ولئن شهدت الأيام الماضية المباركة فرح المسلمين بأعيادهم الشرعية، واحتفل فيها النصارى بأعيادهم الكفرية؛ فإن الأمة الصفوية الباطنية قد خالفت عموم المسلمين في العيد الكبير فأخروه عن العيد الشرعي؛ إمعانا في المخالفة، وقصدا لترسيخ البدعة، وخرقا لإجماع الأمة، ثم عمدوا إلى عيد المسلمين الأكبر فقتلوا فيه حاكم العراق؛ ليؤكدوا لأهل السنة حكمهم لمدينة السلام وما حولها، التي كانوا يحلمون بحكمها منذ القرن السابع لما أسقط أجدادهم بخيانة ابن العلقمي الرافضي خلافة بني العباس تحت أقدام المغول. فعلوا ذلك وهم يرددون الشعارات الطائفية البغيضة التي تنم عن تعصبهم لمذهبهم الضال، وتشي بمدى حقدهم على أهل الإسلام، وتدل على أنهم قوم بهت غدر، يظهرون الضعف والوداعة حتى إذا تمكنوا لم يرقبوا في مؤمن إلا ولا ذمة، وما يفعلونه بأبناء العراق من التعذيب والحرق وتشويه الأجساد وتمزيقها لم يفعله إخوانهم من الصهاينة والصليبيين كأنهم بقتلهم لحاكم العراق الأسير في العيد الكبير يوصلون رسالة مهمة لعموم المسلمين يقولون لهم فيها: أنتم تفرحون بعيدكم، ونحن نأمر وننهى في مدينتكم مدينة السلام، وقد خرجنا عن تقيتنا، وأعلنا شعارنا الطائفي حال قتلنا لزعيم من زعمائكم، وحوّلنا الإعلام من الاهتمام بحجكم إلى مواقع إهانتكم، ومواضع ذلكم، فما أنتم قائلون؟ وماذا ستفعلون؟ وما أنتم إلا عاجزون. حتى إن كاتبا غربيا أثر فيه المشهد وتوقيته فقال:إنه عندما يظهر دكتاتور عرف بوحشيته الاستثنائية وهو يموت بطريقة مشرفة وبشجاعة نادرة على أيدي مجموعة من السفاحين, قطاع الطرق, المقنعين, فإن ذلك يمنحه بكل تأكيد تاج الشهداء.إلى أن قال:من الواضح أن ما أراده المالكي هو بعث رسالة متعمدة إلى سنة العراق مفادها أن الشيعة هم الأسياد الآن, مما يحول الحكومة العراقية الحالية, التي كان هدفها توحيد العراقيين, إلى مجرد عصبة طائفية مصممة على جعل السنة الأقلية التي تدفع ثمن كل القمع الذي مارسه نظام صدام بحق الشيعة .
لقد التقت الرغبة اليمينية الإنجيلية مع الحقد الصفوي الباطني، على هدف واحد وهو هزيمة روح المقاومة عند السنة ومن ثم البدء بتشكيل المنطقة وكتابة تاريخ يخطه المنتصرون.
إن مشروع تركيع الشرق الإسلامي لا يمكن أن يطبق دون إجهاز على النفوس المقاومة للظلم والاستعمار والتغريب والتشييع،والذي يحدث في العراق هو تجهيز للمنطقة بكاملها إن على مستوى العنف والقتل والدمار الذي وصل إلى مستوى القاع وليس بعد القاع إلا رمي ركائز الشرق الأوسط الجديد، أو على مستوى السياسات العامة، أو على مستوى التهيئة النفسية. واختيار هذا الموعد لإعدام صدام هو آخر بالونات الاختبار للتأكد من أن التخدير قد جرى في شرايين أبناء المنطقة، وأنهم لم يعودوا يشعرون بالألم فما لجرح بميت إيلام.رد الله تعالى كيدهم عليهم، وحفظ المسلمين من شرهم ومكرهم.
أيها الإخوة: وما أن وقع هذا الحدث الكبير في عالم السياسة، ونقلت وسائل الإعلام إعدام حاكم العراق إلا وتحول اهتمام الناس إليه، وكثرت أقاويلهم فيه، وخصصت برامج إعلامية تحكي سيرة الزعيم المقتول، وعقدت مناظرات لأجله، وسودت صفحات في حياته وأعماله، واختلف الناس فيه اختلافا كثيرا، وضاع العامة في خضم هذا الاختلاف.
فطائفة رأوا في الزعيم المقتول رمزا من رموز الأمة، وعلما من أعلامها، مدافعا عن قضاياها، حريصا على مصالحها، حاميا لبيضتها، وما قصده صهاينة اليهود والنصارى إلا لأنه أعظم خطر عليهم، وما تشفى فيه الفرس الصفويون وأذنابهم إلا لأنه كان السد المنيع دون مشاريعهم التوسعية، ويرى هذا الفريق من الناس أن إعدامه هو إعدام للنظام العربي برمته، وهو رسالة لكل من يقف حائلا دون المشاريع الصهيونية أو المشاريع الباطنية الصفوية بأنه سيلقى نفس المصير، وبالغ كثير منهم فجعلوه شهيد الأمة الذي لن يتوحد العراق بعده، ولا خير في الأمة عقبه، وعدوه في مصاف قادة الإسلام العظماء، وتألى بعضهم على الله تعالى فحكم له بالشهادة والجنة.
وفي كلام هؤلاء حق وباطل، والأمة العاجزة المظلومة تتعلق بأي رمز تراه قد تحدى أعداء الأمة في العلن، ولو كان فيه حيدة عن منهجها ورسالتها، وفي زمن الذل تتعلق القلوب بمن فيهم عزة، وحال انتشار الخوف والجبن يحب الناس الشجاع فيهم، وتعميهم شجاعته وعزته عما فيه من خلل وقصور.
في مقابل هذا الفريق فريق آخر لم يروا في حاكم العراق إلا خائنا لأمته، ممالئا لأعدائها، سفاكا لدمائها، غشوما في حكمها، قوته على شعبه لا على أعدائه، وسياساته الخرقاء، وتصرفاته الرعناء جرت المنطقة إلى ويلات لا عافية منها، ووطنت للصليبيين والصهاينة مواضع أقدام من العسير زحزحتها، ويعزو هذا الفريق من الناس كل بلاء الأمة إليه، ويجزمون بأنه الصفحة السوداء الوحيدة في بلاد الرافدين، ولا يرون له حسنة واحدة، ويعدون تغيره في آخر فترة حكمه، واتجاهه لبناء المساجد، وتوسيع الدعوة إلى الله تعالى، والعناية بالقرآن وحفظه، يعدون ذلك انتهازية لجمع الناس عليه بعد ضجرهم من الحصار، ومساومة منه للغرب، واستخدام الدين سلاحا يهددهم به، ويرون أن ثباته في محاكمته، واصطحابه لمصحفه، ومحافظته على الصلاة في سجنه، ما هو إلا عمل البائس اليائس الذي فقد كل شيء فركن إلى الدين ليخدع الناس، ويكسب تعاطفهم، وتألى بعضهم على الله تعالى فزعموا أن الله تعالى لا يغفر له، وأن جهنم مأواه، وأن نطقه لشهادة الحق قبل موته لا ينفعه، وأن إيمانه كإيمان فرعون حال غرغرته. وكما أن في حكم الفريق الأول حق وباطل ففي ما حكاه هؤلاء حق وباطل.(12/51)
وبين هذين الرأيين المتباينين أراء أخرى كثيرة مشرقة ومغربة، يضيع كثير من الحق في ثناياها، ويضرب الباطل أوتاده فيها.
والذي ينبغي أن يعلمه كل مسلم أن الله تعالى لا يطالب عامة الناس بالحكم على عباده ومآلاتهم؛ لأن الحكم فيهم إلى الله تعالى، وليسوا مكلفين بالخوض فيما لا يعلمونه من أحوال الرجال، فمن تكلم فيهم وجب ألا يتكلم إلا بعلم وعدل، وأن يتحرى الحق فيما يقول ولو كان ثقيل الوطأة على نفسه، وأن يخلص في حكمه وقوله لله تعالى، لا يبتغي بذلك عرضا من الدنيا،ولا يريد نصر طائفة أو حزب، أو النكاية والشماتة بآخرين، واضعا نصب عينيه قول الله تعالى {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون} وقوله سبحانه {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى}.
لقد مرت بحاكم العراق أطوار وأحوال جعلت الناس يختلفون فيه، ويحتارون في أمره، فهو ربان حزب البعث الكافر بالله تعالى، المؤمن بالعروبة، وهو فارضه على أفراد شعبه، وما بلغ الحكم إلا على سيل من الدماء، وأكوام من الجثث، ثم لما حكم الناس أمعن في ظلمهم، وأسكت أصواتهم، وسار سيرة فرعون {ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} وكانت جريمته الشنعاء بخيانته لجيرانه، واجتياح بلادهم، واستحلال دمائهم ونسائهم، مما أوجد المعاذير للدول المحتلة أن تضع أقدامها، وتنصب قواعدها في منطقة حرمت منها.فجرى عليه ما جرى من الحرب والحصار، فتغير عقب ذلك وقوَّى الدين وأهله، والله تعالى وحده أعلم بنيته، وليس للناس إلا الحكم على ظاهره، ثم ازداد تمسكه بدينه عقب أسره، فما فارقه مصحفه بشهادة أعدائه قبل أصحابه، وظهر اعتزازه بدينه أثناء محاكمته حتى أحرج قضاة الزور بثباته وعزته، ثم كانت الخاتمه الحسنة برباطة جأشه والحبل على رقبته، ونطقه بالشهادتين قبل شنقه {ومن كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة} فنرجو له بنطقه للشهادتين المغفرة والجنة، ولا نجزم له بذلك، فلا يعلم ما في قلبه إلا الله تعالى، ولا نجعل ماضيه الأسود حائلا بينه وبين قبول التوبة؛ فقد قبل الله تعالى توبة من هم أكثر كفرا وإجراما منه، فنقلهم الله تعالى بتوبتهم من كفار فجرة إلى مؤمنين بررة، كمسلمة الفتح من قريش الذين آذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاربوه وعذبوا أصحابه.
وقبل سبحانه توبة من قتل مئة نفس وهاجر تائبا إلى قرية مسلمة ، فقبضت روحه قبل بلوغها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فوسعته رحمة الله تعالى، فتولته ملائكة الرحمة.
وغفر الله تعالى لرجل أسرف على نفسه، فأمر أن يحرق جسده بعد موته، وأن ينثر رماده فتذروه الرياح، فلا يجمعه الله تعالى، فشك في قدرته سبحانه على جمعه، ولكن ما حمله على ما فعل إلا خوفه منه عز وجل، فغلب خوفه من الله تعالى شكه في قدرته سبحانه فغفر الله تعالى له (فقال الله تعالى له لما جمعه: ما حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك يا رب، فغفر له بذلك) رواه الشيخان.
ولعل ما أصاب حاكم العراق من عظيم الابتلاء بخسارة عرشه، وقتل بنيه وبنيهم ، وتشريد أسرته، وسجنه ومحاكمته وقتله، مع توبته ونطقه للشهادتين، لعل ذلك مكفرا لما مضى من ذنوبه.
وأما حقوق العباد ودماؤهم، وظلمه لهم فالحكم فيها للعلي الكبير، وسيقف هو وخصومه يوم القيامة أمام حكم عدل للقصاص، واستيفاء الحقوق، ولا يظلم ربك أحدا.
والواجب على المسلم الذي شاهد هذا المشهد أن يفرح بتوبة جبار العراق حين تاب، وبنطقه للشهادتين، ولا يكون كرهه لطغيانه وأفعاله السيئة مانعا له من الفرح بتوبته، أو يتمنى أنه مات على الكفر أو ختم له بخاتمة السوء؛ فإن من لوازم ذلك محبة الكفر في بعض المواضع، وإرادته من بعض الأشخاص، نعوذ بالله تعالى من الجهل والهوى.
وقد فرح النبي صلى الله عليه وسلم بتوبة مسلمة الفتح رغم أذاهم له ولأصحابه رضي الله عنهم، وفرح عليه الصلاة والسلام بتوبة الغلام اليهودي الذي زاره وهو في سياقة الموت فدعاه للإسلام فأسلم فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول (الحمد لله الذي أنقذه من النار) رواه البخاري.
وهكذا يجب على المؤمن أن يفرح بإيمان الكافر، وتوبة العاصي، ويتمنى أن يختم بالحسنى لكل الناس.كما يجب عليه أن يتوخى العدل في أحكامه وأقواله، ويتجرد من الهوى في حكمه، ولا يحكم إلا بعلم، ولا يقول في الرجال بالظن؛ فإن الله تعالى سائله يوم القيامة عن أقواله وأفعاله(ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) ( وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون).
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ....
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وخذوا مما ترون من أحداث عبرا؛ فإن السعيد من اعتبر بغيره.(12/52)
أيها المسلمون: في ضجة هذا الحدث الكبير بمقتل زعيم من زعماء العرب كانت له صولات وجولات يهتم كثير من الناس بذات الحدث، وينشغلون بمجرياته وتفاصيله عن دروسه وعبره، فيكون الحدث مع أهميته عديم الفائدة بالنسبة لهم، وكم مرت بالناس من أحداث قلّ في الناس من استفاد منها، بسبب الجهل والغفلة، وكثرة الشهوات والملهيات. ودروس هذا الحدث الجديد كثيرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؛ فمما يستفاد منه: أن عاقبة الظلم وخيمة، ونهاية الظالمين أليمة، ولعل ما أصاب حاكم العراق عقوبة له على ظلمه أيام سطوته وجبروته، ولربما رفع مظلوم يديه إلى ربه في حبيب قتله أزلامه فاستجاب الله تعالى دعوته، فجرى عليه ما جرى، ولما نكب البرامكة في دولة الرشيد العباسي قال جعفر بن يحيى لأبيه وهم في القيود والحبس: يا أبت، بعد الأمر والنهى والأموال العظيمة أصارنا الدهر إلى القيود ولبس الصوف والحبس؟ فقال له أبوه: يا بني، دعوة مظلوم سرت بليل غفلنا عنها ولم يغفل الله تعالى عنها.
وفي التاريخ القديم والمعاصر عبر في مصارع الظالمين..تأملوا مصرع فرعون وأبي جهل وأبي بن خلف وأبي طاهر القرمطي، وفي التاريخ المعاصر ماذا كانت نهاية هتلر النازي، وموسوليني الفاشي، وشاه إيران، وطاغية رومانيا تشاوشسكوا، وطاغية الصرب ميليسوفتش، وغيرهم كثير. لقد طغوا وتجبروا وظلموا ثم أذاقهم الله تعالى الذل في الدنيا. لقد زالوا كأن لم يكونوا، ويا ويلهم من مظالم تنتظرهم. فحري بكل من ولاه الله تعالى ولاية كبيرة أو صغيرة ألا يغتر بسلطته وقوته، وأن يتوخى العدل في رعيته، وأن يأخذ من سير الظالمين ومصارعهم أعظم العظة والعبرة. وعلى كل عاقل ألا يغتر بالدنيا وزهرتها؛ فإن تقلباتها كثيرة، وكم من عزيز ذاق ذلها! وكم من غني أوجعه فقرها! ولقد مرت أيام على حاكم العراق ظهر فيها مزهوا أمام الشاشات والجموع تحف بموكبه، وتطأ عقبه، وتهتف له، تمنى أثناءها كثير من الناس مكانته، وحلموا بأمواله وقصوره ورفاهيته، ولو علموا نهايته لما تمنى واحد منهم سلطانه، ولا غبطه على ما هو فيه من النعيم لعلمه بالبؤس الذي بعده، ولا حسده على عز يعقبه ذل وأي ذل. وقد روى أنس رضي الله عنه فقال: (كانت ناقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسمى العضباء وكانت لا تسبق فجاء أعرابي على قعود له فسبقها فاشتد ذلك على المسلمين وقالوا: سبقت العضباء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه) رواه البخاري. ثم تأملوا إلى حكمة الله تعالى فيما يقدره على العباد مما يظنونه شرا لهم، وفيه من الخير ما لا يعلمونه، فإنه يغلب على ظننا أن حاكم العراق لما اكتملت له الدنيا كان بعيدا عن الله تعالى، محاربا لأوليائه، ممالئا لأعدائه، قد أسكرته السلطة عن تذكر ربه سبحانه وتعالى، وأغفله الملك عن معرفة دينه، ولو خير وقتها أن يموت على حاله أو يفقد ملكه لاختار الموت. ولكن الله تعالى قضى عليه ما لم يختر فكان خيرا له؛ إذ كان فيما حاق به من عقوبات وابتلاءات مع الإمداد له في عمره، وعدم تمكن أعدائه من قتله في أول أمره فرصة لمراجعة نفسه، وتفقد قلبه، فتغير حاله في الهزيمة والحصار ثم في الأسر والذل عن حاله في الملك والعز. وهكذا فإن العبد قد يصاب في نفسه أو ولده أو ماله فيكون ذلك سببا ليقظته من رقدته، وتنبيهه حال غفلته، فيعود إلى الله تعالى فيختم له بخير عمله، وقد كره من قبل قدر الله تعالى عليه، وقضاءه فيه، فكان ما اختاره الله تعالى له خيرا مما يختار هو لنفسه، فاعرفوا حكمة الله تعالى في عقوباته وابتلاءاته، وتأملوا رحمته سبحانه ولطفه بعباده؛ إذ يجري لهم الخير العظيم من أبواب يظنها العباد شرا محضا، وربنا جل جلاله لا يخلق شرا محضا، والخير بيديه، والشر ليس إليه، سبحانه وبحمده، وتبارك اسمه، وتعالى جده، ولا إله غيره.
وصلوا وسلموا على نبيكم....
=============
إعدام صدام بين السلبيات والإيجابيات
كان هذا الحوار مع فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن مرزوق الطريفي حفظه الله .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في يوم العاشر من ذي الحجة والمسلمون يحتفلون بعيد الأضحى المبارك ويريقون دماء الأضاحي قربةً لله تعالى واقتداءً وأسوة برسول الهدى صلى الله عليه وسلم ، تفاجأ العالم بأسره بنبأ إعدام رئيس العراق السابق صدام حسين و قد آثار هذا الحدث ضجة إعلامية و تساؤلات شرعية فأحببنا تسليط الضوء عليها من خلال إجراء هذا الحوار مع فضيلتكم :
1. تم قتل الرئيس العراقي السابق صدام حسين في أرض العراق ..
أ ) فما الهدف من توقيت قتل صدام في يوم عيد الأضحى المبارك ؟(12/53)
بسم الله الرحمن الرحيم وبعد .. سؤالك – أخي – عن الهدف من قتل صدام، وتخطي حال صدام وتاريخه، قبل وبعد اعتقاله، يدل على معرفة تلك الحال، تحدث الكثير عنه، إما للدفاع عنه أو للتشنيع عليه، أمريكا لا يعنيها شخص صدام حسين أموجود هو في الحياة أم لا، تحدث أم سكت، لأن تاريخ تأثيره انتهى، وخرج من معادلة الصراع تماماً منذ اعتقاله - لم يعد له أي تأثير على قرارها، فهو قد كسب الأتباع بالقوة، وبذلك ملك الجوارح وما ملك القلوب، إلا من ندر، وبزوال القوة، يزول لازمها، وليس هو وحده بل يقاس عليه كل من أخذ جاهه بالهيبة والقوة، وكل من نال جاهاً بسبب فزوال جاهه بزوال ذلك السبب محتوم، وكل من لم يقدر من الناس على القيام بنفسه في جميع حاجاته وافتقر لمن يخدمه افتقر إلى جاه في قلب خادمه، وهكذا حال كل ناصر ومنصور، والأصل في الشريعة أن الجاه لا يطلب، بل يتحقق تبعاً - من غير قصد - للقول والعمل .. دعنا نترك تاريخ صدام بحلوه ومره، وأرجع إلى سؤالك، حول "الهدف من قتل صدام" صدام لم يعد له أي تأثير وباعتقاله خرج من الصراع، لكنه بقي رمزاً رئيساً عربياً مسلماً، كان يملك القوة العسكرية الرابعة في العالم، ورئيس الدولة العربية الوحيد الذي هدد أمريكا علانية وهدد بضرب إسرائيل، بل ضربها، وضرب وهدد أوليائها الباطنيين "إيران" وأشياعها، فهو الرئيس الوحيد الذي جمع أركان التحدي، وبه يتعزى العربي حينما يشعر بالضعف والهوان، بل به يتعزى من أراد أن يكتم رزايا صدام في لحظة اليأس من أن تكون أمته مصدراً للقوة، ويمتثل قول الجرجاني :
ذهب الطرف فاحتسب وتصبر ** للرزايا فالحر من يتعزى
إذا عرفنا ذلك، عرفنا الهدف من توقيت قتل صدام، لكي يبقى تاريخاً لا ينسى، ووقتاً لا يُسأل عنه فيقال ( متى )، هذا ما أرادت أن تقدمه أمريكا للمسلمين والعرب على الخصوص، وللرؤساء العرب منهم على الأخص، وأن يزداد المسلمون يأساً وإحباطاً، ويتذكروا دوماً قتل ذلك الرئيس .. لقد وصلت الرسالة التى تريد قوى الاستعمار إيصالها إلى آذان العرب والمسلمين بل وإلى المنتسبين إلى الإسلام كلهم بما فيهم إيران، وإن كان الإعدام نفذ بيدها، وبيد ابنها "مقتدى الصدر"، التوقيت لا أشك انه بنصيحة من إيران والرافضة على وجه العموم .
ب) اختيار مكان قتله في الكاظمية ؟
نعم .. لا أدري ربما يكون لأنها أكثر أمناً لهم، أو لأنها شهدت سنين طويلة من كبت وقتل الشيعة بيد صدام، حيث أسس فيها "الشعبة الخامسة" أحد قلاع القمع والتعذيب للشيعة فيها، ويظهر أن هذا من الأسباب لكي يتشفى أهلها منه، ولا أحد من الطوائف يحمل من رغبة الانتقام وشدة التشفي من الخصوم مع شدة الضغينة كالرافضة، وسبب ذلك جعلهم من مآسيهم ومصائبهم مواسم للعبادة والتذكار، كي لا ينسون، ولشدة غيظهم وحب انتقامهم يضعون أيديهم بأيدي من يرون أنه عدواً لهم في دينهم في سبيل الانتصار على من آذاهم، كما صنعوه الآن في العراق في قتل وتشريد لأهل السنة، تحت رضا وحماية الصليبيين، مع إيمانهم بكفر اليهود والنصارى، وعند كلام بعض علمائهم في العقائد يذكرون أن أهل السنة أقرب لهم من اليهود والنصارى.
وهكذا كان أسلافهم، وستدور الدائرة عليهم كما دارت على من سبقهم، فابن العلقمى الوزير المبير البغدادي الرافضي ولى الوزارة في العراق أربع عشرة سنة وكان حقوداً على أهل السنة قرر مع التتار أمورا انعكست عليه وكان سبباً في دخول التتار العراق، ومعيناً له، وأكل يده ندما وبقى بعد تلك الرتبة الرفيعة في حالة وضيعة يركب الحمير في شوارع بغداد، يصيح به النساء: يا ابن العلقمى أهكذا كنت تركب قبل !
وكان الذي حمله على مناصرة التتار، الحقد على العباسيين وأذيتهم للرافضة.
ج) الفئة التي قتلته ؟
لا أشك – يا أخي – أن القاتل هم الرافضة بموافقة وحماية أمريكية، فأمريكا لو أرادت قتلته دون تسليمه لأحد، ولكنها أرادات أن يكون القتل، بيد خصم لدود، يتحقق به المصالح التي تريدها، تقوية للرافضة وإهانة للسنة، بصورة رسمية، فالقتلة هم رجالات الحكومة العراقية، الذين انتقتهم أمريكا.
الهتافات التى كان يرددها القاتلون لصدام حين قتله تدل على أن لهذه القتلة، بهذا الوقت، وبهذه الصورة، أبعاداً كثيرة تتجاوز ذات صدام أو وزرائه ومساعديه أو رموز حكمه.
الشماتة والغيظ والحقد على أهل السنة وعلى المجاهدين العراقيين كانت هي السائد على ردود كل الصفويين.
يجب أن نعلم حقيقة كالشمس، أنهم لا يفرقون بين طاغية آذى كل الشعب العراقي، وآذى الإسلام وعلمائه، وبين إنتمائه المذهبي, فهم يحملون أهل السنة وزر صدام, كما حملوهم جريمة مقتل الحسين رضي الله عنه.
هم على مر التاريخ يتحينون كل فرصة، لأخذ الثأر من السنة على أنهم أحفاد يزيد بن معاوية وهم أحفاد الحسين بن علي رضي الله عنه .
الإعدام لصدام الذي يربط الصفيون بين أفعاله ومعتقد أهل السنة ليس إعداماً لشخص تعدى ظلمه, بل أرادوه إعداماً لأهل السنة جميعاً وجعلوا إعدامه تنكيلهم بأهل السنة في العراق وغير العراق.
2. ما السلبيات والإيجابيات من قتل الرئيس العراقي السابق ( صدام حسين ) على الوضع العراقي ؟(12/54)
لا أظن أنه سيكون له أثر خارجي يتعلق بالوضع في العراق، سوى أنه سيقوي عاطفة العامة في تأييد المجاهدين ضد المحتل، ومن يعاونه من الرافضة، أما داخلي فسيزيد من تأييد عامة العراقيين من نصرة المقاومة، ودعمها، وزيادة في فهم حقيقة الرافضة وولائهم للمستعمر، يقول الله تعالى: (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون)، فالله تعالى يأخذ ويعطي، وفي كل خير، والعبرة بالباطن والعواقب، فالبشر جبلوا على حب عطاء الخير وبغض منعه، بل الإسراع إلى إنكار سلب الخير، والتضجر من ذلك، قبل التفكر في عاقبته، وهذا عند عامة الناس، إلا من شاء الله، وفي قوله تعالى في ختم الآية السابقة (والله يعلم وأنتم لا تعلمون) توجيه إلى التعلق بالأمر الغيبي الذي لا يعلم من التقدير، وكثير من الوقائع فيها من الحكم والمقاصد ما تقصر عنها أفهام الخلق، وفي تغييبها حكمة، ولو ظهرت لازدروها، لأنها لا تدرك حقيقتها لفظاً حتى يروها واقعة.
وفي هذا درس لحكام المسلمين الذين تسلطوا وظلموا، وغاب عنهم سلطان وقدرة الله عليهم، لعل فيه درساً لأولئك الذين ضيعوا حقوق العباد ورب العباد، والذين غيروا وبدلوا حكم الله وحدوده، ولعل فيه درساً للمتألهين في هذه الأرض، الذين عاثوا فساداً عشرات السنين بلا مراقبة لله، ولا محاسبة من أحد في الأرض، يئدون الإيمان ويقتلون الفضيلة وينفون الإحسان ويسدون أبواب الدعوة إلى الله يسجنون ويشردون ويعذبون ويقتلون ويضيعون شريعة الله، اغتراراً بسلطان المادة، فالله يغضب وينتقم وهو شديد الانتقام، وله سلطان في الأرض يسلطه على من يشاء بحكمة.
قال تعالى: ( ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون).
هذا درس عظيم لمن أراد أن يعتبر، درس رأي العين، مثله ونظائره يقص في القرآن، قال تعالى: (فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا ) بسبب الظلم، والمقصود من نزول وقص هذه القصص والحوادث (إن في ذلك لآية لقوم يعلمون )
إذا ظالم استحسن الظلم مذهبا ** ولج عتوا في قبيح اكتسابه
فكله إلى ريب الزمان فإنه** ستبدي له ما لم يكن في حسابه
فكم قد رأينا ظالماً متجبراً ** يرى النجم تيها تحت ظل ركابه
فلما تمادى واستطال بظلمه** أناخت صروف الحادثات ببابه
وعوقب بالظلم الذي كان يقتفي** وصب عليه الله سوط عذابه
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : "إن الله يملي للظالم فإذا أخذه لم يفلته، (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد) رواه مسلم من حديث بريد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى .
يقول الشاعر :
عاقبة الظلم لا تنام وإن ** تأخرت مدة من المدد
ويكفي في ذلك قوله تعالى: (وقد خاب من حمل ظلما )
ومن الإيجابيات : أن يعرف المسلمون عداء الصفويين الرافضة لهم، وولائهم للنصارى بل واليهود في سبيل الانتقام منهم، وأن كل عداء يظهر بينهم ومقاتلة وتهديد هو تصنع، أو تقاتل أولياء يتآلفون سريعاً، فمقتدى الصدر الذي أظهر العداء لأمريكا في العراق بل وأظهر قتاله لها في مدينة الصدر، هو من سلمت أمريكا له صدام ليقتله ويشنقه بيده !
ومن أكبر حسنات صدام أنه أوقف المد الصفوي الذي يعيث في بغداد فساداً اليوم.
3. تضاربت آراء الناس في مقتل الرئيس العراقي صدام حسين حول :
أ ) هل يصلى عليه ؟ و إن قلنا بالصلاة فهل يصلى عليه صلاة الغائب ؟
هذا يتفرع عن القول بإسلامه، وصدام كان بعثياً، والبعث عقيدة كفرية، ولكن الذي أظهره في آخر أمره التوبة والرجوع إلى الإسلام، والتوبة الصادقة لا تبقي أثراً لما سلف، قال الله تعالى: (قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ)، وقال تعالى : (إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) وقال في الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، وهم النصارى (أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) وقال لكل مذنب مسرف (وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً) وأخرج مسلم وابن خزيمة عن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الإسلام يهدم ما قبله .
ويكفي ما ظهر منه من إعلان الشهادتين قبل موته، وقبل ذلك مراراً، وأما التعلق بأنه لا يعرف معناها ولم يعمل بمقتضاها، فهذا ظن لا يثبت مع الأصل واليقين، إذ لم يظهر منه ما يخالفها يثبت ذلك الظن.
أما صلاة الغائب :
الصلاة على الميت مشروعة، على الصحيح وهو قول الشافعي والمشهور عن أحمد، وإذا قام بها البعض تسقط عن الباقين، ومن مات من المسلمين، في البلاد البعيدة، وقد صلي عليه، فلا يصلى عليه أياً كان رئيساً أو مرؤساً، حاكماً أو محكوماً، لا يصلى على الغائب إلا إذا وقع موته في بلد ليس بها من يصلى عليه وهذا الذي يظهر أنه عمل السلف من الصحابة والتابعين، وبهذا ترجم أبو داود في السنن، واختاره ابن تيمية.
وقال بعض الأئمة بالصلاة على الغائب المعروف بالصلاح المشتهر به المقتدى به، قال أحمد : " إذا مات رجل صالح صُلي عليه ".
ب) هل يترحم عليه وقد نطق بالشهادتين في آخر حياته ؟
يترحم على كل من ثبت إسلامه، وختم له به.
ج) هل يسمى شهيداً ؟ وهل يعد من أهل السنة ؟
لا، لا يسمى شهيداً، فما قاتل لأجل الإسلام ولا لرفع رايته، بل سمعناه ينادي عند دخول القوات الأمريكية بغداد يقول: (باسم البعث) ، وبقي حتى تم اعتقاله فيما يظهر، ثم أعلن تمسكه بالإسلام والعمل بالقرآن بعد ذلك .(12/55)
والأصل في الأسير المقاتل لأجل راية الإسلام إذا قتله الأعداء الشهادة هذا عند عامة العلماء، وهذا مالم يتحقق فيه .
د) ما حكم إعلان الحداد عليه ثلاثة أيام ؟
الإحداد ليس للرجال بل هو خاص بالنساء يقول عليه الصلاة والسلام: ( لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً ) رواه البخاري ومسلم.
فيجوز للمرأة خاصة بالاتفاق، أن تحد على أي ميت تشاء ثلاثاً، ولا تزيد، وأما الرجل فلا، فقد مات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة ولم يفعل شيء من ذلك، مات ابنه إبراهيم وبناته الثلاث، وقد قُتل في زمانه أمراء جيش مؤتة وهم من خيرة الصحابة: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة .
وقد مات خير الخلق محمد صلى الله عليه وسلم ولم يحد عليه أحد من الصحابة، ومات خلفاؤه كذلك وهكذا في القرون المفضلة ومن جاء بعدهم .
وهذا النوع من الإحداد من إحداثات المتأخرين.
والواجب على الأمة المسلمة الإعداد، وليس الإحداد ..
===============
أبواب الأجر ومكفرات الذنوب
مقدمة:
- أن الغاية الكبرى لكل مسلم هي أن يخرج من هذه الدنيا وقد غفر الله له جميع ذنوبه حتى لا يسأله الله عنها يوم القيامة ويدخله جنات النعيم خالداً فيها لا يخرج منها أبداً.
- نذكر بعض الأعمال التي تكفر الذنوب والتي فيها الأجر الكبير من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيحة.
1- التوبة: حيث قال رسول الله صلي الله عليه وسلم { من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه } [مسلم:2703] .
2- الخروج في طلب العلم: حيث قال رسول الله صلي الله عليه وسلم): من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة ) [مسلم:2699].
3- ذكر الله تعالى: حيث قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ( ألا أنبأكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ) قالوا بلى، قال: ( ذكر الله تعالى ) [الترمذي:3347].
4- اصطناع المعروف والدلالة على الخير: حيث قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: ( كل معروف صدقة، والدال على الخير كفاعله ) [البخاري:10/374]، [مسلم:1005].
5- الدعوة إلى الله: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ) [مسلم:2674].
6- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: { من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان } [مسلم:49].
7- قراءة القرآن الكريم وتلاوته: حيث قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: { اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه } [مسلم:804].
8- تعلم القرآن الكريم وتعليمه: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: { خيركم من تعلم القرآن وعلمه } [البخاري:9/66].
9- السلام : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : { لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أَوَلا أدلكم على شيء لو فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم} [مسلم:54].
10- الحب في الله : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :{ إن الله تعالي يقول يوم القيامة: أين المتحابين بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي } [مسلم:2566].
11- زيارة المريض : حيث قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :{ ما من مسلم يعود مسلماً مريضاً غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاد عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة } [الترمذي:969].
12- مساعدة الناس في الدين: حيث قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :{ من يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة } [مسلم:2699].
13- الستر على الناس: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :{ لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة } [مسلم:2590].
14- صلة الرحم: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :{ الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله } [البخاري:10/350] [مسلم:2555].
15- حسن الخلق: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :( سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة؟ ) فقال: { تقوى الله وحسن الخلق } [الترمذي:2003].
16- الصدق: حيث قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :{ عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة } [البخاري:10/423، مسلم:2607].
17- كظم الغيظ: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :{ من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء } [الترمذي:2022].
18- كفارة المجلس: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :{ من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه؟ فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: ( سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك ) إلا غفر الله له ما كان في مجلسه ذلك } [الترمذي:3/153].
19- الصبر: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :{ ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه } [البخاري:10/91].
20- بر الوالدين: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :{ رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه } قيل: من يا رسول الله؟ قال: { من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كلاهما ثم لم يدخل الجنة } [مسلم:2551].(12/56)
21- السعي على الأرملة والمسكين: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :{ الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله } وأحسبه قال: { وكالقائم لا يفتر، وكالصائم لا يفطر } [البخاري:10/366].
22- كفالة اليتيم : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :{ أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وقال بإصبعيه السبابة والوسطى } [البخاري:10/365].
23- الوضوء: حيث قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : { من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده، حتى تخرج من تحت أظفاره } [مسلم:245].
24- الشهادة بعد الوضوء: حيث قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : { من توضأ فأحسن الوضوء ثم قال: ( أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ) فتحت له أبواب الجنة يدخل من أيها شاء } [مسلم:234].
25- الترديد خلف المؤذن: حيث قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : { من قال حين يسمع النداء: ( اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته )، حلت له شفاعتي يوم القيامة } [البخاري:2/77].
26- بناء المساجد: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :{ من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بني له مثله في الجنة } [البخاري:450].
27- السواك: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :{ لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة } [البخاري:2/331، مسلم:252].
28- الذهاب إلى المسجد: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :{ من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نُزلاً في الجنة كلما غدى أو راح } [البخاري:2/124، مسلم:669].
29- الصلوات الخمس: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : { ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة، وذلك الدهر كله } [مسلم:228].
30- صلاة الفجر وصلاة العصر: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : { من صلى البردين دخل الجنة } [البخاري:2/43].
31- صلاة الجمعة: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : { من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام } [مسلم:857].
32- ساعة الإجابة يوم الجمعة: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : { فيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً، إلا أعطاه إياه } [البخاري:2/344] [مسلم:852].
33- السنن الراتبة مع الفرائض: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : { ما من عبد مسلم يصلي لله تعالى كل يوم اثنتي عشرة ركعة تطوعا غير الفريضة إلا بنى الله له بيتا في الجنة } [مسلم:728].
34- صلاة ركعتين بعد الوقوع في ذنب: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : { ما من عبد يذنب ذنباً، فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين، ثم يستغفر الله إلا غفر له } [أبو داود:1521].
35- صلاة الليل: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : { أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل } [مسلم:1163].
36- صلاة الضحى: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : { يصبح على كل سلامة من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك كله ركعتان يركعهما من الضحى } [مسلم:720].
37- الصلاة على النبي: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : { من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً } [مسلم:384].
38- الصوم: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : { ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله تعالى إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً } [البخاري:6/35] [مسلم:1153].
39- صيام ثلاثة أيام من كل شهر: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : { صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله } [البخاري:4/192] [مسلم:1159].
40- صيام رمضان: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : { من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه } [البخاري:4/221] [مسلم:760].
41- صيام ست من شوال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : { من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصوم الدهر } [مسلم:1164].
42- صيام يوم عرفة: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : { صيام يوم عرفة يكفر السنة الماضية والباقية } [مسلم:1162].
43- صيام يوم عاشوراء: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : { وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله } [مسلم:1162].
44- تفطير الصائم: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :{ من فطر صائماً كان له مثل أجره،غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئاً } [الترمذي:807].
45- قيام ليلة القدر: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :{ من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم من ذنبه } [البخاري:4/221] [مسلم:1165].
46- الصدقة: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :{ الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار } [الترمذي:2616]. الحج والعمرة: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :{ العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة } [مسلم:1349]
47- العمل في أيام عشر ذي الحجة: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: { ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام } يعني أيام عشر ذي الحجة، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: { ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء } [البخاري:2/381].(12/57)
48- الجهاد في سبيل الله: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: { رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها } [البخاري:6/11].
49- الإنفاق في سبيل الله : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :{ من جهز غازياً فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله فقد غزا } [البخاري:6/37] [مسلم:1895].
50- الصلاة على الميت واتباع الجنازة: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :{ من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان } قيل: وما القيراطان؟ قال: { مثل الجبلين العظيمين } [البخاري:3/158] [مسلم:945].
51- حفظ اللسان والفرج: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :{ من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة } [البخاري:11/264] [مسلم:265].
52- فضل لا إله إلا الله، وفضل سبحان الله وبحمده: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم :{ من قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه } وقال: { من قال: "سبحان الله وبحمده" في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر } [البخاري:11/168] [مسلم:2691].
المرجع:أبواب الأجر ومكفرات الذنوب- دار القاسم.
===========
جهاد النفس
مقدمة:
أمر الله سبحانه بالجهاد وجعله فريضة على جميع العباد.
جعل الله الجهاد حسب الاستطاعة.
يقول تعالى: { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } [الحج:78].
الجهاد أربع مراتب:
أولها: جهاد النفس.
ثانيها: جهاد الشيطان.
ثالثها: جهاد الكفار.
رابعها: جهاد المنافقين.
جهاد النفس.
- إن العبد ما لم يجاهد نفسه أولاً فيبدأ بها ويلزمها بفعل ما أمرت به وترك ما نهيت عنه لم يمكنه جهاد عدوه الخارجي مع ترك العدو الداخلي.
- لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : { المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه }.
- وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبة الحاجة: { ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا }.
- وقال النبي صلى الله عليه وسلم للحصين بن عبيد: { أسلم حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بها }، فأسلم، فقال: { قل اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي }.
- من لم يسلم من شر نفسه لم يصل إلى الله تعالى لأنها تحول بينه وبين الوصول إليه.
- والناس قسمان:
1- قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته وصار مطيعاً لها.
2- وقسم ظفر بنفسه فقهرها حتى صارت مطيعة له.
وقد ذكر الله القِسمين في قوله تعالى:{ فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } [النازعات:37-41].
- النفس تدعوا إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا.
- والرب يأمر عبده بخوفه ونهي النفس عن الهوى.
- والعبد إما أن يجيب داعي النفس فيهلك، أو يجيب داعي الرب فينجو.
- النفس تأمر بالشح وعدم الإنفاق في سبيل الله، والرب يدعو إلى الإنفاق في سبيله فيقول سبحانه: { وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [التغابن:16].
- النفس تسمح بالملايين في سبيل البذخ والإسراف، ولا تسمح بالقرش للفقير والمحتاج.
- تكون النفس تارة أمّارة بالسوء، وتارة لوّامة تلوم صاحبها بعد الوقوع في السوء، وتارة مطمئنة وهي التي تسكن إلى طاعة الله ومحبته وذكره، فكونها مطمئنة وصف مدح، وكونها أمّارة بالسوء وصف ذم لها، وكونها لوامة ينقسم إلى المدح والذم.
جهاد النفس يكون بمحاسبتها ومخالفتها.
- في الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: { الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني } ومعنى: { دان نفسه }: حاسبها..
- عن عمر بن الخطاب قال: ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم. وتزينوا للعرض الأكبر. { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ } [الحاقة:18] ).
- وقال ميمون بن مهران: ( لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبةً من الشريك لشريكه ).
- لهذا قيل: ( النفس كالشريك الخوّان إن لم تحاسبه ذهب بمالك ).
- كتب عمر بن الخطاب إلى بعض عماله: ( حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته، وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والحسرة ).
- قال الحسن: ( وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة، ويعين الإنسان على محاسبة نفسه معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غداً إذا صار الحساب إلى غيره، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غداً، وأنه إذا حاسبها اليوم ربح سكنى الفردوس غداً، وإذا أهملها اليوم فخسارته بدخول النار غداً ).
- حق العاقل الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر ألا يغفل عن محاسبة نفسه في حركاتها، وسكناتها، وخطواتها، وخطراتها..
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله:
جهاد النفس أربع مراتب:(12/58)
- أحدها: أن تجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به. ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين.
- الثانية: أن تجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم ينفعها.
- الثالثة: أن تجاهدها إلى الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه. وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه، ولا ينجيه من عذاب الله.
- الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله ) انتهى كلامه رحمه الله.
مراعاة النفس:
- إن النفس إذا أطمعت طمعت، وإذا فوضت إليها أساءت، وإذا حملتها على أمر الله صلحت، وإذا تركت الأمر إليها فسدت، فاحذر نفسك، واتهمها على دينك، وأنزلها منزلة من لا حاجة له فيها، ولا بد له منها.
- وإن الحكيم يذل نفسه بالمكاره حتى تعترف بالحق، وإن الأحمق يخير نفسه في الأخلاق فما أحبت منها أحب، وما كرهت منها كره.
- لا شك أن النفس تكره مشقة الطاعة، وإن كانت تعقبها لذة دائمة. وتحب لذة الراحة، وإن كانت تعقبها حسرة وندامة.
- فهي تكره قيام الليل وصيام النهار، وتكره التبكير في الذهاب إلى المسجد.
- كم من شخص يجلس الساعات في المقاهي والأسواق ويبخل بالدقائق القليلة يجلسها في المسجد.
- كم تكره إنفاق المال في طاعة الله، تكره الجهاد في سبيل الله. كما قال تعالى: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } [البقرة:216].
- تكره الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله.
- تكره القيام بالإصلاح بين الناس، وهكذا ما من طاعة إلا وللنفس منها موقف الممانع المعارض.
- إن أنت أطعتها أهلكتك وخسرتها، كما قال تعالى: { قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15].
- إن أنت أطعتها فقد ظلمتها، حيث عرضتها لسخط الله وعقابه، وأهنتها وأنت تظن أنك قد أكرمتها حيث أعطيتها ما تشتهي وأرحتها من عناء العمل ومشقته فحرمتها من الثواب.
العدو الثاني بعد النفس الشياطين.
أولاً: إبليس لعنه الله
- عدو أبينا آدم وعدو البشرية كلها، وقد حذرنا الله منه فقال تعالى: { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا } [فاطر:5].
- قال تعالى: { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [يس:60].
- أمرنا الله بالاستعاذة منه، ومعناها أن تستجير بالله من شره.
- الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا ذكر الله.
- الشيطان قد يكون من الجن وقد يكون من الإنس، وقد يكون من الدواب، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112].
- كلهم يتعاونون على إهلاك بني آدم، شيطان الجن بالوسوسة والإغراء بالشر والتخذيل عن الخير، وهو عدو خفي، لا يراه الإنسان، لأنه يجري منه مجرى الدم..
- قال تعالى: { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } [الأعراف:27].
- ولا يمنع منه جدران ولا أبواب. وإنما يمنع منه ذكر الله.
ثانياً: شياطين الإنس.
- الشيطان الإنسي يراه الإنسان، ويجالسه ويكلمه، ويتلبس بلباس الدين والإنسانية، وما أكثر شياطين الإنس اليوم وما أكثر دعايتهم للشر، فهم يدعون إليه بكل وسيلة.
- يدعون إلى الإباحية والرذيلة باسم الحرية.
- يدعون الناس إلى الخروج من البيوت وإلى العري والسفور باسم إخراجها من الكبت.
- يدعون إلى سماع الأغاني والمزامير وتعاطي المخدرات وشرب الخمر باسم الترفيه.
- يدعون إلى إضاعة الصلاة وإتباع الشهوات وترك الجمع والجماعات باسم التسامح.
- يدعون إلى تعطيل الشريعة وتحكيم القوانين باسم العدالة والمرونة.
- يدعون إلى الشرك والبدع ويحذرون من التوحيد والتمسك بالسنن باسم حرية الرأي وترك الجمود، ويأمرون بالمنكر، وينهون عن المعروف، ويقفون في طريق الدعوة إلى الله، ويصدون عن سبيل الله، ويشجعون العصاة، ويهينون أهل الطاعات من المؤمنين والمؤمنات، ويحاولون تعطيل الحدود باسم مسايرة الأمم المتحضرة وإن كانت كافرة.
- أولئك هم شياطين الإنس، وهذه أعمالهم وعلاماتهم، وهم من جنود إبليس وأعوانه وإخوانه فاحذروهم، وجاهدوهم حتى توقفوا زحفهم إلى بيوتكم ومجتمعاتكم.
- الشيطان الإنسي تمنع منه الحجب والأبواب، ويدفع بالحذر منه والابتعاد عنه وهجره والرد على ما يدلي به من الشبه والمقالات، والأخذ على يده ومنعه من تنفيذ مخططاته والتنبيه لكيده ومكره.
الخاتمة:(12/59)
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ( فإن الله سبحانه وتعالى خلق هذا الآدمي، واختاره من بين سائر البرية، وجعل قلبه محل كنوزه من الإيمان والتوحيد والإخلاص والمحبة والحياء والتعظيم والمراقبة، وجعل ثوابه إذا قدم عليه أكمل الثواب وأفضله، وهو النظر إلى وجهه والفوز برضوانه ومجاورته في جنته، وكان مع ذلك قد ابتلاه بالشهوة والغضب والغفلة، وابتلاه بعدوه إبليس لا يفتر عنه، فهو يدخل عليه من الأبواب التي هي من نفسه وطبعه وهواه على العبد: ثلاثة مسلطون آمرون فاقتضت رحمة ربه العزيز الرحيم أن أعانه بجند آخر، يقاوم به هذا الجند الذي يريد هلاكه، فأرسل إليه رسوله، وأنزل عليه كتابه، وأيده بملك كريم يقابل عدوه الشيطان)
المرجع: احذر الشريك الخوّان-صالح بن فوزان الفوزان-دار القاسم.
============
كيف تدعو إلى الله في مقر عملك ؟
مقدمة
- الدعوة إلى الله عمل الأنبياء.
- تكون الدعوة إلى الله في جميع الأحوال: العمل، السفر، المنزل، السوق...الخ.
بعض الأمور المعينة على الدعوة إلى الله في العمل :
1- حسن الخلق.
- الخلق الحسن دعوة صامتة.
2- الإخلاص في العمل والقدوة الحسنة.
- إذا كانت من مسلم ٍ ملتزم بدينه ، فهو بذلك يمثّل تعاليم دينه ويدعو إليها بطريقة غير مباشرة .
3- الاهتمام بأفراد القسم دون إهمال لمن هم خارجه.
والمقصود أفراد القسم الذي تعمل فيه. وهذ ا الاهتمام لسببين:
- كسب الثقة .
- ضمان عدم المواجهة.
4- السعي إلى كسب ثقة ومحبة الآخرين.
- من أحبك أطاعك .
- السبيل إلى كسب محبتهم يتمثل في طر ق منها:
• العفو عن زلاتهم.
• إعانتهم في حل مشاكلهم مادياً أو معنوياً.
• تقديم العون لهم.
• إسداء النصيحة لهم.
• مشاركتهم في السراء والضراء .
5- موافقة القول للعمل .
- حتى تكون ذو مصداقية فيما تدعو إليه.
- من خالف عملُهُ قولَه فإن الناس يزهدون في نصحهِ وتعليمه.
6- توزيع المواد الدعوية مثل ( الأشرطة ، الكتيبات ، المطويات ، النشرات ).
- اختيار هذه المواد حسب حالة الزملاء في العمل ومستوياتهم الثقافية.
- تعاهد ذلك بين كل فترة وأخرى.
7- إنشاء اللوحات الحائطية.
- تعلّق عليها النشرات المحتوية على :
• الأحكام الشرعية.
• الفتاوى الفقهية.
• الرقائق الإيمانية.
• الأخبار الإسلامية.
• المحاضرات الدعوية.
• الدروس العلمية.
- تغيير هذه النشرات بالجديد بين فترة وأخرى.
8- المناقشة والمحاورة الهادفة.
- مع الزملاء في المهنة وتبيين وجهة نظر الإسلام الصحيحة.
- الاهتمام بوقائع الحياة المتجددة ، فمعظم الناس يقعون في كثير من الحيرة أمام وقائع الحياة المختلفة التي لا يعرفون الحكم الشرعي فيها.
- عدم التعمّق في ذلك حتى لا تأخذ المناقشة منحى مختلف أو يجر إلى تطاول على الدين أو على علماء المسلمين.
- النقاش الفردي أولى وأفضل وأسلم .
9- توفير عدد من المجلات التي تدعو إلى الفضيلة والرفعة في الدارين.
- تعريف الزملاء بها مع تبديل هذه المجلات بعد فترة وأخرى.
- من هذه المجلات على سبيل المثال :
مجلة ( الدعوة - الأسرة - البيان - الشقائق - جودي - المجتمع - الإصلاح - الأصالة - التوحيد - مجلة البحوث الإسلامية … وغيرها ).
- الابتعاد قدر الإمكان عن المجلات التي فيها انتقاد لبعض الشخصيات أو الدول كي لا يتسبب ذلك مضايقة تذكر والحكمة مطلوبة في مثل هذه المَوَاطن.
10- النصيحة الشخصية الفردية.
- لا تكون هذه النصيحة أمام الملأ.
- النصيحة إلى فعل معروف أوترك منكر.
- النصيحة في مجال العمل .
11- الابتسامة.
- لأنها تفتح مغاليق القلوب .
12- المشاركة في الأفراح و الأتراح.
من ذلك :
- تهنئتهم في الأعياد والأفراح.
- مواساتهم في المصائب والأحزان.
- زيارة مريضهم.
- إعانتهم على حلول مشاكلهم.
- السؤال عن أحوالهم.
13- الزيارة الفردية
- لمن يتوسم فيه الخير لمحاولة جذبه.
- مراعاة قبوله لها.
- عدم الإثقال عليه.
- اختيار الأوقات المناسبة.
14- تقديم الهدية.
- لا يشترط أن تكون هذه الهدية شريطاً أو كتاباً .
15- إلقاء الموعظة في مكان العمل.
- حسب الإمكان.
- اختيار الوقت المناسب لها كعقب الصلوات مثلاً.
16- إقامة الرحلات خارج نطاق العمل.
- شريطةَ إعداد البرامج الدعوية لهذه الرحلات مثل :
• استضافة عالم أو داعية.
• إلقاء موعظة.
• إعداد مسابقات ثقافية مدروسة.
• إحضار الأشرطة أو الكتيبات أو المطويات … وغيرها.
17- الزيارة الجماعية.
- دعوة مجموعة من زملاء العمل لزيارة عالم أو داعية.
18- إقامة مسابقات دورية.
- أسبوعية أو شهرية ورصد جوائز تشجيعية لذلك.
- حسن اختيار الأسئلة المطروحة التي يفترض أن تسهم في البحث والقراءة والاستماع للأشرطة مما يعود نفعه على المشارك في المسابقة ).
19- الفرص الذهبية واستغلالها.
- في التذكير المباشر أو عن طريق الأشرطة والكتيبات.
- المواقف مثل موت قريب لأحد زملاء العمل أو مصيبة حلت عليه أو ضائقة ألمّت به.
- هذه طريقة مجرّبة ونافعة جداً .
خاتمة.
- تعاهد ما زرعت بالري و السقيا.
- احتسب الأجر عند الله فيما تنفقه من مال أو جهد بدني.
- اعلم أولاً و آخراً أنك مطالبٌ بالعمل لا بالنتائج.
- اعلم ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ).
المرجع: كيف تدعو إلى الله في مقر عملك - شبكة المعلومات الإسلامية.
==============
زاد الداعية إلى الله عز وجل
1-تعريف الزاد
- زاد كل مسلم هو تقوى الله.
- قال تعالى:{وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}.
2-تعريف التقوى.
- التقوى أن تعمل بطاعة الله، على نور من الله، ترجو ثواب الله.(12/60)
الزاد الأول: أن يكون الداعية على بصيرة فيما يدعو إليه:
- البصيرة في ثلاثة أمور:
الأول: على بصيرة فيما يدعو إليه، بأن يكون عالماً بالحكم الشرعي فيما يدعو إليه.
الثاني: على بصيرة في حال الدعوة.
الثالث: على بصيرة في كيفية الدعوة.
ملحوظة: قد يقول قائل: هل قولك هذا يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «بلغوا عني ولو آية».
فالجواب:
- لا.
- لأن الرسول صلى الله عليه وسلّم، يقول: «بلغوا عني» إذاً فلابد أن يكون ما نبلغه قد صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
- ليس المقصود أنه لابد أن يبلغ شوطاً بعيداً في العلم.
- ولكن المقصود لا يدعو إلا بما يعلم فقط ولا يتكلم بما لا يعلم.
الزاد الثاني: الصبر على الدعوة.
- أي مثابراً عليها لا يقطعها ولا يمل.
- أن يكون صابراً على ما يعترض دعوته من معارضات ومجادلات.
- كل إنسان يقوم داعياً إلى الله عز وجل لابد أن يعارض.
- كل دعوة حقة لابد أن يقوم لها معارض وممانع ومجادل ومشكك.
- كذلك لابد أن يكون الداعية صابراً على ما يعترضه هو من الأذى.
ومن الأمثلة
- نوح عليه الصلاة والسلام
• كان قومه يمرون به وهو يصنع الفلك ويسخرون منه.
• توعدوه بالقتل.
• توعدوه بالإحراق.
- موسى عليه الصلاة والسلام توعده فرعون بالقتل.
- عيسى عليه الصلاة والسلام
• رماه اليهود بأنه ابن بغي.
• أرادوا قتله وصلبه.
- خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلّم
• حاول المشركون حبسه.
• أو قتله.
• أو إخراجه من الأرض.
الزاد الثالث: الحكمة
- تعريف الحكمة: إتقان الأمور وإحكامها، بأن تنزل الأمور منازلها وتوضع في مواضعها.
- مراتب الدعوة أربع
• الدعوة إلى الله بالحكمة.
• الموعظة الحسنة.
• الجدال بالتي هي أحسن لغير الظالم.
• الجدال بما ليس أحسن للظالم.
الزاد الرابع: أن يتخلق الداعية بالأخلاق الفاضلة
- بحيث يظهر عليه أثر العلم في:
• معتقده.
• عبادته.
• هيئته.
• سلوكه.
الزاد الخامس: أن يكسر الداعية الحواجز التي بينه وبين الناس .
الزاد السادس: أن يكون قلب الداعية منشرحاً لمن خالفه.
- لاسيما إذا علم أن الذي خالفه حسن النية.
- وأنه لم يخالفه إلا بمقتضى قيام الدليل عنده.
ملحوظة: هناك مسائل فرعية يختلف فيها الناس
- هي في الحقيقة مما وسع الله فيه على عباده.
- هي ليست من الأصول.
وهنا يجب
• أن نجتمع على بساط البحث، وأن يناقش بعضنا بعضاً على سبيل الإصلاح لا على سبيل الانتقاد أو الانتقام.
• الجدال يجب أن لا يكون بقصد الانتصار لرأيه واحتقار رأي غيره.
المرجع: زاد الداعية- الشيخ محمد بن الصالح العثيمين.
============
الاستمرار على العمل الصالح
{بسم الله الرحمن الرحيم}
الحمد لله حمداً كثيراً طبياً مباركاً فيه .. إلهنا تَمَّ نورك فهديتَ فلك الحمد .. عَظُمَ حِلْمُكَ فغفرتَ فلك الحمد .. بسطت يا رب يدك فأعطيت فلك الحمد .. تطاعُ فتشكر .. وتُعصى فتغفر وتجيب دعوةَ المضطر ولا يبلغ مدحتك قولُ قائل وأشهد أن لا إله إلا الله ـ وحده لا شريك له ـ يقلّب الله الليلَ والنهار إن في ذلك لعبرةً لأولى الأبصار ، هو الذي جعل الليلَ والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً .. وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله سَيّدُ المرسلين .. وإمامُ المتقين .. وخاتمُ النبيين ..اللهم صل وسلم عليه وأرض اللهم عن خلفائه الراشدين وزوجاته أمهات المؤمنين وأهل بيته وأصحابه الأكرمين .. ومن تبعهم بإحسان واهتدى بهديهم إلى يوم الدين .. أَمَّا بعد :
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ واستقيموا على طاعة الله ورسوله إن كنتم تريدون سعادةَ الدنيا والآخرة ..
{ ومن يطع الله ورسوله ويخشى اللهَ ويتقه فأولئك هم الفائزون } .
عباد الله :- إِن مرورَ الليالي والأيام ، وتعاقب الفصول والشهور ، ليذكرُنا بأنَّ هذه الحياة الدنيا مراحل كلُ مرحلةٍ تقرّبُنا إلىالدار الآخرة وتبعدُنا عن دار الغرور .
وما هذه الأيام إلا مراحلٌ .......... يحثٌ بها داعٍ إلى الموت قاصدُ
وأعجبُ شيءِ ـ لو تأملتَ ـ أنها .... منازلُ تطوى والمسافر قاعدُ
قال الحسن ـ رحمه الله ـ :( الموتُ معقودٌ في نواصيكم ، والدنيا تطوى من ورائكم ، ابنَ آدم إنما أنت أيامٌ مجموعة كلما ذهبَ يومٌ ذهبَ بعضُك ) .
ولئن كانت سرعةَ مرور الأيام وتعاقبَ السنين تذكِّرُنا بأننا نقطعُ سفرَنَا إلى الدار الآخرة فإنها أيضاً تُحَتِّمُ علينا بأن نعيَ ونعلمَ أن كلَّ مرحلةٍ لها قيمتُها ومكانتُها ، ولها كذلك واجباتُها التي ينبغي أن نؤدَيها في وقتها المناسب ، وهذه المراحل موصولةٌ مفصوله فهِي موصولةٌ بتتابعها والتحامها في مجرى الزمن .
وهي مفصولةٌ إذ لكل منها واجبٌ مستقل وحسابٌ قائم ولذلك جاء عن الحسن رحمه الله إنه قال :( ما من يومٍ ينشقُ فجره إلا نادى منادٍ من قبل الحق : يا أبن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فتزوّد مني بعملٍ صالح فإني إذا مضيتُ لا أعود إلى يوم القيامة ) .
إن الوقت في حياة المسلم له أهميةٌ عظيمة بل هو الحياةُ وكفى .
ولذلك فإن من التوفيق والسعادةِ أن يُصرفَ هذا الوقتُ في العمل الصالح والدعوة إلى الله والإمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعلّم العلم والذكر وقراءة القرآن وفي كل أمرٍ لا بد للإنسان منه فمن فَعَلَ ذلك أدرك قيمةَ وجودهِ في الحياة .
قال أبن القيم ـ عليه رحمة الله ـ :( وقَتُ الإنسان هو عمره في الحقيقة ،وهو يمرُّ مَرَّ السحاب ، فما كان من وقته لله وبالله فهو حياتُهُ وعُمُرُه ، وغيُر ذلك ليس محسوباً من حياته وإن عاش فيه عَيشَ البهائم ) .(12/61)
أَمَّا مَنْ صرف أوقاتهَ وضيعّ ساعاتَه في غير طاعة الله بل في أعمالٍ تُسخط الله ورسوله وتُلحق الضرر بالمؤمنين ، وتنفعُ أعداءَ الدين ، فإن هذه الساعاتِ واللحظات ستكون حسرةً عليه يوم القيامة .
أيها المسلمون : وإذا كانت هناك للطاعات مواسم ُ ينتهزُها المؤمنون ليتزوّدوا من الأعمال الصالحة فليس معنى هذا أن يَعْقُب هذا المواسمَ ركود أو جمود وإلا ضاع في فترات العجز والكسل ما تجمع في أوقات الجِدِّ والعمل إن على المرءِ إن يواصلَ الخير بدون ملل " فأحب العمل إلى الله أدومُهُ وإن قَلّ المسلم مطالبٌ بأن يستقيم على طاعة الله عز وجل إلى الممات وأن يستمر على عبادة الله كما قال الله تعالى :( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ) .. وقال تعالى :( فاستقيموا إليه واستغفروه ) .. وقال جَلّ وعلا :( فاستقم كما أُمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير ) .
وهكذا كان سلفنا الصالح رحمهم الله يعظمون شعائر الله ، ويهتمون بالفرائض والواجبات طول الحياة وعلى تعاقب السنيين ولا سيما صلاةُ الجماعة هذا الربيعُ بن خُثَيْم ـ رحمه الله ـ :( يُقاد إلى المسجد للصلاة وهو مصابٌ بالفالج فقيل له قد رُخّص لك قال : إني أسمعُ " حي على الصلاة "فإن أستطعتم أن تأتُوها ولو حبواً ) .وكان الأسود بن يزيدٍ ـ رحمه الله ـ : ( إذا حضرت الصلاة أناخَ بَعيرَهُ ولو على حَجَرَ ) .أمَّا الصحابي الجليل عدي بن حاتم رضي الله عنهما فيقول :( ما دَخَلَ وقتُ صلاةٍ إلا وأنا مشتقاقٌ إليها ) ( وما أقيمت الصلاة منذ أسلمت إلا وأنا على وضوء ) .وصحَّ عن التابعي سعيد بن المسيِّب ـ رحمه الله ـ أنه قال : ( ما فاتتني الصلاة مع الجماعة منذ أربعين سنه وما أذّن المؤذن منذ ثلاثين سنه إلا وأنا في المسجد ) .وهذا سليمان الأعمشي ـ رحمه الله ـ ( بَلَغَ من العمر سبعين سنه ولم تفته التكبيرة الأولى ويقول الراوي : ترددتُ إليه أكثر من ستين سنه فما رأيته يقضي ركعة ) .وكان مفتي دمشق سعيدٌ التنوخي ـ رحمه الله ـ ( إذا فاتته صلاة الجماعة بكى ، حزناً وأسفاً ) .
أمَّا عامر بن عبدالله بن الزبير ـ رحمهم الله ـ فلقد سَمِعَ المؤذن يؤذنُ لصلاة المغرب وهو يجودُ بنفسه أي عند الموت وحضور الأجل فقال ـ رحمه الله ـ لمن كان عنده : ( خذوا بيدي فقالوا : إنك مريض معذور فقال : سبحان الله أسمع داعي الله فلا أجيبه فأخذوا بيده فدخل مع الإمام في صلاة المغرب فركع ركعةً ثم مات رحمه الله ، الله أكبر على هذه النفوس الزكية والقلوب النقية ، هكذا كان السابقون في الحرص على الخير والمحافظة على الصلاة مع الجماعة ، بل تقويمهُم للرجال ومعرفتُهم بالأخيار من خلالِ النظر في مدى المحافظة على الفرائض .
يقول الإمام إبراهيم التميمي ـ رحمه الله ـ ( إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فأغسل يدك منه ).
فرحمةُ الله عليهم أجمعين { رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلّبُ فيه القلوبُ والأبصار } هؤلاء هم المستقيمون حقاً وهم المسابقون صدقاً فما أعظمَ جزاءهم وما أرفعَ منزلتهم { إِن الذين قالوا ربنا الله ثم * فلا خوفٌ ولا هم يحزنون .. أولئك آصحاب الجنة خالدين فيها جزاءً بما كانوا يعملون } .. وقال سبحانه وتعالى { إن الذين قالوا ربنا الله ثم أستقاموا تتنزلُ عليهم الملائكةُ ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنةِ التي كنتم توعدون .. نحن أولياءوكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدَّعون نزلاً من غفوراً رحيم } .
اللهم اجعلنا من أولياءك المقربين .. وحزبك المفلحَين .. اللهم أعذنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن
أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه أنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله رَبَّ العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون .
اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان .. أما بعد :
فاتقوا الله ـ أيها المسلمون ـ واستقيموا إليه واستغفروه لعلكم تفلحون .
أيها الإخوة : إن المسلمين الأصحاء حينما يودعون شهراً كرمضان ويستقبلون شهراً كشوال يتذكرون حقَّ التذكر أن رمضان كان موسماً مباركاً للطاعات ، والتقرب إلى الله بأنواع العبادات ولكنهم يتذكرون في الوقت نفسه أَن الله الذي جعل رمضان ميداناً للتنافس في الخيرات هو الذي هيأ ما تبقى من أجزاء الزمان لكي يشغلها المسلم بما يرضي رَبَّه ويصلح أمره في دينه ودنياه ، فواجبٌ عليه ألاّ ينكص عليه عقبيه بعد رمضان ليتفلّت من واجب أو ليهمل في عبادة ، بل هو يواصل أعمالَ البر وخصالَ الخير مستعيناً بالله متوكلاً عليه جاعلاً وصيةَ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمام ناظريه حين قال : ( قل آمنتُ بالله ثم أستقم ) متذكراً أنه سيغادر هذه الدنيا إلى الآخرة وستصيبُه مصيبةُ الموت عندها { يتذكر الإنسان وأني له الذكر يقول يا ليتني قدمتُ لحياتي } ويقول ياليتني عملت بطاعة الله ولم أفرّط في جنب الله ويتمنى أن يرجع ليعمل ولكن هيهات حَضَرَ الأجل ، وانقطع العمل { فاليوم لا تظلمُ نفسٌ شيئاً ولا تجزون إلا ما كنتم تعلمون }.
اللهم إنا نسألك أن تصلح قلوبنا ، وتنوّرها بنور الإيمان .. اللهم أهدنا ويَسِّرِ الهدى لنا .
==============
سُكْر الشهوات(12/62)
«إن البشرية اليوم تعيش في ماخور كبير! ونظرة إلى صحافتها، وأفلامها، ومعارض أزيائها، ومسابقات جمالها، ومراقصها، وحاناتها، وإذاعاتها، ونظرة إلى سعارها المجنون للحم العاري، والأوضاع المثيرة، والإيحاءات المريضة، في الأدب والفن وأجهزة الإعلام كلها... نظرة إلى هذا تكفي للحكم على المصير البائس الذي تدلف إليه البشرية في ظل هذه الجاهلية، إن البشرية تتآكل إنسانيتها، وتتحلل آدميتها، وهي تلهث وراء الحيوان، ومثيرات الحيوان، لتلحق بعالمه الهابط...»(1).
هذا ما قاله سيّد قطب ـ رحمه الله ـ منذ أكثر من خمسين عاماً، فكيف لو أدرك هذا الزمان بقنواته الفضائية المتهتكة، ومواقع الفجور في الإنترنت ونحوهما؟! أضف إلى ذلك قرارات ومؤتمرات المنظمات الدولية التي تبيح ما حرّم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم من الفواحش والخنا: كالزنى، واللواط والسحاق، بل تسن هذه المنظماتُ القوانينَ في سبيل حماية ورعاية الفجور وأهله!
ويقول سيّد في موطن آخر: «وكثيرون يحسبون أن التقيد بمنهج الله، وبخاصة في علاقات الجنسين، شاق مجهد، والانطلاق مع الذين يتبعون الشهوات ميسر مريح! وهذا وهم كبير.. فإطلاق الشهوات من كل قيد، والتجرد في علاقات الجنسين من كل قيد أخلاقي.. إن هذه تبدو يسراً وراحة وانطلاقاً، ولكنها في حقيقتها مشقة وجهد وثقلة، وعقابيلها في حياة المجتمع عقابيل مؤذية مدمرة ماحقة.
والنظر إلى الواقع في حياة المجتمعات التي (تحررت) من قيود الدين والأخلاق والحياء في هذه العلاقة، يكفي لإلقاء الرعب في القلوب، لو كانت هنالك قلوب!
لقد كانت فوضى العلاقات الجنسية هي المِعْول الأول الذي حطم الحضارات القديمة، وحطم الحضارة الإغريقية، وحطم الحضارة الرومانية، وحطم الحضارة الفارسية، وهذه الفوضى ذاتها هي التي أخذت تحطم الحضارة الغربية الراهنة»(2).
إن الولوغ في الفواحش لا يزيد الأمر إلا ولعاً وإدماناً على ذلك، فسعار الشهوات لا حدّ له ولا انقضاء.
يقول ابن القيم رحمه الله: «وليعلم اللبيب أن مدمني الشهوات يصيرون إلى حالة لا يلتذون بها، وهم مع ذلك لا يستطيعون تركها؛ لأنها قد صارت عندهم بمنزلة العيش الذي لا بدّ لهم منه...»(3).
والناظر إلى حال المسلمين ـ فضلاً عن غيرهم ـ يلحظ أن هذا الركام من الفواحش والقاذورات قد عمّ وطمّ، إذ استحوذت هذه الملذات المحرمة على فئام من المسلمين عبر وسائل كثيرة وميسرة، فآل بالكثير منهم إلى الانحلال والسفول، والتفلت من أحكام الشرع المطّهر.
وهذا الأمر الجلل يستوجب ما يلي:
< علينا ابتداءً أن نسمي الأمور بأسمائها الواردة في نصوص الوحيَيْن، فما يسمى الآن بالعلاقات الجنسية المشبوهة أو الممنوعة، أو المشاهد الإباحية ونحوها، فعلينا أن نطلق عليه: فواحش، وقاذورات، وزنى، وخبائث، قال تعالى: { وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151]، وقال سبحانه: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32]، وقال تعالى: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَت تَّعْمَلُ الْخَبَائِثَ إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} [الأنبياء: 74]، وقال صلى الله عليه وسلم : «من أصاب من هذه القاذورات شيئاً، فليستتر بستر الله، فإنه من يبدي لنا صفحته، نُقِمْ عليه كتاب الله»(1).
إنّ في هذه الأوصاف استبشاعاً واستقباحاً لتلك الأفاعيل، وتنفيراً وتحذيراً منها، خلافاً للتعبيرات المعاصرة التي قد تهوّن سُبل الغواية، بل ربما عُبِّر عن هذه القبائح بأسماء محبوبة للنفوس.
يقول ابن القيم في هذا المقام: « وإذا تأملت مقالات أهل الباطل رأيتهم قد كسوها من العبارات، وتخيّروا لها من الألفاظ الرائقة ما يسرع إلى قبوله كل من ليس له بصيرة نافذة ـ وأكثر الخلق كذلك ـ حتى إن الفجار ليسمون أعظم أنواع الفجور بأسماء لا ينبو عنها السمع، ويميل إليها الطبع، فيسمون مجالس الفجور والفسوق: مجالس الطيبة...»(2).
< على أهل العلم والدعاة أنت يبيّنوا حكم الله تعالى في أرباب الفواحش، وأن يظهروا أحكام الشريعة على أصحاب الفجور، فالزنى من كبائر الذنوب والموبقات كما قال صلى الله عليه وسلم : «إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظلة، فإذا خرج من ذلك العمل عاد إليه الإيمان»(3)، فإذا كان هذا حال الزاني، فكيف بما هو أشنع من ذلك؟
كما على أهل العلم والدعاة أن يبلغوا حكم الله تعالى والذي يجب إنفاذه في حق أهل الفجور، وإن تعذّر تطبيقه، فالرجم بالحجارة حتى الموت هو حكم الله تعالى في الزاني المحصن، وأما البِكر فجلد مائة وتغريب عام، وأما الذين يقارفون عمل قوم لوط، فعقوبته أغلظ من عقوبة الزاني، فقد أجمع الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ على قتل اللوطي، وإنما اختلفت أقوالهم في صفة قتله، فمنهم من يرى تحريقه بالنار، ومنهم من قال يُرمى من شاهق... كما جاء مبسوطاً في موضعه.
< والمقصود تكثيف البرامج الدعوية بشأن شناعة الفواحش، وبيان مفاسدها وعواقبها الوخيمة في الدارين، فمن العجب أن يجاهر دعاة الرذيلة بفجورهم وفسوقهم، بينما يلوذ بالصمت الكثير من دعاة الفضيلة والعفاف!
فالمتعيّن أن نجهر بالفضيلة والطهر والنقاء، وندافع بكل حزم هؤلاء الدعاة العاكفين في أوحال القاذورات، ومستنقع الشهوات، بما يدرأ فجورهم ويكفّ غيّهم.
«نحن نعلم أن بعض الناس يعيش أغلب أوقاته في شبكة (المجاري).(12/63)
ويبدو أن بعض الأدباء أَلِف الحياة في مجاري المجتمع ومساربه السفلى، والمدهش أنه يريد جرّ الآخرين إلى مستواه الخُلقي، أو أنه يريد نقل روائحه المنتنة إلى ظاهر الحياة محاولاً طمس ما نبت فوقها من حدائق وما فاح في جوها من عطور.
كذلك يصنع كتّاب الجنس في بلادنا، وفي أكثر أقطار الدنيا»(4).
ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية إذ يقول: «فهكذا أهل الشهوات الفاسدة، وإن أضرمت قلوبهم نارة الشهوة ليس رحمتهم والرأفة بهم تمكينهم من ذلك، أو ترك عذابهم، فإن ذلك يزيد بلاءهم وعذابهم، والحرارة التي في قلوبهم مثل حرارة المحموم، متى مُكِّن المحموم مما يضره ازداد مرضه، أو انتقل إلى مرض شرٍّ منه.
فهذه حال أهل الشهوات، بل تُدفع تلك الشهوة الحلوة بضدها، والمنع من موجباتها، ومقابلتها بالضدّ من العذاب المؤلم الذي يخرج المحبة من القلب...»(5).
وقال أيضاً: «ولا ريب أن محبة الفواحش مرض في القلب، فإن الشهوة توجب السكر، كما قال تعالى عن قوم لوط: {لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72]. وقد نهانا الله ـ عز وجل ـ أن تأخذنا بالزناة رأفة، بل نقيم عليهم الحدّ، فكيف بما هو دون ذلك من: هجر، وأدب باطن، ونهي، وتوبيخ وغير ذلك؟ بل ينبغي شنآن الفاسقين وقليهم على ما يتمتع به الإنسان من أنواع الزنى»(6).
ويقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ في هذا الشأن: «نهى الله ـ سبحانه ـ عباده أن تأخذهم بالزناة رأفة في دينه بحيث تمنعهم من إقامة الحدّ عليهم، فإنه سبحانه من رأفته بهم ورحمته بهم شرع هذه العقوبة، فهو أرحم لهم منكم بهم، ولم تمنعه رحمته من أمره بهذه العقوبة، فلا يمنعكم أنتم ما يقوم بقلوبكم من الرأفة من إقامة أمره...»(7).
فلا بد من بذل الجهد في توعية أهل الإسلام بمفاسد الفواحش، وسبل السلامة والوقاية من الفواحش وأسبابها، ومن أهم ذلك: إحياء واعظ الله تعالى في قلب كل امرئ مسلم، وتحريك بواعث الخوف والخشية من الله جلّ جلاله، وبيان ما يعقب هذه الفواحش واللذات العاجلة من الأنكاد والحسرات والأوجاع والنكال في الدنيا والآخرة.
مآرب كانت في الشباب لأهلها عِذاباً، فصارت في المشيب عَذاباً
< لا يُكتفى بالتوعية والتوجيه ويهمل جانب الأخذ على أيدي هؤلاء الشبيبة، وحجب منافذ الغواية عنهم، وكفّ وسدّ الوسائل المفضية إلى الرذيلة، فإن لتلك الشهوات سكراً وخمراً، فإذا استحوذت الفواحش على المرء، صار القلب متيماً مستعبداً للملذات.
وقد أشار ابن القيم إلى ذلك السكر فقال: «ومن أسباب السكر: حبّ الصور؛ فإذا استحكم الحبّ وقوي أسكر المحبّ، وأشعارهم بذلك مشهورة كثيرة، ولا سيما إذا اتصل الجماع بذلك الحبّ، فإن صاحبَه ينقص تمييزه أو يعدم في تلك الحالة بحيث لا يميّز، فإن انضاف إلى ذلك السكر سُكر الشراب بحيث يجتمع عليه سُكر الهوى، وسُكر الخمر، وسكر لذّة الجماع، فذلك غاية السكر...»(1).
سُكران: سكر هوى وسكر مُدامة
ومتى إفاقة من به سكران؟
والمقصود أن حبّ الشهوات إذا استحكم على الأشخاص، فقد لا يجدي التوعية والتوجيه في حق من غاب عقله، وأُشرب حبّ شهوته، فعندئذ يحتاج إلى الزجر والأخذ على أيدي أولئك الأشخاص، وأَطْرِهم على الاستقامة أطراً، لا سيما لمن كان لهم ولاية أو سلطة، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
<من المهم في معالجة هذا الانحراف أن نبيّن ما تؤول إليه هذه الفواحش من الكفر والشرك بالله تعالى، فإن المعاصي بريد الكفر، وقد ينقص الإيمان حتى لا يبقى منه شيء.
يقول ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في هذا الصدد: «فإن أصر على النظر [المحرم] أو على المباشرة صار كبيرة، وقد يكون الإصرار على ذلك أعظم من قليل الفواحش، فإن دوام النظر بالشهوة وما يتصل به من العشق والمعاشرة والمباشرة قد يكون أعظم بكثير من فساد زنى لا إصرار عليه.
بل قد ينتهي النظر والمباشرة بالرجل إلى الشرك، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165]، ولهذا لا يكون عشق الصور إلا من ضعف محبة الله وضعف الإيمان بالله»(2).
وقرر ابن القيم ذلك قائلاً: «إن التوحيد واتباع الهوى متضادّان، فإن الهوى صنم، ولكل عبد صنم في قلبه بحسب هواه، وإنما بعث الله رسله بكسر الأصنام وعبادته وحده لا شريك له، وليس مراد الله ـ سبحانه ـ كسر الأصنام المجسّدة وترك الأصنام التي في القلب، بل المراد كسرها من القلب أولاً. وتأمّل قول الخليل صلى الله عليه وسلم لقومه: {إذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52]، كيف تجده مطابقاً للتماثيل التي يهواها القلب ويعكف عليها ويعبدها من دون الله؟»(3).
قد يتساهل البعض في شأن هذه الفواحش بدعوى أنها من مطلق المعاصي، وأن أصحابها تحت مشيئة الله تعالى، وقد غاب عن هؤلاء التلازم بين الظاهر والباطن، وخطورة الذنوب، وأنها قد تفضي بصاحبها إلى الانسلاخ من ملة الإسلام، خصوصاً وأن مدمني الشهوات قد لا يستطيعون تركها، إذ أسرتهم تلك الشهوات، فظلوا عليها عاكفين مصرّين.
وقد عقد الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ هذا الباب في كتاب الإيمان فقال: «باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر».(12/64)
وقال البخاري ـ رحمه الله ـ في نهاية هذا الباب: «... وما يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان من غير توبة؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135]»(4).
ثم قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «مراده [أي: البخاري] أن الإصرار على المعاصي وشعب النفاق من غير توبة، يُخشى منها أن يعاقب صاحبها بسلب الإيمان بالكلية، وبالوصول إلى النفاق الخالص وإلى سوء الخاتمة نعوذ بالله من ذلك، كما يقال: إن المعاصي بريد الكفر»(5).
وساق ابن رجب ـ رحمه الله ـ آثاراً كثيرة عن السلف في حبوط بعض الأعمال بالكبائر، ومن ذلك ما قاله الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله «ما يؤمن أحدكم أن ينظر النظرة فيحبط عمله»(6).
< إن الاشتغال بمعالي الأمور، والابتعاد عن سفسافها، والطموح بعزم وجدّ إلى المقامات السنية من العلم النافع، والعمل الصالح، والدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله... إن ذلك لهو أعظم سبيل في مجانبة الأهواء والشهوات، فالإنسان « لم يخلق للهوى، وإنما هُيِّأ لأمر عظيم لا يناله إلا بمعصيته للهوى كما قيل:
قد هيأوك لأمر لو فطنِت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
وكما قال بعض السلف: القلوب جوّالة، فمنها ما يجول حول العرش، ومنها ما يجول حول الحش»(7).
(1) في ظلال القرآن، (1/511)، باختصار.
(2) في ظلال القرآن، (2/632)، باختصار.
(3) روضة المحبين، ص (47).
(1) أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الحدود، حديث (12).
(2) الصواعق المرسلة (2/437).
(3) أخرجه أبو داود، كتاب السنة، حديث (4690)، والترمذي، كتاب الإيمان، حديث (2625).
(4) حصاد الغرور لمحمد الغزالي، ص (104).
(5) جامع الرسائل (قاعدة في المحبة)، (2/293، 393).
(6) مجموع الفتاوى (15/288، 289)، باختصار.
(7) الجواب الكافي (220).
(1) روضة المحبين (152)، وانظر: قاعدة في المحبة لابن تيمية (جامع الرسائل)، (2/244، 245).
(2) مجموع الفتاوى (15/292، 293)، باختصار.
(3) روضة المحبين، (483).
(4) انظر: فتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن رجب (1/177).
(5) فتح الباري (1/181).
(6) فتح الباري (1/184).
(7) روضة المحبين (372).
============
الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان
الحمد لله الذي هدانا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، فأكمله سبحانه لنا وأتمه، وأتم به علينا النعمة، ورضيه لنا ديناً، وجعلنا من أهله وجعله خاتماً لكل الدين وناسخاً لجميع الشرائع قبله، وبعث به خاتم أنبيائه ورسله محمداً صلى الله عليه وسلم، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره: ((أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ )) (آل عمران: 38)) .
وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، وصفوته من خلقه، وخيرته من بريته، وأمينه على وحيه، أما بعدُ،،، ففي الوقت الذي يجري فيه صريف الأقلام الجهادية من علماء المسلمين في شتى فجاج أرض الله، بالدعوة إلى الله، والتبصير في الدين، ومواجهة موجات الإلحاد والزندقة، ورد دعاوى الجاهلية القديمة والمعاصرة: القومية، البعثية، الماركسية، العلمنة، الحداثة وصد عاديات التغريب والانحراف، والغزو بجميع أنواعه وضروبه، وأشكاله؛ بدت محنة أخرى في ظاهرة هي أبشع الظواهر المعادية للإسلام والمسلمين؛ لإفساد نزعة التدين بالإسلام، والدخول فيه، وتذويب شخصيته في معترك الديانات، ومطاردة التيار الإسلامي، وكبت طلائعه المؤمنة، وسحب أهله عنه إلى ردةٍ شاملة.
وكل ذلك يجري على سنن الصراع والتقابل والتدافع، كما قال الله تعالى: ((وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)) (البقرة:217).(12/65)
وقوله سبحانه: ((وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً )) (النساء:89) وذلك فيما جهرت به اليهود والنصارى، من الدعوة الجادة إلى: 'نظرية الخلط بين الإسلام وبين ما هم عليه من دين محرف منسوخ وزرع خلاياهم في أعماق الإسلام في كل صقع ودار، وصهر المسلمين معهم في قالب واحد: فلا ولاء، ولا براء، ولا تقسيم للملأ إلى مسلم وكافر أبداً، ولا لتعبدات الخلائق إلى حق وباطل. ونصبوا لذلك مجموعة من الشعارات، وعقدوا له المؤتمرات، والندوات، والجمعيات، والجماعات، إلى آخر ما هنالك من مخططات.. وهم في الوقت نفسه في جد ودأب في نشر التنصير، وتوسيع دائرته، والدعوة إليه، واستغلال مناطق الفقر، والحاجة، والجهل، وبعث النشرات عبر صناديق البريد. من هنا اشتد السؤال من أهل الإسلام عن هذه ' النظرية ' التي حلت بهم: ما الباعث لها؟ وما الغاية التي ترمي إليها؟ وما مدى مصداقية شعاراتها؟ وعن حكم الإسلام فيها، وحكم الاستجابة لها من المسلمين، وحكم من أجاب فيها، وحكم من دعا إليها، ومهد السبيل لتسليكها بين المسلمين، ونشرها في ديارهم، ونثر من أجلها وسائل التغريب، وأسباب التهويد، والتنصير في صفوف المسلمين؟ . حتى بلغت الحال ببعضهم إلى فكرة : ' طبع القرآن الكريم، والتوراة والإنجيل في غلاف واحد ؟ وحتى بلغ الخلط والدمج مبلغه ببناء: ' مسجد، وكنيسة، ومعبد ' في محل واحد، في: ' رحاب الجامعات ' و ' المطارات ' و ' الساحات العامة ' ؟ فما جوابكم يا علماء الإسلام ؟؟ آثار هذه النظرية على الإسلام والمسلمين : اقتحام العقبة، وكسر حاجز الهيبة من المسلمين من وجه، وكسر حاجز النفرة من الكافرين من وجه آخر . قدم ' البابا ' نفسه إلى العالم بأنه القائد الروحي للأديان جميعاً، وأنه حامل رسالة : ' السلام العالمي ' للبشرية . أن ' البابا ' اعتبر يوم: 27 / 10 أكتوبر عام 1986 م عيداً لكل الأديان، وأول يوم من شهر يناير، هو: ' يوم التآخي ' . اتخاذ نشيد، يردده الجميع، أسموه: ' نشيد الإله الواحد: رب، وأب ' . انتشر في العالم عقد المؤتمرات لهذه النظرية، وانعقاد الجمعيات، وتأليف الجماعات الداعية لوحدة الأديان، وإقامة الأندية، والندوات . أنه فضلاً عن مشاركة بعض من المنتسبين إلى الإسلام في هذه اللقاءات - على أراضي الدول الكافرة - في المؤتمرات، والندوات، والجمعيات وإقامة الصلوات المشتركة، فإنه ما كادت شعارات هذه النظرية تلوح في الأفق، وتصل إلى الأسماع، إلا وقد تسربت إلى ديار الإسلام؛ فطاشت بها أحلام، وعملت من أجلها أقلام، وانطلقت بالدعوة إليها ألسن من بعد أخرى، وعلى الدعوة بها سدة المؤتمرات الدولية، والنوادي الرسمية والأهلية . وكان منها: في: ' مؤتمر شرم الشيخ بمصر ' في شهر شوال عام 1416، تركيز كلمات بعض أصحاب الفخامة !!!! من المسلمين !!!! على الصفة الجامعة بين المؤتمرين، وهي:' الإبراهيمية ' وهو مؤتمر يجمع لفيفاً من المسلمين، واليهود، والنصارى، والشيوعيين . ومنها أنه بتاريخ: 1416 / 10 / 10 . أعلن بعضهم عن إصدار كتاب يجمع بين دفتيه: القرآن الكريم، والتوراة، والإنجيل ' . وفي بعض الآفاق صدر قرار رسمي بجواز تسمية مواليد المسلمين، بأسماء اليهود المختصة بهم؛ وذلك إثر تسمية مواليد المسلمين باسم: ' رابين ' . وهكذا ينتشر عقد التهويد، والتنصير، بنثر شعاراتهم بين المسلمين، ومشاركة المسلمين لهم في أفراحهم، وأعيادهم، وإعلان صداقتهم، والحفاوة بهم، وتتبع خطواتهم وتقليدهم، وكسر حاجز النفرة منهم بذلك، وبتطبيع العلاقات معهم .. وهكذا في سلسلة يجر بعضها بعضاً في الحياة المعاصرة .(12/66)
هذه خلاصة ما جهرت به اليهود، والنصارى، في مجال نظرية توحيد ديانتهم مع دين الإسلام، وهي بهذا الوصف، من مستجدات عصرنا؛ باختراع شعاراتها، وتبني اليهود، والنصارى لها على مستوى الكنائس، والمعابد، وإدخالها ساحة السياسة على ألسنة الحكام، والتتابع الحثيث بعقد المؤتمرات، والجمعيات، والجماعات، والندوات ؛ لبلورتها، وإدخالها الحياة العملية فعلاً . وتلصصهم ديار المسلمين لها، من منظور: ' النظام الدولي الجديد ' . مستهدفين- قبل هيمنة ديانتهم- إيجاد ردة شاملة عند المسلمين عن الإسلام . وكان منشور الجهر بها، وإعلانها، على لسان النصراني المتلصص إلى الإسلام: روجيه جارودي، فعقد لهذه الدعوة : ' المؤتمر الإبراهيمي ' ثم توالت الأحداث كما أسلفت في صدر هذه المقدمة . ولا يعزب عن البال، وجود مبادرات نشطة جداً من اليهود والنصارى، في الدعوة إلى : ' الحوار بين أهل الديان ' وباسم ' تبادل الحضارات والثقافات ' و ' بناء حضارة إنسانية موحدة ' و ' وبناء مسجد، وكنيسة، ومعبد ' في محل واحد، وبخاصة في رحاب الجامعات وفي المطارات . وكان من مداخل السوء المبطنة لتمهيد السبيل إلى هذه النظرية، وإفساد الديانة: إجراء الدراسات المقارنة في الشرعيات، بين الأديان الثلاثة، ومن هنا يتبارى كل في محاولة إظهار دينه على الدين كله، فتذوب وحدة الدين الإسلامي، وتميزه، وتسمن الشبه، وتستسلم لها القلوب الضعيفة. حكم الدعوة إلى توحيد الأديان: إن الدعوة إلى توحيد دين الإسلام الحق الناسخ لما قبله من الشرائع، مع ما عليه اليهود والنصارى من دين دائر كل منهما بين النسخ والتحريف؛ هي أكبر مكيدة عُرفت لمواجهة الإسلام والمسلمين اجتمعت عليها كلمة اليهود والنصارى بجامع علتهم المشتركة: ' بغض الإسلام والمسلمين ' . فهي في حكم الإسلام: دعوة بدعية، ضالة كفرية، خطة مأثم لهم، ودعوة لهم إلى ردة شاملة عن الإسلام؛ لأنها: تصطدم مع بدهيات الاعتقاد. وتنتهك حرمة الرسل والرسالات. وتبطل صدق القرآن، ونسخه ما قبله من الكتب. وتبطل نسخ الإسلام لجميع ما قبله من الشرائع. وتبطل ختم نبوة محمد والرسالة المحمدية - عليه الصلاة والسلام - . فهي نظرية مرفوضة شرعاً، محرمة قطعاً بجميع أدلة التشريع في الإسلام من كتاب وسنة، وإجماع، وما ينطوي تحت ذلك من دليل، وبرهان . لهذا: فلا يجوز لمسلم يؤمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، الاستجابة لها، ولا الدخول في مؤتمراتها، وندواتها، واجتماعاتها، وجمعياتها، ولا الانتماء إلى محافلها، بل يجب نبذها، ومنابذتها، والحذر منها، والتحذير من عواقبها، واحتساب الطعن فيها، والتنفير منها، وإظهار الرفض لها، وطردها عن ديار المسلمين، وعزلها عن شعورهم ومشاعرهم، والقضاء عليها، ونفيها، وتغريبها إلى غربها، وحجرها في صدر قائلها، ويجب على الوالي المسلم إقامة حد الردة على أصحابها، بعد وجود أسبابها، وانتفاء موانعها، حماية للدين، وردعاً للعابثين، وطاعة لله، ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وإقامة للشرع المطهر . وأن هذه الفكرة إن حظيت بقبول من يهود، ونصارى، فهم جديرون بذلك؛ لأنهم لا يستندون إلى شرع منزل مؤبد، بل دينهم: إما باطل محرف، وإما حق منسوخ بالإسلام. أما المسلمون: فلا والله، لا يجوز لهم بحال الانتماء إلى هذه الفكرة؛ لانتمائهم إلى شرع منزل مؤبد، كله حق، وصدق، وعدل، ورحمة . وليعلم كل مسلم عن حقيقة هذه الدعوة: أنها فلسفية النزعة، سياسية النشأة، إلحادية الغاية، تبرز في لباس جديد؛ لأخذ ثأرهم من المسلمين: عقيدة، وأرضاً، وملكاً، فهي تستهدف الإسلام والمسلمين في:
1- إيجاد مرحلة التشويش على الإسلام، والبلبلة في المسلمين، وشحنهم بسيل من الشبهات، والشهوات؛ ليعيش المسلم بين نفس نافرة، ونفس حاضرة .
2- قصر المد الإسلامي، واحتوائه .
3- تأتي على الإسلام من القواعد، مستهدفة إبرام القضاء على الإسلام واندراسه، ووهن المسلمين، ونزع الإيمان من قلوبهم، وَوَأدِه .
4- حل الرابطة الإسلامية بين العالم الإسلامي في شتى بقاعه؛ لإحلال الأخوة البلدية اللعينة: ' أخوة اليهود والنصارى ' .
5- كف أقلام المسلمين، وألسنتهم عن تكفير اليهود والنصارى وغيرهم، ممن كفرهم الله، وكفرهم رسوله صلى الله عليه وسلم - إن لم يؤمنوا بهذا الإسلام، ويتركوا ما سواه من الأديان- .
6- وتستهدف إبطال أحكام الإسلام المفروضة على المسلمين أمام الكافرين من اليهود والنصارى وغيرهم من أمم الكفر ممن لم يؤمن بهذا الإسلام، ويترك ما سواه من الأديان .
7- وتستهدف كف المسلمين عن ذروة سنام الإسلام: الجهاد في سبيل الله، ومنه: جهاد الكتابيين، ومقاتلتهم على الإسلام، وفرض الجزية عليهم إن لم يسلموا .
والله سبحانه وتعالى يقول: ((قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ)) (التوبة: 29) .
وكم في مجاهدة الكافرين، أعداء الله، ورسوله، والمؤمنين، من ' إرهاب ' لهم، وإدخال للرعب في قلوبهم، فينتصر به الإسلام، ويذل به أعداؤه، ويشف الله به صدور قوم مؤمنين، والله تعالى يقول: ((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ )) (الأنفال: 60) .(12/67)
فوا عجباً من تفريط المسلمين، بهذه القوة الشرعية ؛ لظهور تفريطهم في مواقفهم المتهالكة: موقف: اغتيال الجهاد، ووأده . وموقف: تأويل الجهاد للدفاع، لا للاستسلام على كلمة الإسلام، أو الجزية- إن لم يسلموا- . موقف: تلقيب الجهاد باسم: ' الإرهاب ' للتنفير منه؛ حتى بلغت الحال بالمسلمين إلى تآكل موقفهم في فرض الجزية على الكافرين في تاريخهم اللاحق !!!
8- وتستهدف هدم قاعدة الإسلام، وأصله: ' الولاء والبراء ' و ' الحب والبغض في الله '، فترمي هذه النظرية الماكرة إلى كسر حاجز براءة المسلمين من الكافرين، ومفاصلتهم، والتدين بإعلان بغضهم وعداوتهم، والبعد عن موالاتهم، وتوليهم، وموادتهم، وصداقتهم .
9- وتستهدف صياغة الفكر بروح العداء للدين في ثوب وحدة الأديان، وتفسيخ العالم الإسلامي من ديانته، وعزل شريعته في القرآن والسنة عن الحياة، حينئذ يسهل تسريحه في مجاهل الفكر، والأخلاقيات الهدامة، مفرغاً من كل مقوماته، فلا يترشح لقيادة أو سيادة، وجعل المسلم في محطة التلقي لِمَا عليه أعداؤه، وأعداء دينه، وحينئذٍ يصلون إلى خسة الغاية: القفز إلى السلطة العالمية بلا مقاوم .
10- وتستهدف إسقاط جوهر الإسلام، واستعلائه، وظهوره وتميزه، بجعل دين الإسلام المحكم المحفوظ من التحريف والتبديل، في مرتبة متساوية مع غيره من كل دين محرف منسوخ، بل مع العقائد الوثنية الأخرى .
11- وترمي إلى تمهيد السبيل: ' للتبشير بالتنصير ' والتقديم لذلك بكسر الحواجز لدى المسلمين، وإخماد توقعات المقاومة من المسلمين؛ لسبق تعبئتهم بالاسترخاء، والتبلد .
12- ثم غاية الغايات: بسط جناح الكفرة من اليهود، والنصارى، والشيوعيين، وغيرهم على العالم بأسره، والتهامه، وعلى العالم الإسلامي بخاصة، وعلى الشرق الأوسط بوجه خاص، وعلى قلب العالم الإسلامي، وعاصمته: ' الجزيرة العربية ' بوجه أخص، في أقوى مخطط تتكالب فيه أمم الكفر وتتحرك من خلاله؛ لغزو شامل ضد الإسلام والمسلمين بشتى أنواع النفوذ: الفكري، والثقافي، والاقتصادي، والسياسي، وإقامة سوق مشترك، لا تحكمه دولة الإسلام، ولا سمع فيه، ولا طاعة لخلق فاضل ولا فضيلة، ولا كسب حلال، فيفشو الربا، وتنتشر المفسدات، وتدجن الضمائر، والعقول، وتشتد القوى الخبيثة ضد أي فطرة سليمة، وشريعة مستقيمة . وما ' مؤتمر السكان والتنمية ' المعقود بالقاهرة في : 29 / 3 / 1415 و ' المؤتمر العالمي للمرأة ' المعقود في بكين عام 1416 . إلا طروحات لإنفاذ هذه الغايات البهيمية . هذا بعض ما تستهدفه هذه النظيرة الآثمة، وإن من شدة الابتلاء، أن يستقبل نزر من المسلمين، ولفيف من المنتسبين إلى الإسلام هذه ' النظرية ' ويركضوا وراءها إلى ما يُعقد لها من مؤتمرات، ونحوها، وتعلو أصواتهم بها، مسابقين هؤلاء الكفرة إلى دعوتهم الفاجرة، وخطتهم الماكرة، حتى فاه بعض المنتسبين إلى الإسلام بفكرته الآثمة:' إصدار كتاب يجمع بين دفتيه:' القرآن الكريم، والتوراة، والإنجيل ' . إن هذه الدعوة بجذورها، وشعاراتها، ومفرداتها، هي من أشد ما ابتلي به المسلمون في عصرنا هذا، وهي أكفر آحاد:' نظرية الخلط بين الإسلام والكفر، والحق والباطل، والهدى والضلالة، والمعروف والمنكر، والسنة والبدعة، والطاعة والمعصية ' . وهذه الدعوة الآثمة، والمكيدة المهولة، قد اجتمعت فيها بلايا التحريف، والانتحال، وفاسد التأويل، وإن أمة الإسلام، لن تجتمع على ضلالة، ولا يزال فيها - بحمد الله - طائفة ظاهرة على الحق، حتى تقوم الساعة، من أهل العلم والقرآن، تنفي عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وصد العاديات عن دين الإسلام . ومن حذر فقد بشر . هذا جواب على سبيل الإجمال يطوّق هذه النظرية الخطرة ويكشف مخططاتها القريبة، والبعيدة في الهدم، والتدمير، وقفزهم إلى السلطة بلا مقاوم .
وخلاصته: ' أن دعوة المسلم إلى توحيد دين الإسلام مع غيره من الشرائع والأديان الدائرة بين التحريف والنسخ بشريعة الإسلام: ردة ظاهرة، وكفر صريح ؛ لما تعلنه من نقض جريء للإسلام أصلاً، وفرعاً، واعتقاداً، وعملاً، وهذا إجماع لا يجوز أن يكون محل خلاف بين أهل الإسلام ' . وإنها دخول معركة جديدة مع عباد الصليب، ومع أشد الناس عداوة للذين آمنوا . فالأمر جد وما هو بالهزل .
مختصر من رسالة : الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان للشيخ/ بكر أبو زيد
===============
مشاريع رمضانية
الحمد لله رب العالمين، تفضل على عباده بمواسم الطاعة، ليتميز أولو العزم والهمة، ولينكشف على الحقيقة أصحاب التراخي والمهانة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أثنى على نفسه خيراً، وثنى بالتحية على عباده الذين اصطفى " قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خيرُ البرية وأزكاها- صلى الله عليه وعلى إخوانه وآله- ورضى الله عن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
معاشر المسلمين: بُشراكم جميعاً شهر الصيام، أهلّه الله علينا بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام ، وجعله الله علينا وعلى المسلمين شهر بركة وخير، ومغفرة للذنوب، ورفعة للدرجات.(12/68)
عباد الله : يحق لنا أن نفرح بهذا الضيف العزيز بعد طول عناءٍ، وبعد رحلة شاقة في دروب الحياة الدنيا، تملأ بالصد والإعراض، والإسراف في الذنوب، والظلم للنفس أو للآخرين، يشهد الكون فيها على الجراح النازفة، والبلايا والخطوبِ النازلة، والفتن والملاحم المتتابعة، والضعف والفُرقة، والتخاذل بين المسلمين – إلا من رحم ربك وقليلٌ ما هم – كيف لا نفرحُ فيك يا شهرَ الصيام! ونفرٌ من المسلمين لا يُحسون بالآم الجوع إلا حين يصومون، ومن إخوانهم من يتضورون جوعاً وهم مفطرون،
وكيف لا نفرح فيك يا شهر رمضان ونفرٌ من المسلمين تكادُ أن تكون صلتُهم بالقرآن مقطوعةً إلا في شهر رمضان ، أجل لقد جفّت مآقينا عن البكاء، فهل نجد فيك يا شهر الصيام باعثاً للبكاء على خشية الله ؟
طال سُباتُ نومنا، فهل يكون شهرُ الصيام موقظاً لقلوبنا بالصيام؟ واختلط اللغو، وكادت أصواتُ الخَنا والغناء أن تصمّ الآذان، فهل تكون يا شهرَ الصيام سبباً لسلامةِ أسماعنا؟ وتفنن الأعداءُ وأصحابُ الأهواء والشهوات في إخراج الصّور الفاضحة، ليصدوا الناس ويفتنوهم، فينشر الإثمُ عارياً. فهل يكون شهر رمضان سبباً في حفظِ أبصارِنا والمحافظةِ على قيمنا ((إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)) (الاسراء:36).
معاشر الصائمين : إننا قبل الصيام وبعد الصيام مدعوون لأمرٍ عظيم، هو غايةُ الصيام وحكمتُه– وهو وصية الله وكلمته – وسوقُه روج في الصيام أكثر من غيرِه، كيف لا وقد قال الله تعالى (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )) (البقرة:182)
إن التقوى: وصيةُ الله للأولين والآخرين (( وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ)) (النساء: 131) .
وهي وصيتُه سبحانه لمحمد صلى الله عليه وسلم (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ )) (الأحزاب: 1) .
تقوى الله: وصيتُه سبحانه وتعالى للمؤمنين خاصة (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ )) (آل عمران:102) .
وهي وصيتُه للناس كافة: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا)) (النساء: 1) .
وبالتقوى: أوصى محمدٌ صلى الله عليه وسلم على الدوام وحيثما كان الزمان والمكان (( اتق الله حيثما كنت))
وإن سألتم عن حقيقة التقوى وآثارِها، أُجبتم بأن تقوى اللهِ نورٌ في القلوب، تظهر آثارُه على الجوارح، إنها سببٌ للفلاح والنجاح ((فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) (المائدة: 100) .
ومنبعٌ للصلاح والإصلاح، ودليل للفرقان " إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً" التقوى عمادٌ للمؤمنين في الدنيا، و أنيسه في القبر، ودليلُه إلى جناتٍ ونهرٍ، تقوى الله حصن حصينٌ في الأزمات، وذخيرةٌ حين الشدائدِ والملمات، تُثبت الأقدامَ في المز الق، وتربط القلوب في الفتن،
إنها أعظمُ كنزٍ يملكه ويحمله الإنسانُ في الدنيا، وأعظمُ نور يرد به على الله يوم المعاد (( وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)) (البقرة:197)
أفلا تستحق بضاعةٌ تلك بعضُ صفاتِها وآثارِها أن يُسعى لها فهذا أوانُها، وذلك الشهرُ خيرُ معينٍ على تحقيقِها.
كم يدخل علينا من رمضانٍ ولم نمتحن أنفسنا على اكتساب التقوى، فهل يكون العام بآلامِه وآمالِه – فرصةً أكبر للتفطن لها وملءِ القلوب بها ، وتسيرِ الجوارحِ على مقتضاها، إنه كسبٌ عظيمٌ، وتجارة رابحة، نسألُ الله أن يعيننا على تحقيق التقوى– ومساكينُ من دخل عليهم رمضانُ وخرج، ورصيدُ التقوى جامدٌ لا يتحرك– أو يتحرك ببطء لا يكاد يُرى، إنني أدعو نفسي وإياكم إلى تحقيق التقوى، وافتح لنفسي ولكم مشاريع تُسهم في تحقيق التقوى، ومن عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها،
أيها المسلمون : وأولُ هذه المشاريع الجالبة للتقوى: التوبةُ النصوح ، فالتوبةُ: هي بدايةُ الطريقِ ونهايتُه، وهي وظيفةُ العمر وبدايةُ العبد ونهايتُه، ودليلُه إلى الخيرِ وسائقُه، وهي المنزلةُ التي يفتقر إليها السائرون إلى الله في جميع مراحلِ سفرِهم ، وحيث حلوا أو ارتحلوا، إن التوبةَ ليست من منازل العصاةِ والمخلّطين فحسب، كما يظن كثيرٌ من الناس – وإن كان هؤلاء العصاة أحوجَ من غيرِهم إليها – بل هي عامةٌ للطائعين والعابدين والعاصين، وهذا سيدُ الطائعين، وإمامُ العابدين محمدٌ- صلى الله عليه وسلم- يخاطب الناسَ كافةً ويقول : (( يا أيها الناسُ توبوا إلى الله فإني أتوبُ إلى الله في اليوم مائة مرة )) رواه مسلم وأهلُ الإيمان يُدعون للتوبةِ ويقول الداعي سبحانه (( وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) (النور: 31) .
إنه نداءُ الرحمن أفلا نستجيب؟ (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ)) (التحريم: 8)(12/69)
نعم يا عبادَ الله، كلُنا محتاجٌ إلى التوبةِ النصوح – فكلنا مخطئون، وكلنا مقصّرون، وما أعظمَ ربُنا وأرحمه، وهو يدعونا إلى التوبةِ ليغفِر لنا ذنوبنا، ويكفر سيئاتنا، ويفتح لنا باب الرجاء، وبها يدخلنا الجنة ويعيذنا من النار .
إنها – أعني التوبة – تبدأُ بالهمةِ الصادقةِ، وتستمرُ العزيمةُ القويةُ لتتحوّل الشهواتُ المحرمةُ إلى طاعا ت وقربا ت تأنس بها في الدنيا، وتجد أجرَها يوم ترد على الله ،
يا من غلبتهم شهواتُهم وأهواؤُهم في رجب وشعبان، أفلا تغلبونها في رمضان ومن بعد رمضان ؟
ويا من سوّفت في التوبة، وأرجأت الإقلاعَ عن المعصية، ها هو شهر رمضان حلّ، وما تدري أتدركه عاماً آخر أم لا، بل ولستَ تدري أتُتِمُ شهرَ الصيام حيّاَ أم تكونُ في عداد الموتى، وشهرُ الصيام لا يزال حيّاَ ؟
إنني أدعو نفسي وإياك للتوبة دائماً، وفي شهر الصيام فابدأ وتوكل على الله ، واعلم بأنك تَرِدُ على كريمٍ غفار، يبسط يدَه ليتوب مسيئُ النهار، ويبسطُ يدَه بالنهار ليتوبَ مسيئُ الليل، فلا تستكثر معاصيك عن التوبة، وفتش وأنت أدرى بنفسك وبمعاصيك، واعقد العزمَ على التوبة، واحمد ربَّك على أنه بلغك شهر رمضان، وستجد له طعماَ آخر حين تبدأه بالتوبة، وتختمه بالشكرِ والحمد لله (( وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ )) (النحل:53) (( وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ )) (النمل:40)
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ومن يهدي الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً ، والصلاة والسلام عل المبعوثِ رحمةً للعالمين، والسراج المنير وعلى إخوانه من النبيين .
أيها الصائم: وثمة مشاريعُ – تؤكدُ حقيقةَ التقوى، ويُدلك بها على التوبة النصوحة – هذه المشاريع ساريةُ المفعولِ في كل حين– ولكنها تزكوا ويعظمُ أجرُها في شهر الصيام.
ومنها:
أولاً : مشروعُ الذكر والدعاء – وكم نُفرِّط في الذكر، وهو من أسهل العبادات وأزكاها، وخيرٌ من إنفاق الذهب والورق، وخيرٌ لكم من أن تلقوا عدوَّكم فتضربوا أعناقَهم ويضربوا أعناقكم،
وما أروع المسلمَ والمسلمةَ ( إذا ظلَّ لسانُهما رطباً بذكر الله ، وما أجمل الصائمَ يُمضي شطراً من ليلِه ونهاره ذاكراً لله ، يُسبح ويحمد ويكبر ويهلل ، يستغفر لنفسه ولوالديه والمؤمنين ، ويدعوا بما شاء من خيرِيِ الدنيا والآخرة، ولا يخص بالدعوة نفسه بل يشمل غيره، ففضلُ الله واسع، والملكُ الموكلُ بالدعاءِ للآخرين بظهر الغيب يقول للداعي: ولك بمثل ما دعوتَ به
أيها الداعون : ولا تنسوا أمواتَكم بالدعاء، وتعلموا آداب وسننَ الدعاء
يا عبد الله: كم في الذكر من فائدة – وقد أوصلها بعضُهم إلى المائة أو تزيد.
وكم نُخطئُ بالليل والنهار؟ وفي الاستغفار تُحرق الخطايا وتذوب .
وكم لنا من حاجة ؟ وكم بإخواننا المسلمين من بأساء؟ فهل نتضرعُ إلى اللهِ بالدعاء لرفعها، والكريمُ يقولُ لنا "أدعوني استجب لكم " وللصائم دعوةٌ لا ترد ، لا سيما عند فطره، وفي الأسحار حين ينزل الرب وبين الآذان والإقامة، وفي السجود، وحين تلين القلوب ونحوها من مواطن إجابة الدعاء. فهل نستثمرُ فرصة الذكر والدعاء في رمضان ؟
إنها مكاسبُ سهلةُ الجهد، عظيمةُ الأثر .
ثانياً: مشاريع الإنفاقِ والصدقة : أيها الصائمُ شعارنا وأدلتُنا في القرآنِ والسنةِ تقول لنا في حينٍ (( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ)) (سبأ:39) ((اللهم أعطِ منفقاً خلقاً وأعطِ ممسكاً تلفاً))
وفي شهرِ رمضان للنفقة والصدقة مزية، فرسولُنا وقدوتُنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم كان أجودَ الناسِ بالخيرِ، وأجودُ ما يكونُ في رمضان، هل نقتدي وهل تتضاعفُ صدقاتُنا في شهرِ مضاعفةِ الحسنات؟
هذا معسرٌ نفك من إعساره ، وهذا محتاج نسد حاجَته ، وثالث مدين نقضي دينَه، ورابعٌ جائعٌ فنطعمه، وهكذا
وشابٌ يريد الزواجَ فنعينه وفي الحديث (( أفضلُ الأعمال أن تُدخل على أخيك المؤمنِ سروراً، أو تقضي عنه ديناً، أو تطعمه خبزاً ))
إن فُرصَ النفقة والإحسان كثيرةٌ للأ يامى واليتامى والمساكين، وللشباب الراغبين في الزواج، وللمسلمين المتضررين، والمجاهدين الصادقين، وتفطير الصائمين، إن في داخل بلادِنا، أو في عالمِنا الإسلامي ، زكاةً وصدقةً، وهديةً وصلةً، عوّد نفسك أيها المسلم على الصدقة في كل يومٍ من أيامِ رمضان، قلّ ذلك أم كثر، ودرب أهلك وأولادك على الصدقة والإحسان، فهذا شهر الإحسان، ولا ينسيك الغنى عن الفقراء، ولا الشبع عن الجوعى والله إن جعلك يداً عُليا تُعطي ولا تأخذ ، وتذكر أن المال مالُ الله ، وأنت ممتحن فيه.
ثالثاً: مشاريع الدعوة إلى الله تعالى، وكم للدعوة من أثارٍ إيجابية على الداعي والمدعو، على الفرد والمجتمع، وبالدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كنا خيرَ الأمم، والدعاةُ الآمرون بالمعروف والنّا هون عن المنكر، هم المفلحون بشهادةِ القرآن (( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )) (آل عمران:104)
وهل أحسن قولاً من الدعوة والدعاة ؟ والله يقول (( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )) (فصلت:33)(12/70)
وفي رمضان تُفتح القلوبُ للدعوة ، ويَسمع الصائمون للدعاة، كيف لا وأبوابُ الجنة تفتح وأبوابُ النار تغلق، ومردةُ الشياطين تُصفد، إن روحانيةَ الصيام تشجع على الدعوة، وأنت أيها المسلم حريٌ بك أن تمارسَ الدعوةَ، وتتحين الفرص المواتية لقبولِها – مع ابنك وأخيك، وزوجك وابنتك ، ومع جيرانك وزملائك في العمل، ومع العامل والسائق والخادمة،
أيها المعلمُ: هل جربت الدعوةَ مع طلابك في رمضان ؟ أيها البائعُ أو المشتري هل مارستما الدعوةَ حال البيع والشراء؟ إن الدعوةَ قد تكون بكلمة طيبة، وابتسامةٍ لطيفة، ومعاملةٍ حسنةٍ، فكيف بما هو فوق ذلك؟
معاشرَ الرجال والنساء، والشيوخ والشباب، والمتعلمين والأميين، هل نجعل من رمضان فرصةً للدعوة بكل وسيلة، وفي أي مناسبة، ومع الناطقين بالعربية أو غيرهم ؟
توزيع الكتاب المفيد، والشريط النافع بالهدية ومع الصدقة ، ولا ينبغي لأحدٍ أن يحقرَ نفسَه عن هذه المهمة الشريفة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول (( بلغوا عني ولو آية))
وينبغي أن يعلم أن الدعوة طريق واسع، ومهم للتوبة، وهي بريدٌ للتقوى، وسببٌ للسعادة أبداً،
خامساً: مشاريع القيام وتلاوة القرآن: إن رمضان شهرُ الصيام وشهرُ القرآن، هل يعجزك أخي المسلم أن تقوم مع الإمام حتى ينصرف؟ وهل تعلم أنه يكتب لك قيامُ ليلةٍ كاملةٍ، أم يراودك الشيطانُ ثم يخرجك من المسجد، لتذهب إلى القيل والقال، ومشاهدةِ ما هبط من الأفلام في البيوت الوهمية أو في البيوت الحقيقية ؟
تذكَّر أخي المسلم: أن من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه، فوطّن نفسك على القيام من أول الشهر إلى آخره.
لئن قصرت في قيام الليل، أو تلاوة القرآن فيما مضى من أيامٍ، فحنانيك أن تضيعَ ذلك في شهر رمضان ؟ إنني حين أنصحك ونفسي بالإكثار من تلاوة كتاب الله، أنصح بالتدبر في آياته، والوقوف عند عجائبه، وكم في القرآن من كنوز تحتاج إلى تدبر وربُنا يقول لنا ((أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)) (محمد:24)
ويقول ((كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)) (ص: 29)
أمة القرآن: إن أهلَ القرآنِ أهلُ اللهِ وخاصتُه، وكيف يكونُ من أهلِ القرآن من اتخذه مهجوراً ؟ نحن أمةٌ أعزنا اللهُ بالإسلام، وأعلى قدرنا بالقرآن، فهل نجعلُ للقرآن من أوقاتنِا وعقولنا وقلوبنا ما يستحق ؟ إن رمضانَ فرصةُ لصلة تبدأ ولا تنتهي مع القرآن، وعلى قدر محبتك لمن أنزل القرآن فاقرأ القران ! وكفى.
سادساً : مشاريعُ اقتصادية: من مشكلاتنا – بشكلٍ عام – الإسرافُ وعدمُ الاقتصاد، وفي رمضان دروسٌ عامة، ودروسٌ خاصةٌ بالاقتصاد، فالصائمُ ممسك عن الطعام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وهذا مشجعٌ على القضاء على التخمة، ومروضٌ للنفس على الصبر، ومهذبٌ للأرواح، ومريحٌ لوظائف الجسم، ومذكرٌ للصائم بمن يحتاجون للطعام فلا يجدونه (صاموا أم أفطروا) ولكن هذه المعاني وأمثالها من اقتصاديات الصوم تضيع، بل تُفهم فهماً خاطئاً عند قومٍ ما، أن يتسامعوا شهر رمضان حتى تمتلئ بهم الأسواق، فيشترون ما يحتاجون وما لا يحتاجونه، ويجمعون ما لا يأكلون، ومن خلال الدراسات والتحقيقات تبين أن الإعلانات التجارية، تمارس دوراً كبيراً في خداعِ المستهلك، ودفعِه إلى المزيد من الشراء لأشياء كثيرة لا حاجة له بها، بل يتجاوز الأمرُ مجردَ الدعاية إلى التسهيلات في عمليات الشراء، وحمل السلع إلى المستهلك في مقر بيته، ثم يأتي أسلوبُ الدفع بالبطاقات، أو الأقساط أو مكافأة المشتري كلما زاد من نسبة الشراء، وسيلةً ثالثةً تُسهم في الإسراف، ومزيد الاستهلاك
فهل نتنبه لهذه المخاطرِ الاقتصادية، ونجعل من شهر الصيام فرصةً للاقتصادِ غيرَ المُقتر، لتسلم بطونُنا من التخمة، وجيوبُنا من النفقة المُسرفة، إنها ملاحظةٌ تستدعي النظرَ والعملَ، وإذا شاع عند أبناءِ العالم الآخر مصطلح ( ولد ليشترى) فعندنا معاشرَ المسلمين المصطلح يقول : ( ولد ليعبد الله ) والشراءُ ليس هدفاً بذاتِه بل وسيلةً للعبوديةِ .
================
أهل السنة يعرفون الحق ويرحمون الخلق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد :
إن من القضايا الملحة التي ينبغي الاعتناء بها علماً وعملاً موضوع الصفات السلوكية والأخلاقية عند أهل السنة والجماعة . فإن الناظر إلى واقع كثير من دعاة أهل السنة يرى ما هم عليه من تفرّق وخصومة وتناحر بل ربما تجاوز ذلك إلى حد التضليل والتفسيق .
ويبدو أن من الأسباب الرئيسية المؤدية إلى هذا الواقع المحزن الغفلة عن الالتزام بالصفات السلوكية والأخلاقية لأهل السنة ، فأنت ترى أن أولئك الدعاة على توجه واحد، ومنهج واحد في الاستدلال ، ومع ذلك كله فلا اجتماع ولا وئام ، بل تشرذم وتناحر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
لقد اعتنى السلف الصالح بالجانب السلوكي الأخلاقي علماً وفقهاً ، كما حققوه عملاً وهدياً ، بل إن أئمة السلف يوردون الصفات السلوكية والأخلاقية لأهل السنة في ثنايا كتب العقيدة ، وعلى سبيل المثال فهذا قوام السنة إسماعيل بن محمد الأصبهاني (ت 535هـ) يقول :(12/71)
» ومن مذهب أهل السنة التورّع في المآكل والمشارب والمناكح ، والتحرز من الفواحش والقبائح ، والتحريض على التحاب في الله عز وجل، واتقاء الجدال والمنازعة في أصول الدين، ومجانبة أهل الأهواء والضلالة ، وهجرهم ومباينتهم، والقيام بوفاء العهد والأمانة، والخروج من المظالم والتبعات ، وغضّ الطرف عن الريبة والحرمات، ومنع النفس عن الشهوات ، وترك شهادة الزور وقذف المحصنات ، وإمساكُ اللسان عن الغيبة والبهتان، والفضول من الكلام، وكظم الغيظ ، والصفح عن زلل الإخوان ، والمسابقة إلى فعل الخيرات، والإمساك عن الشبهات ، وصلة الأرحام ، ومواساة الضعفاء ، والنصيحة في الله، والشفقة على خلق الله، والتهجد لقيام الليل لا سيما لحملة القرآن ، والبدار إلى أداء الصلوات[1].
والحديث عن تلك الصفات السلوكية حديث طويل ، ولكن حسبي في هذه المقالة أن أشير إلى إحدى تلك الصفات المهمة، ألا وهي أن أهل السنة يعلمون الحق، ويرحمون الخلق ، فإنهم أصحاب هدى واتباع، وأرباب عمل واقتداء، ومن ثم كانوا أعلم الناس بالحق، وأحرص الناس على تبليغ الدين والدعوة إليه، ومنابذة أهل الأهواء والبدع، وفي الوقت نفسه فإنهم يرحمون الخلق، ويريدون لهم الخير والهدى، ولذا كانوا أوسع الناس رحمةً وأعظمهم شفقة، وأصدقهم نصحاً .
يقول ابن تيمية في هذا المقام :
وأئمة السنة والجماعة وأهل العلم والإيمان فيهم العلم والعدل والرحمة ، فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة ، سالمين من البدعة ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم ، كما قال تَعالَى : ((كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى )) ويرحمون الخلق، فيريدون لهم الخير والهدى والعلم ، لا يقصدون الشر لهم ابتداء ، بل إذا عاقبوهم، وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم ، كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق « [2] .
ويقول ابن رجب في هذا الصدد :
»كان خلفاء الرسل وأتباعهم من أمراء العدل وأتباعهم وقضاتهم لا يدعون إلى تعظيم نفوسهم البتة ، بل إلى تعظيم الله وحده، وإفراده بالعبودية والإلهية ، ومنهم من كان لا يريد الولاية إلا للاستعانة بها على الدعوة إلى الله وحده .
وكانت الرسل وأتباعهم يصبرون على الأذى في الدعوة إلى الله ويتحملون في تنفيذ أوامر الله من الخلق غاية المشقة وهم صابرون بل راضون بذلك ، كما كان عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يقول لأبيه في خلافته : »إذا حُرِص على تنفيذ الحق وإقامة العدل يا أبت لوددت أني غَلَتْ بي وبك القدور في الله عز وجل وقال بعض الصالحين : » وددت أن جسمي قُرِّض بالمقاريض، وأن هذا الخلق كلهم أطاعوا الله عز وجل « ومعنى هذا أن صاحب ذلك القول قد يكون لحظ نصح الخلق والشفقة عليهم من عذاب الله ، وأحب أن يقيهم من عذاب الله بأذى نفسه ، وقد يكون لحظ جلال الله وعظمته ، وما يستحقه من الإجلال والإكرام والطاعة والمحبة ، فود أن الخلق كلهم قاموا بذلك ، وإن حصل له في نفسه غاية الضرر«[3].
إن التزام أهل السنة بالعلم والعدل أورثهم هذه الخصلة الرفيعة ، فمسلك أهل السنة قائم على العلم والعدل ، لا الجهل والظلم ، حتى كان أهل السنة لكل طائفة من المبتدعين خير من بعضهم لبعض » بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعضهم، وهذا مما يعترفون هم به، ويقولون : أنتم تنصفوننا ما لا ينصف بعضنا بعضاً لقد تلقى أهل السنة هذه الصفة الحميدة من صاحب الخلق العظيم نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ، فلقد كان -عليه الصلاة والسلام - أعلم الناس بالحق ، وأعظم الناس رحمة ورأفة ، فمن أجل إظهار الحق بلّغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، وجاهد في الله حق جهاده ، ومن أجل نصرة الحق نجده -صلى الله عليه وسلم- يغضب أشد الغضب ، فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب ، وكل ذلك حين رأى بعض أصحابه - رضي الله عنهم - يتخاصمون في القدر ، ثم قال : » مهلاً يا قوم بهذا أهلكت الأمم من قبلكم ، باختلافهم على أنبيائهم ، وضربهم الكتب بعضها ببعض : إن القرآن لم ينزل يكذّب بعضه بعضا، وإنما نزل يصدق بعضه بعضاً ، فما عرفتم منه فاعملوا به ، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه [4] .
ومع ذلك كله فقد كان صلى الله عليه وسلم هو الرحمة المهداة ، قال تعالى : ((لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)) .
وفي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - »قالت : ما خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً ، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه ، إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها .(12/72)
وتأمّل - أخي القارئ - ما لقيه -صلى الله عليه وسلم- من أنواع الأذى في سبيل دعوته ونصحه للخلق ، ولما سألته عائشة -رضي الله عنها قائلة : يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد « فقال : لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال ، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم استفق إلا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني ، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك ، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ، قال فناداني ملك الجبال وسلّم علىّ ثم قال : يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال ، وقد بعثني إليك لتأمرني بأمرك فما شئت ؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئاً ، أخرجه الشيخان .
ولقد سار سلف الأمة على ذلك ، فهذا أبو أمامة الباهلي - رضي الله عنه - يقول الحق، ويرحم الخلق ، فإنه لما رأى سبعين رأسا من الخوارج ، وقد جزت تلك الرؤوس ونصبت على درج دمشق ، فقال رضي الله عنه إعلاماً بالحق :
سبحان الله، ما يصنع الشيطان ببني آدم، كلاب جهنم، شر قتلى تحت ظل السماء«.
ثم بكى قائلاً: بكيت رحمة لهم حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام[5].
وهذا الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل - رحمه الله - يثبت على كلمة الحق لا يخشى في الله لومة لائم، فيقول بكل يقين : القرآن كلام الله غير مخلوق، ويصبر الإمام على ما أصابه من أنواع الإيذاء والفتنة من قبل رؤوس المعتزلة - آنذاك -، ومن تبعهم من خلفاء كالمأمون ، والمعتصم، والواثق .
» ولما جاءه أحدهم وهو في السجن فقال : يا أبا عبد الله عليك رجال ، ولك صبيان ، وأنت معذور - كأنه يسهل عليه الإجابة -، فقال الإمام أحمد : إن كان هذا عقلك فقد استرحت [6]
ومما قاله الإمام الذهبى - رحمه الله - في شأن محنة الإمام أحمد :
» الصدع بالحق عظيم ، يحتاج إلى قوة وإخلاص ، فالمخلص بلا قوة يعجز عن القيام به، والقوي بلا إخلاص يخذل ، فمن قام بهما كاملاً ، فهو صدّيق، ومن ضَعُفَ ، فلا أقل من التألم والإنكار بالقلب ، وليس وراء ذلك إيمان ، فلا قوة إلا بالله « [7]
لقد كان الإمام أحمد بن حنبل رجلاً ليناً ، لكن لما رأى الناس يجيبون ويعرضون عن الحق، عندئذ ذهب ذلك اللين ، وانتفخت أوداجه ، واحمرت عينا[8].
ومع ذلك البطش والجدل والسجن من قبل أولئك الخلفاء إلا أننا نجد هذا الإمام يقول :
كل من ذكرني ففي حلّ إلا مبتدعاً، وقد جعلت أبا إسحاق - يعني المعتصم- في حل ورأيت الله يقول : » وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم « وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر بالعفو في قصة مسطح - ثم قال - وما ينفعك أن يعذِّبَ الله أخاك المسلم في سبيله ؟ « [9] .
وهاك مثالاً ثالثاً لأئمة أهل السنة ، فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقرر عقيدة السلف الصالح ، ويجاهد بلسانه وسنانه طوائف الزيغ والانحراف ، فيرد على أهل الكتاب ويقمع أكاذيب الباطنية ، ويناظر الصوفية وأهل الكلام ...
وكل ذلك من أجل بيان الحق وتبليغه.
وفي الوقت نفسه فقد كان -رحمه الله- من أعظم الناس شفقة وإحساناً ، وإليك المشاهد الدالة على ذلك :
يقول ابن القيم : » جئت يوماً مبشراً له (أي لابن تيمية) بموت أكبر أعدائه، وأشدهم عداوة وأذى له ، فنهرني وتنكر لي واسترجع ، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم، وقال إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، فسروا به ودعوا له « [9].
ولما مرض ابن تيمية - مرض الوفاة - دخل عليه أحدهم ، فاعتذر له ، والتمس منه أن يحلله ، فأجاب الشيخ : » إني قد أحللتك وجميع من عاداني وهو لا يعلم أني على الحق ، وإني قد أحللت السلطان المعظم الملك الناصر من حبسه إياي ، كونه فعل ذلك غيره ... «[10].
وقال أحد خصومه (ابن مخلوف) : »ما رأينا مثل ابن تيمية ، حرّضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا« [11] .
وأخيراً أدعو إخواني إلى ضرورة معرفة الحق ورحمة الخلق، وأن نهتم بتحقيق العلم والعدل في هذا الشأن، وأن نسعى جادين صادقين إلى تحقيق منهج أهل السنة عقيدة وسلوكاً، والله المستعان.
[1]الحجة في بيان المحجة 2 / 528 وانظر عقيدة السلف للصابوني (ت 449 ه) ص 97 - 99 واعتقاد أئمة الحديث للإسماعيلي (ت 371 ه) ص 78 ، وانظر آخر مبحث في العقيدة الواسطة لابن تيمية .
[2] الرد على البكري ص 257 .
[3]شرح حديث ما ذئبان جائعان ص 19 .
[4] أخرجه أحمد 2 / 181 ، 195 وابن ماجه (85) .
[5] انظر تفصيل ذلك في الاعتصام للشاطبي 1/71 - 73.
[6] الآداب الشرعية لابن مفلح 2 / 24 .
[7] أسير أعلام النبلاء 9 / 234 .
[8] المرجع السابق 9 /238 .
[9] مدارج السالكين 2/345 .
[10] الأعلام العلية ص 82 .
[11] الباب الثالث 14 /54 .
=================
العِلْم وفضله وآدابه
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، له الحمد على نعمه الظاهرة والباطنة علمنا بعد الجهل وجعل لنا سمعنا وأبصاراً :((وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) (النحل: 78).(12/73)
وأشهد أن لا إله إلا الله ـ وحده لا شريك له هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيءٍ عليم لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، بيده الضَرُ والنفع ، والخفضُ والرفع ، وبيده الملك ومقاليدُ السماوات والأرض وهو عليمٌ بذات الصدور.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أزكى البرية، ومُعَلِّمُ الإنسانية ختم الله به النبوةَ والرسالة ، وأعطاه الحوض والكوثَر والشفاعة صلوات الله وسلامة عليه وعلى آله وأصحابه وجميع السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان .
ثُمَّ أَمَّا بَعْدُ :
فيا أيها الأخوة المسلمون : اتقوا الله - عز وجل - وأخشوه سبحانه فإن هذا هو الفوز والفلاح وهو العلم والنجاة ، بالخشية والتقوى يحصل الرزق والفرج ، وتكفيرُ السيئات ورفع الدرجات .
أيها المسلمون :
إن أفضل ما اكتسبته النفوس وحصلته القلوب ونال بها العبد الرفعة في الدنيا والآخرة هو العلم والإيمان ولهذا قرن الله سبحانه بينهما في قوله : ((وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)) (الروم :56).
وقوله: ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)) (المجادلة :11) (الفوائد لأبن القيم ص 138).
إن العلم إمام العمل وقائد له والعمل تابع للعلم ومؤتم به فكل عملٍ لا يكون خلف العلم مقتدياً به
فهو غير نافع لصاحبه بل مضرة عليه كما قال بعض السلف :
من عبد الله بغير علم كان ما يفسده أكثر مما يصلح (أ.هـ مفتاح دار السعادة) .
ولقد أخبر الله سبحانه بأن العلم النافع سبب لخشيته سبحانه فقال جَلَّ ذكره :(( ِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ)) (فاطر : 28) .
فأهل العلم العاملين هم أكثر الناس خشية لله وتعظيماً له وهذه هي ثمرة العلم والفقه.
قال مجاهد رحمه الله:(الفقيه مَنْ يخاف الله عز وجل).
نعم (فليس العلم بكثرة الرواية ولا بكثرة المقال ولكنه نور يَقذف في القلب يفهم به العبدَ الحق
ويميز به بينه وبين الباطل) ( فضل علم السلف).
وقال سفيان الثوري - رحمه الله - : ليس طلب العلم فلان عن فلان إنما طلب العلم الخشية لله عز وجل، وقال أيضاً: إنما يطلب العلم ليتقى الله به فمن ثم فُضِّلَ. فلولا ذلك لكان كسائر الأشياء، إن العلم إن لم ينفعك ضرك) (الحلية)
إنه لا شيئاً أفضل من طلب العلم وتعليمه لمن خلصت نيته لله وصلح قصده.
أما من تعلم العلم للريا والمفاخرة والوصول إلى المناصب وأكل الأموال والتطاول على الناس فهو متوعّد بوعيد مناسب لقصره السئ .
روى أبو داود وأبن ماجه عنه صلى الله عليه وسلم قال : ((من تعلّم علماً مما يبتغى به وجه الله تعالى لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة))[1]يعني ريحها.
ومن هذا الفعل ونحوه حَذّر أسلافنا فقال سفيان يوصي رجلاً:(إياك أن تكون ممن يحب أن يعمل بقوله أو ينشر قوله فإذا ترك ذاك منه عرف فيه ، وإياك وحب الرئاسة فإن الرجل يزهد في الدينار والدرهم وتكون الرئاسة أحب إليه من الذهب والفضة وهو باب غامض لا يبصره إلا البصير من العلماء والسماسرة والحمار).
ولهذا ضرب الله في القرآن مثلاً لعالم السوء في موضعين شَبهّهه في أحدهما بأخس الحيوانات فقال عز وجل:((وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)) (الأعراف : 175-176).
وقال في الآخر: ((مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) (الجمعة : 5).
أيها المسلمون : تعلّموا علم القرآن والسنة واعملوا بما تعلّمتم فإن المرء لا يزال عالماً ما طلب العلم واجتهد في تحصيله فإذا ظن أنه قد استغنى من طلب العلم وجمعه فقد جهل وَدَبَّ إليه داء الغرور الكاذب ، والعجب المهلك والعاقل لا يمنعه من طلب العلم كبر السن أو الخجل فإن هذا من أساليب الشيطان والعلم لا يقاس بالعمر ولا بالمنصب ولكنه نورٌ يقذفه اله في قلب من شاء وعلى هذا فلا يجوز للمرء أن يحتقر من هو أصغر منه سناً إذا وهبه الله علماً بل عليه أن يتعلم منه وأن يجلس إليه وإن يسأله وأن يجانب الحسد والاحتقار فإنهما خلقان مذمومان فهكذا يصنع الجهل بأصحابه .
عباد الله : مَنْ عرف العلم وفضله لم يقض نهمته منه ، ولم يشبع من جمعه طول عمره كيف لا وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً)) ( طه : 114) .
كيف لا ؟ وقد استشهد الله سبحانه ـ بأولي العلم ـ على أجل مشهودٍ عليه وهو توحيده فقال عَزَّ من قائل:((شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) (آل عمران : 18) .(12/74)
وطلب العلم الشرعي بصدقٍ وإخلاص من أسباب دخول الجنة فلقد صَحَّ عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه أنه قال:((من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سَهَّل الله له طريقاً إلى الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له مَنْ في السموات ومن في الأرض حتى الحيتانُ في الماء وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورشةُ الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورّثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر))[2]
وقوله: ((وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم)) معناه أنها تدعو له وتعطف عليه [3]
وتتواضع لطالب العلم تعظيماً له أو أنها تنزل عند مجالس العلم وتترك الطيران ( ذكره الخطابي كما في منهاج القاصدين) .
ومَنْ أراد الله به خيراً وَفّقه لتعلم ما ينفعه ويِّبصره بأحكام دينه .
وروى البخاري ومسلم عنه صلى الله عليه وسلم قال:((مَنْ يرد الله به خيراً يفقه في الدين)).
بالعلم يصلح الإنسان زيفه وفاسده ، ويرغم عدوَّه وحاسده ويقوّم عوجه ومَيْلَه ويصحح نيته وأملَه
ومن وصايا لقمان لأبنه قال :
يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فإن الله يحي القلوب الميتة بالحكمة كما يحي الأرض الميتة بمطر السماء.
إن من العلم أيها المسلمون : ما هو واجب لا عُذر لأحدٍ بتركه كمعرفة الأحكام الضرورية من العقائد والعبادات والمعاملات ومنه ما سوى ذلك واجب كفاني ينوب فيه بعض المسلمين عن بعض .
أيها الأخوة :
إننا ونحن نستقبل عاماً دراسياً جديداً ليحسن بنا أن نتذكر سرعة مرور الليالي والأيام وأها هدمٌ لأعمارنا ، وتقريبٌ من آجالنا فما أسرع مرورَ الأيام وانقضاءَ الشهور والأعوام وإن في هذا لذكرى لكل لبيبٍ حازم بأن لا يَغْترَّ بشبابٍ ولا بصحة إن الأيام قُلَّبٌ ن والموتُ يأتي بغتةً ، ورأس مالك هو عملك الصالح ممن قَدّم شيئاً عليه ((وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ)) (الروم : 44) .
أيها المدرسونَ والطلابُ والآباء :ليتذكر كل منكم واجبه ، وليجاهد نفسه على أداء الأمانة بإخلاص وإن من القيام بأمانة العلم :
مجاهدةَ النفس على العمل به فهذا هو ثمرة العلم وذلك بلزوم التواضع وإساءةِ الظن بالنفس ، والمحافظة على الجمعة والجماعة ، وبر الوالدين والحرص على نوافل العبادات والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليكون ممن فتح الله بصيرته وأنار قلبه وزاده علماً وهدى ومن عمل بما علم أورثه الله علم مالم يعلم ، وحفظ علمه من النسيان ، وأصبح كلامه وتوجيهه مقبولاً .
أَمَّا من كان يجيد التوجيه بالقول فقط وفعله ومظهره يخالف ذلك فإنما يؤبخّ نفسه ، ويقيم الحجةَ على شخصه ( وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم ((من علمٍ لا ينفع ))[4] .
إذا العلم لم تعمل به كان حجةً عليك ولم تُعذر بما أنت حاملُ
فإن كنت قد أبصرت هذا فإنما يصدِّق قول المرء ما هو فاعلُ
فعلى مَنْ تصدّر لتعليم أبناء المسلمين :إن يتقي اللهَ فيهم ، وأن يتعاهدهم بالتوجيه وأن يغرس في قلوبهم العقيدة الصحيحة وأن يذكرهم بسيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه وما فيها من دروسٍ وعبرٍ وأن يكون قدوة لطلابه في مظهرة ومخبره وأن يحذر طلابه ـ دائماً ـ من جلساء السوء ومن فتن الشهوات والشبهات فإنهم عنده أمانة والله المسئول أن يوفق أهلَ العلم وشبابَ الأمة وجميع المسلمين إلى أحسن الأقوال والأعمال وأن يرزقهم الفقه في الدين والبصيرةَ فيه وأن يعيذ الجميع من فتن الشبهات والشهوات إنه هو السميع العليم هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده ، وأشهد أن لا إله إلا الله لا شيء قبله ولا شيء بعده .. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى اللهُ وسلم عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فاتقوا الله ـ رحمكم الله ـ واجتهدوا في تَعلِّم الأحكام الشرعية عن طريق السؤال والمذاكرة ، والجلوس إلى أهل العلم في المساجد والمعاهد والجامعات وعن طريق القراءة والاستماع فلقد توفّرت في هذا العصر ـ بحمد الله ـ وسائل التعلّم التي كان يرحل من أجلها سلفنا الصالح شهوراً وسنوات ، ويقطعون الفيافي والقِفار ، ويتعرضون للجوع والأخطار ومَنْ أراد تحصيل علمٍ غزير فليهجر الراحةَ وتضييعَ الأوقات فإن العلم لا يستطاع براحة الجسد
وهو لا يعطيك بعضَه حتى تعطيه كُلَّك.
فيا هذا :
إن كنت ترغب في عظيم الأجر وسمو القدر ونباهة الذكر وارتفاع المنزلة بين الخلق وتلتمس عزاً لا تثلِمُهُ الليالي والأيام فعليك بالعلم الشرعي فاطلبه في مظانه تأتك المنافع عفواً واجتهد في تحصيله مدة من الزمن ثم تَذَوّقْ حلاوة الكرامة مدة عمرك وتمتّعْ بلذة الشرف فيه بقية أيامك واسْتَبِقْ لنفسك الذكرَ به بعد وفاتك (الحث على طلب العلم لأبي هلال العسكري) .
ما الفخرُ إلا لأهل العلم إنهُمُ على الهدى لمن استهدى إدلاءُ
وقدر كلِّ أمرئٍ ما كان يحسنُهُ والجاهلون لأهل العلم أعداءُ
فَفُز بعلمٍ تعشْ حياً به أبداً الناسُ موتى وأهل العلم أحياءُ
أيها الطلاب : تأدبّوا بآداب العلم وأقرءوا ما كتب عن فضل العلم وآداب الطلب ، واعرفوا للمعلِّم قدره ، واحترموا مَنْ تتعلمون منه واحتملوا قسوته للمصلحة :
ممن لم يحتمل ذُل التعلّم ساعةً تجرع كأس الجهل طول حياته
وحذارِ من العجب والكبر فهما خلقان ذميمان ولكنهما في أهل العلم وطلبته أقبح وأشدُّ ذماً .
والعلم حربٌ للفتى المتعالي كالسيل حرب ٌللمكان العالي(12/75)
وعلى طالبِ العلم أن يثبّت علَمه بالعمل ومما أُثر عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : (هتف العلم بالعمل فإن إجابة وإلا أرتحل) .
وطالب العلم قدوةٌ لغيره فعليه أن يصون نفسه على مجالس المنكر ومن يهتكون أستار الأدب
ويجتمعون على اللهو المحرم .
أيها الآباء : شجعوا أبناءكم على التحصيل العلمي وحفّظوهم كتاب الله فإنه أساس العلوم ، وحَذِّروهم من جلساء السوء، واسألوا عنهم في المدرسة وامنعوا عنهم وسائل الشر والفساد، وادعوه بالصلاح والهداية لتقرَّ أعينكم بهم وتنتفع الأمة منهم .
وإياكم - أن تركّزوا في أذهان الطلاب والطالبات بأن الرزق والوظيفة من الدراسة فحسب
بل علّموهم التوكل على الله عز وجل فكم من دارس مقير وكم من عامي غني .
إن الدراسة سببٌ لطلب العلم ورفع الجهل لمن استطاعها ووفّق إليها ، أمَّا من لم يستطيع مواصلة الدراسة ووجدَ له عملاً فلينصرف إليه بعدما أخذ من العلم الشرعي ما يقيم به دينه كما قيل : إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيعُ .
أن من أولياء الأمور من يقيس أبناءه بدراستهم لا بمحافظتهم على صلاتهم .
لذا ترى اهتمامهم بدراسة الأولاد وأعظم من اهتمامه بصلاحهم وصلاتهم وعفتهم وهذا انتكاس خطير وبلاٌ كبير، فنعوذ بالله من علماً لا ينفع وقلب لا يخشع ونفس لا تشبع .
اللهم صل على محمد وآله وصحبه.
[1] (ورداه أبن حبان والحاكم وصححه وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ص 46 ) .
[2] رواه أبو داوود والترمذي وحسنه الألباني في صحيح الترغيب ص 33 .
[3] هذا ما ذهب إليه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله ص 5 ـ 6 .
[4] رواه مسلم .
===========
وصايا مهمة لطالب العلم
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلّ له، ومن يُضلِلْ فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أمَّا بعد:
فإنَّ من علامة الخير للإنسان أن يتفقه بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يتزيد من ميراث النبوة، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين))[1].
وثبت أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه))[2].
ولا شك أن من تعلم القرآن أن يتفقه المسلم في أحكام دينه، مما جاء به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الحلال والحرام.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله مفاضلةً بين طالب المال وطالب العلم، فذكر رحمه الله تفضيل طالب العلم على طالب المال بما يقرب من سبعين وجهاً، لأنَّ المستقرئ لحال كثير من الناس اليوم يجد أنهم بين إنسانٍ يطلب المال، ويكدّ بدنه، ويُمضي عمره في ذلك، وبين إنسانٍ يطلب العلم، ويكدّ بدنه، ويُمضي حياته ويقضيهما في ذلك، فذكر ابن القيم رحمه الله ما يقرب من سبعين وجهاً في تفضيل طالب العلم على طالب المال، وأُشير إلى شيء من هذه الأوجه التي ذكرها رحمه الله، فَمِمَّ ذكر قال: إن طالب العلم يدعوا الناس إلى الآخرة بطلبه، وأمَّا طالب المال فإنه يدعوا الناس إلى الدنيا بطلبه.
وذكر أيضاً أن العلم هو ميراث الأنبياء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظٍّ وافر))[3]
وأما بالنسبة للدنيا فإنها ميراث الملوك، وفرقٌ بين الميراثين. فرق بين أن ينهل الإنسان ويتزيد من ميراث محمد صلى الله عليه وسلم وبين أن يأخذ من ميراث بقية البشر من الملوك، والحكام وغيرهم.
وذكر أيضاً من الأوجه أن العلم يحفظ صاحبه، فالعلم إذا كنت متزيداً به فإنه يحفظ صاحبه، فالعلم إذا كنت مُتزيداً به فإنه يحفظك من أمراض الشبهات، وأمراض الشهوات، بخلاف المال فإن الإنسان محتاجاً إلى أن يحفظ ماله في الصناديق ووراء الأقفال والودائع وغير ذلك.
وأيضاً ذكر من الأوجه أن العلم يتبع صاحبه حتى بعد الموت، حتى بعد موتك يتبعك علمك، إذ إنه من عملك، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يتبع الميت ثلاث: أهله، وماله، وعمله، فيرجع اثنان، ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله)) [4]
فالعلم يتبعك حتى بعد موتك، وأمَّا بالنسبة للمال؛ فإنه لا يتبعك بعد الموت، بل إن العلماء رحمهم الله يذكرون في باب الهبة والعطية أن الإنسان إذا مَرِض مرض الموت لا يملك أن يهب إلاّ الثلث فقط، وهذا من صدقة الله عز وجل عليه، وهو حي لا يملك أن يتبرع، لا يملك أن يهب، لا يملك أن يتصدق، لا يملك أن يوقظ، لا يملك أن يوصي إلاّ بالثلث فقط، إذا مرض مرض الموت، وأمَّا الثلثان فإنهما يكونان للورثة، ففرقٌ بين الطالبين، فمن نعمة الله عز وجل ومنّته أن يُهيّئ العبد للتصدي لطلب العلم، والتفقه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
وهناك وصايا لابد أن يأخذ بها طالب العلم الجاد الذي يريد أن يُلِمّ بشيءٍ من فنون العلم: فمن هذه الوصايا:
أولاً: الإخلاص
يجب على طالب العلم أن يخلص عمله لله، لأن العلم عبادة من أفضل العبادات، وأجلّ القربات، ولهذا ذكر أبو حنيفة أن تعلّم العلم وتعليمه من أفضل العبادات البدنية لما اختلف العلماء رحمهم الله في أيّ العبادات البدنية أفضل.
قال الشافعي: أفضلها الصلاة.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: أفضلها الجهاد في سبيل الله.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: أفضلها العلم؛ تعلّمه وتعليمه.(12/76)
ولا شك أن تعلّم العلم وتعليمه من الجهاد في سبيل الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع))[5].
والله عز وجل يقول: ((وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)) (التوبة: 122)
فالله جعل المؤمنين طائفتين: طائفة تنفر في الجهاد في سبيل الله، وطائفة تجلس مع النبي صلى الله عليه وسلم تأخذ عنه سنته، فإذا رجعت الطائفة المجاهدة علّمتها الطائفة القاعدة.
والنبي صلى الله عليه وسلم في حياته جاهد الناس بجهادين:
الجهاد الأول : جهاد العلم والبيان، فهذا في المرحلة المكية مدة ثلاثة عشر سنة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يجاهد الناس بغرس التوحيد، ونبذ الشرك وشوائبه، ثم بعد ذلك في المرحلة المدنية، جاهد الناس بجهاد السيف والسنان، فعلينا أيها الأحبة أن نخلص لله عز وجل.
وقال الإمام أحمد: (العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته. قيل: وكيف تصح النية؟ قال: إذا أراد أن يرفع الجهل عن نفسه وعن غيره) .
فإذا أراد بتعلمه أن يرفع الجهل عن نفسه، وعن غيره، وأن يعبد الله على بصيرة، وأن يدعوا الناس إلى هذا العلم الذي تعلمه، فإن هذا لا شك أنه لا يعدله شيء كما قال الإمام أحمد رحمه الله، لأن هذا هو عمل الأنبياء والرسل عليهم السلام، فالذي يقوم بتعلم العلم فإنه يقوم مقام الأنبياء، فإنهم يتعلمون من ربهم، ثم بعد ذلك يُعلّمون الناس، ويوجّهونهم، ويرشدونهم.
فعلينا دائماً وأبداً أن نُعلّق قلوبنا بالله عز وجل، محبة ورهبة ورغبة ورجاء وتوكّلاً واستعانة،وألاّ يلتفت قلب الإنسان إلى المخلوقين وإلى الدنيا وحظوظها الفانية. وفي حديث أبي هريرة صلى الله عليه وسلم في الصحيحين يقول الله في الحديث القدسي: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه))[6].
وذكر سفيان رحمه الله قال:« كانوا يتعلمون النية كما يتعلمون العلم ».
وقال بعض السلف: « رُبَّ عملٍ صغير كبّرته النية، ورُبَّ عملٍ كبير صغّرته النية» فقد يبذل الإنسان جهده، ويعمل، ويُكثر من العمل لكن تصغّره نيته، تكون نيته مشوبة بشوائب الشك، مشوبة بالرياء، مشوبة بالسمعة، مشوبة بالتفات القلب إلى المخلوقين.
فعلى المسلم دائماً وأبداً أن يعلّق قلبه بالله عز وجل، وألا ينظر إلى الدنيا وحظوظها الفانية، وإنما يريد وجه الله عز وجل، والاستزادة من هذا العلم، وتبصير الناس، ودعوتهم، والآثار عن السلف في الإخلاص كثيرة جداً، وقد ذكر أبو واسع رحمه الله قال: كان الرجل يقوم في الصف فتسيل دموعه على لحيته، ولا يشعر به من بجنبه، وكان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة تسيل دموعه على خده لا تشعر به امرأته.
وقال أبو التياح رحمه الله: كان الرجل يقرأ عشرين سنة لا يعلم به جيرانه.
وقال محمد بن الحنفية:الإجابة والإخلاص مقرونان لا فرق بينهما": يعني أن إجابة الدعاء يكون مع الإخلاص، فكل ما كان الإنسان في عمله أخلص؛ كلما كانت استجابة الله له أكثر.
ثانياً: العمل بما علم
وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك أيضاً هدي صحابته رضي الله عنهم، وثبت في صحيح مسلم من حديث أُمّ حبيبة رضي الله عنها أنها قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((من صلّى لله في يوم وليلة ثنتي عشر ركعة تطوّعاً غير الفريضة إلا بُني له بهنّ بيتٌ في الجنة))[7].
قالت أم حبيبة رضي الله عنها: (فما تركتهن منذ أن سمعتهنَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال عنبسة – الراوي عن أم حبيبة -: (فما تركتهن منذ سمعتهن من أم حبيبة) قال النعمان بن سالم – الراوي عن عنبسة -: (ما تركتهن منذ سمعتهن من عنبسة). قال عمرو بن أوس – الراوي عن النعمان بن سالم: (فما تركتهن منذ سمعتهن من النعمان بن سالم) .
وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما رأى في منامه النار.... فقصّها على حفصة، فقصتها حفصة على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((نِعْمَ الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل))[8].
في الصحيحين قال سالم بن عبد الله: « فكان عبد الله لا ينام من الليل إلا قليلاً ».
ومعاذ بن جبل رضي الله عنه يأتي رسولَ الله ويقول: يا رسول الله! دُلّني على عمل يدخلني الجنة، ويباعدني من النار. قال: دُلّني على عمل، يريد أن يعمل، فذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم أركان الإسلام ودعائمه: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتصوم، وتصلي الصلوات، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت، ثم دلّه على أبواب الخير، ثم قال له: ألا أدلك على رأس الأمر وعموده وذروة سنامه، ثم دلّه على ملاك ذلك كله، لأنه رضي الله عنه أراد العمل[9].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما، كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه[10].
كلّ ذلك استجابة لقول الله: ((يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً)) ( المزمل : 1-2 ).
وكان مسروق يقوم الليل حتى انتفخت ساقاه، وكانت امرأته تقف من ورائه وتبكي وتقول: إنَّما أبكي رحمةً له.
فعلينا أيها الأحبة إذا علمنا شيئاً أن نسارع للعمل وامتثاله، هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، وهدي الصحابة.(12/77)
وقال بعض السلف: إذا أراد الله بعبده خيراً فتح له باب العمل، وأغلق عنه باب الجدل. فكلما رأيت الإنسان أكثر تطبيقاً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأكثر مبادرة إلى العلم والعمل، فاعلم أن ذلك من علامة الخير.
ثالثاً: الدعوة إلى ما تعلم
وهذا داخل فيما سبق، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس على ذلك، يقول جرير بن عبد الله كما في الصحيحين: ((بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم))[11].
والله عز وجل يقول: ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) (يوسف:108).
فسبيل النبي صلى الله عليه وسلم وطرقه وهديه وطريق من اتبعه، وهدي من اتبعه، هي الدعوة إلى الله عز وجل.
رابعاً: الصبر على العلم
فالعلم لابد له من مصابرة ومجاهدة، ولن يؤتيك بعضه حتى تؤتيه كلك، ومن يقرأ في حال السلف رحمهم الله، ومن يقرأ في تراجمهم وكُتب الطبقات، وسير العلماء، وأخبار الرجال؛ يجد العجب العجاب في مصابرة العلماء رحمهم الله للعلم، فلابد للإنسان أن يُصابر.
من أئمة العلماء رحمهم الله ابن عباس رضي الله عنهما , لَمّا توفي رسول الله أخذ يجمع سنة النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة رضي الله عنهم، فكان يأتي إلى البيت من أصحاب رسول الله ممن يعلم أن عنده شيئاً من سنة النبي صلى الله عليه وسلم فيضع رداؤه فيتوسده، فتأتي الريح وتسفي عليه التراب حتى يخرج ذلك الصحابي، ثم بعد ذلك يأخذ تلك السنة التي حفظها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكان أيضاً مالك يفعل نحواً من ذلك مع شيخه نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما, وأخبارهم كثيرة جداً.
خامساً: الحفظ .
على الطالب أن يمرّن نفسه على الحفظ، وإذا قرأت شيئاً في تراجم العلماء رحمهم الله تجد أنهم يذكرون في تراجمهم أنه حفظ القرآن وعمره عشر سنوات، فتجد في ترجمة ابن قدامة رحمه الله صاحب كتاب العمدة؛ تجد أنهم ذكروا أنه حفظ القرآن وعمره عشر سنوات، ثم بعد ذلك نشرع في حفظ بقية المتون كمختصر القرطي، وغيره من متون الحديث، والعقيدة، والأصول، وغير ذلك. فلابد للإنسان أن يحفظ، فالعلماء رحمهم الله جعلوا لكل فنّ شيئاً من المتون، فالحديث له شيءٌ من المتون، والفقه، والعقيدة، وأصول الفقه، وكذلك أيضاً مصطلح الحديث، وغير ذلك.
وأساس العلوم ومصدرها وأُمّها كتاب الله عز وجل، فلابد للطالب أن يربي نفسه على الحفظ، وأن يربيها على حفظ كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشيئاً من هذه المتون التي كتبها العلماء رحمهم الله، فإن هذه المتون تعتبر زبدة لهذه الفنون التي يدرسها الطلاب، فلكل فنٍّ من هذه المختصرات التي تعتبر خلاصة وزبدة لذلك الفن، فلابد للإنسان يجمع ذلك في قلبه، وأن يلمّ به لكي يترقَّى في العلم، فالرحبي رحمه الله يقول: فاحفظ؛ فكل حافظٍ إمام، وكما أسلفت إذا قرأت في سير الرجال وتراجم العلماء رحمهم الله تجد أنهم يذكرون عنهم كيف كانوا يحفظون سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، ويحفظن غير ذلك من فنون العلم.
سادساً: حفظ الوقت
لابد من طالب العلم أن يحفظ وقته، وأن يكون شحيحاً بوقته، فإن الوقت هو الحياة، وليس لك من عمرك إلا ما مضيته في طاعة الله، فلابد للطالب أن يتخلص من كثيرٍ من فضول الخلطة، ومن فضول النوم، ومن فضول اللهو، لا مانع أن الإنسان يتم قلبه بأشياء يستعين بها على طلب العلم، وعلى طاعة الله عز وجل، لكن أن يكون الإنسان مبعثراً غير منتظم كثير الخلطة، وكثير النوم، وكثير الذهاب والإياب، والتنزهات، هذا يضيع عليه الوقت، ولا يستدرك شيئاً، ولا يتمكن الإنسان من الأخذ من ميراث النبوة، والتزيّد بنور العلم، إلا إذا كان حافظاً لوقته، لو قرأت أيضاً في كتب الرجال وسير العلماء، وكيف كانوا حافظين لأوقاتهم لوجدت العجب العجاب.
ابن الجوزي رحمه الله كان من أشد الناس حفظاً لوقته، وكان عامة الناس يغشونه في بيته، فلا يستطيع أن يردّهم، يعني يأتونه لزيارته والجلوس معه وسؤاله فلا يستطيع أن يردّهم، فكان يعمد رحمه الله إذا جاءه العامة يعمد إلى أن يشغلهم ببري الأقلام، فإذا خرجوا استفاد من هذه الأقلام التي قاموا ببريها في الكتابة والتأليف .
وكان ابن عقيل رحمه الله يقول: لا يحل لي أن أُضيّع شيئاً من وقتي، فكان يمضي وقته إمَّا في القراءة والكتابة، أو في الذكر والاستغفار.
سابعاً: أن يكون الطالب منظّماً.
لا يكون مبعثراً، فإنه لا يستفيد، بمعنى أن تكون له أصول وقواعد يسير عليها في كلِّ فنٍّ من فنون العلم يكون له حتى يسير عليه، وهذا المتن كما أسلفت يقوم بحفظه، وتعلّم مسائله، ويعرف راجحه ومرجوحه، ودليل ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فهذه لابد لطالب العلم من حيث المنهج لابد للطالب أن يسير على هذه القواعد والأصول التي كتبها العلماء من قبل، فإنه إذا لم يكن سائراً على شيءٍ من ذلك فإنه يكون مُبعثر، ويكون غير منتظم، تجد أنه تارةً يقرأ في هذا الباب، وتارةً يقرأ في الباب الآخر، وتارةً يقرأ في هذا الكتاب، وتارةً يقرأ في هذه الفتوى لا يكون منظماً.
وإذا نظرت إلى هدي العلماء السابقين تجد أنهم يسيرون على هذه المتون، فعندنا عمل وعندنا منهج العمل, الإنسان يعمل بما دلّ عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأمَّا المنهج والتربية والتعليم, فإنه يكون على قواعد وأصول حتى يسير الإنسان إلى مبتغاه وإلى مراده.
ثامناً: أن يقيد الإنسان ويعتني بالكتابة(12/78)
وتقييد العلم وألا يعتمد على الحفظ، فإن الإنسان إذا كان مُعتمداً على الحفظ فحسب فإن الحفظ خصوصاً، وفي وقتنا هذا سرعان ما يخور، لكن لابد للإنسان أن يعمد على الكتابة، وأن يقيد يكون له حتى يقيد في حواشيه، أو يجعل فيه أوراقاً يُقيّد في هذه الأوراق ما يسمعه، وما يقرأه، وما يتعلمه، لكي يكون هذا المتن مرجعاً يرجع إليه، ويعتمد عليه في الاستذكار والتعليم .
تاسعاً: على الطالب أن يكون له خلة تعنى بالعلم
فإنَّ الإنسان إذا كان له خلّة في العلم وأصحاب يعينونه على ذلك، فإن هذا من أهم الوسائل في طلب العلم أن يكون للإنسان أصحاب وزملاء يُعنون بالعلم، والإنسان على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل، والطير على أشكالها تقع، فإذا كان الإنسان مُزامل لأهل العلم تشبّه بهم، وأعانوه، وأخذ منهم، وصار منهم، وإذا كان مُزاملاً لأصحاب التجارة صار متأثراً بهم، وعلى هذا فقس، فعلى الإنسان أن يكون معه أصحاب يعنون بالعلم يستذكر معهم ويتحفظ معهم شيئاً من المحفوظات، أو شيئاً مما قرأه .
فأسأل الله عز وجل أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا هداةً مهتدين، غير ضالين ولا مُضلّين، وأن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم، وأن يرينا الحق حقّاً ويرزقنا أتباعه، ولا يجعله ملتبساً علينا فنضل,,,
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين...
[1]صحيح رواه البخاري (6229)، ومسلم (2121).
[2]أخرجه البخاري (6/ 108) و أبو داود (1/226) و الترمذي (2 / 149) والدارمي (2/437) وابن نصر في " قيام الليل " (ص 71 ) و ابن ماجة (1/92 و93) و الطيالسي ( ص 13رقم 73 ) وأحمد (ج 1 رقم 412 و413 و 500) و الخطيب (4 / 109 و 11/35) كلهم من طريق أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان ابن عفان مرفوعا و قال الترمذي:" حديث حسن صحيح " .
[3] أخرجه أبو داود في كتاب العلم، باب: الحث على طلب العلم، و(الترميذي) في كتاب العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة.
[4] أخرجه البُخَارِي 8/134(6514) و"مسلم" 8/211(7534) . والتِّرْمِذِيّ" 2379. و"النَّسائي" 4/53.
[5] أخرجه التِّرْمِذِي (2647) وقال : حديث حسن .
[6]أخرجه مسلم 8/223(7584) و (أحمد) : 2/301(7986) وفي : (6987) وفي : 2/435(9617) .و(ابن ماجة) :4202 و(ابن خزيمة) 938 و (ابن حِبان) 395.
[7] أخرجه أحمد 6/326 و"ابن ماجة" 1141 و"التِّرمِذي" 415. و"النَّسائي" 3/262 , وفي "الكبرى" 1483 وفي 3/263 , و"ابن خزيمة" 1189.
[8]أخرجه البخاري في الصلاة (479) وفي تعبير الرؤيا (36) وفي مناقب ابن عمر (المناقب 48: 1). وفي التعبير أيضاً (35). وفي الفضائل (77: 2) و(77: 3). وأخرجه ابن ماجة في الرؤيا (10: 3).
[9]أخرجه أحمد 5/231(22366). و"ابن ماجة"3973. و"التِّرمِذي"2616. و"النَّسائي" في "الكبرى"11330.
[10]أخرجه "البُخَارِي" 6/169. و"مسلم" 8/141 . و أحمد 6/115.
[11]أخرجه البُخَارِي 1/22(57) و3/247(2715) وفي 1/139(524) . وفي 2/131(1401).وفي 3/94(2157). و"مسلم" 1/54(109) . و"أحمد" 4/360(19405). وفي 4/365 (19458 و19461) قال : حدَّثنا يَحيى ، هو ابن سَعِيد . و"الدارِمِي" 2540. والتِّرْمِذِيّ" 1925. و"النَّسائي" ، في "الكبرى" 317 و7733. و"ابن خزيمة" 2259.
==============
الغفلة والفراغ
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق أجمعين وبعد .
غفلة المؤمن عن الأعمال الصالحة المقربة إلى خالقه مذمومة شرعا وعقلاً وقد وردة آيات كثيرة في ذم الغافلين، والتحذير من أحوالهم قال تعالى : ((وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)) (الأعراف :179) .
ويقول تعالى : ((وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ *أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)) (يونس : 7-8) .
وأكثر الناس في غفلة عن آيات الله كما قال تعالى: ((وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ)) (يونس : 92) .
ولكنهم في درجات متفاوتة.
الدرجة الأولى :
هناك غفلة عن المسابقة إلي الخيرات في الأمور العظيمة كطلب العلم، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله .
والغفلة عن هذه الأمور مهلكة لصاحبها؛ خاصة إذا كان لا يعذر بتركها ومن هو أهل للقيام بفروض الكفاية. ويدخل في ذلك العلماء، وطلبة العلم، وأساتذة المدارس الشرعيين، والجامعات، وكل من هو أهل للقيام بهذا الواجب.
وهذا النوع من الناس يجب عليه من الشرع ما لا يجب على غيره ، وهو داخل في قوله تعالى: ((وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ)) (آل عمران : 187) .
وتلك الواجبات السابقة ميثاق غليظ، وعهد ثقيل بين العبد وربه؛ أوجب عليه أن يبين للناس ما يحتاجون إليه مما علمه الله ولا يكتمه بالغفلة والكسل. ولا يقتصر الواجب على إجابة من سأله بل لابد من الدعوة والتبليغ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر، ومحاربة دعاة الفساد والرذيلة، والرد على المنافقين، والمشككين بالأصول وثوابت الشرع المطهر .(12/79)
وغفلة عن هذه الأمور العظيمة قد تودي به إلى مز الق خطيرة من حب الدنيا وشهواتها والإغراق في المباحات، ثم التهاون بالصغائر، ثم غشيان الكبائر،عياذا بالله تعالى ..
فلا محيص عن أخذ النفس بالقوة وأطرها على ما أوجب الله تعالى عليها من التاكليف والأخذ بالعزيمة المنجية من عذاب الله
الدرجة الثانية: وهناك غفلة تقع على عامة الناس كالتهاون في صلاة الجماعة، وتأخير الزكاة، وإهمال كفارات الأيمان ، والنذور، وإهمال تربية الأولاد وتعليمهم، وبر الوالدين وطلب العلم الضروري الذي لا يعذر أحد بتركه كواجبات الطهارة ونوا قض الوضوء ومبطلات الصلاة ..
فمن كان هذا حاله فإنه حتما سيقع بشباك المعصية وظلمات الهموم، والمغموم، المنغصة لحياته وسيفقد الاحترام والتقدير من الخلق، عقوبة له، خاصة إذا عرفوا منه أنه أهلا للقيام بهذه الواجبات .
فمن كان هذا حاله فلابد أن يقف مع نفسه وقفة صادقه ، ويصبر ويصابر على طاعة مولاه سبحنه وتعالى قال تعالى:((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)) (العنكبوت : 69) .
وقال تعالى : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) (آل عمران:200) .
الدرجة الثالث: وهناك غفلة تغشى الفسقه، والمنحرفين وهذا النوع من الناس لا هم له إلا إشباع نفسه من اللذائذ المحرمة وغير المحرمة.قلبه مع الشيطان يذهب به في كل واد ومنحدر فمرة بالسفر إلى الدول الفاجرة التي لا تفرق بين الحلال والحرم ثم يعرج به إلى أماكن البغاء والرذيلة أو ينتقل به شيطانه إلى واد آخر، كالسخرة بالدين وأهله والثناء على الغرب الكافر وتقليدهم في لباسهم وأخلاقهم والدعوة إلى ذلك.
ثم التشكيك بالثوابت الشرعية المرعية وأصولها . ثم يعرج به شيطانه إلى الشك في أصل الاعتقاد والإيمان بالله والدار الآخر والإيمان بالرسل والكتب المنزلة عياذا بالله تعالى وهذا النوع من الناس يعجز في الغالب أن يقف مع نفسه ويحاسبها وهو على تلك الحال المظلمة. فلابد من أن يوفّق إلى أسباب مقربه كأن يصاب بوفاة قريب أو مصيبة مفاجئه وكما يقال ربما صحّت الأجسام بالعلل ومما سبق ذكره يعلم أن الغفلة درجات وظلمات بعضها أهون من بعض فيتحتم على المؤمن اليقظة والحذر من الغفلة كم سمعنا ورأينا ممن من الله عليهم بالهداية والاستقامة وحفظ كتاب الله والإقدام على مجالس العلم والدعوة ثم تنقلب أحوالهم بسبب الغفلة والإهمال والتقصير في الأعمال الصالحة نسأل الله الثبات على دينه .
العلاقة بين الغفلة والفراغ
اعلم أن الفراغ سبب رئيس للغفلة، فمن أغلق باب الفراغ فقد أغلق باب الغفلة ثم تُغلق أبواب عظيمة من الشرور والفتن والمصائب والفراغ نعمة ونقمة على العبد؛ وكل عاقل مدرك لابد أن يختار فراغ النعمة المقرب إلى الله والدار الآخرة والباعث على العمل والجد في دروب الخير ولهذا فرق لله - وهو العليم الحكيم بعبادة - بين الذي يعمل والذي لا يعمل في آيات كثيره منها قال تعالى : ((أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ)) (الجاثية: 21) .
وقال تعالى:((أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ)) (القلم : 35) .
فمن وجد في نفسه غفلة فليعلم علما جازما أنه قد فرط في وأوقات كثيره ثم تأتي بعد ذلك المحاسبة واللوم والحسرة على ذلك والحسرة في الدنيا لا تقارن بحسرة الآخر كما قال تعالى: ((وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)) (مريم : 39) .
قال بن سعدي: أحق ما ينذر به ويخوف به العباد يوم الحسرة حين يقضى الأمر فيجمع الأولون والآخرون في موقف واحد ويألون عن أعمالهم فمن آمن بالله ورسله سعد سعادة لا يشق بعدها أبدا ومن لم يؤمن بالله ويتبع رسله شقي شقاوة لا يسعد بعده وخسر نفسه وأهله وحينئذ يتحسر ويندم ندامة تنقطع منها القلوب وتتصدع منها الأفئدة وأي حسرة أعظم من فوات رضى الله وجنته واستحقاق سخطه والنار على وجه لا يمكن الرجوع ليستأنف العمل ولا سبيل إلى تغير حاله بالعودة إلى الدنيا لابد أن يتذكر كل مؤمن أنه عبد مكلف حتى الوفاة ولا ينقطع التكليف في أي وقت من الأوقات لا في الإجازة الصيفية ولا في غيرها قال تعالى: ((وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)) (الحجر :99) .
وأخيرا: بادر أخي الكريم باستغلال هذه الأيام التي تكثر فيها الغفلة ويطول فيها الفراغ بادر بالأعمال الصالح المنجّه من عذاب الله يوم القيامة .
أسأل الله عز وجل أن جعل خير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم نلقاه وصلى الله وسلم على نبنا محمد
============
مصعب بن عمير الصحابي الداعية
الحمد لله الذي نور بصائر المؤمنين فوفقهم للأعمال الصالحات، ودعاهم إلى دار السلام في روضات الجنات، فأجابوا مسرعين، ولبوا طائعين، ليقينهم أن ما عند الله خير وأبقى .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مقر بربوبيته، شاهد بوحدانيته، منقاد إليه لمحبته، معترف بنعمته، مؤمل لعفوه ورحمته، طامع في مغفرته، فهو أهل التقى وأهل المغفرة سبحانه وبحمده لا إله غيره ولا رب سواه .(12/80)
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله للإيمان مناديا، وإلى الجنة داعيا،إلى صراطه المستقيم هاديا،فأنقذ الله به أقواما من الشرك والجاهلية إلى نور التوحيد والملة الحنيفية ، وتربى على يديه أئمة أبرار دعوا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ،فأحيا الله بهم القلوب وأنار بهم السبل ، اللهم صل وسلم على نبينا محمد وآله وارض اللهم عن أصحابه المهتدين واجمعنا بهم في جنات النعيم .
أما بعد:
فقد سعد – والله – من لزم تقوى الله و أفلح من تمسك بدينه، ولم يغترر بمناهج الحياة ، وفاز من عمل وأيقن أنما الحياة الدنيا متاع وأن الآخرة هي دار القرار .
أيها الأخوة : كل أمة لها ميزان تزن به أفرادها: وميزان أمة الإسلام الذي يوزن به الرجال، هو مقدار ما يحملونه من الدين والإيمان، والعفة والقرآن، والتقوى واليقين، والدعوة والجهاد، فمن كان اتقى، كان بالمجد والهدى أجدر وأولى ، والإنسان- الذي نور الله بصيرته- إذا أبصر الحق والهدى تعلق به ، وجاهد من أجله ، بل هجرله الأهل والأوطان ، وسائر متع الحياة الزائفة وهذا ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم ، ولا سيما ذلكم الشاب التقي مصعب بن عمير رضي الله عنه : الذي نور الله قلبه ، فأسلم طائعا وهاجر معلما وداعيا ، ومات شهيدا مجاهدا، إنه الشاب الذي حمل أعباء الدعوة إلى الله عقيدة وسلوكا وعذابا وجهادا ، فحينما لامس الإيمان شغاف قلبه انسلخ من الجاهلية ، وصار حنيفا مسلما موحدا ، نعم إنه مصعب بن عمير: الذي كان في ذروة قريش حسبا ونسبا
نشأ من أبوين كانا يحبانه حبا شديدا ، ويغدقان عليه صنوف النعم ، حتى أنه كان يعرف في مكة بأنه أعطر أهل مكة ، يلبس أحسن النعال وأفضل الثياب ، ويأكل أطيب الطعام ، واشتهر في مكة بأنه الشاب الذي يمتلئ حيوية وجمالا ، يؤكد ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه بعد إسلامه وعليه ثوب غليظ ، فقال:((انظروا إلى هذا الذي نور الله قلبه، لقد رأيته عليه حلة شراها بمائتي درهم فدعاه حب الله ورسوله إلى ما ترون)) .
ومما يروى عنه أيضا قوله:((ما رأيت بمكة أحدا أحسن لمة وأرق حلة ولا أنعم من مصعب بن عمير)).
فلما أراد الله به خيرا، استجاب لدعوة الحق في وقت كان المسلمون يعانون من أذى الشركين وتسلطهم، فدخل مصعب بن عمير إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم، وأسلم بين يدي رسول الله صلى الله عليه، وخرج فكتم إسلامه خوفا من أمه وقومه، فكان يتردد إلى رسول الله سرا.
لقد أسلم مصعب رضي الله عنه مع علمه أن طريق الدعوة في هذا الظرف؛ وفي كل ظرف طريق شاق محفوف بالمكاره، مملوء بالصعاب، ولكن بالصبر والإيمان واليقين ينال ما عند الله من الثواب والنصر المبين، وهذا ما حصل لمصعب فقد قاسى الفقر والجوع بعد حالة الغنى والشبع، وتعرض لمحنة الأهل والأقارب والعشيرة، الذين أرادوا صده عن دينه لولا تثبيت الله له .
قال أهل السير: لما أسلم مصعب أصابه من الشدة ما غير لونه، وأذهب لحمه، وأنهك جسمه، ثم صب عليه العذاب، وقيد في الأصفاد بعد أن كان حرا سيدا، فأخذه أهله وقومه وحبسوه، فلم يزل محبوسا إلى أن هاجر إلى الحبشة، واستمع إلى سعد بن أبي وقاص وهو يصف شدة الأمر على مصعب الذي لم يعتد إلا الرعاية وحسن المطعم والملبس من أبويه يقول سعد عن المحنة التي أصابت المسلمين في مكة في حصار الشعب : (فأما مصعب بن عمير فإنه كان أشرف غلام بمكة بين أبويه فلما أصابه ما أصابنا لم يقو على ذلك فلقد رأيته وإن جلده ليتطاير تطاير جلد الحية، ولقد رأيته ينقطع به فما يستطيع أن يمشي فنعرض له القسي ثم نحمله على عواتقنا).
الله أكبر! هكذا يفضل مصعب حياة الفقر والشدة مع الإيمان، على الرفاهية ورغد العيش مع الكفر، وهو بهذا قدوة لكل شاب مؤمن يتعالى على متع الحياة وشهواتها التي تقطعه عن الله والدار الآخرة.
أيها المسلمون: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلقاه المسلمون من الأذى، أذن لهم بالهجرة إلى الحبشة، فهاجروا ومعهم مصعب بن عمير، ثم سمعوا بعد أشهر بأن المشركين قد قطعوا الأذى وهادنوا المسلمين في مكة، فقدموا من أرض الحبشة، فلما اقتربوا من مكة تبين لهم أن الخبر غير صحيح ، فعادوا مهاجرين مرة أخرى يفرون بدينهم من الفتن، وبعد مدة من الزمن قدم مصعب إلى مكة، ثم أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم معلما وداعيا إلى الله في المدينة المنورة، وأسلم على يديه أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ؛ وكفى بذلك فخرا وأثرا في الإسلام .
فقد كان مصعب بن عمير من فضلاء الصحابة وخيارهم، كان في سيرته وخلقه، وصدق إيمانه وحسن سلوكه، مثالا للداعية الصادق، عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: (كان مصعب بن عمير رضي الله عنه لي خدنا وصاحبا منذ يوم أسلم إلى أن قتل رحمه الله بأحد، خرج معنا إلى الهجرتين جميعا بأرض الحبشة، وكان رفيقي من بين القوم، فلم أر رجلا قط أحسن خلقا، ولا أقل خلافا منه).(12/81)
نعم وبعد الهجرتين إلى الحبشة، يخرج مصعب بن عمير مهاجرا إلى المدينة فينزل على أسعد بن زرارة ، فكان أسعد يخرج بمصعب بن عمير إلى دور بني عبد الأشهل ودار بني ظفر ، وكان سعد بن معاذ سيدهم، وهو ابن خالة أسعد بن زرارة، فجلس مصعب بن عمير وأسعد بن زرارة في حائط، واجتمع إليهما رجال ممن أسلموا، وسعد بن معاذ و أسيد بن حضير يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك على دين قومه، فلما سمعا به، قال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: لا أب لك، انطلق إلى هذين الرجلين الذين قد أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما، وانههما عن أن يأتيا دارينا، فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك ، هو ابن خالتي ولا أجد عليه مقدما، قال: فأخذ أسيد بن حضير حربته، ثم أقبل إليهما، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب بن عمير: هذا سيد قومه قد جاء فاصدق الله فيه، قال : إن يجلس أكلمه، قال : فوقف عليهما مشتما، قال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا ؟ اعتزلانا إن كانت لكم بأنفسكم حاجة، فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع ؟ فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كف عنك ما تكره، قال أنصفت:؟!ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن[1]، فقالا فيما يذكر عنهما :(و الله لعرفنا في وجهه الإسلام، قبل أن يتكلم به في إشراقه وتسهله)، ثم قال :(ما أحسن هذا الكلام وأجمله!!! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين ؟ قالا له : تغتسل فتتطهر وتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي)، فقام فاغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق، ثم قام فركع، ثم قال لهم : إن ورائي رجلا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن:سعد بن معاذ، ثم أخذ حربته، ثم انصرف إلى سعد وقومه، وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلا، قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النادي، قال له سعد: ما فعلت ؟ قال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأسا، وقد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت، وقد حدثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه، وذلك أنهم قد عرفوا أنه ابن خالتك ليخفروك، قال: فقام سعد مغضبا، مبادرا تخوفا للذي ذكر من بني حارثة، فأخذ الحربة من يده,ثم قال : والله ما أراك أغنيت شيئا، ثم خرج إليهما، فلما رآهما سعد مطمئنين،عرف سعد أن أسيد إنما أراد منه أن يسمع منهما، فوقف منهما مشتما، ثم قال لأسعد بن زرارة : يا أبا أمامة، أما والله لولا ما بيني وبينك من القرابة، ما رمت هذا منا أتغشانا في دارينا بما نكره ؟.
وقد قال أسعد بن زرارة لمصعب بن عمير: أي مصعب، جاءك والله سيد من وراءه من قومه، إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان، قال: فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع؟ فإن رضيت أمرا ورغبت فيه قبلته،وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، قال سعد: أنصفت، ثم ركز الحربة وجلس فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن، قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم لإشراقه وتسهله، ثم قال لهما : كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين...؟ قالا : تغتسل فتتطهر وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين، قال: فقام فاغتسل وطهر ثوبيه، وتشهد شهادة الحق، ثم ركع ركعتين، ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير، فلما رآه قومه مقبلا قالوا: نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف عليهم قال : يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم ؟ قالوا سيدنا وأفضلنا رأيا، وأيمننا نقيبة .
عندها قال سعد : فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قالوا : فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل و امرأة إلا مسلما أو مسلمة .
فرحم الله هؤلاء الرجال، ما أعظم إيمانهم وولاءهم وبراءهم، إن إيمانهم كان حدا فاصلا بين الإيمان والكفر، إن الواحد منهم يسخر مكانته الاجتماعية في الإسلام والدعوة إلى الله لا لنفسه وشخصه ،والله المستعان : ((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )) ( فصلت : 33) .
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، وخليله وأمينه، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان .
أما بعد:
فاتقوا الله رحمكم الله، واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
أيها المسلمون: لقد سمعنا كيف كان مصعب رضي الله عنه ،عظيم البركة والخير على الدعوة إلى الله، وتبليغ رسالة الإسلام، صبورا على ما يلقى من الأذى، عقولاً متأنيا [2]، مؤمنا مجاهدا، وهاهو يخوض معركة بدر، ويحمل لواء المسلمين كما حمل الدعوة والقرآن إلى المدينة، فيكتب الله النصر المبين لعباده المؤمنين، وهنا تبرز مواقف العقدة والولاء من مصعب بن عمير، ومنها أن أخا لمصعب وقع في الأسر، فمر به مصعب، ورجل من الأنصار يشد وثاقه ، فقال مصعب : شد يديك به فإن أمه ذات مال لعلها تفديه منك، فقال أخوه : يا أخي هذه وصاتك بي؟ فقال مصعب:إن الأنصاري أخي دونك .
فيا لله أخوة الإيمان: ووشائج العقيدة أقوى من رباط أخوة النسب عند مصعب رضي الله عنه.(12/82)
عباد الله : وفي غزوة أحد، يخرج المسلمون مع الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويحمل مصعب اللواء أيضا ويدافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دفاع الأبطال، ويتجه المشركون نحو اللواء، فأقبل رجل منهم فضرب مصعب مع يده اليمنى فقطعها؛ ومصعب يقرأ: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)) (آل عمران : 144) .
ثم يأخذ اللواء بيده اليسرى، فقطعت فحنا على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره، فقتل رضي الله عنه وسقط على الأرض، فرضي الله عن مصعب الخير يوم أن أجاب داعي الله فآمن بالله ، ورفض كل تهديد وإغراء، ومتع عاجله، وجاهد في سبيل الله حتى استشهد ولم يأكل من زهرة الدنيا شيئا وما عند الله خير للأبرار.
عن خباب بن الإرت رضي الله عنه قال:هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله فمنا من قضى ولم يأكل من أ جره شيئا، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد فلم يوجد له ما يكفن فيه إلا نمرة، إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه خرج رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((اجعلوا ما يلي رأسه واجعلوا على رجليه شيئا من الإذخر)) ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهد بها، وعن ابراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أتي بطعام وكان صائما فقال : (قتل مصعب بن عمير رضي الله عنه وهو خير مني فلم يوجد له ما يكفن فيه، إلا بردة إن غطي بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطي بها رجلاه بدا رأسه ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط – أو قال : أعطينا من الدنيا ما أعطينا – قد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام ) [3].
فرحم الله أولئك الأقوام، الذين سبقت لهم الحسنات الماحية والجهاد والإيمان، ومع هذا صبروا في ذات الله وخافوا على أنفسهم من زهرة الدنيا، فماذا عسى أن نقول أحوالنا وقد عصفت بنا أمواج الحياة، وغرق الكثير في بحر الدنيا المتلاطم بالشبهات والشهوات .
أفما رأينا من أكل الربا وتعامل به ، أما وجد من أكل أموال الناس بالباطل بأنواع المكاسب المحرمة ؟ أما خف ميزان الصلاة التي هي عماد الدين عند الكثير .
أما صار عدد من أهل الإسلام يتلقفون ثقافة الغرب الكافر والملحدين والمشبوهين ، ويستقبلون عن طريق الشاشة ألوان الفتن والفواحش والنكرات .
لقد ساهمت الفضائيات والإعلام الفاسد، مساهمة كبيرة في صرف المسلمين إلى مباهج الحياة الفانية، والإعراض عن الدين الحق والصراط المستقيم، فعاد الإسلام غريبا كما بدأ، وتسلطت أمم الكفر والوثنية ، وأهل الإجرام والظلم على الحق وأهله والدين وأنصاره، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فيا عباد الله : ألسنا نريد الجنة كما أرادها مصعب بن عمير وإخوانه الأكرمين رضوان الله عليهم أجمعين، إذا فلماذا لا نسارع في مرضاة ربنا وحفظ حدوده، لماذا لا نكون لله كما يريد، ليكون لنا كما نريد؛ فإن الجزاء من جنس العمل، ومن قدم شيئا قدم عليه، وكما تدين تدان ((أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)) (الجاثية : 21) .
فإلى التوبة النصوح يا عباد الله ((كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)) (العنكبوت:75) .
طال الزمن أو قصر والموت يأتي بغتة، ومن لم يمت فجأة مرض فجأة .
فتقوا الله – رحمكم الله – واعلموا بإخلاص، وكما أيقنت بأن الله غفور رحيم، فأيقنوا بأنه شديد العقاب، وأنه يغار وغيرته أن يأتي المؤمن ما حرم عليه , اللهم وفقنا للتوبة الصادقة، وارزقنا الخشية والإخلاص والمراقبة ، اللهم أعذنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن ، اللهم أعز الإسلام والمتمسكين به، اللهم دمر من أراد بالمسلمين سوءا أو فتنة، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلهم على الخير أعوانا،ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.
[1] وورد في كتاب) وفاء الوفاء): (1/225) إنه قرأ عليه من سورة الزخرف ((حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِين* ِإِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)) (الزخرف:1-3) .
[2] محمد رسول الله – العرجون 2/386.
[3] رواه البخاري .
================
صنائع المعروف(12/83)
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ، ونستغفرهُ، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا، ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لهُ، ومنْ يُضلل فلا هاديَ له. وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله. (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) (آل عمران:102).((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) (النساء:1). ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)) (الأحزاب:70-71).
أما بعدُ : فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرُ الهدي هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشرُّ الأمورِ مُحدثاتُها، وكل محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أيَّها المسلمون : إنَّ ممَّا يميزُ هذا الدينَ العظيم عن غيرهِ من الأديانِ المحرفة، والشرائعِ المُبدلة، عنايتَه بإقامةِ جسورٍ من الترابطِ الوثيق بين أفرادِ المجتمع، وتحقيقِ مفهومِ الجسدِ الواحد الذي إنْ اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسد بالحُمى والسهر، من هنا ، من هنا أيها الأحبةُ في الله، نجدُ القرآنَ الكريم يَعرضُ نماذجَ واقعية ، ومشاهدَ حية، تُجسدُ ذلك المعنى الكبير، وتُشوقُ النفوسَ الخيَّرة إلى صنائعِ المعروف، وبذلِ الإحسانِ للآخرين، دونَ مَنٍ أو أذى. ولقد كان أسرعُ الناسِ إلى صنائعِ المعروف وبذلِ الإحسانِ للآخرين، هم أولئكَ الرجالَ العظام، من رسلِ اللهِ وأوليائهِ، أولئك الرجال الذين امتلأتْ أحاسيسُهم ومشاعرُهم بحاجات الناس، ورقتْ قلوبُهم وأفئدتهم لمعاناةِ المبتَلينَ من عبادِ الله، فتحولَ ذلك الحسُ المرهف، والشعورُ النبيل إلى ممارسةٍ عملية، وواقعٍ محسوس، يُقدمُ من خلاله العونُ برحابةِ صدرٍ، ويُسدى من خلاله المعروفُ لله ولله فقط. فإليك أيها الأخُ المسدد هذا المشهدَ الحي، وهذا الأنموذجَ الخالد لرسولٍ من أولي العزم، الذي أُمرتَ أن تقتفيَ أثرهم، وتستنَ بسنتهم حتى يقضي اللهُ أمراً كان مفعولا .
هذا نبيُ اللهِ موسى عليه السلام ، يخرجُ من أرضِ مصر خائفاً يترقب متوجهاً إلى بلادِ مدين، تلك التي لا يعرفُ فيها أحداً، يهدئُ روعته، ويؤنسُ وحشتَه !
فَيَصِلُ أرضَ مدين بعد رحلةٍ شاقة، وعناءٍ مستمر، يصلُها وقد بلغَ منه الإعياءُ مبلَغه، وأخذَ منه الجهدُ مأخذَه، يصلُها بقلبٍ مرتجف، ونفسٍ خائفةٍ وغُربةٍ مُستحكمةٍ، فيجدُ جموعاً من الناس تزدحمُ حولَ بئرٍ من الماءِ يسقون. ويلفتُ انتباهَه من بعيد مشهدُ امرأتين تذودان غنيمتهما، في معزلٍ عن الناس حياءً وحشمةً ووقاراً، يلفتُ انتباهَه هذا المشهد، فتتحركُ نخوةُ هذا الشهمِ البطل، رُغمَ تَعبِه ورُغمَ إعياءِه، رُغمَ خَوفِه، رُغمَ جُوعِه، رُغمَ ظَمأهِ، ويقتربُ من المرأتين على استحياء، ما خطبكُما ؟! سؤالٌ مختصر، لا حاجَة معه إلى مقدماتٍ شيطانيه، تُحركُ كوامنَ الشرِّ في النفوس، وتؤججُ فتيلَ الفتنةِ في القلوب، ما خطبكما ؟ فيأتيه الجوابُ على قدرِ السؤال، دونَ تميعٍ أو تغنجٍ، أو انكسار، قالتا لا نسقي حتى يُصدر الرعاء وأبُونا شيخٌ كبير، ما كانَ لنا أن نزاحمَ الرجالَ من أجلِ الماء، فيأبى علينا حياؤُنا ذلك، وتأباه حشمتُنا ووقارُنا، وعفافُنا، فنحن ننتظرُ انصرافَهم، وأبونا شيخٌ كبير، شيخ ٌكبير عاجزٌ عن أداءِ المهمة، وهنا يتناسى موسى عليه السلام نفسَه المجهدة، وطاقتَه المستنفذَة، يتناسى جوعَه وتعبَه وإعياءَه، يتناسى غربتَه وهمَّه وحزنَه، يتناسى ذلك كلَّه، وتدفعُه نخوتُه وشهامتُه ومروءته، وطيبُ معدنه، إلى مدِّ يدِ العونِ لهما، مع أنَّه للعونِ أحوج، وإلى تقديمِ الإحسان إليهما، وهو للإحسان أفقر!
فسقى لهما ثم تولَّى إلى الظل، لم ينتظرْ كلمةَ شكر، أو عبارةَ ثناء، فسؤالُه للمرأتين كان لله، واستماعُه للجواب كان لله، وسقيُه لهما كان لله . (( فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ )) (القصص:24).
إنه ينزلُ حاجتَه بربه، ويطلبُ المددَ من خالقه، الذي لا تنفدُ خزائنُه، ولا ينقصُ ملكُه: ((رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)) (القصص: 24 ).
فأنا فقير إلى عطائك، محتاج إلى نعمائك، لا أنتظر من غيرك أجراً، ولا من سواك فضلاً.
أيها الأحبة في لله ؟ إننا قد نجد من يسدي معروفاً، أو يقدم إحساناً حين يطلب منه، ويكون متهيئاً مستعداً له، لكن أن تجد من يُسدي المعروف، ويقدم الإحسان من غير أن يُطلب منه، وعلى حين ضعف وإعياء وجهد، فهذا قد لا يتكرر إلا في شخص كموسى وأمثاله، ممَّن يعرفون كيف تُحصد الأجور، ويُصنع الثواب .(12/84)
أيها الأحبةُ الأفاضل، وأما الأنموذج الثاني: فهو يتجسد من خلال شخص محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو آية في الإحسان وبذل المعروف، حتى قبل أن يتلقى وحي السماء، وتفيض على قلبه أنوار النبوة، أنظر إليه وهو يتحنث في غار حراء بعيداً عن سخافات الجاهلية وعبثها، وفجورها وانحرافها، فلا يشعر إلاّ وجبريل عليه السلام يفاجئه بما لم يخطر له على بال، وينبئه بآي من الذكر الحكيم، لم يسمع من قبل لها مثيلا، فيرتجف قلبه، وترتجف بوادره، ويعود مفزوعاُ، مكروباُ، فيدخل على زوجه الحنون، زملوني زملوني، فتُهدئ من روعه، وتهون من فزعه، وتقسم بالله غير حانثة، والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتُقري الضيف ، وتُعين على نوائب الحق، تذكره بتلك الخصال النادرة، التي لازمته عليه الصلاة السلام ، والتي كُلّها إحسانٌ للآخرين، وإحساسٌ بهم، وتفريجٌ لكربهم، وتلك لعمرك خصال لا يتصف بها إلا الكُمَّل منهم، إنّك لتصل الرحم، فمن يصلها اليوم؟! وتصدق الحديث، فمن يصدقه اليوم؟! وتحمل الكل، فمن يحمله اليوم؟! وتكسب المعدوم، فمن يكسبه اليوم؟! وتقري الضيف، فمن يقريه اليوم؟! تأتيه ابنته فاطمة مجهدة متعبة، فقد أوهن أثر الرحى قواها، وأنهكَ حمل قربَ الماء كتفيها، تأتيه ليهبها خادماُ من السبي، مجرد خادم تخفف عنها كد الرحى، وحمل القرب، فيمتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهب ابنته خادماُ، يمتنع أن يهب سيدة نساء العالمين وابنة خير المرسلين خادماُ يخدمها لماذا؟ لأنه يريد أن يشترى بثمن السبي طعاماً لأهل الصُفَّة الفقراء، إنّه يشعر ويحس بمعاناة ابنته، ولكن في الوقت نفسه كان يحس بمعاناة أهل الصُفَّة، كان يشعر بجوعتهم بفاقتهم بحرمانهم بآلامهم، فحين تعددت الاحتياجات، كان لابد من البدء بأهل الصفة أولاً، ولتبقى فاطمة بنت محمد، منهكة القوى مجهدة الأعصاب، فليست أولى بالسبي منهم، ويأتيه فقراء مُضر حُفاةً عُراةً، مُجتا بي النِمَار، متقلدي السيوف، فيتألم رسول الله صلى الله عليه وسلم لهيئتهم، ويحزن لمشهد هم، ويعتصر قلبه لحالهم، ويتمعر وجهه لما رأى بهم من الفاقة، فيدخل ثم يخرج ، ثم يأمر بلا لاً فيؤذن ثم أقام فصلى ثم خطب، فتلا قوله تعالى : ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ))(النساء:1) .
: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )) (الحشر:18 ).
تصدقَ رجل من ديناره، تصدق رجل من درهمه، تصدق رجل من ثوبه، تصدق رجل من صاع بره، تصدق رجل من صاع تمره، حتى قال ولو بشق تمره، فيستجيب أصحابه لدعوته، فيجتمع أمامه كوم من طعام، وكوم من ثياب، فإذا بوجهه كأنه مُذْهَبَهٌ، ترى ما الذي أهمه حين اهتم، وما الذي أغمه حين اغتم ؟! إنّه الإحساس بحاجات الآخرين، ثم ما الذي أفرحه حين فَرِح؟ وما الذي أسعده حين سَعِد؟ إنّه الإحساس بارتياح الآخرين، ويمضي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه قرير العين، هانئ البال، مُخلفاً رجالاً ولا كل الرجال، فيتولى الصديق مقاليد الأمور، وتندلع فتنة المرتدين ويمتنع الأعراب عن دفع الزكاة ، للخليفة المفجوع بفقدِ حبيبه وقرة عينه، ويضطرب الأصحاب من هول الكارثة، وفداحة المصيبة، فيضغط الصديق على أعصابه، ويحاصر مشاعره، وهو يواجه أعظم فتنة، ويكابد أشد المواقف وأحرجها، همومٌ كالجبال وفتنٌُ كالليل، وظروفٌ ما أقساها، ويجيش رضي الله عنهم الجيوش لقتال المرتدين، وينفذ جيش أسامة إلى الشام، ويعزي آل بيت الرسول بفقيد البشرية، وخسارة الدنيا، ورغم كل هذه الظروف المفزعة، والأحوال المؤسفة، ينسل الصديق من بين هذا الركام الضخم من الهموم والمشاغل، ينسل قاصداً بيت امرأةٍ عجوز في أطراف المدينة، يحلب لها شاتها ويكنس لها بيتها، ويصنع لها طعامها رحماك يا إلهي، رحماك يا الله. أي رجال هؤلاء؟! خليفةُ المسلمين وقائدُ الأمةِ، لا تلهيه مشاغلُ الخلافة وتبعاتُها، ولامسؤلياتُ الأمة ومشكلاتها، عن تفقد امرأة عجوز وتلمس حاجاتها، إنّه الإحساس بالآخرين، بالمحتاجين، احتساباً لما عند الله من الأجر والثناء الحسن!
أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جرير المجامع(12/85)
أيها المسلمون : لقد كان إحساس أسلافنا بالآخرين، إحساساً مرهفاً، يصدر من شغافِ القلب، ويلامسُ شفافية الروح، كانوا شديدي الحبِ للفقراءِ والمساكين، كثيري التفقد للضعفاء والمحاويج، حتى إنّ زبيد الحارث الكوفي، كما ذكر الذهبي في السير- كان يخرج في الليلة المطيرة، يطوف على عجائز الحي، يقول ألكم في السوق حاجة؟ ألكم في السوق حاجة؟! فما الذي أخرجه ؟ ولماذا في الليلة المطيرة بالذات؟ فكر أخي أنت بالإجابة، وأما حكيم بن حزام فيقول عن نفسه: ما أصبحتُ وليس ببابي صاحب حاجة إلا علمت أنها مصيبة، احتسب أجرها على الله، وإن تعجب من هذين الشهمين الكريمين ! فعجب حالُ علي بن الحسين في الليل يخرج يحمل الطعام على ظهره، يتبع به المساكين في الظلمة، ويقول: إنّ الصدقة في سواد الليل تطفئ غضب الرب، بل إنّ محمد بن إسحاق ليذكر عن علي هذا، أنّ أناساً كانوا يعيشون بالمدينة لا يدرون من أين يأتيهم معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك المعاش، ألا ليس المحروم من فقد المال والطعام والشراب، فهذا أجره على الله، ولكن المحروم من قدر على الإحسان بماله ونفسه وجاهه ، فاستبدت به أنانيتُه، وأحاطت به خطيئتهُ، واستولى عليه جشعُه، فلم يعبأ بمحتاج ولا مسكين، ولا أرملة ولا يتيم، ألا ذلك هو الخسران المبين .
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وأيَّا كم بالذكرِ الحكيم، واستغفر الله لي ولكم إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله يُعطي ويمنع، ويخفضُ ويرفع، ويضرُ وينفع، ألا إلى اللهِ تصيرُ الأمور. وأُصلي وأسلمُ على الرحمةِ المهداة، والنعمةِ المُسداة، وعلى آلهِ وأصحابه والتابعين،
أمَّا بعدُ: أيها المسلمون: فإنّ في بعض مجتمعات المسلمين اليوم، أُسراً يدكها الفقر دكا، ويهدها العوزُ هداً، يئنُ أطفالهُا من الجوع، ويقض مضاجعتها طرقات صاحب البيت يطلب الإيجار، فمن لهؤلاء بعد الله؟! في بيوت المسلمين الأرملة البائسة، والعجوز اليائسة، واليتيم المفجوع، والمقعد المحروم ، فمن يقضي حوائجهم ، ومن يخفف آلامهم، ومن يجفف دموعهم ، ابتغاء ما عند الله من الأجر والثناء الجميل؟! هل أدرك الخيرون على وجه الخصوص مدى فعالية الدعوة إلى الله، من خلال بذل الإحسان لأولئك؟! وبذل صنائع المعروف لهم؟! هل أدرك الحريصون، على الدعوة إلى الله ، أنّ مجال الدعوة ليس وقفا على الشريط، والكتيب ، والنشرة، والموعظة؟! ولكن مجالها ، ممتد الجوانب ، فسيح الأرجاءِ ، مترامي الأطرافِ، وأنّ من لا يمكن دعوته بالموعظة المؤثرة ، والنصيحة المعبرة، قد يستجيب من خلال الإحسان إليه ، وخدمته في نفسه وولده .
أيها المسلمون، إننّا قد نفهم ما يحدث في بلاد الغرب، أو الشرق الكافرين ، من انقطاع وشائج الرحمة ، وانهيار جسور المحبة والوئام ، وما أدى إليه ذلك الانقطاع والانهيار ، من جفاف في المعاملة ، وغياب للإحسان، لكننّا عاجزون عن فهم ما يحصل في بعض مجتمعات المسلمين ، من تصرفات مماثلة، اللهم إلا إذا كان بريق الإيمان ، قد خبت لمعانه في القلوب ، وتكدر صفاؤه في النفوس ، فأضحى الكثيرون أنانّي الطباع ، ميتي الإحساس ، لا همَّ لهم إلا أنفسهم وذراريهم ومصالحهم، قد تبلدت مشاعرهم، وتجمدت عواطفهم. فعز الإحسان في حياتهم، وندر المعروف أن تبذله أيديهم، إننّا معاشر المسلمين، مدعون إلى تلمس احتياجات الآخرين، وإسداء المعروف للمحتاجين، دون منٍ أو أذى ودون انتظار لشكر أو ثناء أو دعاء، فقد كانت عائشة رضي الله عنها، إذا أرسلت إلى قوم بصدقةٍ تقول لمن أرسلته بها، اسمع ما يدعون به لنا، حتى ندعو لهم بمثله، ويبقى أجرنا على الله .
قال شيخ الإسلام في فتاويه: ومن الجزاء أن يطلب الدعاء، فالعجل العجل يرحمك الله إلى البر والإحسان، وصلة الآخرين بجاه أو مال، فما يدريك؟ رب حاجة تقوم بها لأرملة، أو رب مسحة على رأس يتيم، أو كفكفةٍ لدمعة محروم ، تكون هي سبب دخولك الجنة، فإنّ للجنة أبواباً، ولدخولها أسباباً، فاحرص على ما ينفعك ولا تعجز .
اللهمَّ إنَّا نسألُك إيماناً يُباشرُ قلوبنا، ويقيناً صادقاً، وتوبةً قبلَ الموتِ، وراحةً بعد الموتِ، ونسألُكَ لذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريمِ، والشوق إلى لقائِكَ في غيِر ضراءَ مُضرة، ولا فتنةً مضلة،
اللهمَّ زينا بزينةِ الإيمانِ، واجعلنا هُداةً مهتدين،لا ضاليَن ولا مُضلين، بالمعروف آمرين، وعن المنكر ناهين، يا ربَّ العالمين، ألا وصلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة عليه، إمام المتقين، وقائد الغرِّ المحجلين وعلى ألهِ وصحابته أجمعين.
وأرض اللهمَّ عن الخلفاءِ الراشدين أبي بكرٍ وعمر وعثمان وعلي .
اللهمَّ آمنا في الأوطانِ والدُور، وأصلحِ الأئمةَ وولاةِ الأمورِ، يا عزيزُ يا غفور، سبحان ربك رب العزة عما يصفون .
===============
أيها السائحون(12/86)
مع شدة حر الصيف اللافح، ولأواء الشمس وهجيرها، وسخونة الأجواء التي يتصبب منها الجبين عرقاً، يستعد كثير من الناس لقضاء الصيف والإجازة ، فحجوزات تؤكد، وتذاكر تقطع، وحقائب تجهز، وأحزمة تربط ، وأموال ترصد، حيث يممون وجوههم قبل المصايف والمناطق المعتدلة الباردة، وترحل نجائبهم للبلاد الخارجية، وزيارةٌ واحدةٌ للصالات الخارجية بالمطارات ووكلات السفر والسياحة تؤكد واقع الناس وما هم فيه حيث أجلبوا بخيلهم ورجلهم وانطلقوا زرافات ووحدانا للسفر والسياحة ، ذلك أن بعض المسلمين يجدون في شدة حر الصيف ولهيب سمومه عذراً ومسوغاً للسفر للبلاد الخارجية سفراً بلا حدود وانطلاقاً بلا غاية وسعياً بلا هدف ووجهة بلا مهمة حتى لو كان في ذلك ما فيه من الوقوع في المحرمات وإهمال الواجبات والاختلاط والتبرج والسفور .
وهذه الكلمات هي رسالة إلى كل من يعنيهم الأمر من هواة السفر والترحال والسياحة، إنها وقفة سؤال وعتاب لهؤلاء إلى الذين حملوا الصغير قبل الكبير، والعاجز قبل القادر، واصطحبوا النساء ومَنْ تحت ولايتهم إلى بلاد الكفر والنصرانية ومراتع الإلحاد والإباحية، رسالة إلى الذين يريدون قضاء الإجازة والصيف بداعي اللهو والترفيه والراحة والاستجمام ولكنهم جنوا على أنفسهم وضيعوا أولادهم وأهملوا محارمهم وغفلوا عن أعراضهم..
عباد الله : إن السفر والترحال والسياحة أمر ذو بال في واقع كل امرئ حي فالإنسان مجبول على حب التنقل والضرب في الأرض، والناس لهم في السفر والإجازة والسياحة مقاصد شتى ومآرب متنوعة فهذا يريد أن يعلل ويرفه جسده وذاك يريد أن يمتع عينيه بالمناظر الخلابة وآخرون بدعوى الدراسة والعمل والتجارة..
ونحن أبناء أمة كانت مطبوعة على الرحلة ومولعة بالسفر والسياحة فالعرب في الجاهلية كانوا يسافرون ويسيحون في الأرض إما سداً للفاقة أو طلباً للراحة أو للقتال والغارة، فجاء الإسلام العظيم مشرقاً بنوره الوضاء فزكى مبدأ السياحة وقواه وسما به، وامتن الله على قريش حين ذكرهم بأنه هيأ لهم أسباب رحلتين عظيمتين منتظمتين إلى اليمن تارةً وإلى الشام أخرى فقال سبحانه : ((لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف)) .
لقد جاء الإسلام إلى الأعرابي الذي ينتقل ويسافر قطعاً للطريق وسلباً للقوافل والأموال ليجعله مجاهداً في سبيل الله، وليجعله سائحاً مسافراً يدعو إلى دين الله، كان يبحث عن منابع الماء ومواقع القطر ليشرب منها، فإذ به يبحث عن منابع العلم لينهل منها، لقد جاء الإسلام لعادة العرب فجعلها عبادةً و سياحةً تعود بالأجر والثواب ، فهذا سفر الحج والعمرة والهجرة والجهاد أكبر دليل على ذلك، جاء ليجعلها سياحةً وسفراً ورحلةً تعتبر بملكوت الله جل وعلا وتنظر في آياته الباهرة " قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ... ، وقال تعالى: ((فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين)) .
ولقد أنكر الله جل وعلا ونعى على أناس يسافرون ويسيحون ولا يتأملون في خلقه فقال سبحانه : ((وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون)) .
وهذا محمد صلى الله عليه وسلم سافر وانتقل وساح في الأرض مرات وكرات إبان شبابه قبل البعثة وبعد نبوته ما بين حج وعمرة وهجرة وجهاد وتجارة..
وليس يخفى على الجميع أن السفر والسياحة وحب الاطلاع أصبحت في هذا الزمن من الأمور الترفيهية المطلوبة لدى عامة الناس خاصة بعد مواسم الدراسة وجهد العمل...
السياحة مصطلح وموضوع نجد الناس أمامه على طرفي نقيض، فمنهم الرافض رفضاً قاطعاً مستدلاً بالسلبيات والأضرار الناتجة عنها، ومنهم المرحب فرحاً بالإيجابيات، وكل محق ولكن كلا طرفي قصد الأمور ذميم، ونحن بوصفنا أمة إسلامية لابد أن نتعامل مع المستجدات العصرية والأحدوثات الجديدة بروح الواقع والاحتواء لا الرفض والانزواء ، ولابد أن نسخر هذه المصطلحات والأمور فيما ينفعنا ويعود بالخير علينا ديناً ودنيا .
ولا ريب أن الوسطية هي شعار الأمة الإسلامية قال الله تعالى: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ )) ( البقرة : 143) .
والسياحة لها مفاهيم عدة وقوالب شتى ومناظير متعددة غير أن للمسلمين خاصة في بلاد الحرمين منظوراً ومفهوماً في السياحة يختلف عن غيرهم فلا يمكن أن نستورد مفاهيم غيرنا فيها فهم يفهمونها على ليلاهم ونحن نفهمها على قرآننا وسنة رسولنا صلى الله عليه وسلم .
وبلادنا هذه حباها الله جل وعلا بمميزات كثيرة قلما يوجد نظيرها كاحتضانها للمقدسات الإسلامية والبقاع الطاهرة ، فهي بلاد التوحيد بلاد الحرمين وقبلة المسلمين ومهوى أفئدة المسلمين جميعاً، وما تتمتع به من الإيمان والأمن والاستقرار، وحفظ الأعراض والأموال، لذا لابد من مراعاة خصوصية هذا البلد الدينية قبل الخوض في شأن السياحة.
ولئن كانت السياحة عند القوم سفوراً وتعرياً ولهواً ومتعةً جسديةً فهي في الإسلام عبادة يؤجر المرء عليها ولها في القرآن والسنة الثناء الجميل والذكر النبيل فلقد وردت السياحةُ في كتابِ اللهِ وسنةِ رسوله صلى الله عليه وسلم تحملُ معاني ساميةً، وارتبطَ وصفُ السائحينَ بنماذجَ عاليةٍ من البشر، يقولُ تعالى في وصفِ الذين اشترى اللهُ منهُم أنفسَهم وأموالهم بأنَّ لهُم الجنة: (( التَّائِبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ)) (سورة التوبة:112).(12/87)
والسائحون هم : الصائمون في قول أكثر المفسرين ، واستدُلَ لهُ بقولهِ تعالى في وصفِ نساءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم : ((عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ)) (سورة التحريم:5) .
وبما وردَ في الحديثِ عن عائشةَ -رضي الله عنها- مرفوعاً: (( سِيَاحَةُ هَذهِ الأَمةُ الصِيَامُ)) وكذا فسرَ السياحةِ بالصيام؛ أَبو هريرةَ، وابن مسعودٍ، وابن عباسٍ، وعائشة وغيرهم- رضي الله عنهم- . وقال عطاء: السائحون: هُمُ الغزاةُ المُجاهِدُونَ في سبيلِ الله، وقيل السائحون : المُهاجِرون. وقيل : السفر في طلب العلم قال عِكرِمةَ السائحونَ: هم طلبةُ العلمِ، وقيل : سياحةُ القلب في معرفة الله ومحبته .
قال الشيخ ابنُ سعدي رحمه الله : (والصحيح أن المراد بالسياحة السفر في القربات ، كالحج والعمرة، والجهاد وطلب العلم، وصلة الأقارب، ونحو ذلك) أهـ.
هذا هو مفهوم السياحة في الإسلام!!
سياحة تظهر دين الله وتحميه وتنصره قال صلى الله عليه وسلم : ((إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله ))[1].
سياحة للنظر والتدبر والتأمل والتفكر في ملكوت الله ، (( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)) (الأنعام:11).
وقال سبحانه:((قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ)) (النمل:69) ، وقال جل ذكره : ((قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) (العنكبوت:20).
سياحة لطلب الرزق وتأمين الأمة معيشياً ، سياحة لطلب العلم والفكر والخير والدعوة إلى الله. هذا مفهوم السياحة في الإسلام.
وقد دُنِّسَ هذا اللفظُ حيثُ أصبحَ مُصطلحاً مُعاصِراً تُشَمُّ منهُ رائحةَ التلوثِ العقدي، والفسادَ الأخلاقي، والتحللَ من الضوابطِ والقيمِ، فإلى اللهِ المُشتكي، وحسبُنا اللهُ ونعم الوكيل .
والسياحة مفهومها الحالي يخالف مفهوم الإسلام طريقة وهدفاً فلماذا كان أسلافنا يسافرون ؟! كانوا يسافرون دعوة إلى الله وجهاداً والآن أصبح السفر والسياحة عند البعض للجنس والشهوة والعبث واللهو!! لماذا سافر مصعب بن عمير t سافر داعيةً ومعلماً للقرآن؟! لا ولياً للكفر ولا مهادناً ولا لاعباً ولا لاهياً.
لقد وطئ سلفنا الصالح بلاد الكفر وفرنسا وأوربا وآسيا لا جلوساً على الحانات ولا ارتياداً للخمارات ولا تصدراً لموائد القمار والمسارح ولا جلوساً في مدرجات الكرة ولا معانقة للباغيات والمومسات كلا !!
بل وطئوها ليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ظلم وجور الأديان إلى نور وعدل الإسلام.
إنه لمن المحزن المبكي أن أصبحت السياحة والسفر إلى بلاد الكفار موضع افتخار بعض المخدوعين من المسلمين فهذا يفتخر أن ابتعث للدراسة هناك، أو أن له ولداً يدرس في الدول الغربية، وهذا يتبجح بقضائه الإجازة كل عام متنقلاً بين شواطئ أوربا وسهولها وجبالها دون تفكير في النتائج أو تقدير للعواقب..
ثم إن هؤلاء إذا ذهبوا ذابت شخصياتهم مع الكفار فلبسوا لباسهم واقتدوا بآثارهم حتى النساء المسلمات يخلعن ثياب الستر والعفاف ليلبسن لباس الكافرات والداعرات؟!! فلماذا نعطي الدنية في ديننا ؟! وكيف يستبدل المسلم الذي هو أدنى بالذي هو خير؟!، وكيف يتنازل من علياء إيمانه إلى حضيض ومزبلة الكفر...
إن من أعجب العجب أن الكفار إذا جاؤوا إلى بلادنا لا يغيرون أزياءهم ولا يتحولون عنها؟! وبعض المسلمين على العكس من ذلك إذا ذهب إليهم تحول إلى عاداتهم وجال في حاناتهم وجاس في الملاهي والمسارح والشواطئ..
يا عجباً لهؤلاء الذين ركبوا دابة السفر وامتطوا ثبج السياحة ؟! يفرون من ديارهم ديار التوحيد والإيمان إلي ديار الكفر والطغيان، يهربون من ديار ملؤها الأمن والأمان إلى بلاد تتزايد فيها نسب الجرائم والقتل تزايد الثواني، يتولون عن سوح طاهرة مباركة يدوي فيها الآذان وتعج بالتكبير إلى ديار خواء تصلصل فيها أجراس الكنائس كل ذلك في رحلات عابثة كلها إسراف وتبذير..
وليت هؤلاء حين رحلوا، رحلوا دعوة إلى الله تعالى وتبليغ دينه، وليت هؤلاء يوم أن أنفقوا ، أنفقوا نصرةً للمجاهدين أو سداً لحاجة المعوزين أو إغاثةً للاجئين، ولكنهم - وللأسف - وأقولها بمرارة رحلوا وسافروا وساحوا للهوى والشيطان إن أنفقوا فعلى لذة رخيصة وشهوة وضيعة وإن جلسوا وساحوا فعلى شواطئ وأندية العراة، بل إن السائح المسلم يساوي عند الغرب وزنه ذهباً فهو مثال للبذخ يسكن في أرقي الفنادق ويبذل المال في الحلال والحرام ويتصدر موائد الخمرة والقمار...
يا هؤلاء لئن كان السفر جبلاً يعبق بالهواء العليل فذلك موجود في بلادنا المحافظة .. ولئن كانت السياحة سهولاً وبحراً عباباً فذلك موجود في ديارنا المسلمة ولئن كانت السياحة علوماً تجتنى ومعارف تقتنى فالعالم الإسلامي هو ابن بجدتها وهو منبع العلوم وموئلها فلماذا الإصرار على السياحة في ديار الكفر والتثليث والإلحاد والإباحية دونما حاجة أو مصلحة أو ضرورة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(( أنا بريء من امرئ يقيم بين ظهراني المشركين ))[2]
وقد استثنى العلماء من ذلك المجاهد في سبيل الله، والداعية إلى الله، والمسافر للعلاج أو لدراسة ما ينفع المسلمين أو للتجارة ، كل ذلك مشروط بأن يكون مظهراً لدينه قادراً على إقامة شعائره قوي الإيمان وللضرورة حينئذ أحكامها...(12/88)
وأنت يا من تهوى السياحة والسفر والترحال لا تنسى حينما تدعوك المصلحة للسفر إلى ديار الكفار أو غيرها أنك سفير فوق العادة تمثل دينك وأخلاق مجتمعك، فأنت تحمل مسؤولية عظيمة وهي أمانة تمثيل الإسلام فبعض الناس كان سبباً في إعراض ونكسة أقوام عن هذا الدين شعر أم لم يشعر فاحمل دينك بقوة وأظهره بشجاعة قال تعالى: (( يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً )) (مريم :12) .
وقال سبحانه : (( فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ )) (الأعراف : 145)) .
(( فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ )) ( الزخرف : 43) .
عباد الله : إن طائفة ممن يسافرون وللأسف الشديد يشوهون صورة الإسلام بسوء فعالهم وتصرفاتهم يشوهونه عند من لا يعرف حقيقته ويصدون عنه مَنْ يتطلع إليه ويريد الدخول فيه ونتيجة لذلك خرج الكفار والغرب بوجه أخص خرجوا بصورة قاتمة عن الإسلام والمسلمين وأن الإسلام قمار وخمر و غانية ولهو وإسراف وبربرية ؟! لأنه ظن أن هؤلاء يمثلون الإسلام وهم سفراؤه فيا هؤلاء كونوا خير السفراء...
وبماذا يرجع إلينا هؤلاء المسافرون والسائحون ؟! هل يرجع الواحد منهم لوطنه بالعلم والمال وأسرار السلاح والتكنولوجيا وبما ينفع الأمة في صراعها مع أعدائها ؟ كلا بل يرجع محملاً بالإيدز والأدواء التي لا دواء لها!! يرجع مغسول العقل ممسوخ الديانة خائر القوى وبجيوب فارغة !! وبعضهم يرجع إلينا في التوابيت ميتاً!!
عباد الله : إن من المنكرات العظيمة التي تحدث بدعوى السياحة زيارة النُصب والأصنام والأوثان بدعوى أنها آثار تاريخية وإرث حضاري، وكذلك مشاهدة الألعاب السحرية كالسرك وإتيان السحرة والكهنة والعرافين ومدعي علم الغيب من قارئي الكف والفنجان وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :(( من أتى عرافاً فسأله فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يوماً ))[3].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد))[4]
ومن المنكرات التي تحدث في الإجازة والصيف إهمال الأولاد والبنين والبنات خاصة في السفر إلى المصايف وعند المنتزهات والشاليهات وتبدوا صور الإهمال بجلاء في عدم أمرهم بالصلاة، وسهرهم المفرط، وإهمال أمر الستر والحجاب فتجد المرأة تلبس العباءة الفاتنة كالعباءة المخصرة أو الفرنسية أو البنطال مما يجعلها فتنة للناظرين وكذلك عدم تجنيبهم مواطن الفتنة والبلاء فيزج بهم في أماكن يحدث فيها التبرج والسفور والاختلاط.
يقولُ العلامةُ ابن باز- رحمهُ الله تعالى- : (السفرُ إلى البلادِ التي فيها الكُفر والضلال والحرية، وانتشارَ الفسادِ من الزنى وشُربِ الخمرِ وأنواعِ الكُفرِ والضلالِ فيهِ خطرٌ عظيمٌ على الرجلِ والمرأة، وكم من صالحٍ سافرَ ورجعَ فاسداً، وكم من مُسلمٍ رجعَ كافراً، فخطرُ السفرِ عظيمٌ، والواجبُ الحذرُ من السفرِ لبلادِهم، لا في شهرِ العسلِ ولا في غيره).
لقد أثبتت الدراسات أن كثيراً من الأمراض سببها السفر إلى الخارج فقد ووُجِدَ في عيادةٍ واحدةٍ خاصة، للأمراضِ التناسليةِ في السعوديةِ ما يُقارِبُ من مائةِ حالةٍ لمرضِ الهر بس الجنسي، مُعظَمُها لشبابٍ سافروا في الإجازةِ إلى أوربا وأمريكا وجنوبَ شرقِ آسيا، وعادُوا منها بمرضِ الهِر بس، كما صرحَ بذلكَ أحدُ الأطباءِ السُعوديين لمجلةِ اليمامة !!
وقد حدثني أحد أطباء الأمراض التناسلية أن عيادته تزدهر بالمراجعين بعد نهاية فصل الصيف والإجازات!!
كما أثبتتِ الدراساتُ الاجتماعيةُ أنَّ معظمَ مُتعاطي المُخدراتِ في السعوديةِ قد وقعُوا في تجربتِهم الأولى، في رحلاتِهم السياحيةِ خارجَ السعودية !!
ناهيكم عن تضييع الأهل والذرية في هذه الأسفار وتعريضهم لمواطن الفساد والهلكة ولسان حال الواحد منهم يقول :
وإذا سألتم عن أبي ، فأبي لهُ رسمٌ على بوابةِ السفراتِ
أرخى زمامي ثُمَّ راحَ يلُومني ويُهينني بقوارعِ الكلماتِ
أنا يا أبي الغالي ضحيةُ ثروةٍ فَتحت لقلبي أسوأَ الصفحاتِ
أغرقتني فيها وما راقبتَني وتركتنِي كالصيدِ في الفلواتِ
كم كُنتُ أبحثُ عنكَ يا أبتي فما ألقاكَ إلاَّ تائهُ النظراتِ
هلاَّ أبيتَ عليَّ أن أمشي إلى حتفي وأن أسعى إلى صبواتي
أرسلتَنِي للغربِ يا أبتي ولم تُشفق على عقلِي من السكراتِ
أنسيتَ أنَّ الغربَ سرُّ شقائنا وإليهِ تُنسبُ أبشعُ الآفاتِ
فيا أيها الآباء والأولياء : الله الله في رعاية الأبناء ومن تحت أيديكم من النساء قال تعالى : ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً )) ( التحريم : 6).
واعلموا أنهم أمانة عندكم سوف تسألون عنها ، يقولُ صلى الله عليه وسلم : ((كُلُكُم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيتهِ، فالإمامُ راعٍ ومسؤولٌ عن رعيتهِ، والرجلُ راعٍ في أهلهِ ومسؤولٌ عن رعيتهِ، والمرأةُ في بيتِ زوجها راعيةً ومسؤولةً عن رعيتها))[5].
ويقول صلى الله عليه وسلم : ((كفى بالمرءِ إثماً أن يُضيِّعَ من يقوت )) رواهُ أبو داود ، وقال صلى الله عليه وسلم : ((إنَّ الله سائلٌ كلُّ راعِ عمَّا استرعاهُ الله، حفظَ أم ضيَّعَ حتى يُسألَ الرجلُ عن أهلِ بيتهِ)) رواهُ ابن حبان، وحسنهُ الألباني، فأعد للسؤالِ جواباً وللجوابِ صوابا
الخطبة الثانية(12/89)
ألا وإن من البلايا – عباد الله - ما أحدث في بعض الأماكن والمصايف من أمور منكرة كحفلات الأغاني الساهرة التي يجلب لها الفنانون والفنانات وتعد لها المسارح الكبيرة... تلك الحفلات والمهرجانات والمناسبات التي عمودها الغناء وآلات المعازف وخيمتها الغفلة عن ذكر الله جل وعلا، والغناء.
عباد الله : من المحرمات التي استهان بها كثير من الناس إلا من عصم الله قال الله تعالى: (( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ *وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ )) ( لقمان : 6-7) .
قال أكثر المفسرين : المراد بلهو الحديث في هذه الآية الغناء ، ويحلف الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بالله الذي لا إله إلا هو – ثلاث مرات – إنه الغناء ، وكذا قالَ ابنُ عباس، وجابرُ، وعكرمةُ، وسعيد بنُ جبير، ومجاهدٌ ومكحول وغيرهم، (تفسير ابن كثير 3/703).
قال الإمام أحمد : الغناء ينبت النفاق في القلب فلا يعجبني، وقال الفضيل بن عياض : الغناء رقية الزنا واستماع الأغاني والمعازف سبب لأنواع العقوبات في الدنيا والآخرة . قال ابن القيم : " والذي شاهدناه نحن وغيرنا وعرفناه بالتجارُب أنه ما ظهرت المعازف وآلات اللهو في قوم وفشت فيهم واشتغلوا بها إلا سلط الله عليهم العدو ، وبُلو بالقحط والجدب ، وولاة السوء " آهـ .
فتجنب - أخي المسلم - وجنب مَنْ تحت ولا يتك مواقعَ اللهوِ والفسوقِ والعصيان، كالحفلاتِ الغنائيةِ، والتجمُعاتِ المختلطة، فإنَّ اللهَ يُمهِلُ ولا يُهمل، وإنَّ اللهَ يَغَارُ وغيرتَهُ أن تُنتَهكَ حُرمَتَهُ، يقولُ النبي صلى الله عليه وسلم : ((في هذه الأمةِ خسفٌ ومسخٌ وقذف " فقالَ رجلٌ من المُسلمين: يا رسولَ اللهِ ومتى ذاك ؟ قال: إذا ظهرت القِيناتِ والمعازفِ، وشُربت الخُمور))[6].
فلا تأمن من مكرِ اللهِ تعالى، ولا يأمن من مكرِ اللهِ إلاَّ القومُ الخاسرون .
وفي السُنةِ النبويةِ تأكيدٌ على حُرمةِ الغناء، ففي صحيحِ البخاري عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((ليكُوننَّ من أمتي قومٌ يستحلونَ الحِرَ والحريرِ والخمرِ والمعازف)) .
وتأملوا كيفَ جُمعَ تحريمُ الغناءِ والمعازفِ مع تحريمِ الفروج، والحريرِ والخمر؟ وما فتئَ علماءُ الأمةِ الربانيون يُحذِرُونَ من فتنةِ وعبوديةِ الشهوات.
يقولُ الشافعي - رحمه الله -: (من لزمَ الشهواتِ لزمتهُ عبوديةُ أبناءِ الدنيا) (سير أعلام النبلاء 10/97).
ويقولُ ابنُ تيميةَ - رحمهُ الله -: (والعشقُ والشهواتُ إنَّما يُبتلى به أهلُ الإعراضِ عن الإخلاصِ لله، الذين فِيهم نوعٌ من الشركِ، وإلاَّ فأهلُ الإخلاصِ كما قال تعالى في حقِّ يوسفَ- عليه السلام-: (( كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلصِينَ )) (سورة يوسف:24) (الفتاوى 15/421).
وأخيراً أحذر أخي المسلم، أختي المسلمة أن نكونَ ممن قالَ اللهُ فيهم: (( فَخَلفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلقَوْنَ غَيًّا)) (سورة مريم:59).
الحمد لله وكفى سمع الله لمن دعا والصلاة والسلام على النبى المجتبى وآله وصحبه وعلى مَنْ على منهاجهم اقتفى , وبعد فاتقوا الله عباد الله حق التقوى وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى.
عباد الله : كلامنا عن السياحة والسفر والاصطياف لا يعني أن يكون المسلم نشازاً مع أهله لا يرفههم ولا يدخل السعادة على قلوبهم!! هناك مجال للترفيه والراحة والتنزه ولكن بالسبل المباحة المأمونة التي تعود بالنفع على الفرد والمجتمع ، هناك بدائل شرعية وبدائل مباحة ومن هذه البدائل ومنها :
* الذهاب للعمرة إلى بيت الله الحرام أو زيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال صلى الله عليه وسلم : (( صلاة في مسجدي افضلُ من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجدَ الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضلُ من مائة ألف صلاة فيما سواه )) رواه أحمد وابن ماجة وصححه الألباني.
* وكذلك السفر في بر الوالدين وصلة الأرحام وزيارة العلماء والصالحين في الله تعالى وإجابة دعوات الأفراح والمناسبات التي ليس فيها منكرات قال صلى لله عليه وسلم : ((من لم يجب الدعوة فقد عصى ابا القاسم)).
* وكذلك السفر لأجل الدعوة إلى الله قال تعالى :((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )) ( فصلت: 33)
وقال صلى الله عليه وسلم : ((فوالله لن يهدي الله بك رجلاً خير لك من حمر النعم)) .
* ومن الأمور المعينة على استغلال الإجازة والفراغ وهذا نوصي به الناس بعامة والشباب بخاصة طلب العلم وتحصيله والسفر لأجله قال صلى الله عليه وسلم :((ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة))[7].
ولقد كان السلف يرحلون في طلب العلم والمعرفة فهذا ابن مسعود رضي الله عنه يقول : (( لو أعلم مكان أحد أعلم مني بكتاب الله تناله المطايا لأتيته وقال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه : )) رحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد " أهـ.
وقال الشعبي رحمه الله : لو سافر رجل من الشام إلى أقصى اليمن في سبيل كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى ما كان سفره ضائعاً " أهـ.(12/90)
* وكذلك العناية بالقرآن الكريم والاشتغال به حفظاً وتلاوةً وتعلماً وتعليماً قال صلى الله عليه وسلم : ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)).
* ومن البدائل المتاحة والمتيسرة بحمد لله السياحة النقية والنزهة البريئة إلى ربوع البلاد الإسلامية المحافظة التي تنعي أبناءها الذين هجروها، ويمكن للسلم أن يجمع بين الراحة والعبادة فيزور مكة ويذهب للطائف ومن ثم إلى جدة بشرط البعد عن مواطن الفتنة والبلاء.
* ويحمد لهذه البلاد المباركة المعطاءة ما وفرته من محاضن تربوية وبرامج نافعة للجيل والشباب المسلم من حلق ومدارس لتحفيظ القران الكريم وهاهي المراكز والنوادي الصيفية تأتي لتحفظ فلذات الأكباد من الضياع ولتملأ الفراغ وتحرك الطاقات وتستثمر القدرات ...ألخ.
[1] رواه أبو داود بإسناد صحيح.
[2] رواه أبو داود والنسائي
[3] رواه مسلم .
[4] رواه أبو داود.
[5] رواهُ البخاري ومسلم.
[6] رواهُ الترمذي وصححهُ الألباني.
[7] رواه مسلم .
===============
عمل المرأة.. رؤية شرعية 1/2
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
قبل الحديث عن هذا الموضوع أود الإشارة إلى أن عمل المرأة بالمفهوم الدارج هذه الأيام يعود في أصله إلى ظروف المرأة في الغرب، حيث خرجت مضطرة من بيتها للعمل، بسبب مقتل كثير من ذكورهم بعد الحربين العالميتين، وكذلك هجرة الكثير منهم بحثاً عن العمل.
أسباب خروج المرأة الغربية للعمل في الوقت الحاضر
وأما أسباب خروج المرأة الغربية للعمل في العصر الحاضر – بعد أن تزعزعت عندهم مفاهيم الأسرة والحياة الاجتماعية والأخلاقية -، فيمكن إيجازها فيما يلي:
1- أن الأب في الغرب غير مكلف بالإنفاق على ابنته إذا بلغت الثامنة عشرة من عمرها؛ لذا فهو يجبرها على أن تجد لها عملاً إذا بلغت ذلك السن، ثم إنه كثيراً ما يكلفها دفع أجرة الغرفة التي تسكنها في بيت أبيه.
2- أن الناس هناك يحيون لشهواتهم، فهم يريدون المرأة في كل مكان، فأخرجوها من بيتها لتكون معهم ولهم، ويدل على ذلك تسخيرهم لها لشهواتهم الدنيئة من خلال الأفلام الداعرة، والصور العارية، والإعلانات، ودور البغاء..إلخ.
3- أن البخل والأنانية شديدان عندهم، فهم لا يقبلون أن ينفقوا على من لا يعمل، وهم لا يرون تربية الأولاد أمراً مهماً، ومهمة شاقة؛ لأنهم لا يبالون بدين ولا تربية ولا أخلاق.
4- أن المرأة عندهم هي التي تهيئ بيت الزوجية، فلا بد لها أن تعمل وتجمع المال حتى تقدمه مهراً – أو ما يسمى عندهم دوطة – لمن يريد الزواج بها، وكلما كان مالها أكثر كانت رغبة الرجال فيها أكثر.
5- البحث عن الحرية المزعومة، فالمرأة إذا خرجت من بيتها فعملت واستقلت اقتصادياً فإنها تشعر أنها حرة، وبالتالي فإنها تخادن من تشاء، وتصادق من تشاء، وتذهب حيث تشاء، بل وتنام حيث تشاء.
أصول وثوابت في عمل المرأة
هناك أصول وثوابت لابد أن نستحضرها عند الحديث عن عمل المرأة، منها:
1- إن الإسلام يرى أن التنمية الاقتصادية جزء من التنمية للمجتمع بأبعادها المختلفة، وهي لا تقتصر في الإسلام على التنمية المادية فحسب؛ لأن الإسلام يسعى إلى إسعاد الناس في الحياة الدنيا والآخرة. فالتنمية ليست عملية إنتاج فحسب، وإنما هي عملية إنسانية تستهدف الإنسان ورقيه، وتقدمه مادياً، وروحياً، واجتماعياً، وسلوكاً، وعادات، وأخلاقاً.
والإسلام يرى أن المال وجميع الأعمال المادية يجب أن تكون منضبطة بالأوامر والنواهي والتعاليم الشرعية، وهذه التعاليم منها ما هو ثابت لا يتغير مهما تغيرت الأزمان والأماكن، ومهما تغير الناس في طرائق معيشتهم، أو أساليب حياتهم، ومهما اختلفت وسائل إنتاجهم، أو ارتقت مفاهيم تفكيرهم في العلم والحياة. وهذه تتمثل في شيئين: العقيدة الإسلامية، والقيم والأخلاق.
وثبات الفطرة والعقيدة والقيم والأخلاق لا ينفي قيمة التطور وضرورته، وذلك باستنباط الأحكام الشرعية بطريقة الاجتهاد لحل المشكلات والنوازل، وتحديد العلاقات الجديدة حسب مفهوم الثابت والمتغير في الإسلام، وبالتالي تكون العقيدة والقيم والأخلاق ضوابط تضبط من خلالها التنمية الاقتصادية.
واعتبار القيم والأخلاق في ضبط الاقتصاد والتنمية هو الاتجاه السليم عند بعض علماء الاقتصاد، مثل: (آرثر سميثر) الذي قال بأنه لا يمكن وضع سياسات اقتصادية بدون الاعتماد على معايير أخلاقية.
2- سوى الإسلام بين الرجل والمرأة في الحقوق المدنية بمختلف أنواعها، لا فرق في ذلك بين وضعها قبل الزواج وبعده.
فقبل الزواج يكون للمرأة شخصيتها المدنية والمالية المستقلة عن شخصية ولي أمرها -أبيها أو غيره-.
فإن كانت بالغة يحق لها أن تتعاقد، وتتحمل الالتزامات، وتملك العقار والمنقول، وتتصرف فيما تملك، ولا يحق لوليها أن يتصرف في أملاكها إلا بإذنها، كما يحق لها أن توكل وأن تفسخ الوكالة.
وكذلك المتوفى عنها زوجها -إذا كانت عاقلة بالغة- فلها أن تتزوج بمن تشاء، ولا يجوز عضلها -أي منعها من الزواج- لأخذ مالها الذي ورثته عن زوجها، أو إكراهها على الزواج بمن لا تريد.
وكذلك حمى الإسلام حقوق القاصرات من البنات، فإن كان لها مال فيجب على وليها المحافظة عليه وتنميته واستثماره، ثم يؤديه إليها بعد أن تكبر، ولا يحل له أن يأخذ منه شيئاً.(12/91)
وكذلك بعد الزواج يكون للمرأة شخصيتها المدنية الكاملة، فلا تفقد اسمها، ولا أهليتها في التعاقد، ولا حقها في التملك، فتحتفظ باسمها واسم أسرتها، وبكامل حقوقها المدنية، وبأهليتها في تحمل الالتزامات، وإجراء مختلف العقود من بيع وشراء ورهن وهبة ووصية وما إلى ذلك، محتفظة بحقها في التملك تملكاً مستقلاً عن غيرها. فللمرأة المتزوجة في الإسلام شخصيتها المدنية الكاملة وثروتها الخاصة وذمتها المالية. وهي في هذا كله مستقلة عن شخصية زوجها وثروته وذمته.
بل إن الزوج لا يجوز له أن يأخذ شيئاً من مال زوجته، أما إذا أذنت الزوجة بأخذ شيء من مالها فلا بأس بذلك.
كما أن الزوج لا يحل له أن يتصرف بشيء من أموال امرأته إلا إذا أذنت له بذلك، أو وكلته في إجراء عقد بالنيابة عنها.
3- لقد خفض الإسلام للمرأة جناح الرحمة والرعاية، في أمر الأعباء الاقتصادية، فكفل لها من أسباب الرزق ما يصونها عن التبذل، ويحميها من عناء الكدح في الحياة، فأعفاها من كافة أعباء المعيشة، وألقاها على كاهل الرجل، وهذه النفقة حق للمرأة ونصيب مفروض في ماله، وليست تفضلاً أو منّة منه، فلا يسعه تركها مع القدرة.
فما دامت المرأة غير متزوجة ولا معتدة من زوج، فنفقتها واجبة على أصولها، أو فروعها، أو أقاربها الوارثين لها. فإن لم يكن لها قريب قادر على الإنفاق عليها، فنفقتها واجبة على بيت المال.
وكذلك شأنها في جميع مراحل الزوجية، سواء في ذلك مرحلة الإعداد للزواج، أومرحلة الزواج، أومرحلة انفصامه بالطلاق.
فأما مرحلة الإعداد للزواج، فقد ألقت الشريعة الإسلامية على كاهل الزوج طائفة من الواجبات الاقتصادية نحو زوجته المستقبلة، دون أن تكلفها هي أو تكلف أهلها أي عبء من هذا القبيل. ففي هذه المرحلة تنعم المرأة بجميع الحقوق، بينما يتحمل الرجل وحده جميع الواجبات، ومن أهمها: الصداق، وإعداد منزل الزوجية.
وأما مرحلة الزواج، فقد أعفيت المرأة من أعباء المعيشة وألقتها على كاهل الزوج، وبقيت الزوجة محتفظة بحقوقها المدنية - كما سبقت الإشارة إلى ذلك-.
فللمرأة المتزوجة في الإسلام شخصيتها المدنية الكاملة، وثروتها الخاصة، وذمتها المالية، وهي في هذا كله مستقلة عن شخصية زوجها وثروته وذمته.
وهي مع هذا لا تكلف أي عبء في نفقات الأسرة مهما كانت موسرة، بل تلقى جميع هذه الأعباء على كاهل الزوج. ففي هذه المرحلة تنعم الزوجة بجميع حقوقها الاقتصادية والمدنية، بينما يتحمل الزوج وحده جميع الواجبات.
وكذلك الحال إذا انفصلت عرى الزوجية بالطلاق. ففي هذه الحالة يتحمل الزوج وحده جميع الأعباء الاقتصادية. فعليه مؤخر صداق زوجته، وعليه نفقتها من مأكل ومشرب ومسكن، مادامت في العدة، وعليه نفقة أولاده وأجور حضانتهم ورضاعتهم، وعليه نفقات تربيتهم بعد ذلك. ولا تكلف المرأة أي عبء اقتصادي في هذه الشؤون.
4- الأصل في المرأة هو القرار في البيت، وعملها خارج بيتها خروج عن هذا الأصل، فمهمتها الأساس أن تكون راعية لأسرتها مربية لأطفالها ، والشرع قد تكفل لها بضمانات تجعل بقاءها في بيتها عزا لها وكرامة ، ومن ذلك إيجاب النفقة على الرجل، وإسقاط بعض الواجبات التي تسلتزم الخروج كصلاة الجماعة، والجهاد، والحج إذا لم يتيسر لها محرم.
5- إن الإسلام يحث المسلم، ذكراً كان أو أنثى، على العمل، بالمفهوم الشرعي للعمل لا بالمفهوم المغلوط أو المستورد. كما أنه يعتبر العمل قيمة أساسية من قيمه، فالرجل عامل في طلب الرزق وبناء المجتمع، كما أن المرأة عاملة وراعية في بيتها وفي بناء أس مجتمعها، وهو الأسرة.
6- العفة وحفظ العرض، مبدأ شرعي كلي متضمن في المقاصد الشرعية لحفظ ورعاية الضرورات الخمس المجمع على اعتبارها, التي ترجع إليها جميع الأحكام الشرعية، وهي: حفظ الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال. وأي انتقاص لمبدأ العفة هو عدوان على الشريعة ومقاصدها، وانتهاك لحقوق المرأة والرجل، وإشاعة للفاحشة بين المؤمنين، وحفاظاً على هذا المبدأ العظيم حرم الإسلام الخلوة بالأجنبية، والاختلاط المستهتر، والخضوع بالقول، والسفر للمرأة بدون محرم ونحو ذلك، والمرأة قد تحتاج إلى العمل، أو يحتاج إليها المجتمع فتخرج، إلا أن هناك صعوبات تكتنف عمل المرأة؛ بسبب مخالفة العمل في بعض الأحيان لخصوصية المرأة، كالاختلاط، أو الخلوة، أو العمل خارج المدن مما يجعلها لا تأمن على نفسها؛ كما يشهد بذلك الواقع السيء لكثير من المستشفيات، أو توظيفها مندوبة مبيعات، أو سكرتيرة في الشركات أو المؤسسات.
7- أن العمل يجعل المرأة تفكر في الاستغناء عن الرجل، ومن ثم تتمرد على حقه في القوامة والولاية، مما يؤدي إلى فساد العلاقة بين الرجل والمرأة، وتمزق شمل الأسرة، ولذلك زادت نسب الطلاق، والعنوسة .
8- أن الأنثى ليست كالذكر في القدرة والتحمل لجميع مجالات العمل خارج المنزل؛ نظراً لطبيعتها، والواقع يشهد أن المرأة غالباً ترغب الجلوس في المنزل، ولكنها قد تخرج لسد حاجتها وحاجة أولادها، وبينت إحدى الدراسات أن حوالي 77% من النساء يفضلن البقاء في المنزل وعدم العمل إذا توفرت لهن الإمكانات المالية.
لأجل ما سبق ذكره من الأصول والثوابت، فإن هناك ضوابط عامة لمشاركة المرأة في التنمية، وضوابط خاصة لخروج المرأة للعمل، وهي على النحو التالي.
الضوابط العامة لمشاركة المرأة في التنمية:
تقوم مشاركة المرأة في تنمية مجتمعها، على مجموعة من المبادئ والضوابط الاجتماعية، التي تتوافق مع الشريعة الإسلامية وتتواءم مع مقتضيات العصر، ومن أهمها:
أ- تقسيم العمل:(12/92)
فقد شاركت المرأة المسلمة في المجتمع الأول ولكن بقدر، فالإسلام دين يتلاءم مع الفطرة، ولا يكلف نفساً إلا وسعها، فكلف الرجل بالجهاد – مثلاً – وأسقطه عن المرأة. والإسلام كلف الرجل والمرأة بإقامة أركان الدين، وأسقط بعضها عن المرأة إسقاطاً مؤقتاً، وبعضها إسقاطاً دائماً.
وبهذا التقسيم يكون الإسلام قد وزع العمل بين الرجل والمرأة، كل حسب قدرته، وهذا ما تؤكده الدراسات الاجتماعية في الوقت الحاضر.
وتفسير الإسلام لهذا التقسيم أن الناس – وإن كانوا متساوين في كرامتهم كأسنان المشط – إلا أنهم مختلفون من حيث القدرات، والمواهب، والمقدرة الجسمية، فالذي يصلح للقيام بعمل ما قد لا يصلح للقيام بعمل آخر. فتخصيص بعض الأعمال للمرأة، وتخصيص البعض الآخر للرجل ليس فيه انتقاص من قدر المرأة وكرامتها، ولكنه تقسيم عادل يعد ضرورياً لاستمرار المجتمع.
ب– التخصص:
إن المرأة تختلف عن الرجل من حيث التكوين (البيولوجي)، وهذا بدوره يفرض أعمالاً معينة تناسب كلاً منهما.
فكما أن الرجال لا يصلحون -مثلاً- للقيام بتربية الأطفال (حضانتهم ورعايتهم)، فإن النساء لا يصلحن -أيضاً- لقيادة المدرعات وإقامة الجسور، وحفر المناجم، وغيرها من المهن الشاقة، وإن كان هناك تجاوزات -في هذا الشأن- فإنها تتعارض مع طبيعة المرأة وفطرتها، قبل أن تتعارض مع الإسلام وأحكامه.
فالإسلام لا يريد أن يرهق المرأة من أمرها عسراً، وهذا ما أثبتته دراسات عديدة من أن قدرة المرأة على التحمل تقل كثيراً عن قدرة الرجل، وذلك في بعض الجوانب، أما في الجوانب التي اختصها الله به، كالحمل والإرضاع ورعاية شؤون الأبناء والمنزل - وغيرها من الأمور - فلها قدرة أعلى من الرجل.
وهذا لا يقلل من إمكانات المرأة في مشاركتها تنمية مجتمعها، فالأمور التي تقوم بها في المنزل، من رعاية الأبناء والزوج وتوفير الاستقرار النفسي والاجتماعي، ليست بالمهمة السهلة التي يتصورها البعض.
ج – اختلاف القدرات :
نتج عن اختلاف التكوين البيولوجي للرجل والمرأة اختلاف في قدراتهما، فبالرغم من أن عقلية المرأة تقل عن عقلية الرجل، إلا أنهما في أمر التعليم والتأهيل متساويان، فكلاهما يحصل على نصيبه من التعليم، فيُعَدُّ كل منهما لما يناسبه من التخصصات، فتلتحق المرأة بالتخصصات التي تُعِدُّها لتتولى أعمالاً تتناسب مع طبيعتها الفطرية، حيث يرتبط التعلم بنوع العمل الذي يعد له الفرد - في ضوء احتياجات التنمية - في أي مجتمع من المجتمعات.
وهذا ما أكدته دراسات أجريت على نساء في الدول المتقدمة (أمريكا - كندا - بريطانيا - اليابان)، حيث كان التحاقهن بالتخصصات المهنية والتقنية ضعيف جداً، بعكس التخصصات النظرية، والاجتماعية، والخدمية، فقد كان عالياً، بالرغم من الحرية والمساواة التامة التي تتمتع بها المرأة هناك.
ولذا فإن الأمر يقتضي ضرورة إعادة النظر في خطط تعليم المرأة، بحيث تتفق مع طبيعة المرأة من ناحية، وظروف المجتمع واحتياجات التنمية من ناحية أخرى، دون أي تعدٍ على خصوصية المرأة.
الآراء المتداولة حول عمل المرأة:
الرأي الأول:
ونظرته هي السائدة الآن في وسائل الإعلام، وتتبنى النظرة الغربية للمرأة، وتعمل هذه الوسائل على تعميقها، وتقوم على أن عمل المرأة خارج منزلها هو العمل الحقيقي، وأن بقاءها في البيت تعطيلاً وتهميشاً لقدراتها، وينادي أصحاب هذه الرؤية بأن تقتحم المرأة سوق العمل بقوة، انطلاقاً من المفهوم المغلوط للمساواة التامة بين الرجل والمرأة دون أي قيود، كما أن سلبيات خروجها تغيّب، ولا يشار إليها، وفي هذا مغالطة صريحة للواقع الذي تعيشه المرأة الموظفة، ومخالفة لطبيعة المرأة الفسيولوجية.
كما أن أصحاب هذا الرأي يعتبرون الدين والقيم المنبثقة منه عائقاً أمام عمل المرأة واستثماراتها المالية (كتحريم الاختلاط، والخلوة، والسفر من دون محرم) [1]. ولذلك هم يقللون، بل ويسخرون من الأعمال التي تتوافق مع طبيعة المرأة (كتعليم البنات، والخياطة), ويفاخرون بالأعمال الأخرى التي فيها مخالفات شرعية ولا تتوافق مع طبيعتها (كأول مخرجة سينمائية، وأول قائدة طائرة، وأول مذيعة أخبار في التلفاز..الخ)، مما لا يتوافق مع طبيعة المرأة المسلمة ولا قيم المجتمع السعودي.
ومما يطرح في الساحة اليوم - من أصحاب هذه الرؤية -، الدعوة إلى مساواة المرأة بالرجل، والدعوة إلى فتح مجالات جديدة لعمل المرأة؛ كفتح مجالات التدريب والتعليم المهني للنساء، وكالعمل في الدفاع المدني، والشرطة، والمحاكم الشرعية، والبلديات، والغرف التجارية الصناعية، ومكاتب العمل والعمال، والمقاولات المعمارية، والأعمال الإعلامية (كالتمثيل، والمسرح، والإخراج، وغير ذلك)، والأعمال المهنية (كالسباكة، والهندسة الكهربائية، والنجارة، ونحو ذلك)، والعمل في المصانع، والعمل مضيفة في الطائرة، والسماح لمن يسمّين (سيدات الأعمال) بمقابلة الوفود التجارية، والسفر إلى الخارج، والسماح للنساء بالبيع في المحلات التجارية، وغير ذلك من الأعمال، التي تخالف طبيعة وفطرة المرأة، أو تعرض للمرأة للمخاطر بدخولها على البيوت مع خلو تلك البيوت من النساء، أو تعرض النساء إلى الخلوة المحرمة، أو البقاء في مكان العمل في أوقات غير مناسبة؛ كالوقت المتأخر من الليل، أو العمل في أماكن بعيدة عن التجمعات السكانية، أو تعريضها للاختلاط؛ وكان يجب الاستفادة من تجارب الدول التي اقتحمت المرأة فيها العمل بقوة، ودون ضوابط أصبحت تتعرض لتحرشات غير أخلاقية في أماكن العمل والدراسة والمنتديات وفي الشوارع.(12/93)
السلبيات المترتبة على هذه الرؤية :
من المسلم به أن خروج المرأة من بيتها للعمل قد سبب أضراراً مختلفة على المرأة، والأسرة، والمجتمع، أضراراً وسلبيات اجتماعية، وأخلاقية، واقتصادية، ونفسية، وصحية، ويمكن إيجازها بالأمور التالية:
1- إهمال الأطفال من العطف والرعاية. إذ لا شك أن عملية التربية تقوم على الحب والصدق والملاحظة طول الزمن، وبدون ذلك لا تتحقق التربية. ومحاضن الرضع والأطفال عند الآخرين، تظهر أنها لا تحقق للأطفال ما يتحقق لهم في بيوتهم؛ لأن المربية في المحضن مهما كانت على علم وتربية فإنها لا تملك قلب الأم.. فلا تصبر، ولا تحرص، ولا تحب كما تفعل الأم.
ومما يؤكد ذلك ما أشارت إليه عالمة غربية، حيث تقول: (( وخلال عملي ومن خبرتي كنت أجد الأطفال ذوي المشاكل النفسية، هم الذين عانوا حرماناً عاطفياً كبيراً في طفولتهم المبكرة؛ بسبب غياب أمهاتهم الطويل في أعمالهن، ولا يخفى أن الأم بعد عودتها من عمل يوم طويل مضن في أشد حالات التوتر والتعب؛ مما يؤثر على تعاملها مع طفلها مزاجياً وانفعالياً)).
فهل يوازي ما يخسره الأولاد من عطف الأمهات وعنايتهم ما تعود به الأم آخر النهار من دريهمات؟؟.
كما أن المرأة التي تخرج إلى العمل في المجتمعات التي تخالط الرجال فيه، وقد تخلو بهم، يؤدي ذلك إلى أضرار على سمعتها وأخلاقها.
2-من الأضرار أن المرأة التي تعمل خارج البيت تحتل - في كثير من الحالات- مكان الرجل المكلف بالإنفاق شرعاً على المرأة، وقد يكون هذا الرجل زوجها أو أخوها، ثم هي تدع في بيتها مكاناً خالياً لا يملؤه أحد.
3- إن المرأة التي تعمل خارج البيت تفقد أنوثتها، ويفقد أطفالها الأنس والحب.
قالت إحدى أعضاء الحركات النسائية – وقد زارت أمريكا-: (( من المؤسف حقاً أن تفقد المرأة أعز وأسمى ما مُنحت – وأعني أنوثتها – ومن ثم سعادتها؛ لأن العمل المستمر المضني قد أفقدها الجنات الصغيرات التي هي الملجأ الطبيعي للمرأة والرجل – على حد سواء -، التي لا يمكن أن تتفتح براعمها ويفوح شذاها بغير الأم وربة البيت. ففي الدور وبين أحضان الأسرة سعادة المجتمع، ومصدر الإلهام وينبوع الخير والإبداع)).
4- إن المرأة إذا خرجت من بيتها للعمل فستعتاد الخروج من البيت – ولو لم يكن لها عمل كما هو ملاحظ -، وبالتالي سيستمر انشطار الأسرة وانقطاع الألفة بين أفرادها، ويقل ويضعف التعاون والمحبة بين أفرادها – كما هو حال البلاد الغربية وقد كادت الأسرة تنهار كلياً.
5- الآثار الصحية المترتبة على خروج المرأة، وتتمثل في أن عمل المرأة خارج المنزل، ولساعات طوال، يعرض المرأة لأنواع من الأمراض، يأتي في مقدمتها الصداع، فقد أكد رئيس نادي الصداع - الذي يشكل النساء فيه الغالبية العظمى - أن الصداع خمسة أنواع، وأن المرأة تتفوق على الرجل بأكثر من أربعة أنواع. وللصداع أسباب يأتي في مقدمتها العمل.
وهذه طبيبة نمساوية تقول: ((كنا نظن أن انخفاض نسبة الولادات بين العاملات ترجع لحرص المرأة العاملة على التخفف من أعباء الحياة في الحمل والولادة والرضاع تحت ضغط الحاجة إلى الاستقرار في العمل، ولكن ظهر من الإحصائيات أن هذا النقص يرجع إلى عقم استعصى علاجه. ويرجع علماء الأحياء سبب ذلك إلى قانون طبعي معروف، وهو أن الوظيفة توجد العضو، وهذا يعني أن وظيفة الأمومة أوجدت خصائص مميزة للأنوثة، وإنها لابد أن تضمر تدريجياً بانصراف المرأة عن وظيفة الأمومة؛ بسبب اندماجها مع عالم الرجال)).
6- الأثر النفسي : فإن عمل المرأة وخروجها من البيت، وتعاملها مع الزميلات والرؤساء، وما يسببه العمل من توتر ومشادات - أحياناً -، يؤثر في نفسيتها وسلوكها، فيترك بصمات وآثاراً على تصرفاتها، فيفقدها الكثير من هدوئها واتزانها، ومن ثم يؤثر بطريق مباشر في أطفالها وزوجها وأسرتها.
إن نسبة كبيرة من العاملات يعانين من التوتر والقلق الناجمين عن المسؤوليات الكبيرة الملقاة على عاتقهن، والموزعة بين المنزل والأولاد والعمل؛ لذا فإن بعض الإحصاءات ذكرت أن 76% من نسبة الأدوية المهدئة تصرف للنساء العاملات.
أما الاكتئاب النفسي ، فقد قام أحد معاهد الصحة النفسية العالمية بإحصاء توصل فيه إلى أن الأرق والاضطراب والانفعال المستمر، أدى إلى أن أصبحت الحبوب المنومة والمهدئة جنباً إلى جنب مع أدوات الزينة في حقائب النساء. وتقول الكثيرات إن حياتهن الزوجية أصبحت لا تطاق، والكلمة التي تواجه بها الزوجة زوجها حين العودة من العمل (اتركني فإني مرهقة)، حتى علاقتها مع أولادها صار يسودها الانفعال والقسوة وارتفاع الصوت والضرب الشديد.
فقد نشرت مجلة (هيكاسا جين) الطبية أنه لا يكاد يوجد مستشفى أطفال في أوربا وأمريكا إلا وبه عدة حالات من هؤلاء الأطفال المضروبين ضرباً مبرحاً.
7- الهدر الاقتصادي، ويتمثل ذلك في ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن المرأة مجبولة على حب الزينة والتحلي بالثياب والمجوهرات وغير ذلك، فإذا خرجت المرأة للعمل كل يوم، فكم ستنفق من المال على ثيابها وزينتها؟ لا شك أن الإنفاق على أدوات الزينة وخلافها سيبلغ رقمه – على مستوى الدولة – ملايين الدولارات - كما أثبتت ذلك الإحصاءات المتعلقة بهذا الجانب -، فماذا نطلق على هذا؟؟ أليس هدراً اقتصادياً لا تستفيد الأمة منه بشيء؟؟.(12/94)
الأمر الثاني: أن المرأة أقل عملاً وإنتاجاً من الرجل، وأقل منه رغبة في الطموح، والوصول إلى الجديد؛ ذلك أن ما يعتريها من العادة الشهرية، وأعباء الحمل والوضع، والتفكير في الأولاد، ما يشغلها حقاً أن توازي الرجل في عمله، ويعوقها عن التقدم بالعمل. والنادر من النساء لا ينقض القاعدة.
الأمر الثالث: الزيادة في نفقات المعيشة، رغبة في زيادة مستوى الأسرة، حيث دفع هذا الأمر بالمرأة إلى النزول إلى ميدان العمل للمشاركة في إعالة الأسرة ومساعدة الزوج في تحمل مسؤوليات المعيشة. وبما أن الحياة الحضرية تتطور فيها السلع والخدمات بشكل مستمر، فإن دخل الأسرة مهما نال من تحسين أو زيادة لا يمكن أن يفي بهذه المطالب المتجددة، وهكذا أصبحت الأسرة الحضرية تتجه نحو الاستهلاك المتزايد، وأصبحت ظاهرة الاستهلاك من الظواهر التي تهدد الأسرة دائماً بالاستدانة، أو استنفاد مدخراتها أولاً بأول.
8- لخروج المرأة أثر في انخفاض معدلات الخصوبة والإنجاب في الأسرة، وارتفاع معدلات الطلاق، حيث يرتفع الطلاق بشكل واضح في أغلب المجتمعات الصناعية؛ نظراً لشعور المرأة بالاستقلال الاقتصادي، فلا تتردد في قطع علاقتها الزوجية، إذا لم يحقق لها الزوج السعادة التي تنشدها.
9- أخيراً فإن المطالبة بخروج المرأة للعمل يمثل تهديداً أمنياً واقتصادياً للدولة، ذلك لأن أطروحات المطالبة بتوظيف النساء تضغط على وتر حساس، والدولة مهما كانت إمكاناتها لا يمكن أن تستطيع توفير فرصاً وظيفية لهذه الأعداد الكبيرة من النساء والرجال، فاعتبار العمل خارج المنزل من حقوق المرأة التي تطالب الدولة بتوفيرها سيفتح عليها باب يصعب إغلاقه فيما بعد، فيكون معول هدم يهدد أمن هذه البلاد.
[1] كما ورد في دراسة قدمتها الهيئة العامة للاستثمار في المملكة العربية السعودية، في شهر ربيع الأول 1424هـ، بعنوان " معوقات الاستثمارات النسائية في المملكة العربية السعودية" ص74 وما بعدها، ص88
إحصاءات سريعة:
أجريت استبانة على مجموعة من النساء الأمريكيات حول المساواة وعمل المرأة، فكانت الإجابة:
* 87% قلن : لو عادت عجلة التاريخ للوراء لاعتبرنا المطالبة بالمساواة مؤامرة اجتماعية ضد الولايات المتحدة وقاومنا اللواتي يرفعن شعاراتها!
* 80% يجدن صعوبة بالغة في التوفيق بين مسؤولياتهن تجاه العمل ومسؤولياتهن تجاه الزوج والأولاد.
* 87% من العاملات من 85 مليون امرأة يفضلن البقاء في المنزل من نساء أوربا وأمريكا واليابان وكندا.
* 12مليون حالة طلاق بسبب عمل المرأة 85% منها في الغرب.
* في الولايات المتحدة في عام واحد: 5600 طفل دخلوا المستشفى بسبب ضرب أمهاتهم العاملات لهم، غالبهم تعرض لعاهات بسب الضرب.
* أثبتتِ الدراساتُ أنّ العديدَ من السيّداتِ الأمريكيّاتِ الطموحاتِ مقتنعاتٌ بإمكانيّةِ تأخيرِ سنِّ الحملِ إلى الأربعين، لتحقيقِ طموحاتهنَّ في العملِ!!.. ويقولُ العلماءُ إنّه كلّما تقدّم العمرُ تعذّرَ علاجُ العقم، وتعذّرتِ مساعدةُ المرأةِ على الإنجاب، كما في حالةِ انسدادِ أنابيبِ المبيض.. وتصلُ نسبةُ الحملِ للسيّداتِ اللاتي يبلغُ عمرُهنَّ الأربعينَ إلى 10% فحسب، حيثُ يصبحُ نصفُ البويضاتِ في هذه السنِّ غيرَ طبيعيٍّ من ناحيةِ الكروموزومات، ويتضاعفُ عددُ البويضاتِ غيرِ الطبيعيّةِ إلى 90% عندَ سنِّ 42 عاما!
وأجريت دراسةٌ على 1647 سيّدةً من السيداتِ الناجحاتِ في عملهنّ، من بينهنَّ 1168 امرأةً تحصلُ على دخلٍ يزيدُ بمقدارِ 10% مقارنةً بالسيّداتِ في نفسِ أعمارِهنّ، أو سيّداتٍ حاصلاتٍ على درجاتٍ علميّةٍ في مجالي الطبِّ والقانون.. وكانتِ النتيجةُ أنَّ 42% من السيّداتِ الناجحاتِ في الشركاتِ الأمريكيّةِ ما زلنَ بدونِ أطفالٍ بعدَ سنِّ الأربعين، وارتفعت هذه النسبةُ إلى 49% بينَ النساءِ اللاتي تحصلنَ على 100 ألف دولار أو أكثر.
وقد أوضحَ آخرُ تعدادٍ للسّكانِ في (أمريكا) أنّ حالاتِ العقمِ في تضاعفٍ مستمرّ في السنواتِ العشرينَ الأخيرة، فثمَّ امرأةٌ بينَ كلِّ خمسِ سيّداتٍ تتراوحُ أعمارُهنَّ بينَ الأربعينَ والخمسينَ بدونِ أطفال!!!
الرأي الثاني:
وهو النظر لعمل المرأة من منظور شرعي، ينطلق من الأصول والثوابت التي ذكرت في أول هذه الورقة، ويتلخص في أن المرأة لها خصوصيتها الدينية، والنفسية، والجسدية، والعاطفية، والاجتماعية، وأن النفقة واجبة للمرأة على وليها والقائم بشؤونها (أباً كان أو زوجاً أو نحوه)، وأن الأصل قرار المرأة في بيتها ورعايتها لشؤون المنزل والأبناء والزوج، وأن الإسلام أباح لها العمل إذا احتاجت لذلك، أو احتاج إليها المجتمع، لتعليم بنات جنسها، وتطبيبهن ونحو ذلك، في إطار تلك الخصوصية.
ولأهمية الأمر، لا بد من الإشارة إلى مغالطة شائعة في مفهوم العمل، عند الحديث أو المطالبة بعمل المرأة، حيث يطلق عليه لقب" الأجير الخاص"، وهو:العمل مدفوع الأجر، أو "تلك الأعمال التي تمارسها المرأة حال كونها أجيرة لشخص لا تربطها به إلا الروابط المادية". فلا يحتسب من العمل -مثلاً- تلك الأعمال التي تمارسها المرأة في بيتها، من تربية للأبناء، أو حسن تبعل للزوج، أو رعاية للوالدين ونحو ذلك. وغالباً ما توصم المرأة غير الأجيرة بأنها عاطلة، وبأن عدم دخول المرأة "سوق العمل" أجيرة يعتبر تعطيلاً لنصف المجتمع. وهذه مغالطة، انطلت على كثير من الناس، حتى أصبح الخيار في حس المرأة, هو أن تكون "عاملة" خارج بيتها أو تكون "عاطلة" في بيتها، والصحيح أن الخيار هو إما أن تكون "عاملة أجيرة"، أو تكون " عاملة حرة ".(12/95)
إن الخلل في هذا المفهوم يدفع المرأة لتضغط على نفسها، وعلى أسرتها، وعلى مجتمعها؛ لتتحول من كونها عاملة حرة في بيتها؛ لتكون أجيرة خارج بيتها، مما يؤدي إلى كثير من الأضرار - سبق ذكرها -.
ولقد أثبتت الأرقام الاقتصادية التفصيلية في أحد تقارير الأمم المتحدة في أوائل الثمانينيات الميلادية {أن خروج المرأة للعمل أجيرة يكلف مجتمعها 40% من الدخل القومي}. وذلك خلافا لما يروج له من أن خروجها للعمل أجيرة يدعم الاقتصاد و الناتج المحلي، كما أن التقرير ذاته يقول في فقرة أخرى منه { لو أن نساء العالم تلقين أجوراً نظير القيام بالأعمال المنزلية لبلغ ذلك نصف الدخل القومي لكل بلد}.
وقد قامت مؤسسة مالية في الولايات المتحدة بدراسة عمل الأم في المنزل (كالتربية، والطبخ، والإدارة المالية، والعلاج النفسي للأسرة..إلخ)، ومحاولة تقديره بحسابات مادية على الورق، فوجدت أن الأم تستحق أجراً سنوياً يصل إلى 508 آلاف دولار، وقال المحلل المالي لهذه المؤسسة: ((حيث إن الأم تعمل 24 ساعة مستمرة يومياً، توصلنا إلى أنها تستحق أجر وقت دائم سنوي، يساوي أجر 17وظيفة مهمة)).
ولأجل هذا يجب إبراز دور المرأة والأم في المنزل، وأنه لا يمكن تعويض غياب الأم في المنزل بأي حال من الأحوال.
* ضوابط عمل المرأة في الإسلام:
في الحالة التي يباح فيها للمرأة بالعمل خارج البيت، لا يصح أن يكون ذلك حسب ما تريده وتهواه، بل إن الأمر مقيد بضوابط وضعها الإسلام؛ حتى يحفظ للمرأة كرامتها، وهذه الضوابط هي:
1- أن يأذن لها وليها – زوجاً كان أم غير زوج – بالعمل، وبدون موافقة وليها لا يجوز لها العمل؛ لأن الرجل قوام على المرأة، إلا إذا منعها نكاية بها وظلماً مع حاجتها للعمل، فلا إذن له.
2- ألا يكون هذا العمل الذي تزاوله صارفاً لها عن الزواج - الذي حث عليه الإسلام وأكده- أو مؤخراً له بدون ضرورة أو حاجة.
3- كما أن الإسلام يحث على الإنجاب وكثرة النسل، فلا يجوز للمرأة المسلمة أن تجعل العمل صارفاً لها عن الإنجاب بحجة الانشغال بالعمل.
4- ألا يكون هذا العمل على حساب واجباتها نحو زوجها وأولادها وبيتها، فعمل المرأة أصلاً في بيتها، وخروجها للعمل لا يكون إلا لحاجة وضرورة.
5- ألا يكون من شأن هذا العمل أن يحملها فوق طاقتها.
6- أن يكون عملها لحاجة، وتكون هي في حاجة للعمل، إذا لم يكن هناك من يقوم بالإنفاق عليها من زوج أو ولي، وأما إذا كان هناك من يقوم بالإنفاق عليها، فليست في حاجة للعمل، وإذا لم تكن في حاجة، فلا داعي أن تعمل، إلا إذا كانت هناك مصلحة عامة تستدعي العمل، مثل أن يكون عملها من قبيل فروض الكفاية، كتدريس بنات جنسها ووعظهن، ومعالجتهن، أو أي عمل آخر يتطلب تقديم خدمة عامة للنساء. أو يكون من وراء عملها مصلحة خاصة، كإعانة زوج، أو أب، أو أخ.
7- كما أنه من الضوابط أن يكون عمل المرأة مشروعاً، والعمل المشروع: ما كان متفقاً مع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، مثل: البيع والشراء، والخياطة، والتعليم، والتعلم، ومزاولة الطب – خاصة أمراض النساء -، والدعوة إلى الله، وغير ذلك من الأعمال المشروعة. وأما الأعمال غير المشروعة، فهي: كل عمل ورد النهي بخصوصه في الشريعة الإسلامية. ومثاله: عمل المرأة في المؤسسات الربوية، ومصانع الخمور، والرقص والغناء والتمثيل المحرم، ومزاولة البغاء، وأي عمل يكون فيه خلوة أو اختلاط محرمان، كالعمل مضيفة طيران، أو سكرتيرة خاصة لرجل ليس محرماً لها.
8- أن يتفق عمل المرأة مع طبيعتها وأنوثتها وخصائصها البدنية والنفسية، مثل الأعمال المشروعة التي ذكرت آنفاً. وأما الأعمال التي لا تتفق مع طبيعتها ولا أنوثتها، مثل: العمل في تنظيف الشوارع العامة، وبناء العمارات، وشق الطرق، والعمل في مناجم الفحم، وغيرها من الأعمال الشاقة، فلا يجوز لها أن تمارسها؛ لأن ممارستها يعتبر عدواناً على طبيعتها وأنوثتها، وهذا لا يجوز.
9- من الضوابط - أيضاً - أن تخرج للعمل باللباس الشرعي الساتر لجميع جسدها، بأوصافه وشروطه، وأن تغض بصرها.
ومن شروط اللباس الشرعي:
* أن يكون ساتراً لجميع البدن .
* أن يكون كثيفاً غير رقيق ولا شفاف.
* ألا يكون زينة في نفسه، أو ذا ألوان جذابة يلفت الأنظار .
* أن يكون واسعاً غير ضيق، فلا ُيجسِّم العورة، ولا يظهر أماكن العورة * ألا يكون معطراً فيه إثارة للرجال .
* ألا يكون اللباس فيه تشبه بالرجال .
* ألا يشبه لبس الكافرات .
* ألا يكون لباس شهرة – وهو كل ثوب يقصد به الاشتهار بين الناس، سواء أكان الثوب نفيساً أو يلبس إظهاراً للزهد والرياء).
10- أخيراً من الضوابط لعمل المرأة ألا تخالط الرجال الأجانب، فلا يجوز للمرأة العاملة أن تخالط الرجال الأجانب، وأي عمل يقوم على المخالطة يعتبر عملاً محرماً، لا يرضاه الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم .
فإذا ما توفرت هذه الشروط جاز للمرأة للمسلمة العمل، وإلا فلا.
مقترحات للرقي بعمل المرأة :
إن عمل المرأة في بلادنا يتركز معظمه في مجال تعليم البنات، وتبلغ النسبة 84% - حسب إحصائية وزارة الخدمة المدنية عام 1422هـ - من النساء السعوديات العاملات، وما زال هناك إقبال شديد على هذا التخصص؛ لمناسبته الشديدة لظروف المرأة، دون أن يكون هناك وظائف شاغرة تغطي الطلبات.(12/96)
ومن الاقتراحات التي تطرح لحل مثل هذه القضية تقليل عدد الأيام، فتكون المرأة تعمل ثلاثة أيام في الأسبوع فقط مع خفض الرواتب، وفي هذا بقاء للمرأة في منزلها أكبر فترة ممكنة، وتوفير للوظائف من جهة أخرى، كما ينبغي العمل بنظام التقاعد المبكر، ويكون اختيارياً، وأما من حيث الإجازات: فنرى إعادة النظر في إجازة الأمومة فيكون من حق الموظفة أن تأخذ ثلاثة أشهر براتب كامل، وستة أشهر بنصف الراتب، وسنتين بدون راتب، وكذلك توفير أماكن حضانة للأطفال الرضع، خاصة بعد إلغاء - للأسف - ساعة الرضاعة التي كانت تمنح للمعلمة لإرضاع طفلها.
وفي مجال الطب يعزف كثير من النساء عن الالتحاق بكليات الطب، أو يعزف الرجال عن الزواج بطبيبات؛ بسبب نظام الاختلاط المزري بالمستشفيات، وبسبب سوء نظام دوام وعمل الطبيبات، ولو طبق المقترح السابق، وأصبحت المرأة لا تعمل إلا بنصف عدد الساعات لازداد استيعاب عدد أكبر من الطبيبات، وتوفرت فرص وظيفية للمرأة، خاصة إذا حلت مشكلة الاختلاط - سيأتي ذكر ذلك في الفقرة التالية -.
وكذلك من الاقتراحات حق الموظفة في العودة إلى عملها بعد الانقطاع عنه لظروف الأسرة، وهذا من شأنه أن يجعل المرأة تستطيع أن توازن، فتعمل إذا تهيأت ظروفها، وتترك إذا لم تستطع ذلك؛ لظروف بيتها وأولادها.
توفير فرص عمل مناسبة للمرأة :
ابتداء نؤكد على أن الأصل بقاء المرأة في منزلها، ثم إذا أراد المرأة العمل لحاجة أو ضرورة، فإن هناك أفكاراً وفرصاً للعمل تضمن للمرأة خصوصيتها، وتقلل السلبيات المترتبة على العمل، ومن ذلك:
المكتب المنزلي، وهي فكرة تحقق لمن ترغب من النساء أن تمارس عملاً ما في بيتها، أو تمارس مشاريع استثمارية صغيرة، وفي نفس الوقت ترعى أسرتها. وهذا النوع من العمل منتشر في أمريكا وأوربا، وقد أوجد في أمريكا – وحدها – 41 مليون فرصة عمل، ويحقق العاملون والعاملات منه عوائد جيدة.
بل كشفت دراسة أجريت في اكتوبر عام 1996م أن ما يقرب من 46 مليون من أصحاب الأعمال المنزلية في أمريكا معظمهم من النساء يعملون من أجل إيجاد موازنة أفضل بين العمل والأسرة، ويكسبون دخلاً أكثر من دخل أصحاب المكاتب.
كما جاء في تقرير للأمم المتحدة عام 1985م أن النساء في الدول الصناعية يساهمن بأكثر من 25_40%من منتجات الدخل القومي بأعمالهن المنزلية.
ويمكن تفعيل هذه الفكرة بأمور كثيرة، حيث هناك دراسات تضمنت اقتراحات جديرة بالاهتمام والتفعيل، حيث أوصت ببعض الأعمال التي يمكن للمرأة أن تمارسها وهي داخل منزلها، من تلك الأعمال:
استخدام المرأة للحاسب الآلي وشبكة المعلومات "الإنترنت"، كأعمال ( الطباعة، السكرتارية، مساعدة إدارية - تخطيط - تحرير صحافي - معالجة إدخال بيانات - تحليل مالي - باحثة إنترنت - تدقيق لغوي - مبيعات وتسويق - ترجمة لغات - معالجة نصوص - إعلانات - تصميم فني - تصميم ديكور ).
وكذلك من الأعمال تفصيل ملابس رجالية أو نسائية، حيث يكون هناك مكتب يستقبل الطلبات، وتحت هذا المكتب موظفات توزع عليهن أدوات الخياطة، ويطلب منهن تفصيل نوع معين من اللباس، ويمكن أن تطبق بنجاح في اللباس الموحد، وتصنيع الأدوات الخفيفة؛ كالمكياج، والعطور، ونحوها، وتأجير أدوات الحفلات، أو الرحلات أو الملابس، أو بيعها، وكذلك بعض الصناعات التقليدية، أو الرسومات غير المحرمة، وغيرها من المهن التي تناسب طبيعة المرأة وهناك تجارب محلية ناجحة تدير فيها المرأة عملها من بيتها، وتجري تحقيقات، ودراسات مهمة من خلال التواصل عبر الأجهزة المختلفة.
وأما من حيث الأعمال التي تكون خارج المنزل، فإن هناك أعمالاً تتوافق مع طبيعة المرأة، وليس فيها مخالفة للشرع المطهر، ومن ذلك:
الأعمال الاجتماعية : فهناك نقص شديد في هذه الأعمال، كمكاتب الاستشارات الاجتماعية والشرعية، ودور التوجيه والإرشاد الشرعي والنفسي، ودور الرعاية الاجتماعية، ومراكز التنمية الريفية، وهي أعمال متعلقة بالنساء، وفيها فرص وظيفية كثيرة.
المستشفيات : حيث إن الإحصاءات تثبت أن نسبة العاملات في الوظائف الصحية لا تتجاوز 4,7% من الوظائف، مما يعني توفر عشرات الآلاف من الوظائف الطبية النسائية في هذا القطاع، ويبقى - حتى تقبل النساء على هذه الوظائف - القضاء على مشكلة الاختلاط في هذه المستشفيات، وذلك بتوفير المستشفيات النسائية الحكومية، التي لا يعلم لماذا لم ترى النور حتى هذه اللحظة، رغم توفر كوادر طبية نسائية في مختلف التخصصات الطبية؟!، أو على الأقل إقامة أقسام نسائية متكاملة في كل مستشفى، وكذلك تشجيع المستشفيات النسائية الخاصة ودعمها في سائر مناطق المملكة، وهناك تجارب ناجحة في هذا المضمار.
التعليم : وذلك في الجامعات والكليات، والمدارس الخاصة، والمدارس الحكومية في القرى. فقد أثبتت الإحصاءات الصادرة من وزارة الخدمة المدنية/ مركز المعلومات، أن نسبة مشاركة المرأة في قطاعات العمل الحكومي بالنسبة لأعضاء هيئة التدريس والمحاضرين والمعيدين من النساء تبلغ فقط 1،5%، من أعداد النساء العاملات، وهي نسبة ضئيلة جداً، فيجب توجيه النساء إليها؛ لتغطية هذا القطاع النسائي المهم.(12/97)
الأسواق النسائية الخاصة : فينبغي تفعيل هذه الأسواق، وتحويل كثير من الأسواق المختلطة إلى أسواق نسائية؛ للقضاء على كثير من السلبيات الموجودة حالياً في الأسواق، مثل المعاكسات، وحالات الإركاب غير المشروع، والتبرج والسفور من قبل بعض ضعيفات النفوس، وكذلك الحرج التي تلاقيه كثير من النساء عند شراء حاجياتهن الخاصة، وغير ذلك من السلبيات، وكذلك توفير فرص وظيفية لوجود بائعات سعوديات تتوفر لهن الخصوصية التامة. مع التنبيه إلى الإغلاق المبكر لهذه الأسواق، وهذا الأمر ليس بدعاً، وإنما هو موجود في كثير من بلاد العالم. وينطبق الحديث السابق على الحدائق وأماكن الترفيه النسائية.
المشاغل النسائية : وهي تقوم بأعمال تخالف ما افتتحت من أجله، وأصبحت تسبب قلقاً أمنياً، وأخلاقياً، واجتماعياً، واقتصادياً، وفكرياً - بل وصحياً – على النساء، وبالتالي على المجتمع؛ بسبب تواجد عمالة نسائية من غير نساء البلد، بل وغير مسلمات، وللقضاء على هذه المشكلة يقترح منع توظيف غير السعودية؛ حتى تحل مشكلتان في نفس الوقت، ويكفي أن يعلم أن في الرياض وحدها - على سبيل المثال - أكثر من 3500 مشغل، كما ذكر ذلك في إحدى الصحف المحلية.
وكذلك يقترح في هذا الجانب فتح معاهد نسائية لتعليم الفتيات فن التجميل والعناية بالبشرة؛ حتى تستغني الفتيات عن الذهاب إلى مثل هذه الأماكن المشبوهة، مع تيسير قروض لخريجات معهد الخياطة.
تعزيز الإيجابيات : من الإيجابيات الملحوظة على عمل المرأة في بلادنا تساوي المرأة مع الرجل في الأجر عند تساوي عدد ساعات العمل والاعتبارات الأخرى، وهذه إيجابية ينبغي أن تعزز، كما أن من الإيجابيات الخصوصية التي تحظى بها المرأة الموظفة في أماكن كثيرة، وكذلك توفر جو العمل المناسب، وهو أمر يستحق الإعجاب والتقدير، ويجب المحافظة عليه، وهناك تصريحات من نساء غربيات يثنين فيها على وضع المرأة السعودية - بعد زيارتهن للمملكة - في جميع شؤون حياتهن التعليمية والاجتماعية والأسرية والأخلاقية، حيث اعتبرن أن وضعية المرأة السعودية هي النموذج المثالي للمرأة في المجتمعات الإسلامية - بل والعالمية -، وأن المرأة السعودية قادرة على الجمع بين الالتزام بحجابها، وقدرتها على متابعة التحصيل العلمي والعملي.
فيجب أن نتمسك بهذا التميز، ولا نكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً.
وفي الختام : يجب توعية المجتمع حول أن الأصل للمرأة هو القرار في البيت إذا اختارت ذلك، ونحو ذلك من القضايا التي تطرح في الصحف من زاوية واحدة تثير المرأة السعودية التي تختار البيت، وتحب رعاية الأطفال، وقد طرح عدد من الفتيات يشكلن نسبة 53%تقريبا من عدد خريجات بلغن مائة طالبة شكواهن من نظرة المجتمع السلبية لهن بعد التخرج إذا اخترن البقاء في البيت.
كما ينبغي التركيز على أن العلم والتعليم خاصة بالنسبة للمرأة يفترض أن يكون للرقي بمستوى المرأة العلمي والثقافي، وقبل ذلك الديني، ورفع الجهل عنها وإعدادها لتكون أما صالحة قادرة على إنشاء جيل يتحمل مسؤولية النهوض بأمته.
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
===============
الدعوة فضلها وأساليبها
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المعز المذل الذي أعز أولياءه المؤمنين في الدنيا والآخرة، وأيدهم بنصره المبين، فهو حسبهم وكفى بالله حسيباً.
وأشهد أنَّ محمداً عبد الله ورسوله وخليله وأمينة، وخيرته من خلقه وسفيرهُ بينه وبين عباده، بعثه الله بالدين القويم، والمنهج المستقيم، وأرسله رحمةً للعالمين، وإماماً للمتقين، أرسله الله على حين فترةٍ من الرسل فهدى به إلى أقوم الطرق وأوضح السبل، اللهم صلى وسلم على هذا النبي الكريم، وأرضي اللهم عن صحابته أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتابُ الله تعالى، وخير الهدى هدي محمدٌ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلاله وكلَّ ضلالةٍ في النار: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً )) (النساء:1).
أيها المسلمون : إنَّ الدعوة إلى الله تعالى هي سبيل الأنبياء والمرسلين، ومن دعى بدعوتهم إلى يوم الدين، من العلماء الناصحين، الدعاة الصادقين، قال عز وجل عن رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) (يوسف:108).
دعوةٌ واحدةٌ مستقيمة لا عوج فيها ولا شك ولا شبهة، تستمدَّ قوتها ونصرها من القوي العزيز، فنعم المولى ونعم النصير، فالرسل عليم السلام دعاةٌ إلى التوحيد وإخلاص العمل لرب العالمين، ((رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً )) (النساء:165).(12/98)
وذلك أن الفطر قد تتغير فينحرف بعض الناس إلى عبادة غير الله أو تحكيم الطاغوت، والمحاكمة إليه، فيقعون في الشرك والضلال البعيد، ومن أجل ذلك أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب للدعوة إليه سبحانه، تذكيراً للغافل، وتعليماً للجاهل، ورداً للشارد عن منهج الله عز وجل ودعوته إلى الرجوع إليه، كما قال تعالى: ((وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) (يونس:25).
(( وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ )) (البقرة:221).
((دْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى)) (إبراهيم:
10).
عباد الله: لقد أرسى القرآن الكريم قواعد الدعوة ومبادئها، وأشاد بوسائِلها وطرائقها، وما ذاك إلا لمكانتها وأهميتها.
أما رسول الله محمدٌ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهو المكلّف بدعوة الأمة من العرب والعجم والجن والإنس، فهو رسولٌ إلى العالمين، (( تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً )) (الفرقان:1).
((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً )) (الأحزاب:46).
ولقد كُلِّفت هذه الأمة بما كُلِّف به رسولها صلى الله عليه وسلم، وأمرت بالقيام بدعوة البشرية إلى سبيل رب البرية، قال تعالى: ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) (يوسف:108).
لقد بينت الآية الكريمة بكلمةٍ واحدة طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنهاجه وشرعته، ولكن هذا الإيمان بلغ الغاية في قوته وعظمته ونمائه، فهو ليس كإيمان الناس اليوم، بل يملأ شغاف القلب، ويبلغ حبات الفؤاد، ويستحوذ على جنبات النفوس، إنه إيمان جهاد ودعوة إلى الله، حتى تكون الدعوة إلى الله أحب إلى المؤمن من ماله ونفسه التي بين جنبيه، لقد أعلم الله سبحانه رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأن رسالته تتلخص بكلمةٍ واحدة: هي الدعوة إلى الله، ووصفت هذه الدعوة في كتاب الله بصفاتٍ ثلاث:-
أولها : أنها دعوة قائمة على بصيرة، أي حجة واضحة ويقين يتميز به الحق من الباطل، فهي دعوةٌ تعرفها الفطر السليمة، وتوقن بها العقول المستنيرة.
الثانية: أنها ليست قاصرةً على الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحده، ولكنها دعوته ودعوة كُلِّ متبع لهديه، مقتدِ بسنته، وهكذا كان المجتمع الإسلامي مجتمعاً يحمل أفرادهُ جميعاً رسالةً واحدة يشرون أنفسهم في سبيلها، فبلغوها العالم بأسرة.
الثالثة: لهذه الدعوة أنها تنابذ الشرك منابذة تامة، ولا تهادنه أية مهادنه، بل تريد القضاء عليه قضاءً مبرماً .
ومع شديد الأسف غفل المسلمون اليومَ عن رسالتهم، فعاد الناس إلى جاهليتهم وشركهم ووثنياتهم، وإن ألبست لبوساً آخر فإن الأسماء لا تغيِّر شيئاً من الحقيقة .
أيها المسلمون: إن الدعوة إلى الله عز وجل من أفضل الأعمال وأجلِّها وأحسنها، وأزكاها، كيف لا تكون كذلك وقد قال سبحانه: ((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )) (فصلت:33).
قال أبن جرير رحمه الله : يقول تعالى ذكره ومن أحسن ـ أيها الناس ممن قال ربنا الله ثم استقام على الإيمان به، والانتهاء إلى أمره ونهيه، ودعا عباد الله إلى ما قال وعمل به من ذلك، وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( من دلَّ على خيرٍ فله مثل أجر فاعله )) رواة مسلم . وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (( من دعاء إلى هدى كان له من الأجر مثلُ أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثلُ آثام مَنْ تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً )) .
وفي حديث سهل بن سعد المتفق عليه أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لعلي: (( فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُمْر النعّمَ )) .
أي خير الأبل وأكرمُها وأنفسُها.
ولا ريب ـ أيه الأخوة ـ أن الدعوة إلى الله في وقتنا الحاضر من أهم المطالب وأعظم المقاصد، ونحن بحاجة ماسّة بل فيِ ضرورةٍ ملحّه إلى إصلاح الأوضاع ودعوة الناس إلى العقيدة الصحيحة، والوعي الشامل الكامل لأحكام هذا الدين، فها هم دعاة الشبهات والشهوات يدعون إلى فسادهم، وينشرون باطلهم على مرأى ومسمعٍ من المسلمين، أ فيليق بأهل الخير والصلاح والدعوة والإصلاح أن يتأخروا وقد تقدّم غيرهم، وأن يستمروا في سباتهم ونومهم وقد تنبه الآخرون، أيجملُ بأهل الإسلام وهم أهل المنهج القويم والصراط المستقيم أن يتركوا المجال لدعاة التنصير، والذين انتشروا في أكثر البقاع بباطلهم، ورَوّجوا لعقائدهم، فهاهم يلجون الأدغال النائية، ويستغلون الشعوب الفقيرة الجاهلة، ويبثون العقائد الفاسدة، وأنه لا بد لكل مسلم ومسلمه من الدعوة إلى الله وكل بحسبه ومقدرته، لا سيما ونحن نرى أيضاً أن شريعة الإسلام وأحكام القرآن قد غيّرت وبدّلت في الكثير من بقاع العالم اليوم، ووسائل الإعلام تبث سمومها، وتنشر باطلها، والمبتدعة ودعاة التصّوف والقبُوريون يجتاحون بقاعِ شتى من العالم، والعلمانيون والرافضة يبثون الشر والفساد ويدعون إلى الكفر والإلحاد.
فلا بدَّ لكل مسلم غيور أن يتصدى لهذا الأمر العظيم بحسب وسعه، (( لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا )) (البقرة:286) .(12/99)
فالغني بماله يبذله للدعوة والدعاة ولمشاريع الخير والإصلاح، والمتعلَّم بعلمه ونصحه وإرشاده، فكلٌ منا على ثغرة، فالمدرس في مدرسته، والطالب مع زملائه، والموظف مع إخوانه، وإمام المسجد مع جماعته، والشاب مع أهل حَيِّه وأسرته، ولا بد من مراعاة أحوال المدعويين، والتلطف والرفق في المعاملة والإحسان وبذل المعروف.
قال عز وجل: ((ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )) (النحل:125).
نعم إن الدعوةٌ إلى سبيل الله لا لشخص الداعي ولا لقومه، فليس للداعي من دعوته إلا أنه يؤدي واجبه لله لا فضل له، يتحدث به لا على الدعوة، ولا على من يهتدون على يديه، فإنما أجره على الله.
قال أبن القيِّم ـ رحمه الله ـ: ( جعل الله مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق، فالمستجيب القابل الذكي الذي لا يعاند الحق ولا يأباه يدعي بطريق الحكمة، والقابل الذي عنده غفلة وتأخر ويدعي بالموعظة الحسنه، وهي الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب، والمعاند الجاحد يجادل بالتي هي أحسن ) ( أ ـ هـ ) مفتاح دار السعادة .
عباد الله: إننا لو استقرأنا أخبار الرسل ودعواتهم، ونظرنا في تاريخ حركات الإصلاح لوجدنا أن مواقف الناس من الدعوة لا تخرج عن ثلاثة مواقف:-
الصنف الأول: وهم أولئك الذين طَهّر الله تعالى نفوسهم من الكبر والغرور، فعقلوا عن الله ورسوله، وآمنوا بالحق المبين، وعاشوا من أجله وضحوا في سبيله، ((أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)) (الأنعام:
82).
الصنف الثاني: أولئك الذين ماتت ضمائرهم وقست قلوبهم، فوقفوا بكل عناد واستبداد يعارضون دعوات الرسل والأنبياء، ويحاربونها بكل وسيلةٍ، فهؤلاء الملأ دائماً في طليعة من يتصدى لأنبياء الله، لأن نفوسهم قد امتلأت بحب المال والجاه، وقلوبهم قد أشربت كرهَ كلِّ مَنْ يدعو إلى دين الله، قال سبحانه عنهم: ((وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ )) (سبأ:34 ) .
وقومُ نوح أقرب مثال على هذا: ((وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً )) (نوح:7 ) .
بل إنهم يصرفون الآخرين عن الدعوة وعن الحق لئلا ينعموا به، ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ )) (فصلت:26).
إنهم يتآمرون ويمكرون ويكيدون، ((وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً )) (نوح: ،22
23).
الصنف الثالث: فَهُم الذين لم يكن لهم إيمان الصنف الأول ولا جرأة الصنف الثاني المكذبين، ولكنهم شرٌ منهم، يشتركون مع الصنف الثاني في خبث النفس وفساد الفطرة والطويه، والحنق على الرسل، ويزيدون بأنهم على قدرٍ عظيم من الجبن وضعف القلب والمراوغة، أولئك هم المنافقون الذين قال الله عنهم، ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ )) (البقرة: 8،9).
أيها المسلمون: إن مجالات الدعوةِ إلى الله كثيرةٌ ومتنوعةٌ، وأساليبُها وطرقها متعددة: ومن ذلك مجال التعليم عموماً في المدرسة والجامعة والمسجد وغير ذلك، فالمدرس يجب أن يكون داعية إلى الله بالقول والعلم والقدوة الحسنة، فلا يقتصر دوره على مجرد إلقاء الدرس فقط، بل عليه أن يوجه ويعلم ويرشد الطلاّب إلى كل خير وعملٍ صالح، ومن مجالات الدعوة أيضاً:
إمامة المسجد، وكذا موسم الحج، ومنها الدوائر والأعمال الوظيفية، فيجب على رئيس العمل أن يسهم في الدعوة بين منسوبيه وموظفيه وبالتوجيه، وبث الوعي، وأن يتفقدهم عند حضور الصلاة، وأن يشجع كلَّ عمل مثمر ودعوة إلى الخير وتعميمه .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدون إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الأمين صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين .. أما بعد
فإن من وسائل الدعوة إلى الله نشر الكتيِّب الإسلامي وتوزيعه، فإن هذا من الجهد المشكور، والعمل المبرور، وهنا لا بدَّ من تنبيه وهو أن الساحة اليوم ملأ من هذه النوعية، فينبغي أن يختار منها ما هو الأصلح والأنفع، وليرجع إلى طلبة العلم والمختصين في اختيار المناسب لعامة الناس(12/100)
ومن وسائل الدعوة أيضاً الشريط الإسلامي، وهو أشهر من أن ينبه عليه، فلقد يَسّر الله عز وجل الانتفاع به بصورةٍ لم يسبق لها مثيل، فهو يحتوي على الأحكام الفقهية والعقائد الصحيحة النافعة، والكلمات الصادقة، والمحاضرات المفيدة، وهو مع المسلم في سيارته وداخل منزله، وهذا من أسباب تيسير العلم فلله الحمد والمنة، وبالجملة فلا ينكر أثر الشريط الإسلامي ومنزلته إلا جاهل به، فكم هدى الله عز وجل به ضالاً، وكم صار بإذن الله سبباً في رد شبهة وإنكارها، وكلمة حق وقول صدق، ومع ما يمُّر به من عقبات، إلا أن المسلمين ـ بحمد الله ـ يدركون أهميته ومكانته، ولم يكن من فوائده الكثيرة ومنافعه العديدة إلا أنه حَلَّ مكان الأغنية الماجنة، وأصوات الفساق من المغنين والمغنيات هذا الغناء الذي أفسدَ القلوب، وزرع النفاق فيها، وحّرض على الفواحش وارتكابها.
قال الإمام العلامة أبن القيِّم ـ رحمه الله-: ( ولا ريب أن كل غيور يجنب أهله سماعَ الغناء كما يجنبهنَّ أسباب الريب... فلعمر الله كم مِنْ حرّةٍ صارت بالغناء من البغايا، وكم من حُرِّ أصبح عبداً للصبيان أو الصبايا، وكم من غيور تبدل به اسما قبيحاً بين البرايا، وكم من ذي غنى وثروةٍ أصبح بسببه على الأرض بعد المطارف والمشايا، وكم من معافى تعرض له فأمسى وقد حلّت به أنواع البلايا، وكم جرّع من غصة وأزل من نعمه، وجلب من نقمة، وذلك منه من إحدى العطايا؟! وكم خبأ لأهله من آلام منتظرة، وغموم متوقعة وهموم مستقبله ) ( أ ـ هـ ) .
أيها المسلمون: لا بد من التذكير ببعض ما يجب على الداعية أن يتخلّف به ولو على جهة الإيجاز والاختصار، ومن ذلك أن يجتهد في تزكيه نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح، ويصلحها قدر الإمكان، وكذا أسرته وأهلُ بيته عليه أن يعمل على أصلاحهم وتأديبهم، وإبعاد الفساد عنهم، ومن صفات الداعي إلى الله: الصدق في الأقوال والأفعال، فإنه الصدق يهدي إلى البر والبرُّ يهدي إلى الجنة.
وإنه مما يدمي القلب أن يتوسّع بعض الناس تحت شعار مصلحة الدعوة وسلامة الدعاة، ومصلحة الدعوة تقتضي الانقياد الكامل لأوامر الله واقتفاء أثر أنبيائه ورسله، وسلامة الدعاة من أذى يصيبهم في الدنيا لا يساوي شيئاً أمام ما توعد الله به الكاذبين، ((وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً)) (الفرقان:27) .
ومن أخلاقه التواضع، فيعرفُ قدر نفسه فلا يضعُها في غير موضعها، ولا يحتقر إخوانه، ويعرفُ أيضاً للعلماءِ وطلبه العلم أقدارهم، ( ومن جهل أقدار الرجال فهو بنفسه أجهل )، ومن ذلك: الصبر وما أعظمه، فهو قرين اليقين، وبهما تنالُ الإمامةُ في الدين، قال تعالى: ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ )) (السجدة:24).
ومن صفات الداعية الناجح العدل: وهو إعطاء كلّ ذي حق حقه، ويشمل العدلَ في تقويم الرجال والكتب، ووسائل العلم، والحكم على الناس، ومن أهمِّ الصفاتِ وأعظمِها، وأدلها وأكبِرها الإخلاص لله عز وجل، فيكون مقصوده وهدفُهُ إظهار دين الله وإعلاءُ كلمة الله، ونفع المدعوين وهدايتهم إلى الخير، وهذا مستفاد من قوله: ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) (يوسف:
108).
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ: عن هذه الآية: فيها التنبيه على الإخلاص، لأن كثيراً من الناس لو دعى إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه ـ يعني أنه يريد الظهور والمدح من الناس، وهذا ينافي الإخلاص والله المستعا
============
العلماء والميثاق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صلي وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد :
فلا يخفى على كل ذي لب أن ما من خير وضعه الله عز وجل في هذه الأرض إلا وأصله ومادته من العلم ، وما من شر إلا وأصله ومادته ومنبته من الجهل ، ولذلك رفع الله بالعلم العلماء ووضع بالجهل الجهلاء وقد جعل الله لأهل العلم من الخير والفضل والمنقبة في الدنيا والآخرة ما لا يخفى ، فالعلم فضله يدل العقل عليه ، والجهل يكفي في بيان ذمه أن الجاهل يتبرأ منه ، ويكفي في فضل العلم أن يلتمسه حتى أهل الجهالة :
يعد رفيع القوم من كان عالماً وإن لم يكن في قومه بحسيب
وإن حل أرضاً عاش فيها بعلمه وما عالم في بلدة بغريب
فلعلماء الإسلام سلطان على الأرواح ، تخضع له العامة طواعية ورغبة خضوعاً فطرياً لا تَكَلُّفَ فيه لشعورهم أن العلماء هم المرجع في بيان الحق ، ولذلك جعل الله أهل العلم بالمقام المحمود عنده.
إذا عُلِمَ أن الإنسان لا يمكن أن يَتَعَبَّدَ للهِ _ عز وجل _ بشيء من العبادات والقُرُبَات إلا بالعلم ، عَلِمَ فضله وأنه ما من خير يعمل به الإنسان إلا لسابق علم أو أثاره وصلت إليه فَعَمِلَ بما عَلِم ولذلك أشهد الله العلماء على أشرف معلوم وهو توحيد الله فقال الله _ سبحانه وتعالى _ ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ))[آل عمران : 18].(12/101)
توحيد الله أشرف وأعظم ما يُتَقَرَّبُ به إليه ، هذا العظيم في حال الشهادة ، يُطْلبُ له العلماء ، ولذلك أشهد الله الملائكة ومن الناس العلماء ، وذلك أنه لا يُشْهَدُ على العظيم إلا العظماء.
ورفع الله أهل العلم في الدنيا على أهل الجهالة فمراتبهم بين الناس على قدر علمهم وتمكنهم من وحي الله _ سبحانه-.
وإذا أُطْلِقَ العلم في كلام الله وفي سنة رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ فالمراد به العلم الشرعي ، ولذلك يقول النبي _ صلى الله عليه وسلم _ كما في المسند [1]والسنن[2] " العلماء ورثة الأنبياء ، إن العلماء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً ، إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر"
وقد أمر الله _ عز وجل _ نبيه عليه الصلاة والسلام أن يسأل زيادة من العلم فقال الله - جل وعلا _ (( وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ))[ طه :114 ] فلم يأمر الله نبيه _ عليه الصلاة والسلام _ أن يسأل شيئاً من خيري الدنيا والآخرة زيادة فيه إلا زيادة في العلم _ لفضله وجلالته _ وأن الإنسان قدره عند الله بقدر علمه بوحيه ، وعمله بذلك .
ووحي الله هو كتابه وسنة رسوله _ صلى الله عليه وسلم _ قال الله جل وعلا ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)) [ المجادلة : 11 ] فدرجاتهم عند الله بقدر علمهم ، ودركاتهم عنده بقدر جهلهم.
ولذلك ما عُصِيَ الله- عز وجل - إلا بجهالة، وما عُبِدَ إلا بعلم ومعرفة .
وقد كان أهل العلم هم أهل الحظوة والفوز عند الله وجاء الله بآيات كثيرة في مدحهم ، وجاء بمدحهم في سنه رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ من الأحاديث ما لا يحصى.
ويكفي أن الأصل في العلماء العدالة ، ولذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في المسند وغيره[3] (( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله )) قال ابن عبد البر رحمه الله « وفيه دلاله على أن العلماء عدول وهو الأصل فيهم »[4] ونبه على هذا ابن القيم[5] _ عليه رحمة الله _ وذلك أن رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ قال هنا ((يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله)) .
والمعنى في حديث رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ هذا ظاهر.
ويكفي في ذلك أن الخير لا ينتشر في الأرض إلا بالعلماء ، وأن الشر لا ينتشر في الأرض إلا بفقدهم ، ولا ينقص الخير إلا بفقد العلماء .
مهمة العلماء أن يتصدوا للتيارات الجارفة بالأمة نحو الهلاك ، هم القادة المصلحون الذين يقودون العباد والبلاد إلى بر الأمان ، هم الطليعة الذين يتقدمون الشعوب نحو كل خير ، وهم محل ثقة الناس عامة ، وقد خصهم الله بالذكر ولذا قال الله في بيان فصلهم في هذه الأرض قال: (( أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ ) [ الأنبياء:44 ] .
وقال الله _ جل وعلا _((أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ )) [الرعد:41] والمراد بِنُقْصَانِهَا كما جاء عن غير واحد من المفسرين هو ذهاب العلماء والفقهاء ، فقد روى وكيع عن طلحة بن عمير عن عطاء بن أبي رباح قال في قوله : [الرعد:41] قال : « ذ (( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)) هاب فقهاءها وخيارها[6] » .
قال ابن عبد البر: « قول عطاء في تأويل هذه الآية حسن جداً ، تلقاه أهل العلم بالقبول »[7] .
وروي هذا عن غير واحد من المفسرين ، فقد روي ذلك عن مجاهد بن جبر كما رواه سفيان عن منصور عن مجاهد بن جبر قال في قول الله _ عز وجل _ (( أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ)) [ الأنبياء:44 ] .
قال « موت الفقهاء والعلماء »[8]
فأطراف كل شيء شريفه ، وأفضل شيء فيه ولذلك يقول الفرزدق :
وأسأل بنا وبكم إذا وردت منى أطراف كل قبيلة من يمنع
أي أشراف كل قبيلة .
ويقول الأعشى :
هم الطُّرُفُ البَادُ العَدُّوِّ وأَنْتُمُ بِقُصوى ثَلاثٍ تَأكلونَ الرَّقَائِصا
من نظر إلى الشر حينما ينتشر في الناس فإنه لا ينشر إلا بسببين لا ثالث لهما:
أحدهما : بفقد العلماء واندثارهم في هذه الأرض وهذا مصداق قول الله _ جل وعلا _ ((نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)) [الرعد:41].
والسبب الثاني : تقصير العلماء بالقيام بواجبهم وذلك حال وجودهم ، ولذلك يقول النبي _ صلى الله عليه وسلم _ كما في البخاري ومسلم[9] من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ (( إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبق عالماً ، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً ، فسئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا )) فإن أهل الجهالة لا يتصدرون إلا حينما يغيب أهل العلم الذين يقومون بأمر الله ، فمهمتهم في هذه الأرض إن يدلوا الناس إلى الخير ويحذروهم من الشر، ويقودوا هذه الأمة إلى بر الأمان على مر الأزمان ، وقد جعل الله لهم الثقة المفرطة بين العباد ، وأمر الله بالرجوع إليهم عند المشكلات والمعضلات ، يقول الله في كتابه العظيم: ((فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)) [النحل : 43 ].(12/102)
وأمر الله حال نزول الفتنة والفِرقة والشقاق والنفاق بين الناس أن يكون مرجعهم كلام الله وكلام رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ بِفهمِ أهل العلم والمعرفة بكلام الله.
ولذلك يقول: (( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ )) [النساء: 83] .
والذين يستنبطونه منهم هم العلماء العارفون بكلام الله، وقد أمر الله عز وجل بالرجوع إليهم والنهل من علمهم ، فإنهم هم أهل البصيرة لأنهم أعلم الناس بالله ، ولذلك قد جعل الله لهم من الخيريه والمزية والفضل في هذه الدنيا ما لم يكن لغيرهم .
وجعل لهم كذلك في المقابل العذاب الأليم يوم القيامة إن خالفوا أمر الله.
وحينما يكون الإنسان بين ثواب جزيل إن وافق والعقاب الأليم إن خالف فإنه يكون أقرب الناس إلى الصواب وأحراهم بالتماسه وأدقهم بسلوكه والقرب من الحق ، ولذلك كان أهل العلم أقرب الناس إلى الحق والصواب وأقربهم إلى فهم الحق والبينة وقد سموا النجوم فقد جاء ذلك على لسان رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ ففي المسند[10] في حديث رشدين بن سعد عن عبد الله بن الوليد عن أبي حفص عن أنس مرفوعاً: ((إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء يُهْتَدَى بها في ظلمات البر والبحر ، فإذا انطمست النجوم أوشك أن يضل الهداة)) .
وجاء عن رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ بأصح من هذا بمعناه، ما في صحيح الإمام مسلم[11] من حديث أبي موسى الأشعري حينما قال (( أنا أمنة لأصحابي ، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي فإذ ذهب أصحابي أتي أمتي ما يوعدون )) .
والمراد بذلك العلم وليس المراد بذلك ذواتهم .
بل أن الله قد جعل الخيرية في أهل العلم كما جاء في الصحيحين[12] أن رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ قال (( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) .
وقال _ عليه الصلاة والسلام _ ((من سلك طريقا يلتمس فيه علما ، سهل الله له به طريق إلى الجنة[13])) .
فالعلماء هم ورثة الأنبياء، والعلماء ورثوا العلم من أخذه أخذ بحظ وافر، فالأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما ، وإنما ورثوا العلم من أخذ به أخذ بالحظ الوافر.
وقد كان العلماء في الأرض كالنجوم يهتدى بها ولذا يقول النبي _ صلى الله عليه وسلم _ كما روى الإمام مسلم[14] من حديث سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة المغرب ، ثم قلنا : لو جلسنا حتى نصلي مع رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ العشاء قال فجلسنا فخرج علينا فقال : ((ما زلتم مكانكم هاهنا .قال: قلنا نعم يا رسول الله ، صلينا معك المغرب ثم قلنا نجلس حتى نصلي معك العشاء قال : ((أحسنتم ، أو قال أصبتم)) .
قال: فرفع رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ رأسه إلى السماء ، وكان كثيراً ما يرفع رأسه إلى السماء فقال _ عليه الصلاة والسلام _ (( النجوم أمنة للسماء ، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد ، وأنا أمنة لأصحابي ، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون ، وأصحابي أمنة لأمتي ، فإذا ذهبوا أتى أمتي ما يوعدون)) .
وهذا تشبيه بليغ لحملة الوحي ، وحملة العلم أنهم كالنجوم يهتدى بهم ، روى أبو نعيم في كتابه الحلية من حديث الحسن عن أبي مسلم الخولاني قال : « مثل العلماء مثل النجوم في الأرض إذا بدت لهم اهتدوا وإذا خفيت تحيروا »[15] .
وقد جعل النبي _ صلى الله عليه وسلم _ مقامهم في أمته كالنجوم بالنسبة لمن يسلك البر والبحر ويعرف الجهات بعضها من بعض ، وليس المراد بذلك أصحاب رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ بذواتهم ولكن بما نالوه من شرف الصحبة والقرب من الوحي والنهل من كلام الله سبحانه _ وكلام رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ والمعرفة فيه.
ولذلك كان الاختلاف والفِرقة فيهم أقل من غيرهم ، قال عليه الصلاة والسلام "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم[16] " والسبب في ذلك والحكمة البالغة هو قربهم من الوحي ومعرفتهم بمواضع التنزيل ، فإنه كل ما كان الشخص إلى التنزيل أقرب كان به أعلم وهذا ظاهر كلام رسول الله : "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم"
ومن نظر إلى حديث أبي موسى في بيان فضل العلم والعلماء ، وأنهم كالنجوم وأن الصحابة في هذه الأمة كالنجوم يهتدى بها فإذا ذهبوا أتى أمة محمد ما توعد ، من نظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وبقاءه في أمته كان موطن نزع للخلاف ودخض للشر وبيان للخير ، مرجع ومآل ، يأرز إليه كل من طلب خيراً، عرف فضل العلم .
وقد كان أصحاب رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ في عصره على وفاق تام إلا منأظمر نفاقاً فإنه يظهر وفاقا لرسول الله وذلك من باب الخشية من قوة الإيمان ، وقوة أهله وقوة أصحاب رسول الله _ صلى الله عليه وسلم -.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم _ كان حامل الخير وحامل مشعل الهداية يهتدي به من جاء بعده من أصحابه ومن جاء بعدهم من أمته .
وقد كان أصحاب رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ بعده الأمان لهذه الأمة لما يحملون من الوحي، فلم يلبث رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ وهو أعلم الناس بالله _ أن توفي حتى نشب الخلاف اليسير بين أصحاب رسول الله .
وأول خلاف نشب ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى لم يدفن ( أمات رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ أم لم يمت؟).(12/103)
وهذا أول خلاف وقع في هذه الأمة بعد وفاة رسول الله مصداقاً لقوله"أنا أمنة لأصحابي ، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون" ، تقول عائشة كما روي البخاري[17] من حديث ابن عقيل عن الزهري عن أبي سلمة عن عائشة _ عليها رضوان الله تعالى _ قالت : ( توفي رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ وجاء أبو بكر من داره فدخل مسجد رسول الله ولم يحدث أحداً حتى دخل داري فجاء لرسول الله ويممه وهو مغشي بثوب حبرة فكشف عن وجهه وأكب عليه فقبله وبكى فقال يا رسول الله بأبي أنت وأمي والله لا يجمع الله عليك موتتين ، أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد متها ) .
قال الزهري رحمه الله: حدثني أبو سلمة عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: ( خرج أبو بكر وعمر يكلم الناس، فأمره أن يجلس فأبى ، فأقبل الناس إلى أبي بكر الصديق، وتركوا عمر فقام أبو بكر فيهم فقال : ( أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت قال الله _ عز وجل _ ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ )) [آل عمران : 144] .
قال عبد الله بن عباس: ( والله لكأن الناس لم يعلموا أن هذه الآية أنزلت على رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ إلا لما تلاها أبو بكر _ فتلقاها منه الناس كلهم ، فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها ).
يقول سعيد بن المسبب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ( والله لما سمعتها من أبي بكر حتى ما تقلني رجلاي ، وحتى اهتويت إلى الأرض ، حتى سمعته تلاها علمت أن النبي _ صلى الله عليه وسلم _ قد مات ).
وفي هذا أن أهل العلم مهما بلغوا بالعلم بوحي الله ، أنهم في حال الفتنة واضطراب الزمن وما يحدث من نوازل قد يغيب عنهم من الدلائل والحجج الظاهرة ما يغيب عنهم كما غاب عن عمر بن الخطاب تلك البينة الظاهرة من كلام الله، وعَلِمَ أعلم الناس بعد رسول الله _ صلى الله عليه وسم _ من الأمة أبو بكر ، وحينئذ يلتمس لمن غاب عنه الدليل العذر كما عذر عمر بن الخطاب هنا لما تلا أبو بكر قول الله - جل وعلا _ ((إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)) [ الزمر :30 ، 31 ] .
وقول الله: ((وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ )) [آل عمران : 144] .
فلم يلبث أصحاب رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ إلا لحظات أو ساعات من الزمن حتى ائتلفت كلمتهم ، لأنه قد قام بهم أعلم الناس بعد رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ واستدل بوحي الله .
ثم لم يلبث رسول الله وهو مسجى ببردته حتى وقع خلاف آخر يسير لم يوقع الفرقة والشقاق ، ولكنه لم يلبث أن نزع بالعالمين بالوحي ، وكان أعلمهم أبو بكر فاختلفوا أين يدفن رسول الله _ صلى الله عليه وسلم - ؟ وهل يُغَسَّل وهل يُجَرَّد كما يُجَرَّد الموتى ؟ أو يوضع الماء على ثيابه ؟ ولذلك قد أخرج محمد ابن اسحاق[18] من حديث يحيى بن عباد بن الزبير عن أبيه عباد عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( اختلف أصحاب رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ أَنُجَرِّدُ رسول الله كما نُجَرِّدُ موتانا ، ونغسله كما نغسل موتانا أم نصب عليه الماء ، قالت: فو الله لم يلبث الناس حتى غلبهم النعاس حتى طرقت ذقونهم ، فناداهم منادٍ : أن اغسلوا رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ وصبوا عليه الماء صباً ).
ثم اختلف أصحاب رسول الله أين يُدْفَن رسول الله ؟ أيدفن في مكة موطن مولده ومبعثه وقبر جده وقبلته؟ ، فقال قوم من أصحاب رسول الله يدفن في بيت المقدس قبلته الأولى وقبر جده، ومنهم من قال بالمدينة في هجرته ودار أنصاره ، وأزواجه ومسجده حتى نزع الخلاف أعلم الناس في الأرض بعد رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ من أمته أبو بكر فقال: سمعت رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ يقول : ، فدفن رسول في البقعة التي توفي فيها في حجرة عائشة .
ثم حدث ما حدث من خلاف بين أصحاب رس: (( يدفن الأنبياء حيث يقبضون)) .
ول الله _ صلى الله عليه وسلم _ وكان أول خلاف بعد ذلك من يلي الخلافة بعد رسول الله ولكنه أمر يسير ، فقال الأنصار ببيعة سعد بن عبادة الخزرجي، وقام القرشيون بقول الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ "الأئمة من قريش[19]"فَنُزِعَ الخلاف بقول رسول الله، واجتمعت كلمة الأمة بكلامه والعلم بالوحي.
ثم حدث ما حدث حينما ارتد من ارتد من العرب ، وخالف عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أبا بكر في قتالهم ، حتى سمعه يحدث عن رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ قوله (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ويقيموا الصلاة ويؤدوا الصلاة ، فإن فعلوا ذلك فقد عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها)) .
فأذعن عمر للحق لكلام رسول الله، فقام خير أهل الأرض ، وأعلمهم بالله أبو بكر، قال سمعت رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ يقول: (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ويقيموا الصلاة ويؤدوا الصلاة ، فإن فعلوا ذلك فقد عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها[20])) .
ثم ما حدث من الخلاف في إرث رسول الله وحسم الأمر أبو بكر بقوله: سمعت رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ (( نحن معاشر الأنبياء لا نورَث ما تركناه فهو صدقة[21] )) .(12/104)
خلاف يسير سَهُلَ دَحضُهُ بالعلم من العلماء العارفين ، ولذلك كان أصحاب رسول الله أمنة لهذه الأمة ، وذلك لما نالوه من العلم بالوحي .
ثم اجتمعوا بعد ما حدث من أمر يسير على قتال المرتدين من مَنْعِ الزكاة[22] .
ثم اشتغلوا بقتال طُلَيْحَة حينما تنبئ حتى انهزم إلى الشام ورجع إلى الإسلام في خلافة عمر بن الخطاب وشهد مع سعد بن أبي وقاص نهاوند والقادسية وقتل في نهاوند.
ثم اشتغلوا بقتال مسيلمة وسجاح والأسود العنسي ثم بسائر المرتدين.
ثم اشتغلوا بقتال الروم والعجم وغيرهم ، فقد كان أصحاب رسول الله على قول واحد في التوحيد والعدل والوعد والوعيد وإنما خلافهم في الفروع كميراث الجد مع الأخوة ، والعول والكلالة وغير ذلك ما أمره يسير ، وذلك مصداقا لكلام رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ ((أصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون[23]))
ولذلك بقي أصحاب رسول الله على كلمة سواء ينزع فتيل الخلاف من أول وهلة بقيام العلماء بواجبهم بيان الحق ، و الصدع به ودحض أهل الشر بالدلائل من الكتاب والسنة، وبقوا على ذلك في خلافة أبي بكر وخلافة عمر وست من خلافة عثمان رضي الله عنه حتى نَقِمَ عليه من نَقِم وقتله ظالموه ، ونشبت في أواخر عصره بين أصحاب رسول الله فرقة .
وما حدث مع على ابن أبي رضي الله عنه من واقعة الجمل ومعاوية وصِفِّين ، وحَكَمِ الحَكَمَين وغير ذلك من تبعاتها حتى ظهرت في أواخر عهد أصحاب رسول الله في عهد عبد الله بن عمر ، ظهرت بدعة القدرية، أحدثوا القول بالقدر والاستطاعة .
وكذلك في عهد التابعين ، في عهد الحسن البصري ظهرت بدعة الاعتزال وظهر واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد ، وأظهروا بدعة الاعتزال وهذا مصداق لكلام رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ ((وأصحابي أمنة لأمتي ، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون )) .
وقد كان الصحابة على كلمة سواء في العدل والتوحيد والوعد والوعيد حتى بَعُدَ الناس عن العلم شيئا فشيئا وابتعدوا عن منهل العلم ، ووقع الخلاف والفِرقة ولما قَصَّرَ العلماء في واجبهم ظهر الشر والفساد في الأرض وظهر الجُهَّال مكان العلماء ، فيضلون الناس بقولهم وبُعْدِهِم عن كلام الله ولذلك يقول النبي _ صلى الله عليه وسلم _ ((حتى إذا لم يُبْقِ عالما اتخذ الناس رؤساً جهالاً ، فسئلوا، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا))
العلماء هم حملة الأمانة ، ومن أخذ الله عليهم الميثاق ، ثوابهم وافر مدرار ،وحسابهم شديد عسير قال الله ((وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ)) [ آل عمران: 187 ] .
فامتدح الله من وفى بعهده وميثاقه ممن وفى منهم فقال الله - جل وعلا - ((الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ)) [الرعد : 20] .
وحذر الله من مخالفة أمره و تَنَكُّبِ الدليل مع ظهوره ، ولذلك أمر الله بالرجوع إلى العلماء لأنهم إن خالفوا كانوا أشد الناس عذاباً عند الله ، فقد أخذ الله عليهم الميثاق.
يقول قتادة كما روى ابن جرير الطبري في تفسيره[24] قال: « هذا ميثاق الله أخذه على أهل العلم ، فمن عَلِمَ شيئا فَلْيُعَلِّمْهُ وإياكم وكِتْمَان العلم ، فإن كِتْمَان العلم هَلَكَة".
فإن فَرَّطَ أهل العلم بالبلاغ والقيام بميثاق الله فعلى الأمة العفى والدمار.
فَفُتْيَا العالِم بغير ما يَعَلم كذب على الله، قال الله - سبحانه وتعالى - [الزمر: 60] فالفتوى بغير علم كذب فمتى فرط العلماء في بيان مهمات الأ
(( يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ)) (آل عمران:106).
وما يتعلق بمصيرها ونهضتها ، وجعلوا الحديث للرعاع إلا ضلت الأمة ، وانحرفت عن مسيرها
ومن نظر إلى حال المسلمين في الأندلس وحال علمائها لما انشغل علمائها بالجزئيات عن الكليات وانشغلوا عن الأصول بالفروع وتركوا أصول الأمة التي هي بحاجة إلى غرسها في النفوس سقطت بلاد المسلمين ، وقد ذكر بعض علماء المغرب " أنه لما كان الاستعمار قد أتى إلى بلاد الشام قبل عقود كان العلماء منشغلين بالفروع وبالجزيئات وبالاختلاف وبالفرقة والمستعمر على مشارف بلادهم ، حتى ذكر أحد علماء المغرب قال : حينما قدمت الشام والاستعمار على بلادهم قال : دخلت مجلساً من مجالس أهل العلم ، فإذا هم يتدارسون المرأة حينما يخرج لها لحية هل يجوز أن تحلقها أم لا؟ حتى حل عليهم الدمار والوبال وفرطوا فيما أمر الله بأخذه والقيام به ، فحل ببلاد المسلمين ودمائهم وأعراضهم ودينهم ما حل.
وقد جعل الله العلماء هم الدلالة إلى الحق ، والدلالة إلى الصواب ، وجعل لهم في سبيل ذلك الأذى لتعلوا منزلتهم عنده، ولذلك يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم – ((العلماء ورثة الأنبياء[25])).
الأنبياء ورثوا العلم من أخذه أخذ بحظ وافر ، وورثوا أيضا تبعاته ومن تبعاته ما يحصل للعلماء من أذية وابتلاء وامتحان والوقيعة في أعراضهم.
وقد حذر الله من عدم القيام بالحق وبيان الخير للناس وتحذيرهم من الشر وحذر الله من سلوك طريقة بني إسرائيل من كتمانهم للحق ولبسهم الحق بالباطل ولذلك قال الله - جل وعلا - (( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) [آل عمران :71]
وقال: ((وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَوَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) [البقرة : 42] .(12/105)
وحذر الله من كتمان البينات التي أنزلها الله على نبيه للناس عامة فقال: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ )) [البقرة : 159].
قال القرطبي - رحمه الله تعالى -: في تفسير هذه الآية[26] « أخبر الله أن من كتم الحق بعد ظهوره وبيانه عنده أنه ملعون بلعنة الله ، ولعنة اللاعنين وهم الملائكة ».
إذاً فالله قد أخذ على من أوتي علماً ولو كان يسيراً أن يجعل له الرفعة في الدنيا والآخرة ومقابل ذلك ضريبة عظيمة إن فرط فيما أمر الله به ، وإن حصل له ما حصل من السفهاء من التنقص والوقيعة في الأعراض، ولذلك كان رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ إمام الناس في ذلك .
والعلماء الحق هم الذين يخشون الله عز وجل في ذلك ويخشون الله _ عز وجل _ في قولهم وفعلهم.
فبين الله أن من أعظم سماتهم وعلاماتهم هو خشيته فقال سبحانه: (( يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)) [ فاطر : 28] .
ولما اختلف أصحاب رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ في بعض الأحكام كان قدوتهم هو أخشى الناس لله رسول الله فقال بعضهم : لا أتزوج النساء ، وقال بعضهم : أصوم ولا أفطر ، فقال رسول الله _ صلى الله عليه وسلم - ((إني أعلمكم بالله ، وأخشاكم وأتقاكم له لأنا[27])) لم ؟ .
لأنه كان هو صاحب الوحي المُنَزَّل فهو أعلم الناس وأخشاهم لله .
وقد علل رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ كونه أعلم الناس ، أنه أخشاهم لله فهذا هو الأصل أن يكون العلماء هم أخشى الناس لله ، وذلك لأنهم أعلم الناس بوحي الله ، وكُلَّمَا كان الإنسان عالماً بالله عالماً بوحيه من كتاب وسنه يلزم من ذلك ظِمْناً أن يكون أخشى الناس لله ، تعبداً وامتثالاً لأمره .
روى الإمام مالك في الموطأ[28] من حديث معاذ بن جبل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم _ قال : " إنما العلم الخشية". ومن علامة أهل العلم خشية الله ، وإكثار العمل والتعبد لله ، وذلك هو الفيصل بين أهل الزيف والحق .
وقد جعل الله العلم الحق فيمن يخشاه فقال: (إنما يخشى الله من عباده العلماء).
والعلم الذي لا يدل الإنسان إلى الخشية، ولا يدله على عبادة الله ولا يدله على الخير، ويقربه من الله ويبعده عن زخارف الدنيا التي لا تنفع فإن هذا ليس بعلم، بل أنه جهل يضر الإنسان ولا ينفعه .
وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم الناس بالله ، وكان أصحابه من بعده كذلك ، العالمون بما لديهم من علم هم أقرب الناس إلى الصواب .
ولما حضرت الإمام أحمد رحمه الله الوفاة كما ذكر القاضي ابن أبي يعلى في الطبقات[29] قال: جاء إليه أحد من أصحابه فقال: أدع الله أن يخلفنا فيك خيراً، فمن تدلنا أن نسأله بعدك؟ ، قال: سلوا عبد الوهاب فقال رجل من حضر مجلسه: إنه قليل البسطة في العلم فقال: إنه رجل صالح فمثله يوفق للصواب.
وقد حذر الله ممن يقوم بأمر الله بقوله، ويجتنبه بفعله - وجعل ذلك علامة على عدم خشية الله ، وذلك أن الله - عز وجل _ يقول: ((أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ )) [البقرة : 44 ].
وقال الله: ((لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ)) [الصف: 2] .
حذر الله من أن يقول الإنسان بلسانه ما لا يفعله ، فالعلماء الحق هم الذين يخافون الله .
ذكر القاضي ابن أبي يعلى في الطبقات قال: ذُكِرَ في مجلس أحمد بن حنبل: معروف الكرخي: فقال بعض من حضر هو قصير العلم : فقال الإمام أحمد أمسك عافاك الله، وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف.
فيعرف العلماء الحق بالعبادة والعمل، واجتناب المحرمات والتقلل من الدنيا .
ولذلك يقول الإمام أحمد: « سمعت سفيان بن عيينة يقول : ما ازداد الرجل علماً فازداد من الدنيا قربا إلا ازداد من الله بعداً » .
وهذا هو الميزان في معرفة أهل العلم الحق ، حملة الميثاق الصادقون القائمون بأمر الله ، وهذا هو الميزان العدل ، فإن الإنسان بعلمه خصيم نفسه، فإذا رأى الإنسان أنه كلما ازداد من العلم قرب من الدنيا وقل من العبادة والعمل فإن ذلك علامة بينة للخسارة وعدم التوفيق وعدم الإخلاص.
ولذلك يجب على الإنسان إن كان من أهل العلم ، أو تحصل له علم يسير أن ينظر إلى عمله بما علم فالعبرة إذاً بالعمل بما علمه من كلام الله لا بآراء الناس ولا الالتفات إليها ولا الركون إليها.
يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: « علامة الزهد في الدنيا وفي الناس أن لا تحب ثناء الناس عليك ولا تبالي بمذمتهم ، وإن قدرت ألا تعرف فافعل ولا عليك ألا تعرف ، وما عليك ألا يثنى عليك ، ومع عليك أن تكون مذموما عند الناس إن كنت محموداً عند الله[30] ».
ومن أحب ألا يُذكر ذُكِر ، ولذلك كان العلماء كلما ما ابتعدوا عن قول الناس وحب مدحهم كلما رفعهم الله وكلما اقتربوا إلى حب الناس ومدحهم كلما أبعدهم الله ، وأخمل ذكرهم وجعلهم في الأسفلين وكم من الناس منزوي في داره لكنه من أهل الخشية والعبادة لله، فرفع الله ذكره وأعلى شأنه ، وهذا مصداق كلام الله: (( يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)) [فاطر : 28 ].
وقد حذر الله مما يحول بين أهل العلم وبين قول الحق ، والقيام بأمر الله وحذر من ذلك أشد تحذير .(12/106)
ومن أعظم ما يقوم به الإنسان العالم في هذه الأرض أن يصدع بأمر الله وأن يقول لصاحب الباطل أخطأت ، ولصاحب الحق والخير أصبت ، ولذلك جعل الله مناط الخيرية بهم قال الله : (( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) [ آل عمران: 110 ].
ولا يمكن للإنسان أن يتحقق فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأهليته في ذلك إلا أن يتحقق فيه العلم بالمعروف والعلم بالمنكر والتمييز بين المنكر والمعروف، وألا يتخبط بين هذا وهذا، فإن ميز كان من أهل العلم ودعا إلى الله على بصيرة كما قال الله آمراً نبيه بذلك حيث قال تعالى: ((قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) [يوسف : 108].
الدعوة إلى الله لا تكون بالجهالة وإنما على بصيرة وعلى منهاج محمد.
وقد حذر الله من سلوك السبل التي تظل عن سبيل الله فقال الله : ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )) [الأنعام : 153].
قد روي ابن جرير الطبري[31] وابن أبي حاتم من حديث ابن نجيح عن مجاهد بن جبر قال: " السبل البدع والشبهات". هي تظل الإنسان عن طريق الله ، ومعرفة الحق من الصواب.
فإذا قصر أهل العلم بواجبهم فعلى الأمة العفى، وإذا أمسكوا عن قول الحق فعلى الأمة الدمار فالعلماء هم قادة الأمة وهم الذين يتقدمون الشعوب والأمم ، ولذلك جعل الله لهم من الملكة في قلوب الناس مالهم .
وحذر الله من مجاملة الناس ومحاباتهم في أمر الله.
ومن أعظم ما يواجه القائمين بالحق الأمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أهل العلم الذين قاموا بعهد الله ولا يريدون نقض ميثاقه أمور:
أولها: الابتلاء والامتحان فذلك سنة ماضية ، ولذلك يقول الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ ((العلماء ورثة الأنبياء[32]))) .
ما لذي خلفه الأنبياء ؟ خلفوا الوحي كلام الله، فالأنبياء ورثوا العلم وتبعاته ومن تبعاته ما حصل لأنبياء الله فهو من ذلك الميراث.
فرسول الله وهو من هو بالمقام المحمود المرفوع والذي جعل الله له النصرة والتمكين والتأييد بوحي الله ، ومن جعل له روح القدس معيناً وقاتل معه الملائكة إلى جنبه صفاً في وجه أعداء الله ، ووعده الله بالنصرة والتمكين في هذه الأرض، ومع هذا أوذي رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ فحصل له من أنواع الابتلاء _ وهو إمام أهل العلم _ ما حصل ، فَطُعِنَ في رسول الله، واتهمه الجهلاء بالجهالة وبالسحر وبالجنون وبالكهانة ، وطُعِنَ في عرض رسول الله _ صلى الله عليه وسلم -.
فُطِعَن في عائشة _ رضي الله عنها _ وأرادوا بذلك الوصول إلى عرضه، بل تُعُدِّيَ على دمه، وَشُجَّ رأسه وأُدْمِيَت قدميه وَكُسِرَت رُبَاعِيَّتُهُ وحصل له ما حصل.
بل حوصر في شعب مكة ثلاث سنين لا يُجْبَى له طعام إلا خفية وهذا هو رسول الله وَرَّثَ العلم وتبعاته ومنها الابتلاء.
وقد أمر الله أهل العلم بأن يقوموا بأمر الله وألا يسعوا إلى إرضاء الناس على شتى مستوياتهم ولذلك كتب معاوية إلى عائشة كما روى الإمام أحمد في "المسند" والترمذي[33] من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة : أن معاوية كتب إلى عائشة يستنصحها فكتبت عائشة قالت: سمعت رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ يقول: ((من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ، ومن أرضى الله بسخط الناس ، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس)).
هذا هو الميزان، فما من أحد قام بالحق وبنصرة الملة والدعوة إلى الله وبيان الحق وبيان الشر إلا رفعه الله في وقته وبعد وقته، وحفظ قوله وصان الناس عرضه وذبوا عنه وعملوا بقوله.
لذا كان الإمام أحمد رحمه الله لم يكتب من رأيه حرفاً وأشد الناس ورعاً في ذلك وكان أكثر الأئمة الأربعة روايات نقلها عنه أصحابه حتى أنه يُنْقَلُ عنه في بعض المسائل نحواً من عشر روايات أو وجوه ، وذلك أنه قام بحق الإرث النبوي حق قيام، وكذلك أحب ألا يُذْكَر فَذُكِر، ولذلك أصبحت كلمة الإمام لصيقة بأحمد بخلاف غيره، فيقال: فلان وفلان والإمام أحمد يحكيها الناس هكذا تجري على ألسنتهم من غير تكلف، جعلها الله وصفاً ملازماً له لأنه صدق الله فصدقه.
أهل العلم لا يسعون إلى إرضاء الناس وإنما أخذ الله عليهم الميثاق ألا يرضوا إلا الله وإن سعوا إلى إرضاء الناس واتكلوا على أقوالهم ورضاهم وتهيبوا سخطهم الله سَخِطَ الله عليهم وأبعدهم ، ولذلك كان أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم يلتمسون رضا الله لا يتهيبون أحداً مهما كان في قول الحق.(12/107)
فما من أحد يسلم من قول الناس ونقدهم، وإذاً ما بقي إلا اتباع الحق والقول به والإعراض عن النقد مادام الطريق نزيهاً واضحاً، ولذلك. يقول أبو مسلم الخولاني: " كان الناس أوراق لا شوك فيه ، وهم اليوم شوك لا أوراق فيه ، إن سَبَبْتَهُم سَبُّوك وإن ناقدتهم نقدوك ، وإن تركتهم لم يتركوك ، وإن فررت منهم أدركوك، فقال له رجل كيف أصنع ؟ قال : أعط من عرضك ليوم فقرك " أي سلمهم عرضك ما دمت تقوم بالحق، أعطهم من ذلك ليوم فقرك، حينما يجتمع الخصوم عند الله ، فتكون فقيراً تحتاج إلى شيء يسير، يأتي إليك الغنى من أقوالهم وذمهم وطعنهم في عرضك ، فَتُرْفَعُ عند الله منزله كما قال _ عليه الصلاة والسلام _ ((يخرج المؤمنون من النار، فيوقفون على قنظرة بين الجنة والنار ، فيقتصون حقوقاً كانت بينهم[34] )) .
ولذلك أُمِرَ أهل الحق وأهل العلم ، قَلَّ العلم عندهم أو كثر ألا يراقبوا إلا لله في قولهم وفعلهم فإنهم إن راقبوا الله نصرهم الله في الدنيا ونصرهم وآمنهم يوم الفزع الأكبر.
* ومن العقبات التي تحول دون القيام بأمر الله : النظر إلى أهل الحظوة والهيئات والطمع فيما عندهم أو خشية فوات الرفعة والمكانة إن قال العالم بما يعلم ، ولذلك كان رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ لما بُعِثَ في قريش كان منهم الأشراف ومنهم أصحاب السيادة وأصحاب الشرف ، فلم يلتفت إلى شرف ولم يلتفت إلى سيادة وإنما التفت إلى الواجب فرفعه الله به وأمره أن يعرض عن كل مشرك ظالم وما لديه من حظوة، قال الله _ عز وجل _ له
(( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ )) [الحجر : 94 ، 95] .
ولذلك قَسم الله - عز وجل - من يعارضون كلامه إلى صنفين:
1- كفار كفروا بما حمله رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ من الحق والصدق من وحي الله، فكذبوا وأعرضوا.
2- ومستهزئون أضافوا إلى كفرهم استهزاءاً بكلام رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ فتنقصوا وعيروا وسبوا وهددوا،
فأمر الله نبيه ألا يراقب إلا الله (( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ _ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ)) [الحجر: 94، 95].
ومن أعظم ما يصد الإنسان عن اتباع الحق وسلوكه هو ما لديه من حظوة ورفعه وسيادة عند الناس يخشى فواتها ولذلك كفار قريش ما اعرضوا عن اتباع محمد _ صلى الله عليه وسلم _ إلا لما كان لديهم من حظوة وسيادة وخوف من العار وسقوط، ما لديهم من حظوة في الأرض يظنونها، مع أنهم رأوا الحق بأعينهم فأحجموا عن القول به، قال الله عنهم: ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)) [النمل: 14]. جحدوا باتباع محمد والبوح بما لديه من الحق ((وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)) [النمل : 14] .
ولذلك أبو طالب وهو أقل الناس عذاباً يوم القيامة قد صَدَّقَ بمحمد _ صلى الله عليه وسلم _ بقلبه ولكنه كفر بلسانه لأنه يخشى العار والشنار بزعمه ، ويخشى فوات الحظوة ويخشى السقوط عند الناس مع أنه قد صَدَّقَ بمحمد _ صلى الله عليه وسلم _ ويعلم بقلبه أنا قد جاء بدين الحق، ولذلك قال في قصيدته المشهورة[35] في مدح رسول الله _ صلى الله عليه وسلم:
والله لن يصلوا إليك ( أي يا محمد ).
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غظاظة وأبشر بذاك وقر بذاك عيونا
ودعوتني وزعمت أنك صادق ولقد صدقت ولقد كنت ثم أمينا
وعرضت دينا قد عرفت بأنه من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني ساع بذاك يقينا
لما ؟ خشية العار والمسبة والوقيعة في العرض وخوف فوت السيادة فأسخط الله وأسخط النبي _ صلى الله عليه وسلم _ فبقى ذكره مضرب مثل للناس أنه أقل الناس عذاباً يوم القيامة.
وكان رسول الله عنده يقول له: (( قل لا إله إلا الله )) فنظر إلى هذه الكلمة وهذا الحق ، دعاه إليه الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ وهو يعلم بقلبه أنه الحق فنظر إلى السيادة والهيئة والرفعة ومدح الناس وخشية سبهم وعارهم فقال : ((والله لولا خشية أن تعيرني بها قريش لأقررت بها عينك[36] )) .
فقال - ومات على ذلك- : هو على ملة عبد المطلب.
ولذلك كان رؤوس الكفر والضلال في هذه الأرض باقون على كفرهم رغبة بالحظوة والهيئة والرفعة عند الناس، والسيادة وهذا فرعون لما أدركه الغرق وهو يعلم أن الله واحد لا إله إلا هو ، وكان قد ظن أن سيادته لا تبقى إلا بالكفر وإدعاء الربوبية ، وغابت عنه تلك الحقيقة الكونية والحقيقة الشرعية أن الله يرفع الذين أمنوا القائمين بالحق في هذه الدنيا والآخرة ، فلما أدركه الغرق تلاشت تلك الحظوظ وتمزق نورها المزيف في عينيه واستحال إلى ظلام دامس احتاج إلى الرفعة ونظر بنظرة متجردة فقال: (( آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ)) [يونس : 90] .
وتوبة الله تدرك العبد ما لم يغر غر .
روى الإمام الترمذي[37] وغيره من حديث عدي بن ثابت وعطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس مرفوعاً قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-:(( قال لي جبريل قال: لقد رأيتني يا محمد وإني آخذ من حال البحر فأدسه في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة)) .
ومن نظر إلى هرقل وكسرى وحال هرقل لما جاءه أبو سفيان[38] وعرض عليه ما عنده عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخشي من اتباعه وخشي فوت الرئاسة والحظوة فمنعه ذلك من الإيمان بالله.(12/108)
ولذلك من أعظم ما يحول بين الإنسان وبين القيام بالحق على اختلاف حال الإنسان سواء كان كافراً أو مؤمناً جاهل عاصياً أو عالماً أياًّ كان هو حب الحظوة والنظر إلى حال الناس والرفعة والتمكين ويغيب عنه أن الرفعة والتمكين هي بقول الحق وبتأمل يسير لسنن الله الكونية والشرعية يظهر ذلك جلياً عند من جعل الله له بصيرة وانقاد لا تباع الحق فكم من الناس طاشت سهامهم يلتمسوا أقوال الناس ورضاهم ولكن جعل الله _ عز وجل _ ذلك سُخْطَةً عليه وأسخط عليه الناس لأنه ما أرضى الله بل أرضى الناس فسخط الله عليه وأسخط عليه الناس.
ومن الواجب على من أراد الحق وأراد إتباع سبيل إمام العلماء سيد الأنبياء ، فلينظر إلى حقيقة الميزان الذي ورثه، فالعلماء هم ورثة الأنبياء فعليهم اتباعه في سبيله والنظر إلى حاله ولْيُعْلَم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما أنه وَرَّثَ العلم ورث كذلك تبعاته ، فإن العلماء يرثون العلم ويرثون تبعاته، وتبعاته كثيرة الرفعة في الدنيا والآخرة والابتلاء في الدنيا .
ولذلك من أعظم ما ينبغي لأهل العلم والمعرفة وطلاب العلم أن يصونوا العلم ليصونهم فلا يطلبوا به حظوة ولا يطلبوا به مدحاً ولا يخافوا به ذما، فإن ترقبوا شيئاً من ذلك أسقطهم الله بسيئ عملهم ، ومن صان العلم من أهل العلم صانهم ورفعهم ومن لم يصن العلم لم يصنهم الله، ولذلك يقول الفضيل: " لو أن أهل العلم شحوا على دينهم ، وأكرموا العلم وصانوه، وأنزلوه حيث أنزله الله ، لخضعت لهم رقاب الجبابرة وانقاد لهم الناس، ولو اشتغلوا بما يعنيهم لعز الإسلام وأهله ، لكنهم استذلوا أنفسهم ولم يبالوا بما نقص من دينهم إذا سلمت لهم دنياهم ، وبذلوا علمهم لأبناء الدنيا ليصيبوا ما في أيديهم ، فذلوا وهانوا على الناس.
وقد حذر الله من الركون إلى شهوات الناس ومطامعهم وحب إرضائهم، وجعل الله الفيصل بين العالم الحق وغيره هو الميل مع ذلك أو مع كلام الله.
فمن مال مع كلام الله ارتفع ومن مال مع كلام الناس وشهواتهم وأقوالهم وأرائهم وحبهم وُضِع.
ولذلك يقول سفيان ابن عيينة: " ما ازداد الرجل علماً فازداد من الدنيا قرباً إلا ازداد من الله بعداً " وهذا هو الميزان .
ومن أعظم ما يجعل الإنسان قائما بالحق آمراً بالخير ناهياً عن الشر ، إلا يجعل لأحد من أهل الدنيا عليه مِنَّة خاصة من أهل الضلالة والغواية وأهل السيادة والمال والجاه ومعلوم أن الغَلَبَة في أهل الجاه أنهم على غير هداية تامة ، ولذلك قال الله: (( وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)) [الإسراء:16].
ولذلك كان العَالِمُ الحق لا يسأل أحداً من الناس يكون بسؤاله ذلك عليه مِنَّة، ولا يُحَابي بقوله أحداً ولا يجامله.
ولازال أهل العلم من السلف والخلف يحذرون من أن تُغْشَى مجالس أهل العلم الرئاسة والسيادة إلا بالنصح والإرشاد والدلالة مع الصبر على الأذى.
ولذلك يقول الإمام مالك: " أدركت بضعة عشر رجلاً من التابعين، يقولون لا تأتوهم "، لأن النفوس تتشوف إلى الدنيا وتركن إليها ، فيغلب على الإنسان ترك الحق ، ويغلب على قلبه التساهل بالقيام بالحق ، بل ربما الإغضاء عن بعض المسائل الظاهرة الجلية ، طلباً لمصلحة تُزْعَم ونحو ذلك.
فالعلماء ليسوا كغيرهم من سواد الناس، فقد يغلب على أحد من الناس مطمع من الدنيا ويركن إليه، لا يؤخذ بقوله إن قال في دين الله شيئاً.
ومن نظر إلى فطرة الإنسان، وجدها ميالة للهوى، ولننظر إلى حاله على اختلاف ديانته، وملته، وعرقه سواء كان كافراً أو مسلماً أعجمياً أم عربياً حاله مع الرئاسة والوجاهة وحالة قبل توليها وبعد تجرده منها، فإنه قبل الرئاسة أصوب بالنظر له، وتقييم الأمور ومعرفة الحق من الباطل وتمييزه والفيصل فيه.
فحينما يأتي إلى ما هو من السيادة والحظوة في الناس يضطرب ويطيش وتطيش سهامه هنا وهناك، وحينما يدعها وراءه سواءً كان مكرهاً أو راغباً فإنه يرجع إلى ما كان عليه قبلها سواءً كانت الرئاسة في كفر أو في إيمان، رئاسة في دين أو في دنيا، وهذا معلوم في أحوال الناس ولذلك من نظر إلى حال أهل السيادة حتى في الغرب الكافر حينما يتولى الإنسان عن منصبه سواء بالعزل أو الرغبة ، يطيش فكره ولسانه سباً وطعنا لما كان عليه، ويقول ما كان يحجم عنه قبل ذلك لأنه قد انتهت من قلبه تلك العلائق، وأخذ يقول قولاً لم يكن يقوله في السابق فرجع إلى ما كان عليه، فتجرد من الحظوة والنظر إلى حال الناس وعاد إلى ما كان عليه.
والإنسان لا يقال أنه يدع الدنيا والمتعة فيها بإطلاق ولكنه ليعلم أن في الغالب أن الركون إلى مثل ذلك يملك القلب ويأسره ويجعل الإنسان وخاصة أهل العلم بين أمرين لا ثالث لهما:
أحدهما: إما أن ينقلب الميزان لديه ، فيرى الباطل حقاً ولا يرى الحق إلا باطلاً ويلتمس الأعذار يمنة ويسرة ، وتغيب عن قلبه خشية الله ، والقيام بأمره وكل ذلك لو تأمله بتدبر سببه الحظوة والنظر إلى المال والجاه.
والحالة الثانية: أن يعرف الحق من الباطل، لكنه يُهَوِّنُ من جانب الحق أو يجعله أمراً مرجوحاً ينبغي ألا يصار إليه، وإن أحسن الظن فيه يرى أن اجتماع الناس على قول مرجوح خير من الافتراق على قول راجح.(12/109)
وهذه قاعدة قد عمل بها أئمة الإسلام ولكنهم لم يطلقوها في كل حال ، فالنصوص الصريحة من الوحي والأدلة الظاهرة المحكمة لا تُضرب بالمصالح، فالافتراق على تقرير أصول الإسلام خير من الألفة على نقيضها، إن كان ثمة أُلْفَةٌ تحصل ، لا تكون إلا بالوحي ، وباتباعه واتباع الدليل والنظر فيه واتباع كلام رسول الله _ صلى الله عليه وسلم - .
فلا تضرب النصوص الظاهرة المحكمة بما يسمى بالمصالح ، أو جمع كلمة الناس ، وإذا كان الدليل ظاهراً محكماً ولا ثمة مفسدة هي أعظم منه، قد حذر الشارع من ارتكابها، ارتكابا ينقض أصلاً فإنه حينئذ لا مصير إلا بقول الحق ، فإنه لا مصلحة إلا هو.
فاستصحاب الأصل أو الاستحسان أو المصلحة ليست مُسَوِّغاً لتنكب الدليل الواضح وإتباع الباطل أو الاستدلال بالقول أن اجتماع الناس على قول مرجوح ، خير من افتراقهم على قول راجح ، فيقال أن ذلك حينما يكون الخلاف سائغاً وحينما يكون الدليل ظاهراً، وثمة قوم من السلف لهم دليل في هذه المسألة قد يصار إلى قول مرجوح وترك القول الراجح.
أما أن يكون القول المخالف باطلاً فلا يحل لأحد أن يجمع كلمة الناس على قول باطل ، فلابد من قول الحق وإن دق، فبي هذه التسويغات تطمس الشريعة ويثلم الإسلام، وحينئذ فالعفاء على الأمة وعلى الإسلام .
ومع هذا كله يجب على الناس عامة تعظيم أهل العلم ، وأن يلتمسوا لهم العذر وما دام لهم سلف في أقوالهم ، وليحذروا من الوقيعة في أعراضهم، فإن لحوم العلماء مسمومة فهم ورثة الأنبياء ما دام أنهم على دليل وأثر من الكتاب والسنة ، والطعن فيهم طعن فيما يحملونه في الغالب.
فإذا كان للرجل سلف من الصحابة والتابعين فهو على أثر.
ولذلك يقول ابن القيم: " إن رأيت الله ورسوله في صف، فعليك بصف الله ورسوله، وإن رأيت الناس كلهم في صف آخر ".
وإن جمع العالم كلمة الناس على قول مرجوح يعتقد عدم رجحانه وغيره هو الراجح عنده فهو على صواب وهداية وحق إن أخلص لله _ سبحانه وتعالى-، ما دام أن الجمع لا يكون إلا عليه، وإن كان يعتقد أنه مرجوحاً، وقد حكي جواز ذلك عن غير واحد من الأئمة كالإمام الشافعي والإمام أحمد ، وحكاه ابن رجب عن غير واحد من السلف، ولذلك ينبغي لأهل العلم أن يلتمسوا العذر لبعضهم ما دام أنهم على دليل وأثر من الكتاب والسنة وعلى قول من السلف.
فائتلاف الأمة مقصد عظيم جليل وترك السنن وترك بعض الواجبات مما لا يستلزم من ذلك إثما عظيم ، أو نقضاً الأصل ، أو تبديلا لمعالم الإسلام وأصوله فَيُظَنُّ بذلك الترك تبديلا أو تحليلا لما حرم الله أو تحريما لما أحل الله وذلك لمقصد ائتلاف الناس فهذا مقصد شرعي.
ولهذا حث الله على اجتماع كلمة الناس وتآلفهم وقد أشار إلى هذا المعنى غير واحد من العلماء كابن تيميه، ولذلك كان ابن مسعود رضي الله عنه لما صلى خلف عثمان تماماً ، وقيل له في ذلك أنه يخالف رأيك ، فقال « الخلاف شر[39]» وكان يرى قصر الصلاة ركعتين ، فاقتدى بمن خالفه لأن ذلك يلزم منه الخلاف والفتنة، وكذلك فإن من قَصُرَ به العلم والنظر فعليه أن يلتمس العذر لأهل العلم والمعرفة ، فأهل العلم أصحاب نظر لكلام الله وكلام رسول الله، لا يلتمسون أذواق الناس ورضاهم وإنما يلتمسون رضا الله، فليس كل ما لا يروق للإنسان يقدح في قائله، فالناس رضاهم غاية لا تدرك
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: " رضي الناس غاية لا تدرك، فعليك بما يصلح نفسك " .
إرضاء الناس محال ، ومن تبع ذلك وأراده فإنه سيؤول إلى وبال وسيخرج صِفْرَ اليدين ما لم يتبع قول الله ويقف عند حدود الله ، فإن الله يرفعه بذلك.
ولذلك توعد الله من عَلِمَ الحق وَتَنَكَّبَهُ وقال بغيره ويعلم أنه هو الظاهر لديه وما غيره هو الباطل، وقد جعل الله _ جل وعلا _ الرجل يأتي يوم القيامة فتندلق أقتابه في النار فيدور فيها كما يدور الحمار في الرحى ، فيقول له أهل النار: يا فلان ألم تكن تأمرنا بالمعروف ، وتنهانا عن المنكر ، قال : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه ، وكنت أنهاكم عن المنكر وآتيه .
قال الله معاتباً أهل العلم: (( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ )) (البقرة : 44).
وأخبر رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ كما في الصحيح[40] قال: ((أول من تسعر بهم النار يوم القيامة _ وذكر منهم _ رجل تعلم العلم وَعَلَّمَهُ ، وقرأ القرآن فأتى الله _ عز وجل _ فَعَرَّفَهُ نِعْمَتَهُ فعرفها قال: فما عملت فيها ؟ قال : تَعَلَّمْتُ العلم وعَلَّمْتُهُ وقرأت فيك القرآن قال : كذبت ولكنك تعلمت ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ، ثم أُمِرَ به فَسُحِبَ على وجهه حتى ألقي في النار)) والعياذ بالله.
هذا لأنه قد جعل شرفاً عظيماً في الدنيا، ينال به الإنسان الرفعة يوم القيامة ، جعله لحظوة خاصة فجعل الله منه حطباً لجهنم ، وأنه من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ، لأنه خان الأمانة وضيع الميثاق الذي جُعِلَ في عُنُقِهِ لأنه به يَهْتَدي الناس وبه يتأسى .
وقد حذر الله من التفريط في ذلك ، وتوعد بالوبال والعقاب الشديد من خالف أمره ، ولذلك لما كان العقاب خطيرا شديدا على العلماء كانت نفوسهم على الأغلب أَبْعَدُ عن الوقيعة في ذلك فكانوا هم أهل القدوة والاتباع.(12/110)
ويجب على أهل العلم أن يقوموا ويظهروا للناس بقول الحق وَليُعْلَمَ أن البُعْدَ عن قول الحق والاختفاء به والقول به سراً علامة وبال وظهور لأهل الباطل والجهالة ، فما يظهر الباطل إلا باختفاء الحق وأهله ، وما يظهر أهل الجهالة إلا باختفاء أهل العلم، كما قال أبو مسلم الخولاني " العلماء كالنجوم إن ظهروا اهتدى بهم الناس ، وإن اختبئوا تحيروا ".
ولذلك يجب على أهل العلم ألا يضيعوا الأمانة وأن يقوموا بأمر الله فإن ضيعوا الأمانة وعملوا بغير ما أمر الله به فقد فرطوا وضيعوا .
ومما يجب الحذر منه ما يجعل كلمة حملة الميثاق هينة لدى الناس ، فلا يُسْمَعُ لهم قول ولا يُؤبَهُ لقولهم ومن ذلك أمور كثيرة منها:
1_ إنشغال أهل الميثاق بجزئيات يسيرة عن مصالح الأمة ، كالانشغال بالوعظ فقط أو التذكير فقط وإهمال جانب التفقيه والتعليم ، خاصة إذا كانت الأمة تترقب مصائب عظيمة ، أو تشتكي اندثار التوحيد من الطعن فيه، والطعن بأهل العلم ومعالم الإسلام ، وتعدي الجهال والزنادقة على توحيد الله .
ولذلك قد انطبع عند كثير من الناس ممن غلب عليهم الجهل ، أن العلم إنما هو في المساجد وأن قادة العلم يقودون الناس بالعبادة المحضة فقط، وذلك ما كان ليكون إلا لما قاد أهل العلم الناس بإمامة الصلاة وبالجُمَع ، ولم يقودوهم خارج المساجد وخارج بيوت الله ، فأهل العلم هم قادة الناس في المساجد وغيرها وفي سائر ميادين الحياة.
فدين الله يجب أن يُعْتَنَى به في سائر جوانبه ، فالله قد جعل شريعته عامة لسائر شئون الحياة ، فالإسلام هو اقتصاد وهو اجتماع ، وسياسة وأخلاق وسلوك وعقيدة وعبادة كل ذلك من دين الله لا تنفك حياة الناس عن دينه، فالنوم واليقظة والغدو والروح والذهاب والمجيء كل ذلك لا يخلو من تشريع ومن عبادة.
والأمر الثاني: العمل بما أمرهم الله به ، فإن قَلّ عمل أهل العلم بما أمرهم الله به ، قل الأخذ عنهم والتأسي بهم، ولذلك العلماء في الناس ليسوا بقدر علمهم وما يحملونه من معرفة الخلاف ومعرفة الدليل أو الحفظ ونحو ذلك ، وإنما هو العمل بما أمر الله به.
ولذلك لما سئل الإمام أحمد لما حضرته الوفاة ، من نسأل بعدك ؟ قال سلوا عبد الوهاب ، فقيل له إنه قليل البسطة في العلم ، قال إنه رجل صالح مثله يوفق إلى الحق"
وقال قولته المعروفة في معروف الكَرْخِي رحمه الله لما قيل : أنه قليل العلم " قال وهل يُرَادُ من العلم إلا ما وصل إليه معروف "
ولذا حينما يعمل العلماء بما أمرهم الله به فيمثلون القول والفعل حينئذ يتأسى بهم الناس ، ولذلك انظر إلى الناس في كل زمن وفي كل مصر ، يتجافون عن علماء ، ويقبلون على آخرين ومدار ذلك هو هذا.
ومما ينبغي أن يعلم أنه ليس كل ما يعلم من دين الله يقال، والله قد أمر بإقامة الحق وإقامة العدل ، وكذلك أمر بتحديث الناس بما تعيه عقولهم ، فتحديث العامة بدقائق العلم وبعض أحكام النوازل التي لا تعنيهم ، وبعض مسائل العلم كبعض مسائل الصفات مما لا تَعِيَهُ عقولهم لا ينبغي، بل ربما أشكل عليهم ، وأحدث عندهم الوساوس وعلى هذا فليس كل علم يقوله العالم ، فإذا أحجم عالم عن قول مسألة ما مما يُظَنُّ أنها لا تعيها عقول الناس مما لا يتعلق بها مصير الأمة ويحصل بها مفسدة ولا يقتضي ذلك تبديلا فإن ذلك مما يعذر به ، وإلا فالأصل أن الله قد أمر بتبليغ الأصول والفروع ، ولذلك قال الله مبيناً خطر الكتمان ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)) (البقرة : 159).
قال أبو هريرة « لولا آيتان في كتاب الله ما حدثكم حديثا ثم تلى تلك الآية وما بعدها » ، ويقول رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ كما في المسند والسنن[41]: ((من سئل علماً فكتمه ألجمه الله _ عز وجل _ بلجام من نار يوم القيامة)).
وهذا هو الأصل، لكنه قد يكون لعالم عذر في إسرار شيء من العلم، لا تعيه العامة، واجتماع الناس أولى ، شريطة ألا يكون في ذلك طمس لحكم الشر ع، وليس فيه تبديل لكلام الله من تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله، وإخفاء ذلك لا يكون إلا لبعض الجزئيات التي ليست هي أصول الدين وكلياته ولذلك ذكر القاضي ابن أبي يعلى في كتابه الطبقات أن هارون الأنطاكي قال: كنت عند الإمام أحمد _ عليه رحمة الله تعالى _ وربما أخرج إلي شيئا من أحاديث السلطان ، فيقول لي: "يا أبا جعفر هذا خيط رقبتي فانظر كيف " يعني لا تُشْهِرهُ.
وكذلك قد ذكر الخلال قال : كان الحسن أبو علي الثعلبي صاحب حظوة عند الإمام أحمد وله به أُنْسٌ شديد قال الثعلبي: كنت إذا دخلت على أحمد يقول: إني أفشي إليك ما لا أفشيه إلى ولدي ولا إلى غيره ، فأقول له: لك عندي ما قاله العباس لابنه عبد الله: إن عمر يكرمك ويقدمك فلا تفشي له سراً، قال: فإن أمت فقد ذهب وإن أعش فلن أحدث بها عنك قال: فكان يفشي له أشياء كثيرة.
ولذلك اعتمادهم على مصلحة عظمى وهي اجتماع كلمة الأمة وتآلفهم وقربهم ما لم يضيع ذلك أصلاً من أصول الدين، ويحدث تبديلاً لشرع الله فاجتماع الأمة على قول مرجوح خير من اقترافها على قولٍ راجح ما لم يكن ذلك في الأصول العظام وكليات الدين، ولم يقتضي ذلك تبديلاً لشرع الله أو تحليل لما حرم الله أو تحريما لما أحل الله.
وهذه قاعدة مهمة ينبغي أن تُفْهَم بشروطها وقيودها.(12/111)
ولذلك فإن الأصول الكلية في الإسلام ، أصول الديانة والضروريات التي أمر الله - عز وجل - بحفظها وهي الدين والعقل والمال والنفس والعرض - هي أهم ما ينبغي حفظه وصونه وإظهار أحكام الله فيه، وهي ما أمر الله بحفظه وصيانته من التبديل والتحريف وهي مهمة العلماء القائمين بأمر الله.
أسأل الله _ عز وجل _ أن يوفقني وإياكم لمرضاته وهو الموفق المؤيد وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد .انتهى
---------
[1][1] ـ (5/196).
[2] ـ رواه أبو داود (3641) ، والترمذي (2682) ، وابن ماجة ( 223 ) من حديث أبي الدرداء _ رضي الله عنه _.
[3] ـ أخرجه ابن عدي في الكامل(1/152) و (3/256) ، والعقيلي في الضعفاء (4/256).
[4] ـ التمهيد (1/28).
[5] ـ مفتاح دار السعادة (1/495_ 496).
[6] ـ انظر جامع البيان للطبري (7/408).
[7] ـ جامع بيان العلم وفضله (1/305).
[8] ـ ابن جرير الطبري في جامع البيان ( / ) .
[9] ـ (16/441_ نووي ).
[10]ـ المسند (3/157).
[11] ـ(16/300_ نووي).
[12]ـ البخاري (71) ، ومسلم (7/128_ نووي) كلاهما من حديث معاوية بن أبي سفيان _ رضي الله عنه.
[13]ـ جزء من حديث أخرجه مسلم في صحيحه ( 17/24-نووي) من حديث أبي هريرة- رضي الله عنه _.
[14]ـ في صحيحه (16/300_نووي) .
[15] ـ (5/138).
[16] رواه : البخاري ( 2652) و (6658) ، ومسلم (16/302_ نووي) من حديث ابن مسعود _ رضي الله عنه _ لكن عندهم بلفظ (( خير الناس ...)).
[17]ـ برقم : ( 4452) و(4453).
[18] سيرة ابن هشام ( 4 /451_ الروض ) .
[19]ـ أخرجه الطيالسي ( 213) ، والحاكم ( 4/75_76 ) .
[20] ـ البخاري (25) ومسلم (1/157_نووي) .
[21]ـ الترمذي في الشمائل (405 _ مختصر ) .
[22] انظر الكامل في التاريخ (1/201) لابن الأثير _ رحمه الله ، والبداية والنهاية (6/702) للحافظ ابن كثير _ رحمه الله _.
[23] سبق تخريجه ص : ( )
[24]ـ (3/544).
[25]ـ سبق تخريجه ص ( ) .
[26]ـ الجامع لأحكام القرآن ( 2/181 ) .
[27]ـ البخاري ( 5063) من حديث أنس بن مالك _ رضي الله عنه _.
[28]ـ برقم : ( ) .
[29] ـ ( / ) .
[30]ـ حلية الأولياء (8/90).
[31]ـ جامع البيان (5/396) .
[32] سبق تخريجه : ( ) .
[33] الترمذي (2414).
[34]ـ البخاري (2440) و(6535) من حديث أبي سعيد الخدري _ رضي الله عنه
[35]ـ البيهقي في دلائل النبوة (2/188).
[36] ـ البخاري (1360) ومسلم (1/163_ نووي) من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه .
[37]ـ الترمذي (3107) من حديث ابن عباس _ رضي الله عنه ، وقال الترمذي _ رحمه الله _ ( حديث حسن ) .
[38]ـ صحيح البخاري ( 7) .
[39]ـ ابو داود (1960).
[40]ـ مسلم (13/52_ نووي). والترمذي (2383) ، والنسائي (3137) من حديث أبي هريرة _ رضي الله عنه .
[41] أبو داود ( 3658) ، والترمذي ( 2649 )، وابن ماجه(261) ، وقال الترمذي : ( حديث حسن ) .
==============
منهج متكامل للدعاة في آية
قوله تعالى: (( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) (يوسف: 108).
تضمّن منهجاً متكاملاً للدعاة إلى الله، تتجلّى ملامحه فيما يلي:
1- ففي قوله ( قل ): الإعلان المنافي للكتمان، وهذا هو الأصل في الدعوة، وما سوى ذلك فهو أمر طاريء يقدّر بقدره.
2- وفي قوله ( هذه سبيلي ): الوضوح المنافي للغموض.
3 - وفي قوله ( أدعو ): الدعوة إلى الله ـ عزّ وجلّ ـ المنافي للدعة والسكون.
4- وفي قوله: ( إلى الله ): الإخلاص المنافي للرياء، فالداعي يدعو إلى الله ـ عزّ وجلّ ـ لا إلى نفسه، ولا إلى غير ذلك من حظوظ الأنفس.
5- وفي قوله ( على بصيرة ): العلم المنافي للجهل، ويشمل: فقه الواقع، وفقه النصوص القواطع، وهذا ما يدلّ عليه لفظ ( البصيرة )، وهذا لا يكون إلا مع تقوى الله ـ عزّ وجلّ ـ.
6- وفي قوله ( أنا ): أهميّة القيادة ووحدتها، المنافي للفوضى وتعدّد المرجعيّات.
7- وفي قوله ( ومن اتّبعني ): أهميّة الجماعة في الدعوة المنافي للفردية الفوضوية، فالداعي لا يدعو وحده، بل في جماعة.
8- وفي قوله ( ومن اتّبعني ) أيضاً: أهميّة الاتّباع المبنيّ على الدليل الصحيح، والنظر الثاقب، المنافي للتقليد الجامد، الذي تنتج عنه الحزبيّة الضيّقة، والعصبية المقيتة، ولو بخلاف الدليل.
9- وفي قوله ( وسبحان الله ): التوحيد الخالص لله ـ عزّ وجلّ ـ، وتنْزيهه من كلّ نقيصة وخسيسة، ونفي كلّ ندٍّ عنه وشريك، على حدّ قوله سبحانه: (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)) (الشورى:11).
10- وقوله ( وما أنا من المشركين ): البراءة من الشرك وأهله، فلا يتمّ توحيد العبد إلا بذلك، وهذا والذي قبله هو الأساس الذي تقوم عليه الدعوة، بل يقوم عليه دين كلّ مسلم موحّد، كما قال تعالى: (( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ..)) (البقرة: 256). وكما جاء في الحديث الشريف: ((من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يُعبد من دون الله؛ حرم ماله ودمه، وحسابه على الله)).
فلم يجعل قول لا إله إلا الله كافياً في عصمة الدم والمال، حتّى أضاف إليه الكفر بما يُعبد من دون الله، وهذه هي حقيقة التوحيد.
هذه هي ملامح هذا المنهج الفريد في الدعوة، جمعه الله في آية واحدة، فسبحان الحكيم العليم.
===========
رسالة إلى داعية تعب في دعوته
رسالة إلى داعية تعب في دعوته ثم كسل فقعد عن أمته
أخي الكريم:(12/112)
فقد أوجب الله علينا جميعاً التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ولا نجاة لنا من الخسر إلا بهذا، ومن هنا جاءت هذه الرسالة.
إن مما يراه المرء في هذا الزمن – زمن الفتن من شبهةٍ، أو شهوةٍ، أو بدعة – يرى بعضاً من الدعاة إلى الله تعالى يصول ويجول في دعوته إلى الحق، ويحرص على هداية الناس، ما يترك شاذةً ولا فاذةً إلا عملها أو شارك فيها؛ حرصاً على اكتساب الأجر واغتنام الفضل، ينعصر قلبه حرقة لهذا الدين القويم، ويتألم إذا أهين عباد الله المتقون، وتمضي به السنون وهو على هذا المنهاج القويم والصراط المستقيم.
• ثم.. ثم بعد هذا النشاط يدب الفتور والبرود إليه، ويتخلى عن دعوته، لا انتكاساً ولكن تقاعداً وانشغالاً بالولد والرزق وكثرة الارتباط، كما يزعم ظاناً أنه صاحب الفضل على هذه الدعوة وأهلها، وأنه سيفتح المجال لغيره، أما هو فقد بلغ في نظره من الكِبَر عتياً، مقتصراً على الأجور العظيمة والفضائل الكثيرة التي عملها من قبل إن كان مخلصاً نقياً.
• وبعد هذا الانقطاع يرى أنه سيعكف على تربية أولاده، وبناء نفسه التي في نظره أنه أهملها كثيراً من خلال ما تقدم من سنوات في دعوته.
• وبعد ذلك يبدأ نشيطاً في برنامجه الجديد، مصمماً السير على منهجه الذي وضعه لنفسه، وبعد حين يتوسع في المباح، وتتزعزع تلك المبادئ الشرعية التي لا يمكن أن يفتح المجال للكلام والخوض فيها في عز دعوته، حتى إن البعض منهم ما بينه وبين الانتكاس إلا أقل من خيط بيت العنكبوت .
• إن المرء ليحزن قلبه ويضيق صدره حينما يرى ويشاهد أعداء هذا الدين وقد عكفوا على محاولة هدم هذا الدين، وإفساد أخلاق أهله ليل نهار، ويعجب من صبرهم وجَلَدهم على باطلهم، بينما صاحب الحق والدعوة الناصعة، والحجة البينة الواضحة قد تقاعس في دعوته، وبخل على أمته في أشد ما تكون حاجتها إليه.
• إن على المرء المؤمن أن يسأل نفسه ماذا قدمت لهذا الدين، وخدمة عباد الله المؤمنين أمام هذا السيل الجارف من الفساد في العقائد والأخلاق.
• لقد كان أهل العلم قبل سنوات ليست بالكثيرة يحذّرون الأمة من التلفاز وخطره على الأولاد والأخلاق، ثم جاء الكفار بما هو أشد خطراً وأعظم أثراً وهو الفيديو، جاءت بعده الأطباق الفضائية، ثم أنتج هؤلاء الأعداء المعتدون الإنترنت بشره وخيره...، وهكذا.. فهم ماضون في محاولة هدم هذا الدين وتغيير أخلاق أهله.. إنهم يفكرون ثم ينتجون ما يخدم أهدافهم، وينتجون ما هو أشد فتكاً وأسرع خطراً على هذا الدين وأهله.
• لقد بخل هذا الداعية على أمته بشيء من عمله اليسير وجُهده القليل، بينما هي قدمت له الشيء والشيء الكثير.
• كيف يبخل ويقعد عن أمته ونصرتها بعد أن ذاق حلاوة الدعوة إلى الله، ولذة الحرص على هداية عباد الله ؟ كيف يقعد عن الدعوة مَنْ يرى أمته تهوي في مكانٍ سحيق وتقرب من عذاب الله الأليم، وهو متبلد الإحساس، فاقد الضمير، لا يأمر ولا ينهى، ولا يدل ولا يرشد، همه جيبه ومصلحته، غايته هندامه ومركبه، قرة عينه ولده وزوجه ؟ أما أمته التي غُزيت من كل جانب، فقد خذلها في أشد ما تكون حاجتها إليه.
• لقد نسي هذا القاعد عن دعوته، أو تناسى أن دين الله وإن حدث له ما حدث فإنّ النهاية له، والنصر حليفه حقاً ويقيناً لا مرية فيه، فهذا الدين لا ينتظره لينصره فنصره ليس واقفاً عليه، ولكن لهذا المرء الشرف والعزة والرفعة أن يكون من المشاركين في نصرة هذا الدين.
• إن مشاركة الإنسان لنصر الأمة ليس متوقفاً في حلقةٍ أو مكتبةٍ بل كل مجالٍ للخير، فهو مشاركة للأمة في نصرتها مهما كان وأينما حل وصار، فالحرص على هداية الأهل والأقارب أو الجيران وأبنائهم، أو الزملاء والأصدقاء، أو العمال والجاليات، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو غيرها هي من طرق الدعوة وسبلها الكثيرة والكثيرة جداً.
• ليت الذي تكاثر عمله وجهده يقارنه بعلماء الأمة العاملين، ليعلم ضآلة عمله وقلة جهده، فمنذ أن كان في بطن أمه أو ظهر أبيه كان هؤلاء يدعون إلى الله- تعالى - ولا زالوا حتى الآن، إنهم لم يملوا ولم يكلوا، بل ليس هناك سبيل في المشاركة في أي عمل إلا أسهموا بسهمهم وأدلوا بدلوهم، إنهم يحملون همَّ الإصلاح، ويستشعرون عِظَم المسؤولية مع كثرة أعمالهم، وزحمة أشغالهم، وكبر سنهم، وقلة صحتهم، ومع ذلك فهم يسألون الله الثبات حتى الممات على هذا الدرب القويم.
• ليت الذي قعد عن دعوته يدخل أحد المقاهي المنتشرة لينظر بأم عينه همة شباب المسلمين وقد عكفوا على فيلم فاضح، وصوَّبوا النظر إلى وجهٍ داعر، وأعجبوا بمغنٍ فاسق.
• ليت الذي زهد في دعوته يدخل أحد أسواق المسلمين لينظر كيف أصبح الحجاب الشرعي غريباً، وحل محله كل موضة وصرخة جديدة.
• ليت الذي تكاسل عن دعوته يقرب من شباب المسلمين لينظر فيم يفكرون أو يتكلمون.
قال شيخٌ كريمٌ وداعيةٌ مشهور:
لئن كنَّا نعطي الدعوة جزءاً من وقتنا، فيجب أن نعطيها الآن أضعاف تلك الأوقات، وذلك لقلة العاملين وكثرة المتكاسلين والمرجفين بل والقاعدين.
أخي الداعية:
امضِ في طريقك غير ملتفتٍ لصيحات المخذلين والراضين بالدون من العمل، واعلم أنك على ثغر من ثغور هذا الدين، فالله الله لا يُؤتينَّ الإسلام من قِبَلِك، فجدِّد الأسلوب وغيِّر الطريقة، ونوِّع الطرح، وحذِّر من الفتن، وركِّز على مراقبة الله في السر والعلن، والجدية في الالتزام، فنحن لسنا بحاجة إلى كثرة عدد وقلة عمل، وإياك ثم إياك أن تحتقر أحداً من المدعوين، فربَّ إنسان احتقرته ثم أهملته ولو استقام لنفع الله به الأمة.
أخي الكريم:(12/113)
إن الداعية إلى الله- تعالى- ينبغي ألا يفوّت على نفسه فرصة للدعوة إذا سنحت له إلا وقد استغلها، يلقي خلالها كلمة ولا يحتقرها، فربما وقعت في قلبٍ خاوٍ تائهٍ فغيّرت المسار، وحُطَّ عنك بها الأوزار، وأرضت العزيز الغفار.
أخي الكريم:
إننا معشر الدعاة إلى الله- تعالى- نحمل رسالة في هذه الحياة وفي أعناقنا أمانة يجب أن نؤديها كما أمر الله، فضع يدك في أيدينا، وضم صوتك إلى أصواتنا، ننادي بالخير وندعوا إلى السعادة، نُرشد إلى الهداية، ونُحذر من الضلالة.
ثبتنا الله وإياك على دينه حتى يأتينا اليقين، وإلى لقاءٍ في عليين، في مقعد صدق عند مليكٍ مقتدر، وصلى الله وسلم وبارك على خير الداعين والعاملين لهذا الدين، محمد بن عبد الله- عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم.
من لم يتعظ بآي القرآن وحوادث الزمان فلا حيلة فيه
=============
كيف غيرت المجالس
* وضعت في صدر المجلس على طاولة صغيرة: (( وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً)) (الحجرات:12).
في البداية الضحكات مكتومة والأعين مشدودة، وكأنها تقول لهم إياكم والغيبة، وكلما تحدثت إحداهن ثم عرجت على ذكر فلانة أشارت صاحبة المنزل إلى اللوحة، شيئاً فشيئاً حتى خلت مجالسهن من الغيبة.
* حديثها يأتي كنسمة الصباح المشرق، تدير الحوار، ثم تقفز بالحاضرات من الموديلات والأزياء لتحدثهن عما جرى في مدرستها، إنها قصة وفاة ابنة عمها طالبة لديهم، ترقق بها القلب، ثم تعقب بحديث عن الموت وقصص أخرى، تحول المجلس إلى مجلس ذكر وخير.
* في مجلس عام تسلطت عليها امرأة قليلة الحياء، بذيئة اللسان، عديمة الأخلاق بالسب والشتم، قالت في نفسها وهي لا ترد حرفاً واحداً عليها، لماذا لا أكون ممن قال الرحمن فيهم: ((وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ)) (آل عمران134).
* مجلس آخر تكررت نفس البذاءة وهي صامتة ساكتة، لا تتفوه ببنت شفة، وبعد شهور وهي مرفوعة الرأس جاءتها سليطة اللسان تعتذر عما بدر، وترجو العفو والصفح.
* للعاملات في الدعوة إلى الله نصيب من النقد، وتصيد الأخطاء، والتشهير والتقليل من أعمالهن، ومن تتبع أصحاب الحديث والكلام لوجد أنهن النائمات فقط، فالتشهير سهل، وتصيد الأخطاء سهل، ووالله لو لم يعملن لما وجد خطأ، ولكن ليتكن بقيتن على نومكن لكان أهون الشرين.
أما الأخت الناصحة الباحثة عن الحق فإنها نادرة، بها تصحح الأخطاء، وتتدارك الهفوات.
* مجتمعنا مجتمع مفتوح، البعض أصبح مثل الأسفنج إذا وضع في الماء يمتص كل شيء، والكثيرات كذلك وبعض كالإمعة ما إن تسمع حتى تقلد، وما إن ترى حتى تحذو.
ولمواجهة جزء من هذا الغزو أخرج العلماء- حفظهم الله- فتاوى فيما استجد من عباءة مطرزة، وبنطلون وطرح مزركشة، إنها فتاوى مهمة في ورقة أو أكثر، تقوم بتصويرها وتوزيعها على مجتمع النساء في المدرسة، والحي والسوق، وتتابع ما استجد من الفتن.
================
حقيبة الدعوة
* سمعت أن محل التسجيلات الإسلامية الموجود في حيهم يعاني من ضائقة مالية، وأنه ربما يقفل أو ينتقل.
قالت في نفسها: هذا خير كثير، نخشى أن ينغلق أو يرحل عنا، هبت مسرعة، وبدأت تشتري من الأشرطة النافعة وتوزعها، ودفعت ببعض المتبرعين لشراء أشرطة دينية من المحل، دعماً لنشاطه حتى لا يتوقف.
احتسبت الأجر مرتين، في دعم نشاط إسلامي ربما ينقطع خيره، واحتسبت الأجر في توزيع الأشرطة على المعارف والجيران.
* مثل حقائب النساء التي لا تخلو من أدوات الزينة، حقيبتها لا تخلو من مجموعة من الكتيبات والمطويات، فأينما ذهبت واستقرت وضعت تلك الكتب، إنها نبع من ينابيع الخير، جملها الله بالتقوى، وزانها بالإخلاص، ولم ينقص من أدوات زينتها شيء، إنها داعية بعملها هذا، ورغم أن الجميع يستطيع أن يقوم به لكن أين أهل الهمة والغيرة والحماس؟!.
* اسم عائلتها يتردد بكثرة، وله رنين وجاه وبريق، فهي من كبار العوائل، وصاحبة نسب رفيع، وعندما سكنت بجوار مسجد ملحق به مغسلة أموات، بدأت تذهب بنفسها وتغسل المتوفيات، ولا أحد يعلم أنها فلانة بنت فلان، وكثير إذا ذكر لهن الاسم لا يصدقن، ولكنها منابت الخير، وطرق الهداية والتوفيق.
* طرق سمعها حديث الرسول- صلى الله عليه وسلم -: (( من جهز غازيا فقد غزا )).
لم تتردد ولم تتأخر، دفعت المبلغ وناولته زوجة جارهم، وأقسمت عليها أن لا تخبر زوجها من أين أتى بهذا المبلغ، وقالت: هذا مبلغ من محسنة لتجهيز غاز أدفعه إلى مؤسسة خيرية تقوم بإيصاله، غزت وأخلصت. رفع الله درجتها.
* ناولت البائع في المحل مجموعة من الكتيبات والأشرطة، وطلبت منه توزيعها على المتسوقات وإهدائها لهن.
* من رأى إهمال البعض في أمور الدعوة يناله العجب، حتى من هم في بيوتهم لا يدعونهم إلى الإسلام الصحيح بل يتركون، ولذا فقد أنشأت مكتبة صوتية في منزلي ورتبتها حسب اللغات الموجودة لدينا، وكلما رأيت خادمة، وسمعت بقدوم سائق أهديته مجموعة كاملة من الأشرطة المنوعة بلغته، وسألت هل هناك من تعرف من يجيد لغتك، عندها وضعت له الأشرطة حسب حاجته.
* لقرب مسكنها من المسجد الذي يوجد به مغسلة أموات فقد تولت بنفسها إعداد الأكفان، وتجهيز بعض الأغراض التي تخص الموتى وترسلها إلى المغسلة.
* دعت أقاربها وصديقاتها إلى حفل عشاء، وأسرت في أذن من ترى أنها تشجعها: لقد حفظت سورة البقرة.
ولذلك فرحت وجمعتكم لهذا، لا تخبري أحداً بهذا، وسأنتظرك وأنت تدعين الجميع لحفلة مثل هذه تكونين قد حفظتي فيها سورة البقرة.
* صوم يومي الاثنين والخميس، وكذلك أيام البيض، سنابل مورقة لمن أراد الاستزادة في الطريق الطويل.(12/114)
* يعلم القريبات أنها خير معينة لزوجها في الدعوة إلى الله، فهو يجوب الداخل والخارج داعياً وواعظاً، لم تمانع ولم تقف في وجهه حجر عثرة، تحتسب الأجر وهي تمكث في دارها أو في دار والدها مع أطفالها صابرة على أذاهم، متحملة المشقة بفراق زوجها في سبيل الدعوة إلى الله.
==============
كيف تكون خطبتك مؤثرة ؟
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله ومن والاه إلى يوم الدين أما بعد:
فمضمون الخطبة هو الجانب الأهم في الخطبة، وهو الذي عليه مدار إصلاح القلوب والأعمال، والأخلاق والسلوك، تثبيتا للصواب، وتكثيراً له، وتحذيراً من الخطأ وتقليلا له، وهناك عدة معالم وأسس تنطلق منها الخطبة الهادفة وترتكز عليها:
الأولى: تقرير الأصول والأركان حيث يكون للخطيب عناية خاصة بتقرير مسائل الإيمان والعقيدة، ولا يأنف من ذكرها والتأكيد عليها بين الفينة والأخرى، ولا يستبد به الولع بالمستجدات أيا كانت، وتطغى عليه هذه النزعة، فيهمل تلك الجوانب العظيمة، ولربما تركها أو تساهل فيها بعض الخطباء؛ اعتماداً على سبق معرفة المستمعين لها أو دراسته إياها، وهذا على فرض ثبوته، فإن لغة الخطيب قدسية المكان وعبودية الاستماع تختلف عن لغة التعليم والدراسة فهما، وتأثراً وتطبيقا، إضافة إلى أن في المستمعين ربما من لم يتعلم في التعليم النظامي، أو ليست هذه المسائل من ضمن فقرات المنهج، ولهذا كانت خطب النبي صلى الله عليه وسلم مشتملة على هذه القضايا الأساسية .
يقول ابن القيم- رحمه الله- كما في زاد المعاد: ( كانت خطبه صلى الله عليه وسلم إنما هي تقرير لأصول الإيمان، من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه، وذكر الجنة والنار، وما أعده لأوليائه وأهل طاعته، وما أعد لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب من خطبته إيماناً وتوحيدا..) ويقول أيضا: ( ومن تأمل خطب النبي- صلى الله عليه وسلم- وخطب أصحابه، وجدها كفيلة ببيان الهدي والتوحيد، وذكر صفات الرب جل جلاله، وأصول الإيمان الكلية، والدعوة إلى الله، وذكر آلائه التي تحببه إلى خلقه، وأيامه التي تخوفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره الذي يحببهم إليه، فيذكرون من عظمة الله وصفاته وأسمائه ما يحببه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره ما يحببهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم )[1]
القضية الثانية: التنويع، فالخطبة الناجحة النافعة هي التي ينوع الخطيب في موضوعاتها كل خطبة بما يناسب مقامها وظروفها الزمانية والمكانية، بحيث لا يكرر ولا يعيد، بل يرسم لنفسه خطاً بيانياً علميا يحاول أن يأتي عليه جميعا في فترة معينة يحددها؛ بحيث إن المستمع الذي لا يكاد يفارق هذا الخطيب؛ يطمئن إلى أنه استوعب واستمع إلى جميع ما يحتاجه في أمور دينه، ولم يفته منه شيء، وقد يعيد الخطيب بعض الموضوعات التي تتأكد الحاجة إليها، ولكن بأسلوب مغاير وعرض مختلف، وتهيئة الخطيب نفسه على تنويع الموضوعات حسب ما تقتضيه المناسبات أو الظروف والأزمات؛ يقضي على الرتابة عنده والتكرار الذي ربما لا يحس به، كمن يأسره مثلا موضوع معين أو أكثر أو تخصص معين ؛ فتجده لا ينفك عن طرحه إلا قليلا، وكان سيد الخطباء صلى الله عليه وسلم يراعي مقتضى الحال في خطبه، ويذكر عنه ابن القيم- رحمه الله-: ( وكان- صلى الله عليه وسلم- يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم).
ويقول أيضا: ( وكان يخطب في كل وقت بما تقتضيه حاجة المخاطبين ومصلحتهم) ومن هنا فإن على الخطيب أن يتناول في خطبته القضايا الإيمانية والعبادية والأخلاق والسلوكيات .
القضية الثالثة: العلمية: فالخطبة الناجحة المؤثرة؛ هي التي يعتمد فيها الخطيب على التأصيل العلمي؛ لأنه يتحدث من منبر شرعي، يحضره الناس لتلقي الطرح الشرعي المؤصل، وليس المنبر موقعاً خاصاً أو ديوانية أو وسيلة إعلامية تنسب للشخص ذاته، فعلى الخطيب أن يتقي الله فيما يطرح، فلا يخوض في القضايا بغير تأصيل وعلم وسبق تحر وبحث، وألا يكون طرحه للقضايا المهمة مبنياً على وجهة نظر شخصية عارية عن التنقيح أو التحقيق، ومهما كان للخطيب فصاحة وبلاغة وثقافة، فلا يغنيه ذلك عن التأصيل العلمي والرجوع إلى المحكمات دون المشتبهات، وإلى اليقينيات دون الظنيات، وإلى ما تثبت منه دون ما ظنه، أو اشتبه عليه، يقول أحد السلف: ( من أعجب برأيه ضل ومن استغنى بعقله زل ).
وقد أعجبني كلاماً للشيخ الطنطاوي- يرحمه الله- وهو يتحدث عن عيوب الخطبة في زمانه فيقول: ( ومن أعظم عيوب الخطبة في أيامنا؛ أن الخطيب ينسى أنه يقوم مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتكلم بلسان الشرع، وأن عليه أن يبين حكم الله فقط لا آراءه هو، وخطرات ذهنه، إلى أن يقول: ومن الخطباء من يأتي بأحكام غير محققة ولا مسلمة عند أهل العلم، يفتي بها على المنبر، ويأمر الناس بها، ولو اقتصر على المسائل المتفق عليها فأمر بها العامة، وترك الخلافية لمجالس العلماء لكان أحسن )
القضية الرابعة: الاستدلالية: فالخطبة المؤثرة ؛ هي التي يزينها الخطيب بكثرة الأدلة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية؛ ليربط السامعين بمصادر التلقي الشرعية أولا، وليثبت القضية المطروحة ثانيا، ويحسن أن يكون الاستدلال بعد عرض المسألة وطرحها؛ لتتهيأ النفوس لسماع ما يثبت ذلك؛ فإذا سمعته بعد ذلك؛ وعته وعقلته وأحسنت ربط القضية بدليلها .(12/115)
قال عمران بن حطان: خطبت عند زياد خطبة ظننت أني لم أقصر فيها عن غاية، ولم أدع لطاعة علة، فمررت ببعض المجالس فسمعت شيخاً يقول: هذا الفتى أخطب العرب لو كان في خطبته شيء من القرآن[2].
وفي قضية الاستدلال: يجب على الخطيب أن يتحرى الأحاديث التي يلقيها في خطبته، فيتقي الله أن يأتي بأحاديث موضوعة أو منكرة أو ضعيفة، أو يتبع فيها غيره ممن يتساهل من مؤلفي دواوين الخطب القديمة أو الحديثة ورسائل التخريج، وتمييز الصحيح من غيره أصبحت ميسرة جدا بحمد لله ، سواء كان عن طريق البحث الموضوعي في أبواب كتب السنة عن طريق فهارسها، والحاسب الآلي والشبكة العنكبوتية، سهلت ذلك أكثر وأكثر فلا عذر في التقاعس والتقصير في التخريج أو في الحكم على الحديث.
خامسا: الوعظية: ولابد من اشتمال الخطبة الناجحة على عنصر الوعظ، كما كان هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وليس الوعظ قسيما للعلم، أو مقابلا له، كما قد يتصور الكثيرون ممن يقصرون معنى الوعظ على الجانب التخويفي أو الترغيب فقط، وهذا فهم قاصر؛ إذ الوعظ في اصطلاح القرآن أعم من مجرد الترغيب والترهيب؛ ولهذا جاء وصف القرآن كله بأنه موعظة: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ)) (يونس: 57).
وفي الأحكام قال تعالى: (( فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً)) ( الطلاق: 2)
ومن هنا يتضح أن الموعظة وعاء، ومَرْكَب وقالب لجميع الموضوعات الإيمانية أو العبادية، أو الأخلاقية أو الاجتماعية، فلا تكون الخطبة مجرد عرض بارد أو تقرير هادئ، أو أخبار مسرودة، وإنما لابد أن تساق بسياق وعظي بالندب للفعل إن كان الموضوع علميا، والتحذير منه إن كان يتعلق بمحرم ومعصية، والتحفيز على ما وراء الخبر إن كان الموضوع خبرا أو قصص قرآني، وقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمر وجهه وعلا صوته، حتى كأنه منذر حرب يقول صبحكم ومساكم، وهكذا مفهوم اللغة الوعظية في الخطبة، لا يتصور أن يفضَّل عليها أي مضمون .
سادسا: الاستباقية: لابد لكي تكون الخطبة ناجحة ومؤثرة علينا نناقش - إضافة إلى القضايا الحاضرة الراهنة وما يحتاج إليه المسلمون في كافة أمورهم ومسائلهم، أن نناقش أيضاً القضايا التي يتوقع وقوعها وحدوثها، أو الأحداث والفتن التي يخشى وقوعها، وذلك توضيحاً لأحكامها إن كانت مناسبات ومواسم، أو تحذيراً من أسبابها إن كانت مصائب وفتنا ومنكرات .
وهاهنا قاعدة شرعية تقول: ( الدفع أولى من الرفع)؛ لأن مدافعة الشيء قبل وقوعه تكون من حيث السهولة وقلة مفسدته.
يقول الغزال- رحمه الله- : ( إذا حدثت البدع الصارفة عن مقتضى القرآن والسنة فلفقت لها شبه، وثبت لها كلام مؤلف صار ذلك المحظور بحكم الضرورة مأذونا فيه"[3] وإذا تأملنا بعض خطب النبي- صلى الله عليه وسلم- وجدناها على هذا النسق في مثل قوله: (( ويل للعرب من شر قد اقترب))[4] .
وقوله: (( أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر))[5].
وقوله: (( والله ما الفقر أخشى عليكم إنما أخشى أن تفتح عليكم الدنيا فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم))[6].
وقوله: (( إن بين يدي الساعة سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ))[7].
[1] الزاد 1/423
[2] البيان والتبيين 1/ 77
[3] إحياء علوم الدين 1/ 22
[4] رواه البخاري رقم الحديث 3168
[5] رواه أحمد في مسنده رقم الحديث 23680
[6] رواه البخاري حديث 2988
[7] رواه ابن ماجه حديث 4036 وأحمد حديث 7899
================
الإحسان إلى الخلق
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ, ونستغفرهُ, ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا, ومن سيِّئاتِ أعمالِنا, منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لهُ, ومنْ يُضلل فلا هاديَ له. وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله. (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) (آل عمران:102). (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) (النساء:1). ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)) (الأحزاب:70-71).
أما بعدُ : فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله, وخيرُ الهدي هديُ محمدٍ ص وشرُّ الأمورِ مُحدثاتُها, وكل محدثةٍ بدعة, وكلَّ بدعةٍ ضلالة, وكلَّ ضلالةٍ في النار.
أما بعد ، أيها المسلمون : فإن مما يميز هذا الدين العظيم عن غيره من الأديان المحرفة, و الشرائع المبدلة, والأنظمة الهزيلة, القاصرة عنايته بإقامة جسور المحبة والوئام, بين أفراد المجتمع وتحقيق مفهوم الجسد الواحد, الذي إن اشتكى منه عضواً تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر .(12/116)
ومن هنا نجد القرآن الكريم يعرض نماذج واقعية, وأمثلة حية, تجسد ذلك المعنى الكبير, وتشوق النفوس الخيرة إلى صنائع المعروف, وبذل الإحسان للآخرين, دون منٍ أو أذى, ولقد كان أسرع الناس إلى صنائع المعروف هم أولئك الرجال العظام.
كان أسرع الناس إلى صنائع المعروف من رسل الله وأوليائه, الذين امتلأت أحاسيسهم ومشاعرهم بحاجات الآخرين, ورقت قلوبهم وأفئدتهم, لمعاناة المبتلين من عباد الله , فتحول ذلك الحق المرهف من الشعور النبيل إلى ممارسةٍ عمليةٍ وواقعٍ محسوس, يقدم من خلاله العون برحابه صدر, ويسدي المعروف بكل تفانٍ وإخلاص, هذا نبي الله موسى عليه السلام يخرج من أرض مصر، خائفاً يترقب, متوجهاً إلى بلاد مدين التي لا يعرف فيها أحداً يهدئ روعته, ويؤنس وحشته .
ويصل موسى إلى أرض مدين بعد رحلة شاقة وعناءٍ مستمر, يصلها وقد بلغ منه الإعياء مبلغة, وأخذ منه الجهد مأخذه, يصلها بقلبٍ مرتجف, ونفسٍ خائفةٍ, وغربة مستحكمة, فيجد مجموعاً من الناس تزدحم حولها بئر من الماء يسقون, ويلفت نظره من الخلق, مشهد امرأتين تذودان غنيماتهما في معزل من الناس, فتتحرك نخوة هذا الشهم البطل, رغم تعبه, وإعيائه, وإجهاده, ويقترب منها على استحياء ما خطبكما ؟! سؤال مختصر, لا حاجة معه إلى مقدمات شيطانية, تحرك كوامن الشر في النفوس, وتؤجج فتيل الفتنة في القلوب, ما خطبكما ؟! ويأتيه الجواب على قدر السؤال دون تميع, أو انكسار قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير.
إنه ما كان ينبغي لنا أن نزاحم الرجال من أجل الماء, فيأتي علينا حياؤنا ذلك وتأباه حشمتنا ووقارنا .
فنحن ننتظر انصرافهم, وأبونا شيخ كبير, عاجز عن أداء المهمة نيابة عنَّا, وهنا يتناسى موسى عليه السلام نفسه المجهدة, وقلبه المرعوب, وجوعه وتعبه وإعياءه, ويتجاهل غربته وهمِّه وحزنه, يتجاهل ذلك كلِّه, وتدفعه نخوته وشهامته, ومروءته وطيب معدنه, إلى مدِّ يد العون, والإحسان إلى هايتك المرأتين الضعفتين, ويكفيهما معاناة الانتظار, ومشقة السقيا , فسقى لها ثم تولى إلى الظل, لم ينتظر كلمة شكر, أو عبارة ثناءٍ, فسؤاله للمرأتين كان لله, واستماعه لإجابتها كان لله, وسقيه لهما كان لله, فسقى لهما ثم تولى إلى الظل, قال رب إنِّي لما أنزلت إلي من خير فقير، إنه ينزل حاجته بربه, ويطلب المدد من خالقة الذي لا تنفذ خزائنه, ولا ينتقص ملكه, رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير, فأنا فقير إلى عطائك, محتاج إلى نعمائك, لا أنتظر من غيرك أجراً, ولا من سواك شكراَ, وبمعنى هذا النبي الكريم يلجأ إلى ربه بعد حياة حافلة بالجهاد والدعوة, والبذل والعطاء, والإحسان للآخرين, وتتقدم الآجال وتنقضي الأيام والسنون, فتشرق على الدنيا أنوار محيا رسول الله محمد علية الصلاة والسلام, الذي كان آية في الإحسان, وبذل المعروف للآخرين, فإليك أشياء من خبره, وقطوفاً من نبأه, يبدأ عليه السلام حياته بالعظمة, يتحنث في غار حراء بعيداً عن سخافات الجاهلية, وعبثها, وفجورها, وانحرافها, فلا يشعر إلاَّ وجبرائيل عليه السلام يفاجئه بما لم يخطر له على بال, وينبئه بآي من الذكر الحكيم, لم يسمع من قبل لها مثيلاً, فيرتجف قلبه, وترتجف بوادره, ويعود مفزوعاً مكروباً, فيدخل على زوجه الحنون, زملوني زملوني, فتهدى خديجة رضي الله عنها من روعه, وتخفف من فزعة وهلعه, وتقسم بالله غير حانثة والله لا يخزيك الله أبداً, إنك لتصل الرحم, وتصدق الحديث, وتحمل الكل, وتكسب المعدوم, وتقري الضيف, وتعين على نوائب الحق , تذكره بتلك الصفات الجليلة التي لازمته عليه السلام, حتى قبل أن تفيض على قلبه أنوار النبوة, وتشرق في نفسه مصابيح الرسالة حاجتها, فيقف معها بكل تواضع وسماحة نفس, وتطول وقفتها, وتمتد حاجتها, فلا يسأم ولا يمل وبجانبه عدي بن حاتم رضي الله عنه – يراقب هذا الموقف العجيب ، من رسول الله صلى الله علية وسلم, ويعجب من سعة باله, ودماثة خلقة, وعدي رجل قد جالس الملوك في قصورهم, ورأى الخدم والحشم في بلاطهم, ورأى طوابير الحجاب على أبوابهم, ورأى ذلِّ الحاجة وثقل الانتظار على أبواب السلاطين, فها له تواضع محمد عليه السلام, وطلاقة وجه, وبسطه لرعايته وقضاءه لحوائجهم, وإحسانه إليهم, ومخالطته لهم في أسواقهم, وشوارعهم دون تكلفٍ, أو ترفعٍ فهو التواضع من غير ذل, والتبسط من غير لؤم, والتعالي من غير كبرٍ, وينتقل الرسول العظيم إلى ربه قرير العين, هانئ البال, مخلفاً رجالاً ولا كل الرجال، فيتولى الصديق – رضي الله عنه – مقاليد الأمور, وتندلع فتنة المرتدين, ويمتنع الأعراب عن دفع الزكاة للخليفة المفجوع بفقد حبيبه, وقرة عينه, ويضطرب الأصحاب من هول الكارثة, وفداحة المصبية , فيضغط الصديق على أعصابه, ويحاصر مشاعرهِ وهو يواجه أعظم فتنة, ويكابد أشد المواقف وأحرجها , هموم كالجبال, وفتن كالليل, وظروف ما أقساها, فيجيش-رضي الله عنه- الجيوش لقتال المرتدين, وينفذ جيش أسامة ، المنتظر على أبواب المدينة, ويعزى آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم بفقيد البشرية, وخسارة الدنيا , ورغم هذه الظروف المفزعة, والأحوال المؤسفة, يسل الصديق من بين هذا الركام الضخم، من الهموم والمشاغل قاصداً بيت امرأةٍ عجوز في أطراف المدينة, يجلب لها شأنها, ويكنس لها بيتها, , ويصنع لها طعامها, أي رجال هؤلاء، خليفة المسلمين وقائد الأمة ورجل الأول .(12/117)
لم تلهه مشاغل الخلافة وتبعاتها ، ومسئوليات الأمة ومشكلاتها, عن تفقد امرأةٍ عجوز, وتلمس حاجاتها, إنه الإحساس بالآخرين, ومتابعة الرعية عن قرب, بعيداً عن الضجيج الإعلامي, والصخب الدعائي, إنها صنائع المعروف التي أشرب أولئك الأجداد حبها, وضربت في أعماق القلوب جذورها, " إنهم كانوا يسارعون في الخيرات, ويدعوننا رغباً ورهباً, وكانوا لنا خاشعين " وتمضي أيام الصديق سريعةً, وتنقضي خلافته على عجلٍ, فسيتخلف من بعده الداهية المسدد, والعبقري الفذ- عمر نوَرَ الله قبره وأجزل مثبوته .
يخرج – رضي الله عنه – ليلة يجوب شوارع المدينة يتفقد أحوال الأمة بنفسه, فيسمع امرأة تشكو قسوة الوجوه بين حيطان منزلها, وتعاني مشقة فراق بعلها المجاهد في سبيل الله, فيرق قلبه لشكواها, ويقدر حجم معاناتها, ويسرع إلى ابنته حفصه, أي بنية كم تصبر المرأة عن زوجها, فيحمر وجه تلك العفيفة الخجولة التي رباها عمر, فأحسن تربتها, وتزوجها رسول الله فأحسن عشرتها, فهي من بيت نبي, فهي تتقلب في بيوت الفضيلة, وتتعلم في حجر العفة والمروءة, فهي لم تتربى يوماً ما على أفلام العري, ومشاهد الغرام, ولم تقرأ روايات عميد الأدب العربي وأشباهه , فتشير بأصابعها الأربع ليس ذلك إلا بعد إلحاح أبيها الحريص على مصلحة رعاياه رجالاً ونساءً, فيصدر على الفور أمره العاجل إلى عماله في الثغور والأمصار, ألا يبقين جندي واحد فوق أربعة أشهر أو ستة, لقد كان بإمكان عمر أن يتجاهل شكوى تلك البائسة المحرومة, ويصم أذنيه عن أنين امرأة لا تأثير لها في مجريات الأمور, أو مع الأقل كان بالإمكان أن يمنح زوجها استثناءً دون سائر الجند, فيعود أدراجه إلى المدينة, لكن تأبى عليه نخوته, وشهامته, وعدله ومروءته أن يحابي أحداً على حساب الآخرين, أو يميز بين أفراد الأمة الواحدة .
لأن إحساس عمر بمعاناة تلك المشتاقة لزوجها, كان ينبع من صميم ضميره, وينطلق من شغاف قلبه, ولم يكن صنعه للمعروف نزوة طارئة, أو تصرفاً طائشاً , ويصبح عمرو بن عبد العزيز ذات يوم وقد حمل إليه البريد برقية عاجلة من أرض مصر, لم يكتب البرقية أميرٌ من أُمرائه ينبئه عن أحوال الإمارة, وأخبار السياسة, ولم يكتب البرقية قائدٌ من قواده يخبره عن أنباء الفتوح, واحتياجات الجيوش, وإنما كانت البرقية فرتونه, أتردون من هي فرتونه ؟ أمة بسيطة أُعتقت, يفتح عمر البرقية فإذا بها تقول : من فرتونه إلى عمر أمير المؤمنين, لقد تحطم حائط دجاجي, فالغلماء يعدون على الدجاج ويسرقونه فالعجل العجل , أنقذ دجاجي , أنقذ دجاجي, فماذا تراه يصنع عمر أمام هذا المطلب العجيب, وهذا الخليفة الذي مازالت جيوشه تعيد صياغة خريطة العالم من جديد, بفضل الفتوحات المذهلة , يا عمر، العجل العجل, فالغلمان يعدون على دجاجي يسرقونها, لقد كانت امرأة بسيطة في اهتماماتها قروية في حاجاتها, لم تتعدى همومها مسافة الجدار المحيط بدجاجها, ولم تدرك بعد تلك المشاغل المتعددة, والمسئوليات الجسام, التي كانت تستنفذ وقت الخليفة, وتستهلك طاقته ورغم ذلك يكتب عمر، إلى عامله في مصر, أن أسرع ببناء جدار "فرتونه," فإن الغلمان يعدون على دجاجها فيسرقونه,
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وأيا كم بالذكر الحكيم .واستغفر بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وأيَّا كم بالذكرِ الحكيم، واستغفر الله لي ولكم إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله يُعطي ويمنع, ويخفضُ ويرفع, ويضرُ وينفع, ألا إلى اللهِ تصيرُ الأمور. وأُصلي وأسلمُ على الرحمةِ المهداة, والنعمةِ المُسداة, وعلى آلهِ وأصحابه والتابعين .
أما بعد أيها المسلمون :
فإننا معاشر المسلمين بحاجة جد ماسة, إلى تلمس احتياجات الآخرين, ومِّد يد العون للمحتاجين، والمسابقة إلى صنائع المعروف دون مَنٍ أو أذى, ودون انتظار لشكرٍ, أو ثناء, أو حتى دعاء فقد كانت عائشة – رضي الله عنها – إذا أرسلت إلى قوم بصدقة, تقول: لمن أرسلته بها اسمع ما يد عون به لنا ، حتى ندعو لهم بمثله, ويبقى أجرنا على الله, وهي تفضل ذلك لأنها إنما أسدت المعروف لوجه الله, لا تريد جزاء ولا شكوراً .
قال شيخ الإسلام: في فتاويه ومن الجزاء أن يطلب الدعاء .
أيها المسلمون : إن في مجتمعات المسلمين اليوم أسراً يدكها الفقر دكاً, يئن أطفالها من الجوع, و يقضُّ مضاجعها طرقات صاحب البيت ، يطلب الإيجار، فمن لهؤلاء بعد الله ؟! وإن في بيوت المسلمين, الأرملة البائسة, والعجوز اليائسة, واليتيم الحزين, والمعقد المحروم, فمن يقضي حوائجهم, ومن يلتفت إليهم ابتغاء مرضاة الله, هل أدرك المتسابقون في الدعوة إلى الله أن مجال الدعوة ليس متوقفاً على الشريط والكتاب, والنشرة والموعظة, ولكنها ممتدة الجوانب, فسيحة الأرجاء, مترامية الأطراف, وأن من لا يمكن دعوته بالموعظة المؤثرة والنصيحة المعبرة, قد يستجيب بالابتسامة المشرقة, والكلمة الطيبة, والإحسان إليه, وخدمته في نفسه, وولده.(12/118)
لكن يا لله العجب! كيف زهد الناس في مثاقيل الأجور, وصحائف الأعمال الصالحة, وغابت عن حياة كثير منهم تلك المعاني السامية, حتى غلبت الأنانية على نفوسهم, واستولت اللامبالاة على مشاعرهم, فإذا بجفاف المعاملة يصاحب كل تصرفاتهم, تدخل على الموظف في دائرته, تحمل في يديك ملفاً ضخما قد حشي أوراقاً لا داعي لها, فيخاطبك من خلف صفحات جريدته بكل برود, ويطلب منك مراجعته في الغد أو بعد غد, فما الذي يدفعه إلى إجهاد الآخرين, وإضاعة أوقاتهم, والتلاعب بأعصابهم, واستفزاز مشاعرهم, أليس هو غياب مفهوم ((وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ)) (البلد : 17) ؟
العامل المسكين يفارق أهله وأولاده, ويقطع المسافات الطويلة, ويبذل الجهد المتقبل بحثاً عن لقمة العيش, وحفظ ماء الوجه, فيحرم من أجرته, ويمر الهلال ثم الهلال ثم الهلال سنة أهله, أو ثمانية أو عشرة وهو لم يستلم مرتبه ولم يحول إلى أهله وأولاده المترقبين على أحر من الجمر ريالاً واحداً ، فما الذي أدى بأولئك الظلمة إلى أكل أموال أجرائهم بالباطل ؟
أليس هذا نسيان قوله تعالى: ((وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)) (المطففين :1-3).
أليس السبب في كل ذلك انقطاع وشائج المحبة, و اندثار معاني الرحمة, وزوال الرحمة, وزوال مشاعر الألفة وخفض الجناح؟!
ألا إنها دعوة إلى مراجعة آداب الإسلام من جديد, واستشعار مناهجه بإخلاص, إلا إنها دعوة إلى محاكمة النفس بصدق, وإيقاظ الضمير بقوة.
اللهم زينا بزينةِ الإيمانِ واجعلنا هداةً مهتدين,لا ضاليَن ولا مُضلين, بالمعروف آمرين, وعن المنكر ناهين يا ربَّ العالمين, ألا وصلوا وسلموا على من أُمرتم بالصلاة عليه إمام المتقين وقائد الغر المحجلين وعلى أله وصحابته أجمعين .
وأرضي اللهم عن الخلفاء الراشدين أبو بكرٍ وعمر وعثمان وعلي
اللهم آمنا في الأوطانِ والدور وأصلحِ الأئمةَ وولاةِ الأمورِ, يا عزيزُ يا غفور, سبحان ربك رب العزة عما يصفون .
=============
مجالات الدعوة عند المرأة
إن واجب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى لا يختص به الرجال دون النساء، بل يستوي فيه الطرفين في تحمل هذه المسئولية, ولابد من الإشارة أن لكلٍ من الرجل والمرأة وسائله المختلفة عن الأخر، والمجالات التي يدعو فيها, وهذا ما عناه الشيخ في مقاله.
إدارة الموقع
1– المدرسة أو الجامعة: وينبغي للأخوات أن لا يحصرن النشاط في المصلى فقط أو مقر الجامعة فقط، فهناك من الطالبات من لا تحضر إلى هذا المصلى أو إلى هذا المقرر، وعندما أقول المدرسة أو الجامعة لا يعني هذا أن الكلام للطالبات فقط، لا بل حتى للمدرسات والموظفات، وسيأتي الكلام في هذا عند الكلام على الدعوة والتعليم.
2– حلقات تحفيظ القرآن الكريم: التي تعقد في غير وقت الدراسة، وهذه الحلقات مجال رحب للدعوة، لأنه يأتيها فئات مختلفة وليس المتعلمات فقط.
3– الاجتماعات العائلية: ينبغي الاستفادة بما يعود علينا بالخير بدلاً من قضائها في القيل والقال والغيبة والنميمة، وتكون الاستفادة منها بما يلي:
أ – إلقاء كلمة ب – عمل مسابقة لشريط أو كتيب ج- مسابقة حفظ القرآن د – مسابقة ثقافية هـ – توزيع أشرطة وكتيبات.
4– الأماكن العامة للتجمعات النسائية: كالملاهي فإنه يحصل فيها من المنكرات ما الله به عليم، فإذا ذهبت إلى هذه الملاهي مجموعة من الصالحات الداعيات ربما استطعن أن يوجهن الحاضرات ولو بعضهن، ولكن لا تذهبي لوحدك فربما لا تنجحين .
كذلك في حفلات الزواج في القصور، فرصة مناسبة للدعوة وتبليغ الخير.
خامساً : الدعوة والتعليم :
التعليم من أرحب مجالات الدعوة في هذا العصر، ولذا فالمعلمة إن اغتنمت هذه الفرصة فقد نالت حظاً عظيماً من الخير بإذن الله.
أختي المعلمة: هل تعلمين أنك في وظيفة عظيمة وأمانة جسيمة، نعم والله أنها كذلك، هل تعرفين أنك تصنعين الجيل القادم، وربما ما بعد القادم، إنك تدرسين أمهات المستقبل، نساء الجيل القادم، وأمهات الجيل ما بعد القادم، هل شعرت الآن بعظم الأمانة ؟
ولكن ولمناسبة الكلام إليك بعض ا لنقاط .
النقطة الأولى: عليك بالإخلاص، إخلاص النية في التدريس، لا يكن همك الوظيفة لأجل المادة أو لإشباع الرغبة في السيطرة وحب الأمر والنهي، تفرحين إذا أمرت بأمر فأتمر، وإذا نهيت عن شيء فانتهي عنه، لا يكن هذا همك، بل ليكن همك خدمة دينك في هذه الوظيفة.(12/119)
النقطة الثانية: مارسي الدعوة إلى الله بكل الوسائل والطرق المتاحة، ربيِّ طالباتك على القيم الإسلامية على الخوف من الله ومراقبته، اغتنمي كل فرصة لتسدي إليهن توجيهاتك، لا تحتقري شيئاً فرب كلمة صادقة أثرت تأثيراً بالغاً، وربما قلت كلمة استفادت منها طالبة ونسيتها، فما تزال هذه الطالبة تعمل بها فيكتب لك مثل أجرها، وربما دعت غيرها إلى العمل بها تكتب لك الحسنات وأنت لا تشعرين، إنهن يسمعن لك لا تقولي إنهن صغار ولا يفهمن، فو الله إننا لنذكر كلمات من مدرسينا ونحن في مقتبل العمر، متى تدعين إلى الله إن لم تدعي في المدرسة، متى يتوفر عندك مثل هذا العدد، ويعطينك مثل هذا الاحترام، لماذا تحرمي نفسك الخير، هل تدركين أن رب كلمة منك أنقذت عفاف بنت ومنعت من معصية، هل تدركين أن رب كلمة منك صلحت بسببها بنت فتسببت في إصلاح بيت من بيوت المسلمين، هل تدركين أن رب كلمة منك عملت بها بنت فكانت سبباً في دخولها الجنة، هل تدركين أن رب كلمة منك عملت بها بنت وعلمتها أخواتها ومن ثم أولادها فلا يزالون يعملون ويكتب لك مثل أجورهن، إذن أيتها الأخت لا تحتقري الدعوة إلى الله ولا تتركيها، تدخلين ثم تخرجين كما دخلت، همك إنهاء المنهج فقط، أسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل .
النقطة الثالثة: اتقني عملك وأحسني التدريس، فإنه يحبب الطالبات بك، وبالتالي يسهل عليك التأثير عليهن.
النقطة الرابعة: هن ينظرن إليك على أنك الأصح وما عداك خطأ، فكوني قدوة صالحة لهن في كل ما تستطيعين.
النقطة الخامسة: تكسبين الطالبات بحسن خلقك فاجعليه وسيلة لك إلى الدعوة.
النقطة السادسة: اربطي المنهج قدر ما تستطيعين بالتوجيهات النافعة، واغتنمي الفرص كحصة الفراغ مثلاً .
النقطة السابعة: ازرعي الخوف من الله في نفوس الطالبات لا الخوف من النظام.
==============
إخلاص معلمة
* هذه أمنيتي منذ الطفولة، أن أكون معلمة أعلم وأربي، وفي مرحلة الدراسة الجامعية كنت أستعد لهذه المهنة، بل ربما دعوت الله عز وجل أن يمد في عمري حتى أعيش تلك اللحظة.
ويزيد حماسي إذا سمعت عن مهنة التعليم، وكيف أن القائمين عليها يمتلكون نشء هذه الأمة، ويملكون التأثير عليهم أكثر من الأب والأم،
مرت الأيام سريعة، ثم انخرطنا بفضل الله في جو الدعوة إلى الله وعرفنا أن المعلمة على ثغر من ثغور الدين، وقد يؤتى الإسلام من قبلها، فيزيد الشوق ويختلجه شيء من الخوف، وجاءت لحظة التخرج وتحقق الحلم، وبدأ انتظار الوظيفة، وقبل أن أتولى زمام الأمور كنت أستمع إلى الكثير من التوجيهات.
قالت لي إحدى الأخوات في معرض النصيحة: [ الآن اتكأت عليكم الأمة وألقت بين أيديكم صغار براعمها لتشرفوا على تعليمها].
زاد الحماس وطال الانتظار، ولسان حالي يقول متى أخدمك يا أمتي؟ وأخيراً.. زفت إلينا الوظيفة، وبدأت لحظة العطاء، الدروس والمسابقات والنشرات، كلها أفكار تنتظر طريقها إلى التلميذات، وحتما نحن بحاجة إلى معين، ولكن ما إن نطرح على إحداهن- أعني رفيقات المهنة- فكرة حتى ترد ما شاء الله هذا هو حال كل مبتدئة، ثم إذا علمت أنك غير متزوجة قالت: نعم لو كنت متزوجة لما فكرت بذلك.
أيتها الأخت يوم كنا بلا أزواج كانت لنا أفكار، وكانت لنا أنشطة، وكانت لنا همم، ولكن مسؤولية الزوج والبيت والأبناء لا تدع لك مجالاً للتفكير.
وهكذا، ما أكثر الكلمات من هذا النوع، ولكن لكي تحافظي على هذه الهمة فعليك أن تعملي بصمت.
ثم لاح لي في هذا الجو ظل أخت لا أراها إلا صامتة عاملة، أم لأربعة أطفال، ومسؤولة عن المحاضرات المدرسية، وأول من ينظم لحفلاتها وأنشطتها، وهي مع ذلك مدرسة ناجحة.
تسهر بين الكتب لتلم بجوانب درسها، وداعية موفقة في وسط مجتمعها وبين أفراد عائلتها، من خلال المحاضرات التي تلقيها في كثير من المناسبات والأماكن العامة.
وإلى جانب ذلك فهي أخت ناصحة لا تدخر وسعاً في تقديم المشورة والرأي لأخواتها، بل وتسعى في تلبية حاجتهم الدنيوية أيضاً، وإذا ما ذكرت أحوال المسلمين فهي أولى الباذلات بالمال والشريط والكتاب.
تلك هي سيرتها في المدرسة، أما بيتها فيحوي أطفالاً متفوقين، ولا أظن خلفتهم إلا أم واعية أحسبها كذلك ولا أزكيها على الله.
سألت عن عمرها الوظيفي فقيل لي: أنها جاوزت الثمان سنوات وهي على هذا الحال، فقلت: الحمد لله هذه حجة عليكن.
هذا هو ما أبحث عنه، إنها الشخصية المتكاملة التي تفتقدها المرأة المسلمة، والتي رضيت لنفسها براتب ضخم لم (تحلل) ولا ربعه، وأسرة ضائعة، وزوج يعاني، وأبناء مهملين، أما الدعوة فلا وقت لديها للتفكير فيها أصلاً، ولو سئلت هذه الأخت هل منعك التدريس من زيارة السوق ولو مرة في الأسبوع، لقالت: لا تلك ضرورة.
عاد لي حماسي قليلاً وأنا أنظر إلى سيرة هذه الأخت بعد أن كرهت الزواج الذي سيعزلني عن الدعوة وعن حياتي الحقيقية، مع قناعتي أن في تلك اللحظة سأضطر إلى ترك هذه الوظيفة لأتفرغ لأداء الرسالة الحقيقية، والتي لن تقل عن التدريس متعة، فكلا مقصديها شريف.
أختي المعلمة: ألست معي في أن النية الصالحة والصدق مع الله هو سر نجاح تلك المعلمة، وسر التسخير الذي لاقته ربما من الزوج والأبناء وكل من حولها ؟!
نسأل الله عزوجل أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يسخرنا لخدمة دينه وكتابه والدعوة إليه، اللهم آمين.
==============
غراس السنابل1-5
الحمد لله القائل: (( وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ )) (آل عمران:133 ).(12/120)
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة وجاهد في الله حق جهاده.
أما بعد:
فإن الدعوة إلى الله من أهم المهمات وأوجب الواجبات، بها يستقيم أمر الفرد ويصلح حال المجتمع، ولقد كان للمرأة المسلمة دور مبكر في الدعوة إلى الله ونشر هذا الدين، فهي أم الرجال وصانعة الأبطال، ومربية الأجيال، لها من كنانة الخير سهام، وفي سبيل الدعوة موطن ومقام، بجهدها يشرق أمل الأمة ويلوح فجره القريب.
وقد جمعت لها مائة وثلاث وثمانين سنبلة، تقطف الأخت المسلمة زهرتها وتأخذ من رحيقها، فهي سنابل مخضرة، وأرض يانعة، غرستها أخت لها في الله حتى آتت أكلها واستقام عودها.
إنها نماذج دعوية لعمل الحفيدات الصالحات، ممن يركضن للآخرة ركضا، ويسعين لها سعيا، فأردت بجمعها أن تكون دافعاً إلى العمل، ومحركة للهمم، واختصرتها في نقاط سريعة لتنوعها وكثرتها، واكتفيت بالإشارة والتذكير.
وما كان لمثلي أن يستقصي الوسائل الدعوية للمرأة المسلمة، ولكنها مساهمة يسيرة ومشاركة متواضعة.
وفي الطريق لأخذ السنابل عقبات كثيرة، وصوارف عديدة.
وهي وإن كانت تعوق المسير لكنها لا تمنع السير، بها يتضاعف الأجر وتزيد المثوبة.
فألقي- أيتها الأخت المسلمة- رداء الكسل، واستعيني بالله واستقبلي أيامك بالعزيمة والصبر، فإن أمامك غراس الآخرة، فأري الله منك خيراً.
رزقني الله وإياك أصوب العمل وأخلصه، وجعل لنا من الأجر أتمه وأكمله، وبوأك ظلال الجنة، وحرم وجهك على النار، وجعل مثواك جنات عدن تجري من تحتها الأنهار.
سنبلة العام
* من التفت يمنةً ونظر يسرةً يطاله العجب من حال العالم الإسلامي. جراح في كل مكان، وآلام وآهات في كل جسد مسلم.
كثيرة هي آمالنا، أن نعين المنكوب، ونعلم الجاهل، ونرعى الأرملة، ونكفل اليتيم، ولكنها تبقى أماني حتى تخرج إلى أرض الواقع قولاً وفعلاً.
نتساءل في أوقات كثيرة والحزن يملأ القلوب، ماذا نفعل؟! وماذا نقدم؟!
إليك يا من طال تساؤلك، وكثرت أمانيك، باب مفتوح للخير، مشروعنا الأول- كما أسمو- خطوة في درب الجهاد الطويل.
إنه مشروع دعوي يتكرر نهاية كل عام دراسي مرة واحدة، يتمثل في جمع أوراق الدفاتر المدرسية الزائدة عن الحاجة والتي لم تستعمل. وتجميعها وإعادة تغليفها بالورق المقوى، ليصبح لدينا بعد تجميع الأوراق دفتر جديد صالح للاستعمال.
في هذا المشروع البسيط ومن مدرسة واحدة في منطقة الدمام تم جمع أكثر من 4500 دفتر
نعم في عام واحد ومن مدرسة واحدة أربعة آلاف وخمسمائة دفتر.
التكاليف محدودة جدا، دباسة وأوراق لاصقة توضع فوق غلاف الدفتر الجديد، فيها معلومات عن الاسم والمدرسة، والصف إضافة إلى الغلاف المقوى الخارجي.
وقد قامت إحدى الهيئات الخيرية بإرسال هذه الدفاتر إلى أنحاء المسلمين المحتاجين إليها.
إنه مشروع دفاتر طالب العلم، للحفاظ على أموال المسلمين من أن تلقى في المخلفات وهي صالحة للاستعمال، وبالإمكان جمع بقايا الأدوات المكتبية الأخرى، كالأقلام والمساطر وغيرها، دعوة ممن بدأن العمل وسن سنة حسنة.
مدي يدك واجعلها في أيدينا كل عام، وفي أيام معدودة تساهمين مساهمة كبيرة في نشر العلم بين صفوف المسلمين، إنها أيام غالية.
لا تضيعيها في الأماني والأمنيات أيتها الحبيبة.
سنبلة مشرقة
* منذ أحد عشر عاماً كانت تلك الليلة ليلة مشرقة في حياتي، لا زلت أذكرها جيداً حيث تحدثنا عن الإسراف والتبذير في مجتمعنا وهو مجال ملاحظ ومشاهد، ولا نلقي لها بالاً.
كنا ثلاث نساء فقط في تلك الأمسية الجميلة، ولامسنا الجرح المؤلم والنزف الدائم لأموالنا، عندها تشاورنا أن يكون لنا دور في خدمة هذا الدين العظيم، هنا صممت إحدانا وبقيت أنا وأخت واحدة، انتهى الحديث، ومن ثم المجلس وقررنا العمل على قدر استطاعتنا..
بدأنا بجمع مبالغ شهرية تصل إلى مائة ريال فقط، لم ينقص من أموالنا شيء ولا رأينا في ثيابنا قلة، استمر عملنا أشهراً متتابعة ونحن ندخر مائتي ريال شهرياً وندفعها لصالح الأعمال الإسلامية الخيرية، ثم يسر الله وتوسعت الدائرة وكثر الخير، وبدأ الكثيرات يشاركننا في دفع هذا المبلغ الرمزي، مائة ريال كل شهر، حتى وصل ما نجمعه إلى مبالغ كبيرة معظمها من المعارف والأقارب والجيران.
بدأنا بإرسال رسائل إلى الخارج تحمل كتباً في العقيدة بمعدل إرسال أسبوعي يقارب مائتي رسالة وأكثر من خمسين طرداً كبيراً، يحوي أمهات الكتب إلى أنحاء العالم، واستمر عملنا طوال سنوات ماضية. نرسل من خلالها العقيدة الصحيحة والعلم النافع إلى جميع أنحاء العالم.
ورغم أن هذا هو عملنا لفترة طويلة ومستمرة، إلا أنه تبقى لدينا خلال تلك الفترة فائض مالي عن حاجة الإرسال، فكان أن أنفقناه في مشاريع أخرى عن طريق جهات خيرية معروفة، إنه مشروع بدأ بمائتي ريال. ولكن ألقي- أختي المسلمة- نظرة إلى بعض الحصاد، حفر تسعة عشر بئراً عادياً، وحفر ثلاثة آبار ارتوازية تكلفتها ستون ألف ريال، وبناء خمسة مساجد، وإرسال ألوف من الكتب، إضافة إلى مبالغ مقطوعة تدفع لمساعدة إخواننا المحتاجين في الصومال والبوسنة وغيرهما.
إنه مشروع صغير مائة ريال، حتى بارك الله فيها وجعلها تنمو وتنمو وتنمو.
سنبلة مباركة
* ريعان الشباب كفراشة تنبض بالحياة، لم يتجاوز عمرها السبعة عشر عاماً، تحمل هم الدعوة وهم الأمة، تتحرق شوقاً لرفعة راية الإسلام. همها منصرف للدعوة، عيونها تتابع المحاضرات ومتى موعدها؟ ومن ستلقيها؟ أما حفظ القرآن فقد انصرفت بكليتها نحو حفظه.(12/121)
حركة لا تهدأ، فمن نصيحة رقيقة تهديها إلى إحدى زميلاتها، إلى كلمة حلوة تدعو فيها لحفظ القرآن في مصلى المدرسة، إلى قوة في إنكار المنكر وعدم الصبر على رؤيته، أما المدرسات فلهن نصيب من دعوتها.
الله أكبر!! لا تراها إلا تتقلب في أنواع العبادة.
يوما أهمها أن ترى مديرة المدرسة لا تلبس الجوارب، صعدت إليها وسلمت في أدب رفيع، وشكرت المديرة على جهدها.
وقالت: نحن ندعو لك بظهر الغيب وأنت القدوة والمربية والموجهة، ثم تبعت ذلك لا أراك تلبسين الجوارب وأنت تعلمين أن القدم عورة، وخروجك ودخولك مع البوابة الرسمية عبر أعين الرجال يا أستاذتي الفاضلة.
طأطأت مديرة المدرسة رأسها وهي تعلم صدق نصيحة الفتاة، فكان أن قبلت وشكرت، وقالت في نفسها إن الكلمة الصادقة لها رنين ووقع في النفس.
فرحت الطالبة وهي ترى المديرة تستجيب لله ولرسوله وتعود من قريب، وحمدت الله على قبول النصيحة، ولكن هناك أمراً أهمها فكرت لمن تبثه ولمن تقوله؟.
* فاجأت مدرسة العلوم الشرعية وهي قدوتها ومربيتها بسؤال عجيب. يا أستاذتي الفاضلة!! أين نصيب المستخدمات في المدرسة من الدروس وحفظ القرآن والمواعظ، هيا لنبدأ معهن، قررت مع مدرستها أن تعلمهن قصار السور ويدعين لحضور المحاضرات المدرسية، وبحثن عن داعية في المدرسة صاحبة صبر وجلد وسعة بال وقلن لها: هنا نساء في منزلة أمهاتنا لمن نتركهن؟!
إنها فتاة الإسلام، مباركة أينما كانت، مباركة أينما حلت وارتحلت!!
==============
غراس السنابل 2- 5
إلى تلك الصور المتميزة، والإشراقات المتلألئة على جبين حفيدة عائشة وفاطمة وأسماء.
إلى الوجوه المضيئة التي تفخر بها أمة محمد- صلى الله عليه وسلم-. مائة وثلاث وثمانون سنبلة تتصاغر أمام تلك الأخت العاملة الصامتة وهي تسارع تتقي بيدها الوهن والضعف، وقطرات من العرق تجمل جبينها، ما كلت قدمها، وما تعبت يدها ولا فتر لسانها.
سنبلة الصحبة
* أثر الصحبة عجيب، تأمل قول الله تعالى في سورة الكهف عندما رفع درجة الكلب برفقته للصالحين وذكره معهم: ((سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ )) (الكهف:22).
أما هي فعندما توفيت صديقتها فقد جعلت عمرة ابنها الصغير عن هذه الصديقة، أما الأخرى فإن لسانها يلهج بالدعاء والرحمة لها.
* بدأنا طريق الهداية ونحن في المرحلة الجامعية، ثلاث قريبات جمعتنا القرابة، وزادت المقاعد الدراسية ذلك الحب والود، ثم تأصل كل ذلك محبة في الله، بدأنا في جمع مبلغ بسيط من مرتباتنا في الجامعة، به نشتري بعض الكتيبات والأشرطة، وعلى الرغم من قلة هذا المبلغ إلا أن الله بارك فيه ليشمل ما نوزعه على جميع أقاربنا ومعارفنا، وبدأ ينضم إلينا بعض فتيات العائلة حتى تيسرت أمورنا، ولم تعد المادة عائقاً نحو شراء تلك الكتب والأشرطة.
* صاحبة طاعة وقيام ليل، لا تترك النوافل، وعندما تحدث زميلاتها في المدرسة الثانوية تحث فيهن روح العمل، هيا نصلي، متى نعمل إذا كبرنا وأصبح الوقوف صعباً، والركوع مشقة، والسجود بجهد، نحن في زمن النشاط والقوة، هيا نعمل ونجد في الطاعة قبل أن يدركنا الموت أو تدب إلينا الأمراض والأسقام والأوجاع، وقبل أن تكثر مسؤولياتنا من زوج وأبناء.
* ثلاث زميلات في الجامعة تعاهدن على حفظ القرآن كاملا، وكان بينهن اتصال مستمر مساء كل يوم لتسميع ما حفظن، دقائق معدودة وفي نهاية الأسبوع يكون التسميع لبعض الآيات، من أول السورة ووسطها وآخرها ليسترجعن ويتأكدن من حفظهن، كانت النتيجة من هذا الخير في شهر ونصف حفظن سورة البقرة.
* طريق يومي تسلكه يتراوح بين عشر دقائق وخمس عشرة دقيقة، إنه طريق الذهاب إلى الجامعة والعودة.
قررت أن تجعل هذا الوقت لقراءة كتيب نافع، ومراجعة قراءة ما حفظته من كتاب الله، كثيرات يسلكن مثل هذا الطريق منذ سنوات ولكن دون فائدة.
سنبلة الحفيدة
* مدارس كثيرة بها خيرة المعلمات علماً ودعوة ونشاطاً، أما هي عندما عينت فإنها أرسلت إلى مدرسة تزخر بالمعلمات لكنهن نائمات، فلا توجد محاضرات ولا دروس، في البداية بدأت في التودد إلى المدرسات، وقالت: هن أهم عندي الآن من الطالبات، لأنهن داعيات خاملات آثرن الكسل والدعة، فقط يحتجن إلى إيقاظ.
بدأت خطوات الإيقاظ بالكتاب والشريط والهدية، حتى تحولت المدرسة إلى شعلة نشاط ومركز دعوة، حمدت إحداهن الله وهي تردد كيف ضاعت مني خمس سنوات يومياً أقف أمام الطالبات ولم أدعهن وأحدثهن، وأركز على تربيتهن!! إنها الغفلة اليوم والحساب غداً.
* شرعت المعلمة في بيان أضرار السفر والفساد والانحلال في بلاد الكفر، وعقبت بدعاء صادق، نسأل الله أن لا ندخلها ولا نذهب إليها.
ولم ينته الدعاء حتى تسلل من بين الصفوف صوتٌ حمل هم الدعوة: نعم يا معلمة، نسأل الله عز وجل ألا ندخلها إلا فاتحين!! لا فض الله فوك وجعلك وأبناءك من الفاتحين.
* تكد وتكدح للآخرة- والله- إنها تركض للآخرة ركضا، وتسعى إليها سعياً، فمن محاضرات إلى ندوات إلى نصائح، كل عمل خير لها فيه نصيب.
وفي نهاية كل شهر- علمت إحدى المدرسات من زميلاتها- أنها ترسل راتبها كاملاً لأعمال الخير، نعم كاملاً، وأقسمت لقد رأته- برباطه- ترسل به إلى كفالة أيتام وطبع كتب وتجهيز غاز.
جعل الله مستقرك جنات عدن أيتها المؤمنة، ورفع درجتك، وأعلى منزلتك، وكثر من أمثالك، ووالله لأنت حفيدة عائشة وفاطمة.(12/122)
* اجتمعت معلمات المدرسة وقررن الدخول في (جمعية) مع بعض، وكل منهن تتحدث عما ستفعل بالمبلغ عندما تستلمه، أما هي فصامتة تنتظر ذلك اليوم، حتى إذا استلمت المبلغ دفعت به لبناء مسجد لعله يصيبها الأجر والثواب.
سنبلة المرض
* مرضت وأدخلت المستشفى، وكان في ذلك خير كثير لها ولمن حولها، تحولت غرفتها إلى خلية نحل ونشاط متصل، بدأت بتوزيع كتب على الممرضات والطبيبات باللغات الأجنبية واتبعتها الأشرطة.
أما المريضات فحدث ولا حرج عن عدد الكتب التي تم توزيعها حتى فاضت وزادت، ووصلت إلى صالة انتظار النساء في الدور الأرضي. أما تلك المرأة الكبيرة في السن وليس لها نصيب من العلم، فقد اشترت لها جهاز راديو بمبلغ عشرين ريالاً، ووضعت المؤشر على إذاعة القرآن الكريم، ثم تشاورت مع طبيبة داعية وقررن وضع أرفف في ممرات قسم النساء، ووضعن عليه كتباً صغيرة غالبها موجه للنساء.
أما مدير المستشفى فقد وصلته قائمة طويلة بما رأت وما تقترح، ودونت جميع ملاحظاتها في تلك الرسالة.
عجبت الطبيبات من همتها ونشاطها، فهي تتفقد النساء في غرفهن، وتسأل عن حاجتهن وما يردن.
* وعندما رأت الطبيبة امرأة ممن امتشقهن الشيطان، وهي تبرز مفاتنها، وتحمل زهوراً لتقدمها لقريبتها، سألت الطبيبة مريضتها: من أين أتت عادة الزهور، وكيف بدأنا نحرص على إحضارها لمرضانا رغم تكلفتها الباهظة.
قالت المريضة: إنها التبعية والتقلب حتى في الزهور، نحن أمة نتبع التقليد الأعمى، أرأيت في الصناعة لم نصنع قيد بعير، أما في الزهور والموضة والأزياء فحدث عن البحر ولا حرج.
سنبلة في مخيم
* غالب اجتماعات أسرتنا اجتماعات كفقاعات الصابون لا فائدة منها.
بل إن الكثير منها فيها من الذنوب والمعاصي ما الله به عليم.
وعندما أخبرني زوجي أن العائلة قررت إقامة مخيم خارج مدينتنا نمضي فيه أسبوعين كاملين، سمع أنه حرى من كبدي، والتفت إلي متعجباً.
قلت له: لا تعجب، إننا سوف نمضي أسبوعين نبحر فيهما فوق المعاصي والمنكرات، ندافع الذنوب مدافعة!!
شد من أزري وشحذ همتي وقال: هل نتركهم للشيطان يستفزهم بخيله ورجله؟ ليس لك البقاء، والله إنه باب دعوة مفتوح، اطلبي ما شئت.
هون الأمر علي واستحثني بذكر طرفٍ من سيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم - حتى بدأت أفكر وأفكر.
لم يستقر لي قرار حتى هاتفة داعية مجربة ما العمل؟
فأوصتني بالإخلاص وصدق النية، والدعاء والتضرع إلى الله عز وجل. ثم قالت: سارعي إلى الهدايا التي تحبب إليك الصغار وتفرحهم، وهذا سينعكس على الكبار، ولا تنسي هدايا النساء الكبيرات من عباءات مريحة "وغطاء " للوجه، ولا تنسي سجادة للصلاة لكل أم.
إبدائي بدعوة الكبيرات في السن وترقيق قلوبهن، ثم عرجي على صاحبات القلوب الصافية والفطرة السليمة في الشابات وسترين
ما يفرحك، لك فرصة أسبوعين كاملين تدعين فيها إلى الله، متى تجدين في خيمة واحدة مثل هذا العدد لمدة أسبوعين؟!.
ونحن نسير متجهين إلى المخيم أصابني فرح عجيب من حديثها، وإنها فرصة لن تتكرر، وقررت الدعاء وبذل الأسباب، وجعلت الأيام الأولى للأطفال من توزيع الهدايا والمسابقات، وقص بعض قصص الصحابة والتابعين عليهم، ثم بدأت في مساء كل ليلة بدرس لحفظ القرآن.
كل ذلك تم أمام أعين الجميع، فسبحان من يسر وجعل حتى الشابات يقتربن ليسمعن قصص الصحابة والتابعين!! وكانت المفاجأة أسبوع واحد فإذا بي في وسط جو يملأه الفرح والسرور، حتى بعض الشابات بدأن بقيام الليل مع بداية الأسبوع الثاني.
انتهى المخيم وأملي كان دون ما تحقق، فلله الحمد والمنة!! بدأت العلاقات تقوى، وأصبح لنا اجتماع تحفه الرحمة وتتنزل فيه السكينة، شهور فإذا التأثير ينتقل إلى الآباء والإخوان، فأحمد الله عز وجل على توفيقه، ولو بقيتُ في ترددي وتخاذلي وخوفي لما تحقق من ذلك شيء، إنما هو إخلاص وعمل ودعوة.
كم من داعية وسط أسر تائهة، وكم من معلمة وسط جو لم يتغير منذ سنوات، ولكن ماذا أعدت الأخت للإجابة غداً؟! أين الأمانة؟ وأين الدعوة إلى الله؟
=============
غراس السنابل 3 / 5
تناول الشيخ بغراساته منافع يدعوا المرأة إلى الانتفاع بمجالات كثيرة لتأتي سنابل نافعة تعود على المرأة نفسها والمجتمع من حولها.
إدارة الموقع
سنبلة الدعوة
* قليل دائم خير من كثير زائل، وخير العمل أدومه وإن قل، قالت: سأسير على هذا الطريق.
اقتطعت خمسمائة ريال شهرياً من مرتبها ليصرف في أوجه الخير، رأت ولاحظت ودققت ما نقص من مالها شيء يذكر، بل ادخرت هذا المبلغ ليوم تشخص فيه الأبصار.
* تساهم بالكتابة في الصحف والمجلات، وتختار ما يناسب المرأة ويبعث فيها إيمانها، ويزكي حيائها، ترد على الشبه وتشجع المبتدئين أصحاب الخط الواضح، كثير لا يعلم بعملها سوى صديقتها التي تناولها الرسائل، ليبعث بها الأخ إلى البريد.
* للتشجيع وإبداء الملاحظات وطرح الأفكار دور كبير في استمرار كثير من أهل الخير في أعمالهم، وقد سخرت قلمها لتحث وتشجع الكاتب والخطيب وغيرهم، وإن علمت بملاحظة أو رأت نصحاً أو طرحاً جديداً أو أمراً مغفلا أرسلته ضمن اقتراحات وملاحظات.
* رأت أن ظاهرة التصوف بدأت تنتشر في بعض المجتمعات فكان أن هبت واشترت مجموعة كبيرة من الكتب التي توضح الصوفية وتبين أخطاءها، ثم قامت بتوزيع تلك الكتيبات على أكثر الطالبات، وكان مع هذا الكتاب كتاب آخر عن حجاب المرأة المسلمة.(12/123)
* لعلمها أن للبدع أناساً يعملون بجهد واجتهاد، إنهم دعاة على أبواب جهنم، كانت هي حاجزاً في وجه انتشار البدع في مجتمعها وجيرانها ومدرستها، فلديها مطويات تعيد تصويرها كل عام، وتقوم بتوزيعها في زمن البدعة والاعتقاد بها، بدعة المولد وبدعة ليلة الإسراء، وكذلك ليلة النصف من شعبان وغيرها من البدع.
* تفرغت للدعوة إلى الله وهي في عقر دارها، كيف؟! تنسخ مئات من الأشرطة باللغة العربية من محاضرات ودروس وندوات لتوزعها على المتعطشات إلى العلم الشرعي، كما أن لها نصيباً وافراً من نسخ الأشرطة باللغة الأندونسية والفلبينية، فللخادمات والسائقين والقادمين دعوة بالشريط، لم يكلفها المشروع العملاق سوى القليل.
لله درها كم من مستمعة دعت لها، وكم من سامع اتعظ.
سنبلة الهوايات
* ضاعت الأمة بكثرة الهوايات، لا يجد البعض وقتاً لحضور الدروس والمحاضرات، أو لقراءة القرآن، لكن تراه يجري لإشباع غريزته وهوايته.
تعجبت من شاب يخرج أياماً ليس للدعوة إلى الله، بل لصيد نوع من الحيوانات الزاحفة أو الطيور.
أما النساء فبعضهن جعل من هواية قص الموديلات والأزياء وجمعها، هواية ملكت عليها فكرها، وأخذت جل وقتها، أما هي فإن لديها محبة وهواية لتربية الدجاج، لكنها سخرت هذه الهواية لنفع المسلمين ونفع نفسها، فكانت تتصدق باللحم على الفقراء، وتبيع البيض الفائض على أحد المحلات، وتتصدق بالمبلغ.
* هوايتها الطبخ ،ولكن سخرت ذلك لصالح الدعوة، فهي في كل أسبوع تقوم بعمل نوع من الأكلات الخفيفة وترسل به إلى الجيران، وترسل معه كتابا وشريطا، وكل خميس ينتظر الجيران ما يملأ البطون وينفع العقول.
* تحب الأعمال اليدوية، قالت هذا كسب يدي أعمل بكلات وتيجانا للفتيات والصغار، وأبيعها وأكفل أيتاماً بذلك المبلغ.
* أرسلت تقول: وهبني الله معرفة تامة لعمل المخلل، وأتقنت هذا العمل وبرعت فيه، وحينها فكرت أن أتوسع في هذا العمل وأبيعه على المعارف والجيران، وأتصدق بثمنه، ثم إني وسعت الأمر، وذلك بخلط البهارات بنسب معينة، ومن ثم بيعها والتصدق بثمنها.
* والأخرى يسر الله لها عملا آخر تجيده، فهي تخيط شراشف الصلاة وسراويل الأطفال الطويلة، ثم تبيعها وتتصدق بها.
* أما تلك المرأة المسنة فإنها تجيد عملا طيبا آخر، وهو خلط أنواع البخور مع بعضها، حتى تجعله على شكل كرات صغيرة يسمى "معمول " ثم تقوم ببيعه.
إنها طرق للإنفاق متعددة، وكل ميسر لما خلق له، وكل يستثمر نعم الله عليه من إجادة صنعة أو مهنة لفعل الخير وطرق أبوابه.
* إذا كان لديها وقت فراغ فإنها تقوم بتلخيص بعض الكتب في صفحات وتقرأها في مجالس النساء، وتصورها وتوزعها برجاء الفائدة للجميع.
ما أكثر الساحات المحيطة بمنازلنا، ولكنها في الغالب لا يستفاد منها خاصة المكشوفة منها، أما هي فقد قامت بزراعة جزء من ساحة منزلها بأنواع الخضار والنباتات الموسمية، وتوزيعها على فقراء الحي والجيران والأقارب.
لم تكتف وتقف عند حمل هم الدعوة إلى الله، بل إنها بدأت توجه صغارها نحو هم حمل الدعوة إلى الله، وقالت نعودهم على نفع الإسلام والمسلمين منذ الصغر حتى يشبوا عن الطوق ونفوسهم رخيصة في سبيل الله.
* تشارك في وضع لبنة في المجتمع المسلم، وتستقبل أيامها، وترى حال تلك اللبنة وأين مكانها؟ أهي عامل ضعف وثغرة يدخل منها إلى الإسلام؟ أم هي ركن حصين وقناة لا تلين، إنها تشارك في تربية أبناء المسلمين وتعليمهم؟! إنهم أبناءها؟! تتساءل أمنهم عالم الأمة أم هم من الرعاع؟!
* تخدم أخاها وتقدم له ما يريد، وتبحث عن راحته، وترفض أن تقوم الخادمة بتلك الأعمال، بل تحتسب كل عمل لوجه الله، أحبها واحترمها ودعا لها، وزادت المحبة والمودة لتلك الأخت البارة.
سنبلة الأبناء
* جل حديثها عن ابنها لا يتجاوز صحته وسمنته، وماذا أكل وماذا شرب، وكم تعاني من السهر في حال اعتلال صحته، ولكنها ما ألقت بالاً لتربيته ولا تحرت الصحبة الطيبة.
تجهد نفسها لزيادة كيلو جرام أو اثنين من كتل اللحم والشحم البشري ونسيت الأهم.
وأفاقت يوماً فإذا بالطفل أصبح رجلا مكتنزاً لحماً وشحما كما أرادت، يأكل ويشرب ويجلجل صوته في المجلس.
لكنه لا يصلي، ألتفتت خلفها فإذا صغار أختها يؤدون الصلاة ويؤمهم ابن سبع سنين وقد حفظ أجزاء من القرآن، عندها تأكدت أنها لم تكن عرينا لأسود بل مزرعة للتسمين.
* تولي أبناءها عناية خاصة، وترى أنهم عماد الأمة مستقبلا وهم أحفاد السلف الصالح، تحتسب الأجر في تربيتهم وتدفعهم إلى المعالي، ترسخ في نفوسهم القيم الفاضلة، تروي لهم سيرة الرسول ودعوته وصبره ومعاناته، وسيرة أصحابه والعلماء الأخيار حتى تغرس في نفوسهم الصافية محبة هذا الدين ومحبة حمل هذا الدين.
* لمحبتها لهذا الدين ولأنها ترى أن خير وسيلة للدعوة هي تربية النشء على الطاعة والعبادة، وبعدهم عن مواطن الشبه والريب، قررت أن تعتذر عن بعض المناسبات حفاظاً على صغارها من رؤية بعض المنكرات.
تعتذر وهي فرحة بما تقدم لأبنائها من جلوس في المنزل، وبعد عن مالا تحب، رزقها الله التوفيق وأخذ بيدها، كبر الصغير وحفظ القرآن، وظهرت عليه أمارات النباهة والفطانة، وقالت في نفسها الحمد لله!! قدمته للأمة رجلا صالحاً مقيما لحدود الله، وقافاً عند أوامره، مبتعداً عن نواهيه.
* حرصت على أن تحفظ ابنها من المزالق وتحميه من الانحراف، وأن تكثر أمة محمد- صلى الله عليه وسلم-، فدفعت بابنها إلى الزواج وهو في سن الثامنة عشرة، تعجب الكثير! ولكن عندما أصبح الأمر واقعاً تغيرت نظرة الكثير ممن حولهم، وتيقنوا أن تلك السن سن طبيعية للزواج.(12/124)
سنبلة الصباح
* فتحت منزلها للندوات والمحاضرات أسبوعيا، وفتحت قلبها قبل ذلك، فكل أسبوع هناك درس تعده وتلقيه بتمكن وعلم، وبين حين وآخر تستضيف داعية.
وبعد كل درس ومحاضرة تبدأ حركة البيع في ساحة منزلها أشرطة وكتبا، وقفازات وشربات، وريع ذلك كله لصالح الأيتام والفقراء وفي أوجه الخير الأخرى.
* صباح كل يوم قبل أن تبدأ في العمل داخل منزلها تقرأ صفحة من القرآن الكريم، ثم تبدأ بعملها وهي ذاكرة مستغفرة.
* لا تراها إلا رافعة يديها إلى السماء تدعو للأمة بالهداية والرفعة والتمكين، تتحرى أوقات الإجابة، وتلح في الدعاء وتتضرع إلى الله، سألت قريبتها منذ متى لم تدعي الله عز وجل وتتضرعي إليه؟! قالت: تمر شهور لم أشعر بالدعاء الحار، أما الدعاء فهو على لساني دائماً لكن دون روح وذل وخشوع؟! إنها عبادة منسية !!
* وضعت للهاتف شعاراً، صلة الرحم، تعلم العلم، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأمر من أمور الدنيا لابد منه.
* رزقها الله مالاً وفيراً فشكرت له فضله وإحسانه، لديها أكثر من خادمة استفادت من وجودهن بأن أقامت مطبخاً في ساحة المنزل، وتقوم بنفسها ومعها الخادمات بطبخ بعض الأكلات الخفيفة وبيعها على النساء العاملات بسعر زهيد، وتتصدق بهذا المال، فهو من كسب يدها.
* على حداثة سنها وصغرها إلا أنها إذا قامت إلى الصلاة وكبرت علم أهلها أنهم يحتاجون وقتاً طويلاً حتى تنقضي صلاتها.
إنها صلاة وافية كاملة، وليست كما ينقر البعض صلاته.
* في منزلها منذ أن تصبح وحتى تمسي ومؤشر المذياع على محطة إذاعة القرآن الكريم، الله أكبر!! من قراءة قرآن إلى سماع حديث إلى موعظة، إنه صوت يزيل الوحشة وينزل السكينة ويطرد الشياطين.
* تزور المشاغل النسائية وهي تحمل كتباً باللغة العربية لتوزيعها على المرتادات، وكذلك باللغات الأخرى على العاملات، كان لجهدها البسيط أن أسلم على يديها عدد من العاملات، كم امرأة فعلت مثل هذا؟!
سنبلة المحاضرات
* خريجة علوم شرعية ولها نصيب من البلاغة والفصاحة، ولكنا لم تسخر ما وهبها الله لها من علم، متقوقعة على نفسها، يأكل منها الكبر وينالها العجب، الأعذار جاهزة وللشيطان نصيب في صدها عن الدعوة.
أما تلك التي لم تقرأ ولم تكتب فإنها واعظة تلقي المحاضرات بوجود المتقوقعة التي تعجب من طلاقتها، رغم أن حديثها باللغة العامية!! قالت يوماً في معرض حديثها وهي تعظ مجموعة من المدرسات، ألا تستطعن أن تقلن عليكن بالخوف من الله، اتقين الله، أين الموت والحساب؟! إنها كلمات صادقة، ولذا لها وقع صادق، أما تلك فو الله ستسأل عن السكوت يوم القيامة، يوم تزل الأقدام وتتطاير الصحف وتتعثر الخطوات.
* حاولت أن تلقي محاضرة ولكنها لم تستطع، غلبها الحياء الفطري، فلم تستطع مواجهة الحاضرات، قررت أن تكتب المحاضرة كاملة وتدفعها لمن لديه القدرة على قراءتها وكان لها ذلك.
* ليست داعية بليغة، وليس لها نصيب من التعليم، ولكنها شاركت في الدعوة إلى الله من خلال تجميع عناصر بعض المواضيع الإسلامية المهمة وعرضها على الداعيات، كما أنها تختار أسماء بعض الكتب الجيدة وتحث على شرائها.
* تحاول قدر المستطاع حضور المحاضوات والاستفادة منها، وكتابة بعض العناصر على ورقة مستقلة لتستفيد منها وتفيد، وعندما ذهبت مساء لحضور محاضرة انتظرتها بفارغ الصبر، وجدت عند بوابة القاعة جارتها وهي تحمل ابنها، واشتكت إليها بأنهم منعوها من دخول المحاضرة والاستفادة من العلم لوجود طفل معها.
فكان أن هبت الجارة المحتسبة وقالت: الحمد لله أنا دائمة الذهاب للمحاضرات، وأنت لا يتيسر لك ذلك دائما، هيا دعي طفلك معي وادخلي لتسمعي المحاضرة وأنت هانئة القلب، بقيت الجارة المحتسبة طوال مدة المحاضرة مع الطفل حتى انتهت المحاضرة.
==============
غراس السنابل 4/5
سنبلة منزل
* صرخت، ومن أغلى من زوجي، شريك حياتي، هل أدع الشيطان يتخبطه؟! أم الإعلام يوجه فكره؟! أم صور المجلات تثير غريزته؟!
صرخت لا وألف لا، وسأبدأ الخطوة الأولى، وسأتبعها خطوات ويسبق ذلك كله الدعاء.
صبرت وعانت، ووجدت المشقة والعنت، حتى استقام لها الأمر بعد شهور طويلة، فيها من الكلمات الجارحة والدموع والآلام ما الله به عليم.
بعد ذلك كله عندما هدأت الزوبعة، دعاها يوما وقال: بماذا أجازيك على صبرك؟!
لم تتمالك نفسها، سقطت دمعة الفرح من عينيها وهي تبتسم وقالت: جمعنا الله في جنات عدن.
قال لها: لك أجر كل ما عملت من خير ولا ينقص من عملي شيء، أما سمعت حديث الرسول-صلى الله عليه وسلم-: (( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا)) رواه مسلم.
* صبرت على ما تلاقيه من سوء عشرة زوجها، صبرت واحتسبت وكتمت، فلا يعلم بحالها أحد ولا يدري أحد ماذا يدور في منزلها.
قدمت الرضا والصبر بما قضاه الله وقدره، فلم تشتك لمخلوق، بل تهرع إلى الصلاة كلما حز بها الأمر، إنها الصابرة المحتسبة.
* تزوجت بزوج بخيل، فيه من اللؤم صفة ومن البخل أثر، وعندما طلقها لم ينفق عليها ولا على أطفالها وصغارها، وحسب أن ذلك من حسن الصنيع والدهاء، وما علم أن له موقفاً أمام الله، أما هي فرأت الأمر بمنظار آخر.
تصدقت على أطفالها وقالت: هم أحق من الفقراء الآخرين، ألبستهم أفخر الثياب وأحسن الملابس، وتسمع من صويحباتها عبارات الثناء على أبيهم وإنفاقه عليهم، وما علموا أن الأمر من أمهم.
سنبلة الخادمة(12/125)
* أرادت أن تكون داعية إلى الله وتساهم في نشر العلم الشرعي والعقيدة الصحيحة، قالت لخادمتها: هات عناوين أقاربك ومعارفك لكي نرسل لهم رسالة كل شهر، تحوي كتاباً في العقيدة وتصحيح المعتقد، والتحذير من البدع لمدة عام واحد سوف يصلهم- إن شاء الله- اثنا عشر كتاباً أو أكثر، بدأت تسأل عن عناوين أخرى من خادمات أقاربها، حتى زاد ما ترسله شهرياً عن عشرين رسالة بها كتب مختلفة، قالت وهي تجهز لإحدى الرسائل، يأتون ويعيشون بين ظهرانينا سنوات طوال بدون أن نعلمهم أمور الدين والعقيدة.
* اهتمت بأمر الخادمات ورددت: هؤلاء يأتين إلينا سنوات طويلة، ثم يعدن إلى ديارهن ولم يستفدن علما، ولم يتعلمن أمور دينهن، إنهن أمانة في أعناقنا، بدأت كل شهر أو شهرين تشتري كتباً وتوزعها على الخادمات، فرحن بزيارتها، ويعلمنها بإرسال تلك الكتب إلى أهلهن هناك.
* شمرت عن ساعد الجد وقالت: لا أريد خادمة، وحثت بناتها على خدمة المنزل والقيام بشئونه، فرحن بخدمة والدهن ووالدتهن، وتعلمن البر والإحسان إليهم، بل وزادت المحبة والمودة بينهم، فوقت العمل وقت للحديث والمؤانسة، طالت الأوقات التي يقضونها مع بعضهم البعض، إنها متعة ومؤانسة، وقبل ذلك أجر وثواب.
* استقدمت الأسرة خادمة وزوجها، ولأن لبيوت الأخيار تميزاً، اشترطت عليها الحجاب الكامل وعدم التبرج وغشيان مجالس الرجال. ووجهتها بعدم فتح الباب، ورفع سماعة الهاتف، تذمرت الخادمة في بادئ الأمر، ولكن بعد أن سمعت أشرطة بلغتها، وقرأت كتباً عن الحجاب حمدت الله.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، فلبيوت الأخيار تميزاً، بدأت الخادمة تقوم الليل، تصلي وتتهجد، ولا يفوتها صيام أيام البيض ويومي الخميس والاثنين.
* كلما رأيت قريبة لنا لديها سائق ناولتها مجموعة من الكتب في العقيدة وبعض الأشرطة بلغة السائق، وعدد من نسخ القرآن الكريم له ولمن يعرف من السائقين والعمال.
سنبلة الاعتزاز
* الإنسان ضعيف جداً خاصة وقت المرض، ويزداد الضعف والحاجة أمام الطبيب والمعالج، ولأنها طبيبة تقوم على علاج المريضات، جعلت همها الدعوة إلى الله بالكلمة الطيبة والنصيحة المفيدة، والابتسامة الصافية.
تزرع الأمل في النفوس بحسن التوكل على الله، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولا تغفل عن توزيع الكتب على المريضات، بل ربما اشترت أجهزة تسجيل صغيرة لتوزيعها على من لا يقرؤون.
إنها ليست داعية في وسط المرضى فحسب، بل في وسط زميلاتها، بوجوب المحافظة على الحجاب الشرعي الكامل، وعدم محادثة الرجال، والبعد عن لين القول، والدعوة لهن باستثمار هذا المكان في الدعوة إلى الله، وقالت بعض المريضات: أول مرة يرين كتيبات ويسمعن محاضرات، إنها فرصة لا تعوض، فإن خرجن ربما لا يعدن.
قالت صاحبة الهمة العالية: المستشفى مكان دعوة مفتوح، نصل فيه بسهولة إلى قلوب منكسرة وأنفس ضعيفة، هنا مجال دعوة واسع، لكن أين العاملون؟
* قالت طبيبة الأنف والأذن وهي تكشف على الطفل الصغير ووالدته بجواره: هل سمعه ضعيف؟!.
قالت الأم: لم نلاحظ ذلك، وهنا تابعت الطبيبة بسؤال عفوي: ألم تلاحظي اقترابه من التلفاز أثناء مشاهدته له؟! قالت الأم الواثقة: لا يوجد لدينا تلفاز في المنزل ولله الحمد، قالت في نفسها: اعتز بديني واعتز بفعلي أمام أبنائي، ولا أحني رأسي أمام المغريات، دعها تقول ما تشاء فلديها معلومات عن دراستي العليا، وكذلك دراسة زوجي العالية، ولكنه الثبات، اسأل الله الثبات، إنها صور مشرقة للاعتزاز بهذا الدين.
* آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر في أوساط النساء، في السوق وفي المستوصف، وفي المدرسة وفي وسط التجمعات النسائية، وفي حفلات الأعراس، في كل مكان لها مشاركة، فلا ترى منكراً إلا سارعت إلى إنكاره، ولا ترى معروفاً إلا سارعت بالدعوة إليه والحث عليه.
سنبلة الإنفاق
* تعجبت من واقعها- الإسراف والتبذير- الذي تراه كل يوم، وسكتت برهة وهي تقرأ حديث الرسول- صلى الله عليه وسلم- وهو يرى أم المؤمنين عائشة وقد أكلت في اليوم مرتين فقال: (( يا عائشة أما تحبين أن يكون لك شغل إلا جوفك، الأكل في اليوم مرتين من الإسراف، والله لا يحب المسرفين )). رواه البيهقي.
* كل ستة أشهر تجعل يوماً للتصفية كما تسميه، تسأل قريباتها وتنادي عليهن، هيا ماذا من الثياب زاد عن حاجتكن؟! من الملابس والأحذية والفرش والأغطية ؟! بل وحتى أدوات المطبخ.
حملة للتخفيف عن ظهوركن يوم القيامة، توسعة لدوركن ومنازلكن.
بعد أيام تبدأ بالمرور على جميع من هاتفتهن، فيذهب قريبها إلى تلك البيوت فإذا بالفائض عن الحاجة يكفي لعدة عوائل فقيرة.
* يعجب الرجل من نساء سخرهن الله لخدمة هذا الدين في كل مجال، وفي كل وقت، إنهن حفيدات عائشة وفاطمة، رأين الهمة العالية فطلبنها، وسمعن بوعد صادق من رحمن رحيم فسرن سراعا.
هاهي تشتري ملابس بالجملة وتوزعها على فقراء الحي كهدايا، وما زاد ترسله إلى أحياء أخرى، وجزء آخر تبيعه في منزلها على أهل الحي يشترين ويتصدقن.
* وهبت نفسها لجمع الصدقات وترتيبها وتجهيزها، ومن ثم توزيعها على الفقراء، وأعدت لذلك ملفاً في منزلها للصدقات العينية.
تسأل وتتحرى وترسل من يبحث ويدقق، في حين تكون الصدقات جاهزة مراعية ومقدرة في ذلك حاجة كل أسرة وبيت.
===============
غراس السنابل 5/5
مازال الشيخ القاسم ينقلنا معه للتنزه في بساتينه الوارفة, ويطلعنا على غرسه المثمر، وهاهو في كل حلقة يغرس غراساً جديدة لتؤتي ثماراً يانعة بإذن الله، فإلى غراس السنابل.
إدارة الموقع
سنبلة المحاسبة(12/126)
* عجوز مسلمة أصابها ألم في أذنها- وألم الأذن شديد لا يطاق- ولما أتي بالطبيب على رفضٍ منها وعدم موافقة، وأصبحت أمام الأمر الواقع، أخرجت أذنها وغطت باقي وجهها كاملاً، فلم تظهر إلا الأذن فقط، تعجب الطبيب من فعلها واستغرب صنيعها، وقال: يا أمي أنا طبيب اكشفي عن وجهك.
قالت المؤمنة العفيفة وهي واثقة من طاعتها لربها، أنت لا تريد إلا أذني قد أخرجتها لك.
إنها تنبض بالاعتزاز والفخار، والطاعة والتسليم لما أمر الله!!
* فرغت نفسها من الأعمال عصر يوم الجمعة حتى لا تفوتها ساعة الإجابة، والأخرى ضحت برحلات واجتماعات طمعاً في تلك الساعة.
* قالت: زوجات أبنائي مدرسات داعيات، ورغبة مني في مشاركتهن الأجر، وتوجيه جهدهن إلى الدعوة إلى الله، قمت بالطبخ ومتابعة الصغار من الأطفال.
ودائماً أحثهن على عقد المحاضرات والدروس، وأعاتبهن كثيراً على التكاسل والتراخي في نشر العلم الشرعي بين نساء المسلمين.
* لا يفتر لسانها من ذكر الله، دائماً تسبح وتستغفر وتحمد الله، وإذا رأيتها في المجلس فهي الصامتة العاقلة، إن نطقت فبحق، أو سكتت عندها تبدأ أصابعها تتحرك ولسانها يلهج بذكر الله.
* تصلي قيام الليل ساعتين كاملتين كل ليلة، رغم أنها أم لأربعة أطفال وخلفها مسئوليات زوج.
وعندما استكثرن عليها صويحباتها نوم الضحى، خشيت أن تخبرهن بقيامها الليل فيدخلها العجب والرياء، ولكنها لا تفتر تحدثهن من وقت لآخر، ولو نصف ساعة قبل الفجر يا أخيه تناجين ربك.
* إنها محاسبة النفس كل ليلة؟! اشترت دفتراً صغيراً ووضعته في متناول يدها، وتسجل فيه كل ليلة قبل النوم ماذا عملت وماذا فعلت؟ ثم تراجع نفسها، عمل بسيط ولكنه عظيم، وتوبة من قريب واستزادة.
* مساء كل يوم تذهب لأحدى دور تحفيظ القرآن الكريم، تقوم بالتدريس والتعليم، وتلقي محاضرات في العقيدة، كل ذلك ابتغاء مرضات الله.
* رمضان موسم عبادة وطاعة، وهمة ونشاط، قبل دخوله رتبت أوقاتها من الصباح إلى ما بعد صلاة الظهر ما تيسر من القرآن، ثم تقف على قدم وساق في المطبخ، لتقوم بطبخ كمية كبيرة من الطعام لتوزيعها على الفقراء والمحتاجين، وخص زوجها مسجداً يقع في حيٍ وسط البلد وتكثر به العمالة، ولا يوجد من يقدم فيه إفطاراً، قال زوجها بعد أيام من بداية الشهر، إنهم يزيدون عن مائة رجل.
هنيئاً لك بصنع الطعام، قال-صلى الله عليه وسلم-: (( من فطر صائماً كان له مثل أجره دون أن ينقص من أجر الصائم شيئاً)). رواه الترمذي.
* تعامل خادمتها معاملة إسلامية كريمة، وتعينها في بعض أعمالها حتى كسبت ودها ومحبتها، ثم بدأت تركز على تربيتها وتعليمها حتى وهما تعملان، وقالت في نفسها: ربما تكون هذه الخادمة غداً داعية في بلادها، تنكر بعض أنواع الشرك والبدع الموجودة لديهم، وتحذر من الانحرافات.
سنبلة الخلق
* كان الحديث سهلاً جداً، هيا يا أخي متى ستتزوج؟! العروس جاهزة والفتيات كثيرات!! ولكن عندما أعلم بموافقته على الزواج، اختفى أمام أنظارهن ذلك الكم الكبير من الفتيات، ومرت شهور وهم يبحثون ويبحثون.
كلوا وملوا، وطرقوا أبواب من يعرفون ومن لا يعرفون، هذه طويلة وتلك قصيرة، وهذه وتلك.
أرقهم الأمر، وطالت بهم الأيام، وبدءوا يتنازلون عن بعض شروطهم.
قالت أخته بفرح: إنها مواقف في عمر الإنسان تغير مجرى حياته. تصرف بسيط أو كلمة عابرة.
وقد دعانا لاختيار هذه الفتاة والحرص على اختيارها ما رأيناه من والدتها، فما أن طرقنا الباب حتى فتح لنا، وكانت الابتسامة تعلو وجه الطفلة الصغيرة التي أخذتنا إلى مكان الجلوس، وهي لا تعرف من نحن؟ ولماذا أتينا؟!
وما إن أقبلت الأم حتى هشت وبشت، ورحبت واعتذرت عن المكان، وقالت تفضلوا هناك، فأم زوجي بمفردها في الغرفة الثانية وتحب أن تفرح بوجودكم، هيا إليها.
رأينا بأم أعيننا تلك العناية والرعاية لتلك الأم العجوز، رأينا توقير واحترام الكبير، قالت أمي بعد أن خرجنا، لن نترك بيتاً فيه هذا الخلق والاحترام، هذه البنت هي بنت أمها ولن نتركها، سنزوجها لأخيك، ودعيني أشرح له المعاملة الطيبة والرفق.
وكانت ابنة تلك المرأة زوجة أخي، وانتقل إلى بيتنا ذلك الاحترام والتقدير وحسن الخلق.
سنبلة الزواج
* لأنها الفتاة الملتزمة التي أطاعت الله ورسوله، لم يكن نصب عينيها في زوج المستقبل سوى قول الرسول-صلى الله عليه وسلم-: (( من ترضون دينه وخلقه)).
وكانت كلما تقدم لها خاطب وزنته بذلك الميزان دينه وخلقه، وعندما تقدم من رجحت تلك الكفة في صالحه رفض الأهل ببعض الحجج الدنيوية، ولكنها أعادتهم إلى صوابهم، وذكرت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان أن تمت الموافقة، وهاهي تعيش في بيت طاعة وهناء وسعادة، قالت وهي تردد كل حين:
لقد رضي لنا الرسول-صلى الله عليه وسلم- أهم مقومات الحياة الزوجية، وهما الدين والخلق، وكأنهما جناحي طائر يحلقان بالأسرة المسلمة إلى سماء صافية نقية، فلماذا نبحث عن غيرهما وهما أهم الأمور، وأوفي المقاييس، الدين والخلق.
* كان زواجاً إسلامياً غردت فيه الصغيرات، وفرحت به الكبيرات، وكان مما عملن وجملن به طاولات الطعام، أن وضعن لافتة بها عبارات طيبة، لا تغتابي مسلمة في شكلها أو ملبسها أو شعرها، لا يكن هذا المجلس وقوداً وطريقاً إلى النار، ((وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً))(الحجرات: 12).
جعلت من الزواج الإسلامي مثالاً حياً لما تكون عليه زواجاتنا، دف ونشيد جميل، ومسابقات طريفة للصغار، ثم ختم الحفل بدعاء للزوجين، وبدعاء لمن لم يتزوجن فارتفع التأمين.(12/127)
* بعد زواجي توالت علي الهدايا، فأنا من عائلة ثرية، وطبقة اجتماعية معروفة، ذهب، ساعات، حلي وجواهر، ولكنها الآن مغلق عليها لا أراها إلا بين حين وآخر، أما تلك الهدية المتواضعة- كما أسمتها صاحبتها- فإنها دخلت قلبي، فأنارت بصيرتي، وأزالت الغشاوة عن قلبي، مجموعة كتيبات لها في نفسي أثر واضح.
===============
علاج الالتزام الأجوف
1- تدبر القرآن والسنة: وما فيهما من ثواب للطائعين وعقاب للعاصين.
2- اجتناب الصغائر بقدر الإمكان: لأنك لن تستطيع اجتناب الصغائر كلها لكن بقدر الإمكان، يقول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: (( إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه)) .
3- التوسط في المباحات .
4- محاولة التوفيق بين زحمة العمل والقيام بالطاعات .
5- مجاهدة النفس وتربيتها على الجد والحزم .
6- ملازمة الجماعة والعيش في وسط صالح مستقيم: لأن هذا يقوي العزيمة على طاعة الله، كما جاء في الحديث (( خياركم الذين إذا رؤوا ذُكر الله عز وجل)) .
7- الاستعانة بالله: فإنه يعين من استعان به .
8- معرفة واجبهِ في الدنيا: واعتبار أن الدنيا مزرعة للآخرة .
9- عدم الاغترار بأحد: واعلم بأنك ستحاسب لوحدك.
10- قراءة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم: والصحابة وسيرة السلف الصالح .
11- تذكر الموت وما بعده من أهوال .
12- تذكر تقصيرك واتهامك لنفسك .
13 ـ عناية المربين بالبرامج الإيمانية: وعدم إغفالها، بل ينبغي تعاهد المجموعة بالرقائق والإيمانيات، وتوثيق الصلة بالله عز وجل بالطرق المتعددة.
مقومات الالتزام الحقيقي :
قد تتساءل أيها الأخ هذا الالتزام الأجوف، فما ذا علينا أن نفعل لكي يكون التزامنا حقيقياً، فأقول إن الالتزام الحقيقي يرتكز على عدة أشياء هي :
1 ـ طلب العلم الشرعي .
2 ـ العبادة .
3 ـ الدعوة إلى الله.
4ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
5 ـ البعد عن المعاصي قدر الإمكان.
6 ـ التخلق بالأخلاق الحسنة.
7 ـ عدم التوسع في المباحات .
وقد سردتها لك سرداً لأنه سبق الكلام عن هذه الأشياء السبعة في محاضرة مستقلة بعنوان بناء النفس، فلا داعي لتكرار الكلام عنها، ثم إنه أيضاً سبق الكلام عن بعضها بانفراد، فقد سبق الكلام عن طلب العلم في محاضرة مستقلة بعنوان خطوة تطبيقية في طلب العلم، وسبق الكلام عن العبادة في محاضرة مستقلة، وكذا الدعوة وكذا الأخلاق الحسنة .
أخيراً أقول : لابد أن تدرك أيها الأخ أنه لابد من التقصير والفترة، يمكن أن تقصر وتفتر عن طاعة الله، لكن تقصير عن تقصير، وفترة عن فترة، لا يطُل تقصيرك ولا تطُل فترتك، فالمؤمن يتعاهد نفسه بقدر ما يستطيع، ويستمر في المجاهدة حتى يأتيه اليقين، ولا تنسوا الدعاء فإنه مفتاح لإعانة الله سبحانه وتعالى للعبد .
===============
مشكلات الأبناء وطرق علاجها
1- تدبر القرآن والسنة: وما فيهما من ثواب للطائعين وعقاب للعاصين.
2- اجتناب الصغائر بقدر الإمكان: لأنك لن تستطيع اجتناب الصغائر كلها لكن بقدر الإمكان، يقول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: (( إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه)) .
3- التوسط في المباحات .
4- محاولة التوفيق بين زحمة العمل والقيام بالطاعات .
5- مجاهدة النفس وتربيتها على الجد والحزم .
6- ملازمة الجماعة والعيش في وسط صالح مستقيم: لأن هذا يقوي العزيمة على طاعة الله، كما جاء في الحديث (( خياركم الذين إذا رؤوا ذُكر الله عز وجل)) .
7- الاستعانة بالله: فإنه يعين من استعان به .
8- معرفة واجبهِ في الدنيا: واعتبار أن الدنيا مزرعة للآخرة .
9- عدم الاغترار بأحد: واعلم بأنك ستحاسب لوحدك.
10- قراءة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم: والصحابة وسيرة السلف الصالح .
11- تذكر الموت وما بعده من أهوال .
12- تذكر تقصيرك واتهامك لنفسك .
13 ـ عناية المربين بالبرامج الإيمانية: وعدم إغفالها، بل ينبغي تعاهد المجموعة بالرقائق والإيمانيات، وتوثيق الصلة بالله عز وجل بالطرق المتعددة.
مقومات الالتزام الحقيقي :
قد تتساءل أيها الأخ هذا الالتزام الأجوف، فما ذا علينا أن نفعل لكي يكون التزامنا حقيقياً، فأقول إن الالتزام الحقيقي يرتكز على عدة أشياء هي :
1 ـ طلب العلم الشرعي .
2ـ العبادة .
3 ـ الدعوة إلى الله.
4 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
5 ـ البعد عن المعاصي قدر الإمكان.
6 ـ التخلق بالأخلاق الحسنة.
7 ـ عدم التوسع في المباحات .
وقد سردتها لك سرداً لأنه سبق الكلام عن هذه الأشياء السبعة في محاضرة مستقلة بعنوان بناء النفس، فلا داعي لتكرار الكلام عنها، ثم إنه أيضاً سبق الكلام عن بعضها بانفراد، فقد سبق الكلام عن طلب العلم في محاضرة مستقلة بعنوان خطوة تطبيقية في طلب العلم، وسبق الكلام عن العبادة في محاضرة مستقلة، وكذا الدعوة وكذا الأخلاق الحسنة .
أخيراً أقول : لابد أن تدرك أيها الأخ أنه لابد من التقصير والفترة، يمكن أن تقصر وتفتر عن طاعة الله، لكن تقصير عن تقصير، وفترة عن فترة، لا يطُل تقصيرك ولا تطُل فترتك، فالمؤمن يتعاهد نفسه بقدر ما يستطيع، ويستمر في المجاهدة حتى يأتيه اليقين، ولا تنسوا الدعاء فإنه مفتاح لإعانة الله سبحانه وتعالى للعبد .
==============
إتمام العمر 1/5(12/128)
نحمد الله سبحانه وتعالى على أن خصنا وأكرمنا وميزنا بهذه النعم التي حرم كثيرا من خلقه منها نعمة الإسلام، ونعمة الإيمان، ونعمة المساجد، ونعمة الصلاة، ونعمة الأذكار ونعمة العلم، نعم لا تعد ولا تحصى، قال تعالى: ((وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)) [إبراهيم:34].
ليس سوءا عبد موفق للصالحات، مستحضر ذنبه، مستغفر لجرمه، ذاكر ربه عز وجل آناء الليل وأطراف النهار، يسير بخطاً حثيثة إلى جنة الله، إلى رضوانه وعظيم امتنانه، ليس هذا سوءا ومن مثله في الظلمات ليس بخارج منها، يتردى ويتخبط في مزالق الهوى وفي مهاوي الردى، ينحرف وينجرف، يستجيب لكل ناعق وداع، قال تعالى: ((وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ)) [البقرة:171].
يسير إلى جهنم والعياذ بالله، وما أكثر هؤلاء البشر الذين هم على غير الجادة، وعلى غير الهدى والصراط المستقيم، إنهم المغضوب عليهم والضالون.
فيا عبد الله مهما تفكرت في هذه النعمة، ومهما شكرتها فإنك لا توفيها حق إفائها، ولا تقدرها حق قدرها، وإذا شكرت الله عليها فهذه نعمة أخرى، تستحق منك أن تشكره على أن وفقك للشكر، ووفقك للعبادة والذكر، وقد حرم كثيرا من خلقه منها.
إذا كان شكري نعمة الله نعمة علي له وفي أمثالها يجب الشكر
فحقي إذاً أن أبرح الدهر شاكرا وإن طالت الأيام واتصل العمر
إذا مس بالسراء عم سرورها وإن مس بالضراء أعقبها الأجر
وما منهما إلا له فيه حكمة بها ضاقت الأوهام والبر والبحر
نعمة العمر
التي لا يشعر بها إلا من فقدها، بعضا أو كلاً، بموت مجهز، أو فقر منسيا، أو هرم مفند، فإذا أطبق على الإنسان قبره، وأهيل عليه ترابه، فإنه حين إذٍ يتحسر، ويشعر بقيمة الوقت الذي فرط فيه، ويقول: رب ارجعون، ((لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ)) فيقال له: ((كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)) [المؤمن:100].
هذا العمر أمانة ونعمة ومسؤولية سوف يسأل الله عز وجل كل إنسان عنها، قال تعالى: ((وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) (العصر:1،3). ما أكثر من يخسر حياته وعمره، وخسارة العمر التي أقسم الله عز وجل عليها بالعصر، وأن أكثر الناس خاسر في صفقة حياته وعمره، خسارة العمر لا تعدلها خسارة مال، ولا خسارة ولد، ولا خسارة تجارة، لأن هذه الأمور يمكن أن تعوض، وأما خسارة الحياة فلا يمكن أن تعوض بحال من الأحوال، قال تعالى: ((قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ* لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ)) [الزمر:15-16].
فخسارة العمر عظيمة، ((وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ))، إلا من وفق لاغتنام العمر وما أقلهم، ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) (العصر:1،3).
وهذا أيضا يفسره النبي- صلى الله عليه وسلم- بقوله: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ) رواه البخاري.
الغبن: هو الخسارة، أن تبيع ما يساوي عشرة بخمسة، أو تشتري ما يساوي خمسة بعشرة، فيقال حينئذ: غبن، ويقال: خيار الغبن، ويثبت لهذا الخيار في الشرع بشروطه، وأعظم غبنٍ غبن الإنسان في صحته وفراغه، (نعمتان مغبون).
أي خاسر فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ.
العصر الذهبي للعمر
ويقول- صلى الله عليه وسلم-: (لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع خصال: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه) رواه الطبراني في الكبير.
تأمل كيف جعل النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو يخبر بوحي يأتيه من رب العالمين، لا ينطق عن الهوى، ((إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)) [النجم:4]. تأمل كيف جعل نصف الأسئلة عن العمر، والنصف الباقي عن بقية الأمور الأخرى، سؤالان عن العمر، وسؤالان عن الشؤون الأخرى، (عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه).
ويا ترى! لمَ خص النبي- صلى الله عليه وسلم- الشباب وهو من العمر؟ والجواب: أن الشباب هو خلاصة العمر، هو ثمرة العمر، هو تاج العمر، هو العصر الذهبي للعمر، الشباب يكون فيه نضوج الإنسان، واكتمال قواه العضلية والعقلية، والجسمية والنفسية، والجنسية، وطاقات الإنسان وعنفوانه، وشدة الشباب، ولهذا قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) وذكر منهم (شاب نشأ على عبادة الله) متفق عليه.
وفي الحديث (يعجب ربك من الشباب ليست له صبوه) رواه أحمد .
إدارة الموقع
قالوا في العمر
داود- عليه الصلاة والسلام-: علمه الله عز وجل الحكمة، كما قال سبحانه وتعالى: ((وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ)) [البقرة:251].(12/129)
وعنه رويت حكم ومأثورات عظيمة، فمما روي عنه هذا الكلام الذي جاء في كتب الله السابقة: (الليل والنهار خزينتان، فانظر ما تودع في خزانتيك، فإنك ستجد ما أودعت فيهما من خير أو شر، إن أودعت خيراً وجدته، وإن أودعت شراً وجدته) .
وقال الحسن البصري- رحمه الله-: (الليل والنهار مطيتان، تسلمك مطية الليل إلى مطية النهار، ومطية النهار إلى مطية الليل، حتى تسلماك في قبرك، فمن أشد منك خطراً يا ابن آدم) .
قال بعض الحكماء: (إنما أنت يا ابن آدم أيام مجموعة، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك) .
قيل لمحمد بن واسع: (كيف أصبحت ؟ فقال: كيف أصبح من دنا إلى ربه عز وجل مرحلة) .
وقال علي بن ابن أبي طالب: (إن الدنيا قد ولت مدبرة، وإن الآخرة قد ولت مقبلة، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا) .
وقال بعض الحكماء: (كيف يفرح من يومه يَهدم جمعته، ومن جمعته تهدم شهره، ومن شهره يهدم عامه، ومن عامه يهدم عمره، كيف يفرح؟).
إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يوم مضى يدني من الأجل
يسر المرء ما ذهب الليالي وكان ذهابهن له ذهاباً
وشبه بعضهم العمر بـ(أوراق التقويم)، أنت كل يوم تقطع من التقويم ورقة، فلو أنك تقف دقيقة واحدة عند كل ورقة، إذا قطعت ورقة فتأمل وتفكر كيف قطعت يوماً من أيام حياتك، ولا تزال تأخذ ورقة فورقة حتى ينتصف التقويم، وهذا كانتصاف حياتك وبلوغك الثلاثين، ثم بعد ذلك يبدأ العمر في التناقص، كالهلال إذا اكتمل بدراً يعود محاقاً، يتناقص حتى يستتر مرةً أخرى كما ولد أول أمره، ثم بعد ذلك تأخذ ورقة لا تجد بعدها ورقة، تجد بعدها كل عام وأنتم بخير، وهكذا فعمرك عبارة عن تقويم. وتقويم وتقويم.
وإذا كان الحال كذلك، فينبغي على كل مسلم أن يغتنم وقته وعمره بما أمره الله عز وجل، وبماذا أمره الله سبحانه وتعالى؟ أمره الله عز وجل بأشياء كثيرة، إنك تستفيد من عمرك الحزم والعزم، وتخطي العوائق التي سآتي على ذكر بعض منها.
بما نقضي العمر؟
فمن خير ما يقضي فيه العمر:-
أولاً العبادة: التي أمر الله عز وجل بها نبيه وعباده في محكم كتابه الكريم، قال لرسوله الله- صلى الله عليه وسلم- وللمسلمين ولعباد الله: ((وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)) [البقرة:197].
فينبغي للعبد أن يتزود من التقوى، وأن يستمر على العبادة، قال عز وجل: ((فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ)) [مريم:65].
وقال سبحانه: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) [البقرة:21] .
وقال عز وجل: ((وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ)) [الإسراء:79] .
وقال: ((يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلا)) [المزمل:1-2] .
العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
العبادة: تشمل قراءة القرآن، العبادة تشمل الصلاة، العبادة تشمل الصيام، تشمل الحج، العمرة، الاعتكاف، صيام الأيام الفاضلة، تشمل التسبيح والتهليل، وحضور مجالس العلم، ومجالسة الوالدين، ومجالسة الصالحين، كل هذا من العبادة.
كان النبي- صلى الله عليه وسلم- مثلاً عظمياً، والسلف والصحابة في قضايا أوقاتهم بعبادة الله عز وجل وطاعته، كما سيأتي ذكر ذلك، كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يصوم من الشهر حتى يقول الصحابة لا يفطر، وحتى يقول أزواجه لا يفطر، وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- يستغفر في اليوم الواحد مائة مرة، وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- كما ثبت في الصحيح يستغفر أكثر من سبعين مرة، ويأمر بالاستغفار، هذا على غير ذنب يفعله- صلى الله عليه وسلم-، فنحن المذنبون والمقصرون، والخطاءون، والمجترئون على أنواع المعاصي، كم نستغفر الله عز وجل في اليوم والليلة، بل كم نستغفر الله في الجمعة والأسبوع، بل كم نستغفر الله عز وجل في حياتنا كلها، فهذه العبادة من خير ما يقضي المسلم فيه حياته.
ثانياً يقضي المسلم حياته بطلب العلم: التزود من العلم الذي أمر الله عز وجل نبيه أن يتزود منه، قال عز وجل: ((وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً)) [طه:114].
ونزل على النبي- صلى الله عليه وسلم- في أول ما نزل: ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)) [العلق:1] .
فقرأ النبي- صلى الله عليه وسلم- وعلم، وتعلم، وقضى حياته طالباً للعلم، وكذلك كان أصحابه والسلف الصالح- رضي الله عنهم- كما سيأتي.
ثالثاً يقضي المسلم حياته بالدعوة إلى الله عز وجل: والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتربيته الأولاد، وأمرهم بطاعة الله عز وجل، فإن ذلك من خير ما يغتنم فيه المسلم والمسلمة حياته وعمره.
ربعاً يقضي المسلم حياته وتقضي المسلة حياتها بالأمور النافعة: وبالعلوم الطبية، وبالأعمال المباحة التي تشغله عن معصية الله عز وجل، فإن النفس إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشر، هذه العين خلقت لترى، فإن لم ترى خيراً رأت شراً، هذه الأذن خلقت لتسمع، هذا الفكر والعقل والفؤاد خلق ليَهِم ويفكر، وليجول ويحور، ويدور في مزابل هذه الدنيا، أو في ملكوت السموات، فإذا لم تشغل ذلك بالخير فإنه لا شك سيشغلك بالشر، ((إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ)) [يوسف:53].
فالمسلم يقضي حياته في الأعمال النافعة، بالكد على الأولاد، بتربيتهم، بجلب الرزق لهم، وبالأعمال المباحة، فإن ذلك إذا احتسبه وخلا من المحرمات كان ذلك من ضمن العبادات التي يؤجر عليها المسلم.(12/130)
في الصحيح أن الصحابة كانوا مع النبي- صلى الله عليه وسلم- فمر شاب جَلْدٌ فذكر الصحابة من نشاطه وجلده وأثنوا عليه أمام الرسول -صلى الله عليه وسلم- فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: (إن كان خرج ليسعى على أبوين شيخين كبيرين فسعيه في سبيل الله، وإن كان خرج رياء وسمعة فهو في سبيل الشيطان).
وهذا يدل على أن الإنسان إذا احتسب علمه، واحتسب نومته، وذهابه، وإيابه، ونوى بذلك الاستعانة على طاعة الله عز وجل كتب له بذلك أجر، حتى السعي على الأولاد والأقربين، كيف لا؟ وأنت إذا تصدقت على المسكين البعيد يكتب لك أجر.
فاحتسب ثواب الله عز وجل، في كل لقمة وفي كل سلعة تشتريها لأهلك وأولادك، ولا تتبرم، ولا تغضب، ولا تكفهر، إذا ما طلب منك أن تأتي بحاجة للأولاد والبيت، بل احتسب نية الصدقة والأجر، فإن هذه اللقمة التي يأكلها الولد ويترعرع ويصبح عبداً من عباد الله الصالحين لك مثل أجره وعبادته حتى يلقى الله رب العالمين، وكل ما استعانت به الزوجة والأهل والأولاد على عبادة الله، فإن لك مثل عبادتهم وأجرهم وصلاتهم وصيامهم ما داموا يجدون قوة الطعام في أبدانهن، فهنيئاً لك يا أيها الأب يا من تحتسب الأجر والثواب، ولهذا قال- عليه الصلاة والسلام-: ((حتى ما تضعه في فم زوجتك)).
============
موقف المُسلم مِن الخلاف
لفضيلة الشيخ
عبد الرحمن بن ناصر البراك
تحقيق
عبد الله عائض القحطاني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد.
فقد أذنتُ لمن شاءَ بطبع ونشر المحاضرة التي ألقيتها في أحد المراكز، وهي بعنوان موقف المسلم من الخلاف ، وللإحاطةِ بذلك حرر.
قال ذلك عبد الرحمن بن ناصر البراك في 16/ 11/1413هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه أما بعد :
فقد قال الله سبحانه وتعالى : ((تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)) (الملك:1، 2) .
وقال تعالى : ((إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)) (الكهف:7)
وقال سبحانه وتعالى : ((وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)) (هو:7) .
دلت هذه الآيات على أنَّ من حكمته تعالى في خلق الوجود ابتلاء العباد ، أي اختيارهم، ليتبين المحسنُ من المسيء، بل ليظهر من هو أحسنُ عملاً ، فهذه الحياةُ ميدان ابتلاء ، بدأت هذه الرحلة رحلة الابتلاء، منذُ ابتلى الله آدم بإبليس، حين أبى أن يسجد له استكباراً وحسداً ، فأسكن الله الأبوين الجنة ونهاهما عن الأكل من الشجرة، وابتلاهما بإبليس فأغواهما وزين لهما الأكل من الشجرة : ((فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ، قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ، قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ )) (الأعراف:22، 23،24)
فأهبط الله آدم وزوجه وإبليس إلى الأرض، وبدأت رحلةُ الابتلاء على ظهر الأرض، يبتلي الله عباده بما آتاهم ، ويبتليهم بالخير والشر، ويبتلي بعضهم ببعض، ويبتلي أولياءه بأعدائه، وأعداءه بأوليائه، قال الله تعالى: (( وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)) (الأنعام:53).
يبتليهم بما أنزلَ الله عليهم من الشرائع المشتملة على الأوامر والنواهي .
فبدأ آدم- عليه السلام- وذريته هذا الطريق ومضوا، لكنهم مضوا على هدى الله وتوحيده، فمضى على ذلك عشرة قرون كلها على التوحيد، كما جاءَ عن ابن عباس -رضي الله عنه- في تفسير قوله تعالى : (( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) (البقرة:213).
فبعث الله نوحاً- عليه السلام- لينذر قومه الشرك، ويحذِّرهم بأس الله، فلبث فيهم ألف سنة إلاَّ خمسين عاماً، فآمن معه من شاءَ الله من عباده ، قال الله تعالى : ((وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)) (هود:36) .
فمن ذلك التأريخ صار الناس فريقين :
* مؤمنين .
* وكافرين .
وكلما بعث الله نبياً انقسم الناس أمام دعوته فريقين :
* مستجيبين مؤمنين .
* ومعارضين مكذبين .(12/131)
هكذا تتابعت رحلة الدعوة إلى الله وقصة الدعوة إلى الله قال الله تعالى: (( ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِين ، مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ، ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ)) (المؤمنون:42- 44) .
فالناس فريقان : مؤمن وكافر، مطيع وعاصي، بر وفاجر، هو فريقان في الدنيا وهم فريقان في الآخرة ، هذا الاختلاف الأعظم ، الاختلاف بالإيمان والكفر ، والطاعة والعصيان، والتقوى والفجور، قال الله تعالى : (( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) (التغابن:2).
وهذا واقع بمشيئة الله تعالى وتقديره، وله الحكمةُ البالغة ، وهذا الاختلافُ ينشأ عنه تباغض واقتتال وتباين، لأنَّهُ اختلافٌ جذري، اختلا فٌ بالإيمان والكفر، كما قال الله تعالى : (( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)) (البقرة:253) .
فهذا اختلافٌ قدره الله وقضاه، ولا يزال الناس مختلفين ذلك الاختلاف، كما قال تعالى : ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) (هود:118، 119) .
وهذا يدلُ على استمرار هذا الاختلاف بين الحق والباطل ، بين أولياء الله وأعداء الله ، بين حزب الله وحرب الشيطان ، فهما حزبان مختلفان على ظهر هذه الأرض، فهذا اختلاف الحق فيه بيّن، الحق فيه ما عليه الرسل وأتباعهم، فمن أراد النجاة والسعادة والفلاح فليكن في هذا الجانب ، ومن كان في الجانب الآخر فقد شاق الله ورسوله كما قال الله تعالى: (( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) (لأنفال:13) .
فالخيرُ والصلاح، والفوز والسعادة في الدنيا والآخرة، في سبيل الرسل وأتباعهم، والشر والشقاء، والضلال البعيد لمن سلك سبيل الغاوين الحائدين الزائغين عن سبيل المرسلين، قال الله تعالى: (( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (الأنعام:153) .
وأكثر الخلق هم في حزب الشيطان كما قال تعالى: (( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ)) (غافر: من الآية59) .
وقال : (( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)) (سبأ: من الآية13).
وقال: ((وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)) (يوسف: من الآية38) .
وقال: ((وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه)) (الأنعام: من الآية116).
هذا هو حكمُ الله في هذا الخلاف، وهذا الاختلاف قال تعالى : (( الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً)) (النساء:76) .
والله تعالى يقيم الدلائل على الحق، يقيم المعالم التي يهتدي بها المهتدون ينصر أولياءه، ينجيهم مع قلتهم وضعفهم ، ويخذل أعداءه ويخزيهم، وينزل بهم النكبات على كثرتهم، وفي هذا تبصير للمستبصرين كما قال سبحانه: ((لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ)) (لأنفال: 42) .
جاءت هذه الآية في قصة بدر، فبنصره تعالى لنبيه والمؤمنين وهم قلة على أعدائهم، وهم كثرة وذو عُدة وهالة، فيه آية يهتدي بها الموفقون، ويعمي عنها المعرضون الهالكون.
ثُمَّ إنَّ أعداءَ الرسل بينهم اختلافات ولكن هذه الاختلافات لا يخرجون بها عن دائرة الضلال والشفاء، قال تعالى: (( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)) (البقرة:176) .
وقال تعالى: (( إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ، يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ)) (الذريات:8،9) .
كل هؤلاء المختلفين على باطل، فالاختلاف الأول بين الحق والباطل، وأهلُ الحق والباطل، فهذا الاختلاف يُحْمَد فيه أحد الفريقين ويَُذَم الفريق الآخر.
وأما الاختلاف بين ملل الكفر وطرق الضلال فهذا لا يخرجها عن الذم، فكلها باطلة، وكلها مذمومة، وكلها سبلَ ضلالٍ، وإن كان بعضها أبعدُ عن الحق من بعض، فتكتسبُ مزيداً من الذم، ومزيدً من سوءِ المصير .(12/132)
أما الداخلون في دائرة دين الرسل – في دائرة الإسلام - هؤلاءِ يجري بينهم اختلافات، فالخلاف والاختلاف سنة كونية، وطبيعية بشرية، اقتضتها حكمة الله تعالى في خلقه، حسب تكوينهم في عقولهم ومآدبهم، وتأثراتهم وتأثيراتهم، فالداخلون وإن كانوا جميعاً ينتمون إلى دين الإسلام، فأما المنتسبون لدين الإسلام ظاهراً لا باطناً فهم المنافقون ، وهؤلاء لا وزن لهم ولا اعتبار، فهم داخلون في حزب الشيطان كما قال الله سبحانه وتعالى : (( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ ، اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ)) (المجادلة:18، 19) .
لكن نبقى مع المؤمنين المسلمين الذين معهم أصل الإسلام ، فهؤلاءِ أيضاً يجري بينهم الاختلاف ، والاختلاف المعتبر هو الخلاف الذي يكون بين أهل العلم .
وهناكَ اختلافات بين فئات الأمة، وهذه الاختلافات منشأها التفاوت في الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم-، فكثيرٌ من المسلمين قد فرطوا في هذا الواجب، فتخبطوا في الظلمات، وتلقفتهم أيادي الأعداء من شياطين الإنس والجن، فتدينوا بما لم يشرع الله، واعتقدوا ما لم ينزل الله به من سلطان، وهذا يصدق على فرق الأمة، أهل الأهواء الذين ابتدعوا بدعاً اتخذوها ديناً بدعاً اعتقاديه، أو بدعاً عمليةً، فهم مختلفون فيما بينهم، وهم أيضاً مخالفون لأهل السنة والجماعة، إذن هذا نوع من الاختلاف .
وأيضاً فهذا الاختلاف الخطير بين المنتسبين للإسلام أخبر به- صلى الله عليه وسلم- في الحديث المشهور الذي قال فيه ((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة )) قيل : من هي يا رسول الله ؟ قال : ((من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي)) وفي رواية : قال : ((هي الجماعة )) [1]
وهذا الاختلاف من وجه يشبه الاختلاف بين المؤمنين والكفار، لأنه اختلاف تضاد، واختلاف منشأه المأخذ الذي يعتمد عليه، ويتمسك به كل فريق، فهذا الخلاف بين أهل السنة والجماعة وغيرهم هو اختلاف تضاد، والحق فيه دائماً مع أهل السنة ، فأهل السنة في الأمة، كالأمة في سائر الأمم ،الحق كله في الأمة المسلمة، ثم إنَّ الحق كله والصواب كله مع أهل السنة.
وكل من خالف أهل السنة في أمرٍ فهو منحرف عن الصراط المستقيم بقدر هذه المخالفة، كمّاً وكيفاً ، فهذه الفرق بعضها أبعد عن الحق من بعض ، وبعضها أقرب من بعض .
فهذا اختلاف جارٍ دل عليه القرآن الكريم والسنة ، لأنَّ الله أخبر عن افتراق الأمم الماضية كما في قوله تعالى : (( وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ )) (الشورى: من الآية14) .
وقوله : (( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) (آل عمران:105) .
وقوله: (( وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)) (البينة:4) .
مع قوله- صلى الله عليه وسلم- : ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة)) [2]
ثم إن أهل السنة أيضاً يقع بينهم اختلافات، ولكن مع الفرق بين اختلاف أهل السنة فيما بينهم واختلافهم مع غيرهم ، واختلاف غيرهم من بعضهم مع بعض، فأهل السنة إن اختلفوا في شيء فإنه لا يكون في مسائل الاعتقاد البتة إلا في مسائل جزئية قليلة، وإنما اختلافهم في المسائل العملية، ثم إن الخلاف الذي يكون بين أهل السنة ، بل أقول : إن هذا الاختلاف بين أهل السنة وسلفهم – وهم الصحابة رضي الله عنه – فإن الخلاف وقع بينهم ، أقول : إن هذا الاختلاف الذي وقع بين الصحابة وبين أتباعهم من أهل السنة والجماعة نوعان :
النوع الأول : اختلاف تنوع ، واختلاف التنوع ضابطه أنَّ كلاً من المختلفين مصيب، كما اختلف الصحابة في عهده- صلى الله عليه وسلم- في فهم قوله : ((لا يصلينَّ أحد منكم العصر إلاَّ في بني قريظة )) [3]
فصلى بعضهم في الطريق، وبعضهم آخر الصلاة – صلاة العصر – حتى جاء إلى بني قريظة ، وقد يقال : إنَّ هذا من اختلاف التضاد الذي لم يبين فيه المصيب، لكن كل من المختلفين محمود لأنَّهُ اجتهد ، فإنَّ اختلافَ التنوع كل من المختلفين فيه مصيب، وكل منهما محمود ، ولعل المثال البيّن لهذا هو الاختلاف في القراءات من اختلاف التنوع ، وكالاختلاف فيما أقرَّ الله عباده عليه من تصرفاتهم، كما في قوله تعالى : (( مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ)) (الحشر:5) .
فهذا كله اختلاف تنوع لا يُذم فيه أحد من المختلفين، بل كل من المختلفين محمود، وكل من المختلفين على حق ، وهؤلاءِ إنما يُؤتون إذا بغى بعضهم على بعض، وأنكر بعضهم ما عند الآخر، مع أنَّ كلاً منهما على الحق وكل منهما مصيب .
النوع الثاني: من الاختلاف الذي يكون بين السلف الصالح وأتباعهم ، هو اختلاف التضاد ، وهذا يمكن أن أقول : إنه نوعان :(12/133)
الأول : اختلاف قام الدليل على تصويب أحد المذهبين ، فهذا القولُ الذي وافق الدليل هو الحق وما خالفه خطأ ، ولكن حيث كان المختلفون مجتهدين فكل منهما محمود ومأجور، – وإن كان أحد من المختلِفين أو المختلفَين أفضل من الآخر – فمن اجتهد وأصاب الحق فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد على حد قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر واحد )) [4]
يعني وخطؤهُ مغفور، لقوله سبحانه وتعالى : (( َلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً)) (الأحزاب: من الآية5) .
وحينئذٍ فكل من المختلفين ، وإن كان القولان متضادين – محمود وكل منهما مأجور – وإنَّ كان الحقُّ مع أحدهما .
الثاني من اختلاف التضاد : اختلاف لا يتبين فيه الصواب، وليس هناك دليل يعتمدُ عليه لواحد من المذهبين، بل يكون منشأ القولين هو محض الاجتهاد ، فهذا الاختلاف الذي إذا لم يعارض دليلاً شرعياً، ولم يُبْن أحد القولين على دليلٍ يعيّن أنه هو الصواب، فيبقى القولان سائغين، وكل من المختلفين محمود عل اجتهادهِ مأجور، على اجتهاده والله أعلم بالصواب.
وبعد هذا العرض لتنوع الاختلاف، فيجبُ على المسلمِ أن يعتصم بحبل الله، فيتمسكُ بكتاب الله تعالى وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- في العلم وفي العمل، وفي الحكم بين الناس ، قال تعالى : (( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً)) (النساء:58) .
وقال تعالى: (( وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا )) (الأنعام: من الآية152) .
فالواجب على المسلم أن يعتصم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن يعدل في حكمه وفي قوله ، فلا يتعصبُ لرأيهِ الشخصي، لا يتعصبُ لرأي إمامٍ ينتسبُ إليه، ولا يتعصبُ لرأي أحدٍ من الناس كائناً من كان ، بل عليه أن يعرضَ ما يبدو لهُ من آراء وما يردُ عليه من آراءٍ وأقوال الناس، يُعرضُ ذلك على كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- ، وهذا تطبيقٌ لقوله سبحانه: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً )) (النساء:59)
إذا فيجبُ على المختلفين أنفسهم أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- ، فإنَّ الردَّ إلى كتاب الله: هو الردُّ إلى القرآن ، والرد إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم- يكون إليه في حياته ، وإلى سنته- صلى الله عليه وسلم- ، بعد وفاته .
وكتاب الله تعالى وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- قائمان إلى أن يأتي أمر الله تبارك وتعالى ، وهما حجة الله على عباده ، يجب الرجوع إليهما عند التنازع ، قال الله تعالى : (( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)) (الشورى:10) .
وهذا إنما يقدر عليه من له بصر بالكتاب والسنة وعلم بنصوصهما، وفهمٌ لدلالتهما ومن لو يتوفر له ذلك فعليه أن يرجع إلى من يثق بعلمه ودينه، فيقتدي به ويهتدي ببيانه ، قال الله تعالى : (( وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)) (الأنبياء:7) .
إذن الخلاف الذي بين أهل السنة والجماعة وغيرهم يجبُ أن يعلم المسلم أنَّ الحق بيّن ، فالحق هو ما درج عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، وهذه الفرق المخالفة معها حق وباطل ، فالواجب نحوها قبول ما معها من الحق ورد ما معها من الباطل، وقد أوضح ذلك العلماء، وهذا من تحقيق العدل والإنصاف أن تعترف لخصمك بما معه من الحق، وأن ترد ما معه من الباطل، فتنصفه حينئذ وألا تظلمه، ولا تحملهُ ما لا يستحق من الذم والبغض فضلاً عن العقاب، فإنَّ العدل واجب في كل الأحوال، فيجب العدل في الحكم بين المسلم والكافر ، وبين السني والمبتدع ، وبين المطيع والعاصي، بقبول الحق ممن أتى به إذا قامت براهينه واتضحت معالمه.
وكما ذكرت أن كل ما خالفت فيه فرق الأهواء أهل السنة والجماعة فقد عُلِم أنه باطل، فإنَّ هذه الفرق توافق أهل السنة في أشياء، فما وافقت فيه أهل السنة فهو حق مقبول ، وما خالفت فيه أهل السنة فهو مردود .
أما الخلاف الذي يكون بين أهل السنة في المسائل العملية فهو جار على ما ذكرت:
إما أن يكون اختلاف تنوع .
أو اختلاف تضاد ، وفي هذه الحال : إما أن يكون المصيب معلوماً لقيام الدليل على صحة قوله .(12/134)
وإما أن لا يتوفر ذلك، وإذا كان هذا الاختلاف من النوع الذي يتبينُ فيه صواب أحد الفريقين، فإنَّ هذا هو الذي يقولُ فيه أهل العلم : إنَّهُ لا إنكار في مسائل الخلاف، فإنَّ من الخلاف ما يتبينُ فيه خطأ أحد القولين وصواب الآخر، وحينئذٍ ينكرُ الخطأ المخالف للدليل ويرد على صاحبه، وإن كان هو في نفسهِ معذوراً لأن المخالف للدليل والمخالف للحق من المجتهدين، قد يكون له عذر، بل هناك أعذار بيّنها أهل العلم كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه – في رسالته المشهورة : رفع الملام عن الأئمة الأعلام " ذكر أنَّ الإمام قد يخالفُ الدليل إما لكونه لم يبلغه أصلاً
أو بلغه ولكن لم يثبت عنده، لأنَّه وصل إليه من طريقٍ ضعيف .
أو ظن معارضة دليل له، ظنهُ ناسخاً له مثلاً، فيكون معذوراً لما عرض له من هذه الأعذار [5]
فواجب المسلم أن يكون دائراً مع الحق، طالباً للحق، متحرياً للحق، متبعاً للهدى لا للهوى، لا يتعصب لفلان ولا فلان ، وإنما يؤتي المختلفون من أهل السنة مثلاً من تعصب بعضهم كما يجري بين المنتسبين للمذاهب الأربعة ، لا ضير في الانتساب إلى الأئمة والاقتداء بهم والاستنارة بأقوالهم والاستفادة من فهو مهم ، ولا بأس في ذلك بل هذا هو الذي ينبغي أن يستفيد اللاحق من السابق في فهمه ومن بيانه ولكن المذموم أن يتعصب التابع للمتبوع ، وأن يقلد القادر على الاستدلال، فيأخذ بقول العالم من غير أن يعرف حجته، مع قدرته على معرفة الدليل .
فالواجب هو إتباع الدليل ، واحترام العلماء ، والناس في العلماء ثلاثة أقسام :
* القسم الأول: فريق يستخفُ بالعلماء ولا يعرف لهم قدرتهم، ولا ينتفعُ بأقوالهم، ولا يستنيرُ بأفهامهم وبيانهم ، بل هو مغرورٌ بنفسه كما حصل ويحصل من بعض المنتسبين لطلب العلم، والمنتسبين مثلاً للأخذ بالدليل ، وهذا تفريط منهم وإفراط .
* القسم الثاني: فريق يغلو في العلماء ، فكل جماعة تتخذ لها إماماً لا تعرف إلاَّ أقواله، ولا تعتد بأقوال سواه، ولا تنظرُ في كتابٍ ولا سنة، وهذا إفراطٌ في تعظيم العلماء وتفريط فيما يجب من الاعتصام بالكتاب والسنة .
* القسم الثالث: فريق توسطوا فجعلوا الحَكَم هو الكتاب والسنة، وجعلوا التحاكم إليهما، وآمنوا بأن كل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا الرسول صلى الله عليه وسلم ، كما أرشد إلى ذلك الأئمة أنفسهم ، فابن عباس – رضي الله عنهما – ينكر على الذين يتعصبون لأبي بكر وعمر – رضي الله عنهما – ويقول : " يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون : قال أبو بكر وعمر " [6] فكيف بمن عارض كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، بقول من دون أبي بكر وعمر بكثير كثير .
فالواجب المسلم أن لا يدين بالإتباع المطلق والطاعة المطلقة إلاَّ للرسول صلى الله عليه وسلم ، لكن مع معرفة أقدار الصحابة وأقدار العلماء، وإنزال كل منزلته، مع معرفة الإنسان لقدره ، وقد قيل : " رحم الله امرأً عرف قدر نفسه " .
فأوصيكم أيها الإخوة بأن تلتزموا في هذا الخضم من الاختلافات والآراء بهذا المبدأ، أو هذا الأصل الذي هو الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهو يتضمن أن يلزم الإنسان العلم والعدل، فيتقي ربه في علمه وفي عمله ، وفي حكمه ، هذا وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا سواءَ السبيل، وأن يجنبنا دروب الضلال، وأن يعصمنا من الزلل في القول والعمل ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله . انتهى .
[1] رواية " ما أنا عليه وأصحابي " رواية ضعيفة وبيان ذلك أنها وردت في حديث عبد الله بن عمرو وفي حديث أنس بن مالك ، فأما حديث عبد الله بن عمرو ، فأخرجه الترمذي في سننه (2641) وابن وضاح في البدع ( ص 85) والمروزي في السنة (59) والآجرِّي في الشريعة ( 15-16) وابن بطة في الإنابة ( 264-265) والحاكم في المستدرك ( 1/129) واللالكائي في السنة (145-146-147) والأصبهاني في الحجة ( 16-17) والعقيلي في الضعفاء ( 2-262) وغيرهم من طرق عن عبد الرحمن بن زياد الإفريقي عن عبد الله بن يزيد عن عبد الله بن عمرو – به – وعبد الرحمن هذا ضعيف من جهة حفظه ، قد ظهرت له منكرات تدل على سوء حفظه فلا يقبل تفرده .
قال الحاكم : " وقد رُوي هذا الحديث عند عبد الله بن عمرو ابن العاص وعمرو بن عوف المزني تفرد بإحداهما عبد الرحمن بن زياد الإفريقي والآخر كثير بن عبد الله المزني ولا تقوم بهما الحجة "وقال الترمذي عن الحديث : غريب
وقال الشاطبي في الاعتصام " إسناد غريب " .
وأما حديث أنس فأخرجه أسلم في تاريخ واسط ( ص 196) ومن طريقه العقيلي ( 2/262) والطبراني في الصغير ( 1/256) ومن طريق عبد الله بن سفيان قال : حدثني يحيى بن سعيد الأنصاري عن أنس وهذا لا أصل له من حديث الأنصاري بل هو باطل كما أشار إلى ذلك العقيلي قال : " ليس له من حديث يحيى بن سعيد أصل ، وإنما يعرف من حديث الإفريقي " ثم ذكر حديث الإفريقي بسنده .
وكلام العقيلي هذا كالمسار في الساج ن فلا يُعدل عنه فعبد الله بن سفيان مجهول ثم هو قد تفرد عن يحيي والروايات المشهورة عن أنس ليس فيها هذه اللفظة ، ومن هنا تعلم أن مّنْ قوّى هذه الرواية لم يصب ، فرواية الضعيف لا تتقوى برواية باطلة ، لا أصل لها والله أعلم .(12/135)
وأما رواية ( الجماعة ) فقد صحت من حديث عدة من الصحابة وحديث الافتراق حديث صحيح رواة أكثر من ثلاثة عشر صحابياً ، فراجع السنة لابن أبي عاصم ( 1/32- 36) والشريعة للآجري ( 14-18) والسنة للآلكائي (99 – 104) والإنابة لابن بطة (1/366) والحجة للأصبهاني (1/ 106) فقد عقد هؤلاء باباً لذكر هذا الخبر وطرقه وتكلموا على متنه ، وكذا أجاد الزبيري في تخريج هذا الحديث في تخريجه لإحياء علوم الدين فراجعه ( النسخة المستخرجة 2982) .
[2]قطعة من حديث أخرجه البخاري في صحيحه ( 3456) في أحاديث الأنبياء ، باب ما ذكر عن بين إسرائيل ، وفي الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : لتتبعن سنن من كان قبلكم ومسلم في العلم ( مع شرح النووي 16/219) عن أبي سعيد الخدري بلفظ : لتتبعن سنن من كان قبلكم " ولفظ مسلم : " الذين من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا حجر ضب لاتبعتموهم قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : " فمن " وفي لفظ للبخاري : حتى لو سلكوا حجر ضب لسلكتموه " بدل : " شبراً بشبر وذراعاً بذراع " وأخرجه أيضاً ابن ماجه ( 3994) في الفتن باب افتراق الأمم ، والإمام أحمد في المسند ( مع الفتح 1/197) وابن أبي عاصم ( 72) والحاكم ( 1/37) وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي من حديث أبي هريرة بلفظ : " لتتبعن سنة من كان قبلكم باعاً بباع وذراعاً بذراع وشبراً بشبر حتى ولو دخلوا في حجر ضب لدخلتم فيه قالوا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : فمن إذاً " قال الهيثمي في المجمع : إسناده صحيح ورجاله ثقات أ. هـ
وأخرجه البخاري في الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : " لتتبعن سن من كان قبلكم " عن أبي هريرة بلفظ " لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون قلبها شبراً بشبر وذراعاً بذراع ، فقيل : يا رسول الله كفارس والروم ؟ فقال : ومن الناس إلا أولئك " وأخرجه الإمام أحمد في المسند ( مع الفتح ( 1/198) عن شداد بن أوس بلفظ : " ليحملن شرار هذه الأمة عن سنن الذين خلوا من قبلهم أهل الكتاب حذو القذة بالقذة " قال الساعاتي الحديث إسناده جيد وله شواهد عند الشيخين والترمذي من طرق متعدد بمعنى حديث الباب ، وله شاهد أيضاً عند الحاكم من حديث حذيفة بن اليمان مطولاً وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، قلت : وأقره الذهبي . انتهى
وأخرجه الإمام أحمد في المسند ( مع الفتح 1/198) عن أبي واقد الليثي بلفظ : " لتركبن سنن من كان قبلكم سنة سنة " ومن طريق آخر بلفظ : " إنكم تركبون سنن الذين من قبلكم " وفيه قصة قال الساعاتي : الحديث أخرجه الشافعي أيضاً في سننه بلفظ حديث الباب عن أبي واقد أيضاً وكلاهما إسناده جيد . انتهى
[3]أخرجه البخاري في صحيحه في الخوف باب صلاة الطالب والمطلوب راكباً وإيماءً ، وفي المغازي باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم ، من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة ، محاصرتهم إياهم . ومسلم في الجهاد والسير ( مع شرح النووي 12/97) عن عبد الله بن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لنا لما رجع من الأحزاب : " لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة " فأدرك بعضهم العصر في الطريق ، فقال بعضهم : لا نصلي حتى نأتيها ، وقال بعضهم : بل نصلي ، لم يرد منا ذلك ، فكر للبني صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم .
[4]أخرجه البخاري في صحيحه في الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ ، ومسلم في صحيحه ( مع شرح النووي 12/13) عن عمرو بن العاص – رضي الله عنه -
[5] قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " رفع الملام " ( مجموع الفتاوى 20/231) وجميع الأعذار ثلاثة أصناف : أحدها : عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ، والثاني : عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول ، والثالث اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع على أسباب متعددة : السبب الأول أن لا يكون الحديث قد بلغه ، والسب الثاني أن يكون الحديث قد بلغه لكنه لم يثبت عنده ، السبب الرابع اشتراطه في خبر الواحد العدل الحافظ شروطاً يخالفه فيها غيره ، السبب الخامس : أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده لكن نسيه ، وهنا يرد في الكتاب والسنة ، السبب السادس : عدم معرفته بدلالة الحديث ، السبب السابع : اعتقاده أن لا دلالة في الحديث والفرق بين هذا وبين الذي قبله أن الأول لم يعرف جهة الدلالة ، والثاني عرف جهة الدلالة لكن اعتقد أنها ليست صحيحة ، السبب الثامن : اعتقاده أن تلك الدلالة قد عارضها ما دل عل أنها ليست مراده ، السبب التاسع : اعتقاده أن الحديث معارض بما يدل على ضعفه أو نسخه أو تأويله إن كان قابلاً للتأويل بما يصلح أن يكون معارضاً بالاتفاق ، السبب العاشر : معارضته بما يدل على ضعفه أو نسخه أو تأويله مما لا يعتقده غيره أو جنسه معارضاً أو لا يكون في الحقيقة معارضاً راجحاً ، فهذه الأسباب العشرة ظاهرة وفي كثير من الأحاديث يجوز أن يكون للعالم حجة في ترك العمل بالحديث لم نطلع نحن عليها ، فإن مدارك العلم واسعة ولم نطلع نحن جميع ما في بواطن العلماء ..... انتهى مختصراً .(12/136)
[6] روى معناه أحمد ( 1/337 ) والخطيب في الفقيه والمتفقه ( ص 144) وابن عبد البر في بيان العلم وفضله ( ص 570) من طريق شريك عن الأعمش عن الفضيل بن عمرو قال : أُراه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : تمتع النبي صلى الله عليه وسلم فقال عروة بن الزبير : نهى أبو بكر وعمر عن المتعة فقال ابن عباس ما يقول عروة ؟ قال : يقول : نهى أبو بكر وعمر عن المتعة ، فقال ابن عباس أراهم سيهلكون أقول قال النبي صلى الله عليه وسلم ويقول نهى أبو بكر وعمر . أ . هـ وفي سنده شريك من عبد الله القاضي وفيه ضعف يسير .
و للأثر سندُ آخر رواه إسحاق بن رهويه في مسنده ( كما في المطالب العالية ) 1/360 رقم 1214) ورواه ابن عبد البر في ( بيان العلم ) تعليقاً ( 570) ورواه الخطيب في الفقيه ( 1/145) وأبو مسلم الكجي ( ذكره ابن القيم في الزاد 2/206) من طريق أيوب عن ابن أبي مليكه عن عروة – به – قال الحافظ ابن حجر : سنده صحيح . وقد روى هذا الأثر معمر عن أيوب فأسقط ابن أبي مليكه ، لكنّ الصواب ذكر ابن أبي مليكه كذا ر واه حماد بن زيد عن أيوب . والله أعلم . وأما اللفظ المذكور : وهو يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ... فلم أجده لكن ذكره ابن القيم ولم يعزه لأحد كما في الزاد 2/195 .
=============
لا ضير : شعار المرحلة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :
فإن الدين الإسلامي دين التضحيات، وإن دعوتنا دعوة الصبر والتضحية، نعم إن طريق الدعوة إلى الله سبحانه، هو طريق التضحيات منذ أن أرسل الله الرسل- عليهم السلام- وحتى يومنا هذا، فقد سالت الدماء الطاهرة منذ أن أرسل الله الرسل إلى يومنا هذا، في سبيل إبلاغ هذا الدين، نعم إنه طريق العزة، فتحمل الأوائل ما تحملوا في سبيل الله من التعذيب، والتشريد والقتل، وصبروا وصابروا ، وضحوا حتى وصل إلينا هذا الدين، على أجساد الأبطال الذين باعوا نفوسهم وأموالهم وأوطانهم لله سبحانه وتعالى، وتمر أمتنا الإسلامية اليوم بحملة شعواء، هدفها القضاء على الدين وعلى قيمه وثوابته، وأشخاصه، يقود هذه الحملة اليهود والصليبيين والمنافقين وأتباعهم، ممن باع دينه بدنياه فناصروا أهل الكفر، وعادوا أهل الإيمان، نعم إنها مرحلة حرجة تعصف بأمة الإسلام، ومع هذا كله، ومع اشتداد الضربات الموجهة لهذه الأمة ؛ فلا يزال في الأمة خير كثير، نعم خير كثير مصداقا لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة )) رواه مسلم .
فكان شعار أهل الإيمان في هذه الأزمان وهم يواجهون أعتى قوى الكفر والإلحاد : كان شعارهم (لا ضير) ، نعم ( لا ضير) ، يجب أن يكون شعارنا في هذه المرحلة العصيبة (لا ضير) ، مهما صب الأعداء علينا حقدهم وجبروتهم وطغيانهم، نعم لا ضير، شعار المؤمن الصادق، شعار المؤمن الصابر، شعار المؤمن المضحي، شعار المؤمن الواثق بنصر الله سبحانه، كلمات قالها السحرة الذين امنوا بالله، وصدقوا بموسى- عليه السلام- لما وعدهم فرعون بالقتل والتعذيب، قال تعالى: (( قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)) (الشعراء:49).
فأجابوه(( قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ)) (الشعراء:50) .
قال السحرة لفرعون: لا ضرر علينا فيما يلحقنا من عقاب الدنيا, إنا راجعون إلى ربنا فيعطينا النعيم المقيم، وكان هذا هو شعار المؤمنين في كل زمان لا ضير؛ كان شعارهم إننا بنصر الله واثقون مهما تلقينا من عذاب، قال تعالى: (( وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً)) (الأحزاب:22).
ولمَّا شاهد المؤمنون الأحزاب الذين تحزَّبوا حول "المدينة"، وأحاطوا بها, تذكروا أن موعد النصر قد قرب, فقالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله, من الابتلاء والمحنة والنصر, فأنجز الله وعده, وصدق رسوله فيما بشَّر به, وما زادهم النظر إلى الأحزاب إلا إيمانًا بالله وتسليمًا لقضائه وانقيادًا لأمره.
واليوم يتوعد المجرمون من اليهود والنصارى ومن والاهم، يتوعدون أهل الإسلام والإيمان بالقتل والتشريد والتجويع، وها هم يهدمون البيوت على أصحابها، ويقطعون الأعضاء من أجساد المسلمين المجاهدين تمثيلاً بهم ليظهر حقدهم الدفين، الموجه ضد المؤمنين الصادقين، ولكن مع هذا كله، ومع تكالب الأعداء على أمة الإسلام، وتضييقهم على المجاهدين في كل مكان؛ أقول مع هذا كله؛ فقد أظهر الأبطال من المجاهدين صبرا عظيما، وثباتا عجيبا، في مواصلة مسيرتهم التي ساروا عليها ليكملوا مسيرة التضحيات والبطولات، منذ عهد النبي إلى يومنا هذا، و شعارهم الذي في قلوبهم ( لا ضير).
نعم لا ضرر علينا مادمنا مؤمنين ومتوكلين بالله خالق الأرض والسماء، القوي الجبار، ((وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً)) .(12/137)
نعم والله آية عظيمة تهتز منها قلوب المؤمنين الصادقين، المتوكلين على الله سبحانه، (لا ضير) إنه شعار الصادقين، بائعي الأنفس لله سبحانه في سبيل إعزاز دينه ، نعم إنه شعار الموحدين المدافعين عن شرع الله، إنه شعار الأبطال اليوم: في زمن الغربة، في زمن المحنة يوم تكالبت قوى الكفر على أهل الإيمان في زمن تخلى فيه المسلم عن نصرة أخيه المسلم ، نعم : إنه شعار المجاهدين السائرين على طريق الجمر .
فيا أمة الإسلام صبرا : أيها المسلمون صبرا : صبرا يا مدن البطولة في العراق وفلسطين والشيشان وأفغانستان ، صبرا مدن الجهاد في العراق : فمهما تكالبت عليك جيوش الصليبيين وأعوانهم من المرتدين ، فتذكري يوم الأحزاب ((وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً)).
صبراً مدن البطولة : فنحن نعلم إن فيك امرأة تبكي على فراق زوجها ، وأم تبكي على فراق ابنها ، وأب يبكي على فراق أولاده ، صبرا مدن البطولة : فنحن نعلم أن أطفالك باتوا في البيوت خائفين من إجرام الصليبيين وأعوانهم ، صبراً صبرا، فقد حزتم أوسمة العز في زمن الهزيمة والذل، صبرا صبرا، فأنتم شموخ في زمن الانكسار، فلم يصل إلينا هذا الدين على طريق من حرير، ولم يصل إلينا هذا الدين على فرش ناعمة، لقد وصل إلينا هذا الدين ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- تنزف قدماه دما من حجارة المشركين، لقد وصلنا هذا الدين ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يتعرض للشتم والسب، ويتهم بالجنون، لقد وصل إلينا هذا الدين ورسول الله يشاهد بعينيه سقوط أصحابه شهداء، فلقد شاهد سقوط حمزة ومصعب وسعد، وعبد الله بن جحش، وزيد وأسامة وجعفرا ، نعم سقطوا جميعا دفاعا عن هذا الدين حتى وصل إلينا، إن الطريق ليس سهلا، إن في الطريق اختبارات وامتحانات، إن الطريق المستقيم الذي نسير عليه ونحن نحمل مبادئ هذا الدين ليس سهلا، فلابد من أن تقدم فيه التضحيات، فالمبادئ لا تعيش إلا بالتضحيات، فلا تكاد تمر بعصر إلا وهذا الدين يقدم التضحيات، يقدم كوكبة من الشهداء، و تتوالى الاختبارات على هذا الدرب الذي خطه لنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ، ومن نعم الله علينا أن جعلنا مسلمين، ومن أتباع هذا الدين، فكان لابد من كل مسلم أن يعلم بأنه سوف يمر باختبارات وامتحانات وابتلاءات، فكان لابد من الصبر والاستمرار على هذا الدرب، قال تعالى: (( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)) (العنكبوت:2) .
وخير جيل جيل الصحابة، فقد تعرضوا لأعظم من ذلك، يقول خباب- رضي الله عنه- أتيت النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو متوسد بردة، وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت يا رسول الله ألا تدعو الله! فقعد وهو محمر وجهه فقال: (( لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه )) رواه البخاري .
فصبرا يا مدن البطولة، صبرا أيتها المدن المجاهدة في العراق وفلسطين والشيشان وأفغانستان ، صبرا فإن تخلى عنك الأحباب، فإن الله لا يتخلى عن عباده وهو ناصرهم، صبرا يا مدن البطولة، فإن دوت قنابل الكفار فيك فإن ( الله اكبر) تدوي في مآذنك، صبراً مدن البطولة، فإن أحزنك تصفيق أبناء جلدتك للمطربين، وحفلات اللهو والإفساد في مدن التمدن والعمران!! فإن بيوت الطين التي دمرها الأمريكان في مدنك وقراك سوف ينهض بها الدين، نعم من هياكل الدور المهدمة سيقوم هذا الدين، سوف يخرج رجالا وأي رجال، رجالا يثأروا لبيوت الله التي هدمت، ولكتاب ربهم الذي دنس، نعم فمن المحن تأتي المنح، والشدة تصنع رجالا، والامتحانات تظهر أبطالا، فصبرا يا مدن البطولة، صبرا أمة الإسلام، صبرا أيها المجاهدون المرابطون فقد روى النسائي أن رجلا قال يا رسول الله ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد، قال: (( كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة )).
فليكن شعارنا (لا ضير) ، فإن فجر العزة للإسلام قادم، والطريق إليه يحتاج إلى همم وعزائم وتضحيات، نسأل الله أن يثبتنا على الحق، وأن يرزقنا الشهادة في سبيله، وأن ينتقم لنا من اليهود والصليبيين ومن والاهم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
===============
تنبيهات وتوصيات
أولاًَ : إن المؤامرة على البيت المسلم كبيرة جدا، لإفساده، وتعطيل دوره في مسار الأمة، وقد فطن أعداء الإسلام من اليهود والنصارى لأهمية البيت، فصوبوا سهامهم نحو المرأة المسلمة؛ لإخراجها من بيتها، وإبعادها عن سترها وحجابها، فإذا ما فسدت المرأة فسد البيت، ومن ثم فسد المجتمع المسلم، ثم سقطت الأمة كلها.
فعلينا أخوة الإسلام أن نتصدى لهذه المؤامرة العظيمة بإصلاح بيوتنا، والمحافظة على أسرنا، و تربية أبناءنا كما أمر الله و رسوله.
ثانياً: أنبه وأحذر من خطورة التشبه بالكفار والكافرات، والفساق والفاسقات، وهذا عنوان الهزيمة النفسية، وعلامة السقوط، والتردي الاجتماعي.
قال العلامة ابن خلدون عالم الاجتماع المسلم رحمه الله تعالى : إن الأمة المغلوبة مغرمة بتقليد الأمة الغالبة، ونحن أمة الاستعلاء والعزة، يقول ربنا تبارك وتعالى: ((وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)).(12/138)
وقال صلى الله عليه وسلم: ((من تشبه بقوم فهو منهم)) [1].
إن المسلم يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأصحابه، و يتشبه بهديهم وسمتهم، ويسير على منهاجهم، أما الكفار فهم وإن كان لديهم شيء من القوة المادية، فإنهم ساقطون متردون منحطون، إنهم أقل شأنا من البهائم والخنازير والكلاب، إن الأمة المسلمة ينبغي أن تقتدي بأولياء الله الصالحين، وإنها إن فعلت ذلك، وتمسكت بدينها، فإنها ستمتلك زمام القوة، وتصل إلى مبتغاها من العزة و المجد، بإذن الله تبارك و تعالى.
ثالثاً: أن نعلم أن البيت المسلم مدرسة لتخريج الأجيال المؤمنة، إنه مدرسة تخرج العلماء والدعاة، والمجاهدين في سبيل الله جل وعلا، فعلينا أخوة الإسلام أن نكون معتنين بهذه البيوت، لنخرج الجيل المؤن، الذي تكون به عزة الأمة ، وتسير به نحو طريق المجد.
وفي الختام فإني أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا، أن يهيأ لهذه الأمة من أمرها رشدا، وأن ينصر دينه، ويعلي كلمته، و يعز أولياءه، ويذل أعداءه، ويهيأ لهذه الأمة أمر رشد، يُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى عن المنكر.
وأسأله سبحانه أن يصلح بيوتنا وقلوبنا، وأن يوفقنا لتربية أبناءنا التربية الصالحة، إنه سبحانه على كل شيء قدير.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] رواه أبو داود.(وحسن إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في اقتضاء الصراط المستقيم).
================
صفات البيت المسلم
البيت نعمة
البيت نعمة عظيمة، امتن الله جل وعلا بها على عباده فقال جل و علا : ((وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ )) (النحل : 80) .
فذكر ربنا تبارك و تعالى نوعين من البيوت: البيوت القائمة المستقرة ، والبيوت المتنقلة ، و كلها نعمة عظمى.
تأمل حال من لا يملك بيتا، تأمل حال من شرد عن بيته ، أو لم يجد له سكنا يسكن فيه، إنه معرض لشدة الحر و البرد ، وللرياح والأمطار ، واللصوص ، ولكل ما يخطر على البال مما يمكن أن يؤذي الإنسان.
ثم انظر إلى ما أنعم الله به عليك من بيوت حديثة مزودة بكل وسائل الراحة، إنارة و تكييف ، وماء حار وماء بارد، وفرش جميلة و مجالس وثيرة، أليس كل ذلك نعمة؟ إن الله جل و علا لما امتن بها عليك، فإنه سبحانه يأمرك أن تكون من الشاكرين.
يجب عليك أن تعلم ما مواصفات البيت المسلم؟ و بماذا يتميز بيت الأسرة المسلمة؟!!
هل يتميز البيت المسلم بألوانه أو بأشكاله ، أو بجدرانه أو بزخارفه؟!!
هذه كلها يا أخي الكريم يشترك فيها المسلم والكافر، و يشترك فيها البر والفاجر، و يشترك فيها كل الناس من شتى بقاع الأرض. فبماذا إذاً يتميز بيت المؤمن العابد للرحمن؟!
إن بيت المسلم يتميز بأمرين:
أولاً : بسكانه .
ثانياً : بمحتوياته.
يتميز بسكانه ، السكان المؤمنون، العباد الصالحون .ويتميز بمحتوياته التي كلها تخدم دينه ، وهي كلها وسيلة لطاعة ربه.
و دعني معك نستعرض شيئا من تفصيل ذلك:
أما محتويات البيت المسلم فيمكن الحديث عنها بنقطتين:
الأولى : ما يكون في البيت المسلم ، و ما يجمل فيه و يحلى به .
الثانية : ما يُنزه عنه البيت المسلم و ما يرفع عنه من تلك الأوزار والقبائح.
فأما الأمور التي ينبغي أن يحلى بها البيت المسلم وتكون فيه:
أن البيت المسلم بيت للطاعة، أنه بيت معمور بذكر الله جل و علا، معمور بالصلاة، و معمور بالقرآن ، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه يقول نبينا صلى الله عليه وسلم : (( مثل البيت الذي يذكر الله فيه و البيت الذي لا يذكر الله تعالى فيه كمثل الحي و الميت )) [1].
أرأيت هذا التشبيه ؟ البيت الذي يُذكر الله فيه ، و يُسبح فيه بحمده، كأنه إنسان حي ، روحه تخفق بين جوانحه.
وأما البيت الذي لا يُذكر الله فيه، البيت الخاوي من ذكر الرحمن فهو البيت الذي امتلأ بالشياطين، فهو كالإنسان الميت ، كالجثة الهامدة التي لا حراك بها ، و يقول صلى الله عليه وسلم : (( اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا ))[2].
اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، أي ستكون بيوتكم بيوتا للأحياء، ولا تهجروها فتكون كالمقابر، لأن المقابر لا يُصلى فيها ، خشية من تعظيم أهلها ، وهي ذريعة ووسيلة للشرك بالرحمن - جل و علا- و يقول صلى الله عليه وسلم : ((عليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة))[3].
هذا الخطاب موجه للرجال، عليكم بالصلاة في بيوتكم يعني النوافل، فإن خير صلاة المرء في بيته، أي من النوافل ، و ذلك لأنه أبعد عن الرياء ، وأقرب إلى الإخلاص ، قال عليه الصلاة و السلام: ((إلا المكتوبة)) .
أما الصلوات الخمس فإنها واجبة في المسجد .
أما المرأة المسلمة فإن الأفضل لها أن تكون جميع صلواتها في بيتها.
ويقول صلى الله عليه وسلم في فضل عمارة البيوت بتلاوة القرآن : ((لا تجعلوا بيوتكم مقابر فإن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة)) [4].
فالمقابر خاوية ،لا يقرأ فيها القرآن ، ولا يُصلى فيها لله جل و تعالى ، ولا يقرأ فيها القرآن، وبيوت المسلمين هي بيوت للأحياء، إذًا هي بيوت تعمر بتلاوة القرآن، والشياطين لا تجتمع مع القرآن في بيت واحد؛ بل إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة فهي أي سورة البقرة سنام القرآن لذلك قال صلى الله عليه وسلم : ((خذوا سورة البقرة ، فإن أخذها بركة و تركها حسرة ، ولا تستطيعها البطلة ))[5] .
أي السحرة.(12/139)
مما يذكر عن السلف - رحمهم الله تعالى- أن أحد علمائهم كان كلما دخل بيته قرأ آية الكرسي ، وفي يوم من الأيام دخل البيت فقرأ آية الكرسي فناداه شيطان من ركن من أركان البيت: ما أكثر ما تقرأها! فقال له: أو غضبت يا خبيث ؟ لأقرأنها كل يوم خمسين مرة.
إذًا يا أخي الكريم، البيت المسلم يتميز بالصلاة فيه، يتميز بالذكر فيه، يتميز بتلاوة القرآن فيه.
وأما البيت الذي لا يوجد فيه ذلك ، البيت الذي هُجر فيه القرآن ، و لا يُصلى فيه ، ولا يُذكر فيه الرب سبحانه وتعالى ، فإنه حري أن تعشش فيه الشياطين وتفرخ فيه و تكثر فيه.
إن صلاتك في بيتك تربيةٌ لأولادك ، ولعل بعض الأطفال الذين لا يرون آباءهم يصلون في البيوت النوافل يظنون أن الصلاة لا تفرض إلا على النساء ؛ لأنهم لا يرون أحدا يصلي في البيت إلا الأم ، لذلك احرص على أن تجعل بعض صلاتك في بيتك ، وأعني بها و أؤكد مرة بعد مرة أن المقصود هو النوافل ، أما الفرائض فيجب أن تكون في المساجد.
[1] رواه مسلم (ج1/ 539 برقم 779) .
[2] رواه مسلم ( ج1/ 538 برقم 777) .
[3] سنن أبي داوود ( ج2/ 69 برقم 1447) .
[4] رواه مسلم (ج1/ 539برقم 780) .
[5] رواه مسلم (ج1/ 553 برقم 804 ) .
=============
نظافة البيت ومحتوياته
* أن يكون نظيفاً
ومما يتميز به البيت المسلم و مما يجمل به ويحلى به، أن يكون بيتا نظيفا مطهراًً ومنظفاً من الأوساخ، فإن ديننا هو دين النظافة ، و ديننا هو دين الطهارة ، فأما الذين لا يعتنون ببيوتهم و فيتركونها مليئة بالأوساخ و القبائح فقد تشبهوا باليهود الذين لا يعتنون بالنظافة، و الحديث الذي يذكر فيه أن النظافة من الإيمان . ورد بلفظ : ((النظافة تدعو للإيمان)) [1].
* أن يكون فيه مكتبة
ومما يتميز به البيت المسلم أن يكون فيه مكتبة ، مكتبة مقروءة ، ومكتبة سمعية ، ومكتبة بصرية، بيت المسلم يجب أن يكون فيه كتب الذكر، والتفسير، وكتب الزهد، وكتب سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن المسلم لا يمكن أن يغفل عن طلب العلم ، وعن التزود من الخير، فكلما احتاج إلى شيء رجع إليها. ومكتبة سمعية، فيها الأشرطة السمعية النافعة، فيها الفتاوى ، والمحاضرات ، والدروس ، والندوات يستمع لها هو وأولاده ، وهي نعم البديل عن الأغاني ، وعن المسلسلات والمسرحيات وسائر الملهيات، كما أنه لا بأس في هذا الزمان أن يكون في بيتك الفيديو الإسلامي، و لكن كن حذراً شديد الحذر من أن يكون في بيتك شيء من الأفلام المفسدة ، وكن حذراً أشد الحذر من أن يعرض في بيتك مسلسل تلفزيوني أو مسرحية في التلفاز ، ولو حتى أفلام الكرتون التي تقدم للأطفال.
* أن يكون فيه وسائل للترفيه المباح
لا بأس أن يكون في بيتك شيء من وسائل الترفيه المباحة، لترفه عن أولادك وليقضوا فيها أوقات فراغهم، لا بأس أن يكون عندهم بعض الألعاب التي ليس فيها صور، والألعاب التي ليس فيها موسيقى، وبعض الألعاب التي ليس فيها تماثيل، وكل ذلك ينبغي أن يكون في حدود المعقول، فلا تكون ملهية عن أوقات الصلاة ، ولا عن الواجبات، وكذلك تكون بديلاً عن أن يخرج الأطفال في الشوارع فيهيمون فيها كما تفعل البهائم، وكذلك تكون بديلا عن أن يبقى الأطفال أمام التلفاز كأنهم عاكفون عليها.
وهناك في السوق الشيء الكثير من وسائل الترفيه المباحة التي ليس فيها محذورا بحمد الله تعالى. فبإمكانك أن تأتي لأولادك بكمبيوتر، وبإمكانك أن تأتي لأولادك بمَسبح ,وبإمكانك أن تأتي لأولادك بألعاب تعلمهم فنون الجهاد، كل ذلك من الألعاب المطلوبة التي تحفظ الأوقات وتفيد الأطفال من حيث تنمية القدرات العقلية ، ومن حيث تنمية أذهانهم و تدريبهم على ما ينفعهم في المستقبل.
[1] (رواه الطبراني في الأوسط من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه وحكم عليه بأنه ضعيف ، وكذلك العلامة المحدث الشيخ ناصر الدين الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة).
==============
ما ينزه عنه البيت المسلم
أما ما ينزه عنه البيت المسلم فإنها أمور كثيرة منها :
أولاً : إن أول ما يجب أن يطرد من البيت المسلم الشيطان وأعوانه (( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا)) .
العدو لا يمكن أن تسمح له بدخول البيت، فكيف بأعدى الأعداء الذي كان سببا لخروج أبيك آدم من الجنة! و هو يحرص كل الحرص على أن يبعدك أيضا من الجنة، فهذا الشيطان يجب أن تبعده عن بيتك.
كيف تبعد الشيطان ؟
إن هناك أموراً تمنع دخول الشيطان، كما أن هناك أموراً تجلب الشيطان ، فمن الأمور التي تمنع دخوله:
* سورة البقرة.
* ذكر الله جل و علا وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى ثم تناول طعامه فذكر الله، قال الشيطان لأصحابه: لا مبيت لكم و لا عشاء ، فإذا دخل بيته فلم يذكر الله قال الشيطان لأوليائه أدركتم المبيت، فإن أكل و لم يذكر الله قال الشيطان أدركتم العشاء)) [1] .
فالشياطين تدرك العشاء والمبيت بترك ذكر الله ، ومعنى هذا أن الشياطين ينامون معك في بيتك .
ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلم إذا دخل بيته أن يقول : ((اللهم إني أسألك خير المولج و خير المخرج، بسم الله ولجنا و بسم الله خرجنا و على الله ربنا توكلنا)) [2].
* أن يكون بيتا معموراً بالطاعات(12/140)
أخي الكريم، إن الشيطان لا يجتمع أبدا مع طاعة الرحمن. فالقلب الذي ملئ بالطاعة و الذكر لا يمكن أن يكون مكاناً للشياطين ، ولا موئلاً لهم، فكلما جاءت الشياطين و وسوست فيه ، ذكر الإنسان ربه ، فخنست الشياطين و هربت منه، فكذلك البيوت، كلما وجدت فيها الصلوات والطاعات كلما هربت الشياطين وابتعدت، و كلما كان بيتك خالياً من الصلاة لرب العالمين ، ومن الذكر ، ومن تلاوة القرآن كلما كان ذلك أدعى أن يتواجد فيه الشيطان .
ثانياً : الحرص كل الحرص أن تبعد عن بيتك الأمور التي تجلب الشيطان ، فما هي الأمور التي تجلب الشياطين ؟
* إن الشياطين تتنزل على الكذب والإفك ((هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ)) .
فالبيت المعمور بالكذب، والغيبة ، والنميمة، وأكل الأعراض ؛حَرِيٌّ أن تجتمع فيه الشياطين.
* ومما يجلب الشياطين أن يكون البيت محلا للنجاسات، فإن الشياطين تحب النجاسات وهي أماكنها، لأنها أرواح خبيثة فناسبت أن تكون في الأماكن الخبيثة.
* ومما يجلب الشياطين الصور و التماثيل ، وقد تدخل الشياطين فيها فتخاطب الناس كما حصل هذا في الجاهلية وكما يحصل إلى الآن مع عباد القبور الذين يطوفون في القبور ويقدسونها ؛ فقد يسمعون منها أصواتاً هي أصوات الشياطين التي تكلمهم لتزيدهم ضلالا و بعداً عن الصراط المستقيم.
* و كذلك الكلاب والصور كلها مما تتنزل عليه الشياطين و تحبه ولذلك فإن الشياطين قد تتصور أحيانا في صور الكلاب السود و لذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد حذر من أن تكون الكلاب في بيوت المؤمنين.
ثالثاً : مما يجب أن ينزه عنه بيت المسلم ليكون بيتا صالحا نقيا مؤمنا الأغاني.
فهي وسيلة من وسائل الشيطان لإغواء بني آدم، و ربنا جل و علا حذرنا في كتابه منها، بل و أخبرنا أنها من وسائل الشيطان (( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ)) .
قال بعض أهل العلم: صوت الشيطان هو الغناء، وهو المزمار. فالأغاني من الأمور التي حرمها الله و رسوله.
قال الله تعالى: (( وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ)) .
لقد أقسم ابن مسعود رضي الله عنه ثلاثاً وهو العالم الرباني ، وهو الصادق البارّ، صادق بلا قسم ، أقسم ثلاث مرات أنها الغناء، فقال: والله الذي لا إله إلا هو الغناء .
وكان رضي الله تعالى عنه من علماء الصحابة الكبار العالمين بالقرآن فكان يقول : إن الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل.
ووالله إن هذا لواقع ملموس، وانظر عن يمينك و عن شمالك لترى مصداق ذلك أمام عينيك، انظر إلى الناس الذين فتنوا بالأغاني وباستماعها، انظر كم يقرؤون القرآن؟ انظر هل يتلذذون بقراءة القرآن ؟ هل تخشع قلوبهم للقرآن ؟
إن القرآن كلام الرحمن ، وإن الغناء مزمار الشيطان وهما لا يجتمعان في قلب إنسان .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر و الحرير و الخمر و المعازف))[3].
والحِرُ هو الزنا ، فهم يستحلون الزنا، والحرير محرم على ذكور الأمة وحلال لإناثها ، والخمر والمعازف، فهم يستمعون لها استماع المستحل ، وكأنها أمر حلال - وإنّا لله وإنّا إليه راجعون - وما ظنك يا أخي بقلب ملأ بحب الأغاني ؟ وفتنته الموسيقى بشتى أنواعها! أتظن أنه قلب يجاهد؟ أتظن أن الأمة الراقصة تستطيع أن تحرر مقدساتها ؟ لا والله .
لقد قاتل العرب على أنغام أم كلثوم في عام1967 فهزموا شر هزيمة، وقاتل الأفغان بصيحة لا إله إلا الله و الله أكبر، فزلزلوا إمبراطورية عظيمة ، فتهاوت الشيوعية رغم أن ما معهم إلا أسلحة بدائية ! فانظر الفارق بين الحربين !
إن الأمة التي فقدت أرضها، والأمة التي استذلت، والأمة المنهكة التي تتخذ القرارات من خارج ديارها، من هيئة اليهود ومن مجلس الظلم الدولي، هذه الأمة ينبغي ألا تكون أمة راقصة، بل إن الرقص إنما يكون للسفلة .
وإن الأغاني إنما تكون لأهل اللهو والمجون، أما أهل الجد الذين عزموا على أن يحرروا أرضهم، وما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة مهما كثرت مؤتمرات الاستسلام؛ فإنهم جادون وليسوا من أهل العبث ولا من أهل الهزل ، فهم الذين يطهرون بيوتهم عن الأغاني، سواءٌ كانت في المذياع أو التلفزيون أو الفيديو أو المسجل أو كانت في غير ذلك.
[1] رواه مسلم ج3 / 1598 برقم 2018 .
[2] رواه أبو داوود ج4/325برقم 5096 .
[3] رواه البخاري ( ج 5/ 2182برقم 5268)
==============
مواصفات البيت المسلم
1- أن يكون خاليا من المجلات الخليعة ومن الجرائد المسمومة الخبيثة، إن البيت المسلم يترفع عن أن تكون فيه الخبائث، و من الخبائث في عصرنا هذا مسلسلات الحب و الغرام التي تفتن شباب المسلمين و بناتهم ، إنها تدعو إلى الفواحش، إنها وسيلة للوقوع في الزنا. فاحذر ثم احذر ثم احذر أن تترك أبناءك وبناتك ينظرون إلى هذه المسلسلات الغرامية فإنها شر، وإنها تأخذ بالقلوب، وكذلك هذه المجلات الخليعة التي لا هم لها إلا المتاجرة بالغرائز، ولا هم لها إلا العبث بصورة المرأة و كأن المرأة سلعة، فإذا أرادوا أن تكثر المبيعات من مجلة وضعوا عليها امرأة فأصبحت المرأة المسكينة المظلومة وسيلة من وسائل الدعاية !!(12/141)
والإسلام كرمها، الإسلام رفعها، والإسلام أعلى منزلتها فجعلها جوهرة ثمينة ودرة مصونة، ثم احذر من الجرائد المسمومة، فإنها تدس الشر من حيث لا تشعر، وإنها تخلط السمن بالعسل، فعندما ترى خارجها تجد أنه لذيذا، وعندما تتأمل ما في باطنها تجد فيه الموت الأحمر، فاحذر يا أخي من تلك الجرائد والمجلات، ومنها مجلة سيدتهم، ومجلة النهضة، واليقظة، وروز اليوسف، وأمثالها من تلك المجلات الساقطة، ومن الجرائد جريدة الشرق الأوسط و أمثالها من تلك الجرائد التي دأبت على معاداة أولياء الله ، وعلى الطعن في هذا الدين .
2- لا تترك لأولادك مجالا فيبقوا أمام أفلام الكرتون، فكثير من الأسر تظن أنها شيء سهل و يسير و لكنها خطيرة جدا إن فيها طعن في العقائد ، وعبث بالأخلاق وفيها إفساد للقيم من حيث لا تشعر ، وإذا أردت أن تعرف حقيقة هذا فاجلس أمامها وتأمل، ثم انظر فستجد الطعن في العقائد والأخلاق و في القيم، والناس في هذا متساهلون لأنها تجذب الأولاد وتأخذ منهم وقتا عن العبث واللهو، و والله إن العبث و اللهو خير من إفساد القيم و الأخلاق و العقائد.
3- يجب أن ينزه بيت المسلم عن الصور والتماثيل، فالصور أمرها خطير، و أول شرك وقع في هذه الأرض و أول تحريف للتوحيد كان بسبب الصور، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد حذر منها ، بل قد تواترت الأحاديث في التحذير من الصور، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المصورين أشد الناس عذابا يوم القيامة.
و لذلك فإن علياً رضي الله تعالى عنه أوصى أبا الهياج الأسَدي فقال له: (( ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا تدع صورة إلا طمستها ، و لا قبرا مشرفا إلا سويته))[1].
ألا تدع صورة إلا طمستها، وطمسها يكون بطمس وجهها، فبعض الناس يظن بأنه إذا فصل الرأس عن الجسد انتهى الأمر و ليس بصحيح، بل إن الأمر معلقا بالوجه، فإذا طمس الوجه لن يعرف الشخص ، وأما إذا بقي الوجه عرف أن هذا هو فلان، فإذًا يا أخي لا تقصر في طمس الصور ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وكذلك التماثيل بل هي أشد تحريما، لأن التماثيل صور مجسمة فهي أدعى لأن يفتتن الناس بها، و لذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (( لا تدخل الملائكة بيتا فيه تماثيل أو تصاوير))[2].
إن الناس في عصرنا قد ابتلوا بألوان شتى من الصور، ابتلوا بها في الثياب ، وفي السيارات، وفي أثاث البيت، كما ابتلوا في تعليقها في المكاتب ، وفي المنازل للاحتفاظ بها ، وربما يكون للتعظيم ، و هذا يكون أشد ضررا وهو ذريعة للشرك إذا علقت الصور تعظيما، تجدها كثيرا في ملابس الأطفال، إذا اشتريت لأطفالك ملابس فانظر إليها فلعل يكون فيها صورا محرمة و لو أن المسلمين قاطعوا الملابس التي فيها صور لأضطر التاجر أن يورد ملابس لا صور فيها، و اضطرت المصانع أن تصنع ملابس لا صور فيها، والذين لهم خبرة في هذا المجال يعرفون بأن المصانع إنما تصنع على حسب الطلب، فإذا طلبت منها مواصفات معينة صنعت كما تريد، فيا تجار المسلمين.
اتقوا الله تعالى ولا توقعوا أنفسكم في الإثم ، ثم توقعوا إخوانكم المسلمين في الإثم ، ومن تسبب في وقوع المسلمين في سيئة فليحذر من وزرها ووزر من عمل بها.
4- أحذر لعب الأطفال التي هي على شكل حيوانات مجسمة، فيلة، و جمال،و خيول، وبعض الناس قد يأخذ التماثيل على شكل تحف و يضعها على الطاولات، أو يضعها على جدران بيته تجميلا له، وذلك والله محذور عظيم فقد وقع فيما نهى عنه المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم، وأصبح عنده في بيته ما يمنع دخول الملائكة، و قد استثنى أهل العلم من الصور شيئا قليلا وهو ما دعت إليه الضرورة، كالصورة التي تكون في البطاقة أو في الرخصة أو نحو ذلك، مما تدعو إليه الضرورة و لا يمكن أن يسير الإنسان بدونه.
5- السباب و اللعن و الكلام البذيء، والكلام الساقط القذر، كل هذه من الأمور التي ينزه عنها بيت المسلم وينبغي ألا يسمعها الأطفال، والطفل يحفظ ما يسمع، فإذا سمع ألفاظ الشتيمة من لعن و سب، وسمع الألفاظ الدونية .. الألفاظ السوقية؛ أخذ يتكلم بها وظهرت على لسانه، وأما إذا سمع ذكر الله وسمع التسبيح والتهليل والتكبير، فإن ذلك أيضا سيكون على لسانه، و قد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء)) [3].
---------
[1] رواه مسلم (2/666 برقم 969) .
[2] رواه مسلم (3/1663برقم 2112) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] رواه الترمذي ( 4/ 350 برقم 1977).
==============
سكان البيت المسلم
البيوت بأهلها و بسكانها، لا بجدرانها و بنائها، فإذا كان أهلها أخياراً كانت بيوتا مملوءة نورا، و إذا كان أهلها أشرارا فُجّارا كانت بيوتا مملوءة ظلمة، وأهل البيت المسلم لهم مواصفات و لعل من أهم مواصفاتهم ما يلي:
الصفة الأولى : أنهم صالحون مؤمنون مصلون، وهم مؤمنون بربهم ، مؤمنون بوعده و وعيده، يرجون رحمته و يخافون عذابه، وهم يحافظون على الصلوات، لا يؤخرونها عن أوقاتها و ليسوا عنها بالساهين ، لأن الله تعالى قال: (( فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ)) (الماعون:4-5).(12/142)
قال أهل العلم: هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها فتوعدهم الله- عز وجل- بهذا الوعيد الشديد، وهم أيضا مؤدون لحقوق الله و حقوق عباده، وهم مؤدون لكل حقوق ربهم من صلاة و صيام و زكاة و حج، و بر بالوالدين وصلة للأرحام ، وإحسان للجيران ، وأخلاق فاضلة ومن آداب رفيعة، كما هم أيضا مؤدون لحقوق العباد، فهم يؤدون حق الخالق ويحسنون أيضا للمخلوق، هم لا يظلمون غيرهم ولا يشتمون غيرهم و لا يؤذون غيرهم، و يخشون قول الله تبارك وتعالى: (( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَااكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا)) (الاحزاب:58).
الصفة الثانية : أنهم حافظون لجوارحهم، حافظون لألسنتهم، يحفظون ألسنتهم من كل محرم، واللسان أمره خطير. يقول الله تبارك وتعالى: (( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)) (المؤمنون:1-3) .
ويقول تعالى عن صفات عباد الرحمن: (( وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامً)) (الفرقان:72).
فهم أقوام حفظوا ألسنتهم من كل لغو و باطل ، ومن كل زور وكذب ، كيف لا هم يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال لمعاذ: (( وهل يكب الناس في النار على وجوههم- أو قال على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم))[1].
الصفة الثالثة : أنهم حافظون لفروجهم، لأن الله جل وعلا قد أمرهم بذلك فقال: (( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ)) (النور:30-31).
وقد وصفهم ربهم تبارك و تعالى بذلك فقال: في سورة المؤمنون: (( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ)) (المعارج : 29-31) .
وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح هذا هو مراد إبليس لقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح (( أن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه، فأقربهم منه منزلة أعظمهم فتنة، فيأتيه الشيطان فيقول: ما زلت في ذلك الرجل حتى فرقت بينه و بين امرأته، فيدنيه إبليس ويقول له: أنت أنت))[2].
إن إبليس يحرص على هدم الأسرة المسلمة، لأن إبليس يعلم أن في هدم الأسرة المسلمة شرا عظيما و بلاء مستطيرا و لذلك يحرص كل الحرص على أن يوقع الشقاق بين الرجل و أهله، و بين الأخ و أخيه، و بين أهل البيت أجمعين.
كما أن من صفات أهل البيت المسلم أنهم يتعاونون على طاعة الله جل و علا ، امتثالا لأمر ربهم سبحانه في قوله تبارك وتعالى: (( تَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)) (المائدة : 2) .
إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للرجل، الذي يقوم ليصلي من الليل فيوقظ امرأته فإن أبت نضح في وجهها الماء قال عليه الصلاة والسلام: (( رحم الله رجلا قام يصلي من الليل فأيقظ أهله فإن أبت نضح في وجهها الماء و رحم الله امرأة قامت تصلي من الليل فأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء))[3] .
هذا هو التعاون على الطاعة و والله إنها من أعظم النعم أن يكون في بيتك من يعينك على طاعة الله في بيتك وهذا هو ما يدعوا به عباد الرحمن كما أخبر الله عنهم أنهم كانوا يقولون: (( رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)) (الفرقان : 74) .
إن قرة الأعين من الأزواج و الأولاد هم الذين يكونون عونا لك على الطاعة، أما الذين يكونون سببا لوقوعك في المعصية فهم يكونون ابتلاء وامتحان نسأل الله العافية.
الصفة الرابعة : أنهم يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر امتثالا لأمر ربهم جل وعلا في قوله تعالى: (( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)) (آل عمران: 104) .
البيت المسلم أهله يحملون رسالة الإسلام، يعيشون لهذه الرسالة، وتحترق قلوبهم لأجلها، تشتعل جذوة الإيمان وجذوة الخير في القلوب فتنير قلوبهم وبيوتهم ، وتنير على مجتمعهم أيضا، وهم يدعون إلى الله على بصيرة، امتثالا لأمر ربهم (( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ)) (آل عمران:104).
فالدعوة إلى الله مهمة المجتمع المسلم و هي طريقة أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي)) (يوسف : 108) .(12/143)
الصفة الخامسة : أنهم يبنون علاقاتهم مع غيرهم على شرع الله و منهجه. إنهم يوالون ويعادون على منهج واضح ، إنهم يوالون أولياء الله ولو كانوا من أبعد الناس و يعادون أعداء الله، ولو كانوا من أقرب الناس، إنهم لا يوالون لعصبية أو جاهلية، هم يحبون أهل الطاعة وأهل المعتقد الصحيح، وهم يبغضون أهل الإشراق وأهل الفكر المنحرف وأهل الأهواء المضلة، ولو كانوا أقاربهم، لأنهم قد فقهوا عن الله و رسوله، إنهم سمعوا من الله فقبلوا وعملوا، سمعوا الله تعالى يقول: (( لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا)) (النساء : 144) .
وسمعوا الله يقول: (( لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ)) (المجادلة : 22) .
إن مما يفتقده الكثير من المسلمين اليوم أن تجد من الأولاد من يعصي الله ورسوله ، ويجاهر بالمعصية بترك الصلاة أو بنحو ذلك، ومع ذلك لا يتبرءون منهم، ومع ذلك لا تتمعر وجوههم غضبا لله، و مع ذلك ربما يعادون من يأمر أولادهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وهذه إحدى المصائب فإنا لله و إنا إليه راجعون.
الصفة السادسة : إن من صفات أهل البيت المسلم ؛ بل ومن مميزاتهم التي يتميزون بها عن غيرهم أن الله وفقهم بأن يعتنوا بأولادهم عناية تامة، إنهم يعلمون أن دينهم الإسلام قد اعتنى بإنشاء الأسرة الصالحة، لأن الأسرة الصالحة لبنة في بناء المجتمع ، والمجتمع يتكون من أسر فإذا كانت الأسرة صالحة كان المجتمع صالحا، و إذا كان المجتمع صالحا فقد أفلحت الأمة ، إنهم يعلمون فائدة صلاح الأبناء في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالبر وبالعون على الطاعة و في الآخرة أن يستغفروا لهم و يدعوا لهم (( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث)) [4].
يعلمونهم منذ أن يبدؤوا بالكلام يعلمونهم ذكر الله جل و علا و يعلمونهم التوحيد ، فعندما يبدأ الولد ذكرا كان أو أنثى ، وكلمة الولد في اللغة على الذكر والأنثى، بعكس ما هو متعارف عليه عندنا، ففي لهجتنا أن الولد يطلق فقط على الذكر بينما في لغة القرآن أن الولد يطلق على الذكر والأنثى.
أقول : إنهم يعلمون أولادهم منذ أن يبدؤوا بالكلام كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، يعلمونهم التسبيح، يعلمونهم التكبير. أرأيت الفرق بين طفل حين يقابلك تسمع منه كلمة لا إله إلا الله وبين طفل تسمع منه كلمات بذيئة.. فرق عظيم.
تربية الأبناء
إن من المؤلم أن بعض الأسر تربي أبناءها على كلمات أجنبية ، وربما تترك أبناءها للخادمات تتولى التربية و التنشئة، كما أنهم يعلمون أولادهم الصلاة إذا أصبحوا في سن التمييز، امتثالا لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال : ((مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع)) [5].
فإذا بلغ الولد سن التمييز وهو غالبا سن السابعة فإن على والديه أن يعلموه الصلاة والطهارة أن يعلموه الخشوع في الصلاة ، واحترام المساجد بعكس ما نراه اليوم في كثير من الأطفال عندما يأتي ليصلي وهو قد تعدى السابعة يبدأ يلتفت.. ويضحك.. ويتلاعب وهو في صلاته.
كما أنهم يعلمون أولادهم فرائض الإسلام كلها، إنهم يعلمون أبناءهم حب الله و رسوله، يربون الولد منذ الصغر على أن يكون محبا لله جل وعلا.. معظما له ، كلما سمع ذكر الله- كلمة الله ، كلما كبر وسبح، وكلما شعر بتعظيم هذا اللفظ الجليل، كما أنهم يربونهم على محبة رسول الله المصطفى صلى الله عليه وسلم، يعلمونهم أنه القدوة و يعلمونهم أنه الإمام، و يعلمونهم أنه الذي يأخذ بأيدي البشرية إلى الخير، فيعلمونهم محبة النبي ص ، فكلما ذكر اسمه صلوا عليه و سلموا ، كما أنهم يربون أولادهم على القرآن الكريم، فمنذ أن يصبح الولد في سن يحفظ فيه يعلمونه حفظ القرآن، وهذه يا أيها الأحبة الكرام سيرة السلف الصالح، حيث كانوا يربون أولادهم من الصغر على أن يحفظوا كتاب الله الكريم وإذا أنت اطلعت على تراجم العلماء تجد كثيرا منهم قد حفظ القرآن وهو دون العاشرة من عمره وذلك والله فضل عظيم يؤتيه الله من يشاء،
كما أنهم يعلمونهم احترام القرآن واحترام أهل القرآن ، وكم من طفل عندما يرى القرآن الكريم لا يفرق بينه وبين أي كتاب!
إن القرآن أيها الأحبة ليس كغيره من الكتب، إنه كلام رب العالمين إنه المنهج الخالد إنه دستور الأمة ، إنه يجب أن تضعه هذه الأمة في قلوبها، وإني أقول إن الأمة لن تنجح وإن لن تفلح إلا إذا رجعت إلى القرآن فاستلهمت منه رشدها واستبانت منه طريقها، وما ضلت الأمم السابقة- كما جاء في الحديث - إلا لما تركوا كتبهم التي أنزلت على أنبيائهم وانصرفوا إلى كتب علمائهم فالقرآن هو كل الخير، فلك يجب أن نربي أبناءنا على حفظه، وعلى احترامه ، وعلى تعظيمه ، كما أنهم أيضا يربون أولادهم على احترام كتب العلم.
كم من إنسان لا يقشعر جلده حين يرى أولاده يتلاعبون بالكتب و يرمونها وربما يطئونها.(12/144)
إن الكتب التي فيها ذكر الله تعالى وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم وفيها العلم من الحلال والحرام إنها يجب أن تحترم و ترفع و تقدر لأنها كتب الإسلام .
كما أنهم يعلمون أولادهم حديث رسول الله ص فيقومون بتحفيظ أولادهم ما يتيسر من الحديث على ما يناسب السن والذكاء والقدرات ، وربما يوجد طفل يتميز بذكاء خارق فبإمكانه أن يحفظ الأحاديث النبوية بسهولة ، وربما آخر أكبر منه سنا لا يستطيع ذلك، فهم يراعون قدرات الأولاد ويعلمونهم ما يمكن لهم أن يفهمونه ويحفظوه.
يا أيها المسلمون لقد كان علماءنا يعتنون بتعليم الأطفال الحديث ، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وشمائله العطرة، وهكذا ينبغي أن نكون، كما قال الإمام مالك: لن يصلح حال هذه الأمة إلا بما صلح عليه أولها .
إن العلماء قد ألفوا كتبا تشتمل على أمهات قواعد الإسلام كـ(الأربعين النووية) مثلا، وما أرادوا أن تكون هذه الكتب بالفطاحل إنما أرادوا أن تكون للصغار المبتدئين، فعلينا أن نعلمها أولادنا وأن نفقههم فيها وكذلك السيرة النبوية، إنه مما يزري بالمسلم أن يكون هو وأبناءه لا يعرفون سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفون غزواته! إنه بلاء.
فيا أيها المسلمون علموا أولادكم أحاديث رسول الله ،وسيرته ، وهناك - والحمد الله من الكتيبات ما يناسب ذلك، هناك كتب ألفت للأطفال خصيصا تعلمهم سيرة النبي وسيرة خلفائه الراشدين ، وأولئك القوم هم الذين يقتدى بهم ، هم الهداة المهتدون الذين من اقتدى بهم و سار على نهجهم، فلن يضل أبدا.
وإن مما يدمى له قلب المؤمن أن ترى بعض الأطفال يعرفوا بعض الأسماء التي اشتهرت إما في عالم الكرة ، أو الغناء والفن ، أو الملاكمة والمصارعة ،أو في غير ذلك، وإذا سألته عن أبي بكر و عمر لم يعرف من هما!!
إننا نحتاج لجيل مؤمن ، وإن البيت المسلم نريد منه أن يكون مدرسة يتخرج منها أحفاد عمر ،وأحفاد أبي عبيدة ، وأحفاد صلاح الدين، نريد جيلا مؤمنا يكون تحرير الأقصى على يديه.
كما أن البيت المسلم يجب أن يعتني بتربية أبنائه تربية جهادية، تربية الأبناء التربية الجهادية من الأمور التي نحتاجها في هذا العصر، بمعنى أننا يجب ألا نربي أبناءنا على الترف والدعة، وعلى حب اللذة والمتعة، بل على العكس ، نعلمهم على الشدة والقوة، والتضحية والفداء، نعلمهم على أن هذا الدين الذي أكرمنا الله به هو رأس مالنا وكل شيء في حياتنا، وأنه يستحق أن نفديه بأرواحنا، وأن نضحي بالغالي والنفيس من أجله.
كما أن البيت المسلم يعتني بتعليم أولاده الآداب الإسلامية فيعلمهم ما أمر الله به ورسوله من الآداب.
إن الله جل وعلا أمر المسلمين بآداب كالصدق والأمانة ، والعفاف والإخلاص ،وكلها نحتاج أن نربي أبناءنا عليها ، وأن نحذرهم من الكذب والغش والخيانة، وتفصيل ذلك يحتاج إلى وقت طويل.
وقد أدب النبي صلى الله عليه وسلم أبناء المسلمين الكثير من الآداب، تذكروا كيف علم عمر بن أبي سلمة آدابًا عظيمة، قال له يا غلام وهو صغير: ((يا غلام سمي بالله و كل بيمينك و كل مما يليك))[6].
إننا نحتاج أن نعلم أبناءنا أن يذكروا اسم الله على كل شيء، إذا سقط الولد على الأرض يذكر اسم الله ، وإذا أكل، وإذا نام، وإذا أكل يحمد الله، وإذا شرب يحمد الله، وإذا عطس يحمد الله، كل ذلك مما يغرس في قلبه الإيمان فتثمر بإذن الله تبارك وتعالى وبتوفيقه أفضل النتائج.
كذلك فإنهم يعلمون أولادهم سيرة السلف الصالح وكلٌ حسب سنه وعقله ، وكذلك البنات يعلمن سير أمهات المؤمنين، وكذلك يعلمن سير النساء الصالحات ليقتدين بهن، ويعلم الذكور أن السلف الصالح هم القدوة والأسوة، ولا يقتدي بالمغنين والمغنيات، أو الممثلين وبالممثلات ، أو بعارضات الأزياء وصاحبات الموضة ! لا،
إن القدوة بالنسبة للرجل المسلم هو سلفه الصالح ، والقدوة بالنسبة للمرأة المسلمة، هن أمهات المؤمنين والنساء الصالحات من سلف هذه الأمة اللاتي ضربن المثل في تطبيق دين الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
كما أنهم يربون أولادهم على البعد عن القبائح و الرذائل، والفواحش والأخلاق المرذولة، والكلمات النابية، فألسنتهن طاهرة ، ونفوسهن زكية وإذا تربى الأبناء على ذلك فإنهم بإذن الله تعالى وبتوفيقه سيسيرون على هذا الطريق، ولن ينحرفوا عنه بمشيئة الله تعالى.
تعليم الأبناء الحلال والحرام والدعاء لهم وتربيتهم على عدم الاختلاط والعدل
أن من صفاتهم أنهم يعلمونهم الحلال و الحرام، يربون أولادهم على الحلال والحرام، وقد يستغرب إنسان كيف أربي طفلا صغيرا على معرفة الحلال والحرام ؟ يا أخي إن هذه سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، إنه عليه الصلاة والسلام قد علم صغار المسلمين الحلال والحرام، بل أنه عليه الصلاة و السلام قد بايع أولاد المسلمين.
أخذ الحسن بن علي وهو طفل صغير- لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان عمره قريبا من الثامنة- أخذ تمرة من تمر الصدقة، فوضعها في فمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كَخٍ، كَخٍ ، ألا تعلم أنها لا تحل لنا الصدقة!!لأن الحسن بن علي من بني هاشم وبنو هاشم هم آل النبي صلى الله عليه وسلم لا تحل لهم الصدقة، فهذا طفل صغير علمه النبي صلى الله عليه وسلم الحلال.
فإذًا يا أخي الكريم علم أولادك الحلال والحرام، وسأضرب لك مثلين، بإمكانك أن تعرف النتيجة.(12/145)
علم أولادك أن الموسيقى محرمة، أن الله حرمها ورسوله، ثم انتظر النتيجة سترى أن الولد ذكرا كان أم أنثى بمجرد ما يرى عند الأقارب أو الجيران التلفاز أو الإذاعة فيه موسيقى سيلفظ مباشرة: (حرام..حرام) ثم يحاول أن يغلقها، وقد جرب ذلك كثيرون وعرفوه.
كذلك يا أخي هنالك مثال آخر، علم أولادك أن هذه الصورة صورة كافر، وأن الكافر يجب عليك أن تبغضه، مثلا هذه صورة (رابين)، وأن رابين هو كافر يهودي أو هذه صورة (كلينتون) أو (بوش) وهو نصراني كافر وأن عليك يا ولدي أن تبغضه، وعلمه أن هذه صورة مجاهد يجب عليك أن تحبه ثم انظر ماذا سيكون ؟ إنه كلما أخذ مجلة أو رآها سيأتي إليك ويقول لك: (يا أبي هذا كافر). وإذا رأى مجاهدًا مُعممًا قال: (يا أبي هذا مجاهد).
فاغرس في قلب ولدك من الصغر محبة الله ومحبة رسوله و محبة أولياء الله، واغرس في قلبه منذ الصغر بغض الكفار من اليهود والنصارى والمنافقين والرافضة وغيرهم.
* الصفة السابعة : أنهم يدعون لأولادهم، وأنهم لا يدعون عليهم، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الدعاء على الأولاد فقال: ((لا تدعوا على أولادكم فعسى أن توافوا ساعة إجابة))[7]..
فلا ينبغي للمسلم أن يدعو على أبنائه بل بالعكس إن عليك أن تعود لسانك الدعاء للأولاد، وهذا هو الذي ذكره الله تعالى في صفات عباد الرحمن، أنهم يقولون: ((رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا)) . فهم يدعون لأولادهم.
* الصفة الثامنة : أنهم يبتعدون عن الاختلاط، فاختلاط النساء بالرجال شر قد حذر منه المصطفى الناصح الأمين صلى الله عليه وسلم حين قال: (( إياكم و الدخول على النساء فقام رجل من الأنصار فقال: أرأيت الحمو ؟ قال صلى الله عليه وسلم:الحمو الموت))[8] رواه البخاري.
والحمو هو قريب الزوج، يعني ماذا نفعل ؟ هل نسمح بدخوله؟ فماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟ هل قال نعم ؟ بل قال: "الحمو الموت". لماذا؟ لأن دخوله على النساء ليس مستغرب عند الناس، أي أنه قد يتساهلون فيه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)) رواه أحمد .
فالشيطان يوسوس وقد يقع المحذور، فمن صفات أهل البيت المسلم أنهم يمنعون الاختلاط منعا باتا، فالرجل لا يجلس مع المرأة الأجنبية عنه، والأجنبية عنك يا أخي المسلم: هي المرأة التي يحل لك أن تتزوجها، أما المرأة المحرمة عليك تحريما مؤبدا لا يحل لك أن تتزوجها، لأنها من محارمك، هذا في الجملة. كذلك هم لا يختلطون ولا يتركون أولادهم يختلطون مع الخدم والخادمات، فإن من البلاء أن يترك الخادم مع النساء ، أو أن تترك الخادمة مع الأولاد، وهذا قد يكون سببا في وقوع المحذور.
والخدم والخادمات كلهم داخلون تحت الأحاديث النبوية حين قال عليه الصلاة والسلام: ((إياكم والدخول على النساء))[9].
وحين قال: ((ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)) [10]
* الصفة التاسعة : إن من صفات نساء البيت المسلم أنهن محجبات، يحجبن ويغطين كل الجسد لأنهم يبحثن عن مرضاة الله جل وعلا، إنهن نساء يطعن الله تعالى ، فهن يرجون ما عند الله و يخفن عقابه وعذابه.
وكذلك هن يربين البنات على الحجاب الكامل التام فلا يبدو من أجسامهن شيء لا قليل ولا كثير ، وإن البنت إذا ربيت من الصغر على الحجاب فإنها تتعوده، بل وتحبه بل وتستحي، فوالله إني رأيت طفلة عند بعض أقاربي، إذا رأت رجْلا مكشوفة لرجُل أو لغيره صاحت: (عيب،عيب) ! لأنها رُبيت على هذا ربيت على الستر، ربيت على الحياء.
ووالله يا إخوان أنهم يغبطون بهذه التربية، وأما إذا تركت البنت تلبس القصير والبنطلون وقيل هذه صغيرة، هذه لا تزال، هذه يا إخوان وسيلة لنزع الحياء.
إن البنت إذا لبست القصير في صغرها تعودت عليه في كبرها.
وقد رأيت بعيني بنات قاربن سن البلوغ وهن يلبسن القصير وهن لا يستحين من الرجال أبدا .
نزع منهن الحياء نسأل الله العافية، ولما كلمت والدها ، قال هذه صغيرة- سبحان الله صغيرة وعمرها فوق الحادي عشرة الحادية عشرة! ثم افترض أنها صغيرة إنها ستتربى على هذا الخلق وستستسهل كشف ساقيها أمام الناس إذا كبرت وإنها وسيلة والله من الوسائل التي غزونا بها اليهود والنصارى.
أخوة الإسلام إن إبليس قد حرص في عداوته لابينا آدم على أن يكشف العورة وقد نجح في ذلك، وهو أيضا يريد أن يفعل ذلك بأبناء آدم.
آدم عليه السلام لما بدت لهما سوءاتهما طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ، أدرك إبليس مبتغاه، ولكن الله سبحانه هدى آدم فتاب، فتاب الله عليه، وإبليس قد نجح خاصة في العصور المتأخرة في أن يكشف الناس عوراتهم وأن يهتكوا سوءاتهم، انظر إلى الناس شرقاً و غرباً تجد أن المرأة لا تكاد تستر إلا العورة المغلظة.
لا تكاد تستر إلا الفرج وأما الباقي فهو مكشوف.
إن إبليس قد أدرك مبتغاه. فالمسلم ينبغي أن يحرص على مخالفة الشيطان الذي هو عدو لك يريد أن يضلك ويغويك ويريد ألا تعود إلى الجنة التي كان فيها أبوك آدم عليه السلام.
* الصفة العاشرة : أن يعدلوا بين أولادهم امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: ((اتقوا الله و اعدلوا بين أولادكم)) [11]
فهم لا يفضلون الذكور على الإناث ولا يعطون أحدا ما يحتاجه ويتركون الآخر، بل إنهم يعدلون بينهم امتثالا لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
كما أن الرجل المسلم يعدل بين زوجاته في النفقة والكسوة والمبيت، أما الميل مع واحدة منهن في هذه الأمور، فهو ظلم محرم.(12/146)
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة و شقه ساقط)) رواه أحمد و ابن حبان و ابن ماجة.
إن الأب والأم من صفاتهم أنهم قدوة لأبنائهم , ثم يختم هذه الحلقات بتنبيهات ثلاث،
الصفة الحادي عشرة : أنهم قدوة لأولادهم، فالرجل قدوة لأبنائه الذكور، قدوة في صلاته في المسجد، قدوة في ملبسه، فهو يلبس ثيابه كما أمره نبيه صلى الله عليه وسلم، ثيابًا على السنة تكون قصيرة فوق الكعبين، وهو أيضاً يؤدي النوافل في بيته، ويذكر الله، و يحضر مجالس الذكر، ويذهب إلى المحاضرات، والندوات، والدروس.
كما أن المرأة قدوة لبناتها، فهن يحتجبن كما تحتجب الأم، و يصلين كما تصلي، ويعملن في البيت كما تعمل الأم .
----------
[1] رواه النسائي (ج6/ 428 برقم 11394).
[2] رواه مسلم (ج2/ 2167 برقم 2813).
[3] رواه أبو داوود (ج2/ 33 برقم 1308).
[4] رواه الترمذي (ج3/660 برقم 1376).
[5] رواه أحمد وأبو داود .
[6] رواه مسلم.
[7] رواه مسلم وأبو داود.
رواه البخاري.[8]
[9] رواه البخاري.
[10] رواه أحمد.
[11] رواه أبو داود.
===============
الخدم : الحاجة والضوابط
الناس يتفاوتون في قدراتهم البدنية والعقلية ، ويختلفون في ظروفهم وإمكاناتهم الاجتماعية والاقتصادية، فهناك قوي الجسم، صحيح البدن، يستطيع القيام بكل متطلبات حياته بنفسه، وهناك الضعيف والمريض، والمعاق ومن أدركته الشيخوخة، كل منهم محتاج لمن يعينه على قضاء ضرورات حياته المختلفة.
وقد خلق الله الناس وقدر أرزاقهم ، وجعلهم يتفاوتون في الرزق ((وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ )) .
فهناك الغني والفقير، وجعل بينهما حاجة متبادلة، فالغني يحتاج إلى خدمة الفقير في كثير من شؤون حياته ، والفقير يحتاج إلى فرص العمل عند الغني ليحصل على معاشه . ((نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا )) .
ومن احتياج الأغنياء إلى الفقراء والعكس ما نراه من انتشار ظاهرة الخدم.
وللتنبيه فإنني أقصد بالخدم الخادمة والسائق، و للمعلومية فالصحيح في اللغة أن يقال خادم للرجل والمرأة فيقال رجل خادم و امرأة خادمه ولا يقال خادمة ولكن اسمحوا لي أن أقول خادمة في هذه المحاضرة مجاراة للفظ الدارج حتى لا نشوش على الأذهان أثناء الإلقاء إذ قد ينسى المستمع هذا التنبيه فينصرف ذهنه إلى الرجل والمقصود المرأة.
عموماً مما لاشك فيه أن استغناء الإنسان بنفسه واعتماده على الله وألا يسأل الناس شيئاً لهو الأفضل والأحسن، يقول أحد الصحابة رضي الله عنهم : ((بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألاّ نسأل الناس شيئاً حتى إن أحدنا ليسقط سوطه على الأرض ما يقول لأحد ناولنيه )) مسلم.
فالاستغناء عن الخدم غنيمة ولو لم يكن فيها إلا السلامة من سلبياتهم لكفي والسلامة لا يعدلها شئ .
ثانياً : إيجابيات الخدم
للخدم إيجابيات أذكرها قبل السلبيات فمن هذه الإيجابيات :
1- التخفيف عن ربة الأسرة من أعمال المنزل، وربما تفرغت لأعمال أخرى كالدعوة إلى الله أو طلب العلم أو نحو ذلك.
2- مساعدة المحتاجة من ربات البيوت، كالمريضة والكبيرة.
3- دعوة هذه الخادمة أو السائق للإسلام إن كان كافرة أو للالتزام الصحيح البعيد عن البدع والشهوات ، وربما صلح أو صلحت فأفادت في بلدها ودعتهم إلى ما دُعيت إليه.
4- وجود قناة اتصال بين الأسرة هنا وأسرة مسلمة هناك تقوم الأسرة هنا بإرسال الكتب النافعة والأشرطة إلى تلك لأسرة وقناة الاتصال هذه هي السائق أو الخادمة.
5- نفع المسلمين المساكين هناك ، بما يعطي السائق أو الخادمة من مال فيحولونه إلى أسرهم الضعيفة. وغيرها من الإيجابيات.
ثالثاً: سلبيات الخدم
مع ما في الخدم من مصالح إلا أن فيهم مفاسد، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح ، والسعي لدرء المفاسد واجب يني.
ولقد ولج علينا من باب الخدم كثير من المفاسد، وكثير من الناس لا ينتبهون لذلك وإذا نبهوا لا يتعظون ، وربما لدغ أحدهم مراراً من جحر واحد ولا يتألم ، ويسمع أن مصيبة حصلت قريباً من داره ولا يتعلّم.
وسأذكر بشكل مختصر بعض سلبيات هؤلاء فمنها:
* اكتساب الإثم باستقدام غير المسلم لجزيرة العرب وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، واكتساب الإثم أيضاً باستقدام الخادمة بدون محرم وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن سفر المرأة بدون محرم.
* الافتتان بالخادمة أو السائق فالخادمة تفتن رجال البيت ولا سيما الشباب، فتحصل الخلوة ، وربما تزينت بعض الخادمات إذ إن كثيراً منهن من الشابات، فقد دلت الدراسات على أن 51,2% من الخادمات في السعودية ما بين سن 21 إلى 30 سنة ، وربما تفككت الأسرة بسبب اكتشاف علاقة بين الزوج والخادمة، بل وصل الأمر إلى نقل الشذوذ الجنسي إلى بعض الفتيات في البيوت.
وكذلك السائق ربما كان شاباً يفتن النساء ويخلو بهن ، وقد ذكر لي من القصص عن الخادمة والسائق ما لو ذكرته لكم لأصبتم بالغثيان.
* الجناية على الأطفال الأبرياء، وهذا يتمثل فيما يلي :
* قد تنقل الخادمة للطفل معتقدات كفرية إذا كانت كافرة أو معتقدات بدعية إذا كانت مسلمة ولكنها من أهل البدع، وقد وجد من الأطفال من يعبر عن فرحه بتأشيرة إشارة الصليب على صدره ، ووجد من يعبد النار تقليداً للخادمة، فكثرة مخالطة الطفل للخادمة يؤثر في طباعه ويكتسب طباعها وأخلاقها.(12/147)
* حرمان الطفل من حنان أمه وتمتعه بالرعاية الدافئة التي يحتاجها كثيراً والتي لا تستطيع الخادمة توفيرها له، وقد ثبت بالدراسات على أن جل الأطفال الصغار من ذوي المشاكل النفسية هم ممن عانوا حرماناً عاطفياً كبيراً في طفولتهم المبكرة بسبب غياب أمهاتهم عنهم وإسلامهم للخدم .
* تشويه لغة الطفل، فينشأ ثقيل اللسان وكأنه أعجمي.
* بعض الخادمات ربما تصرخ في وجه الطفل أو تضربه في غياب والديه مما يؤثر عليه نفسياً.
* أيضا هناك تأثيرات نفسيه على الطفل من ناحية أنه، ربما يتعلق بهذه الخادمة ويحبها ولا يستطيع مفارقتها ثم يفاجأ بأنها تسافر وتتركه إلى الأبد، لتأتي أخرى فما إن يتأقلم معها ويحبها حتى تسافر هي الأخرى وهكذا ، ولا شك أن لهذا أثراً سيئاً على الطفل.
* وجود الخادمة في البيت يعود المرأة على الكسل ويجعلها تتخلى عن مسئوليتها المنزلية ، مما يتعبها كثيراً سفر الخادمة .
* وجود الخادمة في البيت يحرم الفتيات المقبلات على الزواج من التعود على أعمال البيت المختلفة من طهي أو كنس أو غسيل أو نحو ذلك، مما يجعل هناك فرصة كبيرة للخلاف بينها وبين زوجها إذا تزوجت، إذ قد لا يسمح زوجها بالإتيان بخادمة.
* الإرهاق المالي الذي يحصل لبعض أرباب الأسر برواتب ونفقات السائق والخادمة.
وربما حصل نزاع وشقاق بين الزوج والزوجة بسبب من يدفع نفقات الخادمة أو السائق إذا كانت هذه الزوجة موظفة .
الإضرار بأهل البيت ويتمثل هذا بأمور منها :
- السحر والشعوذة التي تفرق بين المرء وزوجه.
- الإضرار بممتلكات أهل البيت إما بسرقتها أو تكسيرها أو إتلافها سواء كانت متعمدة أو مخطئة .
- تشويه سمعة أهل البيت بما تنقله من أسرار إلى خادمة أخرى فتنقله تلك إلى أصحابها وهكذا.
- الإضرار بهم بنقل الأمراض المعدية، إذ قد تكون مريضة أو مرضت عندهم.
- ما يحصل من خلوة المرأة بالسائق الأجنبي ، وكثرة المحادثات والمشاوير تسقط الحواجز النفسية فيقع المحظور.
- وفرة الوقت للمرأة المخدومة وتضييعه هدراً : فليتها حين كفيت عمل البيت تفرغت لعبادة الله وطلب العلم والدعوة وخدمة زوجها وتربية أبنائها، إننا لا نرى ذلك بل نرى التعود على الترف والكسل وانتشار السمنة، والانكباب على الأفلام الهابطة ونحوها.
- وجود الخادمة في البيت يقيد حرية الرجل لصالح داخل البيت فهو لا يدخل بيته ما لم تكن زوجته موجودة حتى تنتفي الخلوة ، فلو كانت مثلاً مدرسة وذهبت إلى مدرستها، وكان عنده مثلاً إجازة من عمله أو أنه ستأذن من عمله لظرف طارئ مثلاً كمرضه المفاجئ فإنه في هذه الحالة أين سيذهب، هل يدخل إلى البيت فيخلو بالخادمة أو ينتظر زوجته حتى ترجع.
كذلك لو أنه في بيته ثم أرادت زوجته زيارة جارتها القريبة ولمدة ليست طويلة هل يخرج إذا خرجت زوجته أو يجلس في البيت ويخلو بالخادمة.
ثم لو أنه في البيت والخادمة مثلاً في المطبخ هل يستطيع دخول المطبخ بحرية أو أن يتنقل داخل بيته بحرية.
ثم الرجل سواء كان صالحاً أولا هل يستطيع أن يلاعب زوجته في بيته بحرية مع وجود الخادمة، هل تستطيع المرأة أن تلبس ما شاءت لزوجها مع وجود الخادمة والتي هي امرأة مثلها تفهم هذا العمل والغرض منه. إذن وجود الخادمة فيه تقييد لحرية أهل البيت جميعاً رجلاً كان أو امرأة.
هذه هي أبرز السلبيات وهناك غيرها تركتها اختصاراً.
ومع وجود هذه السلبيات إلا أننا لا ننكر
* أن عدداً من الخدم والسائقين الكفرة قد أسلموا وحسن إسلامهم نتيجة ما رأوه من بعض مظاهر الإسلام في بعض البيوت ، أو نتيجة لشيء من الجهود التي بذلت في دعوتهم إلى الإسلام.
* كما لا ننكر أن بعض الخدم والسائقين مسلمون حقاً، وربما كانوا أكثر تمسكاً بالإسلام من أهل البيت، ولربما تجد السائق في الصف الأول في صلاة الفجر بينما صاحب المنزل لا يصلي إلا الجمعة.
* كما لا ننكر الحاجة الماسة التي قد تقع أحياناً لبعض الناس تقتضي وجود الخادمة في البيت
ولكن يجب إذا كان الأمر كذلك أن نتقيد بالضوابط الشرعية لوجودهم، وهذا ما أتكلم عنه في رابعاً.
رابعاً : ضوابط وجود الخدم
لوجود لخدم واستقدامهم ضوابط يجب مراعاتها، وقبل أن أذكرها أبنه إلى أن بعض الناس يتحمس لهذه الضوابط ثم مع مرور الزمن يتجاهلها تدريجياً حتى يقع في المحظور فلينتبه إلى هذا.
عموماً الضوابط هي
* وجود الحاجة الشرعية الملزمة لوجود الخادمة والسائق ، كمرض ربة البيت ونحو ذلك، ولا يكون القصد الرفاهية أو التفاخر أو التكاسل .
* أن تكون مسلمة حسنة السيرة : وكذلك السائق، فلا بد أن يقتصر الاستقدام على المسلمين فقط، مهما كانت الظروف والأسباب، فالكافر لا يجوز استقدامه لهذه الجزيرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( أخرِجوا المشركين من جزيرة العرب)) .
وقوله صلى الله عليه وسلم : (( لا يجتمع في جزيرة العرب دينان)) ، فوجود الكفار فيه خطر عظيم على المسلمين في عقائدهم وأخلاقهم ومحارمهم، والمسلمون الفقراء أولى من غيرهم بفرص العمل، وهم بلا شك أقرب وأسرع إلى التكيف مع أخلاقنا وعاداتنا من غيرهم، وفي عملهم في هذه البلاد فرصة لأن يفهموا الإسلام فهماً صحيحاً، وينبذوا كثيراً من البدع التي كانوا يمارسونها مجتمعاتهم .
لكن لا يكفي أيها الأخوة : إسلام الوثائق المسجل في جواز السفر، بل لابد أن تكون حسنة السيرة : ((إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ )) .
* وجود المحرم معها كأخيها أو زوجها: لأنها تحتاج في حضورها إلى هذه البلاد إلى سفر، ومنها إلى بلادها كذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم : (( لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم)) .(12/148)
واستقدامها بدون محرم إعانة لها على المعصية، ولابد من التحري في صدق الخادمة من أن محرمها هو أخوها أو زوجها ليس أجنبياً عنها، وهذا وإن كان فيه مشقة على الأسرة إلا إن فيه الخير الكثير لهم لو يعلمون .
ثم هنا تنبيه وهو هل يجوز أن تنقل كفالة خادمة أتت بدون محرم وتبرأ أنت من الإثم ، أفتى الشيخ محمد بن عثيمين حفظه الله أن هذا لا يجوز لأن المعنى واحد.
* عدم الخلوة والاختلاط بهم: سواء كان ذلك من السائق لأهل البيت أو أهل البيت للخادمة ، وأيا كان ذلك في المنزل أو في السيارة أوفي أي مكان آخر، لأن ذلك يُوجد ويُنمي نوعاً من الألفة بينهما وبين أهل البيت من الرجال مما يتسبب في وقوع محظور شرعي عظيم ألا وهو الزنا، وقد حدث هذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الأجير الذي كان يخدم امرأة فزنا بها وتعرفون القصة .
* أن تكون الخادمة ملتزمة بالحجاب الشرعي: فتتحجب حجاباً كاملاً عن الرجال الذين في البيت وخارج البيت، بعض الأسر سمعت أنها تمنع الخادمة من التحجب مع وجود رجال في البيت يرونها ويخالطونها ويأمرونها وينهونها وكأنها من محارمهم.
* ألا يقل عمرها عن أربعين سنة فلا يؤتى بها شابة يفتتن بها أوهي تفتتن.
* عدم السماح لها بالخروج من المنزل إلا مع أهل البيت فلا تترك تخرج لوحدها لأي غرض ، بعض الناس يجعل الخادمة هي التي تخرج الفضلات إلى الشارع ، وبعضهم يجعلها هي التي تشتري بعض الأغراض من البقالة مثلاً.
* المتابعة المستمرة للخدم من ناحية أداء العبادات والأحكام الأخرى المتعلقة بهم.
* الحرص ما أمكن على تجهيز مقر لإقامة الخادمة أو السائق خارج نطاق المنزل في غرفة بعيدة عن غرف المنزل.
* عدم التساهل مع من لا يخاف الله منهم أو التقليل من خطورتهم إذ قد يكون بعضهم محباً للفساد والإفساد.
* الانتباه لحاجيات البيت أو حاجيات أهله أن تتعرض للسرقة أو للإتلاف المتعمد ، والانتباه خصوصاً للأشياء الخاصة كالشعر والملابس الداخلية ونحوها لئلا تتعرض للسحر.
* معرفة المهام المنوطة بهم وعدم الاتكال عليهم في جميع الأمور فيكون من مهام الخادمة تنظيف البيت والمطبخ وغسل الثياب مثلاً، أما إعداد الطعام ورعاية الأطفال فلا بد أن تكون من مهمة الأم.
وكذلك ينبغي ألا تعفى البنات من أعمال المنزل فينشأن جاهلات بأساسيات الحياة العائلية ويصبن بالعجز والكسل فتزداد الحاجة في المستقبل للخدم.
كذلك ينبغي أن يعرف مهمة السائق فلا يتحول إلى مرافق وحيد ودائم للزوجة في كل مكان تذهب إليه .
* الاستغناء عنهم متى ما انتفت الحاجة إليهم، لأن الحكم يدور مع علته وجود وعدماً.
وقبل أن انتقل للفقرة التالية أريد أن أثير نقطة هامة جداً وهي :
مسألة تفتيش حاجيات الخادمة دون أن تدري خوفاً من سرقتها أو خوفاً من أن تكون أخذت من أهل البيت شيئاً تريد أن تسحرهم به، فهل يجوز لنا ذلك، وهل هو الأولى أو لا ، كذلك أيضاً مسألة فتح الرسائل سواء التي تريد إرسالها أو التي تأتي إليها من أهلها.
قد يقول قائل : إن هذا من باب الاحتياط وأخذ الحذر إذ الغفلة عنهم ربما ترتب عليها شر عظيم ، فكم من بيت لحقه الضرر بسبب استخدام الخادمة للسحر وذلك بأن ترسل في رسالة تبعثها جزءاً من شعر الزوجة مثلا لتسحرها وتمت الخطة ونجحت وتضررت المرأة المسحورة بينما لو فتحها الكفيل قبل إرسالها لرأى الشعر مثلا ولما حصل ذلك.
وقد يقول قائل إن هذا لا يجوز ، ففيه تعدي على حقوق الآخرين فلا يجوز ما لم يكن هناك دليل واضح يحوِّل هذا التصرف أما مجرد التهمة فلا يبنى عليها حكم.
وقد يقول القائل الأول إن التهمة عامة وتغلب على الظن إذ إن كثيراً من الخادمات يغلب على الظن اتهامها بذلك ، لأني لا أعرف هل خادمتي منهم أو لا أعمل ما سبق احتياطاً.
والحقيقة أني أتوقف في هذه المسألة وأقول ينبغي أن تعرض على كبار العلماء ليروا رأيهم فيها.
============
لابد أن نجتاز البحر
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى اله وصحبه ومن سار على هديه إلى يوم الدين وبعد :
يقول الله تعالى في كتابه : (( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ )) (آل عمران: 186) .(12/149)
لا يشك أي مسلم من أن اليهود والصليبيين ومن ناصرهم وحالفهم لا يريدون الخير للإسلام و أهله ، وهم يعملون جاهدين على ضربه متى ما سنحت لهم الفرصة ، وقد شبهت هؤلاء الأعداء ببحر كبير قد حواهم ويريد أن يغرق أمة الإسلام في ظلماته المتمثلة بإخراج المسلمين من دينهم وترك ثوابتهم ونشر الرذيلة والفساد بينهم وهدم أصول الدين الثابتة إذن أيها الإخوة لابد من أن نجتاز البحر ، نعم كل واحد منا يجب عليه أن يجتاز البحر : العالم والمجاهد والداعية والأب والمربية ،،، كل واحد منا يجب أن يجعل له دورا في اجتياز ذلك البحر المظلم الذي يريد أن يهلك هذه الأمة المسلمة ، وهي مسؤولية عظيمة تتطلب منا العمل والصبر على الأذى ، فلم يدعوا أحد إلى نصرة هذا الدين إلا وقد أوذي بشتى أنواع الأذى ، وهذه هي سنة الله في عباده المؤمنين ، فقد تحمل الأنبياء عليهم السلام أنواع الأذى في سبيل إبلاغ هذه الرسالة والدعوة إلى الله ، فهذا نوح عليه السلام يدعوا قومه مئات السنين وتحمل منهم الأذى والشتم والاستهزاء وواصل دعوته رغم ذلك كله ، حتى أقرب الناس إليه وهو ابنه فقد عارضه ولم يستجب إلى دعوته فلم يؤمن به كما روي إلا قليل ، وهذا إبراهيم عليه السلام يقف وحيدا أمام أمواج الشرك يدعوا إلى الله سبحانه وقد أعدوا له النار التي لو مر من فوقها طير لهلك فأنجاه الله سبحانه منها ، وهذا نبي الله لوط وقد تحمل الأذى حتى من زوجته فأيده الله سبحانه ، وهذه سنة الله مع عباده لابد من الاختبار والابتلاء قال تعالى : (( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ*وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)) ( العنكبوت : 1- 3) .
وهذا سيد ولد آدم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تحمل الأذى والجوع والطرد والشتم ؛ فرمي بالجنون والسحر والكهانة وطعن في عرضه الشريف ووُضع السلى على ظهره الشريف وحُوصر مع أهله في شعب أبي طالب وفقد أحبابه وتحمل الجوع والعطش والحر ، وفقد أصحابه في المعارك وأدميت قدماه بحجارة صبيان المشركين وسار آلاف الأمتار حافي القدمين وتحت حر الشمس ولهيب الصحراء ليبلغ الرسالة ويرشد الأمة ، إنها سنة الله ولنا في رسول الله أسوة حسنة قال تعالى : ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرا ً)) (الأحزاب:21) .
وسار من بعده الصحابة وتحملوا الويل والعذاب من مشركي قريش فهذا يصلب وذاك يجر على حصباء مكة وهذا يفرق بينه وبين أهله وهذا ينهب ماله ، فكانوا خير جيل سطرهم التأريخ في سطوره وبكتهم الأجيال وضربت بهم الأمثال .
إنها والله يا إخوة عظات ووقفات يجب أن يتدبرها كل مسلم العالم عند قوله الحق ، والمجاهد وهو في ساحة الجهاد ، والمسلمون وهم يواجهون التشريد والقتل على أيدي اليهود والصليبيين ، انه والله مهما حدث لنا من الأذى فإنه لا يصل إلى ما وصل إليه أذى المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام , فلابد لنا من أن نخوض البحر كما خاضه الرسل ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتابعيهم ، والله إن النفس لتسكن بتذكرها لمصاب الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتقف متدبرة لتلك المواقف الصعبة التي مروا بها.
إنني أقول هذه الكلمات لثلاثة
أولهم العلماء : (وعذرا أيها العلماء فمن أنا لكي أخاطبكم ) : فالعلماء ورثة الأنبياء فإن مسؤوليتهم كبيرة في نصرة هذا الدين ، وقول الحق يحتاج إلى رجال همتهم فوق السحاب ، قول الحق الذي يحارب في كل زمان ومكان ، وكما تقدم فقد أوذي الأنبياء وأصحابهم لأنهم نطقوا بالحق ، وانتم اليوم يا علماء الأمة اشد ما تحتاج إليكم أمتكم في قول الحق ؛ وانتم ترون هذا الظلم الذي سلط على هذه الأمة وهذه الحرب التي تشن ضد الإسلام وأهله ، قول الحق والنصرة للمظلومين فالمجاهدين ينتظرون كلمات النصرة والتأييد لهم في العراق وأفغانستان وفلسطين والشيشان ، إنهم والله ينتظرون نصرتكم لهم وتوجيههم وإنا انقلها لكم من العراق ، والناس تنتظر منكم كلمات النصرة وهم يواجهون القتل والجوع والتشريد .
وثاني من أوجه له الكلمات : المجاهدون : حصن الأمة واسود الثغور من باعوا أنفسهم لله ، أقول لهم صبرا يا إبطال الأمة فقد سقط مئات الصحابة شهداء : لقد كانوا يتسابقون إلى الموت في سبيل الله ، فسل التاريخ عن حمزة ومصعب وجعفر وأسامة وابن رواحه ، سل التاريخ عن البراء والنعمان وجابر.(12/150)
سل التاريخ عن الدماء التي سقطت في أرض الجزيرة والشام والمغرب والعراق ، إن العيون والله لتذرف الدموع عند ذكر تلك البطولات وتلك التضحيات التي خلدها التأريخ ، فتذكروهم أيها المجاهدون واجعلوهم نصب أعينكم ، فقد تركوا نعيم الدنيا واختاروا الآخرة ، فتذكروهم يا أبطال عندما تفقدون إخوانكم من المجاهدين ، تذكروهم عندما تهدم بيوتكم ، تذكروهم عندما تنامون على الجمر وتسهرون الليالي مرابطين في سبيل الله ، تذكروهم عندما يشتمكم بني جلدتكم ، تذكروهم عندما تطلق عليكم زوراً وبهتانا عبارات الشماتة والاستهزاء من الإرهاب والتكفير وغيرها ، تذكروا التضحيات التي قدمها جيل الصحابة ليصل إلينا هذا الدين كما أراده الله سبحانه ، تذكروا ذلك كله وانتم تلاقون أنواع الأذى من الأسر وانتهاك أعراض أخواتكم المسلمات ، تذكروا قول الله تعالى : ((وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)) (محمد:31) .
وثالث من أوجه إليه تلك الكلمات انتم أيها المسلمون : يا من تحملتم القتل والتشريد والجوع في العراق وفلسطين وأفغانستان والشيشان ، كلماتي موجه إليكم لعلها تكون دواء لجراحاتكم الكثيرة ، فتذكروا وأنتم تعانون الأذى تذكروا من كان قبلكم تذكروا كيف ترك المسلمون ديارهم وهاجروا في سبيل الله تذكروا الأذى الذي أصاب المسلمين في مكة وتذكروا قول الله : (( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)) (آل عمران :158-155)
ردد حديثاً بشجو النفس يضطرم *** يشكو لظاه عبادُ الله والحرمُ
بشر صحابك والأيام قادمة *** أن الجهاد على الأبواب يحتدمُ
نم يا حبيب ! قرير العين مبتهجاً *** إن الضياغم للأخطار تقتحمُ
أما فهمت من التاريخ موعظة *** وفي العقيدة نهج ليس ينخرم
إن الشعوب وإن هيضت كرامتها *** يوماً على جحفل الأعداء تلتئمُ ؟
هلاَّ سمعت نداءاً للجهاد على ال *** آفاق ردد : إن الله منتقمُ ؟
الله أكبر في ساح الوغى رفعت *** راياتنا وإلى الرحمن نحتكمُ
سِرْ واثق الخطو مسروراً بيقظتنا *** هناك أُسْدٌ بحبل الله تعتصمُ
هذي الخيول استشاطت في مرابطها*** وذي الجنود بأرض الشام تلتحمُ
ها قد تنادوا لحرب الدين قاطبة *** حتام يحجم جند الله ؟ ويحهمُ
جند الصليبية الرعناء يدعمهم *** مكر الشيوعية الحمراء ينحطمُ
فارفع لواءاً لحرب الكفر نعهده *** واحمل لواءاً لأهل الدين كلهمُ
فإن قُتِلتَ فذاك المجد من طرف *** وإن نُصِرتَ ففضل الله والكرمُ
اللهم انصر عبادك المجاهدين .
اللهم اخذل الشرك والمشركين .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى اله وصحبه وسلم ،،،
================
الدعوة إلى الله
الحمد لله يهدي ويضل، ويعز ويذل وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أنه هو البر الرحيم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن سار على دربه إلى يوم الدين .
أما بعد : فاتقوا الله أيها المسلمون حق التقوى .
بعيداً عن جو هذا الزمان القاتم بغبار الالتزام الأجوف والمشوه بقتر السلبية المفرطة والمظهرية الجوفاء، نحلق في فضاء الجيل السالف المعطر بورود الإيجابية، ونتفيؤ ظلال شجرة البذل والعطاء والتضحية والفداء .
نعود بذكرياتنا إلى الصور الرائعة لماضينا المجيد حيث يتجلى الإيمان الحق وتبرز حقيقة الهم لهذا الدين، وتظهر الغيرة الحقيقية على دين الله .
إن الإيمان إذا خالفت بشاشته القلوب استحكم الولاء له وكان العطاء للدين سخياً غاية السخاء لأنه معاملة مع كريم وتلقٍ لمننن من إله عظيم .
وإذا كانت الحياة تقدم فداء للدين وثمناً للدينه فهي كذلك تسخر لخدمة الدين وللعطاء له، إذ كل ما فيها لله، وإذا هي حياة أوقفت كلها لله .
هذا نوح عليه السلام يخاطب ربه (( قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً )) (نوح:5) .
ثم قال : (( ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً)) (نوح:6-7) .
إنه الجهد الدائم الذي لا ينقطع ولا يمل ولا يفتر ولا ييأس أمام الإعراض ألف سنة إلا خمسين عاماً .
ماذا بقى من حياة نبي الله نوح لم يُسخّر لدعوته ولم يبذل لرسالته الليل والنهار الجهر والإسرار كلها لله حياة أوقفت كلها لله .
ثم سرح طرفك في مسيرة أنبياء الله ورسله لتقف أمام نبي الله يوسف السجين الغريب، الطريد الشريد الذي يعاني ألم الغربة وقهر السجن وشجى الفراق وعذاب الظلم، في هذا كله وبين هذا كله في زنزانة السجن يسأله صاحبا السجن عن تعبير الرؤيا فلا يدع نبي الله يوسف الفرصة تفلت، ولا تنسيه مرارة المعاناة القاسية واجب العمل لله والعطاء لدينه فإذا به يحول السجن إلى مدرسة للدعوة، ويرى أن كونه سجيناً لا يعفيه أبداً من تصحيح الأوضاع الفاسدة والعقائد المنحرفة فإذا به ينادى في السجن (( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)) (يوسف:39) .(12/151)
فاسمعوا يامعشر الأحرار الطلقاء، وتمضي قافلة العظماء من الأنبياء لتنتهي بسيدهم وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلم والذي سُئلت عنه عائشة رضي الله عنها، أكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يصلي جالساً قالت : نعم، بعدما حطمه الناس، وهو النبي الذي قال الله عز وجل عنه (( لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )) (التوبة:128) .
ويقول : فلعلك باخع نفسك ، وإن الإنسان ليأخذه الدهش والعجب كما تغمره الروعة والخشوع وهو يستعرض ذلك الجهد الموصول من الرسل عليهم صلوات الله وسلامه لهداية البشرية الضالة المعاندة .
جهود موصولة ، وتضحيات نبيلة لم تنقطع على مدار التأريخ من رسل يستهزأ بهم ويحرقون بالنار أو ينشرون بالمنشار أو يهجرون الأهل والديار حتى تجيء الرسالة الأخيرة فيجهد فيها محمد صلى الله عليه وسلم ذلك الجهد المشهود المعروف هو والمؤمنون معه، ثم تتوالى الجهود المضنية والتضحيات المذهلة من القائمين على دعوته في كل أرض وفي كل جيل .
وهكذا تسير ركاب المؤمنين برسالات الله لاتدع فرصة للعمل للدين نفلت ولا فرصة للعطاء للدين تضيع، كل عطاء يقدم مهما كان قليلاً، وكل جهد يبذل ولو كان يسيراً .
هذا الرجل الكفيف الأعمى عبدالله بن أم مكتوم رضي الله عنه مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي عذره الله في قرآنه : (( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ )) (النور:61) .
لم ير أن يسعه انه يدع فيها فرصة لخدمة الدين تفلت منه، ولتكن هناك في مواقع القتال وميدان النزال فيصحب كتائب المسلمين ويطلب أن توكل إليه المهمة التي تناسبه فقال : إني رجل أعمى لا أفر فأدفعوا لي الراية أمسك بها، وتحمل كتب التاريخ أنباء ابن أم مكتوم وأنه كان أحد شهداء القادسية يوم غشيته الرماح فلم تصادف فراراً ولا مولياً، ولا معطياً دبره في قتال.
وهذا ضمام بن ثعلبة يأتي مسلماً ويسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يجيب عليه فيأتيه الجواب بأن عليه الشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله الحرام، حتى إذا عرفها آمن بها ثم قال : يارسول الله والله لا أزيد على هذه ولا أنقص لكنه لا يرى ولا يرى أن العمل للدين داخل فيما تحلل منه فينقلب إلى قومه داعياً إلى الله يقول لهم ياقوم بئست اللات بئست العزى، ويظل بين ظهرانيهم حتى لا يبقى بيت من بيوتهم إلا دخله الإسلام .
إنها نقطة في بحر الإيجابية الذي خاضه أسلافنا فأثمر جهادهم وبذلهم أعظم إنجاز يوم طوي بساط المشرق إلى الصين وبساط المغرب إلى المحيط تفتحه كتائب المجاهدين من الصحابة والتابعين ما كان هذا الإنجاز ليتحقق إلا على أيدي رجال يعلنون في كل موقعة قائلين : إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد .
إن هذا المعنى العظيم معنى العطاء للدين والبذل له وتسخير الحياة من أجله حتى إذا الحياة كلها بليلها ونهارها، وإذا النفس بمشاعرها ووجدانها وبكل طاقاتها مسخرة لهذا الدين .
هذا المعنى توارى أو خفت في نفوس كثير من المسلمين بل ضعف في نفوس الشباب المتدين ذاته .
لقد قال جل وعلا : (( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ )) (الحديد:25).
وقد قام بالنصرة بالسيف طائفة من المؤمنين وهم المجاهدون الصادقون وقام بالهداية بالكتاب بعض العلماء وطلاب العلم والدعاة والعاملين ، وهاتان الطائفتان هم بقية الخير في الأمة الذين قاموا بما يجب عليهم نحو دينهم، فنجوا بصلاحهم وإصلاحهم : (( وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)) (هود:117) .
وبقيت في الأمة جموع غفيرة تتفرج على معركة الإسلام مع خصومه، وكثير منهم ممن ينتسب إلى الصحوة المباركة، فحبهم للإسلام وحميتهم على الدين لا تتجاوز عبارات الإعجاب بالمجاهدين والمصلحين وعبارات الذم والتشنيع على الكافرين وهذا وإن كان خيراً إلا أنه لا ينصر ملة ولا ينقذ أمة .
بل من هذه الجموع فئة مجالسهم تحليل وتنظير بلا عمل ولا إنتاج جل حديثهم نقد لفلان وتفسيق لعلان ، وذم لهذا، وإسقاط لذاك، وإن بحثت عنهم في ميدان البذل للدين لم تجد لهم أثراً ولم تسمع عنهم خبراً، يبدعون في لوم العاملين، وتخطئة المجتهدين وإن قيل لهم تعالوا فاعملوا لدين الله أو ادفعوا أطرقوا بالرؤوس وهم يجمحون.
فإلى هذه الجموع الخاملة والطاقات المعطلة : كونوا أنصار الله وخوضوا المعركة مع إخوانكم وسارعوا في رد كيد الأعداء من الكفار والمنافقين وخوضوا في بحر البذل والعطاء لدين الله دعوة وتعليماً وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر وجهاداً في سبيل الله.
أنت يا أخي قادر على أن تفعل للإسلام الكثير مهما قل علمك وضعف تدبيرك وخفي اسمك وجهل قدرك.
أنت كنز الدر والياقوت في لجة البحر وإن لم يعرفون
محفل الأجيال محتاج إلى صوتك العالي وإن لم يسمعوك
قل وردد أنا سهم للإسلام فحيث كانت مصلحة الإسلام فارموا بي هناك .
أخي : إن القلوب ينبغي ألا تشح بمشاعرها والعيون لا تبخل بدموعها فأين العطاء للدين في حياتنا .(12/152)
أخي : إن الغيرة على الدين وحمل همه يجب أن تكون هاجس كل واحد منا، وهماً يجري في عروق كل مسلم صغيراً كان أم كبيراً ذكراً أو أنثى، عالماً أو جاهلاً صالحاً أو فاسقاً فلا يجوز أن تكون الذنوب والخطايا حاجزاً وهمياً بين العبد وبين العمل الإيجابي لهذا الدين ، نريد أن يكون هم هذا الدين يلاحق المرأة في بيتها والرجل في متجره والمعلم في فصله والطالب مع زملائه والموظف في دائرته بل ويحمله الشاب على الرصيف وفي مدرجات الملاعب فلم تكن الخطيئة يوماً مهما عظمت حائلاً بين المسلم وبين أن يساهم في نصرة هذا الدين فقد ذهب بعض الصحابة إلى غزوة أحد بعد ليلة من شرب الخمر كما في صحيح البخاري أنه اصطبح ناس الخمر يوم أحد ثم قتلوا شهداء .
وفي قصة أبي محجن الثقفي عبرة وعظة وهو الذي كان يشرب الخمر ويجلد عليها فلم يمنعه ذلك عن الجهاد في القادسية، وكعب بن مالك وهو المتخلف عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمنعه ذلك من الاعتزاز بدينه والتمسك به أمام إغراءات ملك غسان.
أخي : إن العمل للدين ليس مصنفاً إلى شرائح وفئات فكل مسلم بانتمائه للإسلام عامل للدين مهما كان عليه ومهما كان فيه من خطأ ومهما اعتراه من تقصير، فينبغي ألا تضيف إلى أخطائك خطأ آخر هو القعود عن العمل للدين .
إن العمل للدين ليس وظيفة تصدر برقم وتاريخ ولكنه صدر بأمر رباني برقم مائة وخمسة وعشرين من سورة النحل (( ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)) (النحل:125) .
إن العمل للدين ينبغي أن يبقى ظاهراً في حياتنا، نراه في شاب يوزع شريطاً أو كتاباً، نراه في شاب يبلغ كلمة، نراه في موقف يعلن إنكار منكر، نراه في معلم يوجه طلابه، وأب يرشد أبنائه، نراه هنا وهنا وهناك.
إن العمل للدين أمر لا نستخفي به ولا نتستر عليه بل ينبغي أن تبقى ساحتنا فوارة بالعمل الضخم للدين ، نراه في كل فلته وفي كل لفته، (( وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ )) (محمد:38) .
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين .
أما بعد .
إن الدعوة إلى الله عز وجل صورة من صور العمل لهذا الدين ومظهر من مظاهر الغيرة عليه، الدعوة إلى الله وظيفة الرسل (( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً)) (فصلت:33) .
كل الكلمات تسقط وتبقى كلمة الداعية، وكل العبارات تهوي وتسمو كلمة الداعية، الدعوة إلى الله من أعظم ما يتقرب به إلى الله كما قال ابن القيم ( مقام الدعوة إلى الله من أشرف مقامات التعبد ) .
فيا رجال ويانساء : إن أبواب الدعوة مفتحة فكونوا أول السالكين وإن حبالها مرخاة فكونوا أو الصاعدين .
أخي المسلم : إن مما يقوي في قلبك الغيرة على دين الله أن تستشعر المسؤولية وجسامتها وأن تقدر الخطر الداهم على أمتك وتستشعر استمرارية دعاة الباطل في إشاعة باطلهم : (( وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً )) (النساء:27) .
((وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ )) (ص:6) .
((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ )) (الانفال:36) .
فأنت ترى أصحاب الملل الباطلة والنحل الضالة يبذلون كل غال ورخيص دفاعاً عن باطلهم ونشراً لمبادئهم دون انتظار لجزاء دنيوي .
يقول أحد الدعاة : اذكر أنني ترددت كثيراً جداً على مركز من مراكز إعداد المنصرين في مدريد وفي فناء المبنى الواسع وضعوا لوحة كبيرة كتبوا عليها: أيها المبشر الشاب نحن لا نعدك بوظيفة أو عمل أو سكن أو فراش وثير إننا ننذرك بأنك لن تجد في عملك التبشيري إلا التعب والمرض ، كل مانقدمه لك هو العلم والخبز وفراش خشن في كوخ فقير ، أجرك كله ستجده عند الله ، إذا أدركك الموت وأنت في طريق المسيح كنت من السعداء .
هذه الكلمات حركت كثيراً من جند الشيطان المبشرين بالنيران من حملة الشهادات في الطب والجراحة والصيدلة وغيرها للذهاب إلى الصحاري القاحلة التي لا توجد فيها إلا الخيام والمستنقعات المليئة بالنتن والأمراض، والمكوث هناك السنين الطوال دون أجر وبلا منصب، فما بالنا معشر المسلمين يجلس الواحد منا شبعان متكئاً على أريكته، إذا طلب منه نصرة دين الحق أو كلف بأبسط المهام أو عوتب على تقصيرة في الدعوة أو ليم على استغراقه في اللهو والترفيه انطلق كالسهم مردداً ياحنظلة ساعة وساعة وكأنه لا يحفظ من القرآن أو السنة غير هذا .
تبلد في الناس حس الكفاح ومالوا لكسب وعيش رتيب
يكاد يزعزع من همتي سدور الأمين وعزم المريب
يامعشر المعلمين والمعلمات، يابناة المجد وصانعي الجيال، إن أهم ما نخاطبكم به أن تمكنوا همَّ الدعوة من قلوبكم مستغلين الموارد المتاحة لكم قبل أن تنضب أو تشوبها شوائب البطالة أو تكتسحها أيدي السفالة .(12/153)
أيها المعلمون والمعلمات ، لماذا لا تذكون في قلوبكم هم دعوة طلابكم وطالباتكن إلى الاستقامة، ألستم توجهونهم إلى ما فيه خيرهم، لماذا يأخذ التلقين المجرد كل أوقاتكم مع أنه الوسيلة لا الغاية، لماذا يخرج الطلاب والطالبات من فصولهم كما دخلوا إليها، لماذا لا نستغل هذا الصرح العلمي ليكون ميداناً لتخريج النشء المستقيم على دينه، لماذا لا نوجه علمنا الذي نلقنه للأجيال أياً كان ذلك العلم ليكون خادماً لشرع الله، تساؤلات ينبغي أن نهتم بها وأن نعد الإجابة عليها قبل أن نعد كشوف الدرجات ودفاتر التحضير، إن دعوة الطلاب تكون عبر طريقين ، أولهما : أقوالنا، وثانيهما : أفعالنا ابتسامتنا وتواضعنا وحُسن تعاملنا ولين قولنا وتغاضينا عن الأخطاء وشرح صدورنا لهموم طلابنا، إن إذكاء روح الإسلام في الطالب ومخاطبة وجدانه مع حسن التعامل معه كفيلان بأن يخرجا لنا جيلاً يعتمد عليه، فياليت معلمينا ومعلماتنا لهذا يدركون وبه يعملون .
يامعشر الطلاب ، إنكم تقضون في المدرسة ساعات هي زبدة أوقاتكم فإذا لم تقوموا بالدعوة في هذا الميدان فأي ميدان ستكونون أكثر إنتاجاً فيه، إن فئة الطلاب من أكثر الفئات استجابة للدعوة، وقابلية للتأثير، وفئة الطلاب أقرب للناس إلى الشاب فهو يعيش معهم ويخالطهم ويجالسهم، لذا فإن دعوتهم أولى من دعوة غيرهم والمسؤولية تجاههم آكد من المسؤولية تجاه غيرهم .
مؤسف كل الأسف أن ترى بعض شبابنا يقضي مع زملائه سنين عدداً في مقاعد الدراسة لم يتلقوا منه كلمة نصح، أو توجيهاً لمعروف أو تغييراً لمنكر، أو مساهمة في نشر الخير ودعوة الغير.
فيا أخي الطالب ساهم في نصرة دينك بدعوة زملائك بكلمتك بهديتك، برسالتك، بالقدوة في الصلاح والسلوك .
وأخيراً إلى أختي المسلمة : يحز في النفس أن يرى المرء ذلك التمرد الأخلاقي الذي يعصف بنا من كل حدب وصوب ثم يجد من بعض صالحاتنا عزوفاً أو انشغالاً عن تلك المسؤولية العظيمة فيا سبحان الله لمن تتركن الميدان .
فيا أختي المسلمة ألا يكتوي قلبك حين ترين تلك الوحوش الكاسرة التي كشرت عن أنيابها الفضائية ومخالبها الصحفية وراحت تعبث بأخواتك وتنتهك عفتهن وكرامتهن ألا يتفطر فؤادك وأنت ترين مظاهر التفسخ وقلة الحياء تستشري في نسائنا.
أيطيب لك عيش وأنت ترين الفتاة تلو الفتاة وقد رمت بحجابها وراحت تركض هنا وهناك ملبية نداء تلك الأبواق الخاسئة التي ملئت بكل الوان الدهاء والفتنة .
كيف تقوى نفسك على القعود وأنت تملكين بفضل الله القدرة على تحصين أخواتك من حبائل المفسدين .
أختي المسلمة : إما أن تتقدمي أنت وإلا فإن المفسدين لنا بالمرصاد وبقدر تقصيرك يكون إقدامهم ومن أيقنت بعظيم مسؤوليتها هانت عليها كل العقبات، ومن صدق الله صدقه الله .
أيها المسلمون : فلنستثر الشعور بالاستحياء من الله جل جلاله في قلوبنا حين نرى من لا خلاق لهم يكدحون ويضحون لنصرة باطلهم ويوفون مع إمامهم إبليس بالعهد الذي قطعه على نفسه (( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ )) (ص:82) .
لابد من الدعوة إلى الله على كل المستويات ، دعوة للمنحرفين والغافلين إلى التمسك بالإسلام، دعوة للمتمسكين به لبعث هممهم وتعريفهم بطريق العمل وفقه الدعوة، لابد من الدعوة إلى الله وعلو الهمة فيها لانتشال الأمة من تيهها الذي تهيم فيه فالسواد الأعظم قد انحرف غير ماقصد كيد ولا إرادة سوء، لابد من الدعوة إلى الله لاستنقاذ الظباء الجفولة والعصاة الذين تخلفوا عن منازل الفضل، لابد من الدعوة إلى الله وإلا فسدت الأرض، وأسنت الحياة وتعفنت وذاقت البشرية الويلات من بعدها عن منهج الله، حينما يعيش الإنسان لدعوة الله يومها فقط سيذوق معنى السعادة ، (إن السعادة أن تعيش لفكرة الحق التليد لعقيدة كبرى تحل قضية الكون العتيد وتجيب عما يسأل الحيران في وعي رشيد فتشيع في النفس اليقين وتطرد الشك العنيد ، وترد للنهج المسدد كل ذي عقل شريد هذه العقيدة للسعيد هي الأساس هي العمود من عاش يحملها ويهتف باسمها فهو السعيد .
وبعد فهل ياترى تتحرك الهمم لدعوة الغافلين وإرشاد التائهين هذا هو المؤمل منا جميعاً رجالاً ونساء صغاراً وكباراً وإنا لمنتظرون .
اللهم صلى على محمد وعلى آله وصحبه ،،،
==============
المرأة والوقت
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين .. نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين .. أما بعد
الوقت ثروة يمتلكها الغني والفقير والوضيع والأمير، ولكنها مع الأسف ثروة مهدرة في حياة كثير من الناس، فالليل والنهار يتعاقبان على جميع البشر.
وإن المتأمل في كتاب الله وسنة رسوله يجد فيهما التنبيه على أهمية الوقت قال تعالى : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون }.
وإن من فضله سبحانه أن جعل الليل يخلف النهار والنهار يخلف الليل ، فمن فاته عمل في أحدهما حاول أن يتداركه في الآخر {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذّكر أو أراد شكورا} ، وقال صلى الله عليه وسلم : ( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع : عن عمره فيمَ أفناه، وعن شبابه فيمَ أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه، وفيمَ أنفقه) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
إذاً نصف الأسئلة عن الوقت !
وتزداد أهمية الوقت في هذا الشهر الكريم الذي حريٌ بمن كان يضيع وقته في غيره أن يعيد النظر في استغلاله، بل وحريٌ بمن كان يستغل وقته في غيره أن يضاعفه فيه.
أختي المسلمة :(12/154)
إن أهمية الوقت كما ذكرنا تتضاعف في شهر رمضان لما نجد من تضييع كثير من النساء ليالي رمضان في اللهو والسهر والخروج من البيت، أما نهارها ففي النوم أو المطبخ ! فشعار هؤلاء: رمضان شهر النوم نهاراً والسهر ليلاً . وقد يمر على المرأة المسلمة رمضان تلو رمضان وهكذا تمر الرمضانات بدون رصد للأعمال والمواضيع والمشاريع وبدون تدارك للأخطاء والتقصير مما يجعلنا في كل رمضان يأتي نبدأ من جديد، وهذا هو مضيعة الوقت والأعمار .
وابن القيم رحمه الله في زاد المعاد يقول: وكان من هديه صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان الإكثار من أنواع العبادات، فكان جبريل عليه السلام يدارسه القرآن في رمضان، وكان إذا لقيه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة، وكان أجود الناس وأجود ما يكون في رمضان، يكثر فيه الصدقة والإحسان وتلاوة القرآن والصلاة والذكر والاعتكاف وكان يخص رمضان من العبادة ما لا يخص غيره به من الشهور، حتى إنه كان ليواصل فيه أحياناً ليوفر ساعات ليله ونهاره على العبادة......إلخ أ.هـ
إن علمكِ أختي المسلمة بقصر أعمار أمة محمد صلى الله عليه وسلم لدافع كبير لاستغلال العمر بما يفيد . فيُروى أن نبياً من الأنبياء مر على امرأة وهي تبكي على ابن لها مات وعمره أكثر من مائتي عام، فقال لها مواسياً : كيف لو أدركتِ أمة أعمارها من الستين والسبعين، قالت: لو أدركت هذه الأمة لأمضيتها في سجدة واحدة .
ولكن الله عوض هذه الأمة بأن جعل هناك من الأعمال الصالحة التي تبارك في العمر، وكأن من عملها رُزق عمراً طويلاً ، كقيام ليلة القدر وصيام الست من شوال والصلاة في المسجد الحرام والنبوي وبيت المقدس . وإن ما نلاحظه من سرعة تصرُّم الأيام وانقضاء الأعوام بسرعة عجيبة لهو من علامات الساعة.
ولقد كان السلف أحرص ما يكونون على أوقاتهم لأنهم كانوا أعرف الناس بقيمتها. يقول ابن مسعود رضي الله عنه : ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي.
ويذكر ابن رجب أنه كان في مكة امرأة متعبدة إذا أمست قالت : يا نفسي الليلة ليلتك لا ليلة لك غيرها فاجتهدت، فإذا أصبحت قالت: يا نفسي اليوم يومك لا يوم لك غيره فاجتهدت .
ولقد قال رجل لعامر بن عبدقيس : قف أكلمك ! فقال : أمسك الشمس ..
أختي المسلمة:
إن الوقت إذا لم يُقض بالخير قُضي بضده وتلك مسألة لا ينازع فيها أحد، والأعداء ما فتئوا يكيدون لنا ويخططون لإشغالنا في الوقت الذي يستثمر فيه الأعداء أوقاتهم ويحرصون كل الحرص على استغلال كل لحظة من لحظاته . ولا تظني أختي المسلمة أن شغل الوقت بالنافع لا يكون إلا للعاملات ؛ فكل امرأة تشغل وقتها بما لديها من علم وقدرات ، فهذه أشغلت نفسها بحفظها لكتاب الله، وتلك بطلب العلم، وأخرى بتعليمه، ورابعة بالدعوة إلى الله ، وخامسة بمتابعة أحوال الفقراء والمساكين وجمع التبرعات لهم، وأخرى سخر الله لها باباً إلى الخير وهو وجود أحد والديها الكبير في السن المحتاج لمساعدتها ومتابعتها فانشغلت به عن غيره ؛ فكل ميسر لما خلق له .
ومن رحمة الله بنا يا أختي المسلمة أننا مأجورات في أعمال المنزل وفي النوم وفي الأكل وفي انشغالنا بأزواجنا وفي تربيتنا لأولادنا ومتابعتنا لأحوالهم، بل في قضاء شهواتنا . كل ذلك إذا ما تقربنا إلى الله به واحتسبنا الأجر والإعانة على الطاعة . ولكِ أن تجعلي لسانك رطباً بذكر الله أثناء القيام ببعض أعمال المنزل أو أي عمل يمكّنكِ من ذكر الله فتنالي بذلك أجر الذكر وأجر التقرب إلى الله بذلك العمل..
أختنا المسلمة:
تطمح كثير من النساء إلى استغلال الوقت ولكن تنقصها الهمة التي تعين على ذلك، فتسأل عن الأمور المعينة على استغلال الوقت فنقول:
* إن الخوف من الله وخشيته و مراقبته تدفع الإنسان لعمارة وقته بالطاعات والإقلاع عن المحرمات، فمن أسماء الله ما جاء في قوله تعالى: {إن الله كان عليماً حكيماً} ، وقوله : {إن الله كان عليكم رقيباً}.
فأسماء العلم والإحاطة والمراقبة تملأ القلب مراقبة لله في الحركات والسكنات، فإذا استشعر المؤمن أنه مراقب من قبل الله فحري به أن لا يفتقده حيث أمره ولا يراه حيث نهاه.
* تذكر الموت، فإن الإنسان إذا تذكر الموت مع جهله بالزمان والمكان الذي سيفاجئه فيه كان ذلك أدعى لحرصه على حسن الخاتمة وأن يتوفاه الله على طاعته، فيدفعه ذلك لشغل وقته بالصالحات.
* صحبة الصالحين ذوي العقول السليمة والهمم العالية والأوقات المستثمرة الذين نستطيع أن نصفهم بقولنا : من ذكركم الله رؤيتُه، وزاد في علمِكم منطقُه، وذكركم بالآخرة عملُه، الذين تحيا القلوب بذكرهم وإن كانوا أمواتاً، لا من تموت القلوب بمخالطتهم وهم أحياء.
* معرفة قيمة الوقت وأهميته، وأنه محاسب عليه، بل ومحتاج إليه، كل ذلك يدفعه إلى العمل.
* الحذر من التسويف وهو قول (سوف) فإنها أحد جنود الشيطان والسعي في المبادرة بإنجاز العمل قبل أن يحال بينه وبينه.
دعا أحد الأمراء رجلاً صالحاً إلى الطعام فاعتذر بأنه صائم، فقال الأمير : افطر وصم غداً . فقال: وهل تضمن لي أن أعيش إلى الغد؟!
نعم - أخت العقيدة - فهل نضمن أن نعيش إلى الغد، بل هل نضمن أن نعيش إلى ما بعد هذه الحلقة؟!
فلنبادر بالأعمال الصالحة ولنسع في أن نستغل أوقاتنا في رمضان، فمن لم تستغل وقتها في رمضان فحريٌ بها أن لا تستغله في غيره.
.. والحمد لله رب العالمين..
=============
عوامل النجاح
الحمد لله حمداً كثيراً ، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً ، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لم يتخذ ولداً(12/155)
ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له وليٌّ من الذل وكبّره تكبيراً .. وأشهد أنَّ سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله بعثه الله شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً .
اللهمَّ صل عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين وسَلِّمْ تسليماً كثيراً .. أَمَّا بعد .
فلا مخرج من الأزمات ولا فلاح للعبد ولا نجاة إلا بتقوى الله عالم السر والخفيات، ومنجي عباده عند نزول الشدائد والملمات ، وسامع صوت يونس في بحار الظلمات ، فنسألك اللهم الهدى والتقى والعفاف والغنى .
اللهم اجعلنا ممن يخافك ويتقيك، ويؤمن بك ويتوكل عليك أنت حسبنا ونعم الوكيل
عباد الله :
إننا نعيش في عصر تقدم فيه الإنسان في مجالات التصنيع والتسلّح والاختراع وتوفرت فيه وسائل الراحة وسبل الترف والرفاهية فهل سعدت الإنسانية بهذا هل شعرت بالطمأنينة وراحة النفس ؟ كلا .
سباقٌ محموم إلى التسلح النووي واقتناء أحدث الأسلحة لتدمير الحرث والنسل فهل تحقق السلام والهناء ، والراحة والهدوء ؟.
هاهو العالم اليوم يعيش فوق بركان من القلق والفزع وفوق زلازل من الحيرة والاضطراب ، وما يكاد العالم يخلص من مشكلة أو أزمة إلا ليستقبل أزمة أكبر أو مشكلة أمر وما ذلك إلا لأن هذا التقدم المادي الحسي لم يصاحبه ما يماثله من التقدم الروحي النفسي .
بل نحن نعيش في عالم لا يدين أكثره بالمثل العليا ولا بالعقائد الصحيحة . قد انفصمت عرى الإيمان في النفوس وقَلَّ عمل الخير بمعناه الصحيح ، وضعف سلطان العدل ، وضاع صوت الحق في زحمة الباطل .
ولو أن رجلاً من السلف الصالح رجع إلينا لها له ما يرى .
أما المسلمون فالكثير الغالب منهم قد ضيعوا مجدهم وعزهم ، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ساروا خلف أعدائهم فأوردوهم موارد الذل والهوان تركوا الجهاد ، وركنوا إلى الدنيا ، وتنازلوا عن عزتهم وعلوهم ((وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ )) .
((وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)) .
وأمَّا الغرب الكافر فـ ((يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)) يعيش أحدهم
فيأكل كما تأكل الأنعام والنار مثوىً لهم .
أعطوا ذكاءً ولكن بدون ذكاء ووهبوا علوماً بدنياهم ولكنها صارت من أسباب شقائهم ، لهم عقول ولكن
لا يعقلون بها مكنوا من الأسباب المادية ، وحرموا عبادة رب البرية .
فيا الله ما أعظم خسارتهم ، وما أشد تعاستهم ، وما أبئس حالهم ((وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون )).
((وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ)) .
((لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ )) .
((وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ)) .
إن ما تعانيه الإنسانية اليوم من بلاءٍ وشقاء ، وظلم واستعلاء ، وشرور ووباء بحاجة إلى علاج ودواء ،
ولربما يتفلسف أناس ، ويتفيهق آخرون في وصف العلاج فيطيلون ويرهقون ثم لا يأتون إلا بالفشل الذريع ، ولكن الله تبارك وتعالى رسم لعباده العلاج ووضح لهم المنهاج الذي إن أخذوا به خرجوا من الظلمات إلى النور ،
ومن سبل الشقاء إلى طريق الهدى والأرتقاء رسم هذا المنهج في سورة قصيرة ذاتِ آياتِ ثلاث لكنَّ فيها المنهج
الكامل للحياة الحقيقية .
إنها تشخّص العلة وتحدد الداء وَتُرَسّخ طريق الخلاص ووصف الدواء تلكم هي (سورة العصر) والتي يقول عنها الشافعي - رحمه الله- : لو تدبر الناس هذه السورة لوسعتهم (تفسير أبن كثير 4/582) .
وذكر الطبراني عن عبيد الله بن حفص قال : ( كان الرجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا التقيا لم يفترقا إلا على أن يقرأ أحدهما على الآخر سورة العصر إلى آخرها ) ( تفسير سورة العصر عبد العزيز القارئ ص 26 ) .
ليذكر أحدهما صاحبه بما في هذه السورة من منهج السعادة وعوامل النجاح وطريق الفلاح .
ويقول ربنا سبحانه في هذه السورة : (( وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) .
أقسم الله تعالى بالعصر وهو الدهر والزمان الذي يحصل فيه حركات بني آدم من طاعات ومخالفات ،
وخير وشر أقسم الله لما فيه من دلائل القدرة على الخالق سبحانه فهو مشتمل على الأعاجيب فيه السراء والضراء والصحة والسقم ، والغنى والفقر وفي ذلك تنبيه للإنسان على أن هذا الزمان ظرفٌ لأعماله وأنه يمرُّ وينقضي سريعاً إذا لم يستفد منه ضاع عليه فكل يوم مضى نقص في العمر .
إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يومٍ مضى نقصٌ من الأجلِ
إن الزمان بحركته الدائبة يجري بالإنسان نحو نهايتهَ المحتومة وإن كان لا يحس بذلك .
وأرى الزمانَ سفينةً تجري بنا نحو المنونِ ولا نرى حركاتِهِ
والزمان بتعاقب أيامه ولياليه عبرةٌ لمن أراد أن يعتبر وواعظ لمن أراد أن يتعظ : (( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً)) .(12/156)
تمر دولٌ وأمم ثم تبيد وتزول ومنهج الحق واضح ، والخالق لا يزول ولا يحول حي لا يموتُ قيوم لا ينام .
والزمان عباد لله :
فرصةٌ يضيعها الإنسان غالباً هذه هي حال أهل الخسران مع أنه من أصول النعم ولكن أكثر الناس لا يشكرون .
أليس من الغبن والحرمان أن تمضي على بعض الناس سنوات إثر سنوات وشهورٌ ودهور وهو لاه ٍ يلعب ،
يرى العبر بعينه ، ويسمع المواعظ بأذنيه ، ويرى تقلّب الزمان بأهله وهو بمعزلٍ عن الاتعاظ .
يا أهل الإسلام : لا وقت للهو ولا للبطالة .
أنهلو وأيامنا تذهبُ ونلعبُ والموت لا يلعبُ
أيلهو ويلعب من نفسه تموت ومنزله يخربُ
والعجيب أن عصر الإنسان الذي هو عمره مهما طال لا يفيد منه إلا لحظة الهداية ، فلو ضيعّ الإنسان مئة سنة في الشقاوة ثم تاب واهتدى في اللحظة الأخيرة من عمره دخل الجنة بسببها وَنُعِّم بنعيمها أبد الآباد ولو أمضى مئة سنةٍ في العمل الصالح ثم انتكس في اللحظة الأخيرة وكفر ذهبت أعمالها كلها هباءً منثوراً وضاع عليه جميع العمر فليدرك العاقل نفسه وليختم بخير فما يدري متى تطوى صحيفته ، وتقوم قيامته : ((إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ))
أقسم تعالى بالعصر على هذه الحقيقة : وهي أن جنس الإنسان الغالبُ عليه الخسر وهو الغبن والنقص فالناس جميعهم في خسران ونقصان من تجاراتهم إلا الصالحين وحدهم لأنهم اشتروا الآخرة بالدنيا فربحوا وسعدوا ومن عداهم تجروا غير تجارتهم فوقعوا في الخسارة والشقاء قال الله تعالى : (( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً* الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)) .
وقال تعالى: (( وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ)) . ((إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) فاستثنى من جنس الإنسان من الخسران الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا بقلوبهم وعملوا الصالحات بجوارحهم فلا إيمان صادق إلا بعملٍ صالح فالعمل الصالح من صدقة وذكر ودعاء وجهادٍ وتفكرٍ ودعوةٍ وصلاة وصلة ونسكٍ وإخلاص والثمرة الطبيعية للإيمان .
ومن جمع الإيمان والعمل الصالح فقد أدرك السعادة ((مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ))
فاز بدفاع الله عنه : ((إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا)) وظفر بولاية الله له ((اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ))
ومحبة الله له :((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً)) .
((فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)) . ((إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ)) .
((وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) :
إي وصّى بعضهم بعضاً بالحق وهو الإيمان بالله وتوحيده والقيامُ بما شرعه سبحانه وأداء الواجبات والمفروضات وترك المحرمات والمنهيات ((وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) بالصبر عن المعاصي وعلى أداء الطاعات وبالصبر على الأقدار وأذى من يؤذي ممن يأمرونه بالمعروف وينهونه عن المنكر .
جعلنا الله وإياكم من المؤمنين الذين يعملون الصالحات وممن يتواصون بالحق وبالصبر إنه جوادٌ كريم
الخطبة الثانية
الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله ، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان .. أمَّا بعد .
فقد أتضح مما سبق أن عوامل النجاح أربعة :
الإيمان و العمل الصالح و التواصي بالحق والتواصي بالصبر .
فأين هذه العوامل من حياة كثير من الناس اليوم الغيور ينظر يميناً وشمالاً ليبحث عن آثار الإيمان وأنواره الساطعة في حياة الناس فيفاجأ بأمواج الفتن وأمراض النفاق والتطاول على الحرمات والنيل من الدعوة والدعاة حتى كتب أحد المنافقين وما أكثرهم لا كثرهم الله يزعم بأن الدعوة إلى الله وقيام المعلمين والمعلمات بواجب النصيحة والدعوة التذكير سبب مهم في تدني مستوى التعليم .
فأين نفع علمٍ بلا إيمان لو كان هذا وأمثاله يعقلون هم كثير مَنْ لا هَمَّ لهم إلا التفنن في الحصول على رغباتهم وشهواتهم مهما كانت الوسائل مهما وطئوا في مسيرهم غيرهم من الناس ، بسندما يضعف الإيمان أو ينعدم يَظْلِمُ المرء غيره ، ويسئُ الظنَّ بإخوانه ، وَيُضَيِّعُ حقوق الآخرين ويهدِرُ كرامة المسلمين ، ويتسلّط على البائسين والمساكين ،
أين الحق في العالم اليوم وكل من بيده سلاح يريد أن يستعد به من كان مجرداً منه أو يقضي عليه إن رفض العبودية له .
عباد الله :
سورة العصر رسمت منهجاً كاملاً واضح المعالم من أراد النجاح فليلتزم به ليحصل الخلاص من حياة البؤس والضياع فإن الغالب على البشر في كل زمان ومكان هو غرقهم في الفساد وسيرهم إلى الهلاك والدمار .
وإذا تأملت الحال اليوم وجدت هذه الحقيقة واضحةً ماثلة للعيان .
لا نمثل بالأمم الوثنية التي مَسخت عقولها عندما انحدرت إلى هذا الدرك باتخاذ آلهة من الحجر أو الشجر أو البقر ، أو غير ذلك من الحيوانات والجمادات ، فإن الخضوع لمثل هذه الآلهة أوضح دليل على الفساد المريع في عقول هؤلاء وفِطَرهم ، لكن لنا أن نضرب المثل بمن يسميهم القرآن ((أَهْلِ الْكِتَابِ)) .
اليهود والنصارى : إنهم الطرف الرئيسي(12/157)
في الصراع بين الكفر والإيمان، فما يعتلج في العالم اليوم من مشكلات مدمرة هو بسبب هاتين الملتين، اللتين تقودان العالم نحو الدمار ، اليهود والمغضوب عليهم، قتلة الأنبياء، ومصدر الفساد والشرور، والنصارى الضالون، الذين هم الروم ذات القرون، كلما هلك منهم قرن أتى قرن ، ويقف أمام هؤلاء وأولئك أهل ملة الإسلام ، فالصراع باختصار هو بين ملة الإسلام التي تُمثِّل (الحق المُنزَّل) والدين المُكمَّلَ ، وبين هاتين الملتين الضالَّتين المُضِلَّتين .
ونظرة فاحصة لما يمور في العالم اليوم من حروب ومآسٍ ، ومصائب وكوارث ، وفسادٍ خلقّيٍ واقتصاديٍ ،
وظلمٍ وطغيانٍ ، تجد وراءه اليهود والنصارى .
والناس كشأنهم في كل زمان الغالبيةُ الغالبةُ والسوادُ الأعظمُ منهم واقعون في براثن هؤلاء المفسدين .
فهم سائرون من ورائهم كالعميان يقودنهم إلى المصير المحتوم ، ومما يزيد من فداحة الأمر أن الشهوات والغرائز كلها تحث الناس على اندفاع في طريق الدمار، والاستسلام لحبائل المفسدين ، بينهما طريق النجاة محفوفة بالعوائق المكاره وتكاليفها شاقة ، وعبئها ثقيل ، فلذلك كثر الهالكون وقلَّ السالكون ، فاللهم اجعلنا من القليل .
وهذا يبين عظم شأن هؤلاء القليل الناجين الذين سَمَتْ عقولُهُم وفِطَرُهُم ونفوسُهُم وعزائُهُم عن الاستسلام
لما استسلم له الأكثرون، فسَلِمُوا بذلك من التردِّي في الوهدة التي تردَّي فيها الهالكون .
============
رمضان فرصة للتغيير
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فالأيام تمر مر السحاب، وتمضي السنون سراعاً، وجلنا في غمرة الحياة ساهون ، وقل من يتذكر أو يتدبر واقعنا ومصيرنا مع أننا نقرأ قول الله تعالى: ((وَهُوَ الَذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً)) (الفرقان: 62).
والمسلم في عمره المحدود وأيامه القصيرة في الحياة قد عوضه الله تعالى بمواسم الخير، وأعطاه من شرف الزمان والمكان ما يستطيع به أن يعوض أي تقصير في حياته إذا وفق لاستغلالها والعمل فيها، ومن تلك المواسم: شهر رمضان المبارك .
يقول الله تعالى: ((يَا أََيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (البقرة: 183) .
(إنه نداء رباني حبيب لعباده المؤمنين يذكرهم بحقيقتهم الأصيلة ، ثم يقرر بعد ذلك النداء: أن الصوم فريضة قديمة على المؤمنين بالله في كل دين، وأن الغاية الأولى هي إعداد القلوب للتقوى والخشية من الله، هكذا تبرز الغاية الكبرى من الصوم.. والتقوى هي التي توقظ القلوب لتؤدي هذه الفريضة طاعةً لله وإيثاراً لرضاه.
والمخاطبون بهذا القرآن من الرعيل الأول ومن تبعهم بإحسان يعلمون مقام التقوى عند الله ووزنها في ميزانه، فهي غاية تتطلع إليها أرواحهم، وهذا الصوم أداة من أدواتها وطريق موصل إليها) .
ولهذا الشهر الكريم من الخصائص التي ميزه الله بها دون غيره من الشهور ما يساعد على أن يكون فرصة لزيادة معدلات التغيير والتصحيح في حياة كل فرد، بل في حياة الأمة جمعاء، يقول الرسول : ((إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وسلسلت الشياطين)) (اخرجه الترمذي)،
وفي رواية أخرى: ((إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وفتحت أبواب الجنة، فلم يغلق منها باب، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة))
هذه الفرصة العظيمة سانحة في هذا الشهر المبارك حيث تصفو النفوس، وترق القلوب، فيؤوب العباد إلى ربهم ويقومون بين يديه.
وليعلم كل منا أنه يساهم بقسط وافر في تردي الحال وتأخر النصر إذا لم ينتهز فرصة رمضان لزيادة رصيده من الصالحات، وتصفية ما عليه من الآثام، حيث هو لبنة في بناء الأمة التي وعد الله بتغيير واقعها إلى أحسن وحالها إلى أفضل إن هم غيروا ما بأنفسهم: ((إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)) (الرعد: 11).
ما أحوجنا معشر المسلمين كافة إلى وقفة محاسبة، كل منا مع نفسه في هذه الأيام الفاضلة، نراجع أحوالنا لا سيما من أسرف وفرط في جنب الله ومن قصّر في حق أهله أو حق من ولاه الله رعايته، ومن زلت به القدم وفرط في حقوق إخوانه المسلمين فلم يسلموا من أذاه.
إنها فرصة لأن يتساءل فيها كل منا مع نفسه: حتى متى يبقى ضالاً عن صراط الله المستقيم، وهو يعلم أن الطريق الصحيح هو ما دعا إليه البشير النذير وأن خلافه ونقيضه هو الضلال المبين؟، لماذا أكون ((كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً)) [النحل: 92] ؟!.
إن الاستمرار على الحق والعض عليه بالنواجذ، والعودة إلى رحاب الله، وترك ما ألفته النفس من لهو وهوى قد يكون الفكاك منه صعباً كما قال الشاعر:
النفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
لكنْ لا بد من إرادة قوية واستشعار لواجب التغيير، وبخاصة إذا آمنا إيماناً جازماً أننا معرضون للخطر وسوء الخاتمة إن لم يتداركنا الله برحمته، فما أحوجنا إلى الصبر والمصابرة حتى نلقى الله وهو عنا راضٍ.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من ورائكم أياماً الصابر فيهن كالقابض على الجمر، للعامل فيها أجر خمسين، قالوا: يا رسول الله خمسين منهم أو خمسين منا؟ قال خمسين منكم)) [رواه أبو داود].(12/158)
إننا معشر المسلمين حكاماً ومحكومين يجب أن نصطلح مع الله، وهذا الشهر الكريم فرصة وأي فرصة.
فمن الحاكمين بأمرهم اليوم من يحارب الله ورسوله جهاراً نهاراً، فأنّى له أن يوفق وأنّى له أن يمكّن، وأنّى له أن يختم له بخير، فإن كانوا مسلمين حقّاً؛ فليعلنوا حقيقة إسلامهم، وليحكِّموا شريعة الله، وليوطدوا العزم على السير بهدي الإسلام، وليغيروا وفق منهاجه، فليس الأمر مجرد دعوى.
الدعاوى إذا لم يقم عليـ ها دليل فأصحابها أدعياء
وهنا أيضاً دعوة لكل جماعة أو فئة تنتمي إلى الإسلام وتدعو إلى ذلك أن تحقق ولاءها لله تعالى وأن تجرد متابعتها للرسول -صلى الله عليه وسلم-، فكم رأينا في الواقع من يزعمون أنهم من الداعين إلى الإسلام، بينما هم في العقيدة منحرفون، وعن السنة زائغون، وعن آداب وأخلاق الإسلام متخلون.
وقصارى ما عندهم: الكلام والخصام والحزبية المقيتة واللدد في الخصومة، فما أحوج المنتمين إلى سلك الدعوة إلى الله لتمثل الإسلام في منطلقاتهم وتعاملاتهم والولاء للمسلمين والبراء من أعداء الدين.
فهل يكون هذا الشهر فرصة للعودة إلى الله وسلوك صراط الله المستقيم؟! عسى ولعل.
وأخيراً :
ندعو كل مفكر وكاتب مسلم ممن اتخذ الكتابة مهنة ومصدر رزق ألا يزل به القلم ويتبنى الأطاريح المنحرفة والآراء الفجة فيما يزعمونه علاجاً للمشكلات، لأننا قَلّ أن نجد من هؤلاء الكتاب من يسلك السبيل السوي فيما يسود به الصفحات؛ لكثرة ما يقولون بلا علم، ولجُل ما ينقدون بلا فهم؛ فضلاً عن هجومهم المتوالي على الدعاة والطعن في نواياهم واتهامهم بما هم منه براء.
فهؤلاء إن كانوا غير مسلمين فليس بعد الكفر ذنب؛ وإن كانوا مسلمين فعليهم أن يتوبوا إلى الله؛ وأن يستشعروا الأمانة الملقاة على عواتقهم؛ وعليهم ألا يتسببوا في أذى إخوانهم والإساءة لهم والتحريض ضدهم بلا دليل؛ وعند الله تجتمع الخصوم.
فلعل في هذا الشهر المبارك ما يوضح الرؤية الشاملة في الموقف من الإسلام ودعاته ؛ وألا يكونوا أذناباً لأعداء الله في الهجوم على الإسلام والتخويف منه بمناسبة وغير مناسبة.
ولعل في هذه الأيام الفاضلة ما يعين على تجاوز الأخطاء وتناسي الإحن، والعودة إلى الحق وعدم التمادي في الباطل، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟.
والله أسأل أن يتقبل منا صيامنا وقيامنا، إنه على ذلك قدير، وبالإجابة جدير.
وصلِّ اللهم وسلم على البشير النذير وعلى آله وصحبه وسلم ,,,
==================
دور الأسرة في تربية المرأة 2 / 2
تحدث فضيلة الشيخ في المقال السابق عن دور الأب أو الأخ ، و دور الزوج و دور الأم في تربية ابنتها وفي هذا المقال سيتحدث بإذن الله تعالى عن معوقات البناء و قدوات بانيات . إدارة الموقع
رابعاً : معوقات البناء :
1– إنعدام القدوة الحسنة : إن المنهج الذي نريد أن نربي بناتنا على ضوئه لابد له من مطيق في ساعة الواقع حتى يتحول إلى حقيقة وهذا هو الذي نسميه القدوة الحسنة والمثل الطيب ، وعندما ينعدم القدوة الحسنة فكيف نستطيع أن نربي بناتنا عندما ترى البنت أمها وأباها وقد تخلوا عن تعاليم الإسلام فإنه من الصعوبة أن تتمسك هي بها .
2- التناقض في البيت والمجتمع : إن مجتمعنا يعيش تناقضاً مذهلاً يحير العقول فمن مناد بعفاف المرأة وحشمتها إلى مناد بتحللها وسفورها ، ومن متمسك بالدين إلى مفرط فيه ، كما أن البنت تقرأ عن الفضيلة والاحتشام ثم ترى صوراً عارية بعيدة عن الحشمة ، والبنت تسمع عن الأخلاق الحميدة وترى الأخلاق السيئة ، والبنت تسمع والدها ينهى عن الاختلاط والسفور ثم تراه يقابل الخادمة ويختلط بها وهي سافرة .
والبنت تسمع والدها وأمها ينهيان عن الخلوة بالرجال ثم تفاجأ بإرسالها إياها مع السائق لوحدها
إن هذا التناقض العجيب من شأنه أن يفسد تربية البنت ويعيق من استمرارها على الأخلاق الحميدة ، ويزرع فيها بذور الأخلاق السيئة .
3- سوء التوجيه : هناك بعض الأسر التي لا تستطيع أن توجه بناتها إلى ما ينبغي فعله وترك مالا ينبغي فعله ، وهناك ممن يستطيع التوجيه لا يحسن هذا التوجيه فيخطئ كثيراً ، فيوجه الأب ابنته إلى التعلم في مكان مختلط وهو بهذا يظن أنه قد وجه ابنته إلى ما يحسن وضمن بهذا مستقبلها ولم يعلم أنه إنما رماها بمستنقع قذر .
4- وسائل الإعلام: وهذه لها الأثر الكبير في إعاقة منهج التربية الإسلامي ، وهي بشتى أنواعها تلفاز أو إذاعة أو صحف ومجلات تعمل على هدم الأخلاق وإعاقة منهج التربية الإسلامي وذلك بما تبثه من حقائق زائفة وتشجيع للاختلاط والتبرج ، وتبرم من الحجاب ومناداة بعمل المرأة وحريتها ، وإشادة بالمتحللين والمتحللات من فنانين وفنانات وممثلين وممثلات وإظهارهم وإظهارهن بمظهر القدوة التي ينبغي الاقتداء بها .
والبنت عندما ترى صور العاريات في وسائل الإعلام المختلفة يراها أبوها أو أخوها أو زوجها تظن أن هذا هو المطلوب وأن هذا هو الصحيح فتميل إلى تقليده.
5- مناهج التعليم : إن مناهج التعليم تنظر إلى الرجل والمرأة نظرة واحدة لا تفرق بينا فالمرأة تتعلم ما يتعلمه الرجل إلا في الأمور الشاقة عليها كالتربية البدنية وعندما تعلم المرأة هذا التعلم أليس من المتوقع أن المرأة ستبتعد عن فطرتها وعن تكوينها وعن دينها أيضاً ؟ أليس من المتوقع أنها لن تعرف شيئاً مما يخصها في أمور العبادات والمعاملات ، أليس من المتوقع أنها سوف تشعر بتساويها مع الرجل في مثل هذه العلوم وأنها ينبغي أن تعمل ما يعمله الرجل لأنها تعلمت ما تعلمه الرجل ؟ كل هذا وارد ومحتمل وكل هذا عائق من عوائق منهج التربية الإسلامي .(12/159)
6- ما اعتاده الطفل من عادات غير سليمة : إن العادة يصعب اقتلاعها من النفس و كذلك فإن الطفل إذا اعتاد شيئاً صعب انتزاعه منه ومن معوقات التربية أن الطفلة تعتاد على عادة غير سليمة كأن تعتاد على لبس القصير من الثياب وتعتاد الخروج من المنزل لغير حاجة ، وتعتاد مقابلة الرجال في الشارع دون حياء إن مثل هذه العادات يصعب اقتلاعها ولذلك فهي تشكل معوقاً من معوقات التربية الإسلامية الصحيحة.
7- الأساليب الخاطئة في التربية : إن الأساليب الخاطئة في التربية قد تمنع من تربية الطفل تربية صحيحة ومن الأساليب الخاطئة التي نراها الإفراط المتزايد من الأبوين في التسامح والتساهل مع البنت إذا أخطأت .
وكذلك من الأساليب الخاطئة التدليل الزائد للطفلة .
وكذلك من الأسباب الخاطئة القسوة والصرامة والشدة المتناهية من الأبوين تجاه الطفلة . ولذلك فإن الجانب الوسط هو المطلوب .
8- أخذ تعاليم الإسلام على أنها عادة وتقليد لا عبادة : وهذا هو السبب في أن كثيراً من المتحجبات نزعن الحجاب وتهاون في أمره .
ولذا فإنه من المتوقع أن يحدث الكثير من طموح أعداء الإسلام إذا استمرت البنات على أخذ تعاليم الإسلام على أنه عادة وتقليد .
ولذا يجب على الأبوين أن ينبها أولادهما عند البلوغ أو قبله أن هذه الأشياء التي يعملونها إنما يعملونها لأجل مرضاة الله وأنها من تعاليم الإسلام التي ينبغي مراعاتها والقيام بها .
9- البيئة السيئة : قد يعيش في بيئة سيئة ، كأن يكون البيت غير صالح فيه منكرات ووسائل صد عن سبيل الله ، وكذلك قد تكون تعيش بين صديقات سوء يدللنها على الشر ويباعدنها عن الخير .
10- الانفراد : كما أن البيئة السيئة من المعوقات فكذلك الانفراد من المعوقات ، الذئب يأكل من الغنم القاصية ولذا فعليك بالرفقة الصالحة .
11- التسويف : تسوف التوبة والاستقامة وبناء النفس ، حتى أنهي الدراسة حتى أكبر ، حتى أتزوج وهكذا .
12- كثرة الوقوع في المعاصي : لأن المعصية تسبب راناً على القلب ومعصية تجر الأخرى حتى تكثر الطاعات وتألف المعاصي ، مما يصمها عن سماع الناصحين .
13- الاغترار بالحياة الدنيا وقلة ذكر الموت : تهتمم بمظاهر الدنيا ؛ زينة، وجمال وتسريحة ، وقصة ، وأناقة ورشاقة ، مظهر خارجي فقط ، ومكاسب دنيوية ، أما الموت والدار الآخرة فآخر ما تفكر فيه ولو فكرت مرة سرعان ما تطرد هذه الخواطر .
14– التهاون مع النفس : لأن بناء المرأة لشخصيتها يحتاج منها إلى جد واجتهاد ونوع مشقة والنفس تحب الكسل والدعة والبطالة والنوم ، فإذا تهاونت معها لم تستطيعي بناء شخصيتك .
15– ضعف الإرادة ودنو الهمة : تكون عرفت ما هي فيه وتتمنى أن تبني شخصيتها ولكن هذا مجرد تمني أما العمل فلا ، إرادتها ضعيفة ، وهمتها دنية ، أقصى همتها أن تنجح وتتزوج ، أما أن يكون لها همة عالية وإرادة قوية فلا .
16– إشغال النفس بما لا فائدة فيه : كالانشغال بأخبار الناس ، فلانة تزوجت وفلانة طلقت وفلانة حامل وفلانة تخاصمت مع زوجها وآل فلان غيروا أثاث بيتهم وفلانة خطبت وهكذا وكأنها وكالة أبناء .
17– الابتعاد عن مصادر التوجيه : بمعنى أنها لم تسمع توجيهات من أصحاب الخير إما لتهربها منهم وإما لتقصيرهم في الإتيان إليها ولم تسمع شريطاً نافعاً ولم تقرأ كتيباً نافعاً ، لم تناصحها زميلة ، ولم تنكر عليها قريبة ، لم توجهها معلمة ، ولم ترشدها أم ولم يرعها أب ، فمثل هذا كيف تستطيع بناء شخصيتها .
خامساً : قدوات بانيات :
أولاً : في العلم :
حرصت النساء الفضيلات على طلب العلم والتفقه في الدين، تقول عائشة رضي الله عنها ( نعم النساء نساء الأنصار لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين )
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوماً من نفسك ، فوعدهن يوماً لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن .. الحديث ) .
فالنساء هنا يطلبن من الرسول أن يعلمهن من أمور دينهن وهذا طلب للعلم ، عائشة رضي الله عنها كانت عالمة يقول أبو موسى ما أشكل عينا – أصحاب رسول الله – حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً، ومن العالمات المسلمات أم زينب فاطمة بنت عباس فقد كانت تحضر مجلس الشيخ ابن تيمية فاستفادت منه ، ووصفها ابن تيمية بالعلم وسرعة الفهم .
ثانياً : العبادة :
تقول عائشة رضي الله عنها ( ولم أر امرأة قط خيراً في الدين من زينب وأتقى لله وأصدق حديثاً وأوصل للرحم وأعظم صدقة) .
وعائشة رضي الله عنها تردد ((فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ)) وتدعو وتبكي، وحفصة يقول عنها جبريل إنها صوامة قوامة ، وجويرية تكثر الذكر والتسبيح حتى مر عليها الرسول وهي تسبح خارجاً إلى صلاة الفجر ثم رجع إليها بعد أن أضحى فوجدها في مصلاها على ما هي عليه وتعرفون الحديث .
ثالثاً :الصدقة :
عائشة رضي الله عنها لا تملك إلا تمرة واحدة ومع ذلك تتصدق بها على المرأة التي دخلت عليها مع ابنتها، يقول عنها ابن الزبير كانت تجمع الشيء إلى الشيء ثم تتصدق به، ومرة كانت صائمة فأتاها مال فتصدقت به ولم تبق لها شيئاً حتى تشتري به لحماً تفطر عليه .
وأختها أسماء كانت لا تدع شيئاً يجتمع عندها بل تكثر من الصدقة وزينب كانت تعمل بيدها وتتصدق ، أتاها مال ذات يوم ففرقته كله على أقاربها . الصحابيات حينما أمرهن الرسول بالصدقة جعلت المرأة منهن تلقي من ذهبها صدقة لله .
رابعاً : الدعوة إلى الله :(12/160)
أم سليم خطبها أبو طلحة وهو كافر فرفضت أن تتزوج به حتى يسلم فإن أسلم فذلك مهرها لا تريد غيره شيئاً تقول له ذلك ترغبه في الإسلام
خامساً : خدمة الزوج :
فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيدة نساء العالمين كانت تخدم زوجها يقول زوجها علي بن أبي طالب ((كانت ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت من أكرم أهله عليه وكانت زوجتي فجرت بالرحى حتى أثر الرحى بيدها، وأسقت بالقربة حتى أثرت القربة بنحرها ، وقمّت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دنست ثيابها ، فأصابها من ذلك ضرر فقدم على رسول الله بسبي أو خدم ، قال : فقلت لها : انطلقي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأليه خادماً يقر حر ما أنت فيه ، فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت عنده خدماً فرجعت ولم تسأله ، وفي آخر الحديث أن الرسول لم يعطها خادم بل أمرها إذا أوت إلى فراشها أن تسبح ثلاثاً وثلاثين وتكبر أربعاً وثلاثين ) فذلك خير من خادم .
مثال آخر : أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت : تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء غير ناضح وغير فرسه ، فكنت أعلف فرسه وأستقي الماء ، وأخرز غربه وأعجن ، ولم أكن أحسن أخبز وكان يخبز جارات لي من الأنصار وكن نسوة صدق ، وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي وهي مني على ثلثي فرسخ000 الخ .
سابعاً : خدمة الإسلام :
تعرفين قصة أم عمارة وكيف كانت تدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم في معركة أحد حتى قال : ((ما التفت يميناً ولا شمالاً إلا وأنا أراها تقاتل دوني )) .
وبلغ من شدة دفاعها أن قال لها الرسول صلى الله عليه وسلم ((ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة )) ، كذلك أم سليم اتخذت خنجراً تقاتل به الذين ينهزمون عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأم حرام بنت ملحان تطلب من الرسول أن يدعو لها أن تكون ممن يجاهد في البحر ، الخنساء وتعرفون قصتها مع أولادها .
ثامناً : حب الرسول صلى الله عليه وسلم وامتثال أمره :
وفي ذلك قصة إحدى الصحابيات التي قتل زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد فلما نعوا لها قالت فما فعل رسول الله قالوا خيراً يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين ، قالت أرونيه حتى أنظر إليه ، فأشير لها حتى إذا رأته قالت كل مصيبة بعدك تهون .
وقصة الفتاة الأنصارية التي طلب الرسول من أهلها أن يزوجوها جليبيباً وكان رجلاً لا يرغب أحد في تزويجه فتشاور الأب والأم وكأنهم لم يرغبوا بهذا الرجل فلما عرفت الفتاة وعلمت أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد ذلك أنكرت على والديها وقالت أتردون على رسول الله أمره ، وأمرت أباها أن يزوجها إياه امتثالاً لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم .
وعموماً النماذج كثيرة يمكن الرجوع إلى كتب السير ففيها المزيد ، ويحسن الإطلاع على كتاب فتيات الصحابة للشيح محمد الدويش فهو كتاب جيد .
===============
الغزو الفكري وآثاره على الأفراد والمجتمعات 1 / 2
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ؛ أما بعد :
فمنذ أشرقت شمس الإسلام وأعداؤه يكيدون له المؤامرة تلو المؤامرة ، فاستخدموا كثيراً من الوسائل ونوعوا العديد من الخطط ، فتارة بالقوة ، وتارة بالحيلة ، نجحوا أحياناً وفشلوا أحياناً أخرى ، وهكذا الصراع بين الحق والباطل.
وعصرنا الحاضر ما هو إلا حلقة في سلسلة التداول بين الإسلام وأعدائه ؛ إلا أن الأعداء هذه المرة ابتكروا أسلوباً جديداً ؛ حيث ابتعدوا عن الاعتماد على القوة وحدها ولجأوا إلى محاربة الإسلام بالفكر فكان ما يسمى بالغزو الفكري .
ولا شك أن لهذا الغزو الجديد خطورته ووسائله ، وله أهدافه و آثاره ، مما جعل الغيورين من أبناء المسلمين يتنادون بوجوب مجابهته ومحاربته ، وكشف زيفه وبيان مغازيه .
ومن المحاولات الرامية إلى مواجهة هذا الغزو عقد الندوات والمؤتمرات والمحاضرات الإرشادية ، وكتابة الكتب والمقالات ومنها هذه المقالات والتي هي بعنوان (الغزو الفكري وآثاره)
أولا: تعريف الغزو الفكري :
الوسائل غير العسكرية التي اتخذها الغزو الصليبي لإزالة مظاهر الحياة الإسلامية وصرف المسلمين عن التمسك بالإسلام مما يتعلق بالعقيدة , وما يتصل بها من أفكار وتقاليد وأنماط سلوك [1].
فالغزو الفكري إذاً مجموعة من المعتقدات والأفكار التي تدخل على الفكر الإسلامي هدفها السيطرة على هذا الفكر أو على الأقل حرفه عن وجهته الصحيحة.
نشأة الغزو الفكري:
بعد فشل الحروب الصليبية وعدم استطاعة الصليبين السيطرة على المسلمين بالوسائل العسكرية تنادى مفكروهم وقوادهم إلى ضرورة استحداث أسلوب آخر يكفل لهم تحقيق أهدافهم, فكان هذا الأسلوب المطلوب هو الغزو الفكري.
يقول لويس التاسع ملك فرنسا بعد أن وقع في الأسر وبقي سجيناً في المنصورة يقول(إذا أردتم أن تهزموا المسلمين فلا تقاتلوهم بالسلاح وحده, فقد هزمتم أمامهم في معركة السلاح ولكن حاربوهم في عقيدتهم فهي مكمن القوة فيهم) [2].
وبالفعل بدأت الحملات الصليبية ولكن هذا المرة عن طريق الفكر وبالفكر, واستخدمت الوسائل المتعددة والأساليب الكثيرة لتحقيق ما يريدون, سواء كان ذلك عن طريق الوسائل التعليمية أو عن طريق الوسائل الاقتصادية أو عن طريق الوسائل الاجتماعية أو عن طريق الوسائل السياسية, مما سيأتي الكلام عنه مفصلا عند الكلام على وسائل الغزو الفكري.
ثانياً: أهداف الغزو الفكري:
- السيطرة السياسية على بلاد المسلمين:(12/161)
قد ذكرت أن نشأة الغزو الفكري كان بعد فشل السيطرة العسكرية, فحتى يتم لهم ما يريدون من الاستيلاء على البلاد الإسلامية بدأوا بالغزو الفكري.
والسيطرة السياسية تنقسم إلى قسمين أو يمكن أن تأتى على وجهتين:
الوجهة الأولى:
الاحتلال المباشر لبلاد المسلمين كما حصل في وقت ما يسمى بالاستعمار, حيث تدخل الجيوش الغازية إلى البلد المسلم, وتبسط نفوذها عليه, كالاستعمار البرتغالي لمنطقة الخليج ثم انحساره عنها ليحل محله الاستعمار الهولندي ثم الاستعمار البريطاني, وكان هذا الاستعمار يهدف في ما يهدف إليه إعطاء الغطاء السياسي اللازم لحركات الغزو الفكري.
الوجهة الثانية:
الاحتلال غير المباشر لبلاد المسلمين بأن يجعلوا من حكامها تابعين لهم لا يخرجون عن أرادتهم وطوعهم ولا ينفذون إلا ما يريدون, وقد حدث هذا بعد خروج المحتل ولكنه أبقى نفوذه ووصايته, فبعد اكتشاف النفط في دول الخليج بادرت بريطانيا إلى اخذ التعهدات من حكام تلك الدول ألا يمنحوا امتياز التنقيب عن النفط لشركات أو أشخاص دون مشورتها([3]).
- الاستغلال الاقتصادي:
لا تقوم البلدان إلا على اقتصاد قوي, والاقتصاد يحتاج إلى موارد اقتصادية, وبلدان العالم الإسلامي في الغالب تحتوي على موارد اقتصادية هائلة سال لها لعاب الدول الغربية مما جعلها تحاول جاهدة استغلال هذه الموارد, فكان في بداية الأمر أن فرضت الدول المستعمرة شروطا واتفاقيات تبيح لها التصرف في ثروات الشعوب الإسلامية سواء كانت هذه الاتفاقيات مفروضة بالقوة أو كانت بقوة غير مباشرة كمعاهدات الحماية بأن تتعهد الدولة القوية بحماية الدولة المسلمة الضعيفة مقابل ابتزازها اقتصادياً, ولأن القوة ربما تولد القوة والهجوم يولد الدفاع, لذا رأت الدول القوية أن منطق القوة قد لا يستمر لها وأن الدولة المسلمة ربما أفاقت وقاومت, لذا لجأت هذه القوى إلى الغزو الفكري الذي يحقق لهم ما يريدون دون إثارة حفيظة المسلمين وحنقهم.
- إبعاد المسلمين عن مصدر قوتهم وعزتهم:
أدرك الغزاه أن المسلمين وإن كانوا في ضعف وهوان وتشتت وانقسام إلا أنهم يملكون سلاحاً قوياً يستطيعون به الانتصار على عدوهم متى ما استخدموه لذا حرصوا اشد الحرص على إبعادهم عن هذا السلاح وعن مصدر قوتهم, فبدءوا بمحاربة العقيدة الإسلامية ومحاولة إبعادها عن حياة المسلمين, لا عن طريق ذمها في البداية وبشكل مباشر فهذا يثير المسلمين عليهم ويرجع المسلمين إلى عقيدهم, ولكن عن طريق دس السم في العسل كما يقال, وبطرق ملتوية غير مباشرة, فحاولوا التشكيك في العقيدة أو في جوانب منها فإن لم ينجحوا في ذلك فعلى الأقل عملوا على زعزعة ثقة بعض المسلمين بعقيدتهم.
وقد لجأوا في ذلك إلى أساليب كثيرة أحيانا تحت مسمى التدرج وعدم التعصب وأحيانا تحت مسمى البحث العلمي وأحيانا تحت مسمى التقارب العقدي للأديان وهكذا,,,,
وسيأتي الكلام عن الأساليب التي اتخذوها.
ثالثاً: وسائل الغزو الفكري:
- التدخل في مناهج التعليم:
من أخطر وسائل الغزو الفكري, لأنه على مناهج التعليم يتربى الجيل, ومناهج التعليم على قسمين:
القسم الأول:
قسم تتولى الدولة وضعه أو بمعنى آخر يضعه أناس ولكن تحت إشراف الدولة, ويتم الغزو الفكري في هذا القسم بما يبذله العلمانيون من جهد في تغيير المناهج ولهم في ذلك أساليب ووسائل يخادعون بها دولتهم ومجتمعهم, حتى يتم لهم ما يريدون, يقدمون التقارير ونتائج الندوات والمؤتمرات المبرمجة سلفاً لشيء معين وكلها تنصب في ضرورة التغيير, وأن المناهج الحالية لا تلبي حاجة المجتمع أو حاجة السوق كما يعبر عنه أحيانا, وأحيانا تتهم أنها سبب في توليد الإرهاب, وأنها تنمي الكراهة والبغض عند الطلاب ضد الكفار, الذين اصبحوا أصدقاء وأعوان, وهكذا, ولا بأس إذا أرادوا شيئاً معيناً أن يحركوا بعض الصحفيين ليكتبوا في الصحف عن ضرورة التغيير وعن حاجة المجتمع, وعن عدم قدرة المناهج الموجودة على مواكبة العصر.
وأحياناً يمكن أن يكون الغزو في هذا القسم تحت ضغوط مباشرة من الغزاة الحقيقيين, ويستخدمون لهذه الضغوط وسائل متعددة ليس المجال مجال ذكرها.
- القسم الثاني:
قسم لا تتولى الدولة وضعه ، وإشرافها عليه غير مباشر, وهذا يتمثل في الجامعات, وبعض المدارس الخاصة والمدارس الأجنبية.
ويتم الغزو الفكري فيها باختيار مناهج تضعف فيها المواد الدينية ويركز على غيرها, ثم هذه المواد تدرس بعيداً عن الدين, وربما كان فيها من الانحراف الفكري ما يشوش على أفكار الطالب ، وربما درست نظريات وأفكار لعلماء غربيين مليئة بالانحراف, دع عنك النظريات العلمية في مواد العلوم الطبيعية كما تسمى, وإنما نقصد العلوم الاجتماعية, كعلم الاجتماع ، و علم النفس, وغيرهما.
وربما درست للطلاب أشياء مخالفة للدين فيدرس الربا على أنه فوائد ، ويدرسون كيفية حساب الفائدة, حتى إنه يلقى في روع الطالب أن الاقتصاد لا يقوم إلا على الربا.
وربما يوكل للأستاذ الجامعي وضع المنهج وقد لا يكون على مستوى المسؤولية.
- المدارس الخاصة والأجنبية ، ومنها الجامعات الغربية المقامة في بلاد المسلمين :
وذلك لأنها لا تخضع في مناهجها ومدرسيها للدولة بشكل مباشر, وبالتالي تكون مجالاًََََََ خصباً لبث ما يريدون, كما أن هذه المدارس قد تتعدد فيها الديانات ولاسيما المدارس الأجنبية مما يخفي عند الطالب المسلم عقيدة الولاء والبراء أو يضعفها ؛ لأنه يرى أستاذه نصرانياً وزميله كذلك وهو يعاشرهم ويعيش معهم مما يضعف البراء من الكفار.
كما أن هذه المدارس ربما تمارس أنشطة غير منهجية فيها مخالفات للدين.(12/162)
من أخطر آثار هذه المدارس أنها تجذب الأنظار إليها بما تملكه من وسائل تعليمية عالية, وبما تتمتع به من تنظيم إداري فائق, كما أنها تهتم باللغات الأخرى ، مما يجعلها محط أنظار فئات خاصة من المجتمع, هذه الفئات تتخرج من هذه المدارس لتتولى المناصب في مجتمعاتهم ، مما يجعلهم سنداً بعد ذلك لقادة الغزو الفكري.
- تقليل الاهتمام بمواد الدين:
ويتم ذلك بما يلي:
- تقليصها في الجدول الدراسي.
- دعوى صعوبتها, وصعوبة فهمها.
- جعلها في آخر الجدول اليومي, مما يجعلها في وقت تعب وملل.
- التقليل من شأن مدرسها.
- دعوى أنها لا تلبي حاجة المجتمع.
- دعوى أن الطالب ربما يستفيدها من خارج المدرسة.
- جعلها مادة لا يترتب عليها نجاح الطالب, وإنما للفائدة فقط.
- جمع مواد الدينية كلها تحت مسمى واحد كأن تسمى مادة الثقافة الإسلامية مثلاً, أو مادة إسلامية, أو دين أو تربية إسلامية وهكذا.
- حصر الدين في المواد الشرعية وإخراج العلوم الأخرى
كالاقتصاد والاجتماع وعلم النفس و العلوم الإدارية والعلوم التطبيقية.
- تدريس المواد غير الشرعية بعيداً عن الدين فالاقتصاد بعيد عن الإسلام أو فيه مخالفات شرعية كثيرة, وعلم الاجتماع كذلك , وعلم النفس كذلك , والعلوم التطبيقية لا تربط بقدرة الله ، وإنما الطبيعة هي كل شيئ ..
- تقسيم المدارس أو التخصصات إلى دينية وغيرها
مما يولد الشعور عند الطالب أن الدين لا يصلح في التخصصات الأخرى.
- تهيئة الفرص الوظيفة لخريجي الأقسام غير الشرعية, وتقليل هذه الفرص بالنسبة لخريجي الأقسام الشرعية, مما يجعل الطالب لا يحرص على دخول هذه الأقسام.
- هدم اللغة العربية: ويتم هذا بما يلي:
- الدعوة إلى كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية بدعوى أن الحركات لا تكتب.
- الدعوة إلى العامية والبعد عن الفصحى.
- دعوى صعوبة اللغة العربية وعدم قدرة النشء على تعلمها.
- الدعوة إلى تعلم اللغات الأجنبية, وربما للصغار مما يفسد لغتهم الأصلية.
- تشويه التاريخ الإسلامي: ويتم هذا بما يلي:
- تصوير أن الإسلام لم يعش إلا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين, وما بعده انحرف المسلمون عن الإسلام.
- إبراز مظاهر الانحراف التي حدثت في عصور الإسلام, وجعلها هي الأصل والأساس ، وبالذات الانحرافات السياسية.
- إلصاق التهم السيئة بنوايا الفاتحين, وبنوايا المصلحين ، كاتهام الفتوحات الإسلامية بأنها نوع من الاستعمار.
- تمثيل المواقف الإسلامية أو المعارك بتشويه متعمد, فهذا القائد يحب ابنة الخصم أو يحب أخرى ، وعلاقات الحب تمثل مع عدم وجود مستند تاريخي لها ، وكتابات جورجي زيدان في التاريخ الإسلامي شاهد على ذلك.
- الاختلاط:
وهذا يكون في مسلك التعليم وفي غيرة, فأما في التعليم فيتم في البداية في الروضة ، وفي المختبرات في الجامعات ونحوها ، ثم في المراحل الأولية من الدراسة الابتدائية ، ثم يتطور بعد ذلك إلى ما هو أكثر.
هذا في المدارس الحكومية وأما المدارس الأجنبية فالأمر مختلف فالاختلاط فيها ظاهر سواء بين الطلاب والطالبات أو بين المدرسين والطالبات أو بين المدرسات والطلاب أو بين المدرسين والمدرسات.
وأما غير التعليم فالاختلاط يكون في المستشفيات ، وفي الحدائق ، وفي مطاعم العوائل ، وفي الأسواق ، وفي المنتزهات وغيرها.
- الابتعاث:
ويعني إرسال أولاد المسلمين إلى البلاد الكافرة للتعلم هناك وهذا قد تضطر له الدول الإسلامية لتتعلم العلوم التي سبقتنا فيها البلاد الكافرة, ولكن الإشكال حينما يفتح الابتعاث على مصراعيه لكل أحد ، وبدون ضوابط ولا عوامل حماية للمبتعثين, فيذهب المبتعث ويرجع بفكر غير الذي ذهب به.
- الدعوة إلى تعلم اللغة خلال الصيف في مدارسهم ومعاهدهم في بلادهم الكافرة, فيذهب الشاب إلى هناك ، وربما سكن مع عائلة كافرة ، مما يجعل فرصة تأثره بأفكارهم ومعتقداتهم سانحة, وربما احتقر بلاده وتعاليم دينه.
- نشر الأفكار الهدامة التي تدعو إليها بعض المؤتمرات والمنظمات والجمعيات العالمية.
- الحديث عن أعيادهم ، ونشر ما يحدث فيها كعيد الميلاد وعيد الحب.
- الدعوات إلى الفرق والأديان الباطلة.
- زعم التقريب بين الأديان, والدعوة إلى الندوات والمحاضرات والمؤتمرات لمناقشة هذه القضية.
- محاولة نشر الكتب أو الكتيبات أو النشرات التي تدعو إلى أديان باطلة أو تشكك في الدين الإسلامي.
- الدخول من باب الأدب لحرف الفكر الإسلامي, فتارة عن طريق الحداثة ، وتارة عن طريق القصص الغرامية, وتارة عن طريق فكر مخالف للدين بدعوى الحرية الفكرية.
- نشر الأدبيات المنحرفة وتمجيد أصحابها, سواء كان عن طريق القصة أو الشعر أو غيرها, وكتاب في جريدة شاهد على ذلك.
- ترجمة غير المفيد من اللغات الأخرى فلا تترجم الكتب العلمية المفيدة و إنما تترجم الغراميات ، أو التي تحمل الأفكار العلمانية أو الإلحادية.
- استغلال الإذاعة أو التلفزيون أو القناة الفضائية لبث الأفكار التي يريدون.
- استغلال العادات والتقاليد:
ويتم عن طريقين:
أ- استغلال واقع خاطئ يعيشه المجتمع المسلم أفرزته العادات والتقاليد البعيدة عن الإسلام, فيقوم هؤلاء باستغلال هذا الوضع ويهاجمونه هجوماً شديداً لا لرد الناس إلى الحق ولكن للشطوح بهم بعيداً عن الدين.
- الطريق الثاني:
الحرص على جعل تعاليم الإسلام عادات وتقاليد مما يهون من شأنها ويسهل تركها, كالحجاب مثلاً.
- إفساد المرأة:
والدعوة إلى تغريبها وسفورها واختلاطها ، ولهم في ذلك طرق كثيرة ودعوات مغرضة ؛ لأنهم يعرفون أهمية المرأة ودورها في المجتمع.(12/163)
- استغلال النكبات في العالم الإسلامي بدعوى تقديم العون للمنكوبين المحتاجين ، وهم في الحقيقة لا يقدمون العون إلا مع تقديم أفكارهم ومعتقداتهم.
- السيطرة على مصارف النقد ومحاربة الاقتصاد الإسلامي لإضعاف المسلمين ، وبالتالي السيطرة عليهم.
- تكثيف الدراسات الاستشراقية ، والاهتمام بها ؛ لتسهل السيطرة على العالم الإسلامي
- القيام بالعمليات التنصيرية ، ورصد الأموال الطائلة ، والجهود الكبيرة لإنجاحها .
- اختراع مصطلح العولمة لإذابة الفكر الإسلامي ، بل ليس سراً أن نقول إن العولمة هو المصطلح الجديد للغزو الفكري .
- الضغوط الخارجية على الحكومات المسلمة لئلا تقف في وجه الغزو الفكري.
- الدعم السياسي للغزاة المحليين ممن هم على شاكلتهم, ولذا ليس سراً صلة حركات التغريب بالاستعمار وبالدول الكافرة بعد الاستعمار.
1 واقعنا المعاصر ص195.
2 المرجع السابق ص196.
3 الخليج العربي دراسة في الجغرافيا السياسية ص281.
==============
الغزو الفكري وآثاره 2 / 2
تحدث فضيلة الشيخ في المقال السابق عن تعريف الغزو الفكري ونشأته ، وأهداف الغزو الفكري، وسائل الغزو الفكري ، وفي هذا المقال الأخير سيتحدث عن آثار الغزو الفكري، وأسباب التأثر بالغزو الفكري ، ووسائل التحصين ضد الغزو الفكري.
إدارة الموقع
رابعاً: آثار الغزو الفكري:
لا شك أن الغزو الفكري أثر على المسلمين, ولكن هذا التأثير يتفاوت من بلاد إلى بلاد ومن منطقة إلى أخرى.
ويمكن رصد بعض التأثيرات لهذا الغزو بما يلي:
1- تحريف العقيدة الإسلامية ، وتشويهها ، وإثارة الشكوك حولها ، كما فعل المستشرقون وتلامذتهم من أبناء المسلمين ..
2- إضعاف الشعور الإسلامي عند المسلمين.
3- إضعاف روح الاخوة والشعور بالجسد الواحد بين المسلمين بتقسيم المسلمين إلى دول وأحزاب ، وإثارة النعرات القومية والإقليمية.
4- التشكيك بقدرة المسلمين على قيادة العالم وبناء حضارة إسلامية جديدة.
5- إضعاف عقيدة الولاء والبراء.
6- استعارة نظم التربية والتعليم.
7- تقليد الغرب في عاداتهم وتقاليدهم وأخلاقياتهم.
8- استعارة القوانين والنظم الغربية في السياسة والاقتصاد والاجتماع وغيرها.
9- إضعاف روح الجهاد والدفاع عن الأمة لمقاومة هؤلاء الغزاة.
10- الإفساد الأخلاقي.
11- نشر المذاهب المنحرفة كالعلمانية والحداثة وغيرهما.
12- ربط الدول الإسلامية بالدول الكافرة من الناحية السياسية ومن الناحية الاقتصادية
خامساً: أسباب التأثر بالغزو الفكري:
1- البعد عن الدين الإسلامي.
2- الجهل بأساليب الغزو الفكري.
3- عدم أدراك خطورة الغزو الفكري.
4- ضعف التحذير منه.
5- الرغبة في تقليد من يرى أنه الأقوى.
سادساً: وسائل التحصين ضد الغزو الفكري:
1- كشف الغزو الفكري ومخططاته وأهدافه ووسائله للسيطرة على المسلمين فكرياً, والاهتمام بالدراسات التي تعنى بالغزو الفكري.
2- توعية الناس بأخطار هذا الغزو ، وتبصيرهم بما يستهدفهم من الغزو الفكري.
3- بيان دور المجتمع بكافه طبقاته في مقاومة هذا الغزو.
4- نشر الوثائق والكتب, وعقد الندوات والمؤتمرات لبيان هذا الخطر.
5- تدريس أخطار هذا الغزو للطلاب في بعض مراحل التعليم.
6- الاهتمام بالجيل القادم وتربيتهم تربية إيمانية صحيحة.
7- الاهتمام بتدريس العقيدة الإسلامية الصحيحة, وتكوين الشعور بالاعتزاز بهذه العقيدة, ؛ لأن المسلم حينما يتسلح بهذه العقيدة لا يتأثر بالعقائد الفاسدة.
8- طرح الفكر الإسلامي الصحيح كبديل عن الغزو الفكري ، وحماية المفكرين الإسلاميين, وإتاحة الفرصة لهم في وسائل الإعلام المختلفة لإبداء أفكارهم.
9- توثيق صلة الشباب بالعلماء والمربين الناصحين.
10- إعداد المعلم الناجح ليكون قدوة يؤمن جانبه.
11- قيام الحكام والعلماء والقضاة ورجال الحسبة بدورهم في محاربة وسائل الغزو الفكري.
12- قيام وسائل الإعلام بواجبها في كشف وسائل الغزو الفكري ومحاربته والتحذير منه.
13- قيام المجتمع بكافة قطاعاته بدءاً بالأسرة بواجبه تجاه الشباب.
14- التوعية بالتاريخ الإسلامي ، وبيان أهميته ، وبيان ما ألصق به من تهم باطلة.
15- الانتباه لوسائل الإعلام المختلفة ومراقبتها مراقبة دقيقه سواء كانت كتباً أو نشرات أو إذاعة أو تلفزيون أو قناة فضائية وغيرها.
16- التأكد من وجود ضمانات وقيود على أي نشاط للغزو الفكري, وسد الثغرات التي يتسلل منها الغزو الفكري.
17- إغلاق أي مكان يكون منطلقاً للغزو الفكري كبعض المستشفيات أو بعض الفنادق ، أو بعض المدارس .
18- الاهتمام بالتعليم الخاص والإشراف المباشر عليه, وإخضاع هذه المدارس لمراقبة الدولة بشكل دقيق, بحيث تضمن خلو مناهجها وسلامة مدرسيها من الأفكار الهدامة, وضمان عدم قيامها بأي نشاط مشبوه.
19- تنظيم الابتعاث واقتصاره على المحتاج فقط, وتشجيع الطلاب على الزواج قبل الابتعاث, وعقد دورات لهم قبل الابتعاث وبعده, ومطالبتهم بالعودة إلى بلادهم في كل عام مرة حتى لا تنقطع صلتهم بمجتمعهم المسلم.
20- الاهتمام بأقسام الثقافة الإسلامية في الجامعات الإسلامية ؛ لأن هذه الأقسام هي التي تعنى بشكل أكبر بدراسة مثل هذه الأفكار وبحثها .
21- تكثيف الدعوة إلى الله.
22- العناية بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وتوسيع نطاق عمله ، وتشجيع القائمين به ، وحمايتهم ، وتوعيتهم ، وتثقيفهم ليقوموا بعملهم على أفضل وجه.
23- تطبيق الحكم الشرعي على المروجين للأفكار الهدامة.
وفي الختام أسأل الله أن يحفظنا من كيد الفجار وأن يجعل كيدهم في نحورهم ز(12/164)
وأسأل الله -عز وجل- أن يحقق بهذه المقالات الأهداف المرجوة منها ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
================
دور المرأة في بناء شخصيتها 1/2
إن على المرأة أن تهتم ببناء نفسها فتربيها على القيام بأعمال تقربها إلى الله وتترك ما نهى الله عنه ، وبمعنى آخر عليها أن تستقيم على نهج الإسلام وتلتزم بما جاء به من أحكام ، أي نطلب منها أن تكون مستقيمة أو كما يقال ملتزمة بعض النساء تجدها ترتكب بعض المعاصي وتقصر في الطاعات خصوصاً الفتيات ولا شك أن لهذا أسباباً سنذكرها إن شاء الله في معوقات البناء .
كما نجد بعض الصالحات وقد قصرن في بعض الأمور فقد تجدها صالحة ولكنها لا تدعو إلى الله، و تجدها صالحة ولكن لا تتعلم العلم الشرعي، وتجدها صالحة ولكن أخلاقها سيئة وتجدها صالحة وقد أهملت في حق زوجها وهكذا إذن الالتزام الذي نريد لا يقتصر على لبس الحجاب الشرعي وعدم مشاهدة التلفزيون فقط ، لا بل هناك أمور ينبغي على الملتزمة المستقيمة الصالحة أن تبني نفسها عليها من هذه الأمور :
أن تكون امرأة هادفة : بمعنى أن لها هدفاً في الحياة، لا تعيش هكذا ، تقوم تأكل تصلي تنام ، لا : المفترض أن يكون لك هدف ، وهدف سامي كأن يكون هدفك تربية أولادك وتهيئتهم ليكونوا من الصالحين المصلحين ليكونوا من المجددين لهذه الأمة أمر دينها ، يكون هدفك إصلاح أسرتك ، جيرانك يكون هدفك حفظ القرآن كاملاً ، يكون هدفك أن تطبقي الحياة الإسلامية كاملة في بيتك .
طلب العلم الشرعي : من المؤسف أن كثيراً من النساء جاهلات وشبه جاهلات في أمور دينهم ، حتى وهن متخرجات من الجامعة أو جامعيات
عليك أيتها الأخت بطلب العلم الشرعي، وذلك بمعرفة ما لا يعذر المسلم بالجهل به ، أو ما يسمى بفرض العين كتعلم أمور الطهارة والصلاة مما تحتاجين إليه، ثم تزيدين على ذلك بأن تبدأي بالقرآن الكريم ، كيف تقرأينه ، القراءة الصحيحة ، ثم كيف تحفظينه أو جزءاً منه ، ثم معرفة معاني الكلمات أو الجمل غير الواضحة بالنسبة لك ، كيف تقرأين أو تسمعين كلام ربك وأنت لا تعرفين معناه لو سألت متعلمة جامعية أو دونها بقليل أو قد تكون أعلى بقليل عن معنى كلمة من القرآن لم تعرف . ما معنى المسد ، الصمد ، غاسق ، وقب ، عصف ، عهن ، عاديات ونحو ذلك من الكلمات الموجودة في السور القصيرة التي تكررينها تقريباً كل يوم في حياتك .
ثم تتعلمين الأحاديث وخصوصاً أحاديث الأحكام ما يخصك منها وأحاديث الأذكار، ما أذكار الصباح والمساء ما أذكار الصلاة وما بعد الصلاة ، ماذا تقولين عند دخول الخلاء وعند الخروج منه ، ماذا تقولين عند البدء بالأكل وعند الفراغ منه ، هل تحفظين دعاء السفر ، ماذا تقولين في عمرتك أو حجك وهكذا .
ثم تتعلمين ما يتعلق بعقيدتك الإيمان بالله وماذا يتضمن وماذا يخالفه ، الإيمان بالملائكة والكتب المنزلة ورسل الله واليوم الآخر وتعرفين ما يقدح في التوحيد سواء كان ينافيه أو ينافي كماله ، معرفة البدع التي تقعين فيها و يقع فيها أقرباؤك أو من تعرفين من النساء وهكذا تتعلمين الأحكام الفقهية للنساء كيف تطهر المرأة كيف تغتسل ، ماذا تصنع في الحيض وكيف تطهر منه وتتطهر . كيف تصلي . كيف تزكي ، كيف تصوم كيف تحج وتعتمر ، تتعلم ما يتعلق بأمور النكاح وهكذا.
ثم تنمين ثقافتك بإطلاعك على ما يخطط له الأعداء لإفسادك ، تعرفين ألاعيبهم ولا تنطلي عليك خدعهم .
وتستطيع المرأة أن تحصل على ما تريده من علم عن طريق ما يلي :
1. الدراسة المنهجية الشرعية ، وأخلصي فيها لئلا تكون حجة عليك .
2. حضور دروس العلم للمشايخ في المساجد ، وهذا ولله الحمد متوفر .
فما من درس إلا وفيه مجال لحضور النساء في الغالب ، احضري هذه الدروس أو ما يتيسر منها ولو واحداً في الأسبوع ، وإذا حضرت احضري معك الكتاب الذي يشرحه الشيخ وعلقي معه ما يذكر من فوائد ، راجعي ما شرح وحاول أن تقرأي ما سيشرحه في الدرس القادم .
أما مجرد الحضور هكذا بدون كتاب أو بدون تعليق فالفائدة منه قليلة .
3– الاستماع للأشرطة النافعة وهذا أمر ميسور للنساء جميعاً ولله الحمد.
4– الاستماع لإذاعة القرآن الكريم وخصوصاً ما فيها من فتاوى لهيئة كبار العلماء .
5– قراءة الكتب النافعة والسؤال عما يشكل فيها .
6– سؤال العلماء أو طلبة العلم الموثوقين عما يشكل عليك . تقول عائشة رضي الله عنها( نعم النساء نساء الأنصار لم ينعهن الحياء أن يتفقهن في الدين)، وعند السؤال لابد من صياغته الصياغة الحقيقية ولا تتلاعبي فيه ، بعض النساء إذا كانت تود أن يكون الحكم بالإباحة صاغت السؤال بطريقة غير صحيحة وضخمت بعض الجوانب وهونت جوانب أخرى وهذا لا يجوز اذكري الواقع كما هو حتى تحصلي على الإجابة الصحيحة .(12/165)
ثم هنا تنبيه وهو أن بعض النساء تسأل أكثر من شيخ لتتبع الرخص تسأل هذا فإن أفتاها إن هذا حرام ذهبت تسأل آخر وهكذا وهذا خطأ ثم بعد طلب العلم ابني نفسك أيتها الأخت على العبادة فرضها ونفلها ، الفرض بأدائه على وجه الصحيح مع الحرص على الإتيان بواجباته ومستحباته ، الصلاة مثلاً تؤدينها بخشوع وطمأنينة ، لماذا عودت نفسك على الاستعجال فيها لماذا لا تعودين نفسك على التمهل والتأني فيها والتدبر لما تقولين فيها، ثم السنن الرواتب ابني نفسك على ألا تفرطي فيها ، قيام الليل ولو قليلاً ، لماذا السهر إلى وقت متأخر ثم النوم عن صلاة الفجر، لماذا الاستعجال في صلاة العشاء إذا كانت هناك مناسبة وتودين أن تتعجلي لها صليتي العشاء بسرعة أو ربما أخرتيها إلى أن ينتهي وقتها بحجة أنك لا تريدين الوضوء لئلا يفسد المكياج ونحوه ، لماذا عدم الاهتمام بالصلاة مع أنها أول ما يحاسب عنها العبد .
ثم الصيام عودي نفسك على صيام النافلة ولو يوماً في الشهر ، لا يمر الشهر بدون صوم فإن استطعت صيام الاثنين والخميس أو ثلاثة أيام من الشهر فذلك فضل عظيم كذلك قراءة القرآن لا ينتهي اليوم دون قراءة كتاب ربك اجعلي لك مقدار تقرئينه يومياً، لماذا تقرئين كل شيء إلا القرآن .
تقرئين الصحيفة (الجرائد) أو على الأقل دروسك وربما لم يكن عليك اختبار ولكن ترغبين في التفوق ولا تقرئين القرآن تجدين فيه النور والهدى وانشراح الصدر والبعد عن الهموم ، والأمراض النفسية ، كذلك الذكر احرصي عليه ، اجعلي لسانك دائماً بذكر الله وأنت تعملين في المطبخ وأنت ذاهبة في السيارة في كل وقت حاولي أن تذكري الله سبحان الله الحمد لله لا إله إلا الله أكبر لا حول ولا قوة إ لا بالله ، أستغفر الله ، سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم ، وهكذا ، احرصي أيضاً أن تبني نفسك على التصدق ، الصدقة في سبيل الله بقدر ما تستطيعين أنقذي نفسك من النار : (( يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار )).
كذلك تبنين نفسك على الدعوة إلى الله ، وسيأتي مزيد كلام عن هذا في دور المرأة في بناء غيرها أو المرأة والدعوة .
كذلك تبنين نفسك على حسن الخلق والتخلق بالأخلاق الحسنة، الحياء، الصبر، الكرم، الإيثار، التواضع ولين الجانب ، البشاشة، السماحة، طلاقة الوجه، الصق والبعد عن الكذب، البعد عن السب والشتم، إعانة المسكينة ، مساعدة الضعيفة، الإحسان إلى الأخريات، تعينها على القيام بأعمال منزلها خصوصاً إذا كانت عندها وليمة ، ما المانع أن تكلمي عليها وتقولين لها سأجهز أنا كذا وكذا وتذهبين به إليها أو ترسلينه ، هذا فيه مساعدة لأختك المسلمة وفيه أجر كبير
==============
دور المرأة في بناء شخصيتها 2 / 2
ذكر الشيخ في الجزء الأول من مقالته كيف تبني المرأة شخصيتها السوية عن طريق العلم الشرعي وسؤال العلماء ثم يكمل الشيخ في هذا الجزء بعض الأخلاقيات التي على المرأة التحلي بها لبناء شخصيتها ثم يذكر العوامل المساعدة في ذلك .
كذلك تبنين نفسك على ترك المعاصي سواء ما تعلق باللسان كالكذب والقذف (اتهام البريئة بالزنا) والسب والشتم والقول على الله بغير علم لا تفتي للنساء بدون علم هذا حلال وهذا حرام وأنت لا تعرفين وإنما مجرد توقعات ، الغيبة والنميمة ونحو ذلك .
كذلك ما يتعلق بالنظر كالنظر إلى الرجال سواء كان عن طريق الأفلام أو الواقع أو المجلات أو النظر إلى المجلات الفاسدة التي تسخر بتعاليم الإسلام وتحاول إفساد المرأة ، النظر في الكتب الفاسدة أو القصص الغرامية ، كذلك ما يتعلق بالسمع فلا تسمعي الأغاني ولا المعازف ولا تستمعي لحديث امرأة وهي لذلك كارهة ، لا تجسسي على خلق الله لا تخضعي بالقول ،
لا تبني نفسك على معصية مما يصعب عليك مفارقتها ، إياك والمعاكسات والتبرج والخروج متعطرة اجتنبي المعاصي بقدر ما تستطيعين .
كذلك ابني نفسك على عدم التوسع في المباحات ، لا تكثري النوم ، يذهب نصف اليوم في النوم ، لماذا تنفقين أموالاً طائلة في تفصيل ثوب لمناسبة ما وما أن تلبسينه مرة واحدة حتى يركن فلا يستعمل مرة أخرى لأنه رؤي عليك لماذا المبالغة في التزين وصرف الأوقات الطويلة من أجله ، تجلسين عند المرآة بالساعة لماذا ، نعم لا تتركي المباحات ولكن لا تكن هي همك .
كذلك ابني نفسك على اغتنام الوقت وسيأتي مزيد كلام في هذا في المرأة والوقت عند الكلام على شخصية المرأة وقضايا ملحة .
كذلك ابني نفسك على احترام الحياة الزوجية ، وسيأتي أيضاً تفصيل ذلك كذلك ابني نفسك على تربية أولادك التربية الصحيحة ، أمرهم بالصلاة وتعويدهم عليها، الاهتمام بهم وعدم تركهم للخادمة ، حثهم على حفظ القرآن الكريم معالجة مشكلاتهم وما يبدر منهم من تصرفات كالسب والسرقة والشتم والميوعة ، تحذيرهم من أصدقاء السوء ذكوراً أو إناثاً، معالجة بعض الأمور النفسية عندهم كالخجل الزائد، الخوف، الحسد ، العناد، تعليمهم احترام الآخرين وبالأخص الوالدين تعليمهم ببعض الآداب آداب الطعام آداب اللباس آداب الكلام آداب المجلس وهكذا تعليم البنات خصوصاً ما يتعلق بالحيض والحجاب، وربطهن بتعاليم الإسلام وغرس هذه الأشياء على أنها طاعة لله لا على أنها عادات وتقاليد وماذا يقول الناس عنها .
وعموماً ذكرت الكثير من ذلك وغيره في تربية الأولاد على الآداب الشرعية فليسمع، كذلك تبني نفسها على معرفة الواقع الذي يدور حولك ومخططات الأعداء في إفسادك ومطالعة بعض المجلات الإسلامية في ذلك .
العوامل المساعدة في بناء نفسك(12/166)
ذكرت في محاضرة بناء النفس هذه العوامل وسأذكرها الآن بشكل مختصر سريع فمن هذه العوامل :
* الصبر والمجاهدة : لأن بناء النفس فيه مشقة فتحتاجين إلى الصبر صبر على طاعة الله وصبر على معصية الله .
* المحاسبة : تحاسبين نفسك على أعمالك .
* المراقبة : تراقبين الله في ترحكاتك وسكناتك في أقوالك وأفعالك ، وتستحضرين مراقبة الله لك في كل وقت .
* معرفة طبيعة النفس وأنها ميالة إلى السكون والدعة والبطالة .
* معرفة وظيفتك في الحياة وأنها ليست لجمع الأموال وإنما هي لعبادة الله .
* البيئة الصالحة : سواء كانت في البيت أو المدرسة والزميلات .
* قراءة سير السلف الصالح لتبعث في النفس النشاط والهمة .
* تذكر الآخرة : وما فيها والقبر وما فيه .
* الممارسة العملية : يعني تمارسين ما ذكرنا لأنك بالممارسة تستفيدين ثلاث فوائد :
- أشعرت نفسك أن هذا الأمر ليس مستحيلاً بل أنت قادرة عليه ، فمثلاً المرأة التي تجد صعوبة في القيام لصلاة الفجر تشعر أن قيام الليل بالنسبة لها مستحيل . فلو قامت ليلة ثم قامت ليلة أخرى وهكذا فإنها حينئذ ستشعر أن قيام الليل ممكن وليس أمراً مستحيلاً .
- إذا مارست العمل ستجدين له لذة ، وحصول هذه اللذة تدفعك إلى أن تعمليه مرة أخرى ، مثل : إذا جلست بعد صلاة الفجر وحفظت شيئاً من القرآن بعد الانتهاء تشعرين بلذة مما يدفعك إلى أن تعمليه مرة أخرى .
- إذا مارست العمل كسرت حاجز عدم الجرأة ، فمثلاً تريدين إنكار منكر على امرأة زميلتك مثلاً فأنت تترددين في ذلك حتى تمارسي الإنكار فإذا أنكرت مرة ثم مرة أصبحت جريئة في هذا الأمر .
* علو الهمة وعدم الرضا بالواقع الذي أنت فيه ، بعض النساء تقول الحمد لله أنا أحسن من غيري ، نصلي ونصوم ، ما سرقنا ولا زنينا ، وهذا ولا شك أمر طيب ولكن لماذا تقتصرين على هذا أنت تصلين الفريضة ما الذي يمنعك أيضاً أن تزيدي نوافل سنن رواتب أو قام ليل ونحوهما .
* تدبر القرآن .
* الدعاء فلا خاسر مع الدعاء .
هذه بعض الأسباب وهناك غيرها ولكن رغبة في الاختصار وعدم الإعادة بالتفصيل ذكرت هذه .
===============
الابتعاث إلى الخارج ..آثار وأخطار
الحدث:
بدأ أكثر من 10000 طالب سعودي بمختلف المراحل التعليمية البحث عن قبول في الجامعات الأمريكية بعد أن قامت وزارة التعليم العالي بإرسال الضمانات البنكية التي توضح بأن التعليم السعودي سوف يتكفل بتكاليف الدراسة كاملة في حال قبولهم. [ العربية نت: الأربعاء 20 رجب 1426 هـ ] .
التقرير :
لقد رأينا من آثار الابتعاث للخارج كيف تساق الأمة سوقاً وتقهر قهراً على أتباع سنن أهل الكتاب حذو القذة بالقذة شبراً بشبر وذراعاً بذراع كما جاءت النصوص، وأن هذا ما كان ليتحقق لولا فتح باب التلقي عنهم والانغماس في سوادهم.. وتحسين مسلكهم.. والانبهار بكل ما يأتي عنهم دون تبصر أو تفكر، ووقوع الفتنة بتوليهم ومحبتهم في مقابل خلع ولاية الإيمان.
ونحن بصدد دراسة أهم المخاطر الناجمة عن ابتعاث أبناء المسلمين وبناتهم إلى بلادهم :
أولاً : الخطر العقدي:
المتأمل في تاريخ بعض الشخصيات التي تربت في هذه المحاضن يجد أن شؤم التحاق فرد ربما عاد على الأمة كلها بالضرر الكبير، ولدينا أمثلة من حاضرنا تتمثل في أتاتورك رغم أصوله المتصلة باليهود؛ لكن طبيعة نشأته وتكوينه هو ومجموعة الاتحاد والترقي هي التي حركته في الاتجاه الذي سار فيه، و«سنجور» حاكم السنغال السابق الذي نصَّرته مدرسته ـ بينما لا يزال أهله مسلمين ـ وتولت إعداده ليتولى حكم دولة مسلمة بنسبة 99% ويحارب فيها الإسلام، وبعد أن افتضح أمره تفرغ للتنصير، وأقيمت جامعة تحمل اسمه لإعداد المنصِّرين في بلاد المسلمين.
وقل ما هو أعظم من ذلك عن إسماعيل باشا خديوي مصر الذي عاد مع أول بعثة من فرنسا وهو يحلم بتحويل مصر إلى قطعة من فرنسا، ودوره الخطير في تمكين أعضاء المحفل الماسوني من حكم مصر، والسيطرة على قطاع واسع من المنطقة العربية، والذي أغدق الهبات على بعثات التنصير الفرنسية المتعاونة مع الاستعمار من الصين إلى أعماق أفريقيا، وقد ورد في رسالة مسيو «بوجاد» قنصل فرنسا في مصر في 2/5/1869م: «أن إسماعيل منح رئيس أساقفة اللاتين بمصر قطعة أرض مساحتها: 3500 ذراع في موضع حسن جداً (150 ألف فرنك ذهب)، ومنح الراهبات إعانة سنوية (6 آلاف فرنك ذهب) وهبة (200 ألف فرنك)، ومنح أساقفة اللاتين منحة أخرى هي أرض مساحتها 6 آلاف ذراع».
لقد كان شؤم هؤلاء الثلاثة على عقيدة الأمة وعلى عافيتها أمراً لا يمكن الإحاطة بمداه؛ لأن تبعاته ما زالت تتوالى علينا، وقد كان جهدهم ناتجاً عن عقيدة نجح التعليم في تشكيلهم عليها.
ثانياً : الخطر التعليمي والتربوي:
لو تفحصنا نظرة التربويين إلى عملية التربية لوجدنا أن الأمم الغربية كان لديها حساسية من استعارة معايير خارجة عن المجتمع وظروفه وأهدافه العليا حتى وإن اتفق الطرفان في جزء كبير من العقيدة واللغة والتاريخ. يقول كونانت أستاذ التربية الأمريكي الشهير في كتابه: (التربية والحرية): « إن عملية التربية ليست عملية تعاط وبيع وشراء، وليست بضاعة تصدر إلى الخارج أو تستورد إلى الداخل، إننا في فترات من التاريخ خسرنا أكثر مما ربحنا باستيراد نظرية التعليم الإنكليزية والأوروبية إلى بلادنا الأمريكية»
ثالثاً: الخطر على الهوية(12/167)
خرَّج الابتعاث إلى الدول الغربية عشرات الأجيال من المتغربين: منهم من خلع عن نفسه ربقة الإسلام كلية واستبدل بها ما دونها، ومنهم من تشبع بانهزامية وانسحاق أمام الغرب، ومنهم من لم تكن العقيدة ذات بال عنده فانسلك في سياق مادي وقدم نفسه عميلاً أينما وضعه الغرب وجده، ومنهم من انكمش داخل ذاته، ومنهم من رفض كل ذلك لكنه بقي مخترَقاً ببعض القيم الغربية التي تحول بينه وبين الحركة الصحيحة، ومنهم من ثبت على دينه .
وهذه السنوات التي يقضيها أولادنا في جامعات الغرب كفيلة بصياغة أخلاقهم ، وتكوين أذواقهم ، والأهم أنها علمتهم اللغات الأوروبية التي جعلتهم قادرين على الاتصال المباشر بالفكر الأوروبي، فصاروا مستعدين للتأثر بالمؤثرات التي احتكوا بها أيام دراستهم .
إن إحدى كبريات المعضلات التي يخلفها الابتعاث للدراسة في الغرب هو غرس بذرة القابلية للاستعمار لدى نفوس أتباعه. يقول المستشرق جب: ( إن التعليم هو أكبر العوامل الصحيحة التي تعمل على الاستغراب، وإن انتشار التعليم (أي على الطريقة الغربية) سيبعث بازدياد ـ في الظروف الحاضرة ـ على توسيع تيار الاستغراب وتعميقه، ولا سيما لاقترانه بالعوامل التعليمية الأخرى التي تدفع الشعوب الإسلامية في نفس الطريق) .
وقد أشارت بعض الصحف والمجلات إلى ضعف قضية الولاء لدى خريجي هذه الجامعات، سواء على مستوى الدين أو على مستوى الدولة أو على مستوى المجتمع.
وأخطر من الاستعمار السياسي والاقتصادي ما يعرف بالاستلاب العقدي .
يقول المستشرق "شاتلي": "إن أردتم أن تغزوا الإسلام وتخضدوا شوكته وتقضوا على هذه العقيدة التي قضت على كل العقائد السابقة واللاحقة؛ فعليكم أن توجهوا جهود هدمكم إلى نفوس الشباب المسلم والأمة الإسلامية بإماتة روح الاعتزاز بماضيهم المعنوي وكتابهم القرآن، وتحويلهم عن كل ذلك بواسطة نشر ثقافتهم وتاريخهم، وحتى لو لم نجد إلا المغفلين منهم والسذج والبسطاء منهم لكفانا؛ لأن الشجرة يجب أن يتسبب لها في القطع أحد أغصانها"
ومع أن الابتعاث للخارج فيه جوانب إيجابية لا تنكر ؛ ولكنها بمثابة ما في الخمر من فوائد؛ لأنها وهي كذلك تعطي مفاتيح مغلوطة للعلم من حيث كنهه وهدفه ووسائل تحصيله ومجالات استثماره خاصة حين يصب في خدمة أعداء الله. نعم! هي تعمل على تنمية الفرد ثقافياً وتجعله يفكر بطريقة منظمة لكن في إطار ما تريد هي، وينتفي هذا النظام إذا تعلق الأمر بالإسلام أو الثقافة أو الحضارة العربية. إذن هي لا تعطيه قيماً تعليمية أو تربوية مطلقة يمكنه من خلالها التفكير المستقل عن الإطار الذي رسم له .
رابعاً : الخطر الأمني
يتسع مفهوم الأمن ليشمل إلى جانب أمن النظام كمظلة وأمن المجتمع كمحضن ليشمل أمرين سابقين مقدمين عليهما وهما: العقيدة بوصفها أساساً يقوم عليها النظام والمجتمع، والولاء باعتباره صلة تربط بين مكونات المجتمع والدولة. والمفترض أن تعريض واحد من هذين الأمرين للخطر حتى ولو على مستوى فرد يعني تعريض أمن الأمة للخطر. وللأسف فإن نظرية الأمن القومي الأمريكي قد راعت هاتين المسلَّمتين ـ بينما أغفلت في الحس العربي ـ ولكن بنظرتها المخالفة؛ لكنها تقيم لفكرها المنحرف وإنسانها مهما كان وأين كان هذا الاعتبار الأمني.
ومن ثم فإن خطر الابتعاث على أمن الأمة لا بد أن توضع فيه هذه الاعتبارات، ويوضع على رأس أولويات الأمن القومي للدولة؛ فمجرد ضعف أو إضعاف التعليم الوطني هو تهديد للأمن القومي، ومحاولة جهة ما السيطرة عليه أو التأثير فيه يمثل خطاً أحمر لا يجوز السكوت عنه.
ولنا أن نقارن بين دور خريج من خريجي الجامعات يعمل في علن على اختراق عقل الأمة أو تخريب اقتصادها، وبين متهم بالتخابر مع جهة أجنبية في نفس المجالات التي يعمل فيها الخريج: كيف ستكون النظرة إلى الطرفين؟ إن عشرات النماذج في طول بلادنا وعرضها لتخبرنا بما لم يكن متصوراً في حق هؤلاء بل ربما قُدموا للأجيال على أنهم رواد فكر وحضارة دون أن تشعر الأجيال بالخطر الحقيقي الماثل في صنيع هؤلاء، بل لم تثر ضدهم أي شبهات.
إن إحدى كبريات المعضلات التي يخلفها الابتعاث للخارج هو غرس بذرة القابلية للاستعمار لدى نفوس أتباعه
ولا يقف الخطر الأمني عند غرس مفاهيم بعينها ضمن النظرية الأمنية، بل يمتد إلى جوانب أخرى أشار إليها عدد من الباحثين في هذا المجال والتي منها تمييع قضية الولاء والبراء، وتفتيت هذا الولاء بين ولاءات شتى كل حسب مشربه؛ فالذي تلقى تعليمه في الجامعات الفرنسية تجد عموم ولائه لفرنسا، ومن تعلم في جامعات أمريكية نجد أن أحلامه أمريكية وهكذا.. وفي هذا إذهاب لريح الأمة وتبديد لطاقاتها بل استثمارها فيما يعود عليها بالضرر.
خامساً : المخاطر الأخلاقية(12/168)
كثيرة هي المفاسد الأخلاقية التي يورثها الابتعاث للدول الأجنبية ، وأثرها ظاهر فاشٍ؛ ومن أخطرها زوال الحساسية الإيمانية (وازع الإيمان)؛ ونزع الحياء، وإقامة العلاقات المحرمة باسم الحب والصداقة، ومثل هذه المباذل يرسخ التعليم في نفس الطالب أنها من حقوقه، وأنه لا بد أن يمارسها حتى يتخلص من عقدة النقص؛ أي أنهم ركبوا في صورة الإنسان الكامل عشرات من الذنوب والمنكرات من الكذب والغش والخداع، والنفاق والتملق، وأكل الربا والحرص على متاع الدنيا، وترسيخ قيم الفردية والأنانية وعدم الاهتمام بمشاعر الغير، وتفسير كل شيء تفسيراً مادياً؛ والنتيجة ما نرى فضلاً عما نقرأ ونسمع من نمط غربي في الحياة حتى في أدق المسائل حساسية لدى الإنسان العربي. لقد تحدث بعض المطلعين على مثل هذه الأوساط فقال: لقد أصبح من الشائع حتى بلغ درجة العرف بينهم أنه من العيب في حق الشاب حين يتزوج أن يسأل عن عفة زوجته "بكارتها"؛ وكأن الأصل عندهم هو الماضي ـ أي أن لكل فتاة ماضياً ـ ومن العيب أن يسأل عنه كما هو الحال مع الشباب. نسأل الله العصمة والسلامة. ويتناسق هذا ويتناغم مع موضة الثقافة الجنسية وآلاف المواقع والقنوات الاستباحية.
وهكذا نرى أنه كلما نجح هؤلاء في ترسيخ مبدأ جديد في نفوس الأبناء قطعوا شوطاً في إبعاد هؤلاء عن الالتحام مع مجتمعهم والتفاعل مع هويتهم.
أما باقي المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية فالمخاطر فيها تابعة بالضرورة للجوانب التي ذكرت آنفاً، وإن بدا أنها هي التي تؤثر في غيرها؛ لأنه عند التجريد نجد أن السياسة حين تؤثر سلباً على الهوية الاجتماعية أو على الحالة الاجتماعية أو على التعليم فإنها تكون في ذلك الحين قد افتقدت دورها العقدي الأصيل واستبدلته بعقيدة مغايرة كما افتقدت بُعدها القيمي والاجتماعي، كالعضو من الجسد حين يهمل فيعود ضرره على سائر الجسد.
وبعد هذا لم نذكر ما ذكرنا لنيأس من العلاج، ولكن لنشخص ما أصابنا كي يسهل إدراك الدواء؛ والدواء مركب على قدر تركيب الداء، والعافية لا تدرك إلا بتجرع الصبر، وذوق المر والفطام عن أسباب السقام.
الحلول :
إن النظر في حلول أي مشكلة لا بد أن ينبع من معاناة واقعية لعقيدة معينة؛ وحين ذلك تتحول المعاناة من مجرد بحث عن حلول لمشكلات مزمنة إلى بناء حضاري، وهذا ما ينبغي التفكير في إطاره؛ لأنها حين إذن تخرجها من كونها عملية آلية للتغيير إلى عملية إنسانية، وهذا واجب المسلم أينما كان؛ لكن المسألة أكبر من طاقة فرد أو مجموعة، ولا بأس أن يدلي كل بدلوه وينافس غيره، ويتعاون الكل على البر والتقوى.
وما سُجّل هنا من حلول قد سبق إليه أفاضل وأكابر ضم إليه غيره وهو في افتقار إلى زيادة، والجميع في حاجة إلى مبادرة وريادة، وكما قص علينا القرآن: ((قّالّ رّجٍلانٌ مٌنّ الّذٌينّ يّخّافٍونّ أّنًعّمّ اللَّهٍ عّلّيًهٌمّا ادًخٍلٍوا عّلّيًهٌمٍ البابّ فّإذّا دّخّلًتٍمٍوهٍ فّإنَّكٍمً غّالٌبٍونّ وعّلّى اللَّهٌ فّتّوّكَّلٍوا إن كٍنتٍم مٍَؤًمٌنٌينّ)) [المائدة: 23].
ومن بين هذه الحلول:
1- توعية الآباء وأولياء الأمور بمخاطر الابتعاث ؛ فهي تجمع المعاني التي حرم الخمر والميسر من أجلها، وما الخمر والميسر إلا إحدى ثمارها الخبيثة، وفيها معنى مسجد الضرار، ومجالس الخوض في آيات الله والكفر به، كما أن تقديم الوالدين ولدهما إلى الابتعاث يجعلهما ضمن من قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه"[ رواه البخاري، رقم 1296] ولو لم يكن في ذلك إلا فقد الولد الصالح الذي يدعو له لكفى؛ فكيف وفيها تبعة الدنيا والآخرة؟!
ولو أخذنا نموذجاً واحداً من صنائع الابتعاث لوجدنا أن من دفع بهم إلى هذه الأمر شريك لهم في التبعة، ولا يصح التعلل بوجود رقابة ومتابعة ؛ لأنه لا يدري ما يحدث من ورائه، والقلوب ليست في يده، ولا يدري من يكون أقوى أثراً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( لا يورِدَنَّ على مُصِحٍّ ممرض)) [ رواه البخاري، رقم 5328] وقال: (( فِرَّ من المجذوم فرارك من الأسد)) أخرجه أحمد، رقم 9345. والمرض البدني أهون في شره من أمراض القلوب والعياذ بالله، وقد كان السلف ـ رحمهم الله ـ يشددون النكير في مجالسة أهل البدع؛ فكيف بأهل الكفر الذين يعدون الكيد لنا ديناً؟!
وكيف يسلم الأب ابنه إلى قسيس في ثياب معلم، أو معلم بقلب زنديق ثم يرجو له السلامة؟! وإن على الأب ألاَّ يتصور أن هؤلاء ناصحون مخلصون له في ولده؛ فإنهم وإن أعطوه ما يريد فلن يعطوه إلا بعد أن يأخذوا منه ما أرادوا هم!!
وقد أشرنا إلى أن الجامعات ليست مناهج أو مدرساً وحسبُ، ولكنها نظام يصبغ الشاب مع الوقت بصبغته؛ فإذا أخذنا في الاعتبار فساد الزمان وقلة الناصح ومحاربة سنن الهدى؛ فكيف يمكن أن يفلح في الجمع بين صلاح دينه ونيل دنياه، وقد نهينا عن اقتحام السبل؟!
2- نشر فتاوى أهل العلم في تحريم الابتعاث للخارج بدون ضرورة ملحة .
3- بيان حكم هجرة علماء الأمة إلى خارج بلاد الإسلام والإقامة هناك؛ وهو التحريم إذا لم يكن لطلب العلم، ولا لاستكمال البحث والدراسة، ثم العودة فور انتهاء مهمتهم؛ وذلك لاحتياج أمتهم إليهم خاصة في حال الحاجة إليهم، وخاصة أن جهودهم اليوم تصب صراحة في دعم العدوان الصريح على الإسلام وأهله، ويشمل هذا جميع الطاقات والتخصصات التي لم تسد حاجة الأمة فيها من بين أبنائها.(12/169)
4- تبني الأقسام التربوية والإعلامية والدعوية في الجامعات لخطة بحثية شاملة للخروج بحلول عملية ليس لإنهاء الاستعمار التربوي فقط، وإنما لتلافي الآثار الفكرية والنفسية والسلوكية لهذه القضية على الأجيال المتخرجة وانعكاساتها السياسية والثقافية على المجتمع.
5- التخطيط التربوي للتعامل مع التحديات القائمة والقادمة؛ فالساحة تحتاج إلى ذوي الخبرات والباحثين في ميدان التربية لوضع خطط متوازية تصلح كل منها للتطبيق في ظل الظروف العالمية الراهنة؛ ومن هنا يمكن إيجاد طبيعة تربوية مرنة تسمح بالتطبيق حتى في ظل التجفيف المستمر لينابيع الإسلام. وأمامنا تجارب متوافرة يمكن الاستفادة منها مثل تجربة الفترة المكية.. تجربة مصر في ظل الحكم العبيدي.. والمسلمين في آسيا الوسطى في ظل الحكم الشيوعي.. وفي تركيا في ظل الكمالية.. وفي الجزائر في ظل الاحتلال الفرنسي.. وفلسطين في ظل الاحتلال الصهيوني.. وتجارب الأقليات الإسلامية والجاليات التي نجحت في بناء هيكلية تربوية وتعليمية خاصة بها.
6- دراسة حالات النهوض التعليمي المختلفة الشهيرة في العالم، والاستفادة منها مثل التجربة اليابانية والصينية والماليزية والاستفادة منها في إنهاض التعليم الرسمي.
7- إقامة مجموعة من المواقع الإلكترونية التي تتنوع وتتكامل في نشاطها لتصب في مواجهة الخطر القائم والقادم من قبل الابتعاث للخارج، فتتوزع الأدوار فيما بينها وفق تخصصات مدروسة إما موضوعية أو جغرافية؛ لبيان الخطر بما يمهد لمقاطعته وتحجيم مخاطره.
8- جمع أسباب الإقبال على الابتعاث وعلاجه .
9- إن كان لابد من إرسال مجموعة فيقام لهم دورة شرعية مع إرسال وفد شرعي يتابعهم ويلاحظهم ، قال الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ : ( أما إذا اقتضت الضرورة ابتعاث بعض الطلاب إلى الخارج لعدم وجود بعض المعاهد الفنية المتخصصة لا سيما في مجال التصنيع وأشباهه فأرى أن يكون لذلك لجنة علمية أمينة لاختيار الشباب الصالح في دينه وأخلاقه المتشبع بالثقافة والروح الإسلامية، واختيار مشرف على هذه البعثة معروف بعلمه وصلاحه ونشاطه في الدعوة ليرافق البعثة المذكورة، ويقوم بالدعوة إلى الله هناك، وفي الوقت نفسه يشرف على البعثة، ويتفقد أحوالها وتصرفات أفرادها، ويقوم بإرشادهم وتوجيههم، وإجابتهم عما قد يعرض لهم من شبه وتشكيك وغير ذلك.
وينبغي أن يعقد لهم دورة قبل ابتعاثهم ولو قصيرة يدرسون فيها جميع المشاكل والشبهات التي قد تواجههم في البلاد التي يبتعثون إليها، ويبين لهم موقف الشريعة الإسلامية منها، والحكمة فيها حسب ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وكلام أهل العلم مثل أحكام الرق، وتعدد الزوجات بصفة عامة، وتعدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بصفة خاصة، وحكم الطلاق، وحكمة الجهاد ابتداء ودفاعا وغير ذلك من الأمور التي يوردها أعداء الله على شباب المسلمين حتى يكونوا على استعداد تام للرد على ما يعرض لهم من الشبه .
وختاماً:
فإن المواجهة اليوم ضد الإسلام شاملة؛ ولهذا فهي تحتاج إلى نفير شامل؛ وإصلاح الخلل لن يكون إلا بتلمس مواطن الأقدام، ووضعها على الطريق الصحيح؛ والتعليم اليوم هو بؤبؤ العين وحجر الزاوية.
=============
الدعوة الفردية (وسائل ومميزات )
أولاً: أهمية الدعوة:
يبين أهمية الدعوة أن الشارع أمر بها ومدح من اتصف بها وحذر من تركها فقال الله سبحانه وتعالى آمرا بها (( ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير)).
وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: (( وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيم)).
وقال أيضا : (( وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) .
وقال : ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ)) .
وقال سبحانه مادحا من اتصف بها: (( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب (( فو الله لإن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم )) رواه البخاري .
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم : (( من دعى إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعهم لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا)).
وقال صلى الله عليه وسلم محذرا من ترك الدعوة عموما قال: (( من كتم علماً ألجمه الله يوم القيامة بلجام من النار)) . الحديث رواه ابن حبان والحاكم وقال صحيح لاغبار عليه وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.
أيضا بين أهمية الدعوة ما تتعرض له الأمة من هجمات شرسة من أعدائها بقصد تضليلها وتجهيلها وحرفها عن دينها فالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى مواجهة لتلك الهجمات وأبطالها أو على الأقل التقليل من تأثيرها .
ثانياً:جوانب الدعوة :
للدعوة جوانب مختلفة فمنها دعوة الكفار ومنها دعوة المسلمين ثم هذه الدعوة قد تكون بالكتابة وقد تكون بالمحاضرة وقد تكون بالندوة قد تكون بالكلمة القصير وقد تكون بالحديث مع شخص لمدة قصيرة كأن تخرج معه من المسجد ثم تتحدثان قليلا وقد تكون بالقدوة وقد تكون بتوزيع الكتيبات و الأشرطة جوانب كثيرة من هذه الجوانب الدعوة الفردية وذكرت هذه الجوانب لئلا يضن أن الدعوة حكر على جانب دون الآخر ولئلا يحملون الكلام عن الدعوة الفردية إلى إهمال الجوانب الأخرى.
ثالثاً: معنى الدعوة الفردية:(12/170)
ما الذي نريده وما الذي نقصده من الدعوة الفردية ؟ الذي أقصده بالدعوة الفردية هو ممارسة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى مع فرد أو فردين لتنتشله أو تنتشلهما مما هو فيه إلى ما هو أفضل من حاله ومن قولي هذا يتبين أن الدعوة الفردية يمكن أن تكون وتمارس مع الملتزمين لأن المقصد هو أن تنتشل أو أن ترفع هذا الفرد إلى أفضل من حاله .
رابعاً: ميزات الدعوة الفردية:
ما هي ميزات الدعوة الفردية ؟
الحقيقة أن للدعوة الفردية ميزات كثيرة يجدر بنا أن نعرفها في هذا المقام مادمنا نتكلم عن الدعوة الفردية ومن هذه الميزات :
1- أن الدعوة الفردية تنعم بالحرية المطلقة في كل الأحوال والظروف فلا تتعرض للتضييق.
2- أنها تحدث صلة بين المدعو والداعية مما يهيأ المدعو للإستجابة ولاشك أنه أكثر من الدعوة الجماعية عندما يلقي الشيخ أو الملقي محاضرة يمكن أن يتأثر الفرد ولكن لا يمكن أن تحدث الصلة بين المتكلم وبين السامع صلة قوية يمكن أن تهيأ المدعو للإستجابة بشكل أكثر.
3- أنها تتيح للمدعو الاستفسار عما يريد وطلب التوجيه المباشر في أمر من أموره أما في الدعوة الجماعية أن تكتب سؤالك في ورقة ربما يذكر وربما يترك لضيق الوقت أما في الدعوة الفردية فيمكن للمدعو أن يستفسر عما يريد لأن الداعية مواجه له مباشرة .
4- أن الدعوة الفردية أبلغ وأعمق في التربية لأنها في الحقيقة توجه مركز بل إن التربية هي ثمرة الدعوة الفردية لأنها تحيط بحياة المدعو .
5- الدعوة الجماعية تأثيرها وقتي ومن ثم نحتاج الى الدعوة الفردية لمتابعة جهود الدعوة الجماعية نعم قد يكون الخطيب خطيبا جيدا مؤثرا فيتأثر السامع لكن تأثره هذا وقتي يتأثر لمدة يوم
لمدة يومين ثم ما يلبث أن يرجع إلى ما كان عليه سابقا ولذا نحتاج الى من يتابعه ولاشك أن من يتابعه سيكون ممن يمارس الدعوة الفردية .
6- عن طريق الدعوة الفردية ، يمكن للداعية أن يتدرج في توصية المدعو ، فيعطيه في كل وقت ما يناسبه في الدعوة .
7- يمكن عن طريق الدعوة الفردية الوصول إلى من لم تصله الدعوة الجماعية إما لعدم رغبته في ذلك وإما لأن ظروفه لا تسمح له بذلك ، الملقي أو المحاضر أو حتى كاتب الكتاب أو المتكلم في الشريط لا يمكن أن يطرق الباب على كل أحد وأن يمسك بكل شخص في الشارع أو في العمل أو في أي مكان آخر لا يمكنه ذلك المتكلم يجتمع له ناس حضروا بإرادتهم فيلقي ما يريد ولكن هناك أناس لا يحضرون إلى هذه المجتمعات لايحضرون إلى هذه المحاضرات أما لأن الشيطان استحوذ عليه وكره هذه الاجتماعات وأما لأن هذه الاجتماعات لا تلائم ظروفه أو أوقاته وغير ذلك فيكون أنحرم منها ، مثل هؤلاء الأشخاص كيف نؤثر عليهم .
إن الدعوة الفردية هي التي عن طريقها نستطيع أن نؤثر على مثل هؤلاء .
8- أن الدعوة الفردية يمكن القيام بها في كل مكان وأي وقت فيمكن أن يقوم بها الطالب والمدرس والموظف والعامل وغيرهم بل أحيانا يمكن القيام بها حتى في مكان العمل لأنها في الطالب لا تحتاج إلا إلى وقت قصير ففي العمل لا تحتاج إلى تجميع الموظفين للإلقاء عليهم محاضرة بل يمكن أن تمارس الدعوة الفردية وأنت تدير أعمالك وتقوم بأعمالك تمارس الدعوة الفردية لهذا بنصيحة أو بعقد صلة بأي شيء آخر مما سنذكره إن شاء الله .
9- الدعوة الفردية تكسب الداعية خبرة ومعرفة بأحوال الناس وأيضاً تكسر الحاجز الوهمي الذي يضعه الداعين بينه وبين الآخرين .
10- الدعوة الفردية تدفع من يعمل بها إلى العلم والعمل وإلى أن يكون قدوة صالحة لغيره لأنه ما دام يريد أن يدعو هذا الشخص فيجب أن يظهر أمامه بأنه على قدر من العلم والعمل وهذا لابد منه في الحقيقة حتى يكون قدوة صالحة لمثل هذا الشخص .
11- الدعوة الفردية تتيح للداعية أن يطبق ما تعلمه من مفاهيم الصبر والتحمل والإيثار لأنه سيتعامل مع هذا المدعو فيحتاج إلى صبر ويحتاج إلى تحمل وكظم للغيض لأنه ربما يواجه من هذا المدعو أشياء يحتاج إلى الإيثار إلى التضحية . هذه الأمور يمكن أن يطبقها في أرض الواقع بعد ما كانت مفاهيم ذهنية فقط .
=============
خطر فتنة المنافقين وظهورهم
عندما يتمكن الكفار الصرحاء ويظهرون على المسلمين، فإنَّ في هذا فتنة ومصيبة ولا شك، ولكن أعظم منها فتنة عندما يتمكن المنافقون المبطنون للكفر والزندقة والمظهرون للإسلام والانتساب إليه، كما هو الحال في تمكن العلمانيين في أكثر بلدان المسلمين، أو تمكن دولة الرفض الخمينية التي تخدعُ الناس الجهلاء بحبِ آل البيت وحب الإسلام، وهي تبطن كره الإسلام الحق، وتبغض السنة وأهلها، وتتمنى ذلك اليوم الذي تظهر فيه على أهل الإسلام؛ فلا ترقب فيهم إلاً ولا ذمة، وأوضح مثال لذلك ما قصهُ التاريخ الموثق علينا عن دور الرافضة في دخول التتار إلى ديار المسلمين، والأفاعيل الشنيعة التي فُعلت بالمسلمين في بغداد وغيرها؛ وكان من أسباب ذلك ممالأة ابن العلقمي الرافضي وطائفته لرئيس التتار، وخيانته للخليفة العباسي الذي كان قد استوزره وقربه.
والسبب في كون فتنة المنافقين أشدُّ من الكفار، هو أنَّ الكافر يعرفه الناس ويأخذون الحذر منه، ويبقى في النفوس بغضه وترقب اليوم الذي يزول فيه. أما المنافق الخادع للناس باسم الإسلام فقد يحبُهُ أكثر الناس وينخدعون به، فلا يبقى في النفوس بغضه وتمني زواله، فينشأ من ذلك فتنة وفساد كبير.
ومن أخطر صور الفتنة بالمنافقين، صورة رئيسية واحدة، تنبثق منها كل أشكال الفتنة بالمنافقين ألا وهي:
فتنة الخداع والتلبيس [1](12/171)
وهي من أشد أنواع الفتن وبخاصة في عصرنا الحاضر، الذي تسلط فيه المنافقون على أكثر ديار المسلمين، وتمكنوا من وسائل التأثير والإعلام، التي تعمل ليل نهار في خداع الناس باسم الإسلام والاحتفالات بمناسباته، وهم الذين أقصوا الإسلام عن الحكم والتحاكم، وهم الذين يسعون لتشويهه وإظهاره للناس بأنَّه صلةً بين العبد وربه، ولا دخل له بعد ذلك في شئون الحياة الأخرى.
ومن صور فتنة الخداع والتلبيس ما يلي :
ا- تسويغهم عزل الإسلام عن الحياة الاقتصادية والسياسية وغيرها من شئون الحياة، بقولهم: إنَّ دين الإسلام دين الصدق والنظافة والتقوى،
وكل هذا لا يتفق مع ألاعيب السياسة، ومهاترات السياسيين وأكاذيبهم؛ فلهذا ينبغي أن يترفع بالإسلام عن دهاليز السياسة المتلوثة؛ كل ذلك بزعمهم حمايةً للإسلام ومحافظة عليه من هذه اللوثات، ومع ذلك فقد يوجد من ينخدع بمثل هذا الكلام الفارغ الفاجر، وبالتالي يسقط في فتنةِ التضليل والتلبيس.
2- ومن صور الخداع والتلبيس التي قد ينخدع بها بعض السذج من الناس ويسقطون في فتنتها: ما يرفعهُ المنافقون في أكثر بلدان المسلمين، في وجه أهل الخير والإصلاح من أنهم دعاة شرٍ وإرهاب وفساد، وما تجلبه وسائل الإعلام المختلفة، وتدندن به على وصفهم ورميهم بهذه الأوصاف الظالمة، حتى تأثرت بذلك بعض الأدمغة المخدوعة، فسقطت في فتنتهم، ورددت معهم هذا الظلم والخداع، وبالتالي تعرض أهل الخير للأذى والنكال، باسم المصلحة الشرعية ومكافحة الإرهاب والفساد؛ وذلك بعد أن تهيأت أذهان المخدوعين من المسلمين لهذا الخداع والتلبيس.
وصور التلبيس والتضليل من المنافقين كثيرة جداً؛ والمقصود الحذر من فتنتها والسقوط في شباكها، والتفطن إلى أنَّ المنافقين يستخدمون الإسلام دائماً ويتترسون به في تمرير ما يُريدون من أغراضهم الخبيثة؛ فهذا شأنهم دائماً: التحريف، والتلبيس، وإثارة الشبهات، مستخدمين وسائل الإعلام الرهيبة في خداع الناس وتضليلهم، ورضي الله عن عمر بن الخطاب حيث قال: ( لست بالخب ولا الخب يخدعني) ويعلق ابن القيم- رحمه الله تعالى- على هذه المقالة فيقول: (فكان عمر- رضي الله عنه- أورع من أن يخدع، وأعقل من أن يخدع) [2] .
3- اهتمام الحكومات العلمانية ببعض المناسبات الإسلامية، كالاحتفال بمولد الرسول e وهجرته، أو ليلة النصف من شعبان، أو الإسراء والمعراج، إلى آخر هذه المناسبات التي لا أصل للاحتفال بها شرعاً، وإنَّما هي من البدع المحرمة؛ ومع ذلك ينخدع بهذا التلبيس كثيرٌ من دهماء المسلمين، وتتحسن صورة أولئك المنافقين الذين يُضللون الناس بهذا الخداع، ويبدون في أعين المخدُوعين أنَّهم يحبون الإسلام ويغارون عليه، وهم أبعد ما يكونون عن الإسلام وأهله، وهل يحب الإسلام ويعتز بالانتماء إليه من يرفض الحكم به والتحاكم إليه، ويبدل شرع الله المطهر بنحاتات الأفكار، وزبالات الأذهان الجاهلة الظالمة؟ لا، والله إنَّ مثل هذا يكذب في ادعائه حب دين الإسلام؛ قال تعالى: (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [آل عمران:31].
فهل يعي هذا المخدوعون المضللون؟
* ومما يدخل في هذه الصورة أيضاً من صور التلبيس، ما يقوم به بعض المنافقين المحادِّين لشرع الله عز وجل، من إقامةِ بعض المؤتمرات أو الندوات الإسلامية، ويدعون إليها بعض العلماءِ والدعاة، فيستجيب من يستجيب، ويرفض من يرفض، وكل هذا من ذر الرماد في العيون، وتخدير دعاة المسلمين بمثل هذه الصروح الخبيثة، التي هي أشبه ما تكون بمسجد الضرار، الذي بناه المنافقون في عهد الرسول e، وادعوا أنَّه للصلاة وإيواء المسافرين في الليلة الشاتية المطيرة، فأكذبهم الله- عز وجل- وفضح نياتهم بقرآن يتلى إلى قيام الساعة، نهي فيه الرسول e عن دخوله والقيام فيه، بل أمر بتحريقه قال تعالى: (( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ . لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)) [التوبة:107- 108]
فهل آن الأوان أن نعي مثل هذه الفتنة والخداع، فلا نستجيب لمثل هذه الدعوات، ولا نقوم في مثل هذه المؤتمرات أبداً؟ بل قد آن الأوان إلى أن تفضح مثل هذه اللافتات، ويحذر الناس من شرها والوقوع في فتنتها؛ ويبين لهم أنَّها ضربٌ من الخداع، وصورةً من صور النفاق الماكر الخبيث.
4- إظهارهم لفسادهم بمظهر الإصلاح وإرادة الخير بالأمة، كما قال الله عز وجل عنهم: (( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)) [البقرة:11] .
يقول سيد قطب- رحمه الله تعالى- عن هذه الآية:
(إنَّهم لا يقفون عند حد الكذب والخداع، بل يضيفون إليهما السفه والادعاء : (( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ))
لم يكتفوا بأن ينفوا عن أنفسهم الإفساد، بل تجاوزوهُ إلى التبجح والتبرير: (( قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ )) .(12/172)
والذين يفسدون أشنع الفساد، ويقولون: إنَّهم مصلحون، كثيرون جداً في كل زمان، يقولونها؛ لأنَّ الموازين مختلة في أيديهم؛ ومتى ا ختل ميزان الإخلاص والتجرد في النفس، اختلت سائر الموازين والقيم، والذين لا يُخلصون سريرتهم لله يتعذر أن يشعروا بفساد أعمالهم؛ لأنَّ ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجحُ مع الأهواءِ الذاتية، ولا يثوبُ إلى قاعدة ربانية) [3] ا. هـ.
* ومما يدخل في هذه الصورة من صور الخداع والتلبيس ما يستخدمه منافقو زماننا من تحريف لنصوص الشريعة، وتأويلات باطلة لها في تسويغ فسادهم ومواقفهم الجائرة؛ فهم مع جهلهم بأحوال الشريعة نراهم يخوضُون فيها بلا علم، إلا ما أشربوا من هواهم؛ فنراهم يسوغون الترخص بل التحلل من الشريعة بقواعد التيسير ورفع الحرج، وتغير الفتوى بتغير الحال والزمان، إلى آخر هذه القواعد التي هي حق في ذاتها، لكنهم خاضوا فيها بجهلٍ وهوى، فاستخدموها في غير محلها، فهي حقٌّ أريد بها باطل، ومع جهلهم بالشريعة وظهور القرائن التي تدل على خبث طويتهم، إلاَّ أنَّ هناك من ينخدع بهذه الشبه والتحريفات الباطلة، ومن عجيبِ أمر القوم أنَّهم يرفضون الحكم بما أنزل الله- عز وجل- والتحاكم إليه، ولا يذعنون له، ومع ذلك نراهم في أحيانٍ قليلة يرجعون إلى بعض الأدلة الشرعية ليمرروا ويبرروا من خلالها بعض فسادهم، أو مواقفهم الباطلة، فما حاجتهم إلى الشرع في هذه المرة وهم كانوا يكفرون به من قبل؟ إنَّهُ الهوى والخداع والتلبيس على الناس، قال تعالى في فضح هذا الصنف من الناس: (( وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ، وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ . أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) [النور:48-50] .
فينبغي لكل مسلمٍ أن يحذرَ من شبه المنافقين وخداعهم، وأن يقول لهؤلاء الذين يسوغُون فسادهم بتحريف الأدلة الشرعية: ادخلوا في السلم كافة، وحكموا في الناس شرع الله- عز وجل- ورفضوا ما سواه؛ أما أن تنحوا شرع الله- عز وجل- عن الحكم، حتى إذا كان لكم هوى في تمرير فسادكم بشبهةِ دليل رجعتم إليه؛ فهذا الذي قال الله- عز وجل- عن أهله: (( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) [البقرة: 85].
5- موالاة المنافقين للكفار، وبخاصةٍ اليهود والنصارى، والإعجاب بنظم الغرب وتقاليده، وفتح الباب لفسادهم وأفكارهم، وهذه من أعظم فتن المنافقين التي طمت وعمت في أكثر بلدان المسلمين، مستخدمين في ذلك الخداعَ والتلبيس على الناس في ذلك، بدعوى المداراة وتحقيق المصلحة ودرء المفاسد، إلى آخر هذه التأويلات التي يُخادعون بها الناس لتسويغ توليهم للكفار؛ وقد ذكر الله- عز وجل- في كتابه الكريم أنَّ هذه صفة لازمه للمنافقين، قال تعالى: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)) [الحشر:11].
وقال عز وجل: (( بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً.الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً)) [النساء:138-139] . فهل بقي بعد كلام الله- عز وجل- عذر لأحد في انخداعه بالمنافقين، الذين يتولون الذين كفروا من أهل الكتاب أو غيرهم؟ إنَّ خطر المنافقين على الأمة في القديم والحديث كبير، وفتنتهم شديدة؛ فما تمكن الكفار من بلدان المسلمين سواءً من الناحية العسكرية أو الفكرية إلا عن طريق المنافقين، الخادعين الخائنين لدينهم وأمتهم، فالواجب فضحهم والتحذير من شر فتنتهم.(12/173)
6- خداعهم لبعض المتحمسين لشرع الله وتطبيقه؛ وذلك بدعوتهم إلى مشاركات وطنية، ومجالس نيابية، يتعاون الجميع فيها على ما فيه صالح الوطن والمواطن كما زعموا، فيستجيب بعض الدعاة لهذا، وتجمعهم مع المنافقين الرافضين لشرع الله عز وجل مظلةً واحدة، فيعرض الإسلاميون فيها مطالبهم كما يعرض العلمانيون والرافضة والشيوعيون مطالبهم الكفرية؛ ومعلومٌ ما في ذلك من مداهنة وتعاون على الإثم والعدوان، واستجابةً لداعي الخداع والتلبيس الذي يتولى كبرهُ المنافقون الذين يُريدون من استجابة الإسلاميين لهم إضفاءَ صفةٍ الشرعية على مجالسهم ونظمهم التي يحكمون بها؛ وبالتالي يتخدر الناس ويستنيم المطالبون بتحكيم شرع الله- عز وجل- ما دام أنَّ للمسلمين صوتاً في هذه المجالس النفاقية الماكرة، ويا ليت أنَّ هُناك مصلحةً قطعيةً يمكنُ تحقيقها للمسلمين، تربو على المفاسد التي تنشأ من المشاركة، إذن لهان الخطب؛ لكن الحاصل من هذه التجارب هو العكس؛ حيث إنَّ المستفيد الأول والأخير هم العلمانيون المنافقون، وقد لا يكونُ المشارك من المسلمين غافلاً عن هذا الخداع، ولكنهُ يدخلُ بغرض إقامة الحجة والدعوة إلى تطبيق الشريعة ومعارضة كل ما يخالفها، ولكن هل هذا ممكن؟ وهل يسمح أهل الكفر والنفاق بذلك؟! الذي يغلبُ على الظن أنَّ أعداء الشريعة لن يسمحوا إلا بالكلام فقط؛ وإذا تجاوز الإسلاميون ذلك إلى العمل، وتجاوزوا الخطوط الحمراء المرسومة لهم، جاء دور الحديد والنار، وما تجربةُ الجزائر وتركيا عنَّا ببعيدتين.
7- فتنة المنافقين داخل الصف الإسلامي:
وهذا شأنُ المنافقين في كل زمان؛ فعندما تخفقُ جهودهم في الوقوف في وجه أهل الخير والصلاح، وعندما ينشط الدعاة، ويظهر أثرهم في الأمة؛ فإنَّ المنافقين يلجئون إلى وسيلةٍ ماكرةٍ، وفتنةٍ شديدة، ألا وهي التظاهر بالحماس للدعوة، والدخول في أوساط الدعاة مُظهرين التنسك والغيرة على الدين، والحرص على العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى ينخدع بكلامهم المعسول بعض الطيبين من الدعاة، فتحصل الثقة بهم، حتى إذا تمكنوا من مراكز التوجيه والدعوة بدءوا فتنتهم الكبرى على الدعوة وأهلها؛ مع استمرارهم في إظهار الخير والحماس لهذا الدين، وتسويغ ما يقومون به من الممارسات بالحرص على مصلحة الدعوة وتميزها وصلابتها.
ومن أخطر صور الفتن التي تنشأ من هذا الصنيع ما يلي:
أ- فتنة التفريق وإثارة العداوات بين دعاة الإسلام :
وهذه من أعظم فتن المنافقين داخل الصف الإسلامي، وفي أوساط الدعوة إلى الله- عز وجل- وقد فضح الله- عز وجل- المنافقين الذين بنوا مسجد الضرار، وأظهر أهدافهم الخبيثة بقوله سبحانه: (( وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْل)) [التوبة:107].
قال " المفسرون لهذه الآية:ا لأنَّهُم كانوا جميعأ يصلون في مسجد قباء؛ فبنوا مسجد الضرار ليُصلي فيه بعضهم، فيؤدى ذلك إلى الخلاف وافتراق الكلمة) [4] ا. هـ.
وهذا الضرب من الفتن لا يحتاج إلى تدليل، فالواقع المر شاهدٌ بذلك، ومع أنَّ للافتراق أسباباً كثيرة كالجهل والهوى... إلخ؛ إلاَّ أنَّ أثر المنافقين الذين يدخُلون في صفوف الدعاة لا يجوز إغفاله والتهوين من شأنه، وكون الفرقة تحصل بين أهل طريقتين مختلفتين في الأصول، فإنَّ هذا الأمر واضحٌ ومعقولٌ ومقبول، أما أن يفترق أهل الطريقة الواحدة- طريقة أهل السنة والجماعة، وطريقة سلف الأمة- فهذا أمرٌ لا يعقل ولا يقبل، ولا يكونُ، وهناك يد خبيثة خفية وراء هذا الافتراق؛ فينبغي على الدعاة الحذر من هذه الأيدي والتفتيش عنها، وفضحها، وتطهير الصف المسلم منها. (وسيأتي الكلام عن فتنة التفرق والاختلاف في بحثٍ قادم، وبشكلٍ مفصل- إن شاء الله تعالى-).
ب- فتنة التخذيل والتشكيك :
وهذه أيضاً من أعمال المنافقين المندسين في الصف المسلم، حيث يسعون إلى بث فتنة التخذيل وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وذلك بدعاوى وشبه شرعية خادعة، مؤداها توهينُ عزائم الدعاة وإضعاف هممهم، وبث الخوف في النفوس من الباطل وأهله، وتهويل قوة الأعداء وخططهم بصورةٍ تَبثُ اليأس في النفوس الضعيفة.
ج- فتنة الإيقاع بالدعوة والدعاة:
لا تقف مساعي المنافقين في إيصال الشر والأذى للدعوة وأهلها عند حد، فمن هذه المساعي الخبيثة التي يقُومُون بها داخل صفوف الدعاة بعد إظهار الحماس، وبعد كسب الثقة والسماع لأقوالهم كما قال تعالى: (( وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ)) [المنافقون:4] .
وتحت ستار الغيرةِ على الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله- عز وجل- فإنهم يبدءون في دفع بعض الدعاة إلى مواجهات مع الباطل وأهله، والزج بالدعوة في أعمالٍ خطيرةٍ تفتقد المستند الشرعي من جهة، وتؤدي بالدعوة وأهلها إلى الضمور والانكماش من جهةٍ أخرى، إن لم يقض عليها قضاءً مبرماً، وهذا هو ما يريده المنافقون الخادعون الذين قال الله- عز وجل- عن أمثالهم: (( لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)) [التوبة:47] .
يقول الإمام البغوي- رحمه الله تعالى- عند تفسير هذه الآية:(12/174)
(( لَوْ خَرَجُوا)) يعني المنافقين ((فِيكُمْ)) أي معكم ((مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً)) ،أي: فساداً وشراً. ومعنى الفساد: إيقاع الجبن والفشل بين المؤمنين، بتهويل الأمر،((وَلَأَوْضَعُوا)) ، أسرعوا،((خِلالَكُمْ )) ، وسطكم بإيقاع العداوة والبغضاء بينكم بالنميمة، ونقل الحديث من البعض إلى البعض، وقيل: (( وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ )) أي: أسرعوا فيما يخل بكم . ((يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ)) , أي: يطلبون لكم ما تفتنون به، يقولون: لقد جمع لكم كذا وكذا، وإنَّكم مهزومون، وسيظهر عليكم عدُ وكم ونحو ذلك.
وقال الكلبي: يبغونكم الفتنة يعني: العيب و الشر. وقال الضحاك: الفتنة الشرك، ويقال: بغيته الشر والخير أبغيهِ بغاءً إذا التمسته له، يعني: بغيت له.
((وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ)).
قال مجاهد : معناه وفيكم مُحبُون لهم، يُؤدون إليهم ما يسمعون منكم، وهم الجواسيس. وقال قتادة: معناه وفيكم مطيعون لهم، أي: يسمعون كلامهم ويطيعونهم. ((وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)) [5]. ا. هـ.
[1] انظر لمزيد من الفائدة رسالة: (ولا تلبسوا الحق بالباطل) للمؤلف.
[2] الرو ح ص 244.
[3] في ظلال القرآن عند الآية (11) من سورة البقرة.
[4] تفسير البغوى 4/ 93 ط. دار طيبة.
[5] تفسير البغوى 4/ 56 ط. دار طيبة.
===============
عقبات في طريق الدعاة
1- ومن المعوقات والعقبات التي تعترض من دعا إلى الله – تبارك وتعالى- : الأذى والابتلاء ؛ من قولٍ أو فعلٍ ، قال تعالى : (( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)) (آل عمران:186) .
ومن ذلك أيضاً أن يستبطئ النصر والفرج ، قال تعالى : (( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)) (البقرة:214) .
وقال تعالى: ((حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا)) (يوسف: من الآية110) .
2- ومن المعوقات التي تحتاجُ إلى صبرٍ ومصابرة ، تكالب الأعداء ، من ملل الكفر على الإسلام وأهله، وكيدهم لهذا الدين، وإنَّ ذلك كيدٌ عظيم ، كما قال تعالى: (( وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ)) (إبراهيم: من الآية46) .
ومواجهته تحتاج إلى صبر، وإلى تمسك بالتقوى ، كما قال تعالى: (( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)) (آل عمران: من الآية120) .
والتقوى هي : التمسك بطاعة الله واجتناب معصيته، فإذا صبر المسلمون واتقوا وساروا على المنهج الحق، فإن الله – عز وجل – يحفظهم، ويدافع عنهم: (( إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ)) (الحج:38)
ولقد أوذي الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – وابتلوا بسبب طاعة ربهم في الدعوة إلى الله – تبارك وتعالى – فصبروا حتى نصرهم الله – عز وجل – وأيدهم ، وليس النصر مقتصراً على الحياة الدنيا، بل أيضاً يوم يقومُ الأشهاد، فبعض الأنبياء قُتل، وبعض الأنبياءِ لم يُستجب له، وسينصرهم الله – عز وجل – يوم القيامة ، كما أنَّ الله – سُبحانه – نصر الأنبياء بمحمدٍ – صلى الله عليه وسلم وبأمته، فنوح – عليه السلام – أوذي أذىً شديداً، وبقي في قومهِ ألف سنةٍ إلاَّ خمسين عاماً، وما آمن إلاَّ قليل، كما أخبر ربنا تبارك وتعالى، وقد ابتلي بوح – عليه السلام – بزوجته، وابتلي أيضاً بكفر ولده ، وصبر – عليه السلام – لذلك أثنى الله – عز وجل – عليه ، وجعله من أولى العزم من الرسل الذين أمر محمد- صلى الله عليه وسلم- أن يصبر كصبرهم، وأن يقتدي بهم ، كما ابتلي إبراهيم – عليه السلام - وأوذي أذى شديداً فابتلي من قومه، وابتلي عن طريق أبيه، ثم لمَّا قذفوه في النار، نصره الله – عز وجل – نصراً مبيناً: (( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ ، وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ)) (الأنبياء:69- 70 ) .
كما ابتلي موسى – عليه السلام – ما طاغوت من أكبر الطواغيت الذين شهدهم التاريخ منذ أن خلقَ اللهُ الأرض ومن عليها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، إنَّه فرعون ، وما أدراك ما فرعون ! إنَّ فرعون يتعلم منه الطواغيت إلى يوم القيامة طرق محاربة ما جاءت به الرسل – عليهم السلام –، لقد أوذي موسى وقومه أذىً شديداً، (( وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ)) (لأعراف:127) .(12/175)
فبماذا واجه موسى – عليه السلام – (( قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ، قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ)) (الأعراف: 128، 129) .
ولقد أهلك الله – عز وجل – عدوهم واستخلفهم في الأرض قال تعالى : (( فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ )) يعني من فرعون وجنوده .
(( فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ، وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ )) (الأعراف:136، 137) .
بم ؟ ما هو المؤهل ؟
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ )) (الأعراف: 137) .
وإذا أردت شيئاً من نبأ فرعون فاستمع إلى قول ربك – جلا وعلا - : ((نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) .
(( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ)) (القصص:3- 6)
وإذا أعجبت أخي المسلم ! فاعجب !! إنَّ الرجل الذي دمر الله فرعون على يديه : هو الرجل الذي تربى في قصر فرعون ، فالله – عز وجل – ينصر أولياءهُ ويدمر أعداءه ، وهذه سنته (( وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)) (الروم: من الآية47) .
أما خاتم النبيين ، وأشرف المرسلين محمد- صلى الله عليه وسلم– فقد أوذي في الله – عز وجل – وما يؤذي أحد، ولقد أخيف في الله – عز وجل – وما يخاف أحد، لقد آذوه في جسده الشريف، ولقد آذوه بأقوالهم وألسنتهم ، لقد جاء عدو الله الفاسق عقبة بن أبي معيط، ووضع على عنقه- صلى الله عليه وسلم- الثوب وخنقه خنقاً شديداً ، حتى جاءَ أبو بكر – رضي الله تعالى عنه – فدفعهُ عنه وقال : أتقتلون رجلاً أن يقولَ ربي الله، وقد جاءكم بالبينات من ربكم .
وجاءه هذا الشقي أيضاً وهو ساجد – بأبي وأمي – صلى الله عليه وسلم- فوضع على ظهره الشريف سلا الجزور ، فظل- صلى الله عليه وسلم – ساجداً حتى جاءت ابنته فاطمة – رضي الله عنها – فنظفت ظهرهُ، وأزالت ما به من أقذار .
هذا هو محمد- صلى الله عليه وسلم– أشرف الخلق، ولم تقنع قريش بذلك ، فحاصروه – صلى الله عليه وسلم – في شعب أبي طالب هو ومن آمن معه، ومن نصره من أقاربه، حتى ولو كانوا غير مسلمين، حاصروهم في الشعب ثلاث سنوات .
وما أدراك ما هذا الحصار، إنَّهُ يقوم على دعامتين .
أولاهما : مقاطعةً اجتماعية تامة، فلا يتزوجوا ولا يتزوج منهم .
وثانيهما : مقاطعةً اقتصاديةً تامة، فلا يشتري منهم، ولا يباعون، ولا يسمح لهم أن يشتروا ممن يقدمُ على مكة متاجراً، حصار لم تعرف له الأرض مثيلاً، لم تصل إليه بعد شياطين الإنس والجن قبل قريش؛ ثم فرَّج الله – عز وجل – عن نبيه ويسر له أنصاراً وأعواناً، ويسر الهجرة إلى بلد ينتشر فيه نور الإسلام، ويكون قاعدة لدولة الإسلام، ثم ينصره الله – تبارك وتعالى – على قريش في سنوات قلائل، وكما آذوا المصطفى صلى الله عليه وسلم بأفعالهم ، فقد آذوا بأقوالهم، ولقد أعملوا الامكا نية الإعلامية، التي يملكونها في تشويه صورة الرسول صلى الله عليه وسلم ، قالوا: شاعر، كاهن، ساحر، وقالوا: إنَّه مفتر ، وما جاء به سحر، حتى بلغ من شدة ادعاءاتهم وافتراءاتهم وأكاذيبهم، أنَّ الرجل إذا أراد أن يقدم مكة يضع في أذنيه قطناً حتى لا يستمع إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأذكر هنا قصةً واحدةً مما ذكره أهل السير:
انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعرض الإسلام على القبائل، فمر على قبيلة من قبائل العرب يقال لهم بني شيبان، هذه القبيلة تسكن على شواطئ نهر الفرات، أنَّها تجاور الفرس، فعرض عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، وقرأ عليهم القرآن، ثم وعدهم أنَّهم إن أسلموا وأطاعوه، أنَّ الله عز وجل يُمكنهم من أهل فارس، ومن ملكهم، ونسائهم وأولادهم، فجاء عدوَّ الله أبو لهب، وإنَّها لعبرةٌ للمعتبر، أن يكونَ الذي يتحمل وزر تشويه دعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم - هو عمه ؟! فقال: ماذا قال لكم ؟ قالوا: قال: كذا وكذا، فقال: إنه مجنون، إنَّه يهذي من أم رأسه، فيقول هؤلاء: لقد علمنا ذلك حينما ذكر ما ذكر من أمر كسرى – ومعنى هذا: إنَّهم قالوا لقد علمنا أنَّهُ مجنون حينما وعدنا أننا نتمكنُ من أرض فارس، ونستعبدهم، ونأخذ أولادهم ونسائهم سبايا.(12/176)
وتعجبني في هذا كلمة قالها أحد الدارسين لسيرة المصطفى- صلى الله عليه وسلم - إذ قال: إنَّ هؤلاء القوم كانوا من شدةِ ذلهم وخوفهم من كسرى، بحيث إنَّهم لا يصدقون أنَّه بالإمكان أن ينتصروا عليه، أو أن ينتصرَ العرب على الفرس والروم، ولكنه كان وعد الله .
وما أشبه الليلة بالبارحة، فإنَّ العرب اليوم لا يصدقون أبداً، ولا يخطر ببالهم أنَّهُ بالإمكان أن ينتصروا على أعداء الإسلام من اليهود والنصارى، ومن قال بذلك ربما يقولون عنهُ كما قال أبو لهب، وكما قالت بنوا شيبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ربما قالوا عنه: إنَّهُ مجنون.
ولقد أوذي أصحاب المصطفى الكريم - صلى الله عليه وسلم - حتى فرُّوا بدينهم إلى أرض الحبشة، وهاجروا إلى المدينة، أوذي بلال، وما حصل لبلا ل معروف مشهور، وأوذي خباب، حتى كانت توضع له قدور النحاس في النار حتى تلتهب، ثم توضعُ على ظهره فيشوي ظهره، ويسيلُ منه الودك – وهو الدهن – فجاءَ خبابُ بعد ما مسَّهُ من أذى هو وأصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسدٌُ بُرداً له تحت ظل الكعبة . قالوا: يا رسول الله ! ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ فيقول – عليه الصلاة والسلام – بعد أن يجلس: ((إنَّ من كان قبلكم ينشر أحدهم بمنشار حديد، من مفرق رأسه إلى قديمه، ويمشطُ جسمه بأمشاط الحديد ما بين العظم واللحم، ما يصدهُ ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلاَّ الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)) [1] .
[1] أخرجه البخاري في كتاب المناقب / باب علامات النبوة في الإسلام 4/179، 180. وأبو داود في كتاب الجهاد /باب في الأسير يكره على الكفر ( 2649) .
==============
مظاهر الغربة في زماننا اليوم
وهي كثيرة ومتنوعة، حتى إنَّها لتكاد تشمل جوانب الدين كله، ولكن يمكن إجمال أهم مظاهر الغربة في الأزمنة الحاضرة اليوم فيما يلي:
ا- غربة في العقيدة، فلا يوجد من هو متمسكٌ بعقيدة السلف من جميع جوانبها إلاَّ القليل من الناس؛ حيث تنتشر الخرافة والشر كيات والبدع في أكثر بلدان المسلمين.
2- غربة في تطبيق الشريعة والتحاكم إليها، فلا يحكم اليوم في أكثر بلدان المسلمين إلاَّ بأحكام الإفرنج الكافرة.
3- غربة في الالتزام بأحكام الإسلام، سواءً ما كان منها بين العبد وربه، أو بين العبد وبين الخلق؛ فلا يوجد الملتزم بها إلاَّ القليل.
4- غربة في السلوك والأخلاق الفاضلة، وتزامن ذلك مع انفتاح الدنيا وكثرة الشهوات.
5- غربة أهل الحق ودعاة الإسلام، وتسلط الأعداء عليهم، وإيذاؤهم لهم بأشد أنواع الأذى والنكال.
6- غربة في عقيدة الولاء والبراء؛ حيث مُيِعت هذه العقيدة عند كثيرٍ من الناس، وأصبح ولاءُ أكثرهم وحبهم وبغضهم للدنيا فحسب.
7- غربة في أهل العلم، حيث قلَّ أهل العلم الشرعي الصحيح، وانتشر الجهل وكثرت الشبهات.
مظاهر الفتنة في أزمنة الغربة:
إنَّ من أشدِّ ما يخشى على أهل الإسلام في أزمنة الغربة أربعة مظاهر من الفتن يمكن إجمالها فيما يلي:
1- الفتنة التي تنشأ من الوقوع في الشبهات ، والتأثر بأهلها الذين هم الأكثرية في عصور الغربة، مما يحصل معه السقوط في فتن الشبهات، سواءً ما يتعلق منها بالعقائد أو الأعمال أو المخالفات الشرعية الأخرى، وتسويغ ذلك بشبهةٍ شرعية تبرز عادةً في غيبة الحق وفشوا الجهل.
2- الفتنة التي تنشأ من الوقوع في الشهوات، التي تطم وتنتشر عادةً في عصور الغربة وقلة أهل الحق، وانفتاح الدنيا بزخرفها على الناس؛ فلا يكاد يثبت ويستقيم على أمر الله- عز وجل- مع كل هذه الضغوط إلاَّ القليل الذين يعتصمون بالله، ويقومون بأمره، ويدعون إلى سبيله، أما الكثرة الكاثرة الذين ضعف صبرهم، فتراهم يتنازلون عن دينهم شيئاً فشيئاً أمام مظاهر الغربة الفاتنة، سواءً كان ذلك التنازل في العقيدة أو السلوك أو التزام الأحكام.
3- فتنة اليأسِ والقنوط من ظهور الحق وانتصاره ، أمام تكالب الأعداء وتمكنهم، وتسلطهم على أهل الخير بالأذى والابتلاء، مما قد يؤدي ببعض أهل الغربة إلى اليأس وترك الدعوة، حين يرى إقبال الدنيا على المبطلين، ورؤية الناس لهم ناجحين مرموقين، تهتف لهم الدنيا وتصفق لهم الجماهير، وتتحطم في طريقهم العوائق، وتصاغ لهم الأمجاد، وتصفو لهم الحياة، وهو مهملٌ منكر لا يحس به أحد، ولا يحامي عنه أحد، ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلاَّ (القليلون من أمثاله، الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئاً، فإذا طال الأمد وأبطأ نصر الله، كانت الفتنة أشد وأقسى، وكان الابتلاءُ أشد وأعنف، ولم يثبت إلاَّ من عصم الله)([1]) .
وإنَّ فتنة اليأس والإحباط وترك الدعوة إلى الله- عز وجل- في عصور الغربة، لا تقف عند حد؛ بل قد تؤدي بصاحبها- والعياذ بالله- إلى الضعف، والنقص في دينه شيئاً فشيئاً أمام فتن الشبهات والشهوات؛ ذلك لأنَّ أيام الغربة أيامُ فتنٍ وإغراءات، وفشوِّ منكراتٍ، وظهورٍ وتمكين لأهل الباطل والفساد، فإن لم يكن للمسلم فئة صالحة- ولو كانت قليلة- يأوي إليها، ويدعو معها إلى الله- عز وجل- حسب الوسع والطاقة، فإنَّهُ لا بد وأن يتأثر بالفساد وأهله، إلاَّ من رحم الله- عز وجل- ومن غير المقبول عقلاً وشرعاً وحساً، أن يبقى المُسلمُ محافظاً على دينهِ أمام الغربة، وهو تاركٌ للدعوة بعيد عن أهلها، فإمَّا أن يؤثر أو يتأثر.(12/177)
نعم! يمكن أن يترك المسلم الدعوة ويبقى محافظاً على دينه في حالة الاعتزال التام عن الناس، في شعفٍ من الجبال والأدغال، هذا متيسراً في هذا الزمان، ثم لو كان ذلك ممكناً: فمن ذا الذي يدعو إلى الله- عز وجل- ويواجهُ الفساد، وعلى أيةِ حالٍ فالعزلةُ الشرعية لها أحكامها وضوابطها، والتي سنأتي عليها إن شاء الله تعالى في مبحثِ (سبل النجاة من الفتن).
إذن: فلن ينجو من فتنةِ الغربة في أيِّ زمانٍ أو مكان إلاَّ أحدُ رجلين:
- إما مجاهدٌ في سبيل الله- عز وجل- داعٍ إلى الخير، آمرٍ بالمعروف وناهٍ عن المنكر.
- أو رجل معتزل عن الناس في مكانٍ من الأرض يعبد ربه، ولا يخالط الناس.
وما سواهما فهو على شفا هلكة، ولعلَّ هذا مما يُفهم من الحديث الذي رواهُ أبو هريرة- رضي الله عنه- أنَّ الرسول e قال: ("مِن خيرِ معاش الناس لهم:رجل ممسكٌ عنان فرسه في سبيل الله يطيرُ على متنه، كلما سمع هيعةً أو فزعةً، طار عليه يبتغي القتل والموت مظانه، أو رجل في غنيمة في رأس شعفةٍ من هذه الشعف، أو بطن وادٍ من هذه الأودية؛ يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلاَّ في خير) [2].
4- فتنة العجلة وقلة الصبر على الأذى في الغربة ، ممَّا يؤدي ببعض من يقاسي ضغوطها إلى التسرعِ والاصطدام مع أهل الفساد، دون مراعاةٍ للمصالح والمفاسد؛ فينشأ من جراءِ ذلك فتنةٌ أشد، وفسادٌ أكبر على أهل الغربة.
1 في ظلال القرآن 5/ 2719، 0 272 (باختصار).
[2] مسلم في الإمارة (3/ 3. د 1، 4 0 5 1) (1889).
==================
الدعوة إلى الله
الحمدُ لله يهدي ويُضل، ويعزُّ ويُذل، وأشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ اللهَ وحدهُ لا شريك له، أنَّهُ هُو البرُّ الرحيم، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسولهُ النبي المصطفى الكريم- صلى الله عليه وسلم- وعلى آلهِ وأصحابهِ ومن سارَ على دربهِ إلى يومِ الدين .
أمَّا بعدُ: فاتقوا الله أيُّها المسلمونَ حقَّ التقوى.
بعيداً عن جوِّ هذا الزمانِ القاتمِ بغبارِ الالتزامِ الأجوف، والمشوَّه بقترِ السلبيةِ المفرطةِ والمظهريةِ الجوفاء، نحلقُ في فضاءِ الجيلِ السالفِ، المعطرِ بورودِ الإيجابية، ونتفيؤ ظلالَ شجرةِ البذلِ والعطاءِ، والتضحيةِ والفداء.
نعودُ بذكرِياتنا إلى الصورِ الرائعةِ لماضينا المجيد، حيثُ يتجلى الإيمانُ الحقُّ، وتبرزُ حقيقةَ الهمِّ لهذا الدين، وتظهرُ الغيرةُ الحقيقيةُ على دينِ الله.
إنَّ الإيمانَ إذا خالفت بشاشتهُ القلوبُ استحكم الولاءُ لهُ، وكان العطاءُ للدين سخياً غاية السخاء، لأنَّهُ معاملةً مع كريم، وتلقٍ لمننٍ من إلهٍ عظيم.
وإذا كانت الحياةُ تقدمُ فداءً للدين، وثمناً لدينه، فهي كذلكَ تُسَخَّرُ لخدمةِ الدينِ وللعطاءِ له، إذ كلُّ ما فيها لله، وإذا هِي حياةٌ أُوقفت كلَّها لله.
هذا نوحٌ- عليه السلام- يُخاطبُ ربَّهُ: ((قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا)) (سورة نوح :5) ثم قال: (( ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا)) (سورة نوح :9) ز
إنَّهُ الجهدُ الدائمُ الذي لا ينقطعُ ولا يملُّ، ولا يفترُ ولا ييأسُ أمامَ الإعراضِ ألفَ سنةٍ إلاَّ خمسينَ عاماً .
ماذا بقى من حياةِ نبيِّ اللهِ نوح، لم يُسخِّر لدعوتهِ، ولم يبذل لرسالتهِ الليلُ والنهار، الجهرُ والإسرار، كُلَّها للهِ حياةً أُوقفت كُلَّها لله .
ثُمَّ سرَّح طرفكَ في مسيرةِ أنبياءِ اللهِ ورسله، لتقفَ أمامَ نبيِّ اللهِ يُوسفُ السجينُ الغريب، الطريدُ الشريد، الذي يُعاني ألمَ الغُربةِ وقهرَ السجن، وشجا الفراقِ وعذابَ الظلم، في هذا كلهُ، وبين هذا كُلَّهُ في زنزانةِ السجنِ، يسألُهُ صاحبا السجنِ عن تعبيرِ الرؤيا، فلا يُدع نبيُّ اللهِ يوسف الفرصةَ تفلت، ولا تُنسيهِ مرارةُ المُعاناةِ القاسيةِ واجب العملِ للهِ، والعطاء لدينه، فإذا به يحولُ السجنَ إلى مدرسةٍ للدعوة، ويرى أن كونَهُ سجيناً لا يعفيهِ أبداً من تصحيحِ الأوضاعِ الفاسدةِ، والعقائدَ المنحرفة، فإذا به يُنادى في السجن: (( يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)) (سورة يوسف :39) .
فاسمعوا يا معشرَ الأحرارِ الطُلقاء، وتمضي قافلةُ العظماءِ من الأنبياءِ، لتنتهي بسيدِهم وخيرِهم محمد- صلى الله عليه وسلم- والذي سُئلت عنهُ عائشةَ- رضي الله عنها-، أكانَ نبيُّ الله- صلى الله عليه وسلم- يُصلي جالساً قالت : نعم، بعدما حطَّمهُ الناس، وهو النبيُّ الذي قالَ الله عز وجل عنهُ: (( لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ )) (سورة التوبة :128) .
ويقولُ : (( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ )) (سورة الكهف :6).
وإنَّ الإنسانَ ليأخذهُ الدهشُ والعجبُ، كما تغمرهُ الروعةُ والخشوعُ، وهو يستعرضُ ذلك الجهدُ الموصولِ من الرسلِ- عليهم صلوات الله وسلامه- لهدايةِ البشريةِ الضالةِ المُعانِدة .
جهودٌ موصولة، وتضحياتٌ نبيلةٌ لم تنقطع على مدارِ التأريخِ، من رُسلٍ يُستهزأُ بهم، ويُحرقُون بالنارِ، أو يُنشَرُون بالمنشار، أو يَهجُرون الأهلَ والديارَ حتى تجيءُ الرسالةُ الأخيرة، فيجهدُ فيها محمد- صلى الله عليه وسلم- ذلك الجهدُ المشهودُ المعروف، هو والمؤمنون معه، ثُمَّ تتوالى الجهودُ المضنيةُ، والتضحياتُ المذهلةُ، من القائمين على دعوتهِ في كلِّ أرضٍ وفي كلِّ جيل .(12/178)
وهكذا تسيرُ ركابَ المؤمنين برسالاتِ الله، لا تدعُ فرصةً للعملِ للدينِ تفلت، ولا فرصةً للعطاءِ للدينِ تضيع، كلُّ عطاءٍ يُقدمُ مهما كان قليلاً، وكل جُهدٍ يُبذلُ ولو كان يسيراً
هذا الرجلُ الكفيفُ الأعمى، عبد الله بن أمِّ مكتوم- رضي الله عنه- مؤذنُ رسولِ اللهِ- صلى الله عليه وسلم- الذي عذرهُ اللهُ في قرآنه، (( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ )) (سورة الفتح :17) .
لم ير أن يسعهُ أن يدعُ فيها فرصةً لخدمةِ الدين تفلتُ منه، ولتكن هُناك في مواقعِ القتالِ، وميدانِ النزال، فيصحبُ كتائبَ المسلمينَ، ويطلبُ أن توكلَ إليهِ المُهمةُ التي تُناسبه، فقال : إنِّي رجلٌ أعمى، لا أفرُّ، فادفعوا لي الرايةَ أمسك بها، وتحملُ كتبَ التاريخ أنباءَ ابن أمِّ مكتوم، وأنَّهُ كان أحدُ شهداءِ القادسيةِ، يومَ غشيتهُ الرماحُ، فلم تصادف فرَّاراً ولا مُولياً، ولا مُعطياً دبرهُ في قتال.
وهذا ضمام بن ثعلبةَ يأتي مُسلماً ويسألُ رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم- عما يجبُ عليه، فيأتيهِ الجوابُ بأنَّ عليه الشهادتين، وإقامِ الصلاةِ وإيتاءِ الزكاة، وصومُ رمضانَ وحجُّ بيتِ اللهِ الحرام، حتى إذا عرفَها آمنَ بها ثُمَّ قال : يا رسولُ الله: واللهِ لا أزيدُ على هذهِ ولا أنقصُ، لكنهُ لا يرى ولا يرى أنَّ العملَ للدينِ داخلٌ فيما تحللَ منهُ، فينقلبُ إلى قومهِ داعياً إلى اللهِ، يقولُ لهم يا قومِ بئست اللاتُ، بئست العزى، ويظلُّ بين ظهرانيهم حتى لا يبقى بيتٌ من بيوتهم إلاَّ دخلهُ الإسلام .
إنَّها نقطةٌ في بحرِ الإيجابيةِ الذي خاضهُ أسلافنا، فأثمرَ جهادُهم وبذلهم أعظمُ إنجازٍ يومَ طوي بساطُ المشرقِ إلى الصينِ، وبساطُ المغربِ إلى المحيطِ تفتحهُ كتائبُ المجاهدينَ من الصحابةِ والتابعين، ما كانَ هذا الإنجازُ ليتحققَ إلاَّ على أيدي رجالٍ يُعلنُونَ في كلِّ موقعةٍ قائلين : إنَّ الله ابتعثنا لنخرجَ الناسَ من عبادةِ العباد إلى عبادةِ ربِّ العباد .
إنَّ هذا المعنى العظيمُ معنى العطاءِ للدينِ والبذلِ له، وتسخيرِ الحياةِ من أجلهِ حتى إذا الحياةُ كلَّها بليلِها ونهارها، وإذا النفسُ بمشاعرها ووجدانها وبكلِّ طاقاتها مسخرةً لهذا الدين.
هذا المعنى توارى أو خفت في نفوسِ كثيرٍ من المسلمين، بل ضعفَ في نفوسِ الشبابِ المتدين ذاته.
لقد قالَ جل وعلا: (( َقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)) (سورة الحديد :25) .
وقد قامَ بالنصرةِ بالسيفِ طائفةٌ من المؤمنين، وهُم المُجاهدُون الصادقون، وقامَ بالهدايةِ بالكتابِ بعضُ العلماءِ وطلابُ العلمِ والدعاةِ والعاملين ، وهاتان الطائفتانِ هُم بقيةَ الخيرِ في الأمةِ، الذين قاموا بما يجبُ عليهم نحو دينهم، فنجوا بصلاحِهم وإصلاحهم، (( وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)) (سورة هود :117) .
وبقيت في الأمةِ جموعٌ غفيرةٌ تتفرجُ على معركةِ الإسلامِ مع خصومه، وكثيرٌ منهم ممن ينتسبُ إلى الصحوةِ المباركة، فحبُهم للإسلامِ، وحميتُهم على الدينِ لا تتجاوزُ عبارات الإعجابِ بالمجاهدينَ والمصلحين، وعباراتُ الذمِ والتشنيعِ على الكافرين، وهذا وإن كان خيراً إلاَّ أنَّهُ لا ينصرُ ملةً ولا ينقذُ أمةً .
بل من هذه الجموعِ فئةً مجالسُهم تحليلٌ وتنظيرٌ بلا عملٍ ولا إنتاج، جلَّ حديثهم نقدٍ لفلان، وتفسيقٍ لعلان، وذمٍ لهذا، وإسقاطٍ لذاك، وإن بحثتَ عنهم في ميدانِِ البذلِ للدينِ، لم تجد لهم أثراً ولم تسمع عنهم خبراً، يبدعُون في لومِ العاملين، وتخطئةِ المُجتهدين، وإن قيلَ لهم تعالوا فاعملوا لدينِ اللهِ أو ادفعوا، أطرقوا بالرؤوسِ وهُم يجمحُون.
فإلى هذه الجموعِ الخاملة، والطاقاتِ المعطلة، كونوا أنصارَ اللهِ وخوضُوا المعركةَ مع إخوانِكم، وسارِعُوا في ردِّ كيدِ الأعداءِ من الكفارِ والمُنافقين، وخُوضُوا في بحرِ البذلِ والعطاءِ لدينِ اللهِ، دعوةً وتعليماً، وأمراً بالمعروفِ ونهياً عن المنكرِ، وجهاداً في سبيلِ الله.
أنتَ يا أخي قادرٌ على أن تفعلَ للإسلامِ الكثيرِ مهما قلَّ علمُك، وضعُفَ تدبيرُك، وخفي اسمكَ، وجهُلَ قدرُك.
أنت كنزُ الدرِّ والياقوتِ في لجةِ البحرِ وإن لم يعرفون
محفلُ الأجيالِ محتاجٌ إلى صوتكَ العالي وإن لم يسمعوكَ
قُل وردد، أنا سهمٌ للإسلام، فحيثُ كانت مصلحةُ الإسلامِ فارموا بي هُناك.(12/179)
أخي: إنَّ القلوبَ ينبغي ألاَّ تشحُّ بمشاعرها، والعيونُ لا تبخلُ بدموعها، فأينَ العطاءُ للدينِ في حياتنا، أخي: إنَّ الغيرةَ على الدينِ وحملِ همِّهِ يجبُ أن تكونَ هاجسُ كلُّ واحدٍ منا، وهماً يجري في عروقِ كلِّ مسلمٍ صغيراً كان أم كبيراً، ذكراً أو أنثى، عالماً أو جاهلاً، صالحاً أو فاسقاً، فلا يجوزُ أن تكونَ الذنوبُ والخطايا حاجزاً وهمياً بين العبدِ وبين العملِ الإيجابي لهذا الدين، نُريدُ أن يكونَ هَمُّ هذا الدينِ يُلاحقُ المرأةَ في بيتها، والرجلُ في متجرهِ، والمعلمُ في فصلهِ، والطالبُ مع زملائِهِ، والموظفُ في دائرتِهِ، بل ويحملهُ الشابُّ على الرصيفِ، وفي مدرجاتِ الملاعبِ، فلم تكن الخطيئةُ يوماً مهما عظُمت حائلاً بين المُسلم وبين أن يُساهِم في نُصرةِ هذا الدين، فقد ذهبَ بعضُ الصحابةِ إلى غزوةِ أحدٍ بعد ليلةٍ من شربِ الخمرِ كما في صحيحِ البخاري، أنَّهُ اصطبحَ ناسٌ الخمرَ يومَ أحدٍ ثُمَّ قُتلوا شُهداء .
وفي قصةِ أبي مِحجن الثقفي عبرةً وعظة، وهو الذي كان يشربُ الخمرَ، ويُجلدُ عليها، فلم يمنعهُ ذلكَ عن الجهادِ في القادسية، وكعبُ بن مالكٍ وهو المتخلفُ عن الجهادِ مع رسولِ اللهِ- صلى الله عليه وسلم- لم يمنعهُ ذلك من الاعتزازِ بدينهِ والتمسكِ به أمامَ إغراءاتِ ملكِ غسان.
أخي :
إنَّ العملَ للدينِ ليس مصنفاً إلى شرائحَ وفئات، فكلُّ مُسلمٍ بانتمائِهِ للإسلامِ عاملٌ للدينِ مهما كان عليه، ومهما كانَ فيهِ من خطأ، ومهما اعتراهُ من تقصير، فينبغي ألاَّ تضيفَ إلى أخطائك خطأً آخر، هو القُعُودُ عن العملِ للدين.
إنَّ العملَ للدينِ ليسَ وظيفةً تصدرُ برقمٍ وتاريخ، ولكنهُ صدرَ بأمرٍ ربانيٍّ برقمِ مائةً وخمسةً وعشرين من سورةِ النحل، (( ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ )) (سورة النحل :125) .
إنَّ العملَ للدينِ ينبغي أن يبقى ظاهراً في حياتنا، نراهُ في شابٍ يوزعُ شريطاً أو كتاباً، نراهُ في شابٍ يُبلغُ كلمة، نراهُ في موقفٍ يُعلنُ إنكارَ منكرٍ، نراهُ في معلمٍ يوجِّهُ طلابهُ، وأبٍ يُرشدُ أبنائه، نراهُ هنا وهنا وهناك.
إنَّ العملَ للدينِ أمرٌ لا نستخفي به، ولا نتسترُ عليه، بل ينبغي أن تبقى ساحتُنا فوارةً بالعملِ الضخمِ للدين، نراهُ في كلِّ فلتةٍ وفي كل لفته، (( هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)) (سورة محمد :38 )) .
أقولُ هذا القول .
الخطبة الثانية
أما بعد ..
إنَّ الدعوةَ إلى اللهِ عز وجل صورةٌ من صورِ العملِ لهذا الدين، ومظهرٌ من مظاهرِ الغيرةِ عليه، الدعوةُ إلى اللهِ وظيفةَ الرسل ، (( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) (سورة فصلت :33) .
كلَّ الكلماتِ تسقطُ وتبقى كلمةُ الداعية، وكلَّ العباراتِ تهوي وتسمو كلمةَ الداعية، الدعوةُ إلى اللهِ من أعظمِ ما يتقربُ بهِ إلى اللهِ، كما قال ابن القيم: ( مقامُ الدعوةِ إلى اللهِ من أشرفِ مقاماتِ التعبد ) ، فيا رجالٌ ويا نساء : إنَّ أبوابَ الدعوةِ مفتحةً فكونوا أولَّ السالكين، وإنَّ حِبالها مُرخاةً فكونوا أو الصاعدين .
أخي المسلم: إنَّ ممَّا يُقوي في قلبكَ الغيرةُ على دينِ الله، أن تستشعرَ المسؤوليةَ وجسامتُها، وأن تُقدرَ الخطرُ الداهمِ على أمتك، وتستشعرَ استمراريةِ دعاةِ الباطلِ في إشاعةِ باطلهم، ((وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا)) (سورة النساء :27) .
((وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ)) (سورة ص :6) ، (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)) (سورة الأنفال :36) .
فأنت ترى أصحابَ المللِ الباطلةِ، والنحلِ الضالةِ يبذلُون كلَّ غالٍ ورخيص، دفاعاً عن باطلهم، ونشراً لمبادئِهم، دُونَ انتظارٍ لجزاءٍ دنيوي.
يقولُ أحدُ الدعاة : أذكرُ أنني ترددتُ كثيراً جداً على مركزٍ من مراكزِ إعدادِ المنصرينَ في مَدريد، وفي فناءِ المبنى الواسعِ وضعُوا لوحةً كبيرةً كتبُوا عليها: أيُّها المبشرُ الشاب، نحنُ لا نعدُكَ بوظيفةٍ أو عملٍ أو سكن، أو فراشٍ وثير، إننا نُنذرُكَ بأنَّك لن تجدَ في عملكَ التبشيري إلاَّ التعبَ والمرض ، كلَّ ما نقدمهُ لكَ هُو العلمُ والخبز، وفراشٌ خشنٌ في كوخٍ فقير، أجرُكَ كلهُ ستجدهُ عند الله، إذا أدرككَ الموتُ وأنت في طريقِ المسيحِ كُنتَ من السُعداء .(12/180)
هذه الكلماتُ حَركت كثيراً من جندِ الشيطانِ المُبشرين بالنيران، من حملةِ الشهاداتِ في الطبِّ والجراحةِ والصيدلةِ وغيرها، للذهابِ إلى الصحاري القاحلةِ التي لا تُوجدُ فيها إلاَّ الخيامُ والمستنقعاتُ المليئةُ بالنتنِ والأمراض، والمكوثُ هُناكَ السنينَ الطوال، دونَ أجرٍ وبلا منصب، فما بالُنا معشرَ المسلمينَ يجلسُ الواحدُ منَّا شبعانَ متكئاً على أريكتهِ، إذا طُلبَ منهُ نُصرةَ دينِ الحقِّ، أو كُلفَ بأبسطِ المَهامِ، أو عُوتبَ على تقصيرهِ في الدعوةِ، أو لِيمَ على استغراقه في اللهوِ والترفيهِ، انطلقَ كالسهمِ مردداً ياحنظلةَ ساعةً وساعة، وكأنَّهُ لا يحفظُ من القرآنِ أو السُنةِ غيرَ هذا .
تبلدَ في الناسِ حسُ الكفاح ومالوا لكسبٍ وعيشٍ رتيب
يكادُ يُزعزعُ من همتي سدورَ الأمينِ وعزمِ المريب
يا معشرَ المعلمينَ والمعلمات :
يا بَناةَ المجدِ وصانعي الأجيال، إنَّ أهمَّ ما نُخاطبكم بهِ، أن تمكِّنوا همَّ الدعوةِ من قُلوبكم، مُستغلينَ المواردَ المُتاحةِ لكم، قبلَ أن تنضبَ أو تشُوبُها شوائبُ البطالةِ، أو تكتسحُها أيدي السفالةِ.
أيُّها المعلمون والمعلمات :
لماذا لا تُذكونَ في قلوبِكم همَّ دعوةِ طلابكم وطالباتكن إلى الاستقامة، ألستم توجِّهُونَهم إلى ما فيهِ خيرُهم، لماذا يأخذُ التلقينُ المجردُ كلَّ أوقاتِكم مع أنَّهُ الوسيلةُ لا الغاية، لماذا يخرجُ الطلابُ والطالباتُ من فصولهم كما دخلوا إليها، لماذا لا نستغلُ هذا الصرحُ العلمي ليكونَ ميداناً لتخريجِ النشءِ المستقيم على دينه، لماذا لا نوجِّهُ علمنا الذي نُلقِنهُ للأجيالِ أياً كان ذلك العلمُ ليكونَ خادماً لشرعِ الله، تساؤلات ينبغي أن نهتمَّ بها، وأن نعدَّ الإجابةَ عليها قبلَ أن نعدَّ كشوفَ الدرجاتِ، ودفاترَ التحضير، إنَّ دعوةَ الطلابِ تكونُ عبرَ طريقين ، أولهما : أقوالنا، وثانيهما: أفعالُنا، ابتسامتُنا وتواضعنا، وحُسن تعاملنا ولين قولِنا وتغاضينا عن الأخطاءِ، وشرحِ صدورنا لهمومِ طلابنا، إنَّ إذكاءَ روحُ الإسلامِ في الطالبِ، ومخاطبةُ وجدانهِ مع حُسنِ التعاملِ معه، كفيلانِ بأن يخرجا لنا جيلاً يُعتمدُ عليه، فيا ليتَ مُعلمينا ومعلماتِنا لهذا يُدركون، وبه يعملون .
يا معشرَ الطُلاب، إنَّكم تقضُون في المدرسةِ ساعاتٍ هي زبدةُ أوقاتِكم، فإذا لم تقُوموا بالدعوةِ في هذا الميدانِ، فأيَّ ميدانٍ ستكُونونَ أكثرَ إنتاجاً فيه، إنَّ فئةَ الطلابِ من أكثرِ الفئاتِ استجابةً للدعوة، وقابليةً للتأثيرِ، وفئةُ الطُلابِ أقربُ للناسِ إلى الشابِ، فهو يعيشُ معهم، ويخالطهم ويجالسهم، لذا فإنَّ دعوتَهم أولى من دعوةِ غيرهم، والمسؤوليةِ تجاهَهُم آكدُ من المسؤوليةِ تجاهَ غيرهم .
مؤسفٌ كل الأسفِ أن ترى بعضَ شبابنا يقضي مع زملائهِ سنينَ عدداً، في مقاعدِ الدراسةِ لم يتلقوا منهُ كلمةَ نصح، أو توجيهاً لمعروفٍ، أو تغييراً لمنكرٍ، أو مساهمةً في نشرِ الخيرِ ودعوةِ الغير.
فيا أخي الطالبُ ساهم في نُصرةِ دينكَ بدعوةِ زملائِك، بكلمتكَ بهديتك، برسالتكَ، بالقدوةِ في الصلاحِ والسلوك.
وأخيراً إلى أختي المسلمة :
يحزُّ في النفسِ أن يرى المرءُ ذلك التمردُ الأخلاقي الذي يعصفُ بنا من كلِّ حدبٍ وصوب، ثُمَّ يجدُ من بعضِ صالحاتِنا عزوفاً أو انشغالاً عن تلك المسؤوليةِ العظيمة، فيا سُبحان الله!! لمن تتركنَ الميدان.
فيا أختي المسلمة :
ألا يكتوي قلبُكِ حين ترين تلك الوحوشَ الكاسرةِ التي كشَّرت عن أنيابها الفضائية، ومخالبها الصحفية، وراحت تعبثُ بأخواتكِ، وتنتهكُ عفتهنَّ وكرامتهنَّ، ألا يتفطرُ فؤادكِ وأنت ترينَ مظاهرَ التفسخِ وقلةَ الحياءِ تستشري في نسائنا.
أيطيبُ لك عيشٌ وأنتِ ترين الفتاةَ تلو الفتاة، وقد رمت بحجابها، وراحت تركضُ هُنا وهناك، مُلبيةً نداءَ تلك الأبواقِ الخاسئة، التي مُلئت بكلِّ الوان الدهاءِ والفتنة .
كيف تقوى نفسُكِ على القعودِ وأنتِ تملكينَ بفضلِ الله القدرةَ على تحصينِ أخواتكِ من حبائلِ المفسدين .
أختي المسلمة :
إمَّا أن تتقدمي أنت، وإلاَّ فإنَّ المفسدين لنا بالمرصاد، وبقدرِ تقصيركِ يكونُ إقدامُهم، ومن أيقنت بعظيمِ مسؤوليتها هانت عليها كل العقبات، ومن صدقَ الله صدقهُ الله .
أيُّها المسلمون :
فلنستشعر الشعورَ بالاستحياءِ من اللهِ جلَّ جلالهُ في قلوبنا، حين نرى من لا خلاقَ لهم يكدحونَ ويُضحُّون لنصرةِ باطلهم، ويُوفُون مع إمامهم إبليس، بالعهدِ الذي قطعهُ على نفسهِ، ((قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ)) (سورة ص :82) .
لابدَّ من الدعوةِ إلى اللهِ على كلِّ المستويات، دعوةً للمنحرفين والغافلين إلى التمسكِ بالإسلام، دعوةَ للمتمسكينَ بهِ لبعثِ هممهم، وتعريفهم بطريقِ العملِ وفقه الدعوة، لابدَّ من الدعوةِ إلى الله وعلوَّ الهمةِ فيها، لانتشالِ الأمةِ من تيهها الذي تهيمُ فيهِ، فالسوادُ الأعظمُ قد انحرفَ غيرَ ما قُصد كيدٌ ولا إرادةٌ سوء، لابدَّ من الدعوةِ إلى الله لاستنقاذِ الظباءِ الجفولةِ، والعصاةُ الذين تخلَّفوا عن منازلِ الفضل، لابدَّ من الدعوةِ إلى الله وإلاَّ فسدت الأرض، وأسنتِ الحياة وتعفنت، وذاقت البشريةُ الويلات من بعدها عن منهج الله، حينما يعيشُ الإنسانُ لدعوةِ الله يومَها فقط سيذوقُ معنى السعادة،
إنَّ السعادةَ أن تعيشَ لفكرةِ الحقِّ التليد
لعقيدةٍ كبرى، تحلُّ قضيةَ الكونِ العتيد
وتجيبُ عمَّا يسألُ الحيرانُ في وعيٍ رشيد
فتشيعُ في النفسِ اليقينِ وتطردُ الشكَ العنيد
وتردُّ للنهجِ المسددِ كلَّ ذي عقلٍ شريد
هذي العقيدة للسعيدِ هي الأساسُ هي العمود(12/181)
من عاشَ يحملُها ويهتفُ باسمها فهو السعيد .
وبعدُ فهل يا ترى تتحركُ الهممُ لدعوةِ الغافلين، وإرشادِ التائهين، هذا هو المُؤمل منَّا جميعاً رجالاً ونساءَ، صغاراً وكباراً، وإنا لمنتظرون .
اللهمَّ صلى على محمدٍ وعلى آلهِ وصحبه ،،،
=============
الاختلاف بين الكفر والإيمان
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه أما بعد :
فقد قال الله سبحانه وتعالى : (( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)) (الملك:1، 2) .
وقال تعالى : (( إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)) (الكهف:7) .
وقال سبحانه وتعالى : (( وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً )) (هود: من الآية7) .
دلت هذه الآيات على أنَّ من حكمته تعالى في خلق الوجود ابتلاء العباد ، أي اختيارهم، ليتبين المحسنُ من المسيء، بل ليظهر من هو أحسنُ عملاً ، فهذه الحياةُ ميدان ابتلاء ، بدأت هذه الرحلة رحلة الابتلاء، منذُ ابتلى الله آدم بإبليس، حين أبى أن يسجد له استكباراً وحسداً ، فأسكن الله الأبوين الجنة ونهاهما عن الأكل من الشجرة، وابتلاهما بإبليس فأغواهما وزين لهما الأكل من الشجرة : (( فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ، قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ، قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ )) ( لأعراف:22، 23 ، 24) .
فأهبط الله آدم وزوجه وإبليس إلى الأرض، وبدأت رحلةُ الابتلاء على ظهر الأرض، يبتلي الله عباده بما آتاهم ، ويبتليهم بالخير والشر، ويبتلي بعضهم ببعض، ويبتلي أولياءه بأعدائه ، وأعداءه بأوليائه ، قال الله تعالى : (( وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)) (الأنعام:53) يبتليهم بما أنزلَ الله عليهم من الشرائع المشتملة على الأوامر والنواهي .
فبدأ آدم- عليه السلام- وذريته هذا الطريق ومضوا، لكنهم مضوا على هدى الله وتوحيده، فمضى على ذلك عشرة قرون كلها على التوحيد، كما جاءَ عن ابن عباس - رضي الله عنه- في تفسير قوله تعالى : (( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) (البقرة:213) .
فكان الناسُ أمة واحدة كلها على التوحيد والإيمان، حتى حدث الشركُ في قوم نوحٍ فبعث الله نوحاً- عليه السلام- لينذر قومه الشرك، ويحذِّرهم بأس الله، فلبث فيهم ألف سنة إلاَّ خمسين عاماً، فآمن معه من شاءَ الله من عباده ، قال الله تعالى : (( وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)) (هود:36) .
فمن ذلك التأريخ صار الناس فريقين :
* مؤمنين .
* وكافرين .
وكلما بعث الله نبياً انقسم الناس أمام دعوته فريقين :
* مستجيبين مؤمنين .
* ومعارضين مكذبين .
هكذا تتابعت رحلة الدعوة إلى الله وقصة الدعوة إلى الله قال الله تعالى : (( ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِين ، مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ، ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ)) (المؤمنون:42- 44) .
فالناس فريقان : مؤمن وكافر ، مطيع وعاصي ، بر وفاجر ، هو فريقان في الدنيا وهم فريقان في الآخرة ، هذا الاختلاف الأعظم ، الاختلاف بالإيمان والكفر ، والطاعة والعصيان، والتقوى والفجور، قال الله تعالى : (( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) (التغابن:2).(12/182)
وهذا واقع بمشيئة الله تعالى وتقديره، وله الحكمةُ البالغة ، وهذا الاختلافُ ينشأ عنه تباغض واقتتال وتباين، لأنَّهُ اختلافٌ جذري، اختلا فٌ بالإيمان والكفر، كما قال الله تعالى : (( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)) (البقرة:253) .
فهذا اختلافٌ قدره الله وقضاه، ولا يزال الناس مختلفين ذلك الاختلاف، كما قال تعالى : ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) (هود:118، 119) .
وهذا يدلُ على استمرار هذا الاختلاف بين الحق والباطل ، بين أولياء الله وأعداء الله ، بين حزب الله وحرب الشيطان ، فهما حزبان مختلفان على ظهر هذه الأرض، فهذا اختلاف الحق فيه بيّن ، الحق فيه ما عليه الرسل وأتباعهم ، فمن أراد النجاة والسعادة والفلاح فليكن في هذا الجانب ، ومن كان في الجانب الآخر فقد شاق الله ورسوله كما قال الله تعالى : (( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) (لأنفال:13) .
فالخيرُ والصلاح، والفوز والسعادة في الدنيا والآخرة، في سبيل الرسل وأتباعهم، والشر والشقاء، والضلال البعيد لمن سلك سبيل الغاوين الحائدين الزائغين عن سبيل المرسلين ، قال الله تعالى : (( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) (الأنعام:153) .
وأكثر الخلق هم في حزب الشيطان كما قال تعالى : (( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ )) (غافر: من الآية59) , وقال : (( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ)) (سبأ: من الآية13) وقال : (( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)) (يوسف: من الآية38) , وقال: (( وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه)) (الأنعام: من الآية116) هذا هو حكمُ الله في هذا الخلاف، وهذا الاختلاف قال تعالى : (( الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً)) (النساء:76) .
والله تعالى يقيم الدلائل على الحق ، يقيم المعالم التي يهتدي بها المهتدون ينصر أولياءه ، ينجيهم مع قلتهم وضعفهم ، ويخذل أعداءه ويخزيهم، وينزل بهم النكبات على كثرتهم، وفي هذا تبصير للمستبصرين كما قال سبحانه : (( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ)) (لأنفال: من الآية42) .
جاءت هذه الآية في قصة بدر ، فبنصره تعالى لنبيه والمؤمنين وهم قلة على أعدائهم، وهم كثرة وذو عُدة وهالة، فيه آية يهتدي بها الموفقون، ويعمي عنها المعرضون الهالكون .
ثُمَّ إنَّ أعداءَ الرسل بينهم اختلافات ولكن هذه الاختلافات لا يخرجون بها عن دائرة الضلال والشفاء، قال تعالى : (( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)) (البقرة:176) .
وقال تعالى : (( إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ، يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ)) (الذريات:8، 9) .
كل هؤلاء المختلفين على باطل، فالاختلاف الأول بين الحق والباطل ، وأهلُ الحق والباطل ، فهذا الاختلاف يُحْمَد فيه أحد الفريقين ويَُذَم الفريق الآخر .
وأما الاختلاف بين ملل الكفر وطرق الضلال فهذا لا يخرجها عن الذم ، فكلها باطلة، وكلها مذمومة، وكلها سبلَ ضلالٍ، وإن كان بعضها أبعدُ عن الحق من بعض، فتكتسبُ مزيداً من الذم، ومزيدً من سوءِ المصير .
================
فتنة المنافقين وأثرها على الدعوة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه وبعد.
فلقد كانت فتنة المنافقين من أشدِّ الفتن التي تعرض لها المسلمون في تاريخهم الطويل، ذلك لأنهم يُظهرون الإسلام ويبطنون الكفر والزندقة، فينخدع الناس بظواهرهم ولا يأخذون حذرهم منهم، مما يهيئ للمنافقين الجو المناسب في المكر بالمسلمين، والكيد لهم وهم لا يشعرون، وهذا بعكس الكافر الواضح، حيث يؤخذ الحذر منه ويجاهد، ولا يُمكَّن له بين المسلمين.
لهذا كان خطر المنافقين في الصف المسلم أخطر بكثير من الكفار المجاهرين للمسلمين بالعداء، ولقد ظهر كيد المنافقين في عهدٍ مبكر مع الرسول e في المدينة، حيث عانى منهم الرسول e والمسلمون الأمرين، وذلك مما يثيرونه من البلابل والكيد والتخاذل... الخ.
وما موقف رأس المنافقين وتخذيله يوم أحد، وكذلك إتيانه بالإفك على أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها- بخافٍ على أحد، ومن أجل ذلك كان عذاب المنافقين أشد من الكفار .(12/183)
قال تعالى: (( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا )) (النساء:145)
ولقد جاءت آيات عديدة في فضحهم والتحذير من شرهم، ومن أراد الوقوف على هذه الآيات فليقرأ صدر سورة البقرة، وسورة التوبة، وسورة المنافقين وغيرها.
ومن أوضح الآيات التي حذرت من شرهم قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ))(آل عمران:118) .
وكذلك ما وصفهم به فى قوله تعالى: (( يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ))(البقرة:9) .
وإن أثر المنافقين لم يتوقف على عهد الرسول e، بل كان ممتدًا طيلة التاريخ الإسلامي، مرورًا بدورهم في قتل الفاروق ?، وما تلا ذلك من الفتن الطاحنة بعد مقتل عثمان ?، حيث كان الباطنيون المنافقون هم من وراء ذلك كله، كما أنهم كانوا هم الذين حرضوا التتار المغول في اجتياح عاصمة الخلافة الإسلامية في ذلك الوقت، وكانوا بطانة سوءٍ للخليفة العباسي، فمهدوا لهذه المأساة العظيمة التي لم يمرُ على المسلمين مثلها في الذل وكثرة القتلى، حتى قال المؤرخ ابن الأثير وهو يرويها: يا ليت أمِّي لم تلدني.
هذا وهو لم يشهد هذه الفواجع العظيمة بل هاله مجرد سماعها.
واستمر أثر المنافقين حتى ظهر في عصرنا الحاضر بأشكالٍ وأنماط خبيثة ماكرة لم يسبق لها نظير، حتى خيف على خاصة المسلمين ودعاتهم وعلمائهم من الانخداع بها فضلاً عن عامتهم وجهلتهم، وفيما يلي ذكر بعض هذه المكائد، لعلنا نحذرها ونقطع الطريق على أهلها.
1- ما يقوم به الباطنيون الرافضة من نفاقٍ وخداعٍ لبعض من يجهل عقيدتهم وتاريخهم من أبناء المسلمين، وذلك بما يظهرونه من حبٍ خادع لأهل السنة، أو أنهم تخلوا عن عقائدهم الباطلة من سب الصحابة، وقولهم بتحريف القرآن وادعاء العصمة لأئمتهم... الخ.
وهذا كله تقية ونفاق، ليحققوا من خلاله امتصاص العداء الذي يكنهُ الموحدون لهم، ويكسبوا عواطف المسلمين بهذا الخداع، وهذا واضحٌ بما تتبناه دولة الرافضة اليوم من تقاربٍ مع أهل السنة جماعات وأفرادا، ومما يزيد الأمر فتنةً وخطرًا، انخداع بعض أهل السنة بما يظهرونه من تأييد لبعض القضايا الإسلامية السُّنية، كالقضية الجهادية في فلسطين، ووقوف الحزب الشيعي المسمى ( حزب الله ) أمام اليهود في الجنوب اللبناني، وصموده أمامهم، في وقتٍ تخاذل فيه أكثر المسلمين أمام اليهود واستسلموا للسلام المهين، وهذا فتنة بلا شك([1]).
ولكن كل هذه الأمور لا يصح أن تنطلي على المسلم الواعي بعقيدته وعقيدة الرافضة، وذلك أنهم لم يغيروا من عقيدتهم شيئًا، وإنما هذا هو شأنهم في كل وقت يشعرون فيه بمنابذة الناس لهم، وهم ينتظرون اليوم الذي يتمكنون فيه، فيعلنون فيه عقائدهم الباطنية، ولا يرقبون بعد ذلك في مؤمنٍ لا يوافقهم إلاً ولا ذمة ، فخذوا حذركم أيها المسلمون، وإن أخطر ما في هذا النفاق أن يوجد من بعض الحركات الجهادية والجماعات الإسلامية، من ينخدع بهم ويدخل في تحالفات معهم، أو يقبل المعونات منهم، وفي هذا خطر على مستقبل الدعوة والجهاد، واحتواء المنافقين لهم وحرفهم لمسيرتها.
2- ومن صور الخداع والتلبيس التي قد ينخدع بها بعض السذج من الناس، ويسقطون في فتنتها: ما يرفعهُ المنافقون في أكثر بلدان المسلمين، في وجه أهل الخير والإصلاح من أنهم دعاةُ شر وإرهاب وفساد، وما تجلبه وسائل الإعلام المختلفة، وتدندن به على وصفهم ورميهم بهذه الأوصاف الظالمة، حتى تأثرت بذلك بعض الأدمغة المخدوعة، فسقطت في فتنتهم، ورددت معهم هذا الظلم والخداع، وبالتالي تعرض أهل الخير للأذى والنكال، باسم المصلحة الشرعية ومكافحة الإرهاب والفساد؛ وذلك بعد أن تهيأت أذهان المخدوعين من المسلمين لهذا الخداع والتلبيس.
3- اهتمام الحكومات العلمانية ببعض المناسبات الإسلامية، كالاحتفال بمولد الرسول وهجرته e، أو ليلة النصف من شعبان، أو الإسراء والمعراج، إلى آخر هذه المناسبات التي لا أصل للاحتفال بها شرعَا، وإنما هي من البدع المحرمة؛ ومع ذلك ينخدع بهذا التلبيس كثير من دهماءِ المسلمين، وتتحسن صورة أولئك المنافقين الذين يضللون الناس بهذا الخداع، ويبدون في أعين المخدوعين أنهم يحبون الإسلام ويغارون عليه، وهم أبعد ما يكونون عن الإسلام وأهله، وهل يحبُ الإسلام ويعتز بالانتماء إليه من يرفض الحكم به والتحاكم إليه؟ ويبدل شرع الله المطهر بنحاتات الأفكار وزبالات الأذهان الجاهلة الظالمة؟ لا، والله! إنَّ مثل هذا يكذب في ادعائه حبَّ دين الإسلام؛ قال تعالى: (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ )) (آل عمران:31) فهل يعي هذا المخدوعون المضلَّلون؟(12/184)
ومما يدخلُ في هذه الصورة أيضًا من صور التلبيس، ما يقوم به بعض المنافقين المحادِّين لشرع الله- عز وجل - من إقامة بعض المؤتمرات أو الندوات الإسلامية، ويدعون إليها بعض العلماء والدعاة، فيستجيب من يستجيب، ويرفض من يرفض، وكل هذا من ذر الرماد في العيون، وتخدير دعاة المسلمين بمثل هذه الصروح الخبيثة، التي هي أشبه ما تكون بمسجد الضرار الذي بناه المنافقون في عهد الرسول e، وادعوا أنَّه للصلاة، وإيواء المسافرين في الليلة الشاتية المطيرة، فأكذبهم الله- عز وجل - وفضح نياتهم بقرآنٍ يتلى إلى قيام الساعة، نهى فيه الرسول e عن دخوله والقيام فيه، بل أُمر بتحريقه قال تعالى: ((وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ )) (التوبة : 107 ـ 108)
فهل آن الأوان أن نعي مثل هذه الفتنة والخداع، فلا نستجيب لمثل هذه الدعوات، ولا نقومُ في مثل هذه المؤتمرات أبداً؟ بل قد آن الأوان إلى أن تفضح مثل هذه اللافتات، ويحذر الناسُ من شرها والوقوع في فتنتها؛ ويبين لهم أنها ضربٌ من الخداع، وصورة من صور النفاق الماكر الخبيث.
4- إظهارهم لفسادهم بمظهر الإصلاح وإرادة الخير بالأمة، كما قال الله عز وجل عنهم: (( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)) (البقرة:11).
يقول سيد قطب - رحمه الله تعالى - عن هذه الآية: إنهم لا يقفون عند حد الكذب والخداع، بل يضيفون إليهما السفه والادعاء: (( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ )) ،لم يكتفوا بأن ينفوا عن أنفسهم الإفساد، بل تجاوزوه إلى التبجح والتبرير : (( قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ))
والذين يفسدون أشنع الفساد، ويقولون إنهم مصلحون، كثيرون جداً، في كل زمان يقولونها؛ لأنَّ الموازين مختلة في أيديهم؛ ومتى اختل ميزان الإخلاص والتجرد في النفس اختلت سائر الموازين والقيم، والذين لا يخلصون سريرتهم لله، يتعذر أن يشعروا بفساد أعمالهم؛ لأنَّ ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء الذاتية، ولا يثوب إلى قاعدة ربانية ) [2].ا.هـ.
ومما يدخل في هذه الصورة من صور الخداع والتلبيس، ما يستخدمه منافقو زماننا من تحريفٍ لنصوص الشريعة، وتأويلات باطلة لها، في تسويغ فسادهم ومواقفهم الجائرة؛ فهم مع جهلهم بأحوال الشريعة، نراهم يخوضون فيها بلا علم إلا ما أشربوا من أهوائهم؛ فنراهم يسوِّغون الترخص بل التحلل من الشريعة بقواعد التيسير ورفع الحرج، وتغير الفتوى بتغير الحال والزمان، إلى آخر هذه القواعد التي هي حق في ذاتها، لكنهم خاضوا فيها بجهلٍ وهوى، فاستخدموها في غير محلها، فهي حقٌ أريد بها باطل، ومع جهلهم بالشريعة وظهور القرائن التي تدل على خبث طويتهم، إلاَّ أنَّ هناك من ينخدعُ بهذه الشبه والتحريفات الباطلة؛ ومن عجيب أمر القوم!! أنهم يرفضون الحكم بما أنزل الله- عز وجل - والتحاكم إليه، ولا يذعنون له، ومع ذلك نراهم في أحيانٍ قليلة يرجعون إلى بعض الأدلة الشرعية، ليمرروا ويبرروا من خلالها بعض فسادهم أو مواقفهم الباطلة؛ فما حاجتهم إلى الشرع في هذه المرة وهم كانوا يكفرون به من قبل؟ إنه الهوى والخداع والتلبيس على الناس، قال تعالى في فضحِ هذا الصنف من الناس: (( وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) (النور: 48 ـ 50) .
فينبغي لكل مسلم أن يحذر من شبه المنافقين وخداعهم، وأن يقول لهؤلاء الذين يسوِّغون فسادهم بتحريف الأدلة الشرعية، ادخلوا في السلم كافة، وحكِّموا في الناس شرع الله - عز وجل -، وارفضوا ما سواه؛ أما أن تنحُّوا شرع الله- عز وجل - عن الحكم، حتى إذا كان لكم هوى في تمرير فسادكم بشبهةِ دليل رجعتم إليه؛ فهذا الذي قال الله- عز وجل - عن أهله: (( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) (البقرة : 85) .(12/185)
5- خداعهم لبعض المتحمسين لشرع الله وتطبيقه؛ وذلك بدعوتهم إلى مشاركاتٍ وطنية، ومجالس نيابية، يتعاون الجميع فيها على ما فيه صالح الوطن والمواطن كما زعموا!! فيستجيبُ بعض الدعاة لهذا، وتجمعهم مع المنافقين الرافضين لشرع الله- عز وجل - مظلةٌ واحدة، فيعرض الإسلاميون فيها مطالبهم، كما يعرض العلمانيون والرافضة والشيوعيون مطالبهم الكفرية؛ ومعلومٌ ما في ذلك من مداهنةٍ وتعاون على الإثم والعدوان، واستجابةً لداعي الخداع والتلبيس الذي يتولى كبره المنافقون، الذين يريدون من استجابة الإسلاميين لهم، إضفاءَ صفة الشرعية على مجالسهم ونظمهم التي يحكمون بها؛وبالتالي يتخدر الناس، ويستنيم المطالبون بتحكيم شرع الله – عز وجل - ما دام أن للمسلمين صوتاً في هذه المجالس النفاقية الماكرة، ويا ليت أن هناك مصلحة قطعية يمكن تحقيقها للمسلمين، تربو على المفاسد التي تنشأ من المشاركة، إذن لهان الخطب؛ لكن الحاصل من هذه التجارب هو العكس؛ حيث إنَّ المستفيد الأول والأخير هم العلمانيون المنافقون، وقد لا يكون المشارك من المسلمين غافلاً عن هذا الخداع، ولكنهُ يدخلُ بغرض إقامة الحجة والدعوة إلى تطبيق الشريعة ومعارضة كل ما يخالفها، ولكن هل هذا ممكن؟ وهل يسمح أهل الكفر والنفاق بذلك ؟!!
الذي يغلب على الظن أن أعداءَ الشريعة لن يسمحوا إلاَّ بالكلام فقط؛ وإذا تجاوز الإسلاميون ذلك إلى العمل، وتجاوزوا الخطوط الحمراء المرسومة لهم جاء دور الحديد والنار؛ وما تجربة الجزائر وتركيا عنا ببعيدتين.
6- فتنة المنافقين داخل الصف الإسلامي:
وهذا شأن المنافقين في كل زمان؛ فعندما تخفق جهودهم في الوقوف في وجه أهل الخير والصلاح، وعندما ينشط الدعاة ويظهر أثرهم في الأمة؛ فإنَّ المنافقين يلجئون إلى وسيلةٍ ماكرةٍ وفتنةٍ شديدة ألا وهي التظاهر بالحماس للدعوة والدخول في أوساط الدعاة، مظهرين التنسك والغيرة على الدين، والحرص على العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى ينخدع بكلامهم المعسول بعض الطيبين من الدعاة، فتحصل الثقة بهم، حتى إذا تمكنوا من مراكز التوجيهِ والدعوة، بدءوا فتنتهم الكبرى على الدعوة وأهلها؛ مع استمرارهم في إظهار الخير والحماس لهذا الدين، وتسويغ ما يقومون به من الممارسات بالحرص على مصلحة الدعوة وتميزها وصلابتها.
ومن أخطر صور الفتن التي تنشأ من هذا الصنيع ما يلي:
أ- فتنة التفريق وإثارة العداوات بين دعاة الإسلام:
وهذه من أعظم فتن المنافقين داخل الصف الإسلامي، وفي أوساط الدعوة إلى الله - عز وجل -، وقد فضح الله- عز وجل - المنافقين الذين بنوا مسجد الضرار، وأظهر أهدافهم الخبيثة بقوله سبحانه: (( وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ )) (التوبة : 107) قال المفسرون لهذه الآية: ( أنهم كانوا جميعاً يصلون في مسجد قباء؛ فبنوا مسجد الضرار ليصلي فيه بعضهم، فيؤدي ذلك إلى الخلاف وافتراق الكلمة ) [3] .ا.هـ.
وهذا الضربُ من الفتن لا يحتاج إلى تدليل، فالواقعُ شاهد بذلك، ومع أن للافتراق أسباباً كثيرة كالجهل والهوى... إلخ؛ إلاَّ أنَّ أثر المنافقين الذين يدخلون في صفوف الدعاة لا يجوز إغفالهُ والتهوين من شأنه، وكون الفرقة تحصلُ بين أهل طريقتين مختلفتين في الأصول، فإنَّ هذا الأمر واضح ومعقول ومقبول، أمَّا أن يفترق أهل الطريقة الواحدة - طريقة أهل السنة والجماعة وطريقة سلف الأمة -، فهذا أمرٌ لا يعقل ولا يقبل، ولا يكون إلا وهناك يد خبيثة خفية وراء هذا الافتراق؛ فينبغي على الدعاة الحذر من هذه الأيدي، والتفتيش عنها وفضحها، وتطهير الصف المسلم منها.
ب - فتنة التخذيل والتشكيك:
وهذه أيضاً من أعمال المنافقين المندسين في الصف المسلم، حيث يسعون إلى بث فتنةِ التخذيل، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وذلك بدعاوى وشبهٍ شرعيةٍ خادعة، مؤداها توهين عزائم الدعاة وإضعاف هممهم، وبثِّ الخوف في النفوس من الباطل وأهله، وتهويل قوة الأعداء وخططهم، بصورة تبث اليأس في النفوس الضعيفة.
ج - فتنة الإيقاع بالدعوة والدعاة:
لا تقف مساعي المنافقين في إيصال الشر والأذى للدعوة وأهلها عند حد، فمن هذه المساعي الخبيثة التي يقومون بها داخل صفوف الدعاة بعد إظهار الحماس، وبعد كسب الثقة والسماع لأقوالهم، كما قال تعالى : (( وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ )) (المنافقون: 4) .
وتحت ستار الغيرة على الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله- عز وجل -، فإنهم يبدءون في دفع بعض الدعاة إلى مواجهات مع الباطل وأهله، والزج بالدعوة في أعمالٍ خطيرة، تفتقد المستند الشرعي من جهة، وتؤدي بالدعوة وأهلها إلى الضمور والانكماش من جهة أخرى، إن لم يُقض عليها قضاءً مبرماً، وهذا هو ما يريده المنافقون المخادعون، الذين قال الله- عز وجل - عن أمثالهم: (( لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)) (التوبة:47) .(12/186)
يقول الإمام البغوي - رحمه الله تعالى- عند تفسير هذه الآية: (( لَوْ خَرَجُوا )) يعني المنافقين (( فِيكُمْ )) أي معكم(( مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً )) ،أي: فسادًا وشرًّا، ومعنى الفساد: إيقاع الجبن والفشل بين المؤمنين بتهويل الأمر، (( وَلَأَوْضَعُوا ))، أسرعوا، (( خِلالَكُمْ ))، وسطكم بإيقاع العداوة والبغضاء بينكم بالنميمة، ونقل الحديث من البعض إلى البعض. وقيل: (( وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ )) أي: أسرعوا فيما يخلُّ بكم.((يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ )) ، أي: يطلبون لكم ما تفتنون به، يقولون: لقد جُمع لكم كذا وكذا، وإنكم مهزومون، وسيظهر عليكم عدوكم ونحو ذلك، وقال الكلبي: يبغونكم الفتنة يعني: العيب والشر. وقال الضحاك: الفتنة الشرك، ويقال: بغيته الشر والخير أبغيه بُغاءً إذا التمسته له، يعني: بغيت له.
((وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ )) ، قال مجاهد: معناه وفيكم محبُّون لهم يُؤدون إليهم ما يسمعون منكم، وهم الجواسيس. وقال قتادة: معناه وفيكم مُطيعون لهم، أي: يسمعون كلامهم ويطيعونهم. ((وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)) [4]. ا.هـ.
[1] انظر مقالات حزب الله رؤية معايرة- المنشور في مجلة البيان العدد (241) وما بعده، للأستاذ : عبد المنعم شفيق، ليظهر لك الوجه الآخر لعلاقة حزب الله باليهود وحقيقة المعركة بينهما.
[2] في ظلال القرآن عند الآية (11) من سورة البقرة.
[3] تفسير البغوي 4 / 93 ط . دار طيبة .
[4] تفسير البغوي 4 / 56 ط . دار طيبة .
================
هم العدو فاحذرهم
الحمد لله الذي يكشفُ البلوى، ويعلمُ السرَّ والنجوى، وأشهدُ ألاَّ إله إلا الله وحدهُ لا شريك له، إنَّهُ هو الربُّ الأعلى، وأشهدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله النبي الأكمل، والرسول الأتقى- صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم- تسليماً أما بعد:
فاتقوا الله أيُّها المسلمون: حقَّ التقوى، ولا تموتنَّ إلاَّ وأنتم مسلمون.
الأمةُ تعيشُ في غمةٍ، والأمةُ سيلٌ قد انعقد غمامه، وجيوشُ الصليب جاءت إلى ديار المسلمين من فوقهم ومن أسفل منهم، يُلوِحون بعصاهم الغليظة، ويُشهرون سيفَ التهديد والوعيد، قائلين:إنَّا قد جمعنا لكم فاخشونا، وأهلُ الإسلام يستسقونَ أمطاراً فترتوي الأجواءَ رياحاً وغباراً، بما كسبت أيدي الناس، ليذيقهم بعضَ الذي عملوا لعلهم يرجعون.
وفي غمار الأزماتِ، وأوقاتِ الشدائد والمحن، ينشغلُ الناسُ بالعدو الأصغرِ عن العدو الأكبر، حيثُ تنبعثُ روائحَ منتنةٍ من مستنقعٍ عفن، وتخرجُ جرذانِ الفساد، وفئران الانحلالِ من جحورها، لتغرق سفينةَ الأُمة، وتهدم بنيانها.
من يا تُرى عدونا الأكبر؟! وما تلك الروائح العفنة؟! وما هي جرذان الفسادِ وفئران الخراب ؟!.
إنَّهم قومٌ نسوا الله فنسيهم، أولئكَ هم الفاسقون، أولئكَ هم المفسدون في الأرض، الآمرون بالمنكر، الناهون عن المعروف، إنَّهم المنافقون الذين لا يظهرون إلاَّ في الأزمات ، ولا ينعقونَ إلاَّ إذا انتفش أسيادهم ، ورقصوا على جراح أمتنا طرباً .
إنَّهم المنافقون على اختلاف مشاربهم، وتنوع مسمياتهم، العلمانيون الحداثيون، أرباب الشهوات وأدعياءَ العقلانية والتنوير، الرافضة ، تعددت الأسماءُ والكيدُ واحد.
تنوعت أسماؤهم وسيدهم واحد، (( ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب )) وهدفهم واحد"، (( ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً)) ويحبون أن تشيع الفاحشة بين الذين آمنوا، وودُّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواءَ.
وادعاءَاتُهم واحدة، فالإفسادُ إصلاح، وتدميرُ المرأةِ تحرير، وعقوقها حقوق،. (( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون)) إنَّهم المنافقون والمنافقات، بعضهم من بعض ، من طينةٍ واحدة، وطبيعةِ واحدة، المنافقون في كل زمانٍ وفي كل مكانٍ تختلف أقوالهم وأفعالهم، ولكنها ترجعُ إلى طبعٍ واحد
وتنبع من مستنقعٍ واحد، سوءَ الطوية، ولؤمَ السريرة والغمز، والدس والضعف عن المواجهةِ والجبن عند المصارحة، تلك سماتُهم الأصيلة ، أمَّا سلوكهم فهو الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، والبخلُ بالمال ، إلاَّ أن يبذلوه رئاءَ الناس، وهُم حين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، يستخفون بهما، ويفعلون ذلك دساً وهمساً، وغمزاً ولمزاً، لا يجرؤن على الجهر إلاَّ حين يأمنون، ولا يأمنون ويجترئون إلاَّ حينما ينتصرُ أسيادهم من اليهود والصليبين، ويُحلون قريباً من ديارِ المسلمين.
إنَّهم نسوا الله فلا يحسبون إلاَّ حساب الناس وحساب المصلحة، ولا يخشون إلاَّ الأقوياءَ من الناس ، يذلون لهم ويدارونهم، فنسيهم اللهُ فلا وزن لهم ولا اعتبار.
إنَّ النفاقَ لا ينجمُ إلاَّ عن تلك النفوسِ المريضة الجبانة، التي لا تتجرأُ على الظهورِ بأفكارها، أو تلك النفوسِ التي لا ترى إلاَّ حياتها الدنيا ، فإن أُعطي أحدهم رضي، وإن لم يُعط سخط ، وهُناك نفوسٌ تكرهُ الحقَّ ولا تحبُ العيشَ إلاَّ في المستنقعِ الآسن ، فهي تشرقُ بدعوةِ التوحيد، والعبودية لله وحده.
لقد تميزَ عصرُنا الحاضر بارتفاع أصوات المنافقين والمنافقات في أنحاء العالم الإسلامي، فأُفردت لهم الصفحات، ودُعوا إلى التحدث في المنتديات، واحتفلت بهم التجمعات، وسيطروا على كثيرٍ من وسائلِ الإعلام كما يلاحظهُ القاصي والداني.(12/187)
وحالُ المنافقين ليس بجديدٍ على أمةِ الإسلام، فعداوتهم متأصلةً منذُ هجرة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقد وصفهم الله في سبعةٍ وثلاثين موضعاً من كتابه، وأفاضت السنة في وصفهم، وهي صفاتٌ تتوارثها الأجيال المنافقة، زمنٍ بعد زمن حتى وقتنا الحاضر، "وإذا رأيتهم تُعجبك أجسامهم، وإن يقولوا تسمع لقولهم"، فما أكثرَ المستمعين لحديثهم، المنصتين لهرائهم، المتابعين لإنتاجهم ، والعجبُ أن تتولى حفنةٌ قليلةٌ من المنافقين والمنافقات إفساد الأمة، ومسخها عن دينها ودعوتها، إلى التحررِ والإباحية، والعفنِ والرذيلة، وهكذا هُم المنافقون في كلِّ أمةٍ وفي كل قطر، يتحينون الفرص، ويقطعون الطريق، (( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض)) لا يملون ولا يكلون، ولهم جلدٌ وصبرٌ عجيب، شعارهم ( تقدم خطوتين وارجع خطوة) (( وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم)) .
إنَّ من كيد المنافقين محاولةُ إسقاطِ الشخصيات المسلمة، وتشويه صورتها، والقدحُ في نزاهتها كما في قصةِ الإفك التي تتكرر في كلِّ جيل، وعبر طرقٍ مختلفة.
ومن كيدهم: بلبلةُ الصفِّ الإسلامي، بإشاعة الخور فيه والضعف، وذكرُ قوةِ الأعداء وتهويلها"، (( وقالوا لا تنفروا في الحر)) ، (( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلاَّ خبالاً)) وكما قال قائلهم يوم تبوك : أتظنون جلادَ بني الأصفرِ كقتالِ العرب، والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال ، واستعملوا أسلوبَ السخريةِ والاستهزاء، (( ولئن سألتهم ليقولنَّ إنما كنَّا نخوض ونلعب )) .
أيُّها المسلمون :
المنافقون هم الذين يتخذون الكافرين أولياءَ من دون المؤمنين، يبتغون عندهم العزةَ، ويُسارعون فيهم، يقولونَ نخشى أن تُصيبنا دائرة"، فهم يتعاونون مع أعداءِ الإسلام لتدميرِ الأمةِ المسلمة، قال شيخ الإسلام": وهؤلاءِ المنافقين في هذه الأوقات، فيهم ميلٌ إلى التتار، لكونهم لا يلزمونهم شريعة الإسلام.
يشهدُ التاريخُ ويشهدُ الحال على أنَّهُ ما من فتنةٍ هي أشدُّ خطراً وكيداً على الأمة، وقيادتها ومبادئها، مثل كيد المنافقين.
فهم لا تربطهم بقادتهم، ولا بأوطانهم مبادئُ سامية، ولا قيمٍ نبيلة ، رائدهم المصلحة وهدفهم الإفساد.
روي عنه- صلى الله عليه وسلم- قوله : (( إني لا أتخوف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً ، أمَّا المؤمن فيحجرهُ إيمانه ، وأما المشركُ فيقمعهُ كفره ، ولكن أتخوفُ عليكم منافقاً عالم اللسان ، يقولُ ماتعرفون ، ويعملُ ما تنكرون)) .
من ينسى موقفهم في أحد، وخيانتهم يوم الخندق، وإرجافهم في تبوك، ومن ينسى مؤامرتهم لإسقاط الدولة المسلمة، ومن ينسى تواطؤهم مع التتار، وتعاونهم مع أهلِّ الصليب، أمَّا في عصرنا فتشهدُ أرض أفغانستان بالأمس، وبلاد العراق اليوم بخبثهم وخيانتهم ومكرهم.
إنَّ شماتتهم وفرحهم بما يُصيبُ المسلمين من نكباتٍ، لم يكن ليُخفيها التظاهرُ المتصنع ، وما تقولهُ أفواههم غيرَ ما تُخفيه صُدورهم .
إنَّهم وإن دندنوا بالحفاظ على مصلحةِ الوطن، وتحدثوا عن الحرصِ على الوحدة والتآلف، فهم بأفعالهم كاذبون، وبمواقفهم خائنون، (( وإن يقولوا تسمع لقولهم )) (( وفيكم سمَّا عون لهم )) .
لم يعرف التاريخ السابق والمعاصر قوماً أشدُّ وفاءً لقيادتهم وأمتهم، وأكثرُ حفاظاً على مكتسبا تهم، من أهلِّ السنةِ الصالحين المصلحين، الذين ينطلقون في مواقفهم من عقيدةٍ راسخة، وقيمٍ نبيلة، وإيمانٍ بالله واليوم الآخر، لا خوفاً من بشرٍ ولا طمعاً في عَرَض.
أيُّها المسلمون:
والأمةُ اليوم مهددةٌ من أعدائها، وليس لها من دونِ الله كاشفة، والفتنُ قد اشتدَّ أوارها ، فإنَّ الحاجةَ تشتدُّ للعودة إلى الله، واللجوءِ إلى حماه ، والحاجةُ تشتدُّ إلى التعاون والتآلف، ووحدةَ الصفِّ والاعتصامِ بحبل الله ، والحاجةُ تشتدُّ إلى السيرِ في ركبِ جماعةِ المسلمين وإمامهم.
ولكنَّ المنافقين في الأمة انطلاقاً من مبادئهم في خلخلة الصفوف، وتحقيقاً لأهداف أسيادهم"، (( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم)) ، ويبغونكم الفتنة، ويريدون أن تميلوا ميلاً عظيماً.
هاهم اليوم يستغلون انشغالَ الأمةِ بالأحداثِ والأزمات ، يبثُّون سمومهم، وينشرون أفكارهم العفنة، ويدعون إلى ضلالاتهم التي تشهدُ هدم الجدار الأخلاقي للأمة ، لكي يسهلَ استعمارها، ويخف على أسيادهم دمارها.
لقد رأوا كما رأى أسيادهم، أنَّ إفساد المرأةِ هو أقصرُ الطُرقِ لإفسادِ المجتمعِ بأسره، فسلطوا سهام أقلامهم للحديث عن قضايا المرأة وحقوقها المهضومة كما يزعمون.
إنَّ قضاياهم التي يطرحونها، وأفكارهم التي ينشرونها، لا تتجاوزُ المرأة وشؤونها، سواءً فيما يخصُّ تعليمها، ولباسها المدرسي ومناهجها، أو فيما يخصُّ عملها، ومحاولةُ إقحامها في مجالاتٍ لا تتناسبُ مع طبيعتها ، أو فيما يتعلقُ بترفيهها من خلالِ دعواتهم لإنشاءِ نوادٍ نسائية .
وآخر غثائهم دعوتُهم التي أٌقرت، وهي سماحَهم للمرأةِ بالعملِ بائعةً بمحلاتِ أدوات التجميل، ومندوبة مبيعات.
ودعكَ من شروطهمُ التي وضعُوها، فإنَّما هي حبرٌ على ورق.
وفي برنامجٍ تلفازي، يصبحُ المذيعُ مفتياً، فيعرضُ صورَ نساءٍ كاشفاتِ الوجهِ، ويبرر بأنَّهُ هذا لا شيءَ فيه شرعاً .
إنَّ مثلَ هذه الدعواتِ العفنةِ في مجتمعنا المسلمُ الغيور، إنَّما تزرعُ بذورَ الخصامِ والعداوات، وتؤججُ نارَ الفُرقةِ والنزاعات، وتستجلبُ غضبَ اللهِ عز وجل وسخطه.(12/188)
كلُنا يُدركُ والمنافقون يعلمون أنَّ فتنةَ التبرج والسفور في البلاد المسلمة، إنَّما بدأت بكشفِ وجه المرأة، فخلعت معهُ ما هو أغلى وأثمن، ألا وهو ثوبُ الحياء، الذي طالما صان وجهها، أن يكون معروضاً مبذولاً لكلِّ من شاءَ أن يراه، وما زالت المرأةُ تتدرجُ في خطوات السفور، حتى وصلت إلى ما تعلمون وتسمعون.
وكلُنَّا يُدركُ أنَّ عمل المرأة بائعةً ومندوبة مبيعات، يستلزمُ قيادتها للسيارة، ويتطلبُ اختلاطها بالرجال، واتصالها بهم، ولا تسأل بعد هذا عمَّا يحدثُ من فتنٍ وضياع، فلماذا الضحكُ على الذقون ؟ .
وإننا نتساءلُ بحرقةٍ وأسى : لمصلحةِ من تُبثُّ هذه الأفكار العفنة، وتنشرُ هذه الآراء المفسدة ؟ وهل نحنُ نُعاني من قلةِ الرجال العاملين، أوليس لنا عبرةً في تجاربِ الغرب الكافر، حينما انتهوا إلى حقيقةِ : أنَّ المرأةَ دورها في بيتها، وعملها في أسرتها، فلماذا نبدأُ من حيثُ بدؤواُ لا من حيث انتهوا.
إننا نعلمُ ونوقنُ، أن ليس بالقومِ غيرةٌ على الدين، ولا حرصٌ على مصالحِ البلادِ والعباد، ولكنهم المنافقون يصطادون في الماءِ العكر، ولا يرضيهم إلاَّ أن يكون مُجتمعنا نسخةً من مجتمعات الغربِ المنحلة، ولا يقرُّ أعينهم إلاَّ مشاهد المسارح والبارات ، ودورُ البغاءِ وأولادُ السفاح منتشرةً في شوارعنا ، إنَّهم كما أخبر الله ((ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً)).
إنَّ العلمانيين حينما يطرحون قضيةَ المرأةِ وحجابها، ويُطالبون بقيادتها للسيارة، ومشاركتها للرجلِ في التجارةِ والإدارة، إنَّما يجعلون من مسألةِ الحجابِ والعفافِ مجرد تقاليدٍ وعادات.
وما عرفنا الإسلام تقاليد ، إنَّما عرفناهُ مناراً وتعاليم، وشرائع ومعالم. وهم بذلك يُحولون شرعَ اللهِ ووحيهِ إلى أعرافٍ وتقاليد، تواضعُ الناس في زمنٍ من الأزمان على احترامها، وبناءً على ذلك فما يَصلحُ لجيلٍ لا يصلحُ لآخر، وما يناسبُ مجتمعاً لا يناسبُ المجتمعات الأخرى، وما يتفقُ مع زمنٍ فلا شأنَ لهُ بباقي الأزمان، إنَّ الهدف من التعبيرِ عن الأحكام الشرعية، بالتقاليدِ واضحٌ بيِّن، وهو جعلها عُرضةً للتغييرِ والتبديل، بحجةِ إنَّ تقاليدَ عصرُ الصحراء لن تُناسب عصر الفضاء،" كبُرت كلمةً تخرجُ من أفواههم .
لا بُدَّ أن تُدرك المرأةُ المسلمةِ ويدرك وليها، ولا بُدَّ أن يدركَ المجتمع كلهُ أنَّ كلَّ دعوةٍ لإفسادِ المرأةِ، ونزعِ حيائها، وسلبِ عفافها، إنَّما هي محاولةُ لهدمِ معالمِ القوةِ في الأمة، ليسهلَ على العدوِّ تدميرها، وسلب خيراتها.
وإنَّ العجب لا ينقضي من أمةٍٍ تنعمُ بشريعةِ ربها، وتتفيؤ ظلالَ نعمهِ الوارفة، في جنةِ العفاف، وبستانِ الفضيلة ، ثُمَّ هي تنقضُ غزلها، وتُخرب بيتها بأيديها وأيدي أعدائها،. (( أ فحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون)) .
الخطبة الثانية
أما بعد:
فإنَّ المعركةَ الفكريةَ التي يُديرها أعداءُ الإسلام، أخبثُّ وأشدُّ لؤماً من المعاركِ العسكريةِ والاقتصادية، معركةٌ استنفرت فيها الأقلام، وحُشدت لها الكتبُ والصحفُ والمجلات، ومئاتُ المرتزقة والحاقدين.
وإنَّ أشدَّ ما يُصابُ به المسلمون، أن يتسلل المنافقون إلى صفوفهم، فيعيثون تخريباً وفساداً، وأصحاب الغفلةِ يسمعون لهم، وتُؤثر فيهم مكايدهم 0
إنَّ المنافقينَ اليومَ لم يُعد هجومهم وحربهم قاصراً على القيادات الإسلامية، من علماءٍ ودعاة، ولم يتوقف عندَ حدِّ الهجومِ على المؤسسات الإسلامية العاملة في هذه البلاد ، من لمزٍ لنظامِ القضاء، أو سخريةً بالفتوى، أو هجومٌ متعمدٌ على الهيئات، وتهكمٌ برجالها ، ذلك الهجومُ الذي يقطرُ من أقلامهم، وتسودُ به صحافتهم.
لم يُعد المنافقون يكتفونَ بذلك، بل مع جلدِ الفاجرِ، وعجزِ الثقةِ، أصبحوا يَتطاولون على بعضِ معالمِ الدين، ويتحدثونَ عن أمورٍ شرعيةٍ بأسلوبٍ ساخر، ينبئُ عن مرضٍ قلبي ، وانهزاميةٍ نفسية، فمن كاتبٍ يتهجمُ على الجهادِ ويسخر من المجاهدين، ويتهكمُ بالكراماتِ وصورَ النصر ، إلى آخرٍ يكتبُ مقالاتٍ عن الدعوةِ، ويتوصلُ بعبقريتهِ الفذَّة إلى أنَّ داءَنا، وعلةَ فشلِ تعليمنا، هو اشتغالُنا بالدعوة إلى الله ، ويظهرُ تبرمهُ منهُ قائلاً: لهذا أصبحنا محاطينَ بالدعوة والدعاةِ من كلِّ جانب ، ويسخرُ من مواضيعِ الدعوة قائلاً : إنَّ كثيراً من النشاطاتِ لا يتضمنُ إلاَّ تكراراً، فهي تدورُ على موضوعاتٍ محددة، أشهرها الموتُ والحجاب، وتفسيرُ الأحلامِ والجهاد.
ويُطالبُ تلميحاً بإقصاءِ الدينِ عن المناهجِ الدراسيةِ قائلاً : وتساعدُ المناهجُ نفسها هؤلاءِ، على أن يكونوا دعاةً، فقد اصطبغتِ الكتبُ الدراسيةِ جميعها بصبغةٍ دينية، ويختمُ هراء هُ بقوله: ومن هُنا فأحد أسبابُ تدهورِ التعليم، أنَّ المدارسَ لم تُعد بيئةً للتعليمِ كما نعرفه، بل أصبحت مكاناً للوعظِ والتزهيد في الدنيا، وتحويلِ الطلاب إلى أتباعِ بعض التيارات، التي رُبما تقودُهم إلى مآلاتٍ غير مُرضية .
وما إن كتبَ هذا الكاتبُ هذا السخفُ، حتى تتابعَ مُريدُوهُ من غلمان الأهواءِ، وصبيانِ الفكرِ يُؤيدونهُ، ويُوردون الشواهدَ الهزيلةِ، على صدقِ نظريتهِ الفذَّة (( يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا )) .
ولسنا بحاجةٍ إلى ردِّ مثل هذا الغُثاء الذي يُعارضُ دينَ الله أولاً ، ويتعارضُ مع سياسةِ الدولة وأنظمتها ثانياً ، ولكننا نتساءَلُ : كيف يُنشرُ مثل هذا السُخفِ في بلاد الإسلام ؟(12/189)
إنَّهُ ومع خروجِ فئرانِ النفاق من جحورها، وظهورِ روائح المنافقين العفنة، ومع كثرةِ مبادراتهم التغريبية، فإنَّ المسؤوليةَ على أهلِّ البلاد كبيرةً، للحفاظِ على أمننا العقدي والفكري والأخلاقي.
إنَّ أولَّ واجبٌ علينا تجاهَ النفاق والمنافقين، هو كشفِ عوا رهم، وفضحِ أسرارهم، وتعريةِ لا فتاتهم التغريبية، وبيان حقيقة أهدافهم .
لا بدَّ أن تُعلمَ الأجيالُ أنَّ المنافقين هم أشدُّ خطراً على البلادِ وأهلها من العدوِّ الخارجي"، هم العدو فاحذرهم".
وإنَّ على العلماءِ والدعاة، والكتاب أن يوجِّهوا أقلامهم وأطروحاتهم، ومقالاتهم لكشفِ مؤامراتِ المنافقين، ومُجاهدتهم وفضحهم، بدلاً من الخوضِ في الجهادِ ومثالبِ المجاهدين .
لابُدَّ أن تعلمَ الأمةُ أنَّ المنافقينَ هُم أعداؤها ، والمناصرونَ لأعدائها ، وإنَّ تستروا بعباءَةِ الوطنية ، والتحفوا بلحافِ الإصلاح، (( اتخذوا أيمانهم جنة )) فيحلفون الأيمانَ كلَّما انكشف أمرهم ، أو عُرفَ عنهم كيدٌ أو تدبير ، أو نُقلت عنهم مقالةُ سُوءٍ في المسلمين .
وإنَّ من الواجبِ أخذ الحذرِ من مكرهم وكيدهم (( يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم )).
والحذرُ يقتضي معرفةُ صفاتهم وأساليبهم (( ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم إسرارهم )) .
والحذرُ يتضمنُ عدمُ الثقةِ بأقوالهم ، فالكذبُ من السياساتِ المعمولِ بها عند المنافقين، ((يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر )) .
وإذا كُنَّا مُطالبين بإعمالِ حُسن الظنِّ مع المؤمنين ، فإنَّ من السذاجةِ المرفوضةِ أن نجعلَ المؤمنين كالمنافقين .
والحذرُ يتضمنُ عدمُ الميلِ إلى آرائهم ، والتي غالباً ما تكونُ مطبوخةً في مصنعِ المصالحِ الذاتية ، ويتضمنُ التعبئةَ العامةَ ضدهم ، والحذرُ من تعاونهم مع العدو .
وإنَّ محاربة النفاقِ والمنافقين ، تكونُ بالبعدِ عن مجالسهم ومنتدياتهم ، فأولى مراتبُ النفاقِ، أن يجلسَ المؤمنُ مجلساً فيه آياتُ اللهِ يُكفرُ بها ويستهزأ بها ، فيسكتُ أو يتغاضى ، يُسمي ذلك تسامحاً ـ أو يسميهِ دهاءً ، أو يسميهِ سعةَ صدرٍ وأفق ، وإيماناً بحريةِ الرأي . وهي هي الهزيمةُ الداخلية، تدبُّ في أوصالهِ،
إنَّ الحميةَ للهِ ولدينِ الله ولآياتِ الله، هي آيةُ الإيمان ، وما تفترُ هذه الحميةُ إلاَّ وينهارُ بعدها كلُّ سد ، وينزاحُ بعدها كلُّ حاجز ، وإنَّ الحميةَ لتكبتُ في أولِ الأمر عمداً ، ثُمَّ تُهمدُ ، ثُمَّ تُخمد ، ثُمَّ تموت .
فمن سمع الاستهزاءَ بدينهِ في مجلسٍ، أو قرأهُ في صحيفةٍ أو مجلة ، فإمَّا أن يدفعَ ، وإمَّا أن يُقاطعَ المجلس وأهله ، والصحيفة وملاكها .
فأمَّا التغاضي والسكوت، فهو أوَّلُ مراحلِ الهزيمة ، وهو المُعبرُ بين الإيمانِ والكفرِ على قنطرةِ النفاق، (( وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله )) .
وإنَّ كيدَ المنافقين يواجهُ بالاعتناءِ الشديد، بأمرِ الجهادِ في سبيلِ الله، وإعدادَ العُدةِ الكافيةِ لملا قاتِ الأعداء، عملاً بقولهِ تعالى، (( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة )) وذلك أنَّ روحَ الجهادِ متى ما سادت، أيِّ مجتمعٍ أدَّى ذلك إلى حمايةِ وجودهِ، وتعزيزَ وحدته، وضمانَ ديمومتهِ العقائدية، وإبداعهِ الحضاري .
وكيدُ المنافقين يواجهُ بتعزيزِ جانبِ الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر،والقيام بوظيفةِ الإصلاح ، فما مِن شيءٍ أشدُّ على المنافقين من إحياءِ هذه الشعيرة ، ولذا كانت الهيئاتُ شوكةً في حلوقهم، وسداً أمامَ شهواتهم ، فأفرغوا سيلَ حقدهم، وصبُّوا جام غيظهم على الحسبةِ ورجالها، ساخرين لامزين، (( سخر الله منهم ولهم عذاب أليم )) .
وإنَّ كيدَ المنافقين ومكرهم يواجهُ بالتوعيةِ الجادَّة، للأسرةِ نساءً وشباباً وأطفالاً ، وتربيتهم على الجدِّيةِ في التمسكِ بالدين ، والبعدُ عن الترخصِ والتحللِ من قيمِ الدين بأيِّ مسمىً كان
لابُدَّ أن تعي الأسرةُ المسلمة تخطيط الأعداءِ، ودورهم في إفسادِ المجتمعات ، ولا بُدَّ أن تعلمَ نساؤنا خطواتِ الإفسادِ التي مرت بها المرأةُ المسلمة في بلادٍ أخرى ، وانتهت بها إلى التهتكِ والفجور .
ولابُدَّ أن تتعلم الأسرةُ المسلمة أحكام دينها، وحقوق كلِّ فردٍ في شريعةِ الإسلام ، ولابُدَّ من تربيةِ الأجيالِ على الولاءِ للدين، وأخذِ أحكامهِ بقوة ، وأنَّ شريعةَ الإسلامِ قائمةً على التسليمِ لرب العالمين، (( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً )) .
إنَّ المعلمَ والمعلمة في مدارسهم، والأبُ والأمُّ في البيت، ودرسُ الحلقةِ في حلقتهِ، والإمامُ في مسجده ، والداعيةُ في كلِّ مكان ، هؤلاءِ جميعاً عليهم مسؤوليةُ حمايةِ المجتمعِ وحراسةُ الفضيلة ، وتحصينُ أفرادِ الأمة عن أيِّ داءٍ تغريبي .
يوم أن يقومَ كلٌّ منَّا بدورهِ، ويومَ أن تقفَ الأمةُ كلَّها في وجهِ الطروحات التغريبية، رفضاً وإنكاراً ومقاطعةً، حينها تخبو نارَ النفاقِ ، وينقلبُ المنافقون بغيظهم لم ينالوا خيراً ، ويصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين 0
اللهمَّ صل وسلم على نبينا محمد .
================
أسس الانتصار على الأعداء
بسم الله الرحمن الرحيم(12/190)
إنَّ الحمدَ لِله نحمدهُ ونستعينهُ, ونستغفرهُ, ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسنا, ومن سيِّئاتِ أعمالِنا, منْ يَهدهِ اللهُ فلا مُضلَ لهُ, ومنْ يُضلل فلا هاديَ له . وأشهدُ أنَّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريكَ له, وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله . (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) (آل عمران:102) . (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً )) (النساء:1) . (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً )) (الأحزاب:70-71) .
أما بعدُ : فإنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله, وخيرُ الهدي هديُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشرُّ الأمورِ مُحدثاتُها, وكل محدثةٍ بدعة, وكلَّ بدعةٍ ضلالة, وكلَّ ضلالةٍ في النار
أما بعد ، أيَّها المسلمون :
فإن أمة الإسلام في هذه الأيام تعيش وتواجه متغيراتٍ كثيرة ، لأسبابٍ منها: وجود الانفتاح الإعلامي العالمي، وعولمة الغرب، وتفرق المسلمين وتنوع مناهجهم، سواءً فيما يدعون إليه، أو في كيفية مواجهة أعداء الدين على مختلف مللهم ونحلهم. وطوائف أهل البدع الضالة على تفاوت درجاتها في الضلالة.
ومواجهة ذلك المواجهة الصحيحة، تكون بقوة الحق الواضح المستبين ، بالتأصيل العلمي والمنهجي في حياة المسلمين عامة وأهل العلم والدعوة إلى الله خاصة، وهذا الذي سار عليه سلفنا الصالح منذُ زمن الصحابة- رضي الله عنهم- ومن جاء بعدهم، من أئمة الهدى في القرون المفضلة وما بعدها.
أيها الأخوة في الله : إن أي انحرافٍ عن منهجهم- بتنازلاتٍ عن أصول الدين ومسلماته، أو بالتقاربِ مع طوائفِ الضلالِ والبدع، أو الرضا براياتٍ جاهليةٍ علمانية، لتحقيق مصالح قومية ونحوها، أو تبني أطروحاتٍ كلاميةٍ عقلانيةٍ منحرفة من أجل التقاربِ مع حضارة الغربِ وثقافته، وعدم الصدام معها- أو غير ذلك من ألوان الانحراف، فلن يزيدنا إلا تفرقاً وضعفاً وهزيمة أمام أعدائنا.
وعلى ذلك فالدعوة إلى العودة إلى منهاج السلف الصالح علماً وعملاً، وسلوكاً ومنهجاً، هو الواجب عند اختلاف الأمة وتفرقها، كما أخبر بذلك رسول الله e، وتفصيل ذلك يطول، وقد كُتبت فيه والحمد لله دراسات متعددة.
عباد الله :
ولعلي أشير- في هذه العجالة- إلى جملةٍ من الأسس التي لابد منها، أهمها:
اليقين القاطع الذي لا يتزعزع بصلاحية هذا الدين لكل زمان ومكان، ومنه هذا العصر الذي نعيشه، بعولمته، وتقنياته، وقوة أعداء الإسلام المادية، وضعف المسلمين وتأخرهم.
وليس هذا من باب الأماني، ولا من باب التعلق بمطلق الغيبيات الذي يحاول التيار العلماني أن يفسر به الحلول الإسلامية المؤصلة، ولكنه حقائق هذا الدين علماً وعملاً، وتاريخاً وحضارةً وتجربة، وشهاداتٍ من الأعداء تلجمُ أفواه هؤلاء الذين ما فتئوا يطعنون في هذا الدين وحقائقه العقدية والشرعية الكاملة، وها هي تجاربهم العلمانية- على مختلف مدارسها الفكرية- وعلى مدار قرابة المائة عام، لم تقدم فكراً مؤصلا، ولا مواجهةً لحضارة الغرب، ولا نصراً على الأعداء، ولا حياةً هنيئةً لشعوبهم المسكينة، بل جرت الأمة إلى ألوانٍ من الهزائم العسكرية والسياسية، والثقافية والاجتماعية والتقنية، ونحن في مزيد.
ولكن ينبغي أن يعلم جميع من يحبُّ هذا الدين، ويفرح بالانتساب إليه، ويرى فيه الحلول المثلى لواقعنا، أن هذا لا يكفي، وأن مجرد العواطف الجياشة لا تصنعُ شيئاً بمجردها.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله الذي أعزَّنا بالدين، وجعلنا خيرَ أمةٍ أخرجت للعامين، وأشهد ألا إله إلاَّ الله وحدهُ لا شريك له، ولي المؤمنين، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدهُ ورسوله سيدُ الأولين والآخرين- صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الدعاة المجاهدين وسلم- تسليما.
فأيها المسلمون :
لابد- إن كنا جادين في أخذ هذا الدين بقوة- من أمورٍ ثلاثة:
الأول : العودة الصادقة إلى هذا الدين والثبات عليه، ونعني بذلك أن تعود الأمة
إلى إسلامها، عقيدةً وشريعةً ومنهاج حياة، وثقةً بهذا الدين وصلاحيته، وأن تأخذه بقوةٍ وصدق مع ربها تبارك وتعالى، وأن لا يزيدها عداءَ الأعداء واتهاماتهم وأقاويلهم إلا ثباتاً على هذا الدين، وثقةً به وتمسكاً بحبل الله المتين.
ومن ثم فلا مجال في هذه الأمة- إن أردنا العودة حقاً وصدفاً- للمشككين والمرتابين والمنافقين، فضلاً عن الملاحدة والزنادقة المعلنين رفضهم لهذا الدين.
الثاني : اليقين التام بأن هذا الدين حق، لأنَّه من عند الله تعالى، الملك الحق المبين،الذي أرسل خاتم رسله محمداً e، لتكون رسالته ناسخةً لما سبقها من الديانات، فدين اليهود أو النصارى لو فرض أن أهله تخلوا عن كل كفرٍ وشرك، عرفوا به ولم يؤمن!ا ويتبعوا محمداً e، فهم على ضلالٍ وكفرٍ بحكم رب العالمين، قال تعالى: (( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (آل عمران:85).(12/191)
ويتبع ذلك اليقين بأن الله ناصرُ هذا الدين، وأهله المتمسكين به كما أمر وشرع،وقد جاءت السنة النبوية الصحيحة مبينةً بقاءَ هذا الدين وأتباعه، ونصرهم إلى أن تقوم الساعة، وعليه فالمستقبل- على كل الأحوال- لدين الإسلام.
وعلى المسلمين أن يعوا هذه الحقائق، وهم يقدمون دينهم إلى العالمين جميعاً، هدى ونوراً ورحمة وإنقاذاً لهم من عذاب الله تعالى، وأن يتمسكوا به وهم يواجهون أصناف الكفار والأعداء، على مختلف عقائدهم ومللهم ونحلهم.
الثالث : الأخذ بالأسباب الشرعية والمادية، كما فعل رسول الله e وصحابته الكرام وهذا يقتضي:
أ - العمل بهذا الدين وتطبيقه في واقع حياتنا الخاصة والعامة، علماً وعملاً، عقيدةً وشريعة، عبادةً ومعاملات ،حكاماً ومحكومين،ولنعلم أنه مالم نعمل بهذا في خاصة أنفسنا نحن المسلمين، فلن نستطيع تقديم هذا الدين للآخرين ودعوتهم إليه.
ب- الأخذ بالأسباب المادية التي أمر بها شرعنا الحنيف، فهي في النهاية شرعيةٌ مادية، وذلك بأن نأخذ بأسباب ووسائل القوةِ ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً ، وذلك في جميع المجالات المختلفة الاجتماعيةِ والزراعيةِ، والصناعيةِ والاقتصادية،والتقنية على مختلف فروعها.
وديننا والحمد لله لم يعرف- قديماً أو حديثاً- الصراعَ بين حقائقهِ الثابتة، والعلمُ المادي الصحيح النافع !! وإن كانت التيارات العلمانية في العالم الإسلامي- تقليداً لظروف علمانيةَ الغرب، وصراع الكنيسة والعلم عندهم، تحاول أن تنقل الصراع نفسهُ إلى عالم الإسلام والمسلمين، نظراً لبغضها وحقدها على دين الإسلام، وجهل بعضهم به.
ودين الإسلام إنما يحاربُ إلحاد الغرب وزندقته،وانحرافه وتحلله وضلاله، واستعماره وظلمه، وحربه الضروس ضد الإسلام أمام التقدم العلمي المادي النافع- على مختلف تخصصاته وفروعه- فهو من أكبر الداعين إليه .
وها هي شواهد حضارة الإسلام تدلُ على ذلك.
اللهم أعز الإسلام وأنصر المسلمين ...
=============
المستقبل لهذا الدين
الحمد لله رب الذي أرسل رسولهِ بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كلهِ ولو كره المشركون ، وأشهدُ أن لا إله إلا هو المتفردُ بأسمائهِ وصفاته، كما أنَّهُ المتفردُ بذاته ، وأشهدُ أن محمداً عبدهُ ورسوله، وخاتم أنبيائه ورسله، المبعوثُ إلى الثقلين برسالةِ الإسلام، حتى يرث اللهُ الأرض ومن عليها .
فعلى الرغمِ من اندحار المسلمين عن دينهم، وسيطرة الشهوات الماديةِ على حياتهم، وفقدانهم الحماس والغيرة لدينهم، حتى اقتحمت ديارهم رمى أعداء الإسلام عن قوسٍ واحد، ليبعدوهم عن سرِّ قوتهم وانتصارهم وسيادتهم .
على الرغم من هذا الواقع المؤسف، الذي يبكي فيه المؤمن الواعي بدل الدمع دما،ً لا تزالُ طائفة من أمةِ محمد- صلى الله عليه وسلم- على الحق ظاهرين ، فظهر الدعاة والمصلحون ، والوعاظ والمرشدون، يحاولون إعادة الشاردين إلى رحمةِ ربهم ، وبثِّ الأمل في انتصار دين الله، في النفوس البائسة ، ويكشفون مخططات الكفار وشبها تهم ، ولقد لقي أولئك المصلحون الكثير من الأذى والتنكيل، على أيدي أعداءِ الله من الكفار وأتباعهم ، وليس هذا بجديد في طريق الدعوة . (( وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) (البقرة: من الآية217)
(( الم ، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)) (العنكبوت:12) .
ولكن الغريب والمؤسف، أن يتصدى لأولئك المصلحين المخلصين أناسٌ يدفعهم الجهل أو الخبث، إلى توهين العزائمِ، وإشاعة اليأس من روحِ الله، فيقولون للمشمر: في الدعوة إلى الله وإنكار المنكر، بلهجة الاستخفاف : ( هل يصلح العطار ما أفسد الدهر ) .
لقد اتسع الخرق على الراقع ، من أنت أيُّها المسكين حتى تواجهُ التيار ؟ وتحجب الشمس بعباءتك .
فالإسلام دفن مع أبي بكر وعمر وأمثالهم ، بل إنهم قد يستعملون في التيئيس من- رحمة الله- نصوصاً في غير أماكنها، كاستشهادهم بحديث أنس رضي الله : (( اصبروا فإنَّهُ لا يأتي زمانٌ إلاَّ والذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم سمعت هذا من نبيكم صلى الله عليه وسلم )) .
فما فائدة الدعوة إلى الله النتيجة معلومة، فلنقتصر على بعض جوانب الإسلام في أنفسنا، في هذا الزمان الفاسد، ويحتجون بحديث (( بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ )) ناسين أو متناسين نهاية الحديث ((فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس )) و يأخذون في تعويقهم لمسيرة الجهاد والتشبه بالمنافقين، (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)) (آل عمران:156) .(12/192)
يقولون هذا الكلام وهم يعلمون أو لا يعلمون أنَّهم يشاركون في تعويق مسيرة الحق، وينصرون الهوى والشيطان في نفوسِ المجاهدين، وياليتهم حين تخلفوا عن الجهاد والدعوة، وقصروا وكفُّوا شرهم وألسنتهم عن هذا التعويق، (( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً ، أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً)) (الأحزاب:18، 19) .
ليتق الله أولئك الناس، حتى لا يكون هذا مصيرهم، ونقولُ لهم أنتم مخطئون في تصوركم هذا، ويأسكم من روح الله ، (( إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)) (يوسف: من الآية87) .
أتكذبون وعد الله، ومن أصدقُ من الله قولاً, (( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) (النور:55)
ويقول الله سبحانه وتعالى : (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)) (الرعد: من الآية11) .
ويقول : (( وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)) (الحج: من الآية40) (( وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)) (الروم: من الآية47).
ولا يعلم أولئك المعوقين هدانا الله وإيَّاهم، أنَّ ما يحتجون به لا يدلُ على اليأس، من عودة سلطان الإسلام وهيمنته على الأرض، فحديثُ أنس يخاطب فيه النبي- صلى الله عليه وسلم- أصحابه، وأنَّهُ سيكون الجيل الذي بعدهم شرٌ منهم حتى يموتوا، ولا يعني هذا حتى قيام الساعة، أمَّا عودة الإسلام غريباً، فليس في الحديث على أنَّهُ يستمر غريباً، بل إنَّ فيه ما يوحي بعزِّ الإسلام وعودته فتيا في قوله : ((وسيعود غريباً كما بدأ)) فقد بدأ غريباً، ثم انتشر وساد نوره في الأرض، فالحديث بشارة وحجة عليهم، ولقد وردت آثارٌ أُخرى تبشرُ بأنَّ المستقبل للإسلام- بإذن الله- يقول - صلى الله عليه وسلم- : (( إنَّ الله زو ى لي الأرض، فرأيت مشرقها ومغربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زو ى لي منها )) ويقول: عليه الصلاة والسلام (( ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدرٍ ولا وبرٍ إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيزٍ أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر )) .
وهذه أحاديثٌ صحيحة، تبشر المسلمين بدولة الإسلام العالمية ، ولا يذل الكفر إلاَّ بعزِّ سلطة الإسلام ، لكنهم قد يتوهمون أن ذلك كان حين نزول المسيح- عليه السلام- إلى الأرض، قبيل قيام الساعة ، وهذا خطأ، لأنَّ بعضَ الرواياتِ تذكرُ أخذ الجزية من الكفار، ولا جزية يوم نزل عيسى- عليه السلام .
وفي حديثٍ صحيحٍ آخر، يحدثنا الرسول- صلى الله عليه وسلم- فيه أن لنا جولةً غالبةً مع روما، يقول أبو قبيل : (( كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص، أي المدينتين تُفتح أولاً القسطنطينية أو روما ؟ فدعا عبد الله بصندوقٍ له حلق، قال : فأخرج منه كتاباً قال : فقال عبد الله : بينما نحنُ حول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أيُّ المدينتين تفتحُ أولاً القسطنطينية أو روما؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : مدينة هرقل تفتحُ أولاً )) [1] يعني القسطنطينية.
وقد نكون نحنُ في نهاية عهد الانحراف عن الإسلام، الذي سبب انكماشه عن حكم الحياة ، وذل المسلمين، وقد تكون في فترةِ المخاض لانطلاقٍ عظيم، وعودةِ العزِّ لدين الله، فلقد تحدث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن مراحل الحكم التي تمر بها أمة الإسلام ، والذي يبدوا أننا في أواخر المرحلة السابقة على المرحلة الأخيرة وهذا يعني أننا الآن في أواخرِ عهد الانحراف ، يقول- صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح : (( إنَّ أول دينكم نبوة ورحمة ، وتكون فيكم ما شاء الله أن تكون ، ثم يرفعها الله جل جلاله، ثُمَّ تكون خلافةً على منهاج النبوة، ثُمَّ تكون فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله جل جلاله ، ثم تكون ملكاً عاضاً فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها الله جل جلاله ، ثُمَّ يكون ملكاً جبرياً، فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله جل جلاله ، ثم تكون خلافةً على منهاج النبوة، تعمل في الناس بسنة النبي، ويلقى الإسلام في الأرض، يرضى عنها ساكنُ السماء وساكن الأرض ، لا تدع السماء من قطرٍ إلا صبته مدراراً، ولا تدع الأرض من نباتها ولا بركاتها شيئاَ إلا أخرجته)) .(12/193)
فالذي يبدوا أنَّ الملك العاض قد انتهى بانتهاء الخلافة العثمانية ، التي بها توصل أصحابها إلى حكم المسلمين بالقهر والقدرة، وعلى كلِّ حالٍ فالذي أردناه من هذا، أن نردَّ على أولئك المعوقين، الذين ينشرون اليأس ويخذلون المصلحين، ويعرضون أنفسهم بهذا مقت الله وغضبه ، والواجبُ على كل فردٍ أن يُجاهد في سبيل الله على قدر طاقته، : (( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا )) (الطلاق: من الآية7) .
فيصلح نفسه، وبنيه ومجتمعه بقدر ما يستطيع، (( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)) (التوبة:24) .
(( إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) (التوبة:39) .
والله ولي التوفيق .
[1] رواه أحمد ( 2/ 176) .
==============
يوم تبلى السرائر
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد.
فعنوان هذه المقالةِ آيةٌ عظيمة من كتاب الله عز وجل، يُذكِّر الله سبحانه عباده فيها بشأن القلوب، وأعمالها وسرائرها، مما لا يعلمه الناس وهو بها عالم، كما ينبهُ الله عز وجل من خلال هذه الآيةِ على أن هذه السرائر ستبلى وتختبر يوم القيامة، ويظهر ما فيها من الإخلاص، والمحبة والصدق، أو ما يضادها من النفاق والكذب والرياء.
وذلك في يوم القيامة، يوم الجزاء والحساب، وهذا واضح من الآية وما قبلها وبعدها، حيث يقول الله عز وجل: (( إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ )) (الطارق:10) .
والقلب هو محطُّ نظر الله عز وجل، وعليه يدور القبول والرد، كما قال e : (( إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم )) [1].
والسريرة إذا صلحت صلح شأن العبد كله، وصلحت أعماله الظاهرة ولو كانت قليلة، والعكس من ذلك عندما تفسد السريرة، فإنها تفسد بفسادها أقوالُ العبد وأعماله، وتكون أقرب إلى النفاق والرياء عياذًا بالله تعالى، ويوضحُ هذا الأمر قوله e : (( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب )) [2]
ويشرح هذا ما نقله صاحب الحلية- رحمه الله تعالى- عن وهب قوله: ( ولا تظن أن العلانية هي أنجح من السريرة، فإنَّ مثل العلانية مع السريرة، كمثل ورق الشجر مع عرقها، العلانية ورقها، والسريرة عرقها. إن نُخر العرق هلكت الشجرة كلها، ورقها وعودها، وإن صلحت صلحت الشجرة كلها، ثمرها وورقها، فلا يزالُ ما ظهر من الشجرة في خيرٍ ما كان عرقها مستخفيًا، لا يُرى منه شيء، كذلك الدين لا يزال صالحًا ما كان له سريرةً صالحة، يصدق الله بها علانيته، فإنَّ العلانية تنفعُ مع السريرة الصالحة، كما ينفع عرق الشجرة صلاح فرعها، وإن كان حياتها من قبل عرقها، فإن فرعها زينتها وجمالها، وإن كانت السريرة هي ملاك الدين، فإنَّ العلانية معها تزين الدين وتجمله، إذا عملها مؤمن لا يريد بها إلا رضاء ربه عز وجل ) [3].
ويقول الإمام ابن القيم- رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: (( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ )) : ( وفي التعبير عن الأعمال بالسر لطيفة، وهو أنَّ الأعمال نتائج السرائر الباطنة، فمن كانت سريرتهُ صالحة، كان عمله صالحًا ، فتبدو سريرته على وجهه نورًا وإشراقًا وحياء، ومن كانت سريرته فاسدة، كان عمله تابعًا لسريرته، لا اعتبار بصورته، فتبدو سريرته على وجهه سوادًا وظلمة وشينًا، وإن كان الذي يبدو عليه في الدنيا إنما هو عمله لا سريرته، فيوم القيامة تبدو عليه سريرته، ويكون الحكم والظهور لها ) [4] .
وقال أيضًا في تفسير هذه الآية : قوله تعالى : (( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ )) أي تختبر، وقال مقاتل: تظهر وتبدو، وبلوت الشيءَ إذا اختبرته، ليظهر لك باطنه، وما خفي منه، والسرائر جمع سريرة، وهي سرائر الله التي بينهُ وبين عبده في ظاهره وباطنه لله، فالإيمان من السرائر، وشرائعه من السرائر، فتُختبر ذلك اليوم، حتى يظهر خيرُها من شرها، ومؤدِّيها من مضيعها، وما كان لله مما لم يكن له؛ قال عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما-: يُبدي الله يوم القيامة كل سرٍ فيكون زيناً في الوجوه، وشينًا فيها، والمعنى تختبر السرائر بإظهارها، وإظهار مقتضياتها من الثواب والعقاب، والحمد والذم ) ([5]) أهـ.
مما سبق يتبين لنا عظم شأن القلب والسريرة، حيثُ إنَّها محطُّ نظر الله عز وجل، وعليها مدارُ القبول عنده سبحانه، وحسب صلاحها وفسادها يكون حسن الخاتمة وسوؤها، وكلما صلحت السريرة نمت الأعمال الصالحة، وزكت، ولو كانت قليلةً والعكس، من ذلك في قلة بركة الأعمال، حينما تفسد السريرة ويصيبها من الآفات ما يصيبها، وهذا هو الذي يفسر لنا تفوق أصحاب محمد e على غيرهم، ممن جاء بعدهم، والذي قد يكون أكثر من بعض الصحابة عبادةً وقربات.
حيث إنَّ أساس التفاضلِ بين العباد عند الله عز وجل، هو ما وقرَ في القلب من سريرةٍ صالحة، حشوها المحبة والتعظيم، والإخلاص لله تعالى.(12/194)
فعن عبد الله بن مسعود ? قال : (( أنتم أطول صلاة، وأكثر اجتهادًا من أصحاب رسول الله e ، وهم كانوا أفضل منكم، قيل له: بأي شيء؟ قال: إنهم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة منكم )) [6].
وعن القاسم بن محمد قال: كنَّا نُسافر مع ابن المبارك، فكثيرًا ما كان يخطرُ ببالي فأقول في نفسي: بأيِّ شيءٍ فُضل هذا الرجل علينا، حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة، إن كان يصلي إنا لنصلي، ولئن كان يصوم إنا لنصوم، وإن كان يغزو فإنَّا لنغزو، وإن كان يحجَّ إنا لنحج.
قال : فكنَّا في بعض مسيرنا في طريق الشام، ليلة نتعشى في بيتٍ إذ طفئ السراج، فقام بعضنا فأخذ السراج وخرج يستصبح، فمكث هنيهةً ثم جاء بالسراج، فنظرتُ إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من الدموع، فقلت في نفسي: بهذه الخشية فُضل هذا الرجل علينا، ولعلهُ حين فقد السراج، فصار إلى الظلمة ذكر القيامة [7] .
وأخبار السلف في حرصهم على أعمال القلوب، وإصلاح السرائر كثيرة ومتنوعة، وبخاصة فيما يتعلق بمحبة الله عز وجل، والخوف منه وإخلاص العمل له سبحانه، ومن ذلك:
* قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (( القوة في العمل أن لا تؤخر عمل اليوم للغد، والأمانة ألاَّ تخالف سريرةٌ علانية، واتقوا الله عز وجل،فإنما التقوى بالتوقي،ومن يتق الله يقه )) [8] .
* وعن عثمان رضي الله عنه قال : ( ما أسرَّ أحدٌ سريرة إلاَّ أظهرها الله على صفحاتِ وجهه، وفلتات لسانه) .
* وعن نعيم بن حماد قال: سمعت ابن المبارك يقول: ما رأيتُ أحدًا ارتفع مثل مالك، ليس لهُ كثيرُ صلاة ولا صيام، إلاَّ أن تكون له سريرة [9] .
* وعن خالد بن صفوان قال: لقيتُ مسلمة بن عبد الملك فقال: يا خالد: أخبرني عن حسن أهل البصرة قلت: أصلحك الله، أخبرك عنه بعلمٍ أنا جاره إلى جنبه، وجليسه في مجلسه، وأعلم من قبلي به، أشبه الناس سريرةً بعلانية، وأشبهه قولاً بفعل، إن قعد على أمرٍ قام به، وإن قام على أمرٍ قعد عليه، وإن أمر بأمرٍ كان أعمل الناس به، وإن نهى عن شيءٍ كان أتركُ الناس له، رأيتهُ مستغنيًا عن الناس، ورأيت الناس محتاجين إليه، قال: حسبك كيف يضل قوم هذا فيهم[10] .
* وعن الحسن- رحمه الله تعالى- قال: ابن آدم، لك قولٌ وعمل، وعملك أولى بك من قولك، ولك سريرةٌ وعلانية، وسريرتك أولى بك من علانيتك [11] .
* وعن ابن عيينة- رحمه الله تعالى- قال : (( إذا وافقت السريرة العلانية فذلك العدل، وإذا كانت السريرة أفضل من العلانية فذلك الفضل، وإذا كانت العلانية أفضل من السريرة فذلك الجور[12] .
* وعن عبد الله بن المبارك- رحمه الله تعالى- قال: قيل لحمدون بن أحمد، ما بال كلام السلف أنفعُ من كلامنا؟! قال: لأنَّهم تكلموا لعزِّ الإسلام، ونجاة النفوس، ورضا الرحمن، ونحن نتكلمُ لعز النفوس، وطلب الدنيا، ورضا الخلق [13] .
* ويقول ابن القيم- رحمه الله تعالى- : (( فكل محبةٍ لغيره فهي عذابٌ على صاحبها، وحسرةٌ عليه، إلاَّ محبته، ومحبة ما يدعو إلى محبته، ويعين على طاعته ومرضاته، فهذه هي التي تبقى في القلب يوم تبلى السرائر)) [14] .
ونكتفي بهذه المقتطفات من وصايا السلف، في إصلاح السرائر، لنتعرف على بعض العلامات الدالة على صلاح السريرة، وسلامة القلب، ومنها نعرف ما يضادها من المظاهر، التي تدل على فساد في السريرة ومرض في القلب.
ومن هذه العلامات:
(1) عناية العبد بأعمال القلوب، ومنها إخلاص الأعمال والأقوال لله عز وجل، ومحاولة إخفائها عن الناس، وكراهة الشهرة والظهور، والزهد في ثناء الناس. ويضاد ذلك الرياء، وإرادة الدنيا بعمل الآخرة، وحب الظهور.
(2) التواضع والشعور بالتقصير، والانشغال بإصلاح النفس وعيوبها، ويضاد ذلك الكبر والعجب، والولع بنقد الآخرين.
(3) الإنابة إلى الدار الآخرة، والتجافي عن الدنيا، والاستعداد للرحيل، وحفظ الوقت، وتدارك العمر، ويضاد ذلك الركون إلى الدنيا، وامتلاءُ القلب بهمومها ومتاعها الزائل، ونسيان الآخرة، وقلة ذكر الله عز وجل، وتضييع الأوقات.
(4) سلامة القلب من الحقدِ والغلِ والحسد، ويضادُ ذلك امتلاؤه بهذه الأمراض- عياذًا بالله -
(5) التسليم لأمر الله عز وجل، وأمر رسوله e دون لماذا وكيف؟؟ ويضاد ذلك الولوع بالمتشابهات، والخواطر الرديئة.
(6) الاهتمام بأمر الدين والدعوة إلى الله عز وجل، والجهاد في سبيله جلَّ وعلا، ومحبة كل داعيةٍ إلى الخير والحق، والدعاء له والتعاون معه على البر والتقوى، ويضاد ذلك القعود عن تبليغ دين الله عز وجل، وعدم الاهتمام به، بل إذا صفى له مأكله ومشربه ومسكنه، وغير ذلك من متاع الدنيا الزائل، فلا يهمه بعد ذلك شيء، وقد لا يقفُ الأمر في فساد السريرةِ عند هذا الحد، بل قد يتعداه إلى مناصبة الداعين إلى الحق العداء، أو التشهير بهم، والتشكيك في نواياهم، ومحاولة إحباط جهودهم الخيرة.
(7) شدة الخوف من الله عز وجل، ومراقبته في السر والعلن، والمبادرةِ بالتوبة والإنابة من الذنب، ويضاد ذلك ضعف الوازع الديني، وقلة الخوف من الله جلَّ وعلا، بحيث إذا خلا بمحارم الله عز وجل انتهكها، وإذا فعل معصيةً لم يتب منها، بل أصر عليها وكابر وتبجح.(12/195)
(8) الصدق في الحديث، والوفاء بالعهود وأداء الأمانة، وإنفاذ الوعد، وتقوى الله عز وجل في الخصومة، فكلُّ هذه الخصال تدلُ على صلاحٍ في السريرة، لأنَّ أضداد هذه الصفات إنما هي من خصال المنافقين، الذين فسدت سرائرهم،كما أخبر بذلك الرسول eبقوله: (( أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من نفاق:إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم فجر)) ([15])، ويدخل في ذلك ذو الوجهين، الذي يلقى هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه.
(9) قبول الحق والتسليم له، من أي جهة كان، ويضاد ذلك التعصب للأخطاء، والجدال بالباطل، وإتباع الهوى في ذلك.
وأكتفي بذكر هذه العلامات على صلاح الباطن والسريرة، لتدلَّ على ما سواها، مما لم أذكره ها هنا.
ويحسنُ في نهاية هذه المقالة، الإشارةُ إلى بعض الثمرات العظيمةِ لصلاح السريرة، وذلك فيما يلي:
1- نزول الطمأنينة والسكينة في قلبِ من صلحت سريرته وثباته، أمام فتن الشبهات والشهوات، وابتلاءات الخير والشر.
2- إلقاء المحبة لمن صلحت سريرته بين الناس، مما يكون لهُ الأثر في قبول كلامه ونصحه، وأمره ونهيه.
3- أثر صلاح الباطن والسريرة في حسن الخاتمة، حيث ما سمع ولا علم - ولله الحمد - بأن صاحب السريرة الصالحة، والقلب السليم قد خُتم له بسوء، وإنما يكون ذلك لمن فسدت سريرته، وباغتهُ الموت قبل إصلاح الطوية.
4- القبول عند الله عز وجل يوم القيامة، ومضاعفة الحسنات، وتكفير السيئات، قال الله عز وجل: (( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً )) ( الطلاق : 5 ) .
وقال تعالى : (( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)) (المائدة: 27) .
5- تفريج الكربات، وإعانة الله عز وجل للعبد عند حدوث الملمات والضائقات، كما حصل لأصحاب الغار.
6- الهداية إلى الحق، والتوفيق إلى الصواب، عندما تحتار العقول والأفهام.
والحمد لله رب العالمين .
[1] مسلم : ( 2564 ) .
[2] البخاري كتاب الإيمان ( 52 ) ، مسلم كتاب المساقات ( 1599 ) .
[3] حلية الأولياء 4 / 70 .
[4] بدائع التفسير 5 / 185 .
[5] بدائع التفسير 5 / 185 .
[6] صفة الصفوة 1 / 420 .
[7] المصدر السابق 4 / 145 .
[8] سير أعلام النبلاء 2 / 572 .
[9] المصدر السابق 8 / 97 .
[10] سير أعلام النبلاء 4 / 576 .
[11] مدارج السالكين 1 / 436 .
[12] صفة الصفوة 2 / 234 .
[13] المصدر السابق 4 / 122 .
[14] روضة المحبين ص280 .
[15] البخاري ، كتاب الإيمان ( 34 ) ، مسلم ( 58 ) واللفظ له .
==============
لا عزة لنا إلا بالإسلام
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فإن أمة الإسلام في هذه الأيام تعيش وتواجه متغيراتٍ كثيرة ، لأسبابٍ منها: وجود الانفتاح الإعلامي العالمي، وعولمة الغرب، وتفرق المسلمين وتنوع مناهجهم، سواءً فيما يدعون إليه، أو في كيفية مواجهة أعداء الدين على مختلف مللهم ونحلهم. وطوائف أهل البدع الضالة على تفاوت درجاتها في الضلالة.
ومواجهة ذلك المواجهة الصحيحة، تكون بقوة الحق الواضح المستبين ، بالتأصيل العلمي والمنهجي في حياة المسلمين عامة وأهل العلم والدعوة إلى الله خاصة، وهذا الذي سار عليه سلفنا الصالح منذُ زمن الصحابة- رضي الله عنهم- ومن جاء بعدهم، من أئمة الهدى في القرون المفضلة وما بعدها.
وأي انحرافٍ عن منهجهم- بتنازلاتٍ عن أصول الدين ومسلماته، أو بالتقاربِ مع طوائفِ الضلالِ والبدع، أو الرضا براياتٍ جاهليةٍ علمانية، لتحقيق مصالح قومية ونحوها، أو تبني أطروحاتٍ كلاميةٍ عقلانيةٍ منحرفة من أجل التقاربِ مع حضارة الغربِ وثقافته، وعدم الصدام معها- أو غير ذلك من ألوان الانحراف، فلن يزيدنا إلا تفرقاً وضعفاً وهزيمة أمام أعدائنا.
وعلى ذلك فالدعوة إلى العودة إلى منهاج السلف الصالح علماً وعملاً، وسلوكاً ومنهجاً، هو الواجب عند اختلاف الأمة وتفرقها، كما أخبر بذلك رسول الله e، وتفصيل ذلك يطول، وقد كُتبت فيه والحمد لله دراسات متعددة.
ولكني أشير- في هذه العجالة- إلى جملةٍ من الأسس التي لابد منها، أهمها:
اليقين القاطع الذي لا يتزعزع بصلاحية هذا الدين لكل زمان ومكان، ومنه هذا العصر الذي نعيشه، بعولمته، وتقنياته، وقوة أعداء الإسلام المادية، وضعف المسلمين وتأخرهم.
وليس هذا من باب الأماني، ولا من باب التعلق بمطلق الغيبيات الذي يحاول التيار العلماني أن يفسر به الحلول الإسلامية المؤصلة، ولكنه حقائق هذا الدين علماً وعملاً، وتاريخاً وحضارةً وتجربة، وشهاداتٍ من الأعداء تلجمُ أفواه هؤلاء الذين ما فتئوا يطعنون في هذا الدين وحقائقه العقدية والشرعية الكاملة، وها هي تجاربهم العلمانية- على مختلف مدارسها الفكرية- وعلى مدار قرابة المائة عام، لم تقدم فكراً مؤصلا، ولا مواجهةً لحضارة الغرب، ولا نصراً على الأعداء، ولا حياةً هنيئةً لشعوبهم المسكينة، بل جرت الأمة إلى ألوانٍ من الهزائم العسكرية والسياسية، والثقافية والاجتماعية والتقنية، ونحن في مزيد.
ولكن ينبغي أن يعلم جميع من يحبُّ هذا الدين، ويفرح بالانتساب إليه، ويرى
فيه الحلول المثلى لواقعنا، أن هذا لا يكفي، وأن مجرد العواطف الجياشة لا تصنعُ شيئاً بمجردها.
بل لابد- إن كنا جادين في أخذ هذا الدين بقوة- من أمورٍ ثلاثة:
الأول : العودة الصادقة إلى هذا الدين والثبات عليه، ونعني بذلك أن تعود الأمة(12/196)
إلى إسلامها، عقيدةً وشريعةً ومنهاج حياة، وثقةً بهذا الدين وصلاحيته، وأن تأخذه بقوةٍ وصدق مع ربها تبارك وتعالى، وأن لا يزيدها عداءَ الأعداء واتهاماتهم وأقاويلهم إلا ثباتاً على هذا الدين، وثقةً به وتمسكاً بحبل الله المتين.
ومن ثم فلا مجال في هذه الأمة- إن أردنا العودة حقاً وصدفاً- للمشككين والمرتابين والمنافقين، فضلاً عن الملاحدة والزنادقة المعلنين رفضهم لهذا الدين.
الثاني : اليقين التام بأن هذا الدين حق، لأنَّه من عند الله تعالى، الملك الحق المبين،الذي أرسل خاتم رسله محمداً e، لتكون رسالته ناسخةً لما سبقها من الديانات، فدين اليهود أو النصارى لو فرض أن أهله تخلوا عن كل كفرٍ وشرك، عرفوا به ولم يؤمن!ا ويتبعوا محمداً e، فهم على ضلالٍ وكفرٍ بحكم رب العالمين، قال تعالى: (( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) (آل عمران:85).
ويتبع ذلك اليقين بأن الله ناصرُ هذا الدين، وأهله المتمسكين به كما أمر وشرع،وقد جاءت السنة النبوية الصحيحة مبينةً بقاءَ هذا الدين وأتباعه، ونصرهم إلى أن تقوم الساعة، وعليه فالمستقبل- على كل الأحوال- لدين الإسلام.
وعلى المسلمين أن يعوا هذه الحقائق، وهم يقدمون دينهم إلى العالمين جميعاً، هدى ونوراً ورحمة وإنقاذاً لهم من عذاب الله تعالى، وأن يتمسكوا به وهم يواجهون أصناف الكفار والأعداء، على مختلف عقائدهم ومللهم ونحلهم.
الثالث : الأخذ بالأسباب الشرعية والمادية، كما فعل رسول الله e وصحابته الكرام وهذا يقتضي:
أ - العمل بهذا الدين وتطبيقه في واقع حياتنا الخاصة والعامة، علماً وعملاً، عقيدةً وشريعة، عبادةً ومعاملات ،حكاماً ومحكومين،ولنعلم أنه مالم نعمل بهذا في خاصة أنفسنا نحن المسلمين، فلن نستطيع تقديم هذا الدين للآخرين ودعوتهم إليه.
ب -الأخذ بالأسباب المادية التي أمر بها شرعنا الحنيف، فهي في النهاية شرعيةٌ مادية، وذلك بأن نأخذ بأسباب ووسائل القوةِ ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً ، وذلك في جميع المجالات المختلفة الاجتماعيةِ والزراعيةِ، والصناعيةِ والاقتصادية،والتقنية على مختلف فروعها.
وديننا والحمد لله لم يعرف- قديماً أو حديثاً- الصراعَ بين حقائقهِ الثابتة، والعلمُ المادي الصحيح النافع !! وإن كانت التيارات العلمانية في العالم الإسلامي- تقليداً لظروف علمانيةَ الغرب، وصراع الكنيسة والعلم عندهم، تحاول أن تنقل الصراع نفسهُ إلى عالم الإسلام والمسلمين، نظراً لبغضها وحقدها على دين الإسلام، وجهل بعضهم به.
ودين الإسلام إنما يحاربُ إلحاد الغرب وزندقته،وانحرافه وتحلله وضلاله، واستعماره وظلمه، وحربه الضروس ضد الإسلام أمام التقدم العلمي المادي النافع- على مختلف تخصصاته وفروعه- فهو من أكبر الداعين إليه .
وها هي شواهد حضارة الإسلام تدلُ على ذلك
===============
لماذا الدعوة إلى اللَّه عز وجل ؟
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وآله وصحبه، وبعد:
فقد يبدو لأول وهلةٍ غرابة عنوان هذه المقالة، إذ لا يعقل أنَّ أيِّ داعية إلى الله عز وجل لا يعرفُ الغاية من دعوته إلى الله عز وجل، وجهادهِ في سبيله سبحانه؛ وهذا صحيحٌ من حيث الجملة، ولكنْ هناك فرقٌ بين المعرفةِ الذهنية المجردة، وبين التحرك بهذه المعرفة، والسير على ضوئها في واقع الناس ودعوتهم إلى الله عز وجل، وكم رأى الواحد من نفسه ومن غيره غفلت عن هذه الأهداف، أو مصادماتها لواقع الدعوة العملي، مما ينشأ عنهُ مغالطات وانحرافات، وسببها البعدُ عن هذه الأهداف.
والمحافظة على هذه الأهداف، ومحاسبة النفسِ بين الحين والآخر على تحقيقها، كفيلٌ إن شاء الله تعالى أن تنطلق الدعوة بعيدة عن حظوظ النفس وأهوائها. وبالتالي يجدُ الداعي أثر دعوته وثمرتها جليًّا وسريعًا في نفسه وفي واقع الناس، كما يجدُ في نفسهِ أيضًا الحماس والاندفاع إلى الدعوةِ والجهاد، بغير مللٍ ولا فتور، وأكبر من ذلك كله قبول سعيه عند الله عز وجل.
والأهداف الأساسية للدعوة والجهاد في سبيل الله عز وجل، يمكنُ حصرها فيما يلي:
1- التعبُّد لله عز وجل بهذه الشعيرة العظيمة، شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي هي أصل الدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله سبحانه، فشعور الداعية أنَّهُ عبد لله عز وجل، يحبُّ ربه ويحب ما يحبه ربه من الدعوة والجهاد، يُعدُّ من أكبر الدوافع إلى بذل الجهد والجهاد في سبيل الله تعالى، ولو لم يحصل الداعية في دعوته وجهاده إلاَّ على شعوره بالعبودية لله عز وجل لكفى بذلك دافعًا وغاية عظيمة. كما أنَّ في مصاحبةِ شعور العبادة لله تعالى في جميع تحركات الداعية، أكبر الأثر في التربية على الإخلاص، وتحري الحق والصواب، واللذان هما شرطا قبول العبادة، والعكس من ذلك عندما ينسى أو يغفل الداعية أنَّهُ متعبدٌ لله تعالى بدعوته وحركته، فإنَّهُ بذلك يضعفُ إخلاصه، وتبدأ حظوظ النفس والهوى يسيطران على القلب، كما يضعفُ مع ذلك اتباع الدليل وتحري الحق، مما ينتجُ عنه في نهاية الأمر فتور الداعية، أو مزلة قدمه والعياذ بالله تعالى.(12/197)
2- الفوز برضوان الله تعالى وجنته في الدار الآخرة، وهذا هو ثمرة التعبُّد لله عز وجل السابق ذكرها، وهي الغاية العظمى التي وعد الله عز وجل بها عباده الآمرين بالمعروف والنا هين عن المنكر، والداعين إليه على بصيرة، ولقد تكاثرت الآيات في كتاب الله عز وجل التي تمدح الداعين إليه سبحانه، والصابرين على ما أصابهم في سبيله، وما أُعد لهم في الدار الآخرة من الرضوان والنعيم المقيم. وعندما ينشدُ الداعية إلى هذه الغاية، وتنجذب نفسه إليها، فإنَّهُ يستسهل الصعاب، ويمضي في طريقه بقوةٍ وعزيمة وثبات، كما أنه عندما يتعلق بهذه الغاية العظيمة ولا ينساها، فإنَّهُ بذلك لا يلتفت إلى أعراض الدنيا الزائلة، ولا ينتظرُ جزاءَ عمله ودعوته وجهاده في الدنيا، وإنَّما يروضُ نفسه ويُربِّيها على أن تعطي من صبرها وجهدها وجهادها، ولا تأخذ منه شيئًا في الدنيا، وإنما تنتظر العطاء والثواب في الدار الآخرة من ربها الكريم، في دار النعيم المقيم، ولذلك فإنَّ أصحاب هذه النفوس المخلصة، لا يتطرق إليهم الوهن ولا الفتور الذي يتعرض له أصحاب الأغراض الدنيوية القريبة، الذين إن حصلوا على أهدافهم في الدنيا رضوا وواصلوا العطاء، وإن تأخرت عليهم فتروا وكلوا وتوقفوا.
أمَّا أصحاب الغاية العظيمة فهم لا يفترون ولا يتوقفون، لأنَّ وقت ومكان توفيت الأجر ليس مجالهُ الدنيا، وإنَّما فى الدارِ الآخرة، دار الحساب والجزاء، ولذلك فهم يعملون ويُجاهدون حتى يأتيهم اليقين.
3- إنقاذ الناس - بإذن الله تعالى - من عبادةِ العباد إلى عبادة الله وحده لا شريك له، ومن ظُلم الأديان إلى عدلِ الإسلام، ومن ضيقِ الدنيا وشقائها إلى سعتها وسعادتها، ومن عذابِ النار يوم القيامة إلى جنات النعيم.
وعندما يتذكرُ الداعية هذه المهمة الجسيمة، وهذا الهدف الأساس من دعوته وجهاده، فإنَّهُ يُضاعفُ من جهده، ولا يقرُّ له قرار وهو يرى الشرك المستشري في الأمة، والفساد المستطير في مجتمعات المسلمين؛ والذي يؤول بالناس إلى الشقاء والظلم وكثرة المصائب في الدنيا، وإلى العذاب الأليم في الآخرة. ولذلك فلا ترى الداعية المدرك لهذه الغاية من دعوته، إلاَّ خائفًا على نفسه وعلى الناس من عذاب الله عز وجل في الدنيا والآخرة، ولا تراهُ إلا ناصحًا للعباد رحيمًا بهم، يريد من دعوته هداية الناس، وإنقاذهم بإذن الله تعالى من الظلمات إلى النور، ومن عذاب الله عز وجل في الدنيا والآخرة، ولسانُ حاله ومقاله يرددُ قول مؤمن آل فرعون لقومه، فى قول الله عز وجل: (( وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ )) (غافر: 30 ـ 33) .
وإنَّ مثل هذا الشعور، ليضفي الرفق بالناس والصبر على إعراضهم وأذاهم، والحرص على كلِّ مجالٍ يفتحُ لهم أبواب الخير، أو يغلق عنهم أبواب الشر، كما ينشئُ في القلب محبةَ المصلحين الداعين إلى الخير وهداية الناس في أي مكان من الأرض، كما أنَّهُ يدفعُ إلى بذل الجهد، والتخطيط والتعاون مع جميع الداعين إلى الخير والبر والتقوى، بعيدًا عن التعصب والحزبية والولاء ات الملوثة
=============
الذين يدعون المنهج
الحمد لله حقَّ حمده، والصلاة والسلام على من لا نبي من بعده، محمد وعلى اله وصحبه ومن سار على هديه، أما بعد :
قال تعالى : (( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون )) (آل عمران:103) .
منذُ أن علمنا منهج وطريق السلف من علماءِنا المعتبرين، كالإمام ابن باز، والعلامة العثيمين، والعلامة الألباني وابن جبر ين ،والفوزان والبراك، وغيرهم من العلماء الكبار، لم نعلم إلَّا طريقاً واحداً لهذا المنهج القويم ، وقد أخذنا منهم العلم في العقيدة والفقه، والسلوك والأدب، وغيرها من علوم الشريعة ،
لكن ما الذي حدث بعد ذلك ؟! ففي الآونة الأخيرةِ بدأت تأتي إلى أسماعنا أشياءَ لم نكن نسمعُ بها، وانتشرت انتشاراً كبيراً !! بدأت تأتي إلى أسماعنا أشياء بواسطتها بدأ الخلاف، وغرق فيها الشباب الملتزم، وانشق الصف إلى صفوف بعد أن كان صفاً واحداً ، واختلفت الأقوال بعد أن كان قولاً واحداً،
ونحن وما تعيشه أمتنا اليوم من الفتن، وتكالب أعداء الله من الصليبيين واليهود على أمتنا، وأجتياحهم لها : أقول ونحن في هذه المحن ، ظهرت أقوال يتبناها من يدعي انتسابه إلى منهج السلف، لتكون تلك الأقوال كالزيت المصبوب على النار ليزيدها اشتعالا ،(12/198)
نعم أيَّها الأخوة : ففي الوقت الذي تخوضُ أمتنا في العراق وفلسطين، والشيشان وأفغانستان، حربٌ ضروس ضدَّ أعداءِ الإسلام ، في هذا الوقت كنَّا ننتظرُ من علماءِنا والمسلمون وقفةً صادقةً مع أمتهم في تلك المحن، لكن ومع أن كثيراً من علماءِنا المخلصين قد وقفوا وقفةً صادقةً مع قضية أمتنا، إلاَّ أن جماعةً ممن يدعي أنَّهُ على منهج السلف، قد ظهروا في هذه المحن بشكلٍ كبير، لكنَّهم زادوا الجراح علينا، وخذلونا في وقتٍ كنَّا ننتظر منهم العون والنصرة ، خذلونا في وقتٍ تحالفت به قوى الظُلم من الصليبيين واليهود لحرب الإسلام وأهله، نعم أيَّها الاخوة : أطلقت تلك الجماعة ومنهم بعض طلاب العلم أقوالاً كانت سبباً لانشقاق الصف، وحدوث فجوة بين الشباب، وحتى بين الشباب والعلماء .
ولقد لاحظنا ظهورَ هذه الجماعة في العراق، وقد لاحظنا عليهم جملةَ أمورٍ مستوردة من خارج العراق منها :
1- إدعائهم أنَّهم على الحقِّ وغيرهم على الباطل مهما كان المخالف ، وظهر ذلك جلياً في مسألةِ الجهاد في العراق، فأفتوا بعدم مشروعيهِ الجهاد في العراق، وأن الجهاد في العراق فتنة، وأن الذين يُجاهدون في العراق متحمسون ومندفعون ولا أرضية لهم ، حتى قال قائلٌ منهم: إنَّ الذين يحملون السلاح في العراق ضد قوات الاحتلال هم خوارج وتكفيريين !!
وقد استندوا في ذلك إلى بعضِ فتاوى العلماء من خارج العراق ، وبعد ذلك تبدلت أقوالهم ، ففي بادئِ الأمر كانوا يحتجون بأنَّ المجاهدين قلة، وأنهم بلا أرضية، وأنهم بلا علمٍ ولا بصيرة ، لكن بعد أن ظهر أن للمجاهدين قوة، وأنهم ينشرون بياناتٍ فيها أقوال العلماءِ المعتبرين ، وأنَّهم ينشرون الكتب، بدأت تلك الفئةِ تحتجُّ بأنَّ المجاهدين في العراق خرجوا على ولاةِ أمرهم ! ولا أعلم عن أي ولاةِ أمرٍ يتكلمون !! وهذا الاحتجاجُ أيضاً من تلك الفئة قد استوردوه من خارجِ العراق أيضا، ومع الأسف من بعض العلماء ، وعند ما تُحاجج أولئك يبدءون بالتخبط واضطراب أقوالهم .
-2إدعائهم بأنَّهم هم الذين يتبعون العلماء الكبار، وغيرهم خارجٌ عن منهج العلماء ! مع أنَّهم وبكلِّ أسفٍ قد فرقوا العلماء، وصنفوهم وفق أهوائهم، فكلُّ عالمٍ أفتى بالجهاد في العراق أو حتى فلسطين ، أو أفغانستان أو الشيشان، قد وضعوهُ في دائرةِ الشك، وحذروا منه الشباب، وكأنَّ الجهاد أمرٌ محرمٌ في الشرع، هذا هو الواقع فلا تستغربون ، فلقد جلسنا إلى تلك الفئةِ وسمعنا منهم ذلك ، أدعو التفافهم حول العلماء، وأنَّهم لم يخرجوا عن قولهم في المسائل الكبار كالجهادِ مثلا في العراق ، وعندما نطلبُ منهم فتاوى العلماءِ في ذلك، يذكرون لنا أسماءً لم نسمعها في يومٍ من الأيام، وأطلقوا لهم أوصاف العلامة والفهامة والإمام ، ولم يذكروا عالماً عرفتهُ الأمة، أو مشهودٌ له بالعلم ، وعندما تذكر لهم قائمةً طويلةً من العلماء المعروفين , وطلاب العلمِ الذين درسوا عند الإمام ابن باز، أوالعثيمين أو الفوزان أو البراك، يقولون لك لم يزكيهم فلان، أو عندهم أخطاء، أوقال فيهم فلان أنهم عندهم خطأ، يا سُبحان الله!! هذا حالهم ولم أبالغ .
3- غلو هم في انتقاد بعض العلماء المشهود لهم بالعلم، وتميُّعهم في انتقاد المنحرفين، أو ذكر جرائم الكفار في بلاد المسلمين ، وهذا قد تعلموه من علماءٍ من خارج العراق، نعم هذا اخطرُ ما فيهم وهم لا يشعرون ، فتلك مواقعهم، وتلك دروسهم ومقالاتهم حارَ فيها الناس، عندما تقرأ عنوان المحاضرة أو المقالة تظنُّ أنَّهُ سوف يردُّ على كافرٍ، أو علماني، فجميعها تحمل اسم الرد على ...) وإذا بك تتفا جيءُ أنَّهُ يردُّ على عالم أو داعيةً مشهود لهم بالفضل ، فلا حولَ ولا قوةَ إلاَّ بالله العلي العظيم ) !
4- خلطهم بين أقوالِ العلماء في مسائل كبار، فهم لا يُفرقون بين ما يَحدث من تفجيرٍ في بعض البلدان كبلادِ الحرمين مثلاً، لا يفرقون بين هذا وبين ما يحدثُ من عملياتِ الجهاد في العراق أو فلسطين، أو أفغانستان أو غيرها من المناطق التي يخوضُ فيها المسلمون جهاد الدفع ، وكذلك عدم تفريقهم بين جهادِ الدفع وجهاد الطلب ، فأحدث ذلك خللاً في الفهم فحدث الخلاف ، وعليه فلا يحقُّ لك الكلام عن أيِّ جهادٍ بالسلاح في العراق، أو غيره من البلاد الإسلامية المحتلة ،
5- إدعائهم أنَّ هذا الزمن هو زمن الدعوة والعلم لا زمن الجهاد، وهم في واقع حالهم يُخالفون ما يقولون ، فلا جهادَ ولا دعوة، فهم منعزلون عن واقع أمتهم ،فلا يُبصِّرون الناس عما يجبُ عليهم فعله ، فهم منعزلون بحجةِ الفتن ، وهل تُقاوِمُ الفتن بالهروب منها أو التصدي لها، وهل يعني الانعزال عن الفتن ترك ما أمر اللهُ به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهل الدعوة إلى الله تقتضي ترك الجهاد، أو ترك الدعوة بسبب الجهاد، هذا لم يقلهُ عالم ، فأدى ذلك إلى أن يتركوا الدعوة فضلاً عن الجهاد، فكل الداعين إلى الجهاد من علماءِنا هم، أهلُ الدعوة والعلم والبصيرة، فتلك دروسهم قد ملأت بلاد الحرمين في العقيدة، والفقه والأخلاق، فلم يفرطوا بمسألةٍ من مسائل الدين كالجهاد بحجةِ الدعوة، على خلاف تلك الفئة، فقد فرَّطوا بأمور، وتمسكوا بأمورٍ ليست من الدعوة في شيء، وهل دعوتهم إلاَّ الردود والتجريح على العلماءِ بغير حق، فهذا منهجهم الذي أنكره كبار علمائنا، كالإمام بن باز والعثيمين وابن جبر ين والألباني وغيرهم من علمائنا الكبار.(12/199)
6- مخالفتهم لأقوال العلماء الذين كانوا يأخذون منهم بعد وفاة أولئك العلماء، فتلك الفئة أصبحت فئات بعد وفاة العلماء الذين كانوا يأخذون منهم ، ومن هنا تتضح النيات الصادقة من غيرها ، فالردود بعضهم على بعض ، وكلٌّ يزكي نفسه ، ومن خالفهم وتركهم ليسير على المنهج الحق فذاك الطريق القويم ، وكثيرٌ منهم خالف لهواً في نفسه، فلا حول ولا قوة إلا بالله
7- سهولة إطلاق كلمة ( التكفيري ) على كلِّ من خالفهم ، وبمعنى آخر فعندنا في العراق كلُّ من يحمل السلاح ضدَّ المحتل، تراهُ يوصفُ بتلك الكلمةِ الخطيرة من قبل تلك الفئة، وقد صدق الشيخ الدكتور ناصر العمر، عندما قال في محاضرةِ الإرهاب بين الحقائق والدعاوى ،( ونحنُ وللأسف وقعنا في فخٍّ خلطٍ وتضليل المصطلحات، وازدواجية المعايير، ومن الأمثلة على ذلك الإرهاب والجهاد، فقدنا القدرةَ على التمييز بينهما عند كثير من أبنائنا، حتى لدى بعض أهل العلم والدعوة، حتى أصبح الجهاد الفلسطيني والجهاد في العراق إرهابا، وتأيِّده فضلاً عن دعمه مالياً،هو تحريضٌ على الإرهاب، وهناك في الإعلام والصحف تعميقُ فتنه التكفير المتبادل في واقع المسلمين، بعض شبابنا وقعَ في فتنةِ التكفير، ووقعوا في الغلو ، ولكن فُوجئنا بآخرين يكفرونهم، وأصبح مصطلحاً متبادلاً.
هذا بعض ما لاحظناهُ على تلك الفئة التي نسألُ الله لهم الهدايةَ والتوفيق، وسلوك الطريق القويم، فهم إخواننا بالرغم مما قد يقولون عنَّا ، وعندما نذكرُ تلك الملاحظات فهذا لا يعني طعناً بهم ولكن من باب النصيحة، وبيان الحقِّ الذي هو الطريق الذي تعلمناه من علمائنا الكبار، أهل الحق والفضل.
اللهمَّ اهدنا إلى الحق ، اللهمَّ أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهمَّ انصر الحقَّ وأهله، واخذل الباطل وأهله، اللهمَّ انصر إخواننا المجاهدين الذين يُجاهدون في سبيلك في كلِّ مكان .
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
============
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه وبعد.
فبعدَ أنَّ تبينَ لنا في المقالةِ السابقةِ من هُم المقصود ون بالدعوة إلى الله عز وجل؟ نتعرفُ في هذهِ المقالةِ على مسألةٍ مهمةٍ تتعلقُ بالإخلاص في الدعوة إلى الله عز وجل، وهي مسألةٌ قلَّما نتنبّهُ إليها، أو ننبهُ عليها، وجُلُّ ما نفهمه من معنى الدعوةِ إلى الله عز وجل، هو أنَّ الداعيةَ إنَّما يدعو إلى ربهِ، وإلى سبيلهِ وتوحيدهِ وطاعته، وإلى أقامةِ دينهِ كما قال تعالى: (( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ )) (النحل: من الآية125)
وقوله تعالى : (( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي )) (يوسف: من الآية108)
ولا شكَّ أنَّ هذا معنى صحيح، وهدفٌ أساس للدعوة إلى الله عز وجل، لكنْ هُناكَ معنى لطيف، ومسألةً عظيمةً يتضمنها مفهومُ الدعوة إلى الله تعالى، يتعلقُ بإخلاص الدعوة للهِ سبحانهُ، قَلَّما ننتبهُ إليهِ ،
وهو ما أشار إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب- رحمهُ الله- تعالى في ( مسائل باب الدعاءِ إلى شهادة أن لا إله إلا الله ) وهو من أبواب كتابِ التوحيد حيثُ يقول:
( المسألةُ الثانية: التنبيهُ على الإخلاص، لأنَّ كثيرًا لو دعا إلى الحقِّ فهو يدعو إلى نفسه).
يا لها من مسألةٍ عظيمةٍ يغفل عنها الكثير منّا، وإنَّها لمن الدقة واللطف، بحيث توجدُ عند البعض منَّا دون الشعور بوجودها.
وإن لم يُفتش الداعية عنها في نفسه، ويُبادر إلى التخلص منها، فإنَّها قد تكونُ سببًا في حبوطِ العمل، وضياعَ الجهد- عياذًا بالله- تعالى. ولإتمامِ الفائدةِ أسوقُ فيما يلي بعض العلامات والمظاهر التي يدُّلُ وجودها على تلوث القلب بهذه الآفة الخطيرة.
1- الحزبيّة المقيتة، التي تدفعُ بصاحبها إلى عقدِ المحبة والعداوة على الأسماءِ والأشخاصِ والطوائف.
2- حُبُّ الشُهرةِ والصدارة: والتفافُ الناس، وكراهية الدُعاة الآخرين، والانقباضُ والضيقُ من تجمعِ الناس حولهم، لا لشيءٍ إلاَّ لأنَّ في ذلك منافسةً وحسدًا في القلب.
3- التزهيدُ في أعمالِ بعضِ الدُعاة، وتحقيرها وتشويهها، حتى ولو كان هذا العملُ قد ظهر خيرهُ وصلاحه، فلا ترى صاحبُ القلب المريض الذي يدعو إلى نفسهِ وليس إلى الله تعالى، إلاَّ مُستَّاءً من ذلك .
ولو كان الأمرُ إليه لأوقفَ كل عمل خيرٍ يقومُ بهِ غيره، وهذا من علاماتِ الخذلان- عياذًا بالله- تعالى، لأنَّ العبدَ المخلصُ في دعوته إلى الله تعالى، يحبُّ كل داعيةٍ إلى الخير ولو لم يعرفه، أو لم يرهُ، ويدعو له بظهر الغيب، ويفرحُ بأيِّ بابٍ من الخير يفتحهُ الله تعالى على يدِ من كان من عباد الله، ويفرحُ بأيِّ بابٍ من الشَّر يُغلقُ على يدِ من كان ذلك، لأنَّ في ذلك صلاحًا للعباد، وإسهامًا في هدا يتهم وتعبيدهم لرب العالمين، وكفى بذلك هدفًا وثمرةً تُثلج صدر الداعية المخلص، سواءً تحقق ذلك على يدهِ، أو على يد غيره من الداعين إلى الله تعالى.
4- الوقوع في غيبةِ الدعاة، أو السعي بالنميمةِ والوشايةِ، لإلحاق الأذى بهم،أو إشاعة ما هم منه برءاء في الناس، حتى ينفضوا من حولهم ويلتفوا حوله.
وأكتفي بهذه العلاماتِ كأمثلةٍ سريعةٍ لهذا المرض، وإلاَّ فالأمثلةُ كثيرة، وكلُّ إنسانٍ أدرى بنفسه، وهو على نفسه بصيرة.
والمقصودُ التنبيه على هذه الآفات الخطيرة، التي تمحقُ بركةَ الأعمالِ في الدنيا، وتذهبُ بأجرها في الآخر
================(12/200)
من المقصود بالدعوة إلى اللَّه عز وجل ؟
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه وبعد.
فقد يكون في عنوانِ هذه المقالة شيءٌ من الغرابةِ عند البعض، ذلك لأنَّ الجواب معروف، ولا يجهل أحد أن المقصودين بالدعوة إلى الله عز وجل: هم طوائف الناس على اختلاف مشاربهم، وذلك بتعبيد هم لربهم سبحانه، حتى يسعدوا في الدنيا بالحياة الطيبة ، وفي الآخرة برضوان الله عز وجل وجنّته.
فإذا كان الجواب معروفًا، فما المقصود بعنوان المقالة إذن ؟
إنَّ المقصود بهذا السؤال تنبيهٌ لنفسي وإخواني الدعاة، إلى أن الدعوة إلى الله عز وجل تعني أول من تعني، دعوة النفس إلى الله عز وجل ، وتعبيدها له سبحانه، ويدخلُ في ذلك الأهلُ والقرابة، لأنَّ المُشاهد في حياة الكثير منَّا، الاهتمامُ بدعوة الآخرين، ونسيان النفس أو الغفلة عنها في زحمة دعوة الآخرين ، وهذا إنما نشأ من أنَّ مفهوم الدعوة قد ينحصرُ عند الكثير منَّا في دعوة الناس ، ولم نتنبّه إلى أن الدعوة إلى الله عز وجل على قسمين: دعوة النفس ، ودعوة الغير.
والذي دفعني إلى إثارةِ هذا الموضوع، ما رأيتهُ من نفسي ومن بعض إخواني الدعاة، من غفلة عمَّا ينقص النفس من واجباتٍ وأخلاقيات، أو ما يتلبسُ بها من مثالب وأمراض باطنة وظاهرة، يجب أن يُبذل الجهد في إزالتها، وأن تُدعى النفس إلى الدخول في السِّلم كافة.
ويلحق بذلك الأولاد والزوجة والوالدين، ثم الأقرب فالأقرب.
قال الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ )) (التحريم:6) .
ولا يعني هذا تركُ دعوة الآخرين حتى تصلح النفس، ويصلح الأهلون والأقارب، كلا. فالكمالُ عزيز، والنقصُ من طبيعةِ الإنسان.
ولكنَّ المراد: الاعتناءُ بالنفس والأهل، ودعوتهم إلى الله عز وجل في الوقت الذي يدعى فيه الآخرون، ويجبُ أن تسيرَ دعوةُ النفس ودعوةُ الغير في خطين متوازيين غير متقاطعين.
وكم يكون لدعوة الآخرين من ثمرةٍ وفائدةٍ كبيرة إذا كان الداعية مهتمًا بنفسه، محاسبًا لها، داعيًا لها إلى الله عز وجل، وذلك لما يضعُ الله تعالى على يديهِ من البركة والقبول في أقواله وأفعاله، ولما يجدُ الناسُ فيه من القدوةِ والمثال الذي يُحتذ ى، فالناسُ ينظرون إلى الأفعال أكثر من نظرهم إلى الأقوال المجردة.
=============
الأحداث المعاصرة في ضوء السنن الربانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمد عبده ورسوله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً- أما بعد :
فعملاً بواجب النصح لله - عز وجل -ولكتابه ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- ولأئمة المسلمين وعامتهم؛ أتوجه ببعض الوصايا إلى المسلمين في كل مكان، والدافع إلى توجيهها ما تمر به الأمة الإسلامية اليوم من محنة عصيبة وخطر داهم من قبل أعداء الملة والمسلمين بقيادة طاغوت العصر المتغطرس أمريكا وحلفائها، والذين رموا الأمة المسلمة عن قوس واحدة يريدون بها الشر ومزيداً من التفتت والتفرق والنيل من دينها ودعاتها وثرواتها وتغريبها وإقصاء ما بقي فيها من شرائع الدين وشعائره، وهذا تأويل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "يوشك أن تداعى الأمم عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أمن قلة نحن يومئذ. قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت".
معاشر المسلمين:
لقد اقتضت حكمة الله - عز وجل -أن يوجد الصراع بين الحق والباطل على هذه الأرض منذ أن أُهبط آدم -عليه السلام- وإبليس اللعين إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة، وقد جعل الله - عز وجل - لهذا الصراع والمدافعة سنناً ثابتة لا تتغير ولا تتبدل (( فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً)) (فاطر: من الآية43).
ولا تظهر هذه السنن إلا لمن تدبر كتاب الله - عز وجل - واهتدى بنوره وهداه (( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ)) (صّ: 29) .
ومن سنن الله - عز وجل -في إهلاكه للأمم أو نجاتهم في هذا الصراع؛ ما قصه الله -تعالى- علينا في كتابه الكريم من إهلاكه للأمم الكافرة وإنجائه لأنبيائه وأوليائه الصالحين، حيث يلفت الله - عز وجل - أنظار المؤمنين إلى سننه - عز وجل -في الإهلاك والإنجاء، بقوله -تعالى-: (( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)) (آل عمران: 137) .
ومن ذلك قوله - تعالى - بعد أن قص علينا قصص بعض أنبيائه في سورة هود (( فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)) (هود: 116، 117) ، وقوله - عز وجل - : (( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) (الأنفال: 53).(12/201)
يقول الإمام ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "يخبر -تعالى- عن تمام عدله وقسطه في حكمه بأنه -تعالى- لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه" ا.هـ. ويقول الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- أيضاً عند هذه الآية: "فأخبر الله -تعالى- أنه لا يغير النعمة التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يغير ما بنفسه فيغير طاعة الله بمعصيته، وشكره بكفره وأسباب رضاه بأسباب سخطه، فإذا غَيّر غُّير عليه جزاءً وفاقاً، وما ربك بظلام للعبيد، فإن غيّر المعصية بالطاعة غيّر الله العقوبة بالعافية، والذل بالعز وقال –تعالى-: (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ)) (الرعد: من الآية11).
فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، وما حلت به نقمة إلا بذنب، كما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - : "ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة ". وقد قال - تعالى- : (( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)) [الشورى: 30]) ا.هـ (الجواب الكافي ص 105).
وقال في موطن آخر: " ومن عقوباتها – أي : المعاصي –أنها تزيل النعم الحاضرة، وتقطع النعم الواصلة، فتزيل الحاصل وتمنع الواصل، فإن نعم الله ما حفظ موجودها بمثل طاعته، ولا استجلب مفقدوها بمثل طاعته، فإن ما عنده لا ينال إلا بطاعته، وقد جعل الله -سبحانه- لكل شيء سبباً وآفة، سبباً يجلبه، وآفة تبطله، فجعل أسباب نعمه الجالبة لها طاعته، وآفتها المانعة منها معصيته، فإذا أراد حفظ نعمته على عبده ألهمه رعايتها بطاعته فيها، وإذا أراد زوالها عنه خذله حتى عصاه بها.
ومن العجيب علم العبد بذلك مشاهدة في نفسه وغيره، وسماعاً لما غاب عنه من أخبار من أزيلت نعم الله عنهم بمعاصيه، وهو مقيم على معصية الله، كأنه مستثنى من هذه الجملة أو مخصوص من هذا العموم، وكأن هذا الأمر جار على الناس لا عليه، وواصل إلى الخلق لا إليه، فأي جهل أبلغ من هذا؟ وأي ظلم للنفس فوق هذا فالحكم لله العلي الكبير" ا.هـ (الجواب الكافي ص:145 (
أيها المسلمون :
إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب إلا طاعته، وسننه -سبحانه- في المعرضين عن طاعته معروفة ومطردة، قال - تعالى-: (( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)) (القمر:51) ،
وقال -سبحانه-: (( أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ)) (القمر:43) .
فما أهون الخلق على الله - عز وجل-إذا بارزوه بالمعصية. عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: لما فتحت قبرص فٌرق بين أهلها، فبكى بعضهم إلى بعض. فرأيت أبا الدرداء جالساً وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟ فقال: ويحك يا جبير، ما أهون الخلق على الله - عز وجل - إذا أضاعوا أمره : بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى.
أيها المسلمون :
إن الأمة تمر بنازلة عظيمة وأيام عصيبة، فهي على ضعفها وذلها ومهانتها، قد سلط الله -سبحانه- عليها أعداءها من اليهود والصليبيين والمنافقين وأجلبوا عليها بخيلهم ورجلهم وطائراتهم وأساطيلهم. فهم من كل حدب ينسلون، وأحاطوا بها إحاطة السوار بالمعصم يريدونها في دينها وثرواتها وتمزيق ما بقي من وحدتها (( وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) (يوسف: من الآية21)، (( وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)) (آل عمران: من الآية117).
وإن الناظر إلى هذه الأحداث الجسيمة والنوازل العظيمة التي أحاطت بالمسلمين اليوم لا يستغرب حدوثها ولا يفاجأ بها حينما يعتصم بكتاب الله - عز وجل -وينطلق من توجيهاته في ضوء سنن الله - عز وجل - التي لا تتبدل ؛ والتي أشرنا إلى بعضها فيما سبق. ويكفي أن ننظر إلى أحوالنا ومدى قربها وبعدها عن الله - عز وجل - لندرك أن سنة الله - عز وجل - في من أعرض عن طاعته وأمره قد انعقدت أسبابها علينا، إلا أن يرحمنا الله -عز وجل -، ويرزقنا التوبة والإنابة والاستكانة والتضرع إليه -سبحانه-.
يا معشر المسلمين :
إن الخطب جد خطير، وإن عقاب الله - عز وجل - لا يستدفع إلا بتوبة وإنابة، فالبدار البدار، فإن أسباب العقوبة قد انعقدت، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولقد رفع الله - عز وجل -العذاب عن أمة رأت بوادره بتوبتها وإيمانها ورجوعها إلى طاعة الله - عز وجل - قال الله - تعالى-: (( فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ)) (يونس: 98).(12/202)
إن أحوال الأمة وما حل فيه من معاصي الله - تعالى- ومساخطه لتنذر بالخطر، فلقد ضل كثير من الناس عن أصل هذا الدين وأساسه المتين ألا وهو التوحيد والموالاة والمعاداة فيه، وأصبح الكفرة المحاربون يجوسون خلال الديار وتقدم لهم المعونات والتسهيلات لحرب المسلمين وأوذي أولياء الله ودعاته المصلحون مع أن في ذلك إيذاناً بالحرب من الله القوي العزيز، حيث جاء في الحديث القدسي (( من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )) وضرب الشرك الأكبر من دعاء الأموات والسحر والشعوذة بأطنابه في أكثر بلاد المسلمين، وأبعد شرع الله – تعالى- وحكمت قوانين البشر، وتساهل كثير من الناس بشأن الصلاة والزكاة وهما أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، ووقع بعض المسلمين في عقوق الوالدين وقطيعة الأرحام، وظلم العباد وفشا الربا الخبيث في معاملات كثيرة بين المسلمين، ووقع بعض المسلمين في تعاطي المسكرات والمخدرات، وكثر الغش في المعاملات، ووجد بين المسؤولين من يبخس الناس حقوقهم ويأكل أموالهم بالباطل و يتعاطى الرشوة والتي لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الساعي فيها ودافعها وآخذها - وكثر الفجور في الخصومات والزور في الشهادات، وبعض النساء يتساهلن بالحجاب، ويتبرجن بزينة الثياب، وانتشر الزنا والخبث وكثرة وسائله الخبيثة الماكرة من قنوات ومجلات خليعة تدعو إلى الفاحشة وتحببها في النفوس وتزينها، وامتلأت بيوت المسلمين من الفضائيات التي تنشر العفن والفساد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ولما سألت أم المؤمنين زينب بنت جحش - رضي الله عنها- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (( نعم إذا كثر الخبث)) رواه البخاري .
وما أصدق ما قاله ابن القيم -رحمه الله تعالى- على واقعنا اليوم وهو يصف زمانه، فكيف لو رأى زماننا ؟ !!.
قال - رحمه الله تعالى- : ( لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليهما، واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، عرض لهم من ذلك فساد في فطرهم، وظلمة في قلوبهم، وكدر في أفهامهم، ومحق في عقولهم، وعمتهم هذه الأمور وغلبت عليهم حتى ربى عليها الصغير، وهرم عليها الكبير. فلم يروها منكراً، فجاءتهم دولة أخرى قامت فيها البدع مقام السنن والهوى مقام الرشد، والضلال مقام الهدى والمنكر مقام المعروف والجهل مقام العلم، والرياء مقام الإخلاص، والباطل مقام الحق، والكذب مقام الصدق، والمداهنة مقام النصيحة، والظلم مقام العدل، فصارت الغلبة لهذه الأمور. اقشعرت الأرض وأظلمت السماء وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة، وذهبت البركات وقلت الخيرات، وهزلت الوحوش وتكدرت الحياة من فسق الظلمة وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة والأفعال الفظيعة، وشكا الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش وغلبة المنكرات والقبائح، وهذا والله منذر بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل بلاء قد ادلهم ظلامه، فاعزلوا عن طريق هذا السبيل بتوبة نصوح ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح، وكأنكم بالباب وقد أغلق، وبالرهن وقد غلق، وبالجناح وقد علق "وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) [الفوائد ص 49].
أيها المسلمون :
لقد ضرب الله - عز وجل - لنا في كتابه الكريم أمثالاً عظيمة لنتدبرها ونعقلها. قال الله - تعالى-: (( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ)) (العنكبوت: 43).
ولنستمع إلى هذا المثل الذي ضربه الله - عز وجل -لمن كفر بأنعم الله - عز وجل -وعاقبة من وقع في معاصيه ولنتدبره حق التدبر، قال الله - عز وجل - : (( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)) (النحل: 112).
فهذا المثل وإن كان في أهل مكة الذين أشركوا بالله وكفروا نعمة الله -تعالى-؛ إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهذا إنذار وتحذير للأمم التي تعيش في رغد من العيش وأمن وسكينة؛ أنها إن كفرت بنعمة الله -تعالى- وقابلتها بالمعصية والإعراض فإن الله - عز وجل - يسلبها نعمة الأمن والمعيشة، ويذيقها مكان ذلك الجوع والخوف، وخطر الابتلاء بالجوع والخوف ليس في ذاتهما فحسب، ولكن الخطر الحقيقي يكمن فيما يجرانه على الناس من تنازلات رهيبة في الدين والأعراض. فكم من تارك لدينه ومرخص لعرضه دافعه إلى ذلك الجوع والخوف -عياذاً بالله - .
وهذه سنة إلهية إذا انعقدت أسبابها وقعت بالناس ولات حين مناص. وإن في التاريخ لعبراً، ويكفي أن نتذكر ما حل بالمسلمين في بغداد سنة 656 هـ، حينما اجتاح المغول التتر عاصمة السلام في ذلك الوقت وما جرى في هذا الهجوم من حوادث مريعة يقشعر لها جلد القارئ بعد هذه القرون، فكيف بمن عاناها واصطلى بحرها!! وقارنوا أحوالنا اليوم بحال المسلمين في ذلك الزمان، أعني زمن دخول التتر إلى بغداد، فهل نحن اليوم أحسن حالاً منهم، حتى ننجو من خطر الأعداء الذين أحاطوا بنا من كل جانب؟؟ والجواب البدهي: لا والله ، لسنا بأحسن حالاً منهم، فواقعنا المعاصر لا يقارن في سوئه بذلك العصر، ومع ذلك سلط الله عليهم الكفرة المتوحشون الذين سفكوا الدماء وهتكوا الأعراض، وأفسدوا الحرث والنسل (( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)) (العنكبوت: من الآية40).
فيا أيها المسلمون بعامة :(12/203)
نحن على خطر وشيك ولا ينقذنا منه إلا أن نفر من معصية الله إلى طاعته، ومن أسباب سخطه إلى أسباب رضاه فلا نجاة لنا منه إلا إليه – سبحانه-.
أيها الأب والراعي المهمل لبيته ورعيته :
اتق الله - عز وجل - ولا نؤتى من قبلك، تب إلى الله وأقلع عن مجاهرة لله - عز وجل - بمعاصيك، واعلم أن وجود أجهزة اللهو والفساد من التلفاز والقنوات الفضائية والمجلات الخليعة هي من المعاصي العظيمة التي تسخط رب العالمين، فبادر إلى التوبة منها وإخراجها من بيتك غير مأسوف عليها رجاء ثواب الله –تعالى- وخوف عقابه، مر أهلك بالصلاة واصطبر عليها، وكن قدوتهم في ذلك، وحث أبناءك على أدائها في جماعة وتفقدهم عليها.
اتق الله في نسائك ومحارمك وأحسن إليهن بكل وجوه الإحسان، ومن أعظم ذلك الإحسان إليهن في تربيتهن وتأديبهن والحيلولة بينهن وبين ما حرم الله - عز وجل - عليهن من السفور والتبرج والاختلاط المحرم بالأجانب من خدم وسائقين وأقارب من غير المحارم، وكذا إبعادهن عما يفسد دينهن وأخلاقهن من أفلام سيئة وأغاني ماجنة وصواحب فاسقات.
أيها الآباء المربون :
ربوا أبناءكم وطلابكم على الجد والاجتهاد وأعدوهم للجهاد في سبيل الله –تعالى-، واربطوهم بالأهداف العالية النبيلة ولا تعلقوهم بالتوافه من الأمور والأهداف الدنيوية الهابطة والحياة المترفة. أليس من المؤسف ألا يوجد في جو المنزل والمدرسة – إلا من رحم الله - تعالى- من يقول للناشئة : إن أمتكم تنتظركم، وإن لكم دوراً في نشر الخير والعلم والدعوة إلى التوحيد وهداية الناس - بإذن الله تعالى-، والجهاد في سبيله - عز وجل -، والذود عن حمى الأمة وعقيدتها، إن هذا مما ينبغي أن يقال لأبنائنا فلا تقصروا في هذا الواجب فالخطب جسيم، والخطر عظيم، فالأمة تحتاجكم في كل وقت واليوم هي في أشد الحاجة إليكم فلا تخيبوا آمالها.
فأنت أيها الأب الكريم ، وأنت أيها المدرس الناصح اللبيب ، وأنتم يا من ولاكم الله مسؤولية التربية ومناهجها اتقوا الله في أبناء المسلمين وأدوا الواجب الذي عليكم؛ اغرسوا في قلوب أبناء الأمة كل معاني التوحيد من التوكل على الله - عز وجل - والتعلق به -سبحانه- وموالاة المؤمنين وبغض الكافرين، واستثمروا هذه النازلة في تقوية عقيدة الولاء والبراء وبيان خطر أعداء الله وأهدافهم الحقيقية؛
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى-: ( إن الواجب على الرجل أن يعلم عياله وأهل بيته الحب في الله والبغض في الله، والموالاة في الله والمعاداة فيه، مثل تعليم الوضوء والصلاة؛ لأنه لا صحة لإسلام المرء إلا بصحة الصلاة؛ ولا صحة لإسلامه أيضاً إلا بصحة الموالاة والمعاداة في الله ) ا.هـ
معاشر الآباء والمربين :
اغرسوا في قلوب الناشئة الشجاعة والإقدام، والجرأة على الأعداء، واغرسوا في قلوبهم حب الجهاد والاستشهاد في سبيل الله، فالأمة التي تربت على الجهاد يخاف منها الأعداء وتصبح أمة قوية قاهرة ظاهرة، وكونوا قدوة صالحة لهم في كل ما توجهونهم إليه من الفضائل. علقوا أبناء الأمة بتاريخهم المشرق: تاريخ الصحابة الأبطال المجاهدين الذين رفعوا رأس الأمة، علموهم سيرة نبينا الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- أعظم قائد عرفه التاريخ وأعظم شخصية عرفتها الأمم المسلمة والكافرة، والذي غير الله به مجرى التاريخ وأنقذ به من شاء من عباده من الظلمات إلى النور.
يا علماء الأمة ودعاتها :
إن أمتنا الإسلامية تمر هذه الأيام بساعات حاسمة ونوازل شديدة ومحن عظيمة لها ما بعدها، إن الأمة تنطلق من كلمتكم ومواقفكم التي تبينون فيها الحق للناس، فأنتم معقد الأمل فيها بعد الله - عز وجل -، وأنتم الذين ينير الله بكم الطريق للناس إذا ادلهمت الخطوب، وأنتم الذين أخذ الله عليكم الميثاق لتبينن الحق للناس ولا تكتمونه، فمن للأمة في هذه الفتن والنوازل والأزمات ومن لها إذا اختلطت عليها الأمور وكثر التلبيس والتدليس من قبل أعدائها من الكفار والمنافقين. إنه لا ملجأ لها بعد الله إلا إليكم، فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين، ولا تتركوا الأمة في حيرتها ولا تسلموها لأعدائها يسيرونها وفق أهوائهم، وإن الله سائلكم عن علمكم فيما عملتم به (( لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) (الأنفال: من الآية27)
يا علماءنا الأجلاء :
إن الأمة تحتاج إلى سماع قولكم فيمن يظاهر الكفار ويناصرهم بنفسه أو سلاحه أو ماله أو رأيه أو يسهل عليهم أي أمر يعينهم على قتال المسلمين. إن الأمة محتاجة إلى سماع ما كنتم تقولونه لطلابكم في شرح كتب التوحيد والإيمان وما يناقضه، فإذا سكتم في مثل هذه النوازل عن بيان أصل الدين وما يهدمه فمن يبينه للناس؟ (حقاً إن أمانة العلم عظيمة وخطيرة).
كما أن الأمة تنتظر بيانكم في كشف أهداف الصليبيين الحاقدين على الإسلام وأهله، وأنهم كما قال الله - عز وجل – عنهم : (( وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا )) (البقرة: من الآية217).
فالكفار لا تكفيهم التنازلات مهما كثرت إلا أن يرتد المسلمون عن دينهم. فلا تتركوا أمة الإسلام للإعلام المضلل الفاسد الذي يبعد الناس عن حقيقة الكفار في حربهم ويحاول حصرها في أهداف اقتصادية أو يردد ما يقوله الغرب الكافر بأنهم يهدفون إلى حرب الإرهاب وتخليص المنطقة من أسلحة الدمار الشامل!!.
يا دعاة الأمة من علماء ومتعلمين :(12/204)
إن عليكم مسؤولية عظيمة في تثبيت الأمة -بإذن الله تعالى- في مثل هذه الظروف، وإحيائها من سباتها واستثمار هذه الأحداث الكبيرة في إيقاظها وتقوية إيمانها وتوحيدها وولائها وبرائها والقضاء على اليأس والإحباط الذي قد يتسرب إلى بعض النفوس في مثل هذه الظروف، والتأكيد على أن النجاة من الفتن وتحقيق الأمن يكمن في قوة التوحيد وتخليصه من شوائب الشرك قال الله -تعالى- : (( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ )) (الأنعام: 82). كما يكمن في قوة التوكل على الله -تعالى- وإحسان الظن به - سبحانه- (( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ )) (الطلاق: من الآية3) ، و (( إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)) (هود: من الآية49).
يا دعاة الأمة والإصلاح:
(( فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ )) (الأنفال: من الآية1) ، (( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ )) (الأنفال: من الآية46) ، واعلموا أن من أخطر الأدواء وأفتك الأمراض التفرق وبخاصة في مثل هذه الظروف العصيبة التي رمانا فيها الأعداء عن قوس واحدة، فما أشد فرح عدونا بخلافنا.
إنه لا يجوز بحال أن نوجه حرابنا وخصامنا إلى بعض والعدو يسن سلاحه علينا جميعاً، فالدعاة جميعاً مستهدفون من الغرب الكافر وأذنابه، ومن العجب أن دعاة أهل السنة يتفقون في مواطن كثيرة والخلاف بينهم قليل ومع ذلك يوقف الشيطان كثيراً منهم عند نقاط الخلاف وينسيهم مواطن الاتفاق، فلنتعاون فيما اتفقنا عليه وهو كثير وأهمه الاتفاق على وجود الخطر وضرورة مواجهته وما اختلفنا عليه من مسائل الاجتهادية فليناصح بعضنا بعضا فيها
معاشر المصلحين :
إنكم تمثلون – بإذن الله تعالى – صمام الأمان لهذه الأمة، فبكم وبأمثالكم يدفع الله العقاب والعذاب عن العباد، قال الله - تعالى- : (( وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)) (هود: 117).
فكثفوا الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتربية الناس على الإيمان ونشر الخير ومحاربة الفساد ودعوة الناس إلى التوبة الصادقة، وكونوا على يقظة تامة في مثل هذه الظروف مما يحيكه أعداء الأمة من الكفار وأوليائهم المنافقين في انتهازهم لأوقات الفتن وانشغال الناس ليمرروا وينفذوا مخططاتهم الفاسدة في مجتمعات المسلمين وبخاصة فيما يتعلق بالمرأة وسبل إفسادها، فهذه عادة المنافقين في كل زمان ومكان ، وإنما ينجم نفاقهم ويظهر ويفتضح خبثهم أيام الفتن والنوازل والمحن، فكونوا على حذر واقطعوا عليهم الطريق، وافضحوهم وعرفوهم للناس حتى لا ينخدعوا بهم ، فالمنافقون في كل زمان ومكان أولياء للكفار وبخاصة اليهود والنصارى، قال الله -تعالى-: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)) (الحشر:11).
أيها المسلمون :
إن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هم خير وبركة على الأمة، فبهم يفتح الله الخير والبركات على الناس وبهم يدفع الله الشرور عن الأمة، وبهم يرهب الله الأعداء.
ألا ما أشرف مهنتهم وما أكثر خيرهم وأثرهم على الناس، فما أجدر الأمة أن تحبهم وتدعو لهم وتتعاون معهم على البر والتقوى وتكون معهم على أعدائهم وشانئيهم.
معاشر المسلمين :
إن أيام الفتن والنوازل مظنة لمزلة الأقدام وضلال الأفهام وتحير العقول، وإن من أعظم ما يتسلح به أمام هذه الفتن:
1- دعاء الله - عز وجل - والتضرع إليه : قال الله - تعالى-: (( فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا)) (الأنعام: من الآية43).
فالدعاء سلاح عظيم تسلح به الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وأتباعهم من الصالحين، فلنجهد فيه للنفس. للمسلمين وعلى الكافرين، وليحث الناس عليه وبخاصة كبار السن من الصالحين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (( هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم )) رواه البخاري.
2- العلم بالشرع والبصيرة في الدين : فبالعلم تدفع الشبهات ويزول اللبس، ولا يتعرض العبد لخداع المضللين، فإن لم يكن لدى المسلم علم يكفي فالمتعين عليه سؤال العلماء الربانيين الذين يجمعون بين العلم والتقوى والوعي بسبيل المجرمين، فبهم تدفع الشبهات ويميز الله بهم الحق من الباطل.
3- الاجتهاد في العبادات : ففي ذلك تثبيت للعبد وتوفيق له إلى الصواب والحفظ من الفتن بخلاف الغافل المقصر فإنه يخشى عليه أن تزل قدمه. قال الله - عز وجل -: (( وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً)) (النساء: 66-68) .
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (( احفظ الله يحفظك)) ، كما أن للعبادة وقت الفتن شأناً وفضلاً، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : (( بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا)) رواه مسلم .
وقال - صلى الله عليه وسلم- : (( عبادة في الهرج كهجرة إلي)) رواه مسلم وأحمد ولفظه عنده ((العبادة في الفتنة كهجرة إلي)) .(12/205)
قال ابن رجب - رحمه الله تعالى- في شرحه لهذا الحديث في لطائف المعارف ( وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتنة يتبعون أهواءهم فلا يرجعون إلى دين، فيكون حالهم شبيهاً بحال الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه ويعبد ربه ويتبع مراضيه ويجتنب مسا خطه، كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم-) ا هـ.
4- الحذر الحذر من العجلة والتسرع أيام الفتن : ولزوم التؤدة في جميع الأمور، فالتؤدة خير كلها إلا في أمور الآخرة؛ وتتأكد في النوازل والفتن، فكم هم الذين أقروا بندمهم على تسرعهم وتعجلهم في أمر كان لهم فيه أناة ولكن حين لا ينفع الندم، ومما يعين على التؤدة والأناة كثرة المشاورة لأهل العلم الناصحين وأهل الوعي والتجربة، وعدم الانفراد بالرأي في اتخاذ الموقف، ومما له علاقة بالعجلة أيام الفتن تطبيق أحاديث الفتن الواردة في آخر الزمان على واقع قائم أو نازلة تحل بالمسلمين فإنه يحلو لبعض الناس المتعجلين مراجعة أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- في الفتن وتنزيلها على واقع قائم وهذا خطأ وتعجل لا يحمد عقباه، كمثل ظن بعضهم أن المهدي هو رجل من هذا الزمان سموه وعينوه ورتبوا على ذلك أفعالاً وأحكاما وكما فسر بعضهم قول النبي - صلى الله عليه وسلم- : (( إن الفتنة في آخر الزمان تكون من تحت رجل من أهل بيتي)) بأنه فلان بن فلان أو القول بأن تفسير حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- "يكون بينكم وبين الروم صلح آمن..." إلى آخر ما جاء في الحديث من أخبار وأحداث هو ما يحصل في زماننا وهذا التطبيق لأحاديث الفتن على الواقع وبث ذلك في المسلمين قبل حصول موجبات القطع واليقين به ليس من منهج أهل السنة والجماعة فإن السلف علمونا أن أحاديث الفتن لا تنزل على واقع حاضر، وإنما يظهر صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- بما أخبر به من حدوث الفتن بعد حدوثها وانقضائها. وأهل السنة والجماعة يذكرون الفتن وأحاديثها محذرين منها مباعدين للمسلمين عن غشيانها أو الاقتراب منها، وشبيه بالعجلة في تفسير أحاديث الفتن العجلة في تأويل الرؤى والتعلق بها والانطلاق منها في اتخاذ المواقف والقيام بأعمال خطيرة بناء على الرؤى وهذا قد يكون من كيد الشيطان ومكره، فالصادق من الرؤى يستبشر به ولا يعول عليه.
أيها الإعلاميون في بلدان المسلمين :
إن أمتكم تمر بظروف عصيبة وحاسمة وإن المسؤولية عليكم عظيمة والأمانة جسيمة ((لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) (الأنفال: من الآية27).
لقد أنعم الله عليكم بنعمة القلم والبيان، فاشكروا الله على ذلك وسخروا ذلك في بيان الحق للناس وتحذيرهم من الباطل، ولا تلبسوا على الناس الحقائق ولا تضللوهم بتقليد الإعلام الكافر وترديد ما يقول ويلبس؛ إنكم إن فعلتم ذلك فقد كفرتم نعمة الله عليكم وعصيتم أمر ربكم وخنتم أماناتكم وأمتكم وتحملتم وزر من ضل بسببكم من غير أن ينقص ذلك من أوزار الضالين شيئاً.
تجنبوا النفاق والكذب وقلب الحقائق ، فإن الله سائلكم ومحاسبكم عن ذلك كله (( وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً )) (الكهف: 49).
وأنتم يا من ابتلاكم الله بتوجيه الإعلام المرئي من تلفاز وبث فضائي إلى الأمة.. إن الأمة تشكوكم إلى بارئها - عز وجل - وتعج إلى الله -تعالى- مما صنعتم في إفساد الدين والأعراض والأخلاق. فهل أنتم منتهون؟ وهل أنتم مدركون لعظيم جرمكم؟ اتقوا الله إن كنتم مؤمنين، وانتبهوا لعظيم ما تجرونه من الفساد على أمتكم. إن عدونا يحيط بنا من كل جانب، فهل يليق بنا والحالة هذه أن نلهو ونلعب و نرقص ونغني؟؟ فاتقوا الله في دينكم وأمتكم (( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)) (البقرة: 281).
هذا ما يسر الله لي كتابته في هذا البحث فما كان فيه من صواب فمن الله وحده وبتوفيقه وله علي المن والفضل، وما كان فيه من خطأ فمن نفسي ومن الشيطان، وأعوذ بالله أن يكلني إلى نفسي أو إلى أحد من خلقه طرفة عين.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه إلى يوم الدين
-============
السنن الربانية
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على رسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :
قال الله تعالى : ((قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)) (آل عمران:137) .
(( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً)) (فاطر: من الآية43) .(12/206)
والآيات من كتاب الله عز وجل في ذكر مثل هذه السنن الربانية كثيرة جداً وبخاصة عند التقديم والتعقيب على قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم ،وإنه لمن الواجب على دعاة الحق و المجاهدين في سبيل الله تعالى أن يقفوا طويلاً مع كتاب الله عز وجل وما تضمن من الهدى والنور ومن ذلك ما تضمنه من السنن الربانية المستوحاة من دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وذلك لأن في معرفتها والسير على هداها أخذ بأسباب النصر والتمكين والفلاح ، ونجاة مما وقع فيه الغير من تخبط وشقاء وفي الغفلة عنها تفريط في الأخذ بأسباب النجاة وإعراض عن هدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الدعوة إلى الله عز وجل ، الذين هم أعرف الناس بالله سبحانه، وبأسمائه وصفاته ، وبالتالي فهم أعرف بسننه سبحانه وعاداته وأيامه وهم ألزم الناس لها وللسير على ضوئها ،وما ضل من ضل إلا بسبب الإعراض عن كتاب الله عز وجل وما فيه من الهدي والنور ، يقول الدكتور محمد السلمي حفظه الله :
( التاريخ بما يحتوي من الحوادث المتشابهة والمواقف المتماثلة يساعد على كشف هذه السنن التي هي غاية في الدقة والعدل والثبات ، وفي إدراكنا للسنن الربانية فوائد عظيمة حتى لو لم نقدر على تفادي حدوثها والنجاة منها ، حيث يعطينا هذا الإدراك والمعرفة صلابة في الموقف ، بخلاف من يجهل مصدر الأحداث ؛ فإن الذي يعلم تكون لديه بصيرة وطمأنينة ، أما الذي يجهل فليس لديه إلا الحيرة والخوف والقلق ) أهـ .
( منهج كتابة التاريخ الإسلامي ص 60)
وليس المقصود هنا التفصيل في موضوع السنن الربانية فهذا له مقام آخر، وإنما المقصود هو الاستضاءة بهذه السنن في الوصول إلى الموقف الحق الذي نحسب أنه يرضي الله عز وجل وذلك في الأحداث الساخنة التي تدور رحاها في العراق وفلسطين وأفغانستان ، والشيشان وما صاحبها من فتن ومواقف ، وسأقتصر على ذكر ثلاث من هذه السنن التي رأيت أن لها مساساً بهذه الأحداث المعاصرة :
السنة الأولى : سنة المدافعة والصراع بين الحق والباطل .
السنة الثانية : سنة الابتلاء والتمحيص .
السنة الثالثة : سنة الإملاء والاستدراج .
السنة الأولى : سنة المدافعة والصراع بين الحق والباطل
يقول الله عز وجل : (( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)) (البقرة: من الآية251) .
ويقول تبارك وتعالى : (( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)) (الحج: من الآية40) .
وعن عياض بن حمار المُجاشِعي ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته : ( ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا ؛ كل مال نحلته عبداً حلال ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، , وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً . وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ، وقال :إنما بعثتك لأبتليك وابتلى بك ، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظان ، وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً فقلت :رب إذاً يثلغوا رأسي فيدعوه خبزةً قال : استخرجهم كما استخرجوك ، واغزهم نغرك ، وأنفق فسننفق عليك ، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله ، وقاتل بمن أطاعك من عصاك ) الحديث .(1)
ففي هاتين الآيتين والحديث القدسي أبلغ دليل على أنه منذ أن اجتالت الشياطين بني آدم عن دينهم وظهر الشرك والكفر وظهر تحريم الحلال وتحليل الحرام والصراع حتمي بين الحق وأهله من جهة والباطل وأهله من جهة أخرى ؛ هذه سنة إلهية لا تتخلف ووقائع التاريخ القديم والحديث تشهد على ذلك وهذه المدافعة وهذا الصراع بين الحق والباطل إن هو إلا مقتضى رحمة الله وفضله ، وهو لصالح البشرية وإنقاذها من فساد المبطلين ؛ ولذلك ختم الله عز وجل آية المدافعة في سورة البقرة ، بقوله سبحانه : (( ولكن الله ذو فضل على العالمين )) حيث لم يجعل الباطل وأهله ينفردون بالناس بل قيض الله له الحق وأهله يدمغونه حتى يزهق فالله تعالى يقول : (( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ)) (الأنبياء:18) .
إن الذين يطمعون في الإصلاح ودرء الفساد عن الأمة بدون هذه السنة – أعني سنة المدافعة مع الباطل وأهل الفساد – إنهم يتنكبون منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله عز وجل الذي ارتضاه واختاره لهم ، وإن الذين يؤثرون السلامة والخوف من عناء المدافعة مع الفساد وأهله ، إنهم بهذا التصرف لا يسلمون من العناء والمشقة ، بل إنهم يقعون في مشقة أعظم وعناء أكبر يقاسونه في دينهم ، وأنفسهم ، وأعراضهم ، وأموالهم ، وهذه هي ضريبة القعود عن مدافعة الباطل ، وإيثار الحياة الدنيا .(12/207)
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى : ( إن تكاليف الخروج من العبودية للطاغوت والدينونة لله وحده – مهما عظمت وشقت – أقل وأهون من تكاليف التبعية للطواغيت ! إن تكاليف التبعية للطواغيت فاحشة مهما لاح فيها من السلامة والأمن والطمأنينة على الحياة والمقام والرزق ! إنها تكاليف بطيئة طويلة مديدة ! تكاليف في إنسانية الإنسان ذاته . ( فهذه الإنسانية ) لا توجد والإنسان عبد للإنسان وأي عبودية شر من خضوع الإنسان لما يشرعه له إنسان ؟ ! وأي عبودية شر من تعلق قلب إنسان بإرادة إنسان آخر به ورضاه أو غضبه عليه ؟ ! وأي عبودية شر من أن تتعلق مصائر إنسان بهوى إنسان مثله ورغباته وشهواته ؟ ! وأي عبودية شر من أن يكون للإنسان خطام أو لجام يقوده منه كيفما شاء إنسان ؟ !
على أن الأمر لا يقف عند حد هذه المعاني الرفيعة . إنه يهبط ويهبط حتى يكلف الناس – في حكم الطواغيت – أموالهم التي لا يحميها شرع ولا يحوطها سياج ، كما يكلفهم أولادهم ؛ إذ ينشئهم الطاغوت كما شاء على ما شاء من التصورات والأفكار والمفهومات والأخلاق والتقاليد والعادات ، فوق ما يتحكم في أرواحهم وفي حياتهم ذاتها ، فيذبحهم على مذبح هواه ، ويقيم من جماجمهم وأشلائهم أعلام المجد لذاته والجاه ! ثم يكلفهم أعراضهم في النهاية؛ حيث لا يملك أب أن يمنع فتاته من الدعارة التي يريدها بها الطواغيت ، سواء في صورة الغصب المباشر – كما يقع على نطاق واسع على مدار التاريخ - أو في صورة تنشئتهن على تصورات ومفاهيم تجعلهن نهباً مباحاً للشهوات تحت أي شعار! وتمهد لهن الدعارة والفجور تحت أي ستار . والذي يتصور أنه ينجو بماله وعرضه وحياته وحياة أبنائه في حكم الطواغيت من دون الله ، إنما يعيش في وهم أو يفقد الإحساس بالواقع !) أهـ (2)
والمدافعة بين الحق والباطل تأخذ صوراً متعددة : فبيان الحق وإزالة الشبه ورفع اللبس عن الحق وأهله مدافعة ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مدافعة ، وبيان سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين مدافعة ، والصبر والثبات على ابتلاء الأعداء من الكفرة والظلمة مدافعة ، ويأتي الجهاد والقتال في سبيل الله عز وجل على رأس وذروة هذا المدافعات لكف شر الكفار وفسادهم عن ديار المسلمين ودينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ( والجهاد : منه ما هو باليد ومنه ما هو بالقلب والدعوة والحجة والبيان والرأي والتدبير والصناعة فيجب بغاية ما يمكنه ) (3) .
واليوم لم يعد خافياً على كل مسلم ما تتعرض له بلدان المسلمين قاطبة من غزو سافر وحرب شرسة على مختلف الأصعدة ، وذلك من قبل أعدائها الكفرة ، وأذنابهم المنافقين ؛ فعلى الصعيد العسكري ترزح بعض بلدان المسلمين تحت الاحتلال العسكري لجيوش الكفرة المعتدين التي غزت أهل هذه البلدان في عقر دارهم كما هي الحال في أفغانستان والشيشان والعراق وفلسطين وكشمير ، وعلى صعيد الحرب على الدين والأخلاق والإعلام والتعليم والاقتصاد لم يسلم بلد من بلدان المسلمين من ذلك .
وكما هو مقرر عند أهل العلم أن جهاد الكفار يصبح متعيناً على أهل كل بلد عند ما يغزون في عقر دارهم ، ويجب على كل قادر أن ينفر لصد العدوان وقتال الكفار حتى يجلوا عن أرض المسلمين ، والجهاد في هذه البلدان يكون بالنفس والمال ولا يشترط له شرط كما أوضح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بقوله : ( وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين ، فواجب إجماعاً ؛ فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه ، فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان ، وقد نص على ذلك العلماء : أصحابنا وغيرهم ، فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر وبين طلبه في بلاده ) (4)
ويجب على بقية بلدان المسلمين أن ينصروا إخوانهم في بلدانهم المغزوة بأن يمدوهم بالمال والسلاح والبيان والدعاء ، وإذا لم يكف المقاتلون في البلد المعتدى عليه في صد العدوان وجب على البلاد المجاورة لهم أن تمدهم بالرجال والمال حتى يكتفوا كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى حيث يقول : ( وإذا دخل العدو بلاد المسلمين فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب إذا بلاد المسلمين كلها منزلة البلدة الواحدة ) (5).
كما يجب على من كان من المسلمين ذا خبرة عسكرية في صنف من فنون القتال أن ينفر لنصرة إخوانه في البلدان المغزوة ؛ قال الله تعالى : (( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ، إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) (التوبة:38- 41) .(12/208)
هذا فيما يتعلق بقتال الدفع عن المسلمين الذين احتل الكفار ديارهم وغزوهم في عقر دارهم ، أما البلدان التي غزاها الكفار في عقر دارها عقدياً واجتماعياً وإعلامياً واقتصاداً وثقافياً، وتعاون معهم إخوانهم المنافقون في تنفيذ مخططاتهم فهذا النوع من الغزو لم يسلم منه بلد من بلدان المسلمين وقد تسارع الغزاة في تنفيذ مخططهم الإفسادي في السنوات الأخيرة بشكل لافت وخطير ، فما هو الواجب على المسلمين في هذه البلدان لمدافعة هذا الغزو الخطير؟
فقد تقرر فيما سبق من الكلام إن الجهاد يتعين على المسلمين إذا غزاهم الكفار في عقر دارهم ، ويصبح واجباً على كل مسلم قادر أن يشارك في دفع الصائل عن بلده بكل ممكن ، فإن كان الغزو عسكرياً وبالسلاح وجب رده بالقوة الممكنة والسلاح ، وإذا كان الغزو بسلاح الكلمة والكتاب والمجلة والوسائل الإعلامية الخبيثة بأنواعها المقروءة و المسموعة والمشاهدة منها أقول : إذا كان الغزو من الكفار للمسلمين في عقر دارهم بهذه الوسائل والمعاول الخطيرة والتي يباشر الكفار بعضها وينيبون إخوانهم من المنافقين في بعضها فإن الجهاد بالبيان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمدافعة والتحصين يصبح واجباً عينياً على كل قادر من المسلمين كل بحسبه ، وإن التقاعس أو التشاغل أو التخذيل لهذا الضرب من الجهاد يخشى أن يكون من جنس التولي يوم الزحف ، وتقديماً للدنيا الفانية على محبة الله عز وجل ورسوله والجهاد في سبيله تعالى ، ولا يبعد أن يكون من المعنيين بقوله تعالى : (( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)) (التوبة:24).
هذا ، وإن كانت هذه الآيات في جهاد الكفار في ساحات القتال ولكن ما الذي يمنع من أن تشمل أيضاً القاعدين عن جهاد الكفار والمنافقين بالبيان والمدافعة لأفكارهم الخبيثة وأخلاقهم السافلة ، والوقوف أمام وسائلهم ومخططاتهم المختلفة وتحصين الأمة وتحذيرها منها ؟
فلقد قال الله عز وجل آمراً نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم في سورة مكية بمجاهدة الكفار بالقرآن قبل فرض الجهاد عليهم بالقتال ؛ وذلك في سورة الفرقان حيث يقول الله عز وجل : ((فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً)) (الفرقان:52).
وقد مر بنا كلا م شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : ( والجهاد منه ما هو باليد ، ومنه ما هو بالقلب والدعوة والحجة والرأي والتدبير والصناعة فيجب بغاية ما يمكن) ولا يعذر أحد من المسلمين في النفرة لهذا الجهاد كل بحسب علمه وقدرته ؛ يقول ابن القيم رحمه الله تعالى : ( ولله سبحانه على كل أحد عبودية بحسب مرتبته ، سوى العبودية العامة التي سوى بين عباده فيها : فعلى العالم من عبودية نشر السنة والعلم الذي بعث الله به رسوله ما ليس على الجاهل ، وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس على غيره .
وعلى الحاكم من عبودية إقامة الحق وتنفيذه وإلزامه من هو عليه به ، والصبر على ذلك والجهاد عليه ما ليس على المفتي وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير .
وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما .
ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم ، وبما كان عليه هو وأصحابه رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين ، هم أقل الناس ديناً والله المستعان ، وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تُنتهك ، وحدوده تضاع ، ودينه يترك ، وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يرغب عنها ، وهو بارد القلب ساكت اللسان ، شيطان أخرس ، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق؟ وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياستهم ، فلا مبالاة بما جرى على الدين ؟ وخيارهم المُتحزِّن المتلمظ ،
ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتذبل وجدّ واجتهد ، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه ، وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون ، وهو موت القلوب ؛ فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل ) (6)
(1) رواه مسلم ( 2865) .
(2) في ظلال القرآن 3/ 1319 بتصرف يسير
(3) الاختيارات الفقهية : ص 447
(4)الاختيارات الفقهية ص 309 ، 310
(5)الاختيارات الفقهية ص 448
(6) إعلام الموقعين 2/176
السنة الثانية : سنة الابتلاء والتمحيص
قال الله عز وجل : (( الم ، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُون. ولقد فتنا الذين من قبلهم ليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين َ) ) (العنكبوت:1،2) .(12/209)
وقال تعالى : (( وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)) (آل عمران: من الآية154) وقال سبحانه وتعالى : (( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيم (آل عمران:179) .
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى عن الآية الأخيرة : ( أي لا بد أن يعقد سبباً من المحنة يظهر فيه وليه ، ويفتضح فيه عدوه ، يعرف به المؤمن الصابر والمنافق الفاجر ) (1) .
ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى : ( ويقطع النص القرآني بأنه ليس من شأن الله – سبحانه – وليس من مقتضى إلوهيته ، وليس من فعل سنته ، أن يدع الصف المسلم مختلطاً غير مميز، يتوارى المنافقون فيه وراء دعوى الإيمان ، ومظهر الإسلام ، بينما قلوبهم خاوية من بشاشة الإيمان ، ومن روح الإسلام ؛ فقد أخرج الله الأمة المسلمة لتؤدي دوراً كونياً كبيراً ، ولتحمل منهجاً إلهياً عظيماً ، ولتنشئ في الأرض واقعاً فريداً ، ونظاماً جديداً ، وهذا الدور الكبير يقتضي التجرد والصفاء والتميز والتماسك ، ويقتضي ألا يكون في الصف خلل ، ولا في بنائه دخل ، وبتعبير مختصر يقتضي أن تكون طبيعة هذه الأمة من العظمة بحيث تسامي عظمة الدور الذي قدره الله لها في هذه الأرض، وتسامي المكانة التي أعدها الله لها في الآخرة .
وكل هذا يقتضى أن يصهر الصف ليخرج منه الخبث ، وأن يضغط لتتهاوى اللبنات الضعيفة ، وأن تسلط عليه الأضواء لتتكشف الدخائل والضمائر ، ومن ثم كان شأن الله – سبحانه – أن يميز الخبيث من الطيب ولم يكن شأنه أن يذر المؤمنين على ما كانوا عليه قبل هذه الرجة العظيمة ! ) (2)
وبالنظر إلى ما يدور من الأحداث الخطيرة والمتسارعة في بلدان المسلمين اليوم - وذلك في الصراع بين معسكر الإيمان ومعسكر الكفر والنفاق سواء ما كان منه صراعاً عسكرياً جهادياً باليد والسنان كما هو الحال في بلاد العراق وفلسطين وما صاحب ذلك من التداعيات أو ما كان منه صراعاً عقدياً وأخلاقياً كما هو الحاصل في عامة بلدان المسلمين - أقول : بالنظر لهذا الصراع في ضوء سنة الابتلاء والتمحيص نرى أنه هذه السنة الربانية الثانية تعمل الآن عملها بإذن ربها سبحانه وتعالى لتؤتي أكلها الذي أراده الله عز وجل منها ؛ ألا وهو تمحيص المؤمنين وتمييز الصفوف حتى تتنقى من المنافقين وأصحاب القلوب المريضة ؛ وحتى يتعرف المؤمنون على ما في أنفسهم من الثغرات والعوائق التي تحول بينهم وبين التمكين لهم في الأرض فيتخلصوا منها ويغيروا ما بأنفسهم . فإذا ما تميزت الصفوف وتساقط المتساقطون في أبواب الابتلاء وخرج المؤمنون الصادقون منها كالذهب الأحمر الذي تخلص من شوائبه بالحرق في النار حينها تهب رياح النصر على عباد الله المصطفين الذين يستحقون أن يمحق الله من أجلهم الكافرين ويمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وقبل هذا التمحيص والتمييز فإن سنة محق الكافرين وانتصار المسلمين التي وعدها الله عز وجل عباده المؤمنين لن تتحقق . هكذا أراد الله عز وجل وحكم في سننه التي لا تتبدل : أن محق الكافرين لا بد أن يسبقه تمحيص المؤمنين ، ولذلك لما سأل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : أيها أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى كان من دقيق استنباطه وفهمه لكتاب الله عز وجل أن قال: " لا يمكن حتى يبتلى . " ولعله فهم ذلك من قوله تعالى : (( وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ)) (آل عمران:141) .
وللتدليل والتأكيد على أن مجتمعات المسلمين تعيش اليوم حالة شديدة من الابتلاء والتمحيص والفتنة في هذه النوازل : أذكر بعض المواقف التي أفرزتها هذه السنة - أعني سنة الابتلاء والتمحيص - في خضم هذه الفتن المتلاطمة ولم يكن لهذه المواقف أن تعرف ويعرف أهلها قبل حصول هذه الفتن ، وقد ظهرت هذه المواقف مع أننا في أول السنة وبداية الابتلاء فكيف يكون الحال في آخر الأمر نعوذ بالله أن نرجع على أعقابنا أو أن نفتن ، وفي ذكر هذه المواقف نصيحة وتحذير لنفسي ولإخواني المسلمين من الوقوع فيها أو المبادرة بالخروج منها لمن وقع فيها .
الموقف الأول : موقف المنافقين والمرجفين(12/210)
النفاق داء عضال في الأمة ، ولقد عانت الأمة في تاريخها الطويل ما عانت من الخيانات ومظاهرة الكافرين وكشف عورات المسلمين لأعدائهم ، ومن عادتهم أنهم لا يظهرون إلا في أيام المحن الكبيرة والنوازل العظيمة التي تمر بالمسلمين حيث يظهر الله عوارهم ويكشف أسرارهم ، وهذا من رحمة الله عز وجل وحكمته في حصول الابتلاءات ، ومن ذلك ما كان منهم يوم الأحزاب يوم أن أحاط المشركون وحلفاؤهم بالمدينة ، ونقضت اليهود عهدها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وزلزل المسلمون زلزالاً شديداً وعند ذلك نجم المنافقون والمرجفون والمعوقون ممن كانوا مندسين في الصف المسلم . ويكفينا في وصف حال المنافقين في هذه الغزوة قول الله عز وجل : (( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ، وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً ، وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً)) (الأحزاب:12، 13، 14) .
إلى قوله تعالى :(( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً)) (الأحزاب:18) .
وها نحن في هذا الزمان نشاهد فريقاً منهم يقفون نفس الموقف الذي وقفه إخوانهم يوم الأحزاب ؛ وذلك عند ما رأى منافقوا زماننا ما أحاط بالمسلمين من النوازل ، ورأوا إخوانهم من الصليبيين يحيطون ببلدان المسلمين فظهر نفاقهم وبدا للناس ما كانوا يخفون من قبل ، وأصبحنا نسمع منهم الإرجاف وترديد ما يقوله الكفرة الغزاة عن المجاهدين والدعاة الصادقين ، وراحوا يحرضون عليهم ويشمتون بما يصيبهم من المحن والمصائب ، وصاروا يبثون في الأمة اليأس من مقاومة الغزاة ، يحسنون الكفرة الغزاة في عيون المسلمين ، ويستبشرون بمجيئهم ويساندونهم في تنفيذ مخططاتهم لغزو العقيدة والأخلاق " قال الله تعالى في وصف سلفهم من المنافقين الأولين : (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)) (الحشر:11) .
وقال سبحانه وتعالى عن شماتتهم بالمؤمنين وإشاعة اليأس والإرجاف وإساءة الظن بالله عز وجل ووعده : (( بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً)) (الفتح:12) .
ولم يعد خافياً على أحد ما يطرحونه في وسائل الإعلام المختلفة وبكل وقاحة ودون حياء ولا خوف من الله عز وجل أو من الناس ، وذلك في ما يتعلق بثوابت الدين أو ما يتعلق بالمرأة والتحريض على خروجها ومخالطتها للرجال والزج بها في أعمال مخالفة لحكم الله عز وجل وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم ، والسعي الحثيث لمحاكاة المرأة الغربية في هديها وأخلاقها .
وليس المقصود هنا تتبع ما يفعله المنافقون والمرجفون في هذه السنوات الأخيرة والمحن العصيبة التي تمر بالمسلمين ، وإنما المقصود التدليل على أن سنة الله عز وجل في الابتلاء والتمحيص أنها تكشف وتفضح المنافقين وتبرزهم في مجتمعات المسلمين كما فضح الله عز وجل إخوانهم وسلفهم في عزوة الأحزاب وغزوة أحد وغزة تبوك التي أنزل الله عز وجل فيها سورة كاملة هي سورة التوبة التي من أسمائها الفاضحة لأنها فضحت المنافقين وميزتهم. وهذه من الحكم العظيمة ، والفوائد الجليلة لسنة الابتلاء ؛ إذ لو بقي المنافقون في الصف المسلم دون معرفة لهم فإنهم يشكلون خطراً وتضليلاً للأمة ، أما إذا عرفوا وفضحوا وتميزوا فإن الناس يحذرونهم ، وينبذونهم ويجاهدونهم بالحجة والبيان ، أو بالسيف والسنان إن ظهر انحيازهم للكفار ومناصرتهم لهم ، وبذلك يتخلص المسلمون من سبب كبير من أسباب الهزيمة والفشل ويتهيئون لنصر الله عز وجل وتأييده .
الموقف الثاني : موقف اليائسين والمحبطين والخائفين(12/211)
لما كشف أعداء هذا الدين من الكافرين وبطانتهم من المنافقين عن عدائهم الصريح وحربهم المعلنة على الإسلام وأهله ، وعندما تعرض كثير من المسلمين ومؤسساتهم الدعوية والخيرية للمضايقة والأذى من الكفرة والمنافقة شعر بعض المسلمين حينئذ بشيء من اليأس والإحباط والخوف وبخاصة لما قام شياطين الإنس والجن يبثون وساوسهم وشبههم في تضخيم قوة الأعداء وأنها لا تقهر سيطر على بعض النفوس اليأس من ظهور هذا الدين والتمكين لأهله؛ فكان منهم فئة ظهر ضعف يقينها ومرض قلوبها في هذه الابتلاءات فشكت في ظهور هذا الدين واهتز يقينها بوعد الله تعالى بنصرة دينه ، وهؤلاء على خطر يهدد إيمانهم ويخشى أن يقعوا في فتنة المنافقين الظانين بالله ظن السوء. وفئة أخرى لم يساورها الشك في دين الله تعالى : بنصرة أوليائه ، وإنما أصابها اليأس من ذلك في هذا الزمان حيث رأت أن المسلمين اليوم غير قادرين على المواجهة لعدم تكافؤهم مع عدوهم وعليه فلا داعي للمقاومة التي لا تفيد شيئاً، وإنما هي بمثابة المحرقة التي تحرق المسلمين وبخاصة المجاهدين منهم ، والحل عند هؤلاء : الاستسلام للواقع وانتظار معجزة ربانية من الله عز وجل كانتظار المهدي أو المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام !! ولا يخفى ما في هذه التصور من الانحراف والشطط ، وكم هو مفرح للكفرة والمنافقين مثل هذا التفكير ومثل هذه المواقف المستخذية التي تبث اليأس في نفوس المسلمين وتعيقهم عن بذل الجهد في الدعوة والجهاد والأخذ بالأسباب الشرعية والمادية للنصر على الأعداء . وإن مواقف الخوف واليأس والإحباط ما كانت لتعرف لو لا سنة الابتلاء والتمحيص وظهور هذه السنة وعملها اليوم في حياة المسلمين هي التي أفرزت وأظهرت مثل هذه المواقف وفي ظهورها فائدة لأصحابها لعلهم أن يراجعوا أنفسهم ويقلعوا عن هذه المواقف بعد أن اكتشفوا هذا المرض الكامن في نفوسهم بفعل هذه السنة ، كما أن فيه فائدة أيضاً لغيرهم ليحذروا من هذه المواقف ويحذروا ممن ينادي بها ؛ قال الله تعالى في تحذير عباده المؤمنين من الوهن واليأس والإحباط : )) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)) (آل عمران:139).
وقال سبحانه وتعالى في وصف عباده الصابرين والموقنين بنصره عز وجل: (( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ، وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ، فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) (آل عمران:146، 147، 148)
وقال سبحانه وتعالى في وصف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لما تحزبت عليهم الأحزاب : ((وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً)) (الأحزاب:22) .
الموقف الثالث : موقف المسايرين للواقع أهل الحلول الوسط
وهم الذين نظروا إلى شدة ما يصيب المسلمين في هذه الأزمنة من الأذى والتضييق والابتلاءات المتنوعة فرأوا أن الثبات والصمود على ثوابت هذا الدين والصبر على أحكامه الشرعية ومصادمة الواقع مما يصعب في مثل هذه الظروف ؛ لأن أعداء هذا الدين لا يرضون بذلك بل يوجهون حربهم إلى هؤلاء الثابتين الذين يطلقون عليهم تارة : الأصولية ، وتارة : المتشددين ، وتارة : الإرهابيين ، والخطير في الأمر في هذه المواقف أنها تغطى بشبه شرعية ، ويحاول أصحابها أن يؤصلوا مواقفهم هذه بأدلة يزعمون أنها قواعد شرعية مع أنها غير منضبطة بضوابط الشرع ولا ملتزمة بمقاصده ؛ كاستدلالهم مثلاً بالضرورة وأحكامها ، وقواعد التيسير ورفع الحرج ، وبالمصالح المرسلة وغيرها مما هي صحيحة في أصله لكنها فاسدة في تطبيقها (3)
وعلامة أصحاب هذا الموقف أنهم يصفون أنفسهم أو يصفهم غيرهم بالمعتدلة أو الوسطية . وهذه المواقف ما كانت لتعرف لولا سنة الابتلاء التي تمحص وتميز الصفوف ويكشف الله بها كوامن النفوس التي يعلمها الله مسبقاً ، لكنه سبحانه يظهرها للناس بفعل سنة الابتلاء والتمحيص وصدق الله العظيم : (( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ)) (آل عمران: من الآية179) .
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المتمسك بدينه في آخر الزمان يعد غربياً بين الناس ووصفه بأنه كالقابض على الجمر وهذا الوصف لا يقدر عليه إلا أولوا العزم من المؤمنين الصابرين ؛ قال صلى الله عليه وسلم : (( إن الإسلام بدأ غربياً وسيعود غريباً كما بدأ غريباً فطوبى للغرباء " قيل ومن هم يا رسول الله ؟ قال: " الذين يصلحون ما أفسد الناس)) (4).
وقال صلى الله عليه وسلم : (( يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر)) (5) .(12/212)
ولا يخفى على من يراقب اليوم كثيراً من الفتاوى والحوارات التي تقوم بها بعض الصحف والمجلات والقنوات الفضائية ما تحمل من هذه المواقف المتميعة والتي يحاول أصحابها أن يتشبثوا في الاقتناع بها بأدنى شبهة أو أدنى قول شاذ يخالفه الدليل الصحيح من الكتاب والسنة ، وهذه المواقف والفتاوى لم تقتصر على الأحكام فحسب بل تعدتها إلى أصول العقيدة وأركانها ، وبخاصة ما يتعلق بمسائل الإيمان والكفر وحدودها، أو بمسائل الولاء والبراء، أو ما يتعلق بالجهاد وأحكامه ؛ والمقصود أن سنة الابتلاء والتمحيص التي نعيشها هذه الأيام قد أفرزت مثل هذه المواقف ولله عز وجل الحكمة في ذلك ؛ لأن في ظهورها خيراً لأهلها لعلهم يحاسبون أنفسهم فيتخلصون منها كما أن فيها خيراً أيضاً لغيرهم حتى يحذروها ويحذروا منها .
الموقف الرابع : موقف المتعجلين المغيرين بالقوة
وهذا الموقف يقابل الموقف السابق ، فبينما ينحي الموقف السابق إلى التنازل عن بعض الثوابت والتعلق ببعض الشبهات والشذوذات ، يذهب أصحاب هذا الموقف إلى الطرف المقابل حيث لم يصبروا على ما يرون من شدائد ومحن وابتلاءات توجه للمسلمين في دينهم وأعراضهم وعقولهم ورأوا أن الموقف إزاء مثل هذه الابتلاءات هو المواجهة المسلحة دون أن ينظروا إلى ما يترتب عليها من مفاسد كبيرة ، ودون أن ينظروا إلى واقعية المصالح التي يسعى لتحقيقها فنشأ من جراء ذلك أضرار عظيمة عليهم وعلى الدعوة وأهلها في المحيط الذي تدور فيه هذه المواجهات ، وهنا أود التنبيه إلى أنه ليس المعنى في هذه المواقف تلك الحركات الجهادية التي تدافع عن المسلمين وديارهم في أفغانستان والعراق والشيشان وفلسطين وكشمير وغيرها ممن يقوم بجهاد الدفع عن ديار المسلمين المحتلة ، وإنما المعني هنا أولئك الذين يرون المواجهة المسلحة في بعض بلدان المسلمين قبل وضوح راية الكفر في تلك البلدان للناس ، ودون وضوح راية أهل الإيمان في مقابل ذلك ، مما ينشأ عنه اللبس والتلبيس على الناس ، فتختلط الأوراق ويجد هؤلاء المجاهدون المستعجلون أنفسهم وجهاً لوجهٍ مع إخوانهم المسلمين ، فحينئذ تقع الفتنة بين المسلمين ، ويقتل بعضهم بعضاً ، كما هو حاصل في الجزائر وما قد حصل في مصر وسوريا أما تلك الحركات الجهادية التي أعلنت جهادها على الكفار في العراق وأفغانستان لمواجهة التحالف الصليبي أو في كشمير لمواجهة الهندوس والوثنيين ، أو في الشيشان لمواجهة الملاحدة الشيوعيين ، أو في فلسطين لمواجهة اليهود الغاشمين فإنها حركات مشروعة لوضوح الراية الكفرية ، وزوال اللبس عن المسلمين في تلك الأماكن ، كما أنه جهاد للدفاع عن الدين والعرض والمكان حتى لا ترتفع فيه راية الكفار . والذي حملني على هذا التنبيه ما نسمعه – ويا للأسف – من بعض الفتاوى المتسرعة والتي مفادها أن القتال ضد الغزاة الكفرة في العراق هو قتال فتنة وتعجل وافتئات على الأمة وهذا من صور الابتلاء الذي يتعرض له المسلمون في هذه الأزمنة .
--------------
(1) تفسير ابن كثير عند الآية ( 179) من سورة أل عمران .
(2) في ظلال القرآن (1/525 ) .
(3) للرد على هذه الشبهات : انظر كتاب ( فاستقم كما أمرت ) للمؤلف
(4) تحفة الأحوذي ( 2361 ) 6/539 وقال الترمذي : حديث غريب وقال الأرناؤوط في جامع الأصول له شواهد يرتقي بها .
السنة الثالثة : سنة الإملاء والاستدراج للكفار والمنافقين
قال تعالى : (( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)) (آل عمران:178) .
وقال تعالى : (( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ، وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ)) (لأعراف:182، 183) .
وهذه السنة الإلهية تعمل عملها في هذه الأوقات ؛ وذلك في معسكر أهل الكفر والنفاق ؛ وبخاصة أولئك الذين بلغ بهم الكبر والغطرسة والظلم والجبروت مبلغاً عظيماً ونراهم يزدادون يوماً بعد يوم في الظلم والبطش والكبرياء ومع ذلك نراهم ممكنين ولهم الغلبة الظاهرة كما هو الحاصل الآن من دولة الكفر والطغيان أمريكا ؛ حيث ظلمت وطغت وقالت بلسان حالها ومقالها : ( من أشد منا قوة ) وقد يحيك في قلوب بعض المسلمين شيء وهم يرون هؤلاء الكفرة يبغون ويظلمون ومع ذلك هم متروكون لم يأخذهم الله بعذاب من عنده ، لكن المسلم الذي يفقه سنة الله عز وجل ويتأملها ويرى آثارها وعملها في الأمم السابقة لا يحيك في نفسه شيء من هذا لأنه يرى في ضوء هذه السنة أن الكفرة اليوم وعلى رأسهم أمريكا وحلفائها هم الآن يعيشون سنة الإملاء والاستدراج والتي تقودهم إلى مزيد من الظلم والطغيان والغرور ، وهذا بدوره يقودهم إلى نهايتهم الحتمية وهي الهلاك والقصم في الأجل الذي قد ضربه الله لهم قال تعالى : (( وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً)) (الكهف:59) .
والله عز وجل لا يستجيب لعجلة المستعجلين بل له الحكمة البالغة والسنة الماضية التي إذا آتت أكلها أتى الكفرة ما وعدهم الله تعالى لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون .(12/213)
يقول صاحب الظلال رحمه الله تعالى في هذه الآية السابقة الذكر من سورة آل عمران : ( وفي هذه الآية يصل السياق إلى العقدة التي تحيك في بعض الصدور ، والشبهة التي تجول في بعض القلوب ، والعتاب الذي تجيش به بعض الأرواح ، وهي ترى أعداء الله وأعداء الحق ، متروكين لا يأخذهم العذاب ، ممتعين في ظاهر الأمر ، بالقوة والسلطة والمال والجاه! مما يوقع الفتنة في قلوبهم وفي قلوب الناس من حولهم ؛ ومما يجعل ضعاف الإيمان يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ، يحسبون أن الله – حاشاه – يرضى عن الباطل والشر والجحود والطغيان ، فيملي له ويرخي له العنان ! أو يحسبون أن الله – سبحانه – لا يتدخل في المعركة بين الحق والباطل ، فيدع للباطل أن يحطم الحق ، ولا يتدخل لنصرته! أو يحسبون أن هذا الباطل حق ، وإلا فلم تركه الله ينمو ويكبر ويغلب ؟ أو يحسبون أن من شأن الباطل أن يغلب على الحق في هذه الأرض ، وأن ليس من شأن الحق أن ينتصر ! ثم يدع المبطلين الظلمة الطغاة المفسدين ، يلجون في عتوهم ويسارعون في كفرهم ، ويلجون في طغيانهم ، ويظنون أن الأمر قد استقام لهم ، وأن ليس هنالك من قوة تقوى على الوقوف في وجههم !!
وهذا كله وهم باطل ، وظن بالله غير الحق ، والأمر ليس كذلك .
وها هو ذا الله سبحانه وتعالى يحذر الذين كفروا أن يظنوا هذا الظن ؛ إنه إذا كان الله لا يأخذهم بكفرهم الذي يسارعون فيه وإذا كان يعطيهم حظاً في الدنيا يستمتعون به ويلهون فيه ؛ إذا كان الله يأخذهم بهذا الابتلاء فإنما هي الفتنة ، وإنما هو الكيد المتين ، وإنما هو الاستدراج البعيد : (( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)) (آل عمران:178) .
ولو كانوا يستحقون أن يخرجهم الله من غمرة النعمة ، بالابتلاء الموقظ لابتلاهم ، ولكنه لا يريد بهم خيراً وقد اشتروا الكفر بالإيمان ، وسارعوا في الكفر واجتهدوا فيه ! فلم يعودوا يستحقون أن يوقظهم الله من هذه الغمرة – غمرة النعمة والسلطان – بالابتلاء ! ((وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)) .
والإهانة هي المقابل لما هم فيه من مقام ومكانة ونعماء .
وهكذا يتكشف أن الابتلاء من الله نعمة لا تصيب إلا من يريد له الله به الخير ، فإذا أصابت أولياءه فإنما تصيبهم لخير يريده الله لهم – ولو وقع الابتلاء مترتباً على تصرفات هؤلاء الأولياء – فهناك الحكمة المغيبة والتدبير اللطيف، وفضل الله على أوليائه المؤمنين )
ويقول في موطن آخر :
(( وإنه لمما يخدع الناس أن يروا الفاجر الطاغي ، أو المستهتر الفاسد ، أو الملحد الكافر ، ممكناً له في الأرض ، غير مأخوذ من الله ولكن الناس إنما يستعجلون ؛ إنهم يرون أول الطريق أو وسطه ، ولا يرون نهاية الطريق ونهاية الطريق لا ترى إلا بعد أن تجيء ! لا ترى إلا في مصارع الغابرين بعد أن يصبحوا أحاديث والقرآن الكريم يوجه إلى هذه المصارع ليتنبه المخدوعون الذين لا يرون – في حياتهم الفردية القصيرة – نهاية الطريق ؛ فيخدعهم ما يرون في حياتهم القصيرة ويحسبونه نهاية الطريق ! )
ومن حكمة الله عز وجل في سنة الإملاء للكافرين أن يمكنهم في هذا الإملاء ليزدادوا إثماً وطغياناً يندفعون به بعجلة متسارعة إلى نهايتهم التي فيها قصمهم ومحقهم ، وقد بدت بوادر المحق في الأمريكان الكفرة وحلفائهم فيما يتعلق بحقوق الإنسان التي يتشدقون بها وغير ذلك من عوامل المحق والقصم ، ولكن الله عز وجل بمكره لهم قد أغفلهم عن سوءاتهم وعما يترتب على حماقاتهم وطغيانهم ليحق عليهم سنته سبحانه في القوم الكافرين ، كما أن من حكمته سبحانه في إملاء الكافرين وظلمهم وتسلطهم على المسلمين تحقيق للسنة التي سبق الحديث عنها ألا وهي سنة الابتلاء والتمحيص للمؤمنين .
ففي الإملاء للكفار وتركهم يتسلطون على المسلمين في فترة من الزمن ابتلاء وتمحيص للمؤمنين ، حتى إذا آتت سنة الابتلاء أكلها وتميز الصف المؤمن الذي خرج من الابتلاء نظيفاً ممحصاً عندئذ تكون سنة الإملاء هي الأخرى قد أشرفت على نهايتها فيحق القول على الكافرين ويمحقهم الله كرامة للمؤمنين الممحصين الذين يمكن الله لهم عز وجل في الأرض ويخلفون الأرض بعد محق الكافرين .
قال تعالى : (( وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ)) (آل عمران:141) .
فذكر الله سبحانه التمحيص قبل المحق ولو محق الله الكفار قيل تهيأ المؤمنين الممحصين فمن يخلف الكفار بعد محقهم إن الله عز وجل حكيم عليم وما كان سبحانه ليحابي أحداً في سننه ولله عز وجل الحكمة في وضع السنتين سنة الابتلاء وسنة الإملاء في آيتين متتاليتين في سورة آل عمران ؛ قال تعالى : (( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)) (آل عمران:178)
((مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ)) (آل عمران:179) .
ولعل من الحكمة – والله أعلم – أن يعلمنا الله عز وجل أن هاتين السنتين متلازمتان ومتزامنتان وأن إحداهما تهيئ للأخرى .(12/214)
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، الهم أبرم لهذه الأمة أمرا رشدا يعز فيه وليك ويذل فيه عدوك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر إنك سميع الدعاء
اللهم ارحم عبادك الموحدين والطف بهم في العراق وفي كل مكان ؛ اللهم احقن دماءهم واحفظ لهم دينهم وأعراضهم .
اللهم فك أسر المأسورين من المسلمين في كل مكان ، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان ، اللهم اشف صدورنا وأقر أعيننا بنصرة دينك وأوليائك وخذلان أعدائك ؛ اللهم قاتل أمريكا وحلفاءها الذين يكذبون رسلك ويعادون أولياءك ويصدون عن سبيلك ، وأنزل عليهم رجزك وعذابك إله الحق ، اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم وندرأ بك في نحورهم .
والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين .
==============
ولا تلبسوا الحق بالباطل
الموضوع الأول
تمهيد :
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه .. أما بعد :
فإن الله عز وجل خلق الخلق من الجن والإنس لغاية عظيمة ، وهي عبادته سبحانه وتوحيده والإخلاص له وحده لا شريك له ، قال تعالى : (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ))
[الذاريات : 56] .
ومن أجل ذلك أنزل سبحانه الكتب وأرسل الرسل ، وزود عباده بالعقول التي تميز الخير من الشر والحق من الباطل ، وتكفل سبحانه بالعون والتوفيق لمن أراد الهدى والحق فدله إليه ورزقه الانقياد له ، وتخلى عمن أعرض عن الحق فلم يقبل به ، ولم يستسلم ويخضع له ، وكل هذا من الابتلاء الذي خلق الله سبحانه الموت والحياة من أجله ، قال تعالى : (( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)) ) [الملك : 2] .
وانقسم الناس إثر ذلك إلى مؤمنين موحدين مدركين للغاية التي من أجلها خلقوا ، فصار تدوافعهم كلها في مرضاة الله سبحانه ، وسخروا كل ما آتاهم الله في هذه الدنيا لخدمة هذه الغاية الشريفة لنيل مرضاة الله سبحانه وتعالى ، فعملوا للآخرة والفوز برضوان الله والجنة ، ومن الناس من أمضى حياته في اللهو واللعب وإيثار الحياة الدنيا ، وجعل هذه الدنيا همه وغايته واتبع هواه ، فخسر الدنيا والآخرة ، ألا ذلك هو الخسران المبين .
ثم إن الفئة المؤمنة لم تسلم كذلك من الفتن ، وكيف لا يكون ذلك وعدوها الشيطان الرجيم متربص بها لا يفتأ يضلها ويزين لها ويخدعها ؟ يقول الله عز وجل عن إبليس اللعين : (( قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) ) [الأعراف : 16 ، 17] ، وقال تعالى : (( قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)) [الحجر : 39 ، 40] .
أحابيل الشيطان :
إن من أعظم الفتن التي يفتن الشيطان بها العباد ، فتنة التزيين ولبس الحق بالباطل وإتباع الهوى في ذلك ، ولقد وقع في هذا الشَرَك الخطير كثير من الناس وبخاصة في زماننا هذا ، حيث تموج الفتن موج البحر، وحيث كثر الخداع والنفاق والدجل والرياء .
نعم إننا في زمان اشتدت فيه غربة الإسلام ، وضُلل كثير من الناس وتمكن الشيطان من كثير منهم تمكناً يظنون معه أنهم بمنأى عن عدوهم اللدود وعلى صلة بربهم سبحانه وتعالى ، وما ذلك إلا بسبب التباس الحق بالباطل والجهل بالعلم ولتعاون شياطين الجن والإنس : (( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً )) [الأنعام : 112] .
فتعاونوا في وضع هذا التلبيس في قوالب من الأقوال مزخرفة ، وألفاظ من القول خادعة ، وتسمية للأشياء بغير أسمائها فَضَلّ بسبب ذلك كثير من الناس ، والعاقل منهم من وقف حائراً لا يدري أين وجهة الحق فيما يسمع ويرى من التناقضات وتبرير المواقف الخاطئة المخالفة للشريعة ، بسبب استيلاء الهوى على النفوس واستيلاء الشهوات على القلوب .
ولما كان من غير المستطاع المجاهرة برد الشريعة ورفضها ، كان لابد لهم من لي أعناق النصوص من آيات وأحاديث ليستدل بها أولئك المبطلون على المواقف المنحرفة وليست فيها دلالة عليها ، ولو أن الذي يقع في الانحراف يعترف بذنبه وخطئه وضعفه في مخالفة الشريعة ، لكان الأمر أهون ، وكذلك لو أنه استدل بدليل في غير محله ولما نُبّهَ إلى هذا الخطأ في الاستدلال رجع واعترف لكان هذا أيضاً أهون ، ولكن المصيبة أن يصر المسلم الذي حَرّفَ الأدلة ولواها ليجد لعمله
مَخْرَجَاً وشرعية ، فيكابر بعد بيان الحق له ، ويغالط نفسه والمسلمين بصنيعه هذا.
منطلق هذه الوقفات :
* إننا في زماننا هذا نرى صوراً كثيرة من لبس الحق بالباطل ، وصوراً أخرى من المغالطات والخداع والحيل المحرمة في شرع الله عز وجل ، فكان لزاماً على الدعاة والمصلحين أن يحذروا من الوقوع في هذا المزلق ، وأن يكشفوه للناس ولا يدَعُوهم لأهل الأهواء يلبسون عليهم دينهم ويحرفون الكلم عن مواضعه ، ومعلوم ما ينتج من وراء ذلك من الفتن والتضليل .(12/215)
* من أجل ذلك جاءت هذه الوقفات التربوية في ضوء القرآن الكريم لمعالجة هذا الموضوع المهم على ضوء الكتاب والسنة وما ذكره العلماء الفحول ، وقد اخترت عنواناً لها قوله تعالى : ((وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ )) ، وهو جزء من آيتين كريمتين وردت إحداهما في سورة البقرة عند قوله تعالى : (( وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) [البقرة : 42] والأخرى في سورة آل عمران
عند قوله تعالى : (( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) [آل عمران : 71] .
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب :
وهاتان الآيتان وإن كانتا قد نزلتا في أهل الكتاب فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر عند علماء الأصول ، فكل من كتم الحق وخلطه بالباطل وهو يعلم فهو من أهل هذه الآية ، ولذلك سوف لا أتطرق لمحاولات أهل الكتاب ولا أصحاب الملل الكافرة في تلبيس الحق بالباطل ومغالطاتهم في ذلك ، بل سينصب جل البحث على واقعنا المسلم الذي نعيش فيه وندعو إلى الله فيه ، محاولاً كشف بعض الصور التي التبس فيها الحق بالباطل والتي يقع فيها بعض المنتسبين
لهذا الدين من المنافقين وضعاف الإيمان لتبرير الانحراف أو التهوين منه والرضى به وإقراره ، بل إن بعض الطيبين من دعاة وطلاب علم قد تأثروا بأولئك الملبسين فصاروا يرددون بعض ما يقولون بعلم أو بغير علم ، وقد قسمت الموضوع إلى المباحث التالية :
* أهمية الموضوع
* تعريفات
* أسباب التباس الحق بالباطل
* صور من لبس الحق بالباطل
* الأسباب الواقية من لبس الحق بالباطل
* خاتمة.
أهمية الموضوع :
إن لدراسة التباس الحق بالباطل أهمية كبرى لما ينتج عن ذلك التلبيس من تزييف وفتنة يكون لها الأثر السيء والضرر البالغ في تضليل الأمة وتحريف الحقائق وتزوير الأحداث ، ويمكن توضيح أهمية الموضوع في الأمور التالية :
1- القيام بالعبودية لله تعالى لا يتم إلا بالإخلاص له سبحانه وتعالى ، وأن تكون العبادة على بصيرة باتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والبصيرة بالدين لا تتحقق مادام أن الباطل ملتبساً بالحق، مما يلزم تنقية الحق من الباطل قال تعالى : (( قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)) [البقرة : 56] .
2- كثرة التلبيس والتضليل في عصرنا بوسائل إعلامية ماكرة مضللة تلبس على الناس دينهم وتخلط الحق بالباطل ، بل وصل الأمر لدرجة قلب الحقائق وإظهار الحق في صورة الباطل والباطل في صورة الحق ، وذلك لطمس الحق أو تشويهه وتشويه حملته والداعين إليه ، فكان لابد من إزالة هذا اللبس لإحقاق الحق وإبطال الباطل بقدر المستطاع ((لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)) [الأنفال : 8] .
3- السكوت المزعج لكثير من العلماء وطلبة العلم في ديار الإسلام أمام كثير من المستجدات والنوازل التي تبحث فيها الأمة عن الموقف الشرعي إزاء تلك النوازل ، مما حدا بذوي القلوب المريضة في غيبة العلماء أن يلبسوا على الأمة أمرها ، وتكلمت الرويبضة في أمر العامة ، والأدهى والأمر أن من أهل العلم من يساهم في هذا التلبيس فتراه يسمي الأمور بغير أسمائها ، وينزل النوازل في غير مناطاتها ، بل قد يثني على المبطلين ويغض من قدر المصلحين ، فإلى الله المشتكى.
4- أهمية تعرية الباطل وأهله ، فمادام أن الحق مختلط بالباطل ، وسبيل المجرمين لم يتميز عن سبيل المؤمنين ، فإن الدين سيبقى مشوهاً عند الناس ، وسيبقى التلبيس فيه قائماً (( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ)) (لأنفال: من الآية42) .
5- ضرورة بيان تلبيس الطواغيت ودعاة العلمنة في كثير من بلدان الإسلام وما يضفونه على مخططاتهم الظالمة من تبريرات لظلمهم وادعاءاتهم التي قال الله تعالى في مثلها : (( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ)) [البقرة : 11 ، 12] .
6- ظهور بعض المغالطات من كثير من الناس واستخدامها في تبرير المواقف الخاطئة والمخالفات الشرعية ، سواء أكانت فردية أو جماعية فينبثق عنها مواقف وممارسات خاطئة تلبس على الناس أمرهم ، ومنشأ هذه المغالطات في الغالب شهوة مزجت بشبهة فتولد عنها مغالطة ، وسيأتي تفصيل ذلك فيما بعد .
مصطلحات في الموضوع :
يحسن بنا قبل الدخول في ثنايا الموضوع الإلمام بتعريفات كثر إيرادها ، من أهمها (اللبس والتلبيس) و ( الأغاليط والمغالطات) :
أولاً- اللبس والتلبيس :
قال في لسان العرب : ( اللّبْس واللّبَس : اختلاط الأمر ، لبس عليه الأمر يلبسه لبْساً فالتبس ، إذا خلطه عليه حتى لا يعرف جهته ، والتبس عليه الأمر أي اختلط واشتبه ، والتلبيس : كالتدليس والتخليط ، شدد للمبالغة ، وربما شدد للتكثير ، يقال : لَبَستُ الأمر على القوم ألبْسُه إذا شبهته عليهم وجعلته مشكلاً ) أ . هـ ، وقال ابن الجوزي رحمه الله في تلبيس إبليس : ( التلبيس إظهار الباطل في صورة الحق ) أ . هـ .
ومن ذلك قوله تعالى : ((وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) (البقرة:42)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عند هذه الآية : ( فإنه من لبس الحق بالباطل فغطاه به فغلط به لزم أن يكتم الحق الذي تبين أنه باطل إذ لو بينه زال الباطل الذي لبس به الحق ) .
ثانياً- الأغاليط والمغالطات :(12/216)
قال في لسان العرب : ( المغْلطَة والأغلوطة : ما يغالط به من المسائل والجمع : الأغاليط ، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات، قال الهروي : وأراد بها المسائل التييغالط بها العلماء ليزلوا فيهيج بذلك شر وفتنة ، وإنما نهي عنها لأنها غير نافعة في الدين ولا تكاد تكون إلا بما لا يقع ، ومثله قول ابن مسعود - رضي الله عنه - : ( أنذرتكم صعاب المنطق ) يريد
المسائل الدقيقة الغامضة ) .
وقد أخرج أبو داود رحمه الله في سننه عن معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأغلوطات [1] .
وروى كل من البخاري ومسلم حديث حذيفة المشهور في الفتن ، وفيه قول حذيفة : ( إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط ) [2] .
قال في الشرح : الأغاليط جمع أغلوطة وهي المسائل التي يغلط فيها والأحاديث التي تذكر للتكذيب ، ونقل الحافظ بن رجب رحمه الله في جامع العلوم والحكم عند شرحه للحديث التاسع من أحاديث الأربعين النووية
قوله : وقال الحسن البصري : ( شرار عباد الله الذين يتبعون شرار المسائل يعمون بها عباد الله ) .
وقال الأوزاعي : ( إن الله إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه المغاليط ، فلقد رأيتهم أقل الناس علماً ) .
والحاصل مما ذكر أن المغاليط هي التي يثيرها المغالطون من صعاب المسائل أو المسائل التي لم تقع ، وذلك ليغالطوا بها العلماء ليزلوا فيعمون بها العباد ويهيج من ذلك شر وفتنة وتلبيس على الناس ، نسأل الله السلامة ..
[1] أبو داود كتاب العلم ح/8 .
[2] البخاري كتاب المواقيت ح/4 ، مسلم كتاب الإيمان .
الموضوع الثاني
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد ..
إن الانحراف عن الحق والوقوع في الخطأ لا تعدوا أسبابه الفتن التالية :
1- فتنة الشبهات .
2- فتنة الشهوات .
3- فتنة الجمع بين الشبهة والشهوة لبس الحق بالباطل وكل انحراف أو ضلال أو خطأ سواء أكان صغيراً أو كبيراً لا يخرج في دوافعه عن الأسباب الثلاثة السابقة :
فإذا وقع العبد في مخالفة شرعية ، فإما أن يكون السبب في هذه المخالفة هو الجهل بها وعدم العلم بحرمتها، أو اشتبه الأمر عليه فحسبها مكروهة فقط ، فهذا الخطأ سبب الشبهة الناتجة من قلة العلم وضعف البصيرة .
وأما إذا كان لدى من وقع في المخالفة علم وبصيرة في دين الله بأنها محرمة ومخالفة للشرع ومع ذلك وقع فيها عمداً ، فإن الدافع لهذه المخالفة إنما هو الشهوة ، وضعف النفس ، ومثل هذا يقر ويعترف بمخالفته ومجانبته للصواب كما يعترف بذنبه وتقصيره .
أما إذا وقع في المخالفة عن شهوة وضعف ثم لم يعترف بذنبه وتقصيره ، وإنما راح يبحث عن شبهة شرعية أو تفسير خاطئ أو تأويل متعسف للأدلة ليبرر بها خطأه ويبرر بها ضعفه وشهوته مع علمه بخطأ تصرفه هذا في قرارة نفسه فهذا هو الهوى وهذه هي المغالطة وهذا هو لبس الحق بالباطل ، وهو أشنع أنواع الانحراف لأنه مكر وتحايل على شرع الله وخداع للناس .
إن أشد وأشر هذه الفتن من جمع بين الشبهة والشهوة وتحايل على شرع الله بأن غطى مخالفته وانحرافه بشبهة شرعية ، وهو يعلم أنه متحايل ومخادع ، ومثل هؤلاء الملبسين عقوبتهم عند الله عز وجل أشد من الذين يقعون في المخالفات الشرعية ولكنهم يعترفون بتقصيرهم وذنوبهم ، ولا يكابرون ، ولا يبررون ولهذا حذر النبي - صلى الله عليه وسلم- أمته من ارتكاب الحيل فقال ولا تركبوا ما رتكب اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل [1].
وهذه هي حقيقة لبس الحق بالباطل وحقيقة المغالطة ، إذ أن الدافع الحقيقي للانحراف هو الهوى والشهوة وحب الدنيا ، ولكن عوضاً عن أن يعترف بضعفه هذا وشهوته ، ويعترف بذنوبه في مخالفته للشريعة فإنه يستدل لشهوته هذه بشبهة شرعية يعلم هو في قرارة نفسه أنها لا تصلح للاستدلال ، لكن لابد من غطاء يغطى به هذا الضعف والهوى ، وإذا ذهبنا لنتعرف على وسائل التلبيس والطرق التي ينطلق منها الملبس في أغلوطاته نجدها لا تخرج في الغالب عن الأمور التالية
1- التأويل الفاسد واتباع المتشابه .
2- كتمان الحق وإخفاؤه .
3- تحريف الأدلة عن مواضعها ، وعدم إنزالها في مناطاتها ، وتفصيل ذلك فيما يلي :
1- التأويل وإتباع المتشابه :
التأويل الفاسد الذي لم يدل عليه دليل يصرفه عن المعنى الظاهر الذي هو أشبه بتحريف الكلم ، والغالب أن الذي يدفع إليه هو الجهل والهوى وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله : فأصل خراب الدين والدنيا إنما هو التأويل الذي لم يرده الله رسوله بكلامه ولا دل عليه أنه مراده ، وهل اختلفت الأمم على أنبيائها إلا بالتأويل ، وهل وقعت في الأمة فتنة كبيرة أو صغيرة إلا بالتأويل ؟ فمن بابه دخل إليها ، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل ؟ [2] .
وعند قول الله عز وجل في اليهود : (( وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) [آل عمران : 78] .(12/217)
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى عن هذه الآية : وآفة رجال الدين حين يفسدون أن يصبحوا أداة طيعة لتزييف الحقائق باسم أنهم رجال الدين وهذه الحال التي يذكرها القرآن عن هذا الفريق من أهل الكتاب نعرفها نحن جيداً في زماننا هذا فهم كانوا يؤولون نصوص كتابهم ، ويلوونها لياً ، ليصلوا منها إلى مقررات معينة ,يزعمون أنها مدلول هذه النصوص ، وأنها تمثل ما أراده الله منها ، بينما هذه المقررات تصادم حقيقة دين الله في أساسها، معتمدين على أن كثرة السامعين لا تستطيع التفرقة بين حقيقة الدين ومدلولات هذه النصوص الحقيقية ، وبين تلك المقررات المفتعلة المكذوبة التي يُلجئون إليها النصوص إلجاء [3] .
2- كتمان الحق وإخفاؤه :
وهو تحريف الأدلة عن مواضعها وتغطية الحق بالباطل ، وقد ورد في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من النصوص المحذرة من كتمان الحق وإخفائه والمتوعده لفاعليه بالوعيد الشديد من ذلك : قوله تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ)) [البقرة : 159] .
وقوله : (( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [البقرة : 174]
يقول الشيخ رشيد رضا في تفسيرها : هذه الآية جارية على الرؤساء الذين يحرمون على الناس ما لم يحرمه الله ، ويشرعون لهم ما لم يشرعه من حيث يكتمون ما شرعه بالتأويل أو الترك ، فيدخل فيه اليهود والنصارى ومن حذا حذوهم في شرع مالم يأذن به الله وإظهار خلافه سواء أكان ذلك في أمر العقائد ككتمان اليهود أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم ، أو الأكل والتقشف وغير ذلك من الأحكام التي كانوا يكتمونها إذا كان لهم منفعة في ذلك ، كما قال تعالى : ( تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً)) [الانعام : 91] وفي حكمهم كل من يبدي بعض العلم ، ويكتم بعضه لمنفعة لا لإظهار الحق وتأييده [4] .
وبقيت كلمة أخيرة في موضوع كتمان الحق ، ألا وهي أن بعض الطيبين قد يقول : ألا يجوز كتمان العلم بل قد يجب أحياناً عند خوف الفتنة من الجهر به سواء أكان على النفس أو على الناس ؟ والجواب أن في ذلك تفصيل كما يلي :
بادئ ذي بدء فإن حديثنا ليس عن كتمان العلم وإنما هو عن كتمان الحق الذي يجب أن يقال ، وفي نظري والله أعلم أن بينهما اختلاف ، وذلك أن العلم أنواع فمنه ما هو واجب القول به وتعليمه الناس كفروض العين ونحوها ومنه ما هو مستحب ومنه ما يجوز قوله لأناس دون أناس حسب عقولهم وأفهاهم ، أما قول الحق الواجب فأرى أنه من العلم الواجب إيصاله للناس ، ولا يجوز كتمه لأن في كتمه مفسدة تنافي مقاصد الشرع أو بعضها ، وفي إخفائه فتنة للناس وليس العكس ، فإذا جاز
كتمان العلم أو وجب في ضوء قواعد الشريعة المعتبرة فإنا والحالة هذه نقول : إن الحق في هذا هو كتمان العلم ، وإن الجهر بالعلم مع معرفتنا بالمفسدة المترتبة عليه هو الباطل والفتنة وهذا والله أعلم هو الذي عناه الشاطبي رحمه الله تعالى في الموافقات حيث قال : ومن هذا يعلم أنه ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره وإن كان من علم الشريعة ، ومما يفيد علماً بالأحكام بل ذلك ينقسم ، فمنه ما هو مطلوب النشر وهو غالب علم الشريعة ، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق ، أولا يطلب نشره بالنسبة إلى حال ، أو وقت أو شخص ، ومن ذلك تعيين هذه الفرق فإنه وإن كان حقاً فقد يثير فتنة كما تبين تقريره فيكون من تلك الجهة ممنوعاً بثه ، ومن ذلك علم المتشابهات والكلام فيها ، فإن الله ذم من اتبعها فإذا ذكرت وعرضت للكلام فيها فربما أدى ذلك إلى ما هو مستغنى عنه [5] .
3- تحريف الأدلة عن مواضعها :
وهذه الطريقة من طرق التلبيس هي ثمرة من ثمرات الطريقتين السابقتين ، إذ لابد لمحرف الأدلة من كتمان الحق ، ولابد لمتبع المتشابه من تأويل كلام الله سبحانه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم من التأويل الفاسد الذي يؤدي إلى صرف الأدلة عن ما أراد الله بها وأراده رسوله صلى الله عليه وسلم ومن ثم وضعها في غير موضعها ، وهذا هو نوع من أنواع التحريف للأدلة عن مواضعها ، إذ لا يلزم من التحريف أن يكون لفظياً كما فعلت اليهود في التوراة بل إن تحريف المعنى المراد إلى غير المراد هو تحريف للنصوص عن مواضعها أيضاً وهذا ما
أشار إليه الشاطبي رحمه الله تعالى : وهو يستعرض مآخذ أهل البدع في الاستدلال: ومنها تحريف الأدلة عن مواضعها بأن يرد الدليل على مناط فيصرف عن ذلك المناط إلى أمر آخر موهماً أن المناطين واحد ، وهو من خفيات تحريف الكلم عن مواضعه والعياذ بالله ، ويغلب على الظن أن من أقر بالإسلام وبأنه يذم تحريف الكلم عن مواضعه لا يلجأ إليه صراحاً ، إلا مع اشتباه يعرض له ، أو جهل يصده عن الحق مع هوى يعميه عن أخذ الدليل مأخذه ، فيكون بذلك السبب مبتدعاً وبيان ذلك أن الدليل الشرعي إذا اقتضى أمراً في الجملة مما يتعلق بالعبادات مثلاً فأتى به المكلف في الجملة أيضاً ، كذكر الله والدعاء والنوافل المستحبات وما أشبهها مما يعلم من الشارع فيها التوسعة ، كان الدليل عاضداً لعلمه من جهتين : من جهة معناه ، ومن جهة عمل السلف الصالح به .(12/218)
فإن أتى المكلف في ذلك الأمر بكيفية مخصوصة أو زمان مخصوص أو مكان مخصوص أو مقارنٍ لعبادة مخصوصة، والتزم ذلك بحيث صار متخيلاً أن الكيفية أو الزمان أو المكان مقصود شرعاً من غير أن يدل الدليل عليه ، كان الدليل بمعزل عن ذلك المعنى المستدل عليه [6] .
[1] تفسير بن كثير ، طبعة الشعب ج3 ص492 ، وجود ابن كثير إسناد هذا احديث .
[2] إعلام الموقعين 4/353 .
[3] في ظلال القرآن .
[4] تفسير المنار 2/101 .
[5] الموافقات ج4 ص109 .
[6] الاعتصام ج1 318 .
الموضوع الثالث
مدخل :
بعد بيان معنى اللبس والتلبيس وأنه إلباس الهوى والشهوة لبوساً شرعياً بتحريف الأدلة ، ثم بيان الأسباب التي تؤدي إلى لبس الحق بالباطل والمؤدية بدورها إلى الضلال والإضلال ، نذكر هنا بعضاً من صور اللبس والتضليل ، وذلك لنحذر من الوقوع فيها بأنفسنا ، ونحذر إخواننا المسلمين من الوقوع فيها والانخداع بها ، ولم أراع في ترتيبها الأهمية ، لكن حسب ما عنّ في الخاطر ، أسأله (سبحانه) التوفيق والسداد في القول والعمل ،
ومن هذه الصور ما يلي :
1- الاحتجاج على شرعية الأنظمة المبدلة لشرع الله والمستحلة لما حرم الله بآثار عن السلف رضي الله عنهم أنه : كفر دون كفر :
وهذا، والله تحريف للأدلة عن مواضعها ، وإنزال الحكم في غير محله ، وافتراء وتجن على سلفنا الصالح وخير القرون في هذه الأمة ، فما كانوا عن عصرنا يتحدثون ولا أنظمته المبدلة لشرع الله يقصدون ، فالله المستعان ، ومن أحسن ما رأيت من الردود على هذا التلبيس ما كتبه الشيخ أحمد شاكر رحمه الله، ومما قاله : وهذه الآثار عن ابن عباس وغيره مما يلعب به المضللون في عصرنا من المنتسبين للعلم ومن غيرهم من الجرآء على الدين ، يجعلونها عذراً أو إباحة للقوانين الوثنية الوضعية التي ضربت على بلاد المسلمين [1] .
فاللهم إنا نبرأ من هذا اللبس ونبرئ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين لهم بإحسان من هذا التلبيس وهذه المغالطات ، وإنه لا أحد ينزل قول ابن عباس رضي الله عنه أو غيره من السلف على المبدلين لشرع الله في زماننا هذا إلا رجل سيطر عليه الجهل بالواقع فلا يعلم ما يدور من حوله ، أو رجل منافق ملبس يعلم واقعه وعدم مشابهته للواقع الذي كان يتحدث عنه ابن عباس رضي الله عنه، ولكنه يغالط ويخلط الحق بالباطل اتباعاً للهوى وطمعاً في دنيا يصيبها ؛ فإنه لم يحدث قط في تاريخ الإسلام أن سن حاكم حكماً وجعله شريعة يتحاكم إليها الناس .
2- الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي ، والرضى بالذل والمهانة :
وهذه الصورة من صور اللبس والمغالطة ليس القصد من إيرادها هنا الرد على المحتجين بالقدر على ضلالهم ومعاصيهم ، وإنما المقصود التنبيه على أن من يحتج بالقضاء والقدر ليبرر به انحرافه وكسله وضعفه إنما هو مغالط وملبس ومدلس، وموضوع الرد على المحتجين بالقدر موجود فيمظانّه من كتب العقيدة الصحيحة لدى سلفنا أهل السنة والجماعة ، مثل : العقيدة الواسطية ، ومعارج القبول ، والعقيدة الطحاوية .. إلخ ، والمراد هنا : كشف اللبس الحاصل بين الحق والباطل في هذه المسألة ، حيث إن المحتج بالقدر على فعل المعاصي والإصرار عليها قد وقع في لبس عظيم ، ويعلم هو بنفسه أن احتجاجه ليس في محله، وإنما أورده لتبرير شهوته وضعفه بدليل أنه في أمور الدنيا وكسبها لا نجده يقعد محتجاً بالقدر، وأن الله سبحانه كتب عليه الفقر أو الجوع أو عدم الزواج ، بل إنا نجده يسعى ويفعل الأسباب الممكنة لدفع كل ذلك ، فلماذا لا يوجد هذا الدفع أيضاً في أمور الدين وأمور الآخرة فيسعى للآخرة سعيها، ويأخذ بأسباب الهداية وأسباب النجاة من النار،وهي ميسرة لمن أرادها ؟ ! ، لماذا هو جبري في أمور الدين والآخرة، وقدري في أمور الدنيا ؟ .
وقريب من الذين يحتجون بالقدر على فعل المعاصي والرضى بالواقع أولئك الذين يتجرؤون على فعل المعاصي اعتماداً على رحمة الله سبحانه ، نعم إن الله غفور رحيم ، ولكن ليس مقتضى هذه الرحمة أن يتجرأ هذا الملبس على المعصية ، وإنما المقصود منها : فتح باب التوبة والرحمة لمن وقع فيها وانتهى وندم ، فيقال له:لا تيأس ؛ فإن الله غفور رحيم .
3- ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله خوف الابتلاء وتعريض النفس للفتن :
هناك من يترك الأمر والنهي عجزاً وكسلاً وجبناً وبخلاً ، لكن لا يريد أن يعترف بهذه الصفات الذميمة ، فبدلاً من الاعتراف بها والسعي للتخلص منها فإنه يحاول جاهداً في تغطية ضعفه هذا بمبررات شرعية ، منها : الخوف من الفتن واعتزال كل ما يعرض النفس للابتلاء والفتنة والهلكة ودرء المفاسد ، معتمداً على قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح والضوابط الشرعية في ذلك ، فمقصودنا هو كشف اللبس والتدليس والمغالطة على النفس وعلى الناس في أن النكول عن الأمر والنهي قد تم من منطلق شرعي وضوابط شرعية ، والأمر في حقيقته ليس كذلك ، وإنما هو الخوف والجبن وإيثار السلامة وعدم تحمل أي أذى أو مكروه في سبيل الله عز وجل .
يقول الإمام ابن تيمية (رحمه الله) : ولما كان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله من الابتلاء والمحن ما يعرض به المرء للفتنة : صار في الناس من يتعلل لترك ما وجب عليه من ذلك بأنه يطلب السلامة من الفتنة ، كما قال [تعالى] عن المنافقين : ومنهم من يقول : ((وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ))
[التوبة : 49].(12/219)
فلا يصح لقائل أن يقول أنه يجب الابتعاد في الدعوة إلى الله سبحانه عن كل ما من شأنه أن يجر على الداعية الأذى والمحن ! ، إن صاحب هذا القول قد نسي أو تناسى سنة الله عز وجل في الصراع بين الحق والباطل ، وسنته سبحانه في الابتلاء والتمحيص ؛ قال تعالى : (( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ، وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ)) [العنكبوت : 10 ، 11] .
نعم إن من بيننا من يريد المغنم من الدعوة ولا يريد المغرم ، بدليل عدم الإعداد والاستعداد لأي أذى يعترضه في الطريق ولو كان قليلاً ، وإنما مادام الأمن والسلامة والراحة فهو نشيط ومتحرك ،فإذا ظهرت المحن وبدايات الابتلاء والتمحيص آثر السلامة والراحة ، وعلل ذلك بالابتعاد عن الفتن ودرء المفاسد .
ولا يعني ما سبق من الكلام أن يبحث الداعية عن الأذى والابتلاء ، كلا ، فالمطلوب سؤال الله العافية وعدم تمني البلاء ، كما لا يفهم منه أيضاً الدعوة إلى التهور والطيش معاذ الله ، فلابد من وجود المنطلقات الشرعية في كل التصرفات ، لكن المراد أن لا نغفل عن سنة الله سبحانه في ابتلاء المؤمنين ، وأن نوطن أنفسنا على هذه الأمور، لأنه لابد منها لكل من ادعى الإيمان وتصدّر للدعوة والجهاد ، ولابد منها ليتميز الخبيث من الطيب ، ولابد منها لتمحيص القلوب والصفوف ، ولو قلبنا تاريخ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وتاريخ الدعاة والمصلحين لرأينا ذلك المعلَم ظاهراً وقاسماً مشتركاً عندهم جميعاً .
وقريب من هؤلاء أولئك الذين يبررون كسلهم وحبهم للراحة وضعف همتهم بالتواضع البارد والزهد في المسؤولية ، لأنه يعرف أن الدعوة إلى الله سبحانه لا يعرف صاحبها الراحة ، وتحتاج إلى همة عالية ، لكنه عوضاً من أن يعترف بضعفه هذا ، فإنه يغالط نفسه وغيره ، ويسعى إلى ترقيعه بإلقاء هذا الضعف على الخوف من المسؤولية واحتقار النفس ، وأن هناك من هو أولى وأتقى وأفضل .. إلخ .
4- المداهنة وضعف الولاء والبراء بحجة المداراة والتسامح ومصلحة الأمة :
إن الخلط بين المداراة والمداهنة ، والتميع في الولاء والبراء بحجة التسامح ، كل ذلك ينتجعنه آثار خطيرة على الدين وأهله، وذلك بما يفرزه هذا الخلط واللبس من المغالطة والتضليل على الأمة في أن ما يقع من الملبسين من مداهنة وموالاة لأعداء هذا الدين إنما هو مداراة .
وإيضاحاً لهذا الأمر : أنقل كلاماً لأهل العلم يزيل اللبس في مسألة المداراة والمداهنة ومسألة الولاء والتسامح .
قال البخاري رحمه الله في باب المداراة مع الناس : ويذكر عن أبي الدرداء : إنا لنكشر في وجوه قوم وإن قلوبنا لتلعنهم ، وعن عائشة رضي الله عنها أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال : ائذنوا له فبئس ابن العشيرة أو بئس أخو العشيرة فلما دخل ألان له الكلام ، فقلت له : يا رسول الله ، قلت ثم ألنت له في القول ، فقال : أي عائشة ، إن شر الناس منزلة عند الله مَن تَركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه [2] .
ويعلق ابن حجر رحمه الله على حديث عائشة بقوله :قال ابن بطال : المداراة من أخلاق المؤمنين ، وهي خفض الجناح للناس ولين الكلمة وترك الإغلاظ في القول ، وذلك من أقوى أسباب الألفة ، وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط ؛ لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة ، والفرق : أن المداهنة من الدهان، وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضا بما هو فيه من غير إنكار عليه، والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه ، حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل ، لا سيما إذا احتيج إلى تألفه، ونحو ذلك [3] .
ومن هذا يتبين ما هي المداراة وما هي المداهنة، وأنهما ضدان لا يجتمعان ، إذ إن المداراة صفة مدح وهي لأهل الإيمان ، بينما المداهنة صفة ذم وهي لأهل النفاق ، فهل بقي بعد هذا البيان مجال للالتباس في هذا الأمر ؟ ! .
ثم إن مكمن الخطر في هذا الخلط ليس في مداهنة الفساق وأهل المعاصي من المسلمين فحسب ، وإنما الأخطر من ذلك هو : مداهنة الكفار بمشاربهم المختلفة تحت غطاء المداراة ومصلحة الأمة ، حتى اهتز جانب الولاء والبراء الذي هو الركن الركين في عقيدة التوحيد وبدأ حاجز البغض للكفر وأهله يضعف ،بل اهتز عند بعضهم ، والسبب في ذلك : الجهل بحقيقة المداراة والمداهنة ، أو المغالطة فيهما عن علم وهوى .
5- الانفتاح على الدنيا والركون إليها ، بحجة التعفف عن الناس وإنفاق المال في وجوه الخير :(12/220)
وفي هذه الصورة مدخل خفي للشيطان يتسرب منه إلى نفس الإنسان، يبلغ اللبس في هذا الأمرمن الخفاء بحيث لا يفطن له إلا المجاهد لنفسه، المفتش لقلبه، الحذر الخائف من الدنيا وغرورها، ومكمن اللبس هنا في أن التعفف عن الناس أمر مطلوب، ويحث عليه الشرع في أكثر من آية وحديث، وكذلك الإنفاق في سبيل الله وبذل المال في أوجه البر المختلفة، كل هذا حق لا ريب فيه، لكن الشيطان لا يألو جهداً في إغواء بني آدم وجرهم إلى حزبه خطوة خطوة، ولهذا : فهو يبدأ مع الإنسان ليجره إلى الدنيا وغرورها من باب التعفف عن الناس ، ومساعدة المحتاج ، وإغاثة الملهوف .. إلخ ، ثم بعد ذلك، وبعد إشغاله بالمال وطرق جمعه ومشاكله وشبهاته نبحث عن صاحبنا الذي كنا نراه في لقاءات الخير والدعوة إلى الله سبحانه فلا نراه إلا قليلاً، وهكذا، حتى ينفتح على الدنيا ، ويركن إليها ، ويضع له الشيطان في كل وادٍ من أوديتها شغلاً وهماً يتشعب فيهما الفكر، ويتشتت فيهما الذهن ويتحول المال المكتسب إلى استثمارات جديدة وتوسع في المباحات وإسراف في المآكل والمراكب والمساكن، وقد كان الهدف في البداية هو التعفف والإسهام في وجوه الخير والبر ، والغريب في الأمر أن هذا المغالط عندما يذكّر بالآيات التي تحذّر من الدنيا ، وسرعة زوالها ، وخطر الركون إليها ، فإنه بدلاً من أن يشعر بالخطر ويسعى لتدارك الأمر ؛ فإنا نجده يصر على المغالطة واللبس ، ويقول : إن التعفف عن الناس مطلوب، ولابد للداعية أن يكون له مصدر يستغني به عن الناس وينفع به دعوته ، ويساهم في الخير، وهو يعلم أن ليس هذا قصده، وإنما أراد تغطية حبه للدنيا والركون إليها بهذا الغطاء الشرعي الذي لم يراع الضوابط الشرعية فيه .
وقد يقول قائل : إذن ، ما العمل في مثل هذه الحالة وبخاصة لمن أراد صادقاً أن يتعفف عن الناس وأن ينفع دعوته بالمال ؟
والجواب لا أملكه، لأنها معادلة صعبة يختلف حلها من شخص لآخر، ويكفي في حلها أن يعلم الله سبحانه من أنفسنا أننا نريد التعفف والبذل بصدق في سبيل الله سبحانه، فعندئذ يحمينا برحمته من الدنيا وزخرفها ، ويخرجها من قلوبنا لتبقى في أيدينا ، وكل إنسان على نفسه بصيرة .
6- الاحتجاج بيسر الشريعة وضغط الواقع :
إن القول بيسر الشريعة وسماحتها حق لا شك فيه، ولكن الاحتجاج بهذا التيسير للتفلت من أحكام الشريعة والتحايل عليها، وإتباع الهوى في الأخذ بالرخص والشذوذات الفقهية ، كل هذا باطل وتلبيس وتضليل ، يتبنى ذلك أهل الأهواء الذين يتبعون الشهوات، يريدون بذلك تحلل المجتمع المسلم من أحكام الشريعة باسم التيسير وترك التشديد ، وصدق الله العظيم : (( وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً)) [النساء : 27].
ومن رحمة الله عز وجل أنه لم يكل مصالح العباد إلى أهواء البشر وشهواتهم ، بل وضع سبحانه شريعة كاملة مبرأة من الجهل والهوى ، ومبرأة من النقص والقصور ، لأن مصدرها منه سبحانه الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلا ، ولو أن تقرير مصالح العباد كان في أيدي البشر لحصل من ذلك شر وفساد كبير ، وذلك لما عليه البشر من الجهل والنقص والهوى والشهوة ، وهذا مشاهد في الواقع ؛ فالمجتمعات التي لا يحكمها شرع الله سبحانه وتحكمها أنظمة البشر وقوانينهم نرى فيها من الفساد والشرور والظلم والاستعباد والضنك والضيق ما تعج منه الأرض والسماوات ، وتبرأ منه الوحوش في البريات ، وصدق الله العظيم : (( وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ)) [المؤمنون : 71] .
إن الذين يتشدقون بالتيسير ويغالطون به بغير علم ولا هدى من الله سبحانه، لو كان الأمر بأهوائهم لعطلوا كثيراً من أحكام الشريعة التي قد يُظَن فيها المشقة والضيق مع أن مآلها اليسر والسعادة في الدارين ، فالله سبحانه الرحيم بعباده ، هو الذي يعلم ما يصلح شؤونهم ، وييسر أمورهم ، ويعلم ما يشق عليهم وما لا يشق ، إنه حكيم عليم .
7- التشهير بالدعاة والمصلحين واغتيابهم بحجة النصيحة والتحذير من الأخطاء :
عن أبي برزة الأسلمي ، والبراء بن عازب (رضي الله عنهما) ، قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه: لا تغتابوا المسلمين ، ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم ، تتبع الله عورته ، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته [4] .
والمقصود من إيراد هذه الصورة هو الحذر من تزيين الشيطان وتلبيسه في إظهار الغيبة أو النميمة أو التشهير في قالب النصيحة ، والتحذير من الأخطاء والغيرة على دين الله وتعظيم حرمات الله عز وجل ، إن هذاهو الخطير في الأمر: إذ لو أن الواقع في الغيبة أو النميمة أقر بذنبه ، واعترفبتقصيره ، واستغفر ذنبه لكان الأمر أهون ، أما أن يكابر ويلبس على نفسه وعلى الناس بأن قصده النصيحة للأمة وتحذيرها من الأخطاء، وهو يعلم من نفسه غير ذلك من التشفي أو الحسد أو التهوين من شأن من وقع منه الخطأ وتنفير الناس عنه ، فكل ذلك من المغالطة وتلبيس الشيطان وتزيينه .(12/221)
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى، تارة في قالب ديانة وصلاح ، فيقول: ليس لي عادة أن أذكر أحداً إلا بخير ولا أحب الغيبة ولا الكذب، وإنما أخبركم بأحواله، ويقول : والله إنه مسكين، أو رجل جيد ولكن فيه كيت وكيت ، وربما يقول : دعونا منه ، الله يغفر لنا وله، وإنما قصده استنقاصه، وهضماً لجنابه ، ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة ، يخادعون الله بذلك ، كما يخادعون مخلوقاً، وقد رأينا فيهم ألواناً كثيرة من هذا وأشباهه، إلى أن قال: وربما يذكره عند أعدائه ليتشفوا به، وهذا وغيره من أعظم أمراض القلوب والمخادعات لله ولخلقه، ومنهم من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر، فيظهر في هذا الباب أشياء من زخارف القول، وقصده غير ما أظهر، والله المستعان [5] .
فلا مدخل لملبّس ومغالط في إظهار حقده وتشفيه وحميته لنفسه في قالب النصح والديانة، وكل إنسان أدرى بنفسه وقصده .
ولكن يبقى هناك بعض القرائن التي تكشف هذا اللبس والخداع في نفس المدعي للنصح والديانة ، منها :
1- التشهير والتعيير بالمنصوح ، خاصة إذا كان من المصلحين وأهل العلم .
2- الظلم ، وعدم الإنصاف مع المنصوح ، وبخسه حقه ، وإخفاء خيره وحسناته .
3- عدم التثبت ، والأخذ بالشائعات ، وتصيد الأخطاء والفرح بها .
4- تغليب سوء الظن ، وتفسير المقاصد بدون دليل وبرهان .
5- أن يكون قد عرف عنه الكذب وقلة الورع .
6- المداهنة للظالمين والركون إليهم .
8- التلبيس على الناس برفع لافتات إسلامية تخفي وراءها الكيد للدين وأهله:
إن من أخطر ما يهدد الأمة في عقيدتها وأخلاقها أن تعيش في جو من اللبس والتضليل والخداع ، فلا ترى الحق بصورته المضيئة ولا الباطل بصورته القاتمة المظلمة ، بل قد يصل بها المكر والخداع إلى أن ترى الحق باطلاً والباطل حقاً، ويلتبس سبيل المجرمين بسبيل المؤمنين ، ومن أعظم الالتباس بين السبيلين أن يقوم المجرمون من أعداء المسلمين سواء من الكفار الصرحاء أو المنافقين الدخلاء برفع لافتات ، ظاهرها الإسلام ومحبة الدين والدعوة إلي ، وباطنها الكيد والمكر والخداع ، ويحصل من جراء ذلك : أن يُخدع كثير من المسلمين بهذه اللافتات فينشغلون بها ، ويثنون على أهلها بدلاً من فضحها وكشف عوارها وتعرية باطلها، وعن خطورة التباس سبيل المجرمين بسبيل المؤمنين ،
يقول ابن القيم رحمه الله: فإن اللبس إنما يقع إذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما ؛ كما قال عمر بن الخطاب : إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية ، وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه ، فإنه إذا لم يعرف الجاهلية وحكمها ، وهو كل ما خالف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه من الجاهلية ، فإنها منسوبة إلى الجهل ، وكل ما خالف الرسول فهو من الجهل ، فمن لم يعرف سبيل المجرمين ، ولم تستبن له أوشك أن يظن في بعض سبيلهم أنها من سبيل المؤمنين ، كما وقع في هذه الأمة من أمور كثيرة في باب الاعتقاد والعلم والعمل ، هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل ، أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين ، ودعا إليها وكفر من خالفها واستحل منه ما حرمه الله ورسوله [6] .
وقد قص الله سبحانه علينا في كتابه الكريم قصة قوم من المنافقين أرادوا خداع الرسول - صلى الله عليه وسلم- ومن معه من المؤمنين برفع لافتة إسلامية على صرح من صروح النفاق ، لكن الله (عز وجل) فضحهم وفضح لافتتهم وعرّى باطلهم ، ليكونوا عبرة للمسلمين في وقتهم ، وعبر التاريخ الطويل لمن يأتي بعدهم ممن يرفع لافتة إسلامية يخفي وراءها خبثه ومكره ، ويكيد بها المسلمين في أي زمان ومكان ، وهذه القصة ذكرها الله سبحانه في سورة التوبة بما يعرف بمسجد الضرار ، حيث أنزل فيها قرآناً يتلى إلى قيام الساعة ، قال سبحانه : (( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ، لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)) [التوبة : 107، 108] ، واللافتات المرفوعة اليوم كثيرة وماكرة ، أقتصر منها على بعض الأمثلة :
ما يرفعه الذين بدلوا شرع الله عز وجل ورفضوا التحاكم إليه في بلادهم من لافتات يخدعون بها شعوبهم المسلمة، مثل إقامة الذكرى السنوية لإحراق المسجد الأقصى المبارك ، فترى هؤلاء المجرمين الخائنين لله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم يخدعون المسلمين بإحياء ذكرى حرق المسجد الأقصى كأنهم يهتمون بالمسلمين ومقدساتهم ، وهم قد خانوا الله سبحانه من قبل بتنحية شريعته واستحلال محرماته، وخانوا أمتهم بعد ذلك بالتذلل لليهود والنصارى، وما أصدق ما قاله الشيخ عبد الرحمن الدوسري رحمه الله في محاضرة له مسجلة : إن إحراق المسجد الأقصى بل إحراق مساجد الدنيا كلها ليس أعظم جرماً من الاعتداء على شرع الله وحكمه وسلطانه في الأرض من قبل الأنظمة التي تتباكى على الأقصى وإحراقه .
[1] عمدة التفسير ، ج4 ، ص156158 .
[2] مجموع الفتاوى ، ج28 ، ص168 .
[3] البخاري ، كتاب الأدب ، وانظر : فتح الباري ، ج10 ، ص528 .
[4] رواه الترمذي وأبو داود ، وصححه الألباني في مشكاة المصابيح (5044) .
[5] مجموع الفتاوى ، ج28 ، ص237238 .(12/222)
[6] الفوائد ، ص109 .
=============
لماذا لا ننتصر ؟
khabab00@hotmail.com
أحمدك ربي حمداً يليق بجلال وجهك وعظيم سلطانك ، وأصلي وأسلم على الهادي البشير، والسراج المنير المبعوث رحمة للعالمين .
صلى عليك الله ما جن الدجى وما جرت في فلك شمس الضحى
ورضوان الله على الصحابة الأخيار، والهداة الأبرار،الذين جاهدوا مع رسول الله حق جهاده،فما وهنوا لما أصابوهم في سبيل الله وما ضعفوا،وما استكانوا والله يجب الصابرين .
اللهم فاطر السموات والأرض ،عالم الغيب والشهادة،أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون،اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم،وبعد،،
فإن من سنن الله الجارية،أنه إذا عصى الناس أمره،واستباحوا محارمه، وبغوا وظلموا، وابتعدوا عن صراطه المستقيم،ومنهجه القويم،أن يجازيهم بسوء أعمالهم، وينتقم من كل جبار عنيد : ((وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً)) (فاطر:43) .
ومن سنن الله أنه لا يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم،من الانحراف عن المنهج، وسلوك الطريق الخاطئ، وتضييع الأمانة .
((ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) (الأنفال:53) .
إلى الله نشكو :
في هذه الأيام تجد الناس في مجالسهم يخوضوا ويتحدثوا عن حال الأمة الإسلامية المنكوبة،ومآسيها،ونكباتها،وما أُصيبت به من الهوان والذل خاصة بعد أن رأوا وسمعوا في وسائل الإعلام المتعددة ،صوراً لمآسي المسلمين تفت الفؤاد،وتجرح الخاطر، وتقلق القلب، وتهز البدن.
إنها صور ليست في قطر واحد من أقطار المسلمين ، بل هي صور تتعدد وتتكرر كرات ومرات،ففي فلسطين وأفغانستان؛صور ومآسي،وفي العراق والشيشان؛ صور ومآسي، وفي الفلبين وكشمير وبورما والسودان والصومال وأندونيسيا مجازر وجزائر.
في كل جزء من بلادي قصة تروي ضياع كرامة الإنسان
فصورة لرجل كبير السن في فلسطين وقد خط الشيب لحيته فلا تراها إلا بيضاء وهو يرفع يديه يناجي رب الأرض والسماء بأن يهلك الأعداء ويصب عليهم القوارع والفواجع، وأن يدمرهم تدميراً.
وصورة لطفلة صغيرة في أفغانستان تبكي وتشهق من البكاء بحثاً عن والديها اللذين كانا تحت أنقاض البيت الذي هدم عليهما ففاضت روحهما وهما تحت الأنقاض،والطفلة المسكينة تصيح وتصرخ بحثاً عن والديها! وصورة ثالثة لطفل صغير قد أمسك خمسة من اليهود به فأحدهم يكاد أن يخنقه،وأحدهم قد شد شعره بكل ما أوتي من قوة وعنجهية، وآخر يركله بقدمه يريد أن يمشي على قدمه بكل سرعة، فهذا الطفل مجرم وإرهابي !والطفل يبكي ويصيح ولكن أين المغيث ؟!
وصورة أخرى لأم تريد أن تدافع عن ابنها،وفلذة كبدها، بعد أن أمسك اليهود بتلابيب ثيابه ، وهي تترجاهم بأن يفلتوه ويطلقوا سراحه،فما كان من أحد هؤلاء القردة إلا أن فقد صوابه وطار لبه فأمسك بهذه المسكينة بيديه الغليظتين ودفعها على الأرض بقوة فسقطت وهوت على رأسها ثم أطلق عليها عياراً نارياً من سلاحه فجندلها بالدم ثم قهقه ضاحكاً بسخرية قائلاً لها بكل خبث " ابنك لن تراه عينك " .
وصورة أخيرة لرجل شاب قد بلغ الثلاثين من عمره في إندونيسيا قد أسره أعداء الله النصارى فربطوه يديه مع رجليه،وشدوا الحبال الموثوقة على جسمه ، ثم أهووا به إلى الأرض لتبدأ المجزرة حيث أنهم جاءوا بالدبابة تمشي رويداً والشاب يصرخ ثم أمَّرُوا الدبابة على جسده الموثوق ببطء لكي يموت ألف مرة إلى أن وصلت الدبابة لرأسه فلم يبق له رسماً ولا أثراً، فقد اختلطت دماؤه بعروقه بلحمه فأصبح كتلة لحم، بل لا أثر له،إنه جسم أصبح لا يرى بعد أن هشمته جنازير الدبابة التي لا ترحم .
لا أريد أخي القارئ أن أستطرد فكأني بك قد استبشعت تلك الصور،ووقف الدم في جسمك،ولم تطق أن تسمع الباقي .
وبعد أن يرى القوم في مجالسهم مثل هذه الصور المبكية، فلن تسمع إلا أنين الزفرات،ولن تبصر إلا سكب العبرات وكثرة التأوهات .
حقاً إنها تبعث القشعريرة في الجسد، فالعين تفيض دمعاً،والقلب يشكو لوعة وهماً،واللسان يتحوقل ويسترجع،بل تخنقه العبرة فيخرس عن الكلام ألماً وغماً .
أين الخلل ؟
لا شك أننا في زمن كثرت فيه النكبات،وحلت به المصائب، والمدلهمات وانتشرت فيه المعاصي والموبقات،وكثرت الأمراض والآفات .
تلك قضية لا يناقش فيها إلا جاهل بواقع أمته،أو رجل مكابر!
إنه سيقرع سمعنا في مثل المجلس الذي ذكرته آنفاً أنه ما حل البلاء علينا إلا لتخاذل الحكام،وضعف الشعوب،وتقاعس العلماء .
وإني أقر وأجزم أن هذا الذي قيل هو جزء، بل سبب من الأسباب الهامة التي جعلت الأمة الإسلامية أمة ضعيفة ووصمت بهذا المثل .
ولكن هل هذا هو السبب الرئيس الذي جعلنا مهانين في الأرض وأصبحت أمتنا توصف بأنها أمة المصائب،أم أن هناك شيئاً آخر قد ضيعناه ونسيناه ؟
هل سألنا أنفسنا أين يكمن الخلل،ومن أين انتشرت هذه الأزمات؟
* ثمت أمور يجب علينا أن نسألها أنفسنا ونجيب عنها بصدق وواقعية، لماذا تراجع المسلمون وهزموا ، وتقدم غيرهم وانتصروا ؟
لماذا تفكك المسلمون وانقسموا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون،وأعداء الله يرصون الصفوف، ويجمعون الجموع ؟
لماذا حورب الإسلام وأهل السنة والجماعة، وفتح الباب على مصراعيه لأهل العلمنة والشر والفتنة وغيرهم ؟
هل من الصحيح إذا سمعنا مثل تلك المآسي آنفة الذكر أن نصرخ قائلين :
وامصيبتاه ؟ أو يرفع أحدنا صوته قائلاً:
قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر(12/223)
إنني لا أحقر من تلك الصرخات، ولكن هل هي الطريق الصحيح لتصحيح المسار، ومعالجة الأخطاء، والرد على الكفار أعداء الله ؟
ـ لا شكَّ أن الوقاية خير من العلاج،والسلامة لا يعدلها شيء،لكنَّ من المهم أن يعلم أنه ليست المشكلة بأن تجد المرض يدب في جسم إنسان،فإن الجسم معرض للآفات والأمراض،ولكن المشكلة،أن تجد ذلك المرض يدب في جسم الإنسان ويفتك بأعضائه، وينتهب منها السلامة،ومع ذلك فإنَّ الإنسان لا يشعر بذلك المرض، وإن شعرلا يقاومه، بل يندب حظه،ويرثي حاله، ويزعج الناس بأناته، ويوقظ أهله بآهاته،وزفراته.
مثلاً لمثل هذا حال كثير من المسلمين، فهم في الحقيقة لم يكتشفوا المرض الداخلي في أمتهم ولم يعالجوه، ومع ذلك فما تراهم إلا وهم يندبون تلك المصائب، ويبكون هاتيك الفواجع.
دع النياحة وابدأ بالعمل
إذا علمَ ذلك وأن الداء منا فلا بد أن نبحث عن الدواء، ورسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه أخبرنا أنه : ( ما أنزل الله داء وإلا وأنزل له دواء) أخرجه البخاري، وزاد ابن ماجة بسند صحيح : (علمه من علمه وجهله من جهله) ومن الجدير بنا أن نعقل هذه المصائب،ونحاول أن نعالجها .
وقد يتبادر إلى أذهاننا سؤال:هل ظلمنا الله – عز وجل – عند ما أنزل علينا المصائب؟
والجواب؛لا،وحاشا ربنا، فإن الله عز وجل كما قال عن نفسه : (( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)) (يونس:44) , وقال تعالى : (( وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) (فصلت: 46) .
وأخبرـ سبحانه ـ أنه حرَّم الظلم على نفسه، فقال : ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ) أخرجه مسلم .
وقال تعالى: (( وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ)) (آل عمران: 108) , وقال تعالى : (( وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ)) (غافر: 31) .
إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث،فيقيننا بالله أنه صاحب العدل المطلق والبعيد كل البعد عن الظلم والجور.
ولكن الله عز وجل أنزل علينا قرآناً يتلى إلى يوم القيامة وقد بيَّن فيه أنه ما من مصيبة تحل بالمسلمين إلا بسبب معاصيهم وذنوبهم وتضييعهم حرمات ربهم وأوامره ونواهيه،فقال تعالى: ((وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)) (الشورى:30) .
وقال تعالى: (( فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ)) (لأنفال:54) .
وقال تعالى: ((مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)) (النساء: 79) .
فهذا أول العلاج الذي يجب علينا أن نعرفه حتى نعالج به واقعنا كي نعلم أنه ما من مصيبة وقعت علينا وحلت بديارنا إلا بسبب أنفسنا وذنوبنا وتقصيرنا في حق الله، ومستحيل أن ننتصر ونحن قد ضيعنا الله ونسيناه ولا غرابة بعدها أن ينسانا ربنا : ((وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ)) (الحشر:19) , ((نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ)) التوبة:67)
إن سنن الله لا تتغير ولا تتبدل فالله عز وجل وعدنا بالنصر وأن يهزم عدونا ولكن إن نصرناه وجاهدنا لإعلاء كلمته،وربينا أنفسنا على طاعته، والفرار من معصيته،قال تعالى : (( إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)) (محمد:7) ،
وأخبر تعالى أنه لن ينصر إلا أهل الطاعة والإيمان لا أهل الفجور والخذلان فقال تعالى: (( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)) (غافر:51)
وبين لنا سبحانه أنه إن تولينا عن نصرة دينه ورفع رايته،فإنه يستبدل قوماً يقومون بحق الله وبنصرة دينه : (( وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)) (محمد: 38) .
قال سيد قطب – رحمه الله - : ( لقد كتب الله عز وجل على نفسه النصر لأوليائه حملة رايته وأصحاب عقيدته،ولكن علق هذا النصر بكمال حقيقة الإيمان في قلوبهم ، وباستيفاء مقتضيات الإيمان في تنظيمهم،وسلوكهم، وباستكمال العدة التي في طاقتهم ، وبذل الجهد الذي في وسعهم ، فهذه سنة الله،وسنة الله لا تحابي أحداً،فأما حين يقصرون في أحد هذه الأمور، فإن عليهم أن يتقبلوا نتيجة التقصير، فإن كونهم مسلمين لا يقتضي خرق السنن، وإبطال النواميس ، فإنما هم مسلمون،لأنهم يطابقون حياتهم كلها على السنن ويصطلحون بفطرتهم كلها مع الناموس .
ولكن كونهم مسلمين لا يذهب هدراً كذلك ، ولا يضيع هباءً فإن استسلامهم لله وحملهم الراية وعزمهم على طاعته، والتزام منهجه، من شأنه أن يرد أخطاءهم وتقصيرهم خيراً وبركة في النهاية ، بعد استيفاء ما يترتب عليها من التضحية والألم والقرح ، وأن يجعل من الأخطاء ونتائجها دروساً وتجارب تزيد من نقاء العقيدة ، وتمحيص القلوب ، وتطهير الصفوف ، وتؤهل للنصر الموعود، تنتهي بالخير والبركة، ولا تطرد المسلمين من كنف الله ورعايته،بل تمدهم بزاد الطريق،مهما يمسهم من القرح والألم والضيق أثناء الطريق.
وبهذا الوضوح والصراحة معاً يأخذ الله الجماعة المسلمة،وهو يرد على تساؤلها ودهشتها مما وقع،ويكشف عن السبب القريب من أفعالها : (( أوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)) (آل عمران:165) .(12/224)
فأنفسكم هي التي أخلت بشرط الله وشرط رسوله صلى الله عليه وسلم وأنفسكم هي التي خالجها الهواجس والأطماع،وأنفسكم هي التي عصت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ)) (آل عمران: 152) .
فهذا الذي تستنكرون أن يقع لكم وتقولون:كيف هذا؟هو من عند أنفسكم بانطباق سنن الله عز وجل حين عرضتم أنفسكم لها ) ا.هـ (في ظلال القرآن) .
ولهذا ورد في الأثر عن العباس بن عبد المطلب : ( ما نزل البلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة ) فلنندب ذنوبنا قبل أن نندب مآسينا ولنحارب أنفسنا الأمارة بالسوء وننهاها عن المنكر عندئذ سيحصل النصر وينجلي الغبار والله لا يخلف وعده ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) (النور:55) .
أي أُخي :
تأمل وانظر إلى بلاد المسلمين:
كم يوجد فيها من ضريح يعبد من دون الله و يطاف عليه ويستغاث بصاحبه ؟
كم هم الذين لا يحكمون بما أنزل الله بل يتحاكمون إلى الطاغوت؟
كم من بدعة تقام في ديار المسلمين صباح مساء ؟
كم من فاحشة تنتهك في ظلام الليل الدامس،وفي الصباح المتفتح الزاهر؟
كم من إنسان يبخس الكيل والميزان ولا يصدق في المعاملة مع ربه ومع الناس ؟
كم من صَرْحٍ لبنوك الربا التي جاهرت الله بالمحاربة والمعصية ؟
كم هم الناس المعرضون عن دين الله وحكمه وأقبلوا على الملاهي والخمور والأغاني والمسلسلات ؟
كم هم الناس الذين لا يصلون ويدعون بأنهم مسلمون ؟
أنظر للشوارع والأسواق فلا ترى – ويا للأسف ـ إلا تخنث للرجال ، وترجل النساء، والغيبة،والكذب، والنميمة ، والغش ، والظلم ، وخفر العهود ، وإخلاف المواعيد ، وأكل حقوق الناس، والعصبية القبلية والعرقية المنتنة، والزنا،واللواط، والنفاق، وسوء الأخلاق ـ إلا قليلاً ممن رحم ربك ـ
ثم مع هذا كله نريد نصر الله ، وأن يهزم عدونا ويكف شره ويكبت أمره !!
عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنه – قال كنت عاشر عشرة من المهاجرين،عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل علينا بوجهه ، وقال : ( يا معشر المهاجرين – خمس خصال إذا ابتليتم بهن ، وأعوذ بالله أن تدركوهن:ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى أعلنوها إلا ابتلاهم الله بالسنين، وشدة المؤنة ، وجور السلطان ، ولا منع قوم الزكاة إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ، ولا خفر قوم العهد إلا سلط الله عليهم العدو فأخذ بعض ما في أيديهم ، وما لم تعمل أئمتهم بما أنزل الله عز وجل في كتابه إلا جعل بأسهم بينهم ) أخرجه البيهقي والحاكم بسند صحيح .
جزاءً بجزاءِ ، ومثلاً بمثل ، إذا نحن عصينا الله وخالفنا أمره سلط علينا الأعداء والوباء،والضراء : (( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) (النور:63)
إن الله عز وجل- لما ذكر الأمم الكافرة التي عصت رسله،وخالفت أمره قال عنهم بعد ذلك : (( فكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)) (العنكبوت:40) .
فنفسك لم ولا تلم المطايا
أخي القاري الكريم:قد ورد في الأثر ( إذا عصاني من لا يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني) وقد قال نبي من أنبياء بني إسرائيل لما رأى ما يفعل بختنصر بقومه:(بما كسبت أيدينا سلطت علينا من لا يعرفنا ولا يرحمنا) .
وورد في المسند ( 2/362) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بسند صحيح : ( حد يقام في الأرض خير من المطر لأهلها أربعين صباحاً ) .
وقد علق الإمام ابن تيمية على هذا الحديث بقوله : ( وهذا لأن المعاصي سبب لنقص الرزق والخوف من العدو،كما يدل عليه الكتاب والسنة،فإذا أقيمت الحدود وظهرت طاعة الله، و نقصت معصية الله حصل الرزق والنصر)
وعليه فالنحيب على بلاد للمسلمين ضاعت دون عمل وتوبة صادقة،لا تحقق نصراً ولا تعيد أثراً!
وقد قيل في المثل: ( إيقاد شعلة خير من لعن الظلام ) فلنبدأ في التغيير والعمل ولنترك لوم الزمان والدهر،فهو فعل الفاشلين العاجزين لا فعل الطموحين الناجحين وقد قال الشاعرالإسلامي عدنان النحوي – في أبيات له جميلة قائلاً :
ما لي ألوم زماني كلما نزلت بي المصائب أو أرميه بالتهم
أوأدعى أبداً أني البريء وما حملت في النفس إلا سقطة اللمم
أنا الملوم فعهد الله أحمله وليس يحمله غيري من الأمتم
فإذا أردنا أن نغير فلنغير من حالنا ومن فساد قلوبنا وأنفسنا يغير الله حالنا، ويرفع ما بنا من مصائب أرقتنا أو بلايا أقلقتنا .
قال تعالى : (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ)) (الرعد: من الآية11) .(12/225)
وقال تعالى:((ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) (لأنفال:53) .
ومن أول الأمور التي نغير بها حال أنفسنا التوبة النصوح، فهي وظيفة العمر، وطريق الفلاح، والتي تفتح كل عمل خير وبر وصلاح .
ومن ثمَّ الأعمال الصالحة،التي تقرب من رضوان الله عز وجل وجنته، وتبعد عن سخطه وأليم عقابه، ورحم الله أبا الدر داء حيث كان يقول للغزاة : ( يا أيها الناس:عمل الصالح قبل الغزو،فإنما تقاتلون بأعمالكم ) ولله در الفضيل بن عياض حين قال للمجاهدين عندما أرادوا الخروج لقتال عدوهم :
(عليكم بالتوبة، فإنها ترد عنكم ما ترده السيوف)
فابذل الجهد واستحث المطايا إن صنع النجاح ليس مزاجاً
ليس من يعمر البلاد بزيف مثل من يعمر البلاد نجاحاً
أي أخي :
هذا هو الطريق الذي أراه يصلح حالنا ويسمو بكرامتنا،ويعيد عزتنا،ويرفع شأننا.
وإن التوبة والعمل الصالح ومحاسبة النفس ومراجعة الذات،وإعداد هذه النفس إعداداً إيمانياً وبدنياً،والارتباط بالله والتعلق به، كل هذا مفتاح للطريق الذي يعيد لنا المجد بنصاعته.
ومن المتوجب علينا معرفته أن إقامة النصر في الأرض،وإعادة الخلافة الراشدة،لا يقدم ذلك لنا مباشرة على طبق من ذهب بل لا بد من الكلل والتعب،والوصب والنصَّب،حتى يأتينا نصر الله بعد أن علم منا الصدق في القلوب،والصلاح في الأعمال،والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
عقد مقارنة :
من المعلوم قطعاً أن الكفار أعداء الله – ضيعوا أسباب نصرة الله المعنوية لهم من الإيمان بالله وبرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولكنهم أبدعوا في صناعة الصواريخ والمتفجرات وأسباب النصرة المادية.
ونحن نعلم كذلك كما قدمت سابقاً أن المسلمين ـ ويا للأسف ـ قد نسوا الله فأنساهم أنفسهم وزاغوا عن الصراط المستقيم ـ إلا قليلاً - وابتعدوا عن طاعة الله والقرب منه وعن أسباب النصرة المعنوية التي تكفل الله لمن فعلها من المسلمين بالنصرة والتأييد ولو كانت قوتهم العسكرية وأسبابهم المادية أضعف من الكفار .
وكذلك فإن المسلمين ضيعوا أسباب نصرتهم المادية فأين هي القنابل الذرية والمتفجرات النووية،وأين الأسلحة والعتاد والقوة والرجال، فلم نسمع لها صفيراً ولا همساً، بل علاها الغبار ولم تستخدم في قتال أعداء الله .
ولهذا فإن منطق العقل السليم أن يحكم بالانتصار لمن كانت عنده القوة والأسباب المادية ولو كان مضيعاً للأسباب المعنوية على الذي ضيع أسبابه المادية والمعنوية التي تحق النصر والتأييد؛ ولذلك انتصر الكفار أعداء الله على المسلمين الذين ضيعوا أوامر الله فنساهم سبحانه وضيعهم وقد روت لنا كتب التاريخ أنه في أعقاب معركة اليرموك الشهيرة ،وقف ملك الروم يسائل فلول جيشه المهزوم ، والمرارة تعتصر في قلبه ، والغيظ يملأ صدره ، والكآبة بادية على محياه ( ويلكم أخبروني عن هؤلاء الذين يقاتلونكم ، أليسوا بشراً مثلكم ؟ ! قالوا : بلى أيها الملك ، قال : فأنتم أكثر أم هم ؟! قالوا:نحن أكثر منهم في كل موطن، قال : فما بالكم إذا تنهزمون ؟!
فأجابه شيخ من عظمائهم : ( إنهم يهزموننا لأنهم يقومون الليل ويصومون النهار،ويوفون بالعهد،ويتناصفون بينهم) البداية والنهاية ( 7/15) .
تلك هي صفات المسلمين؛ولذلك نصرهم الله ولاحت أمام أعينهم أقواس العزة والرفعة في سماء المجد .
فقم بالله أخي لنصرة دينك وأصلح ذاتك فصلاح الذات قبل صلاح الذوات، ومن قاد نفسه قادم العالم، وردِّد :
قم نعد عدل الهداة الراشدين قم نصل مجد الأباة الفاتحين
قم نفك القيد قد آن الأوان شقي الناس بدنيا دون دين
فلنعدها رحمة للعالمين لا تقل كيف ؟ فإنا مسلمون
يا أخا الإسلام في كل مكان اصعد الربوة واهتف بالآذان
وارفع المصحف دستور الزمان واملأ الآفاق إنا مسلمون
مسلمون مسلمون مسلمون حيث كان الحق والعدل نكون
نرتضي الموت ونأبى أن نهون في سبيل الله ما أحلى المنون
هذا هو الدواء لمن وقع في فخ الداء :
والذي أراه يحقق لنا النصر ويعز به هذا الدين بعد التوبة إلى الله أمور ثمانية وهي :
أولاًَ : الاعتصام بكتاب الله تعالى وقراءته وتدبره والعمل بما فيه ، والاعتصام بسنة محمد صلى الله عليه وسلم وأن نقدم كلامهما على كلام أي إنسان، ونبتعد عن كل هوى خالف القرآن والسنة .
ثانياً : الاهتمام والالتفاف على عقيدة أهل السنة والجماعة،وتطبيقها في أرض الواقع،واحذر أخي ممن يثبط عن تعلم العقيدة،أو يجعل تعلمها في مراحل متأخرة فإنه رجل سوء فلا تجالسه.
ثالثاُ : الإعداد البدني والإيماني،والجهاد في سبيل الله،فإن الجهاد ينبوع العزة،ومعين الكرامة، وهو المجد لمن أراد المجد، والعزَّ لمن أراد العز، و (من مات ولم يغز ولم يحدث بها نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق ) كما أخبر الصادق المصدوق ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال الإمام ابن تيمية ( فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان دليلاً على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه) مجموع الفتاوى (10/193) .
رابعاُ : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والغضب لدين الله – عز وجل – وهذا أمر فرضه الله عز وجل علينا فقال : (( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَر)) (آل عمران: من الآية110) .(12/226)
خامساُ : الدعوة إلى الله عز وجل وإلى كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى : ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) (النحل:125) ، وقال تعالى : (( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)) (يوسف: 108) .
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ ( فمقام الدعوة إلى الله أفضل مقامات العبد) (مفتاح دار السعادة 1/153) ورحم الله من قال :
إن نفساً ترتضي الإسلام ديناً
ثم ترضى بعده أن تستكينا
أو ترى الإسلام في أرض مهيناً
ثم تهوى العيش نفس لن تكونا
في عداد المسلمين العظماء
(المنطلق للراشد ص 227)
سادساً : الالتفاف على جماعة المسلمين الصادقة ولزوم غرزهم، وعلى رأسهم العلماء الربانيون والمجاهدون الصادقون،والدعاة المخلصون، فيجب الحذر من التكلم في أعراضهم أو سبهم وليعلم أن من تكلم فيهم فإنه قد شق الصف ولم يوحده وفرق الجماعة والقلوب .
وقد أورد مسلم في صحيحه في كتاب الجهاد حديث ثوبان رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ) وكذا حديث عقبة بن عامرـ رضي الله عنه ـ قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم ، لا يضرهم من خالفهم ، حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك) .
فصفة عصابة المسلمين وجماعتهم أنها قائمة بنصرة دين الله بالحجة والبيان، والسيف والسنان ، وسيأتي أناس يخالفونها الرأي بتلك النصرة البيانية أو الجهادية،فأخبر عليه السلام أن تلك المخالفة وذلك التخذيل لن يضرهم لأنهم على هدى مستقيم ، ومنهج قويم ،ولذا ستبقى هذه الطائفة منصورة إلى قيام الساعة، وقد أورد الإمام مسلم في صحيحه حديث جابر بن سمرة مرفوعاً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لن يبرح هذا الذين قائماً يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة ) فعلى الثابت على هذا المبدأ،ألَّا يضره كلام مخالفيه وخاذليه،بل ينطق بكل علو وصمود:
ماضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي *** والموت يرقص لي في كل منعطف
وما أبالي به حتى أحاذره *** فخشية الموت عندي أبرد الطرف
ماض فلو كنت وحدي والدنا صرخت *** بي قف لسرت فلم أبطء ولم أقف
أنا الحسام بريق الشمس في طرفي *** مني وشفرة سيف الهند في طرف
فلا أبالي بأشواك ولا محن *** على طريقي ولي عزمي ولي شغفي
سابعاً : محاسبة النفس ، والنظر مرَّة بعد مرَّة إلى عيوبها،حتى لو تابت ورجعت إلى الصراط المستقيم، فإن : ( كل بني آدم خطاء،وخير الخطائين التوابون) رواه أحمد والترمذي عن أنس وحسنه الألباني ( صحيح الجامع 2/831) .
وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وتزينوا للعرض الأكبر وإنما يخفف الحساب يوم القيامة على من حاسب نفسه في الدنيا).
ثامناًَ : رسم المنهج والتخطيط لنصرة دين الله،على تعاون بين المسلمين فلا يصح عمل بدون خطة،والتنظيم والتخطيط قانون النجاح ومن أجمل ما قرأت في ذلك ما كتبه الدكتور:عدنان النحوي في كتابه : ( حتى نغير ما بأنفسنا) (ص/10 ) (إذا غاب النهج والتخطيط على أساس الإيمان والتوحيد والمنهاج الرباني في واقع أي أمة، فلا يبقى لديها إلا الشعارات التي تضج بها ولا تجد لها رصيداً في الواقع إلا مرارة الهزائم وتناقض الجهود واضطراب الخطأ ، ثم الشقاق والصراع وتنافس الدنيا في الميدان، ثم الخدر يسري في العروق،ثم الشلل،ثم الاستسلام!)
هذه نقاط ثمانية كاملة،أًرى إن تحققت في واقع المسلمين، فإنهم سيجنون بعدها الفلاح والعز والسؤود في الدنيا والآخرة، وما ذلك على الله بعزيز .
((مَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)) (الأنفال:10) .
هذا والله أسأل أن يوفقنا لما فيه صلاح أنفسنا وأمتنا وآخرتنا،وأن يهيئ لنا من أمرنا رشداً،إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.
وسبحانك اللهم وبحمد أشهد أن لا إله إلا أنت،أستغفرك وأتوب إليك، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين.
=============
الراقصون على الجرح
الحمد لله ذي العزة والكبرياء ، وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له يبتلي بالسراء والضراء ويعز من يشاء ويذل من يشاء ، واشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد الرسل وصفوة الأنبياء ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأتقياء وسلم تسليما أما بعد :
ذاد عن مقلتي لذيذ المنام *** شغلها عنه بالدموع السجام
أي نوم من بعد ماحل بالعراق *** ماحل من هنات عظام
أي نوم من بعد ما انتهك الروم *** جهاراً محارم الإسلام
إن هذا من الأمور لأمرٌ *** كاد أن لايقوم في الأوهام
بينما أهلها بأحسن حال *** إذ رماهم عدوهم باصطلام
دخلوها كأنهم قطع ليل *** إذا راح مُدلهمّ الظلام
كم أغصوا من شارب بشراب *** كم أغصوا من طاعم بطعام
كم ضنين بنفسه رام منجى *** فتلقوا جبينه بالحسام
كم أخ قد رأى أخاً صريعاً *** ترب الخد بين صرعى كرام
كم أب قد رأى عزيز بنيه *** وهو يكوى بشظايا اللئام
كم مفدى في أهله سلموه *** حينما لم يحمه هنالك حامي
كم رضيع هناك قد فطموه *** بلظى القاذفات قبل الفطام
ماتذكرت ما أتى الكتفر إلا *** أضرم القلب أيما إضرام
ماتذكرت ما أتى الكفر إلا *** أوجعتني مرارة الإرغام
رب بيت هناك قد خربوه *** كان مأوى الضعاف والأيتام(12/227)
بدلت تلكم البيوت تلالاً *** من رماد ومن تراب ركام
سلط النار والحريق عليها *** فتداعت أركانها بانهدام
وخلت من حلولها فهي قفرٌ *** لا ترى العين بين تلك الأكام
غير أيد وأرجل بائنات *** بذرت بينهن أفلاق هام
ووجوه قد رملتها دماء *** بأبي تلكم الوجوه الدوامي
فيا أمة الإسلام ، أوصيكم ونفسي بوصية الله للعالمين ، أن اتقوا الله 0
إنها مشاعر شاعر مصوراً تلك الجريمة النكراء التي يعتز بها أقوام حملوا بين جوانحهم الشر صاغراً عن صاغر 0
يا أهل العراق : إن صور قتلاكم تدمي قلوبنا ، وإن مناظر الأطفال اليتامى والنساء الثكالى لتؤجج مشاعرنا 0
يا أهل العراق : إن مآقينا لتسيل دماً لا دموعاً وهي تشاهد أطفالكم الرضع مجندلين ، قتلت براءتهم ، وتشاهد عجائزكم يبكين أبناء وأقربين صرعى بسلاح المعتدين 0
يا أهل العراق : إن مشهد الرجل الذي فقد أحد عشر نفسا من عائلته ، والمرأة العجوز التي هدم بيتها على ستة من عائلتها ومشهد الآلاف يتصارعون على قطرات الماء ، ومشهد الأشلاء والدماء في شوارعكم تؤلم قلوبنا وتُبكي عيوننا ، ولكن ماحيلتنا ، فحسبنا الله ونعم الوكيل ، ولا نملك إلا أن نرفع أيدينا إلى اللطيف الخبير متضرعين إليه أن ينزل على أمريكا وحلفائها عذابا لايبقي من جنودهم ولا يذر ، وصبر جميل عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون 0
تلك حال أمة مسلمة بجوارنا تُذل وقتل والعلم يتفرج على مشاهد الإذلال بلا أفعال ولا ردود أفعال 0
أما حالنا والعدو يحل قريبا من دارنا فحدث واكتب بمداد الأسى والألم 0
هدير الطائرات نسمعه في أجوائنا ، وصواريخ العدو تتساقط على أطراف أرضنا ، خطأ كما يزعمون ، والخليج والبحر يمخر عبابهما مدمرات للعدو فوقها مغول لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ، يتميزون من الغيظ على المسلمين ، وسجل أسلافهم شاهد على الوحشية والدموية ، والعدو يهدد وتوعد وينذر بمواصلة العدوان وتهديد أمم وبلدان ، وصدق الله : (( وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا )) 0
ومع نُذر الخطر ، وظهور أمارات العقاب الإلهي فأمتنا لازالت في لهوها غارقة ، وبماء الذنوب شارقة ، ولباب عدوها طارقة 0
لا تقولوا إنك متشائم وفي بحر اليأس هائم ، بل أنا متفائل بنصر الله حتى الثمالة ، ولكن على يد من ؟ إنما أحكي واقعاً مريراً ، وأنذر قومي وأمتي بطش ربها ، إن بطش ربك لشديد 0
يا أيها الناس : ادخلوا إلى الأسواق فسترون غشاً وتلاعباً في البيع والشراء ، وسترون تبرجاً وسفوراً عند النساء ، وصوراً من قلة الحياء ، ستلقون من يتعامل بالربا ، وستشاهدون صروحه أعلى من المآذن 0
انظر حولك سترى حسداً وحقداً وقطيعة وعقوقاً 0 ترى بيوتاً دنست بالأطباق الهابطة التي تحجب نزول الرحمات وتمنع رفع الدعوات 0 تبث الإلحاد والمجون وتدعو إلى الرذيلة ، وناس من أمتي عليها عاكفون ، فكيف يا أمتي تنصرون ؟
انظر حولك سترى المساجد تشكو الهاجرين ، والمقاهي تغص بالزائرين ، فقل لي بربك : ما الذي يؤمننا من عذاب رب العالمين ؟ 0
العدو يتربص بنا ، والفتن أحدقت بأرضنا وكأن الأمر لا يعنينا ، وكأن العدو لا يبغيان ، وكأن النهر لا يجري في أراضينا 0 فمتى يا مسلمون من غفلتكم تفيقون ؟
الرؤى والأحلام تبشرنا أن جزيرة العرب ستظل في سلام فاستمروا في غفلتكم ولهوكم ، وكأن ليس في كتاب ربنا : (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )) .
يا مسلمون : الأخطار محدقة بنا ويتخطف الناس من حولنا، وأمتنا لم تحدث تغييرا ولم قدم توبة ولا نفيرا 0
نساؤها تتباهى في الموضات والأزياء، وتتسابق إلى محاكاة الفاجرات والتشبه بالكافرات 0
وشبابها لم تحرك مشاعرهم صور القتلى من إخوانهم وجيرانهم ، ولم تهز عواطفهم مشاهد الأطفال والنساء والشيوخ الذين تستباح كرامتهم لأنهم مسلمون 0
شبابنا لم يدركوا كيد الأعداء ، ولم تتحرك قلوبهم غيرة وحمية لدينهم وأمتهم فهم في الطرقات وأطراف المدينة يرقصون ، ومع صوت الشيطان يتفاعلون ، لقد رأيتهم فخلّف مرآهم الحزن والأسى 0
رأيت فئة من شبابنا صورا منسوخة عن أحد المائعين المتفلتين الواردين إلينا عبر القنوات والأثير ، لا يعرفون إلا الرقص والغناء ، ولا يجيدون إلا لغة الحب والغرام ، وكلهم يحمل سلاحا واحدا مؤلفا من مشط ومرآة 0
فمن مبلغ شبابنا أنهم بصنيعهم هذا يزرعون بذور العذاب ، ويفتحون لطريق لاستعمار العداء ، ويسهلون السبيل لضياع الأمن والرخاء 0
من مبلغ شبابنا أن ماحل بغيرنا سيحل بنا إذا قطعنا الصلة بديننا ، وبترنا العلاقة مع ربنا 0
أيها المسلمون : وفئة من شبابنا من أهل الخير والصلاح تفاعلت مع مأساة إخوانها ، ولكن بماذا ؟ بملاحقة القنوات وشراء الدشوش لمتابعة الأخبار والتحليلات ، فالغاية عندهم تبرر الوسيلة ، ويبلغ تفاعلهم القمة بالحوقلة والاسترجاع 0
أما مواجهة الفتنة بالبذل والدعاء والدعوة والعطاء ، فلا محل له في اهتماماتهم ، فكيف يا أمتي تنصرون ؟
يا أمة الإسلام لماذا نستبعد غضب الله ولماذا نأمن مكر الله ؟
لقد حلت الهزيمة بالمسلمين في أحد بذنب أذنبوه فكيف بأمة تعصي ربها وتظهر ذنبها (( أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ) .(12/228)
لقد أخذ الله أمماً بالبأساء والضراء ليرجعوا إلى أنفسهم وينقبوا في ضمائرهم وفي واقعهم لعلهم تحت وطأة الشدة يتضرعون إلى الله ويتذللون له وينزلون عن عنادهم واستكبارهم ويدعون الله أن يرفع عنهم البلاء بقلوب مخلصة فيرفع الله عنهم البلاء ويفتح لهم أبواب الرحمة لكنهم لم يفعلوا ما كان حريا أن يفعلوا ، لم يلجؤا إلى الله ولم يرجعوا عن عنادهم (( وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ)) .
إن الله عز وجل يحذر عباده من مكره وبطشه : (( أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ)) .(( أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)) .
إن سنة الله لا تتخلف ومشيئة الله لا تتوقف فما الذي يؤمّنهم أن يأخذهم الله بذنوبهم كما أخذ من قبلهم وأن يطبع على قلوبهم فلا يهتدوا بعد ذلك بل لا يستمعوا إلى دلائل الهدى ثم ينالهم جزاء الضلال في الدنيا والآخرة
إلا أن مصارع الخالين قبلهم ووراثتهم لهم وسنة الله الجارية ، كل أولئك كان نذيراً لهم أن يتقوا ويحذروا وأن يطرحوا عنهم الأمن الكاذب والاستهتار السادر والغفلة المردية وأن يعتبروا بما كان في الذين خلوا من قبلهم عسى ألا يكونوا منهم لو كانوا يسمعون.
إن الله عز وجل لا يريد بهذا التحذير أن يعيش الناس فزعين قلقين يرتجفون من الهلاك والدمار أن يأخذهم في لحظة من ليل أو نهار فالفزع الدائم من المجهول والقلق الدائم من المستقبل وتوقع الدمار في كل لحظة قد تشل طاقة البشر وتبددها وقد تنتهي بهم إلى اليأس من العمل والنتاج وتنمية الحياة وعمارة الأرض، إنما يريد الله منهم اليقظة والإحساس والتقوى ومراقبة النفس والعظة بتجارب البشر وإدامة الاتصال بالله وعدم الاغترار بطراءة العيش ورخاء الحياة .
ولقد سلف من المؤمنين بالله المتقين سلفٌ ما كان يأمن مكر الله وما كان يركن إلى سواه وكان بهذا وذاك عامر القلب بالإيمان مطمئناً بذكر الله قوياً على الشيطان وعلى هواه مصلحاً في الأرض بهدي الله لا يخشى الناس فالله أحق أن يخشاه.
وهكذا ينبغي أن نفهم ذلك التخويف الدائم من بأس الله الذي لا يدفع، ومن مكر الله الذي لا يدرك ،لندرك أنه لا يدعو إلى القلق إنما يدعوا إلى اليقظة ولا يؤدي إلى الفزع إنما يؤدي إلى الإحساس ولا يعطل الحياة إنما يحرسها من الاستهتار والطغيان.
يا مسلمون : تذكر الأخبار أن الطاغية الرئيس الأمريكي ومنذ بدء الحرب على العراق لم ينقطع عن الكنيسة يصلي ويدعو لجنوده ، أفيكون خنزير جائر كافر أولى باللجوء على الله من أهل التوحيد ، فأين دعوتكم وأين عودتكم ، وأين دعاؤكم ؟
يا مسلمون: لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا وإن عقاب الله لا يدفع بقوة مادية ولا بجهود بشرية والفتن لا تدرأ بالحيل ولا بالتمادي.
إنما يُدفع العذاب وتُدرأ الفتن بالالتجاء إلى الله والعودة لدينه والدعوة لشريعته وليس لها من دون الله كاشفة ولا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم، والعبادة في الفتن ملجأ المتقين وملاذ المؤمنين. (( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)) (( قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً )) .
أقول هذا القول ....
الخطبة الثانية
أما بعد :
كان صاحبي يتكلم عن مآسي المسلمين ويتابع أحوالهم ويوزع المسؤوليات ويعلق الأحوال المريرة بتقصير هذا الحاكم وضعف ذاك العالم فقلت: له يا هذا أنا وأنت من يؤخر النصر عن هذه الأمة،بل نحن الرئيس في كل البلاء الذي نحن فيه.
فقال لي يا أخي:كيف ذاك وأنا عبد ضعيف لا أملك سلطة ولا قوة، لو أمرت المسلمين ما أتمروا ولو نصحتهم ما انتصحوا ؟ فقاطعته قائلاً:إنها معاصينا التي بارزنا الله به ليلاً ونهاراً ، إنها زهدنا عن الواجبات وحرصنا على الملهيات .
يا أخي: لو جلست أعد لك ما نفعل لطال بنا المقام وإني لسائلك مثلاً : هل أنت ممن يصلون الفجر في جماعة ؟ فقال: نعم أحياناً، وتفوتني مراراً، فقاطعته قائلاً: هذا هو التناقض بعينه، كيف تدعي قدرتك على الجهاد ضد عدوك وقد فشلت في جهاد نفسك أولاً في أمر لا يكلفك دماً ولا مالاً لا يعدو كونه دقائق قلية تبذلها في ركعتين مفروضتين من الله الواحد القهار.
كيف تطلب الجهاد وأنت الذي تخبّط في أداء الصلوات المفروضة وترك صلاة الجماعة وضيّع السنة الراتبه ولم يقرأ ورده من القرآن ونسي أذكار الصباح والمساء وخاض في الغيبة وعق والديه ولم يصل أرحامه، واستمرأ النظر إلى محرمات في صحف أو شاشات وأدخل المفسدات وقصر في واجب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وانشغل بالملهيات.
كيف تطلب تحكيم شريعة الله غي أرضك وأنت لم تحكمها في نفسك وبين أهل بيتك فلم تتق الله فيهم ولم تدعهم إلى الهدى وتبعدهم عن المحرمات ولم تطعمهم من حلال، ولم تغرس في قلوبهم عظمة ذي الجلال .
فقال لي محدثي : ومال هذا وتأخير النصر، أيتأخر النصر في الأمة كلها بسبب واحد في المليار؟(12/229)
فقلت له: آه ثم آه ، فقد استنسخت الدنيا مئات الملايين من أمثالك إلا من رحم الله، كلهم ينتهجون نهجك فلا يعبأون بطاعة ولا يخافون ذنباً، وتعلل الجميع أنهم يطلبون النصر لأنه بالأمة من هو أفضل منهم، وأن ذنبهم لا يضر إلا أنفسهم لكن الحقيقة المؤلمة أن الجميع سواء، إلا من رحم رب السماء، أما علمت يا عبد الله أن الصحابة إذا استعجلوا النصر ولم يأتهم علموا أن فيهم من أذنب ذنباً فما بالك بأمة واقعة في الذنوب من كبيرها إلى صغيرها ومن حقيرها إلى عظيمها .
يا أخي: إن أخطر مشكلة تواجه الأمة هي غفلة كل منا عن قيمته وعن مسؤوليته وظنه أنه لا شيء ولا قيمة له ولا وزن ولا اعتبار.
في واقع الأمة ضاعت قيمة الفرد في نفسه فضاعت قيمته عند من يتعامل معه.
يا أخي: أما علمت أن ثمود أهلكوا بجريمة فرد (( إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا )) .
أو ماعلمت أن أمة من الناس أمطرت بدعوة عبد مملوك تقي خفي، وأن قرية حفظت من الوباء بدعوة رجل صالح فيها.
إننا نجيد فن النقد للآخرين والتهرب من المسؤوليات وإلقاء التبعة على الغير.
ضعفنا قضاء وقدر، وهزيمتنا سببها قوة أعدائنا، والمنكرات نشأت بتقصير العلماء والحكام، ومعاصينا بسبب كيد الشيطان وغفلنا عن الحقيقة القرآنية (( فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ )) ((قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ )) .
إن أكبر الأخطاء التي تواجه المسلمين اليوم كامنة في النقص في تربية أفرادهم والضعف الذي أصيب به أبناؤهم، وأكبر المصائب أن يصاب الفرد في نفسه، ذلك أن معالجة أي خطر ممكنة ميسرة حينما تكون تربية الأفراد تربية قوية تستطيع أن تواجه المصاعب وتصمد للشدائد.
نعم: ليس ينكر منكر مكانة القيادة في توجيه الأمة وليس يجحد أحد أن القيادة تستطيع أن تغير صفحة التاريخ سلبا أو إيجابا، ولكن السؤال، أكان القائد يعمل وحده، وما سر نجاحه أو فشله.
إن القيادة لا تستطيع أن ترعى كل صغيرة وكبيرة إلا إذا كان كل فرد في رعيتها مجندا واعياً متيقظاً يرى أنه على ثغرة يجب أن يحميها فأنت أخي على ثغرة فلا يؤتين الإسلام من قبلك وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.
قال صاحبي وقطرات الدمع تنساب على وجهه : لم أكن أتصور وأنا ذاك الرجل الذي يحب الله ورسوله ويحب الإسلام وأهله أن أكون سبباً في هزيمة المسلمين أو أن أكون شريكاً في أنهار الدماء المسلمة البريئة في كثير من بقاع الأرض .
لقد كان من السهل علي إلقاء اللوم على هذا وذاك لكنني لم أفكر يوماً في عيبي وخطأي ولم أتدبر قول الله : (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )) .
أيها المسلمون :ماذا نقول لربي حين يسألنا عن الشريعة لم نحيي معانيها ومن يجيب إذا قال الحبيب لنا أذهبتموا سنتي والله محييها.
إنها دعوة لكل مسلم يعصي الله وأمته تذل ، ويلغ في الشهوات ومسلمة تغل، ويغرق في سكرة الهوى ودماء مسلمة في العراق تراق .
فاتقوا الله أيها الراقصون على الجراح من قبل أن يأتيكم العذاب بغتةً وأنتم لا تشعرون واعلموا أن كل معصية تعصون الله بها وكل طاعة تفرطون فيها هي دليل إدانة ضدكم في محكمة دماء المسلمين الأبرياء
يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين مالكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فماله من هاد
===============
البديل الإسلامي بين الانضباط والتسيب
بسم الله الرحمن الرحيم
(حدَّثتني إحدى الصالحات أنَّ ثلاث فتيات في مدرستها اتفقن على قيام الليل ـ ولكن من نوع آخرـ إنَّ برنامج ستار أكاديمي قد خلب لبَّهم ، وسحر فكرهم ، ولأجل ذا فقد تواعدن على أن يقسِّمن الليل إلى ثلاثة أثلاث كلُّ واحدة منهن تنظر في هذا البرنامج وتقوم بتسجيله ، ثمَّ تتصل على زميلتها بعد أن تنتهي ورديتها في ملازمة التسجيل لهذا البرنامج وتقوم الثانية بهذا الدور، وهكذا العمل مع الزميلة الثالثة إلى أن ينتهي البرنامج)
بهذا المنطق يتفاعل الكثير من الشباب والفتيات المنتسبين للإسلام حين يريدوا مشاهدة هذه البرامج الهابطة، والتي بثَّت أخيراً عبر الفضائيات، وجعلت لدى الشباب نوعاً من الهوس لإعجابهم بهذه البرامج المباشرة ، وكأنَّها مغناطيس يجذبهم بقوَّة وقهر، وليس لهم إلَّا تلبية رغبات النفس، وخطرات الروح.
أما آن للمصلحين أن يفيقوا من نومهم العميق، لإنقاذ شبابنا وفتياتنا من مأساة فكرية وشهوانية تعصف بهم ذات اليمين وذات الشمال ، وقد جعلتهم يتطايرون على الشَّاشات كالفراش وهم لا يشعرون!!
ودعونا أيها الفضلاء أن نراجع أنفسنا ، وننقد ذاتنا !فجزى الله علمائنا خيراً حين أفتوا بتحريم هذه البرامج ، وبينوا بلا لبس أو غموض حكم مشاهدتها ، والنظر إليها ، فقد أثَّرت تلك الفتاوى في البعض وأقلعوا عن مشاهدتها ـ ولله الحمد والمنَّة ـ
ولكن هل نكتفي بهذا، ومازال الكمُّ الهائل من شباب الأمَّة يشاهدون ويصفِّقون ، ويحلمون في منامهم ويقظتهم في ذكريات البرنامج الشبابي!
ألا يوجد لدينا حلولٌ وافرة ، وأكفٌ رفيقة ليِّنة تحتضن الشباب والفتيات في برامج إسلامية مشوقة ، ومشاريع تربوية وترفيهية ، وبدائل عن تلك المُثُلِ منضبطة بميزان الشريعة؟
أين أصحاب الحلول المنتجة ، أين أهل الثراء والمال والغنى ، أين أصحاب الأفكار الإبداعية ، والمشاريع الابتكارية؟(12/230)
أين هم من الذي يحاك لشباب هذه الأمَّة ، ويخاط لهم وينسج في مواخير الفساد ، وأندية الظلام، والكواليس الخفية لتعليمهم دروساً في العربدة والشهوات؟
ترى لو أنَّ جيشاً عرمرماً أحاط ببلدة من بلاد الإسلام ، وأثخن فيها وأكثر من القتل والتعذيب لأبناء الإسلام ، ثمَّ خرج علينا رجل يبيِّن خبث هذا العدو ومكره، وحذَّر المسلمين من استقباله أو احتضانه... ثمَّ وقف إلى هذا الحد، واكتفى بهذا القدر.
هل سيؤدِّي هذا إلى دحر العدو وإنقاذ النَّاس؟ أم أنَّ هناك لوازم ينبغي إضافتها على ذلك الحدث!!
وبعد:
فإنَّ المراقب لهذه الأوضاع ، وتلك الأحداث ، ينبغي عليه أن يعرف أنَّ من أسباب وجوده في هذه الأرض دعوة الناس لدين ربِّ العالمين ، وتقريبه إلى قلوبهم،فليست كلًّ الدعوة بالمحاضرات ولا بالخطب، وليست كلُّها بالدروس أو الفتاوى فحسب ، بل لا بد من استخدام جميع الوسائل المشروعة والمتاحة فالدعوة إلى الله لا تحدُّ بحدود ، ولا تقيد بقيود.
وحيث أنَّني شرعت في المقصد فإنِّ من الأولويات الهامة للعمل في حقل الدعوة الإسلامية ؛ الفهم الناضج لدى طلَّبة العلم، ومتعلمي الشريعة بالذات، ليخرجوا لنا بمحصِّلات مدروسة، ونتائج محروسة في فقه البديل الإسلامي المواكب لروح هذا العصر ومتطلباته ، وكيفية إنقاذ هذه الأمَّة المنكوبة من الأزمات التي تحلُّ بها سواء أكانت تعليمية أو تربوية أو اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو عسكرية وغيرها من ألوان المشاكل، وأشكال المحن.
والعالم الحق هو من وصفه الإمام أبو العباس ابن تيمية ـ رحمه الله ـ بأنَّه( الذي يعرف الحق، ويرحم الخلق) وأنَّه(كلَّما اتسعت معرفته بالشريعة وروحها ، كان أرحم بالعباد وأعظم الناس تيسيراً عليهم ورفقاً بهم).
وحين يتأمل الإنسان الهدي الربَّاني في القرآن الكريم يجد أنّه ـ سبحانه وتعالى ـ ما حرَّم على عباده شيئاً إلَّا وأبدلهم عوضاً عنه ما هو خير منه ، بل وصل ذلك إلى الألفاظ فإنَّه تعالى قال ( يا أيُّها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم) البقرة(104) فقد نهاهم ـ تعالى ـ عن ذلك لأنَّ فيه شبهاً بيهود حين كانوا يقولون ذلك لمحمد ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ ويقصدون بذلك السخرية به ـ عليه الصلاة والسلام ـ فنهى الله صحابة رسوله أن يقولوا هذه الكلمة لمحمد ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ وأبدلهم بأن يقولوا له(انظرنا).
كذلك من تدبر سيرة المصطفى ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ يجد ذلك واضحاً في منهجيته في التربية والتعليم، فإنَّه كان إذا حرَّم شيئاً أتى بالبديل المشروع مقابل ذلك الأمر المُحَرَّم لأنَّه يعلم أنَّ النفوس ضعيفة ، ومجبولة على حبِّ العوض والبديل ، وخذ أمثلة على ذلك/
فعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: جاء بلال إلى النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ بتمر برني، فقال له: النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ من أين هذا ؟ قال بلال: كان عندنا تمر رديء ، فبعت منه صاعين بصاع لنُطعم النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ فقال ـ عليه السلام ـ أوَّه أوَّه عين الربا عين الربا لاتفعل ، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثمَّ اشتره) رواه البخاري(2201) ومسلم (1593)
أتأملت أيها المبارك كيف أنَّه ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين حرَّم فعل بلال ـ رضي الله عنه ـ نقله نقلة توعوية بديلة ومشروعة قبالة ذلك الأمر المحرم، وتلك صفة العالم الرباني ، والبصير بالواقع الذي حوله ولهذا قال الإمام ابن القيِّم في ذلك:(من فقه المفتي ونصحه إذا سأله المستفتي عن شيء فمنعه منه،وكانت حاجته تدعوه إليه ،أن يدلَّه على ما هو عوض له منه،فيسد عليه باب المحظور، ويفتح له باب المباح ، وهذا لا يتأتى إلَّا من عالم ناصح مشفق قد تاجر الله وعامله بعلمه ، فمثاله في العلماء مثال الطبيب النَّاصح في الأطباء يحمي العليل عمَّا يضره ، ويصف له ما ينفعه ، فهذا شأن أطباء الأديان والأبدان ، وفي الصحيح عن النبي ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ أنّهَ قال:(ما بعث الله من نبي إلأَّ كان حقَّاً عليه أن يدلَّ أمَّته على خير ما يعلمه لهم ، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم ) وهذا شأن خلق الرسل وورثتهم من بعدهم ، ورأيت شيخنا ـ قدَّس الله روحه ـ يتحرَّى ذلك في فتاويه مهما أمكنه ، ومن تأمَّل فتاويه وجد ذلك ظاهراً فيها ) أعلام الموقعين (4/121ـ 122) و سأنقل كلاماً للشيخ ابن تيمية في ذات الموضوع الذي مدحه به تلميذه ابن القيِّم حيث قال ابن تيمية:(إذا أراد تعريف الطريق الَّتي يُنَالُ بها الحلال ، والاحتيال للتخلص من المأثم بطريق مشروع يقصد به ما شرع له ، فهذا هو الذي كانوا يفتون به ـ أي السَّلف الصالح ـ، وهو من الدعاء إلى الخير، والدَّلالة عليه ، كما قال ـ صلَّى الَّله عليه وسلَّم ـ بع الجمع بالدراهم، ثمَّ ابتع بالدراهم جنيباً) وكما قال عبد الرحمن بن عوف لعمر الخطَّاب:( إنَّ أوراقنا تُزيَّفُ علينا أفنزيد عليها ونأخذ ما هو أجود منها؟ قال: لا ولكن ائت النقيع فاشتر بها سلعة ، ثمَّ بعها بما شئت) بيان الدليل على بطلان التحليل / صـ133.(12/231)
ومن الأمثلة على ذلك من هدي المصطفى ـ عليه الصَّلاة والسلام ـ في أنَّه إذا منع شيئاً فتح لمن منعه باباً آخر من الأمر المشروع، والبديل المنضبط بمعيار الشَّريعة، ما رواه أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قدم النبي ـ صلى الله عليه وسلَّم ـ ولأهل المدينة يومان يلعبون فيهما في الجاهلية ، فقال: (قدمت عليكم ولكم يومان تلعبون فيهما في الجاهلية ، وقد أبدلكم الله بهما خيراً منهما : يوم النحر، ويوم الفطر) أخرجه أحمد في المسند(3/103ـ178ـ235) وأبو داود(1134) والنَّسائي(3/179) بسندٍ صحيح.(واليومان الَّذين يلعبون فيهما أهل الجاهلية هما / يوم النيروز ويوم المهرجان . وللمزيد انظر/ عون المعبود(3/485) للعظيم آبادي)
أرأيت ـ أخي القارئ ـ إلى هديه ـ عليه الصلاة والسَّلام ـ في ذلك، حيث أنَّه لا يرضى بوقوع المنكر، ولا أن يؤلف ، ولكنَّه ـ عليه الصلاة و السَّلام ـ يبيِّن خطر الشيء المحرَّم، ومن ثمَّ يبين البديل الشرعي عن ما حرَّمه الله ، ومن هنا فطن علماء الإسلام لتوضيح هذه القضيَّة في مدوناتهم ، ورسائلهم ومنهم شيخ الإسلام / ابن تيمية ـ طيَّب الله ثراه ـ فقد بيَّن بأنَّ المبتلى بالمنكر أو البدعة فإنَّه يتوجب على ناصحه أن يدعوه للإقلاع عن هذا الأمر المحرَّم ولو كان في ظاهره الخير، ومثَّل لذلك ابن تيمية، بالبدعة فقال:(إذا كانت في البدعة من الخير فعوِّض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان، إذ النفوس لا تترك شيئاً إلَّا بشيء...فالنفوس خلقت لتعمل لا لتترك، وإنَّما الترك مقصود لغيره) اقتضاء الصراط المستقيم(2/125)
ومن هذا المنطلق فإنَّ البحث المضني من العالم أو المربي أو المفكر لما يخدم به أمَّة الإسلام من برامج جذَّابة تكون بديلاً عن ما هو متاح ويستطاع الوصول إليه بأسرع الوسائل، وأدنى السبل ؛ من الضرورة بمكان وخاصَّة في هذا العصر الراهن فأمتنا تحتاج لبدائل كثيرة في عدَّة مضمارات ، وتحتاج للبدائل المفيدة عن القنوات الفاسدة التي تنشر الغثَّ بلا سمين ، وتلهي النَّاس عن دين ربِّ العالمين ، وإيقاعهم بفتن الشبهات أو الشهوات ، وما البرامج الأخيرة التي نشرت في هذه القنوات الفضائحية كسوبر ستار، وستاركلوب ، وستار أكاديمي ، وتحدي الخوف، وغيرها إلَّا شاهداً قويَّا على أنَّ أهل العلمنة والكفر والفجور يريدون إلهاء الأمة وشبابها عن قضاياها الكبرى ، وشؤونها المصيرية ، بل كانت تعرض بعض هذه البرامج العاهرة في الوقت الذي تضرب فيه بلاد الرافدين (العراق) بالصواريخ ، وتقصف بالطائرات ، وتجتاح بالدبَّابات والمجنزرات ، وكذلك في فلسطين المباركة في أزمة الحصار المشدد على مدنها وقراها ، وعمليات الاغتيال الصهيوني لقادة الجهاد والصمود ، في الوقت الذي كان فيه كثير من شباب العالم الإسلامي قد أطلق بصره ، وأرخى سمعه لما يعرض في هذه الفضائيات من مشاهد مخزية ، يستحيا والله من ذكرها.
إنَّ شباب وفتيات المسلمين اليوم يعانون من أزمة الفراغ المدقع ، فليس لهم من الأعمال التي تشغلهم أيُّ أثر ، ولذا يحاول الكثير منهم أن يفرَّ إلى هذه الشاشة ويسمِّر عينيه صوبها ، لعَّلَّهم يلبون بعض رغبات النفس وهواها ، وكما هو معلوم فإنَّ الفراغ للرجال غفلة ، وللنساء غلمةـ أي تحريك للشهوة ـ وصدق من قال:
لقد هاج الفراغ عليه شغلاً وأسباب البلاء من الفراغ
وإذا كنَّا قد علمنا مكمن الدَّاء ، وموطن الخلل ، فليت دعاة الإصلاح والتغيير أن يستشعروا المسؤولية الفردية والجماعية ، والتأهل للإنقاذ وللمشاريع الإصلاحيَّة لهذا الشباب التائه، الذي قلَّ من أخذ بيده ، وبيَّن له طريق النَّجاة ، والحلول المثمرة ، والبدائل النافعة والإيجابيَّة.
في الوقت نفسه فنحن لا نريد حلولاً مستوردة من الغرب الكافر، ولا بدائل غير شرعيَّة ، أو فيها تنازلات عن سنَّة خير البرية ، فمعاذ الله أن ينصح بذلك وقد قال الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ شيئاً من هذا القبيل ثمَّ أعقبه قائلاً:(لكن لا يجوز لأحدٍ أن يغيِّر شيئاً من الشريعة لأجل أحد) اقتضاء الصراط المستقيم(2/133)
بيد أنَّ من أراد أن يحمل نفسه على تجنُّب البدائل المباحة ، والالتزام بالأوامر والنَّواهي الشرعية فله ذلك ، وصاحب العزمات يأخذ بالأقوى ، وقد يكون في جانبه أفضل ، إلَّا أنَّ عليه أن لا يقارن نفسه بغيره من الناس ، ويفرض رأيه على ضعفاء الدين ، وقليلي الإيمان ، ومن المعلوم بأنَّه إذا أردت أن تطاع فأمر بالمستطاع.
ولن يستطيع الداعية بقدر ما أوتي من فصاحة وإقناع أن يصنع ذلك المجتمع المثالي المتخيل في الذهن ، وخاصَّة أننا نعيش في هذا العصر المنفتح ، والذي تعجُّ فيه الفوضى الفكرية ، والمتنوعات الثقافيَّة ، وكلٌّ منها تضغط بطرف على العقول والأمزجة محاولة أن تقنعها بمثلها ومبادئها.
فمهمَّة الدعاة إذاً أن يأتوا البيت من بابه ، ويضعوا الحقَّ في نصابه، ويرشدوا أبناء هذا الجيل مبيِّنين لهم مخطَّطات الغرب، ووسائل المجرمين بالإطاحة بهذا الجيل عن غاياته النَّبيلة وأهدافه السَّامية.
وثمة نقاط أحبُّ أن أذكِّر بها نفسي ومن سلك طريق الدعوة ، وكل قارئ لهذا المقال ، يجدر التنبيه إليها ، والتلويح بها/(12/232)
1ـ يجدر بدعاة الإسلام وأهل التربية أن لا يخاطبوا الناس من برج عاج ، أو صومعة فكرية ، بل ينزلوا في ميدان الناس ، وواقع البشرية ، ويتداخلوا معهم ، ويتأملوه حقَّ التأمل فما كان فيه من خير أثنوا عليه وأشادوا به ، وما كان فيه من خطأ فلينبهوا الناس له، ويرسموا لهم طريق الصلاح ، ويزنوا جميع الأمور بمعيار الشريعة ، ويعطوهم البدائل المباحة بقدر الإمكان ، وإيجاد الحلول والمخارج الشرعيَّة،لا الحيل الباطلة البدعيَّة.
فأمَّا التشديد على الناس في أمورهم فهذا لا يليق بدعاة الحق والرشاد، بل هو أمر يحسنه كلُّ أحد ، وقد قال الإمام سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ(إنَّما العلم عندنا الرخصة من ثقة فأما التَّشدد فيحسنه كلُّ أحد) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر(1/784) وقال الإمام أحمد بن حنبل:(من أفتى ليس ينبغي أن يحمل النَّاس على مذهبه ويشدِّد عليهم) الآداب الشرعية لابن مفلح(2/45) ولا يعني ذلك أن نكون مماثلين لدعاة العصرنة والمسايرة لهذا العصر، والتراجع تحت ضغط الواقع ، والَّذين يتبنون تتبع رخص العلماء وزلَّاتهم ويبنون عليها أحكاماً يقنِّنونها للناس حتَّى يتعاملوا بها فإنَّ هذا غير هذا ، ولاشكَّ أنَّ التفريط أخٌ للإفراط ، فالمطلوب أن يكون الدَّاعية وسطياً في فتاويه وآرائه على وسطيَّة أهل السنَّة والجماعة ورحم الله من قال:
عليك بأوساط الأمور فإنَّها نجاةً ولا تركب ذلولاً ولا صعبا
ولهذا فإنَّ العالم الذي جمع بين العلم والتربية لن يغفل عن دراسة نفسيَّات النَّاس ، وإعطاء كلَّ ذي حقٍ حقَّه من الحكم الملائم له، ورضي الله عن الإمام ابن تيمية حين علَّق على حديث رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ ( كلُّ لهو يلهو به الرجل فهو باطل، إلَّا رميه بقوسه ، وتأديبه فرسه ، وملاعبته امرأته فإنَّهنَّ من الحق) أخرجه ابن ماجه (2/940) والنَّسائي ،أنظره مع شرح السيوطي(6/185) بسند صحيح.
فقد علَّق ابن تيمية على هذا الحديث تعليقاً نفيساً مبيناً خلاف ما يعتقده البعض من قارئي هذا الحديث بأنَّ كلمة (الباطل) فيه يعني (المحرَّم) فقال:
( والباطل من الأعمال هو ما ليس فيه منفعة، فهذا يرخص للنفس الَّتي لا تصبر على ما ينفع ، وهذا الحقُّ في القدر الذي يحتاج إليه في الأوقات الَّتي تقتضي ذلك: الأعياد والأعراس وقدوم الغائب ونحو ذلك) الاستقامة(1/277) ـ وقد كان في هذا الموطن يتكلَّم عن ضرب الدف وأنَّه للنساء فقط وأنَّ الرجال لم يكن منهم أحد يفعل ذلك في عهده ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ ولهذا ذكر ابن تيمية أثراً عن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ يقول: إنِّي لأستجمُّ نفسي بالشَّيء من الباطل،لأستعين به على الحق) مجموع الفتاوى(28/368)
ومن هنا نستنتج أنَّ معرفة الدَّاعية لنفسيات المدعوين وأهل المعصية ومراعاتها كلٌ بحسبه، بأنَّه من أهمِّ المهمات ليتدرج معهم في إزالة ما لديهم من قصور ديني ، فهو خبير بأنَّ الخروج عن المألوفات من أشق الأشياء على النفوس ، ولذا فإنَّه يعطيهم من البدائل المباحة الَّتي تجعلهم يتناسون ما كانوا عليه، متدرجاً بهم بهذه الطريقة إلى مرحلة القناعة والطمأنينة بما هم فيه،ومن أقوى ما يحتجُّ به لذلك ، ما قاله عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لأبيه يوماً منكراً عليه عدم إسراعه في إزالة كلِّ بقايا الانحراف والمظالم والتعفية على آثارها ورد الأمور إلى سنن الراشدين:
مالك يا أبتِ لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي، لو أنَّ القدور غلت بي وبك في الحق!!
وتأمل كيف كان جواب الأب الفقيه عمر بن عبد العزيز ـ رضي الله عنه ـ(لا تعجل يا بني ، فإنَّ الله ذمَّ الخمر في القرآن مرتين وحرَّمها في الثالثة ، وإنِّي أخاف أن أحمل النَّاس على الحقِّ جملة فيدعوه جملة، فيكون من ذا فتنة) الموافقات للشاطبي(2/94)
ولهذا فإنَّ التدرج في الوصول إلى الحقِّ بهذه التربية سببٌ أكيد لقناعة المدعوين ، وليأخذوا بهذه الأحكام بتمام الرضى والفهم العميق لمقاصد الشريعة الإسلامية، قال الإمام ابن القيِّم(إنَّ حكمة هذا التدريج ؛ التربية على قبول الأحكام ، والإذعان لها ، والانقياد لها شيئاً فشيئاً) بدائع الفوائد(3/184)
2ـ التشجيع للشباب المخلصين بإيجاد البدائل الشرعية، وإنتاج المشاريع والبرامج المعينة والجذَّابة لمن ابتلي بمتابعة الصور الهابطة ، والأصوات المحرَّمة، وإنَّ من أهمِّ الأمور في ذلك بثُّ روح الإبداع والتفكير،والابتكار والطُّموح لصناعة البدائل وإيجادها والموافقة لروح الشَّريعة والاستفادة من المعطيات الجديدة، وتنمية الحس لأهمية الإطلاع والقراءة ، وكسر جميع الحواجز الَّتي تحول للإتيان بالجديد، وبورك في الشباب الطَّامحينا.
وما قتل البعض منَّا إلَّا الترديد لتلك المقولتين القائلتين ، ليس بالإمكان أحسن مما كان ، وما ترك الأولون للآخرون شيئاً ، فإنَّ هاتين المقولتين أصبحتا سمَّاً يلوكه كلُّ يائس أو كسول أو رجل ألف التقليد، مع الضَّحالة العلمية والعقم الفكري ( وحين يكون هناك جدب ثقافي ، وضحالة فكرية فإنَّ الإنسان لا يهتدي إلى كثير من البدائل الَّتي تتاح لأهل الثَّراء الفكري) من كتاب / خطوة نحو التفكير القويم ـ ثلاثون ملمحاً في أخطاء التفكير وعيوبه لعبد الكريم بكَّارصـ59.(12/233)
وقد أحسن الأستاذ المفكِّر جمال سلطان ـ وفقه الله ـ حين كتب( فإذا لم يكن لدى الأمة ومشروعها الحضاري ، بديل جاد ومتفوق يمتلك الجاذبية الفنِّية العالية ، ويتحرك على تقنيات فنِّية رفيعتة المستوى ،أو إذا لم يكن بمقدور المشروع الحضاري أن يحقق موازنة جديدة بين النشاط العلمي، والنشاط الترفيهي، أو لم يكن بمقدوره إعادة صياغة المدركات العامَّة للأمة ، بما يحقق وعياً جديداً لمفهوم الوقت ، وتقسيمه وقيمته ودوره ، أو تباين ذلك كلِّه بين الأمم ، حسب متطلَّباتها الإنسانية ، وحسب مناهجها الفكرية العقائدية (الآيديولوجية) وحسب مكانتها الحضارية ، وحسب تحدياتها التاريخية والمستقبلية ، أي أنَّه ـ بوجه عام ـ إذا لم يكن لدى المشروع الحضاري خططه وبرامجه للسيطرة على وقت الفراغ فسيكون ذلك بمثابة تأشيرة دخول مفتوحة للتَّيارات الثقافية والقيمة والأخلاقية والأجنبية ، لكي تنفذ إلى صميم الأمَّة من خلال ثقب (وقت الفراغ)) مقدمات في سبيل مشروعنا الحضاري صـ62ـ63.
3ـ عدم الدوران في فلك الذات ، وإغلاق منافذ البصيرة في وجه أيِّ جديد بحجَّة أنَّ هذه العولمة المعاصرة أكثرها شرٌ وفساد ، بل ينبغي أن ننفتح على كلِّ جديد ونوازنه بالشرع فما وافقه فحيَّ هلا ، وما خالفه فإن استطعنا أن نبيد مادَّة الحرام منه فعلنا، وإن لم نستطع فلنضرب به عرض الحائط ولا نبالي، ورحم الله من قال:
والشرع ميزان الأمور كلها وشاهد لأصلها وفرعها
ومن جميل كلام أبو حفص النيسابوري(من لم يزن أفعاله وأقواله كلَّ وقت بالكتاب والسنَّة ، ولم يتهم خواطره فلا تعده في ديوان الرجال) الاستقامة لابن تيمية /96ـ99.
شاهد ذلك أنَّه قبل أن نحكم على أي شيء فعلينا أن نعرف حقيقته وماهيته ، ثم يُطلق الحكم الشرعي المناسب له ، والقاعدة الأصولية تقول / الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
4ـ لا يعني أنَّه إذا نودي بإيجاد البديل المنضبط ، أن يكون هذا ديدن الدعاة ، بل ينبغي أن ينادي الدعاة بأنَّه ليس كلُّ شيء حرِّم يستطاع أن يؤتى ببدائل تحل عنه، وأنَّ هذا البديل الذي استهلك العقل البشري في التفكير لإيجاده ، ليس شرطاً أن يكون فيه كلُّ مظاهر اللذَّة والمتعة عن الشيء المحرَّم، إلَّا أنَّه ينبغي أن تكون فيه مادَّة تصرف من تعلقت نفسه بالماضي ، وتكون فيه روح شفَّافة جذَّابة ليتعلق بها.
لكن من المهم جدَّاً أن يواكب هذا التغيير لتلك النفس البشرية التي نشأت من قريب على طاعة الله بأن تربى هذه النفس على طاعة الله ، وأن يكون ديدنها لأوامر الله ونواهيه بكلمة (سمعنا وأطعنا) و إذا كان البديل ليس على مستوى درجة الجاذبية لما ألفته النفس في الماضي ، أو في أيام الجاهلية فلا يعني ذلك أن ترجع النفس لماضيها ، لأنَّ ذلك من تبديل نعمة الله على العبد والتنكر لها.
بل يكون على لسان المسلم الأثر المعروف ( من ترك شيئاً لله عوَّضه الله خيراً منه) وهذا التعويض كما ذكر علماء الشريعة إمَّا أن يكون في الحياة الدنيا، أو أن يكون ذلك في دار الآخرة وجنَّة الرضوان.
5ـ أن يتعدى الدعاة والمصلحون مرحلة المدافعة والتحذير، إلى مرحلة المواجهة والتبشير، ولقد كانت هذه وصيَّة رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ لبعض أصحابه فقال:(بشِّروا ولا تنفروا ، ويسروا ولا تعسروا) أخرجه البخاري في كتاب العلم(2001) ، ومسلم في كتاب الجهاد(251)
فالعقلية الإسلامية تحتاج في هذا الزمن الصعب أن تكون داعية خير وتبشير، أمَّا مجرد النقد اللاذع، والإبقاء على هذا المنهج فلن يوصل المسلمين إلى مرحلة سبَّاقة ، بل يجعلهم ذلك يرجعون للوراء لأنهم لم يعرفوا كيف يواجهوا هذا العصر بتقنياته، وما هي اللغة المناسبة له ، ولذا فإنَّ المثل القائل بأنَّ إيقاد شمعة خير من لعن الظلام ؛ مثل رائع، يحتاجه دعاة هذا العصر، فإنَّ مجرد التشكي من أبناء هذا الزمان وهذا الدهر لن يفيد شيئاً ، والغريب أنَّ كثيراً من الشباب الصالح قد صار ديدنه في بعض اللقاءات التحدث بمآسي هذا الجيل ، على حدِّ قول الشاعر:
كلُّ من لاقيت يشكو دهره ليت شعري هذه الدنيا لمن
لكنَّ القليل من يحاول أن ينقي الواقع الاجتماعي الذي يعيش فيه، ويبين الخلل والاهتراءات التي حلَّت في وسطه ، محاولاً التغيير والإصلاح بالحكمة الحسنة والكلمة الطيبة، حتى يتم المقصود، وينال المراد.
إننا نحتاج حاجة ماسة لإعادة النظر في الطرق التربوية التي أَلِفَهَا بعض المربين أكثر من أربعة عقود من هذا الزمان ، أو وسائل الدعوة التقليدية والتي كانت منذ عشرات السنين وبقي الكثير على نمطها.
نحتاج لوسائل البلاغ المبين ، ولجميع المنابر التي نتواجه بها مع أبناء الجيل المسلم ، والاستفادة من المعطيات الحديثة التي تتناسب مع طبيعتنا الشرعية ، ومثلنا العقدية ( ومن خلال معرفتنا بسنن الله ـ تعالى ـ والتي تبرز لنا طبائع الأشياء ، يرتقي لدينا ما أسميه بـ(فقه الطرق المسدودة ) وهو فقه عظيم لا نجده في أي كتاب ، وإنَّما في سفر الوجود الهائل والمترامي ، حيث إننا من خلال الممارسة العملية نكتشف الهائل والمترامي، وما لا يمكن الوصول إليه ، وبذلك الاكتشاف نقترب من معرفة ما هو متاح ، كما أنَّنا نوفر على أنفسنا عناء (الحرث في البحر) حيث ألف الكثيرون منَّا تبديد الجهد والوقت والمال في محاولات الوصول إلى أشياء ليس إلى الحصول عليها أي سبيل) جزء من كلام الدكتور:عبدالكريم بكَّار في كتابه تشكيل عقلية إسلامية معاصرة صـ78.
إنَّ الداعية ـ باختصار ـ من ينفع أمته ، ويبين لها طرق الخير، فهو كما قال الشاعر:
واضح المنهج يسعى دون غش أو نفاق(12/234)
راضي النفس، كبير القلب، يدعو للوفاق
قلبه المؤمن بالخالق مشدود الوثاق
نبضه الذاكر يمتد إلى السبع الطباق
7ـ وقبل الختام فهناك تنبيه/وهو في الحقيقة أمر وقع فيه بعض الأخوة الدُّعاة ـ هداهم الله ـ في قضيَّة البديل،فالمراقب لبعض البدائل التي أتيح نشرها داخل الأوساط الإسلامية يجد أنَّها قد تجاوزت ـ وللأسف ـ الحدود الشرعية، وصار فيها من التنازلات عن الشريعة الشيء الذي ينذر بوقوع حالة مكارثية ممن لهم توجهات إسلامية ، فأكثرهم لم يدرسوا هذا الدين على حقيقته ، وإن كانوا من(محبي الإسلام) ولا شك ، لكنهم يتصرفون بعض التصرفات المخلة بهذا الدين ، لأنَّ كثيراً منهم ينتج إنتاجه الإعلامي أو الاقتصادي أو التربوي ولا يستشير إلَّا أمثاله من قليلي العلم ، وضحلي المعرفة في الجذور الإسلامية ، أضف على ذلك قلَّة استشارتهم لأهل العلم وفقهاء الشريعة الربانيين، في عرض مثل هذه المنتجات، وأخذ آرائهم تجاهها، ومن ذلك :
1ـ ما يسمى بفيديو كليب فقد شاهد البعض من طلبة العلم مثل هذه البرامج ، وما يعرض فيها من الأناشيد وما يصاحبها من تكسر وتميع ، وحركات لا تمت إلى الرجولة بصلة ، بل فيها من مشابهة بعض الفسقة من المغنين في حركات الرجل وضرباتها الخفيفة على الأرض ، أو حركات اليد والتي تدغدغ مشاعر الرجال فضلاً عن الفتيات ( المراهقات) ثمَّ يسمَّى هذا العمل إنتاجاً إعلامياً (إسلامياً).
فهل هذا من البديل الذي اشتُرِطَ أن يكون منضبطاً بميزان الشريعة ، ومأموناً لجميع شرائح المجتمع؟!
2ـ ما صار يصاحب بعض أشرطة الأناشيد الإسلامية من ضرب بالدف ويرافقه أصوات الصلاصل والمزاهر والخلاخيل ، دع عنك أن يرافق بعضها الضرب بالطبل ، والجهاز المسمى بجهاز(السامبر)، وأجهزة الكمبيوتر والتي سجِّل في بعضها بعض النغمات من الكمنجة ، والبيانو، كلُّ ذلك بحجة أنَّ هذا من البديل [الإسلامي] وأنَّه إذا لم نضع مثل هذه الملحقات مع الأناشيد فإنَّ السامعين للأناشيد الإسلامية سيكون تعدادهم قليلاً!! وأنَّ أفضل وسيلة لجذبهم هي هذه الطريقة ولأجل الارتقاء بالفنِّ الإسلامي البديع!!
والإجابة عن هذه الحجَّة الباطلة قد يطول ولكنَّنا نقول: إنَّ من أراد أن يقدِّم للناس بديلاً مشروعاً فعليه بأن يتقي الله ـ سبحانه وتعالى ـ ويرضيه قبل إرضاء إيِّ طرف من الناس، وليتذكر المرء حديث رسول الله ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ ( من أرضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس ، ومن أسخط النَّاس برضا الله كفاه الله مؤنة الناس) أخرجه ابن حبَّان بسند جيد ـ انظر:السلسلة الصحيحة (2311)
والحقيقة أنَّ هؤلاء القوم المنتسبون للدعوة ويصاحبون في أعمالهم ما حرَّم الله بحجة اجتماع الناس عليهم وللمصلحة العقلية الموهومة فإنَّهم وكما قيل في المثل: يريد أن يطبَّ زكاماً فيحدث جذاماً ، فلا هم للبديل نصروا ، ولا للمعصية كسروا ـ نسأل الله لنا ولهم الهداية ـ.
3ـ لا شكَّ أنَّ العالم الإسلامي اليوم ، يحتاج لمصارف إسلامية ، وبنوك تتعامل مع الطبقات البشرية بالشريعة الإسلامية، ونحن نحمد الله ـ تعالى ـ أن صار لهذه البنوك وجوداً ولو كان بطيئاً في شوارع بعض الدول الإسلامية والتي تلبي رغبات التجَّار، وتعين المساكين وتقدِّم لهم البذل والمعونة ، وتقرضهم القروض التي لا تجر نفعاً ، وتتعامل مع من يريد تنمية ماله بالمعاملات المشروعة كالمضاربة والمشاركة والمساهمات التجارية.
بيد أنَّ هناك ـ وللأسف ـ بنوكاً أرادت أن تسوق بضاعتها بزيادة (الإسلامي) على كلمة ( البنك) للتغرير بعوام المسلمين ، وعقول البسطاء والمساكين ، ليتعاملوا معهم ويشتركوا في معاملاتهم المالية وأكثرها ـ عياذاً بالله ـ من أبواب الحيل الباطلة ، والتي يتمُّ معظم معاملاتها المصرفية بالتحايل على أبواب الشريعة، جاعلين زلَّات العلماء المتقدمين ، ورخص المعاصرين المتساهلين ديدنهم في الترويج للالتحاق بهم والتعامل معهم.
فيا سبحان الله !! وهل أصبحت البدائل المسماة إسلامية بهذا الشكل المرعب ، وأصبح البعض الذي ليس له من الثقافة الإسلامية رصيداً ولو يسيراً، يسوِّق لما يريد فعله ويضيف عليه كلمة (إسلامية) أو(إسلامي)أو على ( الشريعة الإسلامية) على طرفة السمك المذبوح على الطريقة الإسلامية! وإذا كان البعض هكذا؛ فليحذروا من عقوبة تحلُّ بهم من الله ـ عزَّ وجل ـ ونقمة شديدة يوم القيامة إن لم يتوبوا ويتداركوا أمرهم.
4ـ ومن ذلك بعض فتاوى المنتسبين للعلم والدعوة بأنَّه يجوز للمرأة أن تشترك مع الرجل في التمثيل على شاشات الرائي(التلفاز) بحجة أن الرسول ـ صلَّى الله عليه وسلَّم ـ قال( النساء شقائق الرجال) ، وأنَّ المرأة نصف المجتمع ولها دورها فيه ، فلا بأس عليها أن تشارك في التمثيل بشرط أن يكون (إسلامياً).
والحقيقة أنَّ هذا يفتح باباً كبيراً لأهل العلمنة والفسق في محاولة التدرج بمن أردن التمثيل من النساء المنتسبات للخير والدعوة في مهاوٍ توقعهم في الردى، وفي أصعب الظروف ، وأحلك المواقف ، هذا عدا أكثر من عشرة مخالفات شرعية في هذا الباب.(12/235)
5ـ ومن ذلك ما يسمَّى بالأفلام المدبلجة ، والتي أنتجتها بعض الشركات الإعلامية الكافرة،أو الشركات الفاسقة ، فما كان من البعض إلَّا وأن حذف منها أصوات الأغاني والموسيقي، وظّنََّ أنَّ تسمية هذه الأفلام بأفلام إسلامية هو الهدف الرئيس ، مع أنَّ البعض من هذه الأشرطة فيها من التلوثات العقدية، والآراء الهدَّامة ما يقشعرُّ له البدن ، ويهتز له الفؤاد، من بعض الألفاظ الشركية ، والعادات المخالفة للقيم الإسلامية ، كالشرب بالشمال، والنوم على البطن ، وعدم تشميت العاطس، والسخرية بمن ابتلي بسمنة أو داءٍ في جسده ، ومظاهر الاختلاط بين الرجال والنساء، وعرض بعض صور النساء كاشفات لشيء من شعورهن وإبراز بعض مفاتن جسدهن ، ومع ذلك تبقى أشرطة إسلامية !!
فأين المراقبة الإعلامية المتخصصة ، وأين المراجعة والتدقيق الشرعي على مثل هذه الأشرطة المد بلجة؟
بل ظهرت بعض الأفلام الإسلامية !! يقمن فيها فتيات جميلات قد قارب أكثرهنَّ البلوغ في السنِّ العاشرة والحادية عشرة ، يقمن بالإنشاد الإسلامي، مع بعض حركات الرقص المرافقة لإيقاع الدف ، ويكون بالطبع معهن بعض الأحداث الفتيان ينشدون جميعاً عند بحر، أو تلٍّ ، وتقدِّم إحدى الفتيات وردة حمراء لأحد الأحداث الذكور وهي تبتسم ابتسامة ساحرة!!
حدَّثني بذلك ـ والله ـ جمع من الشباب الذين كانوا على طريق الغواية ثمَّ منَّ الله عليهم بهدايته ـ سبحانه ـ فأقلعوا عمَّا حرَّم الله ، وقالوا لي جميعاً اشترينا هذه الأشرطة من التسجيلات الإسلامية! ورأينا أناسا يشترونها! وكنَّا نتناوب على مشاهدة هذه الأفلام! لما فيها من الصور (الإسلامية)!!!
بل قرأت لأحد هؤلاء المنتسبين للإسلام مقالاً كتبه في إحدى الجرائد يطالب فيه بديسكو إسلامي! وما أدري والله ماذا زوَّر أمثال هؤلاء في صدورهم بعد ذلك من البرامج(الاستسلامية للواقع).
وصدق من قال في هذا الزمن:
زمان رأينا فيه كلَّ العجائب وأصبحت الأذناب فوق الذوائب
والآن...أساءل أصحاب هذه البدائل الظالمة...أسائلهم بالله العلي العظيم أذلك كلُّه من باب البديل الإسلامي المنضبط ، عن أشرطة الفسق والمعصية؟ (إنَّ هذا لشيء عجاب)
لقد تعدى الأمر حدَّه ، وخرج عن أصله ، وبلغ السيل الزبى ، والله المستعان..
فليتدارك أمثال هؤلاء القوم منهجهم ، وليصلحوا أمرهم ، وليتوبوا إلى ربهم ، ويعودوا إلى بارئهم ، ولا يكونوا سبباً لإفساد الشباب ، وهم يظنون أنهم مصلحون.
ونبقى نقول نعم للبديل ولكنْ بالضوابط الشرعية، والالتزامات العقدية ، وتحت استشارة أهل الشريعة، ولا للبديل المتسيب ، والذي شطَّ عن الصواب ، وانخرط في دوائر الانفلات ، وأُقْحِمَ في الشبهات, فإنَّ هذا ليس له مكان في قلوب أهل الإيمان، ويبقى الحقُّ عليه دلائل الإشعاع الربَّاني ، والباطل عليه دلائل التحايل العصياني.( فأمَّا الزَّبد فيذهب جفاءً ،وأمَّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب اللَّه الأمثال)ومن الله الحول والطول ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.وصلَّى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم أجمعين .والحمد لله رب العالمين..
كتبه
خباب بن مروان الحمد
==============
المرأة والدعوة
( المؤمن كالسراج ، أينما وضع أضاء ) ما أروع هذه العبارة المأثورة عن أحد السلف في الدعوة إلى الله ، لكن الدعوة ليست مقصورة على الرجال فحسب ، بل إن المرأة ينبغي أن يكون لها حظ وافر من ذلك ، فهي لا تعدوا أن تكون بنتاً أو أختاً أو زوجة أو أماً ، فإن كانت بنتاً فهي تدعو والديها إن احتاجا إلى ذلك ، بألطف أسلوب وأرق عبارة ، أسوة بأبينا إبراهيم عليه السلام لما دعا أباه . وإن كانت أختاً فهي تدعو إخوتها . وإن كانت زوجة فإن زوجها أحق بالدعوة من غيره . وإن كانت أماً فتدعو أولادها . وهذا لا يمنعها أن تكون داعية في مكان آخر حيث وجدت ، فإن كانت معلمة دعت طالباتها وزميلاتها من المعلمات ، وإن كانت طبيبة أو ممرضة أو موظفة في أي قطاع اجتهدت في دعوة زميلاتها في العمل في الأوقات المناسبة ، دون انتظار النتائج ، لأن النتائج أمرها إلى الله تعالى .
أما الوسائل والأساليب فهي كثيرة جداً ، والداعية الحكيم هو الذي ينوع في أساليبه ووسائله المشروعة ، بحسب حالة المدعو ، وحسب ما هو متاح له ، وأهم ذلك كله :
1 ـ القدوة الحسنة ، فما انتفع الناس بشيء في الداعي أعظم من انتفاعهم بسلوكه وخلقه الحسن ، وصدقه في القول والفعل ، فالمعلمة التي تنهى طالباتها عن النمص ـ مثلاً ـ وهي تفعله ، لن يكون لقولها أي تأثير ، بل سيكون مثار سخرية وتندر ..
2 ـ ومن الوسائل المهمة والأساليب المؤثرة : الكلمة الطيبة ، والموعظة الحسنة الصادرة من القلب ، وما خرج من القلب فإن يصل إلى القلب .
3 ـ ومن ذلك أيضاً الكتاب والشريط المناسبان ، لا سيما كتب الرقائق ، والقصص المؤثرة التي تدعو إلى الفضيلة والسلوك الحسن ، فهي مفتاح للهداية والتوبة .
4 ـ ومن ذلك : المشاركة في وسائل الإعلام المختلفة من صحف ومجلات وإذاعة وتلفاز على أن يقتصر في هذين الأخيرين بالنسبة للمرأة على الإعداد فقط ، دون ظهور الصوت أو الصورة .
5 ـ ومن ذلك : الاستفادة من وسائل الاتصال الحديثة كالفاكس والإنترنت مع الحذر مما فيه من الشرور ، والاستعانة بمن لهم خبرة في ذلك من الدعاة .(12/236)
6 ـ ومن ذلك : الدعوة بالمراسلة ، وبإمكان الفتاة الحصول على عناوين الفتيات عن طريق الدعاة المشهورين أو دور النشر الذين تصلهم يومياً مئات الرسائل من سائر أنحاء الدنيا ، ويعجزون عن الرد عليها. أو عن طريق صفحات التعارف في المجلات الهابطة . ويجب أن يقتصر دور الفتاة على مراسلة الفتيات فقط من أجل توجيههن والأخذ على أيديهن ، وهذا المجال مجال رحب ، وأجمل هدية يمكن أن تقدم عن طريق المراسلة هي الكتيب النافع ، والمطوية المفيدة ، والشريط المؤثر .
7 ـ ومن ذلك : إقامة المسابقات النافعة ، لا سيما في الاجتماعات العائلية ونحوها ، ووضع جوائز مفيدة ومشجعة .
8 ـ ومن ذلك : إصدار المجلات الحائطية الدورية في المدارس والجامعات ، ويفضل أن تكون أسبوعية ، حتى تُقرأ وتُتابع ، أما موضوعاتها فتكون متنوعة وشيقة ، ولا بأس بفتح المجال للطلاب للمشاركة فيها .
9 ـ ومن ذلك : العناية بإصدار النشرات المفيدة المختصرة ، في المناسبات وغيرها ، على أن تكون بخط واضح ، وإخراج جيد . ولا بد من عرضها على بعض أهل العلم لتصحيحها ، وضمان سلامتها من الأخطاء .
10 ـ ومن ذلك : العناية بلوحات الإعلانات في الأماكن النسائية ، وتنظيمها وتجديدها كلما جد جديد ، والدال على الخير كفاعلة .
11 ـ ومن ذلك : إلقاء الدروس والمحاضرات النسائية لمن لديها القدرة على ذلك ، لا سيما في كثير من الأماكن التي لا يدخلها الرجال .
12 ـ ومن ذلك : إعداد مظاريف شهرية تحتوي على كتيب وشريط ومطوية ونشرة ، بعدد الإخوة والأخوات الأشقاء توزع عليهم في بداية كل شهر ، فالأقربون أولى بالمعروف ، على أن يراعى في اختيار الكتيبات والأشرطة المناسبات المتكررة . ويمكن التوسع في التوزيع ليشمل أكبر عدد من الأقارب ، أو حتى الجيران ..
13 ـ ومن ذلك : التعاون مع المؤسسات الدعوية ، كمكاتب الدعوة وتوعية الجاليات ، والمؤسسات الخيرية الإغاثية ونحوها ، فهم بحاجة إلى العنصر النسائي في الدعوة ..
14 ـ ومن ذلك : زيارة بعض الداعيات القديرات الأماكن النسائية العامة التي يغلب على أجوائها اللهو والغفلة ، كمدن الملاهي ، والأسواق النسائية ونحوها ، ومناصحة النساء بالأساليب الحسنة ، وتوزيع المطبوعات الدعوية ، ولا تترك هذه الأماكن لشياطين الإنس والجن ليجدوا فيها بغيتهم ، ويرفعوا فيها رايتهم .
وهناك وسائل أخرى كثيرة لا يتسع المجال لذكرها ، والمهم هو الإخلاص والعمل ، فمتى ما أخلصت الداعية نيتها لله ، واستنارت بهدي الله ، نفع الله بها وبارك في جهودها ، وحقق الخير على أيديها ، ومن قال هلك الناس فهو أهلكهم ، والله الموفق .
=============
الأمة بين سنتي الإبتلاء والعمل
الحمد لله، وأصلي وأسلم على رسول الله وآله وصحبه ومن سار على هداه، وبعد:
فلا ريب أنّ الأمة تمر بظروف عصيبة مؤلمة، وتعاني ويلات فتن خطيرة في دينها وعقيدتها وأخلاقها، وتواجه تحدياً حضارياً عالمياً بل حرباً صليبية صهيونية تستهدف في كيانها ووجودها.
ومن الخطأ الجسيم أن نتغافل أحصل الصراع بين المسلمين وأعدائهم من يهود ونصارى، وأنه في أصله صراع عقدي ديني سيما وقد صرّح العدو نفسه بدوافع الصراع ومنطلقات الحرب في أكثر من مناسبة.
ومن الخطأ البيِّن كذلك أن يتناول هذه القضية الخطيرة بشيء من الارتجالية والاستعجال أو بدوافع من العاطفة والحماس غير المنضبط.
لا بد أن نعترف أن ما يمارس اليهود والصليبيون كل يوم في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وغيرها هو استفزاز خطير لمشاعر الأمة المسلمة بعامة ولشبابها الغيور على وجه الخصوص.
ولا يمكن أن نتصور بقاء الشباب المسلم مكتوفي الأيدي إلى الأبد أمام تلك الممارسات الدموية الظالمة وتلك الحرب "الصهيوصليبية" فمن حقه أن يغار، بل من واجبه أن يغار لدينه ودماء إخوانه، بل من وأحق أن يهتم لنصرة دينه، وإعلاء كلمة لله بكل وسيلة مشروعة أسُّها ورأسها الجهاد في سبيل... بيد أن الجهاد في سبيل الله قد لا يتيسر لكل أحد سيما والأبواب مؤصدة والموانع كثيرة.
فما العمل إذاً والحالة هذه؟ هل نكتفي بسبّ اليهود وشتم النصارى؟ أم يكون الحل ببث الأحزان، وسكب العبرات، وندب الزمان؟!.
إنَّ الحلَّ العملي الواقعي لمشكلاتنا وصراعاتنا مع أعدائنا يجب أن يتضمن في نظري الأمور التالية:
(1) العودة الجماعية الجادة إلى الدين عودة صادقة، وتحكيم شريعته تعالى تحيكماً فعلياً في سائر الأقطار الإسلامية بلا مساومة أو مزايدة، فالدساتير الوضعية وإقصاء الوحيين الشريفين هي أعظم النوازل وأكبر المصائب التي آلت بالمسلمين إلى ما ترى وهي التي جرأت العدو على استباحة أرضهم والعبث بقيمهم وإملاء مشروعه الحضاري عليهم.
(2) لا بد أن نعترف بوجود مظاهر كثيرة تصادم الإسلام في جوهره وروحه، وفي أخلاقه وقيمه في معظم ديار المسلمين، فبنوك الربا وحانات الخمور وملاهي الليل، ودور الفاحشة تعمر كثيراً من بلاد الإسلام، وهذه المظاهر الآثمة لا بد أن تظهر منها بلاد المسلمين وإلا من أين سينزل النصر؟ قال سبحانه: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
(3) إنَّ على علماء الأمة الصادقين كسر حاجز النفرة بينهم وبين شباب الأمة على وجه الخصوص واسترجاع ثقتهم المفقودة من خلال ممارسة دور إيجابي فاعل في قيادة الصحوة وترشيدها، ومن خلال صدعهم بكلمة الحق وتحذير أمتهم من الويلات المحدقة بها وتنفير مجتمعاتهم من كل المظاهر المنافية والمصادمة لشريعة الله – سبحانه-.(12/237)
إن على العلماء دوراً، وأي دور، في احتضان الشباب والرفق بهم، وتهدئة روعهم، وتلمس احتياجاتهم العلمية والتربوية وإشباعها بالعلم الصحيح والتربية الجادة مصطحبين تقوى الله فيما يأتون ويذرون ويفتون ويوجهون، وبغير هذا سيبحث الشباب عمن يستقل حماسهم، ويستوعب قدراتهم في غير إطارها المشروع.
(4) إن على الجميع أن يدركوا أن الجماهير المسلمة لا ترضى أن تُمَسَّ ثوابتها أو تهمش أصولها، فالجهاد في سبيل ذِروة سنام الإسلام، والبراءة من الكفار أصل عظيم من أصول الملة الإبراهيمية والمحمدية، فلا مجال لتمييع هذه الأصول وإلا كانت ردة الفعل كافية في تشتيت جهود الأمة وبعثرة أوراقها وإغراقها في دوامة جديدة من الصراع الذاتي، يعيقها عن مسيرة بناء نفسها، إعداد كوادرها للبناء الحضاري بكافة مجالاته.
(5) علينا جميعاً أن نسعى جاهدين لوحدة الصف وتأجيل خلافاتنا الهامشية والفرعية التي لا تمس الأصول والثوابت، لنتأهب لمواجهة العدو بكل قوة متاحة، وعلينا ألا ننشغل عن إعداد العُدة الجادة لمواجهة أي أخطار محدقة، وأن نستوعب أن أقوياء العالم لا يرحمون الضعفاء، وأن المراهنة على جمعيات حقوق الإنسان والهيئات الدولية مجازفة ذات ثمرات مرة لا زلنا نتجرع غصصها في أفغانستان والشيشان وفلسطين والعراق.
أيها الشباب: إننا نثمن لكم غيرتكم ونخوتكم الإسلامية الشريفة، ونقدّر أنفتكم من تلك الأوضاع النشاز التي تعيشها مجتمعات المسلمين، كما نحيّ شجاعتكم ورغبتكم بالبذل والعطاء والثأر لدماء إخوانكم في البلاد الإسلامية المحتلة، بَيْدَ أنَّ ثمة موانع كثيرة قد تحول بينكم وبين الجهاد في سبيل الله لا ذنب لكم فيها.
فنصيحتي ألا نبقى أسرى الأحزان، وبث الأشجان؛ بل علينا أن نبذل الوسع والطاقة في تعلم العلم الشرعي حتى نعرف أين نضع أقدامنا، وكيف نحددُّ مسارنا الصحيح وسط هذه البحار المائجة من الفتن.
ثانياً: وبعد العلم الشرعي يأتي واجب الدعوة إلى الله، فإنَّ ثمة جموعاً هائلة من أبناء الأمة يعيشون حياة اللهو والعبث، وتتخطفهم الأهواء والسبل، فمن يستنفذ هؤلاء ويعيد لهم هويتهم الإسلامية؟ ومن يبصرهم بدينهم، ويعرفهم بالأخطار المحدقة بهم؟ إن لم تقوموا بالمهمة أنتم أيها الشباب على علم وبصيرة وبتوجيه من علماء الأمة العالمين؟
(3) علينا كذلك أخيراً أن نثق بوعد الله –تعالى- وأن هذه الأمة منصورة بحول الله وقوته مهما تكالب عليها أعداؤها ومهما كادوا لها وبكروا بها شريطة أن تنصر ربها، وتعظم سنة نبيها – صلى الله عليه وسلم- مع الأخذ بالأسباب المادية اللازمة والممكنة وعلى رأسها إعداد الجيوش المسلمة المجاهدة المتسلحة بسلاح الإيمان بالله، وحسن التوكل عليه المتطلع للشهادة في سبيله تعالى فضلاً عن أخذ زمام المبادرة في النهضة الاقتصادية والعمرانية والثقافية وغيرها بعيداً عن تأثير الكفار واستغلالهم؛ قال الله جل ذكره: "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم"، وقال سبحانه: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل". وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه.
=============
وأنذر عشيرتك الاقربين
الحمد لله رب العالمين أوحى إلى عبده فيما أوحى ] وأنذر عشيرتك الأقربين { ( الشعراء / 214 )
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أوصى بالوالدين إحساناً ، وأمر بوقاية النفس والأهل ناراً وقودها الناسُ والحجارة ، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسوله صلى الله عليه وعلى إخوانه وآله ورضى عن صحابته وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
] يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً {
] يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعلمون {
إخوة الإسلام.. واجبُُ من الواجبات قصَّر فيه الكثيرُ منا ومهمةُُ عظيمةُُ قلَّ فيها عطاؤنا لا ينقصنا العلمُ فيها ولا تعوزنا الوسيلة المناسبة .. لكن العجز، والتراخي، والتسويف ، والكسل.. والتذرع وراء المعاذير.
إنها إنذار العشيرة ، ودعوة الأقربين .. جاء القرآن داعياً لها ، وحاثاً عليها ، وفي نصوص السنة النبوية ، وأحداث السيرة النبوية ما يجليها ويؤكد أهميتها ، لقد كانت ضمن أولويات دعوة للمرسلين عليهم السلام .
من لدن أول الأنبياء نوح عليه السلام إلى آخرهم محمد ( صلى الله عليه وسلم ص )، فقد قص الله على محمد نبأ المرسلين في دعوة أهليهم ، وعشائرهم ما فيه عبرةُُ ومعتبر، فنوح ( ( صلى الله عليه وسلم يدعو ابنه إلى ساحة الإيمان ، ويحذره من الكفر والكافرين ] ونادى نوحُُ ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا، ولا تكن مع الكافرين { ( هود/ 42)
وظل نوح حريصا على دعوة ابنه ، وإنقاذه حتى جاءه النهي الإلهي مُعلماً إياه إنه ليس من أهل الإيمان ، ولا فائدة من دعوته ] قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين {وقد ورد إن هذا الابن هو الرابع لنوح واسمه (يام) ،وكان كافراً أما الأبناء الثلاثة الآخرون فكانوا مسلمين .
( ورد عند الترمذي بسند لا بأس به ……).(12/238)
ومن نوح إلى أبي الأنبياء إبراهيم( صلى الله عليه وسلم ص )،وقد شهدت آيات القرآن في غير موضع على محاولات إبراهيم ( صلى الله عليه وسلم ص) في دعوة أبيه إلي الحق، والترغيب مرة ، والترهيب أخرى، معاطفة النبوة حيناً، وتأكيد حقوق الأبوة حيناً، ويعرض الحجج، والبراهين ، واستخدام كل وسيلة ممكنة في الحوار..ولكن دون جدوى، وظل الابنُ البار يستغفر لأبيه ] وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدوُُ لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم{ (التوبة /114).
ومن بعد إبراهيم ( ص صلى الله عليه وسلم ) جاء الثناء في القرآن على إسماعيل ( ص صلى الله عليه وسلم ) عدة خصال كان من بينها اجتهاده في الدعوة، والنصح لأهله ] وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة…{ومن أنبياء بني إسرائيل تشير إلى موسى ( صلى الله عليه وسلم ص) الذي سأل ربه أن يجعل له وزيراً من أهله على تبليغ الخير والذكر والشكر لله] هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً { (طه /30 _34)
إنها سير الأنبياء تؤكد الدعوة في العشيرة و الأقربين .
أما محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ، والذي كانت رسالته عامة للناس أجمعين، فقد أمر بدعوة العشيرة و الأقربين ]وأنذر عشيرتك الأقربين{ (الشعراء /214)
وقد امتثل رسول الهدى ( ( صلى الله عليه وسلم ر الأمر، وقام بالمهمة خير قيام، أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: (( قام رسول الله( صلى الله عليه وسلم ص )حين أنزل الله ] وأنذر عشيرتك الأقربين{ قال يا معشر قريش _ أو كلمة نحوها – اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً ، يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً ، ويا صفية عمة رسول الله( صلى الله عليه وسلم ص ) لا أغني عنك من الله شيئاً ، ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئاً )) ( الصحيح مع الفتح 8/501ح4771)
وفي رواية أخرى عند الطبراني من حديث أبي أمامة أن رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )حين نزلت عليه الآية جمع بني هاشم، ونساءه وأهله فقال يا بني هاشم اشتروا أنفسكم من النار،واسعوا في فكاك رقابكم،يا عائشة بنت أبي بكر، يا حفصة بنت عمر، يا أم سلمة….الخ ) وهذه القصة- إن صحت – دلت على تكرار عرضه ودعوته لأهله وعشيرته – من جانب – ودلت على تأخر هذه القصة الأخيرة – حتى حضرت نساؤه – من جانب آخر – ( انظر الفتح8 /502 ).
ويضيف ابن اسحاق في روايته أن المدعوين كانوا أربعين – يزيدون قليلاً أو ينقصون – وأنه صنع لهم شاة على ثريد وقعب لبن .. ( الفتح 8/503).
عباد الله ولم تكن دعوته ( صلى الله عليه وسلم ص) لأهله وعشيرته لتمر دون مشقة أو أذى ، وهو الرسول المبلغ عن ربه – ويكفيك أن تعلم رد ( عمه أبي لهب ) ، حين سخر منه ومن دعوته قائلاً (تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا، فنزلت الآية ] تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب { (صحيح البخاري ح 4770)أجل إن الاهتمام بدعوة العشيرة الأقربين في القرآن ، وسير الأنبياء عليهم السلام مؤشر إلى أهمية ومكانة الأسرة في دين الله، فهي محل عناية الإسلام ، وهي في المجتمع المسلم ذات مكانة تنفرد بها عن سائر المجتمعات الأخرى.
حيثيات دعوة العشيرة
وهنا يرد السؤال :
دعوة الأقربين لماذا ؟ لماذا نتحدث عن دعوة العشيرة ؟
هناك عدة أمور، وحيثيات تؤكد الدعوة في العشيرة ومنها:
1) لأن ذلك جزء من الدعوة المأمور بها شرعاً، والمثاب عليها ] ادع إلى سبيل ربك {،] ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً {، ]ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون {
2) ولأنها حق من حقوق الأقربين.. أو ليست صلتهم مشروعة ؟
إن من أعظم صلة الأقربين بيان الخير لهم، ودعوتهم إليه ، وتحذيرهم من الشر ، ومنعهم من الوقوع فيه.
3) ولأنها أمر إلهي لرسوله ( صلى الله عليه وسلم ] (وأنذر عشيرتك الأقربين{ ، وإذا جاء الأمر لمن أرسل للناس كافة بدعوة عشيرته الأقربين ، فكيف بغيره ، ومن المعلوم أن الخطاب لرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ص ) - في الغالب – خطاب لأمته من بعده .
4) بل الدعوة للأقربين منهج للأنبياء السابقين ، عاشوا همها ، ومارسوا وسائلها ، وعالجوا بالدعوة أقاربهم ، ولم يكلفوا بهدايتهم ، ولا يضيرهم إ ن لم يستجيبوا لهم ، فالمهمة الكبرى هي البلاغ ، والدعوة حصلت لهم ، وفي قصة (نوح ) ، أو( إبراهيم) ، أو (إسماعيل) ، و (محمد صلى الله عليهم وسلم ) ، أو غيرهم ما يؤكد دعوة الأقربين.
5) وهي كذلك لاتباع المرسلين الذين ما فتأوا يدعون قومهم ،وعشائرهم حتى وإن نالهم من الأذى ما نالهم ، وفي قصة (مؤمن آل فرعون ، أو صاحب ياسين ، أو جيل الصحابة ، ومن تبعهم بإحسان ما يؤكد الدعوة إلى العشيرة الأقربين.
6) والحاجة تدعوا ، والواقع يشهد بالضعف في هذا الجانب فكم من داعية ، أو خير يفيد الناس ، ونفعه لأسرته أقل ، وكم من غني يهتم بالفقراء ، وقد يكون في أسرته من هو أحوج ، وقد يوجد في العائلة شيخ كبير له مكانته، أو طالب علم له أثره، أو داعية له حضوره في المجتمع – وقد لا تحس لهذا ، أو ذاك أثراً في عشيرتهم ، ولا تسمع لهم ركزاً في الأقربين منهم ؟
والأمر أخطر حين تظهر في بيوت الدعاة ، أو طلبة العلم ، أو الخيرين عموماً من المنكرات ما قد يُجاهد العامة ألا تقع في بيوتهم .(12/239)
إن مما يعيب الداعية أن يتحدث بالأمر من أمور الخير ، وتكون عشيرته الأقربون أحوج الناس إليه ، وأقل تطبيقاً له ، أو يحذر عن شر قد تكون عائلته أكثر وقوعاً فيه، وكم رزيء الدعاة بأبناء، أو بنات، أو أخوة وأخوات، أو أهل لم يكونوا بمستوى التزام الآخرين، فضلاً عن أن يكونوا بمستوى ما يريده الدعاة للناس من حولهم.
نعم إن الهداية بيد الله – ولكن هل فعلت الأسباب المشروعة ؟
إن اللوم على الداعية إذا انشغل بهداية الآخرين وأهمل الأقربين ] و الأقربون أولى بالمعروف {.. فالانشغال غير مبرر، والاعتذار بالتقصير لا يكفي .. بل لابد من خطوات عملية تؤكد العناية بدعوة العشيرة و الأقربين وتستجيب لقوله تعالى ]يا أيها الذين آمنوا قو أنفسكم و أهليكم ناراً {
7) وثمة أمر آخر في دعوة العشيرة و الأقربين قال عنه ابن حجر: والسر في الأمر بإنذار الأقربين .
أولاً : إن الحجة إذا قامت عليهم تعدت إلى غيرهم وإلا فكانوا علة للأبعدين في الاقتناع .
ثانياً: ان لا يأخذه ما يأخذ القريب للقريب من العطف والرأفة فيحابيهم في الدعوة و التخويف، فلذلك نص على إنذارهم. (الفتح 8/503)
8) ولمكانة الأسرة في الإسلام واستمرار هذه المكانة وارتباطها بالدعوة للخير والنهي عن الشر، فالدعوة في الأسرة ضمانة لمسيرة الخير في الأسر، وحمايتها من المخاطر والعواصف التي تخلخل بنيانها أو تُصدع شيئاً من جدرانها.وبالشر تعرف قيمة الخير، وبالضد يُعلم مكانة الضدَّ.
ودعونا نستقرأ أحوال الأسرة خارج دائرة الإسلام وخارج محيط المسلمين لنرى ما آلت إليه الأسرة من فساد وانحراف وتفكك رغم توفر الحريات والشهوات، ولكن أبى الله إلا أن يُذل من عصاه وشاء الله وقدَّر أن تكون السعادة الحقة لأهل الإيمان لا في الحياة الآخرة فحسب ، بل وفي الحياة الدنيا، وهذا جزء من معنى قوله تعالى: ] إن الأبرار لفي نعيم {.
فقد قرر أهل العلم أن نعيم الأبرار في الدنيا مقدمة لنعيمهم في الآخرة.
وصدق الله ]أم حسب الذين اجتر حوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون { (الجاثية /21).
لغة الأرقام تتحدث
وتعالوا بنا لنطل – ولو يسيراً – على المجتمع الغربي، ونقرأ بلغة الأرقام ما وصلت إليه الأسرة عندهم.
تقول إحدى الإحصائيات : تشكل الأسرة الطبيعية ( من أب وأم وأولاد ) 58 % فقط من مجموع الأسر، والأسرة القائمة على التبني 16 % ، والأسرة التي تقوم وجود امرأة دون وجود رجل 21% ، والأسرة التي يقف على رأسها رجل دون امرأة 5, 2 %، بينما يشكل هيكل خامس تسمية الدراسة الإحصائية بـ ( الهيكل الآخر ) نسبة 2,7%من الأسر الأمريكية .
وتقول الإحصائيات : إن معدل الجريمة في الولايات المتحدة عام 1987م وصل 5, 13مليون جريمة ، وارتفع بعد سنتين ليصل إلى 14,25مليون جريمة عام 1989م
( مجلة المجتمع 10/2/1415 ).
ولهذه الإحصائيات المروعة ، ومثيلاتها انطلقت الصيحات المحذرة من أرض الوباء ، تحذر ، وتنذر ، وتدعوا الآخرين للتمسك بقيمهم ، حتى لا يصلوا لمثل هذه الهاوية.
تقول صحيفة أمريكية (هليسيان سنا نسبرى ) بعد زيارة قامت بها للقاهرة ، أن المجتمع العربي المسلم مجتمع كامل وسليم ، ومن الخليق بهذا المجتمع أن يتمسك بتقاليده التي تحكم حرية الفتاة ، وتمنع الاختلاط ، أن الحرية التي أعطيناها لفتياتنا ، وأبنائنا قد جعلت منهم عصابات أحداث ، وعصابات للمخدرات و الرقيق ، وإن الاختلاط ، و الإباحية ، و الحرية في المجتمع الأوربي ، والأمريكي قد هددت الأسرة ، وزلزلت القيم والأخلاق .
( مجلة المجتمع الكويتية 26/1/1415 هـ ، عن الجدران المتصدعة للكاتب : عبد الناصر محمد مغنم ص8 ).
ولنا بعد هذا أن نفهم السر؟ هنا قد يطرأ سؤال ما سر تصدير الغرب الكافر لنا طروحات إفساد المرأة وتقويض بنيان الأسرة .. عبر عدة وسائل في:
( أ ) المؤتمرات ، و الندوات وما مؤتمر الإسكان في القاهرة ، ومؤتمر المرأة في بكين- إلا نماذج صارخة لتصدير هذه الزبالات .
(ب) وعبر وسائل الإعلام – ولا سيما في عصر القنوات الفضائية ، و شبكات الإنترنت ( العنكبوتية ) وغيرها من الوسائل .
إنها محاولات لنقل الداء من بيئته الأصلية إلى بيئات أخرى ، وهم يشعرون أنهم مهددون بالخطر ، والانقراض إذا ما استمر وضعهم ، ويشعرون كذلك أن بقاء الأسرة محافظة متماسكة البنيان في المجتمعات الإسلامية – بالذات ، خطر يهددهم مستقبلاً ، ويحاولون بدل أن يصلحوا من أحوالهم أن يفسدوا ما صلح عند الآخرين.. وذلك أحد الوجوه الكالحة للحضارة الغربية ؟
عودة للموضوع
وقد يقول قائل ، و ما علاقة الحديث عن الأسرة في الغرب بالحديث عن دعوة الأقربين عندنا ؟
أقول لنؤكد أهمية الدعوة في العشيرة و الأقربين، فذلك بإذن الله وسيلة لاستمرار الأسرة متماسكة فاعلة ، والدعوة فيها كذلك ضمانة لمعالجة الظواهر السلبية الطارئة.
فما أصيبت هذه الأسر الغربية بالتفكك والانهيار. إلا حين أطلق لها الحبل على الغارب ، وعاشت حرية مزعومة كانت على حساب القيم والأخلاق.
وكانت هذه الحرية في النهاية طريقاً إلى الهاوية ؟
ونحن بالدعوة للخير والتحذير من الشر ندفع السوء ، ونمنع الفساد ] ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض {فسنة التدافع سنة إلهية كونية.
مميزات وإيجابيات في دعوة الأقربين
وإذا كان للدعوة عموماً مزايا ، وإيجابيات، فثمة مزايا ، وإيجابيات ظاهرة في دعوة الأقربين ، و هذه وتلك تشجع ، وتعين ، و تسهل المهمة للمحتسبين داخل الأسرة.(12/240)
1) سَهلةُ الكُلفة .. فاجتماع الأسرة طبيعي ، وهو من التكرار بحيث لو أمكن استثمار بعضه لكان في ذلك خير كثير ولا يحتاج كغيره إلى إعلان محاضرة ، أو الترتيب لندوة وهكذا ..
2) وهو عام ومتنوع الأفراد .. فالكبير، والصغير ، والذكر ، والأنثى ، والغني والفقير ، والمثقف والعامي كلهم يجتمعون تحت مظلة الأسرة وفي ذلك فرصة للدعوة في هذه الأوساط كلها ، ونشر الخير الذي أمر الله أن ننشره.
3) ولغة الخطاب فيه أقرب للنفوس ، وأدعى للاستجابة إذ أن المتحدث يتحدث فيه عن قرب يعرف نفسيات ، وأحوال المخاطبين غالباً- وبالتالي يحدثهم بما يعرف ويعرفون ، ويركز على ما يحتاجون ، وما هم عنه غافلون ، ومن جانب المستمعين تمثل القرابة فيه عنصراً من عناصر القبول فالمتحدث منهم وهم منه ، وفي النفوس- بشكل عام – ميل لأعضائها ، و عناصرها ، هذا إذا خلت النفوس من الحسد ، و الشحناء ، و تلك مهمة ينبغي على المتحدث أن يرعاها ، ويعالج ظواهرها الأولية .
4) ودعوة العشيرة فرصة لتحريك الطاقات الكامنة في أفراد الأسرة – والتي قد يمتنع قيادُها على الآخرين – وكم من طاقة في الأسرة فجرت عبر لقاءات الأسر وتقاربها.
5) ويمكن أن يتم في لقاءات الأسرة تفعيل الشباب ، والفتيات والأغنياء ، وأصحاب الطاقات ، وذلك عبر تخصيص ملتقيات متناغمة متفقة في الأعمار، أو الأفكار، أو الاهتمامات.
6) وثمة نساء – في العوائل – مقطوعة الصلة بالمجتمعات الأخرى ، إذ قد لا تحضر محاضرة عامة ، ولا تستمع إلى شريط نافع ، وقد تكون أمية لا تقرأ ، ولا تكتب ، وفي لقاء العائلة فرصة لتوعية هذا الصنف من النساء ، ومن على شاكلته من الرجال – إن وجد –
بل يمكن ذلك عن طريق الدعوة في البيت – وهي أحد روافد الدعوة العائلية – كما سيأتي البيان –
7) وحين ينجح الخيرون في الإمساك بزمام القيادة ، والتوجيه في أسرهم فإن ذلك مؤهل لأن يصبحوا أصحاب الوجاهة ، والرأي في أسرهم مستقبلاً.
8) وفي دعوة العائلة دعوة للمجتمع كله إذا سرت الدعوة في الأسر، وهل المجتمع في النهاية إلا مجموعة من الأسر.
نماذج من السيرة في دعوة العشيرة
إخوة الإسلام ، وحين نعي أهمية الدعوة في العشيرة ، ونذكر نماذج من دعوة الأنبياء عليهم السلام للأقربين ، ونعرض لحيثيات ومميزات ، و الإيجابيات للدعوة داخل محيط الأسرة.
فمن المهم أن نستكمل ذلك بذكر نماذج من السيرة النبوية تؤسس ، وتؤنس ، وتهدي ، وترشد كيف لا والإمام لهذه الدعوة في العشيرة ، والمرشد لهؤلاء الصحابة في الدعوة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ؟
ثم نقف على أبرز المعالم المضيئة للدعوة في العشيرة:
1- ودعوني أبدأ هذه النماذج – في دعوة العشيرة – لسيد ( الأوس) الذي اهتز لموته عرش الرحمن، فقد كان (لسعد بن معاذ) رضي الله عنه في دعوة قومه شأن وأي شأن. روى ابن اسحاق: لما أسلم سعد عاد إلى قومه ( بني عبد الأشهل ) فقال : يا بني ( عبد الأشهل )كيف تعلمون أمري فيكم ؟ قالوا : سيدنا وأفضلنا رأياً ، وأيمننا نقية قال: فإن كلام رجالكم ، ونسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله ، قال فو الله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ، ولا امرأة إلا مسلماً ، أو مسلمة.. [ رواه ابن اسحاق بسند حسن ولكن مرسل ، فهو موقوف على عبد الله بن أبي بكر وعبد الله بن المغيرة بن معيقب ، انظر بن هشام 2/ 88 – 90 ، سير أعلام النبلاء 1/ 280، ومهدي في السيرة247 ].
2- أيها العظماء .. أيها الزعماء في عشائرهم ، ثم أُثني بسيد دوس و مطاعِها ، و عظيمها (الطفيل بن عمرو) الدوسي (رضي الله عنه) فمنذ أسلم (الطفيل ) كان همه دعوة قومه إلى الإسلام – حتى و إن كلفه ذلك فوات مشاهد فاضلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مرويات السيرة أنه حين قدم على دوس أتاه أبوه فقال له: إليك عني فلست منك ولست مني ، قال: وما ذاك ؟ قال: أسلمت ، وتبعت دين محمد ، فقال : أي بني ديني دينك ، وكذلك أمي فأسلما. وفي رواية ( فأسلم أبوه ولم تسلم أمه )
ذكرها بن حجر عن الكلبي ( الفتح 8/102 ) وفي أخرى أنه عرض الإسلام على زوجته فأسلمت واغتسلت. ( الطبقات الكبرى 4/238،239 ).
(يقول الطفيل رضي الله عنه : ثم دعوت دوساً إلى الإسلام فأبت عليَّ وتعاصت ، ثم قدمت على رسول الله (ص صلى الله عليه وسلم ) فقلت غلب على (دوس) الزنا والربا فادع عليهم ، فقال:( اللهم اهد دوساً ) ثم رجعت إليهم ، وهاجر رسول الله( صلى الله عليه وسلم ) فأقمت بين ظهرانيهم أدعوهم إلى الإسلام ، حتى استجاب منهم من استجاب ، وسبقتني ( بدر ، و أحد ، والخندق ) يعني لم أشهدها – ثم قدمت بثمانين ، أو تسعين أهل بيت من دوس ، فكنت مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم )حتى فتح مكة – فقلت يا رسول الله ابعثني إلى ذي الكفين صنم (عمروبن حممة) حتى أحرقه ، قال: أجل فاخرج إليه فجعلت أوقد عليه النار، ثم قدمت على رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) فأقمت معه حتى قبض…) .( انظر ابن هشام 1/382 ،وابن سعد: الطبقات 4/238 ، ابن عبد البر: الاستيعاب 5/224،الذهبي: السير 1/346 ) وفي رواية أن صنم ذي الكفين كان ( للطفيل) ، فلما أحرقه بان لمن بقي ممن تمسك به من قومه أنه ليس على شيء فأسلموا جميعاً. ( ابن سعد: الطبقات 4/240 )(12/241)
وفي صحيح البخاري باب قصة دوس و ( الطفيل بن عمرو الدوسي ) ، وبه ساق الحديث عن (( أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء( الطفيل بن عمرو) إلى النبي( ص ) فقال: إن دوساً قد هلكت ، وعصت ، وأبت فادع الله عليهم ، (فقال اللهم اهد دوساً وائت بهم ))( الصحيح مع الفتح 8/101ح 4392 ) ولعل ما في كتب السير، والطبقات شرح ، وتفصيل لقصة( الطفيل )مع قومه ومعالجتهم بالدعوة والدعاء حتى دخلوا في الإسلام.
3- أيها المؤمنون أما النموذج الثالث فيمثله ( أبو ذر الغفاري ) رضي الله عنه، وفي قصته يظهر حرص النبي( صلى الله عليه وسلم ) على دعوة العشيرة ، وتوظيف الرجال في دعوة قومهم ، كما يظهر فيها جدية الصحابة في الدعوة واستجابتهم للأمر ، ويظهر فيها من جانب ثالث نموذج لاستجابة العشيرة للدعوة ، بل وتأثر القبائل المجاورة ، وانتفاعهم بدعوة الخير .. ودونكم هذه المعاني كلها في الرواية – في صحيح مسلم – لإسلام أبي ذر ودعوة قومه حين قال له النبي (ص صلى الله عليه وسلم ) ( هل أنت مبلغ عني قومك، عسى الله أن ينفعهم بك ويأمرك فيهم ) قال أبو ذر : فأتيت ( أنيساً ) ( أخي ) فقال: ما صنعت ؟ قلت: صنعت أني أسلمت وصدقت قال : مابي رغبة عن دينك فإني قد أسلمت وصدقت، فأتينا أمَّنا، فقالت: ما بي من رغبة عن دينكما ، فإني قد أسلمت، وصدقت، فاحتملنا حتى أتينا قومنا ( غفاراً) فأسلم نصفهم ، وقال نصفهم : إذا قدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ص ) المدينة أسلمنا ، فقدم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) المدينة ، فأسلم نصفهم الباقي ، وجاء ( أسلم ) فقالوا يا رسول الله: إخوتنا نُسلم على الذي أسلموا عليه ، فأسلموا فقال: رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( غفار غفر الله لها ، وأسلم سالمها الله ) ( صحيح مسلم ح 2473،4/ 1922) .
4- أيها الدعاة في عشائرهم وقد بلغ الحرص ، والتضحية في سبيل دعوة الأقربين عند هؤلاء الصحابة بأن باعوا أنفسهم لله ، وبلغوا منازل الشهداء حين قضوا نحبهم في سبيل الله هذه الغاية النبيلة.
و ( عروة بن مسعود الثقفي ) (رضي الله عنه .. شبيه صاحب ياسين ، وأحد الأكابر في قومه، وبه شبه من عيسى ( صلى الله عليه وسلم ر) ، كما في رواية مسلم حين عرض الأنبياءُ على محمد ( صلى الله عليه وسلم ص )- نموذج لهذه التضحية أخرج الحاكم – بسند حسن – أن عروة حين أسلم استأذن رسول الله ( e ) أن يرجع إلى قومه، فقال له:إني أخاف أن يقتلوك قال: لو وجدوني نائماً ما أيقظوني ، فأذن له رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ، فرجع إلى قومه مسلماً ، فقدم عليهم عشاءً فجاءته ثقيف فدعاهم إلى الإسلام فاتهموه ، و عصوه ، و أسمعوه ما لم يكن يحتسب ، ثم خرجوا من عنده حتى إذا أسحروا، أو طلع الفجر قام عروة في داره فأذن بالصلاة وتشهد ، فرماه رجل من ثقيف بسهم فقتله، فقال رسول الله( صلى الله عليه وسلم ) : ( مثل عروة مثل (صاحب ياسين) ، دعا قومه إلى الله تعالى فقتلوه ) ( المستدرك 3/ 615، 616 وسكت عنه الذهبي ) وحسنها ( الشنقيطي ) في كتابه : الدعوة إلى الله صـ99 – وأضاف عليها أن عروة قال: حين أرادت عشيرته أن تثأر له – لا تقتلوني فقد تصدقت بدمي على صاحبه لأصلح بينكم ، فهي كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله لي.. ثم قال فإذا أنا مت فادفنوني مع الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله (ص ) قبل أن يرتحل عنكم.. وأشهد أن محمداً رسول الله وقد أخبرني بذلك..))
5- يا أخا الإيمان ويا من هو كلف وحريص على دعوة الأقربين أختم لك هذه النماذج بأحد أدعية العلم، حافظ السنة للأمة وناقلها ومبلغها عن محمد( ص ) ، الغلام الدوسي ، والبار بأمه ، أبي هريرة رضي الله عنه ، وخبره وقصته في دعوة أمه جاءت في صحيح مسلم وغيره ، (( حيث قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً فأسمعتني في رسول الله (ص ) ما أكره ، فأتيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ص ) ، وأنا أبكي، قلت يا رسول الله: إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليَّ فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره فادع الله أن يهدي أم (أبي هريرة ) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اللهم اهد أم أبي هريرة ) فخرجت مستبشراً بدعوة نبي الله( صلى الله عليه وسلم ص ) ، فلما جئت فصرت إلى الباب فإذا هو مجاف، فسمعت أمي خشف قدمي، فقالت : مكانك يا أبا هريرة – و اغتسلت وقالت أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمداً رسول الله، فأتيت رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) وأنا أبكي من الفرح، قال فقلت: أبشر قد استجاب الله دعوتك وهدى الله أم ( أبي هريرة) ، فحمد الله وأثنى عليه وقال خيراً )) ( صحيح مسلم ح 2491 ح4/1939 ).
معاشر السامعين إنها نماذج- في دعوة العشيرة و الأقربين تستنهض الهمم ، وتقوي العزائم ، وتؤكد أهمية الأمر ، تستسهل الصعب ، وتمثل الطموح، وتشهد على علو الهمم ، والأثر الخالد في الأسرة والعشيرة ، والقبيلة. أجل إن أثراً يحتفي به التاريخ منذ ما يزيد على ألف وأربعمائة عام ، لجدير بالوقفة ، والتأمل والاهتمام ، وكم نحن بحاجة على امتداد الزمان ، واختلاف المكان ، إلى نوعية كهذه النماذج تضيء الطريق للسالكين ، تحرس الفضيلة في الأسرة ، وتوصد الأبواب أمام المتسللين لنشر الرذيلة ، تشجع الخير، وتبعث الأمان ، وتقاوم الشر ، وتسد أبواب الفتن ، وتحذر من آثار المغريات ، ولسان أصحابها يقول:
]يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد { ، ]يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار {. ( غافر/ 38،39 )
معالم مضيئة في دعوة العشيرة والقبيلة(12/242)
وحين نذكر هذه النماذج من السيرة ، والنماذج قبلها من المرسلين ، وأتباعهم في دعوة الأقربين نتوقف هنيهة لنخطف بعض المعالم المضيئة في دعوة العشيرة لتنير لنا الطريق، ونتيح الفرصة لكل من وقف ، أو استمع إلى النماذج لاستخراج معالم أخرى .
ومن هذه المعالم :
1) حسن الأدب، وجمال العبارة في الدعوة ] يا بني اركب معنا { ،] يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن { ، (( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون )) ، ] يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين { .
2) الصدق في الدعوة وبيان الحق للمدعوين . ] يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سويا { .
]يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون {. ] وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع و إن الآخرة هي دار القرار { .
3) التخويف من عذاب الله وبأسه ، وتغير الحال ، وسوء العاقبة :
]يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا {
]وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود، والذين من بعدهم ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد { . ( غافر29- 33).
وقال ( صلى الله عليه وسلم ص ) - يا (عباس) – يا (صفية) ، ويا( فاطمة) .. لا أغني عنكم من الله شيئاً.
4) الصبر في ذات الله ، وتحمل الأذى.. فرسول الله ( صلى الله عليه وسلم ص) أساءت إليه عشيرته حين دعاهم وقال (أبو لهب) قولته الآثمة (( تباً لك ألهذا جمعتنا..)) ومع ذلك صبر وأصر على دعوتهم حتى هدى الله منهم من شاء الله له الهداية ، ومن أصحابه من استشهد ، وهو يدعوا عشيرته للإسلام، بل ومن الأنبياء السابقين من كُذب أو قتل .
5) عدم اليأس من الاستجابة.. فنوح عليه السلام دعا ربه مستفهماً عن حال ابنه- بعد الغرق- ] إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين { .وما كف حتى قيل له : انه ليس من أهلك.
و(إبراهيم ) ظل يستغفر لابنه حتى إذا تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ] إن إبراهيم لأواه حليم { ( التوبة ).
و(محمد) صلى الله عليه وسلم ظل يدعوا عمه ( أبا طالب ) ، وهو يحتضر حتى خرجت روحه ولم يسلم ،
و (الطفيل) ظل يعالج قومه حتى استجاب له عدد منهم ، و( أبو هريرة ) بكى من أجل دعوة أمه مرتين.
6) سلاح الدعاء مع الأقربين.. استخدمه الرسول ( صلى الله عليه وسلم ص ) مع دوس فاستجاب له ودعا به ( لغفار فأسلمت ، و طلبه (أبو هريرة ) في الدعاء لأمه فأسلمت.. وعلى الدعاة أن يرفعوا أكف الضراعة لربهم كلما اشتدت عليهم الأحوال أو تلوّم قومهم عن الاستجابة لهم ، ولربما كان الدعاء أقصر الطريق للاستجابة.
7) الكرم والوفاء ، وحسن الخلق .. والكرماء يملكون الناس بكرمهم ، وأصحاب الخلق يأسرون الناس بحسن خلقهم ويضطرونهم للاستماع إلى آرائهم ، و طروحاتهم فليحرص على هذا .
8) ومن المعالم المضيئة – في دعوة العشيرة و الأقربين – أن الدعوة للإسلام والمكوث بين ظهراني العشيرة ، والقبيلة لدعوتهم ، وتوجيههم ضرب من ضروب الجهاد في سبيل الله ، موت الصحابة لأجله شهود المشاهد الفاضلة مع رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ص )ويكفي برهاناً لأهمية الدعوة ، والحرص على هداية العشيرة أن يغيب ( بلال، والطفيل ) رضي الله عنهما عن غزوة ( بدر، وأحد ) بل ويغيب (الطفيل) عن ( الخندق ) كذلك، ولم أقف على لوم رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ص ) لأحد منهم، بل إن (عمر رضي الله عنه ألحق (أبا ذر) بأهل بدر – وإن لم يشهدها – ( الإصابة لابن حجر 11/121،122).
وأين هذا مما يضنون على قبائلهم وعشائرهم بما هو أقل من هذا ؟
9) ومن المعالم استثمار الوجاهة في العشيرة للدعوة لدين الله ، وتعظيم حرماته ، وتوجيه سلطان القبيلة في التحذير عن الحرمات ، والخوف من بأس الله ، فذاك الاستثمار الأمثل .. ولا ينبغي أن تنتهي طموحات أصحاب الوجاهة في القبيلة عند حدود تصدر المجالس ، والرغبة في الأمر والنهي ، أو الظهور في مواطن الفخر ، والخيلاء لأغراض ، ومصالح لا تتجاوز حدود الدنيا.
10) ومن المعالم أن يتحسس الداعية ما في عشيرته من أخطار ، ومخالفات لهدي الإسلام فيعنى بها ، ويحرص علي تخليص قومه منها ، وهذا ( الطفيل) همّه انتشار الزنا والربا في دوس وما زال يتابع ، ويلح حتى كان سبباً في دعوة رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ص )لهداية دوس فكان الدعاء ، وكانت الاستجابة بإذن الله. ( الذهبي :السير1/346 ).
11) ومنها أن الناتج ، والثمرة من دعوة العشيرة ، والقبيلة كبير.. ولك أن تتصور ثمانين بيتاً ، أو يزيدون يسلمون ، ويتحولون من الجاهلية إلى الإسلام ، وأعظم من ذلك القبيلة بأسرها تُسلم بدعوة فرد ، أو أكثر رجالاتها الصادقين المخلصين، بل ويسلم بإسلامها قبيلة أخرى مماثلة لها .
نعم أن هناك فرقاً بين دعوة قوم كافرين للإسلام ، وبين الدعوة في أسر ولد أفرادها ، وعاشوا في الإسلام.. ولكن من الأسر المسلمة إذا اجتاحها الشيطان ، وتكاثرت عليها الفتن ، وتكالب عليها الأعداء، و بدأ الانحراف يخلخل عِقد الأسرة ويصيب رجالها ونساءها ، صغارها و كبارها.. وبات الضعف يسري في الأخلاق ، والقيم – من لهذه الأسر غير الدعاة الناصحين.. وهل يسوغ للناصحين من أبناء العشيرة ، والقبيلة أن يتخلوا عن واجبهم مع الأقربين ، وهم يمارسون الدعوة مع الأبعدين ؟!(12/243)
و إذا أفلح الدعاة السابقون في مقاومة الجاهليات الأولى ، فهل يا ترى يفلح الدعاة اللاحقون في مقاومة مد الجاهلية المعاصرة ؟
ذلك هدف من أهداف سوق هذه النماذج لتذكير الأجيال اللاحقة بجهود الأجيال السابقة ، ولا سيما في محيط العشيرة و الأقربين.
12) وأختم هذه المعالم بالقول إن الاستجابة ليست شرطاً في دعوة الأقربين بل ولا غيرهم وحسبُ الداعي أن يُبلغ ويجتهد ، ويصبر على الأذى ، وعلى الدعاة عموماً أن يوطنوا أنفسهم على تبعات الدعوة ومعالجة النفوس ، وعلى الدعاة في عشائرهم خصوصاً أن يبذلوا وينصحوا ، ومهما شنأهم جيل ، أو أفراد من عشائرهم فسيذكرهم بالخير أجيال ، وأفراد آخرون .. بل يكفيهم ذكرهم في الملأ الأعلى جزاء دعوتهم ، ونصحهم ، والعاقبة للتقوى ، والزبد يذهب جفاء ، وما ينفع الناس يمكث في الأرض ، والذين يخالطون الناس ويصبرون على أذاهم خير من الذين لا يخالطون ولا يصبرون على أذاهم.
ربماقال صاحبي لعلك أطلت الحديث عن الأسرة ، والدعوة في العشيرة و الأقربين .. ولربما كانت الإشارة كافية عن الإطالة ؟
قلت : كلا .. ومهلا يا صاحبي فالأسرة أساس المجتمع ، وهي خلية تفوح عطرا للمجتمع من حولنا ويقتدي بها أسر أخرى في الاستقامة ، أو الانتكاسة لا قدر الله .
والأسرة محضن مهم من محاضن التربية وبوابة كبرىللإصلاح و للإفساد .. أدرك الأعداء ـ مع الأسف ـ حجم موقعها ، وأهمية الأثر فيها ، فباتوا يخططون لتقويض بنيانها ، وإفساد عناصرها ، وباتت الحرب على الأسرة المسلمة ـ خصوصا ـ وللأسر عموما تنظمها هيئات عالمية ويصرف لتخطيط انحرافها أموال ، وطاقات هائلة ، ثم تصاغ هذه الجهود ، والمخططات عبر مؤتمرات أممية ، وملتقيات عالمية وتستخدم وسائل الإعلام ـ بقنواته المختلفة ـ لهذه الحرب الشرسة ، ثم تدون هذه الأفكار والمخططات ، والنتائج للدراسات عبر وثائق تستخدم السياسة العالمية لفرضها .. وتصر الدول الكبرى على المفاوضة للمساعدات للدول الصغرى بقبول هذه الأفكار ، والمخططات مهما كانت غريبة الهوية بعيدة عن هدي السماء ، وما وثيقة الأمم المتحدة عن المرأة ، والأسرة إلا نموذج صارخ ، وحرب مسيسة على الأسرة فهل تستكثر علي ـ والحالة تلك ـ أن أطيل النفس نوعا ما ـ في الحديث عن الأسرة ودعوتها ؟
و سائل وأساليب في دعوة العشيرة و الأقربين
يا أخا الإيمان – وحان الآن الحديث عن الوسائل ، والأساليب – وهي ثمرة هذا الحديث ، وخلاصته ، ودليله ، وأعتذر سلفاً عن الإحاطة بكل ، وسيلة ..وحسبي هنا أن أذكر باثني عشر نوعاً من الوسائل ، وتحت كل نوع منها عدد من الوسائل ، والأساليب ، واللفتات ، والتوجيهات ، وهذه الوسائل هي:
أولاً: وسائل جماعية – وتلك التي يتم فيها نشر الخير ، والتحذير من الشر بشكل جماعي ، وذلك عبر الملتقيات العامة ،كاجتماع الأعياد ، والمناسبات العامة كالزواج ، أو مناسبة دورية للأسرة – أو نحوها .. ومن خلال هذه اللقاءات ، أو بعضها يتم طرح فكرة بناءه ، أو توجيه موعظة نافعة ، أو التنبيه ، والتحذير من فساد ينتشر ، وهكذا .. ومن المهم التركيز على قضايا الإيمان ، والهدف من الوجود في هذه الحياة ، وما بعد الممات .
ثانياً: وسائل فردية يتم اللقاء فيها مع أفراد معينين ، وذلك لنصحهم سراً ، أو مع أفراد يملكون المال ، ويراد لهم التبرع والدعم ، أو مع أصحاب رأي ، وعلم لمشاورتهم في طرح موضوع على الأسرة ، ومدارسته قبل طرحه -
أو نحو ذلك من أغراض اللقاءات الفردية - داخل الأسرة.
ثالثاً: وسائل مقروءة ، وذلك بتوزيع كتاب نافع ، أو مطوية ، أو مجلة خيرة التوجه – أو نحو ذلك مما يوصي بقراءته ، ومن المهم حسن الاختيار لما يوزع.
رابعاً: وسائل مسموعة ، وذلك باختيار شريط نافع ، ومن التجديد – إخراج شريط باسم العائلة يتحدث فيه عدد من أفرادها حول موضوع مهم ، ويتبادل الحديث فيه أهل العلم بعلمهم ، وأهل الخبرة بتجربتهم .. وهكذا مما يخدم الأسرة ، وقد يتجاوز نفعُه إلى أسر أخرى ، وقد يكون ذلك ميداناً لتنافس الأسر في اختيار الموضوعات المهمة ، فقد تختار أسرة موضوع ( الشباب واستثمار وقت الفراغ ) ، وتختار أسرة أخرى ( مخاطر تهدد المرأة والأسرة ، ودور المرأة المسلمة ) ومن المشاريع المقترحة في ذلك إخراج شريط للدعوة بلسان العشيرة يفهم لغته الكبير والصغير ، والمتعلم والعامي ، والمرأة والرجل ، ويركز على تصحيح أخطاء شائعة ، أو ينبه على واجبات مهملة ، ومن هدي القرآن ] وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم {(ابراهيم /4 ) ومن المهم في المقروء ، والمسموع ( عموماً ) أن يكون في اجتماعات الأسرة تنبيه على اقتناء شريط ، أو كتاب نافع ، أو الإخبار عن محاضرة قيمة ، أو نحو ذلك مما يعد من تواصي الأسرة بالحق.
خامساً: مجلة الأسرة ، وهي ذات أثر فاعل لأن الأسرة تشعر بخصوصيتها فيها ، ومن المهم أن يقدم فيها معلومات نافعة عن الأسرة قد لا يعرفها إلا الأكابر ، كما تحمل هذه المجلة التهاني ، والأخبار السارة لأي فرد في الأسرة ، وهي مع ذلك تقدم الكلمة الطيبة والتوجيه النافع ، وتسهم في تقوية أواصر الأسرة ، وتدرب الشباب والفتيات على الكتابة والقراءة .(12/244)
سادساً : وسائل مرئية وذلك عبر شريط الفديو للبرامج المختارة النافعة الهادفة .. ويتأكد الأمر أكثر عند العوائل التي تشيع فيها أشرطة الفديو الهابطة ، ويعكف أبناؤهمـ ، وبناتهم على مشاهدة المسلسلات المنحرفة ، فالبديل الصالح مهم ، وتدريجهم إلى الخير مطلب على أن المرئي – أحياناً – قد يكون صورة مأساوية تحكي أحوال المسلمين ، وتشخص حرب الأعداء ، فتكون الصورة ناطقة ، ومؤثرة بذاتها ، وإن كانت صامتة ، فستنهض الهمم ، وتدعوا للتفاعل الإيجابي.
سابعاً: الملتقيات النوعية ، والخاصة للأسرة.
( أ ) فلقاء ينظم لشباب الأسرة ، يعرف بهم ، ويستفيد بعضهم من بعض ، وقد خطت بعض الأسر في ذلك خطوات إيجابية ، وأدركت أن هذه الملتقيات وسيلة لحماية شباب الأسرة من قرناء السوء ، وهي وسيلة من وسائل التربية ، وعن طريقها يمكن استخراج طاقات الشباب ، واستثمارها داخل الأسرة وخارجها – وقد حُدثت عن عدد من هذه الملتقيات الشبابية الناجحة ، وحدثت عن عدد من الرحلات لشباب الأسرة وقد يصل العدد فيها إلى مائة ، ومن خلالها تنظم البرامج الهادفة ، ويطلع أبناء الأسرة على عدد من المعالم المهمة في مناطق المملكة ، ويلتقون ، ويسمعون إلى غيرهم من أبناء الأسرة ، فيعودون وهم أكثر ألفة وحيوية ، وكذلك تثمر هذه الملتقيات إذا خطط لها وتولى الأمناء الأقوياء قيادتها .
(ب) ويمكن لنساء الأسرة عموماً ، أو لفتياتها أن يلتقين داخل البيوت لقاءات هادفة جماعها الذكر لله ، والتفكير في حماية الأسرة من المخاطر ، وتقديم النموذج الأمثل للمرأة المسلمة ، والتخطيط لبرامج المرأة داخل الأسرة وفاعليتها في الدعوة.
(ج) و لقاء ثالث لأغنياء الأسرة للتعرف ، وتفقد أحوال المحتاجين من أبناء
أسرتهم ، ولدعم المشاريع الخيرية في الأسرة ، فكم من مشروع خير أجهض نتيجة ضعف الدعم له ، وكم من مسابقة ، أوقفت بسبب نقص الموارد المالية.
( د ) ولقاء رابع مهم لطلبة العلم ،والدعاة ، وأصحاب الرأي في الأسرة لاقتراح البرامج المفيدة ، والتخطيط لها، والتفكير المستديم في أحدث الوسائل ، وأنسب الأساليب . تلك ملتقيات إذا تمت، وأحسن العمل لها آتت أكلها خيرا وبركة ، وحماية للأسرة.
ثامناُ: الدعوة في البيوت
وهذا رافد مهم ، ولبنة أولى ، وأساسية في الدعوة في محيط الأسرة ن وكم تشكوا عدد من البيوت من ضعف التوجيه ، وغياب الرقيب ، ووسائل التربية ، ومهما تعلل القيمون على البيوت بالمشاغل فما منهم أحد يبلغ مشاغل ، ومهام معلم الأمة الأول محمد (ص صلى الله عليه وسلم ) ، ومع ذلك كانت له عناية فائقة ببيوته ، وأهله ، يذكر ويحذر ، ويهدي ويرشد ، ويشارك ويعلم – وحسب المسلم أن يقرأ هديه ( صلى الله عليه وسلم ص ) في بيته ومع أهله ليرى العجب، ويدعوه ذلك إلى الاقتداء ، وطرح الكسل.
ومع أهمية التنويع في الوسائل ، والبرامج البيتية ما بين قراءة ، ومسابقة وزيارة ، ورحلة دفعاً للسآمة ، والملل فمن المهم تقديم الأسوة الصالحة ، والتعليم بالسلوك العملي لأفراد الأسرة.
ومن المهم كذلك استدامة التوجيه – ولو كان قليلاً – فالقليل المستمر أولى من العواطف الملتهبة حيناً ، ثم تنقطع .. وبالمناسبة فقد بلغني أن أسرة في بريدة يقيمون حلقة ذكر في بيتهم كل يوم وعلى مدى عشرين عاماً – ولا يزالون – ولها أثر على الأولاد، فأين هذا ممن يستثقلون مرة في الأسبوع ، أو الشهر ، بل وأين هذا ممن تمضي عليهم السنة ولم يجمعهم في البيت مجلس ذكر ؟
على أن مما ينبغي التفطن له تشجيع أبناء الأسر، وبنات الأقربين على حلق تحفيظ القرآن الكريم ، فهي خير معين على صلاحهم ، وتربيتهم بإذن الله.
إن للبيوت لصوصاً لا يسرقون المتاع بل يسرقون ما هو أغلى من الإيمان ، والأخلاق فهل تنتبه لهذه النوعية من اللصوص ، وهل نسهم في إصلاح أُسرنا الكبرى عن طريق بيوتنا الصغرى ؟
تاسعاً : وسائل مرغبة و مشجعة وداعمة لاجتماع الأسرة
تأليف قلوب الأسرة هدف جليل ، وتشجيعهم ، وترغيبهم في الاجتماع الأسري مطلب ملح ، وهناك عدة أمور ، ووسائل يمكن لها أن تسهم في تحقيق ذلك ، ومنها :
¨ هدية النجاح لأطفال الأسرة - فالهدية – مهما كانت – تفتح النفوس ، وتدعو للمحبة ، وفي هدي النبوة (( تهادوا تحابوا )) ، والهدية للأطفال لها وقعها على نفوسهم ، وعلى قلوب أهليهم.
¨ والهدية لحفظه القرآن ، أو بعضه لفتيان ، أو فتيات الأسرة تشجع الآخرين على الحفظ ، وتشعر برعاية الأسرة ، واهتمامها بأفرادها،
¨ طبع دليل للأسرة يحوي أسماء ، وأرقام هواتف أفراد الأسرة فذلك يسهل مهمة الاتصال – لأي غرض – ويعرف الصغار من أبناء الأسرة بأسماء وكنى الكبار – وكل ذلك يسهم في مزيد الصلة ،والاتصال .
¨ إنشاء صندوق للتكافل – داخل الأسرة – يسهم فيه من استطاع من أبناء الأسرة ، ويصرف منه على كل فرد احتاج لدعم الصندوق. فذلك يزيد من ترابط الأسرة ، ويشعر بالتكافل المشروع داخل الأسر.
¨ الاشتراك العائلي الجماعي في إحدى المجلات الإسلامية كذلك يسهم في توعية الأسرة من جانب ، والتأليف بين أفرادها ، ولا سيما إذا كان الاشتراك مجانياً ، أو مخفضاً.
عاشراً : وسائل دعوية صامتة أو غير معلنة
ليست الدعوة – إن في العشيرة ، والأقربين _ أو في سواهم من الأبعدين مقصورة على الوسائل المنطوق بها ، بل وهناك وسائل صامتة ، وقد ينفع الله بها – مثل أو أكثر من غيرها – ومن أمثلتها ، بل وأبرزها –(12/245)
× القدوة الحسنة ، فالناس عموماً يُعجبون بمن يعملون أكثر ما يتحدثون ، ولابد هنا من استشعار تقديم النموذج الأمثل في التعامل ، والخلق ، والبذل ، والإحسان ،والخدمة ، وطيب المعشر .
× الزيارة الخاصة ، أو المهاتفة المشعرة بالتقدير، والمحبة لأي فرد من أفراد الأسرة هي بذاتها أسلوب للدعوة ، ووسيلة للترابط ، والمحبة.
× إصلاح ذات البين ، والسعي – قدر الإمكان – لإزالة جفوة ، أو خلاف بين فردين متخالفين في الأسرة .. كذلك أسلوب من الأساليب الفاعلة لا سيما إذا شعر المختلفون بأنها خالصة وغير معلنة .
× كسر الحواجز بين أفراد القبيلة ، وكسب أفراد الأسرة بالوسائل العملية .
حادي عشر : إثارة الرأي وتفعيل الآخرين في الأسرة
من الوسائل المهمة – في دعوة العشيرة – إثارة الرأي العام داخل الأسرة ، أو القبيلة حول قضية تنتشر في الأسرة – أو عند بعض أفرادها – وذلك ليساهم الجميع في النقاش .واقتراح الحلول ، وهنا يُستفاد من كبار السن ، والوجهاء ، والعلماء ، والمفكرين ، والأغنياء وسواهم .. وقد تسهم مثل هذه المشاورات في دفع متكاسل عن الصلاة مثلاً ، أو الإقلاع عن التدخين ، أو تعاطي المخدرات مثلاً .. وهكذا .. مع ملاحظة الأدب في أسلوب الطرح ، وعدم التجريح المباشر للأفراد ، واستثمار سمعه العشيرة ، ومصلحة أفرادها.
ثاني عشر : [ برامج عملية طويلة الأجل مقترحة للأسرة ]
ما مضى من وسائل عاجلة في التنفيذ .. وهنا يمكن اقتراح برامج طويلة الأجل ، وتكون مفيدة للأسرة – طوال مدة القراءة ، أو الإعداد – مثل :
1- اختيار كتاب ، أو فصول من كتاب يرشح للقراءة على مستوى الشباب ، وآخر على مستوى الفتيات ، وهكذا حسب النوعية .. كبار ، أميون ، مثقفون .
2- مسابقة تُعد أسئلتها بعناية ، وتكون شاملة ، أو مركزة على قضية بعينها .. ومن المناسب السؤال عن معلومات في الأسرة قد لا يعرفها البعض ، وهي ذات معان ، أو تاريخ مجيد للأسرة قد لا يعرفه إلا الأكابر من الأسرة ومن المهم تعريف الصغار به.
3- إعداد برامج حولية ، أو شهرية حسب لقاء الأسرة – يعد مسبقاً ، وترصد الجوائز التشجيعية .
4- التشجيع على حفظ الورد ، وأذكار تدعو الحاجة إليها .. ويمكن اختيار نماذج ، وطبعها ، وتوزيعها باسم العائلة .
5- وأهم من ذلك حفظ شيء من كتاب الله – ولا سيما من النساء داخل الأسرة – إذ لا يتوفر لهن فرص حلق تحفيظ القرآن في كل حي كما يتوفر للشباب .
- هذه نماذج للتمثيل لا للحصر.
[ معوقات أو عقبات العمل في الأسرة ]
على رسلك أيها الداعي في العشيرة فلا تتوهم أنك لن تلقى صعوبة أبداً ، بل وطن نفسك على عقبات الطريق ، ودونك هذه الإشارات عن بعض العقبات في دعوة العشيرة ، و الأقربين للعلم بها ، ومحاولة تجاوزها إن وجدت ، أو شيء فيها ، أو غيرها .
نعم أنه قد يعوق العمل الأسري معوقات ، وتقف في طريقه صعوبات ، وهذه نماذج لها :
1)- عدم توفر الأخيار في أسرة من الأسر يُضعف الدعوة في الأسرة _ وهذا إن كان وارداً فهو احتمال ضعيف ، و أكثر منه وجوداً .
2)- ضعف أثر الأخيار ، وعدم اهتمامهم ، فتلك المعضلة الثانية ، والتي ينبغي الإسراع في حلها .. ولعل في ما مضى من ذكر للأهمية ، وتأصيل للقضية ، ودواع للحاجة ما يسهم في علاج هذه الظاهرة في أهمية دعوة الأقربين .
3) – قيادة الأشرار .. وهذا كذلك ، و إن لم يكن كثيراً في مجتمعناً – والحمد لله – فهو إن وجد معوق كبير عن الدعوة للخير ، بل قد يكون سبيلاً للدعوة للشر ، وإن تراخي الأخيار عن الأخذ بزمام المبادرة قد يكون سبباً في بروز مثل هذه القيادات السيئة.
4) - القيادة الهوجاء – إذ قد لا يكون القادة للعائلة من ذوي الشر ، لكن يكون فيهم من الصلف والهوج ، والعجلة ، وعدم تقدير الناس ، وإنزالهم منازلهم ، ما يكون سبباً في تفرق الأسر وتشتت العوائل ، بل ربما كان سبباً في القطيعة ، والتباغض .. وينبغي أن يحذر من قيادة هؤلاء ، ليس ذلك فقط ، بل وينبغي حسن التعامل مع هذا الصنف في العوائل حتى لا يصل أثرهم إلى عموم العائلة ؟
5) – التكاليف المادية .. وهذه قد تشكل عائقاً من عوائق اجتماع الأسرة ، إذا كانت الولائم مكلفة ، أو في كل مرة يطلب من أفراد العائلة التبرع لمشروع من المشاريع – ولو كان داخل الأسرة – فيجامل غير القادرين مرة ، ثم ينسحبون في الأخرى ، وهكذا ينفرط العقد ، بسبب التكاليف المرهقة التي قد لا يفطن لها .
6) – كثرة اجتماعات الأسرة ، والإلزام بحضورها ، فالقليل الدائم خير من الكثير المنقطع ، فقد يطالب أفراد من الأسرة – قليل ارتباطهم – باجتماعات كثيرة ، ويلزمون بها ، وقد لا يستطيعها آخرون فتكون سبباً للحديث في إعراضهم مما يسبب الانسحاب ،والانقطاع ، وقد يتبعهم آخرون .
7) - عناصر الهدم – غير المرئية – في الأسرة ، قد تكون أشخاصاً تتحدث في الخفاء عن عدم قيمة اجتماعات الأسر ، قد تكون وسائل ، ومؤثرات أخرى تسهم في عدم النشاط لهذه الاجتماعات ، ومن الخير التفطن لهذه ، وتلك.
توصيات وتنبيهات أخيرة
* هذه الوسائل ، والبرامج نماذج مقترحة وقد يوجد عند عدد من الأسر مثلها ، أو غيرها .. فالعبرة بالعمل النافع لا بتحديد نوع البرامج ، والوسائل .
* ولابد من مراعاة اختلاف الأسر واختلاف البيئات ، والظروف فقد تصلح وسيلة لأسرة ولا تصلح لأخرى ، وقد ينجح أسلوب في مكان ، ولا يصلح في المكان الآخر ، وعلى القائمين على الأسر أن يقدروا ما يصلح ويتناسب لأسرهم ، ويحقق الخير لهم .(12/246)
* لا يعفى أحد من أفراد الأسرة – وهو قادر على العطاء ، والنفع – ولئن جاء الحديث أكثر عن الدعاة ، وطلبة العلم ، فذلك لمزيد مسئوليتهم ، وإلا فقد ينفع الله بجهود عامي في الأسرة أكثر من غيره ، وقد ينفع الله بجهود امرأة أكثر من جهد رجل .. وهكذا فالمسئولية مشتركة – في خدمة الأسرة ، ودعوتها للخير – بين الرجال ، والنساء ، والشباب ، والشيوخ ، والأغنياء ، والفقراء ، والعالمين ، والعوام ] ومن عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها .. { وكلنا يقرأ قوله تعالى : ] وأنذر عشيرتك الأقربين { وكلنا مخاطب بقوله :( ص ) (( بلغوا عني ولو آية )) ، وقوله : (( من رأى منكم منكرأً فليغيره بيده …الخ ))
* ليحرص كل فرد في الأسرة أن يكون عنصر بناء ، ومشعل خير ، وليحذر أن يكون عنصر هدم ، أو سبباً للفرقة والضغينة ، وفرق بين من يؤلف ، ويجمع ، ويهدي ، ويحسن ، وبين من يُفرق ، ويُكدر، ويُسيء ، ويهدم.
* وعلى أصحاب الدعوة في أسرهم ، وعشائرهم أن يتنبهوا ألا تكون هذه الوسائل ، أو شيء منها سبباً للخلاف والفرقة ، فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح .
* ولا تستغرب إذا جاء الحديث مركزاً أكثر على الدعوة في الأسرة ، ولربما كانت الدعوة في العشيرة و الأقربين أقرب الطرق ، وأمثل الوسائل في حماية الأسرة ، بل وفي تفعيل أفرادها ، واستثمار طاقاتها في الخير ، والدعوة لدين الله . لقد قلت من قبل ، وأقول اليوم إن الرهان قائم على الأسرة إصلاحاً ، أو إفساداً بين المسلمين ، وبين أعدائهم ، وكلما غاب المسلمون ، أو غفوا عن التوجيه ، والعناية بالأسرة .. كلما تسلل الأعداء ، وأفسدوا ، وحققوا ما يريدون ، أو بعضه .. فهل ندرك شراسة الهجمة على الأسرة ؟ وهل نقاوم هذا المد المفسد بالدعوة ، والإصلاح ؟
* وتنبيه أخير أن هذه الخطبة ، وما سبقها دعوة ، وتذكير ، ودعوة للأسر التي لم تتنبه لهذا الأمر بعد أن توليه ما يستحق من العناية ، وتذكير للأسر التي خطت في هذا الطريق خطوات أن تستمر وتتجدد ، وأن تنقل تجاربها الناجحة للآخرين – إن طوفان الفساد جارف ، وإن معدلات الجريمة مرتفع ، والدعوة في الأسرة ، و الأقربين خير معين للجهات الحكومية المعنية بالدعوة ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والجهات المعنية بمكافحة الجريمة ، والحفاظ على الأمن .. وبالتالي فمهمة الدعوة في الأسرة مسئولية الأفراد ، والجهات الحكومية ، ورجالات العلم ، والدعوة ، والمفكرين .. إنها مسئولية المؤسسات العلمية ، والتربوية ، والإعلامية – إنها مسئوليتنا جميعاً حتى لا تغرق السفينة ، إننا أمة خير ، وفي مجتمعنا ، وأسرنا خير والحمد لله لكن لا بد من فعل الأسباب ، ولابد من معرفة قوارب النجاة ، ومن تذكر فإنما يتذكر لنفسه.
===============
فتنة مسايرة الواقع
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، وبعد :
فإن من علامة توفيق الله عز وجل لعبده المؤمن أن يرزقه اليقظة في حياته الدنيا ؛ فلا تراه إلا حذراً محاسباً لنفسه خائفاً من أن يزيغ قلبه ، أو تزل قدمه بعد ثبوتها ، وهذا دأبه في ليله ونهاره يفر بدينه من الفتن ، ويجأر إلى ربه عز وجل في دعائه ومناجاته يسأله الثبات والوفاة على الإسلام والسُّنَّة غير مبدل ولا مغير .
وإن خوف المؤمن ليشتد في أزمنة الفتن التي تموج موج البحر والتي يرقق بعضها بعضاً ، وما إدخال زماننا اليوم إلا من هذه الأزمنة العصيبة التي تراكمت فيها الفتن ، وتزينت للناس بلبوسها المزخرف الفاتن ، ولم ينج منها إلا من ثبته الله عز وجل وعصمه . نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم .
وأجدها فرصة أن أتحدث عن فتنة شديدة تضغط على كثير من الناس فيضعفون أمامها ، ألا وهي فتنة مسايرة الواقع وضغط الفساد ومسايرة العادات ، ومراعاة رضا الناس وسخطهم ، وهي فتنة لا يستهان بها ؛ فلقد سقط فيها كثير من الناس وضعفوا عن مقاومتها ، والموفق من ثبته الله عز وجل كما قال تعالى : (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وفِي الآخِرَةِ ) [إبراهيم : 27] .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن هذه الآية : ( تحت هذه الآية كنز عظيم ، من وفق لمظنته وأحسن استخراجه واقتناءه وأنفق منه فقد غنم ، ومن حرمه فقد حرم ) [1] .
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال له ربه تبارك وتعالى : ( ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) [الإسراء : 74] فسواه من الناس أحوج إلى التثبيت من ربه تعالى ، وفي هذا تأكيد على أهمية الدعاء وسؤال من بيده التثبيت والتوفيق وهو الله سبحانه وتعالى .
ذكر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع والتقليد الأعمى :
إن فتنة مسايرة الواقع والتأثر بما عليه الناس لتشتد حتى تكون سبباً في الوقوع في الشرك الموجب للخلود في النار عياذاً بالله تعالى؛ وذلك كما هو الحال في شرك المشركين الأولين من قوم نوح وعاد وثمود والذين جاؤوا من بعدهم من مشركي العرب ، فلقد ذكر لنا القرآن الكريم أنهم كانوا يحتجون على أنبيائهم عليهم السلام عندما واجهوهم بالحق ودعوهم إلى التوحيد وترك الشرك بأنهم لم يسمعوا بهذا في آبائهم الأولين ، وكانوا يتواصون باتباع ما وجدوا عليه آباءهم ويحرض بعضهم بعضاً بذلك ويثيرون نعرة الآباء والأجداد بينهم . وسجل الله عز وجل عن قوم نوح عليه الصلاة والسلام قولهم : (مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ ) [المؤمنون : 24] .(12/247)
وقال تعالى عن قوم هود : ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وحْدَهُ ونَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) [الأعراف : 70] ، وقال تبارك وتعالى عن قوم صالح : (قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُواً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ) [ هود : 62] .
وقال سبحانه وتعالى عن قوم فرعون : ( قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ) [يونس : 78] ، وقال عن مشركي قريش : ( وإذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ) [البقرة : 170] والآيات في ذلك كثيرة ، والمقصود التنبيه إلى أن تقليد الآباء ومسايرة ما عليه الناس وألفوه لهو من أشد أسباب الوقوع في الكفر والشرك ، وقد بين الحق للناس ؛ ولكن لوجود الهوى وشدة ضغط الواقع وضعف المقاومة يُؤْثِرُ المخذول أن يبقى مع الناس ، ولو كان يعتقد أنهم على باطل وأن ما تركه وأعرض عنه هو الحق المبين ، وإلا فما معنى إصرار أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يموت على عقيدة عبد المطلب الشركية مع قناعته بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله والحق معه لولا الهوى ومسايرة ما عليه الآباء وخوفه من مصادمتهم وتضليلهم ؟ نعوذ بالله تعالى من الخذلان .
وإذا جئنا لعصرنا الحاضر وبحثنا عن أسباب ضلال علماء الضلال الذين زينوا للناس الشرك والخرافة والبدع الكفرية رأينا أن من أهم الأسباب مسايرتهم للناس، وميلهم مع الدنيا ومناصبها، وظنهم أنهم بمصادمة الناس سيخسرون دنياهم وجاههم بين الناس، فآثروا الحياة الدنيا على الآخرة، وسايروا الناس مع اعتقادهم ببطلان ما هم عليه، وكذلك الحال في سائر الناس المقلدين لهم في الشرك والخرافة والسحر والشعوذة لو بان لأحدهم الحق فإنه يحتج بما عليه أغلب الناس، فيسير معهم ، ويضعف عن الصمود أمام باطلهم إلا من رحم الله من عباده الذين لا يقدِّمون على مرضاة الله تعالى شيئاً، ولا يتركون الحق لأجل الناس، ولا يسايرونهم على ما هم عليه من ضلال وفساد؛ بل يتذكرون قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من التمس رضا الله في خط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس في سخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ) [2] .
والأصل في مسايرة الناس على ضلالهم وتنكبهم الحق هو الهوى المتغلب على النفوس بحيث يطمس البصيرة، حتى ترى المتبع لهواه يضحي بروحه في سبيل هواه وباطله وهو يعلم نهايته البائسة ، ومن كانت هذه حاله فلا تنفعه المواعظ ولا الزواجر كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى : ( فكذلك صاحب الهوى إذا ضل قلبه وأُشرب حبه لا تعمل فيه الموعظة ولا يقبل البرهان ولا يكترث بمن خالفه ) [3] .
أما ما يتعلق بما دون الكفر من فتنة مسايرة الواقع فهي كثيرة ومتنوعة اليوم بين المسلمين، وهي تترواح بين الفتنة وارتكاب الكبائر أو الصغائر ، أو الترخص في الدين، وتتبع زلات العلماء لتسويغ المخالفات الشرعية الناجمةعن مسايرة الركب وصعوبة الخروج عن المألوف، واتباع الناس إن أحسنوا أو أساؤوا . ومَنْ هذه حاله ينطبق عليه وصف الإمَّعة الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه وحذَّر منه ؛ حيث قال : (لا تكونوا إمَّعة تقولون : إن أحسن الناس أحسنَّا، وإن ظلموا ظلمنا ؛ ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا ، وإن أساؤوا فلا تظلموا ) [4] .
قال الشارح في تحفة الأحوذي : (الإمعة هو الذي يتابع كل ناعق ويقول لكل أحد أنا معك ؛ لأنه لا رأي له يرجع إليه ، تابعاً لدين غيره بلا رؤية، ولا تحصيل برهان ) .
والفتنة بمسايرة الواقع وما اعتاده الناس كثيرة في زماننا اليوم لا يسلم منها إلا من رحم الله عز وجل وجاهد نفسه مجاهدة كبيرة ؛ لأن ضغط الفساد ومكر المفسدين وترويض الناس عليه ردحاً من الزمان جعل القابض على دينه اليوم المستعصي على مسايرة الواقع في جهاد مرير مع نفسه ومع الناس كالقابض على الجمر، ولعل هذا الزمان هو تأويل قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر ) [5] .
وإن مما يعين العبد على هذه المشقة الشديدة والصبر العظيم هو عظم الأجر الذي يناله هذا القابض على دينه المستعصي على مسايرة الناس وضغط الواقع وما ألفه الناس ، ويكفي في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( فإن من ورائكم أيام الصبر . الصبر فيه مثل قبض على الجمر للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله وزادني غيره قال : يا رسول الله أجر خمسين منهم ؟ قال : أجر خمسين منكم ) [6] .
وفيما يلي ذكر بعض الصور لفتنة مسايرة الواقع في زماننا اليوم ، وأخص بها فئة الدعاة وأهل العلم وما يجب أن يحذروه من هذه الفتنة :
إن أهل العلم والدعاة إلى الله عز وجل لمن أشد الناس تعرضاً لفتنة المسايرة ؛ وذلك لكثرة الفساد وتنوعه وتسلط شياطين الإنس والجن على أهل الخير بالإيذاء والوسوسة وتأويل الأمور .. إلخ مما قد يعرض العالم أو الداعية إلى التنازلات والمداهنات إرضاءاً للناس أو اتقاءاً لسخطهم أو رضىً بالأمر الواقع سواء ذلك بتأويل أو بغير تأويل ، وإن سقوط العالِم أو الداعية في هذه الفتنة ليس كسقوط غيره ؛ ذلك أن غيره من عامة الناس لا تتعدى فتنته إلى غيره ، وذلك بخلاف العالم أو الداعية ؛ فإن فتنته تتعدى إلى غيره ؛ لأن الناس يرون فيه القدوة والشرعية .(12/248)
إن الدعاة إلى الله عز وجل وأهل العلم هم نور المجتمعات وصمام الأمان بإذن الله تعالى فإذا وقع منهم من وقع في مسايرة الواقع والرضا بالأمر الواقع فمَنْ للأمة ينقذها ويرفع الذل عنها ؟ هذا أمر يجب أن يتفطن له كل منتسب إلى الدعوة والعلم ، ويتفقد نفسه ويحاسبها ويسعى لإنجاء نفسه وأهله بادئ ذي بدء حتى يكون لدعوته بعد ذلك أثر على الناس وقبول لها عندهم، أما إذا أهمل الداعية نفسه، وسار مع ما ألفه الناس وصعب عليه الصمود والصبر فإن الخطر كبير على النفس والأهل والناس من حوله .
إن المطلوب من الداعية والعالِم في مجتمعات المسلمين هو تغيير المجتمعات وتسييرها إلى ما هو أحسن لا مسايرتها ومداهنتها ، فهذه والله هي مهمة الأنبياء والمصلحين من بعدهم ، وهذه هي الحياة السعيدة للعالِم والداعية ، وإلا فلا معنى لحياة الداعية والعالم ولا قيمة لها إذا هو ساير الناس واستسلم لضغوط الواقع وأهواء الناس .
إن العالم والداعية لا قيمة لحياتهما إلا بالدعوة والتغيير للأحسن ، ولا شك أن في ذلك مشقة عظيمة ؛ ولكن العاقبة حميدة بإذن الله تعالى في الدارين لمن صبر وصابر واستعان بالله عز وجل . وفي ذلك يتحدث أحد الدعاة المخلصين عن رجل العقيدة الذي يسعى لتغيير الواقع وتسييره في مرضاة الله عز وجل وليس مسايرته في مرضاة النفس والناس فيقول : ( وأهم شيء في الموضوع تكوين رجل العقيدة، ذلك الإنسان الذي تصبح الفكرة همه : تقيمه وتقعده ، ويحلم بها في منامه ، وينطلق في سبيلها في يقظته، وليس لدينا بكل أسف من هذا النوع القوي والعبقري ؛ ولكن لدينا نفوس متألمة متحمسة مستعدة بعض الاستعداد، ولا بد للنجاح من أن ينقلب هؤلاء إلى مُثُلٍ قوية تعي أمرها ، وتكمل نقصها ليتم تحفزها الذي ينطلق من عدم الرضا بالواقع والشعور بالأخطار التي تتعاقب ، وينتهي باستجابة لأمر الله ونداءات الكتاب الحكيم ومراقبة وعد الله ووعيده، والتأسي بسيرة الرسول الكريم عليه صلوات الله وسلامه ولا بد لنا من وصف عاجل وتحديد مجمل لرجل العقيدة .
إن السلوك الأول الفطري الذي يأتي به المخلوق إلى هذه الدنيا هو السلوك الغريزي ، وهذا السلوك يظل لدى الإنسان فعالاً مؤثراً حياة المرء كلها .
وفي مجتمع كمجتمعنا لا يليق بشخص محترم أن يحمل حاجاته إلى منزله مع أن ذلك مما يثاب المرء عليه ، وفي مجتمع كمجتمعنا لا بد من التبذير ولا بد من الترف ؛ فالأرائك في المنزل لا يحسن أن تكون من خشب رخيص وفراش بسيط ؛ بل لا بد من المغالاة بأثمانها فهذا تبذير للأموال ووضعها في غير موضعها والتبذير محرم في عرف الشرع ، ولكن سخط المجتمع أكبر عند بعض الناس من الحلال والحرام وقد قال عليه الصلاة والسلام : ( من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ) [7] .
ويتحكم المجتمع في الأزياء تحكُّماً يقارب عبادة الوثن .
كثيرون أولئك الذين يعيشون من أجل رضا الناس والخوف من سخطهم ، لا يستطيعون التفلت من هذه القيود حياتهم كلها ، وهذا المستوى يرتبط بالمستوى الغريزي الأول ؛ ذلك أن الإنسان اجتماعي بفطرته يعيش مع الناس ويحرص على رضاهم .
وقليلٌ أولئك الذين يستطيعون أن يتجاوزوا هذا المستوى، يتخطونه إلى مستوى أعلى هو مستوى العقيدة، فيعيشون لعقيدة ويمضون في سلوكهم بما تملي به عليهم عقيدتهم سواء سخط الناس أم رضوا ، وليس فوق هذا المستوى حين يندفع المرء بوحي عقيدته وإيمانه غير مبالٍ برضا راضٍ أو سخط ساخط ، ليس فوق هذا المستوى مستوى أرفع منه [8] .
من خلال ما سبق بيانه عن رجل العقيدة ندرك أن أبرز صفاته أنه يعيش لعقيدته ويمضي في سلوكه بما تملي عليه هذه العقيدة غير مبالٍ بسخط الناس ولا رضاهم ولا بعاداتهم وتقاليدهم المحرمة، يغير واقع الناس ولا يسايره، يؤثر فيه ولا يتأثر، هذا ما ينبغي أن يكون عليه رجال العقيدة والدعوة والعلم ، ولكن الناظر اليوم في واقع الأمة وما تعرضت له من التبعية والتقليد والمسايرة يجد أن الصفات المذكورة في رجل العقيدة والمشار إليها سابقاً لا تكاد توجد اليوم إلا في فئة قليلة من الداعين إلى الله عز وجل نسأل الله عز وجل أن يبارك في أعمالهم وأوقاتهم ، أما السواد الأعظم فقد تأثر بشكل أو بآخر بفتنة مسايرة الواقع، ما بين مقل ومكثر وما أبرئ نفسي .
ومن صور هذه الفتنة التي يجب أن يحذرها المسلمون عامة والمصلحون وأهل العلم خاصة ما يلي :
1- مسايرة الواقع وما ألفه الناس من عادات اجتماعية وأسرية
وذلك أنه قد ظهرت في حياة الناس ومن سنوات عديدة كثير من العادات والممارسات الاجتماعية المخالفة للشريعة والمروءة بفعل الانفتاح على حياة الغرب الكافر وإجلاب الإعلام الآثم على تزيينها للناس فوافقت قلوباً خاوية من الإيمان فتمكنت منها وأُشربت حبها وكانت في أول الأمر غريبة ومستنكرة ،ولكن النفوس ألفتها وسكنت إليها مع مرور الوقت وشدة الترويض وقلة الوازع ، ومن أبرز هذه العادات والممارسات :(12/249)
ما انتشر في بيوت كثير من المسلمين اليوم من الخدم والخادمات حتى صار أمراً مألوفاً وصلت فتنته إلى بيوت بعض الدعاة وأهل العلم ، مع أن بعض هؤلاء الخدم كفرة أو فَسَقَة ، وأكثر الخادمات هن بلا محارم ، وخضع الناس للأمر الواقع ، وأصبحت ترى من ابتُلي بهذا الأمر يتعامل مع الخادمات وكأنهن إماء غير حرائر ولا أجنبيات ، يتبرجن أمامه وقد يخلو بهن ، وكذلك الحال مع الخادمين والسائقين ؛ حيث قد ينفردون بالنساء اللاتي يتسامحن بكشف زينتهن أمام هؤلاء الخدم، وكأنهم مما ملكت اليمين ، وكل هذا ويا للأسف بعلم ولي الأمر من زوج أو أب أو أخ ، وإذا نُصح الولي في ذلك قال : نحن نساير الواقع وكل الناس واقعون في هذا ، ومن الصعب مقاومة ضغط الأهل والأولاد ومطالبهم وإلحاحهم على مسايرة أقاربهم وجيرانهم ! !
ما انتشر في بيوت كثير من المسلمين من أدوات اللهو والأجهزة الجالبة للفساد كالتلفاز وغيره، وكذلك ما امتلأت به البيوت من صور ذوات الأرواح من غير ضرورة حتى أصبحت هذه المقتنيات أمراً مألوفاً لا يمكن الانفكاك عنه، ومن ينكره من أولياء الأمور يعترف بضعفه أمام رغبات الزوجة والأولاد وسخط المجتمع من حوله ، فيستسلم لمثل هذه المنكرات مسايرة للواقع وإرضاءاً للناس الذين لن يُغْنوا عنه من الله شيئاً، وكفى بذلك فتنة .
ما ظهر في السنوات الأخيرة في بعض الدول من انتشار قصور الأفراح والفنادق وما يحصل فيها من منكرات وبخاصة في أوساط النساء كالتبرج الفاضح والغناء المحرم المصحوب بأصوات النساء المرتفعة ، ناهيك عن المفاخرة والمباهاة في الملابس والمآكل ... إلخ . ومع ذلك فلقد أصبحت أمراً مألوفاً يُشَنَّع على من يخرج عليه أو يرفضه ويقاطعه ، حتى أصبح كثير من الناس أسيراً لهذه العادات مسايراً للناس في ذلك إرضاءاً لهم أو اتقاءاً لسخطهم .
مسايرة النساء في لباسهن وتقليدهن لعادات الغرب الكافر في اللباس والأزياء وصرعات الموضات وأدوات التجميل حتى أصبح أمراً مألوفاً لم ينج منه إلا أقل القليل ممن رحم الله عز وجل من النساء الصالحات المتربيات في منابت صالحة تجعل رضا الله عز وجل فوق رضا المخلوق، أما أكثر الناس فقد سقط في هذه الفتنة فانهزمت المرأة أمام ضغط الواقع الشديد ، وتلا ذلك انهزام وليها أمام رغبة موليته، واستسلم هو الآخر ، وساير في ذلك مع من ساير حتى صرنا نرى أكثر نساء المسلمين على هيئة في اللباس والموضات ينكرها الشرع والعقل وتنكرها المروءة والغيرة ، وكأن الأمر تحول والعياذ بالله تعالى إلى شبه عبودية لبيوت
الأزياء ، يصعب الانفكاك عنها .
وعن هذه العادات والتهالك عليها وسقوط كثير من الناس فيها يقول صاحب الظلال رحمه الله تعالى : (هذه العادات والتقاليد التي تكلف الناس العنت الشديد في حياتهم، ثم لا يجدون لأنفسهم منها مفراً .هذه الأزياء والمراسم التي تفرض نفسها على الناس فرضاً، وتكلفهم أحياناً ما لا يطيقون من النفقة، وتأكل حياتهم واهتماماتهم، ثم تفسد أخلاقهم وحياتهم ، ومع ذلك لا يملكون إلا الخضوع لها : أزياء الصباح ، وأزياء بعد
الظهر ، وأزياء المساء ، الأزياء القصيرة ، والأزياء الضيقة ، والأزياء المضحكة ! وأنواع الزينة والتجميل والتصفيف إلى آخر هذا الاسترقاق المذلّ : من الذي يصنعه ؟ ومن الذي يقف وراءه ؟ تقف وراءه بيوت الأزياء ، وتقف وراءه شركات الإنتاج ! ويقف وراءه المرابون في بيوت المال والبنوك من الذين يعطون أموالهم للصناعات ليأخذوا هم حصيلة كدها ! ويقف وراءه اليهود الذين يعملون لتدمير البشرية كلها ليحكموها ! ) [9] .
مسايرة الناس في ما اعتادوه اليوم في التوسع في المساكن والمراكب والمآكل
بشكل يتسم بالترف الزائد بل بالمباهاة والمفاخرة حتى ضعف كثير من الناس عن مقاومة هذا الواقع ؛ فراح الكثير منهم يرهق جسده وماله، ويحمِّل نفسه الديون الكبيرة وذلك حتى يساير الناس ويكون مثل فلان وفلان، والمشكل هنا ليس التوسع في المباحات وترفيه النفس ؛ فقد لا يكون بذلك بأس إذا لم يوقع في الحرام ، لكن ضغط الواقع وإرضاء الناس ومسايرة عقول النساء والأطفال يدفع بعض الطيبين إلى تحميل نفسه من الديون الباهظة وذلك ليكون مثل غيره في المركب أو المسكن ، ولن ينفعه مسايرة الناس من الأقارب والأباعد شيئاً إذا حضره الموت وديون الناس على كاهله لم يستطع لها دفعاً .
2- مسايرة الناس فيما يطرحونه من استفتاءات حول بعض المخالفات الشرعية المعاصرة . وذلك من قِبَلِ بعض أهل العلم الذين قد يرون مسايرة الواقع ، ويفتون ببعض الأقوال الشاذة والمهجورة ، أو يحتجون بقواعد الضرورة أو رفع الحرج أو الأخذ بالرخص ... إلخ ، ولا يخفىما في ذلك من السير مع أهواء الناس والرضا بالأمر الواقع ، والتحلل من أحكام الشريعةشيئاً فشيئاً ، والمطلوب من أهل العلم والفتوى في أزمنة الغربة أن يعظُوا الناس ويرشدوهم ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر بدل أن يحسِّنوا لهم الواقع ويسوِّغوا صنيعهم فيه .
يقول الشاطبي رحمه الله تعالى : ( المقصد الشرعي مِن وضْع الشريعة هو إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً كما هو عبد الله اضطراراً ) [10]ويقول أيضاً : ( إن الترخُّص إذا أُخذ به في موارده على الإطلاق كان ذريعة إلى انحلال عزائم المكلفين في التعبد على الإطلاق، فإذا أخذ بالعزيمة كان حرياً بالثبات في التعبد والأخذ بالحزم فيه ... فإذا اعتاد الترخص صارت كل عزيمة في يده كالشاقَّة الحرجة ،وإذا صارت كذلك لم يقم بها حق قيامها وطلب الطريق إلى الخروج منها ) [11] .(12/250)
وقد لا يكون المفتي قاصداً مسايرة واقع الناس أو الميل مع أهوائهم ؛ لكنه يغفل عن مكر بعض الناس وخداعهم، وذلك في طريقة استفتاءاتهم وصياغتها صياغة تدفع المفتي من أهل العلم إلى إجابته بما يهوى، وعن هذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : ( يحرم عليه أي على المفتي إذا جاءته مسألة فيها تحايل على إسقاط واجب أو تحليل محرم أو مكر أو خداع أن يعين المستفتي فيها، ويرشده إلى مطلوبه أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصودة ؛ بل ينبغي له أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم ، ولا ينبغي له أن يحسن الظن بهم ، بل يكون حذراً فطناً فقيهاً بأحوال الناس وأمورهم ، يؤازره فقهه في الشرع ، وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاع ، وكم من مسألة ظاهرها جميل وباطنها مكر وخداع وظلم ! فالغر ينظر إلى ظاهرها ويقضي بجوازه ، وذو البصيرة ينفذ إلى مقصدها وباطنها، فالأول يروج عليه زغل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زغل الدراهم ، والثاني يخرج زيفها كما يخرج الناقد زيف النقوذ ، وكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق ! وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل ! ومن له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك ) [12] .
3- مسايرة واقع الأنظمة ببعض التنازلات التي تضر بالدعوة وأهلها :
وهذا من أخطر ما يتعرض له أهل الدعوة والعلم والإصلاح، وبخاصة حينما يكثر الفساد وتشتد وطأته على الناس ويبطؤ نصر الله عز وجل ويتسلط الظالمون على عباد الله المصلحين ، حينئذ يجتهد بعض المهتمين بالدعوة والإصلاح ، ويظهر لهم أن التقارب مع أرباب الأنظمة والسلطان والالتقاء معهم في منتصف الطريق قد يكون فيه مصلحة للدعوة وتخفيف شر عن المسلمين ، وكل ما في الأمر بعض التنازلات القليلة التي يتمخض عنها بزعمهم مصالح كبيرة ! ! وليس المقام هنا مقام الرد والمناقشات لهذه الاجتهادات، فيكفي في فشلها وخطورتها نتائجها التي نسمعها ونراها عند من خاضوا هذه التنازلات ورضوا بالأمر الواقع ؛ فلا مصلحة ظاهرة
حققوها بتنازلاتهم، ولا مفسدة قائمة أزالوها؛ ولقد حذَّر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم عن الركون للظالمين المفسدين أشد التحذير ؛ وذلك في قوله تعالى : ( وإن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وإذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ) [الإسراء : 73 - 75] .
يعدد السياق محاولات المشركين مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأولها :
محاولة فتنته عما أوحى الله إليه ، ليفتري عليه غيره ، وهو الصادق الأمين .
لقد حاولوا هذه المحاولة في صور شتى منها : مساومتهم له أن يعبدوا إلهه في مقابل أن يترك التنديد بآلهتهم وما كان عليه آباؤهم ، ومنها :
مساومة بعضهم له أن يجعل أرضهم حراماً كالبيت العتيق الذي حرمه الله ،
ومنها : طلب بعض الكبراء أن يجعل لهم مجلساً غير مجلس الفقراء .
والنص يشير إلى هذه المحاولات ولا يفصِّلها ، ليذكِّر بفضل الله على الرسول صلى الله عليه وسلم في تثبيته على الحق ، وعصمته من الفتنة . ولو تخلى عنه تثبيت الله وعصمته لركن إليهم فاتخذوه خليلاً ، وللقي عاقبة الركون إلى فتنة المشركين هذه ، وهي مضاعفة العذاب في الحياة والممات دون أن يجد له نصيراً منهم يعصمه من الله .
هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائماً ، محاولة إغرائهم لينحرفوا ولو قليلاً عن استقامة الدعوة وصلابتها ، ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة ، ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته ؛ لأنه يرى الأمر هيناً ؛ فأصحاب السلطان لا يطلبون منه أن يترك دعوته كلية ، إنما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق .
وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة ، فيتصور أن خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها ! ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق ، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسيراً ، وفي إغفال طرف منها ولو ضئيلاً، لا يملك أن يقف عند الذي سلم به أول مرة ؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء ! [13] .
4- مسايرة ركب الغرب في بعض ميادين من قِبَلِ دعاة العصرانية من أبناء المسلمين :(12/251)
إن الحديث عن العصرانية والعصرانيين يطول ويطول [14] ولكن يكفي أن نذكر هنا ما يتعلق بموضوعنا وهو الحديث عن فتنة المسايرة ولا أحسب العصرانيين من بني قومنا إلا وقد ركسوا في هذه الفتنة وظهرت عليهم في أجلى صورها، وهم لا يعترفون بأنها مسايرة ؛ ولكنهم يسمونها تجديداً وتطويراً يناسب العصر ، وتحت هذا المسمى يقضون على كثير من الثوابت الشرعية ويتحللون من شرع الله عز وجل باسم التطوير وهو في الحقيقة مسايرة للواقع الغربي وتقليد أعمى وانبهار بإنجازاته المادية بل الهزيمة النفسية أمامه ؛ والغريب في أمر هؤلاء أنهم يرفضون التقليد ويشنعون على من يقلد سلف الأمة ويتبعهم ، وعلى من يبقى على الموروث لا يتجاوزه ولا يطوره ، ثم هم في الوقت نفسه يسقطون في تقليد الغرب ومحاكاته بصورة لا تدع مجالاً للريب والشك ؛ وهم الذين يتشدقون بالعقلانية ورفض التقليد ! ! ويعرِّف الدكتور الزنيدي العصرانية بقوله : (هي التأقلم مع المعطيات الاجتماعية والعلمية المتجددة في كل عصر، وربط الإنسان في فرديته وجماعيته بها في دائرة التصور البشري ) [15] .
ويتحدث الأستاذ محمد حامد الناصر عن بعض شذوذات العصرانيين في ميادين الفقه فيقول : ( لقد خرج العصرانيون علينا بفقه غريب شاذ يريد تسويغ الواقع المعاصر لإدخال كثير من القيم الغربية في دائرة الإسلام ؛ ذلك أن موقفهم من النصوص الشرعية عجيب ؛ فإذا كانت الآية واضحة الدلالة والأحاديث النبوية المتواترة قالوا : إن هذه النصوص كانت لمناسبات تاريخية لا تصلح لعصرنا الحاضر، وإذا كانت أحاديث آحاد قالوا لا يؤخذ من خبر الآحاد تشريع ولا تبنى عليه عقيدة ، أو ألغوا بعض الأحاديث الصحيحة بحجة أنها سُنَّة غير تشريعية ،ثم يتهمون الفقهاء بالجمود وضيق الأفق ! !
إن هذه التجاوزات لو أخذ بها لن تترك من ثوابت الإسلام إلا وحاولت مسخه أو تشويهه .
ومن شذوذاتهم :
1- رفضهم تطبيق الحدود التي فيها رجم أو قتل أو قطع عضو إلا بعد الإصرار والمعاودة والتكرار ، ويأتون بِشُبَهٍ من هنا وهناك .
2- إباحتهم الربا في البنوك بحجة الحفاظ على اقتصاد البلاد وأن الربا المحرم عندهم هو الربح المركب .
3 - موقفهم من المرأة ، والدعوة إلى تحريرها بزعمهم ، ودعوتهم لها إلى محاكاة المرأة الغربية في عاداتها، وإلى الثورة على الحجاب الشرعي وتعدد الزوجات ، يقول محمد عمارة : ( إن تعدد الزوجات وتتابع الزواج واتخاذ السراري والجواري من سمات عصر الإقطاع والدولة الإقطاعية ) والترابي يقصر الحجاب على نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم راحوا يسوغون الاختلاط بين الرجال والنساء بعد أن زينوا للمرأة الخروج من بيتها .
5- أحكام أهل الذمة :
كما يرى العصرانيون أن أحكام أهل الذمة كانت لعصر غير عصرنا وهي الآن لا تناسب عصرنا ! ! ) [16] .
ولكن الأستاذ الناصر يوضح مفهومهم للتجديد والتطوير قائلاً : ( إن مزاعم التجديد التي رفع هؤلاء لواءها كشفت الحقيقة جلية وهي أن التجديد لديهم يعني تطوير الدين على طريقة عصرنة الدين عند اليهود والنصارى ) .
ولذلك فإن التجديد عندهم يعني : هدم العلوم المعيارية : أي علوم التفسير المأثور وأصوله ، وعلم أصول الفقه ، وعلم مصطلح الحديث .
ويعني : رفض الأحاديث الصحيحة جزئياً أو كلياً بحجة ضرورة ملاءمتها لعقولهم ولمصلحة الأمة، وظروف العصر الحاضر .
ويعني : رفض السنة غير التشريعية أي : فيما يخص شؤون الحكم والسياسة وأمور الحياة والمجتمع عموماً .
التجديد عندهم يعني : الانعتاق من إسار الشريعة إلى بحبوحة القوانين الوضعية ، التي تحقق الحرية والتقدم ، ولذلك هاجموا الفقه والفقهاء بلا هوادة .
- الاجتهاد والتجديد عندهم يعني : تحقيق المصلحة وروح العصر [17] .
مما سبق يتبين خطر هذه البدعة الجديدة وأن أصلها مسايرة الواقع والانهزامية أمام ضغطه مصحوباً ذلك بالجهل بالإسلام أحياناً ، وبالهوى والشهوة أحياناً كثيرة .
الآثار الخطيرة لمسايرة الواقع وسبل النجاة منها :
إن لمسايرة الواقع وما ألفه الناس من المخالفات الشرعية من الآثار الخطيرة على المساير في دينه ودنياه ما لو انتبه لها الواحد منهم لما رضي بحاله التي أعطى فيها زمامه لغيره وأصبح كالبعير المقطور رأسه بذنب غيره ، ومن أخطر هذه الآثار ما يلي :
1- الآثار الدنيوية : وذلك بما يظهر على المساير من فقدان الهوية وذوبان الشخصية الإسلامية ، وبما يتكبده من معاناة في جسده ونفسه وماله وولده ، وهذه كلها مصادر عنت وشقاء وتعاسة بخلاف المستسلم لشرع الله عز وجل الرافض لما سواه المنجذب إلى الآخرة فلا تجده إلا سعيداً قانعاً مطمئناً ينظر : ماذا يرضي ربه فيفعله ، وماذا يسخطه فيتركه غير مبالٍ برضى الناس أو سخطهم .(12/252)
2- الآثار الدينية : وهذه أخطر من سابقتها ؛ وذلك أن المساير لواقع الناس المخالف لشرع الله عز وجل يتحول بمضيِّ الوقت واستمراء المعصية إلى أن يألفها ويرضى بها ويختفي من القلب إنكارها ، وما وراء ذلك من الإيمان حبة خردل . كما أن المساير لركب المخالفين لأمر الله عز وجل لا تقف به الحال عند حد معين من المسايرة والتنازل والتسليم للواقع ، بل إنه ينزل في مسايرته خطوة خطوة ؛ وكل معصية تساير فيها الناس تقود إلى معصية أخرى ؛ وهكذا حتى يظلم القلب ويصيبه الران أعاذنا الله من ذلك ؛ ذلك أن من عقوبة المعصية معصية بعدها ، ومن ثواب الحسنة حسنة بعدها ؛ وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى [18] : وقد ذكر في غير موضع من القرآن ما يبين أن الحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى ، وكذلك السيئة الثانية قد تكون من عقوبة الأولى ، قال تعالى : (ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وإذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * ولَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيما) [النساء : 66 - 68] وقال تعالى : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) [العنكبوت : 69] وقال تعالى : ( والَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ ويُصْلِحُ بَالَهُمْ * ويُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ) [محمد : 4 - 6] ، وقال تعالى : (ثم كان عاقبة الذين أساؤٍوا السوأى ) [الروم : 10] ، وقال تعالى : ( كِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ) [المائدة : 15 ، 16]، وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ ويَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ويَغْفِرْ لَكُمْ ) [الحديد : 28] ، وقال تعالى : (وفِي نُسْخَتِهَا هُدًى ورَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ) [الأعراف : 154] .
وما أجمل ما قاله سيد قطب رحمه الله تعالى في النقل السابق حيث قال : ( ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق ، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسيراً لا يملك أن يقف عند ما سلَّم به أول مرة ؛ لأن استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء ) .
الآثار الدعوية :
إن الداعية الذي تظهر عليه مظاهر مسايرة الواقع يفقد مصداقيته عند نفسه وعند الناس ، وإن لم يتدارك نفسه فقد ييأس ويخسر ويترك الدعوة وأهلها ؛ إذ كيف يساير الواقع من هو مطالب بتغيير الواقع وتسييره ؟ ! وكلما كثر المسايرون كثر اليائسون والمتساقطون ؛ وهذا بدوره يؤدي إلى ضعف الدعوة وضعف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
سبل النجاة أو الوقاية من هذه الفتنة :
إنه لا ينجِّي من الفتن صغيرها وكبيرها ما ظهر منها وما بطن إلا الله عز وجل وقد قال لنبيه ومصطفاه صلى الله عليه وسلم : ( ولَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ) [الإسراء : 74] فأول سبيل من سبل النجاة هو سؤال الله عز وجل وصدق العزيمة والأخذ بأسباب الثبات ومنها :
1- فعل الطاعات وامتثال الأوامر واجتناب النواهي كما قال عز وجل : ( ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً) [النساء : 66] فذكر سبحانه في هذه الآية أن شدة التثبيت تكون لمن قام بفعل ما يوعظ به من فعل الأوامر وترك النواهي ، ويشير الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى إلى أثر الطاعة في الثبات فيقول : (فالخلق كلهم قسمان : موفق بالتثبيت ، ومخذول بترك التثبيت . ومادة التثبيت وأصله ومنشؤه من القول الثابت وفعل ما أُمِر به العبد ، فبهما يثبِّت الله عبده ؛ فكل ما كان أثبت قولاً ، وأحسن
فعلاً كان أعظم تثبيتاً قال تعالى : ( ولَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وأَشَدَّ تَثْبِيتاً ) فأثبت الناس قلباً أثبتهم قولاً ، والقول الثابت هو القول الحق والصدق ) [19] .
2- مصاحبة الدعاة الصادقين الرافضين للواقع السيئ والسعي معهم في الدعوة إلى الله تعالى وتغيير الواقع السيئ في نفوسهم وأسرهم ومجتمعاتهم ، واعتزال أهل الدنيا الراكنين إليها والمسارعين فيها والمتبعين لكل ناعق ، وترك مخالطتهم إلا لدعوتهم أو ما تدعو الحاجة إليه ؛ لأن المجالسة تؤول إلى المؤانسة والمجانسة .
3- التفقه في الدين والبصيرة في شرع الله عز وجل لأن المسايرة عند بعض الناس تنبع من جهل بالشريعة وأحكامها ومقاصدها ، مع أن أكثر المسايرين المخالفين للشريعة إنما يدفعهم إلى المسايرة الهوى والضعف .
والمقصود : أن من كانت مسايرته بسبب جهله بالشرع فإن في العلم الشرعي دواءه ومنعه من المسايرة بإذن الله تعالى . وينبغي على طالب العلم الشرعي والمستفتي في دينه أن يسأل أهل العلم الراسخين فيه الذين يجمعون بين العلم والورع ومعرفة الواقع ، وأن يحذر من أهل العلم الذين يسيرون على أهواء الناس وتلمس الرخص والآراء الشاذة لهم .
4- إفشاء المناصحة وإشاعتها بين المسلمين وبخاصة بين أهل الخير لأن السكوت على المخالفات وضعف المناصحة بين المسلمين من أسباب التلبس بالمنكرات ومسايرة الناس فيها .
________________________
(1) بدائع التفسير ، 3/17 .
(2) رواه الترمذي ، ح/ 2338 .
(3) الموافقات للشاطبي ، 2/ 268 .
(4) تحفة الأحوذي ، 6/145 ، رقم الحديث (2075) وقال الترمذي حسن غريب .(12/253)
(5) رواه الترمذي ، ح/ 2186 .
(6) أخرجه أبي داود ، ح/ 3778 ، والترمذي في تفسير القرآن 2984 ، وأخرجه ابن ماجة في الفتن 4004 .
(7) رواه الترمذي ، ح/ 2338 .
(8) في سبيل الدعوة الإسلامية ، للعلامة محمد أمين المصري ، ص 39 43 (باختصار) .
(9) في ظلال القرآن ، 2/ 1219 .
(10) الموافقات ، 2/ 128 .
(11) المصدر السابق ، ص / 247 .
(12) إعلام الموقعين ، 4/ 229 .
(13) في ظلال القرآن ، 3/ 245 .
(14) من أراد التوسع في هذا الموضوع وكيف نشأ ومن هم رموزه فليرجع إلى كتاب : (العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب) ، للأستاذ محمد حامد الناصر .
(15) العصرانية في حياتنا الاجتماعية ، ص 22 .
(16) العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب (بتصرف واختصار) .
(17) المصدر السابق ، ص 353 ، 354 .
(18) الفتاوى ، 14/245 .
(19) بدائع التفسير ، 1/17 .
مجلة البيان / العدد - 147التاريخ- ذو القعدة /1420 هـ .
===============
وادع إلى ربك
تحدثت في مقال سابق عن المقصود بالدعوة مذكِّراً بأن دعوة النفس أوْلى بالبدء ، ثم الأقرب فالأقرب .
وهنا مسألة مهمة تتعلق بالإخلاص في الدعوة إلى الله عز وجل عامة وهي مسألة قلما نتنبه إليها أو ننبه عليها .
وجُلُّ ما نفهمه من معنى الدعوة إلى الله عز وجل هو أن الداعية إنما يدعو إلى ربه وإلى سبيله وتوحيده وطاعته ، وإلى إقامة دينه .
ولا شك أن هذه معانٍ صحيحة وأهداف سامية للدعوة إلى الله سبحانه لكنَّ هناك معنيً لطيفاً ومسألة عظيمة يتضمنها مفهوم الدعوة إلى الله تعالى يتعلق بإخلاص الدعوة له سبحانه وهو ما أشار إليه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في (مسائل باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله) وهو من أبواب كتاب التوحيد ؛ حيث يقول : ( المسألة الثانية : التنبيه على الإخلاص ؛ لأن كثيراً لو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه) .
يا لها من مسألة عظيمة يغفل عنها الكثير منّا ، وإنها لمن الدقة واللطف بحيث توجد عند البعض منا دون أن يشعر بوجودها، وإن لم يفتش الداعية عنها في نفسه ويبادر إلى التخلص منها فإنها قد تكون سبباً في حبوط العمل وضياع الجهد عياذاً بالله تعالى وهناك علامات ومظاهر يدل وجودها على تلوث القلب بهذه الآفة الخطيرة منها :
1- الحزبيّة المقيتة التي تدفع بصاحبها إلى عقد المحبة والعداوة على الأسماء والأشخاص والطوائف .
2- حب الشهرة والصدارة والتفاف الناس ، وكراهية الدعاة الآخرين والانقباض والضيق من تجمع الناس حولهم ؛ لا لشيء إلا لأن في ذلك منافسة وحسداً في القلب .
3- التزهيد في أعمال بعض الدعاة وتحقيرها وتشويهها حتى ولو كان هذا العمل قد ظهر خيره وصلاحه ، فلا ترى صاحب القلب المريض الذي يدعو إلى نفسه - وليس إلى الله تعالى إلا مستاءاً من ذلك ، ولو كان الأمر إليه لأوقف كل عملٍ خيِّرٍ يقوم به غيره . وهذا من علامات الخذلان عياذاً بالله تعالى لأن العبد المخلص في دعوته إلى الله تعالى يحب كل داعية إلى الخير - ولو لم يعرفه أو يره - ويدعو له بظهر الغيب ، ويفرح بأي باب من الخير يفتحه الله تعالى على يد من كان من عباده ، ويفرح بأي باب من الشر يُغلق على يد من كان ؛ لأن في ذلك صلاحاً للعباد وإسهاماً في هدايتهم وتعبيدهم لرب العالمين ، وكفى بذلك هدفاً وثمرة تثلج صدر الداعية المخلص سواء تحقق ذلك على يديه أو على يد غيره من الداعين إلى الله تعالى .
4- الوقوع في غيبة الدعاة أو السعي بالنميمة والوشاية لإلحاق الأذى بهم أو إشاعة ما هم منه برآء في الناس حتى ينفضُّوا من حولهم ويلتفوا حوله .
والأمثلة كثيرة ، وكل إنسان أدرى بنفسه ، وهو على نفسه بصيرة ، والمقصود التنبيه على هذه الآفة الخطيرة التي تمحق بركة الأعمال في الدنيا ، وتذهب بأجرها في الآخرة
===============
لا تحسبوه شراً لكم
الحلقة الأولى
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه إن الله عز وجل، بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلا، كتب النصر والغلبة لأهل الحق من أوليائه الصالحين والمصلحين ، وكتب المهانة والذلة على أعدائه من الكافرين والمنافقين ، وهذه سنة لا تتخلف إلا إذا تخلفت أسبابها ، حيث يديل الله سبحانه أعداءه الكفرة على عباده المؤمنين ، ويسلطهم عليهم ويظهرهم ، فتظهر من ذلك الشرور والمصائب كما هو الحاصل في واقعنا المعاصر حيث الاستضعاف والذلة لجل المسلمين ، والغلبة والقهر للكافرين ، وما كان لسنة الله سبحانه أن تتبدل ولا أن تتحول ، (( فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً )) [فاطر : 43] ولكن أسباب تحقيق سنة الله سبحانه في نصر عباده المؤمنين قد تخلفت ؛ فحقت علينا سنة الله سبحانه في التغيير : (( إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ )) [الرعد : 11] .
وسنة الله سبحانه لا تحابي أحداً . ومع وضوح هذه السنة وجلائها من القرآن ، وبمقتضى العقل والحس ، إلا أننا نجد من هو في غفلة عنها وعن مقتضى أسمائه سبحانه وصفاته العلا ؛ حيث أدت هذه الغفلة عند بعضنا إلى شيء من اليأس والإحباط ، أو إلى شيء من العجلة والتسرع أمام ضغط الواقع ، وتسلط الأعداء ، وعند انتشار الظلم والفساد .(12/254)
ولن يكون الكلام هنا عن تلك السنة ، وإنما سينصب الاهتمام على سنة عظيمة تنبثق عنها السنة السابقة ، والله سبحانه يبينها لنا من خلال أسمائه الحسنى وصفاته العلا ، حيث إن الجهل بها أو الغفلة عنها بعد معرفتها يسهم أيضاً في مزيد من اليأس والقنوط ، أو الجزع والتسخط ، أو الاندفاع والعجلة والتهور ، وهذه وقفات مع قوله تعالى : ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم )) [النور : 11] .
هذه الآية توجيه رباني في إحسان الظن بالله عز وجل ، والثقة بحكمته ورحمته ، وأنه (سبحانه) لا يريد بعباده المؤمنين إلا الخير (( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ )) [البقرة : 185] وهذا بدوره يبث الأمل في النفوس إزاء المصائب ، ويبث الأمل في الأمة بأن المستقبل لهذا الدين مهما تسلط أعداؤه عليه ، وكادوا له كيداً (( إنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً )) [الطارق : 15 17] ، وهو ضروري كذلك لإدراك أن رحمة الله (عز وجل) سبقت غضبه في كل ما يقدره على عباده المؤمنين ( )كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ )) [الأنعام : 54] .
وما أجمل ما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى حول هذا المعنى ، ومما ذكره : قد شهدت الفطر والعقول بأن للعالم ربّاً قادراً ، حليماً ، عليماً ، رحيماً ، كاملاً في ذاته وصفاته ، لا يكون إلا مريداً للخير لعباده ، مجرياً لهم على الشريعة والسنة الفاضلة العائدة باستصلاحهم ، الموافقة لما ركب في عقولهم من استحسان الحسن ، واستقباح القبيح [1] .
وسيأتي إن شاء الله في ثنايا البحث من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والمواقف العملية التي تظهر لنا منها ثمار هذه السنة الكريمة ، وبخاصة في واقعنا المعاصر المليء بالشبهات ،والشهوات ، والمتناقضات ، والمكائد ، والمؤامرات ما يزيد الموضوع بياناً .
أهمية الموضوع :
تتضح أهمية الموضوع في الأمور التالية :
أولاً : علاقة هذه السنة بالعقيدة قوة وضعفاً ؛ فكلما قوي الإيمان بالله سبحانه في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته : كلما قوي الفهم لهذه السنة ، وأثمرت في القلب ثمارها الطيبة . والإيمان بهذه السنة والاصطباغ بها هو مقتضى الرضا بالله ربّاً ومعبوداً ، ومقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العلا ؛ حيث إن هذه السنة من ثمرات أسمائه سبحانه الحسنى ، التي منها : الحكيم ، والعليم ، والكريم ، واللطيف ، والبر الرحيم .. وغيرها من الأسماء والصفات التي يجب التعبد لله سبحانه بها . كما يظهر الارتباط بين هذه السنة وبين التوحيد في : أثرها على صدق التوكل على الله عز وجل ، وتفويض الأمور إليه ، واليقين والثقة بوعده ، وإحسان الظن به جل وعلا ، وأنه سبحانه لا يريد بعباده المؤمنين إلا الخير والإصلاح ، فمهما ظهر من الشرور والمصائب ، فله سبحانه الحكمة البالغة (( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ )) ( آل عمران : 66) وأما ارتباطها بالأصل الخامس من أصول الإيمان ألا وهو الإيمان باليوم الآخر فهذا واضح ؛ لأن اليقين باليوم الآخر ورجاء الأجر من الله عز وجل يقويان الارتباط بهذه السنة في أن الآخرة خير وأبقى ، مهما فات من هذه الدنيا .وأما علاقتها بالأصل السادس من أصول الإيمان وهو الإيمان بالقدر خيره وشره فهذا ظاهر لا يحتاج إلى تعليق .
ثانياً : ما نراه اليوم في واقعنا المعاصر من الضغوط الشديدة والحرب الشرسة من أعداء هذا الدين من اليهود والنصارى والمنافقين والمفسدين ، وما يكيدون به لهذا الدين وأهله من المكر والتشويه والابتلاء ؛ مما أدى ويؤدي إلى ظهور حالات اليأس والإحباط من تغير الحال ، أو الشعور بالهزيمة النفسية والهوان والاستكانة ، فكان لابد من التذكير بهذه السنة العظيمة التي تقوي اليقين بوعد الله سبحانه , والثقة بنصره ، والاطمئنان إلى قضائه وتدبيره ، وأنه سبحانه الحكيم العليم فيما يقضي ويقدر ، ولابد أن يأتي الخير بعد الشر عندما يأذن الله سبحانه في ذلك وفق علمه الشامل ، وحكمته البالغة ، وسننه التي لا تتبدل ولا تتحول .
ثالثاً : الجهل الحاصل عند بعض المسلمين بسنن الله سبحانه في التغيير ، أو التغافل عنها بعد معرفتها ، لا سيما وأن في فهم قوله تعالى : (( لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم )) [النور : 11] .
خير معين لتفهم سنن الله عز وجل الأخرى : كما في قوله تعالى : (( إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ )) (الرعد : 11( ز
وفي هذه المعرفة فتح باب للمنهج الصحيح في الدعوة إلى الله سبحانه ، كما أن فيها وقاية من التخبط والاضطراب في المنهاج والاجتهادات ، كما أن في دراسة هذه السنة وربط الأحداث والوقائع بها أكبر ضمانة للعقل المسلم من أن يتأثر بالتصورات الجاهلية ، والتفسيرات المادية للتاريخ والأحداث التي سيطرت اليوم على كثير من عقول المسلمين المتأثرين بوسائل الإعلام المادية وبالثقافات التي لا تؤمن بالله ، ولا باليوم الآخر ، ولا بالقدر خيره وشره .
رابعاً : التنبيه إلى طلب الخِيَرة من الله سبحانه في كل الأمور، وتفويض الأمور إلى حسن تدبيره عز وجل واختياره ؛ لأنه سبحانه يعلم ولا نعلم ، ويقدر ولا نقدر ، وهو علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما سيكون ، ويعلم أين يكون الخير ، وأين يكمن الشر ؛ ولذلك جاء التوجيه إلى دعاء الاستخارة في الأمور كلها .(12/255)
خامساً : كثرة المشاكل والمصائب في زماننا هذا ، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات ، التي أدت إلى ظهور كثير من الأمراض النفسية المعقدة : كالقلق ، والاكتئاب، والفصام .. وغيرها ، حتى أصبحت سمة لواقعنا المعاصر، ومعرفة الله سبحانه بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته التي تزرع في القلب الاطمئنان والرضا، وتفويض الأمور إليه سبحانه، وحسن الظن به عز وجل، وأن اختيار الله لعبده أحسن من اختيار العبد لنفسه ، ولو ظهر ما يكرهه العبد ويؤذيه : إن في تفهم قوله تعالى : ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم )) [النور : 11] أحسن علاج لهذه الأمراض وغيرها .
سادساً : إن في هذه السنة وفهمها طريقاً موصلاً إلى الفقه بقاعدة الشرع العظيمة ، التي بنيت عليها أحكام الشرع ؛ ألا وهي : اليسر ورفع الحرج والمشقة، وأن الله عز وجل لا يريد بعباده إلا اليسر والرحمة، سواء أكان في أحكامه الكونية القدرية، أو الدينية الشرعية .
-----------
(1) مفتاح دار السعادة : ص326 .
من ثمرات هذه السنة
إن لتَفَهّم هذه السنة الكريمة وتذكرها دائماً أثراً كبيراً في القلب ، يظهر جليّاً في المواقف ، وبالذات في مواقف الشدة والبلاء ؛ فكان لزاماً على المسلم ، وبخاصة الداعية المجاهد ، ألا يغفل عن هذه الثمرات المنبثقة من قوله تعالى : (( لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ )) ، وثمار الإيمان بهذه السنة واليقين بها كثيرة ،
أذكر منها ما يلي :
1- حقيق العبودية لله (عز وجل) بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا :
إن الله عز وجل لم يعرفنا على أسمائه وصفاته لنحفظها ونعدها فقط ، وإنما المقصود الأسنى من معرفة أسمائه عز وجل وصفاته : أن ندعوه بها ، وأن نتعبد له سبحانه بها ؛ قال الله تعالى : (( وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)) [الأعراف : 180] إن في كل اسم من أسمائه سبحانه عبودية على العبد ، يجب أن تظهر آثارها في القلب ، وعلى الجوارح ، وفي المواقف .
فمن الأسماء الحسنى التي يتعبد لله عز وجل بها من خلال معرفة هذه السنة : الحكيم ، العليم، البر ، الرحيم ، الودود ، اللطيف .. وغيرها . فعندما يؤمن العبد المسلم بهذه الأسماء فإنها تثمر الإيمان بحكمة الله عز وجل في كل أحكامه الكونية والشرعية ، وتضفي على القلب الأنس ، وإحسان الظن بالله عز وجل ، والرضا بقضائه ، وأنه بر رحيم ، لا يريد بعباده إلا الخير والتيسير والرحمة ، وأن من لطفه سبحانه أن يأتي بالخير لعبده المؤمن من حيث يظن أنه شر ومكروه ، وهذا
من معاني اسمه سبحانه اللطيف .
يقول الشيخ السعدي رحمه الله : ( ومن معاني اللطيف : أنّه الذي يلطف بعبده ووليه ، فيسوق إليه البر والإحسان من حيث لا يشعر ، ويعصمه من الشر من حيث لا يحتسب ، ويرقّيه إلى أعلى المراتب ، بأسباب لا تكون من العبد على بال ، حتى إنّه يذيقه المكاره ، ليوصله إلى المحاب الجليلة ، والمطالب النبيلة ) [1] .
إن اليقين بلطف الله تعالى ينفي الشعور باليأس والقنوط من مجيء فرج الله ونصره ، وينشيء مكانه الأمل والثقة بوعد الله ونصره ، كما أنه ينشيء في القلب الافتقار إلى الله عز وجل وتفويض الأمور إليه ، وسؤاله عز وجل دائماً حُسْنَ العاقبة والاختيار .
وبقيت كلمة أخيرة في هذه الثمرة أنصح بها نفسي وإخواني طلاب العلم ؛ وذلك بأن نحرص أشد الحرص ونحن ندْرس أو نُدَرّس أبواب التوحيد المختلفة على ألا نكتفي بالدراسة العلمية الذهنية المجردة فقط ، وإنما نسعى جاهدين في ربطها بأعمال القلوب ، وما تثمره فيها من أنواع العبوديات المختلفة التي يجب أن يظهر أثرها في المواقف والسلوك وجميع التصرفات ، والله المستعان .
2- الصبر على البلايا والمصائب وقوة الاحتمال :
وهذه الثمرة لها علاقة بما قبلها ؛ فعندما يعرف العبد ربه بأسمائه وصفاته ويتعبده بها ، فإنها تثمر في القلب ثباتاً ، ورباطة جأش، وصبراً أمام الابتلاءات والمصائب؛ فلا يضعف ولا يخور وهو يعلم أن ربه الرحيم الحكيم ، اللطيف الخبير، الودود الغفور : هو الذي قدرها عليه ، وأنه لم يقدرها ليعذبه ويشقيه، ولكن ليرحمه ويرده إليه .. عند ذلك يفوض أمره إلى ربه ، ويرضى بما يختار له مولاه سبحانه، ويعلم أنه هو الذي يمده بالقوة والعزيمة، والصبر وحسن العاقبة .
إن هذا الشعور يملأ القلب قوة وصبراً واحتمالاً أمام الشدائد ؛ لقوة الرجاء في الله عز وجل ، واليقين بفرجه ونصره ، واليقين بحسن العاقبة من الله عز وجل فيما أعده للصابرين ؛ قال تعالى : (( إن تَكُونُوا تَاًلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَاًلَمُونَ كَمَا تَاًلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً )) [النساء : 104] .
وإن مما يقوي الصبر على الشدائد يقين العبد أن ما أصابه إما أن يكون تكفيراً لذنوبه ، أو سبباً لنعمة لا تنال إلا بذلك المكروه .
فإذا أيقن العبد المبتلى أن العاقبة الحميدة من النصر في الدنيا ، والجنة في الآخرة لا يوصل إليهما إلا على جسر التعب والمشقة : فإنه بذلك يقوى صبره ، واحتماله ، وبذله وتضحيته في سبيل الله عز وجل ، مع تفقد النفس من الذنوب ، وتنقية الصف من المنافقين ، فذلك من أسباب النصر
3- سعادة القلب وطمأنينته وسكينته :(12/256)
عندما يعلم العبد المؤمن أن كل ما يقضيه الله عز وجل هو عين الحكمة والرحمة ، والخير ، سواء في العاجل أو الآجل ، فإن هذه المعرفة تضفي على القلب شعوراً بالأنس والسعادة والطمأنينة والسكينة، مهما اشتدت المصائب، وتوالت المحن ؛ وبذلك يسلم صاحب هذا القلب من تلك الأمراض والوساوس التي تفتك بكثير من الناس الذين حرموا مثل هذه المعرفة العظيمة بربهم ، نعم سوف لا يخيم على نفسه ما يخيم على النفوس اليائسة ، من الشعور بالقلق والاكتئاب وانكساف البال ، تلك الأشياء التي تجر وراءها من مصائب الدنيا والدين ما لا يعلمه إلا الله عز وجل . وسوف يريحه هذا الشعور من الأفكار المتعبة التي تنشأ من كثرة الاختيارات والترددات، التي هي منشأ القلق والهم والغم.
إن التسخط وعدم الرضى بما قضاه الله عز وجل باب إلى الهم ، والغم ، والحزن ، وشتات القلب ، وسوء الحال ، والظن بالله ظن السوء ، ولا يدفع ذلك كله إلا معرفة الرب عز وجل بأسمائه الحسنى ، وصفاته العلا ، والتعبد له سبحانه بها ، والعمل بمقتضاها ، والذي يولد في النفس الرضى بما يختاره الله عز وجل، وأنه أرحم بعبده من نفسه : (( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ )) [ آل عمران : 66] .
4- سلامة القلب :
عندما يمتلئ القلب بتوحيد الله عز وجل ومعرفته سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا ، ويمتلئ باليقين بوعده ، والثقة بحكمته ، وانتظار رحمته ؛ فإن كل ذلك يضفي على القلب صفاءً ونوراً وطهارة تُسل بها من القلب أمراض كثيرة ؛ فيصبح القلب بعدها سليماً صحيحاً ، وينعم به صاحبه في الدنيا والآخرة ؛ قال تعالى في وصف إمام الحنفاء عليه الصلاة والسلام : ((إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ )) [الصافات : 84] وقال تعالى حكاية لدعاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام : (( وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ )) [الشعراء : 87 89] .
ومن أهم مظاهر سلامة القلب التي تحصل بهذه المعرفة ما يلي :
أ- السلامة من أمراض الحقد والحسد والشحناء :
وذلك لأن الذي يوقن بحكمة الله عز وجل ورحمته في كل ما يقضيه من أقضية كونية وشرعية : يعلم علم اليقين أن لله عز وجل الحكمة البالغة في إعطاء من يشاء ، ومنع من يشاء ، وإعزاز من يشاء ، وإذلال من يشاء . وهذا العلم لابد أن يثمر الرضى بما يقدره الله عز وجل ويقضيه على الناس ؛ وبذلك تزول الشحناء والأحقاد المتولدة عن الحسد المتولد أصلاً من معارضة أقدار الله عز وجل والتسخط لها .
ب- لسلامة من أمراض الخوف والطمع :
إن المؤمن الراضي بربه والموقن بحكمته وبره ولطفه لا تجده إلا قانعاً بما آتاه الله عز وجل ، مطمئناً إلى اختيار الله سبحانه له ؛ لأنه عز وجل أعلم بما يصلح للعبد من نفسه ، وهذه الثمرة تقضي على هذا الداء الخطير ( داء الطمع والحرص والتهالك على الدنيا وزينتها) ؛ لأن القلب الراضي المفوض أمره إلى الله (عز وجل) قد امتلأ غنى وقناعة ومحبة وتوكلاً على الله سبحانه ؛ فحري بقلب هذه صفته ألا يكون فيه محل لمحبة غير الله ، وهذه الثمرة يتولد عنها ثمار طيبة ، منها : عدم الأسى على ما فات ، وعدم الفرح بما هو آت ؛ قال تعالى : (( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَاًسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ )) [الحديد : 22 ، 23] ،
والعبد المؤمن لا يدري أين يكون الخير ، أهو في الفائت أم الآتي ؟ ولكن الله وحده هو الذي يعلم ، وهو علام الغيوب .
كما أنها تثمر أيضاً : الزهد في الدنيا ، والحذر منها ، فكم فرح بالدنيا أناس فكانت سبب هلاكهم وشقوتهم ؛ قال تعالى : (( وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ )) [الشورى : 27] .
وكيف يسكن الخوف والهلع في قلب من اطمأن إلى حكم ربه، وأحسن الظن به، وفوض أموره إليه . إن الخوف والهلع سواءً أكان على الرزق أو الأجل لا يكونان إلا عند من لم يعرف ربه بأسمائه الحسنى وصفاته العلا، أما لو عرف ربه عز وجل ، وأنه رحيم ودود، وأنّه حكيم عليم ، وأنه لطيف خبير .. معرفة حقيقية يتعبد لربه بها : فإن الاطمئنان والسكينة تعمران القلب ، وتنفيان كل دواعي الخوف والوجل من المخاليق الضعفاء الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً فضلاً عن أن يملكوا شيئاً من ذلك لغيرهم . ويبقى صاحب هذا القلب مطمئناً إلى حسن اختيار الله له ، يستشرف رحمة ربه وخيره في كل ما يقضيه الله عليه ؛ ولو ظهر في هذا المقضي من الشر والألم ما ظهر ، فمن يدري ؟ ! فلعل في طيات المحنة منحة ونعمة .
ج- السلامة من أمراض الكبر والخيلاء :(12/257)
إن القلب لا يصدق عليه أن يوصف بكونه سليماً صحيحاً حتى ينضم إلى ما ذكر سابقاً سلامته من أمراض الكبر والفخر والخيلاء ؛ فإن العبد المؤمن متى ما عرف ربه عز وجل وتعبد له بأسمائه وصفاته فإن المسكنة والمحبة لله عز وجل سوف تملأ القلب ؛ وينتج عن ذلك : التواضع للحق وإيثاره ، والتواضع للخلق ، وعدم غمهم وظلمهم ، بل لا ترى مَن هذه صفته إلا محبّاً للخير والإحسان للناس، ولا تراه إلا محقراً لنفسه، منشغلاً بعيوبها عن عيوب الناس ؛ لأنه يشهد حكمة الله عز وجل في ابتلائه لعبده بالخير والشر . ولأن أسباب الكبر والتعالي على الناس لا تخرج عن كونها اغتراراً بنعمة دينية أو دنيوية ، وأنه إذا أيقن العبد المؤمن أن هذه النعم إنما أعطاها الله لعبده ليبلوه أيشكر أم يكفر ؛ فإن الخوف على النفس من هذا الابتلاء سيشغله عن التعالي على الناس، أو الفخر عليهم ، وكيف يكون ذلك وهولا يدري أين يكمن الخير أو الشر ؟ ! ولعل هذه النعمة التي يفتخر بها فتنة له ومتاع إلى حين، أو أن الذي يفخر عليه ممن هو دونه يكون في خير ورحمة مفتوحة من الله عز وجل عليه ، والناس يحسبون أنه في ضيق وشر !
5- محاسبة النفوس والانتباه إلى خطر المعاصي وشؤمها على الفرد والمجتمع :
إن من ثمار هذه السنة الكريمة أن ينتبه العبد المؤمن إلى نفسه ويحاسبها على تفريطها وذنوبها وهذا بعض الخير الذي يجعله الله فيما يراه الناس شرّاً ومصيبة ؛ حيث إن المصائب والشرور المقدرة على العبد المؤمن غالباً ما تكون تكفيراً للذنوب ، سوإيقاظاً له من الغفلة ، ومجالاً لتطهير النفس من أدران المعاصي والسيئات .ومتى ما حصلت هذه الثمرة العظيمة في القلب فإن المصيبة والنقمة تصبح في حقيقة الأمر خيراً ونعمة لصاحبها ؛ وصدق الله العظيم : (( لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ )) .
أما إذا حصل العكس من ذلك والعياذ بالله وذلك بأن كانت المصيبة سبباً في مزيد من الغفلة أو التسخط على أقدار الله تعالى ؛ فإن المصيبة والحالة هذه لا تعتبر خيراً لمن وقعت عليه ، لكنها قد تكون خيراً لغيره عندما يحصل الاتعاظ والعبرة بحال من وقعت له المصيبة .
6- التعرف على سنن الله (عز وجل) في التغيير ، والسير على هداها :
إن إدراك معاني أسماء الله عز وجل وآثارها ومقتضياتها يفتح في قلب المؤمن منافذ عديدة على سننه عز وجل التي لا تتبدل ولا تتحول ، وبخاصة إدراك آثار حكمة الله (عز وجل) ورحمته ولطفه وإحسانه ، ولقد مرّ بنا كيف أن فقه قوله تعالى : (( لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ )) يطبع في القلب شعوراً برحمة الله عز وجل وخيره وبره ، وأن كل ما يقضيه عز وجل هو عين الخير والمصلحة والحكمة ، وهذا الشعور يؤدي بدوره إلى فتح القلب والفكر على سنن الله عز وجل التي تنبثق من هذه المعرفة ، وعندما تحصل هذه المعرفة لسنن الله عز وجل في التغيير : فإن الفكر البشري ينضبط ويستقيم ولا تتقاذفه الثقافات المادية ذات اليمين وذات الشمال ، وبذلك يسلم من التفسيرات المادية للأحداث ، والتي تربط كل المتغيرات بأسباب مادية بحتة ؛ كتلك التي تربط النصر والهزيمة بأسباب مادية ، أو تلك التي تفسر العقوبات الربانية كالزلازل والأعاصير بكونها ظواهر
فلكية بحتة ، متجاهلين قدر الله وحكمته .
كما أن هذه المعرفة تثمر أيضاً : معرفة الموازين المنضبطة الثابتة التي توزن بها الأمور والأحوال والأشياء ، وحُقّ لها أن تكون بهذه المثابة ؛ لأنها من عند الله عز وجل الحكيم ، العليم ، الرحيم ، الودود ، الذي يعلم ما كان وما سيكون ، والذي له الكمال المطلق ، وهو الغني الحميد . وهو سبحانه يقول الحق ، ويقصّ على عبيده رحمة منه وفضلاً جانباً من أسرار سنته وقدره ليأخذ الناس حذرهم وليعتبروا ويتعظوا ، وليدركوا الرحمة والخير والحكمة الكامنة وراء هذه السنن الربانية والموازين الإلهية ، والتي بدورها تؤدي إلى معرفة المنهج الصحيح للتغيير ، كما تؤدي إلى المنهج الصحيح لتقويم الأمور ووزنها بالميزان الحق
ولقد مر بنا في الثمرات السابقة بعض السنن الربانية التي يهتدي إليها القلب العامر بمعرفة الله عز وجل وتوحيده ، ولكن نخص هنا بعض السنن بشيء من التفصيل ، وذلك فيما يلي :
أ- العاقبة للمتقين : إن وعد الله عز وجل لا يتخلف ، وكلمته لا تتبدل ،
ولقد قال وقوله الحق : (( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ * وَإنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ )) [الصافات : 171- 173] هذا وعد الله سبحانه ،ولو تأخر وأبطأ على عباده فإن من وراء ذلك التأخير حكمة وخير .
ب- ويتعلق بهذه السنة سنة أخرى في معناها ، وهي قوله تعالى : (( وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً )) [النساء : 141] .
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في معنى الآية : (قيل : بالحجة والبرهان، فإن حجتهم داحضة عند ربهم ، وقيل : هذا في الآخرة وأما في الدنيا فقد يتسلطون عليهم بالضرر لهم والأذى، وقيل : لا يجعل لهم عليهم سبيلاً مستقرة، بل وإن نصروا عليهم في وقت فإن الدائرة تكون عليهم ، ويستقر النصر لأتباع الرسول .(12/258)
وقيل : بل الآية على ظاهرها وعمومها ، لا إشكال فيها بحمد الله؛ فإن الله سبحانه ضمن أن لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً ، فحيث كانت لهم سبيلٌ ما عليهم فهم الذين جعلوها بتسببهم ترك بعض ما أقروا به، أو ارتكاب بعض ما نُهوا عنه؛ فهم جعلوا لهم السبيل عليهم بخروجهم عن طاعة الله ورسوله فيما أوجب تسلط عدوهم عليهم في هذه الثغرة التي أدخلوها ، كما أخلى الصحابة يوم أُحد الثغرة التي أمرهم رسول الله بلزومها وحفظها ؛ فوجد العدو منها طريقاً إليهم ، فدخلوا منها) [2] .
والحاصل مما سبق : أن معرفة السنة السابقة لا تفهم حق الفهم إلا بمعرفة الله عز وجل وتوحيده ؛ فإنه سبحانه لا يريد بعباده إلا الخير والرحمة ، ولو تسلط الأعداء في وقت ما فإن عاقبة هذا التسلط هي الخير والتمكين ؛ وذلك أن المؤمنين عندما يتسلط عليهم أعداؤهم وينالونهم بالأذى يدركون من واقع قوله تعالى : (( لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ )) أن ما أصابهم إنما هو بذنوبهم ؛ فيكون الخير في تسلط الأعداء هو تغيير ما بالنفوس من خلل ، وإحداث التوبة والاستغفار ، وترك ما أوجب حلول المصيبة ، وهذا خير في حد ذاته لم يكن ليظهر لو استمر النصر والتمكين مع وجود المعاصي ، وضعف الإيمان ؛ لأنه والحالة هذه يستمر الفساد بدون إصلاح .
وهذا هو معنى السنة الثابتة التي لا تتغير، ألا وهي قوله تعالى :
ج-) ( إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ )) [الرعد : 11] .
ومثلها قوله تعالى : (( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )) [الأعراف : 96] . والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًّاً .
د- قوله تعالى : (( وَلا يَحْسَبَنَّ الَذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ )) [آل عمران : 178] .
هذه الآية ترسم ميزاناً قويماً ثابتاً في أن إغداق النعم على العبد ليس علامة على كرامة الله له ومحبته إياه، ولا يدل على أنه في خير وسعادة ، بل الغالب أن وراء الإملاء والنعم شرّاً وعذاباً ، وفي هذا الميزان توجيه للناس إلى حقيقة الابتلاء بالخير والشر، وألا تكون موازينهم في السعادة والتعاسة هي النظر إلى كثرة النعم أو قلتها ؛ فكم كان الرخاء سبباً للعذاب دنياً وأخرى ، وكم من أناس صالحين حرموا في هذه الدنيا من نعمة المال والأولاد ، ولكنهم في خير وسعادة دنياً وأخرى . وهذه المعاني العظيمة لا يمكن إدراكها إلا في ضوء التوحيد وأنواره ، وصدق الله العظيم : ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم )) والآيات في هذا المعنى كثيرة جدّاً ، أذكر منها قوله تعالى : (( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ )) [التوبة : 55] .
7- التؤدة والأناة وعدم الاستعجال :
وهذه هي الثمرة السابعة من ثمار قوله تعالى : (( لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ )) فإذا كان العبد لا يعلم أين يكون الخير والشر فيما يقضيه الله سبحانه إلا في ضوء ما أعلمه الله عز وجل عباده من السنن والثواب ، فإنه والحالة هذه لا ينبغي له أن يتعجل الأمور أو يحلل المواقف والأحداث قبل دراستها والبحث في جوانبها ،متجرداً في ذلك لله عز وجل ، مهتدياً بالموازين والسنن الثابتة التي ذكرها الله سبحانه في كتابه، وعلى لسان رسوله، وإذا وُفّق العبد إلى هذا الفضل :فإنه في الغالب يصدر عن الحق ، وينطق بالحق، وتنشأ عنده صفتا الحلم والأناة اللتان يحبهما الله عز وجل .. وكم رأينا من أناس تعجلوا أمورهم قبل أوانها فكانت نتيجتها وبالاً وشرّاً ، وكم سئم أناس من نعمة أنعم الله بها عليهم فتقالّوها وملّوها وأرادوا غيرها ، فلما جاءهم ما أرادوه وتعجلوه أصابهم منه ضررٌ ونكدٌ وندمٌ .
ومن صور الاستعجال التي يمكن معالجتها بهذه السنة : ما نراه من تعجل بعض الطيبين من الغيورين على هذا الدين في قطف ثمرة جهدهم ، وتعريض أنفسهم للابتلاء ، وتمنيهم لمواجهة الأعداء ... وينسون أو يغفلون عن قوله : (( لا تمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموهم فاصبروا )) [3] .
لأن المرء لا يدري ما تؤول إليه الحال عند مواجهة العدو ، ومشاهدة الأهوال . وقد يتمنى العبد حالة معينة ويستعجلها بتصرفه الجاهل بعواقب الأمور ، ولكن الله عز وجل برحمته يحول بينه وبين هذا الأمر لما يعلمه سبحانه من الشر والفتنة على عبده من هذا الأمر؛ فكم من أناس استعجلوا البلاء قبل أوانه ، فلما أصبحوا تحت وطأته : ضعفوا وانتكسوا والعياذ بالله فحريّ بالمسلم أن يسأل ربه الدلالة على ما فيه الخير والصلاح ، وعلى ما فيه مرضاته عز وجل ورحمته .
مما سبق يتبين لنا فضل التؤدة والأناة ، وأنها من ثمرة العلم بالله عز وجل وتوحيده وأسمائه وصفاته ، وأنه عز وجل يقدر الوقت المناسب لنصر أوليائه بعد أن يكونوا قد أخذوا بأسباب النصر وأعدوا عدته ، وأنه سبحانه هو العليم الحكيم والبر الرحيم بعباده ، فلا يؤخر عنهم شيئاً، ولا يقضي عليهم أمراً إلا وفيه الخير والرحمة ، ولكن العبد القاصر والجاهل بعواقب الأمور يستعجل أمر ربه الرحيم .(12/259)
وصدق الله العظيم في وصفه للإنسان : (( خُلِقَ الإنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ )) [الأنبياء : 37] فطبيعته العجل والتسرع ، إلا مَن منّ الله عليه بتوحيده ومحبته والتسليم له ، مع فعله للأسباب الممكنة ، فإنه يسلم من الأفكار المتعبة ، والاندفاعات المتهورة ، لأنه يفقه قوله تعالى : ((لا تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم )) وصدق الرسول : ((التؤدة في كل شيء إلا في عمل الآخرة )) [4] .
-------------
(1) تفسير السعدي : ج5 ، ص279 .
(2) بدائع التفسير : ج2 ، ص85 .
(3) متفق عليه : رواه البخاري في الجهاد ، باب (156) ، ج6 ، ص181 ومسلم في الجهاد ، باب : كراهة تمني لقاء العدو ، م3 ، ص1362 .
(4) رواه : أبو داود في الأدب ، باب : في الرفق ، ج5 ، ص157 وهو في السلسلة الصحيحة للألباني ، رقم (1794) .
في هذا المبحث سأتعرض إن شاء الله تعالى لبعض المواقف من السيرة المطهرة وغيرها، والتي ظهرت فيها حكمة الله عز وجل ورحمته، وأن ما اختاره الله عز وجل لعباده خير مما اختاروه لأنفسهم .
من السيرة المطهرة :
الموقف الأول : غزوة بدر الكبرى :
وهي أشهر من أن تذكر ؛ فلقد كانت فرقاناً بين الحق والباطل ، ولكن المراد من الاستشهاد بها هنا :هو ما ظهر في هذه الغزوة العظيمة من الفرق بين ما أراده المسلمون قبل الغزوة ، وكراهيتهم للقاء عدوهم ، ورغبتهم في أن تكون في العير ، وبين ما اختاره الله لهم من أن تكون في النفير وفي ذات الشوكة ؛ يقول الله عز وجل : ((وَإذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُون )) [الأنفال : 7 ، 8] .
فأين الخير الذي علمه الله عز وجل وغاب عن المسلمين آنذاك فأرادوا غيره ؟ إن الجواب في الآية نفسها ؛
يعلق الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى على هذه الآية فيقول : ( لقد أراد الله وله الفضل والمنة أن تكون ملحمة لا غنيمة ، وأن تكون موقعة بين الحق والباطل ؛ ليحق الحق ويثبته ، ويبطل الباطل ويزهقه ، وأراد أن يقطع دابر الكافرين ؛ فيُقتل منهم من يقتل ، ويُؤسر منهم من يؤسر ، وتذل كبرياؤهم ، وتخضد شوكتهم ، وتعلو راية الإسلام وتعلو معها كلمة الله ، ويمكّن الله للعصبة المسلمة التي تعيش بمنهج الله ، وتنطلق به لتقرير ألوهية الله في الأرض ، وتحطيم طاغوت الطواغيت ، وأراد أن يكون هذا التمكين عن استحقاق لا عن جزاف تعالى الله عن الجزاف وبالجهد والجهاد ، وبتكاليف الجهاد ومعاناتها في عالم الواقع وفي ميدان القتال ..
... وينظر الناظر اليوم ، وبعد اليوم ، ليرى الآماد المتطاولة بين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها يومذاك وما أراده الله لها ، بين ما حسبته خيراً لها وما قدره الله لها من الخير .. ينظر فيرى الآماد المتطاولة ؛ ويعلم كم يخطئ الناس حين يتضررون مما يريده الله لهم ، مما قد يعرضهم لبعض الخطر ، أو يصيبهم بشيء من الأذى ، بينما يكمن وراءه الخير الذي لا يخطر لهم ببال ، ولا بخيال ! .
فأين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها مما أراده الله لها ؟ لقد كانت تمضي لو كانت لهم غير ذات الشوكة قصة غنيمة ، قصة قوم أغاروا على قافلة فغنموها ! فأما بدر فقد مضت في التاريخ كله قصة عقيدة ، قصة نصر حاسم وفرقان بين الحق والباطل ، قصة انتصار الحق على أعدائه المدججين بالسلاح ، المزودين بكل زاد ، والحق في قلة من العدد وضعف في الزاد والراحلة ) [1] .
الموقف الثاني : غزوة أحد :
وهذه الغزوة أيضاً من أشهر غزوات الرسول ، ومن أشدها على المسلمين ؛ حيث استشهد سبعون صحابيّاً ، وشُجّ وجه النبي الكريم ، ومع ذلك كان فيها خير للمسلمين ورحمة ؛ يدل على ذلك قوله تعالى : (( وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ فَبِإذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمََ المُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَانِ يَقُولُونَ بَأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُون)) [آل عمران : 166 ، 167] .
ولقد أحسن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في ذكره لبعض الحِكَم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد ، أقتطف منها قوله :
1- فمنها : تعريفهم سوء عاقبة المعصية ، والفشل ، والتنازع ، وأن الذي أصابهم إنما هو بشؤم ذلك ؛ كما قال تعالى : ((وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسُّونَهُم بِإذْنِهِ حَتَّى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ )) [آل عمران : 152] .
فلما ذاقوا عاقبة معصيتهم وتنازعهم وفشلهم : كانوا بعد ذلك أشد حذراً ويقظة وتحرزاً من أسباب الخذلان .(12/260)
2- ومنها : أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب ؛ فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر، وطار لهم الصيت : دخل معهم في الإسلام ظاهراً من ليس معهم فيه باطناً ، فاقتضت حكمة الله عز وجل أن سبّب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق، فأطلع المنافقون رؤوسهم في هذه الغزوة ، وتكلموا بما كانوا يكتمونه ، وعاد تلويحهم تصريحاً، وانقسم الناس إلى كافر ، ومؤمن ، ومنافق ، انقساماً ظاهراً ، وعرف المؤمنون أن لهم عدواً في نفس دورهم ، وهم معهم لا يفارقونهم ، فاستعدوا لهم ، وتحرزوا منهم ؛ قال الله تعالى : (( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَلكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ )) [ال عمران : 179]
أي : ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين ، حتى يميز أهل الإيمان من أهل النفاق ، فإنهم متميزون في غيبه وعلمه ، وهو سبحانه يريد أن يميزهم تمييزاً مشهوداً ، فيقع معلومه الذي هو غيب شهادةً .
3- ومنها : استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء ، وفيما يحبون وما يكرهون ، فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون فهم عبيده حقّاً ، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية .
4- ومنها : أنه سبحانه لو نصرهم دائماً ؛ لطغت نفوسهم ، وشمخت ، وارتفعت ؛ فلو بسط لهم النصر والظفر ، لكانوا في الحال التي يكونون فيها لو بسط لهم الرزق ، فلا يصلح عباده إلا السراء والضراء، والشدة والرخاء ، والقبض والبسط .
5- ومنها : أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغنى طغياناً وركوناً إلى العاجلة ، وذلك مرض يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والدار الآخرة ، فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته : قيّض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواءً لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه ، فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقي العليل الدواء الكريه ، ولو تركه لغلبته الأدواء حتى يكون فيها هلاكه .
6- ومنها : أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه ، وهو سبحانه يحب أن يتخذ من عباده شهداء تُراق دماؤهم في محبته ومرضاته ، ويؤثرون رضاه ومحابه على أنفسهم . ولا سبيل إلى نيل هذه الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو .
7- ومنها : أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم ،قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم ، ومن أعظمها بعد كفرهم : بغيهم، وطغيانهم ، ومبالغتهم في أذى أوليائه ، ومحاربتهم ، وقتالهم ، والتسلط عليهم ؛ فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم ، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم . وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في قوله : (( وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ )) [آل عمران : 141] [2] .
مواقف من السلف :
1- الموقف الأول : محنة الإمام أحمد ابن حنبل ( رحمه الله تعالى ) :
وما أظن أحداً من المسلمين يجهل المحنة التي تعرض لها أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ؛ وذلك فيما يعرف بفتنة القول بخلق القرآن ، وقد تعرض هذا الإمام الجليل لمحنة وبلاء عظيم ؛ تلك المحنة كانت مؤذية له رحمه الله ، ومؤذية للمسلمين معه ، ولكن الله عز وجل ثبّته في هذه المحنة العظيمة ، وحمى به عقيدة أهل السنة من الانحراف أو الاندثار ، ولقد كانت هذه البليَّة لإمام
السنة خيراً له فيما بعد ؛ فما كان لينال هذا الخير لولا هذا الابتلاء وما من الله به عليه من الثبات والتضحية .
2- شيخ الإسلام ابن تيمية وسجنه :
وكذلك لا أظن أحداً من أهل العلم يجهل هذا الرجل العظيم ، وما ضحى به في سبيل الله عز وجل بعلمه وجهاده وصبره وما لاقى في ذلك من السجن والإبعاد، ولكن كان في ذلك الابتلاء خيرله ورفعة ، كما يقول ذلك هو عن نفسه عندما ورد المرسوم السلطاني بسجنه في قلعة دمشق : ( أنا كنت منتظراً ذلك ، وهذا فيه خير عظيم ) [3] .
وقال : ( لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة ) .
كما كان في الابتلاء الذي تعرض له خير للمسلمين في عصره وما تلاه من العصور ؛ وذلك بانتشار دعوته وعلمه ؛
يقول رحمه الله : ( ومن سنة الله : أنه إذا أراد إظهار دينه أقام من يعارضه ، فيحق الحق بكلماته، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ) [4] .
احتراس وتنبيه :
وفي هذا المبحث أود التنبيه على قضية يُخشى أن تنشأ من خلال الحديث عن الرضا بقدر الله عز وجل وتفويض الأمور إليه ؛ ألا وهي الانحراف بهذا الأمر إلى المفهوم الخاطئ لمسألة الرضا والتسليم لقضاء الله عز وجل، والذي قد يؤدي إلى التواكل ، والعجز ، والرضا بالفساد ، والذلة ، والمهانة ، وترك الأخذ بالأسباب والدعوة والجهاد ؛ فنكون قد عالجنا مرضاً وانفتح علينا مرض آخر . من أجل ذلك سأخص هذا المبحث بالحديث عن هذه القضية ، وذلك احتراساً من الفهم الخاطئ الذي قد ينشأ لو لم يحصل هذا التنبيه ، فأقول وبالله التوفيق :(12/261)
إن من القواعد المهمة لمطالعة حوادث الزمان : الفهم الصحيح لعقيدة القضاء والقدر ، والفهم الصحيح لمقتضى أسماء الله عز وجل الحسنى وصفاته العلا، والتوازن في هذا الفهم بين الغلو والجفاء ، وهذا والحمد لله هو سمة معتقد أهل السنة والجماعة في جميع أبواب العقيدة ، ومن ذلك : عقيدة القضاء والقدر ، وتوحيد الأسماء والصفات . ولقد انحرف عن هذه القواعد طرفان من الناس : فمنهم من أنكر الاستدلال بالقضاء والقدر على حوادث الزمان ، وتنقص المؤمنين به ، ومنهم من فهم القضاء والقدر على أنه تواكل وخمول وخنوع مُذل ، وكلا الموقفين منحرف ومجانب للصواب ؛ فالإيمان بقضاء الله عز وجل وبعلمه وتقديره للأمور قبل وقوعها ، ثم مشيئته ، وخلقه لها ، وأن له الحكمة البالغة في كل ما يقضيه ويقدره ، وأن من وراء ذلك رحمته، وإرادة الخير واليسر لعباده .. كل ذلك مما يجب الإيمان به في باب القضاء والقدر ، كما أنه مقتضى الإيمان بأسمائه سبحانه وصفاته ، ولكن هذا الإيمان بهذه القواعد والحقائق لا يعني ترك الأسباب، والرضا بالذلة والهوان وانتشار الفساد ، كلا ، بل إن الفهم الصحيح للقضاء والقدر يكمن في التوازن بين الاستسلام المطلق لقدر الله ، والعمل بكل ما في الوسع والوقوف المطمئن عند حد الاستطاعة ؛ وهذا يعني فعل الأسباب التي سخرها الله سبحانه، ومدافعة أقدار الله عز وجل بأقداره ، ما دام أن هناك إمكاناً للمدافعة ؛ قال تعالى : (( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ )) [البقرة : 251] فإذا لم تُجدِ المدافعة، أو لم يكن ذلك في الإمكان : فالواجب : الصبر والاستسلام لقضاء الله عز وجل ، واليقين بأن من وراء ذلك خيراً ومصلحة ورحمة ، يجب أن يتجه الجهد إلى التماسها، وتسخيرها في مزيد من الخير والإصلاح ، وتغيير الأحوال، ومحاسبة النفوس ، وإزالة أسباب المصيبة ، وبذل الجهد في دفعها ؛ قال تعالى : (( إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ )) [الرعد : 11] .
ويوضح هذا المعنى الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى فيقول : ودفع القدر بالقدر نوعان :
أحدهما : دفع القدر الذي قد انعقدت أسبابه ولمّا يقع بأسباب أخرى من القدر تقابله ، فيمتنع وقوعه، كدفع العدو بقتاله ، ودفع الحر والبرد ونحوه .
الثاني : دفع القدر الذي قد وقع واستقر بقدر آخر يرفعه ويزيله ، كدفع قدر المرض بقدر التداوي ، ودفع قدر الذنب بقدر التوبة ، ودفع قدر الإساءة بقدر الإحسان ، فهذا شأن العارفين وشأن الأقدار ، لا الاستسلام لها، وترك الحركة والحيلة ؛ فإنه عجز، والله تعالى يلوم على العجز. فإذا غُلب العبد ، وضاقت به الحيل ، ولم يبق مجال ؛ فهنالك الاستسلام للقدر ، والانطراح كالميت بين يدي الغاسل ، يقلبه كيف يشاء [5] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كلّ خير . احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا... الحديث)) [6] ،
ويشرح الإمام النووي الحديث ، فيقول : ( والمراد بالقوة هنا عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة ، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداماً على العدو في الجهاد ، وأسرع خروجاً إليه، وذهاباً في طلبه ، وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق في ذات الله تعالى، وأرغب في الصلاة، والصوم، والأذكار، وسائر العبادات، وأنشط طلباً لها ، ومحافظة عليها ونحو ذلك .. وقوله صلى الله عليه وسلم : ( احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ) معناه : احرص على طاعة الله تعالى، والرغبة فيما عنده، واطلب الإعانة من الله تعالى على ذلك ، ولا تعجز ولا تكسل عن طلب الطاعة ، ولا عن طلب الإعانة ) [7].
ويتحدث الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن الفرق بين العجز والتوكل ، فيقول : ( والفرق بين التوكل والعجز : أن التوكل عمل القلب وعبوديته :اعتماداً على الله ، وثقة به ، والتجاءً إليه، وتفويضاً إليه، ورضاً بما يقضيه له؛ لعلمه بكفايته سبحانه، وحسن اختياره لعبده إذا فوض إليه مع قيامه بالأسباب المأمور بها ، واجتهاده في تحصيلها ؛ فقد كان رسول الله أعظم المتوكلين ، وكان يلبس لأَمَتَه ودرعه ، بل ظاهر يوم أحد بين درعين ، واختفى في الغار ثلاثاً ؛ فكان متوكلاً في السبب لا على السبب .
وأما العجز : فهو تعطيل الأمرين أو أحدهما : فإما أن يعطل السبب عجزاً منه، ويزعم أن ذلك توكل ! ولعمر الله إنه لعجز وتفريط ، وإما أن يقوم بالسبب ناظراً إليه، معتمداً عليه، غافلاً عن المسبّب ، معرضاً عنه، وإن خطر بباله لم يثبت معه ذلك الخاطر ، ولم يعلق قلبه به تعلقاً تاماً، بحيث يكون قلبه مع الله، وبدنه مع السبب . فهذا توكله عجز، وعجزه توكل) [8] .(12/262)
ويقول الدكتور علي العلياني وفقه الله تعالى في حديثه عن أهل التصوف وانحرافهم في موضوع الجهاد في سبيل الله : إن من صفاتهم : (الرضا بما يقع عليهم من مصائب وذنوب، فلا يحاولون دفعها عن أنفسهم ، زعماً منهم أن دفعها ينافي الرضا بالقدر ، فلو وطئ الكفار رقابهم يرضون ويسلمون ؛ لأن الله أراد ذلك ! .. ويذكر الأستاذ محمود مهدي قصة ملخصها: أن الفرنسيين إبان استعمارهم لتونس كانوا يجدون معارضة شديدة من الناس ؛ فتفاهم الفرنسيون مع شيخ الصوفية على أن يدخلوا البلاد ؛ فلما أصبح الصباح قعد الشيخ مطرقاً رأسه وهو يقول : لا حول ولا قوة إلا بالله ، فلما سأله أتباعه عن الأمر الذي يقلقه قال لهم : لقد رأيت الخضر وسيدي أبا العباس الشاذلي وهما قابضان بحصان جنرال فرنسا ثم أوكلا الجنرال أمر تونس ، يا جماعة هذا أمر الله ، فما العمل ؟ فقالوا له : إذا كان سيدي أبو العباس راضياً ، ونحن نحارب في سبيله ، فلا داعي للحرب ! ثم دخل الجيش الفرنسي تونس بدون مقاومة) إلى أن يقول : ( إن عقيدة الصوفية المنحرفة في التوكل والرضا بالقدر : جعلت نفوسهم راضية مطمئنة ولو وطئ الكفار على رقابهم ؛ فإن التوكل عندهم عدم ممارسة الأسباب ، والرضا معناه أن ترضى بما يحصل لك ولو هو استيلاء الكفار على بلاد المسلمين ، وسبي ذراريهم . وإن أبديت مقاومة فأنت معارض للقدر ! وغير متوكل على الله ! فالذي يسافر في البراري الخالية بغير زاد ، هل يتصور منه أن يلبس لأَمَة الحرب ودروع القتال ؟ وليته إذ لم يفعل ذلك غمس نفسه في القتال حاسراً ! ! .. ولكن ما له ولفرقعة السلاح ، ولخرير الدماء ؛ وحلق الرقص وطقطقة المسابح كفيلة بإنزاله منزلة الصديقين على زعمه ، فأي انحراف هذا الذي أصاب الأمة الإسلامية ، وأي فرحة للكفار تحصل لهم أشد من فرحتهم بهذا ) [9] .
-------------
(1) في ظلال القرآن ، م3 ، ص1481 .
(2) زاد المعاد ، ج3 ، ص218-222 باختصار .
(3) العقود الدرية ، ص329 .
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية ، ج28 ، ص57 .
(5) مدارج السالكين ، ج1 ، ص20 .
(6) رواه مسلم : كتاب القدر ، ح2664 .
(7) شرح صحيح مسلم للنووي ، ج16 ، ص215 .
(8) الروح ، ص344 .
(9) أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية ، باختصار ، ص288 .
=============
من جوانب الاقتداء بهدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
في مقال سابق بيّنت أهمية معرفة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهديهم ؛ وذلك لأخذ العبر العظيمة، والاقتداء بهم ، والتعزي بما أصابهم ، والحصول على الفوز في الدنيا والآخرة باتباعهم .
وسيكون التركيز في هذا المقال إن شاء الله تعالى بالوقوف على ثلاثة جوانب عظيمة من حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، هي في نظري من أهم جوانب الاقتداء بهم عليهم الصلاة والسلام ، وهي كما يلي :
أولاً: من هديهم عليهم الصلاة والسلام في قوة العلم بالله تعالى، وأثر ذلك في صدق الإيمان وكمال التوحيد وقوة العبادة.
ثانياً: من هديهم عليهم الصلاة والسلام في الأخلاق والسلوك.
ثالثاً: من هديهم عليهم الصلاة والسلام في الدعوة والتبليغ.
وسيكون تحت كل جانب من هذه الجوانب الثلاثة تقسيمات أخرى تفصّل فيها بعض الصور والأمثلة الداخلة تحت كل جانب ، مع محاولة الربط ما أمكن بواقعنا نحن المسلمين اليوم ، وبخاصة ما يتعلق بالدعوة والدعاة في هذا العصر ، موضحاً من خلال هذا الربط مدى قربنا أو بعدنا من هذا الهدي الكريم في كل جانب من الجوانب الآنفة الذكر من حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهذا هو جهد المقل ؛ فما وجدته أخي الكريم من صواب وحق فهو من الله عز وجل، وما وجدت فيه من خطأ وخلل فمني ومن الشيطان، فإلى تفصيل ما أشير إليه آنفاً .
الجانب الأول : من هديهم في قوة العلم بالله عز وجل، وأثر ذلك في صدق الإيمان وكمال التوحيد :
إن أعلم الناس بالله عز وجل هم أنبياؤه ورسله عليهم الصلاة والسلام، وهذا العلم به سبحانه وبأسمائه وصفاته العلا هو الذي أوجد هذه الخشية العظيمة والإيمان الصادق والتوحيد الكامل لله عز وجل ؛ لأنه كلما كان العبد أعلم وأعرف بربه سبحانه كلما كان أشد خوفاً وتعظيماً وعبادة ومحبة وإخلاصاً له ، والعكس بالعكس .
وإن مما اختص الله سبحانه به رسله ، ومما منّ به عليهم : تكميل هذا العلم العظيم في نفوسهم، والذي هو أشرف العلوم وأزكاها .
وإن المسلم مأمور بطلب هذا العلم الشريف قدر استطاعته اقتداءً بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ ولو أنه لن يصل إلى علمهم ولا إيمانهم ، لكنه بذلك يقترب منهم ويسعد بثمار هذا العلم العظيم في قلبه وسلوكه وحياته كلها .
ومن الأدلة على شرف هذا العلم ما يلي :
قول الله تعالى :عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام في دعوته لأبيه : ((يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً)) (مريم : 43) .
وقوله تعالى عن يعقوب عليه الصلاة والسلام : ((وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ )) (يوسف : 68)
وقوله تعالى عن يعقوب عليه الصلاة والسلام : ((قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)) (يوسف : 96) . .
وقوله تعالى عن نوح عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه :((أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)) (الأعراف : 62) .(12/263)
وهذا موسى عليه الصلاة والسلام ، مع ما آتاه الله عز وجل من العلم العظيم ، فإنه لم يكتف به، وإنما طلب المزيد .. وقصة سفره (عليه الصلاة والسلام) إلى الخضر عليه السلام ليتعلم منه معروفة ، وقد قصها الله (عز وجل) علينا في كتابه الكريم ، والشاهد منها قوله تعالى : ((قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً)) (الكهف : 66) .
وللشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند هذه القصة كلام نفيس ، فليرجع إليه .
وقوله تعالى لنبيه محمد : ((قُلْ إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ)) (الأنعام : 57) .
وقوله عن نفسه عندما تنزه بعض الصحابة عن شيء رخص فيه الرسول ، فُبلِّغ ذلك إليه ، فخطب ، فحمد الله ، ثم قال : (( ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه ؟ ! ، فو الله إني لأعلمهم بالله ، وأشدهم له خشية))[1].
الآثار على نفوس الأنبياء : وبعد سرد هذه الأدلة والتي هي على سبيل المثال لا الحصر نأتي الآن إلى أثر هذه البينات العظيمة في نفوس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، الناشئة عن هذا العلم الشريف بالله عز وجل وبأسمائه الحسنى وصفاته العلا ، لعلنا نهتدي بهذه الآثار الإيمانية المباركة ونسعى للتأسي بهم .
ومن هذه الآثار ما يلي :
أولاً : شدة تعظيمهم لله عز وجل وخوفهم منه :
فعلى الرغم من اصطفاء الله سبحانه لهم وحبه لهم وقربهم منه .. فإن هذه المزايا لم تزدهم لربهم إلا تعظيماً، ومحبة ، وخوفاً منه سبحانه، وخشية . وهذه سنة الله سبحانه ؛ فكلما ازداد العبد معرفة بربه كلما عظّمه في نفسه ، وخاف منه سبحانه خوف المحب لحبيبه ؛ خوفاً يقرب إلى الله عز وجل، وخوفاً يهضم العبد عنده نفسه ويحقرها ولا يرى لها فضلاً ولا طوعاً، وإنما يراها أهلاً للظلم والخطيئة والضعف ، إن لم يوفق الله تعالى صاحبها ويعينه عليها .
وهكذا كان شأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والأمثلة في ذلك كثيرة ،
منها : مناجاة نوح عليه الصلاة والسلام لربه بشأن ابنه : وقد جاء ذلك في قصة نوح مع قومه في سورة هود ، حيث يقول الله تعالى : ((وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وإلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الخَاسِرِين)) (هود : 45-47) .
ويظهر من هذه الآيات علم نوح عليه الصلاة والسلام بربه عز وجل ،والذي أثمر عنده هذا الأدب العظيم مع ربه والخوف منه سبحانه ؛ فتراه وهو يدعو ربه بشأن ابنه الهالك مع الكافرين يختم دعاءه بقوله : ((وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ)).
ولم يقل : وأنت أرحم الراحمين، وهذا من كمال علمه عليه الصلاة والسلام بأسماء الله البالغة التي اقتضت أن يكون ابن نوح مع الهالكين ولم يكن مع الناجين ، ولذلك : ختم نوح عليه السلام دعاءه بقوله : ((وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِين)) . كما يظهر في هذه المناجاة خوف نوح عليه السلام من ربه ، واتهامه لنفسه بالظلم ، وطلبه المغفرة من ربه سبحانه ؛ وذلك في قوله :
((وإلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الخَاسِرِينَ)) .. الله أكبر ! ، هذا نوح عليه السلام الذي أمضى مئات السنين في دعوة قومه ، وصبر وصابر ، وناله من الأذى والاستهزاء الشيء العظيم ، ومع ذلك يختم دعوته بطلب المغفرة والرحمة من ربه سبحانه:((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إلاَّ تَبَاراً)) (نوح : 28)
فماذا نقول نحن المفرطين الظالمين الجاهلين ؟! .. سبحانك قد ظلمنا أنفسنا ظلماً كثيراً ، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
هذا إمام الحنفاء وخليل الرحمن يخاف من ذنوبه ويسأل ربه المغفرة والستر، ويطلب من ربه سبحانه أن يلحقه بالصالحين ، وكأنه ليس منهم !! .
يقول الله تعالى:((وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لأَبِي إنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)) (الشعراء : 82 -89 ) .
إذن : فما حالنا نحن المقصرين ؟ ، ماذا عسانا أن نقول ؟ ! ، إنه ليس أمامنا إلا أن نحذو حذو هذا الركب المبارك المطهر ونقول ما أوصى به الرسول أبا بكر
الصديق رضي الله عنه عندما سأله أن يعلمه دعاءً يدعو به في صلاته ، فقال : ((قل:اللّهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك ، وارحمني ،إنك أنت الغفور الرحيم))[2].
تعظيم نبينا محمد لربه سبحانه وخوفه منه :(12/264)
ونختم هذه الأمثلة من تعظيم الأنبياء لربهم سبحانه وخوفهم منه ببعض الشواهد من تعظيم نبينا محمد لربه وخوفه منه، مع أنه سيد المرسلين ، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .. ولا غرابة في ذلك ؛ فهو كما قال عن نفسه : ((فوالله إني لأعلمهم بالله ، وأشدهم له خشية))[3] . ومما ورد عنه في هذا الشأن :
عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيراً))[4] ؛ ولذلك : ما رؤي رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً قط ؛ إنما كان يتبسم .
عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال : ((اللّهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به)) ، قالت : وإذ تخيّلت السماء تغير لونه ، وخرج ودخل ، وأقبل وأدبر ، فإذا أمطرت سُرّي عنه ، فعرفت ذلك عائشة ؛ فسألته ، فقال : لعله يا عائشة كما قال قوم عاد :(( فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ )) [5].
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يختصمون في القَدَر ، فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب ، فقال : ((بهذا أمرتم ؟ ، أو لهذا خلقتم ؟ ، تضربون القرآن بعضه ببعض. بهذا هلكت الأمم قبلكم))[6].
ثانياً : كثرة ذكرهم لله عز وجل وشدة تضرعهم ودعائهم له سبحانه مع قوة عبادتهم :
وهذا الجانب من هديهم عليهم الصلاة والسلام ثمرة من ثمار الإيمان الصادق والتوحيد الكامل النابعين من كمال حبهم لله عز وجل وتعظيمهم له ، والمتأمل في هذا الجانب من هديهم ليأخذه العجب والإجلال والحب الخالص لهذه الصفوة المختارة من عباد الله ، وهو يرى إخباتهم لربهم سبحانه وكثرة ذكرهم له ، وتضرعهم ودعاءهم المتواصل لربهم ، مع كثرة عبادتهم وطولها وتنوعها.. كل ذلك وهم أولياء الله وأنبياؤه وصفوته من خلقه ، وإن في هذا الهدي لعبرة لمن هو دونهم ممن يحسب نفسه من الدعاة المتبعين لهم . نعم ..إن في ذلك لعبرة لمن جاء بعدهم من المحبين لهم في أن يولوا هذا الجانب حقه ، وأن يقتدوا بهؤلاء المصطفين الأخيار في كثرة ذكرهم لله عز وجل ، وكثرة دعائهم وتضرعهم وعبادتهم له سبحانه مع ما هم فيه من هم الدعوة والجهاد والانشغال في أمر هذا الدين في الليل والنهار ، ولكن كل ذلك لم يشغلهم عن الخلوة بربهم سبحانه والتفرغ لذكره ودعائه
وعبادته .
وفي هذا رد على ما قد يتذرع به بعضنا إذا نبه إلى هذا الجانب المهم في حياة الداعية من التذرع بضيق الوقت وكثرة المشاغل وتعب الجسد وإجهاده في طلب العلم والدعوة إلى الله عز وجل، فيدخل الشيطان إلى النفس من هذا الباب باب التفريط فيجد الداعية نفسه وقد أهملها في أعظم رافد له في دعوته وأكبر زاد له في طريقه إلى الله .. وأورد الآن نماذج من هذا الهدي المبارك ، لعلها أن تشحذ الهمم وتقوي العزائم ، ولعلها في الوقت نفسه أن تطامن منا بعض النفوس التي أصابها داء العجب؛ فتشعر وهي تقرأ هذه النماذج بأنها لا زالت مقصرة ومفرطة في جنب الله ، فيحصل مقت النفس في ذات الله عز وجل واحتقارها ؛ الاحتقار الذي يؤدي مع الاستعانة بالله عز وجل إلى علاجها ويقظتها.
ومن هذه النماذج ما يلي :
* تضرعهم عليهم الصلاة والسلام إلى ربهم سبحانه وسؤاله قضاء حوائجهم :
ذكر الله عز وجل في آخر سورة الأنبياء مجموعة من أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام، وهم يسألون ربهم ويتضرعون إليه في قضاء حوائجهم، ويتوسلون إلى الله عز وجل بأسمائه وصفاته، كما يتوسلون بفاقتهم وافتقارهم إلى الله عز وجل. ومن ذلك قول الله تعالى : ((وَأَيُّوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)) (الأنبياء : 83- 84 ) .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى معلقاً على هذا الدعاء الخاشع من أيوب عليه الصلاة والسلام) : (جمع في هذا الدعاء بين حقيقة التوحيد وإظهار الفقر والفاقة إلى ربه ووجود طعم المحبة في التملق له ، والإقرار له بصفة الرحمة وأنه أرحم الراحمين ، والتوسل إليه بصفاته سبحانه، وشدة حاجته هو وفقره ، ومتى وجد المبتلى هذا كشفت عنه بلواه) [7].
وفي قوله تعالى : ((وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)) أي : إن في صبر أيوب عليه الصلاة والسلام ودعائه عبرة للعابدين من بعده ؛ ليقتدوا بصبره وعبادته ودعائه ويقينه .
* خشوعهم وبكاؤهم عند ذكر الله عز وجل:
فبعد أن ذكر الله عز وجل مجموعة من الأنبياء في سورة مريم أثنى عليهم بقوله تعالى : ((أُوْلَئِكَ الَذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِياً )) )مريم : 58).
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند هذه الآية : فهذه خير بيوت العالم اصطفاهم الله ، واختارهم واجتباهم، وكان لهم عند تلاوة آيات الرحمن عليهم ، المتضمنة للإخبار بالغيوب ، وصفات علام الغيوب، والإخبار باليوم الآخر، والوعد والوعيد .(12/265)
((خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِياً)) أي : خضعوا لآيات الله ، وخضعوا لها، وأثرت في قلوبهم من الإيمان والرغبة والرهبة ما أوجب لهم البكاء والإنابة، والسجود
لربهم ) [8] .
وقوله تعالى عن يوسف عليه الصلاة والسلام أنه قال :((رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَاًوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)) (يوسف : 101 ) .
يقول السعدي رحمه الله تعالى عند هذه الآية : (ينبغي للعبد أن يتضرع إلى الله دائماً في تثبيت إيمانه) .
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى عند هذه الآية أيضاً : (جمعت هذه الدعوة : الإقرار بالتوحيد ، والاستسلام للرب ، وإظهار الافتقار إليه ، والبراءة من موالاة غير الله سبحانه، وكون الوفاة على الإسلام أجل غايات العبد ، وأن ذلك بيد الله لا بيد العبد ، والاعتراف بالمعاد ، وطلب مرافقة السعداء)[9] .
وأختم هذه الأدعية النبوية بذلك الدعاء الذي كثيراً ما كان يلهج به الرسول ويردده ؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)) ، فقلت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آمنا بك وبما جئت به ، فهل تخاف علينا ؟ ، قال : ((نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء))[10].
فإذا كان هذا هو حال أنبياء الله عز وجل وصفوته من خلقه فحري بمن
دونهم أن يخاف على نفسه من سوء الخاتمة ، فمن ذا الذي يأمن الفتنة بعد أنبياء الله عز وجل ؟
* القوة في طاعة الله تعالى وعبادته :
هذه الصفة العظيمة من أبرز ما في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، حيث إنهم أكثر الناس عبادة وصلاة وإخباتاً لله عز وجل ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عند قوله تعالى :((وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ)) (ص : 45)
وعن عطاء الخراساني : ((أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ))، قال : أولو القوة في العبادة والعلم بأمر الله ، وعن مجاهد
وروي عن قتادة قال :( أعطوا قوة في العبادة وبصراً في الدين))[11].
والشواهد في ذكر عبادة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كثيرة، منها :
قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام : ((رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ)) (ابراهيم : 40) .
وقوله تعالى في مدح إسماعيل عليه الصلاة والسلام : ((وَكَانَ يَاًمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عَندَ رَبِّهِ مَرْضِياً)) (مريم : 55) .
وقوله تعالى في مدح إسحاق ويعقوب : ((وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإقَامَ الصَّلاةِ وَإيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِين)) (الأنبياء : 73) .
أما عن نبينا محمد وكثرة عبادته وقوته فيها فهي كثيرة جدّاً ، مع أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ..ولا غرابة في ذلك ؛ فهو الذي امتلأ قلبه معرفة بربه سبحانه وحبّاً وتعظيماً له ، وهو الذي قال له ربه سبحانه : ((يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً)) (المزمل : 1- 4).
وهو الذي قال له ربه عز وجل : ((وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً)) (الإنسان : 26).
وقال له : ((فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياً)) (مريم : 65)، وأكتفي بشاهد من أحواله الكثيرة في عبادته وقوته فيها :
فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : قام النبي حتى تورمت قدماه ، فقيل له : قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، قال : ((أفلا أكون عبداً شكوراً ؟ !))[12].
وأخيراً : فهذه أحوال المصطفين الأخيار من أنبياء الله عز وجل ، وما سبق ذكره إن هو إلا جانب يسير وغيض من فيض من صلتهم بالله عز وجل ، ذكراً وتسبيحاً ودعاءً وصلاة ، فهل من مشمر للأخذ بهديهم كما أمر الله عز وجل ((فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ )) ؟ ، وهل بقي مجال لأحد أن يعتذر بكثرة المشاغل الدعوية وطلبىالعلم في التفريط في هذا الزاد العظيم ؟ .
وتبقى مسألة مهمة تبرز للمتأمل في تلك الكلمات والجُمل العطرة الجامعة ، والتي تتألف منها أذكارهم وأدعيتهم عليهم الصلاة والسلام، ألا وهي : تجريد التوحيد لله عز وجل وإخلاص العبادة له وحده .
فهل بقي عذر لمن يتوجه إلى الأنبياء أو غيرهم في جلب نفع أو دفع ضر ، وهذا هو شأنهم مع ربهم في دعائهم له ؟ .
----------
[1] البخاري ، ح/6101 ، ك/ الأدب ، ومسلم ، ح/2356 ، ك/ الفضائل
[2] البخاري ، ح/834 ، ك/ الأذان ، ومسلم ، ح/2705 ، ك/ الذكر والدعاء
[3] البخاري ، ح/6101 ، ك/ الأدب ، ومسلم ، ح/2356 ، ك/ الفضائل .
[4] البخاري ، ح/6486 ، ك/ الرقاق ، ومسلم ، ح/2359 ، ك/ الفضائل .
[5] رواه مسلم ، ك/ الاستسقاء ، باب التعوذ عند رؤية الريح والغيم ، ح/ 899
[6] صحيح سنن ابن ماجة ، ح/ 69 ، 1/21 .
[7] بدائع التفسير ، 3/189 .
[8] تفسير السعدي ، 3/209 .
[9] بدائع التفسير ، 2/476 .
[10] الترمذي ، ح/2141 ، في القدر ، وقال : حسن صحيح .
[11] مجموع الفتاوى ، 19/170
[12] مسلم ، ح/ 772 ، ك/ صلاة المسافرين
==============
من ثمرات اليقين باليوم الآخر.. القسم الأول(12/266)
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على نبينا وقدوتنا محمد ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين ، أما بعد ..
لما كان الإيمان باليوم الآخر أحد أصول الإيمان الستة التي لا يصح إيمان مسلم بدونها .ولما لذلك الإيمان من أثر في حياة المسلم وطاعته لأوامر الله (عزو جل) واجتناب نواهيه ، ولما له من أثر في صلاح القلوب وصلاح الناس وسعادتهم في الدنيا والآخرة ، ولما في نسيان ذلك اليوم العظيم والغفلة عنه من خطر على حياة الناس ومصيرهم .. فلا غرابة إذن أن يرد ذكر هذا اليوم كثيراً في القرآن ، حتى لا تكاد تخلو منه صفحة من صفحاته .
وإذا كان الكتاب والسنة قد اهتما غاية الاهتمام بتفاصيل ذلك اليوم المشهود وبأحوال هذا النبأ العظيم ؛ فإنه من الحمق والجهل ألا نهتم بما اهتم به الوحيان .
إن أعظم قضية يجب أن ينشغل بها كل واحد منا هي : قضية وجوده وحياته والغاية منها ، وقضية مستقبله ومصيره وشقائه وسعادته ، فلا يجوز أن يتقدم ذلك شيء مهما كان ، فكل أمر دونه هين وكل خطب سواه حقير . وهل هناك أعظم وأفدح من أن يخسر الإنسان حياته وأهله ، ويخسر مع ذلك سعادته وسعادتهم ، فماذا يبقى بعد ذلك ؟ (قُلْ إنَّ الخَاسِرِينَ الَذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ) [الزمر : 15] .
وأهمية هذا الموضوع تتجلى فيما يلي :
1- انفتاح الدنيا الشديد على كثير من الناس في هذا الزمان وما صحب ذلك من مكر الليل والنهار بأساليب جديدة ودعايات خبيثة تزين الدنيا في أعين الناس وتصدهم عن الآخرة ، ومع ما كان عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم- من الإيمان والتقوى ، فقدكان يحذرهم من الاغترار بالدنيا وضرورة الاستعداد للآخرة ، مع أن الدنيا لم تنفتح عليهم مثل اليوم ، فلا شك ولا ريب أننا أحوج منهم بكثير إلى أن نتذكر الآخرة ويذكّر بعضنا بعضاً بعظمة شأنها وأهمية الاستعداد لها .
2- ركون كثير من الناس للدنيا ولقد ترتب على ذلك أن قست القلوب ، وتحجرت الأعين ، وهُجِرَ كتاب الله عز وجل، وإذا قرأ أحدنا القرآن قرأه بقلب لاهٍ ، فأنّى لمثل ذلك القلب أن يخشع لذكر الله ؟ وأنّى لعينيه أن تدمع خوفاً من الله ، وقد انعكس ذلك على الصلاة فقلّ الخاشعون والمطمئنون فيها .. والله المستعان .
3- لما في تذكر ذلك اليوم ومشاهده العظيمة من حث على العمل الصالح والمبادرة لفعل الخيرات وترك المنكرات ، بل ما تكاسل المتكاسلون في عمل الصالحات سواء الواجب منها والمسنون إلا بسبب الغفلة عن الآخرة والانشغال عنها، يقول تعالى في وصف عباده الصالحين : ( رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإقَامِ الصَلاةِ وَإيتَاءِ الزَّكَاةِ) [النور : 37].)أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لايَعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)[الزمر : 9] .
4- لما ظهر في عصرنا اليوم من المشكلات المعقدة والأمراض المزمنة، التي نشأت عنها الأمراض النفسية المتنوعة من القلق والاكتئاب اللذين يؤديان غالباً إلى حياة يائسة، ومن أسباب ذلك: البعد عن الله تعالى ، وعن تذكر اليوم الآخر .
5- لما تميز به زماننا اليوم من كثرة المظالم في بعض المجتمعات واعتداء الناس بعضهم على بعض ، من أكلٍ لأموال غيرهم بدون وجه حق ، وكذلك النيل من الأعراض ، والحسد والتباغض ، والفرقة والاختلاف ، وبخاصة بين بعض الدعاة وطلبة العلم ، ولا شك أنه لا شيء مثل تذكر اليوم الآخر وتذكر الوقوف بين يدي الله عز وجل علاجاً لتلك الأمراض .
6- ولما كان الركون إلى الدنيا والغفلة عن الآخرة من أعظم الأسباب في وهن النفوس وضعفها كان لا بد من التذكير المستمر بذلك اليوم وما فيه من نعيم أو جحيم ، لأن في هذا التذكير أكبر الأثر في نشاط الهمم وعدم الاستسلام للوهن واليأس رجاء ثواب الله عز وجل وما أعده للمجاهدين في سبيله الداعين إليه .
7- ولما قلّ في برامج الدعوة والتربية الاعتناء بهذه الجانب العظيم من التربية مما له الأثر الكبير في الاستقامة على الجادة والدعوة إلى الله على بصيرة ، ولكن نرى من بعض المهتمين بالدعوة من يستهين بهذا الجانب العظيم حتى صار بعضهم يقلل من أثر التذكرة بالآخرة بقوله : إن هذا الأمر يغلب عليه الوعظ أو هذا مقال عاطفي وعظي… إلخ .. مع أن المتأمل لكتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يرى بجلاء جانب الوعظ بارزاً بالربط بين الدنيا والآخرة والثواب والعقاب .. نسأل الله أن يهدينا جميعاً وأن يوفقنا للاقتداء بالسنة والسير على نهجها .
الآثار المرجوة لليقين باليوم الآخر :(12/267)
إن في اليقين باليوم الآخر وأنبائه العظيمة لآثاراً واضحة وثماراً طيبة ، لابد أن تظهر في قلب العبد وعلى لسانه وجوارحه ، وفي حياته كلها ، ولكن هذا اليقين وحده لا يكفي حتى ينضم إليه الصبر ومجاهدة الشهوات والعوائق ، لأن الواحد منا مع يقينه باليوم الآخر وأهواله يرى في حياته أن ثمرات هذا اليقين ضعيفة ، فلابد إذن من سبب لهذا الأمر، ويجلي هذه المسألة الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى فيقول :(فإن قلت كيف يجتمع التصديق الجازم الذي لا شك فيه بالمعاد والجنة والنار ويتخلف العمل ؟ وهل في الطباع البشرية أن يعلم العبد أنه مطلوب غداً إلى بين يدي بعض الملوك ليعاقبه أشد عقوبة ، أو يكرمه أتم كرامة ، ويبيت ساهياً غافلاً ! ولا يتذكر موقفه بين يدي الملك ، ولا يستعد له ، ولا يأخذ له أهبته ؟ ! .
قيل : هذا لعمر الله سؤال صحيح وارد على أكثر الخلق ؛ فاجتماع هذين الأمرين من أعجب الأشياء ، وهذا التخلف له عدة أسباب :
أحدهما : ضعف العلم ونقصان اليقين ، ومن ظن أن العلم لا يتفاوت ، فقوله من أفسد الأقوال وأبطلها . وقد سأل إبراهيم الخليل ربه أن يريه إحياء الموتى عياناً بعد علمه بقدرة الرب على ذلك ، ليزداد طمأنينة ، ويصير المعلوم غيباً شهادة .
وقد روى أحمد في مسنده عن النبي أنه قال : (ليس الخبر كالمعاينة) [1] .
فإذا اجتمع إلى ضعف العلم عدم استحضاره أو غيبته عن القلب في كثير من أوقاته أو أكثرها لاشتغاله بما يضاده ، وانضم إلى ذلك تغاضي الطبع ، وغلبات الهوى ، واستيلاء الشهوة ، وتسويل النفس ، وغرور الشيطان ، واستبطاء الوعد ، وطول الأمل ، ورقدة الغفلة ، وحب العاجلة ، ورخص التأويل ، وإلف العوائد ، فهناك لا يمسك الإيمان إلا الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا ، وبهذا السبب يتفاوت الناس في الإيمان والأعمال ، حتى ينتهي إلى أدنى مثقال ذرة في القلب .
وجماع هذه الأسباب يرجع إلى ضعف البصيرة والصبر، ولهذا مدح الله سبحانه أهل الصبر واليقين ، وجعلهم أئمة الدين ، فقال تعالى : (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة : 24] [2] .
ذكر الثمرات المرجوة :
وبعد هذه المقدمة التي لا بد منها حول ثمرات اليقين بالنبأ العظيم نذكر ما تيسر من هذه الثمرات ، والله ولي التوفيق :
1- الإخلاص لله (عز وجل) والمتابعة للرسول :
إن الموقن بلقاء الله (عز وجل) يوم الفزع الأكبر، لا تلقاه إلا حريصاً على أعماله ، خائفاً من كل ما يحبطها من أنواع الشرك الأكبر أو الشرك الأصغر، حيث إن الشرك الأكبر يحبط جميع الأعمال ، فتصير هباءً منثوراً ، والشرك الأصغر يحبط العمل الذي حصل فيه هذا النوع من الشرك كيسير الرياء ، والعجب ، والمن ، وطلب الجاه والشرف في الدنيا، فكلما كان العبد موقناً بلقاء ربه كان منه الحرص الشديد على ألا تضيع منه أعماله الصالحة في موقف القيامة ، يوم أن يكون في أشد الأوقات حاجة إليها ؛ ولذلك فهو يجاهد نفسه بحماية أعماله في الدنيا بالإخلاص فيها لله تعالى لعل الله عز وجل أن ينفعه بها ، كما أن اليقين بالرجوع إلى الله عز وجل يجعل العبد في أعماله كلها متبعاً للرسول صلى الله عليه وسلم غير مبتدع ولامبدل ؛ لأن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً صواباً ، قال تعالى : (قُلْ إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إلَيَّ أَنَّمَا إلَهُكُمْ إلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو
لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف : 110] .
2- الحذر من الدنيا والزهد فيها والصبر على شدائدها وطمأنينة القلب وسلامته :
إذا أكثر العبد ذكر الآخرة ، وكانت منه دائماً على بال ، فإن الزهد في الدنيا والحذر منها ومن فتنتها سيحلان في القلب ، وحينئذ لا يكترث بزهرتها ، ولا يحزن على فواتها ، ولا يمدن عينيه إلى ما متع الله به بعض عباده من نعم ليفتنهم فيها ، وهذه الثمرة يتولد عنها بدورها ثمار أخرى مباركة طيبة منها : القناعة ، وسلامة القلب من الحرص والحسد والغل والشحناء ؛ لأن الذي يعيش بتفكيره في الآخرة وأنبائها العظيمة لا تهمه الدنيا الضيقة المحدودة ، مع ملاحظة أن إيمان المسلم باليوم الآخر وزهده في الدنيا لا يعني انقطاعه عنها وعدم ابتغاء الرزق في أكنافها ؛ يقول تعالى : ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ) [القصص : 77] .(12/268)
كما يتولد أيضا من هذا الشعور ، الراحة النفسية والسعادة القلبية وقوة الاحتمال والصبر على الشدائد والابتلاءات، ذلك للرجاء فيما عند الله عز وجل من الأجر والثواب، وأنه مهما جاء من شدائد الدنيا فهي منقطعة ولها أجل ، فهو ينتظر الفرج ويرجو الثواب الذي لا ينقطع يوم الرجوع إلى الله عز وجل ، قال تعالى : (إن تَكُونُوا تَاًلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَاًلَمُونَ كََمَا تَاًلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ) [النساء : 104] وما إن يفقد القلب هذه المعاني حتى يخيم عليه الهم والتعاسة ، ومن هنا ينشأ القلق والانزعاج والضيق والحزن ، أما ذاك الذي عرف الدنيا على حقيقتها ، وامتلأ قلبه بهمّ الآخرة وأنبائها ، فإن نفسه لا تذهب على الدنيا حسرات ، ولا تنقطع نفسه لهثاً في طلبها، ولا يأكل قلبه الغل والحسد والتنافس فيها، ولا يقل صبره ولا يجزع قلبه عند المحن والشدائد، ومهما حرم في هذه الدنيا الفانية فهو يعلم أن لله عز وجل في ذلك الحكمة البالغة، وهو يرجو الأجر يوم القيامة ، قال تعالى : (وَلَوْلا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفا وَإن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) [الزخرف : 33- 35] .
3- التزود بالأعمال الصالحة وأنواع القربات واجتناب المعاصي والمبادرة بالتوبة والاستغفار :
يقول الإمام ابن القيم (رحمه الله تعالى) : (ومما ينبغي أن من رجا شيئاً استلزم رجاؤه ثلاثة أمور :
أحدهما : محبة ما يرجوه .
الثاني : خوفه من فواته .
الثالث : سعيه في تحصيله بحسب الإمكان .
وأما رجاءٌ لا يقارنه شيء من ذلك فهو من باب الأماني ، والرجاء شيء والأماني شيء آخر ، فكل راجٍ خائف ، والسائر على الطريق إذا خاف أسرع السير مخافة الفوات .
وفي جامع الترمذي من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل ، ألا إن سلعة الله غالية ، ألا إن سلعة الله الجنة) [3]
وهو سبحانه كما جعل الرجاء لأهل الأعمال الصالحة ، فكذلك جعل الخوف لأهل الأعمال الصالحة ، فعلم أن الرجاء والخوف النافع ما اقترن به العمل ، قال تعالى : (إنَّ الَذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ) [المؤمنون : 57- 61] .
وقد روى الترمذي في جامعه عن عائشة رضي الله عنها قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية ، فقلت : أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون ؟ قال : (لا ، يا ابنة الصديق ، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون ويخافون أن لا يتقبل منهم ، أولئك يسارعون في الخيرات) [4] وقد روي من حديث أبي هريرة أيضاً .
والله (سبحانه) وصف أهل السعادة بالإحسان مع الخوف ، ووصف الأشقياء
بالإساءة مع الأمن) [5] .
وقال تعالى: (إنَّ الَذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [البقرة : 218] .
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى : (فتأمل كيف جعل رجاءهم إتيانهم بهذه الطاعات ؟ وقال المغرورون : إن المفرطين المضيعين لحقوق الله المعطلين لأوامره الباغين المتجرئين على محارمه ، أولئك يرجون رحمة الله) [6] . للحديث صلة .
________________________
(1) أحمد، ج1ص215 ، 271 وصحح إسناده أحمد شاكر (1842) .
(2) الجواب الكافي، ص 54 .
(3) رواه الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب 18 الحديث رقم 2450 وانظر صحيح سنن الترمذي (1993) .
(4) رواه أحمد ، ج6ص159، والترمذي (كتاب التفسير) باب تفسير سورة المؤمنون، ح 3175 .
(5) الجواب الكافي، ص 57 ، 58 .
(6) الجواب الكافي، ص 56 .
مجلة البيان : العدد : ( 98 ) التاريخ : شوال /1416هـ .
===============
من ثمرات اليقين باليوم الآخر ..القسم الثاني
4- الدعوة إلى الله (عز وجل ) والجهاد في سبيله :
وهذا يدخل في الثمرة السابقة ، حيث إنه من أفضل القربات والأعمال الصالحة ، وقد أفردته هنا باعتباره ثمرة مستقلة من ثمار اليقين باليوم الآخر ، وذلك لما يلي :
(أ) فضل الجهاد والدعوة إلى الله (سبحانه) وأثرهما في إنقاذ الناس بإذن ربهم من الظلمات إلى النور ، ولذلك كان من أحب الأعمال إلى الله (عز وجل) ، قال (تعالى) : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ)[ فصلت : 33] .
(ب) وصف الرسول للجهاد بأنه ذروة سنام الإسلام .(12/269)
في الجهاد أيضاً : حقيقة الزهد في الحياة الدنيا ، وفيه أيضاً : حقيقة الإخلاص ؛ فإن الكلام فيمن جاهد في سبيل الله ، لا في سبيل الرياسة ، ولا في سبيل المال، ولا في سبيل الحمية.. وهذا لا يكون إلا لمن قاتل ليكون الدين كله لله، ولتكون كلمة الله هي العليا، وأعظم مراتب الإخلاص : تسليم النفس والمال للمعبود ، كما قال تعالى : (إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ ) [التوبة : 111] .
(ج) في الحديث عن الجهاد في سبيل الله عز وجل ومحاربة الفساد وتعبيد الناس لرب العالمين أكبر رد على الذين يرون أن التعلق باليوم الآخر والاستعداد له يعني اعتزال الناس ، وترك الدنيا لأهلها ، والاشتغال بالنفس وعيوبها ، وترك الحياة يأسن فيها أهلها .
نعم هذا ما يراه بعض المتصوفة وأصحاب الفهم المنحرف لحقيقة الدنيا والآخرة .. ([لقد كان ] الناس في فترات من الزمان يعيشون سلبيين ، ويَدَعون الفساد والشر والظلم والتخلف والجهالة تغمر حياتهم الدنيا مع ادعائهم الإسلام هم يصنعون ذلك كله أو بعضه لأن تصورهم للإسلام قد فسد وانحرف ؛ ولأن يقينهم في الآخرة قد تزعزع وضعف ! لا لأنهم يدينون بحقيقة هذا الدين ... فما يستيقن أحد من لقاء الله في الآخرة ؛ وهو يعي حقيقة هذا الدين ، ثم يعيش في هذه الحياة سلبيّاً أو متخلفاً أو راضياً بالشر والفساد . إنما يزاول المسلم هذه الحياة الدنيا وهو يشعر أنه أكبر منها وأعلى ، ويستمتع بطيباتها أو يزهد فيها وهو يعلم أنها حلال في الدنيا خالصة له يوم القيامة ... ، ويكافح الشر والفساد والظلم محتملاً الأذى والتضحية حتى الشهادة ، وهو إنما يقدم لنفسه في الآخرة ... إنه يعلم من دينه أن الدنيا مزرعة الآخرة ، وأن ليس هنالك طريق للآخرة لا يمر بالدنيا ، وأن الدنيا صغيرة زهيدة ، ولكنها من نعمة الله التي يجتاز منها إلى نعمة الله الكبرى) [1] .
5- اجتناب الظلم بشتى صوره :
نظراً لكثرة الظلم والشحناء بين المسلمين في عصرنا الحاضر ، وأنه لا شيء يمنع النفس من ظلم غيرها في نفس أو مال أو عرض : كاليقين بالرجوع إلى الله عز وجل، وإعطاء كل ذي حقحقه ، وإنصاف المظلوم ممن ظلمه ، فإذا تذكر العبد هذا الموقف العصيب الرهيب ، وأنه لا يضيع عند الله شيء ، كما قال تعالى : (وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء : 47] وقوله تعالى : )وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) [طه : 111] ،إذا تذكر هذه المواقف واتعظ بهذه الآيات ، وأيقن بتحققها فلا شك أن ذلك سيمنعه من التهاون في حقوق الخلق ، والحذر من ظلمهم في دم أو مال أو عرض ، خاصة وأن حقوق العباد مبنية على المشاحة والحرص على استيفاء الحق من الخصم ، وبالذات في يوم الهول الأعظم الذي يتمنى العبد فيه أن يكون له مظلمة عند أمه وأبيه وصاحبته وبنيه ، فضلاً عن غيرهم من الأباعد ، ومعلوم أن التقاضي هنالك ليس بالدينار والدرهم ولكن بالحسنات والسيئات .
فياليتنا نتذكر دائماً يوم الفصل العظيم ، يوم يفصل الحكم العدل بين الناس ، ويقضي بين الخصماء بحكمه وهو أحكم الحاكمين ، ليتنا لا نغفل عن هذا المشهد العظيم ، حتى لا يجور بعضنا على بعض ، ولا يأكل بعضنا لحوم بعض ، ولا نتكلم إلا بعلم وعدل ، إنه لا شيء يمنع من ذلك كله إلا الخوف من الله (عز وجل) وخوف الوقوف بين يديه ، واليقين الحق بأن ذلك كائن في يوم لا ريب فيه ؛ قال تعالى : (إنَّكَ مَيِّتٌ وَإنَّهُم مَّيِّتُونَ (30) ثُمَّ إنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُون ( [الزمر : 30 ، 31] .
6- حصول الأمن والاستقرار ، والألفة بين الناس بالحكم بشريعة الله :
إن مجتمعاً يسود بين أهله الإيمان بالله عز وجل واليقين بالآخرة والجزاء والحساب ، لا شك أنه مجتمع تسوده المحبة ويعمه السلام ؛ لأن تعظيم الله سبحانه سيجعل هذه النفوس لا ترضى بغير شرع الله (عز وجل) بديلاً ، ولا تقبل الاستسلام إلا لحكمه ، وهذا بدوره سيضفي الأمن والأمان على مثل هذه المجتمعات ، لأن أهلها يخافون الله ويخافون يوم الفصل والجزاء ، فلا تحاكم إلا لشرع الله ، ولا تعامل إلا بأخلاق الإسلام الفاضلة : فلا خيانة ولا غش ولا ظلم ، ولا يعني هذا أنه لا يوجد في المجتمعات المسلمة من يظلم أو يخون أو يغش ، فهذا لم يسلم منه عصر النبوة ولا الخلافة الراشدة ، لكن هذه المعاصي تبقى فردية ، يؤدّب أفرادها بحكم الله عز وجل وحدوده ، إذا لم يردعهم وازع الدين والخوف من الله، والحالات الفردية تلك ليست عامة ، أما عندما يقل الوازع الديني والخوف من
الآخرة ، ويكون التحاكم إلى أهواء البشر وحكمهم فهذا هو البلاء العظيم والفساد الكبير : حيث تداس القيم والحرمات، ويأكل القوي الضعيف ، وبالتالي :لا يأمن الناس على أديانهم ولا أنفسهم ولا أموالهم ولا أعراضهم ، وكفى بذلك سبباً في عدم الأمن والاستقرار ، وانتشار الخوف ، واختلال حياة الناس .
7- تقصير الأمل وحفظ الوقت :(12/270)
إن من أخطر الأبواب التي يدخل منها الشيطان على العبد : طول الأمل ، والأماني الخادعة التي تجعل صاحبها في غفلة شديدة عن الآخرة ، واغترار بزينة الحياة الدنيا ، وتضييع ساعات العمر النفيسة في اللهث وراءها حتى يأتي الأجل الذي يقطع هذه الآمال، وتذهب النفس حسرات على ما فرطت في عمرها، وأضاعت من أوقاتها . ولكن اليقين بالرجوع إلى الله عز وجل والتذكر الدائم لقصر الحياة وأبدية الآخرة وبقائها ، هو العلاج الناجع لطول الأمل وضياع الأوقات .
يقول ابن قدامة رحمة الله : (واعلم أن السبب في طول الأمل شيئان :
أحدهما : حب الدنيا ، والثاني : الجهل .
أما حب الدنيا : فإن الإنسان إذا أنس بها وبشهواتها ولذاتها وعلائقها ، ثقل على قلبه مفارقتها ، فامتنع من الفكر في الموت ، الذي هو سبب مفارقتها ، وكل من كره شيئاً دفعه عن نفسه .
السبب الثاني : الجهل ، وهو أن الإنسان يعول على شبابه ، ويستبعد قرب الموت مع الشباب ، أو ليس يتفكر المسكين في أن مشايخ بلده لو عدوا كانوا أقل من العشرة ؟ وإنما قلوا لأن الموت في الشباب أكثر ، وإلى أن يموت شيخ قد يموت ألف صبي وشاب ، وقد يغتر بصحته ، ولا يدري أن الموت يأتي فجأة ، وإن استبعد ذلك) [2] .
8- سلامة التفكير وانضباط الموازين وسمو الأخلاق :
لا يستوي من يؤمن بالله واليوم الآخر ويوقن بيوم الحساب والجزاء ولا يغفل عنه ، ومن لا يؤمن بالآخرة ، أو يؤمن بها ولكنه في لهو وغفلة عنها ، لا يستويان أبداً في الدنيا ولا في الآخرة ، أما في الآخرة فيوضحه قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ) [الحشر : 20] .
وأما في الحياة الدنيا فلا يلتقي أبداً من يعلم أن له غاية عظيمة في هذا الحياة، وأن مرده إلى الله عز وجل في يوم الجزاء والحساب والنشور، مع من لا يعلم من هذه الحياة الدنيا إلا ظاهرها، وأنها كل شيء عنده ، وهو عن الآخرة من الغافلين .
إنهما لا يلتقيان في التفكير ، ولا في الميزان الذي توزن به الأشياء والأحداث، ولا في الأحكام ، وبالتالي : فبقدر ما تسمو أخلاق الأول وتعلو همته لسمو منهجه وميزانه بقدر ما تسفل وترذل أخلاق الآخر لسفالة تصوره وفساد ميزانه .
قال تعالى في وصف أهل الدنيا : (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)
[الروم : 7] .
9- الفوز برضا الله (سبحانه) وجنته ، والنجاة من سخطه والنار :
وهذه ثمرة الثمار ، وغاية الغايات ، ومسك الختام في مبحث الثمار ، قال تعالى: ) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَإنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ) [آل عمران : 185] .
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى : (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) : (أي : حصل له الفوز العظيم بالنجاة من العذاب الأليم ، والوصول إلى جنات النعيم ، التي فيها : مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ ومفهوم الآية : أن من لم يزحزح عن النار ، ويدخل الجنة ، فإنه لم يفز ، بل قد شقي الشقاء الأبدي ، وابتلي بالعذاب السرمدي ، وفي هذه الآية إشارة لطيفة إلى نعيم البرزخ وعذابه ، وأن العاملين يجزون فيه بعض الجزاء مما عملوه ، ويقدم لهم أنموذج مما أسلفوه) [3] .
اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد ، أنت المنان ، بديع السموات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ، ونسألك أن لا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، يا حي يا قيوم ، يا أرحم الراحمين .
________________________
(1) اليوم الآخر في ظلال القرآن ، ص6 .
(2) مختصر منهاج القاصدين ، ص367 368 .
(3) تفسير السعدي ، ج1 ص 467 468 .
مجلة البيان :العدد : (99) التاريخ : ذو القعدة / 1416هـ .
=============
من جوانب الاقتداء بهدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
في مقال سابق بيّنت أهمية معرفة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهديهم ؛ وذلك لأخذ العبر العظيمة، والاقتداء بهم ، والتعزي بما أصابهم ، والحصول على الفوز في الدنيا والآخرة باتباعهم .
وسيكون التركيز في هذا المقال إن شاء الله تعالى بالوقوف على ثلاثة جوانب عظيمة من حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، هي في نظري من أهم جوانب الاقتداء بهم عليهم الصلاة والسلام ، وهي كما يلي :
أولاً: من هديهم عليهم الصلاة والسلام في قوة العلم بالله تعالى، وأثر ذلك في صدق الإيمان وكمال التوحيد وقوة العبادة.
ثانياً: من هديهم عليهم الصلاة والسلام في الأخلاق والسلوك.
ثالثاً: من هديهم عليهم الصلاة والسلام في الدعوة والتبليغ.
وسيكون تحت كل جانب من هذه الجوانب الثلاثة تقسيمات أخرى تفصّل فيها بعض الصور والأمثلة الداخلة تحت كل جانب ، مع محاولة الربط ما أمكن بواقعنا نحن المسلمين اليوم ، وبخاصة ما يتعلق بالدعوة والدعاة في هذا العصر ، موضحاً من خلال هذا الربط مدى قربنا أو بعدنا من هذا الهدي الكريم في كل جانب من الجوانب الآنفة الذكر من حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهذا هو جهد المقل ؛ فما وجدته أخي الكريم من صواب وحق فهو من الله عز وجل، وما وجدت فيه من خطأ وخلل فمني ومن الشيطان، فإلى تفصيل ما أشير إليه آنفاً .(12/271)
الجانب الأول : من هديهم في قوة العلم بالله عز وجل، وأثر ذلك في صدق الإيمان وكمال التوحيد :
إن أعلم الناس بالله عز وجل هم أنبياؤه ورسله عليهم الصلاة والسلام، وهذا العلم به سبحانه وبأسمائه وصفاته العلا هو الذي أوجد هذه الخشية العظيمة والإيمان الصادق والتوحيد الكامل لله عز وجل ؛ لأنه كلما كان العبد أعلم وأعرف بربه سبحانه كلما كان أشد خوفاً وتعظيماً وعبادة ومحبة وإخلاصاً له ، والعكس بالعكس .
وإن مما اختص الله سبحانه به رسله ، ومما منّ به عليهم : تكميل هذا العلم العظيم في نفوسهم، والذي هو أشرف العلوم وأزكاها .
وإن المسلم مأمور بطلب هذا العلم الشريف قدر استطاعته اقتداءً بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ ولو أنه لن يصل إلى علمهم ولا إيمانهم ، لكنه بذلك يقترب منهم ويسعد بثمار هذا العلم العظيم في قلبه وسلوكه وحياته كلها .
ومن الأدلة على شرف هذا العلم ما يلي :
قول الله تعالى :عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام في دعوته لأبيه : ((يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً)) (مريم : 43) .
وقوله تعالى عن يعقوب عليه الصلاة والسلام : ((وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ )) (يوسف : 68)
وقوله تعالى عن يعقوب عليه الصلاة والسلام : ((قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)) (يوسف : 96) . .
وقوله تعالى عن نوح عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه :((أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)) (الأعراف : 62) .
وهذا موسى عليه الصلاة والسلام ، مع ما آتاه الله عز وجل من العلم العظيم ، فإنه لم يكتف به، وإنما طلب المزيد .. وقصة سفره (عليه الصلاة والسلام) إلى الخضر عليه السلام ليتعلم منه معروفة ، وقد قصها الله (عز وجل) علينا في كتابه الكريم ، والشاهد منها قوله تعالى : ((قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً)) (الكهف : 66) .
وللشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند هذه القصة كلام نفيس ، فليرجع إليه .
وقوله تعالى لنبيه محمد : ((قُلْ إنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ)) (الأنعام : 57) .
وقوله عن نفسه عندما تنزه بعض الصحابة عن شيء رخص فيه الرسول ، فُبلِّغ ذلك إليه ، فخطب ، فحمد الله ، ثم قال : (( ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه ؟ ! ، فو الله إني لأعلمهم بالله ، وأشدهم له خشية))[1].
الآثار على نفوس الأنبياء : وبعد سرد هذه الأدلة والتي هي على سبيل المثال لا الحصر نأتي الآن إلى أثر هذه البينات العظيمة في نفوس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، الناشئة عن هذا العلم الشريف بالله عز وجل وبأسمائه الحسنى وصفاته العلا ، لعلنا نهتدي بهذه الآثار الإيمانية المباركة ونسعى للتأسي بهم .
ومن هذه الآثار ما يلي :
أولاً : شدة تعظيمهم لله عز وجل وخوفهم منه :
فعلى الرغم من اصطفاء الله سبحانه لهم وحبه لهم وقربهم منه .. فإن هذه المزايا لم تزدهم لربهم إلا تعظيماً، ومحبة ، وخوفاً منه سبحانه، وخشية . وهذه سنة الله سبحانه ؛ فكلما ازداد العبد معرفة بربه كلما عظّمه في نفسه ، وخاف منه سبحانه خوف المحب لحبيبه ؛ خوفاً يقرب إلى الله عز وجل، وخوفاً يهضم العبد عنده نفسه ويحقرها ولا يرى لها فضلاً ولا طوعاً، وإنما يراها أهلاً للظلم والخطيئة والضعف ، إن لم يوفق الله تعالى صاحبها ويعينه عليها .
وهكذا كان شأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والأمثلة في ذلك كثيرة ،
منها : مناجاة نوح عليه الصلاة والسلام لربه بشأن ابنه : وقد جاء ذلك في قصة نوح مع قومه في سورة هود ، حيث يقول الله تعالى : ((وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإنَّ وَعْدَكَ الحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وإلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الخَاسِرِين)) (هود : 45-47) .
ويظهر من هذه الآيات علم نوح عليه الصلاة والسلام بربه عز وجل ،والذي أثمر عنده هذا الأدب العظيم مع ربه والخوف منه سبحانه ؛ فتراه وهو يدعو ربه بشأن ابنه الهالك مع الكافرين يختم دعاءه بقوله : ((وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِينَ)).
ولم يقل : وأنت أرحم الراحمين، وهذا من كمال علمه عليه الصلاة والسلام بأسماء الله البالغة التي اقتضت أن يكون ابن نوح مع الهالكين ولم يكن مع الناجين ، ولذلك : ختم نوح عليه السلام دعاءه بقوله : ((وَأَنتَ أَحْكَمُ الحَاكِمِين)) . كما يظهر في هذه المناجاة خوف نوح عليه السلام من ربه ، واتهامه لنفسه بالظلم ، وطلبه المغفرة من ربه سبحانه ؛ وذلك في قوله :(12/272)
((وإلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الخَاسِرِينَ)) .. الله أكبر ! ، هذا نوح عليه السلام الذي أمضى مئات السنين في دعوة قومه ، وصبر وصابر ، وناله من الأذى والاستهزاء الشيء العظيم ، ومع ذلك يختم دعوته بطلب المغفرة والرحمة من ربه سبحانه:((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إلاَّ تَبَاراً)) (نوح : 28)
فماذا نقول نحن المفرطين الظالمين الجاهلين ؟! .. سبحانك قد ظلمنا أنفسنا ظلماً كثيراً ، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
هذا إمام الحنفاء وخليل الرحمن يخاف من ذنوبه ويسأل ربه المغفرة والستر، ويطلب من ربه سبحانه أن يلحقه بالصالحين ، وكأنه ليس منهم !! .
يقول الله تعالى:((وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ * رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لأَبِي إنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)) (الشعراء : 82 -89 ) .
إذن : فما حالنا نحن المقصرين ؟ ، ماذا عسانا أن نقول ؟ ! ، إنه ليس أمامنا إلا أن نحذو حذو هذا الركب المبارك المطهر ونقول ما أوصى به الرسول أبا بكر
الصديق رضي الله عنه عندما سأله أن يعلمه دعاءً يدعو به في صلاته ، فقال : ((قل:اللّهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك ، وارحمني ،إنك أنت الغفور الرحيم))[2].
تعظيم نبينا محمد لربه سبحانه وخوفه منه :
ونختم هذه الأمثلة من تعظيم الأنبياء لربهم سبحانه وخوفهم منه ببعض الشواهد من تعظيم نبينا محمد لربه وخوفه منه، مع أنه سيد المرسلين ، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر .. ولا غرابة في ذلك ؛ فهو كما قال عن نفسه : ((فوالله إني لأعلمهم بالله ، وأشدهم له خشية))[3] . ومما ورد عنه في هذا الشأن :
عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيراً))[4] ؛ ولذلك : ما رؤي رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً قط ؛ إنما كان يتبسم .
عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال : ((اللّهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به)) ، قالت : وإذ تخيّلت السماء تغير لونه ، وخرج ودخل ، وأقبل وأدبر ، فإذا أمطرت سُرّي عنه ، فعرفت ذلك عائشة ؛ فسألته ، فقال : لعله يا عائشة كما قال قوم عاد :(( فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ )) [5].
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وهم يختصمون في القَدَر ، فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب ، فقال : ((بهذا أمرتم ؟ ، أو لهذا خلقتم ؟ ، تضربون القرآن بعضه ببعض. بهذا هلكت الأمم قبلكم))[6].
ثانياً : كثرة ذكرهم لله عز وجل وشدة تضرعهم ودعائهم له سبحانه مع قوة عبادتهم :
وهذا الجانب من هديهم عليهم الصلاة والسلام ثمرة من ثمار الإيمان الصادق والتوحيد الكامل النابعين من كمال حبهم لله عز وجل وتعظيمهم له ، والمتأمل في هذا الجانب من هديهم ليأخذه العجب والإجلال والحب الخالص لهذه الصفوة المختارة من عباد الله ، وهو يرى إخباتهم لربهم سبحانه وكثرة ذكرهم له ، وتضرعهم ودعاءهم المتواصل لربهم ، مع كثرة عبادتهم وطولها وتنوعها.. كل ذلك وهم أولياء الله وأنبياؤه وصفوته من خلقه ، وإن في هذا الهدي لعبرة لمن هو دونهم ممن يحسب نفسه من الدعاة المتبعين لهم . نعم ..إن في ذلك لعبرة لمن جاء بعدهم من المحبين لهم في أن يولوا هذا الجانب حقه ، وأن يقتدوا بهؤلاء المصطفين الأخيار في كثرة ذكرهم لله عز وجل ، وكثرة دعائهم وتضرعهم وعبادتهم له سبحانه مع ما هم فيه من هم الدعوة والجهاد والانشغال في أمر هذا الدين في الليل والنهار ، ولكن كل ذلك لم يشغلهم عن الخلوة بربهم سبحانه والتفرغ لذكره ودعائه
وعبادته .
وفي هذا رد على ما قد يتذرع به بعضنا إذا نبه إلى هذا الجانب المهم في حياة الداعية من التذرع بضيق الوقت وكثرة المشاغل وتعب الجسد وإجهاده في طلب العلم والدعوة إلى الله عز وجل، فيدخل الشيطان إلى النفس من هذا الباب باب التفريط فيجد الداعية نفسه وقد أهملها في أعظم رافد له في دعوته وأكبر زاد له في طريقه إلى الله .. وأورد الآن نماذج من هذا الهدي المبارك ، لعلها أن تشحذ الهمم وتقوي العزائم ، ولعلها في الوقت نفسه أن تطامن منا بعض النفوس التي أصابها داء العجب؛ فتشعر وهي تقرأ هذه النماذج بأنها لا زالت مقصرة ومفرطة في جنب الله ، فيحصل مقت النفس في ذات الله عز وجل واحتقارها ؛ الاحتقار الذي يؤدي مع الاستعانة بالله عز وجل إلى علاجها ويقظتها.
ومن هذه النماذج ما يلي :
* تضرعهم عليهم الصلاة والسلام إلى ربهم سبحانه وسؤاله قضاء حوائجهم :(12/273)
ذكر الله عز وجل في آخر سورة الأنبياء مجموعة من أنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام، وهم يسألون ربهم ويتضرعون إليه في قضاء حوائجهم، ويتوسلون إلى الله عز وجل بأسمائه وصفاته، كما يتوسلون بفاقتهم وافتقارهم إلى الله عز وجل. ومن ذلك قول الله تعالى : ((وَأَيُّوبَ إذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)) (الأنبياء : 83- 84 ) .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى معلقاً على هذا الدعاء الخاشع من أيوب عليه الصلاة والسلام) : (جمع في هذا الدعاء بين حقيقة التوحيد وإظهار الفقر والفاقة إلى ربه ووجود طعم المحبة في التملق له ، والإقرار له بصفة الرحمة وأنه أرحم الراحمين ، والتوسل إليه بصفاته سبحانه، وشدة حاجته هو وفقره ، ومتى وجد المبتلى هذا كشفت عنه بلواه) [7].
وفي قوله تعالى : ((وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)) أي : إن في صبر أيوب عليه الصلاة والسلام ودعائه عبرة للعابدين من بعده ؛ ليقتدوا بصبره وعبادته ودعائه ويقينه .
* خشوعهم وبكاؤهم عند ذكر الله عز وجل:
فبعد أن ذكر الله عز وجل مجموعة من الأنبياء في سورة مريم أثنى عليهم بقوله تعالى : ((أُوْلَئِكَ الَذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِياً )) )مريم : 58).
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند هذه الآية : فهذه خير بيوت العالم اصطفاهم الله ، واختارهم واجتباهم، وكان لهم عند تلاوة آيات الرحمن عليهم ، المتضمنة للإخبار بالغيوب ، وصفات علام الغيوب، والإخبار باليوم الآخر، والوعد والوعيد .
((خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِياً)) أي : خضعوا لآيات الله ، وخضعوا لها، وأثرت في قلوبهم من الإيمان والرغبة والرهبة ما أوجب لهم البكاء والإنابة، والسجود
لربهم ) [8] .
وقوله تعالى عن يوسف عليه الصلاة والسلام أنه قال :((رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَاًوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)) (يوسف : 101 ) .
يقول السعدي رحمه الله تعالى عند هذه الآية : (ينبغي للعبد أن يتضرع إلى الله دائماً في تثبيت إيمانه) .
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى عند هذه الآية أيضاً : (جمعت هذه الدعوة : الإقرار بالتوحيد ، والاستسلام للرب ، وإظهار الافتقار إليه ، والبراءة من موالاة غير الله سبحانه، وكون الوفاة على الإسلام أجل غايات العبد ، وأن ذلك بيد الله لا بيد العبد ، والاعتراف بالمعاد ، وطلب مرافقة السعداء)[9] .
وأختم هذه الأدعية النبوية بذلك الدعاء الذي كثيراً ما كان يلهج به الرسول ويردده ؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)) ، فقلت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد آمنا بك وبما جئت به ، فهل تخاف علينا ؟ ، قال : ((نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء))[10].
فإذا كان هذا هو حال أنبياء الله عز وجل وصفوته من خلقه فحري بمن
دونهم أن يخاف على نفسه من سوء الخاتمة ، فمن ذا الذي يأمن الفتنة بعد أنبياء الله عز وجل ؟
* القوة في طاعة الله تعالى وعبادته :
هذه الصفة العظيمة من أبرز ما في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، حيث إنهم أكثر الناس عبادة وصلاة وإخباتاً لله عز وجل ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عند قوله تعالى :((وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ)) (ص : 45)
وعن عطاء الخراساني : ((أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ))، قال : أولو القوة في العبادة والعلم بأمر الله ، وعن مجاهد
وروي عن قتادة قال :( أعطوا قوة في العبادة وبصراً في الدين))[11].
والشواهد في ذكر عبادة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كثيرة، منها :
قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام : ((رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ)) (ابراهيم : 40) .
وقوله تعالى في مدح إسماعيل عليه الصلاة والسلام : ((وَكَانَ يَاًمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عَندَ رَبِّهِ مَرْضِياً)) (مريم : 55) .
وقوله تعالى في مدح إسحاق ويعقوب : ((وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ وَإقَامَ الصَّلاةِ وَإيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِين)) (الأنبياء : 73) .
أما عن نبينا محمد وكثرة عبادته وقوته فيها فهي كثيرة جدّاً ، مع أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ..ولا غرابة في ذلك ؛ فهو الذي امتلأ قلبه معرفة بربه سبحانه وحبّاً وتعظيماً له ، وهو الذي قال له ربه سبحانه : ((يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلاً)) (المزمل : 1- 4).(12/274)
وهو الذي قال له ربه عز وجل : ((وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً)) (الإنسان : 26).
وقال له : ((فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِياً)) (مريم : 65)، وأكتفي بشاهد من أحواله الكثيرة في عبادته وقوته فيها :
فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : قام النبي حتى تورمت قدماه ، فقيل له : قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، قال : ((أفلا أكون عبداً شكوراً ؟ !))[12].
وأخيراً : فهذه أحوال المصطفين الأخيار من أنبياء الله عز وجل ، وما سبق ذكره إن هو إلا جانب يسير وغيض من فيض من صلتهم بالله عز وجل ، ذكراً وتسبيحاً ودعاءً وصلاة ، فهل من مشمر للأخذ بهديهم كما أمر الله عز وجل ((فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ )) ؟ ، وهل بقي مجال لأحد أن يعتذر بكثرة المشاغل الدعوية وطلبىالعلم في التفريط في هذا الزاد العظيم ؟ .
وتبقى مسألة مهمة تبرز للمتأمل في تلك الكلمات والجُمل العطرة الجامعة ، والتي تتألف منها أذكارهم وأدعيتهم عليهم الصلاة والسلام، ألا وهي : تجريد التوحيد لله عز وجل وإخلاص العبادة له وحده .
فهل بقي عذر لمن يتوجه إلى الأنبياء أو غيرهم في جلب نفع أو دفع ضر ، وهذا هو شأنهم مع ربهم في دعائهم له ؟ .
[1] البخاري ، ح/6101 ، ك/ الأدب ، ومسلم ، ح/2356 ، ك/ الفضائل
[2] البخاري ، ح/834 ، ك/ الأذان ، ومسلم ، ح/2705 ، ك/ الذكر والدعاء
[3] البخاري ، ح/6101 ، ك/ الأدب ، ومسلم ، ح/2356 ، ك/ الفضائل .
[4] البخاري ، ح/6486 ، ك/ الرقاق ، ومسلم ، ح/2359 ، ك/ الفضائل .
[5] رواه مسلم ، ك/ الاستسقاء ، باب التعوذ عند رؤية الريح والغيم ، ح/ 899
[6] صحيح سنن ابن ماجة ، ح/ 69 ، 1/21 .
[7] بدائع التفسير ، 3/189 .
[8] تفسير السعدي ، 3/209 .
[9] بدائع التفسير ، 2/476 .
[10] الترمذي ، ح/2141 ، في القدر ، وقال : حسن صحيح .
[11] مجموع الفتاوى ، 19/170
[12] مسلم ، ح/ 772 ، ك/ صلاة المسافرين .
================
لماذا ندرس حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ؟
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، أما بعد :
فإن مهمة الرسل عليهم الصلاة السلام مهمة عظيمة شريفة ، يجب أن يعرفها الناس ويفقهوها ، ويعرفوا حقوق هؤلاء الرسل الكرام ويتخذوها منهاجاً ، يهتدون بهديه ، وبخاصة من نسب نفسه إلى الدعوة إلى الله تعالى، حيث يتعين عليه دراسة حياة رسل الله عز وجل ليترسم طريقهم إن أراد الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة .
ولما كانت حياتهم عليهم الصلاة والسلام هي حياة الكمّل من الناس، الذين اختارهم الله عز وجل عن علم وحكمة ، واصطفاهم على البشر : كان لا بد أن نتعرف على هذه الحياة المباركة ، التي صُنعت على عين الله تبارك وتعالى ، كما كان لزاماً على من أراد لنفسه النجاة في الدنيا والآخرة فرداً كان أو جماعة أن يدرس هذه الحياة المباركة، وبخاصة في عصور الغربة والغرباء كعصرنا الحاضر ؛ علّها أن تكون نبراساً لحياتنا ، ونجاة لأمتنا مما هي فيه في كثير من البلدان من واقع أليم .
ويمكن إبراز أهمية دراسة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من خلال أمور كثيرة ، أهمها ما يلي :
أولاً : لأننا مأمورون من الله عز وجل بالاقتداء بهم والتأسي بهديهم .
وفي ذلك طاعة لله سبحانه وعبادة له قبل كل شيء ، ومن هذه الآيات :ما ذكره الله عز وجل في سورة الأنعام من شأن بعض أنبيائه ورسله، ثم ختم هذه الآيات بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهديهم، والأمر له صلى الله عليه وسلم أمر لأمته ، قال الله تعالى : ((وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاًوَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى العَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إلَىصِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ* ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أُوْلَئِكَ الَذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ)) [الأنعام : 83 90] .
قال الطبري (رحمه الله تعالى) عند الآية الأخيرة :(12/275)
((أُوْلَئِكَ الَذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ )) : يقول الله : ((أُوْلَئِكَ)) هؤلاء القوم الذين وكلنا بآياتنا وليسوا بها بكافرين ، هم الذين هداهم الله لدين الحق ، وحفظ ما وكلوا بحفظه من آيات كتابه والقيام بحدوده ، واتباع حلاله وحرامه ، والعمل بما فيه من أمر الله ، والانتهاء عما فيه من نهيه ، فوفقهم (جل ثناؤه) لذلك، ((فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ))، يقول : تعالى: فبالعمل الذي عملوا ، والمنهاج الذي سلكوا، وبالهدى الذي هديناهم ،والتوفيق الذي وفقناهم ((اقْتَدِهْ)) يا محمد ، أي : فاعمل وخذ به واسلكه ، فإنه عمل لله فيه رضاً ، ومنهاج من سلكه اهتدى) [1].
والأمر له صلى الله عليه وسلم أمر لأمته ، لقوله تعالى : (( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)) [الأحزاب : 21]
وقال صاحب المنار رحمه الله تعالى :
( فمعنى الجملة على هذا : أولئك الأنبياء الثمانية عشر الذين ذكرت أسماؤهم في الآيات المتلوة آنفاً والموصوفون في الآية الأخيرة بإيتاء الله إياهم الكتاب والحكم والنبوة، هم الذين هداهم الله تعالى الهداية الكاملة ،فبهداهم دون ما يغايره ويخالفه من أعمال غيرهم وهفوات بعضهم اقتد أيها الرسول فيما يتناوله كسبك وعملك، مما بعثت به من تبليغ الدعوة وإقامة الحجة، والصبر على التكذيب والجحود وإيذاء أهل العناد والجحود، ومقلدة الآباء
والجدود ، وإعطاء كل حال حقها من مكارم الأخلاق وأحاسن الأعمال، كالصبر والشكر، والشجاعة والحلم ، والإيثار والزهد، والسخاء والبذل ، والحكم بالعدل) [2]
ومن الآيات التي ورد فيها أيضاً الأمر بالاقتداء بهدي الأنبياء : قوله تعالى : (( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إلاَّ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإلَيْكَ أَنَبْنَا وَإلَيْكَ المَصِيرُ )) [الممتحنة : 4] .
قال الشوكاني رحمه الله تعالى :
وقوله تعالى : ((فِي إبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ)) متعلق بأسوة أوبحسنة ، أوهو نعت لأسوة ، أو حال من الضمير المستتر في حسنة ، أو خبر كان، و ((لَكُمْ)) للبيان ، ((وَالَّذِينَ مَعَهُ)) هم أصحابه المؤمنون، وقال ابن زيد : هم الأنبياء) [3].
ومن الآيات الواردة في الأمر بالاهتداء بهدي الأنبياء :
ما شرعه الله عز وجل في سورة الفاتحة في كل صلاة أن ندعوه سبحانه بأن يهدينا صراطهم المستقيم ، وذلك في قوله تعالى : ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أََنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ )) .
وأول من يدخل في وصف المنعَم عليهم هم أنبياء الله تعالى وأتباعهم ؛ وذلك لقوله تعالى بعد أن ذكر جملة من الأنبياء الكرام في سورة مريم : (( أُوْلَئِكَ الَذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إبْرَاهِيمَ وَإسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِياً)) [مريم : 58] .
ثانياً : لأن حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هي الحياة المعصومة
خاصة فيما يتعلق بالعقيدة ، وما أُمروا بتبليغه ؛ ذلك لأن الله تعالى اجتباهم واصطفاهم عن علم وحكمة ؛ قال تعالى : ((وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا)) .
وقال سبحانه عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم الصلاة والسلام : ((إنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ )) [سورة ص : 46 ، 47] ، وقال عن نبيه موسى عليه الصلاة والسلام : ((وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي )) [طه : 39] ، وقال عن علمه سبحانه بمن يختار من رسله : ((اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)) [الأنعام : 124] .
وقال سبحانه : ((اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ )) [الحج : 75] ، والآيات في ذلك كثيرة ، والحاصل منها : أن من اصطفاه الله عز وجل واجتباه لرسالته هم أولى بالاتباع والاقتداء ؛ وذلك لحفظ الله عز وجل لهم وعصمته لهم من الزلل والانحراف، ولو وقع منهم الخطأ لم يُقَرّوا على ذلك ، فحري بمن هذه صفاتهم أن يُقتدى بهم ، وتُدرس حياتهم، ويُتعرف على هديهم ؛ وذلك لضمان الاهتداء وعدم الانحراف، لهداية الله عز وجل لهم وعصمته لهم، فيتم الاقتداء من المقتدين وهم في غاية الاطمئنان على صحة ما يأخذونه ويقتدون به وسلامته من الانحراف .
ثالثاً : في دراسة حياة الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) أكبر العظات والعبر للدعاة إلى الله عز وجل في كل مكان وزمان(12/276)
سواءً ما يتعلق بالإيمان العظيم والتوحيد الصادق الذي عليه أنبياء الله عز وجل، أو فيما يتعلق بأخلاقهم وسلوكهم ، أو بهديهم ومنهجهم ، وصبرهم في الدعوة، والصراع مع الباطل وأهله، وإبراز هذه الجوانب من حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هو من أهم أغراض ورود قصص الأنبياء في القرآن الكريم ؛ حيث لم تأت لمجرد التسلية والمعرفة التاريخية فقط ، وإنما جاءت للاقتداء والتأسي بتوحيدهم لله والدعوة إليه ، والتعزي بحياتهم وصبرهم وجهادهم ؛ حتى لا تفتر عزائم الدعاة ويضعف صبرهم ، فلهم في هذا السلف المبارك أكبر عزاء وقدوة في الثبات وشحذ الهمم .
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى :
(وفي قصص هذه الأمور عبرة للمؤمنين بهم ؛ فإنهم لا بد أن يبتلوا بما هو أكثر من ذلك ولا ييأسوا إذا ابتلوا بذلك ، ويعلموا أنه قد ابتلي به من هو خير منهم ، وكانت العاقبة إلى خير، فليتيقن المرتاب، ويتب المذنب ، ويقو إيمان المؤمنين ، فبها يصح الاتساء بالأنبياء) [4].
رابعاً : وتأتي دراسة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في عصرنا الحاضر
ونحن في أشد الحاجة إلى دراستها من أي وقت مضى ؛ وذلك لما يشهده عصرنا من غربة في أحوال كثير من المسلمين وفرقة بين دعاة الحق ، وتسلط الأعداء ، وكيد المنافقين، وتخبط في بعض المناهج الدعوية ما بين يائس، ومداهن ، ومستعجل، وهذا يبرز أهمية التعرف على حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في واقعنا المعاصر؛ لعلّ في الدراسة المتجردة الواعية لهذه الحياة المباركة أن يقي الله سبحانه بها من التخبط والانحراف ، وأن يهدينا بها إلى الصراط المستقيم الذي يوحد صفوفنا ، ويبطل كيد أعدائنا ، ويوصلنا في النهاية إلى النصر والتمكين الذي نصر الله عز وجل به أنبياءه والمتبعين لهم بإحسان .
خامساً : في دراسة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
تعرف على سنن الله عز وجل في التغيير، وتعرف على سننه سبحانه في الدفع والمدافعة ، كما أنها تكشف للدعاة إلى الله عز وجل ذلك الصراع الطويل المرير بين الحق والباطل ، وفي هذا أكبر العزاء لأهل الحق ؛ وذلك لإيمانهم بحتمية هذا الصراع ، وأن الدولة والعاقبة في نهاية الأمر للحق وأهله، وهذا كله لا يبرز بوضوح كما يبرز في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وصراعهم مع أقوامهم : بالحجة والبيان ، والهجرة، والجهاد ، حتى أتاهم الله تعالى بنصره وتمكينه ؛ قال تعالى : ((وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُوفَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ )) [البقرة : 251] ، وقال تعالى : ((وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ )) [الحج : 40] .
وقال تعالى : ((وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ )) [آل عمران : 140] .
وقال سبحانه عن السنن : (( قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ )) [آل عمران : 137] .
وإن في التعرف على هذه السنن الربانية لأعظم فائدة في تجنب الأخطاء وتوقي موارد الهلكة، ومعرفة أسباب النصر والتمكين .
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
(ومن هذا الباب صارت قصص المتقدمين عبرة لنا ، ولولا القياس واطراد فعله وسنته لم يصح الاعتبار بها ؛ لأن الاعتبار إنما يكون إذا كان حكم الشيء حكم نظيره ؛ كالأمثال المضروبة في القرآن) [5].
ومن السنن التي يمكن التعرف عليها من خلال دراسة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ما يلي :
1- سوء عاقبة المكذبين للرسل وإهلاكهم .
2- نصره سبحانه لعباده المؤمنين .
3- مداولة الأيام بين الناس من الشدة إلى الرخاء .
4- زوال الأمم بسبب الترف ، والفساد ، وفشو الظلم ، والتجبر على الناس .
5- أن البشر يتحملون مسؤوليتهم في الخير والشر .
6- أن انهيار الأمم وهلاكها يكون بأجل .
7- أن الابتلاء للمؤمنين سنة جارية .
8- تقرير سنة التدافع والصراع بين الحق والباطل [6] .
سادساً : ولعل في دراسة حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بصدق ورغبة في اتباع هديهم سبيلاً إلى الانتظام في سلكهم والسير في قافلتهم المباركة
ولعل الله عز وجل أن يلحق من هذه نيته بركبهم الميمون ، وأن يحشره في زمرتهم ، فيصدق عليه قول الله تعالى : ((وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكََ مَعَ الَذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً )) [النساء : 69 ، 70].
نسأله سبحانه أن يفيض علينا رضاه وجنته ، وأن ينعم علينا باللحوق بهذه الصفوة المباركة باتباعنا لهم ، وحبنا إياهم ، وإن قصرت أعمالنا وأحوالنا عنهم كثيراً كثيراً.(12/277)
فعن أنس رضي الله عنه : (( أن رجلاً سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الساعة ، فقال : متى الساعة ؟ قال : (وما أعددت لها ؟) قال : لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله ، فقال : (أنت مع من أحببت) ، قال أنس : فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم ، وإن لم أعمل أعمالهم)) [7].
يعلق الشيخ السعدي رحمه الله تعالى على صفات عباد الرحمن الواردة في آخر سورة الفرقان .
ورسل الله عليهم الصلاة والسلام أول من تصدق عليهم هذه الصفات فيقول : (ما أعلى هذه الصفات ، وأرفع هذه الهمم ، وأجل هذه المطالب ، وأزكى تلك النفوس ، وأطهر تلك القلوب ، وأصفى هؤلاء الصفوة ، وأتقى هؤلاء السادة ولله منّة الله على عباده ، أن بيّن لهم أوصافهم ، ونعت لهم هيئاتهم ، وبين لهم هممهم ، وأوضح لهم أجورهم ؛ ليشتاقوا إلى الاتصاف بهم ، ويبذلوا جهدهم في ذلك ، ويسألوا الذي منّ عليهم وأكرمهم الذي فضْلُه في كل مكان وزمان ، وفي كل وقت وأوان أن يهديهم كما هداهم ، ويتولاهم بتربيته الخاصة كما تولاهم ، فاللّهم لك الحمد ، وإليك المشتكى ، وأنت المستعان ، وبك المستغاث ، ولا حول ولا قوة إلا بك ، لا نملك لأنفسنا نفعاً ولا ضرّاً ، ولا نقدر على مثقال ذرة من الخير إن لم تيسر ذلك لنا ، فإنا ضعفاء عاجزون من كل وجه ، نشهد أنك إن وكلتنا إلى
أنفسنا طرفة عين وكلتنا إلى ضعف وعجز وخطيئة ، فلا نثق يا ربنا إلا برحمتك التي بها خلقتنا ورزقتنا وأنعمت علينا بما أنعمت من النعم الظاهرة والباطنة ، فارحمنا رحمة تغنينا بها عن رحمة من سواك ، فلا خاب من سألك ورجاك) [8] .
[1] تفسير الطبري ، ت : شاكر ، عند الآية (90) من سورة الأنعام .
[2] تفسير المنار ، عند الآية (90) من سورة الأنعام .
[3] فتح القدير ، 5/206 .
[4] مجموع الفتاوى ، 15/178 .
[5] جامع الرسائل ، ص 55 2) .
[6] انظر لمزيد من التفصيل : منهج التاريخ الإسلامي ، للدكتور محمد بن صامل السلمي ، ص 58 74 .
[7] البخاري ، ح/6167 في كتاب الأدب ، ومسلم ، ح/2639 في كتاب البر والصلة .
[8] تفسير السعدي ، 3/455 .
==============
ضعف التأصيل وتأصيل الضعف
إن الدعوة إلى الله عز وجل عبادة عظيمة من أعظم العبادات التي يحبها الله عز وجل ويُتقرب بها إليه سبحانه ولكن شأنها شأن العبادات الأخرى التي يشترط في قبولها عند الله تعالى أن يكون فيها إخلاص ومتابعة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وشَرَعه لأمته ؛ وهذا هو مفهوم التأصيل . والناظر في واقع الدعوة اليوم وما أثمرته من صحوة عامة وعودة إلى الدين والخير ومقارعة الفساد وأهله ليحمد الله عز وجل على هذه النعمة العظيمة ، ويشكر القائمين على هذه الدعوة من علماء وطلاب علم ودعاة وموجهين ومحسنين ؛ كلٌ في مهمته ، وحسب ما قدم . ومع هذا الخير العظيم الذي لا يماري فيه عاقل محب للخير ؛ فإن هناك أمرين خطيرين ينبغي أن ينتبه إليهما الدعاة المخلصون ؛ لأنهما طالما كانا من معاول الهدم للدعوات الصحيحة ، أو كانا أداتي نخر وإفساد للدعوات الناشئة في بنائها . وهذان الأمران هما :
1 ضعف التأصيل . 2 تأصيل الضعف .
والمقصود بضعف التأصيل : الانطلاق في أمور الدعوة ومناهجها وأساليبها دون الرجوع إلى أصول الشريعة وما كان عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه الكرام رضي الله عنهم ، ودون الاهتمام بالمستند الشرعي والدليل العلمي لمنطلقات الدعوة ومناهجها ، والاكتفاء بآراء الرجال ، والتقليد الأعمى دون تمحيص هذه الآراء ، وهل هي توافق مقاصد الشريعة وأصول السيرة النبوية الطاهرة أم لا ؟ ! إن تربية النشء على قدسية أقوال فلان من الناس ، وأنها الحق الذي لا مرية فيه نهج خاطئ منحرف ، ومثال واضح لضعف التأصيل أو انعدامه .
كما أن ربط الصحة والخطأ في أمور الدعوة بالعقل والذوق ورغبات الناس هي الأخرى مثال لضعف التأصيل . والأمثلة كثيرة وليس المقام مقام تفصيل لها .. والمقصود : أن ضعف التأصيل ظاهرة خطيرة ، تُرى دائماً وتظهر في أزمنة الجهل بالشريعة ، وضعف العلم الشرعي ، وترك الأخذ بالدليل الصحيح ، والاستعاضة عن ذلك بآراء الرجال وعقولهم وأهوائهم . وعلاج هذا الانحراف يكون في ربط الدعوة ومناهجها بالدليل ومقاصد الشريعة وقواعدها ، وإحياء العلم الشرعي بين الناس ، وأن لا عصمة إلا للرسول صلى الله عليه وسلم؛ وكل من عداه يؤخذ من قوله ويرد . وإحقاقاً للحق فإن كثيراً من الدعوات اليوم ولله الحمد قد ثبّتت منهج التأصيل والرجوع إلى ما كان عليه سلف الأمة والاهتمام بالدليل ؛ وما ذاك إلا بسبب انتشار العلم وكثرة طلابه والتفافهم على العلماء ؛ وهذا يبشر بالخير إن شاء الله تعالى وإن كان التأصيل الشامل يحتاج إلى جهد كبير ، وتعاون عظيم بين العلماء والدعاة في ذلك .
أما الأمر الثاني فهو تأصيل الضعف : والمقصود بتأصيل الضعف هنا : هو أن يقع الإنسان في ضعف أو خطأ ، وعوضاً عن الاعتراف بهذا الضعف ، ومحاولة النهوض منه ومعالجته .. تراه يتكلف الاستدلال لضعفه هذا ببعض الأدلة الشرعية التي لا تصلح للاستدلال ، وقصده من هذا أن يظهر بمظهر المتقيد بالشرع ، وأنه ينطلق في مواقفه من أصول شرعية ، ولتوضيح هذه المسألة أضرب الأمثلة
الآتية :(12/278)
1- هناك من يسوّغ كتم الحق بالخوف على النفس من الفتنة ، أو بالخوف على الناس من تبعات قول الحق وما يجر عليهم من المفاسد والفتن ؛ فإن كان من يقول هذا القول قد عُرف عنه التقوى والإخلاص والعلم بمقاصد الشريعة ؛ فإنه والحالة هذه مسؤول عما يقول وهو إن شاء الله تعالى مأجور على اجتهاده ، وليس هو ممن يلبس الحق بالباطل ، أو ممن يؤصّل ضعفه ويسوّغه بمسوغات شرعية . أما إن كان صاحب هذا القول ممن عرف عنه قلة الدين واللهث وراء الدنيا ، وعرف عنه كتم الحق خوفاً على دنيا فانية ، أو طمعاً في متاع زائل فإن موقفه والحالة هذه يُعد صورة من صور تأصيل الضعف ، ولبس الحق بالباطل ؛ حيث أظهر طمعه وخوفه في صورة الحرص على مقاصد الشريعة ومراعاة المصالح والمفاسد . والله سبحانه هو المطلع على ما في القلوب وهو علاّم الغيوب .
2- من المعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل من أصول الشريعة لا تقوم إلا به ، ولكن قد يتركه بعض الناس في بعض الظروف : إما لمسوغ شرعي كتخلف بعض شروطه ، أو لضعف وتخاذل مع بقاء هذه الشعيرة على أصلها في النفوس ، أما لو تحوّل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع مرور الوقت وكثرة المنكرات وضعف الإيمان إلى أن يصبح السكوتُ وتركُ الأمر والنهي هو الأصل الذي يبحث له عن المسوغات الشرعية كدرء الفتنة ونحوها ، ثم يتحول الأمر والنهي إلى حالة استثنائية لا يقام به إلا عند توفر الشروط التي تُضخّم لتصبح أقرب إلى التعجيز منها إلى الإمكان إذا آل الأمر إلى هذه الحالة فإنه عين اللبس ، وهو تأصيل الضعف ؛ حيث انعكس الأمر فأصبح السكوت والضعف عن هذه الشعيرة العظيمة هو الأصل ، وما خالفه من الأمر والنهي هو المستثنى ، ونعوذ
بالله من الخذلان .
3- من المعلوم أن البراءة من المشركين والكفار أصل عظيم من أصول العقيدة ، لا يصح إيمان العبد إلا بها ، وقد يمر بالمسلم وقت لا يستطيع أن يجاهر بعدائه للكفار ، وقد يداريهم في الظاهر ؛ لكن قلبه ممتلئ ببغضهم والبراءة منهم ؛ لكن الخطير في هذا الأمر أن يستمرئ الناس مداراة الكفار في كل حين حتى يتحوّل الأمر إلى مداهنة وموالاة ، وحتى يؤول في النهاية إلى أن تؤصّل المداهنة الناشئة عن ضعف الإيمان وحب الدنيا ووهن العزيمة ، وتصبح هي الأصل ، وما خالفها طارئ وجزئي لا تُعارَض به ، كمن يؤصّل اليوم التسامح الديني وتقارب الأديان بحجة المصلحة الشرعية ونبذ التعصب . ومثله ما يراد للأمة الإسلامية في السنوات الأخيرة من استسلام مهين مع شرذمة الخليقة وأعداء الرسل اليهود الغاصبين ؛ حيث تحوّل الجهاد في سبيل الله تعالى ومعاداة اليهود والنصارى إلى أمر مستغرب ؛ بل ومستنكر أحياناً ، وأصبح التنازل عن هذا كله هو الأصل الذي لا يجوز خرمه . كما أصبح التعايش السلمي واحترام حدود العدو والسلام الدائم معه واحترام الشرعية الدولية المدّعاة هي الأصول التي لا يُسمح بالتنازل عنها والخروج عليها . وقد أدى هذا الأمر إلى أن يوجد في بعض بلاد المسلمين من يحشد الأدلة والشبهات لتأصيل هذا الخنوع ، وإضفاء الشرعية للسلام الدائم مع اليهود . وهل بعد ذلك مثال أوضح من هذا في تأصيل الضعف والهزيمة والهوان ؟ !
مجلة البيان : العدد : (137) التاريخ : محرم / 1420هـ .
===============
السلعة الغالية .. وثمنها الغالي
لا شك في أن غاية ما يرجوه المسلم من عبادته لربه سبحانه في هذه الدنيا هو الفوز برضوانه تعالى وجنته ، والنجاة من سخطه والنار . ومن علامة توفيق الله سبحانه لعبده المؤمن أن يدله ويوفقه لأقرب الطرق وآكدها لتحصيل هذه الغاية العظيمة ، ولا شك في أن الطريق إلى ذلك هي طاعته سبحانه بإخلاص ومتابعة وترك معاصيه .
بإخلاصٍ ومتابعةٍ : هذا على وجه الإجمال . أما على وجه التفصيل والمفاضلة بين الأعمال الصالحة وأحبها إلى الله عز وجل وأرضاها له فإن المستقرئ لكتاب الله - عز وجل - وما ورد فيه من صفات أهل جنته ورحمته ورضوانه ليجد شيئاً عجيباً جديراً بالتأمل والتدبر ؛ ذلك أن جُلَّ ما ورد من الآيات التي يذكر فيها سبحانه ما أعد لأوليائه في الجنة والرضوان يسبقها في العادة صفات الموعودين بذلك .
وبالتأمل في أوصافهم تلك نجدها تتحدث في الغالب عن المجاهدين والمهاجرين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، والصابرين على المحن والابتلاءات في طريق الدعوة إلى الله . والآيات في ذلك كثيرة أذكر منها على سبيل المثال - لا الحصر - ما يلي :
1- قوله تعالى : (إنَّ الَذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هَاجَرُوا وجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) [البقرة : 218] .
2- قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ والضَّرَّاءُ وزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ) . [البقرة : 214] .
3- قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ ويَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) [آل عمران : 142] .
4- قوله تعالى :( ولَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ ورَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ) [آل عمران : 157] .(12/279)
5- قوله تعالى : (ولا تَحْسَبَنَّ الَذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ويَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وفَضْلٍ وأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ * الَذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ والرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ القَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ واتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَاناً وقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ واتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ واللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ) .
[آل عمران : 169 - 174] .
6- قوله تعالى :( فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وأُوذُوا فِي سَبِيلِي وقَاتَلُوا وقُتِلُوا لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ولأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّنْ عِندِ اللَّهِ واللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ) . [آل عمران : 195] .
7- قوله تعالى :( والَّذِينَ آمَنُوا وهَاجَرُوا وجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ والَّذِينَ آوَوْا ونَصَرُوا أُوْلَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ ورِزْقٌ كَرِيمٌ ) [الأنفال : 47] .
8- قوله تعالى : (الَذِينَ آمَنُوا وهَاجَرُوا وجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ ورِضْوَانٍ وجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) [التوبة : 20 - 22] .
9- قوله تعالى : ( والْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ويُطِيعُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [التوبة : 71] .
10- قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) [الصف : 10 ، 11] .
11 - قوله تعالى : ( إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ وعْداً عَلَيْهِ حَقاً فِي التَّوْرَاةِ والإنجِيلِ والْقُرْآنِ ومَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَذِي بَايَعْتُم بِهِ وذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ ) [التوبة : 111] .
والآيات في هذا كثيرة ؛ فهل من مشمِّر وبائع نفسه ابتغاء مرضاة الله وجنته ؟
مجلة البيان / العدد ( 142) التاريخ - جمادى الآخرة /1420هـ .
================
عبودية الشهوات.. مكمن الداء القسم الأول
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين:
وبعد: فإن التعلق بالله ـ عز وجل ـ وقصده وإرادته هو أساس التوحيد ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله، والله ـ سبحانه وتعالى ـ هو المستحق وحده أن يكون المقصود والمدعو والمطلوب.
يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ : (إن الإله هو المقصود والمعتمد عليه، وهذا أمر هيّن عند من لا يعرفه، كبير عظيم عند من يعرفه) (1).
ومن لم يكن مقصوده وغايته الله ـ عز وجل ـ؛ فلا بد أن يكون له مقصود ومراد آخر يستعبده، كما وضّح ذلك ابن تيمية بقوله : (الاستقراء يدل على أنه كلما كان الرجل أعظم استكباراً عن عبادة الله؛ كان أعظم إشراكاً بالله؛ لأنه كلما استكبر عن عبادة الله ـ تعالى ـ ازداد فقراً وحاجة إلى المراد المحبوب الذي هو المقصود.
فلا بد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وإرادته؛ فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وإرادته بل استكبر عن ذلك؛ فلا بد أن له مراداً محبوباً يستعبده غير الله، فيكون عبداً لذلك المراد المحبوب: إما المال، وإما الجاه، وإما الصور، وإما ما يتخذه إلهاً من دون الله) (2).
والناظر إلى واقعنا الحاضر يرى أنواعاً من التعلق بالشهوات والافتتان بها، فما أكثر المسلمين الذين أشربوا حب الشهوات من النساء والأموال، والملبوسات والمركوبات، والمناصب والرياسات، والولع بالألعاب والملاهي.
وهذه المقالة تتحدث عن جملة من تلك الشهوات التي استحكمت بأفئدة كثير من الناس وعقولهم.
ولعل من المناسب أن نتحدث ابتداءً عن الموقف الصحيح تجاه الشهوات إجمالاً قبل الحديث عن بعض أفرادها تفصيلاً.(12/280)
إن المسلك العدل إزاء الشهوات وسط بين مسلك أهل الفجور والفواحش، ومسلك أصحاب الرهبانية والتشدد؛ فأهل الفجور أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات؛ وأهل الرهبانية حرّموا ما أحل الله من الطيبات. ودين الله ـ عز وجل ـ يراعي أحوال الناس، ويدرك ما هم عليه من الغرائز والشهوات؛ لذا فهو يبيحها ويعترف بها، لكنه يضبطها ويهذبها.
يقول ابن القيم ـ مقرراً هذه الوسطية ـ: (لما كان العبد لا ينفك عن الهوى ما دام حياً ـ فإن هواه لازم له ـ كان الأمر بخروجه عن الهوى بالكلية كالممتنع، ولكن المقدور له والمأمور به أن يصرف هواه عن مراتع الهَلَكة إلى مواطن الأمن والسلامة؛ مثاله أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ لم يأمره بصرف قلبه عن هوى النساء جملة؛ بل أمره بصرف ذلك إلى نكاح ما طاب له منهن من واحدة إلى أربع، ومن الإماء ما شاء، فانصرف مجرى الهوى من محل إلى محل، وكانت الريح دبوراً فاستحالت صباً) (3).
واتباع الشهوات والانكباب عليها يؤول إلى استيلائها على القلب، فيصير القلب عبداً وأسيراً لتلك الشهوات، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن المتبعين لشهواتهم من الصور والطعام والشراب واللباس يستولي على قلب أحدهم ما يشتهيه حتى يقهره ويملكه، ويبقى أسير ما يهواه يصرفه كيف تصرّف ذلك المطلوب.
فما يمثله الإنسان في قلبه من الصور المحبوبة تبتلع قلبه وتقهره، فلا يقدر قلبه على الامتناع منه؛ فيبقى مستغرقاً في تلك الصورة .. والقلب يغرق فيما يستولي عليه: إما من محبوب وإما من مخوف، كما يوجد من محبة المال والجاه والصور؛ والخائف من غيره يبقى قلبه وعقله مستغرقاً كما يغرق الغريق في الماء) (4).
وقد قال الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ: (من لزم الشهوات لزمته عبودية أبناء الدنيا) (5).
وإذا كان الإفراط والانهماك في الشهوات مذموماً شرعاً، كما قال ـ عز وجل ـ: ((فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَياً)) [مريم: 59]؛ فكذلك اتباع الشهوات مذموم عقلاً؛ فإن العاقل البصير ينظر في عواقب الأمور، فلا يُؤْثِرُ العاجلة الفانية على الآخرة الباقية.
يقول ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ : (اعلم أن مطلق الهوى يدعو إلى اللذة الحاضرة من غير فكر في عاقبة، ويحث على نيل الشهوات عاجلاً، وإن كانت سبباً للألم والأذى في العاجل، ومنع لذّات في الآجل).
فأما العاقل فإنه ينهى نفسه عن لذةٍ يعقبها ألم، وشهوة تُورث ندماً، وكفى بهذا القدر مدحاً للعقل وذماً للهوى.
وإذا عرف العاقل أن الهوى يصير غالباً، وجب عليه أن يرفع كل حادثة إلى حاكم العقل؛ فإنه سيشير عليه بالنظر في المصالح الآجلة، ويأمره عند وقوع الشبهة باستعمال الأحوط في كف الهوى، إلى أن يتيقن السلامة من الشر في العاقبة) (6).
وليعلم العبد أن الصبر عن الشهوات ـ وما فيها من الإغراء والبريق والافتتان ـ أيسر من الصبر على عواقب الشهوات وآلامها وحسراتها، كما بينه ابن القيم بقوله: (الصبر عن الشهوة أسهل من الصبر على ما توجبه الشهوة، فإنها إما أن توجب ألماً وعقوبة، وإما أن تقطع لذة أكمل منها، وإما أن تضيع وقتاً إضاعته حسرة وندامة، وإما أن تثلم عرضاً توفيره أنفع للعبد من ثلمه، وإما أن تُذهب مالاً بقاؤه خير له من ذهابه، وإما أن تضع قدراً وجاهاً قيامه خير من وضعه، وإما أن تسلب نعمة بقاؤها ألذ وأطيب من قضاء الشهوة، وإما أن تطرق لوضيع إليك طريقاً لم يكن يجدها قبل ذلك، وإما أن تجلب هماً وغماً وحزناً وخوفاً لا يقارب لذة الشهوة، وإما أن تنسي علماً ذكره ألذ من نيل الشهوة، وإما أن تُشمت عدواً وتحزن ولياً، وإما أن تقطع الطريق على نعمة مقبلة، وإما أن تحدث عيباً يبقى صفة لا تزول؛ فإن الأعمال تورث الصفات والأخلاق) (7).
شهوة النساء:
وأما عن شهوة النساء، أو بالأحرى شهوة الجنس ـ عموماً ـ فإن المتأمل في أحوال المسلمين ـ فضلاً عمن دونهم ـ يرى سُعاراً تجاه هذه الشهوات، وولوغاً في مستنقعاتها الآسنة، فما أكثر المسلمين العاكفين على متابعة الأطباق الفضائية وشبكات (الإنترنت)، وقد سمّروا أعينهم في سبيل ملاحقة برامج الفحش، وما أكثر الذين يشدّون رحالهم إلى بلاد الكفر والفجور في سبيل تلبية شهواتهم المحرمة، والله المستعان.
لقد تكالب شياطين الإنس والجن مع النفوس الأمّارة بالسوء على إفساد عفاف المسلمين وأخلاقهم، قال ـ سبحانه ـ: ((وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً)). [النساء: 27] .
ومما يجدر ذكره أن من أرخى لشهوته العنان؛ فإن سعار هذه الشهوة لا حد له ولا انقضاء، وإذا كان الشخص المولع بالدنيا لا يشبع من المال ـ كما في الحديث: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب) (8) ـ، فكذلك الشخص المولع بشهوة الجنس بدون ضابط أو رادع لا يقف ولا يرعوي.
يقول الشيخ علي الطنطاوي: (لو أوتيتَ مال قارون، وجسد هرقل، وواصلتك عشر آلاف من أجمل النساء من كل لون وكل شكل وكل نوع من أنواع الجمال، هل تظن أنك تكتفي؟ لا، أقولها بالصوت العالي: لا، أكتبها بالقلم العريض، ولكن واحدة بالحلال تكفيك. لا تطلبوا مني الدليل؛ فحيثما تلفّتم حولكم وجدتم في الحياة الدليل قائماً ظاهراً مرئياً) (9).(12/281)
وجاء في الأدب الكبير، لابن المقفع: (اعلم أن من أوقع الأمور في الدين، وأنهكها للجسد، وأتلفها للمال، وأجلبها للعار، وأزراها للمروءة، وأسرعها في ذهاب الجلالة والوقار: الغرام بالنساء. ومن العجب أن الرجل لا بأس بلبّه ورأيه يرى المرأة من بعيد متلففة في ثيابها، فيصوّر لها في قلبه الحُسن والجمال حتى تعلق بها نفسه من غير رؤية ولا خبر مخبر، ثم لعله يهجم منها على أقبح القبح، وأدمّ الدمامة، فلا يعظه ذلك؛ ولا يقطعه عن أمثالها، ولا يزال مشغوفاً بما لم يذق، حتى لو لم يبق في الأرض غير امرأة واحدة، لظن أن لها شأناً غير شأن ما ذاق، وهذا هو الحمق والشقاء والسفه).
إن أشد الفتن وأعظمها: الفتنة بالنساء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- : (ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء) (10).
قال الإمام طاووس عند قوله: ((وَخُلِقَ الإنسَانُ ضَعِيفاً)) [النساء: 28]،(إذا نظر إلى النساء لم يصبر) (11).
وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ (لم يكن كفر من مضى إلا من قِبل النساء، وهو كائن كفر من بقي من قِبل النساء) (12).
وهاك أخي القارئ حكايتين واقعيتين تكشفان أن من أسباب الكفر بالله: عشق النساء.
فأما الحكاية الأولى:
فقد ساقها أبو الفرج ابن الجوزي بقوله: (بلغني عن رجل كان ببغداد يُقال له: صالح المؤذن، أذّن أربعين سنة، وكان يُعرف بالصلاح، أنه صعد يوماً إلى المنارة ليؤذن، فرأى بنت رجل نصراني كان بيته إلى جانب المسجد، فافتتن بها، فجاء فطرق الباب، فقالت: من؟ فقال: أنا صالح المؤذن، ففتحت له، فلما دخل ضمها إليه، فقالت: أنتم أصحاب الأمانات فما هذه الخيانة؟ فقال: إن وافقتني على ما أريد وإلا قتلتك. فقالت: لا؛ إلا أن تترك دينك، فقال: أنا بريء من الإسلام ومما جاء به محمد، ثم دنا إليها، فقالت: إنما قلت هذا لتقضي غرضك ثم تعود إلى دينك، فكُلْ من لحم الخنزير، فأكل، قالت: فاشرب الخمر، فشرب، فلما دبّ الشراب فيه دنا إليها، فدخلت بيتاً وأغلقت الباب، وقالت: اصعد إلى السطح حتى إذا جاء أبي زوّجني منك، فصعد فسقط فمات، فخرجت فلفّته في ثوب، فجاء أبوها، فقصّت عليه القصة، فأخرجه في الليل فرماه في السكة، فظهر حديثه، فرُمي في مزبلة) (13).
أما الحكاية الثانية:
ذكر الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ في حوادث سنة ثمان وسبعين ومائتين ما يلي:
(وفيها توفي عبده بن عبد الرحيم ـ قبحه الله ـ ذكر ابن الجوزي أن هذا الشقي كان من المجاهدين كثيراً في بلاد الروم، فلما كان في بعض الغزوات والمسلمون يحاصرون بلدة من بلاد الروم، إذ نظر إلى امرأة من نساء الروم في ذلك الحصن، فهويها، فراسلها: ما السبيل إلى الوصول إليك؟ فقالت: أن تتنصر وتصعد إليّ، فأجابها إلى ذلك، فما راع المسلمين إلا وهو عندها، فاغتم المسلمون بسبب ذلك غماً شديداً، وشق عليهم مشقة عظيمة، فلما كان بعد مدة مروا عليه وهو مع تلك المرأة في ذلك الحصن، فقالوا: يا فلان ما فعل قرآنك؟ ما فعل علمك؟ ما فعل صيامك؟ ما فعل جهادك؟ ما فعلت صلاتك؟ فقال: اعلموا أني أُنسيت القرآنَ كله إلا قوله: ((رُّبَمَا يَوَدُّ الَذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2)ذَرْهُمْ يَاًكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)) [الحجر: 2، 3] وقد صار لي فيهم مال وولد) (14).
إن الولوغ في الفواحش وارتكابها له وسائل متعددة وأسباب كثيرة، وأدناها: سماع الأغاني؛ فإن الغناء رقية الزنا، وداعية الفاحشة.
وقال يزيد بن الوليد : (يا بني أمية! إياكم والغناء؛ فإنه ينقص الحياء، ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السّكْر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنّبوه النساء؛ فإن الغناء داعية الزنا) (15).
قال ابن القيم: (ومن الأمر المعلوم عند القوم أن المرأة إذا استصعبت على الرجل اجتهد أن يُسمعها صوت الغناء، فحينئذٍ تعطي الليان)؛ وهذا لأن المرأة سريعة الانفعال للأصوات جداً، فإذا كان الصوت بالغناء صار انفعالها من وجهين: من جهة الصوت، ومن جهة معناه؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنجشة حاديه: (يا أنجشة رويدك، رفقاً بالقوارير) (16) يعني النساء.
(أما إذا اجتمع إلى هذه الرقية الدّف والشبابة والرقص بالتخنث والتكسر، فلو حبلت المرأة من صوت لحبلت من هذا الغناء.
فلعمر الله كم من حرة صارت بالغناء من البغايا، وكم من حرّ أصبح به عبداً للصبيان أو الصبايا، وكم من غيور تبدّل به اسماً قبيحاً بين البرايا، وكم من معافى تعرّض له فأمسى وقد حلّت به أنواع البلايا) (17).
ومن أشد الوسائل فتكاً: النظر المحرم، فكم من نظرة إلى صورة جميلة ـ في السوق أو في شاشة أو مجلة ـ أعقبت فواحش وآلاماً وحسرات. قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : (إذا خاف الفتنة لا ينظر، كم نظرة قد ألقت في قلب صاحبها البلابل)(18).
يقول ابن الجوزي محذراً من إطلاق البصر: (اعلم ـ وفقك الله ـ أن البصر صاحب خبر القلب ينقل إليه أخبار المبصرات، وينقش فيه صورها فيجول فيها الفكر، فيشغله ذلك عن الفكر فيما ينفعه من أمر الآخرة. ولما كان إطلاق البصر سبباً لوقوع الهوى في القلب، أمرك الشارع بغضّ البصر عما يُخاف عواقبه. قال الله ـ تعالى ـ: ((قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ)) [النور: 30]. ((وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ)) [النور: 31]. ثم أشار إلى مُسبب هذا السبب، ونبّه على ما يؤول إليه هذا الشر بقوله: ((وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)) [النور: 30]، ((وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ)) [النور: 31]) (19).(12/282)
وقد تحدث شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عن النظر المحرم وما يؤول إليه من الوقوع في الفواحش.. بل وقد ينتهي بصاحبه إلى الشرك بالله ـ تعالى ـ فكان مما قاله: (وأما النظر والمباشرة فاللمم منها مغفور باجتناب الكبائر، فإن أصر على النظر أو على المباشرة صار كبيرة، وقد يكون الإصرار على ذلك أعظم من قليل الفواحش؛ فإن دوام النظر بالشهوة وما يتصل به من العشق والمعاشرة والمباشرة أعظم بكثير من فساد زنا لا إصرار عليه؛ ولهذا قال الفقهاء في الشاهد العدل: أن لا يأتي كبيرة، ولا يصر على صغيرة.
بل قد ينتهي النظر والمباشرة بالرجل إلى الشرك، كما قال ـ تعالى ـ : ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أََندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ)) [البقرة: 165]، ولهذا لا يكون عشق الصور إلا من ضعف محبة الله وضعف الإيمان. والله ـ تعالى ـ إنما ذكره في القرآن عن امرأة العزيز المشركة، وعن قوم لوط المشركين) (20).
وقال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: (وقد جعل الله ـ سبحانه ـ العين مرآة القلب فإذا غضّ العبد بصره، غضّ القلب شهوته وإرادته، وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته).
ـ إلى أن قال ـ والنظرة إذا أثّرت في القلب، فإن عجل الحازم وحسم المادة من أولها سهُل علاجه، وإن كرر النظر ونقّب عن محاسن الصورة ونقلها إلى قلب فارغ فنقشها فيه تمكنت المحبة، وكلما تواصلت النظرات كانت كالماء يسقي الشجرة، فلا تزال شجرة الحب تنمو حتى يفسد القلب ويعرض عن الفكر فيما أمر به، فيخرج بصاحبه إلى المحن ويوجب ارتكاب المحظورات والفتن) (21).
ومن أشد الوسائل ضرراً وشراً: اختلاط النساء بالرجال؛ فإن هذا الاختلاط أنكى وسيلة في الانغماس في الفواحش والقاذورات، وقد كثر في هذا الزمان من يطالب بهذا الاختلاط ويدعو إليه؛ حيث ينادون بمزاحمة النساء للرجال في جميع المجالات والأعمال، زاعمين أنهم يريدون الخير والإصلاح لمجتمعاتهم، ألا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون.
قال ابن القيم متحدثاً عن مفاسد الاختلاط: (ولا ريب أن تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال أصل كل بلية وشر، وهو من أعظم أسباب نزول العقوبات العامة، كما أنه من أسباب فساد أمور العامة والخاصة.. وهو من أسباب الموت العام والطواعين المهلكة. ولما اختلط البغايا بعسكر موسى ـ عليه السلام ـ وفشت فيهم الفاحشة أرسل الله عليهم الطاعون فمات في يوم واحد سبعون ألفاً، والقصة مشهورة في كتب التفسير؛ فمن أعظم أسباب الموت العام كثرة الزنا بسبب تمكين النساء من اختلاطهن بالرجال والمشي بينهم متبرجات متجملات) (22).
وها هنا أمر مهم بنبغي التنبيه عليه، وهو أن الولع والانكباب على الشهوات سببه ضعف التوحيد، فإن القلب كلما كان أضعف توحيداً وأقل إخلاصاً لله ـ تعالى ـ كان أكثر فاحشة وشهوة (23).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ في هذه المسألة ـ: (وهذا [أي العشق والشهوات] إنما يبتلى به أهل الإعراض عن الإخلاص لله الذين فيهم نوع من الشرك، وإلا فأهل الإخلاص، كما قال الله ـ تعالى ـ في حق يوسف ـ عليه السلام ـ: ((كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ)) [يوسف: 24] فامرأة العزيز كانت مشركة فوقعت ـ مع تزوجها ـ فيما وقعت فيه من السوء، ويوسف ـ عليه السلام ـ مع عزوبته، ومراودتها له، واستعانتها عليه بالنسوة، وعقوبتها له بالحبس على العفة، عصمه الله بإخلاصه له، تحقيقاً لقوله: ((لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ)) [ص: 82، 83]، قال ـ تعالى ـ: ((إنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ)) [الحجر: 42] والغي هو اتباع الهوى (24).
إن الافتتان بالنساء والولع بهن يورث أنواعاً من العقوبات والمفاسد في الدنيا والآخرة.
وأشار ابن الجوزي إلى تنوع هذه العقوبات فقال: (اعلم أن العقوبة تختلف: فتارة تتعجل، وتارة تتأخر، وتارة يظهر أثرها، وتارة يخفى. وأطرف العقوبات ما لا يحس بها المعاقَب، وأشدها العقوبة بسلب الإيمان والمعرفة، ودون ذلك موت القلب ومحو لذة المناجاة منه، وقوة الحرص على الذنب ونسيان القرآن، وإهمال الاستغفار، ونحو ذلك مما ضرره في الدين. وربما دبّت العقوبة في الباطن دبيب الظلمة، إلى أن يمتلئ أفق القلب، فتعمى البصيرة، وأهون العقوبة ما كان واقعاً بالبدن في الدنيا، وربما كانت عقوبة النظر في البصر. فمن عرف لنفسه من الذنوب ما يوجب العقاب فليبادر نزول العقوبة بالتوبة الصادقة عساه يرُدّ ما يَرِد) (25).
وتحدث شيخ الإسلام ابن تيمية عن عقوبات الشهوة المحرمة، فكان مما قاله: (فأما من استعبد قلبه صورة محرمة: امرأة أو صبي، فهذا هو العذاب الذي لا يَدان فيه، وهؤلاء من أعظم الناس عذاباً وأقلهم ثواباً؛ فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقاً بها، مستعبَداً لها، اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد. ومن أعظم هذا البلاء إعراض القلب عن الله؛ فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له، لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أطيب) (26).(12/283)
وقال أيضاً: (ولا ريب أن محبة الفواحش مرض في القلب؛ فإن الشهوة توجب السّكْر، كما قال ـ تعالى ـ عن قوم لوط: ((إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)) [الحجر: 72]، وفي الصحيحين ـ واللفظ لمسلم ـ من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (العينان تزنيان وزناهما النظر) الحديث إلى آخره. فكثير من الناس يكون مقصوده بعض هذه الأنواع المذكورة في هذا الحديث كالنظر والاستماع والمخاطبة، ومنهم من يرتقي إلى اللمس والمباشرة، ومنهم من يقبّل وينظر، وكل ذلك حرام، وقد نهانا الله ـ عز وجل ـ أن تأخذنا بالزناة رأفة بل نقيم عليهم الحد، فكيف بما هو دون ذلك من هجر وأدب باطن ونهي وتوبيخ وغير ذلك؟ بل ينبغي شنآن الفاسقين وقليهم على ما يتمتع به الإنسان من أنواع الزنا المذكورة في هذا الحديث المتقدم وغيره) (27).
وتحدّث ابن القيم ـ في غير موضع ـ عن مفاسد الزنا وما يحويه من أنواع الشرور... فكان مما قاله ـ رحمه الله ـ : (والزنا يجمع خلال الشر كلها من قلة الدين وذهاب الورع، وفساد المروءة وقلة الغيرة، فلا تجد زانياً معه ورع، ولا وفاء بعهد، ولا صدق في حديث، ولا محافظة على صديق، ولا غيرة تامة على أهله...
ومن موجباته: غضب الرب بإفساد حرمة عياله، ومنها: سواد الوجه وظلمته وما يعلوه من الكآبة والمقت، ومنها ظلمة القلب وطمس نوره... ومنها أنه يذهب حرمة فاعله، ويسقط من عين ربه ومن أعين عباده، ومنها أن يسلبه أحسن الأسماء ويعطيه أضدادها. ومنها ضيق الصدر وحرجه؛ فإن الزناة يعاملون بضدّ قصودهم؛ فإن من طلب لذة العيش وطيبه بما حرمه الله عليه عاقبه بنقيض قصده؛ فإن ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته، ولم يجعل الله معصيته سبباً إلى خير قط) (28).
وقال في موضع آخر: (واعلم أن الجزاء من جنس العمل والقلب المعلّق بالحرام، كلما همّ أن يفارقه ويخرج منه عاد إليه، ولهذا يكون جزاؤه في البرزخ وفي الآخرة هكذا...
وفي بعض طرق حديث سَمُرة بن جندب الذي في صحيح البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني فانطلقت معهما، فإذا بيت مبني على مثل بناء التنور أعلاه ضيّق وأسفله واسع، يوقد تحته نار، فيه رجال ونساء عراة، فإذا أوقدت النار ارتفعوا حتى يكادوا أن يخرجوا، فإذا أخمدت رجعوا فيها، فقلت: من هؤلاء؟ قال: هم الزناة). فتأمل مطابقة هذا الحديث لحال قلوبهم في الدنيا؛ فإنهم كلما هموا بالتوبة والإقلاع والخروج من تنور الشهوة إلى فضاء التوبة أُركِسوا فيه وعادوا بعد أن كادوا يخرجون) (29).
وقال في موضع ثالث: (وليعلم اللبيب أن مدمني الشهوات يصيرون إلى حالة لا يلتذون بها وهم مع ذلك لا يستطيعون تركها؛ لأنها قد صارت عندهم بمنزلة العيش الذي لا بد لهم منه، ولهذا ترى مدمن الخمر والجماع لا يلتذ بهما عشر معشار من يفعله نادراً في الأحيان) (30).
ومما ذكره الشيخ محمد الخضر حسين ـ رحمه الله ـ في مفاسد البغاء: (في البغاء فساد كبير، وشر مستطير: يفتك بالفضيلة، يدنس الأعراض، يعكر صفو الأمن، يفصم رابطة الوفاق، يبعث الأمراض القاتلة في الأجسام، وأي حياة لجماعة تضيع أخلاقها وتتسخ أعراضها، ويختل أمنها، وتدب البغضاء في نفوسها، وتنهك العلل أجسامها؟) (31).
الهوامش:
(1) الدرر السنية، 2/21، وانظر: تاريخ ابن غنام 2/52، 298، وانظر: مجموع فتاوى ابن تيمية 1/34.
(2) العبودية ص112-114، بتصرف، وانظر: مجموع الفتاوى 10/185-187، والفوائد لابن القيم ص 186.
(3) روضة المحبين، ص11، وانظر: ذم الهوى، لابن الجوزي، ص35.
(4) مجموع الفتاوى، 10/594، 595، بتصرف يسير.
(5) سير أعلام النبلاء 10/97.
(6) ذم الهوى، لابن الجوزي، ص36، باختصار.
(7) الفوائد، ص131.
(8) أخرجه مسلم في الذكاة (1049)، والترمذي في المناقب (3793) و (3898).
(9) فتاوى علي الطنطاوي، ص146، وانظر: صيد الخاطر، لابن الجوزي، ص261.
(10) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، 274، 2741. والترمذي في الأدب 2780.
(11) انظر: ذم الهوى، لابن الجوزي ص179، وروضة المحبين، ص 203.
(12) انظر: ذم الهوى، لابن الجوزي، ص178، وروضة المحبين ص 197.
(13) ذم الهوى، ص 409.
(14) البداية، 11/64.
(15) انظر: إغاثة اللهفان، 1/369.
(16) أخرجه البخاري ومسلم.
(17) إغاثة اللهفان، 1/370، 371.
(18) انظر: ذم الهوى، لابن الجوزي، ص116.
(19) ذم الهوى، ص106.
(20) مجموع الفتاوى، 15/292، 293.
(21) روضة المحبين، ص92، 94، 95، باختصار يسير.
(22) الطرق الحكمية، ص259.
(23) انظر: الفوائد، لابن القيم، ص75.
(24) مجموع الفتاوى، 51/421.
(25) ذم الهوى، ص217.
(26) مجموع الفتاوى، 10/187.
(27) مجموع الفتاوى، 15/288، 289.
(28) روضة المحبين، ص360.
(29) روضة المحبين، ص442.
(30) روضة المحبين، ص470.
(31) رسائل الإصلاح، ص23.
=============
علاج شهوة النساء:
بعد أن فصّلنا الحديث عن هذه الشهوة نورد علاجها وسبيل النجاة منها، وقد بسط أبو الفرج ابن الجوزي في (ذم الهوى) وابن القيم في (روضة المحبين) الحديث عن العلاج، وأطنبا في وصفه وتشخيصه، وتميّز ابن الجوزي بإيراد علاج لكل مرحلة من مراحل هذه الشهوة، فجعل للنظر المحرم علاجاً، وجعل للخلوة بالنساء علاجاً وهكذا. وأما ابن القيم فقد ساق خمسين وسيلة في علاج هذه الشهوة على سبيل الإجمال والعموم.(12/284)
ومما سطّره يراع أبي الفرج ابن الجوزي في هذا المقام: (واعلم أن أمراض العشق تختلف، فينبغي لذلك أن يختلف علاجها؛ فليس علاج من عنده بداية المرض كعلاج من انتهى به المرض نهايته، وإنما يُعالج من هذا المرض من لم يرتقِ إلى غايته؛ فإنه إذا بلغ الغاية أحدث الجنون والذهول، وتلك حالة لا تقبل العلاج) (1).
وقال أيضاً: (فإن تكرار النظر قد نقش صورة المحبوب في القلب نقشاً متمكناً؛ وعلامة ذلك: امتلاء القلب بالحبيب؛ فكأنه يراه حالاّ في الصدر، وكأنه يضمه إليه عند النوم ويحادثه في الخلوة، فاعلم أن سبب هذا الطمع في نيل المطلوب، وكفى بالطمع مرضاً، وقلّ أن يقع الفسق إلا في المطموع فيه؛ فإن الإنسان لو رأى زوجة الملك فهويها لم يكد قلبه يتعلق بها؛ لأجل اليأس من مثلها. فأما من طمع في شيء فإن الطمع يحمله على طلبه، ويعذّبه إن لم يدركه..
وعلاج هذا المرض: العزم القوي على البعد عن المحبوب، والقطع الجازم على غض البصر عنه، وهجران الطمع فيه، وتوطين النفس على اليأس منه) (2).
وقال في موضع ثالث: ومما يُداوى به الباطن أن تفكّر، فتعلم أن محبوبك ليس كما في نفسك، فأعمل فكرك في عيوبه تسلُ؛ فإن الآدمي محشوّ بالأنجاس والأقذار، وإنما يرى العاشق معشوقه في حال الكمال، ولا يُصور له الهوى عيباً؛ لأن الحقائق لا تنكشف إلا مع الاعتدال، وسلطان الهوى حاكم جائر يغطي المعايب، فيرى العاشق القبيح من معشوقه حسناً.
ولهذا قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: (إذا أعجبت أحدَكم امرأةٌ فليذكر مناتنها) (3).
وأما ما حرّره ابن القيم في سبيل التخلص من شراك هذه الشهوات، فنختار منها بعضها، فمن ذلك قوله :(التفكر في أنه لم يُخلق للهوى، وإنما هُيّئ لأمر عظيم لا يناله إلا بمعصيته للهوى كما قيل:
قد هيؤوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ (4)
(أن يأنف لنفسه من ذل طاعة الهوى؛ فإنه ما أطاع أحد هواه قط إلا وجد في نفسه ذلاّ، ولا يغتر بصولة أتباع الهوى وكِبرهم؛ فهم أذل الناس بواطنَ، قد جمعوا بين خصلتي الكبر والذل) (5).
(أن يعلم أن الهوى ما خالط شيئاً إلا أفسده، فإن وقع في العلم أخرجه إلى البدعة والضلالة وصار صاحبه من جملة أهل الأهواء، وإن وقع في الزهد أخرج صاحبه إلى الرياء ومخالفة السنة، وإن وقع في الحكم أخرج صاحبه إلى الظلم وصدّه عن الحق، وإن وقع في الولاية والعزل أخرج صاحبه إلى خيانة الله والمسلمين حيث يولّي بهواه ويعزل بهواه) (6).
(إن جهاد الهوى إن لم يكن أعظم من جهاد الكفّار فليس بدونه، قال رجل للحسن البصري ـ رحمه الله تعالى ـ: يا أبا سعيد! أي الجهاد أفضل؟ قال: جهادك هواك. وسمعت شيخنا ابن تيمية يقول: (جهاد النفس أصل جهاد الكفّار والمنافقين؛، فإنه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه وهواه أولاً حتى يخرج إليهم) (7).
(إن اتباع الهوى يغلق عن العبد أبواب التوفيق، ويفتح عليه أبواب الخذلان، فتراه يلهج بأن الله لو وفّقه لكان كذا وكذا، وقد سدّ على نفسه طرق التوفيق باتباعه هواه. قال الفضيل بن عياض: من استحوذ عليه الهوى واتباع الشهوات انقطعت عنه موارد التوفيق) (8).
(إن التوحيد واتباع الهوى متضادان، فإن الهوى صنم ولكل عبد صنم في قلبه بحسب هواه، وإنما بعث الله رسله بكسر الأصنام وعبادته وحده لا شريك له، وليس مراد الله ـ تعالى ـ كسر الأصنام المجسّدة وترك الأصنام التي في القلب، بل المراد كسرها من القلب أولاً.. وتأمل قول الخليل : ((إذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ)) [الأنبياء: 52]، كيف تجده مطابقاً للتماثيل التي يهواها القلب ويعكف عليها ويعبدها من دون الله ـ تعالى ـ) (9).
(إن لكل عبد بداية ونهاية، فمن كانت بدايته اتباع الهوى، كانت نهايته الذل والصغار والحرمان والبلاء المتبوع بحسب ما اتبع هواه، بل يصير له ذلك في نهايته عذاباً يُعذّب به في قلبه كما قال القائل:
مآرب كانت في الشباب لأهلها عِذاباً فصارت في المشيب عَذاباً
فلو تأملت حال كل ذي حالة سيئة زرية لرأيت بدايته الذهاب مع هواه وإيثاره على عقله، ومن كانت بدايته مخالفة هواه وطاعة داعي رشده كانت نهايته العز والشرف والغنى والجاه عند الله وعند الناس. قيل للمهلب ابن أبي صفرة: بِمَ نلت ما نلت؟ قال: بطاعة الحزم وعصيان الهوى. فهذا في بداية الدنيا ونهايتها، وأما الآخرة فقد جعل الله ـ سبحانه ـ الجنة نهاية من خالف هواه، والنار نهاية من اتبع هواه) (10).
وبالجملة: فإنه ما من داء إلا وله دواء عَلِمه من علمه، وَجهِله من جهله، والمتعيّن على من ابتلي بشيء من هذه الشهوات أن يبادر إلى أسباب النجاة ووسائلها.. بالعزيمة الصادقة، والصبر والمصابرة، وعلو الهمة والاشتغال بمعالي الأمور والابتعاد عن سفاسفها، والمجاهدة في ذات الله ـ تعالى ـ، ونهي النفس عن الهوى وإصلاح الخواطر الإرادات، وصحبة الصالحين، ودوام التضرع إلى الله ـ تعالى ـ والانكسار بين يديه سبحانه.
شهوة المال:
استولى على أفئدة كثير من الناس الولع بالمال، فأُشربوا حبه والتعلق به، فاستعبدهم الدرهم والدينار، وصار هِجّيراهم ومقصود هم وجلّ حديثهم واهتمامهم، فإن أحبوا فلا يحبون إلا لأجل المال، وإن أبغضوا فلا يبغضون إلا لأجل المال: إن أُعطوا رضوا، وإن لم يُعطَوْا إذا هم يسخطون.(12/285)
ولقد ذمّ الله ـ تعالى ـ الدنيا في كتابه في غير موضع، كقوله ـ تعالى ـ: ((وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ)) [الحديد: 20] وقوله ـ سبحانه ـ : ((اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ)) [الحديد: 20].
وأما الأحاديث في ذم الدنيا وفضل الزهد فكثيرة جداً؛ منها حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم- على المنبر، وجلسنا حوله، فقال: (إنّ مما أخاف عليكم من بعدي ما يُفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها) متفق عليه.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: « تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يُعطَ لم يرضَ» أخرجه البخاري.
وعن كعب بن عيا ض رضي الله عنه قا ل: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم- يقول: « إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال» أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وعن كعب بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله: (ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسد لهما من حرص المرء على المال والشرف لدينه) أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وقد ورد عن الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: أنه قال: إياكم وما شغل من الدنيا؛ فإن الدنيا كثيرة الأشغال، لا يفتح رجل على نفسه باب شغل إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب) (11).
وكان يقول أيضاً: « أهينوا الدنيا فو الله لأهنأ ما تكون إذا أهنتها» (12). وكان الحسن يحلف بالله ما أعز أحدٌ الدرهمَ إلا أذله الله (13).
ولابن القيم ـ رحمه الله ـ كلام نفيس في الترغيب بالزهد في الدنيا، والإقبال على الآخرة، نورد منه ما يلي:
(لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين:
نظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصها وخستها، وألم المزاحمة عليها والحرص عليها، وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد، وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب من الحسرة والأسف؛ فطالبها لا ينفك من همّ قبل حصولها، وهمّ في حال الظفر بها، وغم وحزن بعد فواتها؛ فهذا أحد النظرين .
النظر الثاني: النظر في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بد، ودوامها وبقائها وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات، والتفاوت الذي بينه وبين ما ههنا؛ فهي كما قال الله ـ سبحانه ـ: ((وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)) [الأعلى: 17] فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة).
ـ إلى أن قال ـ: (وقد توعّد الله ـ سبحانه ـ أعظم الوعيد لمن رضي بالحياة الدنيا واطمأن بها وغفل عن آياته ولم يرجُ لقاءه فقال: ((إنَّ الَذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ همْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُون َ(7) أُوْلَئِكَ مَاًوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) [يونس: 7، 8] وعيّر ـ سبحانه ـ من رضي بالدنيا من المؤمنين فقال: ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلاَّ قَلِيلٌ)) [التوبة: 38] وعلى قدر رغبة العبد في الدنيا ورضاه بها يكون تثاقله عن طاعة الله وطلب الآخرة.
ويكفي في الزهد في الدنيا قوله ـ تعالى ـ: ((أَفَرَأَيْتَ إن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ)) [الشعراء: 205-207]) (14).
وجاء في كتاب: (عدة الصابرين) لابن القيم ما يلي: (جميع الأمم المكذبة لأنبيائهم إنما حملهم على كفرهم وهلاكهم حب الدنيا، فإن الرسل لما نهوهم عن الشرك والمعاصي التي كانوا يكسبون بها الدنيا حملهم حبها على مخالفتهم وتكذيبهم؛ فكل خطيئة في العالم أصلها حب الدنيا... فحب الدنيا والرياسة هو الذي عمر النار بأهلها، والزهد في الدنيا والرياسة هو الذي عمر الجنة بأهلها، والسكر بحب الدنيا أعظم من السكر بشرب الخمر بكثير، وصاحب هذا السكر لا يفيق منه إلا في ظلمة اللحد... والدنيا تسحر العقول أعظم سحر.
قال مالك بن دينار: (اتقوا السحّارة، اتقوا السحّارة؛ فإنها تسحر قلوب العلماء).
وأقل ما في حبها أنه يلهي عن حب الله وذكره، ومن ألهاه ماله عن ذكر الله ـ تعالى ـ فهو من الخاسرين، وإذا لها القلب عن ذكر الله سكنه الشيطان وصرفه حيث أراد) (15).
وقد بالغ العلماء في التحذير من الاستمتاع بالدنيا والانكباب عليها، حتى جعلوا مجرد النظر إلى الدنيا ـ إن كان على سبيل استحسانها والركون إليها ـ مذموماً، كما وضّحه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله:
(النظر إلى الأشجار والخيل والبهائم إذا كان على وجه استحسان الدنيا والرياسة والمال فهو مذموم؛ لقول الله ـ تعالى ـ: ((وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى)) [طه: 131].
وأما إذا كان على وجه لا ينقص الدين، وإنما فيه راحة النفس فقط، كالنظر إلى الأزهار، فهذا من الباطل الذي يستعان به على الحق) (16).
إن الحرص على المال يكون على وجهين؛ كما قرر الحافظ ابن رجب بقوله:
(أحدهما: شدة محبة المال مع طلبه من وجوه مباحة، والمبالغة في طلبه والجد في تحصيله واكتسابه من وجوهه مع الجهد والمشقة...(12/286)
ولو لم يكن في الحرص على المال إلا تضييع العمر الشريف فيما لا قيمة له ـ وقد يُمكّن صاحبه فيه اكتساب الدرجات العلى، والنعيم المقيم، فضيعه بالحرص في طلب رزق مضمون مقسوم لا يأتي منه إلا ما قُدّر وقُسم؛ ثم لا ينتفع به بل يتركه لغيره ويرتحل عنه فيبقى حسابه عليه ونفعه لغيره، فيجمع لمن لا يحمده، ويقدم على من لا يعذره لكفاه بذلك ذماً للحرص؛ فالحريص يضيع زمانه الشريف، ويخاطر بنفسه في الأسفار وركوب الأخطار لجمع مال ينتفع به غيره.
النوع الثاني: من الحرص على المال أن يزيد على ما سبق ذكره في النوع الأول، حتى يطلب المال من الوجوه المحرمة، ويمنع الحقوق الواجبة، فهذا من الشح المذموم، قال الله ـ تعالى ـ: ((وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ)) [التغابن: 16].
وفي صحيح مسلم عن جابر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (اتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم: حملهم على أن سفكوا دماءهم، واستحلوا محارمهم) (17).
وإنما يصير حب المال مذموماً إذا كان سبباً في ارتكاب المعاصي أو ترك الواجبات، يقول شيخ الإسلام في هذا الصدد: (حب المال والشرف يفسد الدين، والذي يعاقب عليه الشخص هو الحب الذي يدعو إلى المعاصي مثل الظلم والكذب والفواحش، ولا ريب أن فرط الحرص على المال والرياسة يوجب ذلك، أما مجرد حب القلب إذا كان الإنسان يفعل ما أمر الله به ويترك ما نهى عنه، ويخاف مقام ربه، وينهى النفس عن الهوى؛ فإن الله ـ تعالى ـ لا يعاقب على مثل هذا إذا لم يكن معه عمل.
وجمع المال إذا قام فيه بالواجبات ولم يكتسبه من الحرام لا يعاقب عليه، لكن إخراج الفضل والاقتصار على الكفاية أفضل وأسلم، وأفرغ للقلب وأجمع للهم، وأنفع للدنيا والآخرة، وقد قال: (من أصبح والدنيا أكبر همه شتت الله عليه شمله، وجعل فقره في عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح والآخرة أكبر همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع الله عليه ضيعته وأتته الدنيا وهي راغمة) (18).
وينبغي التوسط إزاء المال بين الشره والانهماك عليه، وبين تركه والإعراض عنه؛ كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ـ قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم- فخطب الناس فقال: (لا والله ما أخشى عليكم إلا ما يُخرِج الله لكم من زهرة الدنيا)، فقال رجل: يا رسول الله! أوَ يأتي الخير بالشر؟ فصمت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: كيف قلتَ؟ قال: يا رسول الله! أوَ يأتي الخير بالشر؟ فقال رسول الله: « إن الخير لا يأتي إلا بالخير، وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً، أو يلم إلا آكلة الخضر أكلت حتى إذا امتلأت خاصرتاها استقبلت الشمس فثلطت وبالت، ثم اجترّت فعادت فأكلت، فمن أخذ مالاً بحقه بورك له فيه، ومن أخذ مالاً بغير حقه؛ فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع» متفق عليه.
وقد شرح ابن القيم هذا الحديث وبيّن المسلك الوسط تجاه المال فقال: قوله: (إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم)) هذا من أحسن التمثيل المتضمن للتحذير من الدنيا والانهماك عليها والمسرة فيها، وذلك أن الماشية يروقها نبت الربيع فتأكل منه بأعينها فربما هلكت حبطاً، (والحبط انتفاخ بطن الدابة من الامتلاء أو من المرض)، فكذلك الشرِه في المال يقتله شرهه وحرصه، فإن لم يقتله قارب أن يقتله، وهو قوله: (أو يلم)، وكثير من أرباب الأموال إنما قتلهم أموالهم؛ فإنهم شرهوا في جمعها واحتاج إليها غيرهم، فلم يصلوا إليها إلا بقتلهم أو ما يقاربه من إذلالهم وقهرهم.
وقوله: (إلا آكلة الخضر) هذا تمثيل لمن أخذ من الدنيا حاجته، مثّله بالشاة الآكلة من الخضر بقدر حاجتها، أكلت حتى امتلأت خاصرتاها...
وفي قوله: (استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت) ثلاث فوائد: أحدها أنها لما أخذت حاجتها من المرعى تركته وبركت مستقبلة الشمس لتستمرئ بذلك ما أكلته. الثانية: أنها أعرضت عما يضرها من الشره في المرعى وأقبلت على ما ينفعها من استقبال الشمس التي يحصل لها بحرارتها إنضاح ما أكلته وإخراجه. الثالثة: أنها استفرغت بالبول والثلط ما جمعته من المرعى في بطنها فاستراحت بإخراجه، ولو بقي فيها لقتلها، فكذلك جامع المال مصلحته أن يفعل به كما فعلت هذه الشاة...
وفي هذا الحديث إشارة إلى الاعتدال والتوسط بين الشره في المرعى القاتل بكثرته، وبين الإعراض عنه وتركه بالكلية فتهلك جوعاً. وتضمّن الخبر أيضاً إرشاد المكثر من المال إلى ما يحفظ عليه قوته وصحته في بدنه وقلبه وهو الإخراج منه وإنفاقه ولا يحبسه فيضره حبسه) (19).
وإذا تقررت هذه الوسطية تجاه المال فإن على العلماء والدعاة خصوصاً أن يُعْنَوْا بتحقيق الكفاف والاستغناء عن الناس كما يُعْنَوْا بالزهد والتقلل من الدنيا؛ فإن استغناء العلماء عن الناس عموماً والحكام خصوصاً من أعظم الأسباب في حفظ مكانة العلماء وعظم شأنهم.
يقول سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ: (لأن أخلّف عشرة آلاف درهم أحاسب عليها أحب إليّ من أن أحتاج إلى الناس... ولولا هذه الدراهم لتمندل بنا هؤلاء الملوك) (20).
يقول ابن الجوزي حاثاً على الاستغناء عن الناس: (ليس في الدنيا أنفع للعلماء من جمع المال للاستغناء عن الناس، فإنه إذا ضم إلى العلم حيز الكمال، وإن جمهور العلماء شغلهم العلم عن الكسب، فاحتاجوا إلى ما لا بد منه، وقلّ الصبر فدخلوا مداخل شانتهم وإن تأوّلوا فيها...(12/287)