من أهل البلد ، بل كان أهل الرياض يتمنون عودة حكم آل سعود ، وفي رواية الملك عبد العزيز ، أن صاحب البيت الذي كان مجاوراً لمقر عجلان أمير الرياض كان له بنات يعرفن الملك ، وأنهن لما فتح أبوهن باب المنزل صرخن : "عمنا عمنا " أمام أبيهن " جويسر " ، الذي هرب- كما تقول الرواية- دون أن يكشف سر المهاجمين . وفي الرواية أيضاً : أن زوجة الأمير كانت تعرف الملك ؛ لأنها من أهل الرياض ، وعمل أبوها وعمها في خدمة آل سعود (1) .
_________
(1) الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز ص27 ، 107- 108 مصدر سابق .(1/106)
* كان استرداد الرياض عملاً بطولياً من الملك عبد العزيز ، لمعت فيه شخصيته أميراً عالي الهمة ، بعيد الغور ، صاحب شجاعة وفداء قل أن يكون له نظير ، وقائداً فذاً ملهما يستمد شجاعته وقدراته من ثقته بالله تعالى . ولقد استطاع استرداد الريِاض بأقل قدر من الخسائر في الأرواح والممتلكات ، فلم يكن يقود جيشاً ، ولا كان يواجه جيشاً ، وكان من بين عناصر النجاح حكم أبيه السابق للرياض ، ومقام أسرة آل سعود بين أهلها ؛ ولذلك فرح أهالي الرياض حين سمعوا المنادي : " الملك لله ثم لعبد العزيز بن عبد الرحمن " .
لقد كان ذلك مرحلة مهمة في حياة الملك عبد العزيز ، لكنها مجرد علامة وبشارة لما بعدها .(1/107)
* لقد كان استرداد الرياض مجازفة كبرى ، وبطولة عظيمة ، ولكن هذه البطولة- مع قدرها- لا تستطيع أن تخفي بقية سجايا الملك ، وخصاله التي صاحبتها وتلتها . وهذه السجايا والخصائص الشخصية للملك ، هي التي أهلته بعد استرداد الرياض ، لكل الأعمال الجليلة والإِنجازات العظيمة في تاريخ العروبة والإسلام ، هذه السجايا التي ظهرت في سيرته مع الناس تستحق أن تذكر ؛ لأنها سجايا وخصال ، وهبها الله للملك عبد العزيز ، فإن الملك مهما كان عظيماً لن يمنحها لمن حرم منها .
* إن من حق القارئ ، ومن حق الجيل الذي خلف عبد العزيز آل سعود ، لا سيما من شباب المملكة العربية السعودية ، والأجيال التي بعده ، أن تعرف من هو عبد العزيز آل سعود؟ .
لقد عرفه الناس أميراً ذا همة عالية ، وعرفه الناس سلطاناً ، وعرفوه ملكا أقام دولة مترامية الأطراف ، موحدة الجوانب ، يرفرف عليها علم التوحيد ، وتظلها راية الوحدة . لقد عرف الناس الملك عبد العزيز أميراً ، وسلطاناً ، وملكاً .(1/108)
ولكن خصائص الإمارة ، والسلطان ، والملك ، كانت في عبد العزيز الإِنسان وعبد العزيز العربي المسلم ، ومن حق الناس أن يعرفوه كما كان ، وأن تعرف فيه مواهب الإِنسان وأخلاقه ، التي أهلته للملك والسلطان .
وسوف نحاول أن نتعرف في الصفحات التالية على الهدف العظيم الذي يسعى لتحقيقه الملك عبد العزيز رحمه الله ، ألا وهو : تحقيق التوحيد لله سبحانه وتعالى ، في ربوبيته ، وإِلهيته ، وأسمائه وصفاته ، وأن يعبد الله بما شرع ، وأن تطبق شريعة الله في شبه جزيرة العرب ، وأن تحقق الوحدة التي تجمع أبناءها .(1/109)
التوحيد والوحدة في نظر الملك عبد العزيز
* كان استرداد الملك عبد العزيز - رحمه الله- لعاصمة الدولة السعودية هو البداية ، ولم يكن انتصاره في الرياض سوى الجولة الأولى في ملحمة امتدت عشرات السنين ، وما كان في استطاعة أحد من الناس أن يسبر غور الملك وقت أن تنازل أبوه الإِمام عبد الرحمن عن إِمارة الرياض ، ولعل خصومه قد تنبهوا إِلى ظهور أمير قوي يناجزهم على ما تحت أيديهم من البلاد ، ومن تحت سلطانهم من العباد ، ولكنهم كانوا عاجزين عن تصور مدى التغيير الذي يمكن أن يحدثه هذا الأمير القوي في شبه الجزيرة العربية .
لقد كانت شبه الجزيرة العربية ، تزخر بأمراء يتقاتلون على الأرض ، وعلى النفوذ ، وعلى الغنائم ، ويتنافسون على كسب ود القوى الكبرى التي كانت تسيطر على شبه الجزيرة اسما ، أو فعلاً في بعض أرجائها أو أقاليمها ، لم يرفع أحدهم راية للتوحيد الديني أو الوحدة السياسية ، ولو فعل لما صدقه الناس في شبه الجزيرة ، وقد عركوا هؤلاء الأمراء .(1/110)
رأى الناس أمراء لا ترتفع همتهم عن الأرض التي تحت أقدامهم ، يبسطون عليها سلطانهم ، ويستأثرون بخيراتها ، ويتحكمون في أهلها بقوة السلاح ، أو المال ، أو سطوة الادعاء ، أو مساندة الأجنبي .
ولم يكن بوسع الملك عبد العزيز - بعد استعادة الرياض مباشرة- أن يرفع راية ، أو يعلن شعاراً يعمل في ظله ؛ لأنه لم يكن أحد يصدق أن تتجرد نية أمير ؛ لكي يعمل من أجل التوحيد الخالص لله ، والوحدة في السياسة ، ولكن الملك عبد العزيز كان يتمثل الهدف الكبير ، ويعمل من أجله دون أن يرفع راية أو يطلق شعاراً ، وكان الناس يتمثلون الهدف شيئاً فشيئاً كلما حقق الملك انتصاراً في اتجاه التوحيد الديني ، أو الوحدة السياسية .
لقد كان منهج الملك عبد العزيز في ذلك ، سابقاً لعصره بعشرات السنين ، وسابقاً لخطط أقرانه وخصومه ربما بأكثر من ذلك ، وكلما تحقق للملك جانب من نصر وضحت الرؤية أمام الناس ، وبدت الراية ظاهرة .(1/111)
لقد كان الملك- رحمه الله- منذ أن استعاد الرياض في عمل في دائب ، وجهد متصل طوال عشرات السنين ، لم ينزل فيها الفارس عن صهوة جواده ؛ لكي يخلد إِلى الراحة ، أو يكتفي بالسلطان على أرض يحوزها مثل غيره من أمراء شبه الجزيرة . وحينما ينظر المرء إِلى إِنجازات الملك عبد العزيز آل سعود ينبغي أن يتذكر على الفور أن هذه الإِنجازات لم تتحقق بالنصر في معركة ، أو بضربة حظ ، أو بمساعدة أجنبي ، ولكنها تحققت بفضل الله ، ثم بجهد موصول ، وجهاد قائم ودائم لعشرات السنين ، جهاد في ساحة قتال ، وجهاد بكلمة حق وصدق تقال ، وجهاد أكبر وأعظم وأشق في الاحتمال ، وهو الجهاد ضد الجهل ، والتخلف ، والأهواء ، والأغراض ، والعقبات التي كانت تواجه الملك في كثير من الأحيان من العدو ، والصديق على السواء .
* وربما يحار الباحث حينما يختار أهم القضايا التي واجهها الملك ، فقد واجه عشرات القضايا والمشكلات الكبيرة في حجمها وأثرها ، ولكن اهتمامات الملك عبد العزيز - رحمه الله- تظهر لنا بوضوح في ترتيب الأولويات .(1/112)
لقد اهتم الملك بالقضايا الكبرى للعالم العربي والإِسلامي ، واهتم بالقضية الكبرى للإِنسان المسلم العربي ، إِن الأولويات هنا لا تعبر عن أهمية القضية أو عدم أهميتها ، ولكنها تعبر بصدق عن الجهد والجهاد الذي بذل من أجل تحقيق الهدف ، وتعبر كذلك عن شخصية الملك وهموم نفسه ، وعن فكره وعن مشاعره تجاه أمته العربية والإِسلامية .
فالعظماء- في اختيارهم لأهداف حياتهم ورسالتهم تجاه شعوبهم- يعبرون عن أنفسهم بأمانة وصدق ، وما حققه الملك عبد العزيز في حياته يعبر عن خلقه ، وسجاياه ، وفكره ، ومشاعره ، وهموم نفسه . ولو وضعنا إِنجازاته التي حققها لأمته وشعبه في صفحة لظهرت شخصيته ، ونفسيته ، وفكره ، ومشاعره في الصفحة ذاتها للقارئ اللبيب .
* كان الملك- رحمه الله- رجلاً صالحاً نشأ في بيت صالح ، فكان بدهياً أن يمثل الدين في فكره ومشاعره أعظم جوانب حياته . لقد تلقى الملك في صباه ، أصول العقيدة وأساسيات الشريعة .(1/113)
وحياته باعتباره أميراً فذاً من الأسرة السعودية التي لم تنس ماضيها المجيد ، كانت تقتضي منه أن يصرف جهده ، وطاقاته كلها في استعادة ملك آبائه وأجداده ، ومع ذلك- كما سنرى ، وبسبب عمق مشاعره الدينية- استطاع أن يخدم العقيدة ، والشريعة ، ومذهب السلف في فهم الإِسلام والحياة .
* كان الملك ينتمي إِلى أسرة عريقة في عروبتها ، أقامت في شبه الجزيرة العربية دولتها الأولى (1157 هـ الموافق 1744 م) على يد الإِمام محمد بن سعود أمير الدرعية وقتذاك .
ويعرف الملك - ولا شك - منذ صباه الباكر أن الإِمام سعوداً الكبير حفيد مؤسس الدولة السعودية الأولى ، قد استطاع أن يوحد في عهده (1218 هـ - 1229 هـ الموافق 1803 م- 1814 م) شبه الجزيرة ، وسعود الكبير من أعظم رجالات البيت السعودي العريق ، شملت الدولة السعودية في عهده بادية الشام ، ومعظم شبه الجزيرة العربية ، وامتدت الدولة في عهده إِلى شواطئ الفرات ، ومن الخليج إِلى البحر الأحمر .(1/114)
كان الملك عبد العزيز - ولاشك- يعرف عراقة الأسرة ، ودولتها التي امتدت ، واتسعت حتى وحدت معظم شبه الجزيرة ، ويذكر بالاعتزاز والفخار أن جده الإمام فيصل بن تركي قد وحد أجزاء كبيرة من شبه الجزيرة ، شملت منطقة نجد كاملة ، ومعظم منطقة الخليج ، ويعرف أن هذه الوحدة تتطلب عزماً ماضياً وهمة عالية ، وكان يملك المؤهلات والمزايا التي تجعل قضية الوحدة في نظره أملاً يسعى من أجل تحقيقه .
* لقد كانت قضية التوحيد- جوهر الإِسلام- هي قضية الدين عند الملك عبد العزيز ، التوحيد الخالص لله بمعناه الشامل والكامل ، كما تلقاه وكما رسخ مفهومه الصحيح أسلافه الكبار حين أقاموا الدولة السعودية الأولى في القرن الثاني عشر على هدي القرآن الكريم ، وبقوة السلطان .
* وكذلك كانت قضية الوحدة- وهي جوهر العروبة- هي قضية السياسة عند الملك عبد العزيز ، الوحدة التي حققها فعلاً أجداده من قبل ، ولكنها زالت بسبب النزاعات والحروب ، وعادت الجزيرة العربية إِلى التشرذم والانقسام ، كعادتها التي دأبت عليها منذ قرون (1) .
وفي عصر الملك عبد العزيز توحدت معظم شبه الجزيرة ، وقامت فيها الدولة الموحدة ، أرضاً وشعباَ ونظاماً وحكماً .
_________
(1) عاهل الجزيرة ص6 -7 مصدر سابق .(1/115)
وهذه الوحدة تعد مثلاً فريداً في العصر الحديث كله أمام البلاد العربية ، والإِسلامية .
لقد تقاسمت شبه الجزيرة قبل الملك عبد العزيز قوى عديدة ، كانت القوى الأجنبية تباشر نفوذها ، وتعزز مصالحها فيها ، ولم تكن هناك سلطة موحدة ، ولا شعب واحد ، ولا دولة واحدة .
لكن الملك عبد العزيز حقق ذلك كله بتوفيق الله ، ثم بجهده وجهاده ، أميراً وسلطانَاَ وملكاً ، وحقق بذلك أقصى غاية أسلافه العظام ، ووصل بجهده وجهاده إلى النهاية في آمالهم ، وهي جعل المملكة العربية السعودية دولة موحدة ، وشعباً واحداً ، ينتمي لأمته الإِسلامية والعربية .(1/116)
* خاض الملك عبد العزيز معارك وحروباً غير جديدة على نجد وما حولها ، فقد كانت النزاعات القبلية قائمة ، والأمراء ومشايخ القبائل متفرقين ، والسيطرة على الأرض لا تعني رسم الحدود ولا قيام دولة . فكانت الولاءات والانتماءات تتغير ، والحدود التي تحددها المعارك تزول بتغيرها . ولقد ورث الملك عبد العزيز عن أسلافه عبرة التجارب ، وكانت له تجاربه التي حالفه فيها توفيق الله- عز وجل- وكان له من قوة الشخصية ، وذكاء الفطرة ، وإِخلاص القصد ما يجعل همته تعلو على مطالب الأمراء في عصره في نزاعهم ، واقتتالهم على مساحة من الأرض ، يوسعون بها إمارتهم ، أو يزيدون بها غنائمهم ، كان فكر الملك عبد العزيز ، وطموحه يجاوز ما عليه الأمراء ورؤساء القبائل ، وكانت نظرته أعمق وأدق إِلى شبه الجزيرة كلها ، واتسعت هذه النظرة ؛ لتشمل شبه الجزيرة حالاً ومآلاً ، ولكي تشمل شعبها كله بقبائله المتفرقة ، وتعرف ما يهدده من أخطار الفرقة والانقسام ، وسيطرة الأجنبي على الأرض ، وبسط سلطانه على الناس .(1/117)
في هذه الفترة- وبعد أن حقق عبد العزيز ما يصبو إِليه بوصفه أميراً من أمراء آل سعود - بدأ يمد بصره إِلى آفاق أبعد ، وآمال أرحب ، ومصالح أكبر ، ولم يكن ملائماً لشخصيته الفريدة ، وذكائه الفطري ، وآماله الإِسلامية والعربية أن يكتفي بسلطانه على جانب- ولو كان كبيراً ومتسعاً- من أرض شبه الجزيرة ، لقد فرضت شخصيته وطموحه ونجاحه ، أن يفكر في الدولة الموحدة في شبه الجزيرة العربية ، ولم يكن الأمر قاصراً على الآمال والطموحات ، ولا التفكير والتدبير . لقد كان توحيد شبه الجزيرة في ظروف العصر ، وفي عالم يسوده الاضطراب مع خصوم متعددين ، ومع قوى عالمية تتربص بالمنطقة كلها ، ومع قلة العدة لا سيما من السلاح ، ومع انفتاح أبواب الفتن أحياناً في داخل شبه الجزيرة العربية ، كان التفكير وحده- في توحيد شبه الجزيرة العربية - كفيلاً بأن يزرع اليأس في قلب من يسعى إِليه .(1/118)
ومن هنا ندرك قدر ما تمتع به الملك عبد العزيز من فكر جمع بين الإِخلاص لله ، والاعتزاز بالإِسلام والمسلمين ، وبقومه العرب ، ومن همة عالية لا تنال منها الصعاب ، ومن شجاعة وإِقدام في خوض المعارك ، ومن حكمة في التعامل مع الخصوم ، والتعامل مع ذوي الأهواء وأهل الفتن من حوله ، فلم يكن طريق التوحيد مفروشاً بالورود ، ولا كان يعتمد على دعوة تبثها أجهزة الإِعلام القوية القادرة على جمع الناس حولها ، لكي يكون تحقيقها ميسراً ، بل كان الطريق محفوفاً بالمخاطر ، يتربص به شرا كل من تهدد وحدة شبه الجزيرة العربية إِمارته ، أو نفوذه ، أو مصالحه ، أو طموحه ، أو مكاسبه ، فقد كان الانقسام ، والتشتت ، والنزاع بين القبائل ، ووجود الأجنبي مفيداً للبعض ، وحامياَ لمصالحهم ، ومحققاً لأطماعهم .
في ذلك الزمن خاض الملك عبد العزيز آل سعود معاركه في القتال أو السياسة ، ومع كل الخصوم والأعداء في الداخل والخارج .
وليس أدل على شجاعته ، وحكمته ، وقدراته ، ومواهبه التي يتمتع بها من الواقع الذي فرضه على الأرض ، ثم شهادة أهل الحق له بما حققه للعرب وللمسلمين .(1/119)
توحيد المملكة
* سبقت الإِشارة إِلى أنه لم يكن هدف الملك عبد العزيز - رحمه الله- دخول الرياض فقط ، بل كان هدفه أسمى ، وغايته أكبر ، إِذ كان يتطلع إِلى الوحدة الشاملة ، التي تنتظم جميع مناطق المملكة ، تلك المناطق التي شملها حكم أسلافه ، وتوحدت تحت راية الإسلام ، وحكمت به . كان يتطلع إِلى الحكم بالشريعة في شبه جزيرة العرب ، وإِلى أن تستأنف الديار المقدسة رسالتها تجاه الإِسلام والمسلمين ، تلك الرسالة التي جاهد في سبيلها آباء الملك عبد العزيز ، وأجداده ، رحمهم الله .
إِذن فدخول الرياض لم يكن إِلا بداية الرحلة العظيمة ، التي تهيأ لها الملك عبد العزيز - رحمه الله- وعقد العزم على قطعها إِلى النهاية .
لم يقض الملك عبد العزيز وقتاً طويلاً ، لا في تحصين الرياض من هجوم يقع عليها ، ولا في الاستعداد لمواجهة خصومه ، الذين أسهموا في تفتيت وحدة البلاد ، وجرها إِلى نزاعات ، وفتن أنهكت أهلها .
وقد أسهم النجاح المذهل للأمير الشاب في الاستيلاء على الرياض بعدة قليلة ، وعدد قليل في انعطاف الناس إِليه ، ورغبتهم فيه ، وإِحساسهم بعودة ملك آل سعود .(1/120)
بدأ الملك عبد العزيز في ضم المناطق المجاورة للرياض ، ولم تمض سنوات قلائل حتى ضمها كلها إِليه ، وتقلص نفوذ ابن رشيد منها .
لم يقدر ابن رشيد قوة الملك عبد العزيز ، ولا عرف خصائصه وسجاياه ومزاياه ، وهنا يبدو الفارق الكبير في عبقرية القيادة ، وحكمة السياسة ، وموهبة الزعامة .
لم تكن قوة العدد ، وكثرة العدة لدى كل خصم ، هي المعيار الوحيد للنصر ، لقد كانت أسباب النصر- بعد مشيئة الله عز وجل وتوفيقه- كامنة في مواهب الملك عبد العزيز ، تظهر عند المعارك ، فتحسمها لصالحه ، ودون دخول في تفاصيل المعارك والتحركات التي كانت تقع بين الملك عبد العزيز - رحمه الله- وخصومه ، ودون دخول في الفتن الداخلية في المناطق التي تقع تحت سلطانه ، ومجابهته لها ، وما كان يعامل به الملك- رحمه الله- مثيريها ، دون الدخول في ذلك كله ، فإِنه - رحمه الله- أعاد غالب نجد إِلى حظيرة الدولة السعودية ، وقضى على دعاة الفرقة ، وأصحاب المصالح والنفوذ ، وانتهت سلطة ابن رشيد فيها .
وأصبح عبد العزيز آل سعود سلطان نجد دون منازع ، بايعه العلماء ، والناس على ذلك .(1/121)
وفي الوقت نفسه كان الملك عبد العزيز - رحمه الله- ينظر إِلى جزء غال من بلاده يسيطر عليه الأتراك ، ألا وهو الأحساء ، وكان ذلك في أواخر عهد الدولة العثمانية ، التي لم يكن بوسعها أن تقاوم تصميم الملك عبد العزيز على توحيد بلاده .
لقد اتجه الملك- رحمه الله- في سنة 1331هـ (1913م) إِلى مدينة الهفوف التي كانت فيها حامية تركية ، فاستسلمت المدينة وحاميتها التركية ، وسمح لهم الملك عبد العزيز بالخروج دون سلاح ، فأبحروا إِلى تركيا .
وبذلك أصبحت الأحساء تحت سيطرة سلطان نجد ، ولم يكن ذلك إِثر معارك ضارية ، ولا بعد تضحيات جسيمة ، بل تحقق بفضل الله ، ثم بحسن القيادة ، وحكمة التصرف من الملك عبد العزيز ، ففي أقل من شهر ضم الأحساء إِلى سلطانه .
وحين اندلعت الحرب العالمية الأولى سنة 1332 هـ (1914م) لم يكن لدى الأتراك من الفراغ ، أو القوة ما يجعلهم يفكرون في استعادة ما ضاع منهم ، بل إِنهم قدروا لعبد العزيز آل سعود أنه سمح بخروج جنودهم أحياء مكرمين من بلاده .(1/122)
* تبدو عبقرية الملك عبد العزيز ، وحنكته في أسلوب ضم الأحساء ، فقد خرج إِليها ، وهو يتظاهر بأنه يؤدب القبائل الخارجة عليه في نجد ، ولما شك الأتراك في نيته بأنه يقصدهم أزال شكوكهم بعودته إِلى الرياض مع ترك جيشه قريباً منهم ، ثم فاجأهم بالهجوم ، فاستسلموا ، واجتذب عبد العزيز أهل الأحساء إِلى جانبه بتأمينهم في مدينتهم ، وكان أعيانهم قد كتبوا للملك عبد العزيز ، يطلبون منه ضم الأحساء ، لينهي معاناتهم مما كانوا يعيشونه من مصاعب اقتصادية وسياسية ، كما استطاع أن يجتذب أهل القطيف إِليه ، فآثرت الحامية التركية الانسحاب (1) .
* لقد وطد ضم الأحساء مكانة عبد العزيز ، وكفل له خطاً ساحليَاَ ، مما جعل البريطانيين يعيدون حساباتهم نحوه ، كما قوى أمله في دولة الوحدة ، التي لا يخفي نياته في أقامته في مملكته ، فقد نما لديه الشعور بقرب النصر على جميع الخصوم ، وأن مملكته سوف تشمل غالب شبه الجزيرة العربية ، ولم يكن هذا الشعور وِليد رغبة في التوسع والسلطان ، بقدر ما كان إِدراكاً واعياً ، واعتزازاً أصيلاَ بمكانة العرب ، وعراقة أمتهم ، وحقهم في أن يكون لهم مكان تحت الشمس في ظل الدين الخاتم ، والعروبة الأصيلة .
_________
(1) تاريخ ملوك آل سعود , للأمير سعود بن هذلول ، ص98 وما بعدها ، الطبعة الأولى 1380 هـ .(1/123)
ورغبة في تفيؤ ظلال العدل ، والأمن ، التي كانت تتفيؤها كل منطقة تدخل في حكم الملك عبد العزيز ، فقد سلم أهالي حائل ، وزعماؤها ووجهاؤها ، المدينة للملك عبد العزيز في 29 / 2 / 1340هـ (نوفمبر 1921 م) بعد أن أمنهم على أرواحهم وأموالهم ، وأعراضهم ، كما استسلم أميرهم بعد أن أمنه الملك على حياته (1) .
وفي منطقة عسير ، في الجنوب الغربي من المملكة ، شكا أهل المنطقة من أوضاعهم المتردية ، وكان نظرهم يتجه إِلى الرياض ، وإِلى الملك عبد العزيز ، وانتهى الأمر ببسط سلطان الملك عبد العزيز على المنطقة في عام 1340 هـ (1921م) .
كما تم بسط سلطانه على منطقة نجران وجيزان .
كان الملك عبد العزيز - رحمه الله- ينظر إِلى مكة المكرمة والمدينة النبوية ، نظرة خاصة ، لمكانتهما الدينية .
_________
(1) المصدر السابق ص 135 .(1/124)
ففي مكة أول بيت وضع للناس لعبادة الله ، وفي المدينة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إِن هذه الأماكن المقدسة تهوي إِليها أفئدة الملايين من المسلمين ، يستقبلون بيت الله تعالى في صلواتهم ، ويؤدون في مكة مناسك الحج ، الركن الخامس للإِسلام ، ويزورون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رغبة في مزيد الأجر والمثوبة من الله سبحانه ، وكان- رحمه الله- يدرك ضرورة استتباب الأمن في كل شبه الجزيرة ، وعلى وجه الخصوص في الحرمين الشريفين ، وأهمية بذل الجهد ، والطاقة في تيسير سبل الحج ، والعمرة ، والزيارة ، واتخاذ الأسباب التي تعين المسلمين على أداء نسكهم .
كان- رحمه الله- يدرك ذلك كله ، ويعتبر تحقيقه واجباً دينياً ، ونوعاً من أنواع الجهاد في سبيل الله ، ويدرك أن أسلافه قد حققوا ذلك ، وأن البلاد المقدسة وما جاورها كانت جزءاً غالياً من الدولة السعودية ، وأن ضمها إِلى الأجزاء الأخرى ؛ لتنعم بما نعمت به ، مطلب مواطني تلك البلاد ، ومطلب المسلمين كافة .
* لقد أجمعت المصادر التي تناولت سيرة الملك عبد العزيز ، ونشأة المملكة ، أن الملك لم يقم بحرب إِلا وهو مضطر لها ، وبعد استنفاد كل الوسائل السلمية .(1/125)
وفي اعتقادنا أن الله- تعالى- أنعم عليه بالحلم والصبر ، حتى يتاح له أن يحقق ما يريد بأيسر السبل وأقل الخسائر ، فلم يكن يندفع إِلى معركة ، ولا كان بمقدور أحد أن يستدرجه إِلى قتال ، وإِلى جانب ذلك كان خطابه إِلى خصومه عفيفا ، حتى ينتهي الأمر بسلام ، أو تنجلي المعركة عن منتصر ومهزوم ، وما كان يغريه النصر ، أو ينهار أمام هزيمة في معركة .
* لم يمض وقت طويل حتى صارت مكة تحت حكم الملك عبد العزيز آل سعود ، فدخلها حاسر الرأس ، خاشعاً لله في لباس إِحرامه ، ومعه قادة جيشه ، ولم يمض وقت طويل بعد ذلك حتى كان الملك عبد العزيز آل سعود سلطان نجد يحكم الحجاز كله ، وذلك في عام 1344 هـ (1925) وقد أمن أهله ، وأبقى على جهازه الإِداري الذي كان يعمل من قبل ، وسعد الناس بحكم عبد العزيز آل سعود .
* في جمادى الآخرة سنة 1344 هـ الموافق لشهر يناير سنة 1926م نادى به علماء مكة ، وأهلها ملكاً على الحجاز ، وأصبح عبد العزيز آل سعود سلطاناً على نجد ، وملكاً على الحجاز ، وهكذا اكتمل توحيد البلاد ، وأذاع الملك على أهل الحجاز بلاغه ، وقال فيه :(1/126)
" أبشركم بحول الله وقوته ، أن بلد الله الحرام في إِقبال وخير ، وأمن ، وراحة ، وإِني- إن شاء الله تعالى- سأبذل جهدي فيما يؤمن البلاد المقدسة ، ويحل الراحة والاطمئنان بها " .
وأوصى الناس بتقوى الله ، واتباع مرضاته ، وأن لهم النصيحة ، احترام الدماء والأعراض والأموال إِلا بحق الشريعة ، وأن المرجع هو الكتاب والسنة (1) .
وبعد ذلك بدأت حركة الإِصلاح في الحجاز في جميع المجالات ، وأقام الملك ابنه الأمير فيصلاً - رحمه الله- نائبا عاماً في الحجاز .
وكان حكم آل سعود حكماً عربياً خالصاً دون تبعية لأحد من خارج الجزيرة العربية ، أو من غير المسلمين ، وكان تحت راية الإسلام وحدها .
وهكذا أصبحت مختلف مناطق المملكة تابعة لسلطان واحد ، وملك واحد ، وإِمام واحد ، جاهد لإِعلاء كلمة الله فيها ، ولتوحيد أرضها وشعبها ، فتحقق بذلك ما كان يسعى إِليه الملك عبد العزيز - رحمه الله- منذ دخوله مدينة الرياض في عام 1319 هـ .
_________
(1) صقر الجزيرة ص397 ، مصدر سابق .(1/127)
المملكة العربية السعودية
* قد يكون فهم العنوان : " المملكة العربية السعودية " يسيراً على القارئ له ، ولكن قيام هذه المملكة لم يكن يسيراً ، ولا هيناً على من أقامها ، لقد ذكرنا من قبل كيف بدأ الملك عبد العزيز بعد دخوله الرياض سنة 1319هـ (1902م) يضم إِليها مناطق ومدناً ، كانت تتبع خصومه ، ناهيك عن قبائل تتغير ولاءاتها ، وانتماءاتها من حين لآخر ، بحسب الظروف والأحوال والأهواء ، ولم يكن الملك قد بدأ حربَاَ ، أو قتالاً بهدف توسيع إِمارته ، أو زيادة نفوذه ، فحسب ، وإِنما كانت الأوضاع تفرض عليه أن يدافع عن سلطانه ضد من يهاجمونه ، فينتصر عليهم ، أو يبادر هو إِلى حماية نفسه منهم ، فينتصر عليهم بالقتال ، أو بحكمته وسياسته ، متى كانت الحكمة والسياسة بديلاً عن السيف .(1/128)
من خلال المعارك العديدة التي خاضها الملك في بداية كفاحه ونضاله ، وبسبب ما يتمتع به من بعد النظر ، وعلو الهمة ، وعمق الانتماء الديني والإِحساس الوطني ، اتجه فكر عبد العزيز آل سعود إِلى توحيد المملكة ، وتعمق لديه هذا الهدف ، كما وضح أمام خصومه ، بحيث لم تعد المعارك التي تنشب بينه وبينهم مجرد نزاع على منطقة ، أو خلاف على توسيع رقعة الأرض التي يبسط سلطانه عليها ، كما كان الشأن حين كانت شبه الجزيرة مقسمة بين القبائل والأمراء والقوى الأجنبية ، بل أصبح عبد العزيز آل سعود - حتى في نظر خصومه- يقاتل من أجل هدف أسمى ، وهو الوحدة التي تجمع القبائل والمناطق والأراضي التي تخضع للنفوذ الأجنبي ، حتى وإِن كان من خلال الشيوخ أو الأمراء ، ولذلك قاتل عبد العزيز الأمراء الذين كان التشتت ، والتشرذم يضمن مصالحهم ، وقاتل الأتراك بهدف التخلص من سيادتهم على بعض المناطق في شبه الجزيرة ، وقاتل عملاء الأجنبي أيَاَ كان .(1/129)
وبقدر ما كان الهدف دينياً وطنياً كانت المعارك التي خاضها عبد العزيز آل سعود ، وكانت سياسته في التعامل مع الخصوم الذين كانت مصالحهم تتفق مع الفرقة والتجزئة والتشرذم في قبائل ومناطق ، والذين كانت تبعيتهم للغير تفرض هذا الواقع ، وتنميه ، بهدف الحفاظ على موقعهم ، أو نفوذهم في شبه الجزيرة .
واجه الملك صوراً من العصيان والتمرد والنكث بالعهود من البعض ، ولكن ذلك- في نظرنا- كان من اليسير على عبد العزيز آل سعود أن يقضي عليه ، على الرغم من شدة المواجهة أحيانَاَ ، لقد كان سلطانه ، مستقراً ، وكان في هذه المواجهات يفرض الأمن في المناطق التي يبسط عليها سلطانه ، ويتولى مسؤولية رعاية أهلها وضمان أمنهم ، وكان في الوقت نفسه- وبواسطة التشدد في فرض الأمن في كل منطقة يبسط عليها سلطانه- يقوم بأهم إِصلاح اجتماعي في شبه الجزيرة ، وهو تحويل القبائل المتناثرة والمتنافرة والتي تعيش على الغارة والسلب والنهب فيما بينها ، أو على الآخرين ، إِلى مجتمع مدني موحد ، قابل للنمو والتقدم .(1/130)
لقد كانت هذه فكرة الملك من إِنشاء تجمعات للاستقرار والحرث والزرع ، حتى لا يكون عيش القبائل اعتماداً على قدرتها على الغارة والسلب والنهب .
* لقد خاض الملك معارك عديدة في أنحاء شبه الجزيرة في الشرقّ والشمال والجنوب والغرب ، وأصبح سلطاناً على نجد ، وضم الأحساء وحائل وعسير وجازان ونجران ، وصار ملك الحجاز ، وبذلك تكونت جغرافياً وسياسياً المملكة العربية السعودية .
* بينما كانت المملكة تنشأ في ظل الوحدة والاستقلال عن النفوذ الأجنبي ، كانت بلاد العرب في العشرينيات من القرن الميلادي العشرين تعاني من فقد الاستقلال ، ومن سيطرة الأجنبي البريطاني والفرنسي في الغالب ، كانت مصر تحت الحماية البريطانية ، والعراق تحت إِدارة عسكرية بريطانية ، ووضعت سوريا ولبنان تحت الإِدارة الفرنسية ، وفلسطين ، وشرقّ الأردن تحت الإِدارة البريطاني .
وكانت إِمارات الخليج العربي ، وجنوب الجزيرة ، والكويت ، والبحرين ومسقط ، خاضعة للنفوذ البريطاني ، وليست الدول العربية في شمال إِفريقيا بأحسن حالاً .(1/131)
وعلى الرغم من ثورة العرب ضد الأتراك سنة 1335هـ (1916م) بقيادة الشريف حسين ، طمعاً في استقلال البلاد العربية ، فإِن بريطانيا وفرنسا تقاسمتا هذه البلاد بمقتضى اتفاقية سايكس بيكو سنة 1335هـ (1916م) ووضعت الاتفاقية موضع التنفيذ في سنة 1337هـ (1918م) بعد انتهاء الحرب ، وفي مؤتمر الصلح سنة 1339هـ (1920م) تقرر أن تقوم الدول القائمة بالانتداب بالعمل على تنفيذ وعد بلفور بإِنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين ، بعد أن أعطى من لا يملك وعداً لمن لا يستحق .
* في عام 1349هـ (1930م) كانت المملكة المستقلة الموحدة التي أقامها الملك عبد العزيز - رحمه الله- تشمل غالب شبه الجزيرة ، وكانت من أكبر الدول العربية مساحة ، تضم كياناً بشرياً متميزاً ، وأصبحت أقوى الوحدات السياسية القائمة في شبه الجزيرة العربية ، وفي جنوب غرب آسيا ، وفي المملكة صور من المناخ ومن التضاريس متنوعة ومتباينة ، وفي أرضها مناطق للزراعة وللتعدين .(1/132)
وبإِيجاز كانت المملكة التي أقامها الملك عبد العزيز بفضل الله ، ثم بجهده وجهاده ، أكبر دولة مستقلة وموحدة في البلاد العربية ، وبذلك كان جهد الملك محققاً للاستقلال ، فضَلاَ عن الوحدة السياسية في شبه الجزيرة .
* وبعد سنوات الكفاح الطويلة والمريرة ، وبعد معارك عديدة ، وانتصارات ، ونكسات ، واجهها الملك عبد العزيز آل سعود بحزم وعزم ، تم له النصر بفضل الله ، واجتمع الرأي على اختيار اسم موحد للدولة ، هو : " المملكة العربية السعودية " ، وصدر بذلك أمر ملكي بتاريخ 17 جمادى الأولى سنة 1351 هـ (19 / سبتمبر / 1932م) ، وبدأ عصر جديد في المملكة ، له أصداؤه البعيدة في العالم العربي ، والإِسلامي .(1/133)
تحكيم الشريعة الإسلامية
{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }
( المائدة 44 )
{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
( المائدة 45 )
{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }
( المائدة 47 )
{ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ }
( المائدة 49)(1/134)
* منذ أن أقام الملك عبد العزيز المملكة العربية السعودية ، وهي تتميز بخط واضح في نظامها وفي تشريعها ، وفي مسيرة حياتها ، فهي دولة إِسلامية متمسكة بالعقيدة والشريعة في كل مجالات حياتها وعملها ، عربية الموطن والقوم واللسان ، وأرض المملكة هي أرض الإِسلام الأولى ، ففي مكة المكرمة والمدينة المنورة - حرسهما الله- يقوم الحرمان الشريفان ، الحرم المكي والحرم المدني . والشعب السعودي كله وعن بكرة أبيه شعب مسلم عربي ، ولا يخفى الارتباط القائم بين الإِسلام والعروبة ، إِذ شرف الله العرب بأن يكون كتابه بلغتهم ، وأن يكون خاتم أنبيائه ورسله منهم ، وأن يكون ذكرهم في كتاب الله حافزاً لهم على الارتفاع بأنفسهم ، حتى يكونوا نواة أمة الإِسلام ، وهي بنص القرآن الكريم خير أمة أخرجت للناس .
لقد عمل الملك عبد العزيز - رحمه الله- على ترسيخ الالتزام بالإِسلام عقيدة وشريعة في حياة المملكة .(1/135)
وفي كل مملكة تقام يختار الناس دستور حياتهم فيها ، وهذا ما كان عليه الحال في كل الممالك والبلاد في العصر الحديث ، ومازال ، ولكن الملك عبد العزيز على الرغم من إِدراكه لمتغيرات العصر التي نالت البلاد الإسلامية كلها تقريباً ، والتي حولت اتجاهها إلى المعاصرة والتحديث في دساتيرها وما تنص عليه ، كان يؤمن بأن بلاده لها دستور قائم ودائم وخالد ، هو كتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن هذا الدستور وحده هو الذي يضمن بقاءها ، ونموها ، وتقدمها . وكان إيمانه بذلك إِيمان الحاكم القوي والمؤمن القوي ، ولقد كان لذلك أثره الكبير في شعب المملكة ، فقد حماه الله من التردد بين اختيارات عديدة في حياته السياسية والاجتماعية ، وأسهم ذلك في توحيد فكر الشعب وتوجهاته ، بحيث ظل على توجهه الإِسلامي الوحيد ، آخذا بشريعة الإِسلام ، وقيمه الخلقية والاجتماعية ، وكان لإِيمان الملك ، وتصميمه على أن يكون كتاب الله ، وسنة نبيه دستور المملكة الدائم ، أعظم الأثر في استقرار المملكة سياسياً واجتماعياً ؛ إِذ لم تخدع المملكة بحركة التغريب التي انتشرت في البلاد الإِسلامية في القرن الرابع عشر الهجري ، وسادت في كثير من(1/136)
البلاد الإِسلامية مظاهرها الثقافية والاجتماعية ، مما كان له أثر سيئ في حياة المجتمعات الإِسلامية وهويتها الأصيلة ، وأدى في كثير من الأحيان إِلى تغلغل الغزو الثقافي في تلك المجتمعات إِلى جانب ما يمكن أن نسميه "الغزو الاجتماعي " الذي يتعلق بمظاهر السلوك ، التي يخل الكثير منها بمنظومة القيم الخلقية الإِسلامية .
* لقد حمى الله- بسبب جهاد الملك عبد العزيز - شعب المملكة من التردد بين التجارب السياسية والاجتماعية ، التي انتشرت في القرن الرابع عشر الهجري على المستوىالعالمي ، وتأثرت بها كثير من البلاد الإسلامية التي جعلت الغرب قبلتها ، ومصدر ثقافتها ، وقدوتها في التحضر والنمو ، ونجحت المملكة بفضل الله ، ثم بتصميم الملك- رحمه الله- على أن تكون نموذجَاَ حضارياً لدولة إِسلامية تحفظ عقيدتها ، وشريعتها ، وقيمها الاجتماعية المستمدة من الإِسلام ، ومن تراث العروبة الذي أقره الإِسلام .
وبهذا وضع الملك عبد العزيز الأساس القوي والمتين للدولة في نظامها وتشريعها ومبادئها ، وقيمها الاجتماعية والحضارية .(1/137)
* يبدو ذلك مسلماً لدى شعب المملكة ، ولدى الكثير ممن لهم بها صلة ، غير أننا نجد من المناسب أن نورد ما يدل على إِدراك الملك عبد العزيز - رحمه الله- لهذه الحقائق ، وتصميمه على أن يوجه بلاده الوجهة الصحيحة ، وأن يظل انتماؤها الإِسلامي ، هو وجهها الحقيقي الظاهر عقدياً ، واجتماعياً وثقافيَاَ ، على مر القرون .
* يقول الملك في إِحدى خطبه في المدينة النبوية :
"وإِن خطتي التي سرت ، ولازلت أسير عليها ، هي إِقامة الشريعة السمحة ، كما أنني أرى من واجبي ترقية جزيرة العرب ، والأخذ بالأسباب التي تجعلها في مصاف البلاد الناهضة ، مع الاعتصام بحبل الدين الإِسلامي الحنيف " (1) .
*ِ ومن خطبة له بمكة المكرمة :
" أنا بذمتكم ، وأنتم بذمتي ، إِن الدين النصيحة ، أنا منكم وأنتم مني ، هذه عقيدتنا في الكتب التي بين أيديكم ، فإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فردونا عنه ، واسألونا عما يشكل عليكم فهمه ، والحكم بيننا كتاب الله وما جاء في كتب الحديث والسنة " (2) .
_________
(1) الإمام العادل 2 / 122 ، مصدر سابق .
(2) صقر الجزيرة ص891 ، مصدر سابق .(1/138)
* وقد أوضح الملك عبد العزيز في أول بلاغ رسمي وجهه إِلى أهل الحجاز : "أن القرآن الكريم والسنة النبوية ، وما أقره علماء الإِسلام بطريق القياس ، أو الإِجماع ستكون مصادر التشريع " .
وقد نشر ذلك في جريدة أم القرى في 15 / 5 / 1343 هـ (1924م) .
كما سعى الملك إِلى توحيد مصادر الأحكام بتوحيد المذهب ، وذلك بعدة خطوات ، وعقد اجتماع للعلماء من نجد ومكة المكرمة ، واتفق فيه على وقف العمل بالقوانين التي تخالف الشرع (1) .
وكان الملك يدرك ما هو مسلم من أن مذاهب المسلمين المعتبرة ترجع جميعا إِلى الكتاب والسنة ، وظل العمل في المحاكم فترة معينة على عدم التقيد بمذهب واحد ، بل تقضي المحاكم بحسب ما يظهر لها من أي المذاهب كان ، ولا فرق بين مذهب وآخر ، ثم صدر أمر ملكي في 24 / 3 / 1347هـ (1928م) على أن مجرى القضاء في جميع المحاكم منطبق على المفتى به من مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، نظراً لسهولة مراجعة كتبه ، والتزام المؤلفين من بعده بذكر الأدلة . أما إذا وجد مشقة في تطبيق الحكم على المذهب الحنبلي ، أو كان في مخالفته مصلحة عامة ، نظر في المذاهب الأخرى (2) .
_________
(1) تنظيمات الدولة في عهد الملك عبد العزيز ، للعقيد الدكتور إبراهيم العتيبي ، ص222 ، الطبعة الأولى 1414هـ .
(2) المصدر السابق ص225 .(1/139)
* وقد جاء اعتماد الملك عبد العزيز الشريعة الإِسلامية أساساً لحكمه ، سبيلاً إِلى أقوم الطرق ، وأصلحها لحكم البلاد ، فأراحها من التخبط في الأنظمة المحدثة التي تخبط فيها غيره (1) من القادة أو الزعماء الذين حاولوا تقليد الغرب في نظمه السياسية والاجتماعية ، فكان أن ابتعدوا عن الإِسلام ، وفشلت تجاربهم كلها على مستوىالعالم العربي والإِسلامي .
* وإِذا كانت الإِمامة رياسة تامة ، وزعامة عامة ، تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا ، كما ذكر الجويني في كتابه " غياث الأم " (2) فإِن الملك عبد العزيز طبق ذلك في سيرة حياته كلها .
_________
(1) يوم وملك ، للدكتور عبد العزيز الخويطر ص47 ، الطبعة الأولى 1418هـ .
(2) ص15 .(1/140)
فقد بويع بالإِمارة منذ استعادته الرياض سنة 1319 هـ (1902م) ، وبويع بالإِمامة سلطاناً على نجد ، ثم تمت له البيعة ملكاً على الحجاز ، وذلك في اجتماع حاشد يوم الجمعة 23 جمادى الآخرة سنة 1344 هـ (1926 م) ، وتليت بيعة الملك على الناس بعد صلاة الجمعة قرب باب الصفا ، وقبلها الملك ، وبعد ذلك بعام ، أي في سنة 1345 هـ (1927م) ، اجتمع عدد كبير من العلماء وأعيان البلاد وزعماء القبائل ، ورجوا من سلطان نجد وملك الحجاز ، أن يكون لقبه : ملك الحجاز ونجد وملحقاتها ، فقبل ذلك ، وتقرر فيما بعد دمج الكلمتين في الاسم حيث أصبح : " المملكة العربية السعودية " وصدر بذلك- كما سبق- أمر ملكي في 17 جمادى الأولى سنة 1351 هـ الموافق 1351 هـ الذي يوافقه الأول من الميزان (23 سبتمبر) يوماً لإِعلان توحيد المملكة (1) .
وفي جميع مراحل حياة الملك منذ أن تم له دخول الرياض ، كان يبايع بالإِمارة والإِمامة العامة ، وكان إِلى جانب ذلك يحظى دائماً- لما حباه الله به من ميزات- بالزعامة العامة للناس .
_________
(1) تطور الحكم والإدارة في المملكة ، لمحمد توفيق صادق ، نقلا عن جريدة أم القرى ، العدد406 في 22 / 5 / 1351 هـ .(1/141)
وهكذا أسس عبد العزيز آل سعود إِمارته ، وإِمامته ، وسلطانه ، وملكه على قواعد الشريعة وأحكامها ، دون أن يقلد أي نظام من النظم التي سادت في البلاد العربية والإِسلامية التي ابتليت بالاستعمار الغربي ، والغزو السياسي ، والثقافي ، والاجتماعي .
* ومازالت المملكة- منذ أن أقامها الملك عبد العزيز آل سعود إِلى الآن- تجعل الكتاب والسنة دستورها ، والشريعة الإِسلامية قانونها الأساسي ، وقد استقر ذلك في نفوس حكامها وشعبها ، فاستقرت سياستها العامة في جميع شؤونها ، وتمتع مجتمع المملكة بالاستقرار الاجتماعي والثقافي منذ عشرات السنين ، وهو ما يميز المملكة عن غيرها من البلاد الإِسلامية والعربية حتى الآن ، مصداقاً لقول الله تعالى : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } ( طه 123 ) .(1/142)
الأمن
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } ( البقرة 126) . 50 * إِذا كان الأمن مطلباً ضرورياً لكل مجتمع إِنساني ، ولكل نظام سياسي ، فإِنه في المملكة العربية السعودية ضرورة لحياة شعبها ، واستقراره ، ورغده ، وفي أرض الحرمين الشريفين واجب ديني ، لتسهيل وصول الحجاج إِلى بيت الله الحرام ، ولضمان سلامتهم وراحتهم ، حتى يؤدوا مناسكهم ، ويعودوا إِلى بلادهم .
وقد كان الملك عبد العزيز آل سعود يدرك ذلك ، ويعيه منذ دخوله الرياض ، وكان ذلك المفهوم الإِسلامي الصحيح ، غامضاً أو غائباً عن أمراء عصره من خصومه الذين ناجزهم ، ولم يكن تحقيق الأمن هدفاً لخصومه ، أو غاية لأتباعهم الذين واجههم الملك عبد العزيز في معاركه العديدة .
لقد كانت الغارة ، والسلب ، والنهب من وسائل العيش ، وكسب الرزق لدى كثير من القبائل التي تعيش في الجزيرة العربية ، ولم يكن الأمن متوفراً في أرض الحرمين الشريفين ، لأهلها ، ولا لحجاج بيت الله الحرام ، وكان اختلال الأمن سمة من سمات العيش ، وخطراً من مخاطر أداء فريضة الحج .(1/143)
* في منشور صادر عن الملك عبد العزيز - رحمه الله- :
"إِن البلاد لا يصلحها غير السكون ، إِنني أحذر الجميع من نزغات الشياطين ، والاسترسال وراء الأهواء التي ينتج عنها إِفساد الأمن في هذه الديار المقدسة ، فإِنني لا أراعي في هذا الباب صغيراً ولا كبيراً " (1) .
وكان من أهم الأعمال التي اهتم بها الملك في بداية حكمه في الحجاز تنظيم الشرطة بتكوين لجنة لهذا الغرض ، وضعت قواعد لعمل الشرطة ، وتنظيمها ، ومحاسبة جنودها ، صدرت في 29 / 1 / 1344 هـ (2 / 8 / 1925 م) .
وتعتبر هذه التعليمات أقدم تنظيم رسمي لأعمال الشرطة في عهد الملك عبد العزيز ، وتطور نظام الشرطة بمقتضى مراسيم ، وأوامر ملكية أعوام 1345 و 1346 و 1349هـ (2) .
وقد استحدث في عام 1369 هـ (1950م) بمقتضى الأمر الملكي ذي الرقم 3594 في 29 / 3 / 1369 هـ نظام للشرطة ، يتكون من 422 مادة ، وهو نظام شامل ومفصل ، يتضمن تحديد الواجبات ، والإجراءات بكل وضوح ، مما يقلل من وقوع الأخطاء ، أو التجاوزات .
وأُنشئت سنة 1354 هـ (1935 م) مدرسة للشرطة بمكة المكرمة ، ثم نقلت إلى الرياض سنة 1385 هـ (1695م) وتحولت إِلى كلية للشرطة (3) .
_________
(1) الوجيز ص90 مصدر سابق .
(2) تنظيمات الدولة في عهد الملك عبد العزيز ، ص429 ، مصدر سابق .
(3) المصدر السابق ص435 .(1/144)
ومما تقدم يتضح أن تنظيم الشرطة في المملكة قد استكمل بنيانه في عهد الملك عبد العزيز ، مما يدل على اهتمام الملك بأول ما كان يهم المواطن ، والزائر لبيت الله الحرام من حاج أو معتمر ، وقد كان الأمن هو الشاغل الأول لحجاج بيت الله ، وللدول التي يقدمون منها قبل عهد الملك عبد العزيز .
* لقد كان إِدراك الملك - رحمه الله- لمفهوم الأمن واسعاً وسابقاً في عصره . يقول الملك في إِحدى خطبه بمدينة الطائف سنة 1351 هـ (1932م) :
" أحذركم من أمرين :
الإِلحاد في الدين ، والخروج عن الإِسلام في هذه البلاد المقدسة ، فوالله لا أتساهل في هذا الأمر أبداً ، ومن رأيت منه زيغاً عن العقيدة الإِسلامية ، فليس له من الجزاء إِلا أشده ، ومن العقوبة إِلا أعظمها .
والأمر الثاني : السفهاء الذين يزين لهم الشيطان بعض الأمور المخلة بأمن البلاد ، وراحتها " (1) .
_________
(1) الإمام العادل 2 / 135 مصدر سابق .(1/145)
كان عصر الملك زاخراً بالعديد من الآراء ، والأفكار ، والمذاهب ، والنظريات السياسية والاجتماعية والاقتصادية . وكان الأمن- في إِدراك الملك ، ومفهومه - يتسع لحماية البلاد من ضرر هذه الأفكار ، والمذاهب التي تتعارض مع الأساس المتين الذي قامت عليه المملكة ، وهو الإِسلام وشريعته ، وبسبب هذا المفهوم الواسع للأمن حمى الله المملكةّ ، وشبابها من الوقوع في دائرة التخبط ، والتفرق ، والانقسام المذهبي والفكري والثقافي ، وهو الأمر الذي حدث في كثير من بلاد المشرق ، والمغرب العربي في ثّقافتها وحياتها الاجتماعية .
* ولم يكن الدفاع عن المملكة غائبَاَ عن الملك عبد العزيز ، فقد كان جيش الملك الذي يعتمد عليه في معاركه ، مكوناً أول الأمر من أتباعه المخلصين ، من المجاهدين الذين كانوا على ولاء كامل للملك من الحاضرة والبادية .(1/146)
وفي 6 / 6 / 1344هـ (22 / 12 / 1925م) بدأ الملك بوضع الأسسِ لإِنشاء القوات النظامية العسكرية ، فتكونت القوات البرية والجوية بناءَ على المستحدث في قواعد الحروب الحديثة ، وتوحدت جميع الدوائر العسكرية تحت رئاسة قائد عام . وأنشئت رئاسة الأركان عام 1358 هـ (1939 م) ووحد الزي العسكري ، وأنشئت وزارة الدفاع في 5 / 11 / 1362هـ (0 1/ 11/ 1943م) . وقد تشكلت قوات الطيران بأمر ملكي سنة 1344 هـ (1925 م) ، وتطورت إِدارة خفر السواحل؛ لتصبح القوات البحرية (1) .
* مما تقدم - على إيجازه الشديد- يتضح أن الدفاع عن المملكة ، وحمايتها من الأطماع كان شاغلاً للملك عبد العزيز ، وأنه استطاع بتوفيق الله ، ثم بحكمته في إِدارة شؤون البلاد ، أن يضع الأساس لجيش المملكة من قوات برية ، وجوية ، وبحرية .
_________
(1) المصدر السابق 421- 422 .(1/147)
ولقد كان إِنشاء الجيش في هذا الوقت المبكر ، ومع توحيد المملكة له أثره الاجتماعي الكبير ؛ إِذ تحول الانتماء من القبيلة إِلى المملكة بنظامها الإِسلامي القائم على كتاب الله سبحانه وتعالى ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، مما أسهم في توحيد الولاء ، فضلاً عن التزام الدولة بكل نفقات المقاتل ، وبكل ما يستلزمه تسليحه ، وتدريبه من نفقات .
* ولاشك أن الانتقال من عصر استقلال المقاتل بنفسه إِلى عصر الجيوش الحديثة وما توفره من انضباط ، وولاء ، وقدرة عسكرية تحمي المملكة ، قد استغرق جهداً عظيماً ، ولكن مما يلفت النظر أنه تم بيسر وسهولة في عصر الملك عبد العزيز ، رحمه الله .
* لا ينكر أحد أن عهد الملك عبد العزيز - رحمه الله- كان عهد أمن للمواطن في المملكة ، ولحجاج بيت الله الحرام ، وزوار الحرمين الشريفين .
لقد كتب الكثيرون عن الأمن ، وكيف تحقق في ربوع المملكة في عهد الملك عبد العزيز ، فلم يعد هناك طوائف من الناس ، تتعيش بالغارة والسلب والنهب من غيرها ، أو من حجاج بيت الله .(1/148)
لقد كانت يد الدولة قوية إِلى الحد الذي غيرت فيه من سلوك مجتمع بأسره ، كان يعتبر البعض منه الغارة ، والسلب ، والنهب ، سبيلاً إِلى الارتزاق والمغانم ، وهو مجتمع بعض القبائل بعاداتها ، وأعراقها وتقاليدها ، والذي صار- بتوفيق الله ، ثم بجهد الملك ، وفكره السابق لعصره- مجتمع القرية والمدينة ، حيث يكون العمل وسيلة لكسب العيش ، والعمل الصالح وسيلة للرقي الاجتماعي .
ولا نريد أن نفصل في ذكر حال الأمن قبل أن تتوحد المملكة في عهد الملك عبد العزيز ، وعلى يده ، وبجهده ، فإِن اضطراب الأمن ، وكثرة العدوان والسلب والنهب قبل عهده ، أمور ليست في حاجة إِلى دليل .
استطاع الملك- رحمه الله- أن يحول عادات التقاتل والغارات والسلب والنهب إِلى فروسية وجندية في مملكة موحدة ، ولم يكن ذلك أمراً يسيراً ، فقد عمد الملك إِلى تحضير البدو ، وحثهم على الاستقرار ، ويسره لهم بما قدمه من أدوات الزراعة ووسائل الري ، وأكرم شيوخ القبائل ، حتى يبثوا في الناس المفاهيم الجديدة التي أراد الملك أن ينقلوها إليهم .
وهذا قليل من كثير مما فعله الملك عبد العزيز ، ولا يعلم إِلا الله وحده كم اقتضاه ذلك من عمل وجهد ، جزاؤه عند الله وحده .(1/149)
الشورى
{ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ } ( الشورى 38 )
* تميز الملك عبد العزيز - رحمه الله- بحس إِسلامي قوي ، كان هو الدافع الأساسي لكل أعماله الكبرى وإِنجازاته ، ولم تكن الشورى بعيدة عن فكره باعتباره حاكماً لدولة إِسلامية وملكاً مسلماً ، والميزة التي انفرد بها الملك عن سائر حكام المسلمين في عصره ، أن فكرة الشورى ظلت إِسلامية الأصل ، فلم تختلط عند الملك بالأنظمة الغربية التي سادت في البلاد الإِسلامية الأخرى .
لقد كانت كلمة " الديمقراطية " في كثير من البلاد الإِسلامية ، ولدى حكامها ، وقادتها ، وذوي الرأي فيها ، كلمة رائجة وذائعة ، أيَاَ كان حظها من التطبيق الفعلي ، ولكنها في المملكة لم تكن على ذلك القدر من الذيوع ، والانتشار ، والرواج .
لقد كانت الشورى هي الأصل الذي تمسك به الملك عبد العزيز دون أن يبحث عن بديل ، ولاشك أن فكر الملك لم يتجه- في أي قاعدة من قواعد الحكم في المملكة- إِلى الاستمداد من غير الكتاب ، والسنة .
وقد وردت الشورى قاعدة إِسلامية في موضعين في القرآن الكريم :(1/150)
الأول في قول الله تعالى : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } ( آل عمران 159 ) والثاني في قول الله تعالى : { وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } ( الشورى 38 ) .
كما وردت أحاديث تدل على عمل الرسول صلى الله عليه وسلم بمقتضى الشورى ، وحثه على ذلك ، كما في غزوة بدر ، وقصة خروجه صلى الله عليه وسلم إِلى غزوة أُحد .
وليس المجال هنا للتحدث عن الشورى باعتبارها أساساً من أسس الحكم في الإسلام ، يتميز عن سائر النظم التي ابتدعها البشر ، وإِنما الحديث عن الشورى في عهد الملك عبد العزيز .
* لقد كانت شخصية الملك ، وسجاياه مؤهلة لكي يكون عاملاً بحكم الشورى منذ بداية إِمارته ، وسلطانه ، وملكه .
كان أبعد ما يكون عن الاستبداد بالرأي ، وأقرب ما يكون إلى الاستعانة بمشورة المخلصين له من عماله وأتباعه ، وأحرص ما يكون على إِقامة العدل بين الناس .
ومن كانت هذه سجاياه ، فإِن الشورى عنده تعد عوناً على الخير ، وطريقاً إِلى الصواب ، ولذلك أقام الملك عبد العزيز ملكه على الشورى ، حتى قبل أن تقوم لذلك مؤسسات وهيئات .(1/151)
وحينما تولى الأمر في الحجاز اختار أشخاصاً من ذوي الدين والسمعة الطيبة ؛ ليؤلف منهم مجلساً استشارياً سنة 1344 هـ (1925م) أطلق عليه المجلس الاستشاري برئاسة نائبه الأمير فيصل ( الملك فيصل رحمه الله) وهو المجلس الذي تعدل اسمه فيما بعد إِلى مجلس الشورى سنة 1345 هـ (1926 م) (1) .
وقبل أن يقوم مجلس الشورى ، وتتحدد اختصاصاته ، كان العمل في عهد الملك عبد العزيز يجري على المشورة التي يطلبها ولي الأمر من مستشاريه ، وكثيراً ما كوّن الملك لجاناً لبحث موضوع ، أو للتحقيق في ظلامة فردية من أحد رعاياه ، وكان الملك كثير الاستشارة للعلماء فيما ينوب من أمور ، وكان- رحمه الله- يجمع ذوي الرأي والمشورة ، وأهل الحل والعقد في المناسبات المهمة ، بل ويغضب الملك إِذا لم يجد في هؤلاء ما يتوقعه من جرأة وصدق في إِبداء الرأي والمشورة .
يروي أحد خواص الملك أنه خالف رأي الأغلبية الذين استشارهم الملك ، فأخذ الملك برأيه ، ولكنه حين تبين له أن الصواب في رأي أغلبية المجلس ، لم يستنكف الملك أن يرسل إِلى المجلس بالعدول عن رأيه الأول (2) .
_________
(1) الوجيز 162 ، مصدر سابق .
(2) الإمام العادل 2 / 61 مصدر سابق .(1/152)
* وقد افتتح الملك عبد العزيز مجلس الشورى عام 1349 هـ في دورته الجديدة ، وكان المجلس قد تأسس بمقتضى التعليمات الأساسية للمملكة الصادرة في بداية عام 1345 هـ (1926م) وكان قوام المجلس ثمانية أعضاء ، ثم ارتفع عدد أعضائه ، ووسعت اختصاصاته ، فكان قوامه في عام 1369 هـ (1950 م) ثلاثة عشر عضواً ونائبين للرئيس ؛ عدا السكرتير والسكرتير المساعد .
وقد نبه نائب الملك إِلى اختصاصات المجلس في خطاب الافتتاح : بأنها القيام بما عليه من توجيهات ، وإقرار ما يلزم لتقدم الأمة ، ومراقبة ما ينفذ وما لا ينفذ ، وملاحظة ما تقصر عنه الأنظمة والقرارات ، وبسط نائب الملك أمام المجلس سياسة الحكومة في مجالات عملها ، وأنشطتها داخلياً وخارجياَ (1) .
* وعلى الرغم مما كان يمتاز به الملك عبد العزيز من أصالة الرأي وعمق التجربة ، فإنه كان يستشير ذوي الرأي والحكمة ، عملا بكتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
_________
(1) تنظيمات الدولة ص149 , والإمام العادل 2 / 127 ، وتطور الحكم والإدارة في المملكة ص35 وما بعدها ، مصادر سابقة .(1/153)
ولم يكن إِنشاء مجلس الشورى إِلا استجابة لما درج عليه الملك في تناول الأمور العامة ، وقد كانت اختصاصات المجلس بحسب الأمر الصادر بإنشائه عديدة ومتنوعة ، تشمل مصالح البلاد كلها ، فهو ينظر في ميزانية دوائر الحكومة والبلديات والمرافق العامة ، ويعطي الترخيص للعمل في المشاريع الاقتصادية والعمرانية ، وينظر في نزع الملكية للمنفعة العامة ، ويضع الأنظمة ، ويقر استخدام الأجانب ، وينظر في العقود مع الشركات والتجار لمستلزمات الحكومة ، ويميز مقررات مجلس التأديب والصكوك الصادرة من المحاكم التجارية .
ويتفرع عن المجلس لجان عديدة ، مثل لجنة الأنظمة ، ولجنة النظر في الشؤون المالية ، ولجنة النظر في الشؤون الإِدارية ، ولجان أخرى تحددت اختصاصاتها .(1/154)
والناظر إِلى المجلس بحسب ما ذكرناه من اختصاصاته ولجانه ، يدرك أنه لم يكن مجرد مجلس استشاري ، بل كان- على الأرجح- مجلساً يجمع بين اختصاصات عديدة ، بعضها تنفيذي ، وبعضها قضائي ، فضلاً عن النظر في الأنظمة ، ومراقبة التنفيذ والأداء الحكومي والإِداري ، وهي اختصاصات واسعة ، تتجاوز ما درج عليه العمل في النظم الغربية ، وربما يرجع ذلك إِلى أن الملك عبد العزيز - رحمه الله- كان يتجه إِلى الاستمداد من الشرع الإِسلامي- الكتاب الكريم والسنة والنبوية- ولم يلتفت إِلى ما درجت عليه غالب البلاد الإِسلامية فيِ عصره ، من النظر إِلى التجارب السياسية في الغرب ، واعتبارها معياراَ للصواب ، ونبراساً في العمل ، وقد كان ذلك واضحاً في خطاب افتتاح الملك لمجلس الشورى عام 1349 هـ (1930 م) ، فقد ذكر الملك بكل صراحة ووضوح :
" لقد أمرت ألا يسن نظام في البلاد ، ويجري العمل به ، قبل أن يعرض على مجلسكم من قبل النيابة العامة ، وتنقحوه بمنتهى حرية الرأي " (1) .
ويقول الملك في نفس خطاب الافتتاح :
_________
(1) تنظيمات الدولة ص153 ، والإمام العادل 2 / 127 ، مصدران سابقان .(1/155)
" الضرر كل الضرر في السير على غير الأساس الذي جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم " (1) . ونجد في خطاب افتتاح دورات المجلس عام 1367 هـ (1948م) و 1369هـ (1950م) . برئاسة نائب الملك ، المعاني نفسها التي أشرنا إِليها ، والتي تفيد حقيقتين :
أولاهما : أن الإِطار العام في النظام السياسي ، وسلطات الدولة كلها ، هو الشرع الإِسلامي .
وثانيتها : أن اختصاصات المجلس ، وما ينظر فيه ، تكفي تماماً لتحقيق مبدأ الشورى ، وبعض اختصاصاته لا تملكها المجالس التشريعية في النظم السياسية المعاصرة ، وفي عصر الملك عبد العزيز - رحمه الله- مما يؤكد أن المملكة في عهده كانت تستمد أنظمتها ، وأحكام مؤسساتها من قواعد الشريعة ، دون اتباع غيرها ، أو تقليد سواها من النظم المعاصرة .
_________
(1) الإمام العادل2 / 127 .(1/156)
التنمية في
عهد الملك عبد العزيز
{ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا } ( إبراهيم 34 )
* لا يعرف كثير من هذا الجيل من شباب المملكة العربية السعودية ، صورة دقيقة لما كانت عليه بلادهم قبل عشرات السنين ، فالصورة الرائعة اليوم قد لا تدع مجالاً لاستدعاء تلك الصورة التي تحمل أكبر قدر من المعاناة وصعوبة العيش ، والتي كانت تنال مشقاتها كل من يعيش على أرض المملكة . بل نالت أولئك الأبطال الذين قادوا المملكة عشرات السنين إِلى فجر نهضتها بعد ليل طويل .
لقد كانت صعوبة العيش ، وقسوة الحياة قدراً أصاب أهل شبه الجزيرة العربية ، عانى منه الآباء والأجداد أشد المعاناة ، وأثر في العقول والنفوس والأبدان ، ولم تتغير هذه الصورة إِلا منذ عشرات السنين فحسب ، وكان من فضل الله أن أشرق فجر النهضة على يد الملك عبد العزيز ، رحمه الله .
وفي الكتب والمحفوظات وثائق عديدة تكشف عن زهد الملك ، وقناعته ، وعدله ، وفيما يتناقله كبار السن ممن عاشوا تلك الفترة الكثير من صور المعاناة وألوانها .(1/157)
* لن نفصل في ذكر ما كان يلاقيه الملك عبد العزيز من مشقات الحياة التي أصابته ، وهو في ميعة الصبا ، خارجاً من مقر إِمارة آبائه وأجداده- الرياض - مع أبيه الإِمام عبد الرحمن الفيصل آل سعود ، الذي عاش سنوات في الكويت بعد فترة قضاها ، يبحث عن مكان آمن له ولأسرته وابنه الأمير عبد العزيز .
عاش عبد العزيز حياة البادية على ما فيها من مشقة ، ثم انتقل إِلى الكويت ، وهو في مطلع شبابه ، ولم ينس إِمارة آبائه وأجداده في الرياض ، وكان همه وشاغله وأمله أن يعود إِليها ، وقد عاد في يوم أغر في الخامس من شوال سنة 1319هـ 15 / 1 / 1902 م) .(1/158)
* لم يكن في حياة الملك عبد العزيز - حتى بعد دخوله الرياض - ما يغري بالراحة والدعة والتمتع بالإِمارة والسلطان ، ومن فضل الله على الملك أن سجاياه كانت تأبى هذا النمط من الحياة ، كما أن همته العالية ، ونفسه الكبيرة كانت تصرفه دائماً عن صغائر الأمور ، وقد ظل كفاح الملك ونضاله ، حتى تم توحيد المملكة خلال عشرات السنين ، وفي أثناء هذا الكفاح والنضال المستمر ، واجه الملك من مشاق الحياة وقسوتها ، ما يعجز عن تحمله أحد من رعايا مملكته الواسعة في حياته على صورتها اليوم ، وهي الحياة التي أشرق فجرها على يد عبد العزيز آل سعود .(1/159)
* لم يبحث الملك بعد أن دانت له المملكة كلها عن الثروة ، ولم يشغل نفسه بها ، ولكنها أتته فضلاً من الله ونعمة ؛ إِذ كان الملك يظن أن بلاده ليس فيها الكثير من منابع الخير ، ولقد رحب بأن يعطي امتياز كشف الزيت في المنطقة الشرقية لأحد المغامرين ، وهو الميجور هولمز من نيوزلندة ، لمدة سبعين عاماً ، لقاء مبلغ زهيد (ألفي جنيه ذهبي) ، وكان الملك يظن أنه ربح في الصفقة . ولكن من حسن الحظ أن الرجل ، ومن وراءه لم يهتموا الاهتمام الكافي بالتنقيب عن الزيت ، وتوقفوا عن العمل ، بينما لم يدفعوا ما التزموا بدفعه ثلاث سنوات ، وانتهى الأمر ، وتوقفوا عن العمل عند هذا الحد . ولعل ذلك كان من فضل الله على الملك ، والمملكة .
* وكان الملك في حاجة إِلى المال ، وهو يشرع في النهوض ببلاده ، وبناء مملكته ، واتصل به أحد الأمريكيين الكبار ( تشارلز كرين ) ، وعرض عليه صفقة الكشف عن الزيت ، وانتهى الأمر بأن أعد تقريراً عن وجود الزيت في الظهران ، ونجد ، والأحساء ، وعرض التقرير على الحكومة البريطانية - بتوجيه من الملك- مع أن من اكتشف وجود الزيت من الأمريكيين .(1/160)
ويقول محمد المانع : إِن البريطانيين لم يهتموا بالعرض ، ويعلل ذلك بالغباء (1) . وحصل الأمريكيون على امتياز التنقيب عن البترول في المملكة بعد مداولات ومفاوضات .
وكان أول ما بدأت به الشركة الأمريكية في المنطقة الشرقية نظير مبلغ ثلاثين ألف جنيه ذهبي في دفع مقدماً ، وعشرين ألفاً تدفع خلال ثمانية عشر شهراً ، فضلاً عن إِيجار سنوي مقداره خمسة آلاف جنيه ، وشمل الاتفاق غير ذلك من الشروط ، ووقع في شهر محرم 1352 هـ (مايو سنة 1933 م) ، وبدأ عصر الزيت السعودي ، الذي مازال بفضل الله ممتداً وموصولاً ، لخدمة المملكة ، وخدمة الأمة الإِسلامية كلها .
* لقد وجد الملك عبد العزيز - رحمه الله- في الثروة التي بدأت تتدفق من البترول أداة يسرها الله له للتنمية والتحديث في المملكة .
لقد كان ذلك شغله الشاغل ، وخاض معارك عديدة من أجله ، لقد توحدت المملكة ، وتوحد شعبها ، وبدأ تأثيرها ونفوذها بين العرب وعلى المستوىالدولي ، وتنمية المملكة أصبحت الرسالة الأولى والأهم بعد توحيدها . وعلى قدر ما وفق الله الملك عبد العزيز في معاركه مع خصومه من أجل توحيد المملكة ، كان توفيق الله له في معركة التنمية والبناء .
_________
(1) توحيد المملكة ص301 ، ترجمة الدكتور عبد الله العثيمين ، الطبعة الأولى 1402هـ .(1/161)
كان الملك قد أسس المملكة ، وأقام الدولة ، ولكنه بعد تدفق الثروة بدأ التنمية والتحديث ، وفقاَ لمنهجه الثابت ، منهج الإِسلام .
*ِ بعد توحيد المملكة في دولة واحدة كان الشاغل الأكبر للملك عبد العزيز ، هو السير قدماً بتلك المملكة حتى تنال مكانها تحت الشمس . وقد كانت مكانة المملكة بوضعها الديني المتفرد في العالم ، وبوصفها بلاد الحرمين الشريفين في العالم الإِسلامي واضحة في فكر الملك .
وكان في صدر اهتماماته- بعد أن ولي أمر الحجاز - العناية بالحرمين الشريفين بمكة المكرمة والمدينة المنورة ، وإصلاح بيوت الله ، وتطوير المشاعر ، وتعميرها ، فقد أمر- رحمه الله- سنة 1362 هـ (1943 م) بإصلاح مساجد مكة وتعميرها ، وإصلاح ما يتعرض للخراب منها ، كما قام بتعمير المساجد والطرق في عرفات ومنى والمزدلفة ، على نفقته الخاصة (1) .
وكان- رحمه الله- يرمي من وراء تلك الإصلاحات إِلى تيسير فريضة الحج ، ورعاية حجاج بين الله الحرام .
_________
(1) الإمام العادل 2 / 85 ، مصدر سابق .(1/162)
كما أمر الملك إِثر دخوله الحجاز بأن تكون كسوة الكعبة من صنع المملكة ، وأسس مصنعاً لذلك سنة 1346هـ (1927م) ، وصنعت الكسوة في مكة المكرمة ، وصنع باب للكعبة ، وضع في مكانه في 15 من ذي الحجة سنة 1366 هـ (30 / 10 / 1947م) بحضور ولي العهد الملك سعود ، رحمه الله (1) .
وكان من خدمته لشعبه ، ووفود المسلمين إِلى البيت الحرام للحج ، أو العمرة إِيصاله الماء من عيون وادي فاطمة بواسطة الأنابيب إِلى جدة ، وقد تم ذلك في الخامس من محرم سنة 1367هـ (18 نوفمبر سنة 1947 م) ، وأنشئ في عهد الملك ، وبتوجيهه ، خزانات ضخمة للمياه ، فتيسرت السقيا للناس ، مما ساعد على تعمير مدينة جدة التي أصبحت في عهد الملك مدخلاً إِلى البيت الحرام ، وميناء إِسلامياً يخدم المملكة ، وشعبها (2) .
_________
(1) المصدر السابق .
(2) توحيد المملكة العربية السعودية ، وأثره في الاستقرار الفكري والسياسي والإجتماعي ، للدكتور محمد بن عبد الله السلمان ص85 الطبعة الأولى عام 1416هـ .(1/163)
* وفي سبيل تنمية الإِنسان وإِصلاحه كانت خدمة الملك عبد العزيز - رحمه الله- للدعوة إِلى الله تعالى ، حيث تعتبر من أهم علامات عهده وأشرف منجزاته . لقد دعا الملك بالقدوة ، وهي من أعظم الوسائل ، فحرِص- رحمه الله- على إِقامة واجبات الدين ، وكان سلوكه العملي ظاهراَ أمام الناس بما فيه من التزام الشريعة ، وأخلاق الإِسلام ، وقيمه ومثله ، وحياته اليومية كانت تبدأ بصلاة الفجر ، وتنتهي بصلاة العشاء ، وفي أسفاره كان يتوقف وقت الصلاة ، وكان- رحمه الله- يؤدي السنن الرواتب والنوافل ، ويقرأ قبل المغرب ورداً ، ويدعو لنفسه ووالديه بالرحمة والمغفرة عقب كل صلاة ، مما يشرف كل مسلم ، ويزيد شرفاً وعزة كل ملك وسلطان ، وقد أفاض معاصروه- رحمه الله- في ذكر تدينه وحرصه على أداء العبادات (1) .
وكان - رحمه الله - يحث العلماء على وعظ الناس ، وتعليمهم أمور الدين ، ويدعو الناس إلى الجلوس في مجالس الوعظ والإِرشاد ، كما كان يأمر بنسخ ما يعجبه من المواعظ وأقوال أهل العلم ، ويأمر بتوزيعها بين المسلمين (2) .
وقد أمر الملك بطبع كثير من كتب العلم والفقه ، كما كان يحتكم إِلى الكتاب والسنة فيما يقرره ، أو يأمر به .
_________
(1) ينظر مثلا : الإمام العادل 2 / 46 -51 ، مصدر سابق .
(2) الملك الراشد ص386 - 387 ، مصدر سابق .(1/164)
وقد جادل- رحمه الله- من كانوا لا يجيزون استخدام آلات وأدوات مما أنتجته الحياة المعاصرة ، مثل الهاتف واللاسلكي ، وكان جداله بالتي هي أحسن ، سواء في خطاب العامة أو العلماء .
وبلغ اهتمام الملك- رحمه الله- بأمور الدعوة أنه كان من أجلّ الدعاة إِلى الله ، وليس في ذلك أدنى مبالغة ، فعلى الرغم من مشاغل السلطان والملك ، فقد كان- رحمه الله- في أقواله وخطبه ونصائحه ، وتوجيهاته إِلى عماله يعظ الناس ، ويذكرهم بالتوحيد ، وأداء الفرائض ، والإِقبال على الطاعات ، والابتعاد عن المعاصي .
وكان في بعضِ الأحيان يصدرٍ منشورات ورسائل ملكية ، تتضمن وعظاً ، وإِرشاداً ، وتعليماَ للناس ، وتذكيرا لهم بما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم .(1/165)
ومثال ذلك المنشور الملكي الصادر من الملك إِلى : إِخواننا الحجازيين والنجديين ، وقد نشر في جريدة أم القرى في 3 من ذي القعدة سنة 1360هـ ( الموافق 31 من نوفمبر سنة 1941م ) ، وفي هذا المنشور تحدث الملك إِلى شعبه عن نعمة الإِسلام التي تدوم بدوام التمسك بالكتاب والسنة ، وأن ما دفعه إِلى إِظهار هذه النصيحة للناس ما رآه من الفساد في الزمان وأهله ، وما اقترف فيه من آثام تستوجب من الناس التوبة إِلى الله ، وتحدث الملك في منشوره عن المعاصي والذنوب ، وحذر منها ، ومن مظاهر الشرك بالله ، وذكر في نهاية المنشور : " أن واجبه يدعوه لأن يوجه هذه النصائح لشعبه المحبوب ، ولكل مسلم " .
وهذا بلا شك عمل دعوي ، وهو ليس بغريب علىِ مهمة الدعاة ، لكنه يزداد قيمة وأثراً حين يصدر عن ملك ، ويزيد قدراَ حين يصدر عنِ ملك عربي في العصر الحديث بالذات ، ولقد كان الملك- رحمه الله مثلاَ فريداً لا نجد له مثالاً بين الملوك والسلاطين في القرن الرابع عشر الهجري .(1/166)
* وقد عهد الملك- رحمه الله- إِلى من يتوسم فيهم الإِخلاص والحماسة للعمل في خدمة المملكة ببدء حركة عمرانية ، شملت توسعة الطرق ، وإِصلاح طريق المدينة النبوية ، وتعبيد شوارع مكة ، وفتح طرقات عديدة للحجاج في عرفات ، وإِنشاء ميناء بري في جدة ، وإِنارة مدينة جدة ومكة المكرمة بالكهرباء ، وإِصلاح مساكن للحجاج ، وإِنشاء مظلات للحرم الشريف ، واستحداث مطار بالمدينة ، وأنشئت محطة إِذاعة للقرآن الكريم ، وسائر ما يهم الناس من أخبار ومعارف ، وزاد عدد الجسور والطرقات الممهدة ، واستحدثت مجازر في مكة المباركة ومنى ، حتى لا تسبب مخلفات الذبائح في مواسم الحج مشكلات صحية للناس ، أو للحجاج (1) .
وما ذكرناه من إِصلاحات كان من ثمرات توحيد المملكة ، ومن آمال الملك التي وفقه الله إِلى تحقيقها ، وما ذكرناه جانب من تلك الإِصلاحات التي استدعت عمالة مكثفة وخبرات متنوعة وعلوماً ومعارف شتي ، كان لا بد من توفيرها وفق سياسة حكيمة .
_________
(1) توحيد المملكة العربية السعودية ص82- 68 ، مصدر سابق .(1/167)
لقد تم توجيه المملكة وشعبها نحو التقدم والرقي في شتى مناحي الحياة ، وبدأت مسيرة التقدم على قدم وساق ، واتجه- رحمه الله- إلى معركة البناء بعد أن أظفره الله في المعارك التي خاضها عشرات السنين ، تلك المعارك التي كانت الباب الواسع للعمران والتقدم في المملكة العربية السعودية بعد فترات من التخلف رانت بأثقالها على شبه الجزيرة ، وشعبها قبل عصر الملك عبد العزيز .
*َ ولا نستطيع أن نحصر الإِصلاحات التي تمت في عهد الملك ، ويكفي أن نقول عن ذلك العهد : إِنه عهد بداية العمران والتحديث في المملكة .(1/168)
لقد بدأ ربط مناطق المملكة بالطرق ، ووسائل الاتصال الحديثة ، كاللاسلكي والهاتف والبرق ، وبدأت محطة الإِذاعة في إِرسالها يوم عرفة من سنة 1368هـ (1 / 10 / 1949م) (1) ، وبدأ الناس في استخدام وسائل الانتقال الحديثة- السيارات والطيارات والقطارات- إِلى جانب الدواب ، ووضعت أنظمة للسير ، حيث اشتدت الحاجة إِلى وسائل الانتقال الحديثة ، حتى تضمن العدل ، وتحقيق المصالح للحجاج وغيرهم ، ومن يقومون بتقديم خدمات النقل في مواسم الحج وغيرها ، كما أن الملك- رحمه الله- أمر بإِنشاء ميناء تجاري بالدمام على الخليج العربي ، ومد خط السكك الحديدية إِلى الرياض عاصمة المملكة .
* وثمة أمر ينبغي التنبيه إِليه ، وهو أن الملك عبد العزيز - رحمه الله- أوتي من سعة الأفق في سياسة العمران ، ما جعله يبدأ بإصلاح لم يفكر فيه أحد قبله .
_________
(1) المصدر السابق ص88 .(1/169)
وقد رافق هذأ الإِصلاح الجوهري معارك الملك من أجل الوحدة بين أجزاء المملكة ، بل كان إِحدى علاماته البارزة ، لقد كان الملك يوقن بأن التنمية الكاملة ، وهي تنمية الإِنسان والمكان ، تتطلب استقرار البشر ؛ ولذلك بدأ بإِنشاء الهجر التي كان عدم استقرار البشر فيها سببَاَ في انقسامهم ، ونمو أعراف ، وعادات اجتماعية وأسلوب حياة يتصف بالبداوة ، والتخلف المادي والفكري .
لقد عرف الملك- بثاقب ذهنه ، وسعة خبرته وتجاربه- أن بدء الإِصلاح ، والتعمير في المكان ، وعلى الأرض ، يتطلب إِصلاح حياة الإنسان ، ونقله من البداوة إِلى الحضارة ، ومن الانتقال الدائم إِلى الاستقرار على الأرض ، لقد وجه الملك إِلى تحديد مصادر المياه في مناطق عديدة ، ثم ساعد الناس على بناء المساكن ، وعلى ممارسة الزراعة ، وسائر أوجه العمل المثمر ، فهجر الناس حياة البداوة ، وبدؤوا في ممارسة حياة القرى تمهيداً لحياة المدن . وكان فكر الملك- رحمه الله- في ذلك سديداً وسابقاً ، وكانت جهوده مذللة لكل الصعاب والعقبات التي واجهت تنفيذ هذا الفكر الطموح .(1/170)
كانت أول الهجر هجرة الأرطاوية التي وضع أساسها سنة 1330 هـ (1913م) وبلغ عدد الهجر التي خططها الملك في نجد مائتي هجرة أو مدينة (1) ، وبدأ الملك إِنفاذ فكره في منطقة الحجاز ، وفي مدة خمسة عشر عاماً بلغ عدد الهجر والقرى نحو ألفين ، لقد كان فكر الملك وعزمه وتصميمه ، ومتابعته وراء انتقال شعب المملكة من حياة البداوة إِلى حياة الحضر والعمران .
_________
(1) تنظيمات الدولة ص377- 383 ، مصدر سابق .(1/171)
* ويلفت النظر في شأن ما بدأه الملك عبد العزيز - رحمه الله- من تحديث وعمران للمملكة ، أن الحجاز الذي كان موئَلاَ للعلم وللمعارف الدينية ، أصبح قبل عهد الملك في كثير من مدنه مثل غيره من بلاد شبه الجزيرة العربية فقيراً إِلى العلم والمعرفة ، فلما ولي أمر الحجاز الملك عبد العزيز - رحمه الله- انجلت غشاوة الجهل ، وأنشئت المدارس ، وبدأ إِرسال البعثات العلمية من أبناء المملكة إِلى مصر وغيرها ، واستقدام المعلمين من مصر والدول الأخرى ، وكانت أول بعثة دراسية إِلى مصر سنة 1346 هـ (1927م) (1) وتخرج عشرات من شباب المملكة في الجامعات ، وشقوا طريقهم في خدمة العلم والمعرفة بين شعب المملكة ، وتوالى إِرسال البعثات ، كما استقدمت بعثات علمية من بلاد عديدة ، وافتتحت في المملكة لأول مرة كلية للشريعة في مكة المكرمة ، وذلك في عام 1369 هـ (1950م) كانت نواة لجامعة أم القرى فيما بعد ، كما أنشئت المعاهد العلمية في المملكة سنة 1370هـ (1951م) ، وكلية الشريعة في الرياض سنة 1373 هـ (1954م) التي كانت نواة لجامعة الإِمام محمد بن سعود الإِسلامية ، وأنشئت مدرسة دار التوحيد ، ومدارس نموذجية في الطائف ، وعمل بعض أفاضل الناس على
_________
(1) الوجيز ص171 مصدر سابق .(1/172)
فتح المدارس إِسهاماً منهم في نشر العلم بالمملكة (1) .
وقد اعتنى الملك عبد العزيز - رحمه الله- بتوسعة المسجد النبوي ، التي بدأت في عام 1370 هـ (1951م) ، وكذلك اعتنى بالحرم المكي إعماراً ، وصيانة (2) ، وكان ذلك بداية لما تم في عهد أبنائه البررة ، سعود وفيصل وخالد رحمهم الله ، والتي بلغت ذروتها في عهد خادم الحرمين الشريفين ، الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود ، حيث إِن التوسعة والإعمار في عهده بلغا مبلغاً لم يكن من قبل .
ولقد عني الملك- رحمه الله- بالزراعة ؛ لأنها قرينة الاستقرار ، والزراعة تحتاج إِلى الماء ، وإِلى أيدي الرجال ، وأمر بأن توزع البذور وأثمان المواشي والآلات على من يباشرون الزراعة ، فضلاً عن إِقطاع أراضٍ واسعة لمن يظهر الهمة في ذلك الأمر ، فأنشئت المزارع في الرياض والخرج والقصيم وغيرها من الأنحاء ، تنتج ما يحتاج إِليه الناس من الحبوب والخضر والألبان ومنتجاتها ، وأنشئت لأول مرة مديرية للزراعة تعنى بأمورها ، وتعين الناس باستقدام الخبراء ، واستيراد الآلات الرافعة للمياه ، وبإِنشاء السدود ، وتعمير العيون ، وإرشاد المزارعين (3) .
_________
(1) توحيد المملكة العربية السعودية ص72- 74 ، مصدر سابق .
(2) الوجيز ص229 ، مصدر سابق .
(3) الإمام العادل 2 / 103- 105 ، والوجيز ص317- 320 .(1/173)
ونحن نشير إِشارات مجملة إِلى ما تم إِنجازه في مجالات الإِصلاح والتحديث ، قاد ذلك كله بحكمة واقتدار ملك وضع بلاده على أبواب التقدم والتحضر والعمران ، يعاونه نفر ممن أخلصوا لله ، وحققوا ثقة الملك المؤسس فيهم ، وأسماء الكثيرين منهم معروفة لدى شعب المملكة ، وجزاؤهم مع قائدهم ، عند الله عز وجل ، لقد بدأت التنمية في عهد الملك عبد العزيز ، ومازالت بفضل الله تعالى ، تسير بخطى ثابتة ، ترعاها أيد أمينة ، وللًه الحمد والمنة .(1/174)
مع الأتراك
* ظهر نجم آل سعود ، عبد العزيز بن عبد الرحمن حينما استطاع بقوة قليلة العدد والعدة أن يسترد الرياض في الخامس من شهر شوال 1319 هـ (15 / 1 / 1902م) وكان ذلك يوما معروفَاَ في حياة الملك عبد العزيز ، كان يوما له ما بعده ، كان بداية لكفاح ، ومعارك امتدت عشرات السنين .
ولقد تنبهت الدولة العثمانية إِلى خطورة ذلك عليها ، وقد كانت تسيطر على أجزاء من جزيرة العرب ، في داخل إِطار الدولة العثمانية التي كانت قد ضعفت ضعفاً شديداً ، فيما بدأ نجم عبد العزيز آل سعود يظهر في سماء الجزيرة العربية ، وكانت سياسة الدولة العثمانية ترمي إِلى القضاء على الدولة السعودية منذ قيامها في عهد أسلاف الملك عبد العزيز ، وحينما أيد ابن رشيد الخلافة العثمانية اعتبره العثمانيون سنداً لهم ، وندا لآل سعود ، وأمد الأتراك العثمانيون ابن رشيد بالسلاح لمحاربة عبد العزيز آل سعود ، وفي معركة البكيرية في أول ربيع الآخر 1322 هـ ( 14 / 6 / 1904 م ) كان طرفاها ابن رشيد ، ومعه أحد عشر صفاً من جنود الدولة العثمانية وقبائل شتى ، والطرف الآخر عبد العزيز آل سعود (1) .
_________
(1) معارك الملك عبد العزيز المشهورة ص 88 وما بعدها ، وصقر الجزيرة ص360- 363 مصدران سابقان .(1/175)
*وتلاقى الجيشان في سهل البكيرية غربي القصيم ، كان جيش ابن رشيد ، والدولة العثمانية أقوى عدداً وعدة ، وانتهت المعركة بظفر ابن سعود ، ودخوله البكيرية ، واستمرت بعد ذلك المناوشات ، والمنازلات نحو ثلاثة أشهر ، ثم كانت المعركة الحاسمة التي انتصر فيها ابن سعود ، وغنم غنائم كثيرة ، وذلك في وقعة الشنانة في 18 رجب سنة 1322 هـ (سبتمبر 1904م) (1) , وبعد هذه المعركة استقر حكم ابن سعود في معظم نجد .
* تلت تلك المعركة مفاوضات بين ابن سعود ، وبين الأتراك ، آخرها ما كان بينه وبين سامي باشا الفاروقي الذي لم يحسن مخاطبة الملك عبد العزيز ؛ ولذلك واجهه الملك بأن العرب لا يطيعون صاغرين أبدا ، وهم الفاروقي بحرب عبد العزيز مستنداً إِلى ابن رشيد ، ولكن عبد العزيز آل سعود حذره من ذلك ، وأنذره بإِبعاد جيشه ، فرضي رغما عنه بذلك وسمح عبد العزيز للجنود الأتراك بالانسحاب سالمين .
_________
(1) تاريخ ملوك آل سعود ص72 ، وما بعدها ، ومعارك الملك عبد العزيز المشهورة ص95- 96 مصدران سابقان .(1/176)
وأرسل السلطان عبد الحميد الخليفة العثماني وقتذاك يشكر "الأمير الخطير والزعيم الكبير عبد العزيز باشا آل سعود " على معاملته لعساكر الدولة العثمانية ، وطلب السلطان عبد الحميد من عبد العزيز آل سعود أن يرسل وفدا من رجاله إِلى الآستانة ، وأرسل عبد العزيز الوفد ، فقوبل بحسن الضيافة ، وأنعم عليهم السلطان بالألقاب والنياشين (1) .
* كان عبد العزيز آل سعود يعرف الأتراك حق المعرفة ، بينما لم يكونوا يعاملون العرب المعاملة الحسنة .
لقد نصح عبد العزيز أحد الولاة العثمانيين على البصرة حينما ذكر له شقاق العرب ، ونزاعهم مع الدولة ، فقال له :
" إِنكَم لم تحسنوا إِلى العرب ، ولا عاملتموهم معاملة العدل " .
وقال الملك في مشورته :
"إنكم المسؤولون عما في العرب من شقاق ، فقد اكتفيتم بأن تحكموا ، وما تمكنتم حتى من ذلك ، وفاتكم أن الراعي مسؤول عن رعيته ، وأن صاحب السيادة لا يستقيم أمره إِلا بالعدل والإِحسان " .
* ولما توطد سلطان عبد العزيز في معظم نجد كان الأتراك في الأحساء والقطيف ، ومن الطبيعي أن يمتد بصر ابن سعود إِلى ما في يد الأتراك لتحرير بلاده منهم .
_________
(1) تاريخ ملوك آل سعود ص81 وما بعدها ، وصقر الجزيرة ص361 مصدران سابقان .(1/177)
ولما استبد الغرور بوالي بغداد السفاح جمال باشا "هدد باختراق نجد بطابورين من جنده " فرد عليه الملك بأدبه وحلمه " سنقصر لكم الطريق إِن شاء الله " (1) .
وفي 5 جماد الأولى سنة 1331هـ (1913م) دخل الملك عبد العزيز الأحساء وانسحبت حامية الأتراك بعد أن أذن لها عبد العزيز ، وخرجت بسلاحها من الأحساء .
* ولما نشبت الحرب العالمية الأولى سنة 1332 هـ (1914م) كان ابن رشيد مع الدولة العثمانية ضد البريطانيين وحلفائهم ، باعتباره تابعا للدولة العثمانية ، وكان الشريف حسين قد طرح سلطانهم ، وثار ضدهم لمصلحة البريطانيين ، نظير وعودهم أو عهودهم له ، وكان عبد العزيز بحكمته السياسية ، وبحسه العربي الأصيل يريد أن يجنب العرب ويلات حرب ، لا ناقة لهم فيها ولا جمل (2) .
* لقد استطاع الملك عبد العزيز أن يحتفظ بحياده بين الفرقاء المتحاربين ، ومع ذلك ظفر باحترام البريطانيين له ، حتى إِنهم منوه بخلافة المسلمين إِذا هو قاتل الترك معهم ، لكنه بحسه الإِسلامي العربي أبى أن يكون تابعاً في حرب ، كما فعل غيره .
_________
(1) صقر الجزيرة ص361 ، مصدر سابق .
(2) الوجيز ص59 ، مصدر سابق .(1/178)
مع بريطانيا وقضية فلسطين
* كان عصر الملك عبد العزيز - رحمه الله- يموج بأحداث عالمية كبرى ، ولم تكن المنطقة العربية بمعزل عن التأثر والتأثير في تلك الأحداث .(1/179)
ففي عصر الملك- رحمه الله- كانت الحرب العالمية الأولى ، والحرب العالمية الثانية ، وكلاهما حرب عالمية جرت على الإِنسانية ويلات كبرى في أنحاء المعمورة ، وعندما اشتعلت الحرب العالمية الأولى كانت المنطقة العربية في معظمها ، المشرق العربي والمغرب العربي ، تحت سلطان الاستعمار العالمي ، البريطاني والفرنسي في الغالب ، بينما كانت بعض الدول ، مثل ألمانيا تتطلع إِلى الاستفادة من المغانم من منطقة الخليج ، ومن شبه الجزيرة العربية . وعندما انتهت الحرب العالمية الأولى سنة 1337 هـ (1918م) كان الملك عبد العزيز مشغولاً بتوحيد المملكة ، ومقاومة قوى التشرذم ، والتشتت فيها ، إِلى جانب مقاومة النفوذ الأجنبي ، ممن كان لهم مصالح قائمة ، أو محتملة في شبة الجزيرة ، وكان الأمر يحتاج من الملك إِلى سياسة حكيمة يستفيد منها في تحقيق أهدافه الكبرى التي شغلت حياته كلها ، وهي حماية عقيدة التوحيد ، وإِقامة شريعة الإسلام ، والعمل على وحدة المملكة ، ولذلك لم يشغل الملك نفسه بمواجهة البريطانيين ، وكان لهم نفوذ في المنطقة ، إذ كانوا يسيطرون على مصر والعراق ، والكويت ، وغيرها من إِمارات الخليج ، ويمارسون نفوذهم في هذه(1/180)
المناطق ، ولم يكن من الحكمة أن يبادرهم بالمواجهة أو العداوة ، واحتاج ذلك من الملك إِلى الحكمة والصبر والذكاء معاً ، فقد كان البريطانيون يطمعون في أن يقف إِلى جانبهم في الحرب العالمية الأولى 1332هـ - 1337هـ (1914- 1918م) كما فعل الشريف حسين ، ولكن الملك اتخذ سياسة أرشد وأحكم ، فلم يدخل نجداً ، أو المناطق التي يسيطر عليها في أتون الحرب ، ولا أغرته الوعود مثل غيره ، وكان وقت الحرب مشغولاً برخاء مواطنيه ، وتحقيق كفايتهم من حاجات الحياة ، بينما كان العالم في الحرب مهموماً بمآسيها ، وكوارثها لعدة سنوات .
* وبعيداً عن التفصيل والإِطالة ، يمثل سياسة الملك الرشيدة ما ورد في خطبة لنائبه الملك فيصل - رحمه الله- في موسم الحج عام 1359 هـ ( 1941م ) :
" لا يجهل أحد ما فيه العالم اليوم من نكبات ومحن ، حتى البلاد التي لم تشترك في الحرب لا تخلو من أزمات اقتصادية وغيرها ، أما نحن فلله الحمد من أسعد الناس ، وهذا لاشك من نعم الله- عز وجل- التي تستوجب الشكر " .
كان ما يشغل الملك أهم وأبقى ، وهو حال البلاد العربية والمسلمين ، وإِنقاذهم مما يعانون ، يقول الملك عبد العزيز في خطبة له بمكة سنة 1359هـ (1941م) :(1/181)
" كل ما ندعو إِليه هو جمع كلمة المسلمين واتفاقهم ، ليقوموا بواجبهم قبل ربهم وقبل بلادهم ، يهمنا أمر إِخواننا السوريين ، وأمر إِخواننا الفلسطينيين ، وأمر إِخواننا العراقيين ، وإِخواننا المصريين ، وأخاطب إِخواننا في مصر ، والعراق ، وسوريا ، وفلسطين ، فأقول لهم : إِن المصلحة واحدة ، والنفوس واحدة " (1) .
_________
(1) الوجيز ص250 ، مصدر سابق .(1/182)
كان البريطانيون منذ بزغ نجم عبد العزيز آل سعود ، يحرصون على صداقته ، يرجع ذلك إِلى إِعجابهم بشخص الملك ، وتوقعهم علو شأنه ، وثقتهم في قدراته لزعامته العربية ، وقد زاره في بلاده بعض كبار البريطانيين ، وأبدوا إِعجابهم بشخصه ، كما أرسل الملك ابنه فيصلاً إِلى بريطانيا في شهر شوال سنة 1362هـ (1943م) واستقبل هناك استقبالاً يليق به ، وبمقام أبيه ، وكان الملك عبد العزيز - شأن المسلم الصادق- لا يتردد في الاعتراف بما قدمه له البريطانيون من المساعدات في أثناء كفاحه لتوحيد المملكة . وحينما طلب البريطانيون من الملك أن ينسحب بجيوشه من الخرمة بعد الانتصار على جيش الشريف حسين في عام 1337 هـ (1919م) بادر الملك بالعودة إِلى الرياض (1) ، متخذا في ذلك سياسة الحكمة ، حتى أذن الله بأن يعود إِلى الحجاز كله ، وذلك من بعد النظر ، وتحاشي الخطر ، وتجنب الاصطدام ، واصطناع الأعداء ، في وقت كان الملك فيه يملك الكفة الراجحة ، وتخدمه أيام نصره وتوفيقه .
_________
(1) صقر الجزيرة ص442 ، مصدر سابق .(1/183)
هكذا كانت العلاقة بين البريطانيين وبين الملك ، علاقة تقوم على الاحترام ، يدفع البريطانيين إِليها الرغبة في حفظ مصالحهم ، ويدفع الملك إِليها تجنب عداوتهم ، والاستفادة من مساعداتهم . ولكن ذلك لم يمنع الملك فيما بعد ، حين تتعرض مصالح المسلمين ، أو العرب للخطر من المواجهة حتى مع الأصدقاء .
* كان هاري سانت جون فلبي الرحالة البريطاني على علاقة وثيقة بالملك عبد العزيز ، رحمه الله ، ولا سيما بعد أن اعتنق الإِسلام ، وترك خدمة الحكومة البريطانية ، واستقر في المملكة ، وكان يزور الملك في مكة وفي الرياض ، واصطحبه الملك في بعض رحلاته وأسفاره ، واستشاره في بعض الأمور الخارجية ، ولكن مع ذلك حين حاول فلبي التوسط في قضية فلسطين ، وكانت الأمور لا تزال في بدايتها أخفق في وساطته ، وكان سبب الإِخفاق أن الملك عبد العزيز لم يكن ليقبل ما يمس حقوق العرب والمسلمين ، ونصح فلبي بألا يتطرق إِلى هذا الموضوع ، على الرغم مما بذله الأخير من محاولات لإِثارة اهتمام الملك (1) .
_________
(1) توحيد المملكة العربية السعودية ص180 .(1/184)
لقد كان الملك- رحمه الله- من الذكاء ، والحنكة السياسية ، والتجارب التي مرت به أكبر من أن يستميله أحد حتى لو كان من مستشاريه- إِلى شيء لا يرضاه للعرب والمسلمين ، فالمعروف عن الملك أنه كان مصدر المعرفة ، والتوجيه لمستشاريه وخاصته .
وقد التقى الملك عبد العزيز رئيس وزراء بريطانيا السير ونستون تشرشل ، كما التقى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية روزفلت ، في الثاني من ربيع الأول سنة 1364 هـ (5 فبراير سنة 1945م) ، وأُعجب الرئيس الأمريكي أشد الإِعجاب بشخصية الملك ، وعبر له عن ذلك صراحة . وتدل الرسائل المتبادلة بين الملك ، وبين الرئيس الأمريكي على أن الملك- رحمه الله- مقتنع بالظلم الذي وقع على شعب فلسطين من جراء استيلاء اليهود على أرضهم ودورهم ، وأنه- رحمه الله- مقتنع حينما تحدث إِلى الرئيس الأمريكي بشأن ذلك حديث الواثق بالله ، المعتز بإِسلامه والمدافع عن العرب والمسلمين (1) .
وفي هذه الرسائل يبدو أمران على جانب عظيم من الأهمية :
_________
(1) ابن سعود وقضية فلسطين ، لأحمد عبد الغفور عطار ، ص194 ، ومن منشورات المكتبة العصرية بلبنان ، بدون تاريخ .(1/185)
الأول : أن ما توقعه الملك من اضطراب الأحوال في المنطقة ، بسبب عدوان اليهود ، واعتدائهم على حقوق الشعب الفلسطيني ، والإِضرار بمصالح بريطانيا ، وأمريكا في المنطقة ، بسبب الانحياز إِلى اليهود ، قد حدث بحذافيره بعد وفاة الملك ، ومازال حتى الآن يحدث كل يوم .
الثاني : أن كتب الملك ورسائله إِلى الرؤساء من البريطانيين والأمريكيين ، تناولت المسألة من جذورها ، وأبطلت كل الحجج التي تذرع بها الغرب لمساندة العدوان على الشعب الفلسطيني ، وأن الملك- رحمه الله- كان في رسائله حول المشكلة عربيَاَ مسلماً ، ومدافعاً كبيراً عن مصالح العرب والمسلمين ، فضَلاَ عما ظهر من طابع إِنساني في تناوله للمشكلة ، وهو طابع لا يجعل من حل القضية كارثة على طرف منها ، وفائدة محققة بلا ثمن ، ولا مسوغ للطرف الآخر .
إِن رسائل الملك إِلى كبار الساسة والمسؤولين البريطانيين والأمريكيين ، تعد حتى اليوم ، أفضل الأساليب ، وأقواها ، وأقومها عند مناقشة المشكلة مناقشة موضوعية تتصف بالعدل .
ولكن يبدو أن العالم لم يعد يهتم بالعدل أساساً ، وأن المصالح والمغانم أياً كانت وسيلة تحقيقها وتحصيلها ، هي الأساس في التعامل مع قضية شعب فلسطين .(1/186)
شهادات معاصري الملك عبد العزيز
* لقد تحدث الكثيرون من معاصري الملك عبد العزيز عنه ، ولا نبالغ حين نصفه بأن كان أمة وحده ، في ميزاته ، وخصائصه ، وخصاله وسجاياه ، وما طبعه الله عليه من دين وخلق .
وهناك عشرات الدراسات التي تحدثت عن الملك ، والعشرات ممن عاصروه ، والتقوه ، تحدثوا عن جوانب شخصيته الغنية بالمواهب ، ولا يستطيع الباحث أن يعرض ذلك كله ، وإِنما نعرض منه كلمات صادقة تعبر عن شخصية هذا الملك ، باعتباره من أعظم ملوك عصره ، ونختار من الكلمات ما شهد به العلماء والمفكرون ، وأصحاب الرأي ، وكبار الرجال والساسة ، فالشهادة في نظرنا توزن قبل أن تعد ، وإِذا لم يكَن في الأمكان حصر ما شهد به المعاصرون للملك ، فحسبنا أن نورد بعضها ، مما يوزن بقدره ، وبصدقه ، وبقدر الشاهد فيه .
لقد تركنا- عن قصد- شهادات أبنائه والمقربين منه من أبناء شعبه ، الذين كتبوا عنه الكثير : مؤلفات ، وأبحاثاً ، ودراسات ، وأعمالاَ إِعلامية وثقافية خلال قرن من الزمن ؛ لأن ذلك معروف ومعيش في المملكة العربية السعودية ، وفضلنا أن تكون هذه الشهادات من غير أبناء المملكة ، سواء أكانوا عربَاَ ، أم غير عرب .(1/187)
لقد كانت عظمة الملك ، وزعامته في قومه وفي شعبه وأمته وفي عالمه الإِسلامي ، معلومة مشهورة لا تحتاج إِلى دليل أو برهان ، يقول الأستاذ عباس العقاد المفكر المصري المعروف في هذا المعنى :
" ابن سعود من أولئك الزعماء الذين يراهم المتفرسون المتوسمون ، فلا يحارون في أسباب زعامتهم ، ولا يجدون أنفسهم مضطرين أن يسألوا لماذا كان هؤلاء زعماء " (1) .
وسنورد شهادات من العرب والمسلين ، ثم نعقبها بشهادات من الأجانب غير العرب ، لا للدليل أو البرهان ، ولكن للتذكرة والاعتبار بسيرة الملك العربي المسلم عبد العزيز آل سعود ، رحمه الله تعالى .
أولاً : شهادات العرب والمسلمين :
يقول الأستاذ عبد الرحمن عزام الذي كان أمينا عاماً للجامعة العربية عندما أنشئت عام 1364هـ 1945م :
_________
(1) الملك عبد العزيز ، رؤية عالمية للدكتور ساعد العرابي الحارثي ، الطبعة الأولى 1415 هـ ص89 .(1/188)
" عرفت جلالة الملك عبد العزيز آل سعود ، وعرفني قبل أن نلتقي ببضع سنين ، فلما كان حج سنة 1346 هـ 1928م ، وأتيح لي أن أتشرف بلقائه ، وأنزل ضيفاً في ساحته ، رأيت فيه مثلاَ للعروبة في حالتها النظرية ، تتجلى فيه المعاني التي ظهرت في حياة العرب في جاهليتهم ، وإِسلامهم ، وأول هذه المعاني العزة والثقة في النفس ، وما ينطوي عليه ذلك من عقيدة في سمو القوم الذين ينتسب إليهم ، فكل شيء في نظره هو دون المستوىالذي ترسمه العروبة في خاطره ، والملك عبد العزيز في ذلك مثل كل عربي لم تلوثه الحضارة الغربية ، يعتقد أن العزة لله ثم له (1) .
وهو قول يلمس جانب النفس العربية الأبية التي فطر عليها الملك ، وما تتميز به من شعور عميق بالعزة ، التي وهبها الله له ، باعتباره مسلماً عربياً .
ويشهد للملك أمين الريحاني الكاتب والأديب المعروف ، وقد قابل أمراء العرب وملوكهم في عصره ، يشهد للملك بتفوقه عليهم في المواهب والخصال ، فيقول :
_________
(1) المصدر السابق ص86- 87 .(1/189)
"لقد قابلت أمراء العرب كلهم ، فما وجدت فيهم أكبر من هذا الرجل ، إن الرجل فيه أكبر من السلطان ، ومهما قيل في ابن سعود ، فهو رجل قبل كل شيء ، رجل كبير القلب والنفس والوجدان ، عربي تجسمت فيه فضائل العرب إِلى حد يندر في غير الملوك الذين زينت آثارهم شعرنا وتاريخنا ، رجل صافي الذهن والوجدان ، خلو من الادعاء والتصلف ، خلو من التظاهر الكاذب (1) .
شهادة حق جديرة بالاعتبار والتدبر ، بل جديرة باتباع الملوك ، والأمراء ، والرؤساء في البلاد العربية والإِسلامية ، للأخلاق والسجايا التي حفلت بها هذه الشهادة . كم يكون الملك أو الرئيس عظيما إِذا كان كبير القلب والنفس والوجدان ، خلوا من الادعاء والصلف والتظاهر الكاذب .
ويلفت النظر شهادة الأستاذ عباس محمود العقاد ، فهو مفكر عربي مصري ومسلم ، يعرف عنه الاعتزاز بالنفس ، والصدق في القول ، وهو صاحب الدراسة النفسية في شخصيات التاريخ العربي والإِسلامي في العبقريات ، يلفت النظر إِلى أنه يلمس جانب السجية ، والطبع في شخصية الملك عبد العزيز ، فيقول :
_________
(1) المصدر السابق ص114- 115 .(1/190)
"بطل الأمة من الأمم هو الرجل الذي يتجمع في شخصه صفاتها ومزاياها على أتمها وأوضحها وأقواها ، فهو مرشح بالفطرة لحكمها وقيادتها ، وهي في هذه الحالة إنما يحكمها بنفسها ، وبمحض إرادتها حين يحكمها بأبرز صفاتها وأقوى مزاياها " (1) .
والنتيجة لهذه الصفات والمزايا العربية الأصيلة في الملك ، أنه كما يقول العقاد ، رحمه الله :
"بطل الجزيرة العربية غير مدافع ، أو هو العربي الأكبر في بلاده ؛ لأن يجمع في شخصه تلك الصفات والمزايا التي اشتهرت بها أمة العرب من قديم الزمان ، فيدين له رعاياه ؛ لأنهم يدينون لأنفسهم ، أو يدينون لصفاتهم ومزاياهم ، ويقوم حكمه على الطاعة والاختيار بهذا المعنى الأصيل من معاني الطاعة والاختيار (2) .
_________
(1) المصدر السابق ص 119 .
(2) المصدر السابق .(1/191)
لم أجد تعليلا لانتصارات الملك عبد العزيز ونجاحه في توحيد أمة العرب في شبه الجزيرة أفضل مما سبق ذكره ، لقد دان الناس له على شدتهم ، وقسوتهم ، وحبهم للزعامة والسيطرة في قبائل العرب الكثيرة ؛ لأنه أقواهم زعامة ، وأحرصهم على اتباع شرع الله ، وأجمعهم لكل ما تتميز به العروبة من صفات ؛ ولذلك لم يشعروا أنهم يدينون بالطاعة لقرين ، أو مثيل ، أو ند لهم ، بل دانو بالطاعة لكل ما يحبونه ويجلونه من الصفات والمزايا ، وقد جمعها عبد العزيز في أتمها ، وأقواها ، وأوضحها .
* ويعرف الأستاذ عباس العقاد خصيصة أخرى لدى الملك ، تجعله في عداد من يحاجون في مسائل الشريعة ، فقد وجد في زمان الملك عبد العزيز من ينكر استعمال كل جديد ، ويصف مالا يدرك طبيعته ، وكيفية عمله بأنه من باب السحر ، أو الاستعانة بالشياطين ، كاستخدام التليفون ، وأجهزة اللاسلكي ، وغيرها من المخترعات الحديثة ، ولكن الملك الذي عرف كيف يتعامل مع شعب وأمة بأكملها ، لا يعجز عن التعامل مع هؤلاء النوع من الناس ، يقول الأستاذ عباس العقاد :(1/192)
"إِن الملك نصح هؤلاء بأن لا ينزلوا عن مكانتهم ، وهم فوق الرؤوس بأن يغضبوا ولي الأمر فيهم . ثم يسأل الملك العلماء ، هل وجدوا في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ما يمنع من استخدام المخترعات الحديثة ؟ فلما أجاب العلماء بالنفي ، انكشفت الحقيقة الشرعية ، ولكن الملك من ذكائه ، وسعة حيلته ، جعل العلماء يسمعون القرآن الكريم من أجهزة الراديو والتليفون ، فتيقنوا أن الذي ينقل القرآن الكريم لا يمكن أن يكون شيطاناً ، وهذا برهان من أقوى البراهين لمثل هؤلاء " (1) .
* وكان للملك من سعة الصدر ، والاستماع إِلى الرأي ، ما يسع قول البدوي الجاهل ، ويسع أيضاً جدال العالم ، وفي الحالين يرد الملك على كل منهما بما يناسب عقله وإِدراكه ، فلا يغضب لمن يناديه من البدو باسمه مجرداً ؛ لأنه يعرف عن أخلاقهم وعاداتهم أكثر مما يعرفه غيره ، ولم يعجز عن مخاطبة العلماء ، وأهل الرأي وفق علمهم وثقافاتهم ، بمثل ما يحاجون به ويستندون إِليه .
ويعرف أحد كبار الزعماء والساسة والمفكرين قدر الملك عبد العزيز ، وعظمة إِنجازاته ، وأثره في تاريخ العروبة ، فيقول الأستاذ محمد حسين هيكل المؤرخ والسياسي المصري :
_________
(1) المصدر السابق 319 .(1/193)
"تاريخ البلاد العربية بعد يقظتها جدير بالعناية ، والتأمل الطويل في تطور الحوادث تطورا صاغه الملك ابن سعود بحكمة ، وحزم ، وحسن سياسة ، كان لها أثرها في إِقرار السلام في شبه الجزيرة العربية ، وفي توجيه النهضة في تلك الأرجاء توجيهاً صالحاً يبشر بخير النتائج (1) .
* وثمة شهادة لأحد علماء الإِسلام ، ودعاته ، وهو الشيخ محمد رشيد رضا ، يقول فيها :
_________
(1) المصدر السابق ص126 .(1/194)
" صارت نجد في أيامه إِمارة كبيرة ، أحسن إِدارتها ، وحفظ الأمن فيها ، ونظم الدعوة لنشر الدين والحضارة في قبائلها المجاورة لها ، كما نظم فيها القوة المقاتلة تنظيماً كافياً لحفظها من اعتداء أحد المجاورين لها ، فعل كل هذا عبد العزيز بن سعود ، وليس هذا بالقليل ، حتى على مثله من الملوك والسلاطين في هذا الزمن القصير ، وهو مع هذا في منتهى التواضع في معيشتّه ، وحكمه ومعاشرته للناس من أهل بلاده وغيرهم ، لم تجنحِ نفسه للترف والنعيم ، ولا للزينة والزخرف غير المعتاد أو المحظور شرعاَ ، ولا للعظمة والكبرياء ، ولا للتمتع بالألقاب الفخمة ، ولا تسمية أعوانه بالوزراء والحجاب ، ولا للإِنعام عليهم بالرواتب وشارات الشرف ، وقد سخر الله له كثيرين يعملون للمصلحة التي يبتغيها لأهله ، فأغناه الله عن استئجار الأقلام المنافقة" (1) .
كم نحتاج إِلى هذه الشهادة ، لكي يتدبرها الملوك ، والأمراء ، والزعماء ، والقادة في البلاد العربية والإِسلامية ، وكم يحتاج إِليها رجال الإِعلام وأصحاب الأقلام في هذا العصر .
وفي شهادة الأمير شكيب أرسلان :
_________
(1) المصدر السابق ص180 -181 .(1/195)
" كنت أقرأ كثيراً من الأحاديث ، والأجوبة التي يفضي بها ابن سعود إِلى بعض الصحافيين ، سواء كانوا عرباً أو أجانب ، فلم أجد هذا الملك تهور مرة واحدة فيِ حديث ، أو تكلم بكلام يؤخذ عليه ، وأما الأمور التي يجزم بها جزماً تاماَ ، فهي التي يرى أنه لا يحيد عنها والتي يعدها قاعدة سياسته الداخلية والخارجية ، لا يبالي أغضب من أجلها من غضب ، أو رضي من رضي (1) . 8 .
ويقول الأستاذ أحمد حسين ، وهو أحد زعماء الأحزاب في مصر :
"إِذا تحدثت عن الكرم وإِجابة المطالب فلست أعني بها ناحية المال وحده ، بل وناحية العفو والصفح ، فابن سعود لا يقتل عدوا ، يطلب منه أن يبقي عليه ، حتى ولو كان هذا العدو قد فعل به الأفاعيل ، وكم من الثوار والبغاة تحدوا ابن سعود ، فأظفره الله عليهم ، فعفا عنهم ، ووصلهم ، وأسبغ عليهم من النعم ما نعده في حسابنا من الإِسراف ، ثم عادوا للانتقام والتمرد عليه ، فظفر بهم ثانية ، فيطلبون الصفح فيمنحه (2) . .
وعن الملك يقول حافظ وهبة ، أحد مستشاريه المقربين :
"متواضع طيب العشرة ، كثير الشبه بمعاوية بن أبي سفيان ، في حلمه ، وبعد نظره ، وحسن حيلته في تصريف الأمور (3) .
_________
(1) المصدر السابق ص194 - 195 .
(2) المصدر السابق ص117 .
(3) المصدر السابق 205 .(1/196)
وفي كتاب ملوك المسلمين المعاصرين ودولهم ، يقول المؤلف أمين محمد سعيد عن الملك عبد العزيز :
" تغلب عليه الوداعة والمرونة ، مع شدة وقسوة عند الحاجة ، فهو يعرف كيف يضع السيف ، كما يعرف كيف يضع الندى ، وهو متسامح مع خصومه وأعدائه ، واسع الصدر ، كريم اليد ، فإِذا جاؤوه تائبين نادمين عفا عنهم ، ورحب بهم ، وأجزل لهم العطايا ، وأنزلهم أحسن المنازل ، ويكون انتقامه شديداً ممن ينتقض عليه ، أو يحاربه بعد أن يكون قد دخل في طاعته (1) . .
لقد ذكر الناس هذه الصفات وصفاَ لواقع شهدوه من الملك الذي عرفوه .
_________
(1) المصدر السابق ص207 .(1/197)
ولكن ما ينبغي ذكره هو ما تدل عليه هذه الصفات ، فالعفو تقابله شدة العقوبة عند الخيانة وعظم الذنب ، وكرم اليد وسخاء النفس ، والتواضع لله- عز وجل- والإِعراض عن ترف الدنيا ونعيمها ، وتجنب كبيرة الكبر ، واصطناع العظمة أمام الناس ، كل هذه الصفات الرفيعة التي أكدتها تلك الشهادات الموثقة ، هي في حقيقتها فضائل إِسلامية وفق الله الملك عبد العزيز إِليها ، فكانت سجيته التي يتصرف في مواقفه كلها طبقا لها دون أن يكون في ذلك مشقة أو كلفة عليه ، وهذا الذي نقوله هو ما ذكره الأستاذ عباس محمود العقاد - رحمه الله- عن الملك في سنة 1366هـ (1946م) إِذ قال في مجلة المصور المصرية :
"إِن هذا الرجل مطبوع على الصراحة ، ووضوح المزاج ، لم تشتمل نفسه القوية على جانب من جوانب الغموض التي يحدث منها اختلاف الحالات وتناقض العادات ، فهو في أخلاقه وأعماله ومألوفاته يمضي على وتيرة واحدة ، لا يواجه عارفيه في حالتي رضاه وغضبه بخليقة لم تكن لهم في الحسبان " (1) . .
_________
(1) المصدر السابق ص194 .(1/198)
إن طبائع الملك عبد العزيز وسجاياه قد بهرت معاصريه ، حتى من رجال الصحافة والإعلام ، الذين يكتبون غالباً عن عظمة الملوك ، وأعمالهم ، وسطوتهم ، فنجد أن بعض أعلام الصحافة العربية في عصر الملك عبد العزيز يكتبون عنه ، فيذكرون خلقه وطباعه الشخصية ، ويركزون عليها قبل أن يذكروا سعة الملك ، وعظمة السلطان ، وسطوة الحكام ، فهذه كلها وأكثر منها يمكن أن يحوزها الملوك جميعاً . لكن من العسير- في العصر الحديث- أن نرى ملكاً ، أو رئيساً يطاول الملك عبد العزيز آل سعود في حميد صفاته ، وجميل شمائله ، يقول الأستاذ محمد التابعي ، أحد كبار الصحفيين المصريين عن الملك سنة 1373 هـ (1935م) في مجلة آخر ساعة المصرية :(1/199)
" لقد اكتشف البترول في أراضي مملكته المترامية الأطراف ، ويسيل الذهب الأسود ، ويبقى أسد الجزيرة ومؤسس هذا الملك الغني الواسع عبد العزيز آل سعود على زهده وتقشفه وورعه وتقواه ، يقوم مع الفجر يصلي ، ويتلو القرآن ، ويبكي خشية بين يدي الله ، ويستغفر ، ويتوب ويقنع في طعامه بالتمر واللبن والثريد ، ويجري الأرزاق على أصحاب الحاجة ، وعلى البيوت التي أخنى عليها الدهر ، ولو كانت بيوت أشد خصومه وأعدائه ، وما من هاشمي من نسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحس بالحاجة إلا أسرعت يد عبد العزيز إِليه بالمعروف " (1) . .
_________
(1) المصدر السابق ص229 .(1/200)
* ولم تكن أعمال الملك عبد العزيز ، وإِنجازاته منذ صدر شبابه ، لتخفى على العالم في عصره ، وقد كان مليئاً بالأحداث الكبرى ، وكانت فيه شبه الجزيرة العربية منطقة تظفر بالاهتمام ، وتثور فيها الفتن ، وتثير لدى القوى العالمية الكبرى المطامع في السيطرة على أهلها ؛ للاستفادة من خيراتها وميزاتها ؛ ولذلك نجد الملك عبد العزيز قبلة أنظار الساسة ، والمفكرين ، ورجال الإِعلام ، والمهتمين بالمنطقة العربية كلها عامة ، وبلاد الحرمين خاصة ، وقد لفت هو الأنظار منذ شبابه الباكر باسترداد الرياض عاصمة ملك آبائه وأجداده في مغامرة أشبه بالأساطير ، وحين تابع الناس أعماله تأكد لهم أنهم أمام شخصية فريدة من أعلام القادة ، والحكام ، والساسة في العصر الحديث .(1/201)
ثانيا : شهادات غير العرب :
تلكم الصورة التي رسمها العرب ، والمسلمون للملك عبد العزيز - رحمه الله- لفتت أنظار غير العرب إلى خصال عربية كانت تخفى على الأوربيين والأمريكيين ؛ ولذلك نجد كثيراً منهم ممن التقوا الملك ، أو تّابعوا جلائل أعماله ، أو أسعدهم الحظ بصحبته ومعرفة حياته الشخصية ، قد عرفوا العروبة والإِسلام من خلاله ، وذلك مما يحسب للملك- رحمه الله- في ميزان حسناته بإِذن الله . فقد كانت صورة الملك العربي المسلم ظاهرة أشد الظهور في أقوال غير العرب ، وغير المسلمين ممن عرفوا الملك ، أو عاصروه ، وشهاداتهم .
ونختار من تلك الشهادات والأقوال أيضاً ما يوزن قبل أن يعد ، لقد تحدث العشرات من الساسة والمفكرين ، والمهتمين بشبه الجزيرة العربية ، ورجال الإِعلام عن الملك الذي بهرتهم شخصيته ، وإِنجازاته في العصر الحديث .
كان الرحالة البريطاني فيلبي قريبَاَ من الملك وأحداث حياته منذ شبابه الباكر ، وقد رأى ، وسمع ، وألف مما رآه ، وسمعه ، وفهمه ، كتابه "العربية السعودية" يقول عن الملك :(1/202)
"جندي ناجح ، ومصلح أصيل ، تقي كل التقى ، صريح حازم ، ذكي متواضع ، ولا أعلم أن في العالم حاكما غيره تتحدث معه رعيته بمثل الحرية التي تتحدث بها رعية عبد العزيز معه ، وذلك إِلى جانب ما تكن له من إِكبار وإِخلاص عظيمين (1) . .
كان الملك ظاهرة إِسلامية عربية في العصر الحديث ، لفتت أنظار المستشرقين خاصة ، فقد ظلت شبه الجزيرة العربية مئات السنين لا تكاد تذكر إِلا في مواسم الحج ، ولكنها عرفت جغرافياً وسياسيَاَ في عهد الملك عبد العزيز ؛ ولذلك كان الاهتمام بالملك عبد العزيز - رحمه الله- من جانب علماء ، ومفكرين ، ومستشرقين ، ورجال إِعلام ، أعظم بكثير مما يلقاه ، أو يسعى إِليه ملوك عرب ومسلمون ، ورؤساء دول إِسلامية عاشوا عهد الملك عبد العزيز ، ولكنهم لم يتفردوا مثله بإِقامة دولة ، ولم يتميزوا بخصال الإِسلام ، وخصائص العروبة في أقوى صورها وأوضحها ، كما كان عبد العزيز - رحمه الله- .
يقول أرمسترونج :
"كان ابن سعود سخي اليد ، كبير القلب ، يتمتع بصبر لا حدود له ، وكان يعلم طريقة التعامل مع رجال القبائل ، وكيف يشبع كبرياءهم ، ويتجاهل نفسه ، كان يتمتع بالخصائص التي يعجب بها العرب " (2) . .
_________
(1) المصدر السابق ص105 .
(2) المصدر السابق ص74 .(1/203)
كلمات صادقة في وصف الملك ، تؤكد السبب الذي ذكرناه في شدة الاهتمام به ، والالتفات إِليه من جانب الغربيين عامة .
ويتفق اثنان ، هما : كوافيه ذي هوت ملوك ، وبنوا ميشان ، في أن الملك اكتسب شهرته ومكانته استناداً إِلى الزعامة الدينية ، والزعامة الحربية . وهو قول له نصيب كبير من الصدق في حياة الملك عبد العزيز ، ويمثل الصدق كله إِذا وسعت الزعامة الدينية كل خصال الإِسلام التي كان يتمتع بها الملك ، ووسعت الزعامة الحربية سجايا العروبة التي منها : الشجاعةّ ، والحرص على الكرامة ، والشرف .
والمستشرق المجري جرمانوس يقول عن الملك :
"إِنه بطل بما تسعه الكلمة القصيرة من معان ، وإِن الملك كان شديد التأثير فيمن يعرفه أو يلقاه " (1) . .
ويصف جرمانوس تأثر شخصية فيلبي بالملك ، وأن هذا التأثر وصل إلى درجة الإِعجاب ، والتقدير الكبيرين من جانب فيلبي ، وكان له أثره في مواقفه التي أيد فيها الملك ، وانحاز إِليه ضد حكومته البريطانية ، ويضيف جرمانوس :
_________
(1) المصدر السابق ص82 .(1/204)
" الملك الذي جرد السيف في سبيل دينه وعقيدته ، يجمع بين روح الحرب ، وروح السلم ، لا يقاتل الناس ، ولا يعتدي عليهم ، وإنما يحارب الجهل ، ويقاتل الجمود ، ويكافح التأخر (1) . وفي اللحظات والأوقات التي جالس فيها الملك كان له تأثير شديد على جرمانوس ، حتى إِنه يقول :
" استروحت في أحاديثه للعواطف التي تصدر عن أب يحيط ابنه بجليل سجاياه ، حتى يتأثر بها ، ويحتذيها ، وكانت هذه الأحاديث دلالة قوية على أنني أجلس إِلى رجل عربي التفكير ، مع ما هو مفطورِ عليه من إِغراق في رعاية الجانب الديني ، وتسويده على مشاعره جميعاَ ، وهكذا مستني وأنا أصافحه تلك الرهبة التي تمس العارف بأقدار الأبطال حين تكَون يده ملء يد البطل (2) . .
هكذا يتحدث المستشرق عن الملك ، وهو حديث عن ملك فريد بين الملوك ، يجمع بين أجمل خصال الإِنسان ، وأكمل خصال الملوك ، ولذلك اكتسى حديث المستشرق نبرة عاطفية ، فيها الحب إِلى جانب التقدير والإِكبار .
ووصفة الزعيم الهندي جواهر لال نهرو في كتابه "رسائل إِلى ابنتي " فقال :
_________
(1) المصدر السابق ص83 .
(2) المصدر السابق ص83 .(1/205)
"أثبت ابن سعود أنه أذكى من الحسين ، فقد استطاع أن يقنع الإِنجليز بالاعتراف باستقلاله ، وأن يبقى على الحياد ، وبعد أن نجح ابن سعود كجندي ومحارب كرس كل جهوده لبناء بلاده على أسس عصرية حديثه ، لقد أراد القفز بها من حياة القبلية إِلى حياة العصر الحديث ، ويظهر أن ابن سعود نجح في ذلك إِلى حد كبير ، وأثبت أنه رجل سياسي قدير بعيد النظر (1) . .
ويتفق ثلاثة من الكتاب الغربيين غير المسلمين ، على أن الملك عبد العزيز أقام الحكم في دولته ومملكته التي أنشأها ، على أساس القرآن الكريم والسنة النبوية ، وجعل أساس الحكم فيها الشريعة الإِسلامية ، فيقول كي إِس تويتشل :
"إِن القرآن هو مصدر التشريع والقانون في البلاد العربية السعودية (2) . .
ويقول موريس جارنو :
"إِذا كان ابن سعود قد نجح في لم شعث الجزيرة العربية تحت لوائه ، فإِن مرد ذلك إلى أرقى عوامل الترامي والتماسك ، أي التقيد الشديد بأحكام القرآن (3) . .
ويقول جورج أنطونيوس :
_________
(1) المصدر السابق ص97- 98 .
(2) المصدر السابق ص309 .
(3) المصدر السابق ص308 .(1/206)
" بدل ابن سعود شكل الحياة في غرب الجزيرة تبديلاً أساسيَاَ ، في نواحيها الخاصة والعامة بما أوجده من نظام للحكم ، وما ذهب إِليه من فهم الواجبات المدنية ، فقضى على العادات الشائعة منذ قرون ، كما أنه جعل الشرع الإِسلامي له المقام الأول في تسيير أمور الدولة" .
ويضيف عن هذا التطور :
" عسى أن تثبت الأيام أنه أنفع تطور حدث في الجزيرة منذ الدعوة إِلى الإسلام (1) . .
_________
(1) المصدر السابق ص310 .(1/207)
لقد صدق توقع الكاتب الذي لا يدين بالإِسلام ، لقد كان تحكيم الملك عبد العزيز آل سعود للشريعة الإِسلامية في شبه الجزيرة العربية ، أهم تطور حدث فيها ، وأنفعه منذ مئات السنين ، ولقد صانها ذلك العمل الجليل من السقوط في التغريب الذي لم تنج منه دولة إِسلامية في المشرق أو في المغرب ، ولقد صان تجربة التنمية في المملكة في حياته من الفشل ، نتيجة التقليد والخضوع لإِيديولوجيات واردة من الشرق أو الغرب ، وكان لهذا العمل أثره في شعب المملكة وأسلوب حياته ، لقد عرف الجميع أن الشريعة هي المرجع الوحيد ، والأساس للدولة ، وللشعب ، وللحكومة ، وللمواطنين ، وعندما يتوِحد المرجع ، ويكون التمسك به نابعاً من القلب يصبح المجتمع موحداَ في أهدافه وطاقاته ، وهو ما بقي حتى الآن ، وسيظل- بإِذن الله- أعظم ما قدمه الملك عبد العزيز آل سعود لشعبه ولأمته ، فضلاً عن أن ترسيخ حكم الشريعة في المملكة ، وإِقامة الدولة على أساسه ، يعد أعظم تجربة سياسية للإِسلام في العصر الحديث الذي نشأت ، واستقرت ، وسادت فيه النظم السياسية العلمانية .(1/208)
* ونعتقد أن كثرة من كتب عن الملك عبد العزيز - رحمه الله- من العرب ، ومن الغربيين ، ومن المسلمين وغير المسلمين ، يرجع إِلى اتساع جوانب حياته ، وتعدد مواهبه ، وظهورها في عصره بين ملوك العصر وقادته ، فهو ليس من القادة أو الملوك أو الزعماء فحسب ، ولكنه ممن أقاموا الدول وأنشأوا الممالك ، وغيروا المجتمعات ، وهو ممن أجادوا استخدام السيف ، ووضعوه في موضعه ، إِلى جانب الحكمة التي ميزت تصرفاته ، سواء في ميدان المعركة ، أو في الحوار مع حلفائه ، أو خصومه .
لقد كان لتعدد مواهب الملك ، وثراء حياته بالأعمال الكبيرة منذ فجر شبابه ، وامتداد فترة حكمه في المملكة أثر كبير في إِقبال عشرات الكتاب والمفكرين والساسة ورجال الإِعلام على الكتابة عنه .
يقول برنارد لويس في بحثه المعنون " الزعماء السياسيون في الشرق الأوسط المعاصر وشمال أفريقيا " (1) . .
"إِن خلفية الملك عبد العزيز السياسية ، جعلته يفهم أن الدول الكبيرة القوية المنظمة هي وحدها التي سوف تبقى بعد الحرب ؛ ولذلك بدأ بتغيير الأسس والتنظيمات في المملكة ، واكتسب صورة من يبنون الإِمبراطوريات بسيوفهم " .
_________
(1) ص18 ، النص الإنجليزي ، الطبعة الأولى .(1/209)
ويتحدث كنت وليمز عن الملك عبد العزيز الرجل والمصلح ، فيقول :
"إِنه كان رجل دين ، عميق الورع " ، ويصف كرمه بأنه غير محدود ، كما يصف إِنشاءه للهجر ، لتحويل المجتمع إِلى مجتمع مستقر ، بأنه من أعظم إِصلاحاته ، كما أنه قاد إِصلاح التعليم ، وعين وزيراً له ، واستقدم المدرسين من الدول المجاورة التي تتكلم العربية ، كمصر وسوريا ، كما أنه اهتم أشد الاهتمام بصحة الحجاج إِلى بيت الله .
وتحدث الباحث عن إدارة الملك للعدل على أساس الشريعة ، فقال : " إِن الأساس الذي قاد إِلى ذلك كله ، هو تحقيقه للأمن المطلق ، والنظام في المملكة " (1) .
ويتحدث ليزلي ماك لوغلن في بحثه " ابن سعود مؤسس مملكة" عن كرم الملك ، وأن شلهوبَاَ ، وهو أحد اتباعه ، وكان أميناً على المخازن التي يعطي الملك منها هداياه ، ويكرم ضيوفه ، قال عن الملك- وقد ظن شلهوب أن الملك وضع نفسه في مأزق بسبب كرمه- :
"كل ملك في العالم يمده شعبه بالمال ، ولكن أهالي نجد يمدهم الملك " (2)
_________
(1) ينظر في ذلك كله كتاب ( ابن سعود سيد نجد وملك الحجاز) لكنث وليمز ، ترجمة كامل صموئيل مسيحة .
(2) ابن سعود مؤسس مملكة ، ترجمة د . محمد شيا ، ص158 الطبعة الأولى 1995م . .(1/210)
ويصف الملك بأنه كان متقدما عن مواطنيه ، بحيث كان يدفعهم إلى ما يجب أن يكون في دائرة اهتماماتهم ، وكان عدد من يعاونونه في تسيير أمور الحكومة قليلاً من السوريين ، وبعض المصريين ، ومن نجد والحجاز .
* ومن الكتاب الأجانب من غير العرب وغير المسلمين ، من نبه إِلى حقيقة مازالت حتى اليوم أعظم ما يميز المملكة العربية السعودية في البلاد الإِسلامية ، تلك هي التزام المملكة بتطبيق الشريعة ، واعتبارها دستوراً لها ، وقانوناً ينظم كل شؤونها ، وفي شهادة موجزة يقول كي . إِس . تويتشل :
"إِن القرآن هو مصدر التشريع والقانون في البلاد العربية السعودية " (1) . وتقول الكاتبة الفرنسية برتاجورج غوليس :
" وابن سعود لا يخرج في أعماله عن قواعد القرآن ، وسنة الرسول " (2) . .
_________
(1) الملك عبد العزيز رؤية عالمية ، ص309 .
(2) المصدر السابق ص310 .(1/211)
* في كل الأقوال والآراء التي تقدمت عن غير العرب وغير المسلمين ، نجد الإِنصاف لملك عربي مسلم ، وقبل الإِنصاف نجد الحقيقة التي يدركها أشد الناس حباً للملك ، ولا يستطيعِ إِنكارها الخصوم ، فالملك عند الجميع مسلم تقي ، يخشى الله أولاً وأخيراَ ، ظاهراً وباطناً ، وهو مسلم يتمسك بكتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو ملك حازم يضع السيف في موضعه بعد أن يختبر اللين والعفو أولاً ، وهو حاكم موفق في ميدان المعركة ، وفي مؤتمرات السلم والصلح ، وهو يسير على نهج واضح لديه أشد الوضوح : الكتاب الكريم ، والسنة النبوية ، يقيس على أحكامهما تصرفاته ومواقفه ، ويلزم غيره اتباع حكمهما ، وعدم الخروج عليهما .
هذه الشهادات تذكرنا بشهادات مماثلة أدلى بها كثير من غير المسلمين عن شخصيات إِسلامية ظهرت عبر القرون ، وفرضت نفسها على التاريخ الإِسلامي ، وشغلت أروع صفحاته ، مثل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- وعمر بن عبد العزيز ، وصلاح الدين الأيوبي ، رحمهما الله ، إِن هذه الصفحات تمتد لترتبط بها صفحة الملك عبد العزيز في العصر الحديث .(1/212)
إِن التاريخ الإِسلامي- في المشرق والمغرب- حفل بشخصيات إسلامية من ملوك المسلمين ، وأمرائهم ، وخلفائهم وقوادهم ، وكان ذلك واضحاً وظاهراً في عصور النشأة والازدهار في دولة الإِسلام .
ولكن في القرن الرابع عشر الهجري ، ومع تراجع المد الحضاري الإِسلامي ، ووقوع معظم أجزاء العالم الإِسلامي في قبضة الاستعمار الغربي الأوربي ، لم يظهر في الساحة العربية ، والإِسلامية على امتدادها من الملوك ، والأمراء ، والسلاطين ، من يقارن بالسابقين من الخلفاء والملوك في عصور الازدهار والانتصار ، عدا الملك عبد العزيز آل سعود ، رحمه الله .
كانت الزعامات العربية ، أو الإِسلامية تظهر ؛ لتقاوم الاحتلال أو التسلط الأجنبي ، وكانت مطاردة وملاحقة من قوى الاستعمار ، وأدت واجبها حسبما اقتضته الظروف والأحوال .(1/213)
إِن مهمة الملك عبد العزيز - رحمه الله- كانت أوسع وأرحب ، عمل من أجل شعبه ، وأمته قبل أن يعمل ضد أحد ، كانت همته أعلى ، وأهدافه أعظم . وكانت قضاياه التي عمل من أجلها ، وجاهد في سبيلها ، هي قضايا الدين والدنيا ، وقضايا الإِسلام والعروبة ، وقضايا التقدم والتنمية ، وهي قضايا الإِنسان المسلم والعربي في كل زمان ومكان ، وفي الوقت الذي كانت فيه البلاد العربية والإِسلامية تكافح ، وتناضل من أجل الدفاع عن كيانها ، والحفاظ على الاستقلال في أرضها وإِرادتها . كان الملك عبد العزيز يعمل من أجل أهداف أكثر شمولاً وأعظم بقاء ، وأشرف غاية ، تحت أعلى راية عرفها العالم العربي والإِسلامي ، راية التوحيد في الدين ، والوحدة بين العرب والمسلمين .(1/214)
وفاة الملك ورثاؤه
* وإِذا كانت كل نفس ذائقة الموت ، فإِن وفاة الملك عبد العزيز - رحمه الله- أثارت في نفوس العرب والمسلمين في البلاد العربية والإسلامية حزنا عميقاً ؛ لأنه كان يمثل بالنسبة إِليهم الملك العربي المسلم في العصر الحديث ، وكان يمثل في شمائله طرازاً من حكام العرب والمسلمين ، ممن نعدهم في الإِسلام من التابعين بإِحسان ، ومازال العرب والمسلمون يحنون إِلى ذلك الطراز من الملوك إِلى يومنا هذا .
لقد بعث الملك عبد العزيز هذه الصورة ؛ ولذلك أحبه العرب والمسلمون بوصفه مثلا للملك العربي المسلم ، وهو مثال ندر منذ قرون .
* كان إِلى جانب الملك عبد العزيز - رحمه الله- وهو في حال النزع الأخير بعد أن اشتد عليه المرض ولداه سعود وفيصل - رحمهما الله- وفي سكرات الموت كان يرمق ابنيه ، ويحضهما على التعاون معا ، وآخر ما سمع منه :
فيصل أخاك سعودَا ، سعود أخاك فيصلاً ، وكرر : لا حول ولا قوة إِلا بالله ، الحمد لله ، أشهد أن لا إِله إِلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، ثم أسلم الروح ضحى الاثنين الثاني من ربيع الأول من سنة 1373 هـ الموافق9 / 11 / 1953م .(1/215)
بكته المملكة العربية السعودية التي كافح طوال حياته في سبيل دينها ، ووحدتها ، وعزتها ، وكرامتها ، وفي سبيل أمن شعبها ، ورغد عيشه .
بكته المملكة رجالاً ونساءً ، وشيبَاَ وشباباً ، عظم مصابهم فيه ، فاتجهوا إِلى ربهم بالدعاء له بحسن المثوبة ، وعظيم الجزاء ، رثوه بالدموع ، وبالشعر وبالنثر ، وبكل ما يرثى به زعيم مؤمن مخلص .
وعزاؤهم إِيمانهم بربهم ، ونصره لمن نصر دينه ، وأقام شرعه .
وعزاؤهم ما خلفه الملك عبد العزيز من دولة ضخمة آمنة مستقرة ، قائمة على أسس متينة من الدين والعدل .
وعزاؤهم أبناؤه ، وإِخوانه ، وأعوانه الذين تربوا على يديه ، وجاهدوا معه ، وعاهدوا الله ، ثم عاهدوه على الصدق والإِخلاص .(1/216)
تسلم أبناؤه الراية زعيماً بعد زعيم ، وبطلاً بعد بطل ، حتى استقرت في يد ابنه البار خادم الحرمين الشريفين الملك المفدى فهد بن عبد العزيز آل سعود ، أعزه الله ، وحفظه ، ونصر به دينه ، وأعلى كلمته ، هو وعضده وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز آل سعود ، ونائبه الثاني صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود ، الذين على درب الملك عبد العزيز سائرون ، وفي سبيل تحقيق أهدافه العظمى مجاهدون ، هم وإِخوانهم وأبناؤهم ، حفظهم الله ، ومكن لهم ، وحفظ المملكة قيادة وشعباً وأرضَاَ من كل سوء ؛ لتظل راية الإِسلام خفاقة ، ولتكون درعاً للمسلمين ، وعوناً لهم في كل مكان .
ولا عجب أن يبكي شعب المملكة رجالاً ونساءً كباراً وصغاراً الملك عبد العزيز ، ويرثوه بالدموع والدعاء والشعر والنثر ، فهو المكافح في سبيل أمنهم ، ورقيهم ، وتوحيد كلمتهم على كتاب الله وسنة رسوله .
ولكن المثير أن يبكيه الناس في مشارق الأرض ، ومغاربها .(1/217)
لقد بكى الناس في كل مكان القيم التي كان يمثلها الملك عبد العزيز ، ويعيش من أجلها ملك عربي مسلم ، يقول الأستاذ/ محمد حسنين مخلوف مفتي مصر الأسبق حين بلغه نبأ وفاة الملك :
"مات الملك التقي ، مات الملك الصالح ، مات الإمام العادل ، مات عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود الذي سجل له التاريخ بطولة لا تعدلها بطولة ، وشجاعة فذة في الحق ، وإِقامة العدل ، وإِحياء سنن الإِسلام ، وإِماتة البدع التي أوهنت المسلمين منذ أزمان " (1) .
* ويتحدث عنه إِلى الأمة العربية والإِسلامية الأستاذ أحمد حسن الباقوري ، وكان وزيراَ للأوقاف في مصر ، فيقول : "استأثرت رحمة الله بالإِمام العظيم عبد العزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية ، فكان بذلك جسداً فانياَ ، طالما أرهقه العمل الجاد ، وأنهكه الكفاح المظفر ، أقام دولة نفت عن الأرض المقدسة نهب الناهب ، وفساد الفاسد ، وإِخافة المخيف ، بسطت للحجيج أخيمة الأمن ، فأحسن الله إِليه بقدر ما أحسن إِلى الناس ، وأفسح له جواره مكاناً مع الذين أنعم الله عليهم من الصديقين والصالحين " (2) .
ويذكر مآثره أحد رجال الصحافة والأدب البارزين الأستاذ كامل الشناوي ، فيقول :
_________
(1) المصدر السابق ص 550 .
(2) المصدر السابق ص552 .(1/218)
"جزعت لوفاة الملك عبد العزيز آل سعود ، فقد كان رجلا قبل أن يكون ملكاَ ، واستطاع أن يظل رجلاَ بعد أن أصبح ملكاً ، عاش عظيماً ، لقد بنى عبد العزيز ملكه بيديه ، بناه بكفاحه ، وإِيمانه ، وصدق شعوره بالواجب ، وقدرته على الاضطلاع بالمسؤولية ، كان متمسكاً بالدين ، وكان يعيش في الدنيا ، وعرف كيف يلائم بين دينه ودنياه ، فأراد لذاته الزهد والبساطة ، ولبلاده القوة والغنى " (1) .
ويقول :
" إِني أبكي عبد العزيز ، أبكي فيه زعيم أمة ، وقائد شعب ، وصاحب رسالة ، أبكي فيه الملك الرجل " (2) .
ومن مصر والعراق ، ولبنان ، ومن البلاد العربية والإِسلامية ، وفي أقوال علمائها ومفكريها وصحفها ، تأتي كلمات الرثاء تعبر عن الحزن في وداع الملك العربي المسلم عبد العزيز آل سعود .
تبكي القيم والرسالة التي حملها- دون غيره- إِلى البلاد العربية والإسلامية في العصر الحديث .
_________
(1) المصدر السابق ص555- 556 .
(2) المصدر السابق ص555-556 .(1/219)
الخاتمة
* عند الكتابة عن عظماء التاريخ الإِنساني أو الإِسلامي ، تكون الصعوبة في تقديم صورة كاملة عن حياة أولئك الأبطال ، راجعة إِلى ثراء الشخصية ، في تعدد مواهبها ، وقدر عطائها ، وبقاء أثرها ، وفي الكتابة عن الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود رحمه الله ، تجتمع العناصر السابقة كلها ، لتجعل من العسير على كاتب واحد ، أو كتاب أن يلموا بجميع جوانب العظمة في حياة الملك الإِمام ، وجهاده وإِنجازاته ، وأثره في المملكة وفي العالم العربي والإِسلامي .
ويكفي في كتابنا هذا أن نعطي القارئ صوِرة واضحة الملامح والقسمات عن شخصية الملك عبد العزيز : أميراَ من أمراء آل سعود ، وإِماماً للمسلمين في المملكة العربية السعودية ، ومجاهداً ، ومؤسساً لدولة قامت على توحيد الله وحده ، وعلى وحدة شبه الجزيرة العربية ، وذلك بعد فترة من التشتت والتفرق والتخلف ، وملكاً أقام أركان مملكته ، ووضع الأسس ، ومهد الطريق ، لنهضتها وتقدمها .
يحتاج كل جانب من جوانب هذه الحياة الثرية والغنية بالمواهب والمواقف والعطاء الإِسلامي والعربي إِلى العديد من الكتب .(1/220)
ولقد حاولنا في هذا الكتاب أن نبين سيرة واضحة لشخصية كبيرة في التاريخ الإسلامي على امتداد القرون ، وأن نلقي الضوء على عطاء الملك لشعبه ، وأمته العربية والإِسلامية ، وهو عطاء يسبق في موازين الحكم ، والسياسة ، عطاء أقرانه من الملوك ، والقادة المسلمين في عصره ، بل في العصر الحديث كله .
* في صفحات الكتاب التي تتناول حياة الملك وشخصيته العظيمة ، ومراحل حياته كلها ، تتجلى المواهب التي أنعم الله بها عليه ، وتظهر المواقف التي تنبئ عن شخصية متميزة ومتفردة ، بين الشباب ، والرجال ، والأمراء ، والقادة .
لقد ترك الملك عاصمة ملك آبائه ، وأجداده- الرياض- شاباَ صغيراً ، وعانى الملك في غربته ما يعانيه أصحاب الهمم العالية من الملوك والقادة ، حين يتركون ديارهم ومكانتهم قهراً . ولكن لم يمض وقت طويل حتى كان الأمير عبد العزيز يقتحم مقر ملكه ، وملك أجداده ، كان على رأس أنصاره ، وأتباعه في القتال ، حتى إِذا أعاد حكم آل سعود إِلى الرياض عام 1319 هـ (1902 م) سلم الإِمارة لوالده الإمام عبد الرحمن ، وهي عفة عند المغنم لم تعرف في كثير من الملوك والفاتحين .(1/221)
ولكن الأب- الإمام عبد الرحمن - كان يدرك أن آمال آل سعود ، وجهود آبائه وأجداده في سبيل توحيد شبه الجزيرة ، سوف تتحقق - بإذن الله- وتكتمل على يد الأمير عبد العزيز ، فرد الإِمارة إِليه ، وبايعه الناس إماماً وأميراً على الرياض .
* في حياة الملك عبد العزيز منذ دخل الرياض 1319 هـ (1902م) إِلى أن وحد معظم شبه الجزيرة ، علامات بارزة وأيام مشهودة ، أشرنا إِلى الكثير منها ، وتشهد الوقائع ، والأحداث على المواهب الجليلة ، والمواقف النبيلة للملك مع الأصدقاء والخصوم ، وتتجلى في معاركه التي خاضها شجاعة المقاتل ، وحكمة القائد ، وتدبير الإمام ، وتظهر قدرته على احتمال الشدائد ، ومواجهة الخطوب ، فلم يكن يسيراً أن يحقق ما عجز عن تحقيقه ، أو حتى عن التفكير فيه ، أمراء وحكام وقواد في مناطق . وقبائل متفرقة في شبه الجزيرة . ولم يتحقق له النصر بالسيف وحده ، وإِن كان السيف في كثير من الأحيان أنفع أدواته وآخر وسائله ؛ لأن توحيد المناطق ، والقبائل بعد سنوات من التفرق ، والتشرذم ، وحياة البداوة ، يحتاج إِلى شجاعة المقاتل ، وحكمة القائد ، وحنكَة السياسي ، وعدل الإِمام .(1/222)
في جهاد الملك المؤسس منذ دخل الرياض عام 1319 هـ (1902م) إِلى أن توحدت أجزاء المملكة تحت ملكه عام 1349هـ (1930م) ، يكفي أن نتذكر علامات بارزة في تلك المرحلة من جهاد الملك ، ومعاركه التي كانت بين كر وفر ، ومفاوضته أمراء وحكاماً ، كان بعضهم يظهر خلاف ما يبطن نحوه ، ومناوأته للقوى الخارجية التي كانت تسيطر على نواح من شبه الجزيرة ، أو تطمع في مد نفوذها وسلطانها .
ولكن الله تعالى أيد عبد العزيز آل سعود ، رحمه الله ، بالنصر في ساحات القتال ، وأنار بصيرته في التعامل مع القوى الخارجية والمكائد الداخلية .
لقد عانى الملك في سبيل توحيد المملكة من خصوم الإِسلام والمسلمين ، ومن أمراء السوء ، ومن الجهلة بالدين .
ومما يزيد من قدر الملك المؤِسس رحمه الله ، أنه كان يحقق النصر ، معٍ قلة في العدد والعدة أحياناَ ، وكان الملك معلماً ، ومرشداَ ، وناصحا لحاشيته وأتباعه ومستشاريه ، مع ما تميز به من حسن اختيار الرجال ، وتوجيه الأنصار والأتباع .(1/223)
* في صفحات هذا الكتاب وسطوره ، يظهر جانب من أهم جوانب الحياة لدى الإِنسان ، ولو كان ملكاً ، وهو جانب قد لا يوليه المؤرخون حقه حين يؤرخون لعظماء الرجال ، ولكننا في التاريخ الإِسلامي ، وفي مقاييس العظمة والبطولة ، يجب أن نضعه في موضعه ، ونقدره حق قدره ، وهو أن عظمة الإِنسان لا تكتمل إِلا بكمال أخلاقه علىِ هدي الإِسلام .
وقد جاء وصف العظمة في الرسول صلى الله عليه وسلم مقترناَ بعظمة الأخلاق : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ( القلم 4 ) .
فالعظيم في الناس من تعظم أخلاقه وسجاياه ، ولا نعيد أو نزيد عما ذكرناه في صفحات الكتاب عن خلق الملك عبد العزيز رحمه الله وسجاياه ، وأولها وأهمها خشية الله ، والخوف منه ، والتوكل عليه ، والإِنابة إِليه في الأمور كلها ، وكان يزين خلقه الشجاعة ، والوفاء بالعهد ، والجود ، وحب العدل والإِنصاف ، والرأفة بالضعفاء من الناس ، والتواضع لله عز وجل ، والعفو عند المقدرة ، والصبر على الشدائد ، واحتمال المكاره .
كان ، رحمه الله ، يتحلى بأخلاق الإِسلام ، ويستلهم- مع أخلاق الإِسلام - في ملكه وإِمامته ، تاريخ خلفاء المسلمين الراشدين والصالحين .(1/224)
* خلت صفحات الكتاب من المقارنة بين الملك عبد العزيز ، وملوك البلاد الإِسلامية والعربية ، وأمرائها في عصره .
ففي عصر الملك عبد العزيز 1319هـ - 1373هـ ، الموافق للنصف الأول من القرن الميلادي العشرين (1902- 1953م) كانت بلاد المشرق والمغرب العربي تحت سيطرة الأجنبي ونفوذه ، وبخاصة الاحتلال الغربي ، وكان الهدف الأول للشعوب العربية في المشرق والمغرب ، أن تتخلص من التبعية والاحتلال ، وأن تشق طريقها للتقدم ، والازدهار .
* ولسنا في مجال المقارنة حين نذكر كلمة حق ، أو مقالة صدق ، عن الملك عبد العزيز رحمه الله ، فلم يكن في بلاد المشرق ، أو المغرب العربي في ذلك الوقت من أقام ملكه بجهاده وكفاحه ، سوى الملكِ عبد العزيز ، الذي لم يخضع في مراحل حياته لقوة أجنبية ، فكان نداَ لكل قوة في شبه الجزيرة في ساحة القتال ، أو في ميدان السياسة .
ولقد كان فكره يتجه إِلى الوحدة العربية والإِسلامية ، في عصر كانت تقام فيه الكيانات القطرية في بلاد المشرق والمغرب العربي تحت سيطرة الأجنبي .(1/225)
وبينما كانت معظم البلاد العربية تحاول اكتشاف طريقها للتقدم على المثال الأوربي والغربي ، اختار الملك عبد العزيز طريق الإِسلام وحده ، وأقام حكم الشريعة في بلاده .
ومما يستلفت النظر في موقف القوى الأجنبية من الملك ، أنه كان محل التقدير والاحترام البالغ منها ، يظهر ذلك في أقوال رؤساء تلك الدول ، وقادتها ، كما يظهر في شهادات أصحاب الرأي ، ورجال الإِعلام .
* لقد كان ما حققه الملك عبد العزيز في شبه الجزيرة ، ولأمته العربية والإِسلامية ، خلال عشرات السنين ، عميق الأثر في عصره ، عرفه له الأنصار والخصوم ، ويكفي أنه عبر بشعب المملكة ، من حياة البداوة إِلى حياة التحضر والاستقرار في سنوات معدودة ، وتلك نقلة كانت تحتاج - لولا توفيق الله ، ثم همة الملك وجهده وثقته في شعبه- إِلى سنوات طويلة .
وكان جهاده طوال حياته في سبيل تحقيق أهم ما يشغل الأمة العربية والإِسلامية ، وهي قضية التوحيد ، جوهر الدين وعقيدة المسلمين .(1/226)
كان خطابه الديني يعبر عن تاريخ الأسرة السعودية التي رعت منذ نشأتها في عهد الإِمام محمد بن سعود رحمه الله ، 1139- 1179هـ (1726- 1765 م) دعوة الإِصلاح الديني التي قادها المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ، فظلت دعوة الإِصلاح الديني في حماية أئمة آل سعود ، حتى توحدت المملكة في عهد الملك عبد العزيز على هدي القرآن والسنة ، وتحققت الوحدة التي تتطلع إِليها الأمة الإِسلامية .
تابع الملك عبد العزيز جهاد آبائه وأجداده في سبيل توحيد المملكة وإِقامتها على شرع الله ، حتى تم ذلك على يديه . وكان خطابه السياسي طوال حياته يعبر عن إيمانه بوحدة الأمة العربية والإِسلامية ، وقد عمل من أجل جمع الشمل ، والاهتمام بقضايا المسلمين ، والدفاع عن المستضعفين منهم في أنحاء الأرض .
وفي صفحات الكتاب ما يلقي الضوء على جهاده الديني في سبيل عقيدة التوحيد ، وجهاده من أجل توحيد الأمة الإِسلامية ، وجمع شملها .
* ولم ينقطع عمل الملك عبد العزيز وجهده بموته رحمه الله ، فقد بقي أثر هذا العمل ونتائج هذا الجهد في الأجيال التي تلت عصره .(1/227)
على مستوىالقيادة تولى الملك بعده أبناء له ، تابعوا جهاده ، وترسموا خطاه ، بعد أن تلقوا عنه ، وتعلموا منه .
وعلى مستوىالوطن كان الملك عبد العزيز قد وضع الأسس ، وحدد المنهاج ، واختار الطريق .
وعندما انتقل الملك إلى الرفيق الأعلى عام 1373 هـ (1953 م) كان الأمن قد استتب في المملكة ، الأمن الشامل لمن يقيم على أرضها ، ومن يفد إِليها من الحجاج والعمار ، وكان ذلك أملاً للمسلمين في أنحاء الأرض ، وكان المجتمع السعودي قد وضعِ قدميه على طريق التحضر ، والإِحساس بالانتماء الوطني والإِسلامي ، بديلا عن البداوة والانتماء القبلي ، وكان نظام الدولة والمجتمع يقوم على كتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
لقد وضع الملك عبد العزيز الأسس التي قامت عليها المملكة ، مما يجعل عبارة الملك المؤسس ، حين نتحدث عن الملك ، وصفاً لواقع أكثر منها صفة لشخص .
بدأ الملك مسيرة التقدم في تحديث المملكة ، بدءاً من خدمة الحرمين الشريفين ، ومروراً بنشر التعليم ، وتيسير وسائل النقل والاتصال ، وإِنشاء نواة الجيش السعودي ، وتأسيس قوى الأمن ، وتشجيع الزراعة والصناعة والتجارة والصحة والطرق والنقل .(1/228)
ولابد لهذا الجيل من أبناء المملكة حين يستشعرون نعمة الأمن الشامل واستقرار حياتهم ، والاطمئنان على مستقبل أبنائهم في ظل رعاية الدولة للمواطنين ، لا بد لهذا الجيل أن يعرف أن علو البناء يرجع إِلى قوة أساسه ، وأن المكانة التي بلغتها المملكة على المستوىالعربي والإِسلامي والدولي ، لم تبدأ في الظهور إِلا حين توحدت المملكة في عهد الملك عبد العزيز ، وأن ما يجري من إِصلاح وتنمية في كل مناطق هذه المملكة ، وفي جميع المجالات ، إِنما هو امتداد للنهج الذي بدأه عبد العزيز ، رحمه الله ، وسار عليه من بعده أبناؤه العظام ، فكانوا بفضل الله ، ثم بولاء المواطنين وحبهم وعملهم ، أبر الأبناء ، وخير خلف لسلفهم العظيم ، الإِمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود رحمه الله ، وأكرم مثواه .
* لا تكفي صفحات هذا الكتاب للوفاء بحق الملك عبد العزيز ، وإِنها لتقصر عن الرؤية الكاملة لصفات هذه الشخصية التاريخية الفريدة ، في حياتها ومواقفها وإِنجازاتها وأثرها .
وصلى الله على سيدنا محمد ، وعلى . آله وصحبه ، وسلم .(1/229)
قائمة بأهم المصادر والمراجع
* الأخبار النجدية ، لمحمد بن عمر الفاخري ، تحقيق معالي الدكتور عبد الله بن يوسف الشبل ، طباعة جامعة الإِمام محمد بن سعود الإِسلامية .
* أطلس تاريخ الإِسلام ، للدكتور حسين مؤنس ، الطبعة الأولى سنة 1407 هـ .
* الإمام العادل ، لعبد الحميد الخطيب ، طبع شركة ومطبعة مصطفي البابي الحلبي بمصر ، بدون تاريخ .
* ابن سعود سيد نجد وملك الحجاز ، لكنث وليمز ، ترجمة كامل صموئيل مسيحة ، الطبعة الأولى .
* ابن سعود مؤسس مملكة ، ترجمة ، محمد شيا 158 ، الطبعة الأولى 1995 م .
* ابن سعود وقضية فلسطين ، لأحمد عبد الغفور عطار ، من منشورات المكتبة العصرية بلبنان ، بدون تاريخ .
* تاريخ ملوك آل سعود ، للأمير سعود بن هذلول ، الطبعة الأولى 1380 هـ .
* تاريخ المملكة العربية السعودية ، للدكتور عبد الله الصالح العثيمين ، الطبعة الثامنة 1418 .
* تنظيمات الدولة في عهد الملك عبد العزيز للعقيد الدكتور إِبراهيم العتيبي ، الطبعة الأولى 1414 هـ .
* توحيد المملكة العربية السعودية ، لمحمد المانع ، ترجمة الدكتور عبد الله العثيمين ، الطبعة الأولى 1402 هـ .(1/230)
* توحيد المملكة العربية السعودية ، وأثره في الاستقرار الفكري والسياسي والاجتماعي ، للدكتور محمد بن عبد الله السلمان ، الطبعة الأولى عام 1416 هـ .
* جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، للإِمام أبي جعفر الطبري ، الطبعة الثالثة .
* جريدة أم القرى ، العدد 406 في 22 / 5 / 1351هـ .
* الزعماء السياسيون في الشرق الأوسط المعاصر وشمال أفريقيا ، لبرنارد لويس ، النص الإِنجليزي ، الطبعة الأولى .
* السيرة النبوية ، لابن هشام ، تحقيق مصطفى السقا ، وزميليه ، الطبعة الثانية 1375 هـ .
* السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية ، للدكتور مهدي رزق الله أحمد ، الطبعة الأولى .
* صقر الجزيرة ، لأحمد عبد الغفور عطار ، الطبعة الخامسة 1399 هـ .
* عاهل الجزيرة العربية ، لعبد الرحمن نصر ، بدون تاريخ .
* عثمان بن بشر ، منهجه ومصادره ، لمعالي الدكتور عبد العزيز الخويطر ، الطبعة الثامنة عام 1395 هـ .
* عنوان المجد في تاريخ نجد ، لعثمان بن بشر ، نشر مكتبة الرياض .
* غياث الأمم في التياث الظلم ، لأبي المعالي الجويني ، تحقيق الدكتور مصطفى حلمي ، والدكتور فؤاد عبد المنعم أحمد ، ط دار العلوم سنة 1979 م .(1/231)
* مجلة مركز البحوث ، في جامعة الإِمام محمد بن سعود الإِسلامية ، العدد الثاني .
* معارك الملك عبد العزيز المشهورة ، للدكتور عبد الله الصالح العثيمين ، الطبعة الأولى 1415 هـ .
* اْلملك الراشد ، لعبد المنعم الغلامي ، طبع دار اللواء عام 1980 م .
* الملك عبد العزيز ، رؤية عالمية ، للدكتور ساعد العرابي الحارثي ، دار القمم للإِعلام ، الطبعة الأولى 1415هـ .
* الملك عبد العزيز وفتح الرياض ، لعبد الواحد محمد راغب ، من مطبوعات دارة الملك عبد العزيز ، بدون تاريخ .
* موسوعة التاريخ الإِسلامي ، للدكتور أحمد شلبي ، الطبعة الخامسة .
* الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز ، لخير الدين الزركلي ، طبع دار القلم ببيروت عام 1391 هـ .
* يوم وملك ، لمعالي الدكتور عبد العزيز الخويطر ، الطبعة الأولى 1418 هـ .(1/232)